كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا حَكَمَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ مَالِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مَحْضٌ .
كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِبَيْعٍ وَالْآخَرُ بِهِبَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ اتِّفَاقًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَلِمَ الْإِمَامُ مِنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ الشِّقَاقَ لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمَا حَكَمَيْنِ وَلَا يَنْتَظِرُ ارْتِفَاعَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَا يَضِيعُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَثْنَاءَ مَا يَنْتَظِرُ رَفْعُهُمَا إلَيْهِ لَا جَبْرَ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : يُجْزِئُ إرْسَالُ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمَ فِي الزِّنَا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ ، ثُمَّ قَدْ { أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ أُنَيْسًا ، وَقَالَ لَهُ : إنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } ، وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمُدَوَّنَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَوْ أَرْسَلَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ ، وَحَكَمَا نَفَذَ حُكْمُهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَنَا جَائِزٌ ، وَيَنْفُذُ فِعْلُ الْحَكَمِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ .
هَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلًا ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : حُكْمُهُ مَنْقُوضٌ ؛ لِأَنَّهُمَا تَخَاطَرَا بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْغَرَرِ .
وَالصَّحِيحُ نُفُوذُهُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَوْكِيلًا فَفِعْلُ الْوَكِيلِ نَافِذٌ ، وَإِنْ كَانَ تَحْكِيمًا فَقَدْ قَدَّمَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا ، وَلَيْسَ الْغَرَرُ بِمُؤَثِّرٍ فِيهِ ، كَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي التَّوْكِيلِ ، وَبَابُ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَرَرِ كُلِّهِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ الْحُكْمُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : لَوْ نَوَى تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا مَعَ نِيَّةِ الْحَدَثِ أَوْ مَجَمًّا لِمَعِدَتِهِ مَعَ التَّقَرُّبِ لِلَّهِ أَوْ قَضَاءِ الصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ ، لِأَنَّهُ مَزَجَ فِي نِيَّتِهِ التَّقَرُّبِ بِنِيَّةٍ دُنْيَاوِيَّةٍ وَلَيْسَ لِلَّهِ إلَّا الدِّينُ الْخَالِصُ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ التَّبَرُّدَ لِلَّهِ ، وَالتَّنْظِيفَ وَإِجْمَامَ الْمَعِدَةِ لِلَّهِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ مُبَاحٌ فِي مَوْضِعٍ ، وَلَا تُنَاقِضُ الْإِبَاحَةُ الشَّرِيعَةَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَوْ أَحَسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِدَاخِلٍ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَظِرُهُ ، وَلَيْسَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِمَنْ عَقَدَ الصَّلَاةَ مَعَهُ ؛ وَمُرَاعَاتُهُ أَوْلَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَبِرُّهُمَا يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ؛ فَأَمَّا فِي الْأَقْوَالِ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } فَإِنَّ لَهَا حَقَّ الرَّحِمِ الْمُطْلَقَةِ ، وَحَقَّ الْقَرَابَةِ الْخَاصَّةِ ؛ إذْ أَنْتَ جُزْءٌ مِنْهُ ، وَهُوَ أَصْلُكَ الَّذِي أَوْجَدَكَ ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِكَ حَالَ ضَعْفِكَ وَعَجْزِكَ عَنْ نَفْسِكَ .
وَقَدْ { عَرَضَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنْ كُنْت تُرِيدُ النِّسَاءَ الْبِيضَ وَالنُّوقَ الْأُدْمَ فَعَلَيْكَ بِبَنِي مُدْلِجٍ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَعَ مِنِّي سَبْيَ بَنِي مُدْلِجٍ لِصِلَتِهِمْ الرَّحِمَ } .
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ : أَنَّ يُوسُفَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَبَوَاهُ فَلَمْ يَقُمْ لَهُمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَعِزَّتِي لَا أَخْرَجْت مِنْ صُلْبِكَ نَبِيًّا ، فَلَا نَبِيَّ فِيهِمْ مِنْ عَقِبِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ } ؛ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ، وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا أَخَذَ الْوَالِدُ الْهِبَةَ مِنْ الْوَلَدِ أَغْضَبَهُ فَعَقَّهُ ، وَمَا أَدَّى إلَى الْمَعْصِيَةِ فَمَعْصِيَةٌ .
قُلْنَا : أَمَّا إذَا عَصَى أُخِذَ بِالشَّرْعِ فَلَا لَعًا لَهُ وَلَا عُذْرَ ، إنَّمَا يَكُونُ الْعُذْرُ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَوْ عَصَى اللَّهَ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلْ مِنْ بِرِّ الرَّجُلِ بِوَالِدِهِ الْمُشْرِكِ أَلَّا يَقْتُلَهُ ؟ قُلْنَا : مِنْ بِرِّهِ بِنَفْسِهِ أَنْ يَتَوَلَّى قَتْلَهُ .
{ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ

مُسْتَأْذِنًا فِي قَتْلِ أَبِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ أَذِنْت لِي فِي قَتْلِهِ قَتَلْته } : وَهَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلِلرَّحِمِ حَقٌّ ، وَلَكِنْ لَمَا جَاءَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بَطَلَ حَقُّ الرَّحِمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ، وَالْخَامِسَةُ : الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ : وَقَدْ تَقَدَّمَتَا .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } : حُرْمَةُ الْجَارِ عَظِيمَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعْقُولَةٌ مَشْرُوعَةٌ مُرُوءَةً وَدِيَانَةً ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } .
وَقَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ } .
" وَالْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ : جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ : الْجَارُ الْمُسْلِمُ ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ : الْجَارُ الْمُسْلِمُ لَهُ الرَّحِمُ " .
وَهُمَا صِنْفَانِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ ، وَأَبْعَدُهُ فِي قَوْلِ الزُّهْرِيِّ مَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا .
وَقِيلَ : الْبَعِيدُ مَنْ يَلِيكَ بِحَائِطٍ ، وَالْقَرِيبُ مَنْ يَلِيكَ بِبَابِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ : { إنَّ لِي جَارَيْنِ ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أَهْدِي ؟ قَالَ : إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا } .
وَحُقُوقُهُ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا الْإِكْرَامُ ، وَكَفُّ الْأَذَى .
وَمِنْ الْعَشَرَةِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ } .
وَقَدْ رَأَى جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَدْبًا لَا فَرْضًا ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ مَكْرُوهًا لَا مُحَرَّمًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ .
وَالْحَائِطُ يَحْتَاجُهُ صَاحِبُهُ ؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ نَقَصَ مَالُهُ ، وَإِنْ أَعَارَهُ تَكَلَّفَ حِفْظَهُ بِالْإِشْهَادِ ، وَأَضَرَّ بِنَفْسِهِ ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَحْتَمِلَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ ، وَإِنْ أَبَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ وِزْرٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ : قِيلَ : إنَّهُ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ ، وَاَلَّذِي قَالَ هَذَا جَعَلَ قَوْلَهُ : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } الْجَارُ الَّذِي لَهُ الرَّحِمُ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الَّذِي يَجْمَعُكَ مَعَهُ رُفَاقَةُ السَّفَرِ ، فَهُوَ ذِمَامٌ عَظِيمٌ ، فَإِنَّهُ يَلُفُّهُ مَعَهُ الْأُنْسُ وَالْأَمْنُ وَالْمَأْكَلُ وَالْمَضْجَعُ ، وَبَعْضُهَا يَكْفِي لِلْحُرْمَةِ ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ ؟ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : لَيْسَ مِنْ حَقِّ الْجُوَارِ الشُّفْعَةُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَفْرُوضَاتِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ ، وَالْمَفْرُوضُ لَهُمْ يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ .
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ ، وَلَمْ يَبْقَ شَرْعٌ وَلَا حَقٌّ إلَّا دَخَلَ فِيهِ ؛ فَعَمَّتْ الْوَصِيَّةُ فِيهِ ، وَتَفَصَّلَتْ مَنَازِلُهُ بِالْأَدِلَّةِ ؛ وَإِنَّمَا قَطَعْنَا شُفْعَةَ الْجِوَارِ بِعِلَّةٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالشَّرِكَةِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ } .
قُلْنَا : أَرَادَ بِهِ الشَّرِيكَ ، وَهُوَ أَخَصُّ جُوَارٍ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : ابْنُ السَّبِيلِ : قِيلَ : هُوَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِكَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ } .
وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَرَى أَنَّ الضِّيَافَةَ حَقٌّ .
وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ } ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَرَامَةٌ ، وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ ، وَبِذَلِكَ يُفَسَّرُ أَنَّ الْإِحْسَانَ هَاهُنَا مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ الْفَقِيرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّفْقِ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، مَلَّكَكُمْ اللَّهُ رِقَابَهُمْ ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ } .
وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : { كُنْت أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَسَمِعْت صَوْتًا مِنْ خَلْفِي : اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ مَرَّتَيْنِ ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَيْت السَّوْطَ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا } .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ كَانُوا يَأْتُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُزَهِّدُونَهُمْ فِي نَفَقَةِ أَمْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَيُخَوِّفُونَهُمْ الْفَقْرَ ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ : لَا تَدْرُونَ مَا يَكُونُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } الْآيَةَ كُلَّهَا .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَيَانَ الْبُخْلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَخِلُوا بِأَمْوَالِهِمْ ، وَأَمَرُوا غَيْرَهُمْ بِالْبُخْلِ .
وَقِيلَ : بَخِلُوا بِعِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ ، وَتَوَاصَوْا مَعَ أَحْبَارِهِمْ بِكَتْمِهِ ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ .
وَقِيلَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يَكْتُمُونَ الْغِنَى وَيَتَفَاقَرُونَ لِلنَّاسِ ، لَيْسَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ ، لَيْسَ مَعَنَا وَمَعَهُمْ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } .
وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } .
قِيلَ هُمْ الْيَهُودُ ، وَقِيلَ هُمْ الْمُنَافِقُونَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَبَيَانُهَا مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ شَرٌّ مِنْ الَّذِي يَبْخَلُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَنَفَقَةُ الرِّيَاءِ تَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِي .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } .
فِيهَا ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : خِطَابُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَاهُنَا الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْخَمْرِ ، وَتَلِفَتْ عَلَيْهِمْ أَذْهَانُهُمْ ؛ فَخُصُّوا بِهَذَا الْخِطَابِ ؛ إذْ كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَفْعَلُونَهَا صُحَاةً وَلَا سُكَارَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ صَلَّى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَرَجُلٍ آخَرَ فَقَرَأَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَخَلَطَ فِيهَا ، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الْخَمْرِ ؛ فَنَزَلَتْ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا ، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ ، فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا ، وَحَضَرْت الصَّلَاةَ ، فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ .
قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الْآيَةَ .
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِأَبْيَنَ مِنْ هَذَا ، لَكِنَّا لَا نَفْتَقِرُ إلَيْهَا هَاهُنَا ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ } : سَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ وَهُوَ يَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ ؛ قَالَ : يُقَالُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ : لَا تَقْرَبْ كَذَا بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ لَا تَلْبَسْ بِالْفِعْلِ ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْ الْمَوْضِعِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مَسْمُوعٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { الصَّلَاةَ } : وَهِيَ فِي نَفْسِهَا مَعْلُومَةُ اللَّفْظِ مَفْهُومَةُ الْمَعْنَى ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَجَمَاعَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ الثَّانِي ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ .
سَمِعْت فَخْرَ الْإِسْلَامِ يَقُولُ فِي الدَّرْسِ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ ، وَحَذَفَ الْمُضَافَ وَإِقَامَتُهُ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَهِيَ فِلَسْطِينُ فِي الْأَرْضِ ، وَيَكُونُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا نُهِيَ عَنْ دُخُولِ مَوْضِعِهَا كَرَامَةً فَهِيَ بِالْمَنْعِ أَوْلَى .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ سُكَارَى } : السُّكْرُ : عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْعَقْلِ عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى الْقَانُونِ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ النِّظَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } أَيْ حُبِسَتْ عَنْ تَصَرُّفِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا ، وَمِنْهُ سُكْرُ الْأَنْهَارِ ؛ وَهُوَ مَحْبِسُ مَائِهَا ، فَكُلُّ مَا حَبَسَ الْعَقْلَ عَنْ التَّصَرُّفِ فَهُوَ سُكْرٌ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْخَمْرِ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ النَّوْمِ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْفَرَحِ وَالْجَزَعِ .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّكْرِ سُكْرُ الْخَمْرِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ إبَّانَ كَانَتْ الْخَمْرُ حَلَالًا ، خَلَا الضَّحَّاكِ فَإِنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهُ سُكَارَى مِنْ النَّوْمِ ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ سُكْرِ الْخَمْرِ نَهْيٌ عَنْ سُكْرِ النَّوْمِ فَقَدْ أَصَابَ ، وَلَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ ؛ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ { لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ } : دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ كُلِّ قَضَاءٍ فِي حَالِ شُغْلِ الْبَالِ بِنَوْمٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ حَقْنٍ أَوْ حَزْقٍ ، فَلَا يَفْهَمُ مَعَهُ كَلَامَ الْخُصُومِ ، كَمَا لَا يَعْلَمُ مَا يَقْرَأُ ، وَلَا يَعْقِلُ فِي الصَّلَاةِ إذَا دَافَعَهُ الْأَخْبَثَانِ ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ : فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ ، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ ، بِأَيِّ سَبَبٍ وُجِدَتْ ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ ، وَقَدْ أَغْنَى هَذَا اللَّفْظُ عَنْ عِلْمِ سَبَبِ الْآيَةِ ، لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ ؛ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ ، فَيَسُبُّ نَفْسَهُ } ، فَهَذَا أَيْضًا مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ، وَالْحَقُّ يَعْضُدُ بَعْضُهُ بَعْضًا .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَكَيْفَ يَصِحُّ تَقْدِيرُ

هَذَا النَّفْيِ ؟ أَتَقُولُونَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّكْرُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ ، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ } ؛ فَهَذَا أَيْضًا الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعَهُ مَعْنًى ، وَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا خِطَابٌ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : نَهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لِلسُّكْرِ إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ قِيلَ لَكُمْ : إنَّ السُّكْرَ إذَا نَافَى ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ نَافَى اسْتِدَامَتَهُ .
وَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُنْتَشِي الَّذِي لَيْسَ بِسَكْرَانَ نُهِيَ أَنْ يُصَيِّرَ نَفْسَهُ سَكْرَانَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } أَيْ : فِي حَالِ سُكْرِكُمْ ؛ وَلَمَّا كَانَ الِاضْطِرَابُ فِي الْآيَةِ هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ .
هَذَا نَصُّ كَلَامِ بَعْضِ مَنْ يُدَّعَى لَهُ التَّحْقِيقُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهَذِهِ مِنْهُ غَفْلَةٌ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا لَزِمَهُ فِي تَقْدِيرِ الصَّلَاةِ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ يَلْزَمُهُ فِي تَقْدِيرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ .
وَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلصَّاحِي ، يُقَالُ لَهُ : لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ بِحَالٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ تُصَلِّيَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ فَتَخْلِطَ كَمَا فَعَلَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى التَّحْرِيمِ ، فَلَمْ يَقْنَعْ بِهَا عُمَرُ .
وَالنَّهْيُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمَاتِ مَعْقُولٌ ؛ وَهَذَا الْخِطَابُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَاحٍ ، فَإِذَا شَرِبَ وَعَصَى وَسَكِرَ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ اللَّوْمُ وَالْعِقَابُ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ الْمُنْتَشِي وَهُوَ يَعْقِلُ النَّهْيَ ، لَكِنَّ اسْتِمْرَارَ الْأَفْعَالِ وَالْكَلَامِ وَانْتِظَامِهِ رُبَّمَا يَفُوتُهُ ؛ فَقِيلَ لَهُ : لَا تَفْعَلْ وَأَنْتَ مُنْتَشٍ أَمْرًا لَا تَقْدِرُ عَلَى نِظَامِهِ كُلِّهِ ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ يَأْخُذُ بِهَذَا مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ ، وَإِنَّمَا يَنْسِجُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مِنْوَالِ الصَّحَابَةِ ، وَمَا فِي

الْآيَةِ احْتِمَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ الْإِسْكَارُ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَقَدْ نَرَى الْإِنْسَانَ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ صَلَاتَهُ لِشُغْلِ بَالِهِ ، فَلَا يَشْعُرُ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى تَكْمُلَ ، وَلَا بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ مَا كَانَ عَدَدُهُ ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ " .
قُلْنَا : إنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْعَبْدِ الِاسْتِشْعَارُ وَإِحْضَارُ النِّيَّةِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ ، فَإِنْ ذَهِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ سُومِحَ فِيهِ مَا لَمْ يُكْثِرْ ؛ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ الْعِبَادِ بِهِ ؛ وَلَيْسَ حَالُ عُمَرَ مِنْ هَذَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَظَرٌ فِي عِبَادَةٍ لِعِبَادَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْهَا ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَحْظَةً مَعَ الْغَلَبَةِ ثُمَّ يَصْحُو إلَى نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ وَالْغَاضِبِ وَمَدَافِعِ الْأَخْبَثَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُ ذِهْنِهِ لِغَلَبَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } : الْجُنُبُ فِي اللُّغَةِ : الْبَعِيدُ ، بَعُدَ بِخُرُوجِ الْمَاءِ الدَّافِقِ عَنْ حَالِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ الْجُنُبُ مَعْرُوفًا ، وَهُوَ الَّذِي غَشِيَ النِّسَاءَ ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا .
وَهُوَ مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ، ثُمَّ أَثْبَتَتْ الشَّرِيعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَاتِهِ وَتَفْضِيلَهُ ، وَهُوَ إيلَاجٌ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ بِشَرْطِ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ دُونَ إنْزَالٍ ، أَوْ إنْزَالُ الْمَاءِ دُونَ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ } لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ : لَا تَقْرَبُوا الْمَسَاجِدَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، وَلَا تَقْرَبُوهَا جُنُبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا ، إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ مُجْتَازِينَ غَيْرَ لَابِثِينَ ؛ فَجَوَّزُوا الْعُبُورَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ نَفْسُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ : لَا تُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا لَهَا ، أَوْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ ، فَتَيَمَّمُوا وَتُصَلُّوا وَأَنْتُمْ جُنُبٌ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إذَا وَجَدْتُمْ الْمَاءَ .
وَرَجَّحَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَذْهَبَهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ مُجْتَازًا .
وَرَجَّحَ الْآخَرُونَ بِمَا رَوَى أَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَقَالَ : لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ } .
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
و الْمَسْأَلَةُ تَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلٍ وَتَنْقِيحٍ ، وَقَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نُشِيرُ إلَيْهِ هَاهُنَا فَنَقُولُ : لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمَلَةٌ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ ؛ فَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْهَا رَجَّحْنَا احْتِمَالَاتِهَا حَتَّى نَرَى الْفَضْلَ لِمَنْ هُوَ فِيهَا ؛ فَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْعُبُورَ لَا يُمْكِنُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ ؛ وَأَحْسَنُهُ حَذْفُ الْمُضَافِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ ، وَهُوَ الصَّلَاةُ ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ ، وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ

ذَلِكَ إلَى حَذْفٍ كَثِيرٍ وَتَأْوِيلٍ طَوِيلٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } .
قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا تَأَوَّلْتُمْ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } يُفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنَّ أَوَّلَ مَا يُحْفَظُ سَبَبُ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ ، وَتُحْفَظُ فَاتِحَتُهَا فَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، حَتَّى نَرَى مَا يَرُدُّنَا عَنْهَا وَيَحْفَظُ لُغَتَهَا ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا تَقْرَبُوهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْمَكَانِ ، فَكَيْفَ يُضْمَرُ الْمَكَانُ وَيُوصَلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ؟ هَذَا مُحَالٌ .
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ : لَا تُصَلُّوا سُكَارَى وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ الْعُبُورُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ ؟ قُلْنَا : بِأَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا ، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً فَيُصَلِّي حِينَئِذٍ بِالتَّيَمُّمِ جُنُبًا ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يُسَمَّى الْمُسَافِرُ عَابِرِي سَبِيلٍ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ ، بَلْ يُقَالُ لَهُ عَابِرُ سَبِيلٍ حَقِيقَةً وَاسْمًا ، وَالدُّنْيَا كُلُّهَا سَبِيلٌ تُعْبَرُ .
وَفِي الْآثَارِ : " الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا " .
وَقَدْ اتَّفَقُوا مَعَنَا عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ مَا قُلْتُمْ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِضْمَارِ الْكَثِيرِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فِي تَفْهِيمِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مَثَلُكَ ، وَأَمَّا مَعَ مَنْ يَفْهَمُ فَالْحَالُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا كَمَا أَعْرَبَتْ الصَّحَابَةُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } .
فَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إلَّا جَوَازُ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ

؛ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَعَ إبَاحَةِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ يُفْهَمُ إلَّا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَهُ ؛ وَهِيَ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ جِدًّا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : ثَبَتَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ، وَيَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ } ، وَرُبَّمَا اغْتَرَّ بِهَذَا جَاهِلٌ فَظَنَّ أَنَّ اللُّبْثَ لِلْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ جَائِزٌ .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ وَأُكْرِمَ عَنْ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ يَدْخُلُهُ مَنْ لَا يَرْضَى لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ ، و لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُلُ بِالْحَدَثِ ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ .
قُلْنَا : ذَلِكَ يَكْثُرُ وُقُوعُهُ ` فَيَشُقُّ الْوُضُوءُ لَهُ ، وَالشَّرِيعَةُ لَا حَرَجَ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْغُسْلِ ، فَإِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَغْتَسِلَ ، لِأَنَّهَا تَقَعُ نَادِرًا بِالْإِضَافَةِ إلَى حَدَثِ الْوُضُوءِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا قِيَاسٌ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ ؛ هُوَ قِيَاسٌ ؛ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ مَعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ يَرَوْنَهُ دَلِيلًا ؛ فَإِنْ وَجَدْنَا مُبْتَدِعًا يُنْكِرُهُ أَخَذْنَا مَعَهُ غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ كَمَا قَدْ رَأَيْتُمُونَا مِرَارًا نَفْعَلُهُ فَنَخْصِمُهُمْ وَنَبْهَتُهُمْ ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِيهِ وَلَا يَجْلِسَ فِيهِ إلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } : وَهُوَ لَفْظٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعَرَبِ يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ بِالْيَدِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ مَا كَانَ مَنَعَ مِنْهُ ؛ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً .
وَظَنَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغُسْلَ عِبَارَةٌ عَنْ صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً لَا سِيَّمَا وَقَدْ فَرَّقَتْ الْعَرَبُ بَيْنَ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَالْغَمْسِ فِيهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَأَتْبَعَهُ بِمَاءٍ وَلَمْ يَغْسِلْهُ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } اقْتَضَى هَذَا عُمُومَ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ بِاتِّفَاقٍ ؛ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالدَّلْكِ ، وَأَعْجَبُ لِأَبِي الْفَرَجِ الَّذِي رَأَى وَحَكَى عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْغُسْلَ دُونَ ذَلِكَ يُجْزِي ؛ وَمَا قَالَ مَالِكٌ قَطُّ نَصًّا وَلَا تَخْرِيجًا ، و إنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْهَامِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ غَرِيبًا لَمْ يَخْرُجْ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْ كَانَ احْتِيَاطًا لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ ، وَلَوْ صَبَبْت عَلَى نَفْسِكَ الْمَاءَ كَثِيرًا مَا عَمَّ حَتَّى تَمْشِيَ يَدُكَ ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ بِمَا فِيهِ مِنْ دُهْنِيَّةٍ يَدْفَعُ الْمَاءَ عَنْ نَفْسِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَمَّ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِالْمَاءِ أَجْزَأَهُ إجْمَاعًا ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ فِي دَوَاوِينَ صِحَاحٍ عَلَى السُّنَّةُ عُدُولٍ قَالُوا : رَوَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ فِيهِ أَصَابِعَهُ وَفِي أُصُولِ الشَّعْرِ ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ حَفَنَ عَلَى

رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ } .
وَفِي رِوَايَةِ مَيْمُونَةَ { ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ ، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ } .
قَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ أُدْخِلْ فِي كِتَابِي إلَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } وَفَهِمَ الْكُلُّ مِنْهُ عُمُومَ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ وَالْغُسْلِ بَالَغَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : إنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبَانِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ ، وَحُكْمُهُمَا حُكْمٌ ظَاهِرُ الْوَجْهِ بِدَلِيلِ غَسْلِهِمَا مِنْ النَّجَاسَةِ ، كَمَا يُغْسَلُ الْخَدُّ وَالْجَبِينُ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهَا .
وَاللُّبَابُ مِنْهَا أَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ بَاطِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّكَ تُشَاهِدُ بُطُونَهُمَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ؛ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّائِمَ إذَا بَلَعَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ الرِّيقِ فِي فَمِهِ فَلَا يُفْطِرُ ، وَلَوْ ابْتَلَعَهُ مِنْ يَدِهِ لَأَفْطَرَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ مَعَ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ ، وَالْمَسْأَلَةُ هُنَاكَ مُسْتَوْفَاةٌ ، فَمَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إنَّ اسْمَ الْجَنَابَةِ بَاقٍ عَلَيْهِ حَتَّى يَغْتَسِلَ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ مُدَّةٍ إلَى غَايَةٍ هِيَ الِاغْتِسَالُ ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِالْغَايَةِ يَمْتَدُّ إلَى غَايَتِهِ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } : يَقْتَضِي النِّيَّةَ ، خِلَافًا لِمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَلِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ ؛ وَلَفْظُ " اغْتَسَلَ " يَقْتَضِي اكْتِسَابَ الْفِعْلِ ، وَلَا يَكُونُ مُكْتَسَبًا لَهُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَيْهِ حَقِيقَةً ، فَمَنْ أَخْرَجَهُ إلَى الْمَجَازِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ بِالْإِنْصَافِ وَالتَّلْخِيصِ ؛ أَعْظَمُهَا أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ اُشْتُرِطَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ } .
وَلَا يَكُونُ شَطْرُ الشَّيْءِ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ .
قَالَ : وَالْوُضُوءُ نُورٌ عَلَى نُورٍ ، وَلَا تَسْتَنِيرُ الْجَوَارِحُ بِالْمُبَاحَاتِ ، وَإِنَّمَا تَسْتَنِيرُ بِالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ .
وَقَالَ : { إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ } الْحَدِيثَ ، وَلَا يَنْفِي الْأَوْزَارَ إلَّا الْعِبَادَاتُ ، وَالْقُرْآنُ يَقْتَضِي وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى مَا سَتَرَوْنَهُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } : الْمَرَضُ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ الْبَدَنِ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ إلَى الِاعْوِجَاجِ وَالشُّذُوذِ ؛ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : يَسِيرٌ وَكَثِيرٌ ، وَقَدْ يَخَافُ الْمَرِيضُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ، وَقَدْ يَعْدَمُ مَنْ يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ وَهُوَ يَعْجِزُ عَنْ تَنَاوُلِهِ ، وَمُطْلَقُ اللَّفْظِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ مَرِيضٍ إذَا خَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ وَتَأَذِّيهِ بِالْمَاءِ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُبَاحُ التَّيَمُّمُ لِلْمَرِيضِ إذَا خَافَ التَّلَفَ ؛ وَنَظَرَ إلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ وَقَدْ لَا تَكُونُ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ الْمُتَيَقَّنِ لِلْخَوْفِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ .
قُلْنَا : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؛ فَلَيْسَ لَكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَصْلٌ تَرُدُّ إلَيْهِ كَلَامَكَ ؛ بَلْ قَدْ نَاقَضْت ؛ فَإِنَّكَ قُلْت : إذَا خَافَ التَّلَفَ مِنْ الْبَرْدِ يَتَيَمَّمُ ، فَكَمَا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ خَوْفُ التَّلَفِ كَذَلِكَ يُبِيحُهُ لَهُ خَوْفُ الْمَرَضِ ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ مَحْذُورٌ ، كَمَا أَنَّ التَّلَفَ مَحْذُورٌ ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ : إذَا خَافَ الْمَرِيضُ مِنْ الْبَرْدِ يَتَيَمَّمُ فَكَيْفَ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ .
، وَقَدْ رَوَى { جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ ثُمَّ احْتَلَمَ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ؛ فَاغْتَسَلَ ، فَمَاتَ ؛ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : قَتَلُوهُ ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ .
أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ؛ إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ } .
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَعَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ يَقُولُ : لَوْ زَادَ الْمَاءُ عَلَى

قِيمَتِهِ حَبَّةً لَمْ يَلْزَمْ شِرَاؤُهُ صِيَانَةً لِلْمَالِ ؛ وَيَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى بَدَنِهِ الْمَرَضَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ كَلَامٌ يُسَاوِي سَمَاعَهُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } : رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَةٌ فَفَشَتْ فِيهِمْ ، ثُمَّ اُبْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ فَشَكَوْا ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
{ وَقَالَتْ عَائِشَةُ : كُنْت فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنْت بِذَاتِ الْجَيْشِ ضَلَّ عِقْدٌ لِي } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ .
قَالَ : فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ ، وَهِيَ مُعْضِلَةٌ مَا وَجَدْت لِدَائِهَا مِنْ دَوَاءٍ عِنْدَ أَحَدٍ ، هُمَا آيَتَانِ فِيهِمَا ذِكْرُ التَّيَمُّمِ : إحْدَاهُمَا فِي النِّسَاءِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْمَائِدَةِ ، فَلَا نَعْلَمُ أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَةُ .
وَآيَةُ التَّيَمُّمِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ النَّازِلَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْعَقْدِ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ ، سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : سَنَةَ خَمْسٍ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَحَدِيثُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ .
فَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَتْ حَالُ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ ، وَحَانَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ .
فَإِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُبَيِّنَةٌ وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ عَلَيْهَا ، وَإِحْدَاهُمَا سَفَرِيَّةٌ وَالْأُخْرَى حَضَرِيَّةٌ ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ خَبَّأَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ بَيَانُهُ عَلَى يَدَيْ أَحَدٍ ، وَلَقَدْ عَجِبْت مِنْ الْبُخَارِيِّ بَوَّبَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التَّيَمُّمَ ، وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فَقَالَ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ .
وَبَوَّبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَقَالَ : بَابُ " فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً " وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قِصَّةَ عَائِشَةَ ، وَأَرَادَ فَائِدَةً أَشَارَ إلَيْهَا هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ

وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } إلَى هَذَا الْحَدِّ نَزَلَ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَهَا قِصَّةٌ أُخْرَى وَحُكْمٌ آخَرُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ قُرِنَتْ بِهَا .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ يُذْكَرُ التَّيَمُّمُ فِيهَا فِي الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ النَّازِلَةُ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ ، وَكَانَ الْوُضُوءُ مَفْعُولًا غَيْرَ مَتْلُوٍّ ، فَكَمُلَ ذِكْرُهُ وَعَقَّبَ بِذِكْرِ بَدَلِهِ وَاسْتُوْفِيَتْ النَّوَاقِضُ فِيهِ ، ثُمَّ أُعِيدَتْ مِنْ قَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } إلَى آخِرِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُرَكَّبَةً عَلَى قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } حَتَّى تَكْمُلَ تِلْكَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ جَاءَ بِأَعْيَانِ مَسَائِلِهَا كَمَالُ هَذِهِ ، وَيَتَكَرَّرُ الْبَيَانُ ، وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آيَةَ عَائِشَةَ هِيَ آيَةُ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَدِينَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } يَعْنِي مِنْ النَّوْمِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } هَاهُنَا خِلَافُ قَوْلِهِ : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فِي الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ هُنَاكَ شَرْطٌ فِي الْإِفْطَارِ ، فَاعْتَبَرْنَاهُ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ ، وَحَدَّدْنَاهُ ، فَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ التَّيَمُّمَ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ جَائِزٌ ، وَإِنَّمَا نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى السَّفَرِ ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ ؛ فَأَمَّا عَدَمُ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ فَنَادِرٌ ؛ فَإِنْ وَقَعَ فَالتَّيَمُّمُ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ : يُعِيدُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ اتِّهَامٌ لَهُ بِالتَّقْصِيرِ كَمَا اسْتَقْصَرَ فِيمَا إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ ، وَالنَّاسُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَيَمَّمُ فِي الْحَضَرِ إلَّا مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ ، يُقَالُ لَهُ ، أَوْ طَلِيقٌ طَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ حَتَّى خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَرَضِ وَالْحَبْسِ عِنْدَهُ هُوَ عَدَمُ الْمَقْدِرَةِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ شَرِيفًا بَدِيعًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ حَتَّى تَيَمَّمَ فِي الْحَائِطِ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } : وَهُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ ، كَانُوا إذَا أَرَادُوا قَضَاءَ الْحَاجَةِ أَتَوْهُ رَغْبَةً فِي التَّسَتُّرِ ، فَكُنِيَ بِهِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ، وَشُرِطَ الْوُضُوءُ بِهِ شَرْعًا وَكَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : أَوْ كُنْتُمْ مُحْدِثِينَ حَدَثًا مُعْتَادًا ، ضُرِبَ لَهُمْ بِهِ الْمِثْلُ ، وَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَإِلَّا إذَا كُنْتُمْ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثِينَ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ بَيَانُ صِفَةِ غُسْلِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْخَارِجَ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَقْضُ الْوُضُوءِ وَصَارَ دَاءً ، و الدَّلِيلُ عَلَيْهِ سُقُوطُ اعْتِبَارِ دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ دَمُ عِلَّةٍ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ بِتَفْصِيلِهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } : فِيهَا خِلَافٌ كَثِيرٌ ، وَأَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعُلَمَاءِ ، وَمُتَعَلِّقَاتٌ مُخْتَلِفَاتٌ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الطَّوِيلَةِ ؛ وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا مَا فِيهِ بِطُرُقِهِ الْبَدِيعَةِ ، وَخُذُوا الْآنَ مَعْنًى قُرْآنِيًّا بَدِيعًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ : حَقِيقَةُ اللَّمْسِ إلْصَاقُ الْجَارِحَةِ بِالشَّيْءِ ، وَهُوَ عُرِفَ فِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهَا آلَتُهُ الْغَالِبَةُ ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ .
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ : اللَّمْسُ هُنَا الْجِمَاعُ .
وَقَالَتْ أُخْرَى : هُوَ اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا ؛ فَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ : لَمَسْتُمْ : وَطِئْتُمْ ، وَلَامَسْتُمْ : قَبَّلْتُمْ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ ، وَاَلَّذِي يَكُونُ بِقَصْدٍ وَفِعْلٍ مِنْ الْمَرْأَةِ هُوَ التَّقْبِيلُ ، فَأَمَّا الْوَطْءُ فَلَا عَمَلَ لَهَا فِيهِ .
قَالَ أَبُو عَمْرٍو : الْمُلَامَسَةُ الْجِمَاعُ ، وَاللَّمْسُ لِسَائِرِ الْجَسَدِ ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِقْرَاءٌ لَا نَقْلَ فِيهِ عَنْ الْعَرَبِ .
وَحَقِيقَةُ النَّقْلِ أَنَّهُ كُلَّهُ سَوَاءٌ ؛ ( وَإِنْ لَمَسْتُمْ ) مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ، كَقَوْلِهِ : لَامَسْتُمْ ، وَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِفِعْلِ الرَّجُلِ شَيْءٌ مِنْ الْمَرْأَةِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعِفُّ : كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسُّهَا بِيَدِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ كُوفِيٌّ ، فَمَا بَالُ أَبِي حَنِيفَةَ خَالَفَهُ ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَجَعَلْنَا لِكُلِّ قِرَاءَةٍ حُكْمَهَا ، وَجَعَلْنَاهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ ، وَلَمْ يَتَنَاقَضْ ذَلِكَ وَلَا تَعَارَضَ ؛ وَهَذَا تَمْهِيدُ الْمَسْأَلَةِ .
وَيُكْمِلُهُ وَيُؤَكِّدُهُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَلَا جُنُبًا } أَفَادَ الْجِمَاعَ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } أَفَادَ الْحَدَثَ

، وَأَنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ لَامَسْتُمْ } أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ ؛ فَصَارَتْ ثَلَاثَ جُمَلٍ لِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِعْلَامِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعَ لَكَانَ تَكْرَارًا ، وَكَلَامُ الْحَكِيمِ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَنَابَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهَا ، فَلَمَّا ذَكَرَ سَبَبَ الْحَدَثِ وَهُوَ الْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ ذَكَرَ سَبَبَ الْجَنَابَةِ ، وَهُوَ الْمُلَامَسَةُ لِلْجِمَاعِ ؛ لِيُفِيدَ أَيْضًا بَيَانَ حُكْمِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، كَمَا أَفَادَ بَيَانَ حُكْمِهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ .
قُلْنَا : لَا يَمْنَعُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَيْنِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : رَاعَى مَالِكٌ فِي اللَّمْسِ الْقَصْدَ ، وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ نَاقِضًا لِلطَّهَارَةِ بِصُورَتِهِ كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ ؛ وَاَلَّذِي يَدَّعِي انْضِمَامَ الْقَصْدِ إلَى اللَّمْسِ فِي اعْتِبَارِ الْحُكْمِ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ اللَّمْسَ الْمُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْمَذْي مَنْزِلَةَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ الْمُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ .
فَأَمَّا اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ فَلَا مَعْنَى لَهُ ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } : وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ كَالْجَنَابَةِ ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ لَوْ لَمَسَ صَغِيرَةً يُنْتَقَضُ طُهْرُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ لَمْسَ الصَّغِيرَةِ كَلَمْسِ الْحَائِضِ .
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ اللَّذَّةَ ، وَإِنْ أَخْرَجَ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ عَنْهَا فَقَدْ اُنْتُقِضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ .
وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا اللَّذَّةَ ، فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ حُكْمُهَا ، وَهُوَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : يَدْخُلُ فِي حُكْمِ اللَّمْسِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءِ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا } سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ عِنْدَنَا بِالِاسْمِ ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اغْتَسِلُوا وَاطَّهَّرُوا اقْتَضَى ذَلِكَ الْمَاءَ اقْتِضَاءً قَطْعِيًّا ، إذْ هُوَ الْغَاسُولُ وَالطَّهُورُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ، فَصَرَّحَ بِالْمُقْتَضِي ، وَكَانَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ التَّصْرِيحُ وَالِاقْتِضَاءُ ؛ وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : فَائِدَةُ الْوُجُودِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِانْتِقَاعُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } ، فَلَمْ تَقْدِرُوا ؛ لِيَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا ، وَهِيَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ صُورَةً ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ لِضَرُورَةٍ صَارَ مَعْدُومًا حُكْمًا ؛ فَالْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ نَشْرَ الْكَلَامِ ( فَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ) .
وَهَذَا يَعُمُّ الْمَرَضَ وَالصِّحَّةَ إذَا إذَا خَافَ مِنْ أَخْذِ الْمَاءِ لِصًّا أَوْ سَبُعًا ، وَيَجْمَعُ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ ؛ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الصَّرِيحُ ، وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ ، وَالْأَصْوَبُ بِالتَّصْحِيحِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ بِزَائِدٍ عَلَى قِيمَتِهِ جَعَلَهُ مَعْدُومًا حُكْمًا ، وَقِيلَ لَهُ تَيَمَّمْ .
وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوُجُودُ الْحُكْمِيُّ ، لَيْسَ الْوُجُودَ الْحِسِّيَّ .

وَعَلَى هَذَا قُلْنَا : إنَّ مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، إنَّهُ يَتَمَادَى وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ لِعَيْنِهِ لَا يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ ، كَمَا لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَعَلَيْهِ لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ ، أَوْ رَآهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ مَقْرُونٍ بِالْقُدْرَةِ ؛ وَإِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ إلَّا بَعْدَ إبْطَالِهَا ، وَلَا تَبْطُلُ إلَّا بَعْدَ اقْتِرَانِ الْقُدْرَةِ بِالْمَاءِ ، فَلَا بُطْلَانَ لَهَا ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ دَوْرِيَّةٌ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي " كِتَابِ التَّلْخِيصِ " فَلْتُنْظَرْ فِيهِ ؛ وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةٌ ؛ هِيَ إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ ، وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لَا يُعَدُّ وَاجِدًا وَلَا يُخَاطَبُ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ ؛ فَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ : إنَّهُ يُجْزِئُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { مَاءً } : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذَا نَفْيٌ فِي نَكِرَةٍ ، وَهُوَ يَعُمُّ لُغَةً ؛ فَيَكُونُ مُفِيدًا جَوَازَ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَغَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ ؛ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ ، الْآنَ يَسْتَدِلُّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِاللُّغَاتِ ، وَيَقُولُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ ، وَهُمْ يَنْبِذُونَهَا فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ بِالْعَرَاءِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّفْيَ فِي النَّكِرَةِ يَعُمُّ كَمَا قُلْتُمْ ، وَلَكِنْ فِي الْجِنْسِ ؛ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مِلْحٍ ؛ فَأَمَّا غَيْرُ الْجِنْسِ فَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَاءُ الْبَاقِلَاءِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْعِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالزَّعْفَرَانِ فِي " كِتَابِ التَّلْخِيصِ " .
وَمِنْ هَاهُنَا وَهَمَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كُلِّهَا أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا كَفَاهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِيهِ ؛ فَخَالَفَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
أَمَّا مُقْتَضَى اللُّغَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَأَرَادَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ ، ثُمَّ قَالَ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي يَقُومُ لَهُ بِحَقِّ مَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ فِيهِ وَالتَّكْلِيفُ لَهُ ؛ فَإِنْ آخِرَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِأَوَّلِهِ .
وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْأُصُولِ فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعٌ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَبِهَذَا تَعَلَّقَ الْأَئِمَّةُ فِي الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ ، و هِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ ابْنُ

عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءُ النَّارِ أَوْ لِأَنَّهُ طِينُ جَهَنَّمَ ، وَكَأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إلَى أَنَّهُ مَاءُ عَذَابٍ فَلَا يَكُونُ مَاءَ قُرْبَةٍ .
وَقَدْ { مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلُوا بِهِ بِدِيَارِ ثَمُودَ أَلَّا يُشْرَبَ وَلَا يُتَوَضَّأَ مِنْ آبَارِهِمْ إلَّا مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ ، وَأَوْقَفَهُمْ عَلَيْهِ } ؛ وَهِيَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْنَا : قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ هُوَ طَهُورُ الْمَلَائِكَةِ ، إذَا نَزَلُوا تَوَضَّئُوا ، وَإِذَا صَعِدُوا تَوَضَّئُوا ، فَيُقَابَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَبْقَى لَنَا مُطْلَقُ الْآيَةِ ، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَوْله تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } : مَعْنَاهُ فَاقْصِدُوا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا فَائْتَمُّوا ، وَالْأُولَى أَفْصَحُ وَأَمْلَحُ ؛ فَإِنَّ " اقْصِدُوا " أَمْلَحُ مِنْ اتَّخِذُوهُ إمَامًا ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَصْدُ لَفْظًا وَمَعْنًى .
قُلْنَا : لَيْسَ الْقَصْدُ إلَيْهِ لِلِاسْتِعْمَالِ بَدَلَ الْمَاءِ هُوَ النِّيَّةُ ، إنَّمَا مَعْنَاهُ اجْعَلُوهُ بَدَلًا ، فَأَمَّا قَصْدُ التَّقَرُّبِ فَهُوَ غَيْرُهُ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَتَيَمَّمُوا } إنْ كَانَ يَقْتَضِي بِلَفْظِهِ النِّيَّةَ فَقَوْلُهُ : تَطَهَّرُوا وَاغْتَسِلُوا يَقْتَضِي بِلَفْظِهِ النِّيَّةَ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَاءُ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى قَصْدٍ إذَا وُجِدَتْ النَّظَافَةُ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ التُّرَابُ مُلَوَّثٌ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى قَصْدٍ إذَا وُجِدَ التَّلَوُّثُ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { صَعِيدًا } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : وَجْهُ الْأَرْضِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّانِي : الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الثَّالِثُ : الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ .
الرَّابِعُ : التُّرَابُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَاَلَّذِي يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ وَهُوَ صَرِيحُ اللُّغَةِ أَنَّهُ وَجْهُ الْأَرْضِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ رَمْلٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ تُرَابٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُ : { طَيِّبًا } : قِيلَ : إنَّهُ مُنْبِتٌ ، وَعُزِيَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَعَضَّدَهُ بِالْمَعْنَى فَقَالَ : إنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِحْيَاءِ إلَى التُّرَابِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْبَاتِ .
وَقِيلَ : إنَّهُ النَّظِيفُ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الْحَلَالُ .
وَقِيلَ : هُوَ الطَّاهِرُ ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا الطَّاهِرُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إذَا تَيَمَّمَ عَلَى بُقْعَةٍ نَجِسَةٍ جَاهِلًا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ ، وَلَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ أَعَادَ أَبَدًا .
قُلْنَا : هُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الَّذِي نَنْصُرُهُ الْآنَ ، وَكَلَامُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ نَقَلَ مِنْ أَصْلِ الْإِحْيَاءِ إلَى أَصْلِ الْإِنْبَاتِ فَهُوَ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ؛ عَلَى أَنَّا نَقُولُ : نَقَلَنَا مِنْ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ، وَمِنْهَا خَلَقَنَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَامْسَحُوا } : وَالْمَسْحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَرِّ الْيَدِ عَلَى الْمَمْسُوحِ خَاصَّةً ، فَإِنْ كَانَ بِآلَةٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَقْلِ الْآلَةِ إلَى الْيَدِ وَجَرِّهَا عَلَى الْمَمْسُوحِ بِخِلَافِ الْغُسْلِ ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : وَالْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : شَرْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ : وَالسَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْوَجْهِ : وَالسَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : سُقُوطُ قَوْلِهِ { مِنْهُ } هَاهُنَا وَثُبُوتُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : دُخُولُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَانْتِظَامِهَا بِهِمَا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إسْقَاطُهُ لِحُقُوقِهِ أَوْ بَذْلُهُ لِفَضْلِهِ ، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى عِبَادِهِ ؛ فَوَجْهُ الْإِسْقَاطِ هَاهُنَا تَخْفِيفُ التَّكْلِيفِ ، وَلَوْ رُدَّ بِأَكْثَرَ لَلَزِمَ ، وَوَجْهُ بَدَلِهِ إعْطَاؤُهُ الْأَجْرَ الْكَثِيرَ عَلَى الْفِعْلِ الْيَسِيرِ ، وَرَفْعُهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ وَضَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا ، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي الطَّاعَاتِ ؛ وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي آيَاتِ الذِّكْرِ ، وَمِنْهُ نُبْذَةٌ فِي " شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ " فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمَانَاتِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ : هِيَ كُلُّ مَا أَخَذْتَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مَا أَخَذْتَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ لِمَنْفَعَتِهِ .
الصَّحِيحُ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَمَانَةٌ ؛ وَمَعْنَى الْأَمَانَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنَّهَا أُمِنَتْ مِنْ الْإِفْسَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى : بِأَدَائِهَا إلَى أَرْبَابِهَا ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَمْرُ السَّرَايَا ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَمَكْحُولٌ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي { عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْمِفْتَاحَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُوهَا ، فَدَعَا عُثْمَانُ ، فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ } ، فَكَانَتْ وِلَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا فَخْرًا .
وَرُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ تُجْمَعَ لَهُ السَّدَانَةُ وَالسِّقَايَةُ ، وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ شَيْبَةُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَوْ فَرَضْنَاهَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ فَهِيَ عَامَّةٌ بِقَوْلِهَا ، شَامِلَةٌ بِنُظُمِهَا لِكُلِّ أَمَانَةٍ ؛ وَهِيَ أَعْدَادٌ كَثِيرَةٌ ، أُمَّهَاتُهَا فِي الْأَحْكَامِ : الْوَدِيعَةُ ، وَاللُّقَطَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالْإِجَارَةُ ، وَالْعَارِيَّةُ .
أَمَّا الْوَدِيعَةُ : فَلَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهَا حَتَّى تُطْلَبَ ، وَأَمَّا اللُّقَطَةُ فَحُكْمُهَا التَّعْرِيفُ سَنَةً فِي مَظَانِّ الِاجْتِمَاعَاتِ ، وَحَيْثُ تُرْجَى الْإِجَابَةُ لَهَا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْكُلُهَا حَافِظُهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا .
وَأَمَّا الرَّهْنُ : فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ أَدَاءٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ دَيْنَهُ .
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ : إذَا انْقَضَى عَمَلُهُ فِيهَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَهَا ، وَلَا يُحْوِجُهُ إلَى تَكْلِيفٍ لِلطَّلَبِ وَمُؤْنَةِ الرَّدِّ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي الْإِجَارَةِ : يَرُدُّهَا أَيْنَ أَخَذَهَا إنْ كَانَ مَوْضِعُ ذَلِكَ فِيهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : قَالَ أَبِي : هُمْ السَّلَاطِينُ ، بَدَأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ ؛ فَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا لَدَيْهِمْ مِنْ الْفَيْءِ ، وَكُلُّ مَا يَدْخُلُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يُوصِلُوهُ إلَى أَرْبَابِهِ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ ، وَأَمَرَنَا بَعْدَ ذَلِكَ بِطَاعَتِهِمْ ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْحُكْمِ عَامَّةً فِي الْوِلَايَةِ وَالْخَلْقِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَالِمٌ ، بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ حَاكِمٌ وَوَالٍ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُقْسِطُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ : أَلَّا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } .
فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كُلَّ هَؤُلَاءِ رُعَاةً وَحُكَّامًا عَلَى مَرَاتِبِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْعَالَمُ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ إذَا أَفْتَى يَكُونُ قَضَى ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَالْفَرْضِ وَالنَّدْبِ ، وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ ؛ فَجَمِيعُ ذَلِكَ فِيمَنْ ذَكَرْنَا أَمَانَةٌ تُؤَدَّى وَحُكْمٌ يُقْضَى ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي حَقِيقَةِ الطَّاعَةِ : وَهِيَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ، كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ ضِدُّهَا ، وَهِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ .
وَالطَّاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ طَاعَ إذَا انْقَادَ ، وَالْمَعْصِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَصَى وَهُوَ اشْتَدَّ ، فَمَعْنَى ذَلِكَ امْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى }

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } : فِيهَا قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ : هُمْ أَصْحَابُ السَّرَايَا ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ ، إذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ .
الثَّانِي : قَالَ جَابِرٌ : هُمْ الْعُلَمَاءُ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ التَّابِعِينَ ، و اخْتَارَهُ مَالِكٌ ؛ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ مَسْلَمَةَ : سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ : هُمْ الْعُلَمَاءُ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ نَزَارٍ ، وَقَفْت عَلَى مَالِكٍ فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؛ مَا تَرَى فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ؟ قَالَ : وَكَانَ مُحْتَبِيًا فَحَلَّ حَبْوَتَهُ ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ فِي وَجْهِي ، وَعَلِمْت مَا أَرَادَ ، وَإِنَّمَا عَنَى أَهْلَ الْعِلْمِ ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي } الْحَدِيثَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ جَمِيعًا ، أَمَّا الْأُمَرَاءُ فَلِأَنَّ أَصْلَ الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَالْحُكْمَ إلَيْهِمْ .
وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَلِأَنَّ سُؤَالَهُمْ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْخَلْقِ ، وَجَوَابُهُمْ لَازِمٌ ، وَامْتِثَالُ فَتْوَاهُمْ وَاجِبٌ ، يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ حَاكِمٌ ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } .
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِمٌ [ وَالرَّبَّانِيَّ حَاكِمٌ ] ، وَالْحَبْرَ حَاكِمٌ ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ أَفْضَى إلَى الْجُهَّالِ ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِذَلِكَ نَظَرَ مَالِكٌ إلَى خَالِدِ بْنِ نَزَارٍ نَظْرَةً مُنْكَرَةً ، كَأَنَّهُ

يُشِيرُ بِهَا إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُلَمَاءِ ، وَزَالَ عَنْ الْأُمَرَاءِ لِجَهْلِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ ، وَالْعَادِلُ مِنْهُمْ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَالَمِ كَافْتِقَارِ الْجَاهِلِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : رُدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِذَا لَمْ تَجِدُوهُ فَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ : مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ، أَوْ فَهْمٌ أُوتِيهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ، وَكَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : بِمَ تَحْكُمُ ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ .
قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي ، وَلَا آلُو .
قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ .
قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " وَكِتَابِ " نَوَاهِي الدَّوَاهِي " صِحَّتَهُ ، وَأَخَذَ الْخُلَفَاءُ كُلُّهُمْ بِذَلِكَ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِلْأَنْصَارِ : إنَّ اللَّهَ جَعَلَكُمْ الْمُفْلِحِينَ ، وَسَمَّانَا الصَّادِقِينَ ؛ فَقَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } .
ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .
وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا } .
وَلَوْ كَانَ لَكُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا أَوْصَى بِكُمْ " .
وَقَالَ لَهُ عُمَرُ حِينَ ارْتَدَّ مَانِعُوا الزَّكَاةِ : خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ وَدَعْ الزَّكَاةَ .
فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَالصَّلَاةَ حَقُّ الْبَدَنِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا .
وَجَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إلَيْهِ فَقَالَ لَهَا : لَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ السُّدُسُ ؛ فَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا ، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا .
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَضَى بِالسُّدُسِ لِلْجَدَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ } ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ .
وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ الصَّحَابَةَ فِي أَمْرِ الْوَبَاءِ بِالشَّامِ فَتَكَلَّمُوا مَعَهُ بِأَجْمَعِهِمْ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ ، مَا ذَكَرُوا فِي طَلَبِهِمْ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَتِهِمْ لِلَّهِ كَلِمَةً وَلَا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ ، وَأَفْتَوْا وَحَكَمَ عُمَرُ ، وَنَازَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَكَ إبِلٌ فَهَبَطْت بِهَا وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ : إحْدَاهَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ ؛ أَلَيْسَ إنْ رَعَيْت الْخِصْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْت الْجَدْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنَفْسِهِ بِالرَّعْيِ وَالنَّاسِ بِالْإِبِلِ ، وَالْأَرْضِ الْوَبِئَةِ بِالْعُدْوَةِ الْجَدْبَةِ ، وَالْأَرْضِ السَّلِيمَةِ بِالْعُدْوَةِ الْخِصْبَةِ ، وَلِاخْتِيَارِ السَّلَامَةِ بِاخْتِيَارِ الْخِصْبِ ؛ فَأَيْنَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ؟ أَيُقَالُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَقُولَا ، فَذَلِكَ كُفْرٌ ، أَمْ يُقَالُ : دَعْ هَذَا فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ ، فَذَلِكَ كُفْرٌ ، وَلَكِنْ تُضْرَبُ الْأَمْثَالِ وَيُطْلَبُ الْمِثَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الصَّوَابُ .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ جَمَعُوا

الْقُرْآنَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَوْضِعَ بَرَاءَةٍ ، وَإِنَّ قِصَّتَهَا لَتُشْبِهُ قِصَّةَ الْأَنْفَالِ ، فَنَرَى أَنْ نَكْتُبَهَا مَعَهَا وَلَا نَكْتُبُ بَيْنَهَا سَطْرَ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
فَأَثْبَتُوا مَوْضِعَ الْقُرْآنِ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ : نَرَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
وَقَالَ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } .
فَإِذَا فَصَلْتَهُمَا مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : صَوْمُ الْجُنُبِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } فَيَقَعُ الِاغْتِسَالُ بَعْدَ الْفَجْرِ ، وَقَدْ انْعَقَدَ جُزْءٌ مِنْ الصَّوْمِ وَهُوَ فَاتِحَتُهُ مَعَ الْجَنَابَةِ ، وَلَوْ سَرَدْنَا نَبْطَ الصَّحَابَةِ لَتَبَيَّنَ خَطَأُ الْجَهَالَةِ ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِلْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنْ عَارَضَكُمْ السُّفَهَاءُ فَالْعَجَلَةُ الْعَجَلَةُ إلَى كِتَابِ نَوَاهِي الدَّوَاهِي ، فَفِيهِ الشِّفَاءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : يُرْوَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ نَازَعَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْكَاهِنُ .
وَقِيلَ : قَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ ، يَفِرُّ الْيَهُودِيُّ مِمَّنْ يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ وَيُرِيدُ الْمُنَافِقُ مَنْ يَقْبَلُهَا .
وَيُرْوَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ .
وَقَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْكَاهِنُ ، حَتَّى تَرَافَعَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ عَلَى الْمُنَافِقِ ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ : لَا أَرْضَى ، بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَكْرٍ ؛ فَأَتَيَا أَبَا بَكْرٍ فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ لِلْيَهُودِيِّ .
فَقَالَ الْمُنَافِقُ : لَا أَرْضَى ، بَيْنِي وَبَيْنَكَ عُمَرُ .
فَأَتَيَا عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ بِمَا جَرَى ؛ فَقَالَ : أَمْهِلَا حَتَّى أَدْخُلَ بَيْتِي فِي حَاجَةٍ ، فَدَخَلَ فَأَخْرَجَ سَيْفَهُ ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَتَلَ الْمُنَافِقَ ؛ فَشَكَا أَهْلُهُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّهُ رَدَّ حُكْمَكَ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتَ الْفَارُوقُ } ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ كُلُّهَا إلَى قَوْلِهِ : { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
وَيُرْوَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، وَأَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِكِ الْأَنْصَارِيِّ .
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : آنَ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ ،

فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ : أَمْسِكْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ ، ثُمَّ أَرْسِلْهُ } .
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ : وَأَحْسَبُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلَى آخِرِهِ .
قَالَ مَالِكٌ : الطَّاغُوتُ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ كَاهِنٍ أَوْ سَاحِرٍ أَوْ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ الشِّرْكُ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ : { آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ } : يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ ، أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ .
وَبِقَوْلِهِ : { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } : يَعْنِي الْيَهُودَ ؛ آمَنُوا بِمُوسَى ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } وَيَذْهَبُونَ إلَى الطَّاغُوتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِ وَالْيَهُودِيِّ ثُمَّ تَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهَا قِصَّةَ الزُّبَيْرِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَكُلُّ مَنْ اتَّهَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ كَافِرٌ ، لَكِنَّ الْأَنْصَارِيَّ زَلَّ زَلَّةً فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَالَ عَثْرَتَهُ لِعِلْمِهِ بِصِحَّةِ يَقِينِهِ وَأَنَّهَا كَانَتْ فَلْتَةً ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَعْدَهُ فَهُوَ عَاصٍ آثِمٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهَا أَنْ يَتَحَاكَمَ الْيَهُودِيُّ مَعَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ حَاكِمِ الْإِسْلَامِ ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ أَنَّهُ { تَفَاخَرَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ وَيَهُودِيٌّ ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : وَاَللَّهِ ، لَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا .
فَقَالَ ثَابِتٌ : وَاَللَّهِ لَوْ كَتَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا لَفَعَلْنَا .
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ : قَالَ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا .
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ مِنْ أُمَّتِي لَرِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : الْقَائِلُ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : حَرْفُ " لَوْ " تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ مَا كَانَ يَمْتَثِلُ ذَلِكَ فَتَرَكَهُ رِفْقًا بِنَا ؛ لِئَلَّا تَظْهَرَ مَعْصِيَتُنَا ، فَكَمْ مِنْ أَمْرٍ قَصَّرْنَا عَنْهُ مَعَ خِفَّتِهِ ، فَكَيْفَ بِهَذَا الْأَمْرِ مَعَ ثِقَلِهِ ؟ أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ مَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَةً وَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِهَا عِيشَةً رَاضِيَةً ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } .
الْآيَةُ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ أَشْبَهُهَا مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَحْزُونٌ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا لِي أَرَاك مَحْزُونًا ؟ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، نَحْنُ نَغْدُو عَلَيْكَ وَنَرُوحُ نَنْظُرُ فِي وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ ، وَغَدًا تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ ، فَلَا نَصِلُ إلَيْكَ ؛ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَبَعَثَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ، وَهُوَ يَصِفُ الْمَدِينَةَ وَفَضْلَهَا ، يُبْعَثُ مِنْهَا أَشْرَافُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَحَوْلَهَا الشُّهَدَاءُ أَهْلُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ ، ثُمَّ تَلَا مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ عَلِيمًا } ؛ يُرِيدُ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ فَضْلَهُمْ ، وَفَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْبِقَاعِ : مَكَّةَ و سِوَاهَا ، وَهَذَا فَضْلٌ مُخْتَصٌّ بِهَا ، وَلَهَا فَضَائِلُ سِوَاهَا بَيَّنَّاهَا فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ ، وَفِي الْإِنْصَافِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ ؛ فَلْيُنْظَرْ فِي الْكِتَابَيْنِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انْفِرُوا جَمِيعًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الثُّبَةُ : الْجَمَاعَةُ ، وَالْجَمْعُ فِيهَا ثِبُونَ أَوْ ثِبِينَ أَوْ ثُبَاتٌ ، كَمَا تَقُولُ : عِضَةٌ وَعِضُونَ وَعِضَاهٌ ، وَاللُّغَتَانِ فِي الْقُرْآنِ ، وَتَصْغِيرُ الثُّبَةِ ثُبَيَّةٌ ، وَيُقَالُ فِي وَسَطِ الْحَوْضِ ثُبَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَثُوبُ إلَيْهِ ، أَيْ يَرْجِعُ ؛ وَتَصْغِيرُ هَذِهِ ثُوَيْبَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَحْذُوفُ الْوَاوِ ، وَثُبَةُ الْجَمَاعَةِ إنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ ثَبَّيْتُ عَلَى الرَّجُلِ إذَا أَثْنَيْتُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَجَمَعْتُ مَحَاسِنَ ذِكْرِهِ ، فَيَعُودُ إلَى الِاجْتِمَاعِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { خُذُوا حِذْرَكُمْ } : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يَقْتَحِمُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ عَلَى جَهَالَةٍ حَتَّى يَتَحَسَّسُوا إلَى مَا عِنْدَهُمْ ، وَيَعْلَمُوا كَيْفَ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ ؛ فَذَلِكَ أَثْبَتُ لِلنُّفُوسِ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ بِالْجِهَادِ سَرَايَا مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمَعِينَ عَلَى الْأَمِيرِ ، فَإِنْ خَرَجَتْ السَّرَايَا فَلَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ؛ لِيَكُونَ مُتَحَسِّسًا إلَيْهِمْ وَعَضُدًا مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَرُبَّمَا احْتَاجُوا إلَى دَرْئِهِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } .
سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا أَوْ انْقَلَبَ غَانِمًا ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ يَرُدَّهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } .
فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا ، وَجَعَلَ الْأَجْرَ فِي مَحَلٍّ وَالْغَنِيمَةَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا سَرِيَّةٍ أَخْفَقَتْ كَمُلَ لَهَا الْأَجْرُ ، وَأَيُّمَا سَرِيَّةٍ غَنِمَتْ ذَهَبَ ثُلُثَا أَجْرِهَا } .
فَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي شُرُوحَاتِ الْحَدِيثِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَلَيْسَ يُعَارِضُ الْآيَةَ كُلَّ الْمُعَارَضَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ثُلُثَ الْأَجْرِ ، وَهَذَا عَظِيمٌ ؛ وَإِذَا لَمْ يُعَارِضْهَا فَلْيُؤْخَذْ تَمَامُهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ : إنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ لَهُ الْأَجْرَ وَالْغَنِيمَةَ ، فَمَا أَعْطَى اللَّهُ الْغَنَائِمَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَاسِبًا لَهَا بِهَا مِنْ ثَوَابِهَا ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِهَا تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لَهَا ؛ لِحُرْمَةِ نَبِيِّهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي } .
فَاخْتَارَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَلِأُمَّتِهِ فِيمَا يَرْتَزِقُونَ أَفْضَلَ وُجُوهِ الْكَسْبِ وَأَكْرَمَهَا ، وَهُوَ أَخْذُ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ .
وَقِيلَ : إنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي يَغْنَمُ قَدْ أَصَابَ [ الْحَظَّيْنِ ، وَاَلَّذِي يَخْفِقُ لَهُ ] الْحَظُّ الْوَاحِدُ وَهُوَ الْأَجْرُ ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ : مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَحْدَهُ أَوْ غَنِيمَةٍ مَعَ الْأَجْرِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } .
الْآيَةُ فِيهَا [ ثَلَاثُ ] مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقِتَالَ ؛ لِاسْتِنْقَاذِ الْأَسْرَى مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ مَعَ مَا فِي الْقِتَالِ مِنْ تَلَفِ النَّفْسِ ، فَكَانَ بَذْلُ الْمَالِ فِي فِدَائِهِمْ أَوْجَبَ ، لِكَوْنِهِ دُونَ النَّفْسِ وَأَهْوَنَ مِنْهَا .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ } .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْدُوا الْأَسَارَى بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا : عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَاسُوهُمْ ، فَإِنَّ الْمُوَاسَاةَ دُونَ الْمُفَادَاةِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ غَنِيًّا فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْفَادِي أَمْ لَا ؟ فِي ذَلِكَ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَانِ ؛ أَصَحُّهُمَا الرُّجُوعُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنْ امْتَنَعَ مَنْ عِنْدَهُ مَالٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقَاتِلُهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى قِتَالِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ .
فَإِنْ قَتَلَ الْمَانِعُ الْمَمْنُوعَ كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى قِتَالٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ جُوعًا ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ كَانَ فِي الْمَيِّتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَانِعِ ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ .
الثَّانِي : عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ .
الثَّالِثُ : الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إذَا أَرَمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُهُمْ

جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَاقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَاؤُنَا : رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَ السَّائِلَ مَعَالِمَ الدِّينِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ قَالَ لَهُ : وَالزَّكَاةُ ؟ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ .
دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ حَقٍّ فِي الْمَالِ غَيْرَ الزَّكَاةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَا فَرْضَ ابْتِدَاءً فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ إلَّا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ ، فَأَمَّا الْعَوَارِضُ فَقَدْ يَتَوَجَّهُ فِيهَا فَرْضٌ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْفُرُوضِ بِالنَّذْرِ وَغَيْرِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ عِبَادَاتٌ لَا تَتَعَدَّى الْمُتَعَبِّدَ بِهَا .
وَأَمَّا الْمَالُ فَالْأَغْرَاضُ بِهِ مُتَعَلِّقَةٌ ، وَالْعَوَارِضُ عَلَيْهِ مُخْتَلِفَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الزَّكَاةَ لِيَقُومَ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ أَوْ يَسُدَّ خَلَّتَهُمْ ، وَإِلَّا فَتَكُونُ الْحِكْمَةُ قَاصِرَةً .
فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ : هَذَا لَا يَلْزَمُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَفْرِضَ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ الزَّكَاةَ قَائِمَةً لِسَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا قَائِمَةً بِالْأَكْثَرِ ، وَتَرَكَ الْأَقَلَّ لِيَسُدَّهَا بِنَذْرِ الْعَبْدِ الَّذِي يَسُوقُهُ الْقَدَرُ إلَيْهِ .
الثَّانِي : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ الزَّكَاةَ فِي زَمَنِهِ } فَلَمْ تَقُمْ الْخَلَّةُ الْمَذْكُورَةُ بِالْفُقَرَاءِ حَتَّى كَانَ يَنْدُبَ إلَى الصَّدَقَةِ ، وَيَحُثُّ عَلَيْهَا

.
الثَّالِثُ : لِلْفَضْلَيْنِ : إنَّ الزَّكَاةَ إذَا أَخَذَهَا الْوُلَاةُ ، وَمَنَعُوهَا مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا ، فَبَقِيَ الْمَحَاوِيجُ فَوْضَى ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ إثْمُهُمْ بِالنَّاسِ أَمْ يَكُونُ عَلَى الْوَالِي خَاصَّةً ؟ فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنْ عَلِمَ أَحَدٌ بِخَلَّةِ مِسْكِينٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ سَدُّهَا دُونَ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهَا سِوَاهُ ، فَيَتَعَلَّقُ الْفَرْضُ بِجَمِيعِ مَنْ عَلِمَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ قَوْله تَعَالَى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : { بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } هِيَ قُصُورُ السَّمَاءِ ، أَلَّا تَسْمَعُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْبُرُوجُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَعِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ : الْحَمَلُ ، الثَّوْرُ ، الْجَوْزَاءُ ، السَّرَطَانُ ، الْأَسَدُ ، السُّنْبُلَةُ ، الْمِيزَانُ ، الْعَقْرَبُ ، الْقَوْسُ ، الْجَدْيُ ، الدَّلْوُ ، الْحُوتُ .
وَقَدْ يُسَمُّونَ الْحَمَلَ الْكَبْشَ ، وَالْجَوْزَاءَ التَّوْأَمَيْنِ ، وَالسُّنْبُلَةَ الْعَذْرَاءَ ، وَالْعَقْرَبَ الصُّورَةَ ، وَالْقَوْسَ الرَّامِيَ ، وَالْحُوتَ السَّمَكَةَ .
وَتُسَمَّى أَيْضًا الدَّلْوَ الرَّشَا .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الْبُرُوجَ مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَقَدَّرَ فِيهَا ، وَرَتَّبَ الْأَزْمِنَةَ عَلَيْهَا ، وَجَعَلَهَا جَنُوبِيَّةً وَشَمَالِيَّةً ، دَلِيلًا عَلَى الْمَصَالِحِ ، وَعَلَمًا عَلَى الْقِبْلَةِ ، وَطَرِيقًا إلَى تَحْصِيلِ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، لِمَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ التَّهَجُّدِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالتَّعَبُّدِ ، وَسَنَسْتَوْفِي ذَلِكَ بَيَانًا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانٍ ذَاهِبٌ كُلُّهُ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَك وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاَللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا وَحْدَهُ ، وَنَدَبَ الْمُؤْمِنِينَ إلَيْهِ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا سِرَاعًا إلَى الْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ كَاعَ عَنْهُ قَوْمٌ ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ ؛ { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ : قَدْ بَلَّغْت : قَاتِلْ وَحْدَكَ ، { لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ } فَسَيَكُونُ مِنْهُمْ مَا كَتَبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ ، فَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ لَنَصَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دُونَهُمْ ، وَهَلْ نَصْرُهُ مَعَ قِتَالِهِمْ إلَّا بِجُنْدِهِ الَّذِي لَا يُهْزَمُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا .
قُلْت : أَيْ رَبِّ ؛ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً .
قَالَ : اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ ، وَاغْزُهُمْ نُعِنْكَ ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقْ عَلَيْكَ ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ } .
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الرِّدَّةِ : أُقَاتِلُهُمْ وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي .
وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ : وَاَللَّهِ لَوْ خَالَفَتْنِي شِمَالِي لَقَاتَلْتهَا بِيَمِينِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {

وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ عَلَى الْقِتَالِ : التَّحْرِيضُ وَالتَّحْضِيضُ هُوَ نَدْبُ الْمَرْءِ إلَى الْفِعْلِ ، وَقَدْ يُنْدَبُ الْمَرْءُ إلَى الْفِعْلِ ابْتِدَاءً ، وَقَدْ يُنْدَبُ إلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَذْكِرَةً بِهِ لَهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { : مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } .
الْآيَةُ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً } عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَنْ يَزِيدُ عَمَلًا إلَى عَمَلٍ .
الثَّانِي : مَنْ يُعِينُ أَخَاهُ بِكَلِمَةٍ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا ، وَلْيَقْضِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ } .
الثَّالِثُ : قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي مَعْنَاهُ : مَنْ يَكُنْ يَا مُحَمَّدُ شَفِيعًا لِوِتْرِ أَصْحَابِكَ فِي الْجِهَادِ لِلْعَدُوِّ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَجْرِ .
وَمَنْ يَشْفَعْ وِتْرًا مِنْ الْكُفَّارِ فِي جِهَادِكَ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْإِثْمِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ ، وَقَدْ تَكُونُ الشَّفَاعَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَعْيًا فِي إثْمٍ أَوْ فِي إسْقَاطِ حَدٍّ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ شَفَاعَةً سَيِّئَةً .
وَرَوَتْ عَائِشَةُ { أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا } مُخْتَصَرًا .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَعَافَوْا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ حَيَّ ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك بِهِ ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك ؛ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ .
فَقَالَتْ لَهُ : وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ } إلَّا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا : إنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَلْقَى أَحَدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ لَهُ : اسْلَمْ ، عِشْ أَلْفَ عَامٍ ، أَبَيْتَ اللَّعْنَ .
فَهَذَا دُعَاءٌ فِي طُولِ الْحَيَاةِ أَوْ طِيبِهَا بِالسَّلَامَةِ مِنْ الذَّامِّ أَوْ الذَّمِّ ، فَجُعِلَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَالْعَطِيَّةُ الشَّرِيفَةُ بَدَلًا مِنْ تِلْكَ ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّ أَصْلَهَا آدَم .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ } : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ } أَنَّهُ فِي الْعُطَاسِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشَمِّتِ .
الثَّانِي : إذَا دُعِيَ لِأَحَدِكُمْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فَرُدُّوا عَلَيْهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ .
الثَّالِثُ : إذَا قِيلَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ جَوَابَ كِتَابٍ ، فَقَالَ فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّلَامُ لِهَذِهِ الْآيَةِ : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } .
فَاسْتَشْهَدَ مَالِكٌ فِي هَذَا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَدِّ الْجَوَابِ إذَا رَجَعَ الْجَوَابُ عَلَى حَقٍّ .
كَمَا رُوِيَ رَجَعَ الْمُسْلِمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :

قَوْله تَعَالَى : { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } : فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَحْسَنَ مِنْهَا أَيْ الصِّفَةِ ، إذَا دَعَا لَك بِالْبَقَاءِ فَقُلْ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ، فَإِنَّهَا أَحْسَنُ مِنْهَا فَإِنَّهَا سُنَّةُ الْآدَمِيَّةِ ، وَشَرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةِ .
الثَّانِي : إذَا قَالَ لَك سَلَامٌ عَلَيْك فَقُلْ : وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ رُدُّوهَا } : اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فِي السَّلَامِ .
الثَّانِي : أَنَّ أَحْسَنَ مِنْهَا هُوَ فِي الْمُسْلِمِ ، وَأَنَّ رُدَّهَا بِعَيْنِهَا هُوَ فِي الْكَافِرِ ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْك قَالُوا : السَّامُّ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا عَلَيْكُمْ } .
كَذَلِكَ كَانَ سُفْيَانُ يَقُولُهَا .
وَالْمُحْدَثُونَ يَقُولُونَ بِالْوَاوِ ، وَالصَّوَابُ سُقُوطُ الْوَاوِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا لَهُمْ : عَلَيْكُمْ رَدٌّ ، وَقَوْلَنَا وَعَلَيْكُمْ مُشَارَكَةٌ ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
{ وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْك السَّامُّ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ قَوْلَهُمْ ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْت عَلَيْكُمْ ؟ إنَّهُ يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِي } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : التَّحِيَّةُ هَاهُنَا الْهَدِيَّةُ ، أَرَادَ الْكَرَامَةَ بِالْمَالِ وَالْهِبَةِ قَالَ الشَّاعِرُ : إذْ تُحْيِي بِضَيْمُرَانَ وَآسِ وَقَالَ آخَرُ : وَالْمُرَادُ بِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْكَرَامَةُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : أَوْ رُدُّوهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ، وَلَا يُمْكِنُ رَدُّ السَّلَامِ بِعَيْنِهِ .
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي رَدَّ التَّحِيَّةِ بِعَيْنِهَا ، وَهِيَ الْهَدِيَّةُ ، فَإِمَّا بِالتَّعْوِيضِ أَوْ الرَّدِّ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِي السَّلَامِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْعَارِيَّةِ ؟ لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنَ هَاهُنَا وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ .
قُلْنَا : التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ

الْحَيَاةِ ، وَهِيَ تَنْطَلِقُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى وُجُوهٍ ؛ مِنْهَا الْبَقَاءُ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ جَنَابٍ : مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْته إلَّا التَّحِيَّةَ وَمِنْهَا الْمُلْكُ ، وَقِيلَ : إنَّهُ الْمُرَادُ هَاهُنَا فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ .
وَمِنْهَا السَّلَامُ ، وَهُوَ أَشْهَرُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءُوك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا بِالتَّحِيَّةِ السَّلَامُ حَتَّى ادَّعَى هَذَا الْقَائِلُ تَأْوِيلَهُ هَذَا ، وَنَزَعَ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَإِنَّ الْعَرَبَ عَبَّرَتْ بِالتَّحِيَّةِ عَنْ الْهَدِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لِمَجَازٍ ؛ لِأَنَّهَا تَجْلِبُ التَّحِيَّةَ كَمَا يَجْلِبُهَا السَّلَامُ ، وَالسَّلَامُ أَوَّلُ أَسْبَابِ التَّحِيَّةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } وَقَالَ : { أَفْشُوا السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ } .
فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى الْهَدِيَّةُ بِهَا مَجَازًا كَأَنَّهَا حَيَاةٌ لِلْمَحَبَّةِ ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِيقَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : نَحْمِلهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا .
قُلْنَا لَهُمْ : أَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ ذَلِكَ ؛ فَلَا يَصِحُّ لَكُمْ بِالْقَوْلِ بِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَقِيَتْ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَإِنْ حَمَلُوهُ عَلَى الْهَدِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي هِبَةِ الثَّوَابِ فَنَسْتَثْنِي مِنْهَا الْوَلَدَ مَعَ وَالِدِهِ بِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيُطْلَبْ هُنَالِكَ ، فَصَحَّتْ لَنَا الْآيَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَبَقِيَّةُ الْكَلَامِ يُنْظَرُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلْيُطْلَبْ هُنَا لَك .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْكُمْ ، فَقِيلَ : هُوَ مَصْدَرُ سَلَّمَ يُسَلِّمُ سَلَامَةً وَسَلَامًا ، كَلَذَاذَةٍ وَلَذَاذًا ، وَقِيلَ لِلْجَنَّةِ دَارُ

السَّلَامِ ؛ لِأَنَّهَا دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَالْآفَاتِ .
وَقِيلَ : السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ ، وَلَا يُدْرِكُهُ آفَاتُ الْخَلْقِ .
فَإِذَا قُلْت : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَيَحْتَمِلُ اللَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ .
وَإِنْ أَرَدْت بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَقْدُ السَّلَامَةِ وَذِمَامُ النَّجَاةِ .
حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُنِيرٍ ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ [ أَنْبَأَنَا قَلِيلَهْ ] ، أَنْبَأْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : أَتَدْرِي مَا السَّلَامُ ؟ تَقُولُ : أَنْتَ مِنِّي آمِنٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّهُ فَرْضٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ : السَّلَامُ وَرَدُّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إنْ كَانَتْ جَمَاعَةً ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَفَى وَاحِدٌ .
فَالسَّلَامُ فَرْضٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ ، سُنَّةٌ مَعَ الْجَهَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ إنْ لَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ تَغَيَّرَتْ نَفْسُهُ ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ السَّلَامُ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ : مِنْ قَائِمٍ عَلَى قَاعِدٍ ، وَمَارٍّ عَلَى جَالِسٍ ، وَقَلِيلٍ عَلَى كَثِيرٍ ، وَصَغِيرٍ عَلَى كَبِيرٍ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا كَانَ الرَّدّ فَرَضَا بِلَا خِلَافٍ فَقَدْ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ لِلْعَيْنِ ، وَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ التَّحِيَّةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْهِبَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ ثَوَابٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ مَا أَعْطَى إلَّا لِيُعْطَى ؛ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا ، وَإِنَّا لَا نَعْمَلُ عَمَلًا لِمَوْلَانَا إلَّا لِيُعْطِيَنَا ، فَكَيْفَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

قَوْله تَعَالَى : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يَضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ صَاحِبٍ عَنْ صَاحِبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إلَى أُحُدٍ رَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ ، فِرْقَةٌ تَقُولُ : نَقْتُلُهُمْ ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : لَا نَقْتُلُهُمْ } ، فَنَزَلَتْ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ .
الثَّانِي : قَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مِنْ [ أَهْلِ ] مَكَّةَ حَتَّى أَتَوْا الْمَدِينَةَ ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ فَارْتَدُّوا وَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ ، فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ الْمُؤْمِنُونَ ، فَفِرْقَةٌ تَقُولُ إنَّهُمْ مُنَافِقُونَ ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ هُمْ مُؤْمِنُونَ ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِفَاقَهُمْ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ ، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ

حَاجَةً ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا بِهِمْ قَالَتْ فِئَةٌ : اُخْرُجُوا إلَى هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ .
وَقَالَتْ أُخْرَى : قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ .
الرَّابِعُ : قَالَ السُّدِّيُّ : كَانَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ قَالُوا : أَصَابَتْنَا أَوْجَاعٌ بِالْمَدِينَةِ ، فَلَعَلَّنَا نَخْرُجُ إلَى الطُّهْرِ حَتَّى نَتَمَاثَلَ وَنَرْجِعُ ؛ فَانْطَلَقُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ طَائِقَةٌ : أَعْدَاءُ اللَّهِ مُنَافِقُونَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ إخْوَانُنَا غَمَّتْهُمْ الْمَدِينَةُ فَاجْتَوَوْهَا ، فَإِذَا بَرِئُوا رَجَعُوا ؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ .
الْخَامِسُ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيٍّ حِينَ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ زَيْدٌ .
وَقَوْلُهُ : { حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يَعْنِي حَتَّى يَهْجُرُوا الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ وَالْمَالَ ، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ اللَّهَ رَدَّ الْمُنَافِقِينَ إلَى الْكُفْرِ ، وَهُوَ الْإِرْكَاسُ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الْحَالَةِ الْمَكْرُوهَةِ ، كَمَا قَالَ فِي الرَّوْثَةِ إنَّهَا رِجْسٌ ، أَيْ رَجَعَتْ إلَى حَالَةٍ مَكْرُوهَةٍ ؛ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَلَّقُوا فِيهِمْ بِظَاهِرِ الْإِيمَانِ ، إذَا كَانَ أَمْرُهُمْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ ، وَأَيْنَمَا ثَقِفُوهُمْ ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنْدِيقَ يُقْتَلُ ، وَلَا يُسْتَتَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } .
فَإِنْ قِيلَ : مَعْنَاهُ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ .
قُلْنَا :

كَذَلِكَ نَقُولُ وَهَذِهِ حَالَةٌ دَائِمَةٌ ، لَا تَذْهَبُ عَنْهُمْ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ ، وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ ، فَعُثِرَ عَلَيْهِ ، كَيْفَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } : الْمَعْنَى إلَّا مَنْ انْضَافَ مِنْهُمْ إلَى طَائِفَةٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ ، فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ ، ثُمَّ نُسِخَتْ الْعُهُودُ فَانْتَسَخَ هَذَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِإِيضَاحِهِ وَبَسْطِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } : هَؤُلَاءِ قَوْمٌ جَاءُوا وَقَالُوا : لَا نُرِيدُ أَنْ نُقَاتِلَ مَعَكُمْ وَلَا نُقَاتِلُ عَلَيْكُمْ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعَهْدِ ، وَقَالُوا : لَا نُسْلِمُ وَلَا نُقَاتِلُ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ تَأَلُّفًا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى وَيَشْرَحَهَا لِلْإِسْلَامِ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَقَدْ بَسَطْنَاهَا بَسْطًا عَظِيمًا فِي " كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ " بِأَخْبَارِهَا ومُتَعلَّقاتِها فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ وَرَقَةٍ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } : مَعْنَاهُ : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا قَتْلًا جَائِزًا .
أَمَّا أَنَّهُ يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَنَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَازَهُ لَا وُجُودَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يُبْعَثُوا لِبَيَانِ الْحِسِّيَّاتِ وُجُودًا وَعَدَمًا ، إنَّمَا بُعِثُوا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ هُوَ جَائِزٌ لِلْكَافِرِ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : نَعَمْ ، فَقَدْ أَحْلَلْتُمْ .
وَإِنْ قُلْتُمْ : لَا ، فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ بِالْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ ، وَالْكَافِرُ فِيهِ مِثْلُهُ .
قُلْنَا : مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ بِحَنَانِهِمْ وَأُخُوَّتِهِمْ وَشَفَقَتِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ ؛ فَلِذَلِكَ خُصَّ الْمُؤْمِنُ بِالتَّأْكِيدِ ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْضًا حَسْبَمَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بَعْدُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا خَطَأً } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، وَلَهُ يَقُولُ النُّحَاةُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَتَهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ .
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اللَّفْظِ ، لَا عَلَى نَفْسِ اللَّفْظِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَفْت بِهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إلَّا الْأَوَارِيَ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ فَلَمْ تَدْخُلْ الْأَوَارِي فِي لَفْظِ أَحَدٍ ، وَلَكِنْ دَخَلَتْ فِي مَعْنَاهُ .
أَرَادَ : وَمَا بِالرَّبْعِ أَحَدٌ أَيْ [ غَيْرُ ] مَا كَانَ فِيهِ ، أَوْ أَثَرٌ كُلُّهُ ذَاهِبٌ ، إلَّا الْأَوَارِيَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } ؛ الْمَعْنَى مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُفَوِّتَ نَفْسَ مُؤْمِنٍ بِكَسْبِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ إلَى وَصْفِهِ ؛ فَافْهَمْهُ وَرَكِّبْهُ تَجِدْهُ بَدِيعًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَرَادَ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُخْرِجَ هَذَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ ؛ وَيَجْعَلَهُ مُتَّصِلًا لِجَهْلِهِ بِاللُّغَةِ وَكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا فِي السَّلَفِ ؛ فَقَالَ : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ .
وَفَائِدَتُهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، فَيَا لِلَّهِ ، وَيَا لِلْعَالِمِينَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ، كَيْفَ يَصِحُّ فِي عَقْلِ عَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ : أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً ، وَمِنْ شَرْطِ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ الْمُكَلَّفُ وَقَصْدُهُ ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْخَطَأِ ، فَالْكَلَامُ لَا يَتَحَصَّلُ مَعْقُولًا .
ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ أَنْ يُرَى عَلَيْهِ لِبْسَةُ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْحِيَازُ إلَيْهِمْ كَقِصَّةِ حُذَيْفَةَ مَعَ أَبِيهِ يَوْمَ أُحُدٍ .
قُلْنَا لَهُ : هَذَا هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ خِلَافَ الْقَصْدِ ، وَهُوَ قَصْدٌ إلَى مُشْرِكٍ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ

مُسْلِمٌ ؛ فَهَذَا لَا يُدْخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا .
ثُمَّ قَالَ : وَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا يُبَاحُ لَهُ إذَا وُجِدَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ ، وَشَرْطُ الْإِبَاحَةِ أَنْ يَكُونَ خَطَأً ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ التَّهَافُتِ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ مَا يُغْنِي عَنْ رَدِّهِ .
وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ : شَرْطُ إبَاحَةِ الْقَتْلِ أَنْ لَا يَقْصِدَ ، لَاهُمَّ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمُقَلِّدِ أَلَمَّ بِقَوْلِ الْمُبْتَدِعَةِ : إنَّ الْمَأْمُورَ لَا يُعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا إلَّا بَعْدَ تَقَضِّي الِامْتِثَالِ وَمُضَائِهِ ؛ فَالِاخْتِلَالُ فِي الْمَقَالِ وَاحِدٌ وَالرَّدُّ وَاحِدٌ ، فَلْتَلْحَظْهُ فِي أُصُولِهِ الَّتِي صَنَّفَ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ ؛ ثُمَّ أَبْطَلَ هُوَ هَذَا وَكَانَ فِي غِنًى عَنْ ذِكْرِهِ وَإِبْطَالِهِ .
ثُمَّ قَالَ : إنَّ أَقْرَبَ قَوْلٍ فِيهِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : { إلَّا خَطَأً } اقْتَضَى تَأْثِيمَ قَاتِلِهِ لِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ ذَلِكَ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إلَّا خَطَأً } رَفْعٌ لِلتَّأْثِيمِ عَنْ قَاتِلِهِ ؛ وَإِنَّمَا دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا تَضْمَنَّهُ اللَّفْظُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَآثِمِ ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ قَاتِلَ الْخَطَأِ ، وَجَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ؛ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْلَمُ اللُّغَةَ وَلَا يَفْهَمُ مَقَاطِعَ الشَّرِيعَةِ ، بَلْ قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } مَعْنَاهُ كَمَا قُلْنَا جَائِزٌ ضَرُورَةً لَا وُجُودًا ؛ فَنَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَازَ ذَلِكَ لَا وُجُودَهُ ، فَقَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ : إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْثِيمَ قَاتِلِهِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ضِدَّ الْجَوَازِ التَّحْرِيمُ وَحْدَهُ ؛ بَلْ ضِدَّ النَّدْبِ وَالْكَرَاهِيَةِ عَلَى قَوْلٍ ، وَالْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ عَلَى آخَرَ ، فَلِمَ عَيَّنَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ نَفْيِ الْجَوَازِ التَّحْرِيمَ الْمُؤْثِمَ .
أَمَّا إنَّ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ لَا مِنْ نَفْسِ هَذَا اللَّفْظِ .
ثُمَّ نَقُولُ : هَبْكَ أَنَّا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ

بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَقُلْنَا لَهُ : إنَّ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ أَنْتَ آثِمٌ إنْ قَتَلَتْهُ ، إلَّا أَنْ تَقْتُلَهُ خَطَأً ، فَإِنَّهُ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ أَيْضًا إنَّمَا يَرْتَبِطُ بِالْعَمْدِ ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ : إلَّا خَطَأً ، فَهُوَ ضِدُّهُ ، فَصَارَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ حَقِيقَةً وَصِفَةً وَرَفْعًا لِلْمَأْثَمِ .
وَقَوْلُهُ : فَإِنَّمَا دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ اللَّفْظُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَأْثَمِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ لِذَلِكَ ذِكْرُ حَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازًا ؛ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْإِثْمُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَقَدْ أَشَرْنَا نَحْنُ إلَى حَقِيقَتِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّحَارِيرِ : إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ ؛ { وَذَلِكَ أَنَّ أُسَامَةَ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزَاةٍ فَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ ، فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَقَتَلَهُ ؛ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَقَتَلَتْهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا .
فَجَعَلَ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ : بَعْدَ أَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ } .
قَالَ : فَلَقَدْ تَمَنَّيْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
فَهَذَا قَتَلَ مُتَعَمِّدًا مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ .
وَهَذَا نَفِيسٌ .
وَمِثْلُهُ قَتْلُ أَبِي حُذَيْفَةَ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَمُتَعَلِّق الْخَطَأِ غَيْرُ مُتَعَلِّق الْعَمْدِ ، وَمَحَلُّهُ غَيْرُ مَحَلِّهِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا مِنْهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ جَمَاعَةٌ : إنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ هُوَ وَأَخُوهُ هِشَامٌ فَأَصَابَ هِشَامًا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْعَدُوِّ ، فَقَتَلَهُ خَطَأً فِي هَزِيمَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَانَ أَخُوهُ مِقْيَسٌ بِمَكَّةَ ، فَقَدِمَ مُسْلِمًا فِيمَا يَظْهَرُ .
وَقِيلَ : لَمْ يَبْرَحْ مِنْ الْمَدِينَةِ فَطَلَب دِيَةَ أَخِيهِ ، فَبَعَثَ

مَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ فِهْرٍ إلَى بَنِي النَّجَّارِ فِي دِيَتِهِ ، فَدَفَعُوا إلَيْهِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِقْيَسٌ وَالْفِهْرَيْ رَاجِعِينَ إلَى الْمَدِينَةِ قَتَلَ مِقْيَسٌ الْفِهْرَيَّ ، وَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام ، وَرَكِبَ جَمَلًا مِنْهَا ، وَسَاقَ مَعَهُ الْبَقِيَّةَ ، وَلَحِقَ كَافِرًا بِمَكَّةَ ، وَقَالَ : شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ مَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا يَضْرُجُ فِي ثَوْبَيْهِ دِمَاءَ الْأَخَادِعِ وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ تَلُمُّ فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْت عَقْلَهُ سُرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ حَلَلْت بِهِ وَتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ فَدَخَلَ قَتْلُ الْأَنْصَارِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } وَدَخَلَ قَتْلُ مِقْيَسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } ، وَكُلُّ وَاحِدٍ بِصِفَتِهِ فِي الْآيَتَيْنِ بِصِفَتِهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } : أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ ، وَسَكَتَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ عَنْهَا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، مَآلُهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا قَالَا : لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا إثْمَ فِيهِ فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى .
قُلْنَا : هَذَا يُبْعِدُهَا عَنْ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوجِبْهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْمِ ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا عِبَادَةً ، أَوْ فِي مُقَابَلَةِ التَّقْصِيرِ ، وَتَرْك الْحَذَرِ وَالتَّوَقِّي ، وَالْعَمْدُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : ( مُؤْمِنَةٍ ) وَهَذَا يَقْتَضِي كَمَا لَهَا فِي صِفَاتِ الدِّينِ ، فَتُكْمَلُ فِي صِفَاتِ الْمَالِيَّةِ حَتَّى لَا تَكُونَ مَعِيبَةً ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَتْلَفَ شَخْصًا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَ آخَرَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ عَنْ شُغُلِ غَيْرِهِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِكُلِّ عُضْوِ مِنْهُ عُضْوٌ مِنْهَا مِنْ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجُ بِالْفَرْجِ ، فَمَتَى نَقَصَ عُضْوٌ مِنْهَا لَمْ تَكْمُلُ شُرُوطُهَا .
وَهَذَا بَدِيعٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : سَوَاءٌ كَانَتْ الرَّقَبَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إذَا كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِمُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ؛ إذْ قَالُوا : لَا يُجْزِئُ إلَّا مَنْ صَامَ وَصَلَّى وَعَقَلَ الْإِسْلَامَ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَنْ وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعِتْقِ ، كَمَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِنَايَةِ وَالْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجَمِيعِ أَحْكَامِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } : أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ جَبْرًا .
كَمَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ زَجْرًا ، وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ رِفْقًا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْخَطَأِ لَمْ يَكْتَسِبْ إثْمًا وَلَا مَحْرَمًا ، وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ زَجْرًا عَنْ التَّقْصِيرِ وَالْحَذَرِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ فِي تَقْدِيرِ الشَّرِيعَةِ ، وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنْ عُدِمَتْ الْإِبِلُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : فَقَالَ مَالِكٌ : مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَمِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ ، وَلَيْسَتْ فِي غَيْرِهِمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْوَاجِبُ مِنْهُ الْإِبِلُ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ ، فَإِنَّمَا الْأَصْلُ ؛ فَإِذَا عُدِمَتْ وَقْتَ الْوُجُوبِ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي بَدَلِهَا وَهُوَ الْقِيمَةُ بِحِسَابِ الْوَقْتِ ، كَمَا فِي كُلِّ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ يَتَعَذَّرُ أَدَاؤُهُ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَهَبًا وَوَرِقًا ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى الْآفَاقِ ؛ وَلَا مُخَالِفَ ؛ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ؛ فَإِنَّ بَلَدًا لَمْ يَكُنْ قَطُّ بِهِ إبِلٌ لَا سَبِيلَ إلَى تَقْوِيمِهَا فِيهِ ، فَعَلِمَتْ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ فَقَدَّرَتْ نَصِيبَهَا ، وَاعْتَبَرَتْهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ إذْ لَا يَخْلُو بَلَدٌ مِنْهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فِي تَقْدِيرِهَا : عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَبَنَاهَا عَلَى نِصَابِ الزَّكَاةِ ، وَعُمَرُ مَعَ الصَّحَابَةِ قَدْ عَلِمُوا نِصَابَ الزَّكَاةِ حِينَ قَدَّرُوهَا بِاثْنَيْ عَشْرَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَهُوَ بَدِيعٌ ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ مَنْ أَرَادَ تَمَامَ الْعِلْمِ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هِيَ فِي الْإِبِلِ أَخْمَاسٌ : بَنَاتُ مَخَاضٍ ، وَبَنَاتُ لَبُونٍ ، وَبَنُو لَبُونٍ ، وَحِقَاقٌ ، وَجِذَاعٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ أَخْمَاسٌ ، إلَّا أَنَّ مِنْهَا بَنِي مَخَاضٍ دُونَ بَنِي لَبُونٍ .
وَدَلِيلُنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا ، فَقَالَ : عِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ } ، وَلَمْ يَذْكُرْ بَنِي مَخَاضٍ ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد كُوفِيًّا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ فَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَا مَعْنَى مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ شَيْءٌ لَا يَجِبُ فِي الزَّكَاةِ فَلَمْ يَجِبْ فِي الدِّيَةِ كَالثَّنَايَا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَهِيَ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ ، كَذَلِكَ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ ، وَهِيَ ضَرُورَةٌ ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ قَدْ تَكُونُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ حَوَامِلَ فَيَضُرُّ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِيهِ تَكُونُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَوَابِنَ ، وَوَجَبَتْ مُوَاسَاةً وَرِفْقًا ، فَتُؤْخَذُ مِنْهَا بِذَلِكَ ، .
{ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَغْرَاضٍ } : مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهَا صُلْحًا وَتَسْدِيدًا .
وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُهَا تَأْلِيفًا ، فَلَمَّا وُجِدَ الْإِسْلَامُ قَرَّرَتْهَا الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : وَلَا مَدْخَلَ فِيهَا لِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ بَقَرٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمَهَّدَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى هَذَا ؛ فَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الدِّيَةِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا يَفِي بِهَا إلَّا كُتُبُ الْمَسَائِلِ ، فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا ، فَنَخْرُجَ عَنْ الْمَقْصُودِ بِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } : أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إلَّا أَنْ يَصَدَّقُوا بِهَا عَلَى الْقَاتِلِ ؛ وَالِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى جَمِيعِهَا إذَا صَلَحَ ذَلِكَ فِيهَا ، وَإِلَّا عَادَ إلَى مَا يُصْلَحُ لَهُ ذَلِكَ مِنْهَا .
وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ ، وَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَا تُقْبَلُ الصَّدَقَةُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } : أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَ خَطَأً ، وَلَمْ يَذْكُرْ الدِّيَةَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا دِيَةَ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ : أَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ الدِّيَةِ عِنْدَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا لَمْ تُجِبْ الدِّيَةُ لَهُمْ لِئَلَّا يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّمَا لَمْ تَجِبْ لَهُمْ دِيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ وَلَا مِيثَاقٌ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْعَاصِمَ لِلْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " ، وَأَنَّ الْعَاصِمَ لَهُ فِي مَالِهِ الدَّارُ ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ وَبَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ اعْتَصَمَ عِصْمَةً قَوِيمَةً يَجِبُ بِهَا عَلَى قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلَيْسَ لَهُ عِصْمَةٌ مُقَوَّمَةٌ ؛ فَدَمُهُ وَمَالُهُ هَدَرٌ ، وَلَوْ أَنَّهُ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُمْ .
وَهَذَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ فَإِنَّ الدَّارَ عِنْدَ مَالِكٍ

الْعَاصِمَةُ لِلْأَهْلِ وَالْمَالِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِسْلَامُ يَعْصِمُ مَالَ الْمُسْلِمِ وَأَهْلَهُ وَدَمَهُ حَيْثُ كَانُوا .
وَالْمَسْأَلَةُ فِي نِهَايَةِ الْإِشْكَالِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَسْلَمُ ، وَعَلَى هَذَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيّ لَمْ يَذْكُرْهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُسْتَحَقٌّ ؛ فَلَوْ كَانَ لَهَا مُسْتَحَقٌّ لَوَجَبَتْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ، وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ عَلَى مَنْ آمَنَ فَرْضًا ، وَمَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ فَلَا إسْلَامَ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ ، فَأَمَّا مُذْ سَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ بِعِصْمَةِ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ لَهُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ أَيْنَمَا كَانَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } : وَالْمِيثَاقُ هُوَ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي قَدْ ارْتَبَطَ وَانْتَظَمَ ، وَمِنْهُ الْوَثِيقَةُ فَفِيهِ الدِّيَةُ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذَا هُوَ الْكَافِرُ الَّذِي لَهُ وَلِقَوْمِهِ الْعَهْدُ ، فَعَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ وَالْكَفَّارَةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ : الْمُرَادُ بِهِ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَقْتُولَ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَهْمَلَهُ وَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، كَمَا قَالَ فِي الْقَتِيلِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَإِطْلَاقُهُ مَا قَيَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ خِلَافُهُ .
وَهَذَا عِنْدَ عُلَمَائِنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ نُسِّقَتْ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَرُبِطَتْ بِهَا ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ } وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ ، وَهُوَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ .
وَالدِّيَةُ الْمُسَلَّمَةُ هِيَ الْمُوَفَّرَةُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا قَبَلهَا حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، وَقَدْ أَتَيْنَا فِيهِ بِالْعَجَبِ فِي الْمَحْصُولِ ، وَهُوَ عِنْدِي لَا يَلْحَقُ إلَّا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى حَمْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ

شَخْصًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ؛ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُخَلِّصَ آخَرَ لَهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ زَجْرٌ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ وَتُقَاةٍ لِلْحَذَرِ ، وَحَمْلٌ عَلَى التَّثَبُّتِ عِنْدَ الرَّمْيِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا .
وَنُحَرِّرُ هَذَا قِيَاسًا فَنَقُولُ : كُلُّ كَافِرٍ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِهِ [ كَالْمُسْتَأْمَنِ وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِهِ ] ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ عَنْهُ بِهِ احْتِفَالٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ الْمُؤْمِنُ ، فَمَنْ قَتَلَ كَافِرًا خَطَأً ، وَلَهُ عَهْدٌ فَفِيهِ الدِّيَةُ إجْمَاعًا .
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَصْلٌ بَدِيعٌ فِي رَفْعِ الدِّمَاءِ .
وَنَحْنُ نُمَهِّدُ فِيهِ قَاعِدَةً قَوِيَّةً فَنَقُولُ : مَبْنَى الدِّيَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْحُرْمَةِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْمَرْتَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَفَاوَتُ بِالصِّفَاتِ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا شُرِعَ زَجْرًا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نَظَرْنَا إلَى الدِّيَةِ فَوَجَدْنَا الْأُنْثَى تَنْقُصُ فِيهِ عَنْ الذَّكَرِ ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يُسَاوِيهِ فِي دِيَتِهِ .
وَزَادَ الشَّافِعِيُّ نَظَرًا ، فَقَالَ : إنَّ الْأُنْثَى الْمُسْلِمَةَ فَوْقَ الْكَافِرِ الذَّكَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقُصَ دِيَتُهُ عَنْ دِيَتِهَا ، فَتَكُونَ دِيَتُهُ ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ .
وَقَالَ مَالِكٌ بِقَضَاءِ عُمَرَ وَهُوَ النِّصْفُ ؛ إذْ لَمْ يُرَاعِ الصَّحَابَةُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَمْ يَتْبَعْ ذَلِكَ إلَى أَقْصَاهُ ، وَلَيْسَ بَعْدَ قَضَاءِ عُمَرَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ نَظَرٌ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَعْطَى فِي ذِي الْعَهْدِ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ } فَإِنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِئْلَافِ لِقَوْمِهِمْ ؛ إذْ كَانَ يُؤَدِّيهِ

مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَا يُرَتِّبُهَا عَلَى الْعَاقِلَة ، وَإِلَّا فَقَدْ اسْتَقَرَّ مَا اسْتَقَرَّ عَلَى يَدِ عُمَرَ ، حَتَّى جَعَلَ فِي الْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِنَقْصِهِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ التَّفَاوُتِ وَاعْتِبَارِ نَقْصِ الْمَرْتَبَةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } : ظَنَّ قَوْمٌ أَوَّلُهُمْ مَسْرُوقٌ أَنَّ الصِّيَامَ بَدَلٌ عَنْ الدِّيَةِ وَالرَّقَبَةِ ، وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ .
وَهُوَ وَهْمٌ ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ يَلْزَمُ الْقَاتِلَ فَهُوَ بَدَلٌ عَمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ الرَّقَبَةِ ، وَالدِّيَةُ لَمْ تَكُنْ تَلْزَمُهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلٌ عَنْهَا .
وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } انْحَصَرَ الْقَتْلُ فِي خَطَأٍ وَعَمْدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ ثَالِثًا ؛ وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَجَعَلُوهُ عَمْدًا خَطَأً ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ عَمْدٌ مِنْ وَجْهٍ خَطَأٍ مِنْ وَجْهٍ .
وَاَلَّذِي أَشَارُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ؛ فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَأِ قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ ، وَقَدْ [ رُوِيَ ] شِبْهُ الْعَمْدِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ، وَحَكَى الْعُلَمَاءُ عَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَأَنَّ الْقَتْلَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ، وَلَكِنْ جُعِلَ شِبْهُ الْعَمْدِ فِي مِثْلِ قِصَّةِ الْمُدْلِجِيِّ فِي نَظَرِ مَنْ أَثْبَتَهُ أَنَّ الضَّرْبَ مَقْصُودٌ وَالْقَتْلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ ؛ وَإِنَّمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْقَصْدِ فَيَسْقُطُ الْقَوْدُ ، وَتَغْلُظُ الدِّيَةُ .
وَبَالَغَ أَبُو حَنِيفَةَ مُبَالَغَةً أَفْسَدَتْ الْقَاعِدَةَ ، فَقَالَ : إنَّ الْقَاتِلَ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ شِبْهَ الْعَمْدِ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَلَا قَوْدَ فِيهِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْت مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : { إنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ فَلَمَّا عَلَاهُ بِالسَّيْفِ قَالَ الْمُشْرِكُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَقَالَ الرَّجُلُ : إنَّمَا يَتَعَوَّذُ بِهَا مِنْ الْقَتْلِ ؛ فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّمَا يَتَعَوَّذُ .
فَمَا زَالَ يُعِيدُهَا عَلَيْهِ : كَيْفَ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ } فَقَالَ الرَّجُلُ : وَدِدْت أَنِّي أَسْلَمْت ذَلِكَ الْيَوْمَ ، وَأَنَّهُ يَبْطُلُ مَا كَانَ لِي مِنْ عَمَلٍ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَأَنِّي اسْتَأْنَفْت الْعَمَلَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا هُوَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ ، أَصْلُهُ أَبُو ظَبْيَانَ عَنْ أُسَامَةَ ، رَوَاهُ عَنْهُ الْأَعْمَشُ ، وَحُصَيْنُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ اسْمَ الَّذِي قَتَلَهُ أُسَامَةُ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكٍ .
الثَّانِي : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ ، فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ ، فَحَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا إحْنَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَرَمَاهُ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ

بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ ، وَجَاءَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ ، فَقَالَ : لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك ، فَقَامَ وَهُوَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَتِهِ ، فَمَا مَضَتْ سَابِعَةٌ حَتَّى دَفَنُوهُ وَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : إنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُعَظِّمَ مِنْ حُرْمَتِكُمْ فَرَمَوْهُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مِنْ الْحِجَارَةِ ، وَأَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانَهُ الْآيَةَ } .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَقِيَ نَاسٌ رَجُلًا فِي غَنِيمَةٍ لَهُ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَتَلُوهُ ، وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغَنِيمَةَ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الرَّابِعُ : قَالَ قَتَادَةُ : أَغَارَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُ : إنِّي مُسْلِمٌ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَقَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ الْمِقْدَادُ ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْخَامِسُ .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ حَمَلَ دِيَتَهُ ، وَرَدَّ عَلَى أَهْلِهِ غَنِيمَتَهُ } ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا صَحِيحًا عَلَى طَرِيقِ الِائْتِلَافِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَقْتُولَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ، أَوْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَوْ يَكُونَ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الَّذِي قَالَ عُلِمَ إسْلَامُهُ : فَأَمَّا كَوْنُهُ عَامِرَ بْنِ الْأَضْبَطِ فَبَعِيدٍ ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ عَامِرٍ قَدْ اخْتَلَفَتْ اخْتِلَافًا كَثِيرًا لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ ، تَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَ مُحَلِّمٍ إنَّمَا كَانَ لِإِحْنَةٍ وَحِقْدٍ بَعْدَ الْعِلْمِ بِحَالٍ ، وَكَيْفَمَا تَصَوَّرَ الْأَمْرَ فَفِي وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ نَزَلَتْ ، وَغَيْرُهَا يَدْخُلُ فِيهَا بِمَعْنَاهَا .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَقِيَ الْكَافِرَ لَا عَهْدَ لَهُ جَازَ

لَهُ قَتْلُهُ ؛ فَإِنْ قَالَ لَهُ الْكَافِرُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ ؛ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِعِصَامِ الْإِسْلَامِ الْمَانِعِ مِنْ دَمِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ .
فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ بِهِ .
وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْ هَؤُلَاءِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ، وَتَأَوَّلُوا أَنَّهُ قَالَهَا مُتَعَوِّذًا ، وَأَنَّ الْعَاصِمَ قَوْلُهَا مُطْمَئِنًّا ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَاصِمٌ كَيْفَمَا قَالَهَا .
وَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ حَتَّى يُعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إشْكَالٍ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَافِرِ يُوجَدُ عِنْدَ الدَّرْبِ فَيَقُولُ : جِئْتُ مُسْتَأْمِنًا أَطْلُبُ الْأَمَانَ : هَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْفَاسِدُ قَدْ تَبَدَّلَ بِاعْتِقَادٍ صَحِيحٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الصَّحِيحُ ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُسْلِمٌ ، وَلَا أَنَا مُؤْمِنٌ ، وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الْعَاصِمَةِ الَّتِي عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } .
فَإِنْ صَلَّى أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا ، وَتَبَايَنَتْ الْفِرَقُ فِي إسْلَامِهِ ، وَقَدْ حَرَّرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَنَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ ، أَمَّا أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : مَا وَرَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ ؟ فَإِنْ قَالَ : صَلَاةُ مُسْلِمٍ قِيلَ لَهُ قُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولٌ اللَّهِ .
فَإِنْ قَالَهَا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ ، وَإِنْ أَبَى عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ تَلَاعُبٌ ، وَكَانَتْ عِنْدَ مَنْ يَرَى إسْلَامَهُ رِدَّةً وَيُقْتَلُ عَلَى كُفْرِهِ الْأَصْلِيِّ ، وَذَلِكَ مُحَرَّرٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، مُقَرَّرٌ أَنَّهُ كُفْرٌ أَصْلِي لَيْسَ بِرِدَّةٍ .
وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي قَالَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ يُكَلَّفُ الْكَلِمَةَ ، فَإِنْ قَالَهَا تَحَقَّقَ رَشَادُهُ ، وَإِنْ أَبِي تَبَيَّنَ عِنَادُهُ وَقُتِلَ .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { فَتَبَيَّنُوا } أَيْ الْأَمْرَ الْمُشْكِلَ ، أَوْ تَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا ، الْمَعْنَيَانِ سَوَاءٌ ؟ فَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَتَى مَنْهِيًّا عَنْهُ ، لَا يَبْلُغ فِدْيَةً وَلَا كَفَّارَةً وَلَا قِصَاصًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُفْرِهِ قَدْ تَيَقَّنَاهُ ، فَلَا يُزَالُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَتَغْلِيظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَلِّمٍ كَيْفَ مَخْرَجُهُ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِإِسْلَامِهِ ، وَلَمْ يُحَقِّقْهُ ؛ فَغَضِبَ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ } : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ بِنَاءَ " ضَرَبَ " يَتَصَرَّفُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ؛ مِنْهَا السَّفَرُ ، وَمَا أَظُنُّهُ سُمِّيَ بِهِ إلَّا لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا سَافَرَ ضَرَبَ بِعَصَاهُ دَابَّتَهُ ، لِيَصْرِفَهَا فِي السَّيْرِ عَلَى حُكْمِهِ ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ كُلُّ مُسَافِرٍ ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِي فِي هَذَا الْبَابِ ، وَلَا أَمْكَنَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ ضَبْطٌ فَرَأَيْتُهُ تَكَلُّفًا ، فَتَرَكْتُهُ إلَى أَوْبَةٍ تَأْتِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : ( مُرَاغَمًا كَثِيرًا ) هَذِهِ لَفْظَةٌ وَرَدَتْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِهَا سَنَذْكُرُهَا مَعَهَا ، فَأَرَدْنَا أَنْ نُقَدِّمَ شَرْحَ اللَّفْظَةِ ، لِتَكُونَ إلَى جَانِبِ أُخْتِهَا .
وَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَإِشْكَالٌ ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْمُرَاغَمُ : الْمَذْهَبُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : الْمُرَاغَمُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ .
الثَّانِي : الْمُرَاغَمُ : الْمُتَحَوِّلُ ، يُعْزَى إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : الْمُرَاغَمُ : الْمَنْدُوحَةُ .
قَالَ مُجَاهِدٌ : وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَتَقَارَبُ .
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّغَامِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ، وَهُوَ التُّرَابُ .
وَقَالَتْ أُخْرَى : هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ بِضَمِّ الرَّاءِ ، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَنْفِ الشَّاةِ .
وَالرُّغَامُ بِضَمِّ الرَّاءِ يُرْجَعُ إلَى الرَّغَامِ بِفَتْحِهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ كَرِهَ رَجُلًا قَصَدَ ذُلَّهُ ، وَأَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ ، حَتَّى يَقَعَ أَنْفُهُ عَلَى الرَّغَامِ ، وَهُوَ التُّرَابُ ، فَضُرِبَ الْمِثْلُ بِهِ ، حَتَّى يُقَالَ : أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَهُ ، وَأَفْعَلَ كَذَا وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُهُ ، ثُمَّ سُمِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَنْفُ وَمَا يَسِيلُ مِنْهُ بِهِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّفْظَةَ تَرْجِعُ إلَى الرَّغَامِ بِفَتْحِ الرَّاءِ .
الْمَعْنَى : وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مَكَانًا لِلذَّهَابِ ، وَضَرَبَ التُّرَابَ لَهُ مَثَلًا ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي السَّفَرِ فِي الْأَرْضِ : تَتَعَدَّدُ أَقْسَامُهُ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ ، فَتَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ الْمَقْصُودِ بِهِ إلَى هَرَبٍ أَوْ طَلَبٍ .
وَتَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ ، وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ أَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ الشَّرْعِيَّةِ : وَاجِبٌ ، وَمَنْدُوبٌ ، وَمُبَاحٌ ، وَمَكْرُوهٌ ، وَحَرَامٌ .
وَيَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ التَّنْوِيعِ فِي الْمَقَاصِدِ إلَى أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : الْهِجْرَةُ ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ وَكَانَتْ فَرْضًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِهَا بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَفْرُوضَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ بِالْفَتْحِ هِيَ الْقَصْدُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ بَقِيَ فَقَدْ عَصَى ، وَيُخْتَلَفُ فِي حَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّانِي : الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْبِدْعَةِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ بِبَلَدٍ سُبَّ فِيهَا السَّلَفُ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ الْمُنْكَرَ إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَغْيِيرِهِ نُزِلَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوصُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
وَقَدْ كُنْت قُلْت لِشَيْخِنَا الْإِمَامِ الزَّاهِدِ أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ : ارْحَلْ عَنْ أَرْضِ مِصْرَ إلَى بِلَادِك .
فَيَقُولُ : لَا أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ بِلَادًا غَلَبَ عَلَيْهَا كَثْرَةُ الْجَهْلِ ، وَقِلَّةُ الْعَقْلِ ، فَأَقُولُ لَهُ :

فَارْتَحِلْ إلَى مَكَّةَ أَقِمْ فِي جُوَارِ اللَّهِ وَجُوَارِ رَسُولِهِ ؛ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَرْضٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْحَرَامِ ، فَيَقُولُ : وَعَلَى يَدِي فِيهَا هُدًى كَثِيرٌ ، وَإِرْشَادٌ لِلْخَلْقِ ، وَتَوْحِيدٌ ، وَصَدٌّ عَنْ الْعَقَائِدِ السَّيِّئَةِ ، وَدُعَاءٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَالَى الْكَلَامُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِيهَا إلَى حَدٍّ شَرَحْنَاهُ فِي تَرْتِيبِ [ لُبَابِ ] الرِّحْلَةِ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ .
الثَّالِثُ : الْخُرُوجُ عَنْ أَرْضٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْحَرَامُ ؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْحَلَالِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .
الرَّابِعُ : الْفِرَارُ مِنْ الْإِذَايَةِ فِي الْبَدَنِ ؛ وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْخَصَ فِيهِ ، فَإِذَا خَشِيَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَوْضِعٍ فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ ، وَالْفِرَارِ بِنَفْسِهِ ؛ لِيُخَلِّصَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ .
وَأَوَّلُ مَنْ حَفِظْنَاهُ فِيهِ الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَافَ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ : { إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي } .
وَقَالَ : { إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } وَمُوسَى قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
وَذَلِكَ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ .
وَيَلْحَقُ بِهِ ، وَهُوَ : الْخَامِسُ : خَوْفُ الْمَرَضِ فِي الْبِلَادِ الْوَخِمَةِ ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا إلَى الْأَرْضِ النَّزِهَةِ .
وَقَدْ أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرِّعَاءِ حِينَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَتَنَزَّهُوا إلَى الْمَسْرَحِ ، فَيَكُونُوا فِيهِ حَتَّى يَصِحُّوا ، وَقَدْ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجَ مِنْ الطَّاعُونِ ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْدَ أَنِّي رَأَيْت عُلَمَاءَنَا قَالُوا هُوَ مَكْرُوهٌ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
السَّادِسُ : الْفِرَارُ خَوْفَ الْإِذَايَةِ فِي الْمَالِ ؛ فَإِنَّ حُرْمَةَ مَالِ

الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ ، وَالْأَهْلُ مِثْلُهُ أَوْ آكَدُ ، فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ قِسْمِ الْهَرَبِ .
وَأَمَّا قِسْمُ الطَّلَبِ فَيَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : طَلَبُ دِينٍ وَطَلَبُ دُنْيَا ؛ فَأَمَّا طَلَبُ الدِّينِ فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ ، وَلَكِنَّ أُمَّهَاتِهِ الْحَاضِرَةَ عِنْدِي الْآنَ تِسْعَةٌ : الْأَوَّلُ : سَفَرُ الْعِبْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } .
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَيُقَالُ : إنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّمَا طَافَ الْأَرْضَ لِيَرَى عَجَائِبَهَا .
وَقِيلَ : لَيُنْفِذَ الْحَقَّ فِيهَا .
الثَّانِي : سَفَرُ الْحَجِّ .
وَالْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ نَدْبًا فَهَذَا فَرْضٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الثَّالِثُ : سَفَرُ الْجِهَادِ ، وَلَهُ أَحْكَامُهُ .
الرَّابِعُ : سَفَرُ الْمَعَاشِ ؛ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الرَّجُلِ مَعَاشُهُ مَعَ الْإِقَامَةِ ، فَيَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ صَيْدٍ أَوْ احْتِطَابٍ أَوْ احْتِشَاشٍ أَوْ اسْتِئْجَارٍ ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ .
الْخَامِسُ : سَفَرُ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ الْكَثِيرِ الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِفَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي : التِّجَارَةَ .
وَهَذِهِ نِعْمَةٌ مَنَّ بِهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ ، فَكَيْفَ إذَا انْفَرَدَتْ .
السَّادِسُ : فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ .
السَّابِعُ : قَصْدُ الْبِقَاعِ الْكَرِيمَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْمَسَاجِدُ الْإِلَهِيَّةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِي هَذَا ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } .
الثَّانِي : الثُّغُورُ لِلرِّبَاطِ بِهَا ، وَتَكْثِيرُ سَوَادِهَا لِلذَّبِّ عَنْهَا ؛ فَفِي ذَلِكَ فَضْلٌ كَثِيرٌ .
الثَّامِنُ : زِيَارَةُ الْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .

التَّاسِعُ : السَّفَرُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، .
وَسَيَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَبَعْدَ هَذَا فَالنِّيَّةُ تَقْلِبُ الْوَاجِبَ مِنْ هَذَا حَرَامًا وَالْحَرَامَ حَلَالًا بِحَسَبِ حُسْنِ الْقَصْدِ وَإِخْلَاصِ السِّرِّ عَنْ الشَّوَائِبِ .
وَقَدْ تَتَنَوَّعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إلَى تَفْصِيلٍ ؛ هَذَا أَصْلُهَا الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ إلَّا فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ ، وَلَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ إلَّا فَرْضٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ إلَّا فِي سَفَرِ قُرْبَةٍ ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ ابْنُ حَنْبَلٍ .
وَتَعَلَّقُوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ } .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ مُبَاحٍ ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ ، حَتَّى فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ ، بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ بِعَيْنِهِ .
وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ : { فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَتْ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى أَصْلِهَا } .
السَّادِسُ : أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ الْخَوْفِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَائِشَةُ قَالَتْ : أَتِمُّوا ، فَقَالُوا لَهَا : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ .
قَالَتْ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي حَرْبٍ ، وَكَانَ يَخَافُ ؛ فَهَلْ تَخَافُونَ أَنْتُمْ ؟ أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ

فَفَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ لَمْ يَخُصَّ مِنْهَا وَاجِبًا مِنْ نَدْبٍ ، { وَقَدْ قَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ ، كَالْعُمْرَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِهَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : لَا تَقْصُرْ إلَّا فِي سَفَرِ قُرْبَةٍ فَعُمُومُ الْقُرْآنِ أَيْضًا يَقْضِي عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ قُرْبَةً مِنْ مُبَاحٍ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ : الصَّحِيحُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَقْصُرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَلِأَنَّهَا فَرْضٌ مُعَيَّنٌ لِلسَّفَرِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَعَلَّقَتْ لَهُمْ مِنْ أَقْوَالِ الْعِرَاقِيِّينَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " التَّلْخِيصِ " وَغَيْرِهِ فَسَادهَا .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْحَدِيثِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ ، يُعَارِضُهُ نَصُّ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي كِتَابِهِ الْقَصْرَ تَخْفِيفًا ، وَالتَّمَامَ أَصْلًا ، وَيُعَارِضُ أَيْضًا الْأُصُولَ الْمَعْقُولَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْإِقَامَةَ فِي الْقُرْآنِ أَصْلًا ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَقَلَبَهَا فِي الْحَدِيثِ الرَّاوِي ؛ وَأَقْوَاهُ { أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَرَ وَأَتْمَمْت ، وَأَفْطَرَ وَصُمْت ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ ، وَكَانَتْ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ } .
وَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَأَشْكَلُ دَلِيلٍ فِيهِ لَهُمْ أَنْ قَالُوا : إنَّا بَنَيْنَا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ وَلَيْسَ بِرُخْصَةٍ ، وَالْعَزَائِمُ لَا تَتَغَيَّرُ بِسَفَرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ كَالتَّيَمُّمِ .
قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ رُخْصَةٌ ، وَعَلَيْهِ تَنْبَنِي الْمَسْأَلَةُ ، وَالرُّخْصُ لَا تَجُوزُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : تَلَاعَبَ قَوْمٌ بِالدِّينِ ؛ فَقَالُوا : إنْ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ إلَى ظَاهِرِهِ قَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَكَلَ .
وَقَائِلُ هَذَا أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ السَّفَرَ

عِنْدَ الْعَرَبِ ، أَوْ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ ؛ وَلَوْ لَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوهُ مَا رَضِيت أَنْ أَلْمَحَهُ بِمُؤَخِّرِ عَيْنِي ، وَلَا أَنْ أُفَكِّرَ فِيهِ بِفُضُولِ قَلْبِي ؛ وَقَدْ كَانَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيرِهِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَدَّرُونَهُ بِيَوْمٍ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ بِأَنَّ السَّفَرَ كُلُّ خُرُوجٍ تُكَلِّفَ لَهُ وَأُدْرِكَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقَصْرَ قَصْرُ عَدَدٍ ، وَهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا قَصْرُ الْحُدُودِ وَتَغْيِيرُ الْهَيْئَاتِ .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْقَصْرَ فِي الْعَدَدِ قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ : أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى اثْنَيْنِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَقْصُرُ مِنْ اثْنَيْنِ إلَى وَاحِدَةٍ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ؛ فَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا حَالَةَ الْخَوْفِ ، وَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِهَا إلَى ثِنْتَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ .
وَأَمَّا الْقَصْرُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ إلَى وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً .
وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ خِفْتُمْ } : فَشَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَوْفَ فِي الْقَصْرِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الشَّرْطِ الْمُتَّصِلِ بِالْفِعْلِ ؛ هَلْ يَقْتَضِي ارْتِبَاطُ الْفِعْلِ بِهِ حَتَّى يَثْبُتَ بِثُبُوتِهِ وَيَسْقُطَ بِسُقُوطِهِ ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَبِطُ بِهِ ، وَهُمْ نُفَاةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِاللُّغَةِ وَلَا بِالْكِتَابِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَحْصُولِ بَيَانًا شَافِيًا .
وَعَجَبًا لَهُمْ .
{ قَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ حِفْتُمْ } فَهَا نَحْنُ قَدْ أَمِنَّا .
قَالَ : عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ .
فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ .
} وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : إنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ يَعْنِي نَجِدُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا ، فَإِنَّا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ ؛ فَهَذِهِ الصَّحَابَةُ الْفُصَّحُ ، وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ ارْتِبَاطَ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ ، وَتُسْلِمُ فِيهِ وَتَعْجَب مِنْهُ ، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ الْعَرَبِ لِأَغْرَاضٍ صَحِيحَةٍ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِيهَا ، فَلْيُنْظَرْ تَحْقِيقُهُ فِي كَلَامِنَا عَلَيْهِ .
وَلَقَدْ انْتَهَى الْجَهْلُ بِقَوْمٍ آخَرِينَ إلَى أَنْ قَالُوا : إنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ فِي قَوْلِهِ : { مِنْ الصَّلَاةِ } وَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ : { إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَإِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ } وَهَذَا كُلُّهُ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَيْهِ عُمَرُ وَلَا ابْنُهُ وَلَا يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مَعَهُمَا .
وَفِي الصَّحِيحِ

عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : { صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى ، آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ وَأَكْثَرُهُ رَكْعَتَيْنِ } ؛ فَهَؤُلَاءِ لَمَّا جَهِلُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ تَكَلَّمُوا بِرَأْيِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
وَهَذَا نَوْعٌ عَظِيمٌ مِنْ تَكَلُّفِ الْقَوْلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَقَوْلٍ مَذْمُومٍ ، وَلَيْسَ بَعْدَ قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ مَطْلَبٌ لِأَحَدٍ إلَّا لِجَاهِلٍ مُتَعَسِّفٍ أَوْ فَارِغٍ مُتَكَلِّفٍ ، أَوْ مُبْتَدِعٍ مُتَخَلِّفٍ .
وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَصْرَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةَ وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ ، { وَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَتَمَّ بِمِنًى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ } .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { : وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَك وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ الَّتِي قَبْلَهَا عَدَدًا فَقَدْ زَعَمَ قَوْلُهُمْ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهَا بِهَا مُرْتَبِطَةٌ .
وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا خِطَابًا وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا حُكْمًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالُ دُونَ اخْتِلَالٍ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ } .
فَإِنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْقَصْرِ " وَكَانَ الْمَعْنَى أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ حُدُودِهَا ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانُ صِفَةِ ذَلِكَ الْقَصْرِ مِنْ الْحُدُودِ ، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مُبْتَدَأً لَمْ يَرْتَبِطْ بِالْأَوَّلِ ، فَهَذَا بَيَانُهُ ، فَيَقُولُ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مِرَارًا عِدَّةً بِهَيْئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ } ، فَقِيلَ فِي مَجْمُوعِهَا : إنَّهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ صِفَةً ، ثَبَتَ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ صِفَةً قَدْ شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
وَاَلَّذِي نَذْكُرُهُ لَكُمْ الْآنَ مَا نُورِدُهُ أَبَدًا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ ، وَذَلِكَ عَلَى ثَمَانِي صِفَاتٍ : الصِّفَةُ الْأُولَى : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى

بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً .
} الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ : { قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، فَصَفّنَا صَفَّيْنِ ؛ صَفًّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ انْحَدَرْنَا بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا ، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ انْحَدَرْنَا بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيه انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ ، فَسَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا } .
الصِّفَة الثَّالِثَةُ : عَنْ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ ، فَصَفَّهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ يَلُونَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى صَلَّى بِاَلَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ قُدَّامُهُمْ ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ } .
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ : يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ { إنَّ طَائِفَةً صَلَّتْ

مَعَهُ وِجَاهَ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ .
} الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ جَابِرٌ : { أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، ثُمَّ قَالَ : فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ } .
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ : يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَيُصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، وَتَكُونُ طَائِفَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا فَإِذَا صَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ رَكْعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ وَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا قِيَامًا وَرُكْبَانًا } .
قَالَ نَافِعٌ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرُ مُسْتَقْبِلِيهَا ، لَا أَرَى ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ السِّتُّ فِي الصَّحِيحِ الثَّابِتِ .
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ : عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، فَقَامَ صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفٌّ مُسْتَقْبِلَ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ، وَجَاءَ الْآخَرُونَ ؛

فَقَامُوا مَقَامَهُمْ ، وَاسْتَقْبَلَ هَؤُلَاءِ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ هَؤُلَاءِ وَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمُوا ، ثُمَّ ذَهَبُوا فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ مَقَامَهُمْ ، فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا } .
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا } ، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الثَّامِنَةِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَرْوِيَّتَانِ فِي الْمُصَنَّفَاتِ خَرَّجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا بَقِيَ غَيْرُهَا مِنْ السِّتَّ عَشْرَةَ صِفَةً عَلَى سِتَّةِ أَقْوَال : الْأَوَّلُ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : هِيَ سَاقِطَةٌ كُلُّهَا ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } فَإِنَّمَا أَقَامَ الصَّلَاةَ خَوْفِيَّةً بِشَرْطِ إقَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا بِهِمْ .
قُلْنَا لَهُمْ : فَالْآنَ مَا يَصْنَعُونَ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَتْرُكُ الصَّلَاةَ مَعَ الذِّكْرِ لَهَا وَالْعِلْمِ بِهَا وَبِوَقْتِهَا كَانَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِهَا وَاقْتِدَاءً بِمَنْ فَاتَ ، وَإِنْ قَالَ يَفْعَلُهَا عَلَى الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الِاقْتِدَاءُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ } وَالِائْتِمَامُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ فِي الصَّحِيحِ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } ، وَاَللَّهُ قَالَ لَهُ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } وَهُوَ قَالَ لَنَا : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّانِي : قَالَتْ طَائِفَةٌ : أَيُّ صَلَاةٍ صَلَّى مِنْ

هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الصِّحَاحِ الْمَرْوِيَّةِ جَازَ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الَّذِي يُعْلَمُ تَقَدُّمُهُ وَيَتَحَقَّق تَأَخُّرُ غَيْرِهِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْمُتَقَدِّمَ ، وَإِنَّمَا يَبْقَى التَّرْجِيحُ فِيمَا جُهِلَ تَارِيخُهُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي نَسْخِ الْفِعْلِ لِلْفِعْلِ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَحْصُولِ ، وَهَذَا كَانَ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ لَوْ لَا أَنَّا نَبْقَى فِي الْإِشْكَالِ بَعْدَ تَحْدِيدِ الْمُتَقَدِّمِ .
الرَّابِعُ : قَالَ قَوْمٌ : مَا وَافَقَ صِفَةَ الْقُرْآنِ مِنْهَا فَهُوَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَمَا خَالَفَهَا مَظْنُونٌ ، وَلَا يُتْرَكُ الْمَقْطُوعُ بِهِ لَهُ ، وَعَلَّقُوهُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ لِلسُّنَّةِ ؛ وَهَذَا مُتَعَلَّقٌ قَوِيٌّ ، لَكِنْ يَمْنَعُ مِنْهُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا كَانَتْ لِيُجْمَعَ بَيْنَ التَّحَرُّزِ مِنْ الْعَدُوِّ وَإِقَامَةِ الْعِبَادَةِ ، فَكَيْفَمَا أَمْكَنَتْ فُعِلَتْ ، وَصِفَةُ الْقُرْآنِ لَمْ تَأْتِ لِتَعْيِينِ الْفِعْلِ .
وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمُمْكِنَةِ ، وَهَذَا بَالِغٌ .
الْخَامِسُ : تَرْجِيحُ الْأَخْبَارِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ لَهَا أَوْ مَزِيدِ عَدَالَتِهِمْ فِيهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، فَرَجَّحْنَا خَبَرَ سَهْلٍ وَصَالِحٍ ، ثُمَّ رَجَّحْنَا بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ ؛ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ فِعْلًا ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ أَحْفَظَ لِأُهْبَةِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ : السَّادِسُ : مِثَالُ ذَلِكَ إذَا صَلَّى صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فِي الْخَوْف .
قُلْنَا : نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ نُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ فِي الِانْتِظَارِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ : يُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَةً لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَهَا لَيْلَةَ الْهَرِيرِ .
وَمِنْهَا التَّرْجِيحُ بِالسَّلَامِ بَعْدَ الْإِمَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَذَلِكَ طُولٌ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَوْضِعِهِ ، وَهَذِهِ نُبْذَةٌ كَافِيَةٌ لِلْبَابِ الَّذِي تَصَدَّيْنَا إلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا صَلَّوْا أَخَذُوا سِلَاحَهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْمِلُهَا .
قَالُوا : لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا .
قُلْنَا : لَمْ يَجِب عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ قُوَّةً لَهُمْ وَنَظَرًا ، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَلَا تَعَلُّقَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَاعْلَمْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ } : رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِعُسْفَانَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ، فَرَأَوْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كَانَ فُرْصَةً لَكُمْ } .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : فَإِنَّ لَهُمْ صَلَاةً أُخْرَى هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلَيْهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَاسْتَعِدُّوا حَتَّى تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } : وَهَذَا سُقْنَاهُ لِتَتَبَيَّنُوا أَنَّهَا آيَةٌ أُخْرَى فِي قِصَّةٍ غَيْر قِصَّةِ الْقَصْرِ ، وَتَتَحَقَّقُوا غَبَاوَةَ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُصَلِّي حَالَ الْمُسَايَفَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا تَصِحُّ مَعَهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ فِي الْخَوْفِ كَالرُّعَافِ .
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ الصَّحِيحُ : { فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا } ؛ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَالَةِ الْمُسَايَفَةِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ وَصِفَةِ مَوْقِفِ الْعَدُوِّ .
وَأَمَّا الزِّحَافُ فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهَا فُعِلَتْ كَمَا أَنَّهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فُعِلَ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ .
وَمَا قُلْنَاهُ أَرْجَحُ ؛ لِأَنَّا نَحْنُ أَسْقَطْنَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَهُوَ أَسْقَطَ أَصْلَ الصَّلَاةِ ، فَهَذَا أَرْجَحُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ شَيْءٍ ، فَلِعُلَمَائِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يُعِيدُونَ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا عَلَى اجْتِهَادِهِمْ ، فَجَازَ لَهُمْ كَمَا لَوْ أَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُمْ تَبَيَّنَ لَهُمْ الْخَطَأُ ، فَعَادُوا إلَى الصَّوَابِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَالْمُضَاءُ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَتَرْكُ الْإِعَادَةِ أُولَى ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ ، وَاجْتَهَدُوا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ لَا فِي الْقِبْلَةِ وَلَا فِي الْخَوْفِ وَلَا فِي أَمْثَالِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا تَابَعَ الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ حِينَئِذٍ صَلَاةً ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُحَارَبَةً .
قُلْنَا : يَا حَبَّذَا الْفَرْضَانِ إذَا اجْتَمَعَا ، وَإِذَا كَانَتْ الْحَرَكَةُ لَعِبًا لَمْ تَنْتَظِمْ مَعَ الصَّلَاةِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عِبَادَةً وَاجِبَةً وَتُعُيِّنَتَا جَمِيعًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُصَلِّي وَيُقَاتِلُ ؛ وَعُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رُكْبَانًا ، وَعَلَى أَقْدَامِهِمْ ، وَمُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا } يُعْطِي جَوَازَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ الْمُزَنِيّ : لَا يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ وَالْخَوْفُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ ، وَهَذِهِ إحْدَى خَطِيئَاتِهِ ؛ فَلَهُ انْفِرَادَاتٌ يَخْرُجُ فِيهَا عَنْ مَقَامِ الْمُتَثَبِّتِينَ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ طَارِئَةٌ ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَجْدِيدٍ مِنْ نِيَّةٍ كَالْجُمُعَةِ .
فَإِنْ قِيلَ الْجُمُعَةُ بَدَلٌ عَنْ الظُّهْرِ ، فَلِذَلِكَ افْتَقَرَتْ إلَى نِيَّةٍ مَحْدُودَةٍ .
قُلْنَا : رُبَّمَا قَلَبْنَا الْأَمْرَ ، فَقُلْنَا الْجُمُعَةُ أَصْلٌ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُهُمْ ؟ الثَّانِي : إنَّا نَقُولُ : وَهَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ بَدَلٌ ، أَلَيْسَتْ صَلَاةُ الْقَصْرِ بَدَلًا ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ بَدَلًا آخَرَ ؟ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا قُلْنَا إنَّهَا غَيْرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهَا بَدَلًا أَوْ أَصْلًا لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا فِي الصِّفَاتِ وَالشُّرُوطِ وَالْهَيْئَاتِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ هَاهُنَا ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ وَأَنْ تُسْتَأْنَفَ لَهُ نِيَّةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } : نَزَلَ عَلَيْهِمْ الْمَطَرُ ، وَمَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ جُرْحٍ ، فَرَخَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ فِي تَرْكِ السِّلَاحِ وَالتَّأَهُّبِ لِلْعَدُوِّ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ التَّأَهُّبِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْعَدُوِّ وَتَرْكِ الِاسْتِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْجَيْشَ مَا جَاءَهُ قَطُّ مُصَابٌ إلَّا مِنْ تَفْرِيطٍ فِي حَذَرٍ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } .
قَالَ قَوْمٌ : هَذِهِ الْآيَةُ وَاَلَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ سَوَاءٌ ، وَهَذَا عِنْدِي بَعِيدٍ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، فَاحْتَمَلَ أَنْ

يَكُونَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ } أَيْ فَرَغْتُمْ مِنْهَا فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، كَمَا قَالَ : { فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ } .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ إذَا كُنْتُمْ فِيهَا قَاضِينَ لَهَا ، فَأْتُوهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِكُمْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَمُصَافَّتِكُمْ لِلْعَدُوِّ وَكَرِّكُمْ وَفَرِّكُمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } : يَعْنِي بِحُدُودِهَا وَأُهْبَتِهَا وَكَمَالِ هَيْئَتِهَا فِي السَّفَرِ وَكَمَالِ عَدَدِهَا فِي الْحَضَرِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ ، مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ : يُصَلِّي رَاحِلًا وَرَاكِبًا ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَمَا قَدَرَ يُومِئُ إيمَاءً كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَيَكُونُ فِي كُلِّ حَالَةٍ حُكْمٌ لَهُ آيَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهِ وَحُكْمٌ يَنْفَرِدُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } : قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَاهُ مَفْرُوضًا ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْوَقْتِ ، وَمَا أَظُنُّهُ ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الزَّمَانِ ؛ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ } ؛ فَدَلَّ أَنَّ مَعْنَاهُ مَفْرُوضًا حَقِيقَةً .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنُوطَةٌ بِوَقْتٍ فَقَدْ أَخْطَأَ ، وَقَدْ عَوَّلَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ مُرْتَبِطَةٌ بِوَقْتٍ إذَا زَالَ لَمْ تُفْعَلْ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْوَقْتَ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ لَا شَرْطَ فِيهِ ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِفِعْلِهَا مَضَى الْوَقْتُ أَوْ بَقِيَ .
وَلَا نَقُولُ إنَّ الْقُضَاةَ بِأَمْرِ ثَانٍ بِحَالٍ .
وَقَدْ رَبَطْنَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُمْ : إنَّ مَوْقُوتًا مَحْدُودًا

بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُنَنٍ وَفَرَائِضَ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ لُغَةً مُحْتَمَلٌ مَعْنًى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ .
قُلْنَا : قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِلذِّكْرِ } ، وَكَمَا دَامَ ذِكْرُهَا وَجَبَ فِعْلُهَا وَأَدَاؤُهَا .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لَلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَنِي أُبَيْرِقٍ ؛ سَرَقُوا طَعَامَ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُمْ قَوْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَيْرٍ ، { فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ ذَلِكَ ، فَطَالَبَهُمْ عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، فَقَالَ رِفَاعَةُ : اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرَ رِفَاعَةَ وَأَخْزَى اللَّهُ بَنِي أُبَيْرِقٍ بِقَوْلِهِ : { بِمَا أَرَاك اللَّهُ } } أَيْ بِمَا أَعْلَمَك ، وَذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ بِنَظَرٍ ، وَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَضُدِ أَهْلِ التُّهَمِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُهُ خَصْمُهُمْ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَابَةَ عَنْ الْمُبْطَلِ وَالْمُتَّهَمِ فِي الْخُصُومَةِ لَا تَجُوزُ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ .

الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } هَذِهِ الْآيَةُ آيَةٌ بِكْرٌ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ فِيهَا ذِكْرٌ ، وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِخْلَاصُ ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ ظَاهِرُ الْمَرْءِ وَبَاطِنُهُ .
وَالثَّانِي : النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ .
فَالنَّجْوَى خِلَافُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، وَبَعْدَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْخَلْقِ مِنْ أَمْرٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَيَخُصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَالسَّعْيِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَفِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى مَصْدَرًا ، كَالْبَلْوَى وَالْعَدْوَى ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْمُنْتَجِينَ كَمَا قَالَ : { وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } .
فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُنْتَجِينَ فَقَوْلُهُ : { إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } اسْتِثْنَاءُ شَخْصٍ مِنْ شَخْصٍ ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَذْفِ تَقْدِيرِهِ : إلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي صِفَةِ النَّجْوَى : ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ } .
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ ، وَهُوَ ضَرَرٌ ؛ وَالضَّرَرُ لَا يَحِلُّ بِإِجْمَاعٍ ، وَبِالنَّصِّ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَمُخْلِصٍ ، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ حَيْثُ يَتَوَقَّعُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حِيلَةٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ ؛ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ .
وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ النَّهْيِ وَتَمَادِي الْأَمْرِ وَعُمُومُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ .
{ مَخَافَةَ أَنْ يُحْزِنَهُ } .
وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَدَعَا رَابِعًا ، وَأَوْقَفَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ رَيْثَمَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ يَعْنِي أَرْبَعٌ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عُلِمَتْ بِالنَّظَرِ اطَّرَدَتْ حَيْثُمَا وُجِدَتْ ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا أَيْنَمَا كَانَتْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ تَحْزِينُ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ كَانَ التَّحْزِينُ أَكْثَرَ ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ آكَدَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّلٌ بِتَحْزِينِ الْوَاحِدِ فَإِذَا اسْتَأْذَنَهُ فَأَذِنَ لَهُ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى { وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلِأُمَنِّيَنهمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَشِفَ الْهَيْئَةِ ، فَصَعَّدَ فِي النَّظَرِ وَصَوَّبَهُ فَقَالَ : هَلْ لَك مِنْ مَالٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ : مِنْ أَيِّ الْمَالِ ؟ قُلْت : مِنْ كُلِّ الْمَالِ آتَانِي اللَّهُ فَأَكْثَرَ وَأَطْيَبَ ؛ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ وَالرَّقِيقُ وَالْغَنَمُ .
قَالَ : فَإِذَا آتَاك اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْك .
ثُمَّ قَالَ : هَلْ تُنْتِجُ إبِلُ قَوْمِك صِحَاحًا آذَانُهَا فَتَعْمِدُ إلَى الْمَوْسِيِّ فَتَشُقُّ آذَانَهَا ، فَتَقُولَ : هَذِهِ بَحْرٌ ؛ وَتَشُقَّ جُلُودَهَا ، وَتَقُولَ : هَذِهِ صُرُمٌ لِتُحَرِّمَهَا عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك ؟ قَالَ : قُلْت : أَجَلْ .
قَالَ : فَكُلُّ مَا أَتَاك اللَّهُ حِلٌّ وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ ، وَسَاعِدُهُ أَشَدُّ الْحَدِيثَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا كَانَ مِنْ إبْلِيسَ مَا كَانَ مِنْ الِامْتِنَاع مِنْ السُّجُودِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْآمِرِ بِهِ بِالتَّسْفِيهِ أَنْفَذَ اللَّهُ فِيهِ حُكْمَهُ وَأَحَقَّ عَلَيْهِ لَعَنَتْهُ ، فَسَأَلَهُ النَّظْرَةَ ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهَا زِيَادَةً فِي لَعْنَتِهِ ، فَقَالَ لِرَبِّهِ : { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلِأُضِلَّنَّهُمْ وَلِأُمَنِّيَنهمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } وَكَانَ مَا أَرَادَ ، وَفَعَلَتْ الْعَرَبُ مَا وَعَدَ بِهِ الشَّيْطَانُ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ ، وَذَلِكَ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَتَحْرِيمٌ ، وَتَحْلِيلٌ بِالطُّغْيَانِ ، وَقَوْلٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ ، وَالْآذَانُ فِي الْأَنْعَامِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ ، فَلِذَلِكَ رَأَى الشَّيْطَانُ أَنْ يُغَيِّرَ بِهَا خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَرْكَبُ عَلَى ذَلِكَ التَّغْيِيرِ

الْكُفْرُ بِهِ ، لَا جَرَمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنْ تُسْتَشْرَفَ الْعَيْنُ وَالْآذَانُ فِي الْأَنْعَامِ } ، مَعْنَاهُ أَنْ تُلْحَظَ الْأُذُنُ ؛ لِئَلَّا تَكُونَ مَقْطُوعَةً أَوْ مَشْقُوقَةً ؛ فَتُجْتَنَبُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا أَثَرَ الشَّيْطَانِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ } ، وَهِيَ هَذِهِ ، وَشَبَّهَهَا مِمَّا وَفَّى فِيهَا لِلشَّيْطَانِ بِشَرْطِهِ حِينَ قَالَ : { فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلْيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَمِّ الْغَنَمَ فِي آذَانِهَا } ، وَكَأَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّدُ الْهَدْيَ وَيُشْعِرُهُ أَيْ يَشُقُّ جِلْدَهُ ، وَيُقَلِّدُهُ نَعْلَيْنِ ، وَيُسَاقُ إلَى مَكَّةَ نُسُكًا } ؛ وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ بِدْعَةٌ ؛ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ ، لَهِيَ [ فِيهَا ] أَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْعُلَمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَسْمُ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ بِالنَّارِ فِي أَعْنَاقِهَا وَأَفْخَاذِهَا مُسْتَثْنًى مِنْ التَّغْيِيرِ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَاسْتِثْنَاءِ مَا سَلَف .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ، وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ ، وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُوتَشِرَةَ ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ } .
فَالْوَاشِمَةُ هِيَ الَّتِي تَجْرَحُ الْبَدَنَ نُقَطًا أَوْ خُطُوطًا ، فَإِذَا جَرَى الدَّمُ حَشَتْهُ كُحْلًا ، فَيَأْتِي خِيلَانًا وَصُوَرًا فَيَتَزَيَّنُ بِهَا النِّسَاءُ لِلرِّجَالِ ؟ وَرِجَالُ صِقِلِّيَّةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ يَفْعَلُونَهُ لِيَدُلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى رُجْلَتِهِ فِي حَدَاثَتِهِ .
وَالنَّامِصَةُ : هِيَ نَاتِفَةُ الشَّعْرِ ، تَتَحَسَّنُ بِهِ .
وَأَهْلُ مِصْرَ يَنْتِفُونَ شَعْرَ الْعَانَةِ ، وَهُوَ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ حَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ ، فَأَمَّا نَتْفُ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يُرْخِيهِ وَيُؤْذِيهِ وَيُبْطِلُ كَثِيرًا مِنْ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ .
وَالْوَاشِرَةُ : هِيَ الَّتِي تُحَدِّدُ أَسْنَانَهَا .
وَالْمُتَفَلِّجَةُ : هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ بَيْنَ الْأَسْنَانِ فَرْجًا وَهَذَا كُلُّهُ تَبْدِيلٌ لِلْخِلْقَةِ ، وَتَغْيِيرٌ لِلْهَيْئَةِ ، وَهُوَ حَرَامٌ .
وَبِنَحْوِ هَذَا قَالَ الْحَسَنُ فِي الْآيَةِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا : التَّغْيِيرُ لِخَلْقِ اللَّهِ يُرِيدُ بِهِ دِينَ اللَّهِ ؛ وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا فَلَا نَقُولُ : إنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا غَيَّرَ الشَّيْطَانُ وَحَمَلَ الْآبَاءَ عَلَى تَغْيِيرِهِ ، وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، ثُمَّ يَقَعُ التَّغْيِيرُ عَلَى يَدِي الْأَبِ وَالْكَافِلِ وَالصَّاحِبِ ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنْ التَّابِعِينَ جُمْلَةً : تَوْخِيَةُ الْخِصَاءِ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ .
فَأَمَّا فِي الْآدَمِيِّ فَمُصِيبَةٌ ، وَأَمَّا فِي [ الْحَيَوَانِ ] وَالْبَهَائِمِ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مَكْرُوهٌ ، لِأَجْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .

وَرَوَى مَالِكٌ كَرَاهِيَتَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ : فِيهِ نَمَاءُ الْخَلْقِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ جَائِزٌ ؛ وَهُمْ الْأَكْثَرُ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِهِ تَعْلِيقَ الْحَالِ بِالدِّينِ لِصَنَمٍ يُعْبَدُ ، وَلَا لِرَبٍّ يُوَحَّدُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَطْيِيبُ اللَّحْمِ فِيمَا يُؤْكَلُ ، وَتَقْوِيَةُ الذَّكَرِ إذَا انْقَطَعَ أَمَلُهُ عَنْ الْأُنْثَى ، وَالْآدَمِيُّ عَكْسُهُ إذَا خُصِيَ بَطَلَ قَلْبُهُ وَقُوَّتُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : رَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ طَاوُسًا كَانَ لَا يَحْضُرُ نِكَاحَ سَوْدَاءَ بِأَبْيَضَ ، وَلَا بَيْضَاءَ بِأَسْوَدَ ، وَيَقُولُ : هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ : { فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } .
وَهُوَ أَنْ كَانَ يَحْتَمِلُهُ عُمُومُ اللَّفْظِ وَمُطْلَقُهُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا أَنَفَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِكَاحِ مَوْلَاهُ زَيْدٍ ، وَكَانَ أَبْيَضَ ، بِظِئْرِهِ بَرَكَةَ الْحَبَشِيَّةَ أُمِّ أُسَامَةَ ، فَكَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ مِنْ أَبْيَضَ ، وَهَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى طَاوُسٍ مِنْ عِلْمِهِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِنَا فِي آيَةِ : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى } .
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ فَلَا يُجِيبُ ، حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ } ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى } .
{ يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْجِبَالِ } .
هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَثِيرٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : طَلَبْنَا مَا قَالَ مَالِكٌ فَوَجَدْنَاهُ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا : قَوْلُهُ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } .
{ يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى } .
{ وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ } .
{ يَسْأَلُك أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا } .
{ يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } .
{ يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } .
{ يَسْأَلُونَك عَنْ السَّاعَةِ } .
{ يَسْأَلُك النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ } .
{ يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْجِبَالِ } .
{ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ } : الَّذِينَ لَا أَبَ لَهُمْ ، أَكَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمْرَهُمْ وَأَكَّدَ أَمْرَ الْيَتَامَى ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا أَبًا لَهُمْ ؛ فَيُحْتَمَلُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونُوا هُمْ ، أَكَّدَ أَمْرَهُمْ بِلَفْظٍ آخَرَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ الضَّعْفِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ ضَعِيفًا ، وَالْيَتِيمُ الْمُنْفَرِدُ بِالضَّعْفِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ رَمَاهُ أَهْلُهُ وَدَفَعَهُ أَبُوهُ عَنْ نَفْسِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ أَمْرِهِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } قَالَتْ عَائِشَةُ : هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا أَنْ يُفَارِقَهَا ، فَيَقُولُ : أَجْعَلُك مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
قَالَ الْقَاضِي رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الصِّدِّيقَة الطَّاهِرَةِ : لَقَدْ وَفَتَّ مَا حَمَلَهَا رَبُّهَا مِنْ الْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } .
وَلَقَدْ خَرَجَتْ فِي ذَلِكَ عَنْ الْعَهْدِ .
{ وَهَذَا كَانَ شَأْنُهَا مَعَ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ لَمَّا أَسَنَّتْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَآثَرَتْ الْكَوْنَ مَعَ زَوْجَاتِهِ .
فَقَالَتْ لَهُ : امْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ ، فَفَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَاتَتْ وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِهِ } .
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَائِشَةَ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الرُّعْنِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الرَّجُلَ إذَا أَخَذَ شَبَابَ الْمَرْأَةِ وَأَسَنَّتْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَبَدَّلَ بِهَا ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَفَعَ حَرَجًا وَجَعَلَ مِنْ هَذِهِ الضِّيقَةِ مَخْرَجًا .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذْرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَلَّفَ الرِّجَالَ الْعَدْلَ بَيْنَ النِّسَاءِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ ، وَهَذَا وَهْمٌ عَظِيمٌ ، فَإِنَّ الَّذِي كَلَّفَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ فِي الظَّاهِرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } .
وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَطَاعٌ ، وَاَلَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ قَطُّ إيَّاهُ ؛ وَهُوَ النِّسْبَةُ فِي مَيْلِ النَّفْسِ ؛ وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقَسَمِ ، وَيَجِدُ نَفْسَهُ أَمْيَلَ إلَى عَائِشَةَ فِي الْحُبِّ ، فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تَسْأَلْنِي فِي الَّذِي تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ } يَعْنِي قَلْبَهُ ، وَالْقَاطِعُ لِذَلِكَ ، الْحَاسِمُ لِهَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنَّا فِي تَكْلِيفِ مَا لَا نَسْتَطِيعُ فَضْلًا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَنَا إيَّاهُ حَقًّا وَخُلُقًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : سَأَلْت عَبِيدَةُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ : هُوَ الْحُبُّ وَالْجِمَاعُ .
وَصَدَقَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ ؛ إذْ قَلْبُهُ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ ، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ .
وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ قَدْ يَنْشَطُ لِلْوَاحِدَةِ مَا لَا يَنْشَطُ لِلْأُخْرَى ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَصْدٍ مِنْهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَسْتَطِيعُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَكْلِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ }

: قَالَ الْعُلَمَاءُ : أَرَادَ تَعَمُّدَ الْإِتْيَانِ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَجَعَلَ إلَيْهِ ، مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاَللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ : غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ ، فَكَانَ ضِلْعُهُ مَعَ الْفَقِيرِ ، يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ ، فَأَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقِسْطُ : الْعَدْلُ .
بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ ، وَالْقَسْطُ بِفَتْحِهَا : الْجَوْرُ وَيُقَالُ : أَقْسَطَ إذَا عَدَلَ ، وَقَسَطَ إذَا جَارَ ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ : قَسَطَ الْبَعِيرُ قَسْطًا إذَا يَبِسَتْ يَدُهُ ، فَلَعَلَّ أَقْسَطَ سَلْبُ قَسَطَ ، فَقَدْ يَأْتِي بِنَاءُ أَفْعَلَ لِلسَّلْبِ .
كَقَوْلِهِ : أَعْجَمَ الْكِتَابُ إذَا سَلَبَ عُجْمَتَهُ بِالضَّبْطِ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } : يَعْنِي فَعَّالِينَ ، مِنْ قَامَ ، وَاسْتَعَارَ الْقِيَامَ لِامْتِثَالِ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ يُفْعَلُ فِي مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ وَهِيَ غَايَةُ الْفِعْلِ لَنَا ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وَالْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتِ فَضَرَبَهُ هَاهُنَا مَثَلًا لِغَايَةِ الْقِيَامِ بِالْعَدْلِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ } : كُونُوا مِمَّنْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وَلِوَجْهِهِ ، فَيُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ، وَيَقُولُ الْحَقَّ فِيهَا ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ بِالْحَقِّ ، وَالْمَلَائِكَةُ وَأَوَّلُو الْعِلْمِ وَعُدُولُ الْأُمَّةِ ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِالْقِسْطِ فَقَدْ شَهِدَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَقِّ ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ لِلَّهِ فَقَدْ شَهِدَ بِالْقِسْطِ ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي الْمَائِدَةِ بِمَقْلُوبِ هَذَا النَّظْمِ ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَبْدَ بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ ، وَيُسَمِّي الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةً ، كَمَا تُسَمَّى الشَّهَادَةُ عَلَى الْغَيْرِ الْإِقْرَارَ .
وَفِي حَدِيثِ { مَاعِزٍ : فَلَمْ يَرْجُمْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ } ، وَلَا يُبَالِي الْمَرْءُ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا فَاَللَّهُ يَفْتَحُ لَهُ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } إلَّا أَنَّهُ فِي بَابِ الْحُدُودِ نَدَبَ إلَى أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَتُوبَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ ؛ بَلْ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَدِّ إذَا رَأَى غَيْرَهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ وَهُوَ صَاحِبُهُ ، فَيَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ لِيُخَلِّصَهُ وَيُبَرِّئَهُ .
رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ { عَنْ الْحَلَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ فِي السُّوقِ فَرَمَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا .
قَالَ : فَثَارَ النَّاسُ وَثُرْت فِيمَنْ ثَارَ ، فَانْتَهَيْت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : مَنْ أَبُو هَذَا مَعَك ؟ فَقَالَ فَتًى حِذَاءَهَا : أَنَا أَبُوهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ : مَنْ أَبُو هَذَا مَعَك ؟ فَسَكَتَتْ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا حَدِيثَةُ السِّنِّ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِحُزْنٍ وَلَيْسَتْ تُكَلِّمُك ، أَنَا أَبُوهُ ؛ فَنَظَرَ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ ، فَقَالُوا : مَا عَلِمْنَا إلَّا خَيْرًا .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْصَنْت .
قَالَ : نَعَمْ ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ .
قَالَ : فَخَرَجْنَا فَحَفَرْنَا لَهُ حَتَّى أَمْكَنَّاهُ ثُمَّ رَمَيْنَاهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى هَدَأَ مُحْتَضَرًا } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ الْوَالِدَيْنِ } : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ : الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ بِرَّهُمَا ، بَلْ مِنْ بِرِّهِمَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِالْحَقِّ ، وَيُخْلِصَهُمَا مِنْ الْبَاطِلِ ، وَهُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } فِي بَعْضِ مَعَانِيه .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُمَا أَوْ شَهِدَا لَهُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ؛ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَالْأَخِ لِأَخِيهِ ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ؛ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَّهِمُ فِي ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ ، ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنْ النَّاسِ أُمُورٌ حَمَلَتْ الْوُلَاةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ ، فَتُرِكَتْ شَهَادَةُ مِنْ يُتَّهَمُ ، وَصَارَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ ، وَقَدْ أَجَازَ قَوْمٌ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إذَا كَانُوا عُدُولًا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَجَازَهُ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ شَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ إذَا كَانَ عَدْلًا إلَّا فِي النَّسَبِ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ فِي نَصِيبٍ مِنْ مَالٍ يَرِثُهُ ، وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ شَهَادَةُ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ

؛ وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ عِنْدَهُ ، وَلَا إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ .
وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ الشَّرِيعَةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَلَا الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ لِمَا بَيْنَهَا مِنْ الْبَعْضِيَّةِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا } .
وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا تَجُوزُ ، إلَّا أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ قَالَ : إنَّهُ كَانَ يُسَامِحُ فِيهِ .
وَمَا رَوَى قَطُّ أَحَدٌ أَنَّهُ نَفَذَ قَضَاءٌ بِشَهَادَةِ وَلَدٍ لِوَالِدِهِ وَلَا وَالِدٍ لِوَلَدِهِ ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْمُسَامَحَةِ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِرَدِّهَا ، وَلَا يُحَذِّرُونَ مِنْهَا لِصَلَاحِ النَّاسِ ، فَلَمَّا فَسَدُوا وَقَعَ التَّحْذِيرُ ، وَنَبَّهَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْأَصْلِ ، فَظَنَّ مَنْ تَغَافَلَ أَوْ غَفَلَ أَنَّ الْمَاضِينَ جَوَّزُوهَا ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ قَطُّ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ جُزْءًا مِنْهُ فِي الْإِسْلَامِ ؛ وَتَبَعًا لَهُ فِي الْإِيمَانِ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ بِإِجْمَاعٍ ، وَمُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ بِاخْتِلَافٍ ، وَمَالُهُ لِأَبِيهِ حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَهَكَذَا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَا بَيَانَ فَوْقَ هَذَا .
وَالْأَخُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا بَعْضِيَّةٌ فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ حَقِيقَةً وَعَادَةً ، فَجَوَّزَهَا الْعُلَمَاءُ فِي جَانِبِ الْأَخِ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ الْمُبَرِّرَةِ ، مَا لَمْ تَجُرَّ نَفْعًا .
وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : يَجُوزُ شَهَادَةُ الزَّوْجَيْنِ بَعْضِهِمَا لِبَعْضٍ ؛ لِأَنَّهُمَا أَجْنَبِيَّانِ ؛ وَإِنَّمَا بَيْنَهُمَا عَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ ، وَهُوَ سَبَبٌ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ : فَإِنَّ الزَّوْجِيَّةَ تُوجِبُ الْحَنَانَ وَالتَّعَطُّفَ وَالْمُوَاصَلَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ ، وَلَهُ حَقٌّ فِي مَالِهَا عِنْدَنَا ، وَلِذَلِكَ لَا تَتَصَرَّفُ فِي

الْهِبَةِ إلَّا فِي ثُلُثِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَلَهَا فِي مَالِهِ حَقُّ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : أَلْحَقَ مَالِكٌ الصَّدِيقَ الْمُلَاطِفَ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ ؛ فَهِيَ فِي الْعَادَةِ أَقْوَى مِنْهَا ، وَهِيَ فِي الْمَوَدَّةِ ؛ فَكَانَتْ مِثْلَهَا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاَللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } : الْمَعْنَى لَا تَمِيلُوا بِالْهَوَى مَعَ الْفَقِيرِ لِضَعْفِهِ ، وَلَا عَلَى الْغَنِيِّ لِاسْتِغْنَائِهِ ، وَكُونُوا مَعَ الْحَقِّ ؛ فَاَللَّهُ الَّذِي أَغْنَى هَذَا وَأَفْقَرَ هَذَا أَوْلَى بِالْفَقِيرِ أَنْ يُغْنِيَهُ بِفَضْلِهِ بِالْحَقِّ لَا بِالْهَوَى وَالْبَاطِلِ ، وَاَللَّهُ أَوْلَى بِالْغَنِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي يَدِهِ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ ، لَا بِالتَّحَامُلِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ عِيَارًا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْخُبْثِ وَمِيزَانًا لِمَا يَتَبَيَّنُ مِنْ الْمَيْلِ ، عَلَيْهِ تَجْرِي الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُجْرِي الْمَقَادِيرَ بِحِكْمَتِهِ ، وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُكْمِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ جَمَاعَةٌ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } فَسَوَّى بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَبَوَيْنِ فِي الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالْوَصِيَّةِ بِالْعَدْلِ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الدَّرَجَةِ ؛ كَمَا سَوَّى بَيْنَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا أَيْضًا فِي الدَّرَجَةِ ، وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : لَا تَلْتَفِتُوا فِي الرَّحِمِ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ فِي الْحَقِّ كُونُوا مَعَهُ عَلَيْهَا ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْعَدْلِ عَنْهُ لَهَا لَمَا خُصُّوا بِالْوَصِيَّةِ بِهَا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } : مَعْنَاهُ لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَكُمْ فِي طَلَبِ الْعَدْلِ بِرَحْمَةِ الْفَقِيرِ وَالتَّحَامُلِ عَلَى الْغَنِيِّ ، بَلْ ابْتَغَوْا الْحَقَّ فِيهِمَا ، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } : الْمَعْنَى إنْ مَطَلْتُمْ حَقًّا فَلَمْ تُنَفِّذُوهُ إلَّا بَعْدَ بُطْءٍ ، أَوْ عَرَضْتُمْ عَنْهُ جُمْلَةً فَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِعَمَلِكُمْ .
يُقَالُ لَوَيْت الْأَمْرَ أَلْوِيه لَيًّا وَلِيَّانًا ، إذَا مَطَلْته قَالَ غَيْلَانُ : تُطِيلِينَ لَيَّانِي وَأَنْتِ مَلِيَّةٌ وَأُحْسِنُ يَا ذَاتَ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ : وَإِنْ تَلُوا ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ ، وَأَكْثَرُ ، وَقَدْ رُدَّ إلَى الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ عَرَبِيٍّ ؛ وَذَلِكَ أَنْ تُبْدِلَ مِنْ الْوَاوِ الْآخِرَةِ هَمْزَةً فَتَكُونَ تَلْوُوا ، ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةِ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْوَاوِ ، وَالْعَرَبُ تَفْعَل ذَلِكَ .
وَقِيلَ : إنَّ مَعْنَاهُ تَلُوا مِنْ الْوِلَايَةِ ، أَيْ اسْتَقْلَلْتُمْ بِالْأَمْرِ أَوْ ضَعُفْتُمْ عَنْهُ فَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِذَلِكَ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } .
هَذَا خَبَرٌ ، وَالْخَبَرُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ ، وَنَحْنُ نَرَى الْكَافِرِينَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ ، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ .
الثَّانِي : وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ وُجُودِ الْحُجَّةِ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَذَلِكَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحُجَّةِ لِلْكَافِرِ مُحَالٌ ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْجَعْلُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ .
وَأَمَّا نَفْيُ وُجُودِ الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَضَعِيفٌ ؛ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ ؛ وَإِنْ أَوْهَمَ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ ؛ لِقَوْلِهِ : { فَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَأَخَّرَ الْحُكْمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدُّنْيَا دُولَةً تَغْلِبُ الْكُفَّارُ تَارَةً وَتُغْلَبُ أُخْرَى بِمَا رَأَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَسَبَقَ مِنْ الْكَلِمَةِ ، ثُمَّ قَالَ : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } .
فَتَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِهِ ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ .
وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يَمْحُو بِهِ دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَيُذْهِبُ آثَارَهُمْ ، وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : وَدَعَوْت رَبِّي أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا مِنْهُ إلَّا أَنْ تَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ ،

وَلَا تَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَتَتَقَاعَدُوا عَنْ التَّوْبَةِ ؛ فَيَكُونُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ مِنْ قَبْلِكُمْ ؛ وَهَذَا نَفِيسٌ جِدًّا .
الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لَلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا بِالشَّرْعِ ؛ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ ، وَنَزَعَ بِهَذَا عُلَمَاؤُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ ؛ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَفَى السَّبِيلَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِ ، وَالْمِلْكُ بِالشِّرَاءِ سَبِيلٌ فَلَا يُشْرَعُ وَلَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّ مَعْنَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } فِي دَوَامِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّا نَجِدُ ابْتِدَاءَهُ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِالْإِرْثِ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدٌ كَافِرٌ فِي يَدَيْ كَافِرٍ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ ، فَقَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْعِهِ مَاتَ ، فَيَرِثُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَارِثُ الْكَافِرِ ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ قَدْ ثَبَتَتْ ابْتِدَاءً ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ .
وَرَأَى مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحُكْمَ بِمِلْكِ الْمِيرَاثِ ثَابِتٌ قَهْرًا لَا قَصْد فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مِلْكُ الشِّرَاءِ ثَبَتَ بِقَصْدِ الْيَدِ ، فَقَدْ أَرَادَ الْكَافِرُ تَمَلُّكَهُ بِاخْتِيَارِهِ .
قُلْنَا : فَإِنَّ الْحُكْمَ بِعَقْدِ بَيْعِهِ وَثُبُوتِ مِلْكِهِ ؛ فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ قَصْدُهُ وَجَعَلَ لَهُ سَبِيلُ الْيَدِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَة عَظِيمَةٌ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَحَكَمْنَا بِالْحَقِّ فِيهَا فِي كِتَابِ " الْإِنْصَافِ لِتَكْمِلَةِ الْإِشْرَافِ " ، فَلْيُنْظَرْ هُنَا لَك .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } .
فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى } : يَعْنِي مُتَكَاسِلِينَ مُتَثَاقِلِينَ ، لَا يَنْشَطُونَ لِفِعْلِهَا ، وَلَا يَفْرَحُونَ لَهَا ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآثَارِ : { أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ } .
فَكَانَ يَرَى رَاحَتَهُ فِيهَا .
وَفِي آثَارٍ آخَرَ : { وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ } ؛ فَإِنَّ الْعَتَمَةَ تَأْتِي وَقَدْ أَنْصَبَهُمْ عَمَلُ النَّهَارِ ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ إلَيْهَا ، وَتَأْتِي صَلَاةُ الصُّبْحِ ، وَالنَّوْمُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ الصَّلَاةِ دُنْيَا وَلَا فَائِدَتَهَا أُخْرَى ؛ فَيَقُومُونَ إلَيْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ إلَّا خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ وَمَنْ قَامَ إلَيْهَا مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ بِنِيَّةِ إتْعَابِ النَّفْسِ وَإِيثَارِهَا عَلَيْهَا ، طَالِبًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَاَلَّذِي يَرَى رَاحَتَهُ فِيهَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُرَاءُونَ النَّاسَ } : يَعْنِي أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ وَهُمْ يَشْهَدُونَهَا لَغْوًا ، فَهَذَا هُوَ الرِّيَاءُ الشِّرْكُ ، فَأَمَّا إنْ صَلَّاهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ يَعْنِي وَيَرَوْنَهُ فِيهَا ، فَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالْإِيمَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ الرِّيَاءَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ بِهَا طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ الْإِمَامَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلدُّنْيَا وَطَرِيقًا إلَى الْأَكْلِ بِهَا ، فَهَذِهِ نِيَّةٌ لَا تُجْزِئُ ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } : وَرَوَى الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ .
تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ .
يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ ، أَوْ عَلَى قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ ، قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } .
فَذَمَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِلَّةِ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ يَرَاهَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَبَلِ ، فَيَطْلُبُ الْخَلَاصَ مِنْهَا بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا مِنْ الذِّكْرِ فَرْضًا الْفَاتِحَةُ .
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ إقَامَةُ الصُّلْبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِمَا ، وَالِاسْتِوَاءُ عِنْدَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا .
فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } ، { وَعَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ فَقَالَ لَهُ : فَارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَافِعًا ، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا } .
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِرَاقِيَّةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ سِوَاهَا ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُرَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ ، وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ بِهَا ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ ، وَقَدْ بَيَّنَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَبَيَّنَ صَلَاةَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } وَمَنْ خَشَعَ خَضَعَ

وَاسْتَمَرَّ ، وَلَمْ يَنْقُرْ وَلَا اسْتَعْجَلَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرْضِ الَّذِي قَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ذَكَرَ صَلَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ : هَذَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجَزَةٌ فِي تَمَامٍ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهَا ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَظْلِمُ الرَّجُلَ ، فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِمَا ظَلَمَهُ فِيهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَآخَرُونَ : إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الضِّيَافَةِ ؛ إذَا نَزَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ ضَيْفًا فَلَمْ يَقُمْ بِهِ جَازَ لَهُ إذَا خَرَجَ عَنْهُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِطَاوُسٍ : إنِّي رَأَيْت مِنْ قَوْمٍ شَيْئًا فِي سَفَرٍ ، أَفَأَذْكُرُهُ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ الْقَاضِي : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } .
وَقَالَ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } .
وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعُمَرَ بِحَضْرَةِ أَهْلِ الشُّورَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حُكُومَةً ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُهَا لِنَفْسِهِ حَتَّى أَنْفَذَ فِيهَا عَلَيْهِمْ عُمَرُ لِلْوَاجِبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَوَتْ الْمَنَازِلُ أَوْ تَقَارَبَتْ ؛ فَأَمَّا إذَا تَفَاوَتَتْ فَلَا تُمَكَّنُ الْغَوْغَاءُ مِنْ أَنْ تَسْتَطِيلَ عَلَى الْفُضَلَاءِ ، وَإِنَّمَا تَطْلُبُ حَقَّهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِظُلْمٍ وَلَا غَضَبٍ ؛ وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآثَارُ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ } ، بِأَنْ يَقُولَ مَطَلَنِي ، وَعُقُوبَتُهُ بِأَنْ يُحْبَسَ لَهُ حَتَّى يُنْصِفَهُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23