كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي

تُصَلِّي لَا تَنَامُ اللَّيْلَ ، فَإِذَا أُضْعِفَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا .
} وَقَدْ انْدَرَجَتْ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : مَعْنَاهُ بَيِّنٌ قِرَاءَتُهُ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : ثَغْرٌ رَتِلٌ وَرَتَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا إذَا كَانَ مُفَلَّجًا لَا فَضَضَ فِيهِ .
قَالَ مُجَاهِدٌ : مَعْنَاهُ بَعْضُهُ إثْرَ بَعْضٍ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَعْنَاهُ فَسَّرَهُ تَفْسِيرًا ، يُرِيدُ تَفْسِيرَ الْقِرَاءَةِ ، حَتَّى لَا يُسْرَعُ فِيهِ فَيَمْتَزِجَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ .
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ آيَةً وَيَبْكِي ، فَقَالَ : أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } ؛ هَذَا التَّرْتِيلُ } وَسَمِعَ رَجُلٌ عَلْقَمَةَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً حَسَنَةً ، فَقَالَ : رَتِّلْ الْقُرْآنَ ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي .
وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ { أَنَّ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهُ مَدًّا } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمَامُ هَذَا .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْك قَوْلًا ثَقِيلًا } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ثِقَلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَانَ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ إلَيْهِ ، وَقَدْ { سُئِلَ كَيْفَ يَأْتِيك الْوَحْيُ ؟ فَقَالَ : أَحْيَانًا يَأْتِينِي الْمَلَكُ مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ ، فَيُفْصِمُ عَنِّي ، وَقَدْ وَعَيْت مَا قَالَ } .
وَقَدْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَتَفَصَّدُ جَبِينُهُ عَرَقًا .
الثَّانِي : ثِقَلُ الْعَمَلِ بِهِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَجَاءَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ } .
وَقَدْ قِيلَ : أَرَادَ ثِقَلَهُ فِي الْمِيزَانِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ ، فَتُلْقِي بِجِرَانِهَا عَلَى الْأَرْضِ ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُسَرِّيَ عَنْهُ } وَهَذَا يُعَضِّدُ ثِقَلَ الْحَقِيقَةِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى { نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } ، فَاعِلَةٌ مِنْ قَوْلِك : نَشَأَ يَنْشَأُ ، فَهُوَ نَاشِئٌ ، وَنَشَأَتْ تَنْشَأُ فَهِيَ نَاشِئَةٌ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } وَقَالَ الْعُلَمَاءُ بِالْأَثَرِ : إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً ، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنُ غُدَيْقَةَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى أَقْوَالٍ ، جُمْلَتُهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ ، إشَارَةً إلَى أَنَّ لَفْظَ نَشَأَ يُعْطِي الِابْتِدَاءَ ، فَهُوَ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَحَقُّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ صَبَا نُصَيْبٌ لَقُلْت بِنَفْسِي النَّشَأُ الصِّغَارُ الثَّانِي : أَنَّهُ اللَّيْلُ كُلُّهُ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ اللَّفْظُ ، وَتَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ { أَشَدُّ وَطْئًا } : قُرِئَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ فَمِمَّنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ نَافِعٌ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَالْكُوفِيُّونَ وَقُرِئَ بِكَسْرِ الطَّاءِ مَمْدُودًا ، وَمِمَّنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ وَأَبُو عَمْرٍو فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ فَإِنَّهُ أَشَارَ إلَى ثِقَلِهِ عَلَى النَّفْسِ لِسُكُونِهَا إلَى الرَّاحَةِ فِي اللَّيْلِ وَغَلَبَةِ النَّوْمِ فِيهِ عَلَى الْمَرْءِ .
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَافَقُ فِيهِ السَّمْعُ لِعَدَمِ الْأَصْوَاتِ ، وَالْبَصَرُ لِعَدَمِ الْمَرْئِيَّاتِ ، وَالْقَلْبُ لِفَقْدِ الْخَطَرَاتِ .
قَالَ مَالِكٌ : أَقْوَمُ قِيلًا : هُدُوًّا مِنْ الْقَلْبِ وَفَرَاغًا لَهُ .
وَالْمَعْنَيَانِ فِيهِ صَحِيحَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْعَبْدِ وَأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلْقَصْدِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ لَك فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا } فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : مَعْنَاهُ اضْطِرَابًا وَمَعَاشًا وَتَصَرُّفًا ، سَبَّحَ يُسَبِّحُ : إذَا تَصَرَّفَ وَاضْطَرَبَ ، وَمِنْهُ سِبَاحَةُ الْمَاءِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يُعْنَى يَجْرُونَ .
وَقَالَ : { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا } ؛ قِيلَ : الْمَلَائِكَةُ تُسَبِّحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، أَيْ تَجْرِي وَقِيلَ : هِيَ السُّفُنُ : أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ تَخْرُجُ بِسُهُولَةٍ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : مَعْنَاهُ فَرَاغًا طَوِيلًا ؛ وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
فَأَمَّا حَقِيقَةُ ( س ب ح ) فَالتَّصَرُّفُ وَالِاضْطِرَابُ ؛ فَأَمَّا الْفَرَاغُ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ تَفَرُّغَهُ لِأَشْغَالِهِ وَحَوَائِجِهِ عَنْ وَظَائِفَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ؛ فَأَحَدُ التَّفْسِيرَيْنِ لَفْظِيٌّ وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قُرِئَ سَبْخًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَمَعْنَاهُ رَاحَةً وَقِيلَ نَوْمًا .
وَالتَّسْبِيخُ : النَّوْمُ الشَّدِيدُ ، يُقَالُ سَبَّخَ ، أَيْ نَامَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَسَبَّحَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ : أَيْ تَصَرَّفَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ { سَمِعَ عَائِشَةَ تَدْعُو عَلَى سَارِقٍ ، فَقَالَ : لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ بِدُعَائِك } ، أَيْ لَا تُخَفِّفِي عَنْهُ ، فَإِنَّ السَّارِقَ أَخَذَ مَالَهَا ، وَهِيَ أَخَذَتْ مِنْ عِرْضِهِ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ كَانَ تَخْفِيفًا مِمَّا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ السَّرِقَةِ .
وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْأَثَرِ { : مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ } وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اللَّيْلَ عِوَضُ النَّهَارِ ، وَكَذَلِكَ النَّهَارُ عِوَضُ اللَّيْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا }

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَوْمِ الْقَائِلَةِ الَّذِي يَسْتَرِيحُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْعِلْمِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فِي حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ : فَقَدْ كَانَ يُصَلِّي إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَرُوِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُوتِرُ مِنْهَا بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهَا .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ ، وَيُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعًا مِنْهَا الْوِتْرُ ، وَكَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَيُحْيِي آخِرَهُ ، وَمَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ إلَّا عِنْدَ أَهْلِهِ قَائِمًا وَكَانَ يُوتِرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى انْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ ، وَمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ قَطُّ فِي لَيْلَةٍ ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إلَى الصُّبْحِ ، وَكَانَ إذَا فَاتَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَكَانَ يَقُولُ : { الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ } وَيَقُولُ : { أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا } وَقَالَ { صَلَاةُ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ } وَذَلِكَ أَفْضَلُ وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْجَمْعَ بَيْنَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي عَدَدِ صَلَاتِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَهِيَ كَانَتْ وَظِيفَتَهُ الدَّائِمَةَ ، وَكَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً .
وَكَانَ يُصَلِّي إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً .
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهَا الْوِتْرُ } وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ ضَعُفَ وَأَسَنَّ وَحَطَّمَهُ الْبَأْسُ ، أَوْ كَانَ لِأَلَمٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَى التَّبَتُّلِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّفَرُّدُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ " وَقَالَ غَيْرُهُ وَهُوَ الْأَقْوَى : هُوَ الْقَطْعُ ، يُقَالُ : بَتَلَ إذَا قَطَعَ ، وَتَبَتَّلَ إذَا كَانَ الْقَطْعُ فِي نَفْسِهِ ، فَلِذَلِكَ قَالُوا : إنَّ مَعْنَى الْآيَةِ انْفَرِدْ لِلَّهِ ، وَصَدَقَةٌ بَتْلَةٌ ، أَيْ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ .
وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ : { رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ لَاخْتَصَيْنَا } يَعْنِي الِانْقِطَاعَ عَنْ النِّسَاءِ ، وَفِي الْأَثَرِ : لَا رَهْبَانِيَّةَ وَلَا تَبَتُّلَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَمِنْهُ مَرْيَمُ الْعَذْرَاءُ الْبَتُولُ ، أَيْ الَّتِي انْقَطَعَتْ عَنْ الرِّجَالِ ، وَتُسَمَّى فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَتُولَ ، لِانْقِطَاعِهَا عَنْ نِسَاءِ زَمَانِهَا فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْحَسَبِ .
وَهَذَا قَوْلٌ أَحْدَثَتْهُ الشِّيعَةُ ، وَإِلَّا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ ، وَلَيْسَتْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ ، وَكِلْتَاهُمَا مِنْ الدِّينِ وَالْجَلَالِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى ، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى .
وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [ تَفْسِيرُ ] قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } حَالُ الدِّينِ فِي الْكَرَاهِيَةِ لِمَنْ تَبَتَّلَ فِيهِ ، وَانْقَطَعَ ، وَسَلَكَ سَبِيلَ الرَّهْبَانِيَّةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ ، وَأَمَّا الْيَوْمُ وَقَدْ مَرِجَتْ عُهُودُ النَّاسِ ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ ، وَاسْتَوْلَى الْحَرَامُ عَلَى الْحُطَامِ ، فَالْعُزْلَةُ خَيْرٌ مِنْ الْخُلْطَةِ ، وَالْعُزْبَةُ أَفْضَلُ مِنْ التَّأَهُّلِ ، وَلَكِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : انْقَطَعَ عَنْ

الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ ، وَعَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ : مَعْنَاهُ أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ ، وَلَمْ يُرِدْ [ انْقَطِعْ عَنْ النَّاسِ وَالنِّسَاءِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ لِأَجْلِ مَا رُوِيَ مِنْ { نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ] التَّبَتُّلِ } فَصَارَ التَّبَتُّلُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْقُرْآنِ ، مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي السُّنَّةِ ؛ وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ ؛ إذْ لَا يَتَنَاقَضَانِ ، وَإِنَّمَا بُعِثَ النَّبِيُّ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ، فَالتَّبَتُّلُ الْمَأْمُورُ بِهِ الِانْقِطَاعُ إلَى اللَّهِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ ، كَمَا قَالَ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَالتَّبَتُّلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ سُلُوكُ مَسْلَكِ النَّصَارَى فِي تَرْكِ النِّكَاحِ وَالتَّرَهُّبُ فِي الصَّوَامِعِ ، لَكِنْ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ يَكُونُ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ ، وَكُلُّ مَنْسُوخٍ لَا فَائِدَةَ لِمَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ ، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [ إلَّا ] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَرْءَ إذَا غُلِبَ بِالْبَاطِلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْكُفَّارِ حِينَ غَلَبُوهُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى مَا يَقُولُونَ فَمَعْلُومٌ .
وَأَمَّا الْهَجْرُ الْجَمِيلُ فَهُوَ الَّذِي لَا فُحْشَ فِيهِ .
وَقِيلَ : هُوَ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مُجَرَّدُ الْإِعْرَاضِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ رَبَّك يَعْلَمُ أَنَّك تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَك وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { إنَّ رَبَّك يَعْلَمُ أَنَّك تَقُومُ أَدْنَى } الْآيَةَ .
هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ : { قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } كَمَا قَدَّمْنَا .
{ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَك } : رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ : { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } قَامُوا حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، لَكِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بِآخِرِ السُّورَةِ ، وَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } ؛ يَعْنِي يُقَدِّرُهُ لِلْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْخِلْقَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَإِنَّمَا يَرْبِطُ اللَّهُ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ وَظَائِفِ التَّكْلِيفِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } يَعْنِي تُطِيقُوهُ .
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ ، وَيُكَلِّفَهُمْ فَوْقَ الطَّوْقِ ، فَقَدْ تَفَضَّلَ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ .
وَمَا لَا يُطَاقُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَلَّا يُطَاقَ جِنْسُهُ أَيْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْقُدْرَةَ لَمْ تُخْلَقْ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ جِنْسُهُ مَقْدُورًا ؛ كَتَكْلِيفِ الْقَائِمِ الْقُعُودَ أَوْ الْقَاعِدِ الْقِيَامَ ؛ وَهَذَا الضَّرْبُ قَدْ يُغَلَّبُ إذَا تَكَرَّرَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ ، فَإِنَّهُ يُغَلَّبُ بِالتَّكْرَارِ وَالْمَشَقَّةِ ، كَغَلَبَةِ خَمْسِينَ صَلَاةٍ لَوْ كَانَتْ مَفْرُوضَةً ، كَمَا أَنَّ الِاثْنَيْنِ وَالْعِشْرِينَ رَكْعَةً الْمُوَظَّفَةَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ تَغْلِبُ الْخَلْقَ ، فَلَا يَفْعَلُونَهَا ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا الْفُحُولُ فِي الشَّرِيعَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ؛ أَيْ رَجَعَ عَلَيْكُمْ بِالْفَرَاغِ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ تَكْلِيفِهَا لَكُمْ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آخِرَ السُّورَةِ هِيَ الَّتِي نَسَخَتْهَا ، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ ، كَمَا نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْقِرَاءَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالْقِرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِيهَا ، كَمَا قَالَ : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ أَخْبَرَ ، وَإِلَيْهَا رَجَعَ الْقَوْلُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } : بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ التَّخْفِيفِ بِأَنَّ الْخَلْقَ مِنْهُمْ الْمَرِيضُ ، وَمِنْهُمْ الْمُسَافِرُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ ، وَمِنْهُمْ الْغَازِي ، وَهَؤُلَاءِ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ ؛ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ الْكُلِّ لِأَجْلِ هَؤُلَاءِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقْصِدِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } : مَعْنَاهُ صَلُّوا مَا أَمْكَنَ ؛ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ .
وَلِهَذَا قَالَ قَوْمٌ : إنَّ فَرْضَ قِيَامِ اللَّيْلِ بَقِيَ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَغَيْرُهُ ، وَعَقَدَ بَابَ { : يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ } وَذَكَرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { يَعْقِدُ قَافِيَةَ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ .
فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ؛ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ ؛ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ } .
وَذَكَرَ حَدِيثَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّؤْيَا : قَالَ : أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ } ، وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ نَامَ اللَّيْلَ إلَى الصَّبَاحِ ؛ فَقَالَ : ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ .
} وَهَذِهِ كُلُّهَا أَحَادِيثُ مُقْتَضِيَةٌ حَمْلَ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَكْتُوبَةِ ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، لِاحْتِمَالِهِ لَهُ ، وَتَسْقُطُ الدَّعْوَى مِمَّنْ عَيَّنَهُ لِقِيَامِ اللَّيْلِ .
وَفِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ : { قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَبْدَ اللَّهِ ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ } .
وَلَوْ كَانَ فَرْضًا مَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَخْبَرَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ عَنْهُ ، بَلْ كَانَ يَذُمُّهُ غَايَةَ الذَّمِّ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا

رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَمَنَّيْت أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْت غُلَامًا عَزَبًا شَابًّا ، وَكُنْت أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْت فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي ، فَذَهَبَا بِي إلَى النَّارِ ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ ، وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتهمْ ، فَجَعَلْت أَقُولُ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ .
قَالَ : وَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ ، فَقَالَ لِي : لَمْ تُرَعْ ؛ فَقَصَصْتهَا عَلَى حَفْصَةَ ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ .
فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا } ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْقِيَامِ مَعْصِيَةً لَمَا قَالَ لَهُ الْمَلَكُ : لَمْ تُرَعْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ تَعَلَّقَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فَقَالَ قَوْمٌ : هِيَ آيَةٌ .
وَقَالَ قَوْمٌ : هِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ سُورَةٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاءَةِ هَاهُنَا الصَّلَاةُ ؛ وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا التَّقْدِيرُ ، وَيُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ ، وَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ .
وَقَالَ لَهُ : اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ، وَمَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِبَابِهِ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةُ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَيَّنَ هَذَا الْمُبْهَمَ بِقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } خَرَّجَهُ الشَّيْخَانِ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، فَقَدْ اعْتَضَدَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ .
جَوَابٌ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَصَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّخْفِيفَ عَنْ الرَّجُلِ ، فَقَالَ لَهُ : { اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } أَيْ مَا حَفِظْت .
وَقَدْ ظَنَّ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فَحْلُ الْحَنَفِيَّةِ الْأَهْدَرُ وَمُنَاضِلُهَا الْأَقْدَرُ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } مَعَ زِيَادَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ ، أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَمَهَّدَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَا تَكُونُ نَسْخًا ، وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ

الدَّبُوسِيُّ : الصَّلَاةُ تَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ ، فَأَرْكَانُهَا يَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ بِمِثْلِهِ ، فَنَأْمُرُهُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، لِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ بِتَرْكِهَا ، لِئَلَّا تَثْبُتَ الْأَرْكَانُ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْأَصْلُ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ دَعْوَى .
وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى ثُبُوتِ أَرْكَانِ الْبَيْعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَبِالْقِيَاسِ ؛ وَأَصْلُ الْبَيْعِ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ ، وَهَذَا بَعْضُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيُنْظَرْ مَا بَقِيَ مِنْ الْقَوْلِ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا [ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ : { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ]

سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ [ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى الْعَدْلُ فِي الصَّحِيحِ ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ : سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ، فَقَالَ : { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } .
قُلْت : إنَّهُمْ يَقُولُونَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبَّك الَّذِي خَلَقَ } .
فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ ، وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ ، فَقَالَ جَابِرٌ : لَا أُحَدِّثُك إلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { جَاوَرْت بِحِرَاءٍ ، فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي هَبَطْت فَنُودِيتُ ، فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، فَرَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت شَيْئًا ، فَأَتَيْت خَدِيجَةَ ، فَقُلْت : دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا .
قَالَ : فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا ، فَنَزَلَتْ : { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّك فَكَبِّرْ وَثِيَابَك فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ وَلِرَبِّك فَاصْبِرْ } } وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : إنَّهُ جَرَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُقْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَمْرٌ ، فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ مَغْمُومًا ، فَتَلَفَّفَ وَاضْطَجَعَ ، فَنَزَلَتْ : { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } .
وَهَذَا بَاطِلٌ .
وَقِيلَ : أَرَادَ يَا مَنْ تَدَثَّرَ بِالنُّبُوَّةِ .
وَهَذَا مَجَازٌ بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إلَّا بَعْدُ ، عَلَى أَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ ، وَلَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ثَانِي مَا نَزَلَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ مُلَاطَفَةٌ مِنْ الْكَرِيمِ إلَى الْحَبِيبِ ؛ نَادَاهُ بِحَالِهِ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِفَتِهِ .
وَمِثْلُهُ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قُمْ أَبَا تُرَابٍ } ، إذْ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِفَاطِمَةَ ، وَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَقَطَ رِدَاؤُهُ وَأَصَابَهُ تُرَابُهُ .

{ وَقَوْلُهُ لِحُذَيْفَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ : قُمْ يَا نَوْمَانُ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَرَبَّك فَكَبِّرْ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى التَّكْبِيرُ هُوَ التَّعْظِيمُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى ، وَمَعْنَاهُ ذِكْرُ اللَّهِ بِأَعْظَمَ صِفَاتِهِ بِالْقَلْبِ ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِاللِّسَانِ ، بِأَقْصَى غَايَاتِ الْمَدْحِ وَالْبَيَانِ ، وَالْخُضُوعُ [ لَهُ ] بِغَايَةِ الْعِبَادَةِ كَالسُّجُودِ لَهُ ذِلَّةً وَخُضُوعًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ تَكْبِيرَ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهُ مُرَادٌ بِهِ التَّكْبِيرُ وَالتَّقْدِيسُ ، وَالتَّنْزِيهِ بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ دُونَهُ ، وَلَا تَتَّخِذْ وَلِيًّا غَيْرَهُ ، وَلَا تَعْبُدْ وَلَا تَرَى لِغَيْرِهِ فِعْلًا إلَّا لَهُ ، وَلَا نِعْمَةً إلَّا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ صَلَاةً عِنْدَ نُزُولِهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ ابْتِدَاءَ التَّوْحِيدِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ : اُعْلُ هُبَلُ ، اُعْلُ هُبَلُ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُولُوا لَهُ : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ } وَقَدْ صَارَ هَذَا اللَّفْظُ بِعُرْفِ الشَّرْعِ فِي تَكْبِيرِ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا أَذَانًا وَصَلَاةً وَذِكْرًا ، بِقَوْلِهِ : " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَحُمِلَ عَلَيْهِ لَفْظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَارِدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي مَوَارِدِهَا ، مِنْهَا قَوْلُهُ : { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } وَالشَّرْعُ يَقْتَضِي بِعُرْفِهِ مَا يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ .
وَمِنْ مَوَارِدِهِ أَوْقَاتُ الْإِهْلَالِ بِالذَّبَائِحِ لِلَّهِ تَخْلِيصًا لَهُ مِنْ الشِّرْكِ ، وَإِعْلَانًا بِاسْمِهِ فِي النُّسُكِ ، وَإِفْرَادًا لِمَا شُرِعَ لِأَمْرِهِ بِالسَّفْكِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَثِيَابَك فَطَهِّرْ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَك فَطَهِّرْ ، وَالنَّفْسُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالثِّيَابِ [ كَمَا ] قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنَى خَلِيقَةٌ فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِك تَنْسُلِي الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثِّيَابُ الْمَلْبُوسَةُ ، فَتَكُونُ حَقِيقَةً ، وَيَكُونُ [ التَّأْوِيلُ ] الْأَوَّلُ مَجَازًا .
وَاَلَّذِي يَقُولُ : إنَّهَا الثِّيَابُ الْمَجَازِيَّةُ أَكْثَرُ .
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا يُعْجِبُنِي أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ إلَّا فِي الصَّلَاةِ وَالْمَسَاجِدِ ، لَا فِي الطَّرِيقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَثِيَابَك فَطَهِّرْ } يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّهُ كَنَّى بِالثِّيَابِ عَنْ الدِّينِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَثِيَابَك فَطَهِّرْ } أَيْ لَا تَلْبَسْهَا عَلَى غَدْرَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَكَثِيرًا مَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ أَبُو كَبْشَةَ : ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاعِرِ غُرَّانُ يَعْنِي بِطَهَارَةِ ثِيَابِهِمْ سَلَامَتَهُمْ مِنْ الدَّنَاءَاتِ ، وَيَعْنِي بِغُرَّةِ وُجُوهِهِمْ تَنْزِيهَهُمْ عَنْ الْحُرُمَاتِ ، أَوْ جَمَالَهُمْ فِي الْخِلْقَةِ ، أَوْ كِلَيْهِمَا .
وَقَدْ قَالَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ : فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْت وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِ الْمُرَادِ فِيهَا بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَإِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الثِّيَابِ الْمَعْلُومَةِ [ الظَّاهِرَةِ ] فَهِيَ تَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا تَقْصِيرُ الْأَذْيَالِ ، فَإِنَّهَا إذَا أُرْسِلَتْ تَدَنَّسَتْ ؛

وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِغُلَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقَدْ رَأَى ذَيْلَهُ مُسْتَرْخِيًا : يَا غُلَامُ ، ارْفَعْ إزَارَك ، فَإِنَّهُ أَتْقَى وَأَنْقَى وَأَبْقَى .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ ، وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ } ؛ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَايَةَ فِي لِبَاسِ الْإِزَارِ الْكَعْبَ ، وَتَوَعَّدَ مَا تَحْتَهُ بِالنَّارِ ؛ فَمَا بَالُ رِجَالٍ يُرْسِلُونَ أَذْيَالَهُمْ ، وَيُطِيلُونَ ثِيَابَهُمْ ، ثُمَّ يَتَكَلَّفُونَ رَفْعَهَا بِأَيْدِيهِمْ .
وَهَذِهِ حَالَةُ الْكِبْرِ وَقَائِدَةُ الْعُجْبِ ، وَأَشَدُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّهُمْ يَعْصِمُونَ وَيَحْتَجُّونَ ، وَيُلْحِقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ مَعَهُ غَيْرَهُ ، وَلَا أَلْحَقَ بِهِ سِوَاهُ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ لِمَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ } .
وَلَفْظُ الصَّحِيحِ : { مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إزَارِي يَسْتَرْخِي ، إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَسْت مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ } .
فَعَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ بِالنَّهْيِ ] ، وَاسْتَثْنَى أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، فَأَرَادَ الْأَدْنِيَاءُ إلْحَاقَ أَنْفُسِهِمْ بالأَقْصِياءِ ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ .
وَالْمَعْنَى الثَّانِي : غَسْلُهَا مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْهَا صَحِيحٌ فِيهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحِ الدَّلَائِلِ ، وَلَا نُطَوِّلُ بِإِعَادَتِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ مَعْنَاهُ وَأَهْلَك فَطَهِّرْ ؛ وَهَذَا جَائِزٌ ، فَإِنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْ الْأَهْلِ بِالثِّيَابِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ }

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا سِتَّةَ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ لَا تُعْطِ عَطِيَّةً فَتَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْهَا ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّانِي : لَا تُعْطِ الْأَغْنِيَاءَ عَطِيَّةً لِتُصِيبَ مِنْهُمْ أَضْعَافَهَا .
الثَّالِثُ : لَا تُعْطِ عَطِيَّةً تَنْتَظِرُ ثَوَابَهَا .
الرَّابِعُ : وَلَا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ تَأْخُذُ أَجْرًا مِنْهُمْ عَلَيْهَا .
الْخَامِسُ : لَا تَمْنُنْ بِعَمَلِك [ تَسْتَكْثِرُهُ ] عَلَى رَبِّك ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ السَّادِسُ لَا تَضْعُفْ عَنْ الْخَيْرِ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ يَتَقَارَبُ بَعْضُهَا ، وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ ؛ فَأَمَّا قَوْلُهُ : " لَا تُعْطِ عَطِيَّةً فَتَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْهَا " فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَا يُنَاسِبُ مَرْتَبَتَهُ .
وَقَدْ قَالَ : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } عَلَى مَا بَيَّنَّا مَعْنَاهُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا } .
وَفِي الصَّحِيحِ فِي الْحَدِيثِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْت } .
وَلَفْظُهُ مُخْتَلِفٌ فَكَانَ يَقْبَلُهَا سُنَّةً ، وَلَا يَسْتَكْثِرُهَا شِرْعَةً ؛ وَإِذَا كَانَ لَا يُعْطِي عَطِيَّةً يَسْتَكْثِرُ بِهَا فَالْأَغْنِيَاءُ أَوْلَى بِالِاجْتِنَابِ ، لِأَنَّهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْمَذَلَّةِ ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ لَا تُعْطِ عَطِيَّةً تَنْتَظِرُ ثَوَابَهَا ؛ فَإِنَّ الِانْتِظَارَ تَعَلَّقَ بِالْإِطْمَاعِ ؛ وَذَلِكَ فِي حَيِّزِهِ بِحُكْمِ الِامْتِنَاعِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ

وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } .
وَذَلِكَ جَائِزٌ لِسَائِرِ الْخَلْقِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَطَلَبِ الْكَسْبِ فِيهَا وَالتَّكَاثُرِ مِنْهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِهِ الْعَمَلَ ، أَيْ لَا تَسْتَكْثِرْ بِهِ عَلَى رَبِّك فَهُوَ صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ عُمْرَهُ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ لَمَا بَلَغَ لِنِعَمِ اللَّهِ بَعْضَ الشُّكْرِ .
وَهَذَا كُلُّهُ بُنِيَ عَلَى أَصْلٍ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { تَسْتَكْثِرْ } قَدْ وَرَدَتْ الْقِرَاءَاتُ بِالرِّوَايَاتِ فِيهِ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ .
وَرُوِيَ بِضَمِّ الرَّاءِ ، فَإِذَا أَسْكَنْت الرَّاءَ كَانَتْ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالتَّقَلُّلِ ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ .
وَإِنْ ضَمَمْت الرَّاءَ كَانَ الْفِعْلُ بِتَقْدِيرِ الِاسْمِ ، وَكَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ .
وَالتَّقْدِيرُ : وَلَا تَمْنُنْ مُسْتَكْثِرًا ، وَكَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَهُوَ الْقَوْلُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنِّ ؛ وَهُوَ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْعَطَاءُ .
وَالثَّانِي التَّعْدَادُ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالنِّعَمِ ، فَيَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } وَقَوْلُهُ : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } وَيُعَضِّدُ الثَّانِيَ قَوْلُهُ : { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وَقَوْلُهُ : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيْنَا مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ } .
وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ الْمَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِمَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْقِيَامَةِ فِيهَا أَرْبَع آيَات الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } : فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَلَى وَجْهٍ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا } .
وَهُوَ فِي الْآثَارِ كَثِيرٌ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ؛ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَصِحُّ إقْرَارٌ إلَّا مِنْ مُكَلَّفٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ يُسْقِطُ قَوْلَهُ إذَا كَانَ لِحَقِّ نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِحَقِّ غَيْرِهِ كَالْمَرِيضِ كَانَ مِنْهُ سَاقِطٌ وَمِنْهُ جَائِزٌ ، وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَلِلْعَبْدِ حَالَتَانِ فِي الْإِقْرَارِ إحْدَاهُمَا فِي ابْتِدَائِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَالثَّانِيَةُ فِي انْتِهَائِهِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ إبْهَامِ الْإِقْرَارِ وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ .
وَأُمَّهَاتُهَا سِتٌّ : الصُّورَةُ الْأُولَى أَنْ يَقُولَ لَهُ : عِنْدِي شَيْءٌ ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْ فَسَّرَهُ بِتَمْرَةٍ أَوْ كِسْرَةٍ قُبِلَ مِنْهُ .
وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا فِيمَا لَهُ قَدْرٌ ، فَإِذَا فَسَّرَهُ

بِهِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَحَلَفَ عَلَيْهِ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، وَمَا لَا يَكُونُ مَالًا فِي الشَّرِيعَةِ ، لَمْ يُقْبَلْ بِاتِّفَاقٍ ، وَلَوْ سَاعَدَهُ عَلَيْهِ الْمُقَرُّ لَهُ .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ ، مِثْلُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ ، أَوْ سِرْجِينٍ ، أَوْ كَلْبٍ ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ رَدٍّ وَإِمْضَاءٍ ، فَإِنْ رَدَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ حَاكِمٌ آخَرُ غَيْرُهُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ بِإِبْطَالِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَلْزَمُ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قَالَ لَهُ : عَلَيَّ شَيْءٌ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ إلَّا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ إلَّا هُمَا .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ، فَإِنَّ غَيْرَهُمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ؛ إذْ وَجَبَ ذَلِكَ إجْمَاعًا .
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قَالَ لَهُ : " عِنْدِي مَالٌ " قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِمَا يَكُونُ مَالًا فِي الْعَادَةِ ، كَالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ ، مَا لَمْ يَجِئْ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ مَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ .
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : عِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ أَوْ عَظِيمٌ .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْبَلُ فِي الْحَبَّةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْبَلُ إلَّا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً ، مِنْهَا نِصَابُ السَّرِقَةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالدِّيَةِ .
وَأَقَلُّهُ عِنْدِي نِصَابُ السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَانُ عُضْوُ الْمُسْلِمِ إلَّا فِي عَظِيمٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ .
وَمَنْ تَعَجَّبَ فَيَتَعَجَّبُ لِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ : إنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ، وَقِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ تَقُولُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } .
وَغَزَوَاتُهُ وَسَرَايَاهُ كَانَتْ ثِنْتَيْنِ

وَسَبْعِينَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ حُنَيْنًا مِنْهَا ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ : يُقْبَلُ فِي وَاحِدٍ وَسَبْعِينَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اُذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } وَقَالَ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } وَقَالَ : { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } .
الصُّورَةُ السَّادِسَةُ إذَا قَالَ لَهُ : عَلَى عَشْرَةٍ أَوْ مِائَةٍ أَوْ أَلْفٍ ، فَإِنَّهُ يُفَسِّرُهَا بِمَا شَاءَ وَيُقْبَلُ مِنْهُ ، فَإِنْ قَالَ : أَلْفُ دِرْهَمٍ ، أَوْ مِائَةُ عَبْدٍ ، أَوْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ تَفْسِيرُ مُبْهَمٍ ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ عَطَفَ عَلَى الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا كَانَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ تَفْسِيرٌ لِلْخَمْسِينَ ، وَالْخَمْسِينَ تَفْسِيرٌ لِلْمِائَةِ .
وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا فِي الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ إلَّا لِلْخَمْسِينَ خَاصَّةً ، وَيُفَسِّرُ هُوَ الْمِائَةَ بِمَا شَاءَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ تَحْقِيقَ ذَلِكَ ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، وَهَذِهِ أُصُولُهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } : مَعْنَاهُ لَوْ اعْتَذَرَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا أَقَرَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ ؛ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ .
وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ لِرُجُوعِهِ وَجْهًا صَحِيحًا وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا ؛ لِمَا رَوَى الْأَئِمَّةُ ، مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الْمُقِرَّ بِالزِّنَا مِرَارًا أَرْبَعًا ، كُلَّ مَرَّةٍ يُعْرِضُ عَنْهُ .
وَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبِك جُنُونٌ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : أَحْصَنْت ؟ قَالَ : نَعَمْ } .
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ : { لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت } .
وَفِي النَّسَائِيّ ، وَأَبِي دَاوُد : { حَتَّى قَالَ لَهُ فِي الْخَامِسَةِ : أَنِكْتَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْك فِي ذَلِكَ مِنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
ثُمَّ قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا ؟ قَالَ ، أَتَيْت مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا .
قَالَ : فَمَا تُرِيدُ مِنِّي بِهَذَا الْقَوْلِ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي ؟ قَالَ : فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد : { فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ فَرَّ يَشْتَدُّ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ ، وَضَرَبَهُ النَّاسُ حَتَّى مَاتَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ } قَالَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : تَثَبَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا لِتَرْكِ حَدٍّ فَلَا ، وَهَذَا كُلُّهُ طَرِيقٌ لِلرُّجُوعِ ، وَتَصْرِيحٌ بِقَبُولِهِ .
وَفِي قَوْلِهِ : لَعَلَّك غَمَزْت

، إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ مَالِكٍ : إنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ إذَا ذَكَرَ فِيهَا وَجْهًا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } أَيْ سُتُورَهُ ، بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، وَاحِدُهَا مِعْذَارٌ ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ : وَاحِدُهَا مَعْذِرَةٌ .
الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا اعْتَذَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنْكَرَ الشِّرْكَ ، لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَيُخْتَمُ عَلَى فَمِهِ ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ ، وَيُقَالُ لَهُ : كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْمَ عَلَيْك حَسِيبًا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَهَذَا فِي الْحُرِّ الْمَالِكِ لِأَمْرِ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِنَّ إقْرَارَهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقِرَّ عَلَى بَدَنِهِ ، أَوْ عَلَى مَا فِي يَدِهِ وَذِمَّتِهِ ؛ فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى بَدَنِهِ فِيمَا فِيهِ عُقُوبَةٌ مِنْ الْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ نَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ ، لِأَنَّ بَدَنَهُ مُسْتَرَقٌّ بِحَقِّ السَّيِّدِ .
وَفِي إقْرَارِهِ إتْلَافُ حُقُوقِ السَّيِّدِ فِي بَدَنِهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ } .
الْمَعْنَى أَنَّ مَحِلَّ الْعُقُوبَةِ أَصْلُ الْخِلْقَةِ وَهِيَ الدُّمْيَةُ فِي الْآدَمِيَّةِ ، وَلَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ فِيهَا ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْوَصْفِ وَالتَّبَعِ ، وَهِيَ الْمَالِيَّةُ الطَّارِئَةُ عَلَيْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يُقْبَلْ ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهُ لَوْ قَالَ : سَرَقْت هَذِهِ السِّلْعَةَ إنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَيَأْخُذُهَا الْمُقَرُّ لَهُ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : السِّلْعَةُ لِلسَّيِّدِ ، وَيُتْبَعُ الْعَبْدُ بِقِيمَتِهَا إذَا عَتَقَ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ إجْمَاعًا ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَلَا إقْرَارُهُ عَلَيْهِ ، لَا سِيَّمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ الْعَبْدَ لَا مِلْكَ لَهُ وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ بِإِجْمَاعٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : { بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } ؛ أَيْ عَلَيْهِ مَنْ يُبْصِرُ أَعْمَالَهُ ، وَيُحْصِيهَا ، وَهُمْ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا مَقَاصِدُ مُحْتَمِلَةٌ لِلَّفْظِ ، أَقْوَاهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَك لِتَعْجَلَ بِهِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَك لِتَعْجَلَ بِهِ } قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا .
وَقَالَ سَعِيدٌ : أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا ، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَك لِتَعْجَلَ بِهِ إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قَالَ : جَمْعُهُ لَك فِي صَدْرِك وَتَقْرَؤُهُ .
{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } .
قَالَ : فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ .
{ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ .
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَقْرَأَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذَا يُعَضِّدُ مَا تَقَدَّمَ : فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ مِنْ قَوْلِهِ { وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ .
وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَلَقِّنَ مِنْ حُكْمِهِ الْأَوْكَدِ أَنْ يُصْغِيَ إلَى الْمُلَقِّنِ بِقَلْبِهِ ، وَلَا يَسْتَعِينُ بِلِسَانِهِ ، فَيَشْتَرِك الْفَهْمُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ، فَيَذْهَبُ رُوحُ التَّحْصِيلِ بَيْنَهُمَا ، وَيَخْزِلُ اللِّسَانَ بِتَجَرُّدِ الْقَلْبِ لِلْفَهْمِ ؛ فَيَتَيَسَّرُ التَّحْصِيلُ ؛ وَتَحْرِيكُ اللِّسَانِ يُجَرِّدُ الْقَلْبَ عَنْ الْفَهْمِ ، فَيَتَعَسَّرُ التَّحْصِيلُ بِعَادَةِ اللَّهِ الَّتِي يَسَّرَهَا ؛ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عَادَةً فَيَتَحَقَّقُ لِذِي مُشَاهَدَةٍ .
قَالَ الْإِمَامُ : كُنْت أَحْضُرُ عِنْدَ الْحَاسِبِ بِتِلْكَ

الدِّيَارِ الْمُكَرَّمَةِ ، وَهُوَ يَجْعَلُ الْأَعْدَادَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ الْحَاسِبِينَ ، وَأَفْوَاهُهُمْ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الْمَاءِ ، حَتَّى إذَا انْتَهَى إلْقَاؤُهُ ، وَقَالَ : مَا مَعَكُمْ رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا فِي فَمِهِ ، وَقَالَ مَا مَعَهُ لِيُعَوِّدَهُمْ خَزْلَ اللِّسَانِ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَفْهُومِ عَنْ الْمَسْمُوعِ .
وَلِلْقَوْلِ فِي التَّعَلُّمِ سِيرَةٌ بَدِيعَةٌ ؛ وَهِيَ أَنَّ الصَّغِيرَ مِنْهُمْ إذَا عَقَلَ بَعَثُوهُ إلَى الْمَكْتَبِ ، فَإِذَا عَبَرَ الْمَكْتَبَ أَخَذَهُ بِتَعْلِيمِ الْخَطِّ وَالْحِسَابِ وَالْعَرَبِيَّةِ ، فَإِذَا حَذَقَهُ كُلَّهُ أَوْ حَذَقَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ خَرَجَ إلَى الْمُقْرِئِ فَلَقَّنَهُ كِتَابَ اللَّهِ ، فَحَفِظَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ رُبْعَ حِزْبٍ ، أَوْ نِصْفَهُ ، أَوْ حِزْبًا ، حَتَّى إذَا حَفِظَ الْقُرْآنَ خَرَجَ إلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ أَوْ تَرْكِهِ .
وَمِنْهُمْ وَهُمْ الْأَكْثَرُ مَنْ يُؤَخِّرُ حِفْظَ الْقُرْآنِ ، وَيَتَعَلَّمُ الْفِقْهَ وَالْحَدِيثَ ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ فَرُبَّمَا كَانَ إمَامًا ، وَهُوَ لَا يَحْفَظُهُ ، وَمَا رَأَيْت بِعَيْنِي إمَامًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ، وَلَا رَأَيْت فَقِيهًا يَحْفَظُهُ إلَّا اثْنَيْنِ ، ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ حُدُودُهُ لَا حُرُوفُهُ ؛ وَعُلِّقَتْ الْقُلُوبُ الْيَوْمَ بِالْحُرُوفِ ، وَضَيَّعُوا الْحُدُودَ ، خِلَافًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ إنْفَاذٌ لِقَدَرِ اللَّهِ ، وَتَحْقِيقٌ لِوَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْيِينٌ لِنُبُوَّتِهِ ، وَعَضُدٌ لِمُعْجِزَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ تَيْسِيرًا لِلتَّبْلِيغِ ، وَيَجْمَعُهُ فِي قَلْبِ غَيْرِهِ ؛ تَيْسِيرًا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شِفَاءً لِمَا يَعْرِضُ فِي الصُّدُورِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمًى فِي الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِهِ رَيْنٌ ، فَيَبْقَى تَالِيًا ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ ثَانِيًا ، وَهُوَ أَخَفُّهُ حَالًا وَأَسْلَمُهُ مَآلًا ، وَقَدْ

حَقَّقَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَعْدَهُ بِقَوْلِهِ : { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى } ؛ وَهُوَ خَبَرٌ ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ لِثُبُوتِ الْيَاءِ فِي الْخَطِّ إجْمَاعًا ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي بَعْدَ هَذَا تَأْوِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ مَرَّةً فِي كُلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ ، حَتَّى كَانَ الْعَامُ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ عَارَضَهُ مَرَّتَيْنِ ؛ فَفَطِنَ لِتَأْكِيدِ الْحِفْظِ وَالْجَمْعِ عِنْدَهُ ، وَقَالَ : مَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي } إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثِهِ إلَى الْخَلْقِ تَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ وَتَمْهِيدُ الشَّرْعِ ، ثُمَّ يَسْتَأْثِرُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْخَلْقِ ، وَيَظْهَرُهُ بِرَفْعِهِ إلَيْهِ عَنْهُمْ ، وَيَنْفُذُ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِيهِمْ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ انْتَهَى النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْمٍ مِنْ الرُّفَعَاءِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ إلَى أَنْ يَقُولُوا فِي قَوْلِهِ { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أَيْ تَفْصِيلَ أَحْكَامِهِ ، وَتَمْيِيزَ حَلَالِهِ مِنْ حَرَامِهِ ، حَتَّى قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ : إنَّ مِنْهُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ مَسَاقُ الْآيَةِ فَلَا يَنْفِيهِ عُمُومُهَا ، وَنَحْنُ لَا نَرَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ وَلَا بِالْأَوْلَى مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ ، وَلَا بِالْمَسَاقِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى } : فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَكُونُ الْوَلَدُ مِنْ أَحْوَالِ التَّخْلِيقِ وَلَدًا : مِنْ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ بِظَاهِرِهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْعَلَقَةِ [ وَتَكُونُ ] خَلْقًا مُسَوًّى ، فَتَكُونُ بِهِ الْمَرْأَةُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَيَكُونُ الْمَوْضُوعُ سِقْطًا ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ كَمَا سَبَقَ ، وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ أَوَّلُهَا ابْتِدَاءُ الْخِلْقَةِ ، وَآخِرُهَا اسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ ، وَالْكُلُّ مُرَادٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } : وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذَا مَنْ رَأَى إسْقَاطَ الْخُنْثَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الشُّورَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَرِينَتَهَا إنَّمَا خَرَجَتَا مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ هُنَا لَك ، فَلْيَجْتَزِئْ بِهِ اللَّبِيبُ فَإِنَّهُ وَفَّى بِالْمَقْصُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

سُورَةُ الدَّهْرِ [ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْحِينِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ ، فَلْيُنْظَرْ فِي سُورَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } .
بِمَعْنَى أَخْلَاطٍ .
مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ ، فَيَجْمَعُهُمَا الْمَلَكُ بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَتَنْقُلُهُمَا الْقُدْرَةُ مِنْ تَطْوِيرٍ إلَى تَطْوِيرٍ ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مَا دَبَّرَهُ مِنْ التَّقْدِيرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } : فِيهِ أَقْوَالٌ ، لُبَابُهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا يُوفُونَ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ .
الثَّانِي : يُوفُونَ [ بِمَا اعْتَقَدُوهُ وَ ] بِمَا عَقَدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَا ثَنَاءَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا كَمَا أَنَّهُ لَا فِعْلَ أَفْضَلُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْزَمَ عَبْدَهُ وَظَائِفَ ، وَرُبَّمَا جَهِلَ الْعَبْدُ عَجْزَهُ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَيَنْذُرُ عَلَى نَفْسِهِ نَذْرًا ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ أَيْضًا ، فَإِذَا قَامَ بِحَقِّ الْأَمْرَيْنِ ؛ وَخَرَجَ عَنْ وَاجِبِ النَّذْرَيْنِ كَانَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مَا وَصَفَ اللَّهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ .
وَعَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ حَمَلَهُ مَالِكٌ ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ قَالَ : " يُوفُونَ بِالنَّذْرِ " هُوَ نَذْرُ الْعِتْقِ ، وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ .
وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : قَالَ مَالِكٌ : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قَالَ : النَّذْرُ هُوَ الْيَمِينُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ النَّذْرُ مَكْرُوهٌ بِالْجُمْلَةِ ؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَأْتِي النَّذْرُ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَّرْته لَهُ ؛ إنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } وَذَلِكَ لِفِقْهٍ صَحِيحٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَعَدَ بِالرِّزْقِ عَلَى الْعَمَلِ ؛ وَمِنْهُ مَفْرُوضٌ ، وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ ، فَإِذَا عَيَّنَ الْعَبْدُ لِيَسْتَدِرَّ بِهِ الرِّزْقَ ، أَوْ يَسْتَجْلِبَ بِهِ الْخَيْرَ ، أَوْ يَسْتَدْفِعَ بِهِ الشَّرَّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ بِهِ ، فَإِنْ وَصَلَ فَهُوَ لِبُخْلِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } : فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ } تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُوَاسَاةِ ؛ وَمِنْ أَفْضَلِ الْمُوَاسَاةِ وَضْعُهَا فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتُقْرِئُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ } وَهَذَا فِي الْفَضْلِ لَا فِي الْفَرْضِ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { عَلَى حُبِّهِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { مِسْكِينًا } .
الْمِسْكِينُ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَهَذَا مِثَالُهُ مَا رُوِيَ فِي شَأْنِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ ، عِنْدَ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } فَهَذَا هُوَ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { وَيَتِيمًا } .
وَإِنَّمَا أَكَّدَ بِالْيَتِيمِ ؛ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ مَضْعُوفٌ بِالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ الْكَافِلِ مَعَ عَجْزِ الصِّغَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَسِيرًا } .
وَفِي إطْعَامِهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ .
وَقَدْ تَعَيَّنَ بِالْعَهْدِ إطْعَامُهُ ، وَلَكِنْ مِنْ الْفَضْلِ فِي الصَّدَقَةِ ، لَا مِنْ الْأَصْلِ فِي الزَّكَاةِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْجُونُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدْ حَبَسَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ وَأَسَرَهُ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ صَارَ لَهُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ حَقٌّ زَائِدٌ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْعِ [ عَنْ التَّمَحُّلِ فِي ] الْمَعَاشِ أَوْ التَّصَرُّفِ فِي الطَّلَبِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا خَلَصَتْ فِيهِ النِّيَّةُ لِلَّهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ دُونَ تَوَقُّعِ مُكَافَأَةٍ ، أَوْ شُكْرٍ مِنْ الْمُعْطِي ، فَإِذَا لَمْ يُشْكَرْ فَسَخِطَ الْمُعْطِي

يَحْبَطُ ثَوَابُهُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك بُكْرَةً وَأَصِيلًا } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ الْبُكْرَةُ وَقْتٌ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهَارِ ، وَهُوَ أَوَّلُهُ ، وَمِنْهُ بَاكُورَةُ الْفَاكِهَةِ .
وَالْأَصِيلُ : هُوَ الْعَشِيُّ .
وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا وَقَرَأَ { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } } .
وَقَدْ قَسَّمَ أَرْبَابُ اللُّغَةِ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَسَاعَاتِ النَّهَارِ عَلَى تَفَاصِيلَ وَأَسْمَاءٍ عُرْفِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ ، وَمُؤَلِّفُوهَا مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْغُدُوَّ وَالْعَشِيَّ وَالظَّهِيرَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ ذَلِكَ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ .
وَالضُّحَى يَلْحَقُ بِهِ وَالْإِشْرَاقُ مِثْلُهُ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَاهُ وَكَبِّرْ ، فَكَانَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا بَعْدَ الصُّبْحِ وَثَلَاثًا بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَلَا يَصِحُّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا } هَذِهِ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَرْضِ ؛ وَهُوَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ ، فَإِنَّهُمَا وَقْتَانِ مِنْ أَوْقَاتِ الْمُصَلَّى ، وَصَلَاتُهُمَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا } فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ بِهِ عَلَيْهِ مُفْرَدًا ، وَالْوُجُوبُ يَلْزَمُ لَهُ خَاصَّةً .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمِيعُ ، ثُمَّ نُسِخَ عَنَّا ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك } كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

سُورَة الْمُرْسَلَاتِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] وَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الْأَرْضِ .
وَرَوَى الصَّحِيحَانِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ ، فَنَزَلَتْ : { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً إذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ جُحْرِهَا ، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا ، فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا .
} الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْكِفَاتُ : الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، وَهُوَ مَصْدَرٌ ، يُقَالُ : كَفَتَهُ يَكْفِتُهُ كَفْتًا وَكِفَاتًا مِثْلُ كَتَبَ يَكْتُبُ كَتْبًا وَكِتَابًا ، أَيْ يَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ، وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمَمْته فَقَدْ كَفَتَّهُ ، فَإِذَا حَلَّ الْعَبْدُ فِي مَوْضِعِهِ فَهُوَ كِفَاتُهُ ، وَهُوَ مَنْزِلُهُ ، وَهُوَ دَارُهُ ، وَهُوَ حِرْزُهُ ، وَهُوَ حَرِيمُهُ ، وَهُوَ حِمَاهُ ، كَانَ يَقْظَانَ أَوْ نَائِمًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ { صَفْوَانَ قَالَ : كُنْت نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى خَمِيصَةٍ لِي بِثَمَنِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ؛ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي ، فَأَخَذَ الرَّجُلَ ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ قَالَ : فَقُلْت لَهُ : أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، أَنَا أَبِيعُهُ إيَّاهَا ، وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا .
قَالَ : هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ، فَكَانَتْ نَفْسُهُ حِيَازَةَ مَوْضِعِهِ وَحِرْزِهِ وَحَرِيمِهِ وَمَنَعَتِهِ وَحِصْنِهِ .
}

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } يَقْتَضِي أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كُلِّهَا مِنْ شَعْرٍ ، وَظُفْرٍ ، وَثِيَابٍ ، وَمَا يُوَارِيهِ عَلَى التَّمَامِ ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ وَمَا بَانَ عَنْهُ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ الْمَسَائِلِ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَكْفُوتٍ ، وَحِمًى مَضْمُومٍ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَرَّرْنَا أَنْ يُنْظَرَ فِي دُخُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ نَقُولَ : هَذَا حِرْزٌ كِفَاتٌ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } فَجَعَلَ حَالَ الْمَرْءِ فِيهَا بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي كَفْتِهَا لَهُ وَضَمِّهَا لِحَالِهِ كَحَالَةِ الْحَيَاةِ وَمَا تَحْفَظُهُ وَتَحْرُزُ حَيًّا ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا فَهَذَا أَصْلٌ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ ، فَإِنَّ السَّارِقَ فِيهَا هُوَ آخِذُ الْمَالِ عَلَى طَرِيقِ الْخِفْيَةِ وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ ، وَهَذَا فِعْلُهُ فِي الْقَبْرِ كَفِعْلِهِ فِي الدَّارِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الَّذِي سُرِقَ مَالٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ ، وَقُلْنَا نَحْنُ : هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ فِي مَنْفَعَةِ الْمَالِكِ ، كَالْمَلْبُوسِ فِي الْحَيَاةِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمَالِكٍ ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ مَالِكٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ ، تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ ، وَتَنْفُذُ فِيهِ وَصَايَاهُ .
وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَفَنِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ وَمُحْتَاجٌ إلَيْهِ ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى ثَبَتَ

الْقَطْعُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : فِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أُصُولُ الشَّجَرَةِ الثَّانِي الْجَبَلُ الثَّالِثُ الْقَصْرُ مِنْ الْبِنَاءِ الرَّابِعُ خَشَبٌ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ الْخَامِسُ أَعْنَاقُ الدَّوَابِّ السَّادِسُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا الْقَصَرُ ، وَفَسَّرَهَا بِأَعْنَاقِ الْإِبِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا ( ق ص ر ) فَهُوَ بِنَاءٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مُخْتَلِفَاتٍ كَثِيرَةٍ ، يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا انْطِلَاقًا وَاحِدًا .
وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ فِي ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } قَالَ : كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصَرٍ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ أَوْ أَقَلَّ ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ ، فَنُسَمِّيهَا الْقَصَرَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَمَّا ادِّخَارُ الْقُوتِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ أَمَّا ادِّخَارُ الْحَطَبِ وَالْفَحْمِ فَمُسْتَفَادٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُوتِ فَإِنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمَرْءِ ، وَمَغَانِي مَفَاقِرِهِ ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي النَّظَرَ أَنْ يَكْتَسِبَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ حَاجَتِهِ ، لِيَكُونَ أَرْخَصَ ، وَحَالَةُ وُجُودِهِ أَمْكَنَ ، كَمَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَّخِرُ الْقُوتَ فِي وَقْتِ عُمُومِ وُجُودِهِ مِنْ كَسْبِهِ وَمَالِهِ } ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبَهُ فِي وَقْتِ رُخْصِهِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا يَبْتَاعُ لَهُ فَحْمًا فَابْتَاعَهُ لَهُ فِي الصَّيْفِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ .
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَبْتَاعُ فِيهِ لِيَدَّخِرَهُ الْعَبْدُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِحَالٍ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُقْتَضَى بِالِاسْتِدْلَالِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الرُّكُوعُ مَعْلُومٌ لُغَةً ، مَعْلُومٌ شَرْعًا حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ كَرَاهِيَةَ التَّطْوِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الرُّكُوعِ وَإِنْزَالِهِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ ، وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ ، فَيَتَوَجَّهُ فِيهَا أَمْرٌ يَكُونُ عَلَيْهِ وَيْلٌ وَعِقَابٌ ، وَإِنَّمَا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ كَشْفًا لِحَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا ، فَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ ، وَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ رِئَاءً لِغَيْرِهِ صَارَ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : { بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ : { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } } الْحَدِيثَ إلَخْ فَمِنْ الْفَوَائِدِ الْعَارِضَةِ هَاهُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي مَحَلِّ نُزُولِهِ وَوَقْفِهِ عَشْرَةُ أَقْسَامٍ : سَمَاوِيٌّ ، وَأَرْضِيٌّ ، وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَحَضَرِيٌّ ، وَسَفَرِيٌّ ، وَمَكِّيٌّ ، وَمَدَنِيٌّ ، وَلَيْلِيٌّ ، وَنَهَارِيٌّ ، وَمَا نَزَلَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ : { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ ، لَقَدْ أَذْكَرْتنِي بِقِرَاءَتِك هَذِهِ السُّورَةَ ، إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ ، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَرَأَ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ ، فِي طَرِيقٍ أُخْرَى .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ .

سُورَة النَّبَأِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ بِأَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ غَيْبًا يُغَطِّي بِسَوَادِهِ كَمَا يُغَطِّي الثَّوْبُ لَابِسَهُ ، وَيَسْتُرُ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا يَسْتُرُهُ الْحِجَابُ .
قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ؛ فَظَنَّ بَعْضُ الْغَافِلِينَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى عُرْيَانًا لَيْلًا فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ الظَّلَامَ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ قَائِلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ إسْلَامِيٌّ لَا يَخْتَصُّ وُجُوبُهُ بِالصَّلَاةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ ، وَكِلَاهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِلصَّلَاةِ فِي الظُّلْمَةِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ ، إثْبَاتًا بِإِثْبَاتٍ ، وَنَفْيًا بِنَفْيٍ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ يَجِبُ فِي النُّورِ وَيَسْقُطُ فِي الظُّلْمَةِ اجْتِزَاءً بِسَتْرِهَا عَنْ سَتْرِ ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ الْمُصَلِّي فَلَا وَجْهَ لِهَذَا بِحَالٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } : امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِإِنْزَالِهِ الْمَاءَ الْمُبَارَكَ مِنْ السَّمَاءِ ، وَبِإِخْرَاجِهِ الْحَبَّ وَالنَّبَاتَ وَلَفِيفَ الْجَنَّاتِ وَكُلُّ مَا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ النِّعَمِ ؛ فَفِيهِ حَقُّ الصَّدَقَةِ بِالشُّكْرِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ شُكْرَ نِعْمَةِ الْمَالِ ، كَمَا جَعَلَ الصَّلَاةَ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا ، وَحَقَّقْنَا تَفْصِيلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَمَحِلَّهَا وَمِقْدَارَهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ لِظُهُورِهِ وَشُمُولِهِ فِي الْبَيَانِ بِمَوْضِعَيْنِ

سُورَة عَبَسَ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ : { نَزَلَتْ { عَبَسَ وَتَوَلَّى } فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ؛ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّهُ ، وَعِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ ، وَيَقُولُ : يَا فُلَانُ ، هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا ، فَيَقُولُ : لَا ، مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } .
قَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ عُلَمَائِنَا : اسْمُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَمْرٌو ، وَيُقَالُ عَبْدُ اللَّهِ ، وَالرَّجُلُ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَيُكَنَّى أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدًا قَالَ : أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : هَذَا مَا عَرَضْنَا عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : نَزَلَتْ { عَبَسَ وَتَوَلَّى } فَذَكَرَ مِثْلَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } .
وَمَعْنَاهُ نَحْوُهُ حَيْثُمَا وَقَعَ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَصَدَ تَأَلُّفَ الرَّجُلِ الطَّارِئِ ثِقَةً بِمَا كَانَ فِي قَلْبِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مِنْ الْإِيمَانِ ، كَمَا قَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ } .
وَأَمَّا قَوْلُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ وَجَهْلٌ مِنْ

الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا الدِّينَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّةَ وَالْوَلِيدَ كَانَا بِمَكَّةَ ، وَابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ، مَا حَضَرَ مَعَهُمَا وَلَا حَضَرَا مَعَهُ ، وَكَانَ مَوْتُهُمَا كَافِرَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالْآخَرُ فِي بَدْرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ قَطُّ أُمَيَّةُ الْمَدِينَةَ ، وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ مُفْرَدًا وَلَا مَعَ أَحَدٍ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } فَلْيَنْظُرْ هُنَالِكَ فِيهِ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ هَاهُنَا .
وَقَدْ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : إنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي : لَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كِرَامًا بَرَرَةً ، وَلَكِنْ لَيْسُوا بِمُرَادِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَلَا قَارَبُوا الْمُرَادِينَ بِهَا ؛ بَلْ هِيَ لَفْظَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَلَائِكَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي مُتَنَاوَلِهَا غَيْرُهُمْ .
رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ } .
وَقَوْلُهُ : { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا } قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ وَأَمْثَالُهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ ، وَتَحَقَّقَ الْقَوْلُ فِيهَا .

سُورَة الْمُطَفِّفِينَ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ .
} الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ : قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ : الْمُطَفِّفُونَ هُمْ الَّذِينَ يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ .
وَقِيلَ لَهُ الْمُطَفِّفُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إلَّا الشَّيْءَ الطَّفِيفَ ، مَأْخُوذٌ مِنْ طَفِّ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ .
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ } يَعْنِي بَعْضُكُمْ قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِالتَّقْوَى .
وَفِي الْمُوَطَّأِ : قَالَ مَالِكٌ : [ يُقَالُ ] : لِكُلِّ شَيْءٍ وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ ، وَالتَّطْفِيفُ ضِدُّ التَّوْفِيَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عَرْفَطَةَ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَوَجَدْنَاهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى " كهيعص " وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَقُولُ فِي صَلَاتِي : " وَيْلٌ لِأَبِي فُلَانٍ ، لَهُ مِكْيَالَانِ ، إذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي ، وَإِذَا كَالَ كَالَ بِالنَّاقِصِ " .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ } يَعْنِي كَالُوا لَهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَفْعَالِ يَأْتِي كَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ : شَكَرْت فُلَانًا وَشَكَرْت لَهُ ، وَنَصَحْت فُلَانًا وَنَصَحْت لَهُ ، وَاخْتَرْت أَهْلِي فُلَانًا وَاخْتَرْت مِنْ أَهْلِي فُلَانًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ فِي التَّعَدِّي مُقْتَصِرًا أَوْ مُتَعَدِّيًا أَيْضًا ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } ؛ فَبَدَأَ بِالْكَيْلِ قَبْلَ الْوَزْنِ ؛ وَالْوَزْنُ هُوَ الْأَصْلُ ، وَالْكَيْلُ مُرَكَّبٌ عَلَيْهِ ، وَكِلَاهُمَا لِلتَّقْدِيرِ ، لَكِنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَضَعَ الْمِيزَانَ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ بِمَقَادِيرِهَا ؛ إذْ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا مُقَدِّرٍ .
ثُمَّ قَدْ يَأْتِي الْكَيْلُ عَلَى الْمِيزَانِ بِالْعُرْفِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ } فَالْأَقْوَاتُ وَالْأَدْهَانُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْكَيْلُ [ دُونَ الْوَزْنِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَهِيَ تُكْتَالُ بِالْمَدِينَةِ فَجَرَى فِيهَا الْكَيْلُ ] ، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ بِالْكَيْلِ دُونَ الْوَزْنِ ، حَاشَا النَّقْدَيْنِ ، حَتَّى أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْكَيْلُ ، وَلَيْسَ لِلْوَزْنِ فِيهِمَا طَرِيقٌ ، وَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَهُمَا زَيْغٌ فَهُوَ كَظُهُورِهِ بَيْنَ الْبُرَّيْنِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَرَأَ : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } [ مَرَّتَيْنِ قَالَ : مَسَحَ الْمَدِينَةَ مِنْ التَّطْفِيفِ وَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً .
وَرَوَى أَشْهَبُ قَالَ : قَرَأَ مَالِكٌ : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } ] ، فَقَالَ : لَا تُطَفِّفْ وَلَا تَجْلِبْ وَلَكِنْ أَرْسِلْ وَصُبَّ عَلَيْهِ صَبًّا ، حَتَّى إذَا اسْتَوَى أَرْسِلْ يَدَك وَلَا تُمْسِكْ .
وَقَالَ

عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّطْفِيفِ } وَقَالَ : إنَّ الْبَرَكَةَ فِي رَأْسِهِ .
قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ كَيْلَ فِرْعَوْنَ كَانَ طِفَافًا مَسْحًا بِالْحَدِيدَةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ عُلَمَاءُ الدِّينِ : التَّطْفِيفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ وَالْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : كَمَا أَنَّ السَّرِقَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ مَنْ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ ؛ فَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ لَيَغِيبُ فِي رَشْحِهِ إلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ } .
وَعَنْهُ أَيْضًا ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقُومُ مِائَةَ سَنَةٍ } الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْقِيَامُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ حَقِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى عَظَمَتِهِ وَحَقِّهِ ؛ فَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إلَى جَعْفَرٍ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَاعْتَنَقَهُ } وَقَامَ طَلْحَةُ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمَ تِيبَ عَلَيْهِ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ طَلَعَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ } .
وَقَالَ أَيْضًا : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ الرَّجُلِ وَنِيَّتِهِ ، فَإِنْ انْتَظَرَ لِذَلِكَ وَاعْتَقَدَهُ لِنَفْسِهِ حَقًّا فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْبَشَاشَةِ وَالْوَصْلَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الْأَسْبَابِ ، كَالْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ وَنَحْوِهِ .

سُورَةُ الِانْشِقَاقِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الشَّفَقِ : قَالَ أَشْهَبُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَكَثِيرٌ عَدَدُهُمْ ، عَنْ مَالِكٍ : الشَّفَقُ : الْحُمْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَغْرِبِ ، فَإِذَا ذَهَبَتْ الْحُمْرَةُ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ ، وَوَجَبَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ مَالِكٍ : الشَّفَقُ : الْحُمْرَةُ فِيمَا يَقُولُونَ ، وَلَا أَدْرَى حَقِيقَةَ ذَلِكَ ، وَلَكِنِّي أَرَى الشَّفَقَ الْحُمْرَةَ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي .
وَمَا هُوَ إلَّا شَيْءٌ فَكَّرْت فِيهِ مُنْذُ قَرِيبٍ : أَنَّ الْبَيَاضَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ حُمْرَةِ الشَّفَقِ أَنَّهُ مِثْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي يَكُونُ قَبْلَ الْفَجْرِ ، فَكَمَا لَا يُمْنَعُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا مَنْ أَرَادَ الصِّيَامَ ، فَلَا أَدْرِي هَذَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَتَادَةُ ، وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاذٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْبَيَاضُ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، وَاعْتَضَدَ بَعْضُهُمْ بِالِاشْتِقَاقِ وَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرِّقَّةِ ، وَاَلَّذِي يُعَضِّدُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { وَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ } ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى حَالَيْنِ : كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ ، وَهُوَ الَّذِي تَوَقَّفَ فِيهِ مَالِكٌ مِنْ جِهَةِ اشْتِقَاقِهِ ، وَاخْتِلَافِ إطْلَاقِهِ ، ثُمَّ فَكَّرَ فِيهِ مُنْذُ قَرِيبٍ ، وَذَكَرَ كَلَامًا مُجْمَلًا ، تَحْقِيقُهُ أَنَّ الطَّوَالِعَ أَرْبَعَةٌ : الْفَجْرُ الْأَوَّلُ ، وَالثَّانِي ، وَالْحُمْرَةُ ، وَالشَّمْسُ .
وَكَذَلِكَ الْغَوَارِبُ أَرْبَعَةٌ :

الْبَيَاضُ الْآخَرُ ، وَالْبَيَاضُ الَّذِي يَلِيهِ ، الْحُمْرَةُ ، الشَّفَقُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : كَمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِالطَّالِعِ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ فِي الطَّوَالِعِ ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْغَارِبِ مِنْ الْآخَرِ ، وَهُوَ الْبَيَاضُ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ الْمُحَقِّقُونَ : وَكَمَا قَالَ { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } فَكَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْفَجْرِ الثَّانِي ، كَذَلِكَ إذَا قَالَ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ بِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالشَّفَقِ الثَّانِي ؛ وَهَذِهِ تَحْقِيقَاتٌ قَوِيَّةٌ عَلَيْنَا .
وَاعْتَمَدَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ } وَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الِاسْمِ ، وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ فِي الْفَجْرِ ، إلَّا أَنَّ النَّصَّ قَطَعَ بِنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ إلَى فَوْقٍ ، وَلَكِنَّهُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا وَبَسَطَهَا وَقَالَ : لَيْسَ الْمُسْتَطِيلُ ، وَلَكِنَّهُ الْمُسْتَطِيرُ يَعْنِي الْمُنْتَشِرَ ، وَلِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ : { أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِوَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثُلُثَيْهِ } وَقَالَ الْخَلِيلُ : رَقَبْت مَغِيبَ الْبَيَاضِ فَوَجَدْته يَتَمَادَى إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ : رَأَيْته يَتَمَادَى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَمَّا لَمْ يَتَحَدَّدْ وَقْتُهُ مِنْهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ : { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } فَسَجَدَ فِيهَا ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا } وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْهُ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ .
وَقَدْ اعْتَضَدَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : لَمَّا أَمَمْت بِالنَّاسِ تَرَكْت قِرَاءَتَهَا ؛ لِأَنِّي إنْ سَجَدْت أَنْكَرُوهُ ، وَإِنْ تَرَكْتهَا كَانَ تَقْصِيرًا مِنِّي ، فَاجْتَنَبْتهَا إلَّا إذَا صَلَّيْت وَحْدِي .
وَهَذَا تَحْقِيقُ وَعْدِ الصَّادِقِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِك بِالْكُفْرِ لَهَدَمْت الْبَيْتَ وَرَدَدْته عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ .
} وَقَالَ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ ، وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَتَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ ، فَحَضَرَ عِنْدِي يَوْمًا بِمُحْرِسٍ ابْنُ الشَّوَّاءِ بِالثَّغْرِ مَوْضِعُ تَدْرِيسِي عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ الْمُحْرِسِ الْمَذْكُورِ ، فَتَقَدَّمَ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَأَنَا فِي مُؤَخَّرِهِ قَاعِدٌ عَلَى طَاقَاتِ الْبَحْرِ ، أَتَنَسَّمُ الرِّيحَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ ، وَمَعَهُ فِي صَفٍّ وَاحِدٍ أَبُو ثَمْنَةَ رَئِيسُ الْبَحْرِ وَقَائِدُهُ ، مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ، وَيَتَطَلَّعُ عَلَى مَرَاكِبَ تَحْتَ الْمِينَاءِ ، فَلَمَّا رَفَعَ الشَّيْخُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ قَالَ أَبُو ثَمْنَةَ وَأَصْحَابُهُ : أَلَا تَرَوْنَ إلَى هَذَا الْمَشْرِقِيِّ كَيْفَ دَخَلَ مَسْجِدَنَا ؟ فَقُومُوا إلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ وَارْمُوا بِهِ فِي الْبَحْرِ ، فَلَا يَرَاكُمْ أَحَدٌ .
فَطَارَ قَلْبِي مِنْ بَيْنِ جَوَانِحِي ، وَقُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ ،

هَذَا الطُّرْطُوشِيُّ فَقِيهُ الْوَقْتِ .
فَقَالُوا لِي : وَلِمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ ؟ فَقُلْت : كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْهُ .
وَجَعَلْت أُسَكِّنُهُمْ وَأُسْكِتُهُمْ ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَقُمْت مَعَهُ إلَى الْمَسْكَنِ مِنْ الْمُحْرِسِ ، وَرَأَى تَغَيُّرَ وَجْهِي ، فَأَنْكَرَهُ ، وَسَأَلَنِي فَأَعْلَمْته فَضَحِكَ ، وَقَالَ : وَمِنْ أَيْنَ لِي أَنْ أُقْتَلَ عَلَى سُنَّةٍ ، فَقُلْت لَهُ : وَلَا يَحِلُّ لَك هَذَا فَإِنَّك بَيْنَ قَوْمٍ إنْ قُمْت بِهَا قَامُوا عَلَيْك ، وَرُبَّمَا ذَهَبَ دَمُك .
فَقَالَ : دَعْ هَذَا الْكَلَامَ وَخُذْ فِي غَيْرِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : { صَلَّيْت خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ يَعْنِي الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } فَسَجَدَ فِيهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ قُلْتُ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، وَإِنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ مَا كُنَّا نَسْجُدُهَا .
قَالَ : سَجَدَهَا أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا خَلْفَهُ ، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُهَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْقَاسِمِ } .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْجُدُ فِيهَا مَرَّةً ، وَمَرَّةً لَا يَسْجُدُ ، كَأَنَّهُ لَا يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِمِ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّحِيحَ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [ بِغَيْبِهِ وَأَحْكُمُ ] .

سُورَةُ الْبُرُوجِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الشَّاهِدُ فَاعِلٌ مِنْ شَهِدَ ، وَالْمَشْهُودُ مَفْعُولٌ مِنْهُ ، وَلَمْ يَأْتِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِعَيْنِهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ .
وَقَدْ رَوَى عَبَّادُ بْنُ مَطَرٍ الرَّهَاوِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قَالَ : الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ وَرُسُلَهُ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ .
وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ ، وَالْمَشْهُودُ فِيهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ ، وَيَوْمَ النَّحْرِ ، وَأَيَّامَ الْمَنَاسِكِ كُلَّهَا ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَيْسَ إلَى التَّخْصِيصِ سَبِيلٌ بِغَيْرِ أَثَرٍ صَحِيحٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا كَانَ الشَّاهِدُ اللَّهَ فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَمُتَعَلَّقَهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى ، وَإِذَا كَانَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وَهَذَا إذَا تَتَبَّعْته بِالْأَخْبَارِ وَجَدْته كَثِيرًا فِي جَمَاعَةٍ .
وَأَمَّا الْمَشْهُودُ فَعَلَّقَهُ بِكُلِّ مَشْهُودٍ فِيهِ ، وَمَشْهُودٍ عَلَيْهِ ، وَمَشْهُودٍ بِهِ ، حَسْبَ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ بِأَقْسَامِ الْمَفْعُولِ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَحِيحٌ سَائِغٌ لُغَةً وَمَعْنًى ، فَاحْمِلْهُ عَلَيْهِ وَعَمِّمْهُ فِيهِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ثَبَتَ عَنْ صُهَيْبٍ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ : قَدْ كَبِرْت ، فَابْعَثْ لِي غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ ؛ فَبَعَثَ إلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إذَا سَلَكَ رَاهِبٌ قَعَدَ إلَيْهِ ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ ، وَأَعْجَبَهُ ، فَكَانَ إذَا أَتَى السَّاحِرُ مَرَّ بِالرَّاهِبِ ، فَقَعَدَ إلَيْهِ ، وَإِذَا أَتَى السَّاحِرُ ضَرَبَهُ ، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى الرَّاهِبِ ، فَقَالَ : إذَا خَشِيت السَّاحِرَ فَقُلْ : حَبَسَنِي أَهْلِي ، وَإِذَا خَشِيت أَهْلَك فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ ، فَقَالَ : الْيَوْمَ أَعْلَمُ السَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ ، فَأَخَذَ حَجَرًا وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا ، وَمَضَى النَّاسُ ؛ فَأَتَى إلَى الرَّاهِبِ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : أَيْ بُنَيَّ ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي ، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِك مَا أَرَى ، وَإِنَّك سَتُبْتَلَى ، فَإِنْ اُبْتُلِيت فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ ؛ فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ ، فَسَمِعَ بِهِ جَلِيسُ الْمَلِكِ وَكَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ ، فَقَالَ : لَك مَا هُنَالِكَ أَجْمَعُ إنْ شَفَيْتنِي قَالَ : إنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا ، إنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاَللَّهِ دَعَوْت لَك فَشَفَاك .
فَآمَنَ بِاَللَّهِ ؛ فَشَفَاهُ اللَّهُ .
فَأَتَى الْمَلِكُ فَجَلَسَ إلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : مَنْ رَدَّ عَلَيْك بَصَرَك ؟ قَالَ : رَبِّي .
قَالَ : وَلَك رَبٌّ غَيْرِي ، قَالَ : رَبِّي وَرَبُّك اللَّهُ .
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ

حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ .
فَجِيءَ بِالْغُلَامِ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : أَيْ بُنَيَّ ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِك مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ ، فَقَالَ : إنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ .
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ ، فَقِيلَ لَهُ : ارْجِعْ عَنْ دِينِك ، فَأَبَى ، فَدَعَا بِالْمِنْشَارِ ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، فَشَقَّهُ ، حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ ، فَقِيلَ لَهُ : ارْجِعْ عَنْ دِينِك ، فَأَبَى ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ؛ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ عَنْ دِينِك فَأَبَى ، فَدَفَعَهُ إلَى نَفَرٍ ، مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ إلَى جَبَلِ كَذَا كَذَا ، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ ، فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْت ، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ ، فَسَقَطُوا ، وَجَاءَ يَمْشِي إلَى الْمَلِكِ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : مَا فَعَلَ أَصْحَابُك ؟ فَقَالَ : كَفَانِيهِمْ اللَّهُ .
فَدَفَعَهُ إلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ .
فَذَهَبُوا بِهِ .
فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْت ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ ، فَغَرِقُوا ، وَجَاءَ يَمْشِي إلَى الْمَلِكِ ؛ فَقَالَ لَهُ : مَا فَعَلَ أَصْحَابُك ؟ فَقَالَ : كَفَانِيهِمْ اللَّهُ .
فَقَالَ لِلْمَلِكِ : إنَّك لَسْت بِقَاتِلِي ، حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُك بِهِ .
قَالَ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ، ثُمَّ قُلْ : بِسْمِ اللَّهِ ، رَبِّ الْغُلَامِ ، ثُمَّ ارْمِنِي ؛ فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ قَتَلْتنِي .
فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ،

ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ، ثُمَّ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ .
فَقَالَ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ ، فَأَتَى الْمَلِكُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَرَأَيْت مَا كُنْت تَحْذَرُ ؟ قَدْ وَاَللَّهِ نَزَلَ بِك حَذَرُك ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ بِرَبِّ الْغُلَامِ ؛ فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ ؛ فَخُدَّتْ ، وَأَضْرَمَ النَّارَ ، وَقَالَ : مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا ، أَوْ قِيلَ لَهُ : اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا ، حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا ، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا ، فَقَالَ الْغُلَامُ : يَا أُمَّهُ ، اصْبِرِي ، فَإِنَّك عَلَى الْحَقِّ ، فَاقْتَحَمَتْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ هُمْ الَّذِينَ حَفَرُوهُ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَهُمْ الَّذِينَ رَمَوْا فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَكَانَ لَفْظُ الصُّحْبَةِ مُحْتَمَلًا ، إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَهُ وَخَصَّصَهُ آخِرَ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ لَهَا وَالرَّابِعَةِ مِنْهَا ، وَهُمَا قَوْلُهُ : { إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذَا الْحَدِيثُ سَتَرَوْنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَفْسِيرَهُ فِي مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ ، وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ هَهُنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْغُلَامَ صَبَرَا عَلَى الْعَذَابِ مِنْ الْقَتْلِ ، وَالصَّلْبِ ، وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي النَّارِ ، دُونَ الْإِيمَانِ .
وَهَذَا مَنْسُوخٌ عِنْدَنَا حَسْبَمَا تَقَرَّرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ .

سُورَةُ الطَّارِقِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَحَلَّ الْمَاءِ الَّذِي يُنْتَزَعُ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ بَيْنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ، تُزْعِجُهُ الْقُدْرَةُ ، وَتُمَيِّزُهُ الْحِكْمَةُ ، وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ : إنَّهُ الدَّمُ الَّذِي تَطْبُخُهُ الطَّبِيعَةُ بِوَاسِطَةِ الشَّهْوَةِ ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَبَدًا إلَّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ ، وَالنَّظَرُ الْعَقْلِيُّ لَا يُنْتَهَى إلَيْهِ ، وَكُلُّ مَا يَصِفُونَ فِيهِ دَعْوَى يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقًّا ، بَيْدَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْيِينِهَا كَمَا قَدَّمْنَا ؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَخْصِيصِهَا حَسْبَمَا أَوْضَحْنَا .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } وَهِيَ الدَّمُ ؛ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الدَّمَ هُوَ الطَّوْرُ الثَّالِثُ ، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ الطَّوْرُ الْأَوَّلُ ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ مِمَّنْ يَجْهَلُ .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَلِمَ قُلْتُمْ : إنَّهُ نَجِسٌ ؟ قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ ، وَأَخَذْنَا مَعَهُمْ فِيهِ كُلَّ طَرِيقٍ ، وَمَلْكنَا عَلَيْهِمْ بِثَبْتِ الْأَدِلَّةِ كُلَّ ثَنِيَّةٍ لِلنَّظَرِ .
فَلَمْ يَجِدُوا لِلسُّلُوكِ إلَى مَرَامِهِمْ مِنْ أَنَّهُ طَاهِرٌ سَبِيلًا ، وَأَقْرَبُهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى ثَقْبِ الْبَوْلِ عِنْدَ طَرَفِ الْكَمَرَةِ فَيَتَنَجَّسُ بِمُرُورِهِ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } يَعْنِي تُخْتَبَرُ الضَّمَائِرُ ، وَتَكْشِفُ مَا كَانَ فِيهَا .
وَالسَّرَائِرُ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ التَّكْلِيفِ وَالْأَفْعَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا السَّرَائِرُ فَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ وَسَأَلَهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } أَبَلَغَك أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ السَّرَائِرِ ؟ قَالَ : قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ ، فَأَمَّا حَدِيثٌ أَخَذْته فَلَا .
وَالصَّلَاةُ مِنْ السَّرَائِرِ ، وَالصِّيَامُ مِنْ السَّرَائِرِ ، إنْ شَاءَ قَالَ : صَلَّيْت وَلَمْ يُصَلِّ .
وَمِنْ السَّرَائِرِ مَا فِي الْقُلُوبِ يَجْزِي اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ إلَّا الْأَمَانَةَ ، وَالْوُضُوءُ مِنْ الْأَمَانَةِ ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الْأَمَانَةِ ، الْوَدِيعَةُ مِنْ الْأَمَانَةِ ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدِيعَةُ ، تُمَثَّلُ لَهُ عَلَى هَيْئَتِهَا يَوْمَ أَخَذَهَا ، فَيُرْمَى بِهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ ، فَيُقَالُ لَهُ : أَخْرِجْهَا فَيَتْبَعُهَا فَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ ، فَإِذَا رَجَا أَنْ يَخْرُجَ بِهَا زَلَّتْ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهَا ، فَهُوَ كَذَلِكَ دَهْرَ الدَّاهِرِينَ .
وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ .
مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ ائْتُمِنَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا .
قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ لِي سُفْيَانُ : فِي الْحَيْضَةِ وَالْحَمْلِ إذَا قَالَتْ : لَمْ أَحِضْ ، وَأَنَا حَامِلٌ ، صَدَقَتْ مَا لَمْ تَأْتِ بِمَا يُعْرَفُ فِيهِ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { غُسْلُ الْجَنَابَةِ مِنْ الْأَمَانَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كُلُّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ هَزْلٌ ، وَإِنَّمَا هِيَ جَدٌّ كُلُّهَا ؛ فَلَا يَهْزِلُ أَحَدٌ بِعَقْدٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إلَّا وَيُنَفَّذُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ فِي قَوْلِهِ هَزْلًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَزْلَ مَحَلٌّ لِلْكَذِبِ ، وَلِلْبَاطِلِ يُفْعَلُ ، وَلِلَّعِبِ يُمْتَثَلُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْغَرَضَ فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَفِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .

سُورَةُ الْأَعْلَى [ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { سَنُقْرِئُك } أَيْ سَنَجْعَلُك قَارِئًا ، فَلَا تَنْسَى مَا نُقْرِئُك .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ : { سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى } قَالَ : فَتَحْفَظُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَرْكِ النِّسْيَانِ ؛ إذْ كَانَ لَيْسَ مِنْ اسْتِطَاعَتِهِ ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ لَهُ تَرْكَهُ ، وَحَكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَى مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ النَّاسِي فِي حَالِ نِسْيَانِهِ أَنْ يَصْرِفَ نِسْيَانَهُ لَا يُعْقَلُ قَوْلًا ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ فِعْلًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
{ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنْ الدُّنْيَا } .
قُلْنَا .
مَعْنَاهُ لَا تَتْرُكْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ لُغَةً .
وَالتَّرْكُ عَلَى قِسْمَيْنِ : تَرْكٌ بِقَصْدٍ ، وَتَرْكٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ .
وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَرْتَبِطُ بِالْقَصْدِ مِنْ التَّرْكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ ب { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } وَ { هَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } } مِنْ طَرِيقِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ .
خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ ، وَغَيْرُهُ زَادَ النُّعْمَانُ : فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي طَوَّلَ صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ : اقْرَأْ ب { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : نَزَلَتْ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ يُزَكِّي ثُمَّ يُصَلِّي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي سَرْدِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ : قَالَ عِكْرِمَةُ : كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ أُقَدِّمُ زَكَاتِي بَيْنَ يَدِي صَلَاتِي .
فَقَالَ سُفْيَانُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } .
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ ، قَالَ : كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاقِبُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ ، وَقَدْ كَتَبْت إلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنْ يَخْرُجُوا فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَلْيَفْعَلْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ : قَدِّمُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِهَا وَيُخْرِجُهَا .
وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاقِبُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَعْنِي الزَّلَازِلَ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّكْرَ حَقِيقَتُهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ ، وَالضِّدَّانِ إنَّمَا يَتَضَادَّانِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ ؛ فَأَوْجَبَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ النِّيَّةَ فِي الصَّلَاةِ خُصُوصًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اقْتَضَاهَا عُمُومًا قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } .
وَالصَّلَاةُ أُمُّ الْأَعْمَالِ ، وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ؛ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ فِي كُلِّ نِيَّةٍ بِفِعْلٍ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ ؛ وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي تَقْدِيمِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِأَجْلِ تَعَذُّرِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ فِيهِ بِأَوَّلِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْفَجْرِ ، لِوُجُودِهِ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ ، وَبَقِيَتْ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْأَصْلِ وَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْقَاصِرِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَلَى الصَّلَاةِ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ تَجْوِيزِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الَّذِي يَمْشِي إلَى النَّهْرِ فِي الْغُسْلِ ؛ فَإِذَا وَصَلَ وَاغْتَسَلَ نَسِيَ أَنْ يُجْزِئَهُ قَالَ : فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ .
وَهَذَا الْقَائِلُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ } ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْتَرَى فِيهِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ ، وَالْوُضُوءَ فَرْعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، وَيُحْمَلُ الْأَصْلُ عَلَى الْفَرْعِ ؟

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } .
[ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ ] الذِّكْرُ الثَّانِي بِاللِّسَانِ الْمُخْبِرُ عَنْ ذِكْرِ الْقَلْبِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ مُفْتَتَحٌ بِهِ فِي أَوَّلِهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ كُلُّ ذِكْرٍ حَتَّى لَوْ قَالَ : " سُبْحَانَ اللَّهِ " بَدَلَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ ، بَلْ لَوْ قَالَ بَدَلَ ( اللَّهُ أَكْبَرُ ) : بِزْرك خداي لَأَجْزَأَهُ ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُجْزِئُهُ " اللَّهُ الْكَبِيرُ " وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَاَللَّهُ الْأَكْبَرُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِئُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَاَللَّهُ الْأَكْبَرُ .
[ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِئُهُ إلَّا قَوْلُهُ : ] اللَّهُ أَكْبَرُ .
فَأَمَّا تَعَلُّقُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الذِّكْرِ بِالْعَجَمِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } فَيَأْتِي ذِكْرُ وَجْهِ التَّقَصِّي عَنْهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ الذِّكْرُ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ الْعَامِّ : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } فَهَذَا الْعَامُّ قَدْ عَيَّنَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ ؛ أَمَّا قَوْلُهُ فَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } .
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا : اللَّهُ أَكْبَرُ .
وَأَمَّا التَّعَلُّقُ لِلشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ : إنَّ زِيَادَةَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ لَا تُغَيِّرُ بِنَاءَهُ وَلَا مَعْنَاهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّعَبُّدَ إذَا وَقَعَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَبَّرَ عَمَّا شُرِعَ فِيهِ بِمَا لَا يُغَيِّرُ ؛ لِأَنَّهَا شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَاعْتِبَارٌ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَجَوَابٌ ثَانٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَدْخُلُ لِلْجِنْسِ وَلِلْعَهْدِ ، وَكِلَاهُمَا مَمْنُوعٌ هَاهُنَا ، أَمَّا الْجِنْسُ فَإِنَّ

الْبَارِئَ تَعَالَى لَا جِنْسَ لَهُ .
وَأَمَّا الْعَهْدُ فَلِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْكُبْرِيَّةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَصْفٌ ، فَلَا مَعْنَى لِلزِّيَادَةِ فِيهِ حَيْثُ لَا تُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ .
وَإِذَا بَطَلَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ أَبْطَل .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } عُمُومٌ فِي كُلِّ ذِكْرٍ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُ أَكْبَرُ فِي الصَّلَاةِ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ ذَلِكَ الْعُمُومِ ، فَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ لَوْ كَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ وَاحِدٍ .
وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَنُعَوِّلُ الْآنَ هُنَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } .
وَهُوَ إنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِكُلِّ ذِكْرٍ ، فَتَعَيَّنَ التَّكْبِيرُ بِأَمْرِهِ بِاتِّبَاعِهِ فِي صَلَاتِهِ ، فَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِذَلِكَ كُلِّهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَاهُ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْقُرْآنُ .
الثَّانِي أَنَّهُ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا يَعْنِي أَحْكَامَ الْقُرْآنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَحْقِيقُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } يَعْنِي الْقُرْآنَ مُطْلَقًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ فِيهِ أَحْكَامُهُ فَإِنْ أَرَادَ مُعْظَمَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك } .
وَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِهِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ الْأَوْلَى مِنْ الْأَقْوَالِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِالْعَجَمِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } .
قَالُوا : فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كِتَابَهُ وَقُرْآنَهُ فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ ؛ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِخْبَارِ بِهَا عَنْهُ وَبِأَمْثَالِهَا مِنْ سَائِرِ الْأَلْسُنِ الَّتِي تُخَالِفُهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّا نَقُولُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْكُتُبَ ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ، كَمَا أَخْبَرَ ، وَمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابٍ إلَّا بِلُغَتِهِمْ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } ؛ كُلُّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ ، وَتَقْرِيبٌ لِلتَّفْهِيمِ إلَيْهِمْ ، وَكُلٌّ مُفْهِمٌ بِلُغَتِهِ ، مُتَعَبِّدٌ بِشَرِيعَتِهِ ، وَلِكُلِّ كِتَابٍ بِلُغَتِهِمْ اسْمٌ ؛ فَاسْمُهُ بِلُغَةِ مُوسَى التَّوْرَاةُ ، وَاسْمُهُ بِلُغَةِ عِيسَى الْإِنْجِيلُ ، وَاسْمُهُ بِلُغَةِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنُ ، فَقِيلَ لَنَا : اقْرَءُوا الْقُرْآنَ ، فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا يُسَمَّى قُرْآنًا .
الثَّانِي : هَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي صُحُفِ مُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَمَا الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُ تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : بِالْقِيَاسِ .
قُلْت : لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَكُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ عَلَى التَّمَامِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمُسَيْطِرُ هُوَ الْمُسَلَّطُ الَّذِي يَقْهَرُ وَيَغْلِبُ عَلَى مَا يَقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مُعَرِّفًا بِرِسَالَتِهِ ، مُذَكِّرًا بِنُبُوَّتِهِ ، يَدْعُو الْخَلْقَ إلَى اللَّهِ ، وَيُذَكِّرُهُمْ عَهْدَهُ ، وَيُبَشِّرُهُمْ وَعْدَهُ ، وَيُحَذِّرُهُمْ وَعِيدَهُ ، وَيُعَرِّفُهُمْ دِينَهُ ، حَتَّى وَضَحَتْ الْمَحَجَّةُ ، وَقَامَتْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ الْحُجَّةُ ؛ فَلَمَّا اسْتَمَرَّ الْخَلْقُ عَلَى فَسَادِ رَأْيِهِمْ ، وَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وَغُلَوَائِهِمْ ، أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ ، وَسَوْقِ الْخَلْقِ إلَى الْإِيمَانِ قَسْرًا ، وَنَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمْثَالَهَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا .
وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } } : بِمُسَلَّطٍ عَلَى سَرَائِرِهِمْ ، مُفَسِّرًا مَعْنَى الْآيَةِ ، وَكَاشِفًا خَفِيَّ الْخَفَاءِ عَنْهَا .
الْمَعْنَى إذَا قَالَ النَّاسُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَسْت بِمُسَلَّطٍ عَلَى سَرَائِرِهِمْ ، وَإِنَّمَا عَلَيْك بِالظَّاهِرِ ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُطَالَبُ لَا بِالظَّاهِرِ وَلَا بِالْبَاطِنِ ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَتَكْلِيفِهِ الْقِتَالَ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلَيْهِ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ [ صَحِيحُ السَّنَدِ ] ، صَحِيحُ الْمَعْنَى .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْفَجْرِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَالْفَجْرِ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْفَجْرُ : هُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ النَّهَارِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الزَّمَانِ ؛ وَهُوَ كَمَا قَدَّمْنَا فَجْرَانِ : أَحَدُهُمَا الْبَيَاضُ الَّذِي يَبْدُو أَوَّلًا ثُمَّ يَخْفَى ؛ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبِ ذَنَبَ السِّرْحَانِ لِطُرْآنِهِ ثُمَّ إقْلَاعِهِ .
وَالثَّانِي : هُوَ الْبَادِي مُتَمَادِيًا ؛ وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الْمُسْتَطِيلَ ؛ لِأَنَّهُ يَبْدُو كَالْحَبْلِ الْمُعَلَّقِ مِنْ الْأُفُقِ أَوْ الرُّمْحِ الْقَائِمِ فِيهِ ؛ وَيُسَمَّى الثَّانِي الْمُسْتَطِيرَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ عَرْضًا فِي الْأُفُقِ ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الْكَاذِبَ ؛ وَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ .
وَيُسَمَّى الثَّانِي الصَّادِقَ لِثُبُوتِهِ ؛ وَبِهِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ السُّحُورِ أَذَانُ بِلَالٍ ، وَلَا الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيلُ ، وَلَكِنْ الْمُسْتَطِيرُ بِالْأُفُقِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَلِأَجْلِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبَ عَنْهُ : الْفَجْرُ أَمْرُهُ بَيِّنٌ ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } : فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَعْيِينِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَهُ جَابِرٌ ، وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ .
الثَّانِي : عَشْرُ الْمُحَرَّمِ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ .
الرَّابِعُ أَنَّهَا الْعَشْرُ الَّتِي أَتَمَّهَا اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِيقَاتِهِ مَعَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا كُلُّ مَكْرُمَةٍ فَدَاخِلَةٌ مَعَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى لَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي إثْبَاتٍ ، وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ ، وَلَا تُوجِبُ الشُّمُولَ ؛ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْعُمُومِ مَعَ النَّفْيِ ؛ فَهَذَا الْقَوْلُ يُوجِبُ دُخُولَ لَيَالٍ عَشْرٍ فِيهِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ ، فَرَبُّك أَعْلَمُ بِمَا هِيَ ؛ لَكِنْ تَبْقَى هَاهُنَا نُكْتَةٌ ؛ وَهِيَ أَنْ تَقُولَ : فَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى تَعْيِينِهَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قُلْنَا : نَحْنُ نُعَيِّنُهَا بِضَرْبٍ مِنْ النَّظَرِ ، وَهِيَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَرَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُعْتَبَرَاتِ أَفْضَلَ مِنْهَا ، لَا سِيَّمَا وَفِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ؛ فَلَا يُعَادِلُهَا وَقْتٌ مِنْ الزَّمَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } ؛ قَالَ : الْأَيَّامُ مَعَ اللَّيَالِي ، وَاللَّيْلُ قَبْلَ النَّهَارِ ، وَهُوَ حِسَابُ الْقَمَرِ الَّذِي وَقَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتِ كَمَا رَتَّبَ عَلَى حِسَابِ الشَّمْسِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ فِيهِ النَّهَارُ عَلَى اللَّيْلِ بِالْعَادَاتِ فِي الْمَعَاشِ وَالْأَوْقَاتِ .
وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَحَبْرُهَا أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ أَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَحْسِبُ النَّهَارَ قَبْلَ اللَّيْلِ ، وَيَجْعَلُ اللَّيْلَةَ لِلْيَوْمِ الْمَاضِي ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ { قَوْلُ

عَائِشَةَ فِي حَدِيثِ إيلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهُنَّ عَدًّا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَمْ تَكُنْ آلَيْت شَهْرًا فَقَالَ : إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } ، وَلَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ لِلْيَوْمِ الْآتِي لَكَانَ قَدْ غَابَ عَنْهُنَّ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ بَالِغٌ طَالَمَا سُقْتُهُ سُؤَالًا لِلْعُلَمَاءِ بِاللِّسَانِ وَتَقْلِيبًا لِلدَّفَاتِرِ بِالْبَيَانِ حَتَّى وَجَدْت أَبَا عَمْرٍو وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا ؛ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لُغَةً نَقَلَهَا ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ نُكْتَةً أَخَذَهَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَاسْتَنْبَطَهَا .
وَالْغَالِبُ فِي أَلْسِنَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ غَلَبَةُ اللَّيَالِي لِلْأَيَّامِ ، حَتَّى إنَّ مِنْ كَلَامِهِمْ : " صُمْنَا خَمْسًا " يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنْ اللَّيَالِي ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فِي النَّهَارِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } : فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لِلْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الصَّلَاةَ شَفْعٌ كُلُّهَا ، وَالْمَغْرِبَ وَتْرٌ ؛ قَالَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ ] .
الثَّانِي : أَنَّ الشَّفْعَ أَيَّامُ النَّحْرِ ، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، رَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ مِنًى ، وَالْوَتْرَ : الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ مِنًى ، وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ .
الرَّابِعُ أَنَّ الشَّفْعَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ ، وَالْوَتْرَ أَيَّامُ مِنًى لِأَنَّهَا ثَلَاثَةٌ .
الْخَامِسُ الشَّفْعُ : الْخَلْقُ ، وَالْوَتْرُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
السَّادِسُ أَنَّهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ مِنْهُ شَفْعًا وَمِنْهُ وَتْرًا .
السَّابِعُ أَنَّهُ آدَم ؛ وَتْرٌ شَفَعَتْهُ زَوْجَتُهُ ، فَكَانَتْ شَفْعًا لَهُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّامِنُ أَنَّ الْعَدَدَ مِنْهُ شَفْعٌ ، وَمِنْهُ وَتْرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْآيَةُ خِلَافُ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّفْعِ كَانَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَهْدِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَهْدٌ ؛ وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كُلَّ شَفْعٍ وَوَتْرٍ مِمَّا ذُكِرَ وَمِمَّا لَمْ يُذْكَرْ ، وَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ يَسْتَغْرِقُ مَا تُرِكَ فِي الظَّاهِرِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لَكِنْ إنْ قُلْنَا : إنَّ اللَّيَالِيَ الْعَشْرَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يَوْمَ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فَوَجْهُ الْقَسَمِ فِيهِ وَحَقِّ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ لَهُمْ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ السَّادِسُ فَمَعْنَاهُ وَحَقِّ الْخَلْقِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّابِعِ

وَحَقِّ آدَمَ وَزَوْجَتِهِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّامِنِ أَنَّهُ قَالَ : وَحَقِّ الْعَدَدِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَ الْخَلْقِ وَتَمَامًا لَهُمْ ، حَتَّى لَقَدْ غَلَا فِيهِ الْغَالُونَ حَتَّى جَعَلُوهُ أَصْلَ التَّوْحِيدِ وَالتَّكْلِيفِ ، وَسِرَّ الْعَالَمِ وَتَفَاصِيلَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ هَوَسٌ كُلُّهُ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ فَمِنْهَا شَفْعٌ ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعُ ، وَمِنْهَا وَتْرٌ وَهِيَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهَا لَا تُعَادُ فِي جَمَاعَةٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا لَوْ طُلِبَ بِهَا فَضْلُ الْجَمَاعَةِ لَانْقَلَبَتْ شَفْعًا ، حَتَّى تَنَاهَى عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا : لَوْ أَعَادَهَا رَجُلٌ [ فِي جَمَاعَةٍ ] غَفْلَةً لَقِيلَ لَهُ : أَعِدْهَا ثَالِثَةً ؛ حَتَّى تَكُونَ وَتْرًا تِسْعَ رَكَعَاتٍ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْمَغْرِبَ لَوْ صَارَتْ بِالْإِعَادَةِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفْعًا لَصَارَتْ الظُّهْرُ بِإِعَادَتِهَا ثَمَانِيًا ، وَيَعُودُ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّخْلِيطِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فَيُقَالُ فِيهِ : فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي إذَا مَا ذَكَرْتهَا أَثِنْتَيْنِ صَلَّيْت الضُّحَى أَمْ ثَمَانِيًا فَكَمَا لَا تَتَضَاعَفُ الظُّهْرُ بِالْإِعَادَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا تَتَضَاعَفُ الْمَغْرِبُ ، وَأَشَدُّهُ الصَّلَاةُ الثَّالِثَةُ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَمَّا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ أَقَلَّ النَّفْلِ رَكْعَتَانِ .
قُلْنَا : إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالشَّفْعِ } يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا .
وقَوْله تَعَالَى : { وَالْوَتْرِ } يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَتْرِ وَحْدَهُ الَّذِي هُوَ فَرْدٌ .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ : { الِاسْتِجْمَارُ وَتْرٌ ، وَالطَّوَافُ وَتْرٌ ، وَالْفَرْدُ كَثِيرٌ } ، وَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ يَكْفِي فِيهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَقْسَمَ اللَّهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، كَمَا أَقْسَمَ بِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَخُصُوصًا ، وَجُمْلَةً وَتَفْصِيلًا ، وَخَصَّهُ هَاهُنَا بِالسُّرَى لِنُكْتَةٍ هِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } .
وَقَالَ : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } وَأَشَارَ هَاهُنَا إلَى أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ يُتَصَرَّفُ فِيهِ لِلْمَعَاشِ ، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي النَّهَارِ ، وَيَتَقَلَّبُ فِي الْحَالِ فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَيْلٍ ، فَقَالَ لَهُ : السُّرَى يَا جَابِرُ } .
وَخَاصَّةً الْمُسَافِرُ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ كُنْت قَدْ قَيَّدْت فِي فَوَائِدِي بِالْمَنَارِ أَنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ لِمُؤَرِّجٍ : مَا وَجْهُ مَنْ حَذَفَ مِنْ عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ الْيَاءَ مِنْ قَوْلِهِ : يَسْرِي ؟ فَسَكَتَ عَنْهَا سَنَةً ، ثُمَّ قُلْنَا لَهُ : نَخْتَلِفُ إلَيْك نَسْأَلُك مُنْذُ عَامٍ عَنْ هَذِهِ .
الْمَسْأَلَةِ فَلَا تُجِيبُنَا ؟ فَقَالَ : إنَّمَا حَذَفَهَا لِأَنَّ اللَّيْلَ يُسْرَى فِيهِ وَلَا يَسْرِي .
فَعَجِبْت مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الْمُقَصِّرِ مِنْ غَيْرِ مُبْصِرٍ ؛ فَقَالَ لِي بَعْضُ أَشْيَاخِي : تَمَامُهُ فِي بَيَانِهِ أَنَّ ذَلِكَ لِفِقْهٍ ، هُوَ أَنَّ الْحَذْفَ يَدُلُّ عَلَى الْحَذْفِ ، وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ .
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّك بِعَادٍ إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } : فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَمَّا " عَادٌ " فَمَعْلُومَةٌ قَدْ جَرَى ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا ، وَعَظُمَ أَمْرُهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : إرَمَ فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْمُ جَدِّ عَادٍ ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ .
الثَّانِي : إرَمُ : أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ مِنْ عَادٍ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَقِيلَ وَهُوَ : الرَّابِعُ هُوَ إرَمُ بْنُ عَوْصِ بْنُ سَامِ بْنُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الْخَامِسُ أَنَّ إرَمَ الْهَلَاكُ : يُقَالُ : أَرَمَ بَنُو فُلَانٍ أَيْ هَلَكُوا .
السَّادِسُ أَنَّهُ اسْمُ الْقَرْيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ الْقَاضِي : لَوْ أَنَّ قَوْلَهُ : إرَمَ يَكُونُ مُضَافًا إلَى عَادٍ لَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى جَدِّهِ أَوْ إلَى إرَمَ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ عَادٌ مُنَوَّنٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جَدِّهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا زَائِدًا لِعَادٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أُمَّةٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَبِيلَةً مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ اسْمَ الْقَرْيَةِ .
وَيُحْتَمَلُ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا ، لَوْلَا أَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهَا إرْمٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ .
فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَحْتَ ذَلِكَ مِنْ الْخَفَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { ذَاتِ الْعِمَادِ } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عَمُودٍ يَنْتَجِعُونَ الْقَطْرَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الطُّولُ ، كَانُوا أَطْوَلَ أَجْسَامًا وَأَشَدَّ قُوَّةً .
وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّ طُولَ الرَّجُلِ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَبْعُونَ ذِرَاعًا ، وَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي الْهَوَاءِ ، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ إلَى الْآنَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْعِمَادَ الْقُوَّةُ ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ ذَاتُ الْبِنَاءِ

الْمُحْكَمِ ، يُقَالُ : إنَّ فِيهَا أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ عَمُودٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي تَعْيِينِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ أَنَّ أَشْهَبَ قَالَ عَنْ مَالِكٍ : هِيَ دِمَشْقُ ؛ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ : هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة .
وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهَا دِمَشْقُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ فِي الْبِلَادِ مِثْلُهَا وَقَدْ ذَكَرْت صِفَتَهَا وَخَبَرَهَا فِي كِتَابِ تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمِلَّةِ ، وَإِلَيْهَا أَوَتْ مَرْيَمُ ، وَبِهَا كَانَ آدَم ، وَعَلَى الْغُرَابِ جَبَلِهَا دَمُ هَابِيلَ فِي الْحَجَرِ جَارٍ لَمْ تُغَيِّرْهُ اللَّيَالِي ، وَلَا أَثَّرَتْ فِيهِ الْأَيَّامُ ، وَلَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ ، بَاطِنُهَا كَظَاهِرِهَا ، مَدِينَةٌ بِأَعْلَاهَا ، وَمَدِينَةٌ بِأَسْفَلِهَا ، تَشُقُّهَا تِسْعَةُ أَنْهَارٍ ؛ لِلْقَصَبَةِ نَهْرٌ ، وَلِلْجَامِعِ نَهْرٌ ، وَبَاقِيهَا لِلْبَلَدِ ، وَتَجْرِي الْأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِهَا كَمَا تَجْرِي مِنْ فَوْقِهَا ، لَيْسَ فِيهَا كِظَامَةٌ وَلَا كَنِيفٌ ، وَلَا فِيهَا دَارٌ ، وَلَا سُوقٌ ، وَلَا حَمَّامٌ ، إلَّا وَيَشُقُّهُ الْمَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا دَائِمًا أَبَدًا ، وَفِيهَا أَرْبَابُ دُورٍ قَدْ مَكَّنُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْأَحْوَالِ بِالْمَاءِ ، حَتَّى إنَّ مُسْتَوْقَدَهُمْ عَلَيْهِ سَاقِيَةٌ ، فَإِذَا طُبِخَ الطَّعَامُ وُضِعَ فِي الْقَصْعَةِ ، وَأُرْسِلَ فِي السَّاقِيَةِ ؛ فَيُجْرَفُ إلَى الْمَجْلِسِ فَيُوضَعُ فِي الْمَائِدَةِ ، ثُمَّ تُرَدُّ الْقَصْعَةُ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى إلَى الْمُسْتَوْقَدِ فَارِغَةً ، فَتُرْسَلُ أُخْرَى مَلْأَى ، وَهَكَذَا حَتَّى يَتِمَّ الطَّعَامُ .
وَإِذَا كَثُرَ الْغُبَارُ فِي الطُّرُقَاتِ أَمَرَ صَاحِبُ الْمَاءِ أَنْ يُطْلَقَ النَّهْرُ عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالْأَرْبَاضِ فَيَجْرِي الْمَاءُ عَلَيْهَا ، حَتَّى يَلْجَأَ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ إلَى الدَّكَاكِينِ ، فَإِذَا كُسِحَ غُبَارُهَا سَكَّرَ السَّاقِيَانِيُّ أَنْهَارَهَا ، فَمَشَيْت فِي الطُّرُقِ عَلَى بَرْدِ الْهَوَاءِ وَنَقَاءِ الْأَرْضِ ، وَلَهَا بَابُ جَيْرُونِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ؛ وَعِنْدَهُ الْقُبَّةُ الْعَظِيمَةُ والمِيقَاتَاتُ لِمَعْرِفَةِ

السَّاعَاتِ ، عَلَيْهَا بَابُ الْفَرَادِيسِ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ ، عِنْدَهُ كَانَ مَقَرِّي ، وَإِلَيْهِ مِنْ الْوَحْشَةِ كَانَ مَفَرِّي ، وَإِلَيْهِ كَانَ انْفِرَادِي لِلدَّرْسِ وَالتَّقَرِّي .
وَفِيهَا الْغُوطَةُ مَجْمَعُ الْفَاكِهَاتِ ، وَمَنَاطُ الشَّهَوَاتِ ، عَلَيْهَا تَجْرِي الْمِيَاهُ ، وَمِنْهَا تُجْنَى الثَّمَرَاتُ ؛ وَإِنَّ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة لَعَجَائِبَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْمَنَارُ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى الْعُمُدِ ، وَلَكِنْ لَهَا أَمْثَالٌ ، فَأَمَّا دِمَشْقُ فَلَا مِثَالَ لَهَا .
وَقَدْ رَوَى مَعْنٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ كِتَابًا وُجِدَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَلَمْ يُدْرَ مَا هُوَ ، فَإِذَا فِيهِ : أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ الَّذِي رَفَعَ الْعِمَادَ ، بَنَيْتهَا حِينَ لَا شَيْبَ وَلَا مَوْتَ قَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ لَتَمُرُّ بِهِمْ مِائَةُ سَنَةٍ لَا يَرَوْنَ بِهَا جِنَازَةً .
وَذُكِرَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ : أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ ، أَنَا الَّذِي رَفَعْت الْعِمَادَ ، أَنَا الَّذِي كَنَزْت كَنْزًا عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ ، لَا يُخْرِجُهُ إلَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ التَّحْذِيرُ مِنْ التَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ ، وَالتَّعَاظُمِ بِتَشْيِيدِ الْحِجَارَةِ ، وَالنَّدْبُ إلَى تَحْصِيلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُوصِلُ إلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَمِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ التَّطَاوُلُ فِي الْبُنْيَانِ ، { وَقَدْ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُنْيَانُ مَسْجِدِهِ ، فَقَالَ : عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى } .
وَالْبُنْيَانُ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَقَدْ تُوُفِّيَ وَمَا وَضَعَ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ ، ثُمَّ تَطَاوَلْنَا فِي بُنْيَانِنَا ، وَزَخْرَفْنَا مَسَاجِدَنَا ، وَعَطَّلْنَا قُلُوبَنَا وَأَبْدَانَنَا .
وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

سُورَةُ الْبَلَدِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } : فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قِرَاءَتِهَا : قَرَأَ الْحَسَنُ ، وَالْأَعْمَشُ ، وَابْنُ كَثِيرٍ : لَأُقْسِمُ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّامِ إثْبَاتًا .
وَقَرَأَهَا النَّاسُ بِالْأَلِفِ نَفْيًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ إذَا كَانَ حَرْفُ " لَا " مَخْطُوطًا بِأَلِفٍ عَلَى صُورَةِ النَّفْيِ ، هَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى نَفْيًا كَالصُّورَةِ أَمْ لَا ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَكُونُ صِلَةً فِي اللَّفْظِ ، كَمَا تَكُونُ " مَا " صِلَةً فِيهِ ؛ وَذَلِكَ فِي حَرْفِ " مَا " كَثِيرٌ ؛ فَأَمَّا حَرْفُ لَا فَقَدْ جَاءَتْ [ كَذَلِكَ ] فِي قَوْلِ الشَّاعِر : تَذَكَّرْت لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ وَكَادَ ضَمِيرُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ أَيْ يَتَقَطَّعُ ، وَدَخَلَ حَرْفُ " لَا " صِلَةً .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : [ يَكُونُ ] تَوْكِيدًا ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ : لَا وَاَللَّهِ ، وَكَقَوْلِ أَبِي كَبْشَةَ [ امْرِئِ الْقَيْسِ ] : فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ : وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا رَدٌّ لِكَلَامِ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْقَسَمَ ؛ فَقَالَ : أُقْسِمُ ، لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُبْتَدَأَةِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ الَّتِي تَكُونُ رَدًّا ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَمَّا كَوْنُهَا صِلَةً فَقَدْ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ : { مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك } فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُ صِلَةٌ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي ص : { مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْت } وَالنَّازِلَةُ وَاحِدَةٌ ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ ، وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ ؛ فَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اللَّفْظِ خَاصَّةً .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ تَوْكِيدٌ فَلَا مَعْنَى لَهُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا ظَهَرَ الْمُؤَكِّدُ ؛ كَقَوْلِهِ : لَا وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُؤَكِّدٌ فَلَا وَجْهَ لِلتَّأْكِيدِ ، أَلَا

تَرَى إلَى قَوْلِهِ : فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ [ كَيْفَ ] أَكَّدَ النَّفْيَ وَهُوَ لَا يَدِّعِي بِمِثْلِهِ .
وَمِنْ أَغْرَبِ هَذَا أَنَّهُ قَدْ تُضْمَرُ وَيُنْفَى مَعْنَاهَا ، كَمَا قَالَ أَبُو كَبْشَةَ : فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْك وَأَوْصَالِي فِي قَوْلٍ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ الْإِلْجَاءِ لِلْفُقَهَاءِ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ الْأُدَبَاء .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا رَدٌّ فَهُوَ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ رَدٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى ، وَيَتَمَكَّنُ اللَّفْظُ وَالْمُرَادُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا : لَأُقْسِمُ فَاخْتَلَفُوا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَذَفَهَا فِي الْخَطِّ كَمَا حَذَفَهَا فِي اللَّفْظِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَصْلٌ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَكْتُبُهَا وَلَا أَلْفِظُ بِهَا ، كَمَا كَتَبُوا " لَا إلَى الْجَحِيمِ " .
و " لَا إلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ " بِأَلِفٍ ، وَلَمْ يَلْفِظُوا بِهَا ، وَهَذَا يَلْزَمُهُمْ فِي قَوْلِهِ : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } وَشِبْهِهِ ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا تَكُونُ صِلَةً فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ، كَقَوْلِهِ : { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } وَقَوْلِهِ : { أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك } وَنَحْوِهِ ؛ فَأَمَّا فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فَلَا يُوصَلُ بِهَا إلَّا مَقْرُونَةً بِأَلِفٍ ، كَقَوْلِهِ : { أَلَا إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } .
فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا : إنَّ الْقُرْآنَ كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُصِلَ بِهَا مَا قَبْلَهَا لَكَانَتْ : أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، حَتَّى إنَّ قَوْمًا كَرِهُوا فِي الْقِرَاءَةِ أَنْ يَصِلُوهَا بِهَا ، وَوَقَفُوا حَتَّى يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، لِيَقْطَعُوا الْوَصْلَ الْمُتَوَهَّمَ .
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ نَقُولَ : إنَّ الصِّلَةَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَصِلَةِ آخِرِهِ

بِهَا ، كَذِكْرِهَا فِي أَثْنَائِهِ ؛ بَلْ ذِكْرُهَا فِي أَثْنَائِهِ أَبْلَغُ فِي الْإِشْكَالِ ، كَقَوْلِهِ : { مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ } وَلَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ خَارِجًا عَنْ أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ ، قَادِحًا فِي زَيْنِ الْفَصَاحَةِ ، مُثَبِّجًا قَوَانِينَ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي طَالَ الْقُرْآنُ بِهَا أَنْوَاعَ الْكَلَامِ ، وَلَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِهِ الْفُصَحَاءُ الْبُلَّغُ ، وَالْعَرَبُ الْعُرْبُ ، وَالْخُصَمَاءُ اللُّدُّ ، فَلَمَّا سَلَّمُوا فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى أُسْلُوبِهِمْ جَارٍ ، وَفِي رَأْسِ فَصَاحَتِهِمْ مَنْظُومٌ ، وَعَلَى قُطْبِ عَرَبِيَّتِهِمْ دَائِرٌ ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ ، فَقَالُوا : قَوْلُهُ : { لَا أُقْسِمُ } قَسَمٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِهِ .
قُلْنَا : هَذَا قَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْهُ عَلَى الْبَلَاغِ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ ، وَقُلْنَا : لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَعْظِيمًا لَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ ؟ قُلْنَا : لَا تُعَلَّلُ الْعِبَادَاتُ .
وَلِلَّهِ أَنْ يُشَرِّعَ مَا شَاءَ ، وَيَمْنَعَ مَا شَاءَ [ وَيُبِيحَ مَا شَاءَ ] ، وَيُنَوِّعَ الْمُبَاحَ وَالْمُبَاحَ لَهُ ، وَيُغَايِرَ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِينَ ، وَيُمَاثِلَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيمَا كَلَّفَ مِنْ ذَلِكَ ، وَحَمَّلَ فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
فَإِنْ قِيلَ .
فَلِمَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَصَّ عَلَيْهِ دَعَائِمَ الْإِسْلَامِ وَفَرَائِضَ الْإِيمَانِ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ : أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ .
[ قُلْت : قَدْ رَأَيْته فِي نُسْخَةٍ مَشْرِقِيَّةٍ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة : أَفْلَحَ وَاَللَّه إنْ صَدَقَ ، وَيُمْكِنُ ] أَنْ يَتَصَحَّفَ قَوْلُهُ : وَاَللَّهِ بِقَوْلِهِ : وَأَبِيهِ .
جَوَابٌ آخَرُ بِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ

بِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ } .
جَوَابٌ آخَرُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْهُ عِبَادَةً ، فَإِذَا جَرَى ذَلِكَ عَلَى الْأَلْسُنِ عَادَةً فَلَا يُمْنَعُ ، فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ تُقْسِمُ فِي ذَلِكَ بِمَنْ تَكْرَهُ ، فَكَيْفَ بِمَنْ تُعَظِّمُ ؛ قَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ : أَظَنَّتْ سِفَاهًا مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهَا لَأَهْجُوهَا لَمَا هَجَتْنِي مُحَارِبُ فَلَا وَأَبِيهَا إنَّنِي بِعَشِيرَتِي وَنَفْسِي عَنْ هَذَا الْمُقَامِ لَرَاغِبُ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ : لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ أَيَّانَ نَلْتَقِي لَمَا لَا تُلَاقِيهَا مِنْ الدَّهْرِ أَكْثَرُ يَعُدُّونَ يَوْمًا وَاحِدًا إنْ لَقِيتهَا وَيَنْسَوْنَ أَيَّامًا عَلَى النَّأْيِ تَهْجُرُ وَقَالَ آخَرُ : لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ لَا عَمْرَ غَيْرُهُمْ لَقَدْ كَلَّفَتْنِي خُطَّةً لَا أُرِيدُهَا وَقَالَ آخَرُ : فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أَزُورُهَا وَإِذَا كَانَ هَذَا شَائِعًا كَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَائِغًا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ : { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا وَأَنْتَ سَاكِنٌ ، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي أَنْتَ [ فِيهِ لِكَرَامَتِك عَلَيَّ ، وَحُبِّي لَك ؛ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى نَحْوِ الْحَالِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ ] فِيهِ .

الثَّانِي : وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ يَحِلُّ لَك فِيهِ الْقَتْلُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تُحَلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا حُلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ } .
الثَّالِثُ : وَيَرْجِعُ إلَى الثَّانِي أَنَّهُ يَحِلُّ لَك دُخُولُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ؛ { دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا } .
الرَّابِعُ قَالَ مُجَاهِدٌ : وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ لَيْسَ عَلَيْك مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ : يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ عَصَمَك .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا قَوْلُهُ : { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } أَيْ سَاكِنٌ فِيهِ ؛ فَيُحْتَمَلُ اللَّفْظُ ، وَتَقْتَضِيهِ الْكَرَامَةُ ، وَيَشْهَدُ لَهُ عِظَمُ الْمَنْزِلَةِ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي جَوَازِ الْقَتْلِ بِمَكَّةَ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا ؛ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَأَمَّا دُخُولُهُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا دُخُولُ النَّاسِ مَكَّةَ فَعَلَى قِسْمَيْنِ : إمَّا لِتَرَدُّدِ الْمَعَاشِ ، وَإِمَّا لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ ؛ فَإِنْ كَانَ لِتَرَدُّدِ الْمَعَاشِ فَيَدْخُلُهَا حَلَالًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كُلِّفَ الْإِحْرَامَ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَمْ يُطِقْهُ ، وَقَدْ رُفِعَ تَكْلِيفُ هَذَا عَنَّا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ فَلَا يَخْلُو ؛ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً أَوْ غَيْرَهُمَا ؛ فَإِنْ كَانَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ ؛ فَفِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ تَرْكُهُ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ .
وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْإِحْرَامِ ، لِقَوْلِهِ

عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تُحَلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
وَهَذَا عَامٌّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { بِهَذَا الْبَلَدِ } مَكَّةَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ رَبُّهُ بِهَذَا ، وَذَكَرَ لَهُ الْبَلَدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ [ ضَرُورَةً ] التَّعْرِيفَ الْمَعْهُودَ .
وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَكَّةُ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْبَلَدَ بِحَرِيمِهِ ، كَمَا أَنَّ الدَّارَ بِحَرِيمِهَا ، فَحَرِيمُ الدَّارِ مَا أَحَاطَ بِجُدْرَانِهَا ، وَاتَّصَلَ بِحُدُودِهَا ، وَحَرِيمُ بَابِهَا مَا كَانَ لِلْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ ، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ فِي الْحَدِيثِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَعِنْدَ عُلَمَائِنَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَرَاضِي فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ ، وَلَهَا حَرِيمُ السَّقْيِ بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِطُ الْمَاشِيَةُ بِالْمَاشِيَةِ مِنْ الْبِئْرِ الْأُخْرَى فِي الْمَسْقَى وَالْمَبْرَكِ ، وَمَنْ حَازَ حَرِيمًا أَوْ مُنَاخًا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَهُوَ لَهُ .
وَحَرِيمُ الشَّجَرَةِ مَا عَمُرَتْ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُد ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { اخْتَصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ ، فَأَمَرَ بِهَا } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : { فَأَمَرَ بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرَائِدِهَا فَذُرِعَتْ ، فَوُجِدَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا : { خَمْسَةَ أَذْرُعٍ فَقَضَى بِذَلِكَ } .
وَاَلَّذِي يَقْضِي بِهِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ حَقَّهُ فِي الْعِمَارَةِ التَّامَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَرْضِ ، وَيَأْخُذُ دَوْحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ ، إلَّا أَنْ تَسْتَرْسِلَ أَغْصَانُهَا عَلَى أَرْضِ رَجُلٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ مِنْهَا مَا أَضَرَّ بِهِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } : فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْعَقَبَةُ : فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا طَرِيقُ النَّجَاةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الثَّانِي جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
الثَّالِثُ : عَقَبَةٌ فِي جَهَنَّمَ هِيَ سَبْعُونَ دَرَجَةً ، قَالَهُ كَعْبٌ .
الرَّابِعُ أَنَّهَا نَارٌ دُونَ الْحَشْرِ .
الْخَامِسُ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَعَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ : عَقَبَةٌ وَاَللَّهِ شَدِيدَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْعَقَبَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْأَمْرُ الشَّاقُّ ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالطَّاعَةِ ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْمُقَاسَاةِ لِلْأَهْوَالِ وَتَعْيِينُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِخَبَرِ الصَّادِقِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ " اقْتَحَمَ " مَعْنَاهُ قَطَعَ الْوَادِيَ بِسُلُوكِهِ فِيهِ .
وَقَالَ اللَّيْثُ : هُوَ رَمْيُهُ فِي وَهْدَةٍ بِنَفْسِهِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْتَحِمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلِيَقْضِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ .
وَإِنَّمَا فَسَّرْنَاهُ بَعْدَ الْعَقَبَةِ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ تَقَدَّمَ فِي الشَّرْحِ عَلَى الصِّفَةِ بِحُكْمِ النَّظَرِ الْحَقِيقِيِّ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَارَ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ قَوْلَ مُجَاهِدٍ : إنَّهُ لَمْ يَقْتَحِمْ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا ؛ وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ : { وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَةُ } .
ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ : { فَكُّ رَقَبَةٍ } .
وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ : { أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } .
ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ : { يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ } .
ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ : { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } ، فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إنَّمَا تَكُونُ فِي الدُّنْيَا .
الْمَعْنَى فَلَمْ يَأْتِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُسَهِّلُ لَهُ سُلُوكَ الْعَقَبَةِ فِي الْآخِرَةِ .
تَحْقِيقُهُ : وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَةُ ؛ أَيُّ شَيْءٍ يَقْتَحِمُ بِهِ الْعَقَبَةَ ؛ لِأَنَّ الِاقْتِحَامَ يَدُلُّ عَلَى مُقْتَحَمٍ بِهِ ، وَهُوَ مَا فَسَّرَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ : أَوَّلُهَا فَكُّ رَقَبَةٍ .
وَالْفَكُّ هُوَ حَلُّ الْقَيْدِ ، وَالرِّقُّ قَيْدٌ ، وَسُمِّيَ الْمَرْقُوقُ رَقَبَةً لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ الَّذِي يُرْبَطُ بِالْقَيْدِ فِي عُنُقِهِ قَالَ حَسَّانُ : كَمْ مِنْ أَسِيرٍ فَكَكْنَاهُ بِلَا ثَمَنٍ وَجَزِّ نَاصِيَةٍ كُنَّا مَوَالِيهَا وَفَكُّ الْأَسِيرِ مِنْ الْعَدُوِّ مِثْلُهُ ؛ بَلْ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَفِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَظِيمٌ فِي تَكْفِيرِ الزِّنَا بِالْعِتْقِ .
وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ { أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ سَأَلَ أَنْ يُحَدِّثَ بِحَدِيثٍ لَا وَهْمَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ ، فَغَضِبَ وَاثِلَةُ ، وَقَالَ : الْمَصَاحِفُ تُجَدِّدُونَ فِيهَا النَّظَرَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً وَأَنْتُمْ تَهُمُّونَ تَزِيدُونَ وَتُنْقِصُونَ ، ثُمَّ قَالَ : جَاءَ نَاسٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صَاحِبُنَا

هَذَا قَدْ أَوْجَبَ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرُوهُ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً ؛ فَإِنَّ لَهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ الْمُعْتَقِ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ } .
وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عُلَيَّةَ ، حَدَّثَهُمْ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّيلِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ بِنَحْوِ مِثْلِهِ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَالَ أَصْبَغُ : الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ ذَاتُ الثَّمَنِ أَفْضَلُ فِي الْعِتْقِ مِنْ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ الْقَلِيلَةِ الثَّمَنِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : { أَغْلَاهَا ثَمَنًا ، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا } .
وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا } ، { وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً } ، وَمَا ذَكَرَهُ أَصْبَغُ وَهْلَةً .
وَإِنَّمَا نُظِرَ إلَى تَنْقِيصِ الْمَالِ ، وَالنَّظَرُ إلَى تَجْرِيدِ الْمُعْتَقِ لِلْعِبَادَةِ ؛ وَتَفْرِيغِهِ لِلتَّوْحِيدِ أَوْلَى .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّرِيحِ مِنْ مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إطْعَامُ الطَّعَامِ قَدْ بَيَّنَّا فَضْلَهُ ، وَهُوَ مَعَ السَّغَبِ الَّذِي هُوَ الْجُوعُ أَفْضَلُ مِنْ إطْعَامِهِ لِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ ، أَوْ عَلَى مُقْتَضَى الشَّهْوَةِ .
وَإِطْعَامُ الْيَتِيمِ الَّذِي لَا كَافِلَ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ إطْعَامِ ذِي الْأَبَوَيْنِ لِوُجُودِ الْكَافِلِ وَقِيَامِ النَّاصِرِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ .

وَالْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { ذَا مَقْرَبَةٍ } يُفِيدُ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْبَعِيدِ ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ بِهِ قَبْلَ الْمِسْكِينِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي النَّفَلِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مَعَ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } وَالْمَتْرَبَةُ : الْفَقْرُ الْبَالِغُ الَّذِي لَا يَجِدُ صَاحِبُهُ طَعَامًا إلَّا التُّرَابَ وَلَا فِرَاشًا سِوَاهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الشَّمْسِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا } : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَا : أَخْرَجَ إلَيْنَا مَالِكٌ مُصْحَفًا لِجَدِّهِ زَعَمَ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، حِينَ كَتَبَ الْمَصَاحِفَ ، مِمَّا فِيهِ : وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا بِالْوَاوِ ، وَهَكَذَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو مِنْ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ وَغَيْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَقْرَأْ بِهِ نَافِعٌ ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : السُّنَّةُ قِرَاءَةُ نَافِعٍ .
قُلْنَا : لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَلَا كُلُّ سَامِعٍ يَفْهَمُ عَنْهُ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ الْهَمْزَ وَحَذْفَهُ ، وَالْمَدَّ وَتَرْكَهُ ، وَالتَّفْخِيمَ وَالتَّرْقِيقَ ، وَالْإِدْغَامَ وَالْإِظْهَارَ ، فِي نَظَائِرَ لَهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْقِرَاءَاتِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ السُّنَّةَ فِي تَوَسُّعِ الْخَلْقِ فِي الْقِرَاءَةِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِبَاطٍ إلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ } ، وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ : لَا تَكُنْ فَتَّانًا ، اقْرَأْ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } وَنَحْوَهُمَا } ، فَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ .

سُورَةُ اللَّيْلِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَى الْقَسَمِ فِيهَا : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إنَّ مَعْنَاهُ وَرَبِّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
وَهَذَا الْمَحْذُوفُ مُقَدَّرٌ فِي كُلِّ قَسَمٍ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقَسَمِ بِهَا .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كَمَا تَقَدَّمَ يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ ، وَآدَمُ خُلِقَ وَحْدَهُ قَبْلَ خَلْقِ حَوَّاءَ حَسْبَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَصُورَةُ الْمُصْحَفِ { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَابْنَ مَسْعُودٍ ، كَانَا يَقْرَآنِ : وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
قَالَ إبْرَاهِيمُ : قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالُوا : كُلُّنَا .
قَالَ تَقْرَءُونَ : { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } ؟ قَالَ عَلْقَمَةُ : وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
قَالَ : أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَكَذَا ، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ أَقْرَأَ : وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ، وَاَللَّهِ لَا أُتَابِعُهُمْ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مِمَّا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بَشَرٌ ، إنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصُّحُفِ ؛ فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ لِأَحَدٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ النَّظَرُ فِيمَا يُوَافِقُ خَطَّهُ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ ضَبْطُهُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا ؛ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ ، وَيَنْقَطِعُ مَعَهُ الْعُذْرُ وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ : الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ ، يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا } ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ ، وَكَانَ يُعْتِقُ نِسَاءً وَعَجَائِزَ ؛ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : أَيْ بُنَيَّ ، أَرَاك تُعْتِقُ أُنَاسًا ضُعَفَاءَ ، فَلَوْ أَنَّك أَعْتَقْت رِجَالًا جَلْدًا يَقُومُونَ مَعَك ، وَيَدْفَعُونَ عَنْك ، وَيَمْنَعُونَك ، فَقَالَ : أَيْ أَبَتِ ؛ إنَّمَا أُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ .
قَالَ : فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { مَنْ أَعْطَى } : حَقِيقَةُ الْعَطَاءِ هِيَ الْمُنَاوَلَةُ ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ يَصِلُ مِنْ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّقَى } : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ التَّقْوَى ، وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حِجَابٍ مَعْنَوِيٍّ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِقَابِ ، كَمَا أَنَّ الْحِجَابَ الْمَحْسُوسَ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ مَانِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } : فِيهَا

ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْخَلَفُ مِنْ الْمُعْطِي ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْجَنَّةُ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْمُخْتَارِ : كُلُّ مَعْنًى مَمْدُوحٍ فَهُوَ حُسْنَى ، وَكُلُّ عَمَلٍ مَذْمُومٍ فَهُوَ سُوأَى وَعُسْرَى ، وَأَوَّلُ الْحُسْنَى التَّوْحِيدُ ، وَآخِرُهُ الْجَنَّةُ ؛ وَكُلُّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ حُسْنَى ، وَأَوَّلُ السُّوأَى كَلِمَةُ الْكُفْرِ ، وَآخِرُهُ النَّارُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَهُوَ مِنْهُمَا وَمُرَادٌ بِاللَّفْظِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُمَا .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْحُسْنَى الْخَلَفُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { فَسَنُيَسِّرُهُ } يَعْنِي نُهَيِّئُهُ بِخَلْقِ أَسْبَابِهِ ، وَإِيجَادِ مُقَدِّمَاتِهِ ، ثُمَّ نَخْلُقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ حَسَنًا سُمِّيَ يُسْرَى ، وَإِنْ مَذْمُومًا سُمِّيَ عُسْرَى ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْكُلِّ ، فَإِنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ هَيَّأَ أَسْبَابَهَا لِلْعَبْدِ وَخَلَقَهَا فِيهِ ، وَإِنْ أَرَادَ الشَّقَاءَ هَيَّأَ أَسْبَابَهُ لِلْعَبْدِ ، وَخَلَقَهَا فِيهِ ؛ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ صَحِيحَةٍ ، يُعَضِّدُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْقَوْلِ ، وَيَعْتَضِدُ بِالشَّرْعِ الْمَنْقُولِ ، مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ : { كُنَّا فِي جِنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ ، وَجَلَسْنَا ، وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا كُتِبَ مَدْخَلُهَا .
فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا ؟ فَقَالَ : بَلْ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ

الشَّقَاءِ .
ثُمَّ قَرَأَ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } إلَى قَوْلِهِ : { لِلْعُسْرَى } } .
{ وَسَأَلَ غُلَامَانِ شَابَّانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا : الْعَمَلُ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ ؟ فَقَالَ : بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ .
فَقَالَا : فَفِيمَ الْعَمَلُ إذَنْ ؟ قَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ .
قَالَا : فَالْآنَ نَجِدُّ وَنَعْمَلُ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { بَخِلَ } : قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْبُخْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَأَنَّهُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ .
} الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْلُهُ : { وَاسْتَغْنَى } : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : اسْتَغْنَى عَنْ اللَّهِ ، وَهُوَ كُفْرٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ، وَهُمْ فُقَرَاءُ إلَيْهِ ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ .
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اسْتَغْنَى بِالدُّنْيَا عَنْ الْآخِرَةِ ، فَرَكَنَ إلَى الْمَحْسُوسِ ، وَآمَنَ بِهِ ، وَضَلَّ عَنْ الْمَعْقُولِ ، وَكَذَّبَ بِهِ ، وَرَأَى أَنَّ رَاحَةَ النَّقْدِ خَيْرٌ مِنْ رَاحَةِ النَّسِيئَةِ ، وَضَلَّ عَنْ وَجْهِ النَّجَاةِ ، وَرِبْحِ التِّجَارَةِ الَّتِي اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى طَلَبِهَا بِإِسْلَامِ دِرْهَمٍ إلَى غَنِيٍّ وَفِيٍّ لِيَأْخُذَ عَشْرَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، وَهُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، وَالْخَلْقُ مِلْكُهُ ، أَمَرَ بِالْعَمَلِ وَنَدَبَ إلَى النَّصَبِ ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ ؛ فَالْحَرَامُ مَعْقُولًا ، وَالْوَاجِبُ مَنْقُولًا امْتِثَالَ أَمْرِهِ ، وَارْتِقَابَ وَعْدِهِ ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْحُكْمِ فِي الْآيَةِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيَانِ

مَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَقْصُودِ فَأَرْجَأْته إلَى مَكَانِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ .

سُورَةُ الضُّحَى [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَالضُّحَى } : فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { الضُّحَى } : هُوَ ضَوْءُ النَّهَارِ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ ، يُقَالُ : ارْتَفَعَتْ الضُّحَى ، وَمَعْنَاهَا هُوَ الضَّوْءُ مُذَكَّرٌ ، وَتَصْغِيرُهُ ضُحَيَّا ، فَإِذَا فَتَحْت مَدَدْت ، قَالَ الشَّاعِرُ : أُعَجِّلُهَا أَقْدُحِي الضَّحَاءَ ضُحًى وَهِيَ تُنَاصِي ذَوَائِبَ السِّلْمِ يَصِفُ أَنَّهُ نَامَ عَنْ إبِلٍ ، فَأَخَذَهَا ضُحًى قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الضَّحَاءُ .
وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الضَّحَاءَ بَعْدَ الضُّحَى ، حَقٌّ إنَّهُ لِيَتَمَادَى إلَى نِصْفِ النَّهَارِ ، فَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ حِينَ هَاجَرَ ، وَقَدْ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ ، وَكَادَتْ الشَّمْسُ تَزُولُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُمِيَ بِالْحَجَرِ فِي إصْبَعِهِ فَدَمِيَتْ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ .
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت .
قَالَ : فَمَكَثَ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا يَقُومُ ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ ؛ مَا أَرَى شَيْطَانَك إلَّا قَدْ تَرَكَك ؛ فَنَزَلَتْ السُّورَةُ } .
الثَّانِي : رَوَى جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ : { اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ ، إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُك قَدْ تَرَكَك } .
وَفِي رِوَايَةٍ : مَا أَرَى صَاحِبَك إلَّا أَبْطَأَك ، فَنَزَلَتْ .
وَهَذَا أَصَحُّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ " تَرْكُ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ " وَأَدْخَلَ الْحَدِيثَ لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ وُجُوبُ قِيَامِ اللَّيْلِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ الْمُحَقَّقَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْحَدِيثُ { بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَى ، فَتَرَكَ الْقِيَامَ } صَحِيحٌ وَذِكْرُهُ فِيهِ : { هَلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ .
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ } .
غَيْرُ صَحِيحٍ [ وَقَوْلُهُ : { فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ } أَسْقَطَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا ، وَهُوَ صَحِيحٌ ، خَرَّجَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي صَرِيحِ الصَّحِيحِ ] .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلُ : وَأَمَّا السَّائِلَ [ لِلْبِرِّ ] فَلَا تَنْهَرْ أَيْ رُدَّهُ بِلِينٍ وَرَحْمَةٍ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : سَائِلُ الدِّينِ لِلْبَيَانِ لَا تَنْهَرْهُ بِالْجَفْوَةِ وَالْغِلْظَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَائِلُ الْبِرِّ فَقَدْ قَدَّمْنَا وُجُوهَ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ فِيهِ ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ، فَكَيْفَ بِالْأَذَى دُونَ الصَّدَقَةِ .
وَأَمَّا السَّائِلُ عَنْ الدِّينِ فَجَوَابُهُ فَرْضٌ عَلَى الْعَالِمِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَإِعْطَاءِ سَائِلِ الْبِرِّ سَوَاءً ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَنْظُرُ إلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَيَبْسُطُ رِدَاءَهُ لَهُمْ ، وَيَقُولُ : مَرْحَبًا بِأَحِبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنَّا إذَا أَتَيْنَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ : مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ ، وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يَتَفَقَّهُونَ ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { يَأْتِيكُمْ رِجَالٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ } فَذَكَرَهُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ : [ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ ] ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنَّهَا النُّبُوَّةُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْقُرْآنُ .
الثَّالِثُ : إذَا أَصَبْت خَيْرًا أَوْ عَمِلْت خَيْرًا فَحَدِّثْ بِهِ الثِّقَةَ مِنْ إخْوَانِك ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا النُّبُوَّةُ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنُ الْهَادِ ، قَالَ : { جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، اقْرَأْ .
قَالَ : وَمَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ } حَتَّى بَلَغَ { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَقَالَ لِخَدِيجَةَ : يَا خَدِيجَةُ ؛ مَا أَرَانِي إلَّا قَدْ عُرِضَ لِي .
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلًّا وَاَللَّهِ ، مَا كَانَ رَبُّك لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِك ، وَمَا أَتَيْتَ فَاحِشَةً قَطُّ .
قَالَ : فَأَتَتْ خَدِيجَةُ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ ؛ فَقَالَ وَرَقَةُ : إنْ تَكُونِي صَادِقَةً فَزَوْجُك نَبِيٌّ ، وَلَيَلْقِيَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ شِدَّةً ، فَاحْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا أَرَى رَبَّك إلَّا قَدْ قَلَاك ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالضُّحَى } } يَعْنِي السُّورَةَ .
فَهَذَا حَدِيثُهُ بِالنُّبُوَّةِ .
وَأَمَّا حَدِيثُهُ بِالْقُرْآنِ فَتَبْلِيغُهُ إيَّاهُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا مِنْ الْوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَكَ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ ، وَاَللَّهُ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْت رِسَالَتَهُ } .
وَأَمَّا

تَحَدُّثُهُ بِعَمَلٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِإِخْلَاصٍ مِنْ النِّيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الثِّقَةِ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ إلَى الرِّيَاءِ ، وَأَسَاءَ الظَّنَّ بِسَامِعِهِ .
وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ ؛ قَالَ : دَخَلْت عَلَى أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ ، فَقَالَ : لَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ الْبَارِحَةَ خَيْرًا ، صَلَّيْت كَذَا وَسَبَّحْت كَذَا .
قَالَ : قَالَ : أَيُّوبُ : فَاحْتَمَلْت ذَلِكَ لِأَبِي رَجَاءَ .
وَمِنْ الْحَدِيثِ بِالنِّعْمَةِ إظْهَارُهَا بِالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ } ؛ وَإِظْهَارُهَا بِالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ .
وَإِظْهَارُهَا بِالْجَدِيدِ وَالْقَوِيِّ مِنْ الثِّيَابِ النَّقِيِّ ، وَلَيْسَ بِالْخَلِقِ الْوَسِخِ ، وَفِي الْمَرْكَبِ اقْتِنَاؤُهُ لِلْجِهَادِ أَوْ لِسَبِيلِ الْحَلَالِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

سُورَةُ الِانْشِرَاحِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَك صَدْرَك } : شَرْحُهُ حَقِيقَةٌ حِسِّيَّةٌ ، وَذَلِكَ حِينَ كَانَ عِنْدَ ظِئْرِهِ ، وَحِينَ أُسْرِيَ بِهِ ، وَشَرَحَهُ مَعْنًى حِينَ جَمَعَ لَهُ التَّوْحِيدَ فِي صَدْرِهِ وَالْقُرْآنَ ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا ، وَشَرَحَهُ حِينَ خَلَقَ لَهُ الْقَبُولَ لِكُلِّ مَا أَلْقَى إلَيْهِ وَالْعَمَلَ بِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ تَمَامُ الشَّرْحِ وَزَوَالُ التَّرَحِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَرَفَعْنَا لَك ذِكْرَك } : يَعْنِي قَرَنَّاهُ بِذِكْرِنَا فِي التَّوْحِيدِ وَالْأَذَانِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْمُوَحِّدُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلْأُخْرَى بِلَا فُتُورٍ وَلَا كَسَلٍ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ إذَا فَرَغْت مِنْ الْفَرَائِضِ فَتَأَهَّبْ لِقِيَامِ اللَّيْلِ .
الثَّانِي : إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ .
الثَّالِثُ : إذَا فَرَغْت مِنْ الْجِهَادِ فَاعْبُدْ رَبَّك .
الرَّابِعُ إذَا فَرَغْت مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك فَانْصَبْ لِأَمْرِ آخِرَتِك .
وَمِنْ الْمُبْتَدِعَةِ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَنْصِبْ بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْهَمْزِ فِي أَوَّلِهِ ، وَقَالُوا : مَعْنَاهُ أَنْصِبْ الْإِمَامَ الَّذِي يُسْتَخْلَفُ ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ فِي الْقِرَاءَةِ ، بَاطِلٌ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا .
وَقَرَأَهَا بَعْضُ الْجُهَّالِ فَانْصَبَّ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ مَعْنَاهُ إذَا فَرَغْت مِنْ الْغَزْوِ فَجُدَّ إلَى بَلَدِك .
وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا قِرَاءَةً لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ ، لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ } .
وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا وَأَسْوَأَهُمْ مَآبًا وَمَبَاءً مَنْ أَخَذَ مَعْنًى صَحِيحًا ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قِرَاءَةً أَوْ حَدِيثًا ، فَيَكُونُ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ ، كَاذِبًا عَلَى رَسُولِهِ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا .
أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ عِيدٍ ، فَقَالَ : مَا بِهَذَا أَمَرَ الشَّارِعُ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ { الْحَبَشَ كَانُوا يَلْعَبُونَ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ } .
{ وَدَخَلَ

أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنَّيَانِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ } .
وَلَيْسَ يَلْزَمُ الدَّءُوبَ عَلَى الْعَمَلِ ، بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ لِلْخَلْقِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .

سُورَةُ التِّينِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } : قِيلَ : هُوَ حَقِيقَةٌ .
وَقِيلَ : عَبَّرَ بِهِ عَنْ دِمَشْقَ أَوْ جَبَلِهَا ، أَوْ مَسْجِدِهَا ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتِّينِ لِيُبَيِّنَ فِيهِ [ وَجْهَ ] الْمِنَّةِ الْعُظْمَى ، فَإِنَّهُ جَمِيلُ الْمَنْظَرِ ، طَيِّبُ الْمَخْبَرِ ، نَشِرُ الرَّائِحَةِ ، سَهْل الْجَنْيِ ، عَلَى قَدْرِ الْمُضْغَةِ ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِيهِ : اُنْظُرْ إلَى التِّينِ فِي الْغُصُونِ ضُحًى مُمَزَّقَ الْجِلْدِ مَائِلَ الْعُنُقِ كَأَنَّهُ رَبُّ نِعْمَةٍ سُلِبَتْ فَعَادَ بَعْدَ الْجَدِيدِ فِي الْخَلَقِ أَصْغَرُ مَا فِي النُّهُودِ أَكْبَرُهُ لَكِنْ يُنَادَى عَلَيْهِ فِي الطُّرُقِ وَلِامْتِنَانِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ ، وَتَعْظِيمِ النِّعْمَةِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرٌ ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ .
وَإِنَّمَا فَرَّ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ التَّصْرِيحِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ تَقِيَّةَ جَوْرِ الْوُلَاةِ فَإِنَّهُمْ يَتَحَامَلُونَ فِي الْأَمْوَالِ الزَّكَائِيَّةِ ، فَيَأْخُذُونَهَا مَغْرَمًا ، حَسْبَمَا أَنْذَرَ بِهِ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ سَبِيلًا إلَى مَالٍ آخَرَ يَتَشَطَّطُونَ فِيهِ .
وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نِعْمَةِ رَبِّهِ بِأَدَاءِ حَقِّهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَوْ غَيْرِهَا : لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ .
وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } : [ يَعْنِي مَكَّةَ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأَمْنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَغَيْرِهِمَا ] ، وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ بِالتِّينِ دِمَشْقَ ، وَبِالزَّيْتُونِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِجَبَلِ دِمَشْقَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْوَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِجَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ ، وَبِمَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ إبْرَاهِيمَ وَدَارُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقٌ هُوَ أَحْسَنُ مِنْ الْإِنْسَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ حَيًّا عَالِمًا ، قَادِرًا ، مُرِيدًا ، مُتَكَلِّمًا ، سَمِيعًا ، بَصِيرًا ، مُدَبِّرًا ، حَكِيمًا ، وَهَذِهِ صِفَاتُ الرَّبِّ ، وَعَنْهَا عَبَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } ، يَعْنِي عَلَى صِفَاتِهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا .
وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ .
وَمِنْ أَيْنَ تَكُونُ لِلرَّجُلِ صِفَةٌ مُشَخَّصَةٌ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعَانِيَ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْحَدِيثِ فِي مَوْضِعِهِ بِمَا فِيهِ بَيَانُهُ .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَزْدِيُّ ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْقَاضِي الْمُحْسِنُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ يُحِبُّ زَوْجَهُ حُبًّا شَدِيدًا قَالَ لَهَا يَوْمًا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ مِنْ الْقَمَرِ ، فَنَهَضَتْ وَاحْتَجَبَتْ عَنْهُ ، وَقَالَتْ : طَلَّقَنِي .
وَبَاتَ بِلَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ .
وَلَمَّا أَصْبَحَ غَدًا إلَى دَارِ الْمَنْصُورِ ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ [ وَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنْ تَمَّ عَلَيَّ طَلَاقُهَا تَصَلَّفَتْ نَفْسِي غَمًّا ، وَكَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الْحَيَاةِ ] ؛ وَأَظْهَرَ لِلْمَنْصُورِ جَزَعًا عَظِيمًا ، فَاسْتَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ ، وَاسْتَفْتَاهُمْ ، فَقَالَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ : قَدْ طَلُقَتْ ، إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ كَانَ سَاكِتًا ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ : مَالَك لَا تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، الْإِنْسَانُ أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْهُ [ فَقَالَ

الْمَنْصُورُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى : الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ؛ فَأَقْبِلْ عَلَى زَوْجِك ] ، فَأَرْسَلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إلَى زَوْجِهِ أَنْ أَطِيعِي زَوْجَك ، وَلَا تَعْصِيهِ ، فَمَا طَلَّقَك .
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ بَاطِنًا وَ [ هُوَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ ] ظَاهِرًا جَمَالَ هَيْئَةٍ ، وَبَدِيعَ تَرْكِيبٍ : الرَّأْسُ بِمَا فِيهِ ، وَالصَّدْرُ بِمَا جَمَعَهُ ، وَالْبَطْنُ بِمَا حَوَاهُ ، وَالْفَرْجُ وَمَا طَوَاهُ ، وَالْيَدَانِ وَمَا بَطَشَتَاهُ ، وَالرِّجْلَانِ وَمَا احْتَمَلَتَاهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ : إنَّهُ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ ؛ إذْ كُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أُجْمِعَ فِيهِ هَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَكَيْفَ عَلَى التَّفْصِيلِ ، بِتَنَاسُبِ الْمَحَاسِنِ ، فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي رُكِّبَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ اسْتَوْلَى عَلَى جَمَاعَةٍ الْكُفْرَانُ ، وَغَلَبَ عَلَى طَائِفَةٍ الطُّغْيَانُ ، حَتَّى قَالَ : أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى ، وَحِينَ عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنْ عَبْدِهِ ، وَقَضَاؤُهُ صَادِرٌ مِنْ عِنْدِهِ ، رَدَّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ وَهِيَ : الْآيَةُ الرَّابِعَةُ بِأَنْ جَعَلَهُ مَمْلُوءًا قَذِرًا ، مَشْحُونًا نَجَاسَةً ، وَأَخْرَجَهَا عَلَى ظَاهِرِهِ إخْرَاجًا مُنْكَرًا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ تَارَةً ، وَعَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ أُخْرَى ، حَتَّى إذَا شَاهَدَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ رَجَعَ إلَى قَدْرِهِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } : قَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } فَلْيَقُلْ : بَلَى ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشَّاهِدِينَ } .
وَمِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ : { إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ أَوْ سَمِعَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى فَلْيَقُلْ : بَلَى } .
وَهَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ ، أَمَا إنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي الِاعْتِقَادِ لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ مِنْ الِانْتِقَادِ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : { صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَتَمَةَ ، فَصَلَّى فِيهَا بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : سَمِعْت الْبَرَاءَ يَقُولُ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ ، فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } ، فَفَسَّرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ قِرَاءَتَهَا مَعَ قَصْرِهَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهُوَ السَّفَرُ .

سُورَةُ الْعَلَقِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ } : فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ .
الْقَوْلُ : فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : هَذِهِ السُّورَةُ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَغَيْرُهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُ نَزَلَ { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } ؛ قَالَهُ جَابِرٌ .
الثَّالِثُ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } .
الرَّابِعُ قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ الْهَمْدَانِيُّ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ؛ قَالَتْ : { كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ .
وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، حَتَّى فَجِئَهُ الْوَحْيُ ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } إلَى قَوْلِهِ : { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } .
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُؤَادُهُ يَرْجُفُ ؛ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ : أَيْ خَدِيجَةُ ، مَا لِي ؟ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي .
فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلًّا ، أَبْشِرْ .

فَوَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا ، فَوَاَللَّهِ إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ .
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ ، وَيَكْتُبُ الْإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : يَا بْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك .
قَالَ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي ، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى .
فَقَالَ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ، قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إلَّا أُوذِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك حَيًّا أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا .
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً ، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ : بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْت صَوْتًا ، فَرَفَعْت رَأْسِي ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي قَدْ جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَفَزِعْت مِنْهُ ، فَرَجَعْت فَقُلْت : زَمِّلُونِي ، دَثِّرُونِي ، فَدَثَّرُوهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّك فَكَبِّرْ وَثِيَابَك فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } } .
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : وَهِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْبُدُهَا

، ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } : فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْعَلَقِ ، وَأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَقَةً لَيْسَ بِإِنْسَانٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } : فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْأَقْلَامُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةٌ : الْقَلَمُ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ ، فَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ السَّاعَةِ ، فَهُوَ عِنْدَهُ فِي الذِّكْرِ فَوْقَ عَرْشِهِ } .
الْقَلَمُ الثَّانِي : مَا جَعَلَ اللَّهُ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ يَكْتُبُونَ بِهِ الْمَقَادِيرَ وَالْكَوَائِنَ وَالْأَعْمَالَ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ الْأَقْلَامَ ، وَعَلَّمَهُمْ الْكِتَابَ بِهَا .
الْقَلَمُ الثَّالِثُ أَقْلَامُ النَّاسِ ، جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ ، وَيَصِلُونَ بِهَا إلَى مَآرِبِهِمْ ، وَاَللَّهُ أَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا ، وَخَلَقَ لَهُمْ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالنُّطْقَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ ، ثُمَّ رَزَقَهُمْ مَعْرِفَةَ الْعِبَادَةِ بِاللِّسَانِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ [ وَجْهًا ، وَقِيلَ ] حَرْفًا يَضْطَرِبُ بِهَا اللِّسَانُ بَيْنَ الْحَنَكِ وَالْأَسْنَانِ فَيَتَقَطَّعُ الصَّوْتُ تَقْطِيعًا يَثْبُتُ عَنْهُ مُقَطَّعَاتُهُ عَلَى نِظَامٍ مُتَّسِقٍ قُرِنَتْ بِهِ مَعَارِفُ فِي أَفْرَادِهَا وَفِي تَأْلِيفِهَا ، وَأَلْقَى إلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَةَ أَدَائِهَا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَعَلَّمَك مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } .
ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ الْيَدَ وَالْقُدْرَةَ ، وَرَزَقَهُ الْعِلْمَ [ وَالرُّتْبَةَ ] ، وَصَوَّرَ لَهُ حُرُوفًا تُعَادِلُ لَهُ الصُّوَرَ الْمَحْسُوسَةَ فِي إظْهَارِ الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ فِي النُّطْقِ ، فَيُقَابِلُ هَذَا مَكْتُوبًا ذَلِكَ الْمَلْفُوظَ ، وَيُقَابِلُ الْمَلْفُوظُ مَا تَرَتَّبَ فِي الْقَلْبِ ، وَيَكُونُ الْكُلُّ سَوَاءً ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ ، { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ جَعَلَ اللَّهُ هَذَا كُلَّهُ مُرَتَّبًا لِلْخَلْقِ ، وَنِظَامًا لِلْآدَمِيِّينَ ،

وَيَسَّرَهُ فِيهِمْ ؛ فَكَانَ أَقَلَّ الْخَلْقِ بِهِ مَعْرِفَةً الْعَرَبُ ، وَأَقَلَّ الْعَرَبِ بِهِ مَعْرِفَةً [ الْحِجَازِيُّونَ ، وَأَعْدَمُ الْحِجَازِيِّينَ بِهِ مَعْرِفَةً ] الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ صَرَفَهُ ] عَنْ عِلْمِهِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَتَ لِمُعْجِزَتِهِ ، وَأَقْوَى فِي حُجَّتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ تَقْطِيعٌ فِي الْأَصْوَاتِ عَلَى نِظَامٍ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي النَّفْسِ ، وَلَهُمْ صُورَةٌ فِي الْخَطِّ تُعَبِّرُ عَمَّا يَجْرِي بِهِ اللِّسَانُ ، وَفِي اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى رَبِّكُمْ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَاكِمِ ؛ وَأُمُّ اللُّغَاتِ وَأَشْرَفُهَا الْعَرَبِيَّةُ ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ إيجَازِ اللَّفْظِ ، وَبُلُوغِ الْمَعْنَى ، وَتَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ وَفَاعِلِيهَا وَمَفْعُولِيّهَا ، كُلُّهَا عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ ، الْحُرُوفُ وَاحِدَةٌ ، وَالْأَبْنِيَةُ فِي التَّرْتِيبِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَهَذِهِ قُدْرَةٌ وَسِيعَةٌ وَآيَةٌ بَدِيعَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لِكُلِّ أُمَّةٍ حُرُوفٌ مُصَوَّرَةٌ بِالْقَلَمِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكَلِمِ ، عَلَى حَسْبِ مَرَاتِبِ لُغَاتِهِمْ ، مِنْ عِبْرَانِيٍّ ، وَيُونَانِيٍّ ، وَفَارِسِيٍّ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ اللُّغَاتِ أَوْ عَرَبِيٍّ ؛ وَهُوَ أَشْرَفُهَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا عَلَّمَ اللَّهُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ؛ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إلَّا وَعَلَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آدَمَ اسْمَهُ بِكُلِّ لُغَةٍ ، وَذَكَرَهُ آدَم لِلْمَلَائِكَةِ كَمَا عُلِّمَهُ ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ فَضْلُهُ ، وَعَظُمَ قَدْرُهُ ، وَتَبَيَّنَ عِلْمُهُ ، وَثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ ، وَقَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَحُجَّتُهُ ، وَامْتَثَلَتْ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا رَأَتْ مِنْ شَرَفِ الْحَالِ ، وَرَأَتْ مِنْ جَلَالِ الْقُدْرَةِ ، وَسَمِعَتْ مِنْ عَظِيمِ الْأَمْرِ ، ثُمَّ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ ذُرِّيَّتُهُ خَلَفًا بَعْدَ سَلَفٍ ، وَتَنَاقَلُوهُ قَوْمًا عَنْ قَوْمٍ ، تَحْفَظُهُ أُمَّةٌ

وَتُضَيِّعُهُ أُخْرَى ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَضْبِطُ عَلَى الْخَلْقِ بِالْوَحْيِ مِنْهُ مَا شَاءَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْأُمَمِ عَلَى مَقَادِيرِهَا وَمَجْرَى حُكْمِهِ فِيهَا ، حَتَّى جَاءَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ جِيرَتِهِ جُرْهُمًا ، وَزَوَّجُوهُ فِيهِمْ ، وَاسْتَقَرَّ بِالْحَرَمِ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ الْعَرَبِيَّةَ غَضَّةً طَرِيَّةً ، وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ صَحِيحَةً فَصَيْحَةً سَوِيَّةً ، وَاسْتَطْرَبَ عَلَى الْأَعْقَابِ فِي الْأَحْقَابِ إلَى أَنْ وَصَلَنَا إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرُفَ وَشَرُفَتْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَأُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلَامِ ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ وَحُكْمُهُ ، وَأَشْرَقَ عَلَى الْآفَاقِ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَالَ أَبُو الْمُنْذِرِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ : أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ نَفَرٌ مِنْ طَيِّئٍ ، وَهُمْ صُوَارُ بْنُ مُرَّةَ ؛ وَيُقَالُ مِرَارُ بْنُ مُرَّةَ ، وَأَسْلَمُ بْنُ سُدْرَةَ ، وَعَامِرُ بْنُ خُدْرَةَ فَسَارُوا إلَى مَكَّةَ ، فَتَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ ، وَهِشَامُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، ثُمَّ أَتَوْا الْأَنْبَارَ فَتَعَلَّمَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَتَوْا الْحِيرَةَ ، فَعَلَّمُوهُ جَمَاعَةً ، مِنْهُمْ : سُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ ، وَوَلَدُهُ ، يُسَمَّوْنَ بِالْكُوفَةِ بَنِي الْكَاتِبِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : الْكَلْبِيُّ مُتَّهَمٌ لَا يُؤَثِّرُ نَقْلُهُ ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْخَطَّ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَنَقَلَهُ الْكَافَّةُ فَالْكَافَّةُ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْعَرَبِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ أَوَّلَ مَنْ نَقَلَ الْخَطَّ إلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فُلَانٌ .
وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ فُلَانٌ ، فَالْخَطُّ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ طَيِّئٍ بِمَا لَا يُحْصَى مِنْ السِّنِينَ عَدَدًا ، فَأَمَّا وَضْعُهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَالسُّرْيَانِيَّ وَالْمُسْنَدَ ، وَهُوَ كِتَابُ حِمْيَرَ ، كَتَبَهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَهَا فِي الطِّينِ وَطَبَخَهَا فَلَمَّا أَصَابَ الْأَرْضَ الْغَرَقُ ، وَانْجَلَى ، وَخَلَقَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقٍ وَجَدَتْ كُلُّ أُمَّةٍ كِتَابَهَا ، فَأَصَابَ إسْمَاعِيلُ كِتَابَ الْعَرَبِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ إسْمَاعِيلُ عَلَى لَفْظِهِ وَمَنْطِقِهِ كِتَابًا وَاحِدًا ، مِثْلَ الْأُصُولِ فَتَعَرَّفَهُ وَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ : أَوَّلُ مَا وَضَعَ أَبْجَدِ هَوَّزْ حُطِّي كَلَمُنْ سعفص قَرَشَتْ ، وَأُسْنِدَ إلَى

عَمْرٍو .
وَهَذِهِ كُلُّهَا رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ خَوْضٌ فِيمَا لَا يُعْتَمَدُ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ لِيَعْلَمَ الطَّالِبُ مَا جَرَى ، وَيَفْهَمَ مِنْ ذَلِكَ الْأَوْلَى بِالدِّينِ وَالْأَحْرَى .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْمَاعِيلَ إنَّمَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ جُرْهُمٍ ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ لِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ : { فَكَانَتْ كَذَلِكَ هَاجَرُ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ مُقْبِلِينَ مِنْ طُرُقِ كَدَاءٍ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ ، نَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَلَيْهِمَا فَقَالُوا : إنَّ هَذَا الطَّائِرَ يَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا .
قَالَ وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْمَاءِ ، فَقَالُوا : أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، و لَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ .
قَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَتْ ذَلِكَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلِيهِمْ ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ ، وَشَبَّ الْغُلَامُ ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ } وَسَاقَ الْحَدِيثَ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَبُو جَهْلٍ : لَئِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ .
فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا } خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ، فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا ؟ أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا ؟ فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَبَرَهُ ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : إنَّك لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرَ مِنِّي ، فَنَزَلَتْ : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَاَللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَعَلَّقَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا : لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ [ مُتَيَمِّمًا ] ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ : يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى عَلَيْهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ فِي قَوْلِهِ : { أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } .
وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هَلْ يَكُونُ فِي صَلَاةٍ إذَا رَأَى الْمَاءَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الذَّمُّ إلَّا إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً ، وَنَحْنُ قُلْنَا لَهُمْ : إذَا أَمَرْتُمُوهُ بِقَطْعِهَا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي الْعُمُومِ الْمَذْمُومِ .
قَالُوا : لَا نَدْخُلُ ؛ لِأَنَّا نَرْفَعُ الطَّهَارَةَ بِالتُّرَابِ بِمُعَارِضِهَا وَهُوَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ .
قُلْنَا : لَا تَكُونُ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مُعَارِضَةً لِلطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ ، إلَّا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مُقَارِنَةً لِلرُّؤْيَةِ ، وَلَا قُدْرَةَ مَعَ الصَّلَاةِ ، وَلَا تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ إلَّا بِرُؤْيَةٍ مَعَ قُدْرَةٍ ، فَمَانِعٍ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ بِحَالِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { وَاسْجُدْ } فِيهَا طَرِيقَةُ الْقُرْبَةِ ، فَهُوَ يَتَأَكَّدُ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُجُودَ الصَّلَاةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سُجُودُ الصَّلَاةِ ، لِقَوْلِهِ : { أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } إلَى قَوْلِهِ : ( كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) ، لَوْلَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي : { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } وَفِي : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ } سَجْدَتَيْنِ } ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : عَزَائِمُ السُّجُودِ أَرْبَعٌ : { الم تَنْزِيلُ } و { حم تَنْزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } و { وَالنَّجْمِ } و { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك } .
وَهَذَا إنْ صَحَّ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ السُّجُودُ الثَّانِي مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِالرُّكُوعِ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْنَاهُ ارْكَعُوا [ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ ] ، وَاسْجُدُوا فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { وَاقْتَرِبْ } : الْمَعْنَى اكْتَسِبْ الْقُرْبَ مِنْ رَبِّك فِي السُّجُودِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي سُجُودِهِ ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِلَّهِ ، وَلِلَّهِ غَايَةُ الْعِزَّةِ ، وَلَهُ الْعِزَّةُ الَّتِي لَا مِقْدَارَ لَهَا ، فَلَمَّا بَعُدْت مِنْ صِفَتِهِ قَرُبْت مِنْ جَنَّتِهِ ، وَدَنَوْت مِنْ جِوَارِهِ فِي دَارِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ ، وَأَمَّا

السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ ؛ فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ ، وَمُطَرِّفٌ : وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَابْنُ وَهْبٍ يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِمِ .

سُورَةُ الْقَدْرِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } : فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَقِسْمِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَمَدِ الْأَقْصَى مَعْنَى النُّزُولِ فِي الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ الْمَلِكَ عَلِمَهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنْهَاهُ فِي السُّفْلِ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مَجَازًا فِي الْمَعْنَى عَنْ الْحِسِّ إلَى الْعَقْلِ ؛ إذْ الْمَحْسُوسُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَالْمَعْقُولُ هُوَ الرُّتَبُ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَمْيِيزِ الْمُنَزَّلِ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ الْعِلْمُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } وَمِنْهُ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ { فِي لَيْلَةِ } قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لَيْلًا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي رَمَضَانَ ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ، وَأَنْزَلَهُ مِنْ الشَّهْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قِيلَ : لَيْلَةُ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ .
وَقِيلَ : لَيْلَةُ التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ .
وَهُوَ أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّرَفُ وَالرِّفْعَةُ .
وَمِنْ شَرَفِهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً ، وَمِنْ شَرَفِهَا بَرَكَتُهَا وَسَلَامَتُهَا الَّتِي يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهَا .
وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَبَّرَ الْحَوَادِثَ وَالْكَوَائِنَ قَبْلَ خَلْقِهَا بِغَيْرِ مُدَّةٍ ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ ، وَعَلِمَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ حُدُوثِهَا بِغَيْرِ أَمَدٍ ؛ وَمِنْ جَهَالَةِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ السَّفَرَةَ أَلْقَتْهُ إلَى جِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَلْقَاهُ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً .
وَهَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ [ اللَّهِ وَاسِطَةٌ .
وَلَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَاسِطَةٌ ] .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَيُحْدِثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ الْأَرْزَاقِ وَالْمَصَائِبِ ، وَمَا يُقَسَّمُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ، وَالْمَطَرِ وَالرِّزْقِ ، حَتَّى يَكْتُبَ فُلَانٌ يَحُجُّ فِي الْعَامِ ، وَيَكْتُبَ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ ، وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ، فَقَدْ فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ ، وَنَسَخَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إلَى مِثْلِهَا ، فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَنْكِحُ النِّسَاءَ ، وَيَغْرِسُ الْغُرُوسَ ، وَاسْمُهُ فِي الْأَمْوَاتِ مَكْتُوبٌ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ هِبَتِهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ فَضْلٌ مِنْ رَبِّك .
الثَّانِي أَنَّهُ { ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَقَالَ : عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، فَذَكَرَ أَيُّوبَ وَزَكَرِيَّا ، وَحِزْقِيلَ بْنَ الْعَجُوزِ ، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ ، فَعَجِبَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، عَجِبَتْ أُمَّتُك مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوا اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْك خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وَهَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْت أَنْتَ وَأُمَّتُك مِنْهُ .
قَالَ : فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
الثَّالِثُ : قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ : سَمِعْت مَنْ أَثِقُ بِهِ يَقُولُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ الْأُمَمِ قَبْلَهُ ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَلَّا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَجَعَلَهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ ، وَلَقَدْ أُعْطِيت أُمَّةُ مُحَمَّدٍ مِنْ الْفَضْلِ مَا لَمْ تُعْطَهُ أُمَّةٌ فِي طُولِ عُمُرِهَا ، فَأَوَّلُهَا أَنْ كُتِبَ لَهَا خَمْسُونَ صَلَاةً بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ ، وَكُتِبَ لَهَا صَوْمُ سَنَةٍ بِشَهْرِ رَمَضَانَ ، بَلْ صَوْمُ سَنَةٍ بِثَلَاثِينَ سَنَةً فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَحَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الصَّحِيحِ ، وَطُهِّرَ مَالُهَا بِرُبْعِ الْعُشْرِ ، وَأُعْطِيَتْ خَوَاتِيمَ سُورَةِ

الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ يَعْنِي عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ ، وَكُتِبَ لَهَا أَنَّ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ .
فَهَذِهِ لَيْلَةٌ وَنِصْفٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ .
وَمِنْ أَفْضَلِ مَا أُعْطُوا لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ؛ وَهَذَا فَضْلٌ [ لَا يُوَازِيهِ فَضْلٌ ] ، وَمِنَّةٌ لَا يُقَابِلُهَا شُكْرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رُوِيَ فِيهَا قَوْلٌ رَابِعٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ غَيْلَانَ حَدَّثَهُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : { قَامَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ : سَوَّدْت وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَك اللَّهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ ، وَنَزَلَتْ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يَمْلِكُهَا بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ الْقَاسِمُ : فَعَدَدْنَاهَا فَإِذَا هِيَ أَلْفٌ لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ ؛ لِأَنَّهَا [ لَا يَصِحُّ أَنْ ] تَكُونَ خَيْرًا مِنْ نَفْسِهَا ، وَتَرَكَّبَ عَلَى هَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ : زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِخْوَةِ ، يُرِيدُونَ وَلَا [ يَجُوزُ أَنْ ] يَكُونَ الشَّيْءُ أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِهِ .
وَهَذَا تَدْقِيقٌ لَا يَئُولُ إلَى تَحْقِيقٍ .
أَمَّا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هِيَ مِنْ جُمْلَتِهَا ، فَإِذَا عَمَّرَ الرَّجُلُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَامًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ أَلْفَ شَهْرٍ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَلَا يَكْتُبُ لَهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَأَلْفَ شَهْرٍ زَائِدًا عَلَيْهَا ، وَرُكِّبَ عَلَى هَذَا بَقِيَّةُ الْأَعْوَامِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ فَهَذَا تَجَوُّزٌ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ سَحَبَتْ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ ذَيْلَ الْغَلَطِ ، وَأَجْرَتْهُ عَلَى مَسَاقِ الْجَوَازِ فِي النُّطْقِ ، فَإِنَّهَا تَقُولُ الِاثْنَانِ نِصْفُ الْأَرْبَعَةِ ؛ تَتَجَوَّزُ بِذَلِكَ ، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي نِسْبَتِهَا لِشَيْءٍ تَرَكَّبَ مِثْلُهُ ، وَفِي قَوْلِهِمْ : الْوَاحِدُ ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ شَيْءٌ تَرَكَّبَ مِثْلَيْهِ ، وَهَكَذَا إلَى آخِرِ النَّسَبِ ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَتَحَاشَ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَنْظُومٌ ، وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ ؛ وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ ظَاهِرٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } : فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { سَلَامٌ هِيَ } ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ ، وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ هَاهُنَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلَ إنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ سَلَامَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، لَا يَحْدُثُ فِيهَا حَدَثٌ ، وَلَا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ .
الثَّانِي إنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ هِيَ كُلُّهَا خَيْرٌ وَبَرَكَةٌ .
الثَّالِثَ إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتُسَلِّمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .
وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْعُمُومِ فِي الْإِثْبَاتِ إذَا كَانَ مَصْدَرًا أَوْ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ ؛ بِخِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْلَامِ ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ بِالْإِثْبَاتِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : " هِيَ " نَزَعَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا حُرُوفَ السُّورَةِ ، فَلَمَّا بَلَغُوا إلَى قَوْلِهِمْ : ( هِيَ ) وَجَدُوهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ حَرْفًا ، فَحَكَمُوا عَلَيْهِ بِهَا ، وَهُوَ أَمْرٌ بَيِّنٌ ، وَعَلَى النَّظَرِ بَعْدَ التَّفَطُّنِ لَهُ هَيِّنٌ ، وَلَا يَهْتَدِي لَهُ إلَّا مَنْ كَانَ صَادِقَ الْفِكْرِ ، شَدِيدَ الْعِبْرَةِ ، وَقَدْ أَشْبَعْت الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
وَلُبَابُهُ اللَّائِقُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيرِهَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَوْلًا : الْأَوَّلُ أَنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ .
سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ؛ فَقَالَ : مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ .
الثَّانِي أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ سَائِرِ شُهُورِ الْعَامِ ؛ قَالَهُ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ عَدَا مَا سَمَّيْنَاهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ ؛ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ .
الرَّابِعُ أَنَّهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ .
الْخَامِسُ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ .
السَّادِسُ أَنَّهَا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ .
السَّابِعُ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ .
الثَّامِنُ أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ .
التَّاسِعُ أَنَّهَا فِي الْأَشْفَاعِ لِلْأَفْرَادِ الْخَمْسَةِ ؛ فَإِذَا أَضَفْتهَا إلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَقْوَالِ اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةَ عَشْرَ قَوْلًا ، أُصُولُهَا هَذِهِ التِّسْعَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا .
تَوْجِيهُ الْأَقْوَالِ وَأَدِلَّتُهَا : أَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ ، فَنَزَعَ إلَى أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ شَرْعًا ، مُخْبَرٌ عَنْهَا قَطْعًا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِتَوْقِيتِهَا دَلِيلٌ ، فَبَقِيَتْ مُتَرَقَّبَةً فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ ، وَقَدْ رَآهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ فِقْهِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ بِهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَلِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ

يَطْلُبُهَا ، وَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ } ، وَلَوْ كَانَتْ مُخَصَّصَةً بِجُزْءٍ مِنْهُ مَا تَقَلَّبَ فِي جَمِيعِهِ يَطْلُبُهَا فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ نَزَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا إحْدَى وَعِشْرِينَ فَمُعَوَّلُهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِزُ الْعَشْرَ الَّتِي فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاسِطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ ، ثُمَّ قَالَ : إنِّي أُوتِيت ، وَقِيلَ لِي : إنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَإِنِّي رَأَيْتهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ ، وَكَأَنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ .
فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَقَدْ صَلَّى الصُّبْحَ ، فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ ، وَوَكَفَ الْمَسْجِدُ ؛ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَجَبِينُهُ وَأَرْنَبَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا أَثَرُ الطِّينِ وَالْمَاءِ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ فَلِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُ فِيهَا إلَيْك .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنِّي رَأَيْت أَنِّي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ : فَرَأَيْته فِي صَبِيحَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَجَدَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ ، كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ

الْأَوَاخِرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى ، وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى } ، زَادَ النَّسَائِيّ عَلَى مُسْلِمٍ { أَوْ ثُلُثِ آخِرِ لَيْلَةٍ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، { قَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ : سَأَلْت أُبَيِّ بْنَ كَعْبٍ ، فَقُلْت : إنَّ أَخَاك ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ .
فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَرَادَ أَلَّا يَتَّكِلَ النَّاسُ ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ .
فَقُلْت : بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؟ فَقَالَ : بِالْعَلَامَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الشَّمْسِ مِنْ صَبِيحَتِهَا أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَنَزَعَ بِحَدِيثِ النَّسَائِيّ الْمُتَقَدِّمِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي الْأَشْفَاعِ فَنَزَعَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الْأَوَاسِطَ مِنْ رَمَضَانَ ، يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ؛ إنَّهُ كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَإِنِّي خَرَجْت لِأُخْبِرَكُمْ بِهَا ، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ ، فَنَسِيتهَا ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ } .
قَالَ أَبُو نَضْرَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ : قُلْت لِأَبِي سَعِيدٍ : إنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا .
قَالَ : أَجَلْ ، نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ .

قَالَ : فَقُلْت : فَمَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ ؟ قَالَ : إذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ ، وَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ ، وَإِذَا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الْخَامِسَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الصَّحِيحِ فِيهَا وَتَرْجِيحِ سُبُلِ النَّظَرِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْحَقِّ مِنْهَا : وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } فَأَفَادَ هَذَا بِمُطْلَقِهِ ، لَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامٌ سِوَاهُ أَنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } فَأَنْبَأَنَا أَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ الْعَامِ .
فَقُلْنَا : مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، ثُمَّ نَظَرْنَا إلَى قَوْله تَعَالَى { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } فَأَفَادَنَا ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِإِخْبَارِ اللَّهِ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِيهَا ، فَقُلْنَا : مَنْ يَقُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَقَدْ طَلَبَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِهِ وَفِي أَوْسَطِهِ وَفِي آخِرِهِ رَجَاءَ الْحُصُولِ .
وَقَالَ : { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } ؛ وَلَمْ يَعُمَّهُ بِالطَّلَبِ لِمَا كَانَ يَظُنُّهُ مِنْ التَّخْصِيصِ ، وَرَجَاءَ أَلَّا يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ ، ثُمَّ أَنْبَأَهُ اللَّهُ بِهَا ، فَخَرَجَ لِيُخْبِرَ بِهَا فَأُنْسِيَهَا لِشُغْلِهِ مَعَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ ، لَكِنْ بَقِيَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ أُخْبِرَ بِهِ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، ثُمَّ أَخْبَرَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ .
[ وَتَوَاطَأَتْ رِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ] ، كَمَا قَالَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتَضَتْ رُؤْيَاهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي

لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ .
[ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ] ؛ ثُمَّ أَنْبَأَ عَنْهَا بِعَلَامَةٍ ، وَهِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا يَعْنِي مِنْ كَثْرَةِ الْأَنْوَارِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، فَوَجَدَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَمْ نَصْلُحْ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ النُّورِ لِكَثْرَةِ ظُلْمَةِ الذُّنُوبِ ، فَإِنْ رَآهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُذْنِبِينَ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ إنْ مَاتَ وَنِقْمَةٌ مِنْهُ إنْ بَقِيَ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ خَصَّ السَّبْعَ الْأَوَاخِرَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّهْرِ ، فَحَثَّ عَلَى الْتِمَاسِهَا فِيهَا ، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالرُّؤْيَا الْحَقِّ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ فِي عَامٍ ، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالرُّؤْيَا الصِّدْقِ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي عَامٍ ، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالْعَلَامَةِ الْحَقِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ؛ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي الْأَعْوَامِ ، لِتَعُمَّ بَرَكَتُهَا مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعَ الْأَيَّامِ ، وَخَبَّأَهَا عَنْ التَّعْيِينِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْرَكَ عَلَى الْأُمَّةِ فِي الْقِيَامِ فِي طَلَبِهَا شَهْرًا أَوْ أَيَّامًا ، فَيَحْصُلُ مَعَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثَوَابُ غَيْرِهَا ، كَمَا خَبَّأَ الْكَبَائِرَ فِي الذُّنُوبِ وَسَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْيَوْمِ حَسْبَمَا قَدَّمْنَاهُ .
فَهَذِهِ سُبُلُ النَّظَرِ الْمُجْتَمِعَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَجْمَعُ ، فَتَبَصَّرُوهَا لَمَمًا ، وَاسْلُكُوهَا أُمَمًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَتِمَّ الْعَامُ مِنْ أَوَّلِ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَامِ ، فَلَا يَبْطُلُ [ يَقِينُ ] النِّكَاحِ بِالشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ إجْمَاعًا مِنْ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ .
الثَّانِي إذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ طَلُقَتْ ؛ لِأَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْآثَارِ ؛ وَلَا يَتَعَيَّنُ تَعْيِينُهَا إلَّا بِدُخُولِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، فَلَا يَقَعُ يَقِينُ الْفِرَاقِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ يَقِينُ النِّكَاحِ إلَّا حِينَئِذٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي حِينِ قَوْلِهِ ذَلِكَ قَالَهُ مَالِكٌ وَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ ؛ فَإِنَّ مَالِكًا لَمْ يُطَلِّقْ قَطُّ بِشَكٍّ ، وَلَا يَرْفَعُ الشَّكُّ عِنْدَهُ الْيَقِينَ بِحَالٍ .
وَقَدْ جَهِلَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَإِنَّمَا تَطْلُقُ عِنْدَ مَالِكٍ بِأَنَّ مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ عَلَى أَجَلٍ آتٍ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ الْآنَ ؛ لِأَنَّ الْفُرُوجَ لَا تَقْبَلُ تَأْقِيتًا ؛ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ الْعُلَمَاءُ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ .
وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ رَمَضَانَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جُزْءٍ مُنْفَرِدٍ ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي هَاهُنَا .

سُورَةُ الْبَيِّنَةِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ } .
الْآيَةُ فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قِرَاءَتِهَا : قَرَأَهَا أُبَيٌّ : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } ؛ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ : لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُنْفَكِّينَ .
وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ ؛ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ ، لَا فِي مَعْرِضِ التِّلَاوَةِ ؛ فَقَدْ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ } ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ مَا كَانَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } لَعَطَّلُوا الْأَهْلَ وَالْمَالَ ، وَلَتَعَلَّمُوهَا } .
وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ ؛ وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَالَ : وَسَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَبَكَى } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { مُنْفَكِّينَ } يَعْنِي زَائِلِينَ عَنْ دِينِهِمْ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ بِبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ ، وَتِلْكَ الْبَيِّنَةُ هِيَ : { رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالُوا : { مُطَهَّرَةً } مِنْ الشِّرْكِ ، وَقَالُوا : مُطَهَّرَةً بِحُسْنِ الذِّكْرِ ، وَقَلْبٌ مُطَهَّرٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي { عَبَسَ وَتَوَلَّى } : { مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } إنَّهَا الْقُرْآنُ وَإِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا

الْمُطَهَّرُونَ ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ [ ذَلِكَ وَتُؤَكِّدُهُ فَلَا يَمَسُّهَا إلَّا طَاهِرٌ شَرْعًا وَدِينًا ، فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُ ذَلِكَ فَبَاطِلٌ لَا يُنْفَى ] ذَلِكَ فِي كَرَامَتِهَا ، وَلَا يُبْطِلُ حُرْمَتَهَا ، كَمَا لَوْ قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَبْطُلْ نُبُوَّتُهُ ، وَلَا أَسْقَطَ ذَلِكَ حُرْمَتَهُ ، وَلَا اقْتَضَى ذَلِكَ تَكْذِيبَهُ ؛ بَلْ يَكُونُ زِيَادَةً فِي مَرْتَبَتِهِ فِي الدَّارَيْنِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23