كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّقْفَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْتَ عِبَارَةٌ عَنْ قَاعَةٍ وَجِدَارٍ وَسَقْفٍ وَبَابٍ ، فَمَنْ لَهُ الْبَيْتُ فَلَهُ أَرْكَانُهُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعُلُوَّ لَهُ إلَى السَّمَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي السُّفْلِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ لَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَيْسَ لَهُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ شَيْءٌ .
وَفِي مَذْهَبِنَا الْقَوْلَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الصَّحِيحُ فِيمَا تَقَدَّمَ : أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَبَنَاهَا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَاءَ بِهَا إلَى الْبَائِعِ ، فَقَالَ : إنَّمَا اشْتَرَيْت الدَّارَ دُونَ الْجَرَّةِ .
وَقَالَ الْبَائِعُ : إنَّمَا بِعْت الدَّارَ بِمَا فِيهَا .
وَكِلَاهُمَا تَدَافَعَا فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ أَحَدُهُمَا وَلَدَهُ مِنْ بِنْتِ الْآخَرِ ، وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِالْبَيْعِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَهُ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَبَاقِيهِ لِلْمُبْتَاعِ مِنْهُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الذِّكْرِ ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : الشَّرَفُ .
الثَّانِي : الذِّكْرَى بِالْعَهْدِ الْمَأْخُوذِ فِي الدِّينِ .
الثَّالِثُ : قَالَ مَالِكٌ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ الشَّرَفُ وَالْفَضْلُ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا شَرَفَ فِيهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهَا بِالْأَحْسَابِ ، وَالنَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ كَافِرٌ شَقِيٌّ ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ، وَإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَقِيلَ : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك يَعْنِي الْخِلَافَةَ فَإِنَّهَا فِي قُرَيْشٍ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ } .
وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ ، وَلَمْ أَجِدْ فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ إلَّا بِبَغْدَادَ ، فَإِنَّ بَنِي التَّمِيمِيِّ بِهَا يَقُولُونَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ شَرُفَتْ أَقْدَارُهُمْ ، وَعَظَّمَ النَّاسُ شَأْنَهُمْ وَتَهَمَّمَتْ الْخِلَافَةُ بِهِمْ .
وَرَأَيْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ابْنَيْ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنَ أَبِي الْفَرَحِ بْنَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْجَرْدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَكَيْنَة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ وَكَانَا يَقُولَانِ : سَمِعْنَا أَبَانَا رِزْقَ اللَّهِ يَقُولُ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَنَّانِ الْمَنَّانِ ، الْحَنَّانُ الَّذِي

يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ .
وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ ، وَالْقَائِلُ سَمِعْت عَلِيًّا أَكْيَنَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ جَدُّهُمْ الْأَعْلَى .
وَالْأَقْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك } يَعْنِي الْقُرْآنَ ، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْكَلَامُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْجَنَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحَرِيرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لُبْسًا وَأَكْلًا وَشُرْبًا وَانْتِفَاعًا ، وَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْخَلْقِ إجْمَاعًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَحْكَامِ ، وَتَفْصِيلٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
قَالَ الرَّاوِي : وَإِنْ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا .
وَأَمْثَلُهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتُبْ ، كَمَا قَالَ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ } ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَرِيرِ أَيْضًا بِنَصِّهِ .
الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يُقْضَى [ بِنَصِّهِ ] عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، وَآخِرُ الْأَمْرِ إلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَجَمِيلِ الْمَآلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْمَرَضِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا الْعَلَمَ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
التَّاسِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لُبْسُهُ دُونَ فَرْشِهِ ؛

قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ .
فَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ : { إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } ، وَشَبَهُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْغَزْوِ بِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ ؛ وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِيهِمَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ مِنْ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا فِي الْحَرْبِ ، فَرُخِّصَ فِيهِ مِنْ الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوِّ .
وَهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ ، فَظَنَّ أَنَّ النَّصْرَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْعَلَابِيَّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ فَلَمَّا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا فِي الْمَرَضِ فَلِأَجْلِ إبَاحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْحَكَّةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ فَلِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَنَسٍ { إنَّهُ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا } ، فَذِكْرُ لَفْظِ الْغَزْوِ فِي الْعِلَّةِ ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ وَهَا هُنَا كَمَا سَبَقَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُبِيحُهُ لِلْحَكَّةِ ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ { لِأَجْلِ الْقَمْلِ } ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَبَاحَهُ لِلْحَكَّةِ وَلَا لِلْقَمْلِ ، كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ ، فَإِنَّ التَّدَاوِي بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ لَا

يَجُوزُ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ يَقِينًا ، وَالرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ حَقًّا ، وَلِلْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَضَعَ وَظَائِفَ التَّحْرِيمِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ إطْلَاقٍ وَاسْتِثْنَاءٍ ؛ وَإِنَّمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَهُمَا لِأَجْلِ الْقَمْلِ وَالْحَكَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ خَمَائِصُ غَلِيظَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْبَدَنُ ، فَنَقَلَهُمْ إلَى الْحَرِيرِ ، لِعَدَمِ دَقِيقِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ ، وَإِذَا وَجَدَ صَاحِبُ الْجَرَبِ وَالْقَمْلِ دَقِيقَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِينَ الْحَرِيرِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا الْعَلَمَ ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ إبَاحَةِ الْعَلَمِ ، وَتَقْدِيرُهُ بِأُصْبُعَيْنِ .
وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ ؛ وَالْيَقِينُ ثَلَاثُ أَصَابِعَ ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ ، وَالْأَرْبَعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُكَفُّ الثَّوْبُ بِالْحَرِيرِ كَمَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْعَلَمِ فِيهِ ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ فَرْوَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالدِّيبَاجِ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ : { أَخْرَجَتْ إلَيَّ أَسْمَاءَ طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً ، لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدِّيبَاجِ ، فَقَالَتْ : هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ تَلْبَسُهَا حَتَّى قُبِضَتْ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا ، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى لِيُسْتَشْفَى بِهَا } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَأَصْلٌ صَرِيحٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ فَقَالَ : أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ يَقُولُ : { لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا

لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يَدْفَعُهُ يَقِينُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : { أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةٌ سِيَرَاءُ ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبِسْتهَا ، فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ : إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا ، إنَّمَا بَعَثْتهَا إلَيْك لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { شَقَّقَهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ } ، إحْدَاهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ عَلِيَّ ، وَالثَّانِيَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنُ هَاشِمٍ زَوْجُ أَبِي طَالِبٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٌ وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ أَسْلَمَتْ ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وُلِدَتْ لِهَاشِمِيٍّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِهِمَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَا فَرْشُهُ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ نَزْغَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ اللِّبَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ ، وَالْفَرْشُ وَالْبَسْطُ لَيْسَ لُغَةً ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ : { فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ } .
وَهَذَا نَصٌّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة الْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ ، وَحَلَالٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِيهَا ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ تَزَوَّجَ : اتَّخَذْت أَنْمَاطًا ؟ قُلْت : وَأَنَّى لَنَا الْأَنْمَاطُ ؟ قَالَ : أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ } .
وَلَيْسَ يَلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْ ثِيَابِهَا ، وَلَا أَنْ يُعَرِّيَ بَيْتَهَا وَفِرَاشَهَا ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لُبْسُ الْخَزِّ جَائِزٌ ، وَهُوَ مَا سَدَاه حَرِيرٌ وَلَيْسَ لُحْمَتُهُ مِنْهُ ؛ وَقَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَكَانَ يَرَى الْحَرِيرَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ ، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ ، وَقَدْ لَبِسَهُ عُثْمَانُ ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمِ } .
وَرَوَى حُذَيْفَةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا ، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ } .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي شَيْءٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ : { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } ؛ وَالنَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا ، وَسَائِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَتَاعِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، أَصْلُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِعْجَالُ أَجْرِ الْآخِرَةِ ؛ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الِانْتِفَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ { عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ } ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا فِيهَا حَظًّا فِي الدُّنْيَا .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا بِهِمَا أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا ، فَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْمِرْآةُ تَكُونُ فِيهَا الْحَلْقَةُ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَجْهَهُ ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ إنَاءٌ مُضَبَّبٌ بِالْفِضَّةِ .
وَقَالَ : { لَقَدْ سَقَيْت فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : كَانَتْ فِيهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَلْقَةَ فِضَّةً ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَتَرَكَهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّنَمِ وَالطُّنْبُورِ .
وَفِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الْغُرْمُ فِي قِيمَتِهَا لِمَنْ كَسَرَهَا ؛ وَهُوَ مَعْنَى فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ كَسْرَهَا وَاجِبٌ ؛ فَلَا ثَمَنَ لِقِيمَتِهَا ؛ وَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا فِي الزَّكَاةِ بِحَالٍ ، وَغَيْرُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ ، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ ، فِيهَا تَنْفِيذُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَا قَدْ عَلِمَهُ الشَّاهِدُ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا يَكُونُ قَطْعًا عِنْدَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ ظَاهِرًا ، وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الدُّخَانِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُ لَيْلِيًّا وَمِنْهُ نَهَارِيًّا وَمِنْهُ سَفَرِيٌّ وَحَضَرِيٌّ ، وَمِنْهُ مَكِّيٌّ وَمَدَنِيٌّ ، وَمِنْهُ سَمَائِي وَأَرْضِيٌّ ، وَمِنْهُ هَوَائِيٌّ ؛ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ جُمْلَةً فِي اللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ مَا فِي عِشْرِينَ عَامًا وَنَحْوِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { مُبَارَكَةٍ } الْبَرَكَةُ : هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ ، وَسَمَّاهَا مُبَارَكَةً لِمَا يُعْطِي اللَّهُ فِيهَا مِنْ الْمَنَازِلِ ، وَيَغْفِرُ مِنْ الْخَطَايَا ، وَيُقَسِّمُ مِنْ الْحُظُوظِ ، وَيَبُثُّ مِنْ الرَّحْمَةِ ، وَيُنِيلُ مِنْ الْخَيْرِ ، وَهِيَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَتَفْسِيرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَعْيِينُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ : وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِ الْقَاطِعِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مِيقَاتَ نُزُولِهِ رَمَضَانُ ، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ زَمَانِيَّةِ اللَّيْلِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ : { فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ ، وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، لَا فِي فَضْلِهَا ، وَلَا فِي نَسْخِ الْآجَالِ فِيهَا ، فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهَا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى السُّرَى : سَيْرُ اللَّيْلِ .
وَالْإِدْلَاجُ : سَيْرُ السَّحَرِ ، وَالْإِسْآدُ : سَيْرُهُ كُلِّهِ .
وَالتَّأْوِيبُ : سَيْرُ النَّهَارِ .
وَيُقَالُ : سَرَى وَأَسْرَى ، وَقَدْ يُضَافُ إلَى اللَّيْلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ } وَهُوَ يُسْرَى فِيهِ ، كَمَا قِيلَ : لَيْلٌ نَائِمٌ ، وَهُوَ يُنَامُ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ اتِّسَاعَاتِ الْعَرَبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا } أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ ، وَسَيْرُ اللَّيْلِ يَكُونُ مِنْ الْخَوْفِ ؛ وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ الْعَدُوِّ فَيُتَّخَذُ اللَّيْلُ سِتْرًا مُسْدَلًا ، فَهُوَ مِنْ أَسْتَارِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَإِمَّا مِنْ خَوْفِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْأَبَدَانِ بِحَرٍّ أَوْ جَدْبٍ ، فَيُتَّخَذُ السُّرَى مَصْلَحَةً مِنْ ذَلِكَ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْرَى وَيُدْلَجُ وَيَتَرَفَّقُ وَيَسْتَعْجِلُ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَحَسْبَ الْعَجَلَةِ ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ .
وَفِي جَامِعِ الْمُوَطَّإِ : { إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيَرْضَى بِهِ ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعَجَمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا ، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَطْوِي بِاللَّيْلِ مَا لَا تَطْوِي بِالنَّهَارِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الزَّقُّومُ : كُلُّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ ، يُقَالُ : تَزَقَّمَ الرَّجُلُ إذَا تَنَاوَلَ مَا يَكْرَهُ .
وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الزَّقُّومَ هُوَ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ بِلِسَانِ الْبَرْبَرِ ، وَيَا لِلَّهِ وَلِهَذَا الْقَائِلِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْكِتَابِ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْرَأَ رَجُلًا طَعَامَ الْأَثِيمَ فَلَمْ يَفْهَمْهَا ؛ فَقَالَ لَهُ : طَعَامُ الْفَاجِرِ ، فَجَعَلَهَا النَّاسُ قِرَاءَةً ، حَتَّى رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : أَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ فَجَعَلَ الرَّجُلَ يَقُولُ : طَعَامُ الْيَتِيمِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : طَعَامُ الْفَاجِرِ .
فَقُلْت لِمَالِكٍ : أَتَرَى أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَرَوَى الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ : لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ لَا يُصَلَّى بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى بِهَا أَعَادَ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالتَّفْسِيرِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي حَالِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، وَلَوْ صَحَّتْ قِرَاءَتُهُ لَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا سُنَّةً ، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَضَافُوا إلَيْهِ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ : لَا يُقْرَأُ بِمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْهُ مَا فِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ قِرَاءَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ فَبِأَيٍّ يُقْرَأُ ؟ قُلْنَا : وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ بِجَمِيعِهَا بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، فَمَا وُضِعَتْ إلَّا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ ، وَلَا كُتِبَتْ إلَّا لِلْقِرَاءَةِ بِهَا ، وَلَكِنْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُعَيَّنَ الْمَقْرُوءُ بِهِ مِنْهَا ، فَيُقْرَأَ بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلِ الشَّامِّ

، وَأَهْلِ مَكَّةَ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَلَّا يَخْرُجَ عَنْهَا ، فَإِذَا قَرَأَ آيَةً بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَقَرَأَ الَّتِي بَعْدَهَا بِحَرْفِ أَهْلِ الشَّامِ كَانَ جَائِزًا ، وَإِنَّمَا ضَبَطَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ قِرَاءَتَهُمْ بِنَاءً عَلَى مُصْحَفِهِمْ ، وَعَلَى مَا نَقَلُوهُ عَنْ سَلَفِهِمْ ، وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ } .

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي إعْرَابِهَا : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ هَذَا الْأَمْرِ ، وَجَاءَ ظَاهِرُهُ هَاهُنَا جَوَابًا مَجْزُومًا ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ اغْفِرُوا ] يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجَاءِ الْمُطْلَقِ ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَيَّامُ عِبَارَةً عَنْ النِّعَمِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ ، وَيُعَبَّرُ بِالْأَيَّامِ عَنْ النِّقَمِ ، وَبِالْكُلِّ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ هَذَا مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَشَبَهُهُ مِنْ الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقِ إلَى الْمَاءِ ، ضُرِبَتْ مَثَلًا لِلطَّرِيقِ إلَى الْحَقِّ لِمَا فِيهَا مِنْ عُذُوبَةِ الْمَوْرِدِ ، وَسَلَامَةِ الْمَصْدَرِ ، وَحُسْنِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَا مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ .
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَمْرَ الدِّينُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ السُّنَّةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْفَرَائِضُ .
الرَّابِعُ : النِّيَّةُ .
وَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَرْسَلَهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْحَقَائِقِ ، وَالْأَمْرُ يَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } .
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَابِلُهُ النَّهْيُ ، وَكِلَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هَاهُنَا ، وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى طَرِيقَةٍ مِنْ الدِّينِ ، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُغَايِرْ بَيْنَ الشَّرَائِعِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَكَارِمِ وَالْمَصَالِحِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهَا فِي الْفُرُوعِ بِحَسْبِ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مِنْ قَبْلِنَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَرِيعَةٍ ؛ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ مُنْفَرِدَانِ بِشَرِيعَةٍ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِظَةِ ، هَلْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي لُزُومِ ذَلِكَ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَدَّمْنَاهَا هُنَا وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْبَيَانِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { اجْتَرَحُوا } مَعْنَاهُ افْتَعَلُوا مِنْ الْجُرْحِ ؛ وَضَرَبَ تَأْثِيرَ الْجُرْحِ فِي الْبَدَنِ كَتَأْثِيرِ السَّيِّئَاتِ فِي الدِّينِ مَثَلًا ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْأَمْثَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } فَإِنَّهَا عَلَى مَسَاقِهَا ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا .

سُورَةُ الْأَحْقَافِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَسَاقِ الْآيَةِ ، وَهِيَ أَشْرَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا اسْتَوْفَتْ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَقْلِيَّهَا وَسَمْعِيَّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ } فَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّوْحِيدِ ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ ، وَانْفِرَادِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوُجُودِ وَالْخَلْقِ ، ثُمَّ قَالَ : { ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } عَلَى مَا تَقُولُونَ ، وَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ السَّمْعِ فَإِنَّ مُدْرِكَ الْحَقِّ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، ثُمَّ قَالَ : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } يَعْنِي أَوْ عِلْمٍ يُؤْثَرُ ، أَوْ يُرْوَى وَيُنْقَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا ؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْحِفْظِ مِثْلُ الْمَنْقُولِ عَنْ الْكُتُبِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الْخَطِّ ، وَهُوَ الضَّرْبُ فِي التُّرَابِ لِمَعْرِفَةِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ فِيمَا مَضَى مِمَّا غَابَ عَنْ الضَّارِبِ ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ .
وَفِي مَشْهُورِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ } وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ جَاءَ لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَاءَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ } .
وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ : لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعٌ وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَرْبَابِهِ تَرْجِعُ إلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ ، فَيَدُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ مِنْ سَعْدٍ أَوْ نَحْسٍ يَحِلُّ بِهِمْ ، فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ ، وَتَعَلَّقَا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دَرَسَتْ طَرِيقُهُ ، وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ ، وَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ ، وَقَطَعَهُ عَنْ الْخَلْقِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي دَرْكِ الْغَيْبِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ ، وَطَمَسَ تِلْكَ الْأَبْوَابَ ، وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ ؛ فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ ، وَطَلَبُهُ عَنَاءً لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَهْيٌ ، فَإِذْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فَطَلَبُهُ مَعْصِيَةٌ أَوْ كُفْرٌ بِحَسَبِ قَصْدِ الطَّالِبِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْقِ مِنْ الْأَسْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إلَّا الرُّؤْيَا ، فَإِنَّهُ أَذِنَ فِيهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْفَأْلُ .
فَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا .
وَالْفَأْلُ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِمَا يَسْتَمِعُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْرِ إذَا كَانَ حَسَنًا ، فَإِنْ سَمِعَ مَكْرُوهًا فَهُوَ تَطَيُّرٌ ، وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ ، وَيَمْضِيَ عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا بِهِ .
فَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ ، وَقَالَ كَمَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك ، وَلَا إلَهَ غَيْرُك } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ : الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمْ مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالٌ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إلَّا فِي الْفَأْلِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ اسْتِثْنَاءٌ ، وَأَمَرَ بِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ مَا نَظَمَهُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ ؛ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ زُوِّجَتْ ، فَأَتَى بِهَا عُثْمَانَ ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ : إنَّهَا إنْ تُخَاصِمْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَخْصِمْكُمْ ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
وَقَالَ : " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَالْفِصَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا ؛ فَخَلَّى سَبِيلَهَا .
فِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهُ ذَلِكَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ بَدِيعٌ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ } ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا ، يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ ، فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْمَعَاصِي ، يَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخَرَ وَتَنَالُهُ آيَةٌ أُخْرَى بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ ، وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ ، فَيُنَفِّذُ اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَقَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَقَدْ ابْتَاعَ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ ، فَقَالَ لَهُ : أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ ؛ فَإِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا الطِّبَاعُ ، وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ ، فَإِذَا فَقَدْتهَا اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ ، وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَارَةِ بِالسُّوءِ ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَحَمَاهُ مِنْ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ .
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ : عَلَى الْمَرْءِ أَنْ

يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا ، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ ، وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً ؛ وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ ، وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا ، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا ، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ ، وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقُولَةٌ ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ الْعِرَاقِ فَرَأَى الْقَوْمُ كَأَنَّهُمْ يَتَقَزَّزُونَ فِي الْأَكْلِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ؟ وَلَوْ شِئْت أَنْ يُدَهْمَقُ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ لَكُمْ ، وَلَكِنَّا نَسْتَبْقِي مِنْ دُنْيَانَا مَا نَجِدُهُ فِي آخِرَتِنَا .
أَلَمِ تَسْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } .

سُورَةُ مُحَمَّدٍ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَاَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي إعْرَابِهَا : قَالَ الْمُعْرِبُونَ : هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ ، تَقْدِيرُهُ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا .
وَعِنْدِي أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقَوْلِك : اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } مَعْنَاهُ افْعَلُوا ذَلِكَ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةٍ الْإِلْجَاءِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { الَّذِينَ كَفَرُوا } : فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِيَةُ كُلُّ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا ذِمَّةَ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { ضَرْبَ الرِّقَابِ } قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْقِتَالُ ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُ الْأَسِيرِ صَبْرًا .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الْقِتَالِ ، وَهُوَ اللِّقَاءُ ، وَإِنَّمَا نَسْتَفِيدُ قَتْلَ الْأَسِيرِ صَبْرًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَأَمْرِهِ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى .
{ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
الْمَعْنَى اُقْتُلُوهُمْ حَتَّى إذَا كَثُرَ ذَلِكَ ، وَأَخَذْتُمْ مَنْ بَقِيَ فَأَوْثِقُوهُمْ شَدًّا ؛ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ فَتُطْلِقُوهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي عِزَّةَ وَبِثُمَامَةَ .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : هُوَ الْعِتْقُ ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ وَالتَّرْكَ مَعْنًى ، وَالْعِتْقَ مَعْنًى ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعِتْقِ مَعْنَى التَّرْكِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } ، وَيَعْنِي ثَقَلَهَا ، وَعَبَّرَ عَنْ السِّلَاحِ بِهِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
الثَّانِي حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ ؛ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ .
الثَّالِثُ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحَكَّمَةٌ ؟ فَقِيلَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يُعَاهَدُونَ .
وَقِيلَ : إنَّهَا مُحَكَّمَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّالِثُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ بَعْدَ الْإِثْخَانِ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، لِقَوْلِهِ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } .
وَالتَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي التَّنْقِيحِ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ وَمُحْكَمَاتِهَا ؛ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا بِالْقِتَالِ ، وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَنْفَالِ ؛ فَإِذَا تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُ مِنْ عُنُقِ الْكَافِرِ أَجْهَزَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ضَرْبِ يَدِهِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَتَنَاوَلُ بِهَا قِتَالَ غَيْرِهِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ إلَّا ضَرَبَ فَرَسَهُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مُرَادِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ رَاجِلًا مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ قَصْدَ مُسَاوَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ قَصْدَ حَطِّهِ ، وَالْمَطْلُوبُ نَفْسُهُ ، وَالْمَآلُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا ، وَعَلِمَ أَنْ سَتَبْلُغُ إلَى الْإِثْخَانِ وَالْغَلَبَةِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْغَلَبَةِ بِشَدِّ الْوَثَاقِ ، فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا لَهُمْ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُ مَنْسُوخَةٌ .
وَالصَّحِيحُ إحْكَامُهَا ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مِنْ الْمُعَارَضَةِ ، وَتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ ، وَقَوْلُهُ : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّشْرِيدَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالْقَتْلِ ، فَإِنَّ طَوْقَ الْمَنِّ يُثْقِلُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ ، وَيَذْهَبُ بِنَفَاسَةِ نُفُوسِهِمْ ، وَالْفِدَاءُ يُجْحِفُ بِأَمْوَالِهِمْ ؛ { وَلَمْ يَزَلْ الْعَبَّاسُ تَحْتَ ثِقَلِ فِدَاءِ بَدْرٍ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَقَدْ قَالَ : وَاحْصُرُوهُمْ

؛ فَأَمَرَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَمَرَ بِالْقَتْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَمَرَ بِالْأَخْذِ لِلْقَتْلِ .
قُلْنَا : أَوْ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ .
وَقَدْ عَضَّدَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ كُلَّهُ ؛ فَرَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَارِيَةً فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ هَبَطَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَوْمٌ ، فَأَخَذَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ } ، وَقَدْ مَنَّ عَلَى سِبِّي هَوَازِنَ ، وَقَتَلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَبْرًا فَقَالَتْ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ تَرِثِيهِ : يَا رَاكِبًا إنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا مَيِّتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ مِنِّي إلَيْهِ وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ فَلْيَسْمَعْنِ النَّضْرُ إنْ نَادَيْته إنْ كَانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ أَوْ يَنْطِقُ أَمُحَمَّدٌ وَلَأَنْتَ ضِنْءُ كَرِيمَةٍ فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ مَا كَانَ ضَرَّك لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا مِنْ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ لَوْ كُنْت قَابِلَ فِدْيَةٍ لَفَدَيْتُهُ بِأَعَزِّ مَا يُغْلَى بِهِ مَنْ يُنْفِقُ وَالنَّصْرُ أَقْرَبُ مِنْ أَسَرْت قَرَابَةً وَأَحَقُّهُمْ لَوْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتِقُ ظَلَّتْ رِمَاحُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيَّةِ مَتْعَبًا رَسْفَ الْمُقَيِّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوثَقُ فَالنَّظَرُ إلَى الْإِمَامِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } فَمَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ آثَامَهَا يُرِيدُونَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْكُلُّ ، فَلَا يَبْقَى كَافِرٌ ؛ وَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْجِهَادُ ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ الْأَجْرُ

وَالْمَغْنَمُ } .
وَمَنْ ذَكَرَ نُزُولَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ إذَا نَزَلَ لَا يَبْقَى كَافِرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا جِزْيَةٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِي تَتْمِيمِ الْقَوْلِ : قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ : فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ : الْمَعْنَى فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ .

وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ ، فَأَبَى وَقَالَ : لَيْسَ بِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ ، وَقَرَأَ : { حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } .
قُلْنَا : قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهُ ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَا حُكْمَ ، الْجَلْدِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ الرَّجْمِ ؛ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ افْتَتَحَ نَافِلَةً مِنْ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ ، ثُمَّ أَرَادَ تَرْكَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ تَطَوُّعٌ فَإِلْزَامُهُ إيَّاهُ يُخْرِجُهُ عَنْ الطَّوَاعِيَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ ، فَإِذَا شُرِّعَ لَزِمَهُ كَالشُّرُوعِ فِي الْمُعَامَلَاتِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَا تَكُونُ عِبَادَةٌ بِبَعْضِ رَكْعَةٍ وَلَا بَعْضِ يَوْمٍ فِي صَوْمٍ ؛ فَإِذَا قَطَعَ فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ إنْ قَالَ : إنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ نَاقَضَ الْإِجْمَاعَ ، وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ نَقَضَ الْإِلْزَامَ ، وَذَلِكَ مُسْتَقْصَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوَا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } .
قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصُّلْحِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى [ هَاهُنَا ] عَنْهُ مَعَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِلْكُفَّارِ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ ، وَيُفِيدُ فَائِدَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ .

سُورَةُ الْفَتْحِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ } قِيلَ : هُمْ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَهُمْ خَمْسُ قَبَائِلَ : جُهَيْنَةَ ، وَمُزَيْنَةَ ، وَأَشْجَعَ ، وَغَفَّارَ ، وَأَسْلَمَ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَعْيِينِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ .
الثَّانِي أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ .
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ ؛ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْيَمَامَةِ لَا بِفَارِسَ وَلَا بِالرُّومِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لِأَنَّ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ حَتَّى يُسْلِمَ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ جِزْيَةٍ هُمْ الْعَرَبُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَالْمُرْتَدُّونَ .
فَأَمَّا فَارِسُ وَالرُّومُ فَلَا يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا ؛ بَلْ إنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ ، وَجَاءَتْ الْآيَةُ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْبَارًا بِالْغَيْبِ الْآتِي ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَدَلَّتْ عَلَى إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لِأَنَّ الدَّاعِي لَهُمْ كَانَ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ اسْتَخْلَفَ عُمَرُ ، وَعُمَرُ كَانَ الدَّاعِي لَهُمْ إلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ ، وَخَرَجَ عَلِيُّ تَحْتِ لِوَائِهِ [ وَأَخَذَ سَهْمَهُ مِنْ غَنِيمَتِهِ وَاسْتَوْلَدَ حَنِيفَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا ] ، وَلَوْ كَانَتْ إمَامَةٌ بَاطِلَةً وَغَنِيمَةٌ حَرَامًا لَمَا جَازَ عِنْدَهُمْ وَطْءٌ عَلِيٍّ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَعْصُومٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعْذِبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُهَا ، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْجِهَادُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } يَعْنِي قُرَيْشًا بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ ، وَالْقِصَّةَ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ ؛ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مَعَهُمْ ؛ مَنَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمَنَعُوا الْهَدْيَ وَحَبَسُوهُ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ؛ وَهَذَا كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ حَمَلَتْهُمْ الْأَنَفَةُ ، وَدَعَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَا يَعْتَقِدُونَ دِينًا ، فَوَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَدْخَلَ الْأُنْسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِهِ وَوَعْدِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْحَرُهُ .
الثَّانِي : الْحَرَمُ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَحِلًّا لِلْعُذْرِ ، وَنَحَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِيهِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَبُولِهِ وَإِبْقَائِهِ سُنَّةً بَعْدَهُ لِمَنْ حُبِسَ عَنْ الْبَيْتِ وَصُدَّ كَمَا صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ } بِمَكَّةَ ، فَخِيفَ وَطْؤُكُمْ لَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَأَدْخَلْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً ، وَمَلَكْنَاكُمْ الْبَلَدَ قَسْرًا ، وَلَكِنَّا صُنَّا مَنْ كَانَ [ فِيهَا ] يَكْتُمُ إيمَانَهُ خَوْفًا ، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا فَعَلَ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَجْزٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ حِكْمَةٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } تَفْصِيلٌ لِلصَّحَابَةِ ، وَإِخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ التَّعَدِّي ، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا مِنْ أُولَئِكَ أَحَدًا لَكَانَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَهَذَا كَمَا وُصِفَتْ النَّمْلَةُ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ فِي قَوْلِهَا : { لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَوْ تَزَيَّلُوا } يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا .
تَنْبِيهٌ عَلَى مُرَاعَاةِ الْكَافِرِ فِي حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ إذَايَةُ الْكَافِرِ إلَّا بِإِذَايَةِ الْمُؤْمِنِ .
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ : قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ : أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي الْمُشْرِكِينَ فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ حَصَرَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى فِي أَيْدِيهِمْ ؛ أَيُحْرَقُ هَذَا الْحِصْنُ أَمْ لَا يُحْرَقُ ؟ قَالَ : سَمِعْت مَالِكًا وَسَأَلَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [ يَرْمُونَ ] فِي مَرَاكِبِهِمْ أَخَذُوا أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ [ وَأَدْرَكَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَرِّقُوهُمْ وَمَرَاكِبَهُمْ بِالنَّارِ ] وَمَعَهُمْ الْأُسَارَى فِي مَرَاكِبِهِمْ ، وَقَالَ : فَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَرَى ذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأَهْلِ مَكَّةَ : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ مَعْنَاهُ لَوْ تَزَيَّلُوا عَنْ بُطُونِ النِّسَاءِ وَأَصْلَابِ الرِّجَالِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَهُوَ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ لَا يُوطَأُ وَلَا تُصِيبُ مِنْهُ مَعَرَّةٌ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ صَرَّحَ فَقَالَ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ } وَذَلِكَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ وَصُلْبِ الرَّجُلِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مِثْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ ، وَعَيَّاشٍ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَأَبِي جُنْدُلِ بْنِ سُهَيْلٍ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَدْ حَاصَرْنَا مَدِينَةً لِلرُّومِ ، فَحَبَسَ عَنْهُمْ الْمَاءَ ، فَكَانُوا يُنْزِلُونَ الْأُسَارَى يَسْتَقُونَ لَهُمْ الْمَاءَ ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَمْيِهِمْ بِالنَّبْلِ ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْمَاءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِنَا .
وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ

الرَّمْيَ فِي حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَأَطْفَالُهُمْ ، وَلَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِوَلَدِ مُسْلِمٍ رُمِيَ الْمُشْرِكُ وَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا دِيَةَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِنَا .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إلَى الْمُبَاحِ بِالْمَحْظُورِ لَا يَجُوزُ ، وَلَا سِيَّمَا بِرُوحِ الْمُسْلِمِ ، فَلَا قَوْلَ إلَّا مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَطُوفُ ، فَأَنْذَرَ أَصَحَابَةَ بِالْعُمْرَةِ ، وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَمِائَتَيْ قُرَشِيٍّ ، حَتَّى أَتَى أَصْحَابُهُ ، وَبَلَغَ الْحُدَيْبِيَةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَصَالَحُوهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ بِالسَّيْفِ وَالْفَرَسِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ وَهُوَ السَّيْفُ فِي قِرَابِهِ ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةٌ الْقَضِيَّةِ ، لِمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَضِيَّةِ ، وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ .
وَسُمِّيَتْ مَرَّةً عُمْرَةَ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } أَيْ اقْتَصَصْتُمْ مِنْهُمْ كَمَا صَدُّوكُمْ : فَارْتَابَ الْمُنَافِقُونَ ، وَدَخَلَ الْهَمُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الرُّفَعَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ لَهُ : أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ دَاخِلٌ الْبَيْتَ فَمُطَّوِّفٌ بِهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ الْعَامَ ، وَإِنَّهُ آتِيه فَمَطُوفٌ بِهِ .
وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَرَاجَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُرَاجَعَةِ أَبِي بَكْرٍ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا يَعْنِي مِنْ الْخَيْرِ

كَفَّارَةً لِذَلِكَ التَّوَقُّفِ الَّذِي دَاخَلَهُ حِينَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ ، وَلَمْ تَخْرُجْ رُؤْيَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ دَخَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ آمَنِينَ فَحَلَّقُوا وَقَصَّرُوا .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ { أَخَذَ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ } وَهَذَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ لَا فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ ، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا انْقَضَتْ الثَّلَاثُ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِمَيْمُونَةَ بِمَكَّةَ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي ذِكْرِ مَيْمُونَةَ خَاصَّةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى يَعْنِي عَلَامَتَهُمْ ، وَهِيَ سِيمَا وَسِيمَيَا ، وَفِي الْحَدِيثِ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ مِنْ الْأُمَمِ ؛ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ .
} رَوَيْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَأْوِيلِهَا : وَقَدْ تُؤُوِّلَتْ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
الثَّانِي : ثَرَى الْأَرْضِ ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ .
الثَّالِثُ تَبْدُو صَلَاتُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ .
الْخَامِسُ أَنَّهُ الْخُشُوعُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
السَّادِسُ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ أَصْبَحَ وَجْهُهُ مُصْفَرًّا ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ .
وَدَسَّهُ قَوْمٌ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ ، وَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ذِكْرٌ بِحَرْفٍ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِجِبَاهِهِمْ مِنْ الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ ؛ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ

صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَقَدْ وَكَفَ الْمَسْجِدُ ، وَكَانَ عَلَى عَرِيشٍ ، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ أَثَرِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ آثَارَ السُّجُودِ } .
وَقَدْ رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : هُوَ الْخُشُوعُ .
قُلْت : هُوَ أَثَرُ السُّجُودِ ، فَقَالَ : إنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْعَنْزِ ، وَهُوَ كَمَا شَاءَ اللَّهُ .
وَقَالَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ : مَا مِنْ رَجُلٍ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ إلَّا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ نَضْرَةٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا } الْحَدِيثَ .

سُورَةُ الْحُجُرَاتِ [ فِيهَا سَبْعُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ فِي كَذَا وَكَذَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ لَا تَفْتَاتُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَشَاءُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى : مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ ؛ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ ، وَإِنِّي ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ ، وَعِنْدِي عَنَاقُ جَذَعَةٍ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ .
فَقَالَ : تُجْزِئُك ، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } .
الْخَامِسُ لَا تُقَدِّمُوا أَعْمَالَ الطَّاعَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحٌ تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ السَّبَبُ الْمُثِيرُ لِلْآيَةِ مِنْهَا ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ دُونَ سَبَبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا قُلْنَا : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ النَّحْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وَذَبْحِ الْإِمَامِ سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قُلْنَا إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ الطَّاعَاتِ عَلَى أَوْقَاتِهَا فَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِمِيقَاتٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ ، إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الزَّكَاةِ لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةً مَالِيَّةً ، وَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِمَعْنًى مَفْهُومٍ ؛ وَهُوَ سَدُّ خُلَّةِ الْفَقِيرِ ، { وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْجَلَ مِنْ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ } ، وَلِمَا جَاءَ مِنْ جَمْعِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ حَتَّى تُعْطَى لِمُسْتَحِقِّهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِعَامٍ وَلِاثْنَيْنِ .
فَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْعَامِ وَالنِّصَابُ بِحَالِهِ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا ، وَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ وَقَدْ تَغَيَّرَ النِّصَابُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ لَحْظَةً ، كَالصَّلَاةِ ، وَكَأَنَّهُ طَرَدَ الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ ، فَرَأَى أَنَّهَا إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ ، فَوَفَّاهَا حَقَّهَا فِي النِّظَامِ وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ .
وَرَأَى سَائِرُ عُلَمَائِنَا أَنَّ التَّقْدِيمَ فِيهَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ .
وَمَا قَالَهُ أَشْهَبُ أَصَحُّ ، فَإِنَّ مُفَارَقَةَ الْيَسِيرِ الْكَثِيرَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ لِمَعَانٍ تَخْتَصُّ بِالْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَالْيَوْمُ فِيهِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ ، فَإِمَّا تَقْدِيمٌ كُلِّيٌّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِمَّا حِفْظُ الْعِبَادَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى مِيقَاتِهَا كَمَا قَالَ أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ ، وَذَلِكَ يَقْوَى فِي النَّظَرِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ ؛ وَلِذَلِكَ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ : قُولِي لَهُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ ، وَأَنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ ، فَمُرْ عَلِيًّا فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ } .
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : صَوَاحِبُ يُوسُفَ الْفِتْنَةَ بِالرَّدِّ عَنْ الْجَائِزِ إلَى غَيْرِ الْجَائِزِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلَكَا : أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْهُ : لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ : مَا أَرَدْت إلَّا خِلَافِي .
قَالَ : مَا أَرَدْت ذَلِكَ ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } } الْآيَةَ .
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ] حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ حُرْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا ، وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ ؛ فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَوَامِ الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } .
وَكَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ وَلَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مِثْلُ مَا لِلْقُرْآنِ إلَّا مَعَانِي مُسْتَثْنَاةٌ ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ فَهَابَهُمْ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ .
فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّت وَلَا يَعْجَلَ ، فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا ، فَبَعَثَ عُيُونَهُ ، فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ ، وَسَمِعُوا آذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ خَالِدٌ ، وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرُوهُ عَادَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } .
فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ { : الْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالتَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ ، وَالْفِسْقَ قَرِينَةٌ تُبْطِلُهَا ، فَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ إجْمَاعًا .
وَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : لَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يَكُونُ وَلِيًّا ؛ لِأَنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَيَلِي بُضْعَهَا ، كَالْعَدْلِ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إلَّا أَنَّ غِيرَتَهُ مُوَفَّرَةٌ ، وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ ، وَقَدْ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ ، فَإِذَا وُلِّيَ الْمَالَ فَالْبُضْعُ أَوْلَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ الشَّافِعِيُّ وَنُظَرَاؤُهُ إمَامَةَ الْفَاسِقِ وَمَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى حَبَّةِ مَالٍ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى قِنْطَارِ دِينٍ ؛ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ أَنَّ الْوُلَاةَ [ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ ] لَمَّا فَسَدَتْ أَدْيَانُهُمْ ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَرَاءَهُمْ ، وَلَا اُسْتُطِيعَتْ إزَالَتُهُمْ صَلَّى مَعَهُمْ وَوَرَاءَهُمْ ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ : الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ ؛ ثُمَّ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا صَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةٌ أَعَادُوا الصَّلَاةَ لِلَّهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُهَا صَلَاتَهُ .
وَبِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ أَقُولُ ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ مَنْ لَا يَرْضَى مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَلَكِنْ يُعِيدُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ ، وَلَا يُؤْثَرُ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَأَمَّا أَحْكَامُهُ إنْ كَانَ [ حَاكِمًا ] وَالِيًا فَيُنَفِّذُ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ ، وَلَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ الَّذِي أَمْضَاهُ بِحَالٍ ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إلَى غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رِوَايَةٍ ثُؤْثَرُ ، أَوْ قَوْلٍ يُحْكَى ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَثِيرٌ ، وَالْحَقَّ ظَاهِرٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ ، أَوْ شَيْءٍ يُوَصِّلُهُ أَوْ إذْنٍ يُعَلِّمُهُ ، إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِّ الْمُرْسِلِ وَالْمُبَلِّغِ ؛ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ .
فَهَذَا جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا الْعُدُولُ .
يَحْصُلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِعَدَمِهِمْ فِي ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ رَوَى عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ وَنَحْوِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ .
الثَّانِي : مَا رَوَى سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُلَاحَاةٌ فِي حَقٍّ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ ، وَإِنَّ الْآخَرَ دَعَاهُ إلَى الْمُحَاكِمَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَنْ يَتْبَعَهُ ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ الْأَمْرُ حَتَّى تَدَافَعُوا ، وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ .
الثَّالِثُ مَا رَوَاهُ أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ زَيْدٍ ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ أَهْلَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا ، وَجَعَلَهَا فِي عِلِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إلَى أَهْلِهَا ، فَجَاءَ قَوْمُهَا فَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا بِهَا ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَاسْتَغَاثَ بِأَهْلِهِ ؛ فَجَاءَ بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا ؛ فَتَدَافَعُوا وَاجْتَلَدُوا بِالنِّعَالِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ .
الرَّابِعُ مَا حَكَى قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مِنْ الْخَزْرَجِ وَرَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ مِنْ الْأَوْسِ ، وَسَبَبُهُ { أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ ، فَرَاثَ حِمَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سَطَعَ غُبَارُهُ ، فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ ، وَقَالَ : لَقَدْ آذَانَا نَتِنُ حِمَارِك .
فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَقَالَ : إنَّ حِمَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك وَمِنْ أَبِيك ؛ فَغَضِبَ قَوْمُهُ وَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ : الْأَخِيرَةُ ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ مَا رُوِيَ لِعُمُومِهَا وَمَا لَمْ يُرْوَ ، فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الطَّائِفَةُ كَلِمَةٌ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْعَدَدِ ، وَعَلَى مَا لَا يَحْصُرُهُ عَدَدٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْعُمْدَةُ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ ، وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ ، وَإِيَّاهَا عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { يَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْخَوَارِجِ : { يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ } أَوْ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ لِقَتْلِهِمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ [ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ ] فَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَثَبَتَ بِدَلِيلِ الدِّينِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إمَامًا ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ بَاغٍ ، وَأَنَّ قِتَالَهُ وَاجِبٌ حَتَّى يَفِيءَ إلَى الْحَقِّ ، وَيَنْقَادَ إلَى الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ ، وَالصَّحَابَةُ بُرَآءُ مِنْ دَمِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ بِالْقَتْلِ ؛ فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ ، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمِحْنَةِ ، وَفَدَى بِنَفْسِهِ الْأُمَّةَ ، ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ النَّاسِ سُدًى ، فَعُرِضَتْ الْإِمَامَةُ عَلَى بَاقِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ عُمَرُ فِي الشُّورَى ، وَتَدَافَعُوهَا ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ، فَقَبِلَهَا حَوْطَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُسْفَكَ دِمَاؤُهَا بِالتَّهَارُجِ وَالْبَاطِلِ ، وَيُتَخَرَّقُ أَمْرُهَا إلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُ ، وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ الدِّينُ ، وَانْقَضَّ عَمُودُ الْإِسْلَامِ ؛ فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ طَلَبَ أَهْلِ الشَّامِ فِي شَرْطِ الْبَيْعَةِ التَّمْكِينَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَخْذَ الْقَوَدِ مِنْهُمْ ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ : اُدْخُلُوا فِي الْبَيْعَةِ ، وَاطْلُبُوا الْحَقَّ تَصِلُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : لَا تَسْتَحِقُّ بَيْعَةً وَقَتَلَةُ عُثْمَانَ مَعَك نَرَاهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً ، فَكَانَ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ أَسَدَّ

رَأْيًا ، وَأَصْوَبَ قَوْلًا ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَوْ تَعَاطَى الْقَوَدَ مِنْهُمْ لَتَعَصَّبَتْ لَهُمْ قَبَائِلُ ، وَصَارَتْ حَرْبًا ثَالِثَةً فَانْتَظَرَ بِهِمْ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْأَمْرُ ، وَتَنْعَقِدَ الْبَيْعَةُ الْعَامَّةُ ، وَيَقَعَ الطَّلَبُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، فَيَجْرِي الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى إثَارَةِ الْفِتْنَةِ أَوْ تَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ ، وَكَذَلِكَ جَرَى لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛ فَإِنَّهُمَا مَا خَلَعَا عَلِيًّا عَنْ وِلَايَةٍ ، وَلَا اعْتَرَضَا عَلَيْهِ فِي دَيَّانَةٍ ، وَإِنَّمَا رَأَيَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِقَتْلِ أَصْحَابِ عُثْمَانَ أَوْلَى ، فَبَقِيَ هُوَ عَلَى رَأْيِهِ لَمْ يُزَعْزِعْهُ عَمَّا رَأَى وَهُوَ كَانَ الصَّوَابُ كَلَامُهُمَا ، وَلَا أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ قَوْلُهُمَا .
وَكَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُثْنِي عَلَى صَاحِبِهِ [ وَيَذْكُرُ مَا فِيهِ ] وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ ، وَيَذْكُرُ مَنَاقِبَهُ ؛ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ هَذَا لَتَبْرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ [ مِنْهُمَا ] مِنْ صَاحِبِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَقَاتُلُ الْقَوْمِ عَلَى دُنْيَا ، وَلَا بَغْيًا بَيْنَهُمْ فِي الْعَقَائِدِ ، وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِلَافًا فِي اجْتِهَادٍ ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ جَمِيعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } أَمَرَ اللَّهُ بِالْقِتَالِ ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَعْضِ الْبَاقِينَ ؛ وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ ، كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ .
وَصَوَّبَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ قَبِلَهُ مِنْهُ .
وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَفْضَى إلَيْهِ الْأَمْرُ عَاتَبَ سَعْدًا عَلَى مَا فَعَلَ ، وَقَالَ لَهُ : لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ حِينَ اقْتَتَلَا ، وَلَا مِمَّنْ قَاتَلَ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ ؛ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : نَدِمْت عَلَى تَرْكِي قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْكُلِّ دَرَكٌ فِيمَا فَعَلَ ، وَإِنَّمَا كَانَ تَصَرُّفًا بِحُكْمِ الِاجْتِهَادِ وَإِعْمَالًا بِمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقْسِطِ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُتَعَلِّقَهُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالصُّلْحِ قَبْلَ الْقِتَالِ ، وَعَيَّنَ الْقِتَالَ عِنْدَ الْبَغْيِ ؛ فَعَلَ عَلِيٌّ بِمُقْتَضَى حَالِهِ فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْبَاغِيَةَ الَّتِي أَرَادَتْ الِاسْتِبْدَادَ عَلَى الْإِمَامِ ، وَنَقْضَ مَا رَأَى مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ دَارِ النُّبُوَّةِ وَمَقَرِّ الْخِلَافَةِ بِفِئَةٍ تَطْلُبُ مَا لَيْسَ لَهَا طَلَبُهُ إلَّا بِشَرْطِهِ ، مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالْقِيَامِ بِالْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ ؛ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقُدْ عَلَيَّ مِنْهُمْ مَا احْتَاجُوا إلَى مُجَاذَبَةٍ ؛ فَإِنَّ الْكَافَّةَ كَانَتْ تَخْلَعُهُ ، وَاَللَّهُ قَدْ حَفِظَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَصَانَهُ .
وَعَمِلَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى حَالِهِ ، فَإِنَّهُ صَالَحَ حِينَ اسْتَشْرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ سَمَاوِيَّةٍ ، وَمَقَادِيرَ أَزَلِيَّةٍ ، وَمَوَاعِيدَ مِنْ الصَّادِقِ

صَادِقَةٍ ، وَمِنْهَا مَا رَأَى مِنْ تَشَتُّتِ آرَاءِ مَنْ مَعَهُ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ طُعِنَ حِينَ خَرَجَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَدَاوَى جُرْحَهُ حَتَّى بَرِئَ ؛ فَعَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَنْ يُنَافِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى الْخَوَارِجَ أَحَاطُوا بِأَطْرَافِهِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِحَرْبِ مُعَاوِيَةَ اسْتَوْلَى الْخَوَارِجُ عَلَى الْبِلَادِ ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْخَوَارِجِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ تَذَكَّرَ وَعْدَ جَدِّهِ الصَّادِقِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } ، وَإِنَّهُ لَمَا سَارَ الْحَسَنُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكِتَابِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا ، وَقَدِمَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ : إنِّي أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي أُولَاهَا حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا .
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرٍو : مَنْ لِي بِذَرَارِيّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : أَنَا .
فَقَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ : تَلْقَاهُ فَتَقُولُ لَهُ : الصُّلْحَ ؛ فَصَالَحَهُ ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
وَبِقَوْلِهِ : { الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ، ثُمَّ تَعُودُ مُلْكًا } ، فَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٌّ ، وَلِلْحَسَنِ [ مِنْهَا ] ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ لَا تَزِيدُ [ يَوْمًا ] وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا ، فَسُبْحَانَ الْمُحِيطِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ؛ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ؛ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا } .
وَمِنْ الْعَدْلِ فِي صُلْحِهِمْ أَلَّا يُطَالِبُوا بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ فَإِنَّهُ تَلَفٌ عَلَى تَأْوِيلٍ .
وَفِي طَلَبِهِمْ لَهُ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَنْ الصُّلْحِ وَاسْتِشْرَاءٌ فِي الْبَغْيِ .
وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْمَصْلَحَةِ ؛ وَقَدْ قَالَ لِسَانُ الْأُمَّةِ : إنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي قِتَالِ الصَّحَابَةِ التَّعَرُّفُ مِنْهُمْ لِأَحْكَامِ قِتَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ؛ إذْ كَانَتْ أَحْكَامُ قِتَالِ التَّنْزِيلِ قَدْ عُرِفَتْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } بِنَاءُ ( ب غ ي ) فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الطَّلَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } ؛ وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ هَاهُنَا عَمَّنْ يَبْغِي مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى عَادَةِ اللُّغَةِ فِي تَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى الْإِمَامِ يَبْغِي خَلْعَهُ أَوْ يَمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ فِي طَاعَةٍ لَهُ ، أَوْ يَمْنَعُ حَقًّا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ ؛ فَإِنْ جَحَدَهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ .
وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبُغَاةَ وَالْمُرْتَدِّينَ ؛ فَأَمَّا الْبُغَاةُ فَهُمْ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ بِتَأْوِيلٍ ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا سَقَطَتْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَهُمْ الَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُوبَهَا ، وَخَرَجُوا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى نُبُوَّةِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاَلَّذِي قَاتَلَ عَلِيٌّ طَائِفَةٌ أَبَوْا الدُّخُولَ فِي بَيْعَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ ؛ وَطَائِفَةٌ خَلَعَتْهُ ، وَهُمْ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ .
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْجَمَلِ فَإِنَّمَا خَرَجُوا يَطْلُبُونَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ .
وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْجَمِيعِ أَنْ يَصِلُوا إلَيْهِ وَيَجْلِسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَيُطَالِبُوهُ بِمَا رَأَوْا أَنَّهُ عَلَيْهِ ؛ فَلَمَّا تَرَكُوا ذَلِكَ بِأَجْمَعِهِمْ صَارُوا بُغَاةً بِجُمْلَتِهِمْ ، فَتَنَاوَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ : إنَّمَا يُقَاتِلُ مَعَ الْإِمَامِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلَ أَوْ الْخَارِجَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فَأَمْسِكْ عَنْهُمَا إلَّا أَنْ تُرَادَ بِنَفْسِك أَوْ مَالِكَ أَوْ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ فَادْفَعْ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَا تُقَاتِلُ إلَّا مَعَ إمَامٍ [ عَادِلٍ ] يُقَدِّمُهُ أَهْلُ الْحَقِّ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا قُرَشِيًّا ، وَغَيْرُهُ لَا حُكْمَ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَدْعُو إلَى الْإِمَامِ الْقُرَشِيِّ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ؛

لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِقُرَشِيٍّ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ مَالِكٍ : إذَا خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ خَارِجٌ وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْهُ ، مِثْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَدَعْهُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْ ظَالِمٍ بِمِثْلِهِ ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا } .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا بُويِعَ لِلْإِمَامِ فَقَامَ عَلَيْهِ إخْوَانُهُ قُوتِلُوا إذَا كَانَ الْأُوَلُ عَدْلًا ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا بَيْعَةَ لَهُمْ إذَا كَانَ بُويِعَ لَهُمْ عَلَى الْخَوْفِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَلَا بُدَّ مِنْ إمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثٍ يَرْوِيه مُعَاوِيَةُ { : إذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا أَحَدَهُمَا ؛ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ فَإِنَّهَا حَصَادُ الْمُنَافِقِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ ، وَلَا يُتْبَعُ مُنْهَزِمُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ لَا قَتْلُهُمْ .
وَأَمَّا الَّذِي يُتْلِفُونَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُونَ ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِدْوَانٍ ، فَلْيَلْزَمْ الضَّمَانَ .
وَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي خُرُوجِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا ، وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا ؛ وَهُمْ الْقُدْوَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ قِتَالِ الْبُغَاةِ بِخِلَافِ الْكَفَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إنْ وَلَّوْا قَاضِيًا ، وَأَخَذُوا زَكَاةً ، وَأَقَامُوا حَقًّا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ ؛ قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ .
وَقَالَ ابْنُ

الْقَاسِمِ : لَا يَجُوزُ بِحَالٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّهُ جَائِزٌ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ كَانُوا بُغَاةً .
الْعُمْدَةُ لَنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [ فِي خُرُوجِهِمْ ] لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا ، وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا ، وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا ، وَهُمْ الْقُدْوَةُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا انْجَلَتْ الْفِتْنَةُ ، وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِالْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ لَمْ يَعْرِضُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ ؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا انْجَلَتْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْبَاغِي ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَعْتَرِضُهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَهْلُ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ لَهُمْ حُكْمٌ ، قُلْنَا : وَلَا سَمِعْنَا أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ حُكْمٌ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا فِتْنَةً مُجَرَّدَةً ، حَتَّى انْجَلَتْ مَعَ الْبَاغِي لَسَكَتَ عَنْهُمْ لِئَلَّا يُعَضِّدَ بِاعْتِرَاضِهِ مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى النَّبْزُ هُوَ اللَّقَبُ فَقَوْلُهُ : لَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ، أَيْ لَا تَدَاعَوْا بِالْأَلْقَابِ .
وَاللَّقَبُ هُنَا اسْمٌ مَكْرُوهٌ عِنْدَ السَّامِعِ .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ اسْمَانِ وَثَلَاثَةٌ ؛ فَكَانَ يُدْعَى بِاسْمٍ مِنْهَا فَيَغْضَبُ ؛ فَنَزَلَتْ : { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } يَعْنِي أَنَّك إذَا ذَكَرْت صَاحِبَك بِمَا يَكْرَهُ فَقَدْ آذَيْته ؛ وَإِذَايَةُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَازَعَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ : يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَرَى مِنْ هَاهُنَا مِنْ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ ، مَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ } يَعْنِي إلَّا بِالتَّقْوَى ، وَنَزَلَتْ : { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَثْنَى مِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ ، كَالْأَعْرَجِ وَالْأَحْدَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ ، فَجَوَّزَتْهُ الْأُمَّةُ ، فَاتَّفَقَ عَلَى قَوْلِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ .
وَقَدْ وَرَدَ لَعَمْرُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَا أَرْضَاهُ ، كَقَوْلِهِمْ فِي صَالِحٍ جَزَرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ صَحَّفَ زَجَرَهُ فَنُقِّبَ بِهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مُحَمَّدِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيِّ مُطَيَّنٌ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي طِينٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا غَلَبَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَلَا أَرَاهُ سَائِغًا فِي الدِّينِ ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنُ رَبَاحٍ الْمِصْرِيُّ يَقُولُ : لَا أَجْعَلُ أَحَدًا صَغَّرَ اسْمَ أَبِي فِي حِلٍّ .
وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى اسْمِ أَبِيهِ التَّصْغِيرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ .
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا كُلَّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ لِأَجْلِ الْإِذَايَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ الظَّنِّ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ حَقِيقَةَ الظَّنِّ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ فِي النَّفْسِ لِأَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ عَلَى الْآخَرِ .
وَالشَّكُّ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِوَائِهِمَا .
وَالْعِلْمُ هُوَ حَذْفُ أَحَدِهِمَا وَتَعْيِينُ الْآخَرِ .
وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْكَرَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ تَعَبُّدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالظَّنِّ ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ تَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ ، وَدَعْوَى فِي الْعُقُولِ ؛ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَصْلٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْبَارِي تَعَالَى لَمْ يَذُمَّ جَمِيعَهُ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الذَّمُّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِي بَعْضِهِ .
وَمُتَعَلِّقُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا ، وَلَا تَقَاطَعُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي الشَّرِيعَةِ قِسْمَانِ : مَحْمُودٌ ، وَمَذْمُومٌ ؛ فَالْمَحْمُودُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ : { إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } ، وَقَوْلُهُ : { لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُهُ كَذَا ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا } .
وَعِبَادَاتُ الشَّرْعِ وَأَحْكَامُهُ ظَنِّيَّةٌ فِي الْأَكْثَرِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَبِيِّ وَالْفَطِنِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا ، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ : بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ؛ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } } .
وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُ دُونَهُمَا كَخَلْقِهِ لِآدَمَ ، أَوْ دُونَ ذَكَرٍ كَخَلْقِهِ لِعِيسَى ، أَوْ دُونَ أُنْثَى كَخَلْقِهِ لِحَوَّاءَ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ .
وَهَذَا الْجَائِزُ فِي الْقُدْرَةِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْوُجُودُ .
وَقَدْ جَاءَ أَنَّ آدَمَ خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ انْتَزَعَهَا مِنْ أَضْلَاعِهِ ، فَلَعَلَّهُ هَذَا الْقِسْمُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ مَاءِ الذَّكَرِ وَمَاءِ الْأُنْثَى بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَنْسَابًا وَأَصْهَارًا وَقَبَائِلَ وَشُعُوبًا ، وَخَلَقَ لَهُمْ مِنْهَا التَّعَارُفَ ، وَجَعَلَ لَهُمْ بِهَا التَّوَاصُلَ ، لِلْحِكْمَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا ؛ فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ يَجُوزُ نِسْبَةً ، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْهُ [ أَحَدٌ ] اسْتَوْجَبَ الْحَدَّ يَقْذِفُهُ لَهُ ، مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْ رَهْطِهِ وَجِنْسِهِ ، كَقَوْلِهِ لِلْعَرَبِيِّ : يَا عَجَمِيِّ : يَا عَرَبِيِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ النَّفْيُ حَقِيقَةً ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } : قَدْ بَيَّنَّا الْكَرَمَ ، وَأَوْضَحْنَا حَقِيقَتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ صَحِيحِ الْحَدِيثِ .
وَفِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَسَبُ الْمَالُ ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى } .
ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي } .
وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْرَمَ الْبَشَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي لَحَظَ مَالِكٌ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ .
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَالِكٍ يُزَوَّجُ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ .
وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يُرَاعَى الْحَسَبُ وَالْمَالُ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُقْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى سَالِمًا ، وَأَنْكَحَهُ هِنْدَ بِنْتَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ كَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ .
وَإِنَّمَا تُرَاعَى الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يَنْكِحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ .
قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ .
فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يَنْكِحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ

أَلَّا يُسْمَعَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلِ هَذَا } .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا وَفِي رِوَايَةٍ : وَحَسَبِهَا ، فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } .
وَقَدْ خَطَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي بَكْرٍ ابْنَتَهُ فَأَجَابَهُ وَخَطَبَ إلَى عُمَرَ ابْنَتَهُ فَالْتَوَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا ، فَلَمْ يَفْعَلْ سَلْمَانُ ، { وَخَطَبَ بِلَالٌ بِنْتَ الْبُكَيْرِ فَأَبَى إخْوَتُهَا ، فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَاذَا لَقِيت مِنْ بَنِي الْبُكَيْرِ ، خَطَبْت إلَيْهِمْ أُخْتَهمْ فَمَنَعُونِي وَآذُونِي .
فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ بِلَالٍ ؛ فَبَلَغَهُمْ الْخَبَرُ ، فَأَتَوْا أُخْتَهُمْ ، فَقَالُوا : مَاذَا لَقِينَا مِنْ سَبَبِك ، غَضِبَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ بِلَالٍ .
فَقَالَتْ أُخْتُهُمْ أَمْرِي بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَزَوَّجَهَا بِلَالًا } ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي هِنْدٍ حِينَ حَجَمَهُ : { أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ وَأَنْكِحُوا إلَيْهِ وَهُوَ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ } .

سُورَةُ ق [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، فَقَالَ : إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ ؛ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تَغْلِبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ؛ ثُمَّ قَرَأَ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ هُوَ تَسْبِيحُ اللَّهِ فِي اللَّيْلِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ .
الرَّابِعُ أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُ [ مَنْ قَالَ ] إنَّهُ التَّسْبِيحُ ، يُعَضِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ كُفِّرَ عَنْهُ وَغُفِرَ لَهُ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى تَسْبِيحًا لِمَا فِيهَا مِنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ ، وَمِنْهُ سُبْحَةُ الضُّحَى وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا صَلَاةُ الْفَجْرِ و الْعِشَاءِ فَلِأَنَّهُمَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَالْعِشَاءُ أَوْضَحُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ النَّوَافِلُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ؛ وَهُوَ الْأَقْوَى فِي النَّظَرِ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْمَكْتُوبَةِ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ ق ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ } رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ } .
وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى ؟ فَقَالَ : { كَانَ يَقْرَأُ بِ قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ } .

سُورَةُ الذَّارِيَاتِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْهُجُوعُ : النَّوْمُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ الْإِقْبَالُ [ عَلَى الْأُنْسِ بِالْحَدِيثِ ، وَكَانَتْ عَادَتَهُمْ ، أَوْ ] عَلَى الْوَطْءِ .
الثَّانِي الْإِقْبَالُ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَالْأَوَّلُ [ ضَعِيفٌ وَالثَّانِي ] بَاطِلٌ .
وَلَوْلَا مَخَافَتُنَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مُتَعَلِّقٌ يَوْمًا مَا ذَكَرْنَاهُ لِبُطْلَانِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ : { كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } لِأَجْلِ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُعْطِي أَنَّ نَوْمَهُمْ بِاللَّيْلِ كَانَ قَلِيلًا ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
وَإِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يُصَلِّي قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ ؛ وَإِنَّمَا [ مَعْنَاهُ ] كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ ، أَيْ يَسْهَرُونَ قَلِيلًا .
وَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى السَّهَرَ بِالْقَلِيلِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعِبَادِ كُلَّهُ قَلِيلٌ .
وَفِي قَوْلِهِ ( مَا ) اخْتِلَافٌ بَيْنَ النُّحَاةِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ صِلَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُلْجِئَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَمْدُوحَةٌ شَرْعًا إجْمَاعًا ، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ ، لِأَجْلِ فَرَاغِ الْقَلْبِ وَضَمَانِ الْإِجَابَةِ ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يَمُدُّ الصَّلَاةَ إلَى السَّحَرِ .
قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ : يُرِيدُ مَالِكٌ بِالرَّجُلِ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ .
وَقِيلَ : هِيَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ قُبَاءَ .
وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ هَذَا لُبَابُهَا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إلَّا أَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا .
قَالَ الْقَاضِي : وَخَصَّ السَّحَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { جَوْفُ اللَّيْلِ أَسْمَعُ } .
وَرُوِيَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ ، وَفِي رِوَايَةٍ : إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ ، وَأَصَحُّهُ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ أَمْ لَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا .
وَالْأَقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ الزَّكَاةُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ : سَأَلَ سَائِلٌ : { وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ الَّتِي بَيَّنَ الشَّرْعُ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا وَوَقْتَهَا ، فَأَمَّا غَيْرُهَا لِمَنْ يَقُولُ بِهِ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَا مُجَنَّسٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { لِلسَّائِلِ } ، وَهُوَ الْمُتَكَفِّفُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَالْمَحْرُومِ } ، وَهُوَ الْمُتَعَفِّفُ ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ لِلسَّائِلِ حَقَّ الْمَسْأَلَةِ وَلِلْمَحْرُومِ حَقَّ الْحَاجَةِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ الَّذِي يُحَرَّمُ الرِّزْقُ .
وَقِيلَ : الَّذِي أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمُحْتَرِقَةِ : { قَالُوا إنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } وَفِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ لَمْ نُطَوِّلْ بِذِكْرِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا أَصَحُّهَا ؛ إذْ يَقْتَضِي هَذَا التَّقْسِيمُ أَنَّ الْمُحْتَاجَ إذَا كَانَ مِنْهُ مَنْ يَسْأَلُ فَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ ، وَيَتَنَوَّعُ أَحْوَالُ الْمُتَعَفِّفِ ، وَالِاسْمُ يَعُمُّهُ كُلَّهُ ، فَإِذَا رَأَيْته فَسَمِّهِ بِهِ ، وَاحْكُمْ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الطُّورِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
وَقُرِئَ : وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ .
فِيهَا ( مَسْأَلَةٌ ) : الْقِرَاءَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَمَّا إذَا كَانَ اتَّبَعَتْهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لِلذُّرِّيَّةِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الذُّرِّيَّةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا تَعْقِلُ الْإِيمَانَ وَتَتَلَفَّظُ بِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ وَاقِعًا بِهِمْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ نِسْبَةً إلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مِنْ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ ، وَلَكِنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ حُكْمَ أَبِيهِ لِفَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعِصْمَةِ وَالْحُرْمَةِ .
فَأَمَّا إتْبَاعُ الصَّغِيرِ لِأَبِيهِ فِي أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا تَبَعِيَّتُهُ لِأُمِّهِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَاضْطَرَبَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَالصَّحِيحُ فِي الدِّينِ أَنَّهُ يَتْبَعُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْت أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ الْعَبَّاسُ فَاتَّبَعَ أُمَّهُ فِي الدِّينِ ، وَكَانَ لِأَجْلِهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ فَعَقَلَ الْإِسْلَامَ صَغِيرًا وَتَلَفَّظَ بِهِ ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا .
وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا .
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا بِطُرُقِهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَمِنْ عُمُدِهَا هَذِهِ الْآيَةُ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ } ، فَنَسَبَ الْفِعْلَ إلَيْهِمْ ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوهُ وَتَكَلَّمُوا بِهِ ؛ فَاعْتُبِرَهُ اللَّهُ ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ .
وَمِنْ الْعُمُدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُخَالِفَ يَرَى صِحَّةَ

رِدَّتِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ رِدَّتِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ إسْلَامُهُ ، وَقَدْ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ بِإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَغِيرًا وَأَبَوَاهُ كَافِرَانِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى .
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك حِينَ تَقُومُ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { حِينَ تَقُومُ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْمَعْنَى فِيهِ حِينَ تَقُومُ مِنْ الْمَجْلِسِ لِيُكَفِّرَهُ .
الثَّانِي : حِينَ تَقُومُ مِنْ النَّوْمِ ، لِيَكُونَ مُفْتَتِحًا بِهِ كَلَامَهُ .
الثَّالِثُ : حِينَ تَقُومُ مِنْ نَوْمِ الْقَائِلَةِ ، وَهِيَ الظُّهْرُ .
الرَّابِعُ : التَّسْبِيحُ فِي الصَّلَاةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ حِينَ تَقُومُ مِنْ الْمَجْلِسِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَكْثُرُ فِيهِ لَغَطُهُ ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، وَأَسْتَغْفِرُك ، وَأَتُوبُ إلَيْك إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ .
جَاءَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ : دَعْنِي أُقَبِّلُ رِجْلَيْك يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذَيْنِ وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ ، حَدَّثَك مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ : هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ ، وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ ، إلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، أَنْبَأَنَا وُهَيْبٌ ، أَنْبَأَنَا سُهَيْلٌ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَوْلُهُ قَالَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ هَذَا أَوْلَى ، فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمَاعٌ مِنْ

سُهَيْلٍ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ حَدِيثَ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ حَمَلَهُ سُهَيْلٌ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى تَغَيَّرَ حِفْظُهُ بِآخِرَةٍ ؛ فَهَذِهِ مَعَانٍ لَا يُحْسِنُهَا إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ ، فَأَمَّا أَهْلُ الْفِقْهِ فَهُمْ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ .
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ { : كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِائَةَ مَرَّةٍ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ حِينَ يَقُومُ يَعْنِي مِنْ اللَّيْلِ فَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ : فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ } وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ سُقُوطِ التَّهْلِيلِ .
الثَّانِي وَرُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ قَرَأَ الْعَشْرَ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَأَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ ، فَإِنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وَأَمَّا نَوْمُ الْقَائِلَةِ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ ، وَهُوَ يَلْحَقُ بِنَوْمِ اللَّيْلِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصُّبْحُ لِنَوْمِ اللَّيْلِ ، وَالظُّهْرُ لِنَوْمِ الْقَائِلِ ، وَهُوَ أَصْلُ التَّسْبِيحِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ تَسْبِيحُ الصَّلَاةِ فَهُوَ أَفْضَلُهُ ، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، أَعْظَمُهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ

مَنْكِبَيْهِ ، وَيَصْنَعُ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، وَيَضَعُهَا إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ ، وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ وَيَقُولُ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ : وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك أَنْتَ رَبِّي ، وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي ، وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي ، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا ، وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا ، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك ، وَإِنَّا بِك وَإِلَيْك لَا مَنْجَى مِنْك ، وَلَا مَلْجَأَ إلَّا إلَيْك ، أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك } .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ { قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي .
فَقَالَ : قُلْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِك ، وَارْحَمْنِي ، إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { شَكَوْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي ، فَقَالَ : طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ .
قَالَتْ : فَطُفْت وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } .
وَفِيهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ { : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَرَدَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ أُسَارَى بَدْرٍ وَهُوَ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ ، فَحَضَرَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ { : فَسَمِعْته يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ } كَادَ يَنْخَلِعُ فُؤَادِي ، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بَعْدُ بِالْإِسْلَامِ } .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ سَجْدَةَ النَّجْمِ لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ ، وَرَآهَا ابْنُ وَهْبٍ مِنْ عَزَائِمِهِ ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ .
وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ بِالنَّجْمِ إذَا هَوَى ، فَسَجَدَ فِيهَا ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى .
وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي وَصَلَهَا بِهَا " إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا .
" وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النَّجْمَ ، فَسَجَدَ فِيهَا ، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ إلَّا شَيْخًا كَبِيرًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ مِنْ تُرَابٍ ، فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ ، وَقَالَ : يَكْفِينِي هَذَا } .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا يَعْنِي فِي النَّجْمِ ، وَسَجَدَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ } .
الشَّيْخُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ إذَا قَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ سَجَدَ ، فَإِذَا قَرَأَهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ رَكَعَ وَسَجَدَ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قَرَأَ " وَالنَّجْمُ " وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَهَا قِرَاءَةٌ قَرَأَهَا وَسَجَدَ .
وَإِذَا انْتَهَى إلَيْهَا رَكَعَ وَسَجَدَ ، وَلَمْ يَرَهَا [ عَلِيٌّ ] مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

سُورَةُ الرَّحْمَنِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ } .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِحْسَانِ ، فَقَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } .
فَهَذَا إحْسَانُ الْعَبْدِ .
وَأَمَّا إحْسَانُ اللَّهِ فَهُوَ دُخُولُ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ ، وَلِلْحُسْنَى دَرَجَاتٌ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ؛ وَهَذَا مِنْ أَجَلِّهَا قَدْرًا ، وَأَكْرَمِهَا أَمْرًا ، وَأَحْسَنِهَا ثَوَابًا ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } فَهَذَا تَفْسِيرُهُ .

سُورَةُ الْوَاقِعَةِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] قَوْله تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى [ هَلْ ] هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ حَالَ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِ اللَّهِ أَمْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ فِي كُتُبِنَا ؟ فَقِيلَ : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ .
وَقِيلَ : هُوَ مَا بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ ؛ فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ .
وَقِيلَ : هِيَ مَصَاحِفُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { لَا يَمَسُّهُ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْمَسُّ بِالْجَارِحَةِ حَقِيقَةً .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَ نَفْعِهِ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ بِالْقُرْآنِ ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ طُهِّرُوا مِنْ الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الْحَدَثِ ، وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ هَلْ قَوْلُهُ : { لَا يَمَسُّهُ } نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ ؟ فَقِيلَ : لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ .
وَقِيلَ : هُوَ نَفْيٌ .
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا : مَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، لِتَحْقِيقِ النَّفْيِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنَالُهُ فِي وَقْتٍ ، وَلَا تَصِلُ إلَيْهِ بِحَالٍ ؛ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ مَحَلٌّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَنَّهُ الَّذِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ الصُّحُفِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ ؛ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ قَالَ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي قَوْلِهِ : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِي { عَبَسَ وَتَوَلَّى } : { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفْرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } يُرِيدُ أَنَّ الْمُطَهَّرِينَ هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالطَّهَارَةِ فِي سُورَةِ "

عَبَسَ "

وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّوَضُّؤِ [ بِالْقُرْآنِ ] إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّ صُحُفَهُ ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الشَّرْعِ ، أَيْ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ شَرْعًا ، فَإِنْ وُجِدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ الشَّرْعِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنْ الذُّنُوبِ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ فَهُوَ صَحِيحٌ ، اخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } ؛ لَكِنَّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ عَقْلٍ وَلَا دَلِيلِ سَمْعٍ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسْخَتُهُ { : مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ : أَمَّا بَعْدُ وَكَانَ فِي كِتَابِهِ أَلَّا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أُخْتِهِ وَزَوْجِهَا سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَهُمَا يَقْرَآنِ طَهَ ، فَقَالَ : مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ : هَاتُوا الصَّحِيفَةَ .
فَقَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ : إنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَسْلَمَ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَرْثِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَدْنَا الْوَحْيَ إذْ وَلَّيْت عَنَّا وَوَدَّعَنَا مِنْ اللَّهِ الْكَلَامُ سِوَى مَا قَدْ تَرَكْت لَنَا قَدِيمًا تَوَارَثَهُ الْقَرَاطِيسُ الْكِرَامُ وَأَرَادَ صُحُفَ الْقُرْآنِ الَّتِي كَانَتْ

بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْلِيهَا عَلَى كَتَبَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ .
وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّهُ الْمُحْدِثُ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّ ظَاهِرَهُ وَحَوَاشِيَهُ وَمَا لَا مَكْتُوبَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْكِتَابُ فَلَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ .
وَهَذَا إنْ سُلِّمَ مِمَّا يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَرِيمَ الْمَمْنُوعِ مَمْنُوعٌ ، وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْحَدِيدِ [ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْآخِرُ بِعَيْنِهِ [ يَعْنِي ] لِأَنَّهُ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْبَاطِنُ ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاطِنُ ، وَأَنَّ الْآخِرَ هُوَ الظَّاهِرُ ؛ إذْ هُوَ تَعَالَى وَاحِدٌ تَخْتَلِفُ أَوْصَافُهُ ، وَتَتَعَدَّدُ أَسْمَاؤُهُ ، وَهُوَ تَعَالَى وَاحِدٌ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : لَا يُحَدُّ وَلَا يُشَبَّهُ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : مَنْ قَرَأَ " يَدُ اللَّهِ " وَأَشَارَ إلَى يَدِهِ ، وَقَرَأَ عَيْنُ اللَّهِ ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنْهُ يُقْطَعُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فِي تَقْدِيسِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا أَشْبَهَ إلَيْهِ ، وَشَبَّهَهُ بِنَفْسِهِ ، فَتُعْدَمُ [ نَفْسُهُ وَ ] جَارِحَتُهُ الَّتِي شَبَّهَهَا بِاَللَّهِ ، وَهَذِهِ غَايَةٌ فِي التَّوْحِيدِ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهَا مَالِكًا مُوَحِّدٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { : ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ .
وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عَيْنِهِ ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ } .
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ ، لَا يُوجِبُ عِلْمًا .
الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ ، وَفِي التَّقْدِيسِ لَا فِي التَّشْبِيهِ ، وَهَذَا نَفِيسٌ فَاعْرِفْهُ .
.

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ أَكْثَرُ ، لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَشَقُّ ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعَزْمِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَمَرَاتِبِ التَّابِعِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَقَعَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ ؛ فَإِنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ يَكُونُ [ فِي الدِّينِ وَيَكُونُ ] فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ ، وَأَعْظَمُ الْمَنَازِلِ مَرْتَبَةً الصَّلَاةُ } .
{ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
فَقِيلَ لَهُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا قَامَ مَقَامَك لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
فَقَالَ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ } .
الْحَدِيثَ .
فَقَدَّمَ الْمُقَدَّمَ ، وَرَاعَى الْأَفْضَلَ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا ، وَلَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَخِيهِ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا } .

فَفَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ } .
وَلَمْ يَعْنِ كِبَرَ السِّنِّ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : وَإِنَّ لِلسِّنِّ حَقًّا .
وَرَاعَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمُرَاعَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالسِّنُّ فِي خَيِّرَيْنِ قُدِّمَ الْعِلْمُ وَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ ، فَمَنْ قُدِّمَ فِي الدِّينِ قُدِّمَ فِي الدُّنْيَا .
وَفِي الْآثَارِ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْتَرِفْ لِعَالِمِنَا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الْأَفْرَادِ : { مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ } .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ الشَّهِيدُ نَزِيلُ الْقُدْسِ لِابْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ السَّرَقُسْطِيِّ : يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرٍ دَاخَلَهُ لِلصِّبَا وَمِنْ بَذَخِ اُذْكُرْ إذَا شِئْت أَنْ تَعِيبَهُمْ جَدَّك وَاذْكُرْ أَبَاك يَا بْنَ أَخِي وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ عَنْك وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ مَنْ لَا يُعِزُّ الشُّيُوخَ لَا بَلَغَتْ يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إلَى الشَّيْخِ

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالشُّهَدَاءُ } وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُمْ النَّبِيُّونَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ .
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَهِيدٌ ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ [ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } ] .
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ شَاهِدٍ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خَيْرُ الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ، وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا أَدَّى وَالْإِثْمُ إذَا كَتَمَ } .
وَنُورُهُمْ [ قِيلَ ] وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هُوَ ظُهُورُ الْحَقِّ بِهِ ، وَقِيلَ نُورُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَالْكُلُّ صَالِحٌ لِلْقَوْلِ حَاصِلٌ لِلشَّاهِدِ بِالْحَقِّ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الشُّهَدَاءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا .
وَهُمْ أَوْفَى دَرَجَةً وَأَعْلَى .
وَالشُّهَدَاءُ قَدْ بَيَّنَّا عَدَدَهُمْ ، وَهُمْ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
الْمَقْتُولُ دُونَ مَالِهِ [ الْمَقْتُولُ دُونَ أَهْلِهِ ] .
الْمَطْعُونُ .
الْغَرِقُ .
الْحَرِقُ .
الْمَجْنُونُ .
الْهَدِيمُ .
ذَاتُ الْجَمْعِ .
الْمَقْتُولُ ظُلْمًا .
أَكِيلُ السَّبْعِ .
الْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
مَنْ مَاتَ مِنْ بَطْنٍ فَهُوَ شَهِيدٌ .
الْمَرِيضُ شَهِيدٌ .
الْغَرِيبُ شَهِيدٌ .
صَاحِبُ النَّظْرَةِ شَهِيدٌ .

فَهَؤُلَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهِيدًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ قَوْلَهُ { وَالشُّهَدَاءُ } مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى : { الصِّدِّيقُونَ } عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ يَعْنِ ي أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الشَّهِيدُ ، وَالْكُلُّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ .
وَقِيلَ : هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ ، وَالشُّهَدَاءُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ ، وَأَظْهَرُهُ عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الرَّهْبَانِيَّةُ : فَعْلَانِيَّةٌ مِنْ الرَّهَبِ كَالرَّحْمَانِيَّةِ ؛ وَقَدْ قُرِئَتْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مِنْ الرُّهْبَانِ كالرَّضْوانِيَّةِ مِنْ الرُّضْوَانِ .
[ وَالرَّهَبُ هُوَ الْخَوْفُ ، كَفَى بِهِ عَنْ فِعْلٍ الْتَزَمَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَهْبًا مِنْ سَخَطِهِ ] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَفْسِيرِهَا : وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهَا رَفْضُ النِّسَاءِ ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ فِي دِينِنَا ، كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ ؛ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ .
الثَّالِثُ : سِيَاحَتُهُمْ ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْهُ .
الرَّابِعُ رَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ قَالَ : قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ } .
وَافْتَرَقَ مَنْ [ كَانَ ] قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا : فِرْقَةٌ آزَتْ الْمُلُوكَ ، وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى حَتَّى قُتِلُوا ، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ أَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، فَأَخَذَتْهُمْ الْمُلُوكُ وَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَة بِمُوَازَاةِ الْمُلُوك ، وَلَا بِأَنْ

يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ ، فَيَدْعُوهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ وَدِينِهِ ] وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ، وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ ، وَأَنَّهُ قَالَ : أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ ، إنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ؛ فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إذَا فَعَلْتُمُوهُ ، وَلَا تَتْرُكُوهُ ؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ بِتَرْكِهَا ، فَقَالَ : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } يَعْنِي تَرَكُوا ذَلِكَ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } مِنْ وَصْفِ الرَّهْبَانِيَّةِ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ابْتَدَعُوهَا } .
وَقَدْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ فَظَنُّوا أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ الْتَزَمُوهَا ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ ، وَلَا يُعْطِيه أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إلَّا بِشَرْعٍ أَوْ نَذْرٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ [ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةٍ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَمَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قَوْلًا أَوْ غَيْرَهُ ، لَا يَخْتَصُّ بِسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ ، بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ وَيَعْلَمُهُ ، وَيَعْلَمُ الْمَعْدُومَ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَالْأُصُولِ ، وَكَذَلِكَ أَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَعَلُّقُ سَمِعْنَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُنَا ، وَلَكِنَّ الْبَارِي تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِتَعَلُّقِ رُؤْيَتِنَا بِالْأَلْوَانِ ، وَسَمْعِنَا بِالْأَصْوَاتِ ؛ وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ فِيمَا خَصَّ وَالْقُدْرَةُ فِيمَا عَمَّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا } : وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُجَادِلَةِ وَحَقِيقَتُهَا وَجَوَازُهَا فِي طَلَبِ قَصْدِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ ، وَأَمْرِ اللَّهِ بِهَا ، وَنَسْخِهِ وَتَخْصِيصِهِ لَهَا وَتَعْمِيمِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُجَادِلَةِ : وَفِيهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ : قِيلَ هِيَ خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ .
وَقِيلَ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ دُلَيْجٍ .
وَقِيلَ : بِنْتُ الصَّامِتِ .
وَأُمُّهَا مُعَاذَةُ ؛ كَانَتْ أَمَةً لِابْنِ أُبَيٍّ .
وَفِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } الْآيَةَ .
وَقِيلَ : خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ ، وَهِيَ أَشْبَهُهَا ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ جَاءَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهِيَ عَجُوزَةٌ كَبِيرَةٌ ، وَالنَّاسُ مَعَهُ ، وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ قَالَ : فَجَنَحَ إلَيْهَا ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهَا ، وَتَنَحَّى النَّاسُ عَنْهَا ، فَنَاجَاهَا طَوِيلًا ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، حَبَسْت رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ .
قَالَ : أَتَدْرُونَ مَنْ هِيَ ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ ، سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ؛ فَوَاَللَّهِ لَوْ قَامَتْ هَكَذَا إلَى اللَّيْلِ لَقُمْت مَعَهَا إلَى أَنْ تَحْضُرَ صَلَاةٌ ، وَأَنْطَلِقَ لِأُصَلِّيَ ثُمَّ أَرْجِعَ إلَيْهَا .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ ، إنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ ، وَهِيَ تَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ .
وَفِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ ، وَعَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ؛ { قُلْت : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك } } .
وَنَصُّهُ عَلَى الِاخْتِصَارِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ { لَمَّا ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ لَهُ :

وَاَللَّهِ مَا أَرَاك إلَّا قَدْ أَثِمْت فِي شَأْنِي ، لَبِسْت جِدَّتِي ، وَأَفْنَيْت شَبَابِي ، وَأَكَلْت مَالِي ، حَتَّى إذَا كَبِرَتْ سِنِّي ، وَرَقَّ عَظْمِي ، وَاحْتَجْت إلَيْك فَارَقْتنِي .
قَالَ : مَا أَكْرَهَنِي لِذَلِكَ ، اذْهَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْظُرِي هَلْ تَجِدِينَ عِنْدَهُ شَيْئًا فِي أَمْرِك ؟ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ ، فَلَمْ تَبْرَحْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً .
قَالَ : لَا أَجِدُ ذَلِكَ .
قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
قَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ؛ أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ .
قَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قَالَ : لَا أَجِدُ .
فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعِيرًا ، وَقَالَ : خُذْ هَذَا فَأَطْعِمْهُ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا { أَنَّ سَعِيدًا أَتَى أَبَا سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ ، كَانَ رَجُلًا ميطا فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ ، فَرَآهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بِرِيقِ الْقَمَرِ ، وَرَأَى بَرِيقَ خَلْخَالِهَا وَسَاقِهَا فَأَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا ، وَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ : أَتَيْت بِهَذَا يَا أَبَا سَلَمَةَ ثَلَاثًا ؟ فَأَمَرَ النَّبِيُّ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً .
قَالَ : مَا أَمْلِكُ غَيْرَ رَقَبَتِي هَذِهِ .
فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ .
قَالَ : إنَّمَا هِيَ وَجْبَةٌ .
قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
قَالَ : مَا مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ .
قَالَ : فَأَتَى النَّاسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ فِيهِ تَمْرٌ .
فَقَالَ لَهُ : خُذْ هَذَا ، فَتَصَدَّقْ بِهِ وَأَطْعِمْهُ عِيَالَك } .
[ وَقِيلَ هَذَا صَخْرُ بْنُ ] سَلَمَةَ بْنُ صَخْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ الَّذِي أَعْطَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِجَنَّ يَوْمَ أُحُدٍ .
وَقَالَ : وَجْهِي أَحَقُّ بِالْكَلْمِ مِنْ وَجْهِك ،

وَارْتُثَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلَى ، وَبِهِ رَمَقٌ ، وَقَدْ كُلِمَ كُلُومًا كَثِيرَةً ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُومَهُ ، وَاسْتَشْفَى لَهُ فَبَرِئَ ، وَفِيهِ نَزَلَتْ آيَةُ الظِّهَارِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ } : رُوِيَ { أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ دُلَيْجٍ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ كَذَلِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ حَرُمْت عَلَيْهِ ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ : إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ .
ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَرُمْت عَلَيْهِ .
فَقَالَتْ : إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ ، وَعَائِشَةُ تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، فَذَهَبَتْ أَنْ تُعِيدَ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، اُسْكُتِي ، فَإِنَّهُ نَزَلَ الْوَحْيُ .
فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوْجِهَا : أَعْتِقْ رَقَبَةً .
قَالَ : لَا أَجِدُ .
قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
قَالَ : إنْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خِفْت أَنْ يَعْشُوَ بَصَرِي .
قَالَ : فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قَالَ : فَأَعِنِّي ، فَأَعَانَهُ بِشَيْءٍ } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } حَقِيقَتُهُ تَشْبِيهُ ظَهْرٍ [ بِظَهْرٍ ، وَالْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ مِنْهُ تَشْبِيهُ ظَهْرِ ] مُحَلَّلٍ بِظَهْرِ مُحَرَّمٍ ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ ، أُصُولُهَا سَبْعَةٌ : الْفَرْعُ الْأَوَّلُ : إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
الْفَرْعُ الثَّانِي : إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَحِلُّ لَهُ ، وَفِيهِ رَفْعُ التَّشْبِيهِ ، وَإِيَّاهُ قَصَدَ الْمُظَاهِرُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ظِهَارًا كَالظَّهْرِ ، وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلِ بِالْمُحَرَّمِ ؛ فَلَزِمَ عَلَى الْمَعْنَى .

الْفَرْعُ الثَّالِثُ إذَا شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَكُونُ ظِهَارًا ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَصَحَّ إضَافَةُ الظِّهَارِ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْفَرْعُ الرَّابِعُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي ، أَوْ مِثْلُ أُمِّي ، فَإِنْ نَوَى ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ ظِهَارًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ أَطْلَقَ تَشْبِيهَ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ ، فَكَانَ ظِهَارًا ؛ أَصْلُهُ إذَا ذَكَرَ الظَّهْرَ ، وَهَذَا قَوِيٌّ ؛ إذْ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ مَوْجُودٌ ، وَاللَّفْظُ بِمَعْنَاهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْ حُكْمُ الظَّهْرِ لِلَفْظِهِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ .

الْفَرْعُ الْخَامِسُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا ؛ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ ، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالظِّهَارِ ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِهِ كَانَ تَفْسِيرًا لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَضَى بِهِ فِيهِ .

الْفَرْعُ السَّادِسُ إنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَإِنْ ذَكَرَ الظَّهْرَ كَانَ ظِهَارًا حَمْلًا عَلَى الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَكُونُ ظِهَارًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَكُونُ طَلَاقًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ شَيْئًا ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلًا مِنْ الْمَرْأَةِ بِمُحَرَّمٍ ، فَكَانَ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ كَالظَّهْرِ .
وَالْأَسْمَاءُ بِمَعَانِيهَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا ، وَهَذَا نَقْضٌ لِلْأَصْلِ مِنْهُمْ .

الْفَرْعُ السَّابِعُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي كَانَ مُظَاهِرًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ ، وَهَذِهِ أَشْكَلُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ مُؤَبَّدٍ كَالْأُمِّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { مِنْكُمْ } .
يَعْنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي خُرُوجَ الذِّمِّيِّ مِنْ الْخِطَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ .
قُلْنَا : هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالِاشْتِقَاقِ .
وَالْمَعْنَى فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ مُسْتَحِقَّةُ الْفَسْخِ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى .
وَقَدْ مَدَدْنَا إطْنَابَ الْقَوْلِ فِيهَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ .
وَلُبَابُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ وَإِذَا خُوطِبُوا فَإِنَّ أَنْكِحَتَهُمْ فَاسِدَةٌ لِإِخْلَالِهِمْ بِشُرُوطِهَا مِنْ وَلِيٍّ وَأَهْلٍ وَصَدَاقٍ وَوَصْفِ صَدَاقٍ ، فَقَدْ يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ ، وَيَعْقِدُونَ [ بِغَيْرِ مَالٍ كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، وَيَعْقِدُونَ فِي الْعِدَّةِ وَيَعْقِدُونَ ] نِكَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَإِذَا خَلَتْ الْأَنْكِحَةُ عَنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ ، وَلَا ظِهَارَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِحَالٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي صِحَّةَ ظِهَارِ الْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَأَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثَابِتَةٌ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصِّيَامِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ تَظَاهُرٌ ، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَلَمْ يَقُلْ : وَاَللَّاتِي يُظَاهِرْنَ مِنْكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ ، وَإِنَّمَا الظِّهَارُ عَلَى الرِّجَالِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَسَالِمٍ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، وَرَبِيعَةَ ، وَأَبِي الزِّنَادِ ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْحَلَّ وَالْعَقْدَ وَالتَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ فِي النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ ، لَيْسَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَهَذَا إجْمَاعٌ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ يَلْزَمُ الظِّهَارُ فِي كُلِّ أَمَةٍ يَصِحُّ وَطْؤُهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ جِدًّا عَلَيْنَا ؛ لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ : إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يَلْزَمْ ، فَكَيْفَ يُبْطَلُ صَرِيحُ التَّحْرِيمِ ، وَيُصَحَّحُ كِنَايَتُهُ ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ فِي عُمُومِ : { مِنْ نِسَائِهِمْ } ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مِنْ مُحَلَّلَاتِكُمْ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبُضْعِ دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ فِي الْأَمَةِ ، أَصْلُهُ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ مَنْ بِهِ لَمَمٌ ، وَانْتَظَمَتْ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْكَلِمُ إذَا ظَاهَرَ لَزِمَ ظِهَارُهُ ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَدَاخَلَهُ بَعْضُ لَمَمِهِ ، فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مَنْ غَضِبَ فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يُسْقِطْ غَضَبُهُ حُكْمَهُ .
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ : حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَتْ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
ثُمَّ خَرَجَ إلَى نَادِي قَوْمِهِ .
فَقَوْلُهَا : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ دَلِيلٌ عَلَى مُنَازَعَةٍ أَحْرَجَتْهُ ، فَظَاهَرَ مِنْهَا .
وَالْغَضَبُ لَغْوٌ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا ، وَلَا يُغَيِّرُ شَرْعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ فِي حَالِ سُكْرِهِ إذَا عَقَلَ قَوْلَهُ ، وَنَظَمَ كَلَامَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ فِي الظِّهَارِ بِالْفِرَاقِ ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِالتَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ .
وَهَذَا نَسْخٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فِي زَمَانَيْنِ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَقْلًا ، وَاقِعٌ شَرْعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النَّسْخِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ الظِّهَارُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ اسْتِمْتَاعٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْوَطْءُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الِاسْتِمْتَاعِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا ظَاهَرَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَرْطِ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا ، وَعِنْدَنَا يَكُونُ ظِهَارًا ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ لَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ [ إذَا زُوِّجَهَا ] لِأَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ حِينَ شَرَطَ نِكَاحَهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ إذَا ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ ؛ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّمَا الْمُعَوِّلُ عَلَى الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْجِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِوَجْهٍ ، فَكَانَتْ وَاحِدَةً .
وَإِنْ عَلَّقَهُ بِعَدَدٍ ، أَصْلُهُ الْإِيلَاءُ ، وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْإِنْصَافِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجَبَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا } [ فَسَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ] ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ [ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْرِيمِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيْضِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ ] إذَا وَقَعَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } : وَهُوَ حَرْفٌ مُشْكِلٌ ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ .
وَمَحْصُولُ الْأَقْوَالِ سَبْعَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ .
الثَّالِثُ : الْعَزْمُ عَلَيْهِمَا ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ .
الْخَامِسُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ .
السَّابِعُ : هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ ، وَيُسْنَدُ إلَى بُكَيْر بْنِ الْأَشَجِّ .
فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْعَوْدُ إلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ بُكَيْر ، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهَالَةِ دَاوُد وَأَشْيَاعِهِ .
وَقَدْ رَوَيْت قِصَصَ الْمُتَظَاهِرِينَ ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ لِعَوْدِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى يَنْقُضُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ إذَا أَعَدْت الْقَوْلَ الْمُحَرَّمَ وَالسَّبَبَ الْمَحْظُورَ وَجَبَتْ عَلَيْك الْكَفَّارَةُ ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعَادَةُ مِنْ قَتْلٍ وَوَطْءٍ فِي صَوْمٍ وَنَحْوِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ تَرْكُ الطَّلَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَنْقُضُهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُمَّهَاتٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ قَالَ { ثُمَّ } وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ { ثُمَّ يَعُودُونَ } يَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَمُرُورُ الزَّمَانِ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ عَلَى الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الظِّهَارِ

كَالْإِيلَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا رَآهَا كَالْأُمِّ لَمْ يُمْسِكْهَا ؛ إذْ لَا يَصِحُّ إمْسَاكُ الْأُمِّ بِالنِّكَاحِ .
وَهَذَا عُمْدَةُ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ .
قُلْنَا : إذَا عَزَمَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ ، وَرَآهَا خِلَافَ الْأُمِّ كَفَّرَ ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَزْمَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ ، وَهَذَا رَجُلٌ قَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْلِيلَ ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، وَقَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَهُوَ الظِّهَارُ ، ثُمَّ عَادَ لِمَا قَالَ ، وَهُوَ قَوْلُ التَّحْلِيلِ ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ابْتِدَاءَ عَقْدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ قَوْلُ عَزْمٍ يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَهُ ، وَقَالَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الظِّهَارِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّرَ ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ ، فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي مُوَافَقَةِ الْمُحَرَّمِ .
قُلْنَا : هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْزِمُ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ بِمُحَلَّلٍ ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ حَتَّى يُكَفِّرَ ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَمْ تَتَعَدَّدْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ .
قُلْنَا : أَمَّا الْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ فَقُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَوْلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ ، عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْا مِنْهُمْ النَّسَائِيّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي قَدْ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي ، فَوَقَعْت عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ .
قَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُك اللَّهُ ، قَالَ : رَأَيْت خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ .
فَقَالَ : لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللَّهُ } .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ الظِّهَارِ ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَطَأْ حَتَّى يُكَفِّرَ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَبَنَاهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْدِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، فَلَا مَعْنًى لِإِعَادَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إذَا ظَاهَرَ مُوَقِّتًا بِزَمَانٍ .
قَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ مُؤَبَّدًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْغُو ؛ وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الظِّهَارِ عُمُومٌ فِي الْمُؤَقَّتِ وَالْمُؤَبَّدِ .
وَإِذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ لَمْ يَرْفَعْهُ مُرُورُ الزَّمَانِ ، وَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ رَافِعَةً لَهُ .
وَقَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَمَانًا مُؤَقَّتًا لَزِمَهُ الطَّلَاقُ عَامًّا ، وَلَا انْفِصَالَ لَهُ عَنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ الرَّقَبَةِ ، وَأَنَّهَا السَّلِيمَةُ مِنْ الْعُيُوبِ ، وَفِي أَنَّهَا الْمُؤْمِنَةُ لَيْسَتْ الْكَافِرَةَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ وَأَنَّهَا مَنْ لَا شَائِبَةَ لِلْحُرِّيَّةِ فِيهَا ، كَالْمُكَاتَبَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَمِيعِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُجْزِي ، فَالْمُكَاتَبَةُ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّ [ عَقْدَ ] الْحُرِّيَّةِ قَدْ ثَبَتَ لَهَا ، وَهِيَ مِنْ السَّيِّدِ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَرَجَّحْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ أَشْبَهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ مِنْهَا بِالْأَمَةِ ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي الْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُعْتَبَرُ حَالُ الْأَدَاءِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ .
وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا .
وَالثَّانِي الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ .
وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ فِيهِ ] يَرْتَبِطُ الْوُجُوبُ بِالْعَوْدِ ، وَفِيهِ يَرْتَبِطُ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالَةُ الِارْتِبَاطِ ، بَيْدَ أَنَّهُ لِلْمَسْأَلَةِ حَرْفٌ جَرَى فِي أَلْسِنَةِ عُلَمَائِنَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْمَسْأَلَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكَفَّارَةِ صِفَةُ الْعِبَادَةِ أَوْ صِفَةُ الْعُقُوبَةِ .
وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ ؛ وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا صِفَةَ الْقُرْبَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ صِفَةَ الْقُرْبَةِ فَالْقُرْبُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الْإِجْزَاءِ خَاصَّةً بِحَالِ الْأَدَاءِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ، وَاَلَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ هِيَ الْحُدُودُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَائِمًا ، ثُمَّ عَجَزَ فَقَعَدَ فِيهَا فَهَذَا مِنْ الْمُغَايِرِ لِلْقُرْبَةِ فِي الْهَيْئَاتِ ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ أَبُو الْمَعَالِي .
قُلْنَا : إنْ كَانَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ جِنْسَيْنِ فَإِنَّ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ ضِدَّانِ ، فَالْخُرُوجُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ أَقْرَبُ مِنْ الْعُدُولِ مِنْ ضِدٍّ إلَى ضِدٍّ .
فَإِنْ قِيلَ : الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِلصَّلَاةِ ؛ فَاعْتُبِرَ حَالُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهَا .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِحِلِّ الْمَسِيسِ ؛ فَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى الْمَسِيسِ اُعْتُبِرَتْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَدْ بَيَّنَّا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْوَسَطُ مِنْ الْإِطْعَامِ ، وَهُوَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ : مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ ، وَهُوَ الشِّبَعُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الطَّعَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَسَطَ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ : مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قِيلَ لَهُ : أَلَمْ تَكُنْ قُلْت : مُدُّ هِشَامٍ ، قَالَ : بَلَى ، وَمُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا .
وَمُدُّ هِشَامٍ هُوَ مُدَّانِ غَيْرُ ثُلُثٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَشْهَبُ : قُلْت لَهُ : أَيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
الشِّبَعُ عِنْدَنَا مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ دُونَكُمْ ، وَأَنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَكْثَرَ مِمَّا نَأْكُلُ نَحْنُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَقَعَ الْكَلَامُ هَاهُنَا كَمَا تَرَوْنَ فِي مُدِّ هِشَامٍ ، وَدِدْت أَنْ يُهَشِّمَ الزَّمَانُ ذِكْرَهُ ، وَيَمْحُوَ مِنْ الْكُتُبِ رَسْمَهُ ؛ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ الَّتِي نَزَلَ الْوَحْيُ بِهَا ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا الرَّسُولُ ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ الظِّهَارُ وَقِيلَ لَهُمْ فِيهِ : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فَهِمُوهُ وَعَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ ، وَأَنَّهُ الشِّبَعُ ، وَقَدْرُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مُتَقَدِّرٌ لَدَيْهِمْ ، فَقَدْ كَانُوا يَجُوعُونَ لِحَاجَةٍ وَيَشْبَعُونَ بِسُنَّةٍ لَا بِشَهْوَةٍ [ وَمَجَاعَةٍ ] ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الشِّبَعِ فِي الْأَخْبَارِ كَثِيرًا ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ فِي الْأَنْوَارِ ، وَاسْتَمَرَّتْ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، حَتَّى نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِ هِشَامٍ ، فَرَأَى مُدَّ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُشْبِعُهُ ، وَلَا مِثْلَهُ مِنْ حَاشِيهِ وَنُظَرَائِهِ ، فَسَوَّلَ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُدًّا يَكُونُ فِيهِ شِبَعُهُ ، فَجَعَلَهُ رَطْلَيْنِ ، وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا ابْتَلَّ عَادَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ ، فَغَيَّرَ السُّنَّةَ ، وَأَذْهَبَ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا رَبَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ : مِثْلَ مَا بَارَكَ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ .
فَكَانَتْ الْبَرَكَةُ تَجْرِي بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدِّهِ ، فَسَعَى الشَّيْطَانُ فِي تَغْيِيرِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَإِذْهَابِ الْبَرَكَةِ ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا هِشَامٌ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُلْغُوا ذِكْرَهُ ، وَيَمْحُوا رَسْمَهُ ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَمْرَهُ ، وَأَمَّا أَنْ يُحِيلُوا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَيَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفَسِّرًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَخَطْبٌ جَسِيمٌ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَةُ أَشْهَبَ فِي ذِكْرِ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا بِمُدِّ هِشَامٍ .
أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ [ لِأَشْهَبَ ] : الشِّبَعُ عِنْدَنَا بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ ، وَبِهَذَا أَقُولُ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ إذَا أُدِّيَتْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَدَنِ كَانَ أَسْرَعَ لِلْقَبُولِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَالِ كَانَ قَلِيلُهَا أَثْقَلَ فِي الْمِيزَانِ ، وَأَبْرَكَ فِي يَدِ الْآخِذِ ، وَأَطْيَبَ فِي شِدْقِهِ ، وَأَقَلَّ آفَةً فِي بَطْنِهِ ، وَأَكْثَرَ إقَامَةً لِصُلْبِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْلُهُ : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } يَقْتَضِي أَنَّ الْوَطْءَ لِلزَّوْجَةِ فِي لَيْلِ صَوْمِ الظِّهَارِ يُبْطِلُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِعْلَهَا قَبْلِ التَّمَاسِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّمَا يَكُونُ شَرْطُ الْمَسِيسِ فِي الْوَطْءِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ .
قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّوْمَ قَبْلَ التَّمَاسِّ ، فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ فَقَدْ [ تَعَذَّرَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ ، فَإِذَا أَتَمَّهَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَهُ ، وَإِذَا اسْتَأْنَفَهَا ] كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ جَمِيعِهَا ، وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ فِي بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فِي جَمِيعِهَا .
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُذَقْ طَعْمَ الْفِقْهِ ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ الْوَاقِعَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ لَيْسَ بِالْمُحَلِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَطْءُ تَعَدٍّ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِصَوْمٍ لَا يَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ وَطْءٌ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ بَاطِلٌ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السَّفِيهِ وَالرَّشِيدِ .
وَهَذَا فِقْهٌ ضَعِيفٌ لَا يُنَاسِبُ قَدْرَهُ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ ، وَقَدْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحَجْرِ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشِيًا ، وَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ .
وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ لِصِغَرٍ أَوْ لِوِلَايَةٍ ، وَبَلَغَ سَفِيهًا قَدْ نُهِيَ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ فِعْلُهُ فِيهِ ؟ وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوك حَيَّوْك بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ الْيَهُودُ ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ : السَّامُ عَلَيْك ؛ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ ظَاهِرًا ، وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ [ فِي رِوَايَةٍ ] ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ .
وَكَانُوا يَقُولُونَ : لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا أَمْهَلَنَا اللَّهُ بِسِبِّهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ ؛ وَجَهِلُوا أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ مَنْ سَبَّهُ ، فَكَيْفَ مَنْ سَبَّ نَبِيَّهُ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا أَحَدَ أَصَبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ ، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ } .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا كَشْفًا لِسَرَائِرِهِمْ ، وَفَضْحًا لِبَوَاطِنِهِمْ ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ هَذَا فِي مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : السَّامُ عَلَيْكُمْ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَدْرُونَ مَا قَالَ هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : قَالَ كَذَا ؛ رُدُّوهُ عَلَيَّ ، فَرَدُّوهُ .
قَالَ : قُلْت : السَّامُ عَلَيْكُمْ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ : إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا : عَلَيْك مَا قُلْت } .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى

: { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ الْمَجْلِسِ : فِيهِ أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
وَكَانَ قَوْمٌ إذَا أَخَذُوا فِيهِ مَقَاعِدَهُمْ شَحُّوا عَلَى الدَّاخِلِ أَنْ يَفْسَحُوا لَهُ .
وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْكَرَامِيُّ بِهَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْر الْغَلَّابِيُّ ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ الضَّبِّيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمِّهِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ [ عَنْ أَنَسٍ ] قَالَ : { بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ إذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ ؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيِّهِمْ يُوَسِّعُ لَهُ ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَلَى يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ ، وَقَالَ : هَا هُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ .
قَالَ : فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ؛ إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَسْجِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَجْلِسُ الذِّكْرِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مَوْقِفُ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ .

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ ، وَالتَّفَسُّحُ وَاجِبٌ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا جَلَسُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ أَطَالُوا ، يَرْغَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرْتَفِعُوا .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالِارْتِفَاعِ إلَى الْقِتَالِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْفُسْحَةُ كُلُّ فَرَاغٍ بَيْنَ مَلَأَيْنِ .
وَالنَّشْزُ : مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ .
ذَكَرَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِلثَّانِي فِي الِارْتِفَاعِ ؛ فَصَارَ مَجَازًا فِي اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجَالِسِ مُشْكِلَةٌ ، وَتَفَاصِيلُهَا كَثِيرَةٌ : الْأَوَّلُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْسَحُ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ .
الثَّانِي مَجْلِسُ الْجُمُعَاتِ يُتَقَدَّمُ فِيهِ بِالْبُكُورِ إلَّا مَا يَلِي الْإِمَامَ ، فَإِنَّهُ لِذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى .
الثَّالِثُ : مَجْلِسُ الذِّكْرِ يَجْلِسُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ .
الرَّابِعُ مَجْلِسُ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْمِرَاسِ مِنْ النَّاسِ .
الْخَامِسُ مَجْلِسُ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِالشُّورَى ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ : { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } فَيَرْتَفِعُ الْمَرْءُ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ ، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فَسَكَتُوا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ .
فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْآيَةَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجَالِسِنَا هَذِهِ ، وَإِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْهُ : إنَّ قَوْلَهُ : { يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } الصَّحَابَةَ { وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَالِمَ وَالطَّالِبَ لِلْحَقِّ .
وَالْعُمُومُ أَوْقَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دِينَارٌ ؛ قُلْت : لَا يُطِيقُونَهُ .
قَالَ : نِصْفُ دِينَارٍ .
قُلْت : لَا يُطِيقُونَهُ .
قَالَ : فَكَمْ ؟ قُلْت : شَعِيرَةٌ .
قَالَ إنَّك لَزَهِيدٌ .
فَنَزَلَتْ : { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } قَالَ : فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ أُصُولِيَّتَيْنِ : الْأُولَى نَسْخُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ فِعْلِهَا .
الثَّانِيَةُ النَّظَرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ بِالْقِيَاسِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : شَعِيرَةٌ .
يُرِيدُ وَزْنَ شَعِيرَةٍ [ مِنْ ذَهَبٍ ] .
وَقَدْ رُوِيَ [ عَنْ ] مُجَاهِدٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَصَدَّقَ فِي ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ ، وَنَاجَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ [ أَنَّهُ تَصَدَّقَ ] بِخَاتَمٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ .
وَقَدْ سَرَدَ الْمَسْأَلَةَ كَمَا يَجِبُ أَسْلَمُ فِي رِوَايَةِ زَيْدٍ ابْنِهِ عَنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ : وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مُنَاجَاتَهُ .
يُرِيدُ لَا يَسْأَلُهُ حَاجَةً إلَّا نَاجَاهُ بِهَا مِنْ شَرِيفٍ أَوْ دَنِيءٍ ؛ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَأْتِيهِ فَيُنَاجِيهِ ، كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ ، وَكَانَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا حَرْبًا عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ حَوْلَهُ .
فَيَقُولُ لَهُ : أَتَدْرُونَ لِمَ نَاجَى فُلَانٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ إنَّمَا نَاجَاهُ ؛ لِأَنَّ جُمُوعًا [ كَثِيرَةً ] مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ قَدْ خَرَجُوا لِيُقَاتِلُوكُمْ .
قَالَ : فَيُحْزِنُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ : إنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ سَمَّاعَةٌ يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ يُنَاجِيهِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } .
وَقَالَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ إنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الْمُنَاجَاةِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } لِيَنْتَهِيَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنْ مُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَرَفَ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ لَا يُقَدِّمُونَ بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاهُمْ صَدَقَةً ؛ فَانْتَهَى أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنْ النَّجْوَى ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : لَا نُطِيقُهُ ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَنَسَخَتْهَا آيَةُ : {

فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } .
وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ زَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } [ ثُمَّ نَسَخَهُ مَعَ كَوْنِهِ خَيْرًا وَأَطْهَرَ ] .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَظِيمٌ فِي الْتِزَامِ الْمَصَالِحِ ؛ لَكِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْعُلَمَاءُ .
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ ؛ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَبُوهُ الْجَرَّاحُ يَتَصَدَّى لِأَبِي عُبَيْدَةَ ، فَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَصَدَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : لَا تُجَالِسْ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادَهُمْ فِي اللَّهِ لِقَوْلِ الْآيَةِ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ كَلَامِنَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَدَائِعَ اسْتِنْبَاطِ مَالِكٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ كَانَ حَفِيًّا بِأَهْلِ التَّوْحِيدِ غَرِيًّا بِالْمُبْتَدِعَةِ يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ جَانِبَ الْحُجَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَمِنْ أَجْلِهِ أَخَذَهُ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ تَدَّعِي أَنَّهَا تَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بِمَا يَكْرَهُ اللَّهُ وَلَا يُرِيدُهُ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَجُوسِيًّا نَاظَرَ قَدَرِيًّا ، فَقَالَ الْقَدَرِيُّ لِلْمَجُوسِيِّ : مَالَك لَا تُؤْمِنُ ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَجُوسِيُّ : لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَآمَنْت .
قَالَ لَهُ الْقَدَرِيُّ : قَدْ شَاءَ اللَّهُ ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّك .
قَالَ لَهُ الْمَجُوسِيُّ : فَدَعْنِي مَعَ أَقْوَاهُمَا .

سُورَةُ الْحَشْرِ [ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : سُورَةُ الْحَشْرِ ؟ قَالَ : قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ ، وَهُمْ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فَنَنِ بَنِي إسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : جَلَاءُ الْيَهُودِ .
الثَّانِي : إلَى الشَّامِ ؛ لِأَنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ ، وَالْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : قَالَ قَتَادَةُ : أَوَّلُ الْحَشْرِ نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ إلَى الْمَغَارِبِ ، وَتَأْكُلُ مَنْ خُلِّفَ [ فِي الدُّنْيَا ] .
وَنَحْوُهُ رَوَى وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قُلْت لِمَالِكٍ : هُوَ جَلَاؤُهُمْ عَنْ دَارِهِمْ ؟ فَقَالَ لِي : الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ ؛ قَالَ : وَإِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ إلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَتَمُوهُ فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي وَقْتِهَا : قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ : كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ : كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ ، وَكَانَتْ عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ ، وَاخْتَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } : وَثِقُوا بِحُصُونِهِمْ ، وَلَمْ يَثِقُوا بِاَللَّهِ لِكُفْرِهِمْ ، فَيَسَّرَ اللَّهُ مَنَعَتَهُمْ ، وَأَبَاحَ حَوْزَتَهُمْ .
وَالْحِصْنُ هُوَ الْعُدَّةُ وَالْعِصْمَةُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ : وَلَقَدْ عَلِمْت عَلَى تَوَقِّي الرَّدَى أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مُدُنُ الْقُرَى يَخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ الْقَتَامِ عَوَابِسَا كَأَنَامِلِ الْمَقْرُورِ أَقْعَى فَاصْطَلَى وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إصَابَةِ الْمَعْنَى ، فَقَالَ : وَإِنْ بَاشَرَ الْأَصْحَابُ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا قِرَاهُ وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا مَنَاهِلُهُ وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أُولَئِكَ عِقَالَاتُهُ لَا مَعَاقِلُهُ وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّك سَاخِطٌ وَدَعْهُ فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهُ

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ } : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، فَكَيْفَ لَا يُنْصَرُ بِهِ مَسِيرَةَ مَيْلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَحَلَّةِ بَنِي النَّضِيرِ .
وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } : فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يُخْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ بِنَقْضِ الْمُوَادَعَةِ ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
الثَّانِي : بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهِمْ لَهَا ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إجْلَائِهِمْ عَنْهَا ؛ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ .
الثَّالِثُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلَهَا ، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ خَارِجَهَا ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
الرَّابِعُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا هَدَمُوا بَيْتًا مِنْ خَارِجِ الْحِصْنِ هَدَمُوا بُيُوتَهُمْ يَرْمُونَهُمْ مِنْهَا .
الْخَامِسُ كَانُوا يَحْمِلُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ فَذَلِكَ خَرَابُ أَيْدِيهِمْ .
وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : أَنَّ التَّنَاوُلَ لِلْإِفْسَادِ إذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ كَانَ مَجَازًا ، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَجَازِ أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ هَدْمَهَا ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ جَلَاءَهُمْ عَنْهَا ؛ وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يُعَضِّدُهَا لُغَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ ، وَالتَّضْعِيفُ بَدِيلُ الْهَمْزَةِ فِي الْأَفْعَالِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } : وَهِيَ كَلِمَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا ، وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ اعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَأَنْزَلَهُمْ اللَّهُ مِنْهَا ، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَرْجُوهُمْ ، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُمْ هَدَمُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ .
وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِغَيْرِهِ اعْتَبَرَ بِنَفْسِهِ ، وَمِنْ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ : السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ .
يَعْنِي نَقَضُوا الْعَهْدَ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي شِقٍّ ، أَيْ جِهَةٍ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَى ، وَذِكْرُ اللَّهِ مَعَ رَسُولِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ ، وَكَانَ نَقْضُهُمْ الْعَهْدَ لِخَبَرٍ ؛ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ، قَالَ : { جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّضِيرَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ ، فَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَارٍ ، فَأَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَيْهِ رَحًى ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ ، فَقَامَ وَانْصَرَفَ ؛ وَبِذَلِكَ اسْتَحَلَّهُمْ وَأَجَلَاهُمْ إلَى خَيْبَرَ ، وَصَفِيَّةُ مِنْهُمْ سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ .
قَالَ : فَرَجَعَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَلَاهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَالصَّفْرَاءِ ، وَالْبَيْضَاءِ ، وَالْحَلْقَةِ ، وَالدِّنَانِ ، وَمِسْكِ الْجَمَلِ } .
فَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ : الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ .
وَالْحَلْقَةُ : السِّلَاحُ .
وَالدِّنَانُ : الْفَخَّارُ .
وَمِسْكُ الْجَمَلِ : جُلُودٌ يُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ بِشَعْرِهَا .
{ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ إلَيْهِمْ : يَا أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ ، يَا إخْوَةَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : فَقَالُوا : مَهْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، فَمَا كُنْت فَحَّاشًا .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إضْمَارَ الْخِيَانَةِ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ قَوْلًا [ فَيَنْتَقِضُ قَوْلًا ] ، وَالْعَقْدُ إذَا ارْتَبَطَ بِالْقَوْلِ انْتَقَضَ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ ، وَإِذَا ارْتَبَطَ بِالْفِعْلِ لَمْ يَنْتَقِضْ إلَّا بِالْفِعْلِ ، كَالنِّكَاحِ يَرْتَبِطُ بِالْقَوْلِ وَيَنْحَلُّ بِالْقَوْلِ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ ، وَبِالْفِعْلِ ، وَهُوَ الرَّضَاعُ .
وَعِتْقُ الْمِدْيَانِ يَنْعَقِدُ

بِالْقَوْلِ ، وَيُنْقِضُهُ الْحَاكِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُنْقِضُهُ الْقَوْلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ كَيْفِيَّةَ نَقْضِ الْعَهْدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا تَحَقَّقَ نَقْضُ الْعَهْدِ فَلِمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ اُخْرُجُوا مِنْ بِلَادِي ؟ وَلِمَ لَمْ يَأْخُذْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ ؟ قُلْنَا : قَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } .
فَإِنَّ قِيلَ : هَذَا مَا خَانَهُ ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ بِخَبَرِ اللَّهِ عَنْهُ .
قُلْنَا : الْخَوْفُ هَاهُنَا الْوُقُوعُ ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ عَاقِدٍ .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَحْدَهُ ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَشْهُورًا ، وَسَاقَهُ اللَّهُ إلَى مَا كَتَبَ مِنْ الْجَلَاءِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ ، وَقَطَعَ ؛ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ } ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : لَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ } الْآيَةَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَتْ النَّاسُ فِي تَخْرِيبِ دَارِ الْعَدُوِّ وَحَرْقِهَا وَقَطْعِ ثِمَارِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ .
الثَّانِي : إنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ، وَإِنْ يَيْأَسُوا فَعَلُوا ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ ، وَعَلَيْهِ تَنَاظُرُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ لَهُ ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ وَحَرَقَ لِيَكُونَ ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ وَوَهْنًا فِيهِمْ ، حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهَا ، فَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ جَائِزَةٌ شَرْعًا مَقْصُودَةٌ عَقْلًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّوْعِ الَّذِي قُطِعَ ، وَهُوَ اللِّينَةُ ، عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ ، وَإِلَّا الْعَجْوَةَ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْخَلِيلُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَرَائِمُ النَّخْلِ ؛ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ الْعَجْوَةُ خَاصَّةً ؛ قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ .
الْخَامِسُ أَنَّهَا النَّخْلُ الصِّغَارُ ، وَهِيَ أَفْضَلُهَا .
السَّادِسُ أَنَّهَا الْأَشْجَارُ كُلُّهَا .
السَّابِعُ أَنَّهَا الدَّقَلُ ؛ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ .
قَالَ : وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ : لَا نُنَحِّي الْمَوَائِدَ حَتَّى نَجِدَ الْأَلْوَانَ يَعْنُونَ الدَّقَلَ .
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا أَعْرَفُ بِبَلَدِهِمَا وَثِمَارِهَا وَأَشْجَارِهَا .
الثَّانِي أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يُعَضِّدُهُ ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يُصَحِّحُونَهُ ، قَالُوا : اللِّينَةُ وَزْنُهَا لِوْنَةٌ ، وَاعْتُلَّتْ عَلَى أَصْلِهِمْ .
[ فَآلَتْ إلَى لَيْنَةٍ ] ، فَهُوَ لَوْنٌ ، فَإِذَا دَخَلَتْ الْهَاءُ كُسِرَ أَوَّلُهَا ؛ كَبَرْكِ الصَّدْرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ ، وَبِرْكِهِ بِكَسْرِهَا لِأَجْلِ الْهَاءِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَتَى كَانَ الْقَطْعُ ؛ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ وَالْجَوَازَ فِي بَنِي النَّضِيرِ [ تَضَمَّنَ بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ ] قَبْلَ قُرَيْظَةَ بِمُدَّةٍ كَبِيرَةٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ تَأَسَّفَتْ الْيَهُودُ عَلَى النَّخْلِ الْمَقْطُوعَةِ ، وَقَالُوا : يَنْهَى مُحَمَّدٌ عَنْ الْفَسَادِ وَيَفْعَلُهُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقْطَعُ ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَقْطَعُ ، فَصَوَّبَ اللَّهُ الْفَرِيقَيْنِ ، وَخَلَّصَ الطَّائِفَتَيْنِ فَظَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُخَرَّجُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُمْ ، وَلَا اجْتِهَادَ مَعَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ أَخْذًا بِعُمُومِ الْإِذَايَةِ لِلْكُفَّارِ ، وَدُخُولًا فِي الْإِذْنِ لِلْكُلِّ بِمَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالِاجْتِيَاحِ وَالْبَوَارِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى { مَا أَفَاءَ اللَّهُ } : يُرِيدُ مَا رَدَّ اللَّهُ .
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْوَالَ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا ، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ مِنْ اللَّهِ بِالذُّنُوبِ عَدْلًا ، فَإِذَا رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ رَجَعَتْ فِي طَرِيقِهَا ذَلِكَ ، فَكَانَ ذَلِكَ فَيْئًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } : الْإِيجَافُ : ضَرْبٌ مِنْ السَّيْرِ .
وَالرِّكَابُ : اسْمٌ لِلْإِبِلِ خَاصَّةً عُرْفًا لُغَوِيًّا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُشْتَقًّا مِنْ الرُّكُوبِ ، وَيَشْتَرِكُ غَيْرُهَا مَعَهَا فِيهَا ، وَلَكِنْ لِلْعُرْفِ احْتِكَامٌ فِي اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمُشْرَكَاتِ بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } : الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا لِرَسُولِهِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا كَانَ بِرُعْبٍ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ ، دُونَ عَمَلٍ مِنْ النَّاسِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا سَفَرًا ، وَلَا تَجَشَّمُوا رِحْلَةً ، وَلَا صَارُوا عَنْ حَالَةٍ إلَى غَيْرِهَا ، وَلَا أَنْفَقُوا مَالًا ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِهِ بِذَلِكَ الْفَيْءِ ، وَأَفَادَ الْبَيَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مِنْ النَّاسِ فِي مُحَاصَرَتِهِمْ لَغْوٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِهَا .
رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ { أَنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ لَمَّا طَلَبَا عُمَرَ بِمَا كَانَ فِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَالِ ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَسَعْدٍ ، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ : أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ بِسَهْمٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ ، وَقَرَأَ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ اللَّهَ اخْتَارَهَا ، وَاَللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ .
وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ ؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبُثُّهَا ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَصَّهُ بِهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَاهَا الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ لِأَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ [ وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ ] لِحَاجَةٍ كَانَتْ بِهِمْ ، وَفِي آثَارٍ

كَثِيرَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَمَامُ الْكَلَامِ : فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ وَلَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ ، وَحُذِفَتْ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ، وَهَذِهِ الْآيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهَا هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي قُوتِلَتْ ، فَأَفَاءَ اللَّهُ بِمَالِهَا ؛ فَهِيَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
الثَّانِي هُوَ مَا غَنِمْتُمْ بِصُلْحٍ مِنْ غَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، فَيَكُونُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ فِيهِ ، وَالْأُولَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ، إذَا أَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ كَانَ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّالِثُ : قَالَ مَعْمَرٌ : الْأُولَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِيَةُ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ ، وَالثَّالِثَةُ الْغَنِيمَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِلْغَانِمِينَ .
الرَّابِعُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } هِيَ النَّضِيرُ ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا خُمُسٌ ، وَلَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، كَانَتْ صَافِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ .
وقَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } هِيَ قُرَيْظَةُ وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالْخَنْدَقُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

هَذَا لُبَابُ الْأَقْوَالِ الْوَارِدَةِ ؛ وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ السُّورَةَ سُورَةُ النَّضِيرِ ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِيهَا آيَاتُ بَنِي النَّضِيرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهَا بِالْعُمُومِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ ، وَفِيهَا آيَتَانِ : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } .
وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } .
وَفِي الْأَنْفَالِ آيَةٌ ثَالِثَةٌ ، وَهِيَ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ : هَلْ هِيَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ أَوْ مَعْنَيَانِ ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ : أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَهِيَ قَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } .
ثُمَّ قَالَ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } يُرِيدُ كَمَا بَيَّنَّا فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : إنَّهَا كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ ، وَمَا كَانَ مِثْلَهَا ، فَهَذِهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَعْنًى مُتَّحِدٌ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } .
وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِمُسْتَحِقٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ ، وَسَمَّى الْآيَةَ الثَّالِثَةَ آيَةَ الْغَنِيمَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَعْنًى آخَرُ بِاسْتِحْقَاقٍ ثَانٍ لِمُسْتَحِقٍّ آخَرَ ، بَيْدَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ اشْتَرَكَتَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَضَمَّنَتْ شَيْئًا أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْأُولَى أَنَّهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ ، وَاقْتَضَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِقِتَالِ ، وَعُرِّيَتْ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } عَنْ ذِكْرِ حُصُولِهِ لِقِتَالٍ أَوْ لِغَيْرِ قِتَالٍ ؛ فَنَشَأَ الْخِلَافُ مِنْ هَاهُنَا ، فَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ : هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْأُولَى ، وَهُوَ مَالُ الصُّلْحِ كُلُّهُ وَنَحْوُهُ .
وَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ : هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالثَّانِيَةِ ؛ وَهِيَ آيَةُ الْأَنْفَالِ .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ اخْتَلَفُوا : هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ مُحْكَمَةٌ ؟ وَإِلْحَاقُهَا بِشَهَادَةِ اللَّهِ بِالْأُولَى أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ فَائِدَةٍ وَمَعْنًى .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْحَرْبِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى فَائِدَةٍ مُعَادَةٍ .
وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَظِّمُ لَك شَتَاتَ الرَّأْيِ ، وَيُحْكِمُ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ وَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ فَيَقُولُ مَالِكٌ : إنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ وَيَلْحَقُهَا النَّسْخُ ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ بِالْإِحْكَامِ ، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُ إلَّا مَا قَسَّمْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَهَا مَعْنًى مُجَدَّدٌ حَسْبَمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْمَعْنَى ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَعْنَاهَا مَا أَعْطَاكُمْ مِنْ الْفَيْءِ ، وَمَا مَنَعَكُمْ مِنْهُ فَلَا تَطْلُبُوهُ .
الثَّانِي : مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ الْغُلُولِ فَلَا تَأْتُوهُ .
الثَّالِثُ : مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ .
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ تَنَاوَلَ الْكُلَّ ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مُرَادٌ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَقَعَ الْقَوْلُ هَاهُنَا مُطْلَقًا بِذَلِكَ ، وَقَيَّدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا ، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا وَلِذَلِكَ قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الَّذِي افْتَدَى مِنْ الْجَلْدِ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ : { أَمَّا غَنَمُك فَرَدٌّ عَلَيْك وَجَلْدُ ابْنِك مِائَةً وَتَغْرِيبُهُ عَامًا } .
وَتَرَدَّدَتْ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ عُظْمَى بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي عَقْدٍ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ ؛ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : لَا يَجُوزُ ، وَيُفْسَخُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : ذَلِكَ يَخْتَلِفُ ؛ أَمَّا فِي الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا ، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلَا ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا فِي الْأَحْبَاسِ وَالْهِبَاتِ فَيَحْتَمِلُ كَثِيرًا مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْأَخْطَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِيهَا ، حَتَّى قَالَ أَصْبَغُ : إنَّ مَا لَا يَجُوزُ إذَا دَخَلَ فِي الصُّلْحِ مَعَ مَا يَجُوزُ مَضَى الْكُلُّ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : يَمْضِي إنْ طَالَ .
وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ .
وَأَمَّا إنْ وَقَعَ النَّهْيُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : يُفْسَخُ أَبَدًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ ، فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَأْصِيلًا ، وَفِي فُرُوعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ تَفْصِيلًا بَنَيْنَاهُ عَلَى تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَالْمَعْنَى وَالرَّدِّ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا فَسْخُ الْفَاسِدِ أَبَدًا حَيْثُمَا وَقَعَ ، وَكَيْفَمَا وُجِدَ ، فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا

لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ ، وَلَا يُقَابِلُ النَّهْيَ إلَّا الْأَمْرُ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ ، وَالْمُسْتَوْشِمَات ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ } .
فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ : إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ ؟ فَقَالَ : وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ : لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْت فِيهِ مَا تَقُولُ .
قَالَ : لَئِنْ كُنْت قَرَأْته لَقَدْ وَجَدْته ؛ أَمَا قَرَأْت : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
قَالَتْ : بَلَى .
قَالَ : فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ الْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ : يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طُرِدَ ، وَنَصَرُوهُ حِينَ خُذِلَ ، فَلَا مِثْلَ لَهُمْ وَلَا لِأَجْرِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا وَهُوَ يَذْكُرُ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْآفَاقِ فَقَالَ : إنَّ الْمَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ ، وَإِنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرَى اُفْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ } الْآيَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى كُلِّ بُقْعَةٍ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ ، وَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ ، بَيْدَ أَنَّ الْقَارِئَ رُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِنُكْتَةٍ كَافِيَةٍ فِي ذَلِكَ مُغْنِيَةٍ عَنْ التَّطْوِيلِ ، فَيُقَالُ لَهُ : إنْ أَرَدْت الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ فَاتْلُ مَنَاقِبَ مَكَّةَ إلَى آخِرِهَا ، فَإِذَا اسْتَوْفَيْتهَا قُلْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الصَّحِيحِ : { اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَأَنَا أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ } ؛ فَقَدْ جَعَلَ حُرْمَةَ الْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ حُرْمَةِ مَكَّةَ .
وَقَالَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ : أُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَبِالْأَنْصَارِ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ .
وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يَعْنِي لَا يَحْسُدُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى مَا خُصُّوا بِهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ كَذَا قَالَ النَّاسُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ : وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذَا كَانَ قَلِيلًا ؛ بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ ، وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ .
وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حِينَ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُنْيَا ، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] وَقَالَ : { سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } : فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : نَوِّمِي الصِّبْيَةَ ، وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ ، وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
مُخْتَصَرٌ ، وَتَمَامُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَصَابَنِي الْجَهْدُ ؛ فَأَرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لَا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا .
فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي سِوَى قُوتِ الصِّبْيَةِ .
قَالَ : فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ ، فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ ، وَأَنْزَلَ : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } } .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّضِيرَ لَمَّا اُفْتُتِحَتْ أَرْسَلَ إلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ : جِئْنِي بِقَوْمِك .
قَالَ : الْخَزْرَجُ .
قَالَ : الْأَنْصَارُ ، فَدَعَاهُمْ وَقَدْ كَانُوا وَاسَوْا الْمُهَاجِرِينَ بِدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَقَالَ لَهُمْ : إنْ شِئْتُمْ أَشْرَكْتُكُمْ فِيهَا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَإِنْ شِئْتُمْ خَصَصْتُهُمْ بِهَا ، وَكَانَتْ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَدِيَارُكُمْ ؛ فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ : بَلْ نَخُصُّهُمْ بِهَا وَيَبْقَوْنَ عَلَى مُوَاسَاتِنَا

لَهُمْ ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } .
الْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ : { كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ وَمِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ : وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ وَمِنْ عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّة فِي حَدِّ الْمَحَبَّةِ : إنَّهَا الْإِيثَارُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لَمَا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا بِالتَّبْرِئَةِ ، فَقَالَتْ : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ } .
وَأَفْضَلُ الْجُودُ بِالنَّفْسِ الْجُودُ عَلَى حِمَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَلَّعُ فَيَرَى الْقَوْمَ ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ : لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا يُصِيبُونَك ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِك .
وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُلَّتْ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ ، وَوَكِيدِ الْمَحَبَّةِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ ؛ كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ ، لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؛ إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ ، فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشُّحِّ وَالْبُخْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَهُمَا مَعْنَيَانِ : فَالْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقُ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ ، فَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَيُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ } .
وَالشُّحُّ : مَنْعُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ ؛ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ ؛ فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذَهَابِ الشُّحِّ ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعْنًى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِحَرْفَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ يُوضَعُ مَوْضِعَ صَاحِبِهِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ ، وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ .
وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ غَيْرُ ذَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ وَمِنْ الصَّحَابَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ التَّابِعُونَ بَعْدَ قَرْنِ الصَّحَابَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَوَاهُ عَنْهُ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَشْهَبُ وَغَيْرُهُمَا ؛ قَالُوا : قَالَ مَالِكٌ : مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23