كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الْعَشْرِ هِيَ عَامَّةٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، كَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ مُحْتَمَلَةٌ لَهُمْ ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِيهِمْ ، إلَّا قَوْلَهُ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ، وَلَا إبَاحَةَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَبَيْنَ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْفَرْجِ ؛ وَإِنَّمَا عُرِفَ حِفْظُ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ ، كَآيَاتِ الْإِحْصَانِ عُمُومًا وَخُصُوصًا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : سَمِعْت حَرْمَلَةَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عُمَيْرَةَ ، فَتَلَا هَذِهِ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْنُونَ عَنْ الذَّكَرِ بِعُمَيْرَةَ ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : إذَا حَلَلْت بِوَادٍ لَا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لَا دَاءٌ وَلَا حَرَجٌ وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ الِاسْتِمْنَاءَ ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْمَنِيِّ .
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى وَرَعِهِ يُجَوِّزُهُ ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ إخْرَاجُ فَضْلَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ؛ فَجَازَ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، أَصْلُهُ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ .
وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَانَ اللَّهُ إلَّا بِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ كَالْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ ، وَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَحْدَثَهَا الشَّيْطَانُ وَأَجْرَاهَا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى صَارَتْ قِيلَةً ، وَيَا لَيْتَهَا لَمْ تُقَلْ ، وَلَوْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا لَكَانَ ذُو الْمُرُوءَةِ يُعْرِضُ عَنْهَا

لِدَنَاءَتِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ .
قُلْنَا : نِكَاحُ الْأَمَةِ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً عَلَى مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ أَيْضًا ، وَلَكِنَّ الِاسْتِمْنَاءَ ضَعِيفٌ فِي الدَّلِيلِ عَارٌ بِالرَّجُلِ الدَّنِيءِ ، فَكَيْفَ بِالرَّجُلِ الْكَبِيرِ ،

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ قَوْمٌ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْفَرْجَ إلَّا بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَالْمُتَمَتِّعَةُ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ ، وَهَذَا يَضْعُفُ .
فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا : إنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ جَائِزٌ فَهِيَ زَوْجَةٌ إلَى أَجَلٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجَةِ .
وَإِنْ قُلْنَا بِالْحَقِّ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لَمَا كَانَتْ زَوْجَةً ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ ، وَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِ حِفْظِ الْفَرْجِ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ سَبَبِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا ، وَهِيَ الثَّالِثَةُ : { فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } .
فَسُمِّيَ مَنْ نَكَحَ مَا لَا يَحِلُّ عَادِيًا ، وَأُوجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُدْوَانِهِ ، وَاللَّائِطُ عَادٍ قُرْآنًا وَلُغَةً ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } فَوَجَبَ أَنْ نُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } .
قَدْ قَدَّمْنَا وُجُوبَ حِفْظِ الْأَمَانَةِ وَالْعَهْدِ ، وَبَيَّنَّا قِيَامَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى ، فَأَدِّ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ فِيك فَلَا تَنْقُضْهُ فِيهِ ، وَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ عِنْدَك فَلَا تَكْفُرْ بِهِ عِنْدَهُ ، وَمَنْ غَدَرَ بِك فَلَا تَغْدِرْ بِهِ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِيمَا سَلَف فِي مَوَاضِعَ ، فَلْيُنْظَرْ فِيهَا ؛ وَلْيُجْمَعْ فِي الْقَلْبِ مِنْهَا .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } .
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حِفْظِ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا ، وَبَيَّنَّا الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا بِإِدَامَةِ أَفْعَالِهَا فِي أَوْقَاتِهَا مَتَى تَكَرَّرَتْ مَفْرُوضَاتُهَا ، فَاعْلَمُوهُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمِمَّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ الْمَاءُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَنَمَاءُ الْحَيَوَانِ .
وَالْمَاءُ الْمُنَزَّلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ فِي الْأَرْضِ ، وَجَعَلَهُ فِيهَا مُخْزُونَا لِسُقْيَا النَّاسِ ، يَجِدُونَهُ [ عُدَّةً ] عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَهُوَ مَاءُ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ ، وَمَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْآبَارِ .
وَالْقِسْمُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فِي كُلِّ وَقْتٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ ، أَهُوَ فِي الْخَرِيفِ فِيمَا بَلَغَك ، قَالَ : لَا وَاَللَّهِ ؛ بَلْ هَذَا فِي الْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَنْزِلُ مَاؤُهُ مِنْ السَّمَاءِ إذَا شَاءَ ، ثُمَّ هُوَ عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرٌ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ مُحْتَمَلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً ، فَأَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ ، ثُمَّ يُنَزِّلُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَيَكُونُ مِنْهُ غِذَاءٌ ، وَمِنْهُ اخْتِزَانٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا يَعْنِي قَوْلَهُ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا } ، وَقَوْلَهُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } يَعْنِي الْمَطَرَ ، { وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } يَعْنِي النَّبَاتَ .
وَهَذَا يَكُونُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّي الْأَرْضَ مِنْ مَطَرٍ فِي عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ ، وَإِنَّهُ مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءٌ إلَّا

بِحِفْظِ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِهِ ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ مَاءِ الطُّوفَانِ ، فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ الْمَلَكُ } ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ الْتَقَيَا عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ بِالْإِقْلَاعِ ، فَلَمْ تَمْتَصَّ الْأَرْضُ مِنْ قَطْرِهِ ، وَأَمَرَ الْأَرْضَ بِابْتِلَاعِ مَا خَرَجَ مِنْهَا فَقَطْ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَك وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَشْرَبْ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ قَطْرَةً .
نُكْتَةٌ أُصُولِيَّةٌ : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : قَوْلُهُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ ذَاتُ الْمَطَرِ ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ فِي كُلِّ عَامٍ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مِنْ إنْزَالِ الْمَطَرِ مِنْهَا .
وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا تَرُدُّ مَا أَخَذَتْ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ الْمَاءِ ؛ إذْ السَّحَابُ يَسْتَقِي مِنْ الْبَحْرِ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الْهُذَلِيِّ : شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ مَتَى لُجَجٌ لَهُنَّ نَئِيجُ يَعْنِي السَّحَابَ ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ طَوِيلَةٌ ، وَهِيَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ جَائِزَةٌ ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ أَثَرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } : يَعْنِي لَقَادِرُونَ عَلَى إذْهَابِ الْمَاءِ الَّذِي أَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيَهْلَكُ النَّاسُ بِالْعَطَشِ ، وَتَهْلَكُ مَوَاشِيهِمْ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } وَقَدْ قَالَ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَهَذَا عَامٌّ فِي مَاءِ الْمَطَرِ وَالْمَاءِ الْمُخْتَزَنِ فِي أَرْضٍ ، فَصَارَتْ إحْدَى الْآيَتَيْنِ عَامَّةً وَهِيَ آيَةُ الطَّهُورِ .
وَالْآيَةُ

الْأُخْرَى خَاصَّةً وَهِيَ مَاءُ الْقَدْرِ الْمُسْكَنِ فِي الْأَرْضِ ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ السَّمَاءِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } ، وَهَذَا نَصٌّ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ : سَيْحُونَ ، وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ وَجَيْحُونَ ، وَهُوَ نَهْرُ بَلْخٍ ، وَدِجْلَةَ ، وَالْفُرَاتِ ، وَهُمَا نَهَرَا الْعِرَاقِ ، وَالنِّيلَ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا ، فَاسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ ، وَجَعَلَ فِيهَا مَعَايِشَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ } ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ ؛ فَيَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى السَّمَاءِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } .
وَهَذَا جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ إنْ صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ .
[ وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سَيْحُونُ وَجَيْحُونُ وَالْفُرَاتُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ } .
وَهَذَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } يَعْنِي بِهِ نَهْرًا يَجْرِي ، وَعَيْنًا تَسِيلُ ، وَمَاءً رَاكِدًا فِي جَوْفِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ] .
وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، وَذَكَرَ مَا أَنْشَأَ مِنْ الْمَاءِ وَمِنْ النَّبَاتِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : ( رَبْوَةٍ ) فِيهَا خَمْسُ لُغَاتٍ : كَسْرُ الرَّاءِ ، وَفَتْحُهَا ، وَضَمُّهَا ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ ، وَيُقَالُ رِبَاوَةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَلَمْ أُقَيِّدْ غَيْرَهُ فِيمَا وَجَدْته الْآنَ عِنْدِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الرَّبْوَةِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الرَّمْلَةُ ؛ وَهِيَ فِلَسْطِينُ ؛ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ .
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ : هِيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا دِمَشْقُ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا مِصْرُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ .
وَلَيْسَ الرُّبَا إلَّا بِمِصْرَ ، وَالْمَاءُ يُرْسَلُ فَيَكُونُ الرُّبَا عَلَيْهَا الْقُرَى ، وَلَوْلَا ذَلِكَ غَرِقَتْ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِنْهَا مَا تُفَسَّرُ لُغَةً ، وَمِنْهَا مَا تُفَسَّرُ نَقْلًا ؛ فَأَمَّا الَّتِي تُفَسَّرُ لُغَةً فَكُلُّ أَحَدٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةُ الْمَدْرَكِ بَيْنَ الْخَلْقِ .
وَأَمَّا مَا يُفَسَّرُ مِنْهَا نَقْلًا فَمُفْتَقِرٌ إلَى سَنَدٍ صَحِيحٍ يَبْلُغُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنَّهُ تَبْقَى هَاهُنَا نُكْتَةٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَقَلَ النَّاسُ تَوَاتُرًا أَنَّ هَذَا مَوْضِعُ كَذَا ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ جَرَى كَذَا ، أَوْ وَقَعَ لَزِمَ قَبُولُهُ ، وَالْعِلْمُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْإِيمَانُ ، وَخَبَرَ الْآحَادِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُخْبِرِ بِهِ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ ، وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ ، وَقَدْ

بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَاَلَّذِي شَاهَدْت عَلَيْهِ النَّاسَ ، وَرَأَيْتهمْ يُعَيِّنُونَهَا تَعْيِينَ تَوَاتُرٍ دِمَشْقَ ، فَفِي سَفْحِ الْجَبَلِ فِي غَرْبِيِّ دِمَشْقَ مَائِلًا إلَى جَوْفِهَا مَوْضِعٌ مُرْتَفِعٌ تَتَشَقَّقُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ ، وَفِيهَا الْفَوَاكِهُ الْبَدِيعَةُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ ، وَقَدْ اُتُّخِذَ بِهَا مَسْجِدٌ يُقْصَدُ إلَيْهِ ، وَيُتَعَبَّدُ فِيهِ ، أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَوْلِدَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَفِيهِ رَأَيْت الْجِذْعَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ بِابْنِهَا اخْتَلَفَتْ الرُّوَاةُ ، هَلْ أَخَذَتْ بِهِ غَرْبًا إلَى مِصْرَ ؟ أَمْ أَخَذَتْ بِهِ شَرْقًا إلَى دِمَشْقَ ؟ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَرْضٌ مُنْبَسِطَةٌ وَبَاحَةٌ وَاسِعَةٌ .
الثَّانِي : ذَاتُ شَيْءٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ مِنْ قُوتٍ وَمَاءٍ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ .
وَقَوْلُهُ : { وَمَعِينٍ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَعِينٍ } يُرِيدُ بِهِ الْمَاءَ ، وَهُوَ مَفْعَلُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، وَيُقَالُ : مَعَنَ الْمَاءُ وَأَمْعَنَ إذَا سَالَ ، فَيَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ .
قَالَ عُبَيْدٌ : وَاهِيَةٌ أَوْ مَعِينٌ مُمْعِنٌ أَوْ هَضْبَةٌ دُونَهَا لُهُوبُ وَفِيهَا أَقْوَالُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْحَلَالِ ؛ وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَمْرِيِّ عَنْهُ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : وَعَلَيْكُمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا } .
ثُمَّ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } .
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ : يَا رَبِّ يَا رَبِّ ، مَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ ، } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَقَالَ تَعَالَى فِي دَاوُد : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } .
وَرَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَتْ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي } .
فَجَعَلَ اللَّهُ رِزْقَ مُحَمَّدٍ فِي كَسْبِهِ لِفَضْلِهِ ، وَخَصَّ لَهُ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ ، وَهُوَ أَخْذُ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ ، لِشَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُؤْتَوْنَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الَّذِينَ يُطِيعُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ .
الثَّانِي : الَّذِينَ يَعْصِمُونَ ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ يُعَذَّبُوا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } قَالَتْ عَائِشَةُ : أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ : لَا ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ أَوْ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ .
} وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ قَالَ : دَخَلْت مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ ، فَقَالَ لَهَا : كَيْفَ كَانُوا يَقْرَءُونَ ، { يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } ؟ قَالَتْ : يَأْتُونَ مَا أَتَوْا ، فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهَا قَالَ لِي عُبَيْدُ بْنَ عُمَيْرٍ : لَأَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَتْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ يَعْنِي بِقَوْلِهَا : يَأْتُونَ مَا أَتَوْا مِنْ الْمَجِيءِ أَيْ يَأْتُونَ الذُّنُوبَ وَهُمْ خَائِفُونَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : عَوَّلُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ، وَلَا تَتَعَلَّقُوا بِأَعْضَاءِ الْكَسِيرِ ، إنَّمَا كَانَ الْقَوْمُ إذَا غَلَبَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الْإِخْلَاصُ وَالْقُرْبُ خَافُوا يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِمْ مَقَامُ الرَّجَاءِ ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَيْهِمْ مَقَامُ الْخَوْفِ ؛ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَشْهَدُ بِفَضْلِ غَلَبَةِ مَقَامِ الْخَوْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } .
وَكَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ مَقَامُ الْخَوْفِ ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ مَادًّا يَدَيْهِ ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : كَفَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ ، فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ لَك مَا وَعَدَك ، حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ ، مُغَلِّبًا جَانِبَ الرَّجَاءِ فِي نُفُوذِ الْوَعْدِ .
} قَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ يُحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ يَأْتُونَ وَيُؤْتُونَ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : { يُؤْتُونَ } يُعْطِي الْأَمْرَيْنِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : آتَيْت مِنْ نَفْسِي الْقَبُولَ ، وَآتَيْت مِنْهَا الْإِنَابَةَ ، تُرِيدُ أَعْطَيْت الْقِيَادَ مِنْ نَفْسِي يَعْنِي إذَا أَطَاعَ وَأَعْطَيْت الْعِنَادَ مِنْ نَفْسِي يَعْنِي إذَا عَصَى ، فَمَعْنَاهُ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مِنْ مَعْصِيَةٍ ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤْتِي الطَّاعَةَ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْخَشْيَةِ لِرَبِّهِمْ ، وَالْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ الشِّرْكِ ، وَخَوْفِهِمْ عَدَمَ الْقَبُولِ

مِنْهُمْ عِنْدَ لِقَائِهِ لَهُمْ ، فَلَا جَرَمَ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى الْعِصْيَانِ مُتَمَادِيًا فِي الْخِلَافِ مُسْتَمِرًّا ، فَكَيْفَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ أَوْ بِالْخَشْيَةِ لِرَبِّهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِ .
أَمَّا إنَّ الَّذِي يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الَّذِي يَأْتِيهَا وَيَخَافُ الْعَذَابَ فَهَذَا هُوَ الْمُذْنِبُ .
وَاَلَّذِي يَأْتِيهَا آمِنًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ غَلَبَةِ الرَّجَاءِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَغْرُورُ ، وَالْمَغْرُورُ فِي حِزْبِ الشَّيْطَانِ .
وَإِنْ أَتَاهَا شَاكًّا فِي الْعَذَابِ فَهُوَ مُلْحِدٌ لَا مَغْفِرَةَ لَهُ .
وَلِأَجْلِ إشْكَالِ قَوْلِهِ : { يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } قَالَ بَعْضُهُمْ : يَعْنِي بِهِ إنْفَاقَ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ إلَيْهِ صَلَاحِيَةُ لَفْظِ الْعَطَاءِ إلَّا فِي الْمَالِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْعَطَاءِ يَنْطَلِقُ فِي كُلِّ مَعْنًى : مَالٍ وَغَيْرِهِ ، وَفِي كُلِّ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ ، وَاتَّضَحَتْ الْآيَةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ؛ مِنْ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، هُوَ الْأَفْضَلُ ، وَمَدْحُ الْبَارِي أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى صِفَةِ الْفَضْلِ فِي الْمَمْدُوحِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَقَدِّمَةٍ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذَّمِّ أَهْلُ الْحَرَمِ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ } مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ، أَيْ بِالْحَرَمِ ، يُرِيدُ يَتَعَاطَوْنَ بِهِ الْكِبْرَ وَيَدَّعُونَ ، حَتَّى كَانُوا يَرَوْنَ النَّاسَ يَتَخَطَّفُونَ مِنْ حَوْلِهِمْ ، وَهُمْ آمِنُونَ .
وَمِنْ الْكِبْرِ كُفْرٌ ، وَهُوَ التَّكَبُّرُ عَلَى اللَّهِ ، وَعَلَى رَسُولِهِ ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِسْقٌ ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْكُفَّارِ إيمَانٌ ؛ فَلَيْسَ الْكِبْرُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ بِحُكْمِ مُتَعَلَّقِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { سَامِرًا } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : حَلْقًا حَلْقًا ، وَأَصْلُهُ التَّحَلُّقُ بِاللَّيْلِ لِلسَّمَرِ ، وَكَنَّى بِقَوْلِهِ : سَامِرًا عَنْ الْجَمَاعَةِ ، كَمَا يُقَالُ : بَاقِرٌ وَجَامِلٌ لِجَمَاعَةِ الْبَقَرِ وَالْجِمَالِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَثَلِ : لَا أُكَلِّمُهُ السَّمَرَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي فِي قَوْلِهِمْ : اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : السَّمَرُ ظِلُّ الْقَمَرِ .
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمَا : ابْنَا سَمِيرٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ جِبِلَّةٌ ، وَفِي اللَّيْلِ عَادَةٌ ، فَانْتَظَمَا ، وَعُبِّرَ عَنْهُمَا بِهِ ، وَقَدْ قَرَأَهُ أَبُو رَجَاءٍ سُمَّارًا جَمْعُ سَامِرٍ .
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ : إنَّمَا وَحَدّ سَامِرًا ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ يَعْنِي وَالْوَقْتُ وَاحِدٌ ، وَإِذَا خَرَجَ الْكَلَامُ عَنْ الْفَاعِلِ أَوْ الْفِعْلِ إلَى الْوَقْتِ وُحِّدَ لِيَدُلَّ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ بَابِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { تَهْجُرُونَ } : قُرِئَ بِرَفْعِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ ، وَبِنَصَبِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ ؛ فَالْأَوَّلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْجَرَ إذَا نَطَقَ بِالْفُحْشِ .
وَالثَّانِي مِنْ هَجَرَ إذَا هَذَى ، وَمَعْنَاهُ تَتَكَلَّمُونَ بِهَوَسٍ ، وَلَا يَضُرُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ إنَّمَا ضَرَرُهُ نَازِلٌ بِكُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ " هَجَرَ " فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .
وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، فَقَالَ : مُسْتَكْبِرِينَ بِحَرَمِي ، تَهْجُرُونَ نَبِيِّ وَزَادَ قَتَادَةُ أَنَّ سَامِرَ الْحَرَمِ آمِنٌ ، لَا يَخَافُ بَيَاتًا ، فَعَظَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ السَّمَرَ فِي الْأَمْنِ وَإِفْنَاءَهُ فِي سَبِّ الرَّسُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، إنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ قَوْمًا بِأَنَّهُمْ يَسْمُرُونَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ ،

إمَّا فِي هَذَيَانٍ ، وَإِمَّا فِي إذَايَةٍ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ وَغَيْرِهِ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا } يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ؛ أَمَّا الْكَرَاهِيَةُ لِلنَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَلِئَلَّا يُعَرِّضَهَا لِلْفَوَاتِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فِيهَا : " فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ " .
وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ السَّمَرِ بَعْدَهَا ؛ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ كَفَّرَتْ خَطَايَاهُ ، لِيَنَامَ عَلَى سَلَامَةٍ ، وَقَدْ خَتَمَ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ الْكَاتِبُ صَحِيفَتَهُ بِالْعِبَادَةِ ، فَيَمْلَؤُهَا بِالْهَوَسِ ، وَيَجْعَلُ خَاتَمَهَا الْبَاطِلَ أَوْ اللَّغْوَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا يُكْرَهُ السَّمَرُ بَعْدَهَا لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالسَّمَرَ بَعْدَ هَدْأَةِ الرِّجْلِ ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَبُثُّ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ ، أَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ ، وَخَمِّرُوا الْآنِيَةَ ، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ } .
وَكَانَ عُمَرُ يَجْدِبُ السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، أَيْ يَعِيبُهُ ، وَيَطُوفُ بِالْمَسْجِدِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، وَيَقُولُ : " الْحَقُوا بِرِحَالِكُمْ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكُمْ صَلَاةً فِي بُيُوتِكُمْ " وَقَدْ كَانَ يَضْرِب عَلَى السَّمَرِ حِينَئِذٍ وَيَقُولُ : " أَسَمَرًا أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَنَوْمًا آخِرَهُ ، أَرِيحُوا كِتَابَكُمْ " ، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَرَضَ بَيْتَ شِعْرٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يُصْبِحَ " وَأَسْنَدَهُ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ : بَابُ السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، وَذَكَرَ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ : انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ ، وَرَاثَ عَلَيْنَا ، حَتَّى جَاءَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ

قِيَامِهِ ، فَقَالَ : دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلَاءِ .
ثُمَّ قَالَ : قَالَ أَنَسٌ : انْتَظَرْنَا النَّبِيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى إذَا كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ ، فَجَاءَ فَصَلَّى ، ثُمَّ خَطَبَنَا ، فَقَالَ : { أَلَا إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَرَقَدُوا ، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلَاةَ } .
قَالَ الْحَسَنُ : " وَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ فِي خَيْرِ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ " .
ثُمَّ قَالَ : " بَابُ السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ " : وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ ، وَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ : { مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ } ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ ، وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ بِعَشْرَةٍ .
قَالَ : فَهُوَ وَأَنَا وَأَبِي وَأُمِّي ، وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ : وَامْرَأَتِي وَخَادِمٌ بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتْ الْعِشَاءُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ النَّبِيُّ ، فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ .
قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِك ؟ قَالَ : أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ ، قَالَتْ : أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ .
قَالَ : فَذَهَبْت أَنَا فَاخْتَبَأْتُ .
وَقَالَ : يَا غُنْثَرُ ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ ، وَقَالَ : " كُلُوا ، لَا هَنِيئًا ، وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا .
وَاَيْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا " .
قَالَ : وَشَبِعُوا ، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ .
فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ ، مَا هَذَا قَالَتْ : لَا ، وَقُرَّةِ عَيْنِي ، لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ مِرَارٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ ، وَقَالَ : إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ ، ثُمَّ

أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ، ثُمَّ حَمَلَهَا إلَى النَّبِيِّ ، فَأَصْبَحْت عِنْدَهُ ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ ، فَمَضَى الْأَجَلُ ، فَفَرَّقْنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ ، أَوْ كَمَا قَالَ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ السَّمَرِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ هَجْرِ الْقَوْلِ أَوْ لَغْوِهِ ، أَوْ لِأَجْلِ خَوْفِ فَوْتِ قِيَامِ اللَّيْلِ .
فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ هَذَا أَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَةٌ أَوْ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ فَلَا حَرَجَ فِيهِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَنْزَعِ الْآيَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخَذٌ آخَرُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : ادْفَعْ بِالْإِغْضَاءِ وَالصَّفْحِ إسَاءَةَ الْمُسِيءِ .
الثَّانِي : ادْفَعْ الْمُنْكَرَ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ .
الثَّالِثُ : ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ خَاصَّةٌ فِي الْعَفْوِ ، وَاَلَّتِي شَرَحْنَا الْكَلَامَ فِيهَا هَاهُنَا عَامَّةٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ حَسْبَمَا سَطَّرْنَاهُ آنِفًا ، وَهِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي الْكُفَّارِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ ، بَاقِيَةٌ فِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عُمُومِهَا ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا فَيُشِيرُ إلَى الْغَفْلَةِ وَحَسَنَتُهَا الذِّكْرُ ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ : أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً .
وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَتُوبُ إلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ادْفَعْ حَظَّ الدُّنْيَا إذَا زَحَمَ حَظَّ الْآخِرَةِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ وَحْدَهَا .
قَالَ لِي شِيحُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ : مَتَى اجْتَمَعَ لَك أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا لِلدُّنْيَا وَالْآخَرُ لِلَّهِ فَقَدِّمْ مَا لِلَّهِ فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ لَك جَمِيعًا .
وَإِنْ قَدَّمْت الدُّنْيَا رُبَّمَا فَاتَا مَعًا ، وَرُبَّمَا حَصَلَ حَظُّ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَارَكْ لَك فِيهِ .
وَلَقَدْ جَرَّبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ دَفْعُ الْجَفَاءِ ، لَا جَرَمَ ، كَذَلِكَ قَالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
وَفِقْهُ الْآيَةِ : اُسْلُكْ مَسْلَكَ الْكِرَامِ ، وَلَا تَلْحَظْ جَانِبَ الْمُكَافَأَةِ ، ادْفَعْ

بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَا تَسْلُكْ مَسْلَكَ الْمُبَايَعَةِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ : سَلِّمْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْكَ ، وَتَكْثُرُ الْأَمْثِلَةُ ، وَالْقَصْدُ مَفْهُومٌ ، فَاسْلُكُوهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْهُ ، كَمَا كَانَ يَسْتَغْفِرُ بَعْدَ إعْلَامِهِ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ ، تَحْقِيقًا لِلْمَوْعِدِ ، أَوْ تَأْكِيدًا لِلشَّرْطِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمْرُهُ [ لَنَا ] بِالِاسْتِعَاذَةِ عَامٌّ ، فَلَا جَرَمَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ ، حَتَّى عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، فَيَقُولُ : { أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ } .

سُورَةُ النُّورِ فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { سُورَةٌ } : يَعْنِي مُنَزَّلَةً وَمُرَتَّبَةٌ ؛ أَلَمْ تَرَوْا قَوْلَ الشَّاعِرِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِهَا ، وَقَرَأَهَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالنَّصْبِ ؛ وَهُوَ بَيِّنٌ ، فَأَمَّا الرَّفْعُ فَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : إنَّهَا عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ ، التَّقْدِيرُ هَذِهِ سُورَةٌ ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ قَبِيحٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ أَنَّهُ فَصِيحٌ مَلِيحٌ ، وَجِئْنَا فِيهِ بِالْمِثَالِ الصَّحِيحِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَرَضْنَاهَا } : يُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا ، فَمَنْ خَفَّفَ فَمَعْنَاهُ أَوْجَبْنَاهَا مُعَيَّنَةً مُقَدَّرَةً ، كَمَا قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
وَمَنْ شَدَّدَ فَمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا عَلَى مَعْنَى وَضَعْنَاهَا فَرَائِضَ فَرَائِضَ ، أَوْ فَرْضًا فَرْضًا ، كَمَا تَقُولُ : نَزَّلْت فُلَانًا ، أَيْ قَدَّرْت لَهُ الْمَنَازِلَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم : " فَنَزَّلَنِي زَيْدٌ " أَيْ رَتَّبَ لِي مَنَازِلَ كَثِيرَةً .
الثَّانِي : عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } فِيهَا حِجَجٌ وَتَوْحِيدٌ ، وَفِيهَا دَلَائِلُ الْأَحْكَامِ ، وَالْكُلُّ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ : حِجَجُ الْعُقُولِ تُرْشِدُ إلَى مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ ، وَدَلَائِلُ الْأَحْكَامِ تُرْشِدُ إلَى وَجْهِ الْحَقِّ ، وَتَرْفَعُ غُمَّةَ الْجَهْلِ ؛ وَهَذَا هُوَ شَرَفِ السُّورَةِ ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا وَقَعَ التَّحَدِّي بِهِ فِي سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ ، فَيَكُونُ شَرَفًا لِلنَّبِيِّ فِي الْوِلَايَةِ ، شَرَفًا لَنَا فِي الْهِدَايَةِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { الزَّانِيَةُ } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَدِّ الزِّنَا ، وَحَقِيقَتُهُ ، وَأَنَّهُ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ شَرْعًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ ، كَانَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ، فِي ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى .
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاسْمِ اللُّغَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ كَانَ بِأَنَّ اللِّوَاطَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَحَسَنٌ أَيْضًا ، وَلَا مُبَالَاةَ كَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْرُ عَلَيْكُمْ ، فَقَدْ أَحْكَمْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَحَقَقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِأَدِلَّتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ إعْرَابًا وَقِرَاءَةً وَمَعْنًى ، كِفَّةً كِفَّةً ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } فَذَكَرَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فِيهِ ، وَالزَّانِي كَانَ يَكْفِي عَنْهُ .
قُلْنَا : هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ ، كَمَا قَالَ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فِي الزِّنَا لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْوَاطِئُ وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّ ذِكْرِهِمَا دَفْعًا لِهَذَا الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْقَع جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى قَالُوا : لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : جَامَعْت أَهْلِي فِي رَمَضَانَ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَفِّرْ " .
وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِمُجَامِعَةٍ وَلَا وَاطِئَةٍ ، وَهَذَا تَقْصِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَأَنَّهَا تَتَّصِفُ بِالْوَطْءِ ، فَكَيْفَ بِالْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ مُفَاعَلَةٌ ، هَذَا مَا لَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } فَبَدَأَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَ الرَّجُلِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ذَلِكَ لِفَائِدَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الزِّنَا فِي الْمَرْأَةِ أَعَرُّ لِأَجْلِ الْحَمْلِ ، فَصَدَّرَ بِهَا لِعِظَمِ حَالِهَا فِي الْفَاحِشَةِ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ ، فَصَدَّرَ بِهَا تَغْلِيظًا لِرَدْعِ شَهْوَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَكَّبَ فِيهَا حَيَاءً ، وَلَكِنَّهَا إذَا زَنَتْ ذَهَبَ الْحَيَاءُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } جَعَلَ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ حَدَّ الزِّنَا قِسْمَيْنِ : رَجْمًا عَلَى الثَّيِّبِ ، وَجَلْدًا عَلَى الْبِكْرِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } عَامٌّ فِي كُلِّ زَانٍ ، ثُمَّ شَرَحَتْ السُّنَّةُ حَالَ الثَّيِّبِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ } .
فَقَالَ سُنَّةً ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَلْدَ قُرْآنًا ، وَبَقِيَ الرَّجْمُ عَلَى حَالِهِ فِي الثَّيِّبِ ، وَالتَّغْرِيبُ فِي الْبِكْرِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَالِكَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْأَمْرِ بِالْجَلْدِ الْإِمَامُ ، وَمَنْ نَابَ عَنْهُ ، وَزَادَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : السَّادَةُ فِي الْعَبِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي كُلِّ جَلْدٍ وَقَطْعٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : فِي الْجَلْدِ خَاصَّةً دُونَ الْقَطْعِ ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : { لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } فَتُسْقِطُوا الْحَدَّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : { لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } فَتُخَفِّفُوا الْحَدَّ ؛ وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَحْمِلَ أَحَدًا رَأْفَةٌ عَلَى زَانٍ بِأَنْ يُسْقِطَ الْحَدَّ أَوْ يُخَفِّفَهُ عَنْهُ .
وَصِفَةُ الضَّرْبِ أَنْ يَكُونَ سَوْطًا بَيْنَ السَّوْطَيْنِ ، وَضَرْبًا بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ ، وَتَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحُدُودُ كُلُّهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا سَوَاءٌ بَيْنَ الْحُدُودِ ، ضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَذْفِ ، وَضَرْبُ الْقَذْفِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا صُورَةَ الذَّنْبِ ، فَرَكَّبُوا عَلَيْهِ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ ، وَالشُّرْبُ أَخَفُّ مِنْ الْقَذْفِ ، وَالْقَذْفُ أَخَفُّ مِنْ الزِّنَا ؛ فَحَمَلُوهُ عَلَيْهِ وَقَرَنُوهُ بِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ أَصَابَ حَدًّا ، وَأُتِيَ بِسَوْطٍ شَدِيدٍ ، فَقَالَ : دُونَ هَذَا .
وَأُتِيَ بِسَوْطٍ دُونَهُ ، فَقَالَ : فَوْقَ هَذَا } .
وَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ الْحَدَّ ، فَقَالَ لَهُ : " لَا تَرْفَعْ إبِطَكَ " .
وَعَنْهُ : أَنَّهُ اخْتَارَ سَوْطًا بَيْنَ السَّوْطَيْنِ .
وَيُفَرَّقُ عَلَيْهِ الضَّرْبُ فِي ظَهْرِهِ ، وَتُجْتَنَبُ مَقَاتِلُهُ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَهَذَا مَا لَمْ يَتَتَابَعْ النَّاسُ فِي الشَّرِّ ، وَلَا احْلَوْلَتْ لَهُمْ الْمَعَاصِي ، حَتَّى يَتَّخِذُوهَا ضَرَاوَةً ، وَيَعْطِفُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ بِالْهَوَادَةِ ، فَلَا يَتَنَاهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ؛ فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الشِّدَّةُ ، وَيَزِيدُ الْحَدُّ ، لِأَجْلِ زِيَادَةِ الذَّنْبِ .
وَقَدْ أُتِيَ عُمَرُ بِسَكْرَانٍ فِي رَمَضَانَ ، فَضَرَبَهُ مِائَةً : ثَمَانِينَ حَدُّ الْخَمْرِ ، وَعِشْرِينَ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ ؛ فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ تَتَرَكَّبَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى تَغْلِيظِ الْجِنَايَاتِ ، وَهَتْكِ الْحُرُمَاتِ .
وَقَدْ لَعِبَ رَجُلٌ بِصَبِيٍّ ،

فَضَرَبَهُ الْوَالِي ثَلَاثَمِائَةِ سَوْطٍ ، فَلَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ مَالِكًا حِينَ بَلَغَهُ ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ وَالِاسْتِهْتَارِ بِالْمَعَاصِي ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَنَاكِرِ ، وَبَيْعِ الْحُدُودِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْعَبِيدِ لَهَا فِي مَنْصِبِ الْقُضَاةِ ؟ ؛ لَمَاتَ كَمِدًا ، وَلَمْ يُجَالِسْ أَحَدًا ؛ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
وَفِقْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الْمَحْدُودَ ، وَمَنْ شَهِدَهُ وَحَضَرَهُ يَتَّعِظُ بِهِ وَيَزْدَجِرُ لِأَجْلِهِ ، وَيَشِيعُ حَدِيثُهُ ؛ فَيَعْتَبِرُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ الطَّائِفَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : وَاحِدٌ ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ .
الثَّانِي : رَجُلَانِ فَصَاعِدًا ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ .
الثَّالِثُ : ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ؛ قَالَهُ قَوْمٌ .
الرَّابِعُ : أَرْبَعَةٌ فَصَاعِدًا ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ عَشْرَةٌ .
وَحَقِيقَةُ الطَّائِفَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ فَاعِلَةٌ مِنْ طَافَ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } .
وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي الْوَاحِدِ .
وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، إلَّا أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ هَاهُنَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّشْدِيدِ وَالْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ .
وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَى أَنْ تَكُونَ أَرْبَعَةً نَزَعَ بِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدِ شُهُودِهِ .
وَالصَّحِيحُ سُقُوطُ الْعَدَدِ ، وَاعْتِبَارُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ بِهِمْ التَّشْدِيدُ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي وَجْهِ نُزُولِهَا : فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : { أَنَّهَا نَزَلَتْ مَخْصُوصَةً فِي رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَهْزُولٍ ، كَانَتْ مِنْ بَغَايَا الزَّانِيَاتِ ، وَشَرَطَتْ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ ، وَكَانَ رَجُلًا يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ قَالَ : وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ ، وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ ، وَأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ رَجُلًا مِنْ أَسَارَى مَكَّةَ يَحْمِلُهُ قَالَ : فَجِئْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى ظِلِّ حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ .
قَالَ : فَجَاءَتْ عَنَاقُ فَأَبْصَرْت سَوَادَ ظِلِّي بِجَنْبِ الْحَائِطِ ، فَلَمَّا انْتَهَتْ إلَيَّ عَرَفَتْنِي ، فَقَالَتْ : مَرْثَدٌ ، فَقُلْت : مَرْثَدٌ ، فَقَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا .
هَلُمَّ ، فَبِتْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ ، فَقُلْت : يَا عَنَاقُ ؛ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَا قَالَتْ : يَا أَهْلَ الْخِيَامِ ؛ هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ ، فَتَبِعَنِي ثَمَانِيَةٌ ، وَسَلَكْت الْخَنْدَمَةَ ، فَانْتَهَيْت إلَى غَارٍ ، فَدَخَلْت فَجَاءُوا حَتَّى قَامُوا عَلَى رَأْسِي ، فَبَالُوا فَتَطَايَرَ بَوْلُهُمْ عَلَى رَأْسِي ، وَعَمَّاهُمْ اللَّهُ عَنِّي .
قَالَ : ثُمَّ رَجَعُوا ، وَرَجَعْت إلَى صَاحِبِي فَحَمَلْتُهُ ، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا ، حَتَّى انْتَهَيْت إلَى الْإِذْخِرِ ، فَفَكَكْت عَنْهُ كَبْلَهُ ، فَجَعَلْت أَحْمِلَهُ ، وَيُعِينُنِي ، حَتَّى قَدِمْت الْمَدِينَةَ ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْكِحُ عَنَاقًا ، فَأَمْسَكَ

رَسُولُ اللَّهِ فَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا مَرْثَدُ ، الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ إلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَلَا تَنْكِحْهَا } .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ ، وَكَانُوا قَوْمًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِالْمَدِينَةِ مَسَاكِنُ وَلَا عَشَائِرُ ، فَنَزَلُوا صُفَّةَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ يَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ بِالنَّهَارِ ، وَيَأْوُونَ إلَى الصُّفَّةِ بِاللَّيْلِ ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ بَغَايَا مُتَعَالِنَاتٌ بِالْفُجُورِ ، مَخَاصِيبُ بِالْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ ، فَهَمَّ أَهْلُ الصُّفَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ ، فَيَأْوُوا إلَى مَسَاكِنِهِنَّ ، وَيَأْكُلُوا مِنْ طَعَامِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ ؛ قَالَهُ ابْنُ أَبِي صَالِحٍ .
وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَزَادَ : أَنَّهُنَّ كُنَّ يُدْعَيْنَ الْجَهَنَّمِيَّاتُ ، نِسْبَةً إلَى جَهَنَّمَ .
الرَّابِعُ : مَعْنَاهُ الزَّانِي لَا يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ ، وَالزَّانِيَةُ لَا تَزْنِي إلَّا بِزَانٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً مَحْدُودَةً ، وَلَا يَنْكِحُ الزَّانِيَةَ الْمَحْدُودَةَ إلَّا زَانٍ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرهمَا .
السَّادِسُ : أَنَّهُ عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عَلَى الْعَفِيفِ ، وَالْعَفِيفِ عَلَى الزَّانِيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ الْخَبَرِ ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَاهُ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَشَرَحْنَاهُ ، رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْخَبَرَ يَرِدُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً .

وَنَحْنُ نَرَى الزَّانِيَ يَنْكِحُ الْعَفِيفَةَ .
وَقَالَ أَيْضًا : وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ، وَنَحْنُ نَرَى الزَّانِيَةَ يَنْكِحُهَا الْعَفِيفُ ، فَكَيْفَ يُوجَدُ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ ؟ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ ، وَقَوْلُهُ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مُخْبِرُهُ بِخِلَافِ خَبَرِهِ ؛ وَلِهَذَا أَخَذَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مَآخِذَ مُتَبَايِنَةً ، وَلَمْ أَسْمَعْ لِمَالِكٍ فِيهَا كَلَامًا .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا زَنَى بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا أَنَّهُمَا زَانِيَانِ ، مَا عَاشَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وَآخِرُهُ نِكَاحٌ " .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَهُ .
وَقَالَ : " هَذَا مِثْلُ رَجُلٍ سَرَقَ ثَمَرَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا " ، وَأَخَذَ مَالِكٌ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَرَأَى أَنَّهُ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَاءَ الزِّنَا وَإِنْ كَانَ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، فَمَاءُ النِّكَاحِ لَهُ حُرْمَةٌ ، وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُصَبَّ عَلَى مَاءِ السِّفَاحِ ، فَيُخْلَطُ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ ، وَيُمْزَجُ مَاءُ الْمَهَانَةِ بِمَاءِ الْعِزَّةِ ؛ فَكَانَ نَظَرُ مَالِكٍ أَشَدَّ مِنْ نَظَرِ سَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْبَغَايَا فَظَاهِرٌ فِي الرِّوَايَةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الزَّانِيَ الْمَحْدُودَ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ زِنَاهُ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً مَحْدُودَةً ، فَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَأَسْنَدَهُ قَوْمٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ نَظَرًا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلًا .
وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُوقَفَ نِكَاحُ مَنْ حُدَّ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى نِكَاحِ مَنْ حُدَّ مِنْ النِّسَاءِ ؛ فَبِأَيِّ أَثَرٍ يَكُونُ ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ يُقَاسُ مِنْ الشَّرِيعَةِ ؟ وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ ، كَمَا قَالَ ابْنُ

عَبَّاسٍ ، أَوْ الْعَقْدُ ؟ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَطْءُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ زِنًا إلَّا بِزَانِيَةٍ ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ الْوَطْأَيْنِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ زِنًا مِنْ الْجِهَتَيْنِ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَطْءَ الزِّنَا لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ ، وَهَذَا يُؤْثَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ ؟ وَكَذَلِكَ هُوَ .
قُلْنَا : عَلِمْنَاهُ كَذَلِكَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ ، فَهُوَ أَحَدُ أَدِلَّتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا بَالِغٌ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ عَاقِلٌ بِمَجْنُونَةٍ ، أَوْ مُسْتَيْقِظٌ بِنَائِمَةٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ زِنًا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ زِنًا ، فَهَذَا زَانٍ يَنْكِحُ غَيْرَ زَانِيَةٍ ، فَيَخْرُجُ الْمُرَادُ عَنْ بَابِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ .
قُلْنَا : هُوَ زِنًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ ، وَالْآخَرُ ثَبَتَ فِيهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ أَرَدْنَا بِهِ الْعَقْدَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الزَّانِيَةَ زَانٍ ، أَوْ يَتَزَوَّجَ زَانٍ الزَّانِيَةَ ، وَتَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَرَحِمُهَا مَشْغُولٌ بِالْمَاءِ الْفَاسِدِ .
الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ قَدْ اُسْتُبْرِئَتْ .
فَإِنْ كَانَ رَحِمُهَا مَشْغُولًا بِالْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ زِنًا ، لَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ .
وَأَمَّا إنْ اُسْتُبْرِئَتْ فَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الْمَسْجِدِ إذْ جَاءَ رَجُلٌ فَلَاثَ عَلَيْهِ لَوْثًا مِنْ كَلَامٍ وَهُوَ دَهِشٌ ، فَقَالَ لِعُمَرَ : " قُمْ فَانْظُرْ فِي شَأْنِهِ ، فَإِنَّ لَهُ شَأْنًا " .
فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ ، فَقَالَ : " إنَّ ضَيْفًا ضَافَهُ فَزَنَى بِابْنَتِهِ " فَضَرَبَ عُمَرُ فِي صَدْرِهِ .
وَقَالَ : " قَبَّحَكَ اللَّهُ ، أَلَا سَتَرْتَ عَلَى ابْنَتِكَ " ، فَأَمَرَ بِهِمَا أَبُو بَكْرٍ فَضُرِبَا الْحَدَّ ، ثُمَّ زَوَّجَ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمَا أَنْ يُغَرَّبَا حَوْلًا .
وَقَدْ رَوَى

نَافِعٌ أَنَّ رَجُلًا اسْتَكْرَهَ جَارِيَةً فَافْتَضَّهَا ، فَجَلَدَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَمْ يَجْلِدْهَا ، وَنَفَاهُ سَنَةً ، ثُمَّ جَاءَ فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا بَعْد ذَلِكَ ، وَجَلَدَهُ عُمَرُ وَنَفَى أَحَدَهُمَا إلَى خَيْبَرَ ، وَالْآخَرُ إلَى فَدَكَ .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَجُلًا فَجَرَ بِامْرَأَةٍ وَهُمَا بِكْرَانِ ، فَجَلَدَهُمَا أَبُو بَكْرٍ ، وَنَفَاهُمَا ، ثُمَّ زَوَّجَهُ إيَّاهَا مِنْ بَعْدِ الْحَوْلِ .
وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَأَشْبَهُ بِالنَّظَرِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوَاجُ بَعْدَ تَمَامِ التَّغْرِيبِ وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ .
قَالَ : نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ عَامٌّ وَبَيَانٌ لِمُحْتَمَلٍ ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْأَلْفَاظُ وَتَوْجِيهٌ لِأُصُولٍ ، مَنْ فَسَّرَ النِّكَاحَ بِالْوَطْءِ أَوْ بِالْعَقْدِ وَتَرْكِيبُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } .
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ } .
يُرِيدُ يَشْتُمُونَ .
وَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الرَّمْيِ ، لِأَنَّهُ إذَايَةٌ بِالْقَوْلِ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ الْقَذْفُ .
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءِ ، وَقَالَ أَبُو كَبْشَةَ : وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ : رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْت مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ } مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ مَوْضِعَ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالزَّانِي سَوَاءٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { الْمُحْصَنَاتِ } قَدْ بَيَّنَّا الْإِحْصَانَ وَأَقْسَامَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَقُلْنَا : إنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعِفَّةِ ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِفَّةُ هَاهُنَا .
وَشُرُوطُ الْقَذْفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تِسْعَةٌ : شَرْطَانِ فِي الْقَاذِفِ ، وَشَرْطَانِ فِي الْمَقْذُوفِ بِهِ ، وَخَمْسَةٌ فِي الْمَقْذُوفِ .
فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ فِي الْقَاذِفِ : فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ .
وَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَقْذُوفِ مِنْهُ : فَهُوَ أَنْ يَقْذِفَهُ بِوَطْءٍ يَلْزَمُهُ فِيهِ الْحَدُّ ، وَهُوَ الزِّنَا أَوْ اللِّوَاطُ ، أَوْ يَنْفِيهِ مِنْ أَبِيهِ ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي .
وَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي فِي الْمَقْذُوفِ فَهِيَ : الْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْإِسْلَامُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْعِفَّةُ عَنْ الْفَاحِشَةِ الَّتِي رُمِيَ بِهَا كَانَ عَفِيفًا عَنْ غَيْرِهَا أَوْ لَا .
فَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي الْقَاذِفِ ؛ فَلِأَنَّهُمَا أَصْلَا التَّكْلِيفِ ؛ إذْ التَّكْلِيفُ سَاقِطٌ دُونَهُمَا ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَاهُمَا فِي الْمَقْذُوفِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي مَعَانِي الْإِحْصَانِ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْإِذَايَةِ بِالْمَعَرَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ ، وَلَا مَعَرَّةَ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ ؛ إذْ لَا يُوصَفُ الْوَطْءُ فِيهِمَا وَلَا مِنْهُمَا بِأَنَّهُ زِنًا .
وَأَمَّا شُرُوطُ الْإِسْلَامِ فِيهِ ؛ فَلِأَنَّهُ مِنْ مَعَانِي الْإِحْصَانِ وَأَشْرَفِهَا ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلِأَنَّ عِرْضَ الْكَافِرَ لَا حُرْمَةَ لَهُ يَهْتِكُهَا الْقَذْفُ ، كَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ لَا حُرْمَةَ لِعِرْضِهِ ؛ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ عَلَى الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ .
وَأَمَّا شَرَفُ الْعِفَّةِ ؛ فَلِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَاحِقَةٌ بِهِ ، وَالْحُرْمَةُ ذَاهِبَةٌ ، وَهِيَ مُرَادَةٌ هَاهُنَا إجْمَاعًا .
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّمَا شَرَطْنَاهَا لِأَجْلِ نُقْصَانِ عِرْضِ الْعَبْدِ عَنْ عِرْضِ الْحُرِّ ، بِدَلِيلِ نُقْصَانِ حُرْمَةِ دَمِهِ عَنْ دَمِهِ ؛ وَلِذَلِكَ

لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمُرَادُ بِالرَّمْيِ هَاهُنَا التَّعْبِيرُ بِالزِّنَا خَاصَّةً ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك } وَالنُّكْتَةُ الْبَدِيعَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ، وَاَلَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ هُوَ الزِّنَا ؛ وَهَذَا قَاطِعٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { يَرْمُونَ } اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا وَذَنْبًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ ؛ فَإِنَّ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ ، فَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ قَذْفٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِقَذْفٍ .
وَمَالِكٌ أَسَدُّ طَرِيقَةٍ فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ قَوْلٌ يَفْهَمُ مِنْهُ سَامِعُهُ الْحَدَّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا ، كَالتَّصْرِيحِ .
وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ : { إنَّك لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } وَقَالَ فِي أَبِي جَهْلٍ : { ذُقْ إنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } وَهَذَا ظَاهِرٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قَالَ لَهُ : يَا مَنْ وَطِئَ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : فِيهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا حَدَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يُعَدُّ زِنًا إجْمَاعًا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : أَصْوَبُ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيضِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَ بِقَذْفٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا ؛ إذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا .
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ تَعْيِيرٌ تَامٌّ بِوَطْءٍ كَامِلٍ ، فَكَانَ قَذْفًا .
وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ ، لَكِنْ مَالِكٌ غَلَّبَ حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ ، وَغَيْرُهُ رَاعَى حِمَايَةَ طُهْرِ الْقَاذِفِ .
وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرْفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } كَثَّرَ اللَّهُ عَدَدَ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ رَغْبَةً فِي السَّتْرِ عَلَى الْخَلْقِ ، وَحَقَّقَ كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى رَبَطَ أَنْ يَقُولَ : رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا ؛ أَيْ الْمِرْوَدَ فِي الْمُكْحُلَةِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ قَبْلُ .
فَلَوْ قَالُوا : رَأَيْنَاهُ يَزْنِي بِهَا الزِّنَا الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يَكُونُونَ قَذَفَةً .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إذَا كَانُوا فُقَهَاءَ وَالْقَاضِي فَقِيهًا كَانَتْ شَهَادَةً .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ تَعَبُّدٌ ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ تَعَبُّدٌ ، وَصِفَتُهَا تَعَبُّدٌ ، فَلَا يُبَدَّلَ شَيْءٌ مِنْهَا بِغَيْرِهِ ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إنَّ مِنْ شَرْطِ أَدَاءِ الشُّهُودِ لِلشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ افْتَرَقُوا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ تَعَبُّدٌ ، وَرَأَى عَبْدُ الْمَلِكِ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ وَاجْتِمَاعِهَا ؛ وَهُوَ أَقْوَى .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ : { الْمُحْصَنَاتِ } قِيلَ : هُوَ وَصْفٌ لِلنِّسَاءِ ، وَلَحِقَ بِهِنَّ الرِّجَالُ ، وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ إلْحَاقِ الرِّجَالِ بِهِنَّ ؛ فَقِيلَ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِنَّ ؛ كَمَا أُلْحِقَ ذُكُورُ الْعَبِيدِ بِإِمَائِهِمْ فِي تَشْطِيرِ الْحَدِّ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ ، وَمَذْهَبُ لِسَانِ الْأُمَّةِ .
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : لَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ قَبْلَ النَّظَرِ إلَى عِلَّتِهِ ، وَجُعِلَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إلْحَاقُ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي قَوْلِهِ : " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ [ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ قَدْرُ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ ] قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ " .
فَهَذَا إذَا سَمِعَهُ كُلُّ أَحَدٍ عَلِمَ أَنَّ الْأَمَةَ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِرَاكِ فِي حُكْمِ السِّرَايَةِ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { الْمُحْصَنَاتِ } الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ .
وَهَذَا كَلَامُ مَنْ جَهِلَ الْقِيَاسَ وَفَائِدَتَهُ ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ أَصْلَ الدِّينِ وَقَاعِدَتَهُ .
وَالصَّحِيحُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُمَا ، مِنْ أَنَّهُ قِيَاسٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قِيلَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ رَمَوْا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا جَرَمَ جَلَدَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي سَائِرِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { فَاجْلِدُوهُمْ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَدٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ كَالزِّنَا ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَقْذُوفِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
الثَّالِثُ : قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ : فِي حَدِّ الْقَذْفِ شَائِبَتَانِ ؛ شَائِبَةُ حَقِّ اللَّهِ وَهِيَ الْمُغَلَّبَةُ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ : شَائِبَةُ حَقِّ الْعَبْدِ هِيَ الْمُغَلَّبَةُ .
وَلِهَذَا الشَّوْبِ اضْطَرَبَ فِيهِ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، أَصْلُهُ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ فَكَانَ كَالزِّنَا .
قُلْنَا : يَبْطُلُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ ، فَلَا يَنْكِحُ الْعَبْدُ إلَّا اثْنَتَيْنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنَا ، وَعِنْدَهُمْ هُوَ حَثُّ الْآدَمِيِّ ، فَيَبْطُلُ مَا قَالُوهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : أَنَّهُ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ .
وَلَعَلَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ ذَلِكَ إذَا سَمِعَهُ الْإِمَامُ بِمَحْضَرِ عُدُولِ الشُّهُودِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَظْهَرَ .
وَلَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُجَّةِ الْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ لَا أَحَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عِنْدِي إثْبَاتَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ ، فَإِنْ ادَّعَى سَجَنَهُ ، وَلَمْ يُحَدَّ بِحَالٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُحَدُّ الْعَبْدُ ثَمَانِينَ بِعُمُومِ الْآيَةِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهُ حَدٌّ فَلْيَتَشَطَّرْ بِالرِّقِّ ، كَحَدِّ الزِّنَا ، وَخَصُّوا الْأَمَةَ بِالْقِيَاسِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } عَلَّقَ اللَّهُ عَلَى الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ : الْحَدَّ ، وَرَدَّ الشَّهَادَةِ ، وَالتَّفْسِيقَ ؛ تَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ ، وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ ، وَقُوَّةً فِي الرَّدْعِ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : بَلْ رَدُّهَا مِنْ عِلَّةِ الْفِسْقِ ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ زَالَ رَدُّ الشَّهَادَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْفِسْقَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهَا مِنْ جُمْهُورِ النَّاسِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا قَذَفَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا ، لَا قَبْلَ الْحَدِّ وَلَا بَعْدَهُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ ، وَلَا تُقْبَلُ بَعْدَهُ ؛ وَإِنْ تَابَ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ ، وَلَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ .
وَقَدْ حَقَقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَأَوْضَحْنَا سَبِيلَ النَّحْوِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْمُلْجِئَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ ، وَيَرَى أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وِلَايَةٌ قَدْ زَالَتْ بِالْقَذْفِ ، وَجُعِلَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهَا فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ، وَهِيَ اللِّسَانُ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا .
وَقُلْنَا نَحْنُ : إنَّهَا حُكْمٌ عِلَّتُهُ الْفِسْقُ ، فَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ كَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ ، فَيَقُولُ :

أَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِفُلَانَةَ .
وَنَصُّ الْحَادِثَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ : كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يُبَاغِي أَبَا بَكْرَةَ وَيُنَافِرُهُ ، وَكَانَا بِالْبَصْرَةِ مُتَجَاوِرَيْنِ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ ، وَكَانَا فِي مَشْرُبَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ فِي دَارَيْهِمَا ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُوَّةٌ تُقَابِلُ الْأُخْرَى ، فَاجْتَمَعَ إلَى أَبِي بَكْرَةَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي مَشْرُبَتِهِ ، فَهَبَّتْ رِيحٌ ، فَفَتَحَتْ بَابَ الْكُوَّةِ فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيَصْفِقَهُ ، فَبَصَرَ بِالْمُغِيرَةِ وَقَدْ فَتَحَتْ الرِّيحُ بَابَ الْكُوَّةِ فِي مَشْرُبَتِهِ وَهُوَ بَيْنَ رِجْلَيْ امْرَأَةٍ قَدْ تَوَسَّطَهَا ، فَقَالَ لِلنَّفَرِ : قُومُوا فَانْظُرُوا ، ثُمَّ اشْهَدُوا ؛ فَقَامُوا فَنَظَرُوا ، فَقَالُوا : وَمَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ هَذِهِ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ الْأَرْقَمِ .
وَكَانَتْ أُمُّ جَمِيلٍ غَاشِيَةً لِلْمُغِيرَةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ ، وَكَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي زَمَانِهَا ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى الصَّلَاةِ حَالَ أَبُو بَكْرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : لَا تُصَلِّ بِنَا ، فَكَتَبُوا إلَى عُمَرَ بِذَلِكَ ، فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى وَاسْتَعْمَلَهُ ، وَقَالَ لَهُ : إنِّي أَبْعَثُكَ إلَى أَرْضٍ قَدْ بَاضَ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ ؛ فَالْزَمْ مَا تَعْرِفُ ، وَلَا تُبَدَّلْ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ بِك .
فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ أَعِنِّي بِعِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ فَإِنِّي وَجَدْتُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كَالْمِلْحِ لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إلَّا بِهِ .
قَالَ : فَاسْتَعِنْ بِمَنْ أَحْبَبْت .
فَاسْتَعَانَ بِتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا ، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ .
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو مُوسَى ، حَتَّى أَنَاخَ بِالْبَصْرَةِ ، وَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ إقْبَالُهُ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا جَاءَ أَبُو مُوسَى

زَائِرًا وَلَا تَاجِرًا ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ أَمِيرًا .
ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى فَدَفَعَ إلَى الْمُغِيرَةِ كِتَابَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ : أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ عَظِيمٌ ، فَبَعَثْت أَبَا مُوسَى أَمِيرًا ؛ فَسَلِّمْ إلَيْهِ مَا فِي يَدَيْك ، وَالْعَجَلَ .
فَأَهْدَى الْمُغِيرَةُ لِأَبِي مُوسَى وَلِيدَةً مِنْ وَلِيدَاتِ الطَّائِفِ تُدْعَى عَقِيلَةُ ، وَقَالَ لَهُ : إنِّي قَدْ رَضِيتهَا لَك .
وَكَانَتْ فَارِهَةً .
وَارْتَحَلَ الْمُغِيرَةُ وَأَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ ، وَزِيَادٌ ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِعُمَرَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ سَلْ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدِ كَيْف رَأَوْنِي مُسْتَقْبِلَهُمْ أَوْ مُسْتَدْبِرَهُمْ ، وَكَيْف رَأَوْا الْمَرْأَةَ ، وَهَلْ عَرَفُوهَا ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَقْبِلِيَّ فَكَيْفَ لَمْ أَسْتَتِرْ ، أَوْ مُسْتَدْبِرِيَّ فَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَلُّوا النَّظَرَ إلَيَّ عَلَى امْرَأَتِي ، وَاَللَّهِ مَا أَتَيْت إلَّا زَوْجَتِي ، وَكَانَتْ تُشْبِهُهَا .
فَبَدَأَ بِأَبِي بَكْرَةَ ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ بَيْنَ رِجْلَيْ أُمِّ جَمِيلٍ ، وَهُوَ يُدْخِلُهُ وَيُخْرِجُهُ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ .
قَالَ : وَكَيْفَ رَأَيْتَهُمَا ؟ قَالَ : مُسْتَدْبِرُهُمَا .
قَالَ : وَكَيْفَ اسْتَثْبَتَّ رَأْسَهَا ؟ قَالَ : تَحَامَلْتُ حَتَّى رَأَيْتُهَا .
ثُمَّ دَعَا بِشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ ، فَشَهِدَ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَشَهِدَ نَافِعٌ بِمِثْلِ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ ؛ وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : رَأَيْته جَالِسًا بَيْنَ رِجْلَيْ امْرَأَةٍ .
فَرَأَيْت قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ تَخْفِقَانِ ، وَاسْتَيْنِ مَكْشُوفَيْنِ ، وَسَمِعْت حَفَزَانًا شَدِيدًا .
قَالَ : هَلْ رَأَيْت كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَهَلْ تَعْرِفُ الْمَرْأَةَ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ أُشَبِّهُهَا .
قَالَ لَهُ : تَنَحَّ .
وَأَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَجُلِدُوا الْحَدَّ ، وَقَرَأَ : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ }

.
قَالَ الْمُغِيرَةُ : اشْفِنِي مِنْ الْأَعْبُدِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ لَهُ : اُسْكُتْ ، أَسْكَتَ اللَّهُ نَأْمَتَك ، أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ .
وَرَدَّ عُمَرُ شَهَادَةَ أَبِي بَكْرَةَ ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ ، فَيَأْبَى حَتَّى كَتَبَ عَهْدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ : هَذَا مَا عَهِدَ بِهِ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِجَارِيَةِ بَنِي فُلَانٍ .
وَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ حِينَ لَمْ يَفْضَحْ الْمُغِيرَةَ .
وَرُوِيَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا أَدَّوْا الشَّهَادَةَ عَلَى الْمُغِيرَةِ ، وَتَقَدَّمَ زِيَادٌ آخِرُهُمْ قَالَ لَهُ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ : إنِّي لَأَرَاك حَسَنَ الْوَجْهِ .
وَإِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْك رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ مَا قَالَ .
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلُ ظُهُورِ زِيَادٍ ، فَلَيْتَهُ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَا زَادَ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ حَتَّى خَتَمَ الْحَالَ بِغَايَةِ الْفَسَادِ .
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ قَضَاءً ظَاهِرًا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْقَذَفَةِ ، إذَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ ؛ وَفِي قَبُولِهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْأُصُولِ .
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } ، وَقَالُوا : إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ، مَا عَدَا إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَإِنَّهُ سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ .
وَالصَّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى الْجَمِيعِ لُغَةً وَشَرِيعَةً ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ

عَظِيمٌ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَذِهِ الْآيَةُ أُخْتُهَا وَنَظِيرَتُهَا فِي الْمَقْصُودِ .
وَأَمَّا قَبُولُ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحَدِّ ؛ فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَحَالُهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْكَذِبِ السَّالِبِ لِلْعَدَالَةِ ، وَبَيْنَ الصِّدْقِ الْمُصَحِّحِ لَهَا ، فَلَا يَسْقُطُ يَقِينٌ لَهُ بِمُحْتَمَلِ مَقَالِهِ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ مَقَالَةِ شُرَيْحٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لَهُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ وَغَيْرِهِنَّ ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَلْقِ فِي التَّكَلُّمِ بِحَالِ الزَّوْجَاتِ جَعَلَ لَهُمْ مَخْلَصًا مِنْ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } .
قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : أَهَكَذَا نَزَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ لَوْ أَتَيْت لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهَيِّجَهُ وَأُخْرِجَهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، فَوَاَللَّهِ مَا كُنْت لِآتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؛ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ ؟ قَالُوا : لَا تَلُمْهُ ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ ، مَا تَزَوَّجَ فِينَا قَطُّ إلَّا عَذْرَاءَ ، وَلَا طَلَّقَ امْرَأَةً قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .
قَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ بِأَبِي وَأُمِّي ، وَاَللَّهِ لَأَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ ، وَأَنَّهَا الْحَقُّ .
فَوَاَللَّهِ مَا لَبِثُوا إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ حَدِيقَةٍ لَهُ ، فَرَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ ، فَأَمْسَكَ حَتَّى أَصْبَحَ ، ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي جِئْت أَهْلِي عِشَاءً ، فَرَأَيْت رَجُلًا مَعَ أَهْلِي ، رَأَيْت بِعَيْنِي وَسَمِعْت بِأُذُنِي .
فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ مَا أَتَاهُ ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ جِدًّا ، حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَ هِلَالٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي أَرَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِك مِمَّا أَتَيْتُك بِهِ ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ ؛ وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فَرَجًا .
فَقَالُوا : اُبْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدٌ ، أَيُجْلَدُ هِلَالٌ ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ ؟ فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ بِضَرْبِهِ ، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الْآيَاتِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَبْشِرْ يَا هِلَالُ ، إنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَك فَرَجًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْسِلُوا إلَيْهِمَا فَلَمَّا اجْتَمَعَا قِيلَ لَهَا فَكَذَّبَتْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ ، فَهَلْ فِيكُمَا تَائِبٌ فَقَالَ هِلَالٌ : لَقَدْ صَدَقْت ، وَمَا قُلْت إلَّا حَقًّا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا .
قِيلَ لِهِلَالٍ : اشْهَدْ ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ .
فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ : يَا هِلَالُ ؛ اتَّقِ اللَّهَ ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ وَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعُقُوبَةَ .
فَقَالَ هِلَالٌ : وَاَللَّهِ مَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ .
ثُمَّ قِيلَ لَهَا : تَشْهَدِي ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ .
ثُمَّ قِيلَ لَهَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ : اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَتْ

: وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي ، فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ .
فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لَهَا ، وَلَا يُدْعَى لِأَبِيهِ ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا .
} وَفِي رِوَايَةٍ : { قِيلَ لِهِلَالٍ : إنْ قَذَفْت امْرَأَتَك جُلِدْت ثَمَانِينَ .
قَالَ : اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ } وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي قَدْ رَأَيْت حَتَّى اسْتَيْقَنْتُ ، وَسَمِعْتُ حَتَّى اسْتَثْبَتُّ ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ ؛ فَجَاءَتْ بِهِ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ، فَكَانَ بَعْدُ أَمِيرًا بِمِصْرَ ، لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ ، وَقِيلَ : لَا يُدْرَى مَنْ أَبُوهُ .
} وَفِي رِوَايَةٍ : { إنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إلَّا صَدَقَ ، وَإِنَّ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ لَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا ، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي يُصَدِّقُ عُوَيْمِرًا .
} وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَهْلٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا ، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ قَضَى اللَّهُ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِك ، فَتَلَاعَنَا ثُمَّ فَارَقَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، فَكَانَتْ السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ، وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَنْكَرَهُ ، فَكَانَ ابْنَهَا يُدْعَى إلَى أُمِّهِ .
ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ أَنَّ ابْنَهَا يَرِثُهَا وَتَرِثُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } عَامٌّ فِي كُلِّ رَمْيٍ سَوَاءٌ قَالَ : زَنَتْ ، أَوْ رَأَيْتهَا تَزْنِي ، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُبَيِّنُ الْحُكْمِ فِيهَا .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي اقْتِصَارِ اللِّعَانِ عَلَى دَعْوَى الرُّؤْيَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، كَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، وَإِذَا شَرَطْنَا الرُّؤْيَةَ أَيْضًا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ ؛ هَلْ يَصِفُ الرُّؤْيَةَ صِفَةَ الشُّهُودِ أَمْ يَكْفِي ذِكْرُهَا مُطْلَقًا عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ الزَّجْرُ عَنْ دَعْوَاهَا حَتَّى إذَا رَهِبَ ذِكْرَهَا وَخَافَ مِنْ تَحْقِيقِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ عِيَانَهُ كَفَّ عَنْ اللِّعَانِ ؛ فَوَقَعَتْ السُّتْرَةُ ، وَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِالطَّلَاقِ إنْ شَاءَ ؛ وَلِذَلِكَ شَرَطْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَيْفِيَّةَ الرُّؤْيَةِ ، كَمَا يَذْكُرُهَا الشُّهُودُ تَغْلِيظًا .
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَكْفِي لِإِيجَابِ اللِّعَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ ، فَلْتُعَوِّلُوا عَلَيْهِ ، لَا سِيَّمَا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ فَأْتِ بِهَا ، فَلَاعِنِ بَيْنَهُمَا } وَلَمْ يُكَلِّفْهُ ذِكْرَ رُؤْيَتِهِ .
أَمَا إنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي : { رَأَيْت بِعَيْنَيَّ وَسَمِعْتُ بِأُذُنَيَّ } ، كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : إذَا أَتَيْت لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا نَفَى الْحَمْلَ فَإِنَّهُ يَلْتَعِنُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الرُّؤْيَةِ ، إذْ قَدْ ظَهَرَتْ ثَمَرَةُ الْفِعْلِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ عَدَمِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِبْرَاءِ بِعِدَّةٍ .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ ، هَلْ يَكُونُ بِحَيْضَةٍ أَوْ بِثَلَاثٍ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ لَهُ مِنْ الشُّغْلِ تَقَعُ بِهَا ، كَمَا فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ ، وَإِنَّمَا رَاعَيْنَا الثَّلَاثَ حِيَضٍ فِي

الْعِدَّةِ لِحُكْمٍ آخَرَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَزْوَاجَهُمْ } عَامٌّ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ عَبْدَيْنِ ، مُؤْمِنَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ ، فَاسِقَيْنِ أَوْ عَدْلَيْنِ ؛ لِعُمُومِ الظَّاهِرِ ، وَوُجُودِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، وَتَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ فِيهِ بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُكَلَّفَيْنِ ؛ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَمِينٌ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نُكْتَتُهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } ، فَسَمَّاهَا أَيْمَانًا .
وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْفَاسِقَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا يَلْتَعِنَانِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ قَوْلُهُ : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } فَجَاءَ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بِهَا ، وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ رَدَّدَهَا خَمْسًا ، وَلَوْ كَانَتْ يَمِينًا مَا رُدِّدَتْ ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْدِيدِهَا قِيَامُهَا فِي الْأَعْدَادِ مَقَامَ عَدَدِ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا .
قُلْنَا : أَمَّا ذِكْرُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَقْتَضِي لَهَا حُكْمَهَا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْعَرَبِ جَارِيَةٌ بِأَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ ، وَأَحْلِفُ بِاَللَّهِ ، فِي مَعْرِضِ الْأَيْمَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ .
وَأَمَّا تَكْرَارُهَا فَيَبْطُلُ بِيَمِينِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ ، وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ إجْمَاعًا .
وَالْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِهَا التَّغْلِيظُ فِي الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ عَلَى فَاعِلِهَا ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهَا فَيَقَعُ السَّتْرُ فِي الْفُرُوجِ وَالْحَقْنُ فِي الدَّمِ ، وَالْفَيْصَلُ فِي أَنَّهُ يَمِينٌ ، لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ دَعْوَاهَا ، وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْعَذَابِ ؛ وَكَيْف

يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ ؟ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رَاعَى أَبُو حَنِيفَةَ عُمُومَ الْآيَةِ ، فَقَالَ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ وَنَسِيَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } ، وَهَذَا رَمَاهَا وَهِيَ مُحْصَنَةٌ غَيْرُ زَوْجَةٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اللِّعَانُ فِي قَذْفٍ يَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ ، وَهَذَا قَذْفٌ لَا يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبٌ ، فَلَا يُوجِبُ لِعَانًا ، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نُظِرَتْ ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ ، أَوْ حَمْلٌ مُتَبَرَّأٌ مِنْهُ لَاعَنَ ، وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ .
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُلَاعِنُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ .
وَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، بَلْ هَذَا أَوْلَى ، لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَقَدَّمَ ، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنْ النَّسَبِ ، وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اللِّعَانِ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ حَمْلٌ يُرْجَى ، وَلَا نَسَبٌ يَخَافُ تَعَلُّقَهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ ؛ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ ، وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَبَطَلَ مَا قَالَ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ فَسَادِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا انْتَفَى مِنْ الْحَمْلِ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَوَقَعَ ذَلِكَ بِشُرُوطِهِ لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُلَاعِنُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَضَعَ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوْ دَاءً مِنْ الْأَدْوَاءِ .
وَدَلِيلُنَا النَّصُّ الصَّرِيحُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ .
وَقَالَ : { إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِأَبِيهِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِفُلَانٍ } فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا } .
فَإِنْ قِيلَ : عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْلَهَا ؛ فَذَلِكَ حُكْمٌ بِاللِّعَانِ ، وَالْحَاكِمُ مِنَّا لَا يَعْلَمُ أَحَمْلٌ هُوَ أَمْ رِيحٌ ؟ قُلْنَا : إذَا جَرَتْ أَحْكَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَضَايَا لَمْ تُحْمَلْ عَلَى الْإِطْلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ لَمْ تُبْنَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ؛ وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فِيهَا عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَشْتَرِكُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الْقُضَاةُ كُلُّهُمْ .
وَقَدْ أَعْرَبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ } .
فَأَحَالَ عَلَى الظَّوَاهِرِ ؛ وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا قَذَفَ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لِزَوْجِهِ لَاعَنَ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُلَاعِنُ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الرَّمْيَ بِهِ فِيهِ مَعَرَّةٌ ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِنَا وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وُجُوبَ الْحَدِّ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : مِنْ غَرِيبِ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ قَالَ : إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأُمَّهَا بِالزِّنَا إنَّهُ إنْ حُدَّ لِلْأُمِّ سَقَطَ حَدُّ الْبِنْتِ ، وَإِنْ لَاعَنَ لِلْبِنْتِ لَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأُمِّ .
وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ ، وَمَا رَأَيْت لَهُمْ فِيهِ شَيْئًا يُحْكَى ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ جِدًّا ، فَإِنَّهُ خَصَّ عُمُومَ الْآيَةِ فِي الْبَيْتِ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِحَدِّ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَلَا أَصْلٍ قَاسَهُ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، كَمَا يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ يَتَعَلَّقُ بِالْفَاسِدِ مِنْهُ ، كَالنَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ ، وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَتَطْهِيرِ الْفِرَاشِ ، وَالزَّوْجَةُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا ، وَيُلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ ، فَجَرَى اللِّعَانُ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فَائِدَةُ لِعَانِ الزَّوْجِ دَرْءُ الْحَدِّ عَنْهُ ، وَنَفْيُ النَّسَبِ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ } .
فَلَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَدَرَأْت الْحَدَّ عَنْهُ ، فَقَدْ قَامَ اللِّعَانُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ الزَّوْجُ لَمْ يُحَدَّ ، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ ، وَتَارَةً يُجْعَلُ اللِّعَانُ شَهَادَةً ، وَتَارَةً يُجْعَلُ حَدًّا .
وَلَوْ كَانَ حَدًّا مَا حُبِسَ عَلَى فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُؤْخَذُ قَسْرًا مِنْ صَاحِبِهِ ؛ فَإِذَا لَاعَنَ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الْحَدِّ ، وَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِالْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ يَتَنَازَعَانِ ، فَلَوْ كَانَ اللِّعَانُ شَهَادَةً لَكَانَ تَحْقِيقًا لِلزِّنَا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَدَّمْنَا لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك } .
ثُمَّ يُقَالُ لَهَا : اعْتَرِفِي فَتُحَدِّي أَوْ بَرِّئِي نَفْسَك ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ } ، وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْعَذَابُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْحَبْسُ .
فَيُقَالُ لَهُ : وَلِمَ تُحْبَسُ ، وَلِمَ يَجِبُ عَلَيْهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ شَيْءٌ عِنْدَك ؟ ثُمَّ قُلْت : اللِّعَانُ حَدٌّ فَكَيْفَ وَجَبَ عَلَيْهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ حَدٌّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } ، وَهُوَ الْحَدُّ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي الْحَدَّ ؛ فَسَمَّاهُ عَذَابًا هَاهُنَا ؛ وَهُوَ ذَاكَ بِعَيْنِهِ ؛ لِاتِّحَادِ الْمَقْصَدِ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : اللِّعَانُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ مِنْ الزَّوْجِ ؟ وَأَيُّمَا كَانَ فَلَا يُوجِبُ حَدًّا عَلَى الْمَرْأَةِ .
قُلْنَا : أُقِيمَ مَقَامَ الشَّهَادَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْلُصُ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ الْحَدِّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : الْبُدَاءَةُ فِي اللِّعَانِ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ : وَهُوَ الزَّوْجُ ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّهُ عَكَسَ مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِيهِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَرُدُّهُ إلَيْهِ ، وَلَا مَعْنًى يَقْوَى بِهِ ؛ بَلْ الْمَعْنَى لَنَا ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَدَأَتْ بِالْيَمِينِ فَتَنْفِي مَا لَمْ يَثْبُتْ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ ، وَهُنَاكَ وَلَدٌ لَمْ يُلَاعِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ لَا لِعَانَ عِنْدَهُ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا قَذَفَهَا بِرَجُلٍ سَمَّاهُ كَشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ أَسْقَطَ اللِّعَانُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ لِزَوْجَتِهِ وَحُدَّ لِشَرِيكٍ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ .
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَدَّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجَةِ مُطْلَقَيْنِ ، ثُمَّ خَصَّ الزَّوْجَةَ بِالْخَلَاصِ بِاللِّعَانِ ، وَبَقِيَ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى مُطْلَقِ الْآيَةِ .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُدَّ هِلَالًا لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ .
قُلْنَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْهُ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ إجْمَاعًا .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ قَالَتْ أَحْبَارُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الزَّانِي بِزَوْجِهِ لِيَعُرَّهُ كَمَا عَرَّهُ ، وَأَيُّ مَعَرَّةٍ فِيهِ ، وَخَبَرُهُ عَنْهُ لَا يُقْبَلُ ، وَحُكْمُهُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ ، إنَّمَا الْمَعَرَّةُ كُلُّهَا بِالزَّوْجِ ؛ فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ ، فَإِنَّ قَذْفَهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُهُ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ الْحَدِيثِ ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ .
فَاَلَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي ، وَخَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي ، وَأُنْزَلُ فِيهِ ، فَسِرْنَا حَتَّى إذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ ، وَقَفَلَ ، وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ ، فَقُمْت حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ ، فَمَشَيْت حَتَّى جَاوَزْت الْجَيْشَ .
فَلَمَّا قَضَيْت شَأْنِي أَقْبَلْت إلَى رَحْلِي ، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ ، فَالْتَمَسْت عِقْدِي ، وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي ، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي ، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْت رَكِبْت ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ .
وَكَانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافًا ، لَمْ يُثْقِلُهُنَّ

اللَّحْمُ ، إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ ، وَكُنْت جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا فَوَجَدْت عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ ، فَجِئْت مَنَازِلَهُمْ ، وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ .
فَأَمَمْت مَنْزِلِي الَّذِي كُنْت بِهِ ، وَظَنَنْت أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي ، فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ .
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْت .
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ ، فَادَّلَجَ ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي ؛ فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ ، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي ، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ ، فَاسْتَيْقَظْت بِاسْتِرْجَاعِهِ ، حِينَ عَرَفَنِي ، فَخَمَّرْت وَجْهِي بِجِلْبَابِي ، وَوَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً ، وَمَا سَمِعْت مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ، فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا ، فَرَكِبْتهَا ، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ .
وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ .
فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، فَاشْتَكَيْت حِينَ قَدِمْت شَهْرًا ، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْت أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي .
إنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : كَيْفَ تِيكُمْ ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، فَذَلِكَ الَّذِي يَرِيبُنِي مِنْهُ ، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ ، حَتَّى خَرَجْت بَعْدَمَا نَقِهْتُ ، فَخَرَجْت مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا ، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلًا إلَى لَيْلٍ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا ، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ

الْغَائِطِ ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا .
فَانْطَلَقْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ ، وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ ، خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ ، فَأَقْبَلْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي ، وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا ، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا ، فَقَالَتْ : تَعِسَ مِسْطَحٌ ، فَقُلْت لَهَا : بِئْسَ مَا قُلْت ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا ، قَالَتْ : أَيْ هَنْتَاهُ ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ ، قَالَتْ : قُلْت لَهَا : وَمَا قَالَ ؟ قَالَتْ : فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ .
قَالَتْ : فَازْدَدْت مَرَضًا عَلَى مَرَضِي .
قَالَتْ : فَلَمَّا رَجَعْت إلَى بَيْتِي ، وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ تِيكُمْ ، فَقُلْت : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ ؟ قَالَتْ : وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا .
قَالَتْ : فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْت أَبَوَيَّ ، فَقُلْت لِأُمِّي : يَا أُمَّتَاهُ ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ ؟ قَالَتْ : يَا بُنَيَّةُ ؛ هَوِّنِي عَلَيْك ، فَوَاَللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا ، وَلَهَا ضَرَائِرُ ، إلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا .
قَالَتْ : فَقُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ، فَبَكَيْت تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْت لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، حَتَّى أَصْبَحْت أَبْكِي ؛ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ ، يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ .
فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ .
وَبِاَلَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَهْلُك ، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا .
وَأَمَّا

عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْك وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا ، كَثِيرٌ وَاسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُك .
قَالَتْ : فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ ، فَقَالَ : يَا بَرِيرَةُ ، هَلْ رَأَيْت مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُك ؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ : لَا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، إنْ رَأَيْت عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا ، فَتَأْتِي الدَّاجِنَ فَتَأْكُلُهُ .
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ؛ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي ؟ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت مِنْ أَهْلِي إلَّا خَيْرًا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي .
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَا أَعْذِرُكُمْ مِنْهُ ، إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْت عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَك .
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ فِينَا قَبْلَ ذَلِكَ صَالِحًا ، وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ ، وَاَللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ .
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَهُوَ ابْنُ عَمٍّ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ : كَذَبْت وَاَللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ؛ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ ، تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ .
فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ، وَسَكَتَ .
قَالَتْ : فَمَكَثْت يَوْمِي ذَلِكَ ، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ،

وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ .
فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي ، وَقَدْ مَكَثْت لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ، يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي .
قَالَتْ : فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي ، وَأَنَا أَبْكِي ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَأَذِنْتُ لَهَا ، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي .
قَالَتْ : فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ .
ثُمَّ جَلَسَ .
قَالَتْ : وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ قَبْلَهَا .
وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِي .
قَالَتْ : فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ .
ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْك كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُك اللَّهُ ، وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ .
قَالَتْ : فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أَحُسُّ مِنْهُ قَطْرَةً .
فَقُلْت لِأَبِي : أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا قَالَ .
قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَتْ : فَقُلْت لِأُمِّي : أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْت ، وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ : إنِّي وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ .
فَلَئِنْ قُلْت لَكُمْ : إنِّي بَرِيئَةٌ ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي ؛ وَلَئِنْ اعْتَرَفْت لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ ، لَتُصَدِّقُونَنِي .
وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } .
قَالَتْ : ثُمَّ تَحَوَّلْتُ

فَاضْطَجَعْت عَلَى فِرَاشِي .
قَالَتْ : وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيُبَرِّئُنِي بِبَرَاءَتِي .
وَلَكِنْ ، وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي قُرْآنٌ يُتْلَى ، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِي بِآيَةٍ تُتْلَى ، وَلَكِنِّي كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا .
قَالَتْ : فَوَاَللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَانَهُ ، وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ ، حَتَّى إنَّهُ لِيَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا : أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ .
قَالَتْ أُمِّي : قُومِي إلَيْهِ .
فَقُلْت : وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ إلَيْهِ ، وَلَا أَحْمَدُ إلَّا اللَّهَ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ : { إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلِّهَا .
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ : وَاَللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَلَى وَاَللَّهِ ؛ إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ؛ فَرَجَعَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا .
قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ

أَمْرِي ؛ قَالَ : يَا زَيْنَبُ ، مَاذَا عَلِمْت ؟ وَمَاذَا رَأَيْت ؟ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي ، وَمَا عَلِمْت إلَّا خَيْرًا } .
قَالَتْ : وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا ، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ حَقِيقَةَ الْخَيْرِ ، وَأَنَّهُ مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ .
وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ ، وَأَنَّ خَيْرًا لَا شَرَّ فِيهِ هُوَ الْجَنَّةُ ، وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ ؛ وَلِهَذَا صَارَ الْبَلَاءُ النَّازِلُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ خَيْرًا ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مِنْ الْأَلَمِ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا ، وَخَيْرُهُ وَهُوَ الثَّوَابُ كَثِيرٌ فِي الْآخِرَةِ ؛ فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَائِشَةَ وَمَنْ مَاثَلَهَا مِمَّنْ نَالَهُ هَمٌّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ شَرٌّ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ عَلَى مَا وَضَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ ، وَرُجْحَانِ النَّفْعِ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ ، وَرُجْحَانِ الضُّرِّ فِي جَانِبِ الشَّرِّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ } : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ أَنَّهُ لَا تَحْمِلُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ الْإِثْمِ ، وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ ، إلَّا أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وَكَانَ يَرْمِيهِ وَيُشِيعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الْإِفْكِ : إنَّ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ [ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَحَمْنَةُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْعَمَى .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ .
الثَّالِثُ : الْحَدُّ .
فَأَمَّا الْعَمَى فَهُوَ الَّذِي أَصَابَ حَسَّانَ ، وَأَمَّا عَذَابُ جَهَنَّمَ فَلِمَنْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ ، وَأَمَّا عَذَابُ الْحَدِّ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ فِي الْإِفْكِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً : مِسْطَحًا ، وَحَسَّانَ ، وَحَمْنَةَ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَعْنَى ظَنَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا ، وَجَعَلَ الْغَيْرَ مَقَامَ النَّفْسِ ، لِذِمَامِ الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ دَرَجَةَ الْإِيمَانِ الَّتِي حَازَهَا الْإِنْسَانُ ، وَمَنْزِلَةَ الصَّلَاحِ الَّتِي حَلَّهَا الْمَرْءُ ، وَلُبْسَةَ الْعَفَافِ الَّتِي تَسَتَّرَ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ ، وَإِنْ شَاعَ ، إذَا كَانَ أَصْلُهُ فَاسِدًا أَوْ مَجْهُولًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ } أَيْ كَذِبٌ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ بَاطِنٍ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ ، وَذَلِكَ أَكْذَبُ الْأَخْبَارِ وَشَرُّ الْأَقْوَالِ حَيْثُ اُسْتُطِيلَ بِهِ الْعِرْضُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَمَقْرُونٌ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ بِالْمُهُجَاتِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا رَدٌّ إلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ، وَإِحَالَةٌ عَلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ بِالْكَذِبِ ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى مَا زَعَمَ مِنْ الِافْتِرَاءِ ، حَتَّى يُخْرِجَهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَدِّ الْبَاطِنِ ، وَإِلَّا لَزِمَهُ حُكْمُ الْمُفْتَرِي فِي الْإِثْمِ وَحَالُهُ فِي الْحَدِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْقَذْفِ الظَّاهِرِ مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ صِدْقٌ ، وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ فِي الظَّاهِرِ بِحُكْمِ الْكَاذِبِ ، وَيُجْلَدُ الْحَدَّ .
وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله : { عِنْدَ اللَّهِ } يُرِيدُ فِي حُكْمِهِ ، لَا فِي عِلْمِهِ ، وَهُوَ إنَّمَا رَتَّبَ الْحُدُودَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا ، لَا مُقْتَضَى عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ الْآخِرَةِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ : قَوْله تَعَالَى : ( لِمِثْلِهِ ) يَعْنِي فِي عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ إلَى نَظِيرِ الْقَوْلِ فِي الْمَقُولِ عَنْهُ بِعَيْنِهِ ، أَوْ فِيمَنْ كَانَ فِي مَرْتَبَتِهِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إذَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِرْضِهِ وَأَهْلِهِ ، وَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْ فَاعِلِهِ .
قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أُدِّبَ ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ ، وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ أُدِّبَ ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فِي عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ : { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } .
وَلَوْ كَانَ سَلْبُ الْإِيمَانِ فِي سَبِّ عَائِشَةَ حَقِيقَةً لَكَانَ سَلْبُهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } حَقِيقَةً .
قُلْنَا : لَيْسَ كَمَا زَعَمْتُمْ ؛ إنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ الْمُطَهَّرَةَ بِالْفَاحِشَةِ ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ ، فَكُلُّ مَنْ سَبَّهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ ، وَمَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَهُوَ كَافِرٌ .
فَهَذَا طَرِيقُ قَوْلِ مَالِكٍ .
وَهِيَ سَبِيلٌ لَائِحَةٌ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ عَائِشَةَ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ لَكَانَ جَزَاؤُهُ الْأَدَبَ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } يَعْنِي يُرِيدُ ذَلِكَ وَيَفْعَلُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ فِعْلُ الْقَلْبِ ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَظْهَرَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ كَانَتْ نِيَّتُهُ فَاسِدَةً يُعَاقَبُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَةٌ فِي الْحُدُودِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا أَشَاعَهَا فَقَدْ بَيَّنَّا مَا لَهُ مِنْ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا .
وَقَدْ رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ : جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَدَخَلَ فَشَبَّبَ ، وَقَالَ : حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ قَالَتْ لَهُ : لَكِنَّكَ لَسْت كَذَلِكَ قُلْت : تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْك ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ : { وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قَالَتْ ، وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى .
وَقَدْ كَانَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنْت لَهُ أَنَّ الْعَمَى مِنْ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ الَّذِي قُورِضَ بِهِ ، وَذَكَرَ ذِمَامَهُ فِي مُنَافَحَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا رَعَتْ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ قَالَ فِيهَا .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِهَا : فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ } يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ .
{ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يَعْنِي مِسْطَحًا إلَى قَوْلِهِ : { غَفُورٌ رَحِيمٌ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَلَى وَاَللَّهِ يَا رَبَّنَا ، إنَّا لَنُحِبُّ أَنْ يُغْفَرَ لَنَا ، وَعَادَ لِمَا كَانَ يَصْنَعُ لَهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : عَجِبْت لِقَوْمٍ يَتَكَلَّفُونَ فَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ حَلَفَ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ ؛ فَمَنْ لِلْمُتَكَلِّفِ لَنَا تَكَلَّفَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْهُزْءِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَحْرُمُ ، أَوْ لَا تَحْرُمُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَتَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ حَسَنَةٌ أَنَّ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ إذَا رَآهُ خَيْرًا أَوْلَى مِنْ الْبِرِّ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّصَ النَّاسَ بِالْمَنَازِلِ ، وَسَتَرَهُمْ فِيهَا عَنْ الْأَبْصَارِ ، وَمَلَّكَهُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَحَجَزَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَارِجٍ أَوْ يَلِجُوهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَرْبَابِهَا ؛ لِئَلَّا يَهْتِكُوا أَسْتَارَهُمْ ، وَيَبْلُوَا فِي أَخْبَارِهِمْ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : { اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ حُجْرَةٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ ، فَقَالَ : لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك ، إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِيهَا : { فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ بِمِشْقَصٍ ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ بَيْتٍ ، وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي أَبْيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } مَدَّ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي دُخُولِ بَيْتٍ لَيْسَ هُوَ بَيْتُك إلَى غَايَةٍ هِيَ الِاسْتِئْنَاسُ .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَيَقُولُ : أَخْطَأَ الْكَاتِبُ .
الثَّانِي : حَتَّى تُؤْنِسُوا أَهْلَ الْبَيْتِ بِالتَّنَحْنُحِ ، فَيَعْلَمُوا بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ .
الثَّالِثُ : حَتَّى تَعْلَمُوا أَفِيهَا مِنْ تَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؛ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَمَّا قَوْلُهُ أَنْ تَسْتَأْنِسُوا بِمَعْنَى تَسْتَأْذِنُوا فَلَا مَانِعَ فِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ ، وَلَيْسَ فِيهِ خَطَأٌ مِنْ كَاتِبٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْخَطَأُ إلَى كِتَابٍ تَوَلَّى اللَّهُ حِفْظَهُ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رَاوِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ التَّنَحْنُحُ فَهِيَ زِيَادَةٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا .
وَأَشْبَهُ مَا فِيهِ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنَيَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مُقَيَّدَيْنِ .
وَهَذَا هُوَ حُكْمُ اللُّغَةِ فِي جَعْلِ مَعْنًى لِكُلِّ لَفْظٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ : وَهُوَ بِالسَّلَامِ ، وَصِفَتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنْت فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ قَالَ : اسْتَأْذَنْت عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي ، فَرَجَعْت .
قَالَ : مَا مَنَعَك ؟ قُلْت : اسْتَأْذَنْت ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْت وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ } .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً .
أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ : وَاَللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَك إلَّا أَصْغَرُنَا .
فَكُنْت أَصْغَرَهُمْ .
فَقُمْت مَعَهُ ، فَأَخْبَرْت عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
وَحِكْمَةُ التَّعْدَادِ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنَّ الْأُولَى اسْتِعْلَامٌ ، وَالثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ ، وَالثَّالِثَةُ إعْذَارٌ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ هُوَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ : { وَتُسَلِّمُوا } تَفْسِيرًا لِلِاسْتِئْذَانِ .
وَقَدْ اخْتَرْنَا قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : الِاسْتِئْذَانُ فَرْضٌ ، وَالسَّلَامُ مُسْتَحَبٌّ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ كَيْفِيَّةٌ فِي الْإِذْنِ .
رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ ابْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ : أَأَلِجُ فَأَذِنَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ .
قَالَ زَيْدٌ : فَلَمَّا قَضَيْت حَاجَتِي أَقْبَلَ عَلَيَّ ابْنُ عُمَرَ ، فَقَالَ : مَالَكَ وَاسْتِئْذَانِ الْعَرَبِ ، إذَا اسْتَأْذَنْت فَقُلْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْك السَّلَامُ فَقُلْ : أَأَدْخُلُ ؛ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَادْخُلْ .
فَعَلَّمَهُ سُنَّةَ السَّلَامِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ { أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَدْخُلُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ : قُمْ فَعَلِّمْ هَذَا كَيْفَ يَسْتَأْذِنُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ .
فَسَمِعَهَا الرَّجُلُ فَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { سَأَلْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ ، اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فَقَالَ : حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ .
قَالَ : ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ ، وَذَكَرَ اعْتِزَالَ النَّبِيِّ فِي الْمَشْرُبَةِ قَالَ : فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ .
فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ .
فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ ، فَصَمَتَ .
فَرَجَعْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ ، فَرَجَعْت إلَى الْغُلَامِ ، فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ .
قَالَ : فَوَلَّيْت مُدْبِرًا فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي ، فَقَالَ : اُدْخُلْ ، فَقَدْ أَذِنَ لَك .
فَدَخَلْت فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَطْلَقْت نِسَاءَك ؛ فَرَفَعَ إلَيَّ رَأْسَهُ ، وَقَالَ : لَا .
فَقُلْت : اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ؛ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَغَضِبَتْ يَوْمًا عَلَيَّ امْرَأَتِي فَطَفِقَتْ تُرَاجِعُنِي ، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ : مَا تُنْكِرُ ، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَاجِعْنَهُ ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا حَتَّى اللَّيْلِ .
فَقُلْت : قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ ، وَخَسِرَ ، أَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ .
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَتْ عَلَيَّ حَفْصَةُ ،

فَقُلْت : لَا يَغْرُرْك أَنْ كَانَتْ جَارِيَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك .
فَتَبَسَّمَ أُخْرَى .
فَقُلْت : أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : نَعَمْ فَجَلَسْت فَرَفَعْت رَأْسِي فِي الْبَيْتِ ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلَّا أَهَبَةً ثَلَاثَةً ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
} قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ مِنْ مَرَّتَيْنِ ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ الثَّالِثَةَ .
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ كَمَالَ التَّعْدَادِ حَقُّ الَّذِي يَسْتَأْذِنُ إنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ ، وَفِيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ : أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهَذَا مِنْ الْأُنْسِ وَالتَّبَسُّطِ ، لَا مِنْ الْإِعْلَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ وَقَعَتْ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ فَالسَّلَامُ قَدْ تَعَيَّنَ ، وَلَا تُعَدُّ رُؤْيَتُك لَهُ إذْنًا لَك فِي دُخُولِك عَلَيْهِ ؛ فَإِذَا قَضَيْت حَقَّ السَّلَامِ لِأَنَّك الْوَارِدُ حِينَئِذٍ تَقُولُ : أَدْخُلُ ؟ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَادْخُلْ وَإِلَّا رَجَعْت .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : هَذَا كُلُّهُ فِي بَيْتٍ لَيْسَ لَك ؛ فَإِمَّا بَيْتُك الَّذِي تَسْكُنُهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلُك فَلَا إذْنَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَعَك أُمُّك أَوْ أُخْتُك فَقَالُوا تَنَحْنَحْ وَاضْرِبْ بِرِجْلَيْك حَتَّى تَنْتَبِهَ لِدُخُولِك ، لِأَنَّ الْأَهْلَ لَا حِشْمَةَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا .
وَأَمَّا الْأُمُّ وَالْأُخْتُ فَقَدْ تَكُونُ عَلَى حَالَةٍ لَا [ تُحِبُّ أَنْ ] تَرَاهَا فِيهَا .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : وَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمَا .
وَقَدْ رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : إنِّي أَخْدُمُهَا .
قَالَ : اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا .
قَالَ : فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا قَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا } .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاللَّفْظُ لَهُ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي وَهُنَّ فِي حُجْرَتِي مَعِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَرَدَدْت عَلَيْهِ لِيُرَخِّصَ لِي فَأَبَى .
قَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ قُلْت : لَا قَالَ : فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا ؛ فَرَاجَعَتْهُ ، فَقَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ : فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا .
} وَقَالَ طَاوُسٌ : مَا مِنْ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إلَيَّ أَنْ أَرَى عَوْرَتَهَا مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الطَّبَرِيُّ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هَذَا الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِهِ ، فَإِنْ دَخَلَ بَيْتَ نَفْسِهِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِيَقُلْ : السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الْمُبَارَكَاتُ لِلَّهِ ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ .
رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ .
وَالصَّحِيحُ تَرْكُ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا تِبْيَانٌ مِنْ اللَّهِ لِإِشْكَالٍ يَلُوحُ فِي الْخَاطِرِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ إلَى مَنْزِلٍ لَا يَجِدُ فِيهِ أَحَدًا ، فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ : إذَا كَانَتْ الْمَنَازِلُ خَالِيَةً فَلَا إذْنَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مُحْتَجَبٌ ، فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ الْإِذْنَ يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : الدُّخُولُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ .
وَالثَّانِي : كَشْفُ الْبَيْتِ وَإِطْلَاعُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مُحْتَجِبٌ فَالْبَيْتُ مَحْجُوبٌ لِمَا فِيهِ ، وَبِمَا فِيهِ ، إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ رَبِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } .
يَعْنِي حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ فَيَأْذَنَ ، أَوْ يَتَقَدَّمَ لَهُ بِالْإِذْنِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } .
هَذَا مُرْتَبِطٌ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا ؛ التَّقْدِيرُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ، فَإِنْ أُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا ، وَإِلَّا فَارْجِعُوا ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو مُوسَى مَعَ عُمَرَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ تَسْطِيرُهُ وَإِيرَادُهُ .
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا يَأْذَنُ لَكُمْ فَلَا تَدْخُلُوا حَتَّى تَجِدُوا إذْنًا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَغْلَقَهُ بِالتَّحْرِيمِ لِلدُّخُولِ حَتَّى يَفْتَحَهُ الْإِذْنُ مِنْ رَبِّهِ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ ، وَيُحَاوَلَ الْإِذْنَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى الْبَيْتِ لَا فِي إقْبَالِهِ وَلَا فِي انْقِلَابِهِ .
فَقَدْ رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنْ قَاعَةِ بَيْتٍ فَقَدْ فَسَقَ " .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : اُدْخُلْ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحْقِرُ فِيهِ .
رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ جَاءَ دَارًا لَهَا بَابَانِ قَالَ : أَدْخُلْ ؟ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ : اُدْخُلْ بِسَلَامٍ .
قَالَ لَهُ : وَمَا يُدْرِيك أَنِّي أَدْخُلُ بِسَلَامٍ ؛ ثُمَّ انْصَرَفَ كَرَاهِيَةَ مَا زَادَ ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ : اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ عَالِمٌ بِذَلِكَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، وَاَلَّذِي زَادَ فِي الْإِذْنِ بِسَلَامٍ زَادَ مَا لَمْ يَسْمَعْ ، وَقَالَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَضَمِنَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِذْنَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الْمَنْزِلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرُ .
وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّغِيرِ لَغْوًا فِي الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلَكِنَّ الْإِذْنَ فِي الْمَنَازِلِ مُرَخَّصٌ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ دُونَ الْبُلُوغِ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ ، وَغِلْمَانِهِمْ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ : أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْخَانَاتُ وَالْخَانَكَاتُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا دَكَاكِينُ التُّجَّارِ ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ مَنَازِلُ الْأَسْفَارِ وَمُنَاجَاةُ الرِّجَالِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْخَرَابَاتُ الْعَاطِلَةُ ؛ قَالَ قَتَادَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا أَمْوَالُ التُّجَّارِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْمَنَافِعُ كُلُّهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْخَلَاءُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا الْخَانَاتُ وَهِيَ الْفَنَادِقُ ، وَالْخَانَكَاتُ وَهِيَ الْمَدَارِسُ لِلطَّلَبَةِ ، فَإِنَّمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ السُّكَّانِ فِيهَا وَالْعَامِلِينَ بِهَا فَلَا يَصِحُّ الْمَنْعُ ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ .
وَكَذَلِكَ دَكَاكِينُ التُّجَّارِ ، قَالَ الشَّعْبِيُّ : لَا إذْنَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا جَاءُوا بِبُيُوعِهِمْ ، وَجَعَلُوهَا فِيهَا ، وَقَالُوا لِلنَّاسِ هَلُمَّ .
فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَلَّا يَدْخُلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِغَيْرِ إذْنٍ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ فَلَا دُخُولَ فِيهِ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْمَتَاعَ بِأَنَّهُ جَمِيعُ الِانْتِفَاعِ فَقَدْ طَبَّقَ الْمُفَصَّلَ ، وَجَاءَ بِالْفَيْصَلِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ دُخُولَ الدَّاخِلِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ لِمَا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَالطَّالِبُ يَدْخُلُ فِي الْخَانَكَاتِ لِلْعِلْمِ ، وَالسَّاكِنُ يَدْخُلُ فِي الْخَانِ لِلْمَنْزِلِ فِيهِ ، أَوْ لِطَلَبِ مَنْ نَزَلَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ ، وَالزَّبُونُ يَدْخُلُ لِدُكَّانِ الِابْتِيَاعِ ، وَالْحَاقِنُ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ لِلْحَاجَةِ ،

وَكُلٌّ يُؤْتَى عَلَى وَجْهِهِ مِنْ بَابِهِ ، فَإِنْ دَخَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ بِاسْمِهَا الظَّاهِرِ وَلِمَنْفَعَتِهَا الْبَادِيَةِ وَنِيَّتُهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا أَبْدَى ، وَبِمَا كَتَمَ ، يُجَازِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يَغُضُّوا } يَعْنِي يَكُفُّوا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ قَالَ الشَّاعِرُ : فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } فَأَدْخَلَ حَرْفَ { مِنْ } الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ ، وَذَكَرَ { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } مُطْلَقًا .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ غَضَّ الْأَبْصَارِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ غَضَّهَا عَنْ الْحَلَالِ لَا يَلْزَمُ ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ غَضُّهَا عَنْ الْحَرَامِ ؛ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّبْعِيضِ فِي غَضِّ الْأَبْصَارِ ، فَقَالَ : مِنْ أَبْصَارِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ مَا لَا يَحْرُمُ ، وَهُوَ النَّظْرَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُحَرَّمٌ ، وَلَيْسَ مِنْ أَمْرِ الْفَرْجِ شَيْءٌ مَا يُحَلَّلُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ النَّظَرِ مَا يَحْرُمُ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَجَانِبِ ؛ وَمِنْهُ مَا يُحَلَّلُ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجَاتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ ، بِخِلَافِ الْفَرْجِ ، فَإِنَّ سَتْرَهُ وَاجِبٌ فِي الْمَلَأِ وَالْخَلْوَةِ ؛ لِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ ؛ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ ؟ قَالَ : احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجِك ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك .
فَقَالَ : الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ .
قُلْت : فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا ؟ قَالَ : اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ } .
{ وَقَدْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالَهَا مَعَهُ فَقَالَتْ : مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ

: { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } يَعْنِي بِهِ الْعِفَّةَ ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا حِفْظُهَا عَنْ الْأَبْصَارِ ، حَتَّى لَا يَرَاهَا أَحَدٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ سَتْرِهَا وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ ، وَإِيضَاحُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } : يُرِيدُ أَطْهَرُ عَلَى مَعَانِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ كَانَ أَطْهَرَ لَهُ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَأَنْمَى لِأَعْمَالِهِ فِي الطَّاعَةِ ؛ وَلِذَلِكَ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : يَا عَلِيُّ ، إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا ، فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ؛ فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لَك } وَهُوَ أَيْضًا أَفْرَغُ لِبَالِهِ وَأَصْلَحُ لِأَحْوَالِهِ .
وَقَدْ أَنْشَدَ أَرْبَابُ الزُّهْدِ : وَأَنْتَ إذَا أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدًا لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَقَالُوا : مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ أَدْنَى حَتْفَهُ ، وَمَنْ غَضَّ الْبَصَرَ كَفَّهُ عَنْ التَّطَلُّعِ إلَى الْمُبَاحَاتِ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَجَمَالِهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَفِي الإسرائليات أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ ، فَتَطَأْطَأَ إلَى الْأَرْضِ ، فَأَخَذَ عُودًا فَفَقَأَ بِهِ عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ بِهَا إلَى الْمَرْأَةِ ، وَهِيَ مِنْ خَيْرِ عَيْنٍ تُحْشَرُ .
وَتَحْكِي الصُّوفِيَّةُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَمْشِي عَلَى طَرِيقٍ ، فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى بَابِ دَارِهَا ، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : يَا هَذَا ؛ مَا لَك تَتْبَعُنِي ؟ فَقَالَ لَهَا :

أَعْجَبَتْنِي عَيْنَاكِ .
فَقَالَتْ : الْبَثْ قَلِيلًا ، فَدَخَلَتْ دَارَهَا ، ثُمَّ فَقَأَتْ عَيْنَيْهَا فِي سُكُرُّجَةٍ ، وَأَخْرَجَتْهُمَا إلَيْهِ ، وَقَالَتْ لَهُ : خُذْ مَا أَعْجَبَك ، فَمَا كُنْت لِأَحْبِسَ عِنْدِي مَا يَفْتِنُ النَّاسَ مِنِّي .

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } قَوْلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، حَسَبَ كُلِّ خِطَابٍ عَامٍّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْإِنَاثَ بِالْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ { أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أَرَى كُلَّ شَيْءٍ لِلرِّجَالِ وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ ، فَنَزَلَتْ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } } خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ أَكَّدَهُ بِالتَّكْرَارِ ؛ وَخَصَّ النِّسَاءَ فِيهِ بِالذِّكْرِ عَلَى الرِّجَالِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } وَذَلِكَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا يُسَمَّى زِنًا .
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ إذَا كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ ؛ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ ، وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ ؛ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي ؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } .
وَكَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَرْأَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الرَّجُلِ ، فَإِنَّ عَلَاقَتَهُ بِهَا كَعَلَاقَتِهَا بِهِ ، وَقَصْدُهُ مِنْهَا كَقَصْدِهَا مِنْهُ .
وَقَدْ رَوَتْ { أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كُنْت أَنَا وَعَائِشَةُ وَفِي رِوَايَةٍ وَمَيْمُونَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، فَقَالَ لَنَا : احْتَجِبْنَ مِنْهُ ؟ فَقُلْنَا : أَوَلَيْسَ أَعْمَى ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا } .
فَإِنْ قِيلَ : يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ، فَقَالَ لَهَا : تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي ، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَك عِنْدَهُ } .
قُلْنَا : قَدْ أَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الشَّرْحِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، وَسَتَرَوْنَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ انْتِقَالَهَا مِنْ بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ أَوْلَى بِهَا مِنْ بَقَائِهَا فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ، إذْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ يَكْثُرُ الدَّاخِلُ فِيهِ وَالرَّائِي لَهَا ، وَفِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ ، وَكَانَ

إمْسَاكُ بَصَرِهَا عَنْهُ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى ؛ فَرَخَّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ : خِلْقِيَّةٌ ، وَمُكْتَسَبَةٌ .
فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ وَجَمَالُ الْخِلْقَةِ ، وَمَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَطُرُقِ الْعُلُومِ وَحُسْنِ تَرْتِيبِ مَحَالِّهَا فِي الرَّأْسِ ، وَوَضْعِهَا وَاحِدًا مَعَ آخَرَ عَلَى التَّدْبِيرِ الْبَدِيعِ .
وَأَمَّا الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ فَهِيَ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا بِالتَّصَنُّعِ : كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } يَعْنِي الثِّيَابَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى وَإِذَا عَطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } اعْلَمُوا عَرَّفَكُمْ اللَّهُ الْحَقَائِقَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَابِلَةِ الَّتِي يَقْتَضِي أَحَدُهَا الْآخَرَ ، وَهُوَ الْبَاطِنُ هَاهُنَا ، كَالْأَوَّلِ مَعَ الْآخَرِ ، وَالْقَدِيمِ مَعَ الْحَدِيثِ ، فَلَمَّا وَصَفَ الزِّينَةَ بِأَنَّ مِنْهَا ظَاهِرًا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ بَاطِنًا .
وَاخْتُلِفَ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الثِّيَابُ يَعْنِي أَنَّهَا يَظْهَرُ مِنْهَا ثِيَابُهَا خَاصَّةً ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
الثَّانِي : الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ .
وَهُوَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي بِمَعْنًى ، لِأَنَّ الْكُحْلَ وَالْخَاتَمَ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَرَى الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ هِيَ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ يَقُولُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كُحْلٌ أَوْ خَاتَمٌ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَجَبَ سَتْرُهَا ، وَكَانَتْ مِنْ الْبَاطِنَةِ .
فَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ وَالدُّمْلُجِ وَالْخَلْخَالِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ

عَنْ مَالِكٍ : الْخِضَابُ لَيْسَ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّوَارِ ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : هِيَ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْيَدَيْنِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ مِنْ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ ؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْكَفَّيْنِ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الذِّرَاعِ .
وَأَمَّا الْخِضَابُ فَهُوَ مِنْ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ إذَا كَانَ فِي الْقَدَمَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هِيَ الَّتِي فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، فَإِنَّهَا الَّتِي تَظْهَرُ فِي الصَّلَاةِ .
وَفِي الْإِحْرَامِ عِبَادَةً ، وَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ عَادَةً .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } : الْجَيْبُ : هُوَ الطَّوْقُ وَالْخِمَارُ : هِيَ الْمِقْنَعَةُ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ لَمَّا نَزَلَ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ أَيْضًا : شَقَقْنَ أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا ، كَأَنَّهُ مَنْ كَانَ لَهَا مِرْطٌ شَقَّتْ مِرْطَهَا ، وَمَنْ كَانَتْ لَهَا إزَارٌ شَقَّتْ إزَارَهَا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ بِمَا فِيهِ ، وَيُوَضِّحُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ، مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ } أَيْ لَا تُعْرَفُ فُلَانَةُ مِنْ فُلَانَةَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } حَرَّمَ اللَّهُ إظْهَارَ الزِّينَةِ ، كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ مَحِلًّا : الْمُسْتَثْنَى الْأَوَّلُ : الْبُعُولَةُ : وَالْبَعْلُ : هُوَ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، وَمِنْهُ { قَوْلُ النَّبِيِّ حِينَ ذَكَرَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ : حَتَّى تَلِدَ الْأَمَةُ بَعْلَهَا } يَعْنِي سَيِّدَهَا ؛ إشَارَةً إلَى كَثْرَةِ السَّرَارِي بِكَثْرَةِ الْفُتُوحَاتِ ، فَيَأْتِي الْأَوْلَادُ مِنْ الْإِمَاءِ ، فَتَعْتِقُ كُلُّ أُمٍّ بِوَلَدِهَا ، فَكَأَنَّهُ سَيِّدُهَا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ ؛ إذْ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا لَهَا مِنْ سَبَبِهِ ، فَالزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ مِمَّنْ يَرَى الزِّينَةَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَأَكْثَرَ مِنْ الزِّينَةِ ؛ إذْ كُلُّ مَحِلٍّ مِنْ بَدَنِهَا حَلَالٌ لَهُ لَذَّةً وَنَظَرًا ؛ وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى فَرْجِ زَوْجَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ التَّلَذُّذُ فَالنَّظَرُ أَوْلَى .
وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ { لِقَوْلِ عَائِشَةَ فِي ذِكْرِ حَالِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي } .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَدَبِ ؛ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ مِنْ عُلَمَائِنَا : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْحَسَهُ بِلِسَانِهِ .

الْمُسْتَثْنَى الثَّانِي : أَوْ آبَائِهِنَّ : وَلَا خِلَافَ أَنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ لَا يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ فِي اللَّذَّةِ .
وَكَذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْحَقُ غَيْرُ الزَّوْجِ بِالزَّوْجِ فِي النَّظَرِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شُورِكَ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِ الْعَطْفِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلَكِنْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمْ السُّنَّةُ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَبْدُو لِلْأَبِ مِنْ الزِّينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الرَّأْسُ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّ الَّذِي تُبْدِي الْقُرْطَ وَالْقِلَادَةَ وَالسِّوَارَ ، فَأَمَّا خَلْخَالُهَا وَشَعْرُهَا فَلَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى رَأْسِهَا خِمَارٌ وَمِقْنَعَةٌ ، فَتَكْشِفُ الْمِقْنَعَةَ لَهُ .
وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى ؛ إذْ الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ يَجُوزُ لِلْأَبِ النَّظَرُ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ فِي الْخُلْطَةِ ، وَلِأَجْلِ الْمَحْرَمِيَّةِ الَّتِي مَهَّدَتْ الشَّرِيعَةُ ؛ إذْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا النَّظَرُ شَهْوَةً ، لِتَعَذُّرِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ وَالْبَعْضِيَّةِ الْقَائِمَةِ مَعَهُ .

الْمُسْتَثْنَى الثَّالِثُ : أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ : قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ خَتَنَتِهِ ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
وَقَالَ : لَا أَرَاهَا مِنْهَا .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْحَمْوَ هُوَ الْمَوْتُ } يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْهُ ، كَمَا لَا بُدَّ مِنْ الْمَوْتِ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَلِأَنَّهَا بِنْتُهُ ، فَنَزَلَتْ مِنْهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ .
وَالْأَخْتَانُ وَالْأَصْهَارُ وَالْأَحْمَاءُ مِمَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْقَوْلُ ؛ وَجُلُّهُ أَنَّ الْخَتَنَ الصِّهْرُ .
وَقِيلَ : مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ .

الْمُسْتَثْنَى الرَّابِعُ : الْأَبْنَاءُ : قَالَ إبْرَاهِيمُ : لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى شَعْرِ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَكُرِهَ لِلْبَاقِينَ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الِابْنَ وَالْأَبَ أَحَقُّ الْأَجَانِبِ مِنْ جِهَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ .
الْمُسْتَثْنَى الْخَامِسُ : أَبْنَاءُ الْبُعُولَةِ : وَهُمْ يَنْزِلُونَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فِي جَوَازِ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ ، لِنُزُولِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَبْنَاءِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ .
الْمُسْتَثْنَى السَّادِسُ : الْإِخْوَةُ : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَى أُخْتِهِمَا أُمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ تَمْتَشِطُ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي .
الْمُسْتَثْنَى السَّابِعُ : أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ ، وَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ : رَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَا تُغَطِّي رَأْسَهَا مِنْهُ وَلَا مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ : مِنْ حَمْزَةَ أَخِيهَا ، وَلَا مِنْ جَعْفَرٍ ، وَلَا عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِيهَا ، وَلَا مِنْ الزُّبَيْرِ ابْنِهَا ، وَلَا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ابْنِ بِنْتِ أُخْتهَا أُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ كُرَيْزٍ ، وَأُمُّهَا الْبَيْضَاءُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَلَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ ، وَلَا مِنْ أَبِي سَبْرَةَ بْنِ أَبِي رُهْمٍ ابْنَيْ أُخْتِهَا بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَلَا مِنْ طُلَيْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ ، وَأُمُّهُ أَرْوَى بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَلَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَبِي أَحْمَدَ الشَّاعِرِ وَاسْمُهُ عُبَيْدُ ابْنَيْ جَحْشٍ ، أُمُّهُمَا أُمَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
الْمُسْتَثْنَى الثَّامِنُ : بَنُو الْأَخَوَاتِ : وَلَمَّا لَحِقُوا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْ تَقَدَّمَ لَحِقُوا بِهِمْ فِي جَوَازِ النَّظَرِ .

الْمُسْتَثْنَى التَّاسِعُ : قَوْلُهُ : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَمِيعُ النِّسَاءِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ .
فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ مُبْدِيَةً لَهُنَّ زِينَتَهَا وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ : أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَهُنَّ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَامْنَعْ ذَلِكَ ، وَحُلْ دُونَهُ .
ثُمَّ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَامَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامَ مُمْتَثِلًا ، فَقَالَ : " أَيُّمَا امْرَأَةٍ دَخَلَتْ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلَا سَقَمٍ تُرِيدُ الْبَيَاضَ لِزَوْجِهَا فَسَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهَا يَوْمَ تَبْيَضُّ الْوُجُوهُ " .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِجَمِيعِ النِّسَاءِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالضَّمِيرِ لِلِاتِّبَاعِ ، فَإِنَّهَا آيَةُ الضَّمَائِرِ ؛ إذْ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ضَمِيرًا لَمْ يَرَوْا فِي الْقُرْآنِ لَهَا نَظِيرًا ، فَجَاءَ هَذَا لِلِاتِّبَاعِ .

الْمُسْتَثْنَى الْعَاشِرُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } : حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا ؛ وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ فِيمَا سَمِعْت مِنْ شَيْخِنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ تَنَاقُضَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُهُ بِالْعُبُودِيَّةِ ، فَلَوْ مَلَكَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ لَقَالَ لَهَا : اُخْرُجِي وَأَطِيعِي زَوْجَك ، وَقَالَتْ هِيَ لَهُ : اُسْكُتْ وَأَطِعْ سَيِّدَتَكَ .
وَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَقِمْ ، وَقَالَ الْآخَرُ : ارْحَلْ .
وَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَنْفِقْ بِالرِّقِّ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَنْفِقْ بِالزَّوْجِيَّةِ .
فَيَعُودُ الطَّالِبُ مَطْلُوبًا وَالْآخَرُ مَأْمُورًا ، فَحَسَمَ اللَّهُ الْعِلَّةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ .
وَفِيمَا يُرْوَى فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَذَوِي الْمَحَارِمِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالَ مَالِكٌ : أَكْرَهُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، وَلِلَّهِ دَرُّهُ ، إنَّهَا لَيْسَتْ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ .
قَالَا : قَالَ مَالِكٌ : وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْجَارِيَةِ حُرًّا فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يَمْلِكُ بَقِيَّتَهَا أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ شَعْرِهَا ، كَمَا يَنْظُرُ غَيْرُهُ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَمَعَهَا الْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا .
وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْغُلَامِ حُرًّا فَلَا يَرَى شَعْرَ مَنْ يَمْلِكُ بَقِيَّتَهُ ، وَإِنْ كَانَ خَصِيًّا لَا تَمْلِكُهُ لَمْ يَنْظُرْ شَعْرَهَا وَصَدْرَهَا .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ خُصْيَانُ الْعَبِيدِ إلَى شُعُورِ النِّسَاءِ ، فَأَمَّا الْأَحْرَارَ فَلَا ، وَذَلِكَ فِي الْوَغْدِ مِنْهُمْ ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ الْمَنْظَرَةُ فَلَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ لِلْوَغْدِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ سَيِّدَتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِذِي الْمَنْظَرَةِ .
وَقَالَ فِي الْخَصِيِّ خَادِمُ الرَّجُلِ فِي مَنْزِلِهِ ، يَرَى فَخِذَهُ مُنْكَشِفَةً : إنَّهُ خَفِيفٌ .
وَقَالَ فِي جَارِيَةِ الْمَرْأَةِ : لَا يَنْبَغِي أَنْ تَرَى فَخِذَ زَوْجِهَا

يَنْكَشِفُ عَنْهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ، فَامْرَأَتُهُ فِي هَذَا كَغَيْرِهَا .
وَنَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النِّسَاءَ أَنْ يَلْبَسْنَ الْقَبَاطِيَّ ، وَقَالَ : " إنْ كَانَتْ لَا تَشِفُّ فَإِنَّهَا تَصِفُ " .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُرِيدُ الْخُصُورَ وَالْأَرْدَافَ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يُحَدِّثُ أَنَّ عَائِشَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ أَعْمَى ، وَأَنَّهَا احْتَجَبَتْ مِنْهُ ؛ فَقِيلَ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؛ إنَّهُ أَعْمَى لَا يَنْظُرُ إلَيْك .
قَالَتْ : " وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ " .
قَالَ أَشْهَبُ : سُئِلَ مَالِكٌ أَتُلْقِي الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا بَيْنَ يَدَيْ الْخَصِيِّ ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا ؛ فَأَمَّا الْحُرُّ فَلَا ، وَإِنْ كَانَ فَحْلًا كَبِيرًا وَغْدًا ، تَمْلِكُهُ لَا هَيْئَةَ لَهُ وَلَا مَنْظَرَةَ فَلْيَنْظُرْ إلَى شَعْرِهَا .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَمْلُوكُ إلَى مَوْلَاتِهِ " .
قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ بِوَاسِعٍ أَنْ تَدْخُلَ جَارِيَةُ الزَّوْجَةِ أَوْ الْوَلَدِ عَلَى الرَّجُلِ الْمِرْحَاضَ ؛ قَالَ اللَّهُ : { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } .
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : يَنْظُرُ الْغُلَامُ الْوَغْدُ إلَى شَعْرِ سَيِّدَتِهِ وَلَا أُحِبُّهُ لِغُلَامِ الزَّوْجِ .
وَأَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ غُلَامَ الْمَرْأَةِ فِي ذَوِي مَحَارِمِهَا يَحِلُّ مِنْهَا مَا يَحِلُّ لِذِي الْمَحْرَمِ .
وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْقِيَاسِ .
وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي الِاحْتِيَاطِ أَعْجَبُ إلَيَّ .
فَرْعٌ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَعَ عَبْدِهَا وَإِنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْهَا ؛ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ فِي السَّفَرِ فَيَحِلُّ لَهَا تَزَوُّجُهُ .
وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ عِتْقَهُ بِيَدِهَا ؛ فَلَا يُتَّفَقُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ بِمَوْضِعٍ يَتَأَتَّى

فِيهِ مَا ذَكَرْنَا .

الْمُسْتَثْنَى الْحَادِيَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : { أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ } : فِيهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الصَّغِيرُ ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْعِنِّينُ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْأَبْلَهُ الْمَعْتُوهُ لَا يَدْرِي النِّسَاءَ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمَجْبُوبُ لِفَقْدِ إرْبِهِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ الْهَرَمُ ، لِعَجْزِ إرْبِهِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا يَشْتَهِي الْمَرْأَةَ ، وَلَا يَغَارُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ .
قَالَهُ قَتَادَةُ .
السَّابِعُ : أَنَّ الَّذِي لَا يَهُمُّهُ إلَّا بَطْنُهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ خَادِمُ الْقَوْمِ لِلْمَعَاشِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ الصَّغِيرُ فَلَا مَعْنَى لَهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفْرَدَهُ اللَّهُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } .
وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ ؛ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ آلَةٌ ، وَمِنْهُمْ الْمَجْبُوبُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ آلَةٌ ، وَاَلَّذِي لَهُ آلَةٌ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهُمْ الْعِنِّينُ الَّذِي لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ ، وَمِنْهُمْ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ .
فَأَمَّا الْمَجْبُوبُ وَالْعِنِّينُ فَلَا كَلَامَ فِيهِمَا .
وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا مِمَّنْ لَا قَلْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ اجْتِمَاعٌ لِضَرُورَةِ حَالِهِ ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ رَخَّصَتْ فِي ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إلَيْهِ ، وَلِقَصْدِ نَفْيِ الْحَرَجِ بِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا هِيتٌ الْمُخَنَّثُ ، فَقَالَ لِأَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَهُوَ عِنْدَهَا : يَا عَبْدَ اللَّهِ ؛ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الطَّائِفَ غَدًا فَإِنِّي

أَدُلُّكَ عَلَى بَادِنَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ يَعْنِي زَوْجَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَإِنَّهَا تُنِيفُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَتُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَأَنَّهُ الْأُقْحُوَانُ ، وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا كَالْإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ ، إنْ جَلَسَتْ تَبَنَّتْ ، وَإِنْ قَامَتْ تَثَنَّتْ ، وَإِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ : بَيْنَ شُكُولِ النِّسَاءِ خِلْقَتُهَا قَصْدٌ فَلَا جَبْلَةٌ وَلَا قَضَفُ تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وَهْيَ لَاهِيَةٌ كَأَنَّمَا شَفَّ وَجْهَهَا نُزْفُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَأَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَاهُنَا ، لَا يَدْخُلْ عَلَيْكُنَّ } فَحَجَبَهُ .

الْمُسْتَثْنَى الثَّانِيَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ سَتْرِ مَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَالْآخَرُ : يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَهِي ، وَقَدْ تَشْتَهِي هِيَ أَيْضًا ؛ فَإِنْ رَاهَقَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَالِغِ فِي وُجُوبِ السَّتْرِ وَلُزُومِ الْحَجَبَةِ .
وَبَقِيَ هَاهُنَا الْمُسْتَثْنَى الثَّالِثَ عَشَرَ ، وَهُوَ الشَّيْخُ الَّذِي سَقَطَتْ شَهْوَتُهُ .
وَفِيهِ قَوْلَانِ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الصَّبِيِّ .
وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ الْحُرْمَةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ ، وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوهَا رَجُلًا أَوْ ظَنُّوهُ امْرَأَةً ، وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَرْأَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَظَرًا وَلَذَّةً ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّذَّةَ لِلزَّوْجِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الزِّينَةَ : ظَاهِرُ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ شَخْصًا الْعَبْدُ مِنْهُمْ ، فَمَا لَنَا وَلِغَيْرِ ذَلِكَ ؟ هَذَا نَظَرٌ فَاسِدٌ ، وَاجْتِهَادٌ عَنْ السَّدَادِ مُتَبَاعِدٌ .
وَقَدْ أَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَهُ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } عَلَى الْإِمَاءِ دُونَ الْعَبِيدِ ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الْعَبِيدِ ، ثُمَّ يُلْحَقُونَ بِالنِّسَاءِ ؟ هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } .
قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَضْرِبُ بِرِجْلَيْهَا لِيُسْمَعَ قَعْقَعَةَ خَلْخَالَيْهَا ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَرَحًا بِحُلِيِّهِنَّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ .
وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّجًا وَتَعَرُّضًا لِلرِّجَالِ فَهُوَ حَرَامٌ .
وَكَذَلِكَ مَنْ صَرَّ بِنَعْلِهِ مِنْ الرِّجَالِ ، إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عُجْبًا حَرُمَ ، فَإِنَّ الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّجًا لَمْ يَجُزْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَالْأَيِّمُ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا .
الثَّانِي : أَنَّهَا الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ { : نَهَى عَنْ الْأَيْمَةِ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي وَإِنْ كُنْت أَفْتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّمُ وَفِي الْحَدِيثَ : { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } ؛ وَهِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بَعْدَ زَوْجِهَا .
وَفِي لَفْظٍ : { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ : { وَأَنْكِحُوا } فَقِيلَ : هُمْ الْأَزْوَاجُ .
وَقِيلَ : هُمْ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ سَيِّدٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ الْأَوْلِيَاءُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : أَنْكِحُوا .
بِالْهَمْزَةِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ ، وَكَانَتْ الْأَلِفُ لِلْوَصْلِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْهَمْزَةِ فِي الْأَزْوَاجِ لَهُ وَجْهٌ فَالظَّاهِرُ أَوْلَى ، فَلَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَنْكِحُوا } : لَفْظُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْءِ مِنْ خَوْفِهِ الْعَنَتَ ، وَعَدَمِ صَبْرِهِ ، وَمِنْ قُوَّتِهِ عَلَى الصَّبْرِ ، وَزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ عَنْهُ .
وَإِذَا خَافَ الْهَلَاكَ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا فَالنِّكَاحُ حَتْمٌ .
وَإِنْ لَمْ يَخْشَ شَيْئًا وَكَانَتْ الْحَالُ مُطْلَقَةً ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : النِّكَاحُ مُبَاحٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : هُوَ مُسْتَحَبٌّ .
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ قَضَاءُ لَذَّةٍ ، فَكَانَ مُبَاحًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ .
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ الصَّحِيحِ .
وَفِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ : الْأَوَّلُ : قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : { جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوهَا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ .
قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا .
وَقَالَ الْآخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ، وَلَا أُفْطِرُ .
وَقَالَ الْآخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا .
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ ، فَقَالَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ؛ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .
الثَّانِي : قَالَ عُرْوَةُ : سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } إلَى قَوْلِهِ : { أَلَّا تَعْدِلُوا } .
قَالَتْ : يَا بْنَ أُخْتِي ، هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا ، فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا ، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَأَنْكِحُوا إمَاءَكُمْ .
وَتَقْرِيرُهَا : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ .
الثَّانِي : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ، كَمَا أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى ، وَذَلِكَ بِيَدِ السَّادَةِ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ، كَمَا هُوَ فِي الْأَحْرَارِ بِيَدِ الْأَوْلِيَاءِ ، إلَّا مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ ، وَائْتَمَرَ أَمْرَهُ ، وَأَبْصَرَ رُشْدَهُ .
أَمَّا أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَامِلٌ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيَّةِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَمْلُوكِيَّةُ فِيمَا كَانَ حَظًّا لِلسَّيِّدِ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ، فَلَهُ حَقُّ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي بُضْعِ الْأَمَةِ لِيَسْتَوْفِيَهُ وَيَمْلِكَهُ .
فَأَمَّا بُضْعُ الْعَبْدِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا تُبَاحُ السَّيِّدَةُ لِعَبْدِهَا ؛ هَذِهِ عُمْدَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ .
وَلِعُلَمَائِنَا النُّكْتَةُ الْعُظْمَى فِي أَنَّ مَالِكِيَّةَ الْعَبْدِ اسْتَغْرَقَتْهَا مَالِكِيَّةُ السَّيِّدِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِهِ إجْمَاعًا .
وَالنِّكَاحُ وَبَابُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَمَصْلَحَةُ الْعَبْدِ مَوْكُولَةٌ إلَى السَّيِّدِ ، هُوَ يَرَاهَا وَيُقِيمُهَا لِلْعَبْدِ ، وَلِذَلِكَ زَوَّجَ الْأَمَةَ بِمِلْكِهِ لِرَقَبَتِهَا ، لَا بِاسْتِيفَائِهِ لِبُضْعِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهَا ، وَيَمْلِكُ بُضْعَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ أَمَةً ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَوْفِيهِ .
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ كَالْمَالِكِيَّةِ فِي رَقَبَةِ الْأَمَةِ .
وَالْمَصْلَحَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِ السَّيِّدِ اسْتِيفَاؤُهَا وَإِقَامَتُهَا وَالنَّظَرُ

إلَيْهَا ، وَمِنْهَا وَمِنْ عَدِّهِمْ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِمِلْكِ عَقْدِهِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ نَظَرًا فِي الْمَصْلَحَةِ ، فَإِنْ أَسْقَطَهَا الْعَبْدُ فَقَدْ أَسْقَطَ خَالِصَ حَقِّهِ الَّذِي لَهُ ، وَقَدْ نَرَى الثَّيِّبَ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، وَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهَا النِّكَاحُ ، وَيُمْلَكُ النِّكَاحُ عَلَى السَّفِيهِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ ، وَيُمْلَكُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ ، وَلَا يَمْلِكُ هُوَ الْإِقَالَةَ وَلَا الْفَسْخَ ، وَلَا الْعِتْقَ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَيْنَيْنِ غَيْرُ مَطْلَعِ الْآخَرِ ، فَافْتَرَقَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَرَادَ الْمَمْلُوكَيْنِ لَقَالَ مِنْ عَبِيدِكُمْ .
قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ : ( وَإِمَائِكُمْ ) ، وَلَوْ أَرَادَ النَّاسَ لَمَا جَاءَ بِالْهَمْزَةِ .
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا الْحَسَنُ مِنْ عَبِيدِكُمْ ، وَلِيُبَيَّنَ الْإِشْكَالُ وَيُرْفَعَ اللَّبْسُ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَوْ قَدَّرْنَاهُ كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ عَامًّا ، وَكُنَّا نَحْكُمُ بِعُمُومِهِ فِيمَنْ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، كَمَا حَكَمْنَا بِعُمُومِهِ فِيمَنْ كَانَتْ أَمَةً لِلَّهِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بِتَمْلِيكِهِ إيَّاهَا لَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُغْنِيهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالنِّكَاحِ ، كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ } يَعْنِي النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِهِ .
الثَّانِي : يُغْنِيهِمْ بِالْمَالِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : عَجِبْت لِمَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْبَاءَةِ ، وَاَللَّهُ يَقُولُ : { إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالنَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ } .
فَإِنْ قُلْنَا : قَدْ نَجِدُ النَّاكِحَ لَا يَسْتَغْنِي .
قُلْنَا : عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُغْنِيهِ بِإِيتَاءِ الْمَالِ ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ .
الثَّانِي : يُغْنِيهِ عَنْ الْبَاءَةِ بِالْعِفَّةِ .
الثَّالِثُ : يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الدَّوَامِ ؛ بَلْ لَوْ كَانَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لَصَدَقَ الْوَعْدُ .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ : إنَّ هَذَا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ : " النَّاكِحُ مُعَانٌ ، وَالْمُكَاتَبُ مُعَانٌ ، وَبَاغِي الرَّجْعَةِ مُعَانٌ " .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ وَرَدَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا قَدْ تَنَاوَلَتْ مُخْتَلِفَاتِ الْأَحْكَامِ ؛ مِنْهَا وَاجِبٌ ، وَمِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَمِنْهَا فِي الْبَالِغِ ، وَمِنْهَا فِي الصَّغِيرِ ، وَمِنْهَا فِي الثَّيِّبِ ، وَمِنْهَا فِي الْبِكْرِ .
قُلْنَا : هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخِطَابِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَأَقْرَبُ مِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } إلَى آخِرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ

يَخْتَلِفُ فِي بَابِهِ ، وَالْخِطَابُ مُشْتَرَكٌ فِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ فِي التَّعَلُّقِ بِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَزْوِيجِ الْفَقِيرِ ، وَلَا يَقُولَنَّ كَيْفَ أَتَزَوَّجُ وَلَيْسَ لِي مَالٌ ؟ فَإِنَّ رِزْقَهُ وَرِزْقَ عِيَالِهِ عَلَى اللَّهِ ، { وَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْهُوبَةَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا إزَارٌ وَاحِدٌ } ، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ هَذَا فَسْخُ النِّكَاحِ بِالْإِعْسَارِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَيْهِ دَخَلَتْ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَارِ ، فَخَرَجَ مُعْسِرًا ، أَوْ طَرَأَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا خِطَابٌ لِبَعْضِ مَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الْأُولَى مِمَّنْ يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ ، فَيَتَعَفَّفُ ، وَيَتَوَقَّفُ ، أَوْ يَقْدُمُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَلَا يَتَخَلَّفُ .
وَأَمَّا مَنْ زِمَامُهُ بِيَدِ سِوَاهُ يَقُودُهُ إلَى مَا يَرَاهُ ، فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدْخَلٌ كَالْمَحْجُورِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ كَانَ النِّكَاحُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مُخْتَلَفًا فِيهِ مَا بَيْنَ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ فَالِاسْتِعْفَافُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ إمْسَاكٌ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ ؛ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاجِبٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالنِّكَاحِ دَرَجَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا مُحَرَّمٌ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مِلْكُ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهُ بِنَصٍّ آخَرَ مُبَاحٌ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، فَجَاءَتْ فِيهِ زِيَادَةُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِآيَةٍ فِي آيَةٍ ، وَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءُ رَدًّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْهُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ لِنَسْخِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا } يَعْنِي يَقْدِرُونَ ، وَعَبَّرَ عَنْ الْقُدْرَةِ بِالْوُجُودِ ، وَعَنْ عَدَمِهَا بِعَدَمِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً }

حَرْفًا بِحَرْفٍ فَخُذْهُ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ .
الثَّانِي : بِالرَّغْبَةِ عَنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ يَسْتَعِفُّ بِالصَّوْمِ ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ ؛ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } .
وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لِانْتِظَامِ الْقُرْآنِ فِيهِ وَالْحَدِيثِ ، وَاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } يَعْنِي يَطْلُبُونَ الْكِتَابَ ، يُرِيدُ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُونَهُ إلَى سَادَاتِهِمْ ، فَافْعَلُوا ذَلِكَ لَهُمْ ، فَذَكَرَ اللَّهُ طَلَبَ الْعَبْدِ لِلْمُكَاتَبَةِ ، وَأَمَرَ السَّيِّدَ بِهَا حِينَئِذٍ ؛ وَهِيَ حَالَتَانِ : الْأُولَى : أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ ، وَيُجِيبَهُ السَّيِّدُ ؛ فَهَذَا مُطْلَقُ الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا .
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ ؛ وَيَأْبَاهَا السَّيِّدُ ؛ وَفِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : لِعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ .
وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَهَا بِمُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ } .
وَافْعَلْ بِمُطْلَقِهِ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِغَيْرِهِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا نُسَلِّمُهَا لَهُمْ ، بَلْ نَقُولُ إنَّ لَفْظَ " افْعَلْ " لِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ ، وَالْوُجُوبُ يَكُونُ بِتَعَلُّقِ الذَّمِّ بِتَرْكِهِ ، وَالِاقْتِضَاءُ يَسْتَقِلُّ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ ، فَأَيْنَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ؟ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي لَا مُزَعْزِعَ لَهُ .
أَمَّا إنَّ مِنْ عُلَمَائِنَا الْمُتَمَرِّسِينَ بِالْفِقْهِ سَلَّمُوا أَنَّ مُطْلَقَ " افْعَلْ " عَلَى الْوُجُوبِ ، وَادَّعَوْا أَنَّ الدَّلِيلَ هَاهُنَا قَدْ قَامَ عَلَى سُقُوطِ الْوُجُوبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ فَفِيهَا إخْرَاجُ مِلْكِ السَّيِّدِ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ ، بَلْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا تَقْتَضِي أَلَّا يَخْرُجَ أَحَدٌ عَنْ يَدِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ .
وَمَا جَاءَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَنَا أَوْ الْحَدِيثَ إذَا جَاءَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ، وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فِي بَابِهِ ، وَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ

الْمَضَرَّاتِ مِنْ كُتُبِ الْخِلَافِ ، وَفِي تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ مِنْ كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ .
الثَّانِي : قَالُوا : إنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إذَا تَعَرَّى عَنْ قَرِينَةٍ ، وَهَاهُنَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِي صَرْفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطِ عِلْمِ الْخَيْرِ فِيهِ ، فَتَعَلَّقَ الْوُجُوبُ عَلَى أَمْرٍ بَاطِنٍ ، وَهُوَ عِلْمُ السَّيِّدِ بِالْخَيْرِ فِيهِ .
وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ ، كَاتِبْنِي ، فَقَالَ السَّيِّدُ : لَمْ أَعْلَمْ فِيك خَيْرًا ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ ؛ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَيْهِ ، وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي بَابِهِ .
الثَّالِثُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَالُ الْعَبْدِ وَأَكْسَابُهُ مِلْكُ السَّيِّدِ ، وَرَقَبَتُهُ مِلْكٌ لَهُ ؛ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : خُذْ كَسْبِي وَخَلِّصْ رَقَبَتِي فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَفْوِيتِ مِلْكِهِ عَنْهُ ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : أَعْتِقْنِي .
وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ ، وَهُوَ كَلَامٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ عَلَى مُثْبِتِي الِاجْتِهَادِ ؛ وَمَنْ رَدَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْقُدْرَةُ عَلَى السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّ الْخَيْرَ الْمَالُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْوَفَاءُ وَالصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الثَّانِي .
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ الْمَالُ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ بِحُسْنِ السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُنَجَّمٌ يَجْتَمِعُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ فَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى مَعْنًى هُوَ مَشْرُوطٌ فِي كُلِّ طَاعَةٍ وَفِعْلٍ ، فَلَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ بِاشْتِرَاطِهِ وَحْدَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالِ قَاطَعَهُ عَلَيْهِ نُجُومًا ، فَإِنْ جَعَلَهُ حَالًّا فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا بِاخْتِلَافِهِمْ .
وَالصَّحِيحُ فِي النَّظَرِ أَنَّ الْكِتَابَةَ مُؤَجَّلَةٌ ، كَمَا وَرَدَ بِهَا الْأَثَرُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ حِينَ كَاتَبَتْ أَهْلَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ .
وَكَمَا فَعَلَتْ الصَّحَابَةُ ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ كِتَابَةً ؛ لِأَنَّهَا تُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهَا ، فَقَدْ اسْتَوْثَقَ الِاسْمُ وَالْأَثَرُ وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّ الْمَالَ إنْ جَعَلَهُ حَالًّا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَبْدِ ، أَوْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ شَيْءٌ ؛ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا قَطَعَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَالُ مُقَاطَعَةٍ وَعَقْدُ مُقَاطَعَةٍ ، لَا عَقْدُ كِتَابَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَبْدِ مَالٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُكَاتِبُهُ عَلَيْهِ حَالًّا ؛ لِأَنَّهُ أَجَلٌ مَجْهُولٌ فَيَدْخُلُهُ الْغَرَرُ ، وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ ؛ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ ، وَمِنْ جِهَةِ الدِّينِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا جُعِلَ الْأَجَلُ رِفْقًا بِالْعَبْدِ ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرْتَفِقَ وَإِلَّا تَرَكَ حَقَّهُ .
قُلْنَا : كُلُّ حَقٍّ هُوَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ وَتَرْكٌ صِرْفٌ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَكُلُّ حَقٍّ يُتْرَكُ فِي عَقْدٍ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْغَرَرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا .
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَدَّرَهُ عَلِيٌّ بِرُبُعِ الْكِتَابَةِ ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ بِنَجْمٍ مِنْ نُجُومِهَا .
وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فَإِنَّهُ يُنَفِّذُهُ فِي تَرِكَتِهِ ، وَيَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ .
وَاحْتَجَّ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } ، وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ ، وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ عُمْدَةٌ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِعُلَمَائِنَا .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَلَوْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَ قَالَ : إنَّ الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ يَقُولُ : إنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ لَكَانَ تَرْكِيبًا حَسَنًا ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : إنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَلْزَمُ وَالْإِيتَاءُ يَجِبُ ؛ فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ وَاجِبٍ ، وَالْفَرْعَ وَاجِبًا ؛ وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ ؛ فَصَارَتْ دَعْوَى مَحْضَةً .
فَإِنْ قِيلَ : يَكُونُ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ لَا يَجِبُ ، فَإِذَا انْعَقَدَ وَجَبَتْ أَحْكَامُهُ ، مِنْهَا الْمُتْعَةُ .
قُلْنَا : عِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ ؛ فَلَا مَعْنَى لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا .
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْإِيتَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكَانَ الْمَالُ فِي أَصْلِ الْكِتَابَةِ مَجْهُولًا ، وَالْعَقْدُ بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ ، وَقَدْ عَضَّدَهُ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } .
وَمَالُ اللَّهِ هُوَ الزَّكَاةُ ، وَالْفَيْءُ ، وَلَيْسَ بِمَالٍ أَوْجَبَ حَقًّا فِي عَقْدٍ ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ وَأَمْوَالُهُمْ لِلَّهِ ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ إنَّمَا يَنْطَلِقُ

عَلَى الزَّكَاةِ وَالْفَيْءِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا : إنَّهُ مَالُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ ، وَقَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَيْهِ .
قُلْنَا : هَذَا مَجَازٌ ، لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمَجَازَ حَقِيقَةً ، وَيَعْدِلُونَ بِاللَّفْظِ عَنْ طَرِيقِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ؟ قُلْنَا : سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحُجَّةَ إلَّا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْمُعْجِزَةِ ، عَلَى أَنَّ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَنَّ عُمَرَ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ هُوَ جَدُّ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : كَمْ تَعْرِضُ ؟ فَقَالَ عَبْدُهُ : أَعْرِضُ مِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ .
قَالَ : فَمَا اسْتَزَادَنِي ، وَكَاتَبَنِي عَلَيْهَا ، فَأَرَادَ أَنْ يُعَجِّلَ لِي مِنْ مَالِهِ طَائِفَةً ، فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ : إنِّي كَاتَبْت غُلَامِي ، فَأَرَدْت أَنْ أُعَجِّلَ لَهُ طَائِفَةً مِنْ مَالِي ، فَأَرْسِلِي إلَيَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِشَيْءٍ ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إلَيْهِ ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِيَمِينِهِ ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } فَخُذْهَا ، فَبَارَكَ اللَّهُ لَك فِيهَا .
قَالَ : فَبَارَكَ اللَّهُ لِي فِيهَا ؛ عَتَقْت مِنْهَا ، وَأَصَبْت خَيْرًا كَثِيرًا .
وَقَالَ عَلِيٌّ فِي قَوْلِ اللَّهِ : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قَالَ : رُبُعُ الْكِتَابَةِ .
وَكَاتَبَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَوَضَعَ عَنْهُ رُبُعَهَا ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَفِعْلُهُ لَا يَقْتَضِي إلَّا النَّدْبَ ، وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ دَلِيلٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كَاتَبَ غَيْرَهُ ، وَحَلَفَ أَلَّا يَحُطَّهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي أَيِّ وَقْتٍ يُؤْتَى ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ وَسَأَلْته عَمَّا يُتْرَكُ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ كِتَابَتِهِ الَّتِي يُكَاتِبُ عَلَيْهَا : مَتَى يُتْرَكُ ؛ وَكَيْفَ يُكْتَبُ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ : يُكْتَبُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَاتَبَ عَلَى كَذَا ، وَقَدْ وَضَعَ عَنْهُ مِنْ أَجْرِ كِتَابَتِهِ كَذَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ آخِرِ الْكِتَابَةِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
الرَّابِعُ : يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِهَا ؛ قَالَهُ عُمَرُ وَفَعَلَهُ .
وَالْأَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِهَا ، لِيَسْتَفِيدَ بِذَلِكَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا عَلَيْهِ ، وَحُصُولَ الْعِتْقِ لَهُ ، وَالْإِسْقَاطُ أَبَدًا إنَّمَا يَكُونُ فِي أُخْرَيَاتِ الدُّيُونِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ فِي عَامَيْنِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ : فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَا يَقْتَضِيهِ وَالْحَالُ يَشْهَدُ لَهُ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : كَانَتْ جَارِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ فَأَكْرَههَا عَلَى الْبِغَاءِ ، فَقَالَتْ لَهُ : لَئِنْ كَانَ هَذَا خَيْرًا لَقَدْ اسْتَكْثَرْت مِنْهُ وَرُوِيَ لَقَدْ اسْتَنْكَرْت مِنْهُ وَإِنْ كَانَ شَرًّا لَقَدْ بَانَ لِي أَنْ أَدَعَهُ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا مُعَاذَةُ ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَكَانَ عِنْدَهُ ، وَكَانَ الْقُرَشِيُّ يُرِيدُ الْجَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهَا ، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَضْرِبُهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا مِنْ الْقُرَشِيِّ ، رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ ، فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .
وَكَذَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : وَقَعَ فِي مُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا إنْ أَرَادَتْ الْمُكْرَهَةُ الْإِحْصَانَ ، وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ بِحَالٍ ، فَتَعَلَّقَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ بِشَيْءٍ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَذَكَرُوهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ الْحَقَائِقِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ إرَادَةَ التَّحَصُّنِ مِنْ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الْإِكْرَاهَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ رَاغِبَةً فِي الزِّنَا لَمْ يُتَصَوَّرْ إكْرَاهٌ ، فَحَصِّلُوهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْإِكْرَاهِ فِيمَا سَبَقَ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِ الْإِكْرَاهِ فِي الزِّنَا ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَائِنَا ، وَهُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَغَيْرُهُ ، وَلَا يَنْهَى اللَّهُ إلَّا عَنْ مُتَصَوَّرٍ ، وَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُسْقِطُ حُكْمَ التَّكْلِيفِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الزَّانِيَ يَنْتَشِرُ وَيَشْتَهِي إذَا اتَّصَلَ بِالْمَرْأَةِ طَبْعًا .
قُلْنَا : الْإِلْجَاءُ إلَى ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ } ، فَإِنَّ مِنْ الْبَغَايَا مَنْ كَانَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ الْبَغْيِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ جَرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ رَوَى مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } قَالَ : كَانُوا يَأْمُرُونَ وَلَائِدَهُمْ فَيُبَاغِينَ فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيُصِبْنَ ، فَيَأْتِينَهُمْ بِكَسْبِهِنَّ .
وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ جَارِيَةً ، وَكَانَتْ تُبَاغِي ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ ، وَحَلَفَتْ أَلَّا تَفْعَلَهُ ، فَانْطَلَقَتْ فَبَاغَتَ بِبُرْدٍ أَخْضَرَ ، فَأَتَتْهُمْ بِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ " مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ إنَّمَا هِيَ لِلْمُكْرَهِ لَا لِلَّذِي أَكْرَهَ عَلَيْهِ وَأَلْجَأَ الْمُكْرَهَ الْمُضْطَرَّ إلَيْهِ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهٍ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وَالْمَغْفِرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُكْرَهِ الْمُضْطَرِّ إلَيْهِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ فِي الْمَيْتَةِ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ ، وَفِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ ، وَأَوْضَحْنَا الْمُرَادَ مِنْهَا عَلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهَذَا الْحَرْفُ مِنْهَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَحْكَامِيِّينَ ، فَرَأَيْنَا أَلَّا نُخْلِيَ هَذَا الْمُخْتَصَرَ مِنْهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَجَرِ الشَّرْقِ دُونَ الْغَرْبِ ، وَلَا مِنْ شَجَرِ الْغَرْبِ دُونَ الشَّرْقِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ كَانَ أَدْنَى زَيْتًا ، وَأَضْعَفَ ضَوْءًا .
وَلَكِنَّهَا مَا بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ ، كَالشَّامِ ؛ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ قَالَ : هُوَ الشَّامُ ، الشَّرْقُ مِنْ هَاهُنَا وَالْغَرْبُ مِنْ هَاهُنَا ، وَرَأَيْتُهُ لِابْنِ شَجَرَةَ أَحَدِ حُذَّاقِ الْمُفَسِّرِينَ .
الثَّانِي : أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْقِيَّةٍ تُسْتَرُ عَنْ الشَّمْسِ عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَلَا بِغَرْبِيَّةٍ تُسْتَرُ عَنْ الشَّمْسِ وَقْتَ الطُّلُوعِ ؛ بَلْ هِيَ بَارِزَةٌ ؛ وَذَلِكَ أَحْسَنُ لِزَيْتِهَا أَيْضًا ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا وَسَطُ الشَّجَرِ ، لَا تَنَالُهَا الشَّمْسُ إذَا طَلَعَتْ وَلَا إذَا غَرَبَتْ ، وَذَلِكَ أَجْوَدُ لِزَيْتِهَا : قَالَهُ عَطِيَّةُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا لَيْسَ فِي شَجَرِ الشَّرْقِ وَلَا فِي شَجَرِ الْغَرْبِ مِثْلُهَا قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ لَا مِنْ الدُّنْيَا قَالَهُ الْحَسَنُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ، لَيْسَتْ بِنَصْرَانِيَّةٍ تُصَلِّي إلَى

الشَّرْقِ ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ تُصَلِّي إلَى الْغَرْبِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ التَّفْسِيرَ مَنَازِلَهُ ، وَيَضَعُونَ التَّأْوِيلَ مَوَاضِعَهُ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ ، أَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَ لِنُورِهِ الْمُعَظَّمَ مَثَلًا تَنْبِيهًا لِخَلْقِهِ إلَّا بِبَعْضِ خَلْقِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ بِقُصُورِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَرَفَ اللَّهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، وَأَنْوَرُ الْمَصَابِيحِ فِي الدُّنْيَا مِصْبَاحٌ يُوقَدُ مِنْ دُهْنِ الزَّيْتُونِ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مُفْرَدَةً قَدْ تَبَاعَدَ عَنْهَا الشَّجَرُ فَخَلَصَتْ مِنْ الْكُلِّ ، وَأَخَذَتْهَا الشَّمْسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، فَذَلِكَ أَصْفَى لِنُورِهَا ، وَأَطْيَبُ لِزَيْتِهَا ، وَأَنْضَرُ لِأَغْصَانِهَا ، وَذَلِكَ مَعْنَى بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي فَهِمَهَا النَّاسُ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهَا فِي أَشْعَارِهِمْ ، فَقَالُوا : بُورِكَ الْمَيْتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُورِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ وَقَدْ رَأَيْت فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى زَيْتُونَةً كَانَتْ بَيْنَ مِحْرَابِ زَكَرِيَّا وَبَيْنَ بَابِ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ الَّذِي يَقُولُونَ : إنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ يَعْنِي الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ بِشَرْقِيِّهِ دُونَ السُّوَرِ ، وَادِي جَهَنَّمَ ، وَفَوْقَهُ أَرْضُ الْمَحْشَرِ الَّتِي تُسَمَّى بِالسَّاهِرَةِ ، فَكَانُوا يَقُولُونَ : إنَّهَا الشَّجَرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
وَرَبُّك أَعْلَمُ .
وَمِنْ غَرِيبِ الْأَثَرِ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا الْفُقَهَاءِ قَالَ : إنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَلِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ ، فَالْمِشْكَاةُ هِيَ الْكُوَّةُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ ، فَشَبَّهَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِالْكُوَّةِ فِيهَا الْقِنْدِيلُ ، وَهُوَ الزُّجَاجَةُ ، وَشَبَّهَ عَبْدُ اللَّهِ

بِالْقِنْدِيلِ وَهُوَ الزُّجَاجَةُ ، وَمُحَمَّدٌ كَالْمِصْبَاحِ يَعْنِي مِنْ أَصْلَابِهِمَا ، وَكَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ وَهُوَ الْمُشْتَرَى ، يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ يَعْنِي إرْثَ النُّبُوَّةِ ، مِنْ إبْرَاهِيمَ ، وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُبَارَكَةُ ، يَعْنِي حَنِيفَةً لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً ، لَا يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةً ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ .
يَقُولُ : يَكَادُ إبْرَاهِيمُ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ ، نُورٌ عَلَى نُورٍ إبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُحَمَّدٌ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا كُلُّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي التَّمْثِيلِ أَنْ يَتَوَسَّعَ الْمَرْءُ فِيهِ ، وَلَكِنْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي شَرَّعْنَاهَا فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ لَا عَلَى الِاسْتِرْسَالِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُخْرِجُ الْأَمْرَ عَنْ بَابِهِ ، وَيَحْمِلُ عَلَى اللَّفْظِ مَا لَا يُطِيقُهُ ، فَمَنْ أَرَادَ الْخِبْرَةَ بِهِ وَالشِّفَاءَ مِنْ دَائِهِ فَلْيَنْظُرْ هُنَالِكَ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اُخْتُلِفَ فِي الْبُيُوتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَمَاعَةٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا سَائِرُ الْبُيُوتِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : ( تُرْفَعُ ) : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : تُبْنَى ، كَمَا قَالَ : { وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } .
قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : تُطَهَّرُ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَطَهِّرْ بَيْتِي } .
الثَّالِثُ : أَنْ تُعَظَّمَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهَا تُبْنَى فَهُوَ مُتَمَعِّنٌ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلُ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تُطَهَّرُ مِنْ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ فَذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَسْجِدَ لِيَنْزَوِيَ مِنْ النَّجَاسَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ مِنْ النَّارِ } .
وَهَذَا فِي النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ ، فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهَا ؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا تُرْفَعُ فَالرَّفْعُ حِسًّا كَالْبِنَاءِ ، وَحُكْمًا كَالتَّطْهِيرِ وَالتَّنْظِيفِ ، وَكَمَا تَطْهُرُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُطَهَّرَةٌ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، لِقَوْلِهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا ، ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِنُورِهِ بِالزَّيْتِ الَّذِي يَتَوَقَّدُ مِنْهُ الْمِصْبَاحُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُكَرَّمَةِ ، وَهِيَ الْمَسَاجِدُ ، تَتْمِيمًا لِتَشْرِيفِ الْمَثَلِ بِالْمَثَلِ وَجَلَالِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْمَسَاجِدِ جُمَلًا

عَظِيمَةً تَرْبُو عَلَى الْمَأْمُولِ فِيهِ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ ، كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ خُصُومَةٌ ، وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَدْعُوهُ إلَى [ التَّحَاكُمِ عِنْدَ ] النَّبِيِّ ، وَكَانَ الْمُنَافِقُ يَدْعُوهُ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ ، وَقَالَ : إنَّ مُحَمَّدًا يَحِيفُ عَلَيْنَا ، وَكَانَ الْمُنَافِقُ إذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ دَعَا إلَى غَيْرِ النَّبِيِّ ، وَإِذَا كَانَ لَهُ الْحَقُّ دَعَاهُ إلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ لَهُ ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إذَا كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُعَاهِدِ وَالْمُسْلِمِ أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا حَقَّ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ فَذَلِكَ إلَيْهِمَا ، فَإِذَا جَاءَ قَاضِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إجَابَةِ الدَّعْوَى إلَى الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَلَمْ يُجِبْ بِأَقْبَحَ الْمَذَمَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ حَدَّ الْوَاجِبِ مَا ذُمَّ تَارِكُهُ شَرْعًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو الْأَشْعَثِ ، عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ ، وَلَا حَقَّ لَهُ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : فَهُوَ ظَالِمٌ فَكَلَامٌ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا حَقَّ لَهُ فَلَا يَصِحُّ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } يَعْنِي غَايَةَ أَيْمَانِهِمْ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجِهَادِ ثُمَّ يَعْتَذِرُونَ ، فَإِذَا عُوتِبُوا قَالُوا : لَوْ أَمَرْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَخَرَجْنَا ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ : لَا تُقْسِمُوا ، ثُمَّ قَالَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : الْأَوَّلُ : طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَمْثَلُ .
الثَّانِي : طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَكُمْ فِيهَا الْكَذِبُ ، أَيْ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ مَعْرُوفَةٌ قَوْلًا ، بَاطِلَةٌ قَطْعًا ؛ لَا يَفْعَلُونَهَا إلَّا إذَا أَمَرْتَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا مَا فَعَلُوا .
الثَّالِثُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : مَعْنَى قَوْلِهِ : طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ يَعْنِي لَيْسَتْ لَكُمْ طَاعَةٌ .
وَقَدْ قُرِئَتْ " طَاعَةً " بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ ، وَيَكُونُ قَوْلُ طَاعَةٍ مَنْصُوبَةً ابْتِدَاءَ كَلَامٍ ، وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى فِيهِ إلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ ، إلَّا أَنَّ الْإِعْرَابَ يَخْتَلِفُ ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا إلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْعَدُوِّ ، وَتَضْيِيقِهِ عَلَيْهِمْ ، وَشِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ الْأَذَى ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ لَهُمْ ، فَأَنْجَزَهُ اللَّهُ ، وَمَلَّكَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ .
وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ : { مَكَثَ النَّبِيُّ عَشْرَ سِنِينَ خَائِفًا يَدْعُو اللَّهَ سِرًّا وَجَهْرًا ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَمَكَثَ بِهَا وَأَصْحَابُهُ خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ وَيُمْسُونَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ ، وَنَضَعُ عَنَّا السِّلَاحَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا لَا تَعْبُرُونَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ مِنْ الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ بِيَدِهِ حَدِيدَةٌ } ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مَالِكٌ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلَى آخِرِهَا .

وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الْآيَةُ وَعْدُ حَقٍّ وَقَوْلُ صِدْقٍ ، يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الْفَضِيلَةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، فَأُولَئِكَ مَقْطُوعٌ بِإِمَامَتِهِمْ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمْ .
وَصَدَقَ وَعْدُ اللَّهِ فِيهِمْ ، وَكَانُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ؛ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ ، وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِيهِمْ ، وَصَدَقَ الْكَلَامُ فِيهِمْ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَعْدُ بِهِمْ يُنْجَزُ ، وَفِيهِمْ نَفَذَ ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ فَفِيمَنْ يَكُونُ إذَنْ ؟ وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَلَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ .
قَامَ أَبُو بَكْرٍ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ ، وَاتِّفَاقِ الْخَلْقِ ، وَوَاضِحِ الْحُجَّةِ ، وَبُرْهَانِ الدِّينِ ، وَأَدِلَّةِ الْيَقِينِ ، فَبَايَعَهُ الصَّحَابَةُ ، ثُمَّ اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَلَزِمَتْ الْخِلَافَةُ ، وَوَجَبَتْ النِّيَابَةُ ، وَتَعَيَّنَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ، ثُمَّ جَعَلَهَا عُمَرُ شُورَى ، فَصَارَتْ لِعُثْمَانَ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ ، وَالتَّبْجِيلِ الصَّرِيحِ ، وَالْمَسَاقِ الْفَسِيحِ ؛ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ أَمْرَهُمْ إلَى ثَلَاثَةٍ ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَفْسَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إلَى مَنْ اخْتَارَهُ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ، فَاخْتَارَ عُثْمَانَ ، وَمَا عَدَلَ عَنْ الْخِيَارِ ، وَقَدَّمَهُ وَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ عَلَى عَلِيٍّ .
ثُمَّ قُتِلَ عُثْمَانُ مَظْلُومًا فِي نَفْسِهِ ، مَظْلُومًا جَمِيعُ الْخَلْقِ فِيهِ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَلِيٌّ أَخْذًا بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ ، وَانْتِقَالًا مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الْأَوَّلِ ، فَلَا إشْكَالَ لِمَنْ جَنَفَ عَنْ الْمُحَالِ أَنَّ التَّنْزِيلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَعْدُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
ثُمَّ كَمُلَتْ لِحَالِ أَبِي بَكْرٍ فَاتِحَةً وَخَاتِمَةً .
ثُمَّ كَمُلَتْ لِعُمَرَ ، وَكُسِرَ الْبَابُ ، فَاخْتَلَطَ الْخُشَارُ بِاللُّبَابِ ، وَانْجَرَّتْ الْحَالُ مَعَ عُثْمَانَ وَاضِحَةً لِلْعُقَلَاءِ ، مُعْتَرَضًا عَلَيْهَا مِنْ الْحَمْقَى ، ثُمَّ نَفَذَ

الْقَدَرُ بِقَتْلِهِ إيثَارًا لِلْخَلْقِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ أَحْسَنَ قِيَامٍ لَوْ سَاعَدَهُ النَّقْضُ وَالْإِبْرَامُ ، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ الْأُمُورَ نَشْرًا ، وَمَا رَامَ رَتْقَ خَصْمٍ إلَّا انْفَتَقَ عَلَيْهِ خَصْمٌ ، وَلَا حَاوَلَ طَيَّ مُنْتَشِرٍ إلَّا عَارَضَهُ عَلَيْهِ أَشِرُ ، وَنُسِبَتْ إلَيْهِ أُمُورٌ هُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنْ الدَّنَسِ ، وَالْمَاءِ مِنْ الْقَبَسِ ، وَطَالَبَهُ الْأَجَلُ حَتَّى غَلَبَهُ ، فَانْقَطَعَتْ الْخِلَافَةُ ، وَصَارَتْ الدُّنْيَا مِلْكًا تَارَةً لِمَنْ غَلَبَ ، وَأُخْرَى لِمَنْ خَلَبَ ، حَتَّى انْتَهَى الْوَعْدُ الصَّادِقُ ابْتِدَاؤُهُ وَانْتِهَاؤُهُ .
أَمَّا الِابْتِدَاءُ فَهَذِهِ الْآيَةُ ، وَأَمَّا الِانْتِهَاءُ فَبِحَدِيثِ سَفِينَةَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ حَمْدَانَ عَنْ سَفِينَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهَ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ } .
قَالَ سَعِيدٌ : قَالَ لِي سَفِينَةُ : أَمْسِكْ عَلَيْك ، أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ ، وَعُمَرُ عَشْرًا ، وَعُثْمَانُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ، وَعَلِيٌّ كَذَا .
قَالَ سَعِيدٌ : قُلْت لِسَفِينَةَ : إنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً .
قَالَ : كَذَبْت اسْتَاءَهُ بَنُو الزَّرْقَاءِ يَعْنِي بَنِي مَرْوَانَ زَادَ فِي رِوَايَةٍ : اُعْدُدْ ؛ أَبُو بَكْرٍ كَذَا ، وَعُمَرُ كَذَا ، وَعُثْمَانُ كَذَا ، وَعَلِيٌّ كَذَا ، وَالْحَسَنُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُونَ سَنَةً .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ { أَنَّ رَجُلًا قَامَ إلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ لَهُ : يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ : لَا بَأْسَ ، رَحِمَك اللَّهُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ : { إنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَرَ } .
وَنَزَلَتْ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } .
} يَمْلِكُهَا بَعْدَك بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ .
قَالَ الْقَاسِمُ رَاوِي

الْحَدِيثِ : فَعَدَدْنَاهَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ ، لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ أَجْلَسَ الْحَسَنَ فِي حِجْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَقَالَ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْوَعْدُ يَصِحُّ لَكُمْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ ، فَأَمَّا عُمَرُ فَأَيُّ أَمْنٍ مَعَهُ ، وَقَدْ قُتِلَ غِيلَةً .
وَعُثْمَانُ قَدْ قُتِلَ غَلَبَةً ، وَعَلِيٌّ قَدْ نُوزِعَ بِالْجَنْبَةِ وَالْجَلَبَةِ .
قُلْنَا : هَذَا كَلَامٌ جَاهِلٍ غَبِيٍّ أَوْ مُتَهَاوِنٍ ، يَكِنُّ عَلَى نِفَاقٍ خَفِيٍّ ، أَمَّا عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَجَاءَهُمَا أَجَلُهُمَا ، وَمَاتَا مَيْتَتِهُمَا الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمَا ، وَلَيْسَ فِي ضِمْنِ الْأَمْنِ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَوْتِ بِأَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ .
وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ نِزَالُهُ فِي الْحَرْبِ مُذْهِبًا لِلْأَمْنِ ، فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْنِ رَفْعُ الْحَرْبِ ، إنَّمَا مِنْ شَرْطِهِ مِلْكُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ ، وَسَلَامَتُهُ عَنْ الْغَلَبَةِ الْمَشْحُونَةِ بِالذِّلَّةِ ، كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ بِمَكَّةَ ، فَأَمَّا بَعْدَمَا صَارُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَقَدْ آلُوا إلَى الْأَمْنِ وَالْعِزَّةِ .
فِي الصَّحِيحِ عَنْ { خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا لَهُ : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ، أَلَا تَدْعُو اللَّه لَنَا ؟ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيَمْشُطُهُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمٍ مِنْ عَظْمٍ وَعَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاَللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ ، لَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ .
وَلَكِنَّكُمْ

تَسْتَعْجِلُونَ } .
وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ فَصَارُوا قَاهِرِينَ ، وَكَانُوا مَطْلُوبِينَ فَعَادُوا طَالِبِينَ ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : إنَّ هَذَا وَعْدٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي مِلْكِ الْأَرْضِ كُلِّهَا تَحْتَ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ ، فَأُرِيت مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا } .
قُلْنَا لَهُمْ : هَذَا وَعْدٌ عَامٌّ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ ، وَإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ ، وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ ، بِنَفَاذِ الْوَعْدِ فِي كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِهِ وَعَلَى حَالٍ ، حَتَّى فِي الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ ؛ وَلَيْسَ لِلْخِلَافِ مَحَلٌّ تَنْفُذُ فِيهِ هَذِهِ الْمَوْعِدَةُ الْكَرِيمَةُ إلَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ ، وُعِدَتْ الصَّحَابَةُ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا فِيهَا الْكُفَّارَ .
الثَّانِي : أَنَّهَا بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ } يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ .
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا : { يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا } .
مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ آيَةٌ خَاصَّةٌ ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا عَامَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَعَمَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } ، ثُمَّ خَصَّ هَاهُنَا فَقَالَ : { لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْمُسْتَأْذِنِينَ ، وَهُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ مَسْأَلَةِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَة قَبْلَهَا ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَاوَلَ الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ عُمُومًا ، وَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ ، وَهِيَ الْمُفَسَّرَةُ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ : { مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ الذُّكْرَانُ وَالْإِنَاثُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْعَبْدُ دُونَ الْأَمَةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُنَّ الْإِنَاثُ ؛ قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَلْ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : هِيَ مُحْكَمَةٌ يَعْنِي فِي الرِّجَالِ خَاصَّةً .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ ذَهَبَ حُكْمُهَا ؛ رَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالُوا : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا ، فَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ ؛ قَوْلِ اللَّهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَقَرَءُوهَا إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { عَلَى بَعْضٍ } ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ .
وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ ، فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ ، وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ ، وَالْخَيْرِ ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ أَنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ ، وَمِنْ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لِنَاظِرٍ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ ؟

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْحُجْبَةَ وَاقِعَةٌ مِنْ الْخَلْقِ شَرْعًا ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ حَتَّى يَخْلُصَ بِهِ الْمَحْجُورُ مِنْ الْمُطْلَقِ ، وَالْمَحْظُورُ مِنْ الْمُبَاحِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } .
ثُمَّ قَالَ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ ، فَاسْتَثْنَى مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مِنْ الْمَحْجُورِ ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فِي مِلْكِ الْيَمِينِ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ ؛ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ وَغْدًا ، أَوْ ذَا مَنْظَرَةٍ ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْحُجْبَةِ عَلَى صِفَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا عَبْدٌ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا أَمَةٌ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } : فَذَكَرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ، وَعِنْدَ الظَّهِيرَةِ ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ ، وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهِ التَّصَرُّفُ بِخِلَافِ اللَّيْلِ كُلِّهِ ، فَإِنَّهُ وَقْتُ خَلْوَةٍ ، وَلَكِنْ لَا تَصَرُّفَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُسْتَغْرِقٌ بِنَوْمِهِ ، وَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَوْقَاتُ خَلْوَةٍ وَتَصَرُّفٍ ، فَنُهُوا عَنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنِ لِئَلَّا يُصَادِفُوا مَنْظَرَةً مَكْرُوهَةً .
وَفِي الصَّحِيحِ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي كَذَا وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : لَا أَدْخُلُ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ آخِرَهُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ ، فَإِنْ كَانَتْ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَفِي الْآثَارِ التَّفْسِيرِيَّةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إلَى عُمَرَ غُلَامًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُدْلِجٌ فِي الظَّهِيرَةِ ، فَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ بِغَيْرِ إذْنٍ ، فَأَيْقَظَهُ بِسُرْعَةٍ ، فَانْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ ؛ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْغُلَامُ ؛ فَحَزِنَ لَهَا عُمَرُ فَقَالَ : وَدِدْت أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ نَهَى عَنْ الدُّخُولِ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إلَّا بِإِذْنِنَا .
ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : يُرِيدُ بِقَوْلِهِ : { صَلَاةِ الْعِشَاءِ } الَّتِي يَدْعُوهَا النَّاسُ الْعَتَمَةَ : وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ } .
قَالَ : وَالْأَعْرَابُ تَقُولُ الْعِشَاءَ ، وَتُسَمَّى أَيْضًا الْعِشَاءَ الْعَتَمَةِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَرْزَةَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : { أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ } .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : { أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَتَمَةِ } .
وَقَوْلُ أَنَسٍ فِي الْبُخَارِيِّ : " الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ يَدُلُّ عَلَى الْعِشَاءِ الْأُولَى " .
وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْعِشَاءِ يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ } ؛ لِأَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِحِلَابِ الْإِبِلِ .
وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهَا الْأَوَّلُ مِنْ الْآخِرِ بِالتَّارِيخِ ، لَكِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ بِذَاتِهِ يُبَيِّنُ وَقْتَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عِشَاءً ، وَعَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَتَمَةً ثَابِتٌ ؛ فَلَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَمَّنْ عَدَاهُمْ .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : مَنْ قَالَ صَلَاةُ الْعَتَمَةِ فَقَدْ أَثِمَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : { وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } فَاَللَّهُ سَمَّاهَا صَلَاةَ الْعِشَاءِ ، فَأَحَبَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسَمَّى بِمَا سَمَّاهَا بِهِ اللَّهُ ، وَيُعَلِّمُهَا الْإِنْسَانُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ، وَلَا يَقُلْ عَتَمَةً إلَّا عِنْدَ خِطَابِ مَنْ لَا يَفْهَمُ ، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ : وَكَانَ لَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23