كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوَهُّمَ وَالتَّفَرُّسَ مِنْ مَدَارِكِ الْمَعَانِي وَمَعَالِمِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ مَوْسُومٌ وَلَا مُتَفَرَّسٌ .
وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّامِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كَوْنِي بِالشَّامِ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ كَانَ قَاضِيهَا ، وَلِشَيْخِنَا فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ جُزْءٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ ، كَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ ، وَأَعْطَانِيهِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ مَدَارَك الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا ، مُدْرَكَةٌ قَطْعًا ، وَلَيْسَتْ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْحِجْرِ وَتَفْسِيرِهِ : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا دِيَارُ ثَمُودَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ وَادٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْته وَحَظَرْت عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ : { وَحِجْرًا مَحْجُورًا } وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَهُنَا دِيَارُ ثَمُودَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَلَّا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا ، وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا ، فَقَالُوا : قَدْ عَجَنَّا وَاسْتَقَيْنَا .
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهْرِيقُوا الْمَاءَ .
} وَعَنْهُ فِيهِ أَيْضًا { أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ ، وَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا ، وَاعْتَجَنُوا بِهِ ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا ، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ : لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ ، إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ } .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : { لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجْرَ قَالَ : لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ ، فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ ، وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ ، وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا ، وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا ، فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَخْمَدَتْ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ ، إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَقِيلَ : مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَبُو رِغَالٍ .
فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَرْقِ مَاءِ دِيَارِ ثَمُودَ ، وَإِلْقَاءِ مَا عُجِنَ وَحِيسَ بِهِ } .
لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاءُ سُخْطٍ ، فَلَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، فِرَارًا مِنْ سَخَطِ اللَّهِ .
وَقَالَ : { اعْلِفُوهُ الْإِبِلَ } ؛ فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهُ الْإِبِلُ وَالْبَهَائِمُ ؛ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَسَلِ النَّجِسِ إنَّهُ تُعْلَفُهُ النَّحْلُ .
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا دَارُ سُخْطٍ وَبُقْعَةُ غَضَبٍ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَدْخُلُوهَا إلَّا بَاكِينَ } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ ، وَأَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهَا } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَصَارَتْ هَذِهِ بُقْعَةً مُسْتَثْنَاةً مِنْ قَوْلِهِ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا ، وَجُعِلَ تُرَابُهَا طَهُورًا } ؛ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا ، وَلَا الْوُضُوءُ مِنْ مَائِهَا ، وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَهُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ : الْمَزْبَلَةُ ، وَالْمَجْزَرَةُ ، وَالْمَقْبَرَةُ ، وَالْحَمَّامُ ، وَالطَّرِيقُ ، وَظَهْرُ الْكَعْبَةِ ، وَأَعْطَانُ الْإِبِلِ } .
وَذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا مِنْهَا جُمْلَةً ، وَجِمَاعُهَا هَذِهِ الثَّمَانِيَةُ .
التَّاسِعُ : الْبُقْعَةُ النَّجِسَةُ .
الْعَاشِرُ : الْبُقْعَةُ الْمَغْصُوبَةُ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : أَمَامَك جِدَارٌ عَلَيْهِ نَجَسٌ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : الْكَنِيسَةُ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْبِيعَةُ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : بَيْتٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : الْأَرْضُ الْمُعْوَجَّةُ .
السَّادِسَ عَشَرَ : مَوْضِعٌ تَسْتَقْبِلُ فِيهِ نَائِمًا أَوْ وَجْهَ رَجُلٍ .
السَّابِعَ عَشَرَ : الْحِيطَانُ .
وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَمِنْ هَذَا مَا مُنِعَ لِحَقِّ الْغَيْرِ ، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْمُحَقَّقَةِ أَوْ لِغَلَبَتِهَا ، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ مِنْهُ عِبَادَةً .
فَمَا مُنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ إنْ فُرِشَ فِيهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ كَالْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ فِيهَا أَوْ إلَيْهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ ، وَذَكَرَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْهُ الْكَرَاهِيَةَ ، وَفَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ ، لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهَا مَاءٌ كَثِيرٌ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَقْبَرَةِ يَتَأَكَّدُ إذَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ وَأَنَّهَا دَارُ عَذَابٍ كَالْحِجْرِ

.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا يُصَلَّى إلَيْهَا } .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مِمَّا صَنَعُوا .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ : لَا يُصَلَّى فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ، وَإِنْ فَرَشَ ثَوْبًا ، كَأَنَّهُ رَأَى لَهَا عِلَّتَيْنِ : الِاسْتِقْذَارَ بِهَا وَقِفَارَهَا ، فَتُفْسِدُ عَلَى الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُصَلَّى عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ .
وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ الصَّلَاةَ إلَى قِبْلَةٍ فِيهَا تَمَاثِيلُ ، وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَا تُجْزِئُ .
وَذَلِكَ عِنْدِي بِخِلَافِ الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّ الدَّارَ لَا تُدْخَلُ إلَّا بِإِذْنٍ ، وَالْأَرْضُ وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَإِنَّ الْمَسْجِدِيَّةَ فِيهَا قَائِمَةٌ لَا يُبْطِلُهَا الْمِلْكُ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } .

قَوْله تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } .
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ أَمَرَ أَنْ يَصْفَحَ عَنْهُمْ صَفْحًا جَمِيلًا ، وَيُعْرِضَ عَنْهُمْ إعْرَاضًا حَسَنًا ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاك سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ السَّبْعِ : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ السَّبْعَ قِيلَ : هِيَ [ أَوَّلُ ] السُّوَرِ الطِّوَالِ : الْبَقَرَةُ ، وَآلُ عِمْرَانَ ، وَالنِّسَاءُ ، وَالْمَائِدَةُ ، وَالْأَنْعَامُ ، وَالْأَعْرَافُ ، وَبَرَاءَةُ تَتِمَّةُ الْأَنْفَالِ .
وَقِيلَ : السَّابِعَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا يُونُسُ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْحَمْدُ ، سَبْعُ آيَاتٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْأَمْرُ ، وَالنَّهْيُ ، وَالْبُشْرَى ، وَالنِّذَارَةُ ، وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ ، وَإِعْدَادُ النِّعَمِ ، وَنَبَأُ الْأُمَمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمَثَانِي : وَفِيهَا [ أَرْبَعَةُ ] أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ بِنَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِيهَا الْمَعَانِي .
الثَّانِي : أَنَّهَا آيَاتُ الْفَاتِحَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ ، كَمَا قَالَ : { مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْقُرْآنُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ { وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : هُوَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ .
الثَّانِي : هُوَ الْحَوَامِيمُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْفَاتِحَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَسْطُورِ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبْعُ مِنْ السُّوَرِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْآيَاتِ ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَشَفَ قِنَاعَ الْإِشْكَالِ ، وَأَوْضَحَ شُعَاعَ الْبَيَانِ ، فَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ وَمِنْ كُلِّ طَرِيقٍ أَنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : { هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ

الَّذِي أُوتِيت } .
وَبَعْدَ هَذَا فَالسَّبْعُ الْمَثَانِي كَثِيرٌ ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ ، وَالنَّصُّ قَاطِعٌ بِالْمُرَادِ ، قَاطِعٌ بِمَنْ أَرَادَ التَّكْلِيفَ وَالْعِنَادَ ، وَبَعْدَ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَفْسِيرَ .
وَلَيْسَ لِلْمُتَعَرِّضِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا النَّكِيرُ .
وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ لَوْلَا تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُحَرِّرَ فِي ذَلِكَ مَقَالًا وَجِيزًا ، وَأُسْبِكَ مِنْ سَنَامِ الْمَعَارِفِ إبْرِيزًا ، إلَّا أَنَّ الْجَوْهَرَ الْأَغْلَى مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى وَأَعْلَى ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَهَا فِي أَوَّلِ سُورَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، إذْ هِيَ الْأُولَى مِنْهُ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ مِنْ هَهُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَك لِلْمُؤْمِنِينَ } .
الْمَعْنَى : قَدْ أَعْطَيْنَاك الْآخِرَةَ ، فَلَا تَنْظُرْ إلَى الدُّنْيَا ، وَقَدْ أَعْطَيْنَاك الْعِلْمَ فَلَا تَتَشَاغَلْ بِالشَّهَوَاتِ ، وَقَدْ مَنَحْنَاك لَذَّةَ الْقَلْبِ فَلَا تَنْظُرْ إلَى لَذَّةِ الْبَدَنِ ، وَقَدْ أَعْطَيْنَاك الْقُرْآنَ فَتَغَنَّ بِهِ ، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ أَيْ لَيْسَ مِنَّا مَنْ رَأَى بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ حَتَّى يَطْمَحَ بِبَصَرِهِ إلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا ، وَعِنْدَهُ مَعَارِفُ الْمَوْلَى ، حَيِيَ بِالْبَاقِي ، فَغَنِيَ عَنْ الْفَانِي .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ : الطِّيبُ ، وَالنِّسَاءُ ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } .
فَكَانَ يَتَشَاغَلُ بِالنِّسَاءِ جِبِلَّةَ الْآدَمِيَّةِ وَتَشَوُّفَ الْخِلْقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ، وَيُحَافِظُ عَلَى الطِّيبِ مَنْفَعَةً خَاصِّيَّةً وَعَامِّيَّةً ، وَلَا يَقَرُّ لَهُ عَيْنٌ إلَّا فِي الصَّلَاةِ لَدَى مُنَاجَاةِ الْمَوْلَى ، وَيَرَى أَنَّ مُنَاجَاةَ الْمَوْلَى أَجْدَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّهْبَانِيَّةُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا كَانَ فِي دِينِ عِيسَى ؛ وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ وَلَنَا بِحِكْمَتِهِ حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً خَالِصَةً عَنْ الْحَرَجِ خَفِيفَةً عَنْ الْإِصْرِ ، نَأْخُذُ مِنْ الْآدَمِيَّةِ وَشَهَوَاتِهَا بِحَظٍّ وَافِرٍ ، وَنَرْجِعُ إلَى اللَّهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، إنْ شُغِلَ بَدَنُهُ بِاللَّذَّاتِ عَكَفَ قَلْبُهُ عَلَى الْمَعَارِفِ ، وَرَأَى الْيَوْمَ عُلَمَاءُ الْقُرَّاءِ وَالْمُخْلِصُونَ مِنْ الْفُضَلَاءِ أَنَّ الِانْكِفَافَ عَنْ اللَّذَّاتِ ، وَالْخُلُوصَ لِرَبِّ السَّمَوَاتِ الْيَوْمَ أَوْلَى ، لِمَا غَلَبَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ الْحَرَامِ ، وَاضْطُرَّ إلَيْهِ

الْعَبْدُ فِي الْمَعَاشِ مِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ لَا تَجُوزُ مُخَالَطَتُهُ ، وَمُصَانَعَةُ مَنْ تَحْرُمُ مُصَانَعَتُهُ ، وَحِمَايَةُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، وَصِيَانَةُ الْمَالِ بِتَبَدُّلِ الطَّاعَةِ بَدَلًا عَنْهُ ؛ فَكَانَتْ الْعُزْلَةُ أَفْضَلُ ، وَالْفِرَارُ عَنْ النَّاسِ أَصْوَبُ لِلْعَبْدِ وَأَعْدَلُ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بِهِ الْوَعْدُ الَّذِي لَا خُلْفَ لَهُ مِنْ الصَّادِقِ ؛ { يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ : { هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ } ، فَتَكُونُ الْفَاتِحَةُ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ .
قُلْنَا : الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ ، فَالْمَعْنَى : وَلَقَدْ آتَيْنَاك سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي مِمَّا ثَنَّى بَعْضُ آيِهِ بَعْضًا ، وَيَكُونُ الْمَثَانِي جَمْعُ مُثَنَّاةٍ ، وَتَكُونُ آيُ الْقُرْآنِ مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا تَلَا بَعْضًا بِفُصُولٍ بَيْنَهَا ، فَيُعْرَفُ انْقِضَاءُ الْآيَةِ وَابْتِدَاءُ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ { مَثَانِيَ } ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ كُرِّرَتْ فِيهِ وَالْقَصَصَ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا سُمِّيَتْ مَثَانِيَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَاهَا لِمُحَمَّدٍ دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلِأُمَّتِهِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : التَّسْبِيحُ : هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالتَّعْظِيمِ ، بِالْقَلْبِ اعْتِقَادًا ، وَبِاللِّسَانِ قَوْلًا .
وَالْمُرَادُ بِهِ هَهُنَا الصَّلَاةُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعْلَمُ ضِيقَ صَدْرِك بِمَا تَسْمَعُهُ مِنْ تَكْذِيبِك وَرَدِّ قَوْلِك ، وَيَنَالُهُ أَصْحَابُك مِنْ إذَايَةِ أَعْدَائِك ؛ فَافْزَعْ إلَى الصَّلَاةِ ، فَهِيَ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَنِهَايَةُ التَّقْدِيسِ ، { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلَى الصَّلَاةِ } ، وَذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ : { وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ } ، أَيْ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنَّ دِعَامَةَ الْقُرْبَةِ فِي الصَّلَاةِ حَالَ السُّجُودِ .
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَهُنَا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ نَفْسِهِ ، فَيَرَى هَذَا الْمَوْضِعَ مَحَلَّ سُجُودٍ فِي الْقُرْآنِ .
وَقَدْ شَاهَدْت الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّا مِنْ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ طُهْره اللَّهُ يَسْجُدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لَهُ فِي تَرَاوِيحَ رَمَضَانَ ، وَسَجَدْت مَعَهُ فِيهَا ، وَلَمْ يَرَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَاعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَأْتِيَك الْيَقِينُ } : أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ إذَا قَصَّرَ عِبَادُهُ فِي خِدْمَتِهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ طِبُّ عِلَّتِهِ ، وَهِيَ كَمَا قَدَّمْنَا أَشْرَفُ الْخِصَالِ ، وَالتَّسَمِّي بِهَا أَشْرَفُ الْخُطَطِ .
قَالَ شُيُوخُ الْمَعَانِي : أَلَا تَرَيْ كَيْفَ سَمَّى اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ عِنْدَ أَفْضَلِ مَنَازِلِهِ ، وَهِيَ الْإِسْرَاءُ ، فَقَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وَلَمْ يَقُلْ نَبِيِّهِ وَلَا رَسُولِهِ ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّاعِرُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّفْظِ حَيْثُ يَقُولُ : يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا

فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْيَقِينُ : الْمَوْتُ ، فَأَمَرَهُ بِاسْتِمْرَارِ الْعِبَادَةِ أَبَدًا ، وَذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ، وَكَانَ هَذَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ أَبَدًا ، لِاحْتِمَالِ لَفْظَةِ الْأَبَدِ لِلَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَلِجَمِيعِ الْأَبَدِ ، كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ : وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيًّا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتَ { أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةَ وَكَانَتْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْ أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ قُرْعَةً ، فَصَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ قَالَتْ : فَأَنْزَلْنَاهُ مَعَ أَبْنَائِنَا ، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْك ، لَقَدْ أَكْرَمَك اللَّهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ ؟ قُلْت : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَهْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ } .
الْحَدِيثَ .

وَيَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا ، وَقَالَ : نَوَيْت يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ .
وَلَوْ قَالَ : طَلَّقْتهَا حَيَاتَهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ النَّحْلِ وَتُسَمَّى سُورَةُ النِّعَمِ فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : " الْأَنْعَامَ " : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } : يَعْنِي مِنْ الْبَرْدِ بِمَا فِيهَا مِنْ الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } فَامْتَنَّ هَهُنَا بِالدِّفْءِ ، وَامْتَنَّ هُنَاكَ بِالظِّلِّ ، إنْ كَانَ لَاصِقًا بِالْبَدَنِ ثَوْبًا أَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا بِنَاءً .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : دِفْؤُهَا نَسْلُهَا ؛ فَرَبُّك أَعْلَمُ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : " مَنَافِعُ " : يَعْنِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْبَانِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ سِوَاهَا مِنْ الْمَنَافِعِ ، فَقَالَ : وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ .
وَقَدْ ذَكَرَ وَجْهَ اخْتِصَاصِهِ بِاللَّبَنِ ، وَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى لِبَاسِ الصُّوفِ ، فَهُوَ أَوْلَى ذَلِكَ وَأَوْلَاهُ ، فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ وَلِبَاسُ الصَّالِحِينَ ، وَشَارَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَاخْتِيَارُ الزُّهَّادِ وَالْعَارِفِينَ ، وَهُوَ يُلْبَسُ لِينًا وَخَشِنًا ، وَجَيِّدًا وَمُقَارِبًا وَرَدِيئًا ، وَإِلَيْهِ نَسَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ الصُّوفِيَّ ؛ لِأَنَّهُ لِبَاسُهُمْ فِي الْغَالِبِ ، فَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ وَالْهَاءُ لِلتَّأْنِيثِ ، وَقَدْ أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِهِمْ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ : تَشَاجَرَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَظَنُّوهُ مُشْتَقًّا مِنْ الصُّوفِ وَلَسْت أَنْحَلُ هَذَا الِاسْمَ غَيْرَ فَتًى صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصُّوفِيّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } : فَأَبَاحَ لَنَا أَكْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ

بِشُرُوطِهِ وَأَوْصَافِهِ ، وَكَانَ وَجْهُ الِامْتِنَانِ بِهَا أُنْسُهَا ، كَمَا امْتَنَّ بِالْوَحْشِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الِاصْطِيَادِ ، فَالْأَوَّلُ نِعْمَةٌ هَنِيَّةٌ ، وَالصَّيْدُ مُتْعَةٌ شَهِيَّةٌ ، وَنَصْبَةٌ نَصِيَّةٌ ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ فِيهَا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } : كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } وَالْجَمَالُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَتَرْكِيبِ الْخِلْقَةِ ، وَيَكُونُ فِي الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ ، وَيَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ .
فَأَمَّا جَمَالُ الْخِلْقَةِ فَهُوَ أَمْرٌ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ ، فَيُلْقِيهِ إلَى الْقَلْبِ مُتَلَائِمًا ، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ ذَلِكَ وَلَا بِسَبَبِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ .
وَأَمَّا جَمَالُ الْأَخْلَاقِ فَبِكَوْنِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ، وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ .
وَأَمَّا جَمَالُ الْأَفْعَالِ فَهُوَ وُجُودُهَا مُلَائِمَةً لِصَالِحِ الْخَلْقِ ، وَقَاضِيَةً بِجَلْبِ الْمَنَافِعِ إلَيْهِمْ ، وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ .
وَجَمَالُ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ مِنْ جَمَالِ الْخِلْقَةِ مَحْسُوبٌ ، وَهُوَ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ ، مُوَافِقٌ لِلْبَصَائِرِ ، وَمِنْ جَمَالِهَا كَثْرَتُهَا .
فَإِذَا وَرَدَتْ الْإِبِلُ عَلَى الذُّرَى سَامِيَةَ الذُّرَى هَجْمَاتٍ هِجَانًا تَوَافَرَ حُسْنُهَا ، وَعَظُمَ شَأْنُهَا ، وَتَعَلَّقَتْ الْقُلُوبُ بِهَا .
إذَا رَأَيْت الْبَقَرَ نِعَاجًا تَرِدُ أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا ، تَقَرُّ بِقَرِيرِهَا ، مَعَهَا صُلُّغُهَا وَأَتَابِعُهَا ، فَقَدْ انْتَظَمَ جَمَالُهَا وَانْتِفَاعُهَا .
وَإِذَا رَأَيْت الْغَنَمَ فِيهَا السَّالِغُ وَالسَّخْلَةُ ، وَالْغَرِيضُ وَالسَّدِيسُ صُوفُهَا أَهْدَلُ ، وَضَرْعُهَا مُنْجَدِلٌ ، وَظَهْرُهَا مُنْسَجِفٌ ، إذَا صَعِدَتْ ثَنِيَّةً مَرَعَتْ ، وَإِذَا أَسْهَلَتْ عَنْ رَبْوَةٍ طَمَرَتْ ، تَقُومُ بِالْكِسَاءِ ، وَتَقَرُّ عَلَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ ، وَتَمْلَأُ الْحِوَاءَ سَمْنًا وَأَقِطًا ، بَلْهَ الْبَيْتِ ، حَتَّى يَسْمَعَ الْحَدِيثَ عَنْهَا كَيْتَ وَكَيْتَ ، فَقَدْ قَطَعْت عَنْك لَعَلَّ وَلَيْتَ .

وَإِذَا رَأَيْت الْخَيْلَ نَزَائِعَ يَعَابِيبَ ، كَأَنَّهَا فِي الْبَيْدَاءِ أَهَاضِيبَ ، وَفِي الْهَيْجَاءِ يَعَاسِيبَ ، رُءُوسُهَا عَوَالٍ ، وَأَثْمَانُهَا غَوَالٍ ، لَيِّنَةَ الشَّكِيرِ ، وَشَدِيدَةَ الشَّخِيرِ ، تَصُومُ وَإِنْ رَعَتْ ، وَتَفِيضُ إذَا سَعَتْ ، فَقَدْ مَتَّعَتْ الْأَحْوَالَ وَأَمْتَعَتْ .
وَإِذَا رَأَيْت الْبِغَالَ كَأَنَّهَا الْأَفْدَانُ بِأَكْفَالٍ كَالصَّوَى ، وَأَعْنَاقٍ كَأَعْنَاقِ الظِّبَا ، وَمَشْيٍ كَمَشْيِ الْقَطَا أَوْ الدَّبَى فَقَدْ بَلَغْت فِيهَا الْمُنَى .
وَلَيْسَ فِي الْحَمِيرِ زِينَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ الْخِدْمَةِ مَصُونَةً ، وَلَكِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا مَضْمُونَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الْجَمَالُ وَالتَّزَيُّنُ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِعِبَادِهِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ : { الْإِبِلُ عِزٌّ لِأَهْلِهَا ، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ ، وَالْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَإِنَّمَا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِزَّ فِي الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا اللِّبَاسَ وَالْأَكْلَ وَاللَّبَنَ وَالْحَمْلَ وَالْغَزْوَ ، وَإِنْ نَقَصَهَا الْكَرُّ وَالْفَرُّ .
وَجَعَلَ الْبَرَكَةَ فِي الْغَنَمِ لِمَا فِيهَا مِنْ اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ ، فَإِنَّهَا تَلِدُ فِي الْعَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، إلَى مَا يَتْبَعُهَا مِنْ السَّكِينَةِ ، وَتَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَيْهِ مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ ، وَلِينِ الْجَانِبِ ، بِخِلَافِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْإِبِلِ .
وَقَرَنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَيْرَ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ بَقِيَّةَ الدَّهْرِ ، لِمَا فِيهَا مِنْ الْغَنِيمَةِ الْمُسْتَفَادَةِ لِلْكَسْبِ وَالْمَعَاشِ ، وَمَا تُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ قَهْرِ الْأَعْدَاءِ ، وَغَلَبَةِ الْكُفَّارِ ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ .
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } ؛ ذَلِكَ فِي الْمَوَاشِي تَرُوحُ إلَى الْمَرْعَى

وَتَسْرَحُ عَلَيْهِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَنْعَامِ عُمُومًا ، وَخَصَّ الْإِبِلَ هَهُنَا بِالذِّكْرِ فِي حَمْلِ الْأَثْقَالِ ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْعَامِ ؛ فَإِنَّ الْغَنَمَ لِلسَّرْحِ وَالذَّبْحِ ، وَالْبَقَرَ لِلْحَرْثِ ، وَالْإِبِلَ لِلْحَمْلِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَيْنَا رَاعٍ فِي غَنَمٍ عَدَا عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً ، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ الذِّئْبُ ، وَقَالَ : مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي وَبَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا ، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَكَلَّمَتْهُ ، فَقَالَتْ : إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا ، وَإِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ .
فَقَالَ النَّاسُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : آمَنْت بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِيهِ جَوَازُ السَّفَرِ بِالدَّوَابِّ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ الثِّقَالُ ، وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ فِي الْحَمْلِ ، مَعَ الرِّفْقِ فِي السَّيْرِ وَالنُّزُولِ لِلرَّاحَةِ .
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّفْقِ بِهَا ، وَالْإِرَاحَةِ لَهَا ، وَمُرَاعَاةِ التَّفَقُّدِ لِعَلَفِهَا وَسَقْيِهَا ، وَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ مَالِكٌ : عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ : { إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا بِنَقْيِهَا ، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ } .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ اللَّهُ الْأَنْعَامَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ ، فَسَاقَ فِيهَا وُجُوهًا مِنْ الْمَتَاعِ ، وَأَنْوَاعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ ، وَسَاقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ، فَكَشَفَ قِنَاعَهَا ، وَبَيَّنَ أَنْتِفَاعَهَا ، وَذَلِكَ الرُّكُوبُ وَالزِّينَةُ ، كَمَا بَيَّنَ فِي تِلْكَ الْمُتَقَدِّمَةِ : الدِّفْءَ وَاللَّبَنَ وَالْأَكْلَ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } فَجَعَلَهَا لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِلْأَكْلِ وَنَحْوِهِ عَنْ أَشْهَبَ ، فَفَهِمَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهَ إيرَادِ النِّعَمِ ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَاقْتَصَرَتْ كُلُّ مَنْفَعَةٍ عَلَى وَجْهِ مَنْفَعَتِهَا الَّتِي عَيَّنَ اللَّهُ لَهُ ، وَرَتَّبَهَا فِيهِ ، فَأَمَّا الْخَيْلُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهَا تُؤْكَلُ ، وَعُمْدَتُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ جَابِرٍ : { نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ } .
وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ ، وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ } .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ جَابِرٍ حِكَايَةَ حَالٍ ، وَقَضِيَّةً فِي عَيْنٍ ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا ذَبَحُوا لِضَرُورَةٍ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِقَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمُحْتَمَلَةِ ، وَأَمَّا الْحُمُرُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إنَّمَا حُرِّمَتْ شَرْعًا .
الثَّانِي : أَنَّهَا حُرِّمَتْ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ جُوَالَ الْقَرْيَةِ ، أَيْ تَأْكُلُ الْجُلَّةَ ، وَهِيَ النَّجَاسَةُ .

الثَّالِثُ : أَنَّهَا كَانَتْ حُمُولَةَ الْقَوْمِ ؛ وَلِذَلِكَ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أُكِلَتْ الْحُمُرُ ، فَنِيَتْ الْحُمُرُ ؛ فَحَرَّمَهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا حُرِّمَتْ ؛ لِأَنَّهَا أُفْنِيَتْ قَبْلَ الْقَسَمِ ، فَمَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكْلِهَا ، حَتَّى تُقْسَمَ .
وَأَمَّا الْبِغَالُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنَّهَا تَلْحَقُ الْحَمِيرَ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ .
فَأَمَّا إنْ قُلْنَا إنَّ الْخَيْلَ لَا تُؤْكَلُ فَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ عَيْنَيْنِ لَا يُؤْكَلَانِ ، وَإِنْ قُلْنَا : تُؤْكَلُ الْخَيْلُ فَإِنَّهَا عَيْنٌ مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ ؛ فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا يَلْزَمُ فِي الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَحَقَّقْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَنْضَافُ إلَيْهِ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا ، وَقَدْ حَرَّرْنَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ أَنَّ مَدَارَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْمَطْعُومَاتِ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ ، وَخَبَرٍ وَاحِدٍ .
الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : آيَةُ الْأَنْعَامِ قَوْلُهُ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } .
الرَّابِعُ الْخَبَرُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ } .
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ } .
وَقَوْلُهُ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ ، فَإِنْ عَوَّلْنَا عَلَيْهَا فَالْكُلُّ سِوَاهَا مُبَاحٌ ، وَإِنْ رَأَيْنَا إلْحَاقَ غَيْرِهَا بِهَا حَسْبَمَا يَتَرَتَّبُ فِي الْأَدِلَّةِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ } .
ثُمَّ جَاءَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَتَّى انْتَهَتْ أَسْبَابُ إبَاحَةِ الدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى عَشَرَةِ أَسْبَابٍ ، فَالْحَالُ فِي ذَلِكَ مُتَرَدِّدَةٌ وَلِأَجْلِهِ اخْتَارَ الْمُتَوَسِّطُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا الْكَرَاهِيَةَ فِي هَذِهِ الْحُرُمَاتِ ، تَوَسُّطًا بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ؛ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ ، وَإِشْكَالِ مَأْخَذِ الْفَتْوَى فِيهَا .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : الثَّعْلَبُ وَالضَّبُعُ حَلَالٌ ، وَهُوَ قَدْ عَوَّلَ عَلَى قَوْلِهِ : { أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ } ، وَلَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الضَّبُعَ يَخْرُجُ عَنْهُ بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ جَابِرٌ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَحَلَالٌ هِيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَفِيهَا إذَا أَتْلَفَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : هِيَ صَيْدٌ ، وَفِيهَا كَبْشٌ .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا زَعَمَ لَوْ صَحَّ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ سَنَدُهُ ، وَلَوْ عَوَّلْنَا عَلَيْهِ لَمَا خَصَّصْنَا التَّحْلِيلَ مِنْ جُمْلَةِ السِّبَاعِ بِالضَّبُعِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةِ التَّحْلِيلِ ، وَأَنَّ الْكُلَّ قَدْ خَرَجَ عَنْ التَّحْرِيمِ ، وَانْحَصَرَتْ الْمُحَرَّمَاتُ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ ، وَهَذِهِ الْمُعَارَضَاتُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ ، فَانْظُرُوهَا وَاسْبُرُوهَا ، وَمَا ظَهَرَ هُوَ الَّذِي يَتَقَرَّرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : ذَكَرَ اللَّهُ الْأَنْعَامَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فِي مَسَاقِ النَّعَمِ ذِكْرًا وَاحِدًا ، وَذَكَرَ لِكُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مَنْفَعَةً حَسْبَمَا سَرَدْنَاهُ لَكُمْ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْخَيْلِ مِنْهَا ؛ هَلْ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِكِهَا أَمْ لَا ؟ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : لَا زَكَاةَ فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِيهَا الزَّكَاةُ مُنْتَزَعًا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ } الْحَدِيثَ .
قَالَ فِيهِ : { وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا } .
وَاحْتَجُّوا بِأَثَرٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ } .
وَعَوَّلَ أَصْحَابُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْخَيْلَ جِنْسٌ يُسَامُ ، وَيُبْتَغَى نَسْلُهُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ " فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ كَالْأَنْعَامِ .
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ } ، فَنَفَى الصَّدَقَةَ عَنْ الْعَبْدِ وَالْفَرَسِ نَفْيًا وَاحِدًا ، وَسَاقَهُمَا مَسَاقًا وَاحِدًا ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ ، إلَّا أَنَّ فِي الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ } .
وَقَدْ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى عُمَرَ : إنِّي وَجَدْت أَمْوَالَ أَهْلِ الشَّامِ الرَّقِيقَ وَالْخَيْلَ .
فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ دَعْهُمَا ، ثُمَّ اسْتَشَارَ عُثْمَانَ ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ عُمَرُ .
وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ جَمَعُوا صَدَقَةَ خُيُولِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَأَتَوْا بِهَا عُمَرَ ، فَاسْتَشَارَ عَلِيًّا فَقَالَ : لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا إلَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً بَاقِيَةً بَعْدَك .
فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ

اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا } فَيَعْنِي بِهِ الْحِمْلَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى النَّدْبِ وَالْخَلَاصِ مِنْ الْحِسَابِ .
وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ { فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ } فَيَرْوِيهِ غَوْرَكٌ السَّعْدِيُّ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ .
جَوَابٌ آخَرُ " قَدْ نَاقَضُوا فَقَالُوا : إنَّ الصَّدَقَةَ فِي إنَاثِهَا لَا فِي ذُكُورِهَا .
وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ فَضْلٌ بَيْنَهُمَا ، وَنَقِيسُ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ فِي نَفْيِ الصَّدَقَةِ ؟ فَإِنَّهُ حَيَوَانٌ يُقْتَنَى لِنَسْلِهِ لَا لِدَرِّهِ ، لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِهِ ، فَلَمْ تَجِبْ فِي إنَاثِهِ ، كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } : فَسَمَّى الْحُوتَ لَحْمًا ، وَأَنْوَاعُ اللَّحْمِ أَرْبَعَةٌ : لُحُومُ الْأَنْعَامِ ، وَلُحُومُ الْوَحْشِ ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ ، وَلُحُومُ الْحُوتِ .
وَيَعُمُّهَا اسْمُ اللَّحْمِ ، وَيَخُصُّهَا أَنْوَاعُهُ ، وَفِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ تَتَشَابَهُ ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ : لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ لُحُومِ الْأَنْعَامِ دُونَ الْوَحْشِ وَغَيْرِهِ ، مُرَاعَاةً لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، وَتَقْدِيمًا لَهَا عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ فِي الْبِلَادِ ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ بِتَنِّيسَ أَوْ بِالْفَرَمَا لَا يَرَى لَحْمًا إلَّا الْحُوتَ ، وَالْأَنْعَامُ قَلِيلَةٌ فِيهَا ، فَعُرْفُهَا عَكْسُ عُرْفِ بَغْدَادَ ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْحُوتِ فِيهَا ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى لُحُومِ الْأَنْعَامِ ، وَإِذَا أَجْرَيْنَا الْيَمِينَ عَلَى الْأَسْبَابِ فَسَبَبُ الْيَمِينِ يُدْخِلُ فِيهَا مَا لَا يَجْرِي عَلَى الْعُرْفِ ، وَيُخْرِجُهُ مِنْهَا ، وَالنِّيَّةُ تَقْضِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ : أَشْتَرِي لَحْمًا وَحِيتَانًا فَلَا يُعَدُّ تَكْرَارًا ، وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } : يَعْنِي بِهِ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } .
وَهَذَا امْتِنَانٌ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرِّجَالِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ حُلِيًّا فَلَبِسَ لُؤْلُؤًا أَنَّهُ يَحْنَثُ ، لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } وَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ اللُّؤْلُؤُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْنَثُ .
وَلَمْ أَرَ لِعُلَمَائِنَا فِيهَا نَصًّا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنَّهُ حَانِثٌ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ مُجَاهِدٌ : مِنْ النُّجُومِ مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ ، وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خِصَالٍ : جَعَلَهَا اللَّهُ زِينَةً لِلسَّمَاءِ ، وَجَعَلَهَا يَهْتَدُونَ بِهَا ، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ .
فَمَنْ تَعَاطَى مِنْهَا غَيْرَ ذَلِكَ سَفَّهَ رَأْيَهُ ، وَأَخْطَأَ حَظُّهُ ، وَأَضَاعَ نَفْسَهُ ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ تَحْقِيقَ ذَلِكَ وَتِبْيَانَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَبِالنَّجْمِ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْجِنْسِ .
وَالْمُرَادُ بِهِ جَمْعُ النُّجُومِ [ وَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا الْعَارِفُ ] .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثُّرَيَّا .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ .
فَأَمَّا جَمِيعُ النُّجُومِ فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا الْعَارِفُ بِمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا ، وَالْمَفْرِقُ بَيْنَ الْجَنُوبِيِّ وَالشَّمَالِيِّ مِنْهَا ؛ وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الْآخِرِينَ .
وَأَمَّا الثُّرَيَّا فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا مَنْ يَهْتَدِي بِجَمِيعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّمَا الْهَدْيُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالْجَدْيِ وَالْفَرْقَدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ النُّجُومِ الْمُنْحَصِرَةِ الْمَطْلَعِ ، الظَّاهِرَةِ السَّمْتِ ، الثَّابِتَةِ فِي الْمَكَانِ فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى الْقُطْبِ الثَّابِتِ دَوَرَانًا مُحَصَّلًا ، فَهِيَ أَبَدًا هَدْيُ الْخَلْقِ فِي الْبَرِّ إذَا عَمِيَتْ الطُّرُقُ ، وَفِي الْبَحْرِ عِنْدَ مَجْرَى السُّفُنِ ، وَعَلَى الْقِبْلَةِ إذَا جَهِلَ السَّمْتَ ، وَذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَنْ تَجْعَلَ الْقُطْبَ عَلَى ظَهْرِ مَنْكِبِك الْأَيْسَرِ ، فَمَا اسْتَقْبَلْت فَهُوَ سَمْتُ الْجِهَةِ ، وَتَحْدِيدُهَا فِي الْإِبْصَارِ أَنَّك إذَا نَظَرْت الشَّمْسَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كَانُونَ الْأَوَّلِ طَالِعَةً فَاجْعَلْ بَيْنَ وَجْهِك وَبَيْنَهَا فِي التَّقْدِيرِ

ذِرَاعًا ، وَتَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ عَلَى التَّقْرِيبِ ، سَالِكًا إلَى التَّحْقِيقِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا يُهْتَدَى بِهَا فِي الْأَنْوَاءِ ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمَنَازِلَ ، وَنَزَّلَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ ، وَرَتَّبَ لَهَا مَطَالِعَ وَمَغَارِبَ ، وَرَبَطَ بِهَا عَادَةً نُزُولَ الْغَيْثِ ، وَبِهَذَا عَرَفَتْ الْعَرَبُ أَنْوَاءَهَا ، وَتَنَظَّرَتْ سُقْيَاهَا ، وَأَضَافَتْ كَثْرَةَ السُّقْيَا إلَى بَعْضٍ ، وَقِلَّتَهَا إلَى آخَرَ .
وَيُرْوَى فِي الْأَثَرِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ : كَمْ بَقِيَ لِنَوْءِ الثُّرَيَّا ؟ فَقَالَ لَهُ : إنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ : إنَّهَا تَدُورُ فِي الْأُفُقِ سَبْعًا ، ثُمَّ يُدِرُّ اللَّهُ الْغَيْثَ ، فَمَا جَاءَتْ السَّبْعُ حَتَّى غِيثَ النَّاسُ .
وَفِي الْمُوَطَّإِ : إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ ، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ .
وَمِنْ الْبِلَادِ مَا يَكُونُ مَطَرُهَا بِالصِّبَا ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَطَرُهَا بِالْجَنُوبِ ، وَيَزْعُمُ أَهْلُهَا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَدُورُ عَلَى الْبَحْرِ ، فَإِذَا جَرَّتْ الرِّيحُ ذَيْلَهَا عَلَى الْبَحْرِ أَلْقَحَتْ السَّحَابَ مِنْهُ ، وَإِذَا جَرَّتْ ذَيْلَهَا عَلَى الْبَيْدَاءِ جَاءَتْ سَحَابًا عَقِيمًا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا لَا نَمْنَعُ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ رَبَّنَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْشِئَ الْمَاءَ فِي السَّحَابِ إنْشَاءً ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُسَيِّبَ لَهُ مَاءَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَيُصَعِّدَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَفِلًا ، وَيَحْلَوْلِي بِتَدْبِيرِهِ ، وَقَدْ كَانَ مِلْحًا ، وَيُنَزِّلَهُ إلَيْنَا فُرَاتًا عَذْبًا ؛ وَلَكِنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ بِنَظَرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ لِذَلِكَ أَثَرٌ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ ، فَنَحْنُ نَقُولُ : هُوَ جَائِزٌ ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ لَكَانَ وَاجِبًا .
الثَّانِي : أَنَّ الشَّمَالَ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ الْمَجَرَّةُ ؛ لِأَنَّهَا تَمْخَرُ السَّحَابَ ، وَلَا تُمْطِرُ مَعَهَا ، وَقَدْ تَأْتِي

بَحْرِيَّةً وَبَرِّيَّةً ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ ؛ وَأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ عَنْ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ إلَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ، لَا الْعُقُولُ الأرسطاليسية .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ } .
قُلْنَا : إنَّمَا خَرَجَ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَأْثِيرِ الْكَوَاكِبِ لِجَاهِلِيَّتِهَا .
وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَهَا وَقْتًا وَمَحَلًّا وَعَلَامَةً يُنْشِئُهُ اللَّهُ فِيهَا وَيُدَبِّرُهُ عَلَيْهَا فَلَيْسَ مِنْ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ } : فَجَاءَ الضَّمِيرُ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ عَائِدًا عَلَى جَمْعِ مُؤَنَّثٍ .
وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ سِيبَوَيْهِ : الْعَرَبُ تُخْبِرُ عَنْ الْأَنْعَامِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَمَا أَرَاهُ عَوَّلَ عَلَيْهِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
وَهَذَا لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَهُ ، وَلَا يَلِيقُ بِإِدْرَاكِهِ .
الثَّانِي : قَالَ الْكِسَائِيُّ : مَعْنَاهُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا تَقْدِيرٌ بَعِيدٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الْفَرَّاءُ : الْأَنْعَامُ وَالنِّعَمُ وَاحِدٌ ، وَالنَّعَمُ مُذَكَّرٌ ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ : هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ ، فَرُجِعَ إلَى لَفْظِ النَّعَمِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْأَنْعَامِ ، وَهَذَا تَرْكِيبٌ طَوِيلٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ .
الرَّابِعُ : قَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا : إنَّمَا يُرِيدُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ بَعْضِهِ ، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ ، فَإِنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ أَيُّهَا كَانَ لَهُ لَبَنٌ مِنْهَا .
الْخَامِسُ : أَنَّ التَّذْكِيرَ إنَّمَا جِيءَ بِهِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَلَى ذِكْرِ النَّعَمِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلذَّكَرِ مَنْسُوبٌ ؛ وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ حِينَ { أَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ ؛ فَقَالَتْ : إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ .
فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك } .
بَيَانٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْمَرْأَةِ سَقْيٌ ، وَلِلرَّجُلِ إلْقَاحٌ ، فَجَرَى الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِيهِ .
وَقَدْ

بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
السَّادِسُ : قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ : إنَّمَا يَرْجِعُ التَّذْكِيرُ إلَى مَعْنَى الْجَمْعِ ، وَالتَّأْنِيثُ إلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ ، فَذَكَّرَ فِي آيَةِ النَّحْلِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ ، وَأَنَّثَ فِي آيَةِ الْمُؤْمِنِ بِاعْتِبَارِ تَأْنِيثِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ ، وَيَنْتَظِمُ الْمَعْنَى بِهَذَا التَّأْوِيلِ انْتِظَامًا حَسَنًا .
وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ أَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةُ مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَمَهَا فِلَسْطِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ بِخُرُوجِ اللَّبَنِ خَالِصًا مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ بَيْنَ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا وِعَاءٌ وَاحِدٌ ، وَجَرَى الْكُلُّ فِي سَبِيلٍ مُتَّحِدَةٍ ، فَإِذَا نَظَرْت إلَى لَوْنِهِ وَجَدْته أَبْيَضَ نَاصِعًا خَالِصًا مِنْ شَائِبَةِ الْجَارِ ، وَإِذَا شَرِبْته وَجَدْته سَائِغًا عَنْ بَشَاعَةِ الْفَرْثِ ، يُرِيدُ لَذِيذًا ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ سَائِغًا ، أَيْ لَا يُغَصُّ بِهِ ، وَإِنَّهُ لِصِفَتِهِ ، وَلَكِنَّ التَّنْبِيهَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى اللَّذَّةِ وَطِيبِ الْمَطْعَمِ ، مَعَ كَرَاهِيَةِ الْجَارِ الَّذِي انْفَصَلَ عَنْهُ فِي الْكَرِشِ ، وَهُوَ الْفَرْثُ الْقَذِرُ .
وَهَذِهِ قُدْرَةٌ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِلْقَائِمِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالْمَصْلَحَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّرِينَ بِصُورَةِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُتَسَوِّرِينَ فِي عُلُومِ الدِّينِ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْمَخْرَجِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ ، وَهَذَا اللَّهُ يَقُولُ فِي اللَّبَنِ : يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ، فَكَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ سَائِغًا خَالِصًا طَاهِرًا ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْمَنِيُّ عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ طَاهِرًا .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ صِفَةَ الْمُجْتَهِدِ الْمُفْتِي فِي الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبِطِ لَهَا مِنْ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ مَوْجُودَةً فِي هَذَا الْقَائِلِ مَا نَطَقَ بِمِثْلِ هَذَا ، فَإِنَّ اللَّبَنَ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْقُدْرَةِ ، لِيَكُونَ عِبْرَةً ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلَّهُ لَهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ وَالطَّهَارَةِ ، وَأَيْنَ الْمَنِيُّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ أَوْ مَقِيسًا عَلَيْهِ ؛ إنَّ هَذَا لَجَهْلٌ عَظِيمٌ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ قَوْمٌ : الْمَعْنَى : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَاهُ شَيْءٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ، وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ قَوْلُهُ : { مِنْهُ } فَلِذَلِكَ سَاغَ حَذْفُهُ ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { سَكَرًا } : فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَغَيْرُهُمَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ خُمُورُ الْأَعَاجِمِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْخَلُّ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الطَّعْمُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ ، مَأْخُوذٌ مِنْ سَكَرْتُ النَّهْرَ ، إذَا سَدَدْته .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الرِّزْقُ الْحَسَنُ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ النَّبِيذُ وَالْخَلُّ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْأَوَّلُ ، يَقُولُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ، فَجَعَلَ لَهُ اسْمَيْنِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَمَّا هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ فَأَسَدُّهَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ السَّكَرَ الْخَمْرُ ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَهَا مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ .
وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اعْتِدَاءً مِنْكُمْ ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ اتِّفَاقًا أَوْ قَصْدًا إلَى مَنْفَعَةِ أَنْفُسِكُمْ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ مَدَنِيٌّ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ : { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } مَا يُسْكِرُ مِنْ الْأَنْبِذَةِ ، وَخَلًّا ، وَهُوَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَقَعُ الِامْتِنَانُ إلَّا بِمُحَلَّلٍ لَا بِمُحَرَّمٍ ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ

دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ مَا دُونَ الْمُسْكِرِ مِنْ النَّبِيذِ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى السُّكْرِ لَمْ يَجُزْ ؛ قَالَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَضَّدُوا رَأْيَهُمْ هَذَا مِنْ السُّنَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرَ مِنْ غَيْرِهَا } .
وَبِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فَيَشْرَبُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ سَقَاهُ الْخَدَمَ إذَا تَغَيَّرَ ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ إيَّاهُمْ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ : قَدْ عَارَضَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ بِمِثْلِهَا ، فَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَوَّدَهُ ، وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، مَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ } .
وَرُوِيَ : { فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ } .
وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا ، وَإِنَّ مِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا ، وَإِنَّ مِنْ التَّمْرِ خَمْرًا ، وَإِنْ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا ، وَإِنَّ مِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا } .
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ شَرْعٌ مُتَّبَعٌ ، وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللُّغَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِيهَا ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ نَطَقَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا بَيْنَ أَظْهُرِ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يَقُمْ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ .
جَوَابٌ آخَرُ : أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ

امْتَنَّ ، وَلَا يَكُونُ امْتِنَانُهُ وَتَعْدِيدُهُ إلَّا بِمَا أَحَلَّ فَصَحِيحٌ ؛ بَيْدَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدُ .
فَإِنْ قَبْلُ : كَيْفَ يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ هَهُنَا ، وَيَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ ، وَهُوَ خَبَرٌ ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ .
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرِيعَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَتَهُ قَبْلُ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْخَبَرَ إذَا كَانَ عَنْ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ ، أَوْ كَانَ عَنْ الْفَضْلِ الْمُعْطَى ثَوَابًا فَهُوَ أَيْضًا لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ ؛ فَأَمَّا إنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ فَالْأَحْكَامُ تَتَبَدَّلُ وَتُنْسَخُ جَاءَتْ بِخَبَرٍ أَوْ بِأَمْرٍ ، وَلَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى تَكْذِيبٍ فِي الْخَبَرِ أَوْ الشَّرْعِ الَّذِي كَانَ مُخْبَرًا عَنْهُ قَدْ زَالَ بِغَيْرِهِ .
وَإِذَا فَهِمْتُمْ هَذَا خَرَجْتُمْ عَنْ الصِّنْفِ الْغَبِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } .
يَعْنِي أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ الرَّبَّ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ ، وَيُكَلِّفُ مَا يَشَاءُ ، وَيَرْفَعُ مِنْ ذَلِكَ بِعَدْلِهِ مَا يَشَاءُ ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَأَمَّا مَا عَضَّدُوهُ بِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ ، وَالثَّانِي فِي سَقْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ لِلْخَدَمِ صَحِيحٌ ، لَكِنَّهُ مَا كَانَ يَسْقِيهِ لِلْخَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَهَ الْخَلْقِ فِي خَبِيثِ الرَّائِحَةِ ، وَلِذَلِكَ تَحَيَّلَ عَلَيْهِ أَزْوَاجُهُ فِي عَسَلِ زَيْنَبَ ، فَإِنَّهُنَّ قُلْنَ لَهُ : إنَّا نَجِدُ مِنْك رِيحَ مَغَافِيرَ يَعْنِي رِيحًا نُنْكِرُهُ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ

فِي كُتُبِ الْخِلَافِ أَثَرًا وَنَظَرًا ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } : وَإِذَا قِيلَ : إنَّ ثَمَرَاتِ الْحُبُوبِ وَغَيْرِهَا تُتَّخَذُ مِنْهُ رِزْقٌ حَسَنٌ وَسَكَرٌ .
قُلْنَا : هَذِهِ الْحُبُوبُ وَسَائِرُ الثَّمَرَاتِ وَإِنْ وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِهَا ، وَكَانَتْ لَهَا وُجُوهٌ يُنْتَفَعُ مِنْهَا ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْخَلَّ ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنْفَعَةٍ فِي الْعَالَمِ ، فَإِنَّهُ دَوَاءٌ وَغِذَاءٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ مَحَلَّ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ شَيْءٌ خُصَّا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَوْحَى رَبُّك إلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهَا الْإِلْهَامُ ، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ ، وَهُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } .
وَمِنْ ذَلِكَ الْبَهَائِمُ وَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ دَرْكِ مَنَافِعِهَا ، وَاجْتِنَابِ مَضَارِّهَا ، وَتَدْبِيرِ مَعَاشِهَا .
وَمِنْ عَجِيبِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي النَّحْلِ أَنْ أَلْهَمَهَا لِاِتِّخَاذِ بُيُوتِهَا مُسَدَّسَةً ؛ فَبِذَلِكَ اتَّصَلَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْقِطْعَةِ الْوَاحِدَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْكَالَ مِنْ الْمُثَلَّثِ إلَى الْمُعَشَّرِ إذَا جُمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَى أَمْثَالِهِ لَمْ يَتَّصِلْ ، وَجَاءَتْ بَيْنَهُمَا فُرَجٌ إلَّا الشَّكْلَ الْمُسَدَّسَ فَإِنَّهُ إذَا جُمِعَ إلَى أَمْثَالِهِ التَّسْدِيسُ ، يَحْمِي بَعْضُهَا بَعْضًا عِنْدَ الِاتِّصَالِ .
وَجُعِلَتْ كُلُّ بَيْتٍ عَلَى قَدْرِهَا ، فَإِذَا تَشَكَّلَ عِنْدَ حَرَكَةِ النَّحْلَةِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ ، وَمَلَأَتْهُ عَسَلًا انْتَقَلَتْ إلَى غَيْرِهِ بِتَسْخِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَذْلِيلِهِ ، إنْ تُرِكَتْ عَسَّلَتْ ، وَإِنْ حُمِلَتْ اتَّبَعَتْ ، وَهِيَ ذَاتُ جَنَاحٍ ، وَلَكِنَّ الْقَابِضَ الْبَاسِطَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَهَا وَدَبَّرَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ } : يَعْنِي : الْعَسَلَ ، عَدَّدَهَا اللَّهُ فِي نِعَمِهِ ، وَذَكَرَ شَرَابَهُ مُمْتَنًّا بِهِ ، وَسَمَّاهُ شَرَابًا وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا ؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْأَشْرِبَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَصْرِيفِهِ فِي الْأَطْعِمَةِ ، وَلِأَنَّهُ

مَائِعٌ ، وَذَلِكَ بِالشَّرَابِيَّةِ أَخَصُّ كَمَا أَنَّ الْجَامِدَ أَخَصُّ بِالطَّعَامِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } : يُرِيدُ أَنْوَاعَهُ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ ، وَالْجَامِدِ وَالسَّائِلِ ؛ وَالْأُمُّ وَاحِدَةٌ ، وَالْأَوْلَادُ مُخْتَلِفُونَ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوَّعَتْهُ بِحَسَبِ تَنْوِيعِ الْغِذَاءِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ عَلَى صِفَتِهِ ، وَلَا يَجِيءُ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ ، وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ بَعْضُ التَّأْثِيرِ فِيهِ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ ؛ وَيُغَيِّرُهُ اللَّهُ ، لِتَتَبَيَّنَ قُدْرَتُهُ فِي التَّصْرِيفِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } : وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ ، أَوْ لَذْعَةِ نَارٍ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ { رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ .
فَقَالَ : اسْقِهِ عَسَلًا .
ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ ، فَقَالَ : اسْقِهِ عَسَلًا .
ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ : اسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَاهُ ، فَقَالَ : فَعَلْت ، فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إلَّا اسْتِطْلَاقًا .
فَقَالَ : صَدَقَ اللَّهُ ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك ، اسْقِهِ عَسَلًا ، فَسَقَاهُ فَبَرِئَ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشْكُو قُرْحَةً وَلَا شَيْئًا إلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ عَسَلًا حَتَّى الدُّمَّلَ إذَا خَرَجَ عَلَيْهِ طَلَاهُ بِعَسَلٍ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ مَرِضَ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا نُعَالِجُك ، قَالَ : ائْتُونِي بِمَاءِ سَمَاءٍ ، فَإِنَّ اللَّهُ يَقُولُ : { وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } وَأْتُونِي بِعَسَلٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } .
وَأْتُونِي بِزَيْتٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } فَجَاءُوهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، فَخَلَطَهُ جَمِيعًا ثُمَّ شَرِبَهُ فَبَرِئَ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالضَّحَّاكُ : إنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ : " فِيهِ " يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ ، أَيْ الْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ .
وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ ، مَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُمْ ؛ وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا ؛ فَإِنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ ، لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ ؛ وَكَيْفَ يَرْجِعُ ضَمِيرٌ فِي كَلَامٍ

إلَى مَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ كُلَّهُ مِنْهُ ؟ وَلَكِنَّهُ إنَّمَا يُرَاعَى مَسَاقُ الْكَلَامِ وَمَنْحَى الْقَوْلِ ، وَقَدْ حَسَمَ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ ذَا الْإِشْكَالِ ، وَأَزَاحَ وَجْهَ الِاحْتِمَالِ حِينَ أَمَرَ الَّذِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ الْعَسَلَ لَمَّا سَقَاهُ إيَّاهُ مَا زَادَهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَوْدِ الشُّرْبِ لَهُ ، وَقَالَ لَهُ : { صَدَقَ اللَّهُ ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } : اُخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِهِ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ ، كَمَا سُقْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَعَوْفٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ بِالتَّدْبِيرِ ؛ إذْ يُخْلَطُ الْخَلُّ بِالْعَسَلِ وَيَطْبُخُ ، فَيَأْتِي شَرَابًا يَنْفَعُ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى مَدْحِ عُمُومِ مَنْفَعَةِ السَّكَنْجَبِينِ فِي كُلِّ مَرَضٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ لَفْظٍ عَامٍّ حُمِلَ عَلَى مَقْصِدٍ خَاصٍّ ؛ فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ ، وَلُغَةُ الْعَرَبِ يَأْتِي فِيهَا الْعَامُّ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْخَاصِّ ، وَالْخَاصُّ بِمَعْنَى الْعَامِّ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ : وَتَرَاكِ أَمْكِنَةٌ إذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا وَالْمُرَادُ كُلُّ النُّفُوسِ ؛ إذْ لَا تَخْلُو نَفْسٌ مِنْ ارْتِبَاطِ الْحِمَامِ لَهَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى نِيَّةِ كُلِّ أَحَدٍ ، فَمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ ، وَصَحَّ يَقِينُهُ فَفَعَلَ فِعْلَ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَدَهُ كَذَلِكَ ، وَمَنْ ضَعُفَتْ نِيَّتُهُ وَغَلَبَتْهُ عَلَى الدِّينِ عَادَتُهُ أَخَذَهُ مَفْهُومًا عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ ، وَالْكُلُّ مِنْ حُكْمِ الْفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ لَا زَكَاةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا مُقْتَاتًا ، وَلَكِنَّهُ كَمَا رُوِيَ فِي ذِكْرِ النَّحْلِ ذُبَابُ غَيْثٍ ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْعَنْبَرِ أَنَّهُ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ ، فَأَحَدُهُمَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ ، وَالْآخَرُ يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ ، وَكِلَاهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الزَّكَاةَ بِمَا خَصَّهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُقْتَاتَةِ ، وَالْأَعْيَانِ النَّامِيَةِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَلْيُقَفْ عِنْدَهَا .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ قَالَ : جَاءَ كِتَابٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَبِي ، وَهُوَ بِمِنًى ، أَلَّا يَأْخُذَ مِنْ الْعَسَلِ وَلَا مِنْ الْخَيْلِ صَدَقَةً .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْعَسَلَ طَعَامٌ يَخْرُجُ مِنْ حَيَوَانٍ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَاللَّبَنِ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ اللَّبَنُ عَيْنٌ زَكَاتِيَّةٌ ، وَقَدْ قَضَى حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَحَازَ الِاسْتِيفَاءَ لِمَنَافِعِهَا ، بِخِلَافِ الْعَسَلِ ، فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي أَصْلِهِ ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِاللَّبَنِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْعَسَلِ ، مُحْتَجًّا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ } .
وَالْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي ذُبَابٍ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { قَدِمْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ } ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَ : فَكَلَّمْت قَوْمِي فِي الْعَسَلِ ، فَقُلْت لَهُمْ : زَكُّوهُ ، فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لَا تُزَكَّى .
قَالُوا : كَمْ ؟ فَقُلْت : الْعُشْرُ .
فَأَخَذْت مِنْهُمْ الْعُشْرَ ، فَأَتَيْت عُمَرَ فَأَخْبَرْته ، فَقَبَضَهُ ،

وَبَاعَهُ ، وَجَعَلَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ .
فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ بِطَوَاعِيَتِهِمْ صَدَقَةً نَافِلَةً ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي فَرْضِ أَصْلِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِيهِ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } : يَعْنِي مِنْ جِنْسِكُمْ ، يَعْنِي مِنْ الْآدَمِيِّينَ ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَتَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا ، حَتَّى رَوَتْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ غُولًا ، وَكَانَ يَخْبَؤُهَا عَنْ الْبَرْقِ ، لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي لَمَحَ الْبَرْقَ وَعَايَنَتْهُ السِّعْلَاةُ فَقَالَتْ : عَمْرُو ، وَنَفَرَتْ فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا ، وَهَذَا مِنْ أَكَاذِيبِهَا ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ ، رَدًّا عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنِّ ، وَيُحِيلُونَ طَعَامَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ .
وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { أَزْوَاجًا } : زَوْجُ الْمَرْأَةِ هِيَ ثَانِيَتُهُ ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ ، فَإِذَا انْضَافَتْ إلَيْهِ كَانَا زَوْجَيْنِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ دُونَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهَا فِي الْوُجُودِ ، وَقِوَامُهَا فِي الْمَعَاشِ ، وَأَمِيرُهَا فِي التَّصَرُّفِ ، وَعَاقِلُهَا فِي النِّكَاحِ ، وَمُطْلِقُهَا مِنْ قَيْدِهِ ، وَعَاقِلُ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ عَنْهَا فِيهِ ، وَوَاحِدٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ يَكْفِي لِلْأَصَالَةِ ، فَكَيْفَ بِجَمِيعِهَا ؟ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } : وُجُودُ الْبَنِينَ يَكُونُ مِنْهُمَا مَعًا ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَخَلُّقُ الْمَوْلُودِ فِيهَا ، وَوُجُودُهُ ذَا رُوحٍ وَصُورَةٍ بِهَا ، وَانْفِصَالُهُ كَذَلِكَ عَنْهَا ، أُضِيفَ إلَيْهَا ، وَلِأَجْلِهِ تَبِعَهَا فِي الرِّقِّ

وَالْحُرِّيَّةِ ، وَصَارَ مِثْلَهَا فِي الْمَالِيَّةِ .
سَمِعْت إمَامَ الْحَنَابِلَةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ يَقُولُ : إنَّمَا تَبِعَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْمَالِيَّةِ ، وَصَارَ بِحُكْمِهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْ الْأَبِ نُطْفَةً لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ ، وَلَا مَنْفَعَةَ مَثْبُوتَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا اكْتَسَبَ مَا اكْتَسَبَ بِهَا وَمِنْهَا ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تَبِعَهَا ، كَمَا لَوْ أَكَلَ رَجُلٌ تَمْرًا فِي أَرْضِ رَجُلٍ ، فَسَقَطَتْ مِنْهُ نَوَاةٌ فِي الْأَرْضِ مِنْ يَدِ الْآكِلِ ، فَصَارَتْ نَخْلَةً ، فَإِنَّهَا مِلْكُ صَاحِبِ الْأَرْضِ دُونَ الْآكِلِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهَا انْفَصَلَتْ مِنْ الْآكِلِ وَلَا قِيمَةَ لَهَا ؛ وَهَذِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { وَحَفَدَةً } : وَفِيهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ الْأَخْتَانُ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْأَصْهَارُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : الْخَتَنُ الزَّوْجُ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ .
وَالصِّهْرُ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ مِنْ الرِّجَالِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا ضِدُّ ذَلِكَ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ .
الْخَامِسُ : قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : الْخَتَنُ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ ، وَالْأَصْهَارُ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
السَّادِسُ : الْحَفَدَةُ : أَعْوَانُ الرَّجُلِ وَخَدَمِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك ؛ وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ .
السَّابِعُ : حَفَدَةُ الرَّجُلِ أَعْوَانُهُ مِنْ وَلَدِهِ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ وَلَدُ الرَّجُلِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ كَمَا سَرَدْنَاهَا إمَّا أُخِذَتْ عَنْ لُغَةٍ ، وَإِمَّا عَنْ تَنْظِيرٍ ، وَإِمَّا عَنْ اشْتِقَاقٍ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } ؛ فَالنَّسَبُ مَا دَارَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ .
وَالصِّهْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِمَا ،

وَيُقَالُ أَخْتَانُ الْمَرْأَةِ وَأَصْهَارُ الرَّجُلِ عُرْفًا وَلُغَةً ، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ : الْحَفِيدُ ، وَيُقَالُ : حَفِيدُهُ يَحْفِدُهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا خَدَمَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ : وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ .
فَالظَّاهِرُ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِ : { بَنِينَ } أَوْلَادُ الرَّجُلِ مِنْ صُلْبِهِ ، وَمِنْ قَوْلِهِ : { حَفَدَةً } أَوْلَادُ وَلَدِهِ .
وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ اللَّفْظِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .
وَنَقُولُ : تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا : وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ، وَمِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ ، وَمِنْ الْبَنِينَ حَفَدَةً .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ : وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ، فَيَكُونُ الْبَنُونَ مِنْ الْأَزْوَاجِ ، وَالْحَفَدَةُ مِنْ الْكُلِّ مِنْ زَوْجٍ وَابْنٍ ، يُرِيدُ بِهِ خُدَّامًا يَعْنِي أَنَّ الْأَزْوَاجَ وَالْبَنِينَ يَخْدُمُونَ الرَّجُلَ بِحَقِّ قِوَامِيَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَخْدُمُ الرَّجُلُ زَوْجَهُ فِيمَا خَفَّ مِنْ الْخِدْمَةِ وَيُعِينُهَا .
وَقَدْ قَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يَخْدُمُهَا .
وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يُنْفِقُ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدَةٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ عَلَى قَدْرِ الثَّرْوَةِ وَالْمَنْزِلَةِ ؛ وَهَذَا أَمْرٌ دَائِرٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَعْرَابِ وَسُكَّانَ الْبَادِيَةِ يَخْدُمْنَ أَزْوَاجَهُنَّ حَتَّى فِي اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ وَسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ .
وَنِسَاءَ الْحَوَاضِرِ يَخْدُمُ الْمُقِلُّ مِنْهُمْ زَوْجَهُ فِيمَا خَفَّ وَيُعِينُهَا .
وَأَمَّا أَهْلُ الثَّرْوَةِ فَيَخْدُمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَيَتَرَفَّهْنَ مَعَهُمْ إذَا كَانَ لَهُمْ مَنْصِبٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُشْكِلًا شَرَطَتْ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّهَا مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ نَفْسَهَا ، فَالْتَزَمَ إخْدَامَهَا ؛ فَيُنَفِّذُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَتَنْقَطِعُ الدَّعْوَى

فِيهِ .
وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : وَسَأَلْته عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : { بَنِينَ وَحَفَدَةً } مَا الْحَفَدَةُ ؟ قَالَ : الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ فِي رَأْيٍ .
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَفَدَةَ الْبَنَاتُ يَخْدُمْنَ الْأَبَوَيْنِ فِي الْمَنَازِلِ .
وَيُرْوَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ : { وَحَفَدَةً } قَالَ : هُمْ الْأَعْوَانُ ؛ مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك .
قَالَ : فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَتَقُولُهُ .
أَمَا سَمِعْت قَوْلَ الشَّاعِرِ : حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأُلْقِيَتْ بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ وَتَصْرِيفُ الْفِعْلِ حَفَدَ يَحْفِدُ كَمَا قَدَّمْنَا حَفْدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : إنَّ الْحَفَدَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَدَمُ ، وَكَفَى بِمَالِكٍ فَصَاحَةً ، وَهُوَ مَحْضُ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُمْ الْخَدَمُ .
وَبِقَوْلِ الْخَلِيلِ ، وَهُوَ ثِقَةٌ فِي نَقْلِهِ عَنْ الْعَرَبِ ؛ فَخَرَجَتْ خِدْمَةُ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِأَبْدَعَ بَيَانٍ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ { أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُرْسِهِ ، فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ ، وَهِيَ الْعَرُوسُ ، فَقَالَ : أَوَتَدْرُونَ مَا أَنَقَعْت لِرَسُولِ اللَّهِ ؟ أَنَقَعْت لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ } .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ ، فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ } .
وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ : وَيُعِينُهَا .
وَفِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ يَخْصِفُ النَّعْلَ ، وَيَقُمُّ الْبَيْتَ ، وَيَخِيطُ الثَّوْبَ } .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ ، وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ ، وَكَانَ يَوْمَ بَنِي

قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إكَافٌ مِنْ لِيفٍ } .
وَقَالَ { عَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ قِيلَ لَهَا : مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ ؟ قَالَتْ : كَانَ بَشَرًا مِنْ الْبَشَرِ ، يُفَلِّي ثَوْبَهُ ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ } .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : حَتَّى فِي وُضُوئِهِ ؛ فَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ فِي لَيْلَةٍ كَانَتْ لَا تُصَلِّي فِيهَا ، فَأَوَى رَسُولُ اللَّهِ إلَى فِرَاشِهِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قَامَ فَخَرَجَ إلَى الْحُجْرَةِ فَقَلَّبَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَجْهَهُ ، ثُمَّ قَالَ : نَامَتْ الْعُيُونُ ، وَغَارَتْ النُّجُومُ ، وَاَللَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ ثُمَّ عَمَدَ إلَى قِرْبَةٍ فِي جَانِبِ الْحُجْرَةِ فَحَلَّ شِنَاقَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ } .
خَرَّجَهُ ابْنُ حَمَّادٍ الْحَافِظُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ التَّقَصِّي وَغَيْرِهِ .
وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يَخْدُمُ الْمَرْءُ فِيهِ نَفْسَهُ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهَا كُلِّهَا لِوَجْهِ اللَّهِ ، وَعَمَلُ شُرُوطِهَا وَأَسْبَابِهَا كُلِّهَا مِنْهُ ؛ فَذَلِكَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ إذَا أَمْكَنَ .
وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ : { سَأَلْت عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَ : كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ } .
وَمِنْ الرُّوَاةِ مَنْ قَالَ : إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ قَالَ الْإِمَامُ يَعْنِي الْإِقَامَةَ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي قَوْلٍ ، وَلِلْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فِي [ قَوْلٍ ] آخَرَ ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ الْكَافِرُ ، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا هُوَ الْمُؤْمِنُ ، آتَاهُمَا اللَّهُ مَالًا كَثِيرًا وَرِزْقًا وَاسِعًا ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَبَخِلَ بِهِ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَقَلَّبَ بِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ يَمِينًا وَشِمَالًا هَكَذَا وَهَكَذَا سِرًّا وَجِهَارًا .
وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ هُوَ الصَّبِيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لِغِرَارَتِهِ وَجَهَالَتِهِ ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } .
وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا } لِلَّهِ .
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ بَيَّنَّاهُ فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِيهِ ، وَقَالَ : { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } [ يَعْنِي لَا تَضْرِبُوا ] أَنْتُمْ الْأَمْثَالَ لِلَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيُرِيدُ ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا تَقُولُونَ وَمَا تُرِيدُونَ ، إلَّا إذَا عَلِمْتُمْ وَأَذِنَ لَكُمْ فِي الْقَوْلِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } : إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ ، فَلَيْسَ يَقْتَضِي الشُّمُولَ ، وَلَا يُعْطِي الْعُمُومَ ؛ وَإِنَّمَا يُفِيدُ وَاحِدًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ يَقْدِرُ بِأَنْ يُقْدِرَهُ مَوْلَاهُ ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْعَبِيدِ الْمَمَالِيكِ إلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَكُونُ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ لَا يَقْدِرُ .
الثَّانِي : أَنْ يَقْدِرَ بِأَنْ تُوضَعَ لَهُ الْقُدْرَةُ ، وَيُمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقْدِرُ وَإِنْ أُقْدِرَ وَلَا يَمْلِكُ وَإِنْ مُلِّكَ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ .
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، فَلَا يَمْلِكُ .
أَصْلُهُ الْبَهِيمَةُ قَالَ أَهْلُ خُرَاسَانَ : وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ ؛ فَإِنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تَقْتَضِي الْحَجْرَ وَالْمَنْعَ ، وَالْمَالِكِيَّةَ تَقْتَضِي الْإِذْنَ وَالْإِطْلَاقَ ؛ فَلَمَّا تَنَاقَضَا لَمْ يَجْتَمِعَا .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْحَيَاةَ وَالْآدَمِيَّةَ عِلَّةُ الْمِلْكِ ، فَهُوَ آدَمِيٌّ حَيٌّ ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ كَالْحُرِّ ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الرِّقُّ عُقُوبَةً ، فَصَارَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ حَقُّ الْحَجْرِ ، وَذِمَّتُهُ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ وَفَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فِي الْمَالِكِيَّةِ بِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَالْآدَمِيَّةِ وَبَقَاءِ ذِمَّتِهِ خَالِيَةً عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ } ، فَأَضَافَ الْمَالَ إلَى الْعَبْدِ ، وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ ، وَجَعَلَهُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ ، كَمَا يُقَالُ سَرْجُ الدَّابَّةِ وَبَابُ الدَّارِ ، فَيُضَافُ ذَلِكَ إلَيْهَا ، إضَافَةَ مَحَلٍّ لَا إضَافَةَ تَمْلِيكٍ .
قُلْنَا : إنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ ؛ لِأَنَّ

الدَّابَّةَ وَالدَّارَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْمِلْكُ وَلَا يَصِحُّ لَهُمَا التَّمْلِيكُ ؛ بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ ، فَصَحَّ أَنْ يَمْلِكَ وَيُمَلَّكَ ، وَجَازَ أَنْ يَقْدِرَ وَيُقْدَرَ .
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِرَأْيِهِمْ الْمُفْسِدُ لِكَلَامِهِمْ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ جَازَ ، فَنَقُولُ : مَنْ مَلَكَ الْأَبْضَاعَ مَلَكَ الْمَتَاعَ كَالْحُرِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُضْعَ أَشْرَفُ مِنْ الْمَالِ ، فَإِذَا مَلَكَ الْبُضْعَ بِالْإِذْنِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ بِالْإِذْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا جَازَ لَهُ النِّكَاحُ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَشْتَهِي طَبْعًا ؛ فَلَوْ مَنَعْنَاهُ اسْتِيفَاءَ شَهْوَتِهِ الْجِبِلِّيَّةِ لَأَضْرَرْنَا بِهِ ، وَلَوْ سَلَّطْنَاهُ عَلَى اقْتِضَائِهَا بِصِفَةِ الْبَهَائِمِ ، لَعَطَّلْنَا التَّكْلِيفَ ؛ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ لَهُ ؛ إذْ لَا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِالْبُضْعِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ ، بِخِلَافِ الْمَالِ ، فَإِنَّهُ يُسْتَبَاحُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ ، وَيَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ ، وَهَذِهِ عُمْدَتُهُمْ .
وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا عُلَمَاؤُنَا بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ ؛ عُمْدَتُهَا أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُبِيحُ الْفُرُوجَ ، وَإِنَّمَا إبَاحَتُهَا فِي الْأَصْلِ طَلَبًا لِلنَّسْلِ بِتَكْثِيرِ الْخَلْقِ ، وَتَنْفِيذًا لِلْوَعْدِ ؛ فَبِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وُضِعَتْ إبَاحَتُهَا ، وَشُرِعَ النِّكَاحُ لِاسْتِبْقَائِهَا .
فَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا أُبِيحَتْ ضَرُورَةً غَلَطٌ .
وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ بِالضَّرُورَةِ لَتَقَدَّرَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إلَّا نِكَاحُ وَاحِدَةٍ .
فَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّهَا رُبَّمَا لَا تَعْصِمُهُ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تُبَلِّغُوهُ إلَى أَرْبَعٍ ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ، لَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ .
وَأَمَّا

قَوْلُهُمْ : إنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَاقِضُ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى مَا بَسَطُوهُ ، فَلَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُنَاقِضُهَا إذَا تَقَابَلَتَا بِالْبُدَاءَةِ .
فَأَمَّا إذْ كَانَ الْحَجْرُ طَارِئًا بِالرِّقِّ ، وَكَانَ الْأَصْلُ بِالْحَيَاةِ وَالْآدَمِيَّةِ الْإِطْلَاقُ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْفَعَ الْمَالِكُ لِلْحَجْرِ حُكْمَهُ بِالْإِذْنِ ، كَمَا يَرْتَفِعُ فِي النِّكَاحِ .
وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ هَذَا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بُيُوتِكُمْ } : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ لِسُلُوكِ سَبِيلِ الْمَعَارِفِ أَنَّ كُلَّ مَا عَلَاك فَأَظَلَّك فَهُوَ سَقْفٌ ، وَكُلَّ مَا أَقَلَّك فَهُوَ أَرْضٌ ، وَكُلَّ مَا سَتَرَك مِنْ جِهَاتِك الْأَرْبَعِ فَهُوَ جِدَارٌ ، فَإِذَا انْتَظَمَتْ وَاتَّصَلَتْ فَهُوَ بَيْتٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { سَكَنًا } : يَعْنِي مَحَلًّا تَسْكُنُونَ فِيهِ ، وَتَهْدَأُ جَوَارِحُكُمْ عَنْ الْحَرَكَةِ ، وَقَدْ تَتَحَرَّكُ فِيهِ ، وَتَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ خَرَجَ فِيهِ عَلَى غَالِبِ الْحَالِ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَرَكَةَ تَكُونُ فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْبَيْتِ ، فَإِذَا عَادَ الْمَرْءُ إلَيْهِ سَكَنَ .
وَبِهَذَا سُمِّيَتْ مَسَاكِنُ لِوُجُودِ السُّكُونِ فِيهَا فِي الْأَغْلَبِ ، وَعُدَّ هَذَا فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ ، فَإِنَّهُ لَوْ خُلِقَ الْعَبْدُ مُضْطَرِبًا أَبَدًا كَالْأَفْلَاكِ لَكَانَ ذَلِكَ كَمَا خُلِقَ وَأَرَادَ ، وَلَوْ خُلِقَ سَاكِنًا كَالْأَرْضِ لَكَانَ كَمَا خُلِقَ وَأَرَادَ ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَدَهُ خَلْقًا يَتَصَرَّفُ بِالْوَجْهَيْنِ ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ، وَرَدَّدَهُ بَيْنَ كَيْفَ وَأَيْنَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا } : يَعْنِي جُلُودَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْهَا بُيُوتًا ، وَهِيَ الْأَخْبِيَةُ ، فَتُضْرَبُ فَيُسْكَنُ فِيهَا ، وَيَكُونُ بُنْيَانًا عَالِيهَا وَنَوَاحِيهَا ، وَهَذَا أَمْرٌ انْتَشَرَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ ، وَعَرِيَتْ عَنْهُ بِلَادُنَا ، فَلَا تُضْرَبُ الْأَخْبِيَةُ إلَّا مِنْ الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ .
وَقَدْ { كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَّةً مِنْ أَدَمٍ } ، وَنَاهِيَك بِأَدِيمِ

الطَّائِفِ غَلَاءً فِي الْقِيمَةِ ، وَاعْتِلَاءً فِي الصِّفَةِ ، وَحُسْنًا فِي الْبَشَرَةِ .
وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَفًا وَلَا رَآهُ سَرَفًا ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ ، وَأَذِنَ فِيهِ مِنْ مَتَاعِهِ ، وَظَهَرَتْ وُجُوهُ مَنْفَعَتِهِ فِي الِاكْتِنَانِ وَالِاسْتِظْلَالِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْهُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ .
وَمِنْ غَرِيبِ مَا جَرَى أَنِّي زُرْت بَعْضَ الْمُتَزَهِّدِينَ مِنْ الْغَافِلِينَ مَعَ بَعْضِ رِجَالِ الْمُحَدِّثِينَ ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي خِبَاءِ كَتَّانٍ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبِي الْمُحَدِّثُ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ ضَيْفًا ، وَقَالَ : إنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرُّ ، وَالْبَيْتُ أَرْفَقُ بِك ، وَأَطْيَبُ لِنَفْسِي فِيك .
فَقَالَ لَهُ : هَذَا الْخِبَاءُ لَنَا كَثِيرٌ ، وَكَانَ فِي صِنْفِهَا مِنْ الْحَقِيرِ .
فَقُلْت لَهُ : لَيْسَ كَمَا زَعَمْت ، قَدْ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَئِيسُ الزُّهَّادِ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ طَائِفِيٍّ يُسَافِرُ مَعَهَا ، وَيَسْتَظِلُّ بِهَا ، فَبَهَتَ وَرَأَيْته عَلَى مَنْزِلَةٍ مِنْ الْعِيِّ ، فَتَرَكْته مَعَ صَاحِبِي ، وَخَرَجْت عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } : أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالِانْتِفَاعِ بِصُوفِ الْغَنَمِ ، وَوَبَرِ الْإِبِلِ ، وَشَعْرِ الْمَعْزِ ، كَمَا أَذِنَ فِي الْأَعْظَمِ ، وَهُوَ ذَبْحُهَا وَأَكْلُ لُحُومِهَا .
كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ، وَعَلِمَ كَيْفِيَّةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { أَثَاثًا } : هُوَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ آلَةٍ ، وَيَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي تَصْرِيفِ مَنَافِعِهِ مِنْ حَاجَةٍ ، وَمِنْهُ أَثَاثُ الْبَيْتِ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْكَثْرَةِ ، يُقَالُ : أَثَّ النَّبْتُ يَئِثُّ ، إذَا كَثُرَ ، وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ يُقَالُ : شَعْرٌ أَثِيثٌ ، إذَا كَانَ كَثِيرًا مُلْتَفًّا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَتَاعًا } : وَهُوَ كُلُّ مَا

انْتَفَعَ بِهِ الْمَرْءُ فِي مَصَالِحِهِ ، وَصَرَفَهُ فِي حَوَائِجِهِ ، يُقَالُ : تَمَتَّعَ الرَّجُلُ بِمَالِهِ إذَا نَالَ لَذَّتَهُ ، وَبِبَدَنِهِ إذَا وَجَدَ صِحَّتَهُ ، وَبِأَهْلِهِ إذَا أَصَابَ حَاجَتَهُ ، وَبِبَنِيهِ إذَا ظَهَرَ بِنُصْرَتِهِمْ ، وَبِجِيرَتِهِ إذَا رَأَى مَنْفَعَتَهُمْ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إلَى حِينٍ } : وَاخْتُلِفَ فِيهِ ، فَقِيلَ : إلَى أَنْ يَفْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِاسْتِعْمَالِ .
وَقِيلَ : إلَى حِينِ الْمَوْتِ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْمَوْتَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ ، وَالشَّعْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا إذْ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى يَحِلُّ بَعْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ ، وَلَمْ تَكُنْ الْحَيَاةُ فِي الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ فَيَخْلُفُهَا الْمَوْتُ فِيهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَحْرُمُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتَةِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ يَحِلُّ بِبَعْضِهَا .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّ الْمَيْتَةَ وَإِنْ كَانَ اسْمًا يَنْطَلِقُ عَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِالْحَقِيقَةِ إلَى مَا فِيهِ حَيَاةٌ ، فَنَحْنُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا نَعْدِلُ عَنْهَا إلَى سِوَاهَا .
وَقَدْ تَعَلَّقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ الصُّوفَ وَالْوَبَرَ وَالشَّعْرَ ، وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْجُثَّةِ تَتَعَدَّى إلَى هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَرْشِ ، وَتَتْبَعُهَا فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ ، فَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَالتَّنْجِيسُ .
وَتَحْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ : حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَجْزَاءِ مِنْ الْجُمْلَةِ ، أَصْلُهُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهَذَا لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَعَنَا ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ ، فَلَئِنْ شَهِدَ لَهُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ لِلْجُمْلَةِ فَلْيَشْهَدَنَّ لَنَا بِانْفِصَالِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ عَنْ الْجُمْلَةِ الْحُكْمُ الْأَكْبَرُ ، وَهِيَ إبَانَتُهَا عَنْ الْجُثَّةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَإِزَالَتُهَا مِنْهَا ، وَهُوَ دَلِيلٌ

يُعَضِّدُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تَابِعَةً فِي الْجُمْلَةِ لَتَنَجَّسَتْ بِإِبَانَتِهَا عَنْهَا ، كَأَجْزَاءِ الْأَعْضَاءِ ؛ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْأَحْكَامُ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْحَقِيقَةِ ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَعَلَّقُوا بِهَا لَا حُجَّةَ فِيهَا ؛ أَمَّا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِاللَّذَّةِ ، وَهِيَ فِي الشَّعْرِ كَمَا تَكُونُ فِي الْبَدَنِ .
وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِإِلْقَاءِ التَّفَثِ ، وَإِذْهَابِ الزِّينَةِ ، وَالشَّعْرِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ .
وَأَمَّا الْأَرْشُ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِإِبْطَالِ الْجَمَالِ تَارَةً وَإِبْطَالِ الْمَنْفَعَةِ أُخْرَى ، وَالْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا مَوْجُودَانِ فِي الشَّعْرِ أَوْ أَحَدُهُمَا ، بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ وَالتَّنْجِيسِ ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ، وَلَيْسَ لِلصُّوفِ وَلَا لِلْوَبَرِ وَلَا لِلشَّعْرِ مَدْخَلٌ بِحَالٍ .
وَقَدْ عَوَّلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ إمَامُ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَةِ ، يُنَمَّى بِنَمَائِهِ ، فَيَنْجُسُ بِمَوْتِهِ ، كَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ .
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْحَيَاةِ ؛ فَإِنَّ النَّبَاتَ يُنَمَّى وَلَيْسَ بِحَيٍّ ، وَإِذَا عَوَّلُوا عَلَى النَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَيَوَانِ عَوَّلْنَا عَلَى الْإِبَانَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِحْسَاسِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَحَصَّلُ الْعِلْمُ لَكُمْ ، وَيَخْلُصُ مِنْ الْأَشْكَالِ عِنْدَكُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } : وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُطْنَ وَلَا الْكَتَّانَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ، وَإِنَّمَا عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَخُوطِبُوا فِيمَا عَرَفُوا بِمَا فَهِمُوا ، وَمَا قَامَ مَقَامَ هَذِهِ وَنَابَ مَنَابَهَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالنِّعْمَةِ مَدْخَلَهَا ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ } ؛ فَخَاطَبَهُمْ بِالْبَرَدِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُزُولَهُ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعًا فِي التَّطْهِيرِ فَقَالَ : { اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ ، وَنَقِّنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا ، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ الدَّنِسُ بِالْمَاءِ } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نِعَمِهِ مَا شَرَحَ فِيهَا ، فَمِنْهَا الظِّلَالُ تَقِي مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَبْدَانُ ، وَلَا يَبْقَى مَعَهُ ، وَلَا دُونَهُ الْإِنْسَانُ ، مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ وَغَمَامٍ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجِبَالُ ، وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : خَلَقَهَا اللَّهُ عُدَّةً لِلْخَلْقِ ، يَأْوُونَ إلَيْهَا ، وَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا ، وَيَعْتَزِلُونَ الْخَلْقَ فِيهَا ، فَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ ، وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ مُهَاجِرًا إلَى رَبِّهِ ، هَارِبًا مِنْ قَوْمِهِ ، فَارًّا بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ مَعَ أَصْحَابِهِ ، وَاسْتَحْصَنَ بِغَارِ ثَوْرٍ ، وَأَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مَعَ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ ، ثُمَّ أَمْضَى هِجْرَتَهُ ، وَأَنْفَذَ عَزْمَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ هِجْرَتِهِ } .
وَقَدْ قِيلَ : أَرَادَ بِهِ السَّهْلَ وَالْجِبَالَ ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ أَحَدَهُمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا مُبْتَغِيهِ أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي وَكَمَا قَالَ فِي الْحَرِّ بَعْدَ هَذَا : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ } أَرَادَ وَالْبَرْدَ ، فَحُذِفَ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ } : وَالسِّرْبَالُ : كُلُّ مَا سَتَرَ بِاللِّبَاسِ مِنْ ثَوْبٍ مِنْ صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ .
وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ خَلَقَهُ عَارِيًّا ، ثُمَّ جَعَلَهُ بِنِعْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَاسِيًا ؛ وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ سَرَابِيلُهَا جُلُودُهَا أَوْ مَا يَكُونُ مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ عَلَيْهَا ؛ فَشَرَّفَ الْآدَمِيَّ بِأَنْ كُسِيَ مِنْ أَجْزَاءٍ سِوَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } : يَعْنِي دُرُوعَ الْحَرْبِ ؛ مَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ عُدَّةً لِلْجِهَادِ ، وَعَوْنًا عَلَى الْأَعْدَاءِ ، وَعَلَّمَهَا ، كَمَا عَلَّمَ صَنْعَةَ غَيْرِهَا ، وَلَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ ، تُقَاةَ الْجِرَاحَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ ، كَمَا يَعُدُّ السَّيْفَ وَالرُّمْحَ وَالسَّهْمَ لِلْقَتْلِ بِهَا لِغَيْرِهِ ، وَالْمُدَافَعَةِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، ثُمَّ يُنْفِذُ اللَّهُ مَا شَاءَ مِنْ حُكْمِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَطْلُبَ الشَّهَادَةَ بِأَنْ يَسْتَقْتِلَ مَعَ الْأَعْدَاءِ ، وَلَا بِأَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلْحُتُوفِ ، وَلَكِنَّهُ يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَيَأْخُذُ حِذْرَهُ ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ ، وَيُعْطِيه اللَّهُ بَعْدُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ } بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى [ قِرَاءَةِ ] مَنْ قَرَأَهَا كَذَلِكَ ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ لَعَلَّكُمْ تَنْقَادُونَ إلَى طَاعَتِهِ شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى " قَوْله تَعَالَى : " بِالْعَدْلِ " : وَهُوَ مَعَ الْعَالَمِ ، وَحَقِيقَتُهُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيْ النَّقِيضِ ، وَضِدُّهُ الْجَوْرُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَارِيَ خَلَقَ الْعَالَمَ مُخْتَلِفًا مُتَضَادًّا مُتَقَابِلًا مُزْدَوِجًا ، وَجَعَلَ الْعَدْلَ فِي اطِّرَادِ الْأُمُورِ بَيْنَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ جَارِيًا فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ فِي كُلِّ مَعْنًى ، فَالْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ إيثَارُ حَقِّ اللَّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ ، وَتَقْدِيمُ رِضَاهُ عَلَى هَوَاهُ ، وَالِاجْتِنَابُ لِلزَّوَاجِرِ ، وَالِامْتِثَالُ لِلْأَوَامِرِ .
وَأَمَّا الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فَمَنْعُهَا عَمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى } وَعُزُوبُ الْأَطْمَاعِ عَنْ الِاتِّبَاعِ ، وَلُزُومُ الْقَنَاعَةِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَمَعْنًى .
وَأَمَّا الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَفِي بَذْلِ النَّصِيحَةِ ، وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ ، وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك لَهُمْ بِكُلِّ وَجْهٍ ، وَلَا يَكُونُ مِنْك إلَى أَحَدٍ مَسَاءَةٌ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ ، لَا فِي سِرٍّ وَلَا فِي عَلَنٍ ، حَتَّى بِالْهَمِّ وَالْعَزْمِ ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُك مِنْهُمْ مِنْ الْبَلْوَى ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك وَتَرْكُ الْأَذَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِحْسَانُ : وَهُوَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ : فَأَمَّا فِي الْعِلْمِ فَبِأَنْ تَعْرِفَ حُدُوثَ نَفْسِك وَنَقْصَهَا ، وَوُجُوبَ الْأَوَّلِيَّةِ لِخَالِقِهَا وَكَمَالِهِ .
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِي الْعَمَلِ فَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، حَتَّى إنَّ الطَّائِرَ فِي سِجْنِك ، وَالسِّنَّوْرَ فِي دَارِك ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقَصِّرَ فِي تَعَهُّدِهِ ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي

هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا لَا هِيَ سَقَتْهَا وَلَا أَطْعَمَتْهَا وَلَا أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ } .
وَيُقَالُ : الْإِحْسَانُ أَلَّا تَتْرُكَ لِأَحَدٍ حَقًّا ، وَلَا تَسْتَوْفِيَ مَا لَك .
وَقَدْ { قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } .
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَعْتَقِدُهُ الصُّوفِيَّةُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَالْيَقِينُ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْك ؛ فَلَيْسَ مِنْ الْأَدَبِ أَنْ تَعْصِيَ مَوْلَاك بِحَيْثُ يَرَاك .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } : يَعْنِي : فِي صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَإِيفَاءِ الْحُقُوقِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْعَدْلُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ .
وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ إيتَاءُ حُقُوقِ الْخَلْقِ إلَيْهِمْ .
وَإِنَّمَا خَصَّ ذَوِي الْقُرْبَى ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ أَوْكَدُ ، وَصِلَتَهُمْ أَوْجَبُ ، لِتَأْكِيدِ حَقِّ الرَّحِمِ الَّتِي اشْتَقَّ اللَّهُ اسْمَهَا مِنْ اسْمِهِ ، وَجَعَلَ صِلَتَهَا مِنْ صِلَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْفَحْشَاءُ : وَذَلِكَ كُلُّ قَبِيحٍ ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، وَغَايَتُهُ الزِّنَا ؛ وَالْمُنْكَرُ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ؛ وَالْبَغْيُ هُوَ الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ وَالْحَسَدُ وَالتَّعَدِّي ، وَحَقِيقَتُهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ ، مِنْ بَغَى الْجُرْحُ .
فَهَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هَذِهِ أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِخَيْرٍ يُمْتَثَلُ وَشَرٍّ يُجْتَنَبُ ، وَأَرَادَ مَا قَالَ قَتَادَةُ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ إلَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَلَا مِنْ خُلُقٍ سَيِّئٍ كَانُوا يَتَعَايَرُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَنْ يُرِيدَ الْخَيْرَ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ ؛ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَيَزْدَادُ إيمَانًا ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَيَتَبَدَّلُ إسْلَامًا ، وَمُوَالَاةُ الْخَلْقِ بِالْبِشْرِ وَالسِّيَاسَةِ .
وَلِهَذَا يُرْوَى أَنَّ عِيسَى عَرَضَ لَهُ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ فَقَالَ لَهُ :

اذْهَبْ بِسَلَامٍ ، إشَارَةً إلَى تَرْكِ الْإِذَايَةِ حَتَّى فِي الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُؤْذِيَةِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَالرَّعْدِ شَرْحُهُ وَأَشَرْنَا إلَيْهِ حَيْثُ وَقَعَ ذِكْرُهُ بِمَا أَمْكَنَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : أَمَّا التَّوْكِيدُ فَهُوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَارًا ، يُرَدِّدُ فِيهِ الْأَيْمَانَ يَمِينًا بَعْدَ يَمِينٍ ، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَنْقُصُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا ، يَحْلِفُ بِذَلِكَ مِرَارًا ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : كَفَّارَةُ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ [ إنَّمَا عَلَيْهِ ] مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : هِيَ فِي الْعُهُودِ ، وَالْعَهْدُ يَمِينٌ ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَهْدَ لَا يُكَفِّرُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ ، يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ } .
وَأَمَّا الْيَمِينُ فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ مُخَلِّصَةً مِنْهَا ، وَحَالَّةُ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : التَّوْكِيدُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَرَّرَةِ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ حَلَفَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَأَوْضَحْنَا صِحَّةَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ ، وَضَعْفَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنْ كَرَّرَ الْيَمِينَ مِرَارًا أَوْ كَثَّرَهَا أَعْدَادًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّوْحِيدِ ، أَوْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّوْحِيدِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ قَصَدَ التَّوْكِيدَ مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ يَمِينَيْنِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : تَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ كَفَّارَتَيْنِ .
وَتَعَلَّقَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا تَثْنِيَةُ يَمِينٍ ، فَتَثْنِيَةُ الْكَفَّارَةِ أَصْلٌ ، فَلَهُ أَنْ يَعْقِدَهَا بِذَلِكَ .
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ الْكَفَّارَةَ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْكَفَّارَةَ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى كَفَّارَتَيْنِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ شَيْئَيْنِ ، فَإِنَّ كَفَّارَةً وَاحِدَةً تُجْزِيهِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : انْتَهَى الْعِيُّ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ قَالُوا : إنَّ الْقَارِئَ إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ ، وَتَأَوَّلُوا ظَاهِرَ " إذَا قَرَأْت " عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَدْت ، كَمَا قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } مَعْنَاهُ ، إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ ، وَكَقَوْلِهِ : إذَا أَكَلْت فَسَمِّ اللَّهَ ؛ مَعْنَاهُ : إذَا أَرَدْت الْأَكْلَ .
وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " فَعَلَ " يَحْتَمِلُ ابْتَدَأَ الْفِعْلَ ، وَيَحْتَمِلُ تَمَادِيهِ فِي الْفِعْلِ ، وَيَحْتَمِلُ تَمَامَهُ لِلْفِعْلِ .
وَحَقِيقَتُهُ تَمَامُ الْفِعْلِ وَفَرَاغُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ حَقِيقَتَهُ كَانَ فِي الْفِعْلِ ، وَاَلَّذِي رَأَيْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَاضِي هُوَ فَعَلَ ، كَمَا أَنَّ بِنَاءَ الْحَالِ هُوَ يَفْعَلُ ، وَهُوَ بِنَاءُ الْمُسْتَقْبَلِ بِعَيْنِهِ .
وَيُخَلِّصُهُ لِلْحَالِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِك الْآنَ ، وَيُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ قَوْلُك سَيَفْعَلُ ، هَذَا مُنْتَهَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ .
وَإِذَا قُلْنَا : قَرَأَ ، بِمَعْنَى أَرَادَ ، كَانَ مَجَازًا ، وَوَجَدْنَا مُسْتَعْمَلًا ، وَلَهُ مِثَالٌ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ ؟ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قُلْنَا : فَائِدَتُهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ؛ وَلَيْسَ لِلشَّرْعِيَّاتِ فَائِدَةٌ إلَّا الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَفَاءِ فِي امْتِثَالِهَا أَمْرًا ، أَوْ اجْتِنَابِهَا نَهْيًا .
وَقَدْ قِيلَ : فَائِدَتُهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ } يَعْنِي فِي تِلَاوَتِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا

ذَلِكَ فِي جُزْءِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا افْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ ، ثُمَّ يَقُولُ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ، وَتَبَارَكَ اسْمُك ، وَتَعَالَى جَدُّك ، وَلَا إلَهَ غَيْرُك ، ثُمَّ يَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، ثَلَاثًا .
ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ، ثَلَاثًا ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ } ، ثُمَّ يَقْرَأُ .
هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَاللَّفْظُ لَهُ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ } ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ قَبْلَ الِاسْتِعَاذَةِ بِمُطْلَقِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْفَرِيضَةِ ، وَيَتَعَوَّذُ فِي النَّافِلَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : فِي قِيَامِ رَمَضَانَ .
وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ إسْكَاتَةً فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إسْكَاتُك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ ، كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } .
وَمَا أَحَقَّنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ ، لَوْلَا غَلَبَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْحَقِّ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ بِمَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك أَنَّ

أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ تَرَكَ الِاسْتِعَاذَةَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُفْعَلُ سِرًّا ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ جَهْرًا .
وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَجَدْنَاهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } الْآيَةَ قَالَ : ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ لِمَنْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ ، وَلَا يُعَضِّدُهُ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْآيَةِ ، وَحَقِيقَتَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ دَعْوَى عَرِيضَةً لَا تُشْبِهُ أُصُولَ مَالِكٍ ، وَلَا فَهْمَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضٍ مِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ كَبِيرَةٌ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَهَا إيمَانٌ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ، وَالْكَافِرُ أَوْ الْمُرْتَدُّ هُوَ الَّذِي جَرَى بِالْكُفْرِ لِسَانُهُ ، مُخْبِرًا عَمَّا انْشَرَحَ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ صَدْرُهُ ، فَعَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ الْغَضَبُ ، وَلَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ، إلَّا مَنْ أُكْرِهَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَذَكَرَ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ عَنْ إكْرَاهٍ ، وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَى ذَلِكَ قَلْبَهُ ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ ، مَعْذُورٌ فِي الدُّنْيَا ، مَغْفُورٌ فِي الْأُخْرَى .
وَالْمُكْرَهُ : هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَلَّ وَتَصْرِيفَ إرَادَتِهِ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا الْمُحْتَمِلَةِ لَهَا ، فَهُوَ مُخْتَارٌ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَ لَهُ فِي مَجَالِ إرَادَتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْبَدَلِ ، وَهُوَ مُكْرَهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حُذِفَ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَةِ مَا كَانَ تَصَرُّفُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ ، وَسَبَبُ حَذْفِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ ؛ فَالْقَوْلُ هُوَ التَّهْدِيدُ ، وَالْفِعْلُ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ ، أَوْ الضَّرْبُ ، أَوْ السَّجْنُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّهْدِيدِ ، هَلْ هُوَ إكْرَاهٌ أَمْ لَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إكْرَاهٌ ؛ فَإِنَّ الْقَادِرَ الظَّالِمَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَإِلَّا قَتَلْتُك ، أَوْ ضَرَبْتُك ، أَوْ أَخَذْت مَالَك ، أَوْ سَجَنْتُك ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ إلَّا اللَّهَ ، فَلَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ ، وَيُسْقِطَ عَنْهُ الْإِثْمَ فِي

الْجُمْلَةِ ، إلَّا فِي الْقَتْلِ ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِقَتْلِ غَيْرِهِ ؛ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي الزِّنَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ ، فَإِنَّهُ أَلْزَمَهُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا شَهْوَةٌ خُلُقِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهَا إكْرَاهٌ ، وَلَكِنَّهُ غَفَلَ عَنْ السَّبَبِ فِي بَاعِثِ الشَّهْوَةِ ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى شَهْوَةٍ بَعَثَ عَلَيْهَا سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ ، فَقَاسَ الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ ، فَلَمْ يَحِلَّ بِصَوَابٍ مِنْ عِنْدِهِ .
وَأَمَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَلْفِظَ بِلِسَانِهِ ، وَقَلْبُهُ مُنْشَرِحٌ بِالْإِيمَانِ ، فَإِنْ سَاعَدَ قَلْبُهُ فِي الْكُفْرِ لِسَانَهُ كَانَ آثِمًا كَافِرًا ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا سُلْطَانَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ ، وَإِنَّمَا سُلْطَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ إذَا تَلَفَّظَ بِالْكُفْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ إلَّا جَرَيَانَ الْمَعَارِيضِ ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ أَيْضًا لَا سُلْطَانَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا ، مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : اُكْفُرْ بِاَللَّهِ ، فَيَقُولُ : أَنَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ ، يُرِيدُ بِاللَّاهِي ، وَيَحْذِفُ الْيَاءَ كَمَا تُحْذَفُ مِنْ الْغَازِي وَالْقَاضِي وَالرَّامِي ، فَيُقَالُ : الْغَازِ وَالْقَاضِ ذَرَّةً .
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَهُ : اُكْفُرْ بِالنَّبِيِّ ، فَيَقُولُ : هُوَ كَافِرٌ بِالنَّبِيِّ ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّبِيِّ الْمَكَانَ الْمُرْتَفِعَ مِنْ الْأَرْضِ .
فَإِنْ قِيلَ لَهُ : اُكْفُرْ بِالنَّبِيءِ مَهْمُوزًا ، يَقُولُ : أَنَا كَافِرٌ بِالنَّبِيءِ بِالْهَمْزِ ، وَيُرِيدُ بِهِ الْمُخَبِّرَ أَيَّ مُخَبِّرٍ كَانَ ، أَوْ

يُرِيدُ بِهِ النَّبِيءَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ : فَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاقَ الْحَصَى مَكَانَ النَّبِيءِ مِنْ الْكَاثِبِ وَلِذَلِكَ يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ زَمَنِ فِتْنَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ دُعِيَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، فَقَالَ : الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ يُعَدِّدُهُنَّ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مَخْلُوقَةٌ ، يَقْصِدُ هُوَ بِقَلْبِهِ أَصَابِعَهُ الَّتِي عَدَّدَ بِهَا ، وَفَهِمَ الَّذِي أَكْرَهَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ، فَخَلَصَ فِي نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَضُرَّهُ فَهْمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ .
وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ ، مَشْهُورًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَرَئِيسُهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ كِتَابَ الْمَلَاحِنِ لِلْمُكْرَهِينَ ، فَجَاءَ بِبِدَعٍ فِي الْعَالَمِينَ ، ثُمَّ رَكَّبَ عَلَيْهِ الْمُفْجِعَ الْكَابِتَ ، فَجَمَعَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعًا وَافِرًا حَسَنًا ، اسْتَوْلَى فِيهِ عَلَى الْأَمَدِ ، وَقَرْطَسَ الْغَرَضَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ ؛ إذْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسَّنَهُ الْإِكْرَاهُ ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْبُحُ لِذَوَاتِهَا وَلَا تَحْسُنُ لِذَوَاتِهَا ؛ وَإِنَّمَا تَقْبُحُ وَتَحْسُنُ بِالشَّرْعِ ؛ فَالْقَبِيحُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ ، وَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ الْوَاقِعَ اعْتِدَاءً يُمَاثِلُ الْقَتْلَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَافِلَ عَنْ سَبَبِهِمَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاجُ فِي الْفَرْجِ عَنْ نِكَاحٍ ، يُمَاثِلُ الْإِيلَاجَ عَنْ سِفَاحٍ فِي اللَّذَّاتِ وَالْحَرَكَاتِ ، إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْإِذْنُ ؛ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ الْإِكْرَاهِ يُمَاثِلُ الصَّادِرَ عَنْ الِاخْتِيَارِ ؛ وَلَكِنْ فَرَّقَ

بَيْنَهُمَا إذْنُ الشَّرْعِ فِي أَحَدِهِمَا وَحَجْرُهُ فِي الْآخَرِ ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ جَائِزًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يُفْتَتَنْ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ آثَارُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَطُولُ سَرْدُهَا ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِذْنُ وَخَصَّهُ مِنْ اللَّهِ رِفْقًا بِالْخَلْقِ ، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ ، وَلِمَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ السَّمَاحَةِ ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَذْكُرَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَأُمِّهِ سُمَيَّةَ ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، وَقَوْمٍ أَسْلَمُوا ، فَفَتَنَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دِينِهِمْ ، فَثَبَتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَافْتُتِنَ بَعْضُهُمْ ، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يَصْبِرْ بَعْضٌ ، فَقُتِلَتْ سُمَيَّةُ ، وَافْتُتِنَ عَمَّارٌ فِي ظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ ، وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الثَّانِيَةُ : قَالَ عِكْرِمَةُ : نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ ، وَلَمْ يُمْكِنُهُمْ الْخُرُوجُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَخْرَجَهُمْ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ كُرْهًا فَقُتِلُوا .
قَالَ : وَفِيهِمْ نَزَلَتْ : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } .
الثَّالِثَةُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ ، وَصُهَيْبٌ ، وَسُمَيَّةُ ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ ، وَأَوْقَفُوكُمْ فِي الشَّمْسِ ، فَبَلَغَ مِنْهُمْ الْجَهْدُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ ، مِنْ حَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعِشَاءِ أَتَاهُمْ أَبُو جَهْلٍ ، وَمَعَهُ حَرْبَةٌ فَجَعَلَ يَشْتُمُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ ، ثُمَّ أَتَى سُمَيَّةَ فَطَعَنَ بِالْحَرْبَةِ فِي قُبُلِهَا حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ فَمِهَا ، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ اُسْتُشْهِدَ فِي الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ : مَا سَأَلُوهُمْ إلَّا

بِلَالًا ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ ، فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ، وَهُوَ يَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ ، حَتَّى مَلُّوهُ ، ثُمَّ كَتَّفُوهُ ، وَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ حَبْلًا مِنْ لِيفٍ ، وَدَفَعُوهُ إلَى صِبْيَانِهِمْ يَلْعَبُونَ بِهِ بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ ، حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ ، فَقَالَ عَمَّارٌ : كُلُّنَا قَدْ تَكَلَّمَ بِاَلَّذِي قَالُوا لَهُ ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَنَا ، غَيْرَ بِلَالٍ ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ ، فَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ ، حَتَّى تَرَكُوهُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَؤُلَاءِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا سَمَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُفْرِ بِهِ ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ ، عِنْدَ الْإِكْرَاهِ ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ بِهِ ، حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ ، وَلَا يَتَرَتَّبُ حُكْمٌ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .
وَالْخَبَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلَ : مِنْهَا : قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي حَدِّ الزِّنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدَمْ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّضَا ، وَلَيْسَ وُجُودُهُ بِشَرْطٍ فِي الطَّلَاقِ كَالْهَازِلِ .
وَهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ إلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ ، رَاضٍ بِهِ وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي الطَّلَاقِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ إذَا قَتَلَ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ ظُلْمًا اسْتِبْقَاءً لِنَفْسِهِ ، فَقُتِلَ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ الْجَمَاعَةُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَحْنُونٌ : لَا يُقْتَلُ ، وَهِيَ عَثْرَةٌ مِنْ سَحْنُونٍ وَقَعَ فِيهَا بِأَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ الَّذِي تَلَقَّفَهَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ ، وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ ، وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَثْلَمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ : تَكُفَّهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : مِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ عُلَمَاءَنَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ ، هَلْ يَقَعُ بِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عِرَاقِيَّةٌ سَرَتْ لَنَا مِنْهُمْ ، لَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَلَا كَانُوا هُمْ ، وَأَيُّ فَرْقٍ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْيَمِينِ فِي أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَبَيْنَ الْحِنْثِ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَرَاجِعُوا بَصَائِرَكُمْ ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا وَصْمَةٌ فِي الدِّرَايَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى إسْلَامِ أَهْلِهِ لِمَا لَا يَحِلُّ أَسْلَمَهَا ، وَلَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ دُونَهَا ، وَلَا احْتَمَلَ إذَايَةً فِي تَخْلِيصِهَا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَيُّوبَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ حَاجِبٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْيَمَانِ ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَاجَرَ إبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ ، وَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ ، أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إلَيَّ بِهَا ، فَقَامَ إلَيْهَا ، فَقَامَتْ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي ، فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت آمَنْت بِك وَبِرَسُولِك فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ } .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ عِنْدَ الْإِبَايَةِ مِنْ الِانْقِيَادِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ شَرْعًا تَنْفُذُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْهَا .
وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : { بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : انْطَلِقُوا إلَى يَهُودَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ ، حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمَدَارِسِ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ : يَا مَعْشَرَ يَهُودَ ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا .
فَقَالُوا لَهُ : قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ .
فَقَالَ : ذَلِكَ أُرِيدُ ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ ، فَقَالُوا : قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ .
وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ ، وَمِنْ حُكْمِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمَلِهِ نَظَائِرُ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بَيْعِ الْمُضْطَرِّ أَحْكَامٌ ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قِرَاءَتِهَا : قَرَأَهَا الْجَمَاعَةُ الْكَذِبَ بِنَصْبِ الْكَافِ ؛ وَخَفْضِ الذَّالِ ، وَنَصْبِ الْبَاءِ .
وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ ، إلَّا أَنَّ الْبَاءَ مَخْفُوضَةٌ ، وَقَرَأَهَا قَوْمٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ .
فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى يَكُونُ فِيهَا الْكَذِبُ عَلَى الْإِتْبَاعِ لِمَوْضِعِ مَا يَقُولُونَ .
وَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ وَالذَّالَ جَعَلَهُ نَعَتَا لِلْأَلْسِنَةِ .
وَمَنْ نَصَبَ الْكَافَ وَالْبَاءَ جَعَلَهُ مَفْعُولَ قَوْلِهِ : تَقُولُوا ، وَهُوَ بَيِّنٌ كُلُّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى الْآيَةِ : لَا تَصِفُوا الْأَعْيَانَ بِأَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ ؛ إنَّمَا الْمُحَرِّمُ الْمُحَلِّلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ .
وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : أَنَّ الْمَيْتَةَ حَلَالٌ ، وَعَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ؛ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ بِضَلَالِهِمْ ، وَاعْتِدَاءً ، وَإِنْ أَمْهَلَهُمْ الْبَارِي فِي الدُّنْيَا فَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ لِي مَالِكٌ : لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولُوا : هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ : إنَّا نَكْرَهُ هَذَا ، وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا ، فَكَانَ النَّاسُ يُطِيعُونَ ذَلِكَ ، وَيَرْضَوْنَ بِهِ .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِي يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ ، وَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ يَقُولُ : إنِّي أَكْرَهُ كَذَا ، وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ ؛ اقْتِدَاءً بِمِنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنَّهَا حَرَامٌ وَتَكُونُ ثَلَاثًا .
قُلْنَا : سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَنَقُولُ هَاهُنَا : إنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ ، فَأَلْزَمَهُ مَالِكٌ مَا الْتَزَمَ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَقْوَى ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا لَمَّا سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ : إنَّهَا حَرَامٌ أَفْتَى بِذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِ ، وَقَدْ يَتَقَوَّى الدَّلِيلُ عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْد الْمُجْتَهِدِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، كَمَا يَقُولُ : إنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي غَيْرِ الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الَّتِي وَقَعَ ذِكْرُهَا فِي الرِّبَا ، وَهِيَ الذَّهَبُ ، وَالْفِضَّةُ ، وَالْبُرُّ ، وَالشَّعِيرُ ، وَالتَّمْرُ ، وَالْمِلْحُ ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُ مَالِكٌ ، فَذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَصْلُحُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، وَفِيمَا خَالَفَ الْمَصَالِحَ ، وَخَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْمَقَاصِدِ ، لِقُوَّةِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ .
فَقِيلَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ بِهَذَا إبْرَاهِيمَ ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ الْأُمَّةَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ ، وَإِنَّ الْقَانِتَ هُوَ الْمُطِيعُ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ : قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا .
فَقُلْت فِي نَفْسِي : غَلِطَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، إنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : إنَّ إبْرَاهِيمُ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا .
فَقَالَ : أَتَدْرِي مَا الْأُمَّةُ الْقَانِتُ ؟ قُلْت : اللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : الْأُمَّةُ الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ .
وَالْقَانِتُ لِلَّهِ : الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْخَيْرَ ، وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْحَنِيفُ : الْمُخْلِصُ ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ قَائِمًا لِلَّهِ بِحَقِّهِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا ، آتَاهُ اللَّهُ رُشْدَهُ ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ ، فَنَصَحَ لَهُ ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ ، وَبَايَنَ قَوْمَهُ بِالْعَدَاوَةِ ، وَدَعَا إلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ؛ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يَبْعَثَ نَبِيًّا بَعْدَهُ إلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يُسَافِرَ فِي الْأَرْضِ ، فَتَخْطُرُ سَارَةُ بِقَلْبِهِ إلَّا هَتَكَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْحِجَابَ ، فَيَرَاهَا ، وَكَانَ أَوَّلَ مِنْ اخْتَتَنَ ، وَأَقَامَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ ، وَضَحَّى ، وَعَمِلَ بِالسُّنَنِ نَحْوَ قَصِّ الْأَظْفَارِ ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا ، فَاتَّفَقَتْ الْأُمَمُ

عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْقُصْ مَا أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَظِّهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأُوحِيَ إلَى مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّهُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ، وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ .
فَعَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ ، وَيُعَلِّمَ الْأُمَّةَ ، فَيَكُونَ فِي دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَى الْمِلَّةِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّك لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، أَيْ فُرِضَ تَعْظِيمُ يَوْمِ السَّبْتِ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ ؛ هُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ سَبَّتَ يَوْمَ السَّبْتِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ ، فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِ غَيْرِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمُهُ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَحَلُّوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَا الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ؟ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ ، وَحَرَّمَهُ آخَرُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : كَانُوا يَطْلُبُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَخْطَئُوهُ ، وَأَخَذُوا السَّبْتَ ، فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ .
وَقِيلَ فِي الْقَوْلِ الرَّابِعِ : إنَّهُمْ أُلْزِمُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا ، فَخَالَفُوا وَقَالُوا : نُرِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ .
الْخَامِسُ : رُوِيَ أَنَّ عِيسَى أَمَرَ النَّصَارَى أَنْ يَتَّخِذُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا ، فَقَالُوا : لَا يَكُونُ عِيدُنَا إلَّا بَعْدَ عِيدِ الْيَهُودِ ، فَجَعَلُوهُ الْأَحَدَ .
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ : تَفَرَّغُوا إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ تَعْبُدُونَهُ ، وَلَا تَعْمَلُونَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا ؛ فَاخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ ، فَأَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْجُمُعَةِ ، فَأَبَوْا إلَّا السَّبْتَ ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الَّذِي يُفَصِّلُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانَا اللَّهُ ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ } .
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَهَذَا الْيَوْمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ } ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِمْ ، فَاخْتَارَ كُلُّ أَحَدٍ مَا ظَهَرَ إلَيْهِ ، وَأَلْزَمْنَاهُ مِنْ غَيْرِ عَرْضٍ ، فَالْتَزَمْنَاهُ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ : { فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا ، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ } .
وَهَذَا مُجْمَلٌ ، فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ حِينَ اخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخِلْقَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ ، وَأَتَمَّهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَنَحْنُ نَتْرُكُ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ .
فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } الْآيَةَ .
فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِالْتِزَامِهِمْ ، وَابْتَدَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ ، وَاخْتِيَارِهِمْ الْفَائِلِ ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ رَعَاهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَرَمَهُ فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَى الْجَمِيعِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَاخْتَارَ اللَّهُ لَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقِبَلِنَا خِيرَةَ رَبِّنَا لَنَا ، وَالْتَزَمْنَا مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ مَا أَلْزَمَنَا ، وَعَرَفْنَا مِقْدَارَ فَضْلِهِ ، فَقَالَ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَم ، و فِيهِ أُهْبِطَ ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ مَاتَ ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ إلَى حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ ، شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ ، إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ } فِي حَدِيثٍ طَوِيل هَذَا أَكْثَرُهُ .
وَجَمَعَ لَنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ : فَضْلَ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ ، وَجَوَازَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا ، وَخَشِيَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا جَرَى لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ التَّنَطُّعِ فِي يَوْمِهِمْ الَّذِي اخْتَارُوهُ ، فَمَنَعْنَا مِنْ صِيَامِهِ ، فَقَالَ : { لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ ، وَلَا لَيْلَتَهَا بِقِيَامٍ } .
وَعَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَرَأَى مَالِكٍ أَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ .
وَقَالَ : إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِهِ كَانَ يَصُومُهُ ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ .

وَنَهْيُ النَّبِيِّ عَنْ تَخْصِيصِهِ أَشْبَهُ بِحَالِ الْعَالِمِ الْيَوْمَ فَإِنَّهُمْ يَخْتَرِعُونَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُلْحِقُهُمْ بِمَنْ تَقَدَّمَ ، وَيَسْلُكُونَ بِهِ سُنَّتَهُمْ ؛ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ فِيهِ الصَّلَاةَ ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ الصِّيَامَ ، وَشَرَعَ فِيهِ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ؛ فَوَجَبَ الِاقْتِفَاءُ لِسُنَّتِهِ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا أَبَانَ مِنْ شِرْعَتِهِ ، وَالْفِرَارُ عَنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ ، و الْخَشْيَةُ مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { فِيهِ خُلِقَ آدَم } يَعْنِي : جَمَعَ فِيهِ خَلْقَهُ ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ ، وَهَذَا فَضْلٌ بَيِّنٌ .
وَقَوْلُهُ : { فِيهِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ } يَخْفَى وَجْهُ الْفَضْلِ فِيهِ ؛ وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ أَشَارُوا إلَى أَنَّ وَجْهَ التَّفْضِيلِ فِيهِ أَنَّهُ تِيبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَهَبَطَ إلَى الْأَرْضِ لِوَعْدِ رَبِّهِ ، حِينَ قَالَ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } .
فَلَمَّا سَبَقَ الْوَعْدُ بِهِ حَقَّقَهُ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَنَفَاذُ الْوَعْدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ ، وَفَضْلٌ عَظِيمٌ ، وَوَجْهُ الْفَضْلِ فِي مَوْتِهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلِقَائِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقْتًا لِلِقَائِهِ .
قُلْنَا : يَكُونُ هَذَا أَيْضًا فَضْلًا ، يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَيَبْقَى لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَضْلُهُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لَهُ زَائِدًا عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ ؛ وَمَنْ شَارِكْ شَيْئًا فِي وَجْهٍ ، وَسَاوَاهُ فِيهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْضُلَهُ فِي وُجُوهٍ أُخَرَ سِوَاهُ .
وَأَمَّا وَجْهُ تَفْضِيلِهِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ فِيهِ فَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ ، فَجَعَلَ قُدُومَهُ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ ، وَتَكُونُ فَاتِحَتُهُ فِي أَكْرَمِ أَوْقَاتِ سَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَمِنْ فَضْلِهِ اسْتِشْعَارُ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَشَوُّقُهَا إلَيْهِ ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ ؛

إذْ هُوَ وَقْتُ فَنَائِهَا ، وَحِينِ اقْتِصَاصِهَا وَجَزَائِهَا ، حَاشَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ اللَّذَيْنِ رُكِّبَتْ فِيهِمَا الْغَفْلَةُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا الْآدَمِيُّ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، وَهُمَا رُكْنَا التَّكْلِيفِ ، وَمَعْنَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، و فَائِدَةُ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَتَمَامُ الْفَضْلِ ، وَوَجْهُ الشَّرَفِ تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْشُرُ الْبَارِّي فِيهَا رَحْمَتَهُ ، وَيَفِيضُ فِي الْخَلْقِ نَيْلُهُ ، وَيَظْهَرُ فِيهَا كَرْمُهُ ؛ فَلَا يَبْقَى دَاعٍ إلَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ ، وَلَا كَرَامَةٌ إلَّا وَيُؤْتِيهَا ، وَلَا رَحْمَةٌ إلَّا يَبُثُّهَا لِمَنْ تَأَهَّبَ لَهَا ، وَاسْتَشْعَرَ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ غَافِلًا عَنْهَا .
وَلَمَّا كَانَ وَقْتًا مَخْصُوصًا بِالْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قَرَنَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ الْحَالَاتِ لِلْعَبْدِ ، وَهِيَ حَالَةُ الصَّلَاةِ ، فَلَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا ، وَلَا حَالَةَ أَخَصُّ بِالْعَبْدِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ ؛ إذْ مِنْهُمْ قَائِمٌ لَا يَبْرَحُ عَنْ قِيَامِهِ وَرَاكِعٌ لَا يَرْفَعُ عَنْ رُكُوعِهِ ، وَسَاجِدٌ لَا يَتَفَصَّى مِنْ سُجُودِهِ ، فَجَمَعَ اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ ، يَقُولُ : يَا مَلَائِكَتِي ، اُنْظُرُوا عَبْدِي ، رُوحُهُ عِنْدِي ، وَبَدَنُهُ فِي طَاعَتِي } .
وَصَارَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ فِي الْأَيَّامِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي أَنَّ إبْهَامَهَا أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ مِنْ تَعْيِينِهَا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ وَهَتَكُوا حُرْمَتَهَا مَا أُمْهِلُوا ، وَإِذَا أُبْهِمَتْ عَلَيْهِمْ عَمَّ عَمَلُهُمْ الْيَوْمَ كُلَّهُ وَالشَّهْرَ كُلَّهُ ، كَمَا أُبْهِمَتْ الْكَبَائِرُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ ، وَهُوَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ ، لِيَجْتَنِبَ الْعَبْدُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَخْلَصُ لَهُ ،

فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَحْصِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَلْيَقُمْ الْحَوْلَ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَوْ الشَّهْرَ كُلَّهُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ ، أَوْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ عَلَى رَأْيِ كُلِّ أَحَدٍ .
وَلَقَدْ كُنْت فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ، وَكَانَ بِهَا مُتَعَبِّدٌ يَتَرَصَّدُ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الضُّحَى ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ الضُّحَى إلَى زَوَالِ الشَّمْسِ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّالِثَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى الْعَصْرِ ، ثُمَّ انْقَلَبَ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الرَّابِعَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، فَتَحْصُلُ لَهُ السَّاعَةُ فِي أَرْبَعِ جُمَعٍ ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ .
وَقَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ : هَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَرْصُدُهَا مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْعَصْرِ تَكُونُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَفِي الْيَوْمِ الَّذِي تَكُونُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ يَتَرَصَّدُهَا هُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الضُّحَى ؛ إذْ يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَقِلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ؛ يَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ انْتِقَالُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِيِ الشَّهْرِ ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي لَيْلَةٍ ، لَا تَكُونُ فِيهَا فِي الْعَامِ الْآخَرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ لَهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً مَرَّةً ، فَوَجَدُوا تِلْكَ الْعَلَامَةَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَسَأَلَهُ آخَرُ مَتَى يَنْزِلُ : فَإِنَّهُ شَاسِعُ الدَّارِ ؟ فَقَالَ لَهُ : انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، وَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمَ عَلَامَةً فَلَا يَصْدُقُ ، وَمَا كَانَ أَيْضًا لِيَسْأَلهُ سَائِلٌ ضَعِيفٌ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَتُهُ عَنْ أَفْضَلِ

وَقْتٍ يَنْزِلُ إلَيْهِ فِيهِ ، وَأَكْرَمِ لَيْلَةٍ يَأْتِيه فِيهَا ، لِيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُهُ ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى النَّاقِصِ عَنْ غَيْرِهِ ، الْمَحْطُوطِ عَنْ سِوَاهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ السَّاعَةِ عَمَرَ الْيَوْمَ كُلَّهُ بِالْعِبَادَةِ ، أَوْ تَحْصِيلَ اللَّيْلَةِ قَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ لَيَالِيِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْوُضُوءِ ، أَوْ اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ وَلَا سَائِلٍ ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ ؟ قُلْنَا : إذَا كَانَ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَعْمُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ ، فَجَاءَتْ وَقْتَ الْوُضُوءِ أَوْ الْأَكْلِ أُعْطِيَ طَلِبَتَهُ ، وَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ ، وَلَمْ يُحَاسَبْ مِنْ أَوْقَاتِهِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، عَلَى أَنِّي قَدْ رَأَيْت مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : إذَا تَوَضَّأَ أَوْ أَكَلَ ، فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَدَنُهُ وَلِسَانُهُ ، فَلِيُقْبِلْ عَلَى الطَّاعَةِ بِقَلْبِهِ ، حَتَّى يَلْقَى تِلْكَ السَّاعَةَ مُتَعَبِّدًا بِقَلْبِهِ .
وَهَذَا حَسَنُ ، وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ لَازِمٍ ؛ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِلْعِبَادَةِ ، مَا عَدَّا أَوْقَاتِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ ، فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهَا ، وَيُعْطَى عِنْدَهَا كُلَّ مَا سَأَلَ فِي غَيْرِهَا بِلُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ ، وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ ، وَعُمُومِ فَضْلِهِ ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا قَدْ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ هَذَا الْخَفَاءِ ، فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ { سُئِلَ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : هِيَ مِنْ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ } .
وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَلَا يَصِحُّ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ ، أَصْلُهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : { أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا ، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ ، فِيهِمْ حَمْزَةُ ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ قَالَ : فَلَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } الْآيَةَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إلَّا أَرْبَعَةً } .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ اُسْتُشْهِدَ ، فَنَظَرَ إلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إلَى شَيْءٍ كَانَ أَوْجَعَ مِنْهُ لِقَلْبِهِ ، وَنَظَرَ إلَيْهِ قَدْ مُثِّلَ بِهِ ، فَقَالَ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك ، فَإِنَّك كُنْت مَا عَرَفْتُك فَعُولًا لِلْخَيْرَاتِ ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ ، وَلَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدَك عَلَيْك لَسَرَّنِي أَنْ أَدَعَك ، حَتَّى تُحْشَرَ مِنْ أَفْرَادٍ شَتَّى أَمَا وَاَللَّهِ مَعَ ذَلِكَ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ .
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمِ النَّحْلِ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } الْآيَاتِ ؛ فَصَبَرَ النَّبِيُّ ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَمْ يُمَثِّلْ بِأَحَدٍ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْجَزَاءُ عَلَى الْمُثْلَةِ عُقُوبَةٌ ؛ فَأَمَّا ابْتِدَاءً فَلَيْسَ بِعُقُوبَةٍ ، وَلَكِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا ، كَمَا قَالَ : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَكَمَا قَالَ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ؛ وَعَادَةُ الْعَرَبِ هَكَذَا فِي الِازْدِوَاجِ ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى حُكْمِ اللُّغَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا ، وَكَذَلِكَ مِنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ عُودٍ اُمْتُثِلَ فِيهِ مَا فَعَلَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } : إشَارَةٌ إلَى فَضْلِ الْعَفْوِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

سُورَةُ الْإِسْرَاءِ فِيهَا عِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي { سُبْحَانَ } : وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ .
وَمَنَعَهُ عِنْدَهُمَا مِنْ الصَّرْفِ كَوْنُهُ مَعْرِفَةً فِي آخِرِهِ زَائِدَانِ .
وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ يَصْرِفُهُ وَيُصَرِّفُهُ .
الثَّانِي : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، و مَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ السُّوءِ ، وَتَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْهُ قَالَ الشَّاعِرُ : أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَلِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَصَادِرِ ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي عَلَى فُعْلَانَ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ لِلْمَصْدَرِ فَلِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَّحَ .
و أَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُ مُنَادًى فَإِنَّهُ يُنَادَى فِيهِ بِالْمَعْرِفَةِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ ، وَهُوَ كَلَامٌ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَى فَارِغَةٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ لَا يَعْصِمُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ : هَلْ هُوَ اسْمٌ أَوْ مَصْدَرٌ ؟ وَمَا زَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُجْرِي فِي الْمَنْقُولِ طَلْقَهُ حَتَّى إذَا جَاءَ الْمَعْقُولُ عَقَلَهُ الْعِيُّ وَأَغْلَقَهُ .
وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَرَفَةَ جُزْءًا قَرَأْنَاهُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ عَنْ التَّقْصِيرِ سَلَامٌ ، وَالْقَدْرُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِيهِ يَكْفِي ، فَلْيَأْخُذْ كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَيَكْتَفِي .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { أَسْرَى بِعَبْدِهِ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَوْ كَانَ لِلنَّبِيِّ اسْمٌ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ بِهِ ، وَفِي مَعْنَاهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ : يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ يَعْرِفُهَا السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وَقَالَ الْأُسْتَاذُ جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ : لَمَّا رَفَعَهُ إلَى حَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ ، وَأَرْقَاهُ فَوْقَ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ ، أَلْزَمهُ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ ، تَوَاضُعًا لِلْإِلَهِيَّةِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَضَى اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ وَحُكْمُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ النَّاسُ ، هَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِرُوحِهِ ؟ وَلَوْ لَا مَشِيئَةُ رَبِّنَا السَّابِقَةُ بِالِاخْتِلَافِ لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ أَبَيْنَ عِنْدَ الْإِنْصَافِ ؛ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ لِذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُلْحِدًا يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ ، وَيَرَى أَنَّ الثَّقِيلَ لَا يَصْعَدُ عُلُوًّا ، وَطَبْعُهُ اسْتِفَالٌ فَمَا بَالُهُ يَتَكَلَّمُ مَعَنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْأَصْلِ ؛ وَهُوَ وُجُودُ الْإِلَهِ وَقُدْرَتُهُ ، وَأَنَّهُ يُصَرِّفُ الْأَشْيَاءَ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ ، لَا بِالطَّبِيعَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ مِنْ أَغْبِيَاءِ الْمِلَّةِ يُقِرُّ مَعَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِلْمِ ، وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصْرِيفِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ ، فَيُقَالُ لَهُ : وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ ارْتِقَاءِ النَّبِيِّ فِي الْهَوَاءِ بِقُدْرَةِ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ؟ فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ .
قُلْنَا لَهُ : قَدْ وَرَدَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ فَرِيقٍ ، مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ ؛ قَالَ أَنَسٌ : قَالَ أَبُو ذَرٍّ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي ، وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ، فَفَرَجَ صَدْرِي ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ : افْتَحْ .
قَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا جِبْرِيلُ .
قَالَ : هَلْ مَعَك أَحَدٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، مَعِي مُحَمَّدٌ .
فَقَالَ : أُرْسِلَ إلَيْهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ،

وَالِابْنِ الصَّالِحِ .
قُلْت : يَا جِبْرِيلُ ، مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا آدَم ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى .
ثُمَّ عَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا : افْتَحْ ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ ، فَفَتَحَ .
قَالَ أَنَسٌ : فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ آدَمَ ، وَإِدْرِيسَ ، وَمُوسَى ، وَعِيسَى ، وَإِبْرَاهِيمَ .
} وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا ، وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ .
قَالَ أَنَسٌ : { فَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جِبْرِيلَ بِإِدْرِيسَ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ .
فَقُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا إدْرِيسُ .
ثُمَّ مَرَرْت بِمُوسَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ .
قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : مُوسَى .
ثُمَّ مَرَرْت بِعِيسَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ .
قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : عِيسَى .
ثُمَّ مَرَرْت بِإِبْرَاهِيمَ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ .
قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : إبْرَاهِيمُ } .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْت لَمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ } .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً ، فَرَجَعْت بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْت بِمُوسَى ، فَقَالَ : مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِك ؟ قُلْت : فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً .
قَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ؛ فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ،

فَرَاجَعَنِي ، فَرَجَعْت ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْت إلَى مُوسَى ، قُلْت : وَضَعَ شَطْرَهَا .
فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ، فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ .
فَرَجَعْت ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْت إلَيْهِ ، فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعْته ، فَقَالَ : هِيَ خَمْسٌ ، وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ .
فَرَجَعْت إلَى مُوسَى ، فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ، فَقُلْت : قَدْ اسْتَحْيَيْت مِنْ رَبِّي .
قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ ، ثُمَّ أُدْخِلْت الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ .
} وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ بِطُولِهِ ، إلَى أَنْ قَالَ : { ثُمَّ اسْتَيْقَظْت ، وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
قُلْنَا : عَنْهُ أَجْوِبَةٌ ؛ مِنْهَا : أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ أَنَسٍ ، وَكَانَ تَغَيَّرَ بِآخِرَةٍ فَيُعَوَّلُ عَلَى رِوَايَاتِ الْجَمِيعِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْرَاءَ رُؤْيَا مَنَامٍ ، وَطَّدَهُ اللَّهُ بِهَا ، ثُمَّ أَرَاهُ إيَّاهَا رُؤْيَا عَيْنٍ ، كَمَا فَعَلَ بِهِ حِينَ أَرَادَ مُشَافَهَتَهُ بِالْوَحْيِ ؛ { أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمَلَكَ فِي الْمَنَامِ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك ، وَقَالَ لَهُ : اقْرَأْ .
فَقَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ ، فَقَالَ : اقْرَأْ .
قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ } إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ .
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْيَقِظَةِ بِمِثْلِ مَا أَرَادَهُ فِي الْمَنَامِ .
وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ أَرَاهُ اللَّهُ فِي الْمَنَامِ مَا أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ تَوْطِيدًا وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ ، حَتَّى لَا يَأْتِيَهُ الْحَالُ فَجْأَةً ، فَتُقَاسِي نَفْسُهُ

الْكَرِيمَةَ مِنْهَا شِدَّةً ، لِعَجْزِ الْقُوَى الْآدَمِيَّةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْهَيْئَةِ الْمَلَكِيَّةِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } ؛ وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ مَا اُفْتُتِنَ بِهَا أَحَدٌ ، وَلَا أَنْكَرَهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ يَخْتَرِقُ السَّمَوَاتِ ، وَيَجْلِسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ ، وَيُكَلِّمُهُ الرَّبُّ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ فَرْضُ الصَّلَاةِ ؛ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْإِسْرَاءِ صَلَاةَ الْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } ، وَيَتَنَفَّلُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا ، وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ أَعْدَادَهَا وَصِفَاتِهَا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ ، وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ عِنْدَمَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ عِنْدَمَا غَابَ الشَّفَقُ ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ .
ثُمَّ صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حِينَ ثُلُثِ اللَّيْلِ ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ وَقَائِلٌ يَقُولُ : أَطْلَعَتْ الشَّمْسُ ؟ لَمْ تَطْلُعْ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا وَقْتُك ، وَوَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَك ، وَالْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ } .
وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ، وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ عُلُومٍ ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ حَدِيثٍ وَطُرُقِهِ ، وَلُغَةٍ وَتَصْرِيفِهَا ، وَتَوْحِيدٍ وَعَقْلِيَّاتٍ ، وَعِبَادَاتٍ وَآدَابٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيمَا نَيَّفَ عَلَى ثَلَاثِينَ وَرَقَةً ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ ، فَفِيهِ الشِّفَاءُ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { أَمَرْنَا } : فِيهَا مِنْ الْقِرَاءَاتِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ : الْقِرَاءَةُ الْأُولَى : أَمَرْنَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ .
الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ : بِتَشْدِيدِهَا .
الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ : آمَرْنَا بِمَدٍّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ .
فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى : فَهِيَ الْمَشْهُورَةُ ، وَمَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالْعَدْلِ ، فَخَالَفُوا ، فَفَسَقُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ ، فَهَلَكُوا بِالْكَلِمَةِ السَّابِقَةِ الْحَاقَّةِ عَلَيْهِمْ .
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ : فَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَأَبِي عَمْرٍو ، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، وَمَعْنَاهُ كَثَّرْنَاهُمْ ، وَالْكَثْرَةُ إلَى التَّخْلِيطِ أَقْرَبُ عَادَةً .
وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْمَدِّ فِي الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ ، وَالْأَعْرَجِ ، وَخَارِجَةَ عَنْ نَافِعٍ .
وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْكَثْرَةُ ؛ فَإِنَّ أَفْعَلَ وَفَعَّلَ يُنْظَرَانِ فِي التَّصْرِيفِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْإِمَارَةِ ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ ، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ مِنْ جَعْلِهِمْ وُلَاةً فَيَلْزَمُهُمْ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، فَيُقَصِّرُونَ فِيهِ فَيَهْلِكُونَ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ دَارًا وَعِيَالًا وَخَادِمًا فَهُوَ مَلَكٌ وَأَمِيرٌ ، فَإِذَا صَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا وَآثَرُوهَا عَلَى الْآخِرَةِ فَهَلَكُوا ، وَمِنْهُ الْأَثَرُ : { خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ } : أَيْ كَثِيرَةُ النَّتَاجِ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ : { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا } .
أَيْ عَظِيمًا .
وَالْقَوْلُ فِيهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مُتَقَارِبٌ مُتَدَاخِلٌ ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَا يُغْنِي عَنْ

إعَادَتِهِ .
وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ هَذَا الْفِسْقُ وَأَعْظَمُهُ فِي الْمُخَالَفَةِ الْكُفْرُ أَوْ الْبِدْعَةُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } .
فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَصَوْا وَكَفَرُوا ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ ، وَأَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } .
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ أَرَادَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُتَوَعَّدٌ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ آيَةَ الشُّورَى مُطْلَقَةٌ فِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا يُؤْتِيهِ اللَّهُ مِنْهَا ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا يُؤْتَى حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ ذَلِكَ .
وَلَيْسَ الْوَعْدُ بِذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَلَا يُعْطَى لِكُلِّ مُرِيدٍ ، لِقَوْلِهِ : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا } الْآيَةَ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبْرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَقَضَى } .
قَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مِنْ مَعَانِيهَا خَلَقَ ، وَمِنْهَا أَمَرَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا هَاهُنَا إلَّا أَمَرَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مُخَالَفَتِهِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ خِلَافِ مَا خَلَقَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ ؛ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ ، وَبِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِعِبَادَتِهِ ، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ ، وَلِهَذَا قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ : وَوَصَّى رَبُّك .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ } .
وَعَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا : { الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ } .
وَمِنْ الْبِرِّ إلَيْهِمَا ، وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا أَلَا نَتَعَرَّضَ لِسَبِّهِمَا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } .
حَتَّى إنَّهُ يَبَرُّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا إذَا كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَالَ اللَّه : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ

الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَك الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا } : خَصَّ حَالَةَ الْكِبَرِ ؛ لِأَنَّهَا بِطُولِ الْمَدَى تُوجِبُ الِاسْتِثْقَالَ عَادَةً ، وَيَحْصُلُ الْمَلَلُ ، وَيَكْثُرُ الضَّجَرُ ، فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ عَلَى أَبَوَيْهِ ، وَتَنْتَفِخُ لَهُمَا أَوْدَاجُهُ ، وَيَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ ، وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ .
وَأَقَلُّ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُؤَفِّفَ لَهُمَا ؛ وَهُوَ مَا يُظْهِرُهُ بِتَنَفُّسِهِ الْمُرَدَّدِ مِنْ الضَّجَرِ .
وَأَمَرَ بِأَنْ يُقَابِلَهُمَا بِالْقَوْلِ الْمَوْصُوفِ بِالْكَرَامَةِ ، وَهُوَ السَّالِمُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ مِنْ عُيُوبِ الْقَوْلِ الْمُتَجَرِّدِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مِنْ مَكْرُوهِ الْأَحَادِيثِ .
ثُمَّ قَالَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ } : الْمَعْنَى تَذَلَّلْ لَهُمَا تَذْلِيلَ الرَّعِيَّةِ لِلْأَمِيرِ ، وَالْعَبِيدِ لِلسَّادَةِ ؛ وَضَرَبَ خَفْضَ الْجَنَاحِ وَنَصْبَهُ مَثَلًا لِجَنَاحِ الطَّائِرِ حِينَ يَنْتَصِبُ بِجَنَاحِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْإِقْبَالِ .
وَالذُّلُّ هُوَ اللِّينُ وَالْهَوْنُ فِي الشَّيْءِ ، ثُمَّ قَالَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } : مَعْنَاهُ : اُدْعُ لَهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ يَرْحَمُهُمَا كَمَا رَحِمَاك ، وَتَرَفَّقْ بِهِمَا كَمَا رَفَقَا بِك ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُجْزِي الْوَالِدَ عَنْ الْوَلَدِ ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ كِفَاءً عَلَى نِعْمَةِ وَالِدِهِ أَبَدًا .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } ، مَعْنَاهُ يُخَلِّصُهُ مِنْ أَسْرِ الرِّقِّ كَمَا خَلَّصَهُ مِنْ أَسْرِ الصِّغَرِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ صَغِيرًا جَاهِلًا مُحْتَاجًا ، فَآثَرَاهُ عَلَى

أَنْفُسِهِمَا ، وَسَهِرَا لَيْلَهُمَا وَأَنَامَاهُ ، وَجَاعَا وَأَشْبَعَاهُ ، وَتَعَرَّيَا وَكَسَوَاهُ ، فَلَا يُجْزِيهِمَا إلَّا أَنْ يَبْلُغَا مِنْ الْكِبَرِ إلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ هُوَ فِيهِ مِنْ الصِّغَرِ ، فَيَلِي مِنْهُمَا مَا وَلِيَا مِنْهُ ، وَيَكُونُ لَهُمَا حِينَئِذٍ عَلَيْهِ فَضْلُ التَّقَدُّمِ بِالنِّعْمَةِ عَلَى الْمُكَافِئِ عَلَيْهَا .
وَقَدْ أَخْبَرَنِي الشَّرِيفُ الْأَجَلُّ الْخَطِيبُ نَسِيبُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْقَاضِي ذُو الشَّرَفَيْنِ أَبُو الْحُسَيْنِ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْحُسَيْنِيُّ بِدِمَشْقَ ، أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، سَمِعْتُهُ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ، وَكَانَ حَافِظًا ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَيْدَةَ الضَّبِّيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ بِأَصْبَهَانَ قِرَاءَةً ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الْحَافِظُ الطَّبَرِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَرْدَعِيُّ بِمِصْرَ ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ؛ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ أَبِي أَخَذَ مَالِي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ : فَأْتِنِي بِأَبِيك .
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئُك السَّلَامَ ، وَيَقُولُ لَك : إذَا جَاءَك الشَّيْخُ فَاسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ ، مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّيْخُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا بَالُ ابْنِك يَشْكُوك ؟ أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ ؟ فَقَالَ : سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ أُنْفِقُهُ إلَّا عَلَى إحْدَى

عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِي ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إيهٍ دَعْنَا مِنْ هَذَا ، أَخْبِرْنِي عَنْ شَيْءٍ قُلْته فِي نَفْسِك مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاك .
فَقَالَ الشَّيْخُ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى يَزِيدُنَا بِك يَقِينًا ، لَقَدْ قُلْت فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، فَقَالَ : قُلْ وَأَنَا أَسْمَعُ .
قَالَ : قُلْت : غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُك يَافِعًا تَعِلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ إذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْك بِالسَّقَمِ لَمْ أَبِتْ لِسُقْمِكَ إلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِاَلَّذِي طُرِقْت بِهِ دُونِي فَعَيْنِي تَهْمُلُ تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْك وَإِنَّهَا لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلٌ فَلَمَّا بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي إلَيْهَا مَدَى مَا كُنْت فِيك أُؤَمِّلُ جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ فَلَيْتَك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ قَالَ : فَحِينَئِذٍ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلَابِيبِ ابْنِهِ ، وَقَالَ : أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
قَالَ سُلَيْمَانُ : لَا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِهَذَا التَّمَامِ وَالشِّعْرِ إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، تَفَرَّدَ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ فِي دَارِنَا بالمُعْتَمِدِيَّةِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنِ غَالِبٍ الْحَافِظِ ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ، حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ شُجَاعِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هِشَامٍ السَّكُونِيِّ ، قَالُوا : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَيْنَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ

قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ ، فَأَوَوْا إلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : يَا هَؤُلَاءِ ، لَا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ : فَقَالَ أَحَدُهُمْ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ ، عَمِلَ لِي عَلَى فَرْقِ أُرْزٍ ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ ، فَزَرَعْته ، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْت مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقِ بَقَرًا ، ثُمَّ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ ، فَقُلْت لَهُ : اعْمِدْ إلَى تِلْكَ الْبَقَرِ ، فَسُقْهَا فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقِ فَسَاقَهَا .
فَإِنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَفَرِّجْ عَنَّا ، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ .
فَقَالَ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ ، وَكَانَتْ لِي غَنَمٌ ، وَكُنْت آتِيهِمَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي ، فَأَبْطَأْت عَنْهُمَا ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَأَتَيْتهمَا وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ ، وَكُنْت لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ رَقْدَتِهِمَا ، وَكَرِهْت أَنْ أَرْجِعَ فَيَسْتَيْقِظَا لِشُرْبِهِمَا ، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَقَامَا فَشَرِبَا ، فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَفَرِّجْ عَنَّا ، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ ، حَتَّى نَظَرُوا إلَى السَّمَاءِ .
فَقَالَ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ ، وَإِنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ إلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ ، فَطَلَبْتهَا حَتَّى قَدَرْت عَلَيْهَا ، فَجِئْت بِهَا فَدَفَعْتهَا إلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا ، فَلَمَّا قَعَدْت بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ لِي : اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إلَّا بِحَقِّهِ .
فَقُمْت عَنْهَا ، وَتَرَكْت لَهَا الْمِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي تَرَكْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَافْرِجْ عَنَّا ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَخَرَجُوا يَمْشُونَ }

.
وَمِنْ تَمَامِ بِرِّ الْأَبَوَيْنِ صِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا ، لِمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ ، وَسُخْطُ الرَّبِّ فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ } .
خَرَّجَهُمَا التِّرْمِذِيُّ .
وَلِذَلِكَ عَدَلَ عُقُوقُهُمَا الْإِشْرَاكَ فِي الْإِثْمِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِرَّهُمَا قَرِينُ الْإِيمَانِ فِي الْأَجْرِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ الْأَجَلُّ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِهَا قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ ، عَنْ أُسَيْدَ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ أَبِي أُسَيْدَ ، وَكَانَ بَدْرِيًّا قَالَ : { كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ وَالِدِيَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا بَعْدَهُمَا ، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَك إلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا ، فَهَذَا الَّذِي بَقِيَ عَلَيْك } .
وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهْدِي لِصَدَائِقِ خَدِيجَةَ بِرًّا بِهَا وَوَفَاءً لَهَا } ، وَهِيَ زَوْجَةٌ ، فَمَا ظَنُّك بِالْأَبَوَيْنِ .
وَقَدْ أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا الْفِهْرِيُّ فِي الْمُذَاكَرَةِ أَنَّ الْبَرَامِكَةَ لَمَّا اُحْتُبِسُوا أَجْنَبَ الْأَبُ ، فَاحْتَاجَ إلَى غُسْلٍ ، فَقَامَ ابْنُهُ بِالْإِنَاءِ عَلَى السِّرَاجِ لَيْلَةً حَتَّى دَفِيءَ وَاغْتَسَلَ بِهِ ، وَنَسْأَلُ

اللَّهَ التَّوْفِيقَ لَنَا وَلَكُمْ بِرَحْمَتِهِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي حَقِّ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ ، وَأَكَّدَ اللَّهُ هَاهُنَا حَقَّهُ ؛ لِأَنَّهُ وَصَّى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ خُصُوصًا مِنْ الْقَرَابَةِ ، ثُمَّ ثَنَّى التَّوْصِيَةَ بِذِي الْقُرْبَى عُمُومًا ، وَأَمَرَ بِتَوْصِيلِ حَقِّهِ إلَيْهِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَأَدَاءِ حَقٍّ مِنْ مِيرَاثٍ وَسِوَاهُ فَلَا يُبَدَّلُ فِيهِ ، وَلَا يُغَيَّرُ عَنْ جِهَتِهِ بِتَوْلِيجِ وَصِيَّةٍ ، أَوْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ الدَّخْلِ .
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولًا مُتَقَدِّمًا ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْآيَةَ لِلْقَرَابَةِ الْأَدْنَيْنَ الْمُخْتَصِّينَ بِالرَّجُلِ ، فَأَمَّا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقَّهُمْ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ هِيَ أَجْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَاهُ لَنَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } : وَلَهُمْ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : أَدَاءُ الزَّكَاةِ .
وَالثَّانِي : الْحَقُّ الْمُفْتَرَضُ مِنْ الْحَاجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الزَّكَاةِ ، أَوْ فَنَائِهَا ، أَوْ تَقْصِيرِهَا مِنْ عُمُومِ الْمُحْتَاجِينَ ، وَأَخْذِ السُّلْطَانِ دُونَهُمْ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى ، فَانْظُرُوا فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : التَّبْذِيرُ هُوَ مَنْعُهُ مِنْ حَقِّهِ ، وَوَضْعُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ، وَهُوَ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَهُوَ الْإِسْرَافُ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } وَذَلِكَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْ أَنْفَقَ فِي الشَّهَوَاتِ ، هَلْ هُوَ مُبَذِّرٌ أَمْ لَا ؟ قُلْنَا : مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الشَّهَوَاتِ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَاتِ ، وَعَرَّضَهُ بِذَلِكَ لَلنَّفَادِ فَهُوَ مُبَذِّر .
وَمَنْ أَنْفَقَ رِبْحَ مَالِهِ فِي شَهَوَاتِهِ ، أَوْ غَلَّتَهُ ، وَحَفِظَ الْأَصْلَ أَوْ الرَّقَبَةَ ، فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ .
وَمَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي حَرَامٍ فَهُوَ مُبَذِّرٌ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَةِ دِرْهَمٍ فِي الْحَرَامِ ، وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِبَذْلِهِ فِي الشَّهَوَاتِ ، إلَّا إذَا خِيفَ عَلَيْهِ النَّفَادُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ } الْآيَةَ : أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْآبَاءِ وَالْقَرَابَةِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَطَاءِ ، وَالْقُدْرَةِ ، فَإِنْ كَانَ عَجْزٌ عَنْ ذَلِكَ جَازَ الْإِعْرَاضُ ، حَتَّى يَرْحَمَ اللَّهُ بِمَا يُعَادُ عَلَيْهِمْ بِهِ ؛ فَاجْعَلْ بَدَلَ الْعَطَاءِ قَوْلًا فِيهِ يُسْرٌ .
وَقِيلَ : إنَّمَا أَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ عِنْدَ خَوْفِ نَفَقَتِهِمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ ، فَيَنْتَظِرُ رَحْمَةَ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي { خَبَّابٍ ، وَبِلَالٍ ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ ، وَغَيْرِهِمْ ، مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؟ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْأَلُونَهُ ، فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ ؛ إذْ لَا يَجِدُ مَا يُعْطِيهِمْ ، فَأُمِرَ أَنْ يُحْسِنَ لَهُمْ الْقَوْلَ إلَى أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ مَا يُعْطِيهِمْ } ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّك تَرْجُوهَا } .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِك وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِك } هَذَا مَجَازٌ ، عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْبَخِيلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى إخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا الْغُلَّ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِ الْيَدَيْنِ ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا آخَرَ ، فَقَالَ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ ، مِنْ لَدُنْ ثُدِيِّهِمَا إلَى تَرَاقِيِهِمَا ، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إلَّا سَبَغَتْ وَوَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى يَخْفَى بَنَانُهُ ، وَيَعْفُوَ أَثَرُهُ .
وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إلَّا لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا .
فَهُوَ يُوَسِّعُ وَلَا يَتَّسِعُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } ضَرَبَ بَسْطَ الْيَدِ مَثَلًا لِذَهَابِ الْمَالِ ، فَإِنَّ قَبْضَ الْكَفِّ يَحْبِسُ مَا فِيهَا ، وَبَسْطَهَا يُذْهِبُ مَا فِيهَا ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ : { إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ } .
فِي أَحَدِ وَجْهَيْ تَأْوِيلِهِ ، كَأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوَسُّطِ فِي الْمَنْعِ وَالدَّفْعِ ، كَمَا قَالَ : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى الْكَلَامِ إلَى أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَمْتَنِعُ عَنْ نَفَقَتِهِ فِي الْخَيْرِ ، وَلَا يُنْفِقُ فِي الشَّرِّ .
الثَّانِي : لَا يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ ، وَلَا يَتَجَاوَزُ الْوَاجِبَ ؛ لِئَلَّا يَأْتِيَ مَنْ يَسْأَلُ ، فَلَا يَجِدُ عَطَاءً .
الثَّالِثُ : لَا تُمْسِكْ كُلَّ مَالِك ، وَلَا تُعْطِ جَمِيعَهُ ، فَتَبْقَى مَلُومًا فِي جِهَاتِ الْمَنْعِ الثَّلَاثِ ، مَحْسُورًا ، أَيْ مُنْكَشِفًا فِي جِهَةِ الْبَسْطِ وَالْعَطَاءِ لِلْكُلِّ أَوْ لِسَائِرِ وُجُوهِ

الْعَطَاءِ الْمَذْمُومَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ ، وَكَثِيرًا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ سَيِّدَهُمْ وَوَاسِطَتَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُمْ ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ ، فَاخْتَارَ الْفَقْرَ ، يَجُوعُ يَوْمًا ، وَيَشْبَعُ يَوْمًا ، وَيَشُدُّ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ الْجُوعِ حَجَرَيْنِ ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ صَبَّارًا ، وَكَانَ يَأْخُذُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّضِيرَ وَفَدَكَ وَخَيْبَرَ ، ثُمَّ يَصْرِفُ مَا بَقِيَ فِي الْحَاجَاتِ ، حَتَّى يَأْتِيَ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَالِ وَالْجَلَالِ ، وَشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ ، وَقُوَّةِ النَّفْسِ عَلَى الْوَظَائِفِ ، وَعَظِيمِ الْعَزْمِ عَلَى الْمَقَاصِدِ ، فَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَالْخِطَابُ عَلَيْهِمْ وَارِدٌ ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ مُتَوَجِّهٌ ، إلَّا أَفْرَادًا خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ بِكَمَالِ صِفَاتِهِمْ ، وَعَظِيمِ أَنْفُسِهِمْ ، مِنْهُمْ { أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، خَرَجَ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِبَلَهُ مِنْهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ } ؛ وَأَشَارَ عَلَيَّ أَبِي لُبَابَةَ وَكَعْبٍ بِالثُّلُثِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِمْ ؛ لِنَقْصِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي أَحْوَالِهِمْ ؛ وَأَعْيَانٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، كَانُوا عَلَى هَذَا ، فَأَجْرَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَائْتَمَرُوا بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَاصْطَبِرُوا عَلَى بَلَائِهِ ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ قُلُوبُهُمْ بِدُنْيَا ، وَلَا ارْتَبَطَتْ أَبْدَانُهُمْ بِمَالٍ مِنْهَا ؛ وَذَلِكَ لِثِقَتِهِمْ بِمَوْعُودِ اللَّهِ فِي الرِّزْقِ ، وَعُزُوبِ أَنْفُسِهِمْ عَنْ التَّعَلُّقِ بِغَضَارَةِ الدُّنْيَا .
وَقَدْ كَانَ فِي أَشْيَاخِي مَنْ ارْتَقَى إلَى هَذِهِ

الْمَنْزِلَةِ فَمَا ادَّخَرَ قَطُّ شَيْئًا لِغَدٍ ، وَلَا نَظَرَ بِمُؤَخِّرِ عَيْنِهِ إلَى أَحَدٍ ، وَلَا رَبَطَ عَلَى الدُّنْيَا بِيَدٍ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ، وَهُوَ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك .
قَالَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك } .
وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَحَدِيثٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ ؛ إذْ فِيهِ إذَايَةُ الْجِنْسِ ، وَإِيثَارُ النَّفْسِ ، وَتَعَاطِي الْوَحْدَةِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلْعَالَمِ بِهَا ، وَتَخَلُّقُ الْجِنْسِيَّةِ بِأَخْلَاقِ السَّبُعِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَ قُوَّةِ الْأَسْبَابِ فِي جَارٍ أَوْ قَرِيبٍ ، وَالْوَلَدُ أَلْصَقُ الْقَرَابَةِ ، وَأَعْظَمُ الْحُرْمَةِ ، فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ بِتَضَاعُفِ الْهَتْكِ لِلْحُرْمَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَكَانَ مَوْرِدُ هَذَا النَّهْيِ فِي الْمَقْصِدِ الْأَكْبَرِ أَهْلَ الْمَوْءُودَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ قَتْلَ الْإِنَاثِ مَخَافَةَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ ، وَعَدَمَ النُّصْرَةِ مِنْهُنَّ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنْ قَتْلِ وَلَدِهِ إمَّا خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ ؛ لَكِنَّ هَذَا أَقْوَى فِيهَا .
وَقَدْ قَدَّمَنَا بَيَانَ الْقَوْلِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } .
الْخَاءُ وَالطَّاءُ وَالْهَمْزَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ ، وَبِعَدَمِ الْقَصْدِ ، تَقُولُ : خَطِئْت إذَا تَعَمَّدْت ، وَأَخْطَأْت إذَا تَعَمَّدْت وَجْهًا وَأَصَبْت غَيْرَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ الْخَطَأُ مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ ، وَهُوَ مَعْنًى مُتَرَدِّدٌ كَمَا بَيَّنَّا ، لِقَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً }

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ } : الْمَعْنَى لِلْقَرِيبِ مِنْهُ ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَلِيِّ ، وَهُوَ الْقُرْبُ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَالْقُرْبُ فِي الْمَعَانِي لَيْسَ بِالْمَسَافَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالصِّفَاتِ ، وَالصِّفَةُ الَّتِي بِهَا كَانَ قَرِيبًا هِيَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ الْبَعْضِيَّةُ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَعْضِيَّةِ فَهُوَ وَلِيٌّ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ الْوَارِثُ مُطْلَقًا ، فَكُلُّ مَنْ وَرِثَهُ فَهُوَ وَلِيُّهُ .
وَعَلَى ذَلِكَ وَرَدَ لَفْظُ الْوِلَايَةِ فِي الْقُرْآنِ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ رَدْعًا عَنْ الْإِتْلَافِ ، وَحَيَاةً لِلْبَاقِينَ ؛ وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ ، كَالْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ عَنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا ، حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِهَا مُسْتَحِقٌّ ، بَيْدَ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْقِصَاصَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَجَعَلَهُ لِلْأَوْلِيَاءِ الْوَارِثِينَ ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي نُدِبَ إلَيْهِ فِي بَابِ الْقَتْلِ ، وَلَمْ يُجْعَلْ عَفَوَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ ، لِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ ، وَقُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ } .
وَكَانَتْ هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ خَاصِّيَّةً أُعْطِيَتْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ ، تَفَضُّلًا وَتَفْضِيلًا ، وَحِكْمَةً وَتَفْصِيلًا ، فَخُصَّ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ ، لِيُتَصَوَّرَ الْعَفْوُ ، أَوْ الِاسْتِيفَاءُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُزْنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ

الثَّانِيَةُ : فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ فِي الدَّمِ ، فَإِذَا قَالَ بِدُخُولِهِنَّ فِيهِ ، فَلِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَإِذَا قَالَ بِخُرُوجِهِنَّ عَنْهُ فَلِأَنَّ طَلَبَ الْقِصَاصِ مَبْنَاهُ عَلَى النَّصْرِ وَالْحِمَايَةِ ، وَلَيْسَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : { إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } .
فَإِذَا قُلْنَا بِدُخُولِهِنَّ فِيهِ ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَفِي أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ دُخُولُهُنَّ ؟ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : فِي الْقَوَدِ دُونَ الْعَفْوِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْغَرَضَ اسْتِبْقَاؤُهُ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ ، وَالتَّشَفِّي مِنْ عَدَمِ النَّصِيرِ ، وَعَظِيمِ الْحُزْنِ عَلَى الْفَقِيدِ ؛ وَالنِّسَاءُ بِذَلِكَ أَخَصُّ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ دُخُولَهُنَّ فِي الْعَفْوِ دُونَ الْقَوَدِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْإِسْقَاطِ الَّذِي يُغَلَّبُ فِي الْحُدُودِ ؛ فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ وَجَدْنَا الْإِسْقَاطَ ، وَإِنْ ضَعُفَ أَمْضَيْنَاهُ .
انْتِصَافٌ ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي أَنَّهُ احْتَجَّ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ بِوُجُوهٍ رَكِيكَةٍ ، مِنْهَا : أَنَّ الْوَلِيَّ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَهُوَ وَاحِدٌ ؛ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ بِمَعْنَى الْجِنْسِ اسْتَوَى الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ فِيهِ .
قَالَ الْقَاضِي : لَمْ يُنْصِفْ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ كَلَامَ إسْمَاعِيلَ ، وَاسْتَرَكَّهُ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ ، فَالرَّكِيكُ هُوَ قَوْلُهُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ ؛ وَتَمَامُ قَوْلِ إسْمَاعِيلَ هُوَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْوَلِيَّ هَاهُنَا عَلَى التَّذْكِيرِ ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فِي مَعْنَى الْجِنْسِ ، كَمَا قَالَ : { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ وَاحِدًا ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةً ، وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي جُمْلَةِ الْأَوْلِيَاءِ ، كَمَا دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ حِينَ قَالَ : { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى الرَّجُلِ

سَوَاءٌ ؛ إذْ كَانَ الْخَيْرُ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَخُصُّهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَالْوَلِيُّ يَكُونُ وَلِيًّا لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ كُلَّهَا .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : قَالَ إسْمَاعِيلُ : الْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقُّ كُلَّ الْقِصَاصِ ، و الْقِصَاصُ لَا بَعْضَ لَهُ ؛ فَلَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ إخْرَاجُ الزَّوْجِ مِنْ الْوِلَايَةِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : تَبَصَّرْ أَيُّهَا الطَّبَرِيُّ مَا قَالَهُ إسْمَاعِيلُ الْمَالِكِيُّ : إنَّمَا لَا تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْوِلَايَةَ كُلَّهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ ، لَا فِي شَهَادَةٍ وَلَا فِي تَعْصِيبٍ ؛ فَكَيْفَ تَضْعُفُ عَنْ الْكَمَالِ فِي أَضْعَفِ الْأَحْكَامِ ، وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ لَهَا عَلَى الْكَمَالِ ، أَيْنَ يَا طَبَرِيُّ تَحْقِيقُ شَيْخِك إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ، وَأَمَّا احْتِجَاجُك بِالزَّوْجِ فَهُوَ الرَّكِيكُ مِنْ الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي وِلَايَةِ الدَّمِ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : قَالَ إسْمَاعِيلُ : الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِصَاصِ تَقْلِيلُ الْقَتْلِ ، وَالْمَقْصُودُ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَلَّا يَجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : إمَّا أَنَّ فَكَّيْك ضَعُفَا عَنْ لَوْكِ مَا قَالَهُ إسْمَاعِيلُ ، وَإِمَّا تَعَامَيْت عَمْدًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَالِاعْتِدَاءَ إنَّمَا شَأْنُهُ الْغَوَائِلُ وَالشَّحْنَاءُ ، وَهِيَ بَيْنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، وَلَا يَقْتُلُ عَلَى الْغَائِلَةِ امْرَأَةً إلَّا دَنِيءُ الْهِمَّةِ ، وَيُعَيَّرُ بِهِ بَقِيَّةَ الدَّهْرِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي الْغَالِبِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، فَوَقَعَ الْقَوْلُ بِجَزَاءِ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ إذْ خُرُوجُ الْكَلَامِ عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ هِيَ الْفَصَاحَةُ الْعَرَبِيَّةُ ، وَالْقَوَاعِدُ الدِّينِيَّةُ .
وَقَدْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ شَيْخُك إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، فَجَعَلَهُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَرَدَّ إلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ

مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ؛ فَكَيْف ذُهِلْت عَنْهُ ، وَأَنْتَ تَحْكِيهِ وَتُعَوِّلُ فِي تَصَانِيفِك عَلَيْهِ ،

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { سُلْطَانًا } فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : السُّلْطَانُ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : السُّلْطَانُ الْحُجَّةُ .
الثَّالِثُ : قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ : السُّلْطَانُ إنْ شَاءَ عَفَا ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ ، و إنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ ؛ قَالَهُ أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ .
الرَّابِعُ : السُّلْطَانُ طَلَبُهُ حَتَّى يُدْفَعَ إلَيْهِ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَظْهَرَ مِنْ بَعْضٍ ، أَمَّا طَلَبُهُ حَتَّى يُدْفَعَ إلَيْهِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ الْحَقِّ ، وَآخِرُهُ اسْتِيفَاؤُهُ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ .
وَأَمْرُ اللَّهِ هُوَ حُجَّةُ الْخَلْقِ لِعِبَادِهِ ، وَعَلَيْهِمْ ، وَالِاسْتِيفَاءُ هُوَ الْمُنْتَهَى ، وَقَدْ تَدَاخَلَتْ ، وَتَقَارَبَتْ ، وَأَوْضَحُهَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ .
ثُمَّ إنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ نَصًّا ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : الْقَتْلُ خَاصَّةً .
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ : الْخِيرَةُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالدِّيَةِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، و قَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ الْحَسَنُ : لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ الثَّانِي : قَالَ مُجَاهِدٌ : لَا يَقْتُلُ بَدَلَ وَلِيِّهِ اثْنَيْنِ ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ .
الثَّالِثُ : لَا يُمَثِّلُ بِالْقَاتِلِ ؛ قَالَهُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ ، وَكُلُّهُ مُرَادٌ ؛ لِأَنَّهُ إسْرَافٌ كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } : يَعْنِي مُعَانًا .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَمْ مِنْ وَلِيٍّ مَخْذُولٍ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ .
قُلْنَا : الْمَعُونَةُ تَكُونُ بِظُهُورِ الْحُجَّةِ تَارَةً ، وَبِاسْتِيفَائِهَا أُخْرَى ، وَبِمَجْمُوعِهِمَا ثَالِثَةً ، فَأَيُّهَا كَانَ فَهُوَ نَصْرٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ

، وَحِكْمَتُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ وَفِي إفْرَادِ النَّوْعَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فِي مَوَاضِعَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ وَقَوْلُهُ : { إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } : يَعْنِي الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِلْيَتِيمِ ، وَذَلِكَ بِكُلِّ وَجْهٍ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ لِلْيَتِيمِ ، لَا لِلْمُتَصَرِّفِ فِيهِ ، كَقَوْلِ عَائِشَةَ : اتَّجَرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ ، وَقَدْ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ الْحَسَنَ فِيهِ يَعْنِي التِّجَارَةَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } يَعْنِي قُوَّتَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَشُدِّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ ، وَسَرَدْنَا الْأَقْوَالَ فِيهِ ، وَالْأَشُدُّ كَمَا قُلْنَا فِي الْقُوَّةِ ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ .
وَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّجْرِبَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْوَجْهَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْأَشُدَّ هَاهُنَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً ، وَجَاءَ بَيَانُ الْيَتِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُقَيَّدًا قَالَ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاَللَّهِ حَسِيبًا } فَجَمَعَ بَيْنَ قُوَّةِ الْبَدَنِ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ ، وَبَيْنَ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَمْكِينَ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ لَهُ وَبَعْدَ حُصُولِ قُوَّةِ الْبَدَنِ لَأَذْهَبَهُ فِي شَهَوَاتِهِ ، وَبَقِيَ صُعْلُوكًا لَا مَالَ لَهُ .
وَخَصَّ

الْيَتِيمَ بِهَذَا الشَّرْطِ فِي هَذَا الذِّكْرِ لِغَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهُ ، وَافْتِقَادِ الْآبَاءِ لِبَنِيهِمْ ، فَكَانَ الْإِهْمَالُ لِفَقِيدِ الْأَبِ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } يَعْنِي مَسْئُولًا عَنْهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْعَهْدِ فِي مَوَاضِعَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ } يُرِيدُ أَعْطُوهُ بِالْوَفَاءِ ، وَهُوَ التَّمَامُ ، لَا بَخْسَ فِيهِ ، بِالْقِسْطِ ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } يَعْنِي الْمِيزَانَ الْعَدْلَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : هُوَ الْقَبَّانُ يَعْنِي بِهِ مَا قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } وَقَالَ : { وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } لَا بِزِيَادَةٍ وَلَا بِنُقْصَانٍ .
وَمِنْ نَوَادِرِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ مَا أَنْبَأَنَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاعِظُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إذَا أَمْسَكْت عَلَّاقَةَ الْمِيزَانِ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ ، وَارْتَفَعَتْ سَائِرُ الْأَصَابِعِ كَانَ تَشَكُّلِهَا مَقْرُوءًا بِقَوْلِك اللَّهُ ، فَكَأَنَّهَا إشَارَةُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي تَسْيِيرِ الْوَزْنِ كَذَلِكَ إلَى أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْك ، فَاعْدِلْ فِي وَزْنِك .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } : أَيْ عَاقِبَةً .
مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدْلَ وَالْوَفَاءَ فِي الْكَيْلِ أَفْضَلُ لِلتَّاجِرِ وَأَكْرَمُ لِلْبَائِعِ مِنْ طَلَبِ الْحِيلَةِ فِي الزِّيَادَةِ لِنَفْسِهِ ، وَالنُّقْصَانِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةٍ ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : " لَا تَقْفُ " : تَقُولُ الْعَرَبُ : قَفَوْته أَقْفُوهُ ، وَقَفْته أَقُوفُهُ ، وَقَفَّيْته : إذَا اتَّبَعْت أَثَرَهُ ، وَقَافِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ ؛ وَمِنْهُ اسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُقَفَّى ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْيَرُهُمْ .
وَمِنْهُ الْقَائِفُ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُ أَثَرَ الشَّبَهِ ، يُقَالُ قَافَ الْقَائِفُ يَقُوفُ ، إذَا فَعَلَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ بَعْضُهُمْ : وَلَا تَقُفْ ، مِثْلَ تَقُلْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ : لِلنَّاسِ فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا تَسْمَعُ وَلَا تَرَ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا رُؤْيَتُهُ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا تَتَّبِعُ مَا لَا تَعْلَمُ وَلَا يَعْنِيَك .
الثَّالِثُ : قَالَ قَتَادَةُ : لَا تَقُلْ رَأَيْت مَا لَمْ أَرَ ، وَلَا سَمِعْت مَا لَمْ أَسْمَعْ .
الرَّابِعُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ : هُوَ شَهَادَةُ الزُّورِ .
الْخَامِسُ : قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ لَا تَقْفُ لَا تَقُلْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ؛ وَبَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَبِطَةً ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مَا لَا يَحِلُّ ، وَلَا يَقُولَ بَاطِلًا ، فَكَيْفُ أَعْظَمُهُ وَهُوَ الزُّورُ .
وَيَرْجِعُ الْخَامِسُ إلَى الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الْمُفْتِيَ بِالتَّقْلِيدِ إذَا خَالَفَ نَصَّ الرِّوَايَةِ فِي نَصِّ النَّازِلَةِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ مَذْمُومٌ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَقِيسُ وَيَجْتَهِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ فِي قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ ، لَا فِي قَوْلِ بَشَرٍ

بَعْدَهُمَا .
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتَ تَقُولُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَبْلَك .
قُلْنَا : نَعَمْ ؛ نَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ فِي تَفْرِيعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْتِزَامِ الْمَذْهَبِ بِالتَّخْرِيجِ ، لَا عَلَى أَنَّهَا فَتْوَى نَازِلَةٌ تَعْمَلُ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ ، حَتَّى إذَا جَاءَ سَائِلٌ عُرِضَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَصْلِيِّ ؛ لَا عَلَى التَّخْرِيجِ الْمَذْهَبِيِّ ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُ الْجَوَابُ كَذَا فَاعْمَلْ عَلَيْهِ .
وَمِنْهَا قَوْلُ النَّاسِ : هَلْ الْحَوْضُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ أَوْ الْمِيزَانُ قَبْلَهُمَا أَمْ الْحَوْضُ ؟ فَهَذَا قَفْوُ مَا لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ ، وَلَا بِنَظَرِ السَّمْعِ ، وَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ ، فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ .
وَمِثْلُهُ : كَيْفَ كِفَّةُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ؟ كَيْفَ يُعْطَى كِتَابَهُ ؟ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } : يُسْأَلُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَيُسْأَلُ الْفُؤَادُ عَمَّا افْتَكَرَ وَاعْتَقَدَ ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ عَمَّا رَأَى مِنْ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُنْكِرُ ، فَتَنْطِقُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ ، فَإِذَا شَهِدَتْ اسْتَوْجَبَتْ الْخُلُودَ الدَّائِمَ ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ أَمْرٌ صَحِيحٌ ، فَهُوَ مِثَالٌ رَابِعٌ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِسَالَةِ تَقْوِيمِ الْفَتْوَى عَلَى أَهْلِ الدَّعْوَى .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } .
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { مَرَحًا } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مُتَكَبِّرًا .
الثَّانِي : بَطِرًا .
الثَّالِثُ : شَدِيدُ الْفَرَحِ .
الرَّابِعُ : النَّشَاطُ .
فَإِذَا تَتَبَّعْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَجَدْتهَا مُتَقَارِبَةً ، وَلَكِنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ قِسْمَيْنِ مُخْتَلِفِينَ : أَحَدُهُمَا مَذْمُومٌ ، وَالْآخَرُ مَحْمُودٌ ؛ فَالتَّكَبُّرُ وَالْبَطَرُ مَذْمُومَانِ ، وَالْفَرَحُ وَالنَّشَاطُ مَحْمُودَانِ ؛ وَلِذَلِكَ يُوصَفُ اللَّهُ بِالْفَرَحِ ، فَفِي الْحَدِيثِ : { لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ رَجُلٍ } الْحَدِيثَ " وَالْكَسَلُ مَذْمُومٌ شَرْعًا ، وَالنَّشَاطُ ضِدُّهُ .
وَقَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ مَحْمُودًا ، وَذَلِكَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَعَلَى الظَّلَمَةِ .
وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْآنَ أَنَّ الْفَرَحَ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا وَصِفَاتٍ لَيْسَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ ، أَوْ كَانَ النَّشَاطُ إلَى مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا نِيَّةٌ دِينِيَّةٌ لِلْمُتَّصِفِ بِهِمَا ؛ فَذَلِكَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ هَاهُنَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي : الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ : { إنَّك لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ } : يَعْنِي لَنْ تَتَوَلَّجَ بَاطِنَهَا ، فَتَعْلَمَ مَا فِيهَا ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يُرِيدُ لَنْ تُسَاوِيَ الْجِبَالَ بِطَوْلِك ، وَلَا بِطُولِك ، وَإِنَّمَا تَسْتَقْبِلُ مَا أَمَامَك ؛ وَأَيُّ فَضْلٍ لَك فِي ذَلِكَ ؟ وَالْمُسَاوَاةُ فِيهِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ .
وَيُرْوَى أَنَّ سَبَأً دَوَّخَ الْأَرْضَ بِأَجْنَادِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا ، سَهْلًا وَجَبَلًا ، وَقَتَلَ وَأَسَرَ وَبِهِ سُمِّيَ سَبَأٌ وَدَانَ لَهُ الْخَلْقُ ، فَلَمَّا

قَالَ ذَلِكَ انْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : إنِّي لَمَّا نِلْت مَا لَمْ يَنَلْ أَحَدٌ رَأَيْت الِابْتِدَاءَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ ؛ فَلَمْ أَرَ أَوْقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ إذَا أَشْرَقَتْ ، فَسَجَدُوا لَهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ عِبَادَةِ الشَّمْسِ ، فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمَرَحِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا } : قُرِئَ { سَيِّئُهُ } بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَبِالْهَاءِ ، وَبِنَصَبِ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءِ ، فَمَنْ قَرَأَهُ بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ أَرَادَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ فِيهِ حُسْنٌ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَفِيهِ سَيِّئٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَرَجَعَ الْوَصْفُ بِالسُّوءِ إلَى السِّيءِ مِنْهُ .
وَمَنْ قَرَأَهُ بِالْهَمْزَةِ الْمَنْصُوبَةِ وَالتَّاءِ رَجَعَ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ مَكْرُوهًا ، وَالْكَرَاهِيَةُ عِنْدَكُمْ إرَادَةُ عَدَمِ الشَّيْءِ ، فَكَيْفَ يُوجَدُ مَا أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَهُ ؟ .
قُلْنَا : قَدْ أَجَبْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ ، بِبَسْطٍ .
بَيَانُهُ عَلَى الْإِيجَازِ ؛ أَنَّ مَعْنَى مَكْرُوهًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَمُرَادًا مَأْمُورٌ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } ؛ أَيْ يَأْمُرُ بِالْيُسْرِ ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْعُسْرِ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَيْضًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا شَرْعًا ، أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَهُ ، كَقَوْلِهِ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } ؛ مَعْنَاهُ دِينًا لَا وُجُودًا ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ عَبْدِهِ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْك رَبُّك مِنْ الْحِكْمَةِ } : قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ

الْحِكْمَةِ هَاهُنَا ، وَفِي كُتُبِنَا ، وَفَسَّرْنَا وُجُوهَهَا وَمَوَارِدَهَا : وَلُبَابُهَا هَاهُنَا أَنَّهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ .
وَأَعْظَمُهَا قَدْرًا وَأَشْرَفُهَا مَأْمُورًا مَا بَدَأَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ ، أُمَّهَاتُهَا سِتَّةٌ : الْأَوَّلُ : دَلَالَتُهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْعُلَا و أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى .
الثَّانِي : تَذْكِرَتُهَا لِلتَّسْبِيحِ بِهَا .
الثَّالِثُ : كُلُّ شَيْءٍ لَهُ يُسَبِّحُ : لَمْحُ الْبَرْقِ ، وَصَرِيفُ الرَّعْدِ ، وَصَرِيرُ الْبَابِ ، وَخَرِيرُ الْمَاءِ .
الرَّابِعُ : قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ : كُلُّ ذِي رُوحٍ يُسَبِّحُ .
الْخَامِسُ : قَالَ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ : الطَّعَامُ يُسَبِّحُ .
السَّادِسُ : قَالَ أَكْثَرُ النَّاسِ ، مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ : كُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا لَا يَعْلَمُهُ الْآدَمِيُّونَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْلَمُوا نَوَّرَ اللَّهُ بَصَائِرَكُمْ بِعِرْفَانِهِ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَثُرَ الْخَوْضُ فِيهَا بَيْنَ النَّاسِ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى أَدِلَّةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ ؛ وَتَرْتِيبُ الْقَوْلِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمَادَاتِ فَضْلًا عَنْ الْبَهَائِمِ تَسْبِيحٌ بِكَلَامٍ ، وَإِنْ لَمْ نَفْقَهْهُ نَحْنُ عَنْهَا ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ قِيَامِ الْكَلَامِ بِالْمَحَلِّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ هَيْئَةٌ آدَمِيَّةٌ ، وَلَا وُجُودُ بَلَّةٍ وَلَا رُطُوبَةٍ ، وَإِنَّمَا تَكْفِي لَهُ الْجَوْهَرِيَّةُ أَوْ الْجِسْمِيَّةُ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَإِخْوَتِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْهَيْئَةَ الْآدَمِيَّةَ وَالْبَلَّةَ وَالرُّطُوبَةَ شَرْطًا فِي الْكَلَامِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ بِأَدِلَّتِهِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ فِي مَوْضِعِهِ ، وَبِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآدَمِيِّينَ عَرَضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِمْ ، وَلَيْسَ يَفْتَقِرُ الْعَرَضُ

إلَّا لِوُجُودِ جَوْهَرٍ أَوْ جِسْمٍ يَقُومُ بِهِ خَاصَّةً ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ فَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ ، وَلِلْبَارِي تَعَالَى نَقْضُ الْعَادَةِ وَخَرْقُهَا بِمَا شَاءَ مِنْ قُدْرَتِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَبَرِّيَّتِهِ .
وَلِهَذَا حَنَّ الْجِذْعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّهِ وَكَفِّ أَصْحَابِهِ ، وَكَانَ بِمَكَّةَ حَجَرٌ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ ، وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ تَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامَ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ كُلُّهُ هَيْئَةٌ ، وَلَا وُجِدَتْ لَهُ رُطُوبَةٌ وَلَا بَلَّةٌ ، وَعَلَى إنْكَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَإِبْطَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ حَامَتْ بِمَا ابْتَدَعَتْهُ مِنْ الْمَقَالَاتِ ، فَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْخَالِقِ ظَاهِرَةٌ ، وَتَذْكِرَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْمُسَبِّحِينَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بَيِّنَةٌ .
وَهَذَا وَإِنْ سُمِّيَ تَسْبِيحًا فَذَلِكَ شَائِعٌ لُغَةً ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ لِسَانِ الْحَالِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ ، فَتَقُولُ : يَشْكُو إلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى .
وَكَمَا قَالَتْ : قِفْ بِالدِّيَارِ فَقُلْ : يَا دِيَارُ مَنْ غَرَسَ أَشْجَارَك ، وَجَنَى ثِمَارَك ، وَأَجْرَى أَنْهَارَك ، فَإِنْ لَمْ تُجِبْك جُؤَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا ؛ وَكَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ عَنْ شَجَرَةٍ : رُبَّ رَكْبٍ قَدْ أَنَاخُوا حَوْلَنَا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمْ وَكَذَاك الدَّهْرُ حَالًا بَعْدَ حَالِ وَذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْبَدِيعِ فِي الْفَصَاحَةِ ، وَالْغَايَةِ فِي الْبَلَاغَةِ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ تَسْبِيحَ الْبَرْقِ لَمَعَانُهُ ، وَالرَّعْدِ هَدِيرُهُ ، وَالْمَاءِ خَرِيرُهُ ، وَالْبَابِ صَرِيرُهُ ، فَنَوْعٌ مِنْ الدَّلَالَةِ ، وَوَجْهٌ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْمَجَازِ ظَاهِرٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ كُلَّ ذِي رُوحٍ يُسَبِّحُ بِنَفْسِهِ وَصُورَتُهُ ، فَمِثْلُهُ فِي الدَّلَالَةِ وَفِي الْمَجَازِ فِي التَّسْمِيَةِ .
وَإِنْ قُلْنَا :

إنَّ الطَّعَامَ يُسَبِّحُ الْتَحَقَ بِالْجَمَادِ فِي الْمَعْنَى وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ تَسْبِيحًا رَبُّنَا بِهِ أَعْلَمُ ، لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ ؛ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لَمْ نَكْذِبْ ، وَلَمْ نَغْلَطْ ، وَلَا رَكِبْنَا مُحَالًا فِي الْعَقْلِ ؛ وَنَقُولُ : إنَّهَا تُسَبِّحُ دَلَالَةً وَتَذْكِرَةً وَهَيْئَةً وَمَقَالَةً ، وَنَحْنُ لَا نَفَقُهُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَلَا نَعْلَمُ ، إنَّمَا يَعْلَمُهُ مَنْ خَلَقَهُ ، كَمَا قَالَ : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } .
وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ عِنْدَ قَوْلِهِ : { شَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : يَا رَبِّ ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا } هَلْ هُوَ بِكَلَامٍ ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِهِ : امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَالْكُلُّ جَاءَ مِنْ عِنْدِنَا ، وَرَبُّنَا عَلَيْهِ قَادِرٌ .
وَأَكْمَلُ التَّسْبِيحِ تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ وَالْآدَمِيِّينَ وَالْجِنِّ فَإِنَّهُ تَسْبِيحٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ كَلَامٌ مَعْقُولٌ ، مَفْهُومٌ لِلْجَمِيعِ بِعِبَارَةٍ مُخْلَصَةٍ ، وَطَاعَةٍ مُسَلَّمَةٍ ، وَأَجَلُّهَا مَا اقْتَرَنَ بِالْقَوْلِ فِيهَا فِعْلٌ مِنْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا ، وَهِيَ صَلَاةُ الْآدَمِيِّينَ ؛ وَذَلِكَ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَبِهِ سُمِّيَتْ الصَّلَاةُ سُبْحَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } : قُلْنَا : أَمَّا الْكُفَّارُ الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ فَلَا يَفْقَهُونَ مِنْ وُجُوهِ التَّسْبِيحِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَيْئًا كَالْفَلَاسِفَةِ ، فَإِنَّهُمْ جَهِلُوا دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّانِعِ ، فَهُمْ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ أَجْهَلُ .
وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ الدَّلَالَةَ وَفَاتَهُ مَا وَرَاءَهَا فَهُوَ يَفْقَهُ وَجْهًا وَيَخْفَى عَلَيْهِ آخَرُ ، فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْفَلَاسِفَةِ ، وَتَكُونُ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا وَرَاءَهُمْ ، مِمَّنْ أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ تَسْبِيحِهِمْ ؛ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } فَجَعَلَ تَصْرِيفَ

الظِّلِّ ذُلًّا ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّجُودِ ، وَهِيَ غَايَةُ الْمَذَلَّةِ لِمَنْ لَهُ بِالْحَقِيقَةِ وَحْدَهُ الْعِزَّةُ ، وَهَذَا تَوْقِيفٌ نَفِيسٌ لِلْمَعْرِفَةِ ؛ فَإِذَا انْتَهَيْتُمْ إلَيْهِ عَارِفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِنَا فَقِفُوا عِنْدَهُ ، فَلَيْسَ وَرَاءَهُ مَزِيدٌ ، إلَّا فِي تَفْصِيلِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ ؛ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَفْزِزْ مِنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَاسْتَفْزِزْ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتَخِفَّهُمْ .
الثَّانِي : اسْتَجْهِلْهُمْ .
وَلَا يُخَفُّ إلَّا مَنْ يَجْهَلُ ؛ فَالْجَهْلُ تَفْسِيرٌ مَجَازِيٌّ ، وَالْخِفَّةُ تَفْسِيرٌ حَقِيقِيٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { بِصَوْتِك } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : بِدُعَائِك .
الثَّانِي : بِالْغِنَاءِ وَالْمِزْمَارِ .
الثَّالِثُ : كُلُّ دَاعٍ دَعَاهُ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الْحَقِيقَةُ ، وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَهُمَا مُجَازَانِ ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ مَجَازٌ خَاصٌّ ، وَالثَّالِثُ مَجَازٌ عَامٌّ .
وَقَدْ { دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ عَائِشَةَ ، وَفِيهِ جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ ، فَقَالَ : أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ } .
فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ الْغِنَاءِ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَسْتَدْرِجُ بِهِ الشَّيْطَانُ إلَى الْمَعْصِيَةِ أَكْثَرَ وَأَقْرَبَ إلَى الِاسْتِدْرَاجِ إلَيْهَا بِالْوَاجِبِ ، فَيَكُونُ إذَا تَجَرَّدَ مُبَاحًا ، وَيَكُونُ عِنْدَ الدَّوَامِ وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَعَاصِي حَرَامًا ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نُهِيت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ فَذَكَرَ الْغِنَاءَ وَالنَّوْحَ } .
وَقَدَّمْنَا شَرْحَ ذَلِكَ كُلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } : وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَآمُرَنَّهُمْ

فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } .
وَهَذَا تَفْسِيرُ أَنَّ صَوْتَهُ أَمْرُهُ بِالْبَاطِلِ ، وَدُعَاؤُهُ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَدِينُهُ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْأَمْوَالِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضِ الْأَوْلَادِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا شَرَحْنَاهُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } ؛ وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } .
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ جَائِزٌ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ ، وَقَسَّمْنَا وُجُوهَ رُكُوبِهِ فِي مَقَاصِدِ الْخَلْقِ بِهِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَتِهِ التِّجَارَةَ وَجَلْبَ الْمَنَافِعِ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ إلَى بَعْضٍ ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ : { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } يَعْنِي التِّجَارَةَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } .
وَقَالَ : { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ التِّجَارَةُ ؛ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ ؛ وَكَذَلِكَ يَدُلُّ : الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } عَلَى جَوَازِ رُكُوبِهِ أَيْضًا ، وَهِيَ الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَفْسِيرَهَا فِي اسْمِ الْكَرِيمِ مِنْ كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " فَلْيُطْلَبْ ذَلِكَ فِيهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23