كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

{ واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات } هي أيام التشريق وذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار { فَمَن تَعَجَّلَ } فمن عجل في النفر أو استعجل النفر . وتعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل . يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل الذهاب واستعجله والمطاوعة أوفق لقوله و«من تأخر» { فِى يَوْمَيْنِ } من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } فلا يأثم بهذا التعجل { وَمَن تَأَخَّرَ } حتى رمى في اليوم الثالث { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى } الصيد أو الرفث والفسوق أو هو مخير في التعجل . والتأخر وإن كان التأخر أفضل فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل . وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما { واتقوا الله } في جميع الأمور { واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } حين يبعثكم من القبور . كان الأخنس بن شريق حلو المنطق إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال يعلم الله أني صادق فنزل فيه .
{ وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس { فِي الحياة الدنيا } «في» يتعلق بالقول أي يعجبك ما يقول في معنى الدنيا لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا ولا يريد به الآخرة ، أو ب «يعجبك» أي يعجبك حلو كلامه في الدنيا لا في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } أي يحلف ويقول الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } شديد الجدال والعداوة للمسلمين ، والخصام والمخاصمة والإضافة بمعنى في لأن «أفعل» يضاف إلى ما هو بعضه تقول : زيد أفضل القوم ولا يكون الشخص بعض الحدث فتقديره ألد في الخصومة ، أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب والتقدير : وهو أشد الخصوم خصومة . { وَإِذَا تولى } عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق { سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ } كما فعل بثقيف فإنه كان بينه وبينهم خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم { فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } أي الزرع والحيوان ، أو إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل . وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الخرث والنسل . { والله لاَ يُحِبُّ الفساد * وَإِذَا قِيلَ لَهُ } للأخنس { اتق الله } في الإفساد والإهلاك { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } حملته النخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه ، أو الباء للسبب أي أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أي كافيه { وَلَبِئْسَ المهاد } أي الفراش جهنم .

ونزل في صهيب حين أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه فاشترى نفسه بماله منهم وأتى المدينة ، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } يبيعها { ابتغاء } لابتغاء { مَرْضَاتِ الله والله رَءُوفٌ بالعباد } حيث أثابهم على ذلك { يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ ادخلوا فِي السلم } وبفتح السين حجازي وعلي ، وهو الاستسلام والطاعة أي استسلموا لله وأطيعوه أو الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم ، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم { كَافَّةً } لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته حال من الضمير في «ادخلوا» أي جميعاً ، أو من السلم لأنها تؤنث كأنهم أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلها ، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وكافة من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } وساوسه { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة { فَإِن زَلَلْتُمْ } ملتم عن الدخول في السلم { مّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات } أي الحجج الواضحة والشواهد اللائحة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالب لا يمنعه شيء من عذابكم { حَكِيمٌ } لا يعذب إلا بحق . ورُوي أن قارئاً قرأ «غفور رحيم» فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال ليس هذا من كلام الله إذ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان لأنه إغراء عليه .
{ هَلْ يَنظُرُونَ } ما ينتظرون { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } أي أمر الله وبأسه كقوله : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } [ النحل : 33 ] . { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } [ الأعراف : 4 ] أو المأتي به محذوف بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه للدلالة عليه بقوله : «فاعلموا أن الله عزيز» { فِي ظُلَلٍ } جمع ظلة وهي ما أظلك { مِّنَ الغمام } الحساب . وهو للتهويل إذ الغمام مظنة الرحمة أنزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول { والملائكة } أي وتأتي الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم أو المراد حضورهم يوم القيامة { وَقُضِىَ الأمر } أي وتم أمر إهلاكهم وفرغ منه { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } أي أنه ملّك العباد بعض الأمور فترجع إليه الأمور يوم النشور . «ترجع الأمور» حيث كان : شامي وحمزة وعلي . { سَلْ } أصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين بعد حذفها واستغني عن همزة الوصل فصار «سل» . وهو أمر للرسول أو لكل أحد وهو سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة .

{ بَنِى إسراءيل كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام . و«كم» استفهامية أو خبرية { وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله } هي آياته وهي أجل نعمة من الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة وتبديلهم إياها ، إن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد عليه السلام { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ } من بعد ما عرفها وصحت عنده لأنه إذا لم يعرفها فكأنها غائبة عنه { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن استحقه .
{ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها ، أو الله تعالى يخلق الشهوات فيهم ولأن جميع الكائنات منه ويدل عليه قراءة من قرأ «زين للذين كفروا الحياة الدنيا» { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ } كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين كابن مسعود وعمار وصهيب ونحوهم أي لا يريدون غير الدنيا وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها أو ممن يطلب غيرها { والذين اتقوا } عن الشرك وهم هؤلاء الفقراء { فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } لأنهم في جنة عالية وهم في نار هاوية { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقتير يعني أنه يوسع على من أراد التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره ، وهذه التوسعة عليكم من الله لحكمة وهي استدارجكم بالنعمة ولو كانت كرامة لكان المؤمنون أحق بها منكم { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } متفقين على دين الإسلام من آدم إلى نوح عليهما السلام ، أو هم نوح ومن كان معه في السفينة فاختلفوا { فَبَعَثَ الله النبيين } ويدل على حذفه قوله تعالى : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } [ البقرة : 213 ] وقراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا } [ يونس : 19 ] أو كان الناس أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه { مُبَشّرِينَ } بالثواب للمؤمنين { وَمُنذِرِينَ } بالعقاب للكافرين وهما حالان { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب } أي مع كل واحد منهم كتابه { بالحق } بتبيان الحق { لِيَحْكُمَ } الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه { بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق . { وَمَا اختلف فِيهِ } في الحق { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } على صدقه { بَغْياً بَيْنَهُمْ } مفعول له أي حسداً بينهم وظلماً لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم { فَهَدَى الله الذين ءَامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ } أي هدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف فيه { مِنَ الحق } بيان لما اختلفوا فيه { بِإِذْنِهِ } بعلمه { والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } { أَمْ حَسِبْتُمْ } أم منقطعة لا متصلة لأن شرطها أن يكون قبلها همزة الاستفهام كقولك «أعندك زيد أم عمرو» أي أيهما عندك؟ وجوابه زيد إن كان عنده زيد ، أوعمرو إن كان عنده عمرو .

وأما «أم» المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر وتكون بمعنى بل والهمزة ، والتقدير : بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده . لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له ، قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ أم حسبتم { أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم } أي ولم يأتكم وفي «لما» معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر . { مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ } مضوا أي حالهم التي هي مثل في الشدة { مِن قَبْلِكُمْ } من النبيين والمؤمنين { مَسَّتْهُمْ } بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل فقيل : مستهم { البأساء } أي البؤس { والضراء } المرض والجوع { وَزُلْزِلُواْ } وحركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة { حتى يَقُولَ الرسول والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ } إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه من المؤمنين فيها { متى نَصْرُ الله } أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك ، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة فقيل لهم { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } إجابة لهم إلى طلبهم من عاجل النصر . «يقول» بالرفع : نافع على حكاية حال ماضية نحو «شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه» . وغيره بالنصب على إضمار «أن» ومعنى الاستقبال لأن «أن» علم له . ولما قال عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير وله مال عظيم : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ نزل .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

{ يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } فقد تضمن قوله ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها عن الحسن هي في التطوع { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } فيجزى عليه { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } فرض عليكم جهاد الكفار { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } من الكراهة فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقولها :
فإنما هي إقبال وإدبار ... كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له أوهو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز أي وهو مكروه لكم { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فأنتم تكرهون الغزو وفيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا } وهو القعود عن الغزو { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر { والله يَعْلَمُ } ما هو خير لكم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم ، ونزل في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا المشركين وقد أهل هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك فقالت قريش : قد استحل محمد عليه السلام الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام } أي يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام .
{ قِتَالٍ فِيهِ } بدل الاشتمال من «الشهر» . وقرىء «عن قتال فيه» على تكرير العامل كقوله : { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } [ الأعراف : 75 ] .
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أي إثم كبير . «قتال» مبتدأ و«كبير» خبره وجاز الابتداء بالنكرة لأنها قد وصفت ب «فيه» وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } أي منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت عام الحديبية وهو مبتدأ { وَكُفْرٌ بِهِ } أي بالله عطف على صد { والمسجد الحرام } «عطف على سبيل الله» أي وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام . وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في به أي كفر به وبالمسجد الحرام ، ولا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فلا تقول : مررت به وزيد ولكن تقول وبزيد ، ولو كان معطوفاً على الهاء هنا لقيل وكفر به وبالمسجد الحرام . { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي أهل المسجد الحرام وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وهو عطف على «صد» أيضاً { مِنْهُ } من المسجد الحرام وخبر الأسماء الثلاثة { أَكْبَرُ عِندَ الله } أي مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن { والفتنة } الإخراج أو الشرك { أَكْبَرُ مِنَ القتل } في الشهر الحرام ، أو تعذيب الكفار المسلمين أشد قبحاً من قتل هؤلاء المسلمين في الشهر الحرام { وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } أي إلى الكفر وهو إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم .

«حتى» معناها التعليل نحو «فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة» أي يقاتلونكم كي يردوكم . وقوله تعالى : { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوك «إن ظفرت بي فلا تبق علي» وأنت واثق بأنه لا يظفر بك { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } ومن يرجع عن دينه إلى دينهم { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } أي يمت على الردة { فأولئك حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة } لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وفي الآخرة من الثواب وحسن المآب { وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } وبها احتج الشافعي رحمه الله على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها . وقلنا : قد علق الحبط بنفس الردة بقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] والأصل عندنا أن المطلق لا يحمل على المقيد ، وعنده يحمل عليه فهو بناء على هذا .
ولما قالت السرية أيكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله نزل { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } تركوا مكة وعشائرهم { وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله } المشركين ولا وقف عليه لأن { أولئك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله } خبر «إن» . قيل : من رجا طلب ومن خاف هرب { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكة : { وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } [ النحل : 67 ] . فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل :

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزل { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك جماعة فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل { إِنَّمَا الخمر والميسر } إلى قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] فقال عمر : انتهينا يا رب . وعن علي رضي الله عنه : لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ، ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه . والخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب ، وسميت بمصدر خمره خمراً إذا ستره لتغطيتها العقل . والميسر القمار مصدر من يسر كالوعد من فعله يقال يسرته إذا أقمرته ، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة بلا كد وتعب ، أو من اليسار كأنه سلب يساره . وصفة الميسر أنه كانت لهم عشرة أقداح سبعة منها عليها خطوط وهو الفذ وله سهم ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسبل وله ستة ، والمعلى وله سبعة ، وثلاثة أغفال لا نصيب لها وهي المنيح والسفيح والوغد ، فيجعلون الأقداح في خريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحاً قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح ما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ، وفي حكم الميسر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما ، والمعنى يسألونك عما في تعاطيهما بدليل { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } بسبب التخاصم والتشاتم وقول الفحش والزور «كثير» : حمزة وعلي . { ومنافع لِلنَّاسِ } بالتجارة في الخمر والتلذذ بشربها ، وفي الميسر بارتقاق الفقراء أو نيل المال بلا كد { وَإِثْمُهُمَا } وعقاب الإثم في تعاطيهما { أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } لأن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيها الآثام من وجوه كثيرة .
{ وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } أي الفضل أي أنفقوا ما فضل عن قدر الحاجة ، وكان التصدق بالفضل في أول الإسلام فرضاً فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل ، وإذا كان صانعاً أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل فنسخت بآية الزكاة . «العفو» : أبو عمرو؛ فمن نصبه جعل «ماذا» اسماً واحداً في موضع النصب ب « ينفقون» والتقدير : قل ينفقون العفو ، ومن رفعه جعل «ما» مبتدأ وخبره «ذا» مع صلته ف «ذا» بمعنى «الذين»و«ينفقون» صلته أي ما الذي ينفقون فجاء الجواب «العفو» أي هو العفو فإعراب الجواب كإعراب السؤال ليطابق الجواب السؤال .

{ كذلك } الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين { يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدنيا } أي في أمر الدنيا { والآخرة } و «وفي» يتعلق بتتفكرون أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما أصلح لكم ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع ، ويجوز أن يتعلق ب «يبين» أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون . ولما نزل { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } وتعاشروهم ولم تجانبوهم { فَإِخوَانُكُمْ } فهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه { والله يَعْلَمُ المفسد } لأموالهم { مِنَ المصلح } لها فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح { وَلَوْ شَاءَ الله } إعناتكم { لأَعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم { إِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم { حَكِيمٌ } لا يكلف إلا وسعهم وطاقتهم .
ولما سأل مرثد النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتزوج عناق وكانت مشركة نزل { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } أي لا تتزوجوهن . يقال نكح إذا تزوج وأنكح غيره زوجه { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها { وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين } ولا تزوجوهم بمسلمة كذا قاله الزجاج . وقال جامع العلوم : حذف أحد المفعولين والتقدير ولا تنكحوهن المشركين { حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } . ثم بين علة ذلك فقال { أولئك } وهو إشارة إلى المشركات والمشركين { يَدْعُونَ إِلَى النار } إلى الكفر الذي هو عمل أهل النار فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا { والله يَدْعُواْ إِلَى الجنة والمغفرة } أي وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم { بِإِذْنِهِ } بعلمه أو بأمره { وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظون .
كانت العرب لم يؤاكلوا الحائض ولم يشاربوها ولم يساكنوها كفعل اليهود والمجوس ، فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزل { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض } هو مصدر يقال حاضت محيضاً كقولك «جاء مجيئاً» { قُلْ هُوَ أَذًى } أي المحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } فاجتنبوهن أي فاجتنبوا مجامعتهن .

وقيل : إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، واليهود كانوا يعتزلونهن في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين . ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجتنب ما اشتمل عليه الإزار ، ومحمد رحمه الله لا يوجب إلا اعتزال الفرج . وقالت عائشة رضي الله عنها : يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك . { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } مجامعين أو ولا تقربوا مجامعتهن { حتى يَطْهُرْنَ } بالتشديد كوفي غير حفص أي يغتسلن وأصله «يتطهرون» فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجيهما . غيرهم «يطهرن» أي ينقطع دمهن ، والقراءتان كآيتين فعملنا بهما وقلنا له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل عملاً بقراءة التخفيف ، وفي أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة عملاً بقراءة التشديد ، والحمل على هذا أولى من العكس لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عرف ، وعند الشافعي رحمه الله لا يقربها حتى تطهر وتتطهر دليله قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } فجامعوهن فجمع بينهما { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين } من ارتكاب ما نهوا عنه أو العوادين إلى الله تعالى وإن زلوا فزلوا والمحبة لمعرفته بعظم عفو الله حيث لا ييأس { وَيُحِبُّ المتطهرين } بالماء أو المتنزهين من أدبار النساء أو من الجماع في الحيض أو من الفواحش .
كان اليهود يقولون إذا أتى الرجل أهله باركة أتى الولد أحول فنزل { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مواضع حرث لكم وهذا مجاز شبهن بالمحارث تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور والولد بالنبات ، ووقع قوله «نساؤكم حرث لكم» بياناً وتوضيحاً لقوله : «فأتوهن من حيث أمركم الله» . أي إن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث لا مكان الفرث تنبيهاً على أن المطلوب الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لإقضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتي الذي نيط به هذا المطلوب { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } جامعوهن متى شئتم أو كيف شئتم باركة أو مستلقية أو مضطجعة بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث وهو تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا يحظر عليكم جهة دون جهة . وقوله : «هو أذى فاعتزلوا النساء» ، «من حيث أمركم الله فأتوا حرثكم أنى شئتم» . من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة ، فعلى كل مسلم أن يتأدب بها ويتكلف مثلها في المحاورات والمكاتبات { وَقَدّمُواْ لأَِنفُسِكُمْ } ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتم عنه ، أو هو طلب الولد أو التسمية على الوطء { واتقوا الله } فلا تجترئوا على المناهي { واعلموا أَنَّكُم ملاقوه } صائرون إليه فاستعدوا للقائه { وَبَشِّرِ المؤمنين } بالثواب يا محمد . وإنما جاء «يسألونك» ثلاث مرات بلا واو ثم مع الواو ثلاثاً لأن سؤالهم عن تلك الحوارث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع . لذلك .

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

{ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم } العرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيتعرض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه . تقول فلان عرضة دون الخير ، وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحد أوعبادة ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البرّ إرادة البر في يمينه فقيل لهم ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أي حاجزاً لما حلفتم عليه ، وسمي المحلوف عليه يميناً بتلبسه باليمين كقوله عليه السلام " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه " وقوله { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس } عطف بيان لأيمانكم أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس . واللام تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً ، ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق «أن تبروا» بالفعل أو بالعرضة أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا «واللّه سميعٌ» لأيمانكم «عليمٌ» بنياتكم .
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ، ولغو اليمين الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان وهو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه والأمر بخلافه ، والمعنى لا يعاقبكم «بلغو» اليمين الذي يحلفه أحدكم ، وعند الشافعي رحمه الله هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف نحو «لا والله» و «بلى والله» . { ولكن يُؤَاخِذُكُم } ولكن يعاقبكم { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } بما اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس ، وتعلق الشافعي بهذا النص على وجوب الكفارة في الغموس لأن كسب القلب العزم والقصد ، والمؤاخذة غير مبينة هنا وبينت في المائدة فكان البيان ثمة بياناً هنا ، وقلنا : المؤاخذة هنا مطلقة . وهي في دار الجزاء والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء فلا يصح حمل البعض على البعض { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } حيث لم يؤاخذكم باللغو في «أيمانكم» .
{ لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ } يقسمون وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه و«من» في { مِن نّسَائِهِمْ } يتعلق بالجار والمجرور أي للذين كما تقول لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمؤلين من نسائهم { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أي استقر للمؤلين ترقب أربعة أشهر لا ب «يؤلون» لأن آلى يعدّى ب «على» يقال آلى فلان على امرأته ، وقول القائل «آلى فلان من امرأته» وهم توهمه من هذه الآية . ولك أن تقول عدّي ب «من» لما في هذا القسم من معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم { فَإِن فَآءُوا } في الأشهر لقراءة عبد الله فإن فاءوا فيهن أي رجعوا إلى الوطء عن الإصرار بتركه { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } حيث شرع الكفارة { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } بترك الفيء فتربصوا إلى مضي المدة { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ } لإِيلائه { عَلِيمٌ } بنيته وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعند الشافعي رحمه الله معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضي المدة لأن الفاء للتعقيب .

وقلنا قوله : «فإن فاءوا» . «وإن عزموا» تفصيل لقوله «للذين يؤلون» من نسائهم والتفصيل يعقب المفصل كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول . { والمطلقات } أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء . { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } خبر في معنى الأمر وأصل الكلام ولتتربص المطلقات ، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ، ونحوه قولهم في الدعاء «رحمك الله» أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها . وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات بخلاف الفعلية . وفي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص .
{ ثلاثة قُرُوءٍ } جمع قرء أو قرء وهو الحيض لقوله عليه السلام " دعي الصلاة أيام أقرائك " وقوله " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " ولم يقل طهران . وقوله تعالى : { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] . فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار ، ولأن المطلوب من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة ، ولأنه لو كان طهراً كما قال الشافعي لانقضت العدة بقرأين وبعض الثالث فانتقص العدد عن الثلاثة ، لأنه إذا طلقها لآخر الطهر فذا محسوب من العدة عنده ، وإذا طلقها في آخر الحيض فذا غير محسوب من العدة عندنا ، والثلاث اسم خاص لعدد مخصوص لا يقع على ما دونه . ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وامرأة مقرىء . وانتصاب «ثلاثة» على أنه مفعول به أي يتربصن مضي ثلاثة قروء أو على الظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء ، وجاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء لاشتراكهما في الجمعية اتساعاً ، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل .
{ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } من الولد أو من دم الحيض أو منهما ، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض قد طهرت استعجالاً للطلاق ، ثم عظم فعلهن فقال { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } لأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترىء على مثله من العظائم { وَبُعُولَتُهُنَّ } البعول جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } أي أزواجهن أولى برجعتهن ، وفيه دليل أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء حيث سماه زوجاً بعد الطلاق { فِي ذلك } في مدة ذلك التربص ، والمعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها لا أن لها حقاً في الرجعة { إِنْ أَرَادُواْ } { إصلاحا } لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارتهن { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ } ويجب لهن من الحق على الرجال من المهر والنفقة وحسن العشرة وترك المضارة مثل الذي يجب لهم عليهن من الأمر والنهي { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ، فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له .

والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } زيادة في الحق وفضيلة بالقيام بأمرها وإن اشتركا في اللذة والاستمتاع أو بالإنفاق وملك النكاح { والله عَزِيزٌ } لا يعترض عليه في أموره { حَكِيمٌ } لا يأمر إلا بما هو صواب وحسن .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

{ الطلاق مَرَّتَانِ } الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع ، والإرسال دفعة واحدة . ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين وهو دليل لنا في أن الجمع بين الطلقتين والثلاثة بدعة في طهر واحد ، لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق لأنه وإن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر وإلا يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى ، لأن الطلاق على وجه الجمع قد يوجد . وقيل : قالت أنصارية : إن زوجي قال : لا أزال أطلقك ثم أراجعك فنزلت «الطلاق مرتان» أي الطلاق الرجعي مرتان لأنه لا رجعة بعد الثالث { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } برجعة ، والمعنى فالواجب عليكم إمساك بمعروف { أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة . وقيل : بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث . ونزل في جميلة وزوجها ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها وقد أعطاها حديقة فاختلعت منه بها وهو أول خلع كان في الإسلام { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } أيها الأزواج أو الحكام لأنهم الآمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون { أن تَأخُذُواْ مِمَّآ آتَيتُمُوهُنَّ شَيْئاً } مما أعطيتموهن من المهور { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } إلا أن يعلم الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها { فَإِنْ خِفْتُمْ } أيها الولاة ، وجاز أن يكون أول خطاب للأزواج وآخره للحكام { أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت { فِيمَا افتدت بِهِ } فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر . «إلا أن يخافا» حمزة على البناء للمفعول وإبدال «ألا يقيما» من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال نحو «خيف زيد تركه إقامة حدود الله» . { تِلْكَ حُدُودَ الله } أي ما حد من النكاح واليمين والإيلاء والطلاق والخلع وغير ذلك { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } فلا تجاوزوها بالمخالفة { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } الضارون أنفسهم . { فَإِن طَلَّقَهَا } مرة ثالثة بعد المرتين ، فإن قلت الخلع طلاق عندنا وكذا عند الشافعي رحمه الله في قول ، فكأن هذه تطليقة رابعة . قلت : الخلع طلاق ببدل فيكون طلقة ثالثة ، وهذه بيان لتلك أي فإن طلقها الثالثة ببدل فحكم التحليل كذا { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } من بعد التطليقة الثالثة { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } حتى تتزوج غيره . والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج ، وفيه دليل على أن النكاح ينعقد بعبارتها ، والإصابة شرطت بحديث العسيلة كما عرف في أصول الفقه ، والفقه فيه أنه لما أقدم على فراق لم يبق للندم مخلصاً لم تحل له إلا بدخول فحل عليها ليمتنع عن ارتكابه { فَإِن طَلَّقَهَا } الزوج الثاني بعد الوطء { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } على الزوج الأول وعليها { أَن يَتَرَاجَعَا } أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ولم يقل إن علما أنهما يقيمان لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله { وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيّنُهَا } وبالنون : المفضل { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يفهمون ما بين لهم .

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها ، والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها . يقال لعمر الإنسان أجل ، وللموت الذي ينتهى به أجل . { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة ، وإما أن يخليها حتى تنقضي عدتها وتبين من غير ضرار { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } مفعول له أو حال أي مضارين ، وكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجة ولكن ليطوّل العدة عليها فهو الإمساك ضراراً { لّتَعْتَدُواْ } لتظلموهن أو لتلجئوهن إلى الافتداء { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } يعني الإمساك للضرار { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } بتعريضها لعقاب الله { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا } أي جدوا بالأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد اتخذتموها هزواً . يقال لمن لم يجد في الأمر إنما أنت لاعب وهازىء { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } بالإسلام وبنبوة محمد عليه السلام { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة } من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها { يَعِظُكُمْ بِهِ } بما أنزل عليكم وهو حال { واتقوا الله } فيما امتحنكم به { واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } من الذكر والاتقاء والاتعاظ وغير ذلك وهو أبلغ وعد ووعيد . { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي انقضت عدتهن فدل سياق الكلامين على افتراق البلوغين لأن النكاح يعقبه هنا وذا يكون بعد العدة ، وفي الأولى الرجعة وذا يكون في العدة { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } فلا تمنعوهن . العضل : المنع والتضييق { أَن يَنكِحْنَ } من أن ينكحن { أزواجهن } الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن ، وفيه إشارة إلى انعقاد النكاح بعبارة النساء ، والخطاب للأزواج الذي يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً ولا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج ، سموا أزواجاً باسم ما يؤول إليه . أو للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن الذين كانوا أزواجاً لهن ، سموا أزواجاً باعتبار ما كان . نزلت في معقل ابن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول .

أو للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين { إِذَا تراضوا بَيْنَهُم } إذا تراضى الخطاب والنساء { بالمعروف } بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط ، أو بمهر المثل والكفء لأن عند عدم أحدهما للأولياء أن يتعرضوا . والخطاب في { ذلك } للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واحد { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } فالموعظة إنما تنجع فيهم { ذلكم } أي ترك العضل والضرار { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي لكم من أدناس الآثام أو أزكى وأطهر وأفضل وأطيب { والله يَعْلَمُ } ما في ذلك من الزكاء والطهر { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

{ والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن } خبر في معنى الأمر المؤكد ك { يَتَرَبَّصْنَ } وهذا الأمر على وجه الندب أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار ، أو أراد الوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع { حَوْلَيْنِ } ظرف { كَامِلَيْنِ } تأمين وهو تأكيد لأنه مما يتسامح فيه فإنك تقول : أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } بيان لمن توجه إليه الحكم أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة . والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ، ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدة { وَعلَى المولود لَهُ } الهاء يعود إلى اللام الذي بمعنى «الذي» ، والتقدير : وعلى الذي يولد له وهو الوالد ، و«له» في محل الرفع على الفاعلية ك «عليهم» في { المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] وإنما قيل «على المولود له» دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للآباء والنسب إليهم لا إليهن فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار ، ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } بلا إسراف ولا تقتير ، وتفسيره ما يعقبه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } وجدها أو قدر إمكانها . والتكليف إلزام ما يؤثره في الكلفة . وانتصاب «وسعها» على أنه مفعول ثانٍ ل «تكلف» لا على الاستثناء ودخلت إلا بين المفعولين .
{ لاَ تُضَارَّ } مكي وبصري بالرفع على الإخبار ومعناه النهي وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول وأن يكون الأصل «تضارر» بكسر الراء أو «تضارر» بفتحها . الباقون «لا تضار» على النهي والأصل «تضارر» أسكنت الراء الأولى وأدغمت في الثانية فالتقى الساكنان ففتحت الثانية لالتقاء الساكنين { والدة بِوَلَدِهَا } أي لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعدما ألفها الصبي أطلب له ظئر أو ما أشبه ذلك { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } أي ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه . وإذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد ، أو تضار بمعنى تضر والباء من صلته أي لا تضر والدة ولدها فلا تسيء غذاءه وتعهده ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد .

وإنما قيل «بولدها» و«بولده» لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وذلك الوالد { وَعَلَى الوارث } عطف على قوله «وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن» وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وعلى وارث الصبي عند عدم الأب «مثل ذلك» أي مثل الذي كان على أبيه في حياته من الرزق والكسوة . واختلف فيه؛ فعند ابن أبي ليلى : كل من ورثه ، وعندنا : من كان ذا رحم محرم منه لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه «وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك» ، وعند الشافعي رحمه الله : لا نفقة فيما عدا الولاد . { فَإِنْ أَرَادَا } يعني الأبوين { فِصَالاً } فطاماً صادراً { عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } بينهما { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في ذلك زادا على الحولين أو نقصا ، وهذه توسعة بعد التحديد ، والتشاور استخراج الرأي من شرت العسل إذا استخرجته ، وذكره ليكون التراضي عن تفكر فلا يضر الرضيع ، فسبحان الذي أدب الكبير ولم يهمل الصغير واعتبر اتفاقهما ، لأن للأب النسبة والولاية وللأم الشفقة والعناية . { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم } أي لأولادكم عن الزجاج . وقيل : استرضع منقول من أرضع ، يقال أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي معدّى إلى مفعولين أي أن تسترضعوا المراضع أولادكم فحذف أحد المفعولين يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } إلى المراضع { مَّا ءاتَيْتُم } ما أردتم إيتاءه من الأجرة . أتيتم مكي من أتى إليه إحساناً إذا فعله ومنه قوله { كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] أي مفعولاً ، والتسليم ندب لا شرط للجواز { بالمعروف } متعلق ب «سلمتم» أي سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا تخفى عليه أعمالكم فهو يجازيكم عليها .
{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } تقول توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وافياً تاماً أي تستوفى أرواحهم { وَيَذَرُونَ } ويتركون { أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } أي وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن أي يعتددن ، أو معناه يتربصن بعدهم بأنفسهن فحذف بعدهم للعلم به . وإنما احتيج إلى تقديره لأنه لا بد من عائد يرجع إلى المبتدأ في الجملة التي وقعت خبراً . «يتوفون» : المفضل أي يستوفون آجالهم { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } أي وعشر ليال والأيام داخلة معها ولا يستعمل التذكير فيه ذهاباً إلى الأيام تقول صمت عشراً ولو ذكرت لخرجت من كلامهم { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } فإذا انقضت عدتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الأئمة والحكام { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التعرض للخاطب { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكره الشرع { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } عالم بالبواطن .

{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء } الخطبة الاستنكاح ، والتعريض أن تقول لها إنك لجميلة أو صالحة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، ولا يصرح بالنكاح فلا يقول إني أريد أن أتزوجك . والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك : لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم مني تقاضيا
فكأنه إمالة الكلام إلى غرض يدل على الغرض { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } جماعة لأنه مما يسر أي لا تقولوا في العدة إني قادر على هذا العمل { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا . و«إلا» متعلق ب «لا تواعدوهن» أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } من عزم الأمر وعزم عليه . وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح لأن العزم على الفعل يتقدمه فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى ، ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح ، أو ولا تقطعوا عقدة النكاح لأن حقيقة العزم القطع ومنه الحديث " لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل " وروي لمن لم يبيت الصيام أي ولا تعزموا على عقدة النكاح { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } حتى تنقضي عدتها . وسميت العدة كتاباً لأنها فرضت بالكتاب يعني حتى يبلغ التربص المكتوب عليها أجله أي غايته { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } من العزم على ما لا يجوز { فاحذروه } ولا تعزموا عليه { واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم بالعقوبة .
ونزل فيمن طلق امرأته ولم يكن سمى لها مهراً ولا جامعها { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا تبعة عليكم من إيجاب مهر { إِن طَلَّقْتُمُ النساء } شرط ، ويدل على جوابه «لا جناح عليكم» والتقدير : إن طلقتم النساء فلا جناح عليكم { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ما لم تجامعوهن ، و«ما» شرطية أي إن لم تمسوهن «تماسوهن» : حمزة وعلي حيث وقع لأن الفعل واقع بين اثنين { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } إلا أن تفرضوا لهن فريضة أو حتى تفرضوا ، وفرض الفريضة تسمية المهر وذلك أن المطلقة غير الموطوءة لها نصف المسمى إن سمى لها مهر ، وإن لم يسم لها مهر فليس لها نصف مهر المثل بل تجب المتعة ، والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله «وإن طلقتموهن» إلى قوله «فنصف ما فرضتم» فقوله «فنصف ما فرضتم» إثبات للجناح المنفي ثمة { وَمَتِّعُوهُنَّ } معطوف على فعل محذوف تقديره فطلقوهن ومتعوهن .

والمتعة درع وملحفة وخمار { عَلَى الموسع } الذي له سعة { قَدَرُهُ } مقداره الذي يطيقه . قدره فيهما : كوفي غير أبي بكر وهما لغتان { وَعَلَى المقتر } الضيق الحال . { قَدَرُهُ } ولا تجب المتعة عندها إلا لهذه وتستحب لسائر المطلقات { متاعا } تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً { بالمعروف } بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة { حَقّاً } صفة ل «متاعاً» أي متاعاً واجباً عليهم أو حق ذلك حقاً { عَلَى المحسنين } على المسلمين ، أو على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع . وسماهم قبل الفعل محسنين كقوله عليه السلام «من قتل قتيلاً فله سلبه» وليس هذا الإحسان هو التبرع بما ليس عليه إذ هذه المتعة واجبة .
ثم بين حكم التي سمى لها مهراً في الطلاق قبل المس فقال { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } «أن» مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الحر أي من قبل مسكم إياهن { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } في موضع الحال { لَهُنَّ فَرِيضَةً } مهراً { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاَّ أَن يَعْفُونَ } يريد المطلقات . و «أن» مع الفعل في موضع النصب على الاستثناء كأنه قيل : فعليكم نصف ما فرضتم في جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من المهر . والفرق بين الرجال «يعفون» «والنساء «يعفون» أن الواو في الأول ضميرهم والنون علم الرفع ، والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل { أَوْ يَعْفُوَاْ } عطف على محله { الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } هو الزوج كذا فسره علي رضي الله عنه وهو قول سعيد ابن جبير وشريح ومجاهد وأبي حنيفة والشافعي على الجديد رضي الله عنهم ، وهذا لأن الطلاق بيده فكان بقاء العقد بيده ، والمعنى أن الواجب شرعاً هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل تفضلاً ، وعند مالك والشافعي في القديم هو الولي . قلنا : هو لا يملك التبرع بحق الصغيرة فكيف يجوز حمله عليه؟ { وَأَن تَعْفُواْ } مبتدأ خبره { أَقْرَبُ للتقوى } والخطاب للأزواج والزوجات على سبيل التغليب ذكره الزجاج أي عفو الزوج بإعطاء كل المهر خير له ، وعفو المرأة بإسقاط كله خير لها أو للأزواج { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل } التفضل { بَيْنِكُمْ } أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على تفضلكم .

{ حافظوا عَلَى الصلوات } داوموا عليها بمواقيتها وأركانها وشرائطها { والصلاة الوسطى } بين الصلوات أي الفضلى من قولهم للأفضل الأوسط . وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل . وهي صلاة العصر عند أبي حنيفة رحمه الله وعليه الجمهور لقوله عليه السلام يوم الأحزاب " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً " وقال عليه السلام " إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان حتى توارت بالحجاب " وفي مصحف حفصة «والصلاة الوسطى صلاة العصر» ولأنها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار ، وفضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم . وقيل : صلاة الظهر لأنها في وسط النهار ، أو صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ، أو صلاة الغرب لأنها بين الأربع والمثنى ، ولأنها بين صلاتي مخافتة وصلاتي جهر ، أو صلاة العشاء لأنها بين وترين ، أو هي غير معينة كليلة القدر ليحفظوا الكل . { وَقُومُواْ لِلَّهِ } في الصلاة { قانتين } حال أي مطيعين خاشعين أو ذاكرين الله في قيامكم . والقنوت أن تذكر الله قائماً أو مطيلين القيام { فَإِنْ خِفْتُمْ } فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره { فَرِجَالاً } حال أي فصلوا راجلين وهو جمع راجل كقائم وقيام { أَوْ رُكْبَانًا } وحداناً بإيماء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة { فَإِذَا أَمِنتُمْ } فإذا زال خوفكم { فاذكروا الله } فصلوا صلاة الأمن { كَمَا عَلَّمَكُم } أي ذكراً مثل ما علمكم { مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } من صلاة الأمن .
{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم } بالنصب شامي وأبو عمرو وحمزة وحفص أي فليوصوا وصية عن الزجاج . غيرهم بالرفع أي فعليهم وصيةٌ { متاعا } نصب بالوصية لأنها مصدر أو تقديره متعوهن متاعاً { إِلَى الحول } صفة ل «متاعاً» { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } مصدر مؤكد كقولك «هذا القول غير ما تقول» ، أو بدل من «متاعاً» والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن ، وكان ذلك مشروعاً في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا } إلى قوله { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } والناسخ متقدم عليه تلاوة ومتأخر نزولاً كقوله تعالى : { سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس } [ البقرة : 142 ] . مع قوله تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } [ البقرة : 144 ] . { فَإِنْ خَرَجْنَ } بعد الحول { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التزين والتعرض للخطاب { مِن مَّعْرُوفٍ } مما ليس بمنكر شرعاً { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } فيما حكم .

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

{ وللمطلقات متاع } أي نفقة العدة { بالمعروف حَقّا } نصب على المصدر { عَلَى المتقين * كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } هو في موضع الرفع لأنه خبر «لعل» ، وإن أريد به المتعة فالمراد غير المطلقة المذكورة وهي على سبيل الندب
{ أَلَمْ تَرَ } تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين وتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب { إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } من قرية قيل : واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم بدعاء حزقيل عليه السلام . وقيل : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم { وَهُمْ أُلُوفٌ } في موضع النصب على الحال ، وفيه دليل على الألوف الكثيرة لأنها جمع كثرة وهي جمع ألف لا آلف { حَذَرَ الموت } مفعول له { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } أي فأماتهم الله ، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته وتلك ميتة خارجة عن العادة ، وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد ، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفر فأولى أن يكون في سبيل الله { ثُمَّ أحياهم } ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وفضائه ، وهو معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم أحياهم ، ولما كان معنى قوله «فقال لهم الله موتوا» فأماتهم كان عطفاً عليه معنى { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث يبصرهم ما يعتبرون به كما بصر أولئك وكما بصركم باقتصاص خبرهم ، أو لذو فضل على الناس حيث أحيا أولئك ليعتبروا فيفوزوا ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم النشور { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } ذلك . والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله وهو قوله .
{ وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } فحرض على الجهاد بعد الإعلام لأن الفرار من الموت لا يغني ، وهذا الخطاب لأمة محمد عليه السلام أو لمن أحياهم { واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ } يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون { عَلِيمٌ } بما يضمرونه { مِنْ } استفهام في موضع رفع بالابتداء { ذَا } خبره { الذى } نعت ل «ذا» أو بدل منه { يُقْرِضُ الله } صلة الذي سمى ما ينفق في سبيل الله قرضاً لأن القرض ما يقبض ببدل مثله من بعد ، سمى به لأن المقرض يقطعه من ماله فيدفعه إليه . والقرض القطع ومنه المقراض ، وقرض الفأر والانقراض فنبههم بذلك على أنه لا يضيع عنده وأنه يجزيهم عليه لا محالة { قَرْضًا حَسَنًا } بطيبة النفس من المال الطيب ، والمراد النفقة في الجهاد لأنه لما أمر بالقتال في سبيل الله ويحتاج فيه إلى المال حيث على الصدقة ليتهيأ أسباب الجهاد { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } بالنصب : عاصم على جواب الاستفهام .

وبالرفع : أبو عمر ونافع وحمزة وعلي عطفاً على «يقرض» ، أو هو مستأنف أي فهو يضاعفه . «فيضعفه» : شامي . «فيضعفه» : مكي . { أَضْعَافًا } في موضع المصدر { كَثِيرَةٍ } لا يعلم كنهها إلا الله . وقيل : الواحد بسبعمائة . { والله يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } يقتر الرزق على عباده ويوسعه عليهم فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيق بالسعة . و«يبصط» حجازي وعاصم وعلي { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على ما قدمتم .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ } الأشراف لأنهم يملأون القلوب جلالة والعيون مهابة { مِن بَنِى إسراءيل } «من» للتبعيض { مِن بَعْدِ موسى } من بعد موته و«من» لابتداء الغاية { إِذْ قَالُواْ } حين قالوا { لِنَبِىّ لَّهُمُ } هم شمعون أو يوشع أو اشمويل { ابعث لَنَا مَلِكًا } أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره { نقاتل } بالنون والجزم على الجواب { فِى سَبِيلِ الله } صلة نقاتل { قَالَ } النبي { هَلْ عَسَيْتُمْ } «عسيتم» حيث كان : نافع . { إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } شرط فاصل بين اسم «عسى» وخبره وهو { أَلاَّ تقاتلوا } والمعنى : هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون وتجبنون ، فأدخل «هل» مستفهماً عما هو متوقع عنده ، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه { قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل فِى سَبِيلِ الله } وأي داعٍ لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا } الواو في «وقد» للحال وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين يعنون إذا بلغ الأمر منا هذا المبلغ فلا بد من الجهاد { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } أي أجيبوا إلى ملتمسهم { تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عنه { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد . { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ } هو اسم أعجمي كجالوت وداود ، ومنع من الصرف للتعريف والعجمة { مَلِكًا } حال { قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } أي كيف ومن أين وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له { وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ } الواو للحال { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال } أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير لا بد للملك من مال يعتضد به ، وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب عليه السلام ، والملك في سبط يهوذا وهو كان من سبط بنيامين ، وكان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً .

وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكاً فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت { قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } الطاء في «اصطفاه» بدل من التاء لمكان الصاد الساكنة أي اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكمه . ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة فقال { وَزَادَهُ بَسْطَةً } مفعول ثانٍ { فِي العلم والجسم } قالوا : كان أعلم بني إسرائيل بالحرب والديانات في وقته ، وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه . والبسطة السعة والامتداد ، والملك لا بد أن يكون من أهل العلم فإن الجاهل ذليل مزدري غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب . { والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء } أي الملك له غير منازع فيه وهو يؤتيه من يشاء إيتاءه وليس ذلك بالوراثة { والله واسع } أي واسع الفضل والعطاء على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر { عَلِيمٌ } بمن يصطفيه للملك فثمة طلبوا من نبيهم آية على اصطفاء الله طالوت .
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } أي صندوق التوراة ، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون . { فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ } سكون وطمأنينة { وَبَقِيَّةٌ } هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة ونعلا موسى وعمامة هارون عليهما السلام { مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى وَءالُ هارون } أي مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما { تَحْمِلُهُ الملائكة } يعني التابوت وكان رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، والجملة في موضع الحال وكذا «فيه سكينة» . «ومن ربكم» نعت ل «سكينة» و«مما ترك» نعت ل «بقية» { إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم إن كنتم مصدقين .
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } خرج { بالجنود } عن بلده إلى جهاد العدو و«بالجنود» في موضع الحال أي مختلطاً بالجنود وهم ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسألوا أن يجري الله لهم نهراً { قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم } مختبركم أي يعاملكم معاملة المختبر { بِنَهَرٍ } وهو نهر فلسطين ليتميز المحقق في الجهاد من المعذر { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } كرعاً { فَلَيْسَ مِنّي } فليس من أتباعي وأشياعي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه { فَإِنَّهُ مِنّى } وبفتح الياء : مدني وأبو عمرو .

واستثنى { إِلا مَنِ اغترف } من قوله «فمن شرب منه فليس مني» والجملة الثانية في حكم المتأخرة عن الاستثناء إلا أنها قدمت للعناية { غُرْفَةً بِيَدِهِ } «غرفة» : حجازي وأبو عمرو بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ومعناه الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكرع ، والدليل عليه { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } أي فكرعوا { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } أي النهر { هُوَ } طالوت { والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } أي القليل { قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم } أي لا قوة لنا { بِجَالُوتَ } هو جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد وكان في بيضته ثلثمائة رطل من الحديد { وَجُنودِهِ قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله } يوقنون بالشهادة . قيل : الضمير في «قالوا» للكثير الذين انخذلوا والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه . وروي أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش { كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } «كم» خبرية وموضعها رفع بالابتداء { غَلبَت } خبرها { فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } بنصره { والله مَعَ الصابرين } بالنصر .
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } خرجوا لقتالهم { قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ } أصبب { عَلَيْنَا صَبْرًا } على القتال { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } بتقوية قلوبنا وإلقاء الرعب في صدور عدونا { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أعنا عليهم { فَهَزَمُوهُم } أي طالوت والمؤمنون جالوت وجنوده { بِإِذُنِ الله } بقضائه { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ } كان بيشا أو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أن داود هو الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله وزوجه طالوت بنته ، ثم حسده وأراد قتله ثم مات تائباً { وآتاه الله الملك } في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها ، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود { والحكمة } والنبوة { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } من صنعة الدروع وكلام الطيور والدواب وغير ذلك . { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس } هو مفعول به { بَعْضُهُمْ } بدل من «الناس» «دفاع» : مدني مصدر دفع أو دافع { بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } أي ولولا أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها من الحرث والنسل ، أو ولولا أن الله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بغلبة الكفار وقتل الأبرار وتخريب البلاد وتعذيب العباد { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } بإزالة الفساد عنهم وهو دليل على المعتزلة في مسألة الأصلح { تِلْكَ } مبتدأ خبره { آيَاتُ الله } يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره على الجبابرة على يد صبي { نَتْلُوهَا } حال من آيات الله ، والعامل فيه معنى الإشارة ، أو آيات الله بدل من «تلك» «ونتلوها» الخبر . { عَلَيْكَ بالحق } باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب أو سماع من أهله .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

{ تِلْكَ الرسل } إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة من آدم إلى داود أو التي ثبت علمها عند رسول الله عليه السلام { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها كالمؤمنين يستوون في صفة الإيمان ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان . ثم بين ذلك بقوله { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } أي كلمه الله حذف العائد من الصلة يعني منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ } مفعول أول { درجات } مفعول ثانٍ أي بدرجات أو إلى درجات يعني ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المفضل عليهم بإرساله إلى الكافة ، وبأنه أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف أو أكثر ، وأكبرها القرآن لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر . وفي هذا الإبهام تفخيم وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد ، والمتميز الذي لا يلتبس . وقيل : أريد به محمد وإبراهيم وغيرهما من أولي العزم من الرسل { وَءَاتَيْنَا عِسَى ابن مَرْيَمَ البينات } كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك { وأيدناه بِرُوحِ القدس } قويناه بجبريل أو بالإنجيل { وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتل } أي ما اختلف لأنه سببه { الذين مِن بَعْدِهِم } من بعد الرسل { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } المعجزات الظاهرات { ولكن اختلفوا } بمشيئتي . ثم بين الاختلاف فقال { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } بمشيئتي . يقول الله أجريت أمور رسلي على هذا ، أي لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع أمته في حياته ولا بعد وفاته بل اختلفوا عليه فمنهم من آمن ومنهم من كفر { وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتلوا } كرره للتأكيد أي لو شئت أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي ، وهذا يبطل قول المعتزلة لأنه أخبر أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا وهم يقولون شاء أن لا يقتتلوا فاقتتلوا { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } أثبت الإرادة لنفسه كما هو مذهب أهل السنة . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } في الجهاد في سبيل الله ، أو هو عام في كل صدقة واجبة { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه { وَلاَ خُلَّةٌ } حتى يسامحكم أخلاؤكم به { وَلاَ شفاعة } أي للكافرين ، فأما المؤمنون فلهم شفاعة أو إلا بإذنه { والكافرون هُمُ الظالمون } أنفسهم بتركهم التقديم ليوم حاجاتهم ، أو الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون .

«لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة» : مكي وبصري { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } «لا» مع اسمه وخبره وما أبدل من موضعه في موضع الرفع خبر المبتدأ وهو «الله» { الحى } الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء { القيوم } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور { وَلاَ نَوْمٌ } عن المفضل : السنة ثقل في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً ، وقد أوحى إلى موسى عليه السلام : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا . { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } ملكاً وملكاً { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وهو بيان لملكوته وكبريائه ، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، وفيه رد لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ } من معلومه يقال في الدعاء «اللهم اغفر علمك فينا» أي معلومك { إِلاَّ بِمَا شَاءَ } إلا بما علم { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض } أي علمه ومنه الكراسة لتضمنها العلم والكراسي العلماء ، وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم وهو كقوله تعالى : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] أو ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك أو عرشه كذا عن الحسن ، أو هو سرير دون العرش في الحديث " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بفلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة " أو قدرته بدليل قوله { وَلاَ يَئُودُهُ } ولا يثقله ولا يشق عليه { حِفْظُهُمَا } حفظ السموات والأرض { وَهُوَ العلى } في ملكه وسلطانه { العظيم } في عزه وجلاله أو العلي المتعالي عن الصفات التي لا تليق به العظيم ، المتصف بالصفات التي تليق به ، فهما جامعان لكمال التوحيد . وإنما ترتبت الجمل في آية الكرسي بلا حرف عطف لأنها وردت على سبيل البيان؛ فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه ، والثانية لكونه مالكاً لما يدبره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق ، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره . وإنما فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد ، منه ما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم

" من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله " وقال عليه السلام " سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان ، وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي " وقال " ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة " وقال " من قرأ آية الكرسي عند منامه بعث إليه ملك يحرسه حتى يصبح " وقال " من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ، وإن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي : آية الكرسي وأول «حم المؤمن» إلى { إِلَيْهِ المصير } " لاشتمالهما على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذاكراً له كان أفضل من سائر الأذكار وبه يعلم أن أشرف العلوم علم التوحيد .
{ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } أي لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام . وقيل : هو إخبار في معنى ، النهي ، ورُوي أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر؟ فنزلت فخلاهما . قال ابن مسعود وجماعة : كان هذا في الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } بالشيطان أو الأصنام { وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك } تمسك { بالعروة } أي المعتصم والمتعلق { الوثقى } تأنيث الأوثق أي الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون { لاَ انفصام لَهَا } لا انقطاع للعروة ، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده ، والمعنى فقد عقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا تحله شبهة { والله سَمِيعٌ } لإقراره { عَلِيمٌ } باعتقاده .
{ الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ } أرادوا أن يؤمنوا أي ناصرهم ومتولي أمورهم { يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات } من ظلمات الكفر والضلالة وجمعت لاختلافها { إِلَى النور } إلى الإيمان والهداية ووحد لاتحاد الإيمان { والذين كَفَرُواْ } مبتدأ والجملة وهي { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } خبره { يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات } وجمع لأن الطاغوت في معنى الجمع يعني والذين صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك ، أو الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين ، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات الذي يظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة { أولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } . ثم عجب نبيه عليه السلام وسلاه بمجادلة إبراهيم عليه السلام نمرود الذي كان يدعي الربوبية بقوله .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ } في معارضته ربوبية ربه . والهاء في «ربه» يرجع إلى إبراهيم أو إلى الذي حاج فهو ربهما { أَنْ آتاه الله الملك }
لأنّ آتاه الله يعني أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر فحاج لذلك ، وهو دليل على المعتزلة في الأصلح أوحاج وقت أن أتاه الله الملك { إِذْ قَالَ } نصب ب «حاج» أو بدل من «أن آتاه» إذا جعل بمعنى الوقت { إبراهيم رَبّيَ } «رب» : حمزة { الذى يُحِْيى وَيُمِيتُ } كأنه قال له : من ربك؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت { قَالَ } نمرود { أَنَاْ أُحْيِى وَأُمِيتُ } يريد أعفو عن القتل وأقتل فانقطع اللعين بهذا عند المخاصمة فزاد إبراهيم عليه السلام ما لا يتأتى فيه التلبيس على الضعفة حيث { قَالَ إبراهيم } عليه السلام { فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } وهذا ليس بانتقال من حجة إلى حجة كما زعم البعض لأن الحجة الأولى كانت لازمة ، ولكن لما عاند اللعين حجة الإحياء بتخلية واحد وقتل آخر ، كلمه من وجه لا يعاند ، وكانوا أهل تنجيم ، وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم ، والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية كتحريك الماء النمل على الرحى إلى غير جهة حركة النمل فقال : إن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها ، فإن كنت رباً فحركها بحركتها فهو أهون { فَبُهِتَ الذى كَفَرَ } تحير ودهش { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } أي لا يوفقهم وقالوا : إنما لم يقل نمرود فليأت ربك بالشمس من المغرب لأن الله تعالى صرفه عنه . وقيل : إنه كان يدعي الربوبية لنفسه وما كان يعترف بالربوبية لغيره . ومعنى قوله «أنا أحيي وأميت» أن الذي ينسب إليه الإحياء والإماتة أنا لا غيري ، والآية تدل على إباحة التكلم في علم الكلام والمناظرة فيه لأنه قال : «ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه» . والمحاجة تكون بين اثنين فدل على أن إبراهيم حاجه أيضاً ، ولو لم يكن مباحاً لما باشرها إبراهيم عليه السلام لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام ، ولأنا أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإيمان بالله وتوحيده وإذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا منا الدليل على ذلك ، وذا لا يكون إلا بعد المنظارة كذا في شرح التأويلات .
{ أَوْ كالذى مَرَّ } معناه أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة «لم تر» عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب ، أو هو محمول على المعنى دون اللفظ تقديره : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر . وقال صاحب الكشف : فيه الكاف زائدة و«الذي» عطف على قوله «إلى الذي حاج» عن الحسن أن المار كان كافراً بالبعث لانتظامه مع نمرود في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي «أنى يحيي» والأكثر أنه عزير أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام و«أنى يحيي» اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياة واستعظام لقدرة المحيي { على قَرْيَةٍ } هي بيت المقدس حين خربه بختنصر وهي التي خرج منها الألوف { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } ساقطة مع سقوفها أو سقطت السقوف ثم سقطت عليها الحيطان وكل مرتفع عرش { قَالَ أنى يُحْىِ } أي كيف { هذه } أي أهل هذه { الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } أي أحياه { قَالَ } له ملك { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بناء على الظن ، وفيه دليل جواز الاجتهاد روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال قبل النظر إلى الشمس «يوماً» ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال «أو بعض يوم» { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ } روي أن طعامه كان تيناً وعنباً وشرابه عصيراً ولبناً فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم يتغير والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة على الوجهين ، لأن لامها هاء لأن الأصل سنهة والفعل سانهت .

يقال سانهت فلاناً أي عاملته سنة أو واو لأن الأصل سنوة والفعل سانيت ومعناه لم تغيره السنون . «لم يتسن» بحذف الهاء في الوصل وبإثباتها في الوقف : حمزة وعلي { وانظر إلى حِمَارِكَ } كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه فمات وتفتتت عظامه ، أو وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه . وقيل : الواو عطف على محذوف أي لتعتبر ولنجعلك . قيل : أتى قومه راكباً حماراً وقال : أنا عزير فكذبوه فقال : هاتوا التوراة فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه ولم يقرأ التوراة ظاهر أحد قبل عزير فذلك كونه آية . وقيل : رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب { وانظر إِلَى العظام } أي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم { كَيْفَ نُنشِزُهَا } نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب . «ننشرها» بالراء : حجازي وبصري نحييها «ثمّ نكسوها» أي العظام «لحماً» جعل اللحم كاللباس مجازاً «فلمّا تبيّن له» فاعله مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير { قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقولهم «ضربني وضربت زيداً» ويجوز فلما تبين له ما أشكل عليه يعني أمر إحياء الموتى .

«قال اعلم» على لفظ الأمر : حمزة وعلي أي قال الله له اعلم أو هو خاطب نفسه .
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِى } بصرني { كَيْفَ تُحْىِ الموتى } موضع «كيف» نصب ب « تحيي» { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } وإنما قال له «أو لم تؤمن» وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين . و«بلى» إيجاب لما بعد النفي معناه بلى آمنت ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال ، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري . واللام تتعلق بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك أراد طمأنينة القلب { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير } طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } وبكسر الصاد : حمزة أي أملهن واضممهن إليك { ثُمَّ اجعل على كُلِ ّجَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك وفي أرضك وكانت أربعة أجبل أو سبعة . «جزأ» بضمتين وهمز : أبو بكر { ثُمَّ ادعهن } قل لهن تعالين بإذن الله { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } مصدر في موضع الحال أي ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن . وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئآتها وحلاّها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ، وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال عل كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ } لا يمتنع عليه ما يريده { حَكِيمٌ } فيما يدبر لا يفعل إلا ما فيه الحكمة ، ولما برهن على قدرته على الإحياء حث على الإنفاق في سبيل الله ، وأعلم أن من أنفق في سبيله فله في نفقته أجر عظيم وهو قادر عليه فقال :
{ مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله } لا بد من حذف مضاف أي مثل نفقتهم { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } أو مثلهم كمثل باذر حبة { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ } المنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء . ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة ، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر والممثل به موجود في الدخن والذرة وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فيبلغ حبها هذا المبلغ ، على أن التمثيل يصح وإن لم يوجد على سبيل الفرض ، والتقدير ووضع سنابل موضع سنبلات كوضع قروء موضع أقراء { والله يضاعف لِمَن يَشَاء } أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين ، أو يزيد على سبعمائة لمن يشاء .

«يضعّف» : شامي و«يضعّف» : مكي { والله واسع } واسع الفضل والجود { عَلِيمٌ } بنيات المنفقين . { الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا } هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له وكانوا يقولون إذا صنعتم صنيعة فانسوها { وَلا أَذًى } هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه . ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وأن تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ثواب إنفاقهم { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من بخس الأجر { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من فوته ، أو لا خوف من العذاب ولا حزن بفوت الثواب . وإنما قال هنا : «لهم أجرهم» وفيما بعد «فلهم أجرهم» لأن الموصول هنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة .
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } رد جميل { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول ، أو ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل { خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى } وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة { والله غَنِىٌّ } لا حاجة له إلى منفق يمن ويؤذي { حَلِيمٌ } عن معاجلته بالعقوبة وهذا وعيد له .
ثم أكد ذلك بقوله { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى كالذى } الكاف نصب صفة مصدر محذوف والتقدير إبطالاً مثل إبطال الذي { يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر } أي لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يريد بإنفاقه رضا الله ولا ثواب الآخرة ، ورئاء مفعول له { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } مثّله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بحجر أملس عليه تراب { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } مطر عظيم القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ } لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا ، أو الكاف في محل النصب على الحال أي لا تطلبوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق . وإنما قال «لا يقدرون» بعد قوله «كالذي ينفق» لأنه أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } ما داموا مختارين الكفر .
{ وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } أي وتصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه .

و«من» لابتداء الغاية وهو معطوف على المفعول له أي للإبتغاء والتثبيت ، والمعنى ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله { كَمَثَلِ جَنَّةٍ } بستان { بِرَبْوَةٍ } مكان مرتفع ، وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً «بربوة» : عاصم وشامي { أَصَابَهَا وَابِلٌ فَئَاتَتْ أُكُلُهَا } ثمرتها «أكلها» : نافع ومكي وأبو عمرو { ضِعْفَيْنِ } مثلي ما كانت تثمر قبل بسبب الوابل { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها ، أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها رضا الله تعالى زاكية عند الله زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يرى أعمالكم على إكثار وإقلال ويعلم نياتكم فيهما من رياء وإخلاص . الهمزة في { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } للإنكار { أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } بستان { مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ } لصاحب البستان { فِيهَا } في الجنة { مِن كُلّ الثمرات } يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها ، أو أن النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ثم أردفهما ذكر كل الثمرات . { وَأَصَابَهُ الكبر } الواو للحال ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر ، والواو في { وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء } أولاد صغار للحال أيضاً ، والجملة في موضع الحال من الهاء في «أصابه» { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } ريح تستدير في الأرض ثم تستطع نحو السماء كالعمود { فِيهِ } في الإعصار وارتفع { نَّارٌ } بالظرف إذ جرى الظرف وصفاً لإعصار { فاحترقت } الجنة ، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة جامعة للثمار فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة { كذلك } كهذا البيان الذي بين فيما تقدم { يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } في التوحيد والدين { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } فتنتبهوا .
{ تَتَفَكَّرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } من جياد مكسوباتكم ، وفيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض } من الحب والثمر والمعادن وغيرها والتقدير : ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ولا تقصدوا المال الرديء { مِنْهُ تُنفِقُونَ } تخصونه بالإنفاق وهو في محل الحال أي ولا تيمموا الخبيث منفقين أي مقدرين النفقة { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم { إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك «أغمض فلان عن بعض حقه» إذا غض بصره ، ويقال للبائع «أغمض» أي لا تستقص كأنك لا تبصر .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه . { واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ } عن صدقاتكم { حَمِيدٌ } مستحق للحمد أو محمود .
{ الشيطان يَعِدُكُمُ } في الإنفاق { الفقر } ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، والوعد يستعمل في الخير والشر { وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء } ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل { والله يَعِدُكُم } في الإنفاق { مَّغْفِرَةً مّنْهُ } لذنوبكم وكفارة لها { وَفَضْلاً } وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثواباً عليه في الآخرة { والله واسع } يوسع على من يشاء { عَلِيمٌ } بأفعالكم ونياتكم . { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء } علم القرآن والسنة ، أو العلم النافع الموصل إلى رضا الله والعمل به ، والحكيم عند الله هو العالم العامل { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } «ومن يؤت» : يعقوب أي ومن يؤته الله الحكمة { فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } تنكير تعظيم أي أوتي خيراً أيّ خير كثير . { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } وما يتعظ بمواعظ الله إلا ذوو العقول السليمة أو العلماء العمال ، والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق . { وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } في سبيل الله أو في سبيل الشيطان { أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ } في طاعة الله أو في معصيته { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه { وَمَا للظالمين } الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي أو ينذرون في المعاصي أو لا يفون بالنذور { مِنْ أَنصَارٍ } ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه . { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ } فنعم شيئاً إبداؤها و «ما» نكرة غير موصولة ولا موصوفة ، والمخصوص بالمدح «هي» . فنعما «هي» بكسر النون وإسكان العين : أبوعمرو ومدني غير ورش . وبفتح النون وكسر العين : شامي وحمزة وعلي . وبكسر النون والعين : غيرهم . { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء } وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فالإخفاء خير لكم . قالوا : المراد صدقات التطوع والجهر في الفرائض أفضل لنفي التهمة حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل ، والمتطوع إن أراد أن يقتدي به كان إظهاره أفضل . { وَيُكَفّرْ } بالنون وجزم الراء : مدني وحمزة وعلي . بالياء ورفع الراء : شامي وحفص . وبالنون والرفع : غيرهم . فمن جزم فقد عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط ، ومن رفع فعلى الاستئناف والياء على معنى يكفر الله . { عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ } والنون على معنى نحن نكفر { والله بِمَا تَعْمَلُونَ } من الإبداء والإخفاء { خَبِيرٌ } عالم .

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } أو ليس عليك التوفيق على الهدى أو خلق الهدى وإنما ذلك إلى الله { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } من مال { فَلأَِنفُسِكُمْ } فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله } وليست نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله أي رضا الله ولطلب ما عنده فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله ، أو هذا نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ثوابه أضعافاً مضاعفة فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } ولا تنقصون كقوله : { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا } [ الكهف : 33 ] . أي لم تنقص .
الجار في { لِلْفُقَرَاء } متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه الصدقات للفقراء { الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } هم الذين أحصرهم الجهاد فمنعهم من التصرف { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } لاشتغالهم به { ضَرْبًا فِى الأرض } للكسب . وقيل : هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم تكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى . { يَحْسَبُهُمُ الجاهل } بحالهم . «يحسبهم» وبابه : شامي ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة . والباقون بكسر السين . { أَغْنِيَاء مِنَ التعفف } مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة { تَعْرِفُهُم بسيماهم } من صفرة الوجوه ورثاثة الحال { لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافًا } إلحاحاً . قيل : هو نفي السؤال والإلحاح جميعاً كقوله :
على لا حب لا يهتدي بمناره
يريد نفي المنار والاهتداء به . والإلحاح هو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه وفي الحديث " «إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف " وقيل : معناه أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } لا يضيع عنده .
{ الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً } هما حالان أي مسرين ومعلنين يعني يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال .

وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية . أو في علي رضي الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم ، تصدق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية . { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الذين يَأْكُلُونَ الربا } هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال . وكتب «الربوا» بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكواة ، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . { لاَ يَقُومُونَ } إذا بعثوا من قبورهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } أي المصروع لأنه تخبط في المعاملة فجوزي على المقابلة . والخبط : الضرب على غير استواء كخبط العشواء { مِنَ المس } من الجنون وهو يتعلق ب «لا يقومون» أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع ، أو ب «يقوم» أي كما يقوم المصروع من جنونه ، والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف . وقيل : الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين ، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض { ذلك } العقاب { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } ولم يقل «إنما الربا مثل البيع» مع أن الكلام في الربا لا في البيع ، لأنه جيء به على طريقة المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع . { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } إنكار لتسويتهم بينهما إذ الحل مع الحرمة ضدان فأنى يتماثلان ودلالة على أن القياس يهدمه النص لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا { فانتهى } فتبع النهي وامتنع { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } يحكم في شأنه يوم القيامة وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به { وَمَنْ عَادَ } إلى استحلال الربا عن الزجاج أو إلى الربا مستحلاً { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين لأن من أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر فلذا استحق الخلود ، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق .
{ يَمْحَقُ الله الربا } يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه { وَيُرْبِى الصدقات } ينميها ويزيدها أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه ، وفي الحديث ما نقصت زكاة من مال قط .

{ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ } عظيم الكفر باستحلال الربا { أَثِيمٍ } متمادٍ في الإثم بأكله . { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } قيل : المراد به الذين آمنوا بتحريم الربا { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا } أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها . روي أنها نزلت في ثقيف . وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كاملي الإيمان فإن دليل كماله امتثال المأمور به . { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } فاعلموا بها من أذن بالشيء إذا علم ، يؤيده قراءة الحسن فأيقنوا . «فآذنوا» : حمزة وأبو بكر غير ابن غالب . فأعلموا بها غيركم ولم يقل بحرب الله ورسوله لأن هذا أبلغ ، لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله . وروي أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله { وَإِن تُبتُمْ } من الارتباء { فَلَكُمْ رُءُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ } المديونين بطلب الزيادة عليها { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بالنقصان منها .
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ذو إعسار { فَنَظِرَةٌ } فالحكم أوفى لأمر نظرة أي إنظار { إلى مَيْسَرَةٍ } يسار . «ميسرة» : نافع وهما لغتان { وَأَن تَصَدَّقُواْ } بالتخفيف : عاصم ، أي تتصدقوا برؤوس أموالكم أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم . وبالتشديد : غيره . فالتخفيف على حذف إحدى التاءين ، والتشديد على الإدغام { خَيْرٌ لَّكُمْ } في القيامة ، وقيل : أريد بالتصديق الإنظار لقوله عليه السلام " لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة " { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه . { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } «ترجعون» : أبو عمرو فرجع لازم ومتعدٍ . قيل : هي آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً أو أحداً وثمانين أو سبعة أيام أو ثلاث ساعات { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي جزاء ما كسبت { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بنقصان الحسنات وزيادة السيئات .
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } أي إذا داين بعضكم بعضاً . يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } مدة معلومة كالحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج ، وإنما احتيج إلى ذكر الدين ولم يقل إذا تداينتم إلى أجل مسمى ليرجع الضمير إليه في قوله { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال .

وإنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود ، والمعنى إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه والأمر للندب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به السلم وقال : لما حرم الله الربا أباح السلف . وعنه : أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية ، وفيه دليل على اشتراط الأجل في السلم { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم } بين المتداينين { كَاتِبٌ بالعدل } هو متعلق ب «كاتب» صفة له أي كاتب مأمون على ما يكتب يكتب بالاحتياط لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص ، وفيه دليل على أن يكون الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع ، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً ديناً حتى يكتب ما هو متفق عليه { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } ولا يمتنع واحد من الكتاب { أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله } مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير وكما متعلق بأن يكتب { فَلْيَكْتُبْ } تلك الكتابة لا يعدل عنها { وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق } ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به فيكون ذلك إقراراً على نفسه بلسانه . والإملال والإملاء لغتان { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } وليتق الله الذي عليه الدين ربه فلا يمتنع عن الإملاء فيكون جحوداً لكل حقه { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئاً في الإملاء فيكون جحوداً لبعض حقه { فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا } أي مجنوناً لأن السفه خفة في العقل أو محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف { أَوْ ضَعِيفًا } صبياً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } لعي به أو خرس أو جهل باللغة { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } الذي يلي أمره ويقوم به { بالعدل } بالصدق والحق { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ } واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين { مِّن رِّجَالِكُمْ } من رجال المؤمنين . والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام وشهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة عندنا { فَإِن لَّمْ يَكُونَا } فإن لم يكن الشهيدان { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } فليشهد رجل وامرأتان وشهادة الرجال مع النساء تقبل فيما عدا الحدود والقصاص { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء } ممن تعرفون عدالتهم ، وفيه دليل على أن غير المرضي شاهد { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } لأجل أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى { إن تضل إحداهما } على الشرط «فتذكر» بالرفع والتشديد : حمزة كقوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] . «فَتُذْكِر» بالنصب : مكي وبصري من الذّكرُ لا من الذَّكر { وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ } لأداء الشهادة أو للتحمل لئلا تتوى حقوقهم ، وسماهم شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن ، فالأوّل للفرض والثاني للندب { وَلاَ تَسْئَمُواْ } ولا تملوا قال الشاعر :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
والضمير في { أَن تَكْتُبُوهُ } للدين أو الحق { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } على أي حال كان الحق من صغر أو كبر ، وفيه دلالة جواز السلم في الثياب لأن ما يكال أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير وإنما يقال في الذرعي ، ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن تكتبوه مختصراً أو مشبعاً أو { إِلَى أَجَلِهِ } إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته { ذلكم } إشارة إلى أن تكتبوه لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب { أَقْسَطُ } أعدل من القسط وهو العدل { عَندَ الله } ظرف لأقسط { وَأَقْوَمُ للشهادة } وأعون على إقامة الشهادة وبنى أفعلا التفضيل أي «أقسط» و «أقوم» من أقسط وأقام مذهب سيبويه { وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } وأقرب من انتفاء الريب للشاهد والحاكم وصاحب الحق فإنه قد يقع الشك في المقدار والصفات وإذا رجعوا إلى المكتوب زال ذلك ، وألف «أدنى» منقلبة من واو لأنه من الدنو { إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً } عاصم أي إلا أن تكون التجارة تجارة أو إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة غيره تجارة حاضرة على «كان» التامة أي إلا أن تقع تجارة حاضرة ، أو هي ناقصة والاسم تجارة حاضرة والخبر { تُدِيرُونَهَا } وقوله { بَيْنِكُمْ } ظرف ل «تديرونها» ومعنى إدارتها بينهم تعاطيها يداً بيد { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } يعني إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوها لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً لأنه أحوط وأبعد من وقوع الاختلاف ، أو أريد به وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة والأمر للندب { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يحتمل البناء للفاعل لقراءة عمر رضي الله عنه «ولا يضارر» وللمفعول لقراءة ابن عباس رضي الله عنهما «ولا يضارر» والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما ، وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ويلزّا ، أولاً يعطي الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد { وَإِن تَفْعَلُواْ } وإن تضاروا { فَإِنَّهُ } فإن الضرار { فُسُوقٌ بِكُمْ } مأثم { واتقوا الله } في مخالفة أوامره { وَيُعَلّمُكُمُ الله } شرائع دينه { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لا يلحقه سهو ولا قصور .

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

{ وَإِن كُنتُمْ } أيها المتداينون { على سَفَرٍ } مسافرين { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان } «فرهان» : مكي وأبو عمرو أي فالذي يستوثق به رهن وكلاهما جمع رهن كسقف وسقف وبغل وبغال ، ورهن في الأصل مصدر سمي به ثم كسر تكسير الأسماء . ولما كان السفر مظنة لأعواز الكتب والإشهاد ، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد لا أن السفر شرط تجويز الارتهان . وقوله { مَّقْبُوضَةٌ } يدل على اشتراط القبض لا كما زعم مالك أن الرهن يصح بالإيجاب والقبول بدون القبض { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن { فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته } دينه . وائتمن افتعل من الأمن وهو حث للمديون على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له ، وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه . وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } في إنكار حقه { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } هذا خطاب للشهود { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } ارتفع «قلبه» ب «آثم» على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه ، أو بالابتداء و«آثم» خبره مقدم والجملة خبر «إن» . وإنما أسند إلى القلب وحده والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ، لأن كتمان الشهادة أن يضمرها في القلب ولا يتكلم بها ، فلما كان إثماً مقترفاً مكتسباً بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ كما تقول «هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي» ، ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه ، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب ، وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة { والله بِمَا تَعْمَلُونَ } من كتمان الشهادة وإظهارها { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه شيء . { للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } خلقاً وملكاً { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } يعني من السوء { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } يكافئكم ويجازيكم ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان ، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه ، والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة ، وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور .

فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا ، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا؟ قيل : لا لقوله عليه السلام : " إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به " والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم وأن المؤاخذة في العزم ثابتة وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني رحمهما الله ، والدليل عليه قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } [ النور : 19 ] . الآية . وعن عائشة رضي الله عنها : ما هم العبد بالمعصية من غير عمل يعاقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا . وفي أكثر التفاسير أنه لما نزلت هذه الآية جزعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا : أنؤاخذ بكل ما حدثت به أنفسنا فنزل قوله «آمن الرسول» إلى قوله «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» فتعلق ذلك بالكسب دون العزم . وفي بعضها أنها نسخت بهذه الآية ، والمحققون على أن النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } برفعهما : شامي وعاصم أي فهو يغفر ويعذب ، ويجزمهما : غيرهم عطفاً على جواب الشرط ، وبالإدغام : أبو عمرو ، وكذا في الإشارة والبشارة . وقال صاحب الكشاف : مدغم الراء في اللام لاحن مخطىء ، لأن الراء حرف مكرر فيصير بمنزلة المضاعف ، ولا يجوز إدغام المضاعف ، ورواية عن أبي عمر مخطىء مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس في العربية ما يؤذن بجهل عظيم { والله على كُلِّ شَىْءٍ } من المغفرة والتعذيب وغيرهما { قَدِيرٌ } قادر . { ءَامَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون } إن عطف «المؤمنون» على «الرسول» كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في { كُلٌّ } راجعاً إلى «الرسول» «والمؤمنون» أي كلهم { ءَامَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } ووقف عليه ، وإن كان مبتدأ كان عليه «كل» مبتدأ ثانياً والتقدير كل منهم و«آمن» خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول ، وكان الضمير للمؤمنين ووحد ضمير «كل» في «آمن» على معنى كل واحد منهم آمن . و«كتابه» : حمزة وعلي يعني القرآن أو الجنس { لاَ نُفَرِّقُ } أي يقولون لا نفرق بل نؤمن بالكل { بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } «أحد» في معنى الجمع ولذا دخل عليه «بين» وهو لا يدخل إلا على اسم يدل على أكثر من واحد . تقول المال بين القوم ولا تقول المال بين زيد . { وَقَالُواْ سَمِعْنَا } أجبنا قولك { وَأَطَعْنَا } أمرك { غُفْرَانَكَ } أي اغفر لنا غفرانك فهو منصوب بفعل مضمر { رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } المرجع ، وفيه إقرار بالبعث والجزاء .

والآية تدل على بطلان الاستثناء في الإيمان وعلى بقاء الإيمان لمرتكب الكبائر .
{ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا } محكي عنهم أو مستأنف { إِلاَّ وُسْعَهَا } إلا طاقتها وقدرتها لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف ، كذا في شرح التأويلات . وقال صاحب الكشاف : الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود ، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلي أكثر من الخمس ويصوم أكثر من الشهر ويحج أكثر من حجة { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر ، وخص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الافتعال للانكماش والنفس تنكمش في الشر وتتكلف للخير { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا } تركنا أمراً من أوامرك سهواً { أَوْ أَخْطَأْنَا } ودل هذا على جواز المؤاخذة في النسيان والخطأ خلافاً للمعتزلة لإمكان التحرز عنهما في الجملة ولولا جواز المؤاخذة بهما لم يكن للسؤال معنى { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } عبأ يأصر حامله أي يحبسه مكانه لثقله استعير للتكليف الشاق من نحو قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } كاليهود { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } من العقوبات النازلة بمن قبلنا { واعف عَنَّا } امح سيئاتنا { واغفر لَنَا } واستر ذنوبنا وليس بتكرار فالأول للكبائر والثاني للصغائر { وارحمنا } بتثقيل ميزاننا مع إفلاسنا ، والأول من المسخ والثاني من الخسف والثالث من الغرق { أَنتَ مولانا } سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولي أمورنا { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فمن حق المولى أن ينصر عبيده في الحديث « من قرأ آمن الرسول إلى آخره في ليلة كفتاه » وفيه « من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل » ويجوز أن يقال : قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة لما روي عن علي رضي الله عنه : خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش . وقال بعضهم : يكره ذلك بل يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة ، والله أعلم .

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

{ الم * الله } حركت الميم لالتقاء الساكنين أعني سكونها وسكون لام «الله» وفتحت لخفة الفتحة ، ولم تكسر للياء وكسر الميم قبلها تحامياً عن توالي الكسرات ، وليس فتح الميم لسكونها وسكون ياء قبلها إذ لو كان كذلك لوجب فتحها في «حم» . ولا يصح أن يقال : إن فتح الميم هو فتحة همزة «الله» نقلت إلى الميم لأن تلك الهمزة همزة وصل تسقط في الدرج وتسقط معها حركتها ، ولو جاز نقل حركتها لجاز إثباتها وإثباتها غير جائز . وأسكن يزيد والأعشى الميم وقطعا الألف ، والباقون بوصل الألف وفتح الميم و«الله» مبتدأ { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } خبره وخبر «لا» مضمر والتقدير : لا إله في الوجود إلا هو ، «وهو» في موضع الرفع بدل من موضع «لا» ، واسمه { الحي القيوم } خبر مبتدأ محذوف أي هو الحي ، أو بدل من «هو» و«القيوم» فيعول من قام وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت { نَزَّلَ } أي هو نزل { عَلَيْكَ الكتاب } القرآن { بالحق } حال أي نزله حقاً ثابتاً { مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما قبله { وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل } هما اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ، ووزنهما بتفعلة وافعيل إنما يصح بعد كونهما عربيين . وإنما قيل «نزل الكتاب» و«أنزل التوراة والإنجيل» لأن القرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة { مِن قَبْلُ } من قبل القرآن { هُدًى لّلنَّاسِ } لقوم موسى وعيسى أو لجميع الناس { وَأَنزَلَ الفرقان } أي جنس الكتب لأن الكل يفرق بين الحق والباطل ، أو الزبور ، أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له تفخيماً لشأنه { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله } من كتبه المنزلة وغيرها { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها منتقم { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء } أي في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن وهو مجازيهم عليه { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ } من الصور المختلفة { لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز } في سلطانه { الحكيم } في تدبيره . روي أنه لما قدم وفد بني نجران وهم ستون راكباً . أميرهم العاقب وعمدتهم السيد وأسقفهم وحبرهم أبو حارثة خاصموا في أن عيسى إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه؟ فقال عليه السلام : " ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ " قالوا : بلى . قال : " ألم تعلموا أن الله تعالى حي لا يموت وعيسى يموت ، وأن ربنا قيم على العباد يحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك ، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم ، وإنه صور عيسى في الرحم كيف شاء فحملته أمه ووضعته وأرضعته ، وكان يأكل ويحدث وربنا منزه عن ذلك كله "

فانقطعوا فنزل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية .
{ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } القرآن { مِنْهُ } من الكتاب { آيات محكمات } أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها { وَأُخَّرُ } وآيات أخر { متشابهات } مشتبهات محتملات . مثال ذلك { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء ، ولا يجوز الأول على الله تعالى بدليل المحكم وهو قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } [ الشورى : 11 ] أو المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله نحو قوله : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] الآيات ، { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه } [ الأسراء : 23 ] . الآيات . والمتشابه ما وراءه أو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، وما احتمل أوجهاً ، أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله ، أو الناسخ الذي يعمل به والمنسوخ الذي لا يعمل به . وإنما لم يكن كل القرآن محكماً لما في المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم والقرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله تعالى . { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } ميل عن الحق وهم أهل البدع { فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه } فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق { مِنْهُ ابتغاء الفتنة } طلب أن يفتتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله { والراسخون فِي العلم } والذين رسخوا أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور ، والوقف عندهم على قوله «إلا الله» وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، وهو مبتدأ عندهم والخبر يقولون «آمنّا به» وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم واعتقاد الحقية بلا تكييف ، وفائدة إنزال المتشابه الإيمان به ، واعتقاد حقية ما أراد الله به ، ومعرفة قصور أفهام البشر عن الوقوف على ما لم يجعل لهم إليه سبيلاً ، ويعضده قراءة أبي «ويقول الراسخون» وعبد الله «إن تأويله إلا عند الله» . ومنهم من لا يقف عليه ويقول بأن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه و«يقولون» كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أي بالمتشابه أو بالكتاب { كُلٌّ } من متشابهه ومحكمه { مِّنْ عِندِ رَبّنَا } من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه { وَمَا يَذَّكَّرُ } وما يتعظ وأصله يتذكر { إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } أصحاب العقول ، وهو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل . وقيل : «يقولون» حال من الراسخين .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } لا تملها عن الحق بخلق الميل في القلوب { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } للعمل بالمحكم والتسليم للمتشابه { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } من عندك نعمة بالتوفيق والتثبيت { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } كثير الهبة ، والآية من مقول الراسخين ويحتمل الاستئناف أي قولوها وكذلك التي بعدها وهي { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ } أي تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك في وقوعه { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } الموعد . والمعنى أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك «إن الجواد لا يخيب سائله» أي لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } برسول الله { لَن تُغْنِيَ } تنفع أو تدفع { عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله } من عذابه { شَيْئاً } من الأشياء { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } حطبها { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ } الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله . والكاف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء الكفرة في تكذيب الحق كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم ، أو منصوب المحل ب « لن تغني أي لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك . «كداب» بلا همز حيث كان : أبو عمرو . { كَذَّبُواْ بئاياتنا } تفسير لدأبهم مما فعلوا ، أو فعل بهم على أنه جواب سؤال مقدر عن حالهم ، ويجوز أن يكون حالاً أي قد كذبوا { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } بسبب ذنوبهم يقال أخذته بكذا أي جازيته عليه { والله شَدِيدُ العقاب } شديد عقابه فالإضافة غير محضة { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } هم مشركو مكة { سَتُغْلَبُونَ } يوم بدر { وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ } من الجهنام وهي بئر عميقة . وبالياء فيهما : حمزة وعلي { وَبِئْسَ المهاد } المستقر جهنم .
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ } الخطاب لمشركي قريش { فِي فِئَتَيْنِ التقتا } يوم بدر { فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله } وهم المؤمنون { وأخرى } وفئة أخرى { كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ } يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ألفين ، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين ، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم . «ترونهم» نافع أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة ، أو مثلي أنفسهم . ولا يناقض هذا ما قال في سورة الأنفال { وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] لأنهم قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم ، فلما اجتمعوا كثروا في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ }

[ الرحمن : 39 ] . { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْؤولُونَ } [ الصافات : 24 ] . وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية . و«مثليهم» نصب على الحال لأنه من رؤية العين بدليل قوله { رَأْيَ العين } يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها { والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ } كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في أعين العدو { إِنَّ فِي ذَلِكَ } في تكثير القليل { لَعِبْرَةً } لعظة { لأُوْلِي الأبصار } لذوي البصائر .
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ } المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } [ الكهف : 7 ] . دليله قراءة مجاهد «زين للناس» على تسمية الفاعل . وعن الحسن : الشيطان { حُبُّ الشهوات } الشهوة توقان النفس إلى الشيء ، جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة ، أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية { مِّنَ النساء } والإماء داخلة فيها { والبنين } جمع ابن وقد يقع في غير هذا الموضع على الذكور والإناث ، وهنا أريد به الذكور فهم المشتهون في الطباع والمعدون للدفاع { والقناطير } جمع قنطار وهو المال الكثير . قيل : ملء مسك ثور أو مائة ألف دينار ، ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا { المقنطرة } المنضدة أو المدفونة { مِنَ الذهب والفضة } سمي ذهباً لسرعة ذهابه بالإنفاق ، وفضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق { والخيل } سميت به لاختيالها في مشيها { المسومة } المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها { والأنعام } هي الأزواج الثمانية { والحرث } الزرع { ذلك } المذكور { مَّتَاعُ الحياة الدنيا } يتمتع به في الدنيا { والله عِندَهُ حُسْنُ المأب } المرجع .
ثم زهدهم في الدنيا فقال { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم } من الذي تقدم { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات } كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم ، ف «جَنات» مبتدأ «لَلذين اتقوا» خبره { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفة ل «جنات» ، ويجوز أن يتعلق اللام ب «خير» واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به . ويرتفع «جنات» على هو جنات وتنصره قراءة من قرأ «جناتٍ» بالجر على البدل من «خير» { خالدين فِيهَا وأزواج مُّطَهَّرَةٌ ورضوان مّنَ الله } أي رضا الله { والله بَصِيرٌ بالعباد } عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذا أعد لهم الجنات .
{ الذين يَقُولُونَ } نصب على المدح أو رفع أو جر صفة للمتقين أو للعباد { رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا } إجابة لدعوتك { فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } إنجازاً لوعدك { وَقِنَا عَذَابَ النار } بفضلك { الصابرين } على الطاعات والمصائب وهو نصب على المدح { والصادقين } قولاً بإخبار الحق ، وفعلاً بإحكام العمل ، ونية بإمضاء العزم { والقانتين } الداعين أو المطيعين { والمنفقين } المتصدقين { والمستغفرين بالأسحار } المصلين أو طالبين المغفرة ، وخص الأسحار لأنه وقت إجابة الدعاء ، ولأنه وقت الخلوة .

قال لقمان لابنه : يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم . والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها ، وللإشعار بأن كل صفة مستقلة بالمدح .
{ شَهِدَ الله } أي حكم أو قال { أَنَّهُ } أي بأنه { لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة } بما عاينوا من عظيم قدرته { وَأُوْلُواْ العلم } أي الأنبياء والعلماء { قَائِمَاً بالقسط } مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ويثيب ويعاقب ، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم . وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله تعالى أو من «هو» ، وإنما جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت «جاء زيد وعمرو راكباً» لم يجز لعدم الإلباس فإنك لو قلت «جاءني زيد وهند راكبا» جاز لتميزه بالذكورة أو على المدح . وكرر { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } للتأكيد { العزيز الحكيم } رفع على الاستئناف أي هو العزيز وليس بوصف ل «هو» لأن الضمير لا يوصف يعني أنه العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي لا يعدل عن الحق { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } جملة مستأنفة . وقرىء أن الدين على البدل من قوله أنه لا إله إلا هو أي شهد الله أن الدين عند الله الإسلام . قال عليه السلام " من قرأ الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة ، ومن قال بعدها : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة يقول الله تعالى يوم القيامة : إن لعبدي عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة " { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد فثلثت النصارى وقالت اليهود عزير بن الله { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } أنه الحق الذي لا محيد عنه { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي ما كان ذلك الاختلاف إلا حسداً بينهم وطلباً منهم للرياسة وحظوظ الدنيا واستتباع كل فريق ناساً لا شبهة في الإسلام . وقيل : هو اختلافهم في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حيث آمن به بعض وكفر به بعض . وقيل : هم النصارى واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله { وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله } بحججه ودلائله { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } سريع المجازاة { فَإنْ حَاجُّوكَ } فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام والمراد بهم وفد بني نجران عند الجمهور { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعو إلهاً معه ، يعني أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ونحوه :

{ قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } [ آل عمران : 64 ] . فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه فما معنى المحاجة فيه! { وَمَنِ اتبعن } عطف على التاء في «أسلمت» أي أسلمت أنا ومن أتبعني وحسن للفاصل ، ويجوز أن يكون الواو بمعنى «مع» فيكون مفعولاً معه . «ومن اتبعني» في الحالين : سهل ويعقوب وافق أبو عمرو في الوصل . «وجهي» : مدني وشامي وحفص والأعشى والبرجمي . { وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب } من اليهود والنصارى { والأميين } والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب { ءَأَسْلَمْتُمْ } بهمزتين : كوفي ، يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يقتضي حصول الإسلام فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وقيل : لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر أي أسلموا كقوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] أي انتهوا { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا } فقد أصابوا الرشد حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } أي لم يضروك فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى { والله بَصِيرٌ بالعباد } فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

{ إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين } هم أهل الكتاب رضوا بقتل آبائهم الأنبياء { بِغَيْرِ حَقّ } حال مؤكدة لأن قتل النبي لا يكون حقاً { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ } «ويقاتلون» : حمزة { بالقسط } بالعدل { مِنَ الناس } أي سوى الأنبياء . قال عليه السلام " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم " { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } دخلت الفاء في خبر «إن» لتضمن اسمها معنى الجزاء كأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بعذاب أليم بمعنى من يكفر فبشرهم ، وهذا لأن «إن» لا تغير معنى الابتداء فهي للتحقيق فكأن دخولها كلا دخول ولو كان مكانها «ليت» أو «لعل» لامتنع دخول الفاء { أولئك الذين حَبِطَتْ أعمالهم } أي ضاعت { فِي الدنيا والآخرة } فلهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } جمع لوقف رؤوس الآي وإلا فالواحد النكرة في النفي يعم .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة . «ومن» للتبعيض أو للبيان { يُدْعُونَ } حال من «الذين» { إلى كتاب الله } أي التوراة أو القرآن { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } جعل حاكماً حيث كان سبباً للحكم أو ليحكم النبي . روي أنه عليه السلام دخل مدراسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت؟ قال النبي عليه السلام : " على ملة إبراهيم " قالا : إن إبراهيم كان يهودياً . قال لهما : إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب { وَهُم مُّعْرِضُونَ } وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات } أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل وهي أربعون يوماً أو سبعة أيام و«ذلك» مبتدأ «وبأنهم» خبره { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي غرهم افتراؤهم على الله وهو قولهم «نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا بذنوبنا إلا مدة يسيرة» .
{ فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ } فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } جزاء ما كسبت { وَهُمْ } يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس { لاَ يُظْلَمُونَ } بزيادة في سيئاتهم ونقصان في حسناتهم .

{ قُلِ اللهم } الميم عوض من «يا» ولذا لا يجتمعان ، وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه ، وفيه لام التعريف وبقطع همزته في «يا الله» وبالتفخيم { مالك الملك } تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثانٍ أي يا مالك الملك { تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ } تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له من الملك { وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ } أي تنزعه فالملك الأول عام والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل . " روي أنه عليه السلام حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقالت اليهود والمنافقون : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك " فنزلت { وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ } بالملك { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } بنزعه منه { بِيَدِكَ الخير } أي الخير والشر فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر ، أو لأن الكلام وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال : بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعداءك { إِنَّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك . وقيل : المراد بالملك ملك العافية أو ملك القناعة . قال عليه السلام " ملوك الجنة من أمتي القانعون بالقوت يوماً فيوماً " أو ملك قيام الليل . وعن الشبلي : الاستغناء بالمكون عن الكونين تعز بالمعرفة أو بالاستغناء بالمكون أو بالقناعة وتذل بأضدادها . ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب بقوله { تُولِجُ اليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي اليل } فالإيلاج إدخال الشيء في الشيء وهو مجاز هنا أي تنقص من ساعات الليل وتزيد في النهار ، وتنقص من ساعات النهار وتزيد في الليل { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } الحيوان من النطفة ، أو الفرخ من البيضة ، أو المؤمن من الكافر { وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } النطفة من الإنسان ، أو البيض من الدجاج ، أو الكافر من المؤمن { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا يعرف الخلق عدده ومقداره وإن كان معلوماً عنده ، ليدل على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم . وفي بعض الكتب : أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم . وهو معنى قولهم عليه السلام " كما تكونوا يولى عليكم الحي من الميت والميت من الحي "

بالتشديد حيث كان : مدني وكوفي غير أبي بكر .
{ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ } نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو لصداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، وقد كرر ذلك في القرآن والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم في الإيمان . { مِن دُونِ المؤمنين } يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } أي ذاته فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد { وإلى الله المصير } أي مصيركم إليه والعذاب معد لديه وهو وعيد آخر .
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله { يَعْلَمْهُ الله } ولم يخف عليه وهو أبلغ وعيد { وَيَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } استئناف وليس بمعطوف على جواب الشرط أي هو الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض فلا يخفى عليه سركم وعلنكم { والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيكون قادراً على عقوبتكم { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بعيداً } «يوم» منصوب ب «تود» والضمير في «بينه» لليوم أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين ، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً أي مسافة بعيدة ، أو ب «اذكر» ويقع «تجد» على «ما عملت» وحده ويرتفع «وما عملت» على الابتداء و«تود» خبره أي والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه ، ولا يصح أن تكون «ما» شرطية لارتفاع «تود» ، نعم الرفع جائز إذا كان الشرط ماضياً لكن الجزم هو الكثير . وعن المبرد أن الرفع شاذ . وكرر قوله { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه { والله رَءُوفٌ بالعباد } ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه ، ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لكمال قدرته مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ فصلت : 43 ] . ونزل حين قال اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه . { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } محبة العبد لله إيثار طاعته على غير ذلك ، ومحبة الله العبد أن يرضى عنه ويحمد فعله . وعن الحسن : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل ، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه .

وقيل : محبة الله معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به وبذكره ودوام الأنس به . وقيل : هي اتباع النبي عليه السلام في أقواله وأفعاله وأحواله إلا ما خص به . وقيل : علامة المحبة أن يكون دائم التفكير ، كثير الخلوة ، دائم الصمت ، لا يبصر إذا نظر ، ولا يسمع إذا نودي ، ولا يحزن إذا أصيب ، ولا يفرح إذا أصاب ، ولا يخشى أحداً ولا يرجوه { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } قيل : هي علامة المحبة { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن قبول الطاعة ، ويحتمل أن يكون مضارعاً أي فإن تتولوا { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } أي لا يحبهم .
{ إِنَّ الله اصطفى } اختار { ءَادَمَ } أبا البشر { وَنُوحاً } شيخ المرسلين { وآلَ إبراهيم } إسماعيل وإسحاق وأولادهما { وآل عمران } موسى وهارون هما ابنا عمران بن يصهر . وقيل : عيسى ومريم بنت عمران ابن ماثان وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة { عَلَى العالمين } على عالمي زمانهم { ذُرِّيَّةَ } بدل من «آل إبراهيم وآل عمران» { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } مبتدأ وخبره في موضع النصب صفة ل «ذرية» يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض : موسى وهارون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوي من يعقوب ، ويعقوب من إسحاق ، وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان وهو يتصل بيهودا بن يعقوب بن إسحاق ، وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : بعضها من بعض في الدين { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعلم من يصلح للإصطفاء ، أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها { إِذْ قَالَتِ } «وإذ» منصوب به أو بإضمار «اذكر» . { امرأت عمران } هي امرأة عمران بن ماثان أم مريم جدة عيسى وهي حنة بنت فاقوذا { رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ } أوجبت { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } هو حال من «ما» وهي بمعنى الذي أي معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه ، وكان هذا النوع من النذر مشروعاً عندهم أو مخلصاً للعبادة يقال «طين حر» أي خالص { فَتَقَبَّلْ مِنّي } «منّي» مدني وأبو عمر ، والتقبل : أخذ الشيء على الرضا به { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير ل «ما في بطني» وإنما أنّث على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة { قَالَتْ رَبِّ إِنّي وَضَعْتُهَا أنثى } «أنثى» حال من الضمير في «وضعتها» أي وضعت الحبلة أو النفس أو النسمة أنثى ، وإنما قالت هذا القول لأن التحرير لم يكن إلا للغلمان فاعتذرت عما نذرت وتحزنت إلى ربها ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عزائم الأمور .

«وضعتُ» : شامي وأبو بكر بمعنى ولعل لله فيه سراً وحكمة ، وعلى هذا يكون داخلاً في القول . وعلى الأول يوقف عند قوله «أنثى» وقوله : «والله أعلم بما وضعت» . ابتداء إخبار من الله تعالى { وَلَيْسَ الذكر } الذي طلبت { كالأنثى } التي وهبت لها واللام فيهما للعهد { وَإِنّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } معطوف على «إني وضعتها أنثى» وما بينهما جملتان معترضتان . وإنما ذكرت حنة تسميتها مريم لربها لأن مريم في لغتهم العابدة ، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها وأن يصدق فيها ظنها بها ، ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان بقوله { وَإِنّي } «وإنّي» مدني { أُعِيذُهَا بِكَ } أجيرها { وَذُرِّيَّتَهَا } أولادها { مِنَ الشيطان الرجيم } الملعون في الحديث " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } قبل الله مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قيل : القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط لما يسعط به وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى في ذلك ، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة . روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي أختها . فقالوا : لا حتى نقترع عليها . فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها . وقيل : هو مصدر على تقدير حذف المضاف أي فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } مجاز عن التربية الحسنة ، قال ابن عطاء : ما كانت ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات . «ونباتاً» مصدر على خلاف الصدر أو التصدير فنبتت نباتاً { وَكَفَّلَهَا } «وكفلها» : قبلها أو ضمن القيام بأمرها . وكفّلها : كوفي أي كفلها الله زكريا يعني جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها { زَكَرِيَّا } بالقصر : كوفي غير أبي بكر في كل القرآن . وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا . غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه في العبري : دائم الذكر والتسبيح { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } قيل : بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم .

وقيل : المحراب أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس . وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } فلا تستبعد . قيل : تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد { إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ } من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين { بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقدير لكثرته أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل .
{ هُنَالِكَ } في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت فقد يستعار «هنا» و «حيث» و «ثم» للزمان . لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أمها حنة في الكرامة على الله ، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أمها كذلك . وقيل : لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً } ولداً والذرية يقع على الواحد والجمع { طَيِّبَةً } مباركة والتأنيث للفظ الذرية { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء } مجيبه { فَنَادَتْهُ الملئكة } قيل : ناداه جبريل عليه السلام . وإنما قيل «الملائكة» لأن المعنى أتاه النداء من هذا الجنس كقولهم «فلان يركب الخيل» . «فناديه» بالياء والإمالة : حمزة وعلي { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المحراب } وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات ، وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات . وقال ابن عطاء : ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب { إِنَّ الله } بكسر الألف : شامي وحمزة وعلى إضمار القول ، أو لأن النداء قول . الباقون : بالفتح أي بأن الله { يُبَشّرُكَ } «يبشرك» وما بعده : حمزة وعلي من بشره والتخفيف والتشديد لغتان { بيحيى } هو غير منصرف إن كان عجمياً وهو الظاهر فللتعريف والعجمة كموسى وعيسى ، وإن كان عربياً فللتعريف ووزن الفعل ك «يعمر» { مُصَدِّقاً } حال منه { بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } أي مصدقاً بعيسى مؤمناً به فهو أول من آمن به . وسمي عيسى كلمة الله لأن تكون ب «كن» بلا أب ، أو مصدقاً بكلمة من الله مؤمناً بكتاب منه { وَسَيّدًا } هو الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف ، وكان يحيى فائقاً على قومه لأنه لم يركب سيئة قط ويا لها من سيادة . وقال الجنيد : هو الذي جاد بالكونين عوضاً عن المكون { وَحَصُورًا } هو الذي لا يقرب النساء مع القدرة حصراً لنفسه أي منعاً لها من الشهوات { وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } ناشئاً من الصالحين لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غلام } استبعاد من حيث العادة واستعظام للقدرة لا تشكك { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } كقولهم «أدركته السن العالية» أي أثر فيَّ الكبر وأضعفني وكان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون { وامرأتي عَاقِرٌ } لم تلد { قَالَ كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الأفعال العجيبة .

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)

{ قَالَ رَبِّ اجعل لِّي } «لِي» مدني وأبو عمرو { ءَايَةً } علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة بالشكر إذا جاءت { قَالَ آيتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ الناس } أي لا تقدر على تكليم الناس { ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا } إلا إشارة بيد أو رأس أوعين أو حاجب وأصله التحرك ، يقال ارتمز إذا تحرك . واستثنى الرمز وهو ليس من جنس الكلام لأنه لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاماً ، أو هو استثناء منقطع . وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة عن تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذا قال { واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بالعشي والإبكار } أي في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة والأدلة الظاهرة ، وإنما حبس لسانه عن كلام الناس ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر ، وأحسن الجواب ما كان منتزعاً من السؤال . والعشي من حين الزوال إلى الغروب ، والإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .
{ وَإِذْ } عطف على «إذ قالت امرأة عمران» أو التقدير واذكر إذا { قَالَتِ الملئكة يامريم } روي أنهم كلموها شفاها { إِنَّ الله اصطفاك } أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية { وَطَهَّرَكِ } مما يستقذر من الأفعال { واصطفاك } آخراً { على نِسَاء العالمين } بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ } أديمي الطاعة أو أطيلي قيام الصلاة { واسجدي } وقيل : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة ، ثم قيل لها { واركعي مَعَ الركعين } أي ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم { ذلك } إشارة إلى ما سبق من قصة حنة وزكريا ويحيى ومريم { مِنْ أَنبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ } يعني أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم } أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين ، أو هي الأقلام التي كانوا يكتبون التوراة بها اختاروها للقرعة تبركاً بها { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } متعلق بمحذوف دل عليه «يلقون» كأنه قيل : يلقونها ينظرون أيهم يَكفل مريم أو ليعلموا أو يقولون { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } في شأنها تنافساً في التكفل بها { إِذْ قَالَتِ الملائكة } أي اذكر { يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ } أي بعيسى { مِّنْهُ } في موضع جر صفة لكلمة { اسمه } مبتدأ وذكر ضمير الكلمة لأن المسمى بها مذكر { المسيح } خبره والجملة في موضع جر صفة ل «كلمة» .

والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله «مشيحاً» بالعبرانية ومعناه المبارك كقوله : { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ } [ مريم : 31 ] . وقيل : سمي مسيحاً لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ ، أو لأنه كان يمسح الأرض بالسياحة لا يستوطن مكاناً { عِيسَى } بدل من المسيح { ابن مَرْيَمَ } خبر مبتدأ محذوف أي هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون صفة لعيسى لأن اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى ابن مريم . وإنما قال «ابن مريم» إعلاماً لها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه «وَجِيهاً» ذا جاه وقدر «في الدُّنيا» بالنبوة والطاعة { والآخرة } بعلو الدرجة والشفاعة { وَمِنَ المقربين } برفعه إلى السماء ، وقوله «وجيهاً» حال من «كلمة» لكونها موصوفة وكذا «ومن المقربين» أي وثابتاً من المقربين ، وكذا «ويكَلِّمُ النّاسَ» أي ومكلماً الناس في المهد حال من الضمير في «يكلم» أي ثابتاً في المهد وهو ما يمهد للصبي من مضجعه سمي بالمصدر { وَكَهْلاً } عطف عليه أي ويكلم الناس طفلاً وكهلاً أي يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحالة الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء { وَمِنَ الصالحين } حال أيضاً والتقدير يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات .
{ قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يقول له كن فيكون } أي إذا قدر تكون شيء كونه من غير تأخير لكنه عبر بقوله «كن» إخباراً عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه { وَيُعَلِّمُهُ } مدني وعاصم وموضعه حال معطوفة على «وجيهاً» . الباقون : بالنون على أنه كلام مبتدأ { الكتابَ } أي الكتابة وكان أحسن الناس خطاً في زمانه . وقيل : كتب الله { والحكمَةَ } بيان الحلال والحرام أو الكتاب الخط باليد . والحكمة : البيان باللسان { والتوراة والإنجيل * وَرَسُولاً } أي ونجعله رسولاً أو يكون في موضع الحال أي وجيهاً في الدنيا والآخرة ورسولاً { إلى بَنِي إسراءيل أَنّي } بأني { قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } بدلالة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة { أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ } نصب بدل من «أني قد جئتكم» أو جر بدل من «آية» أو رفع على «هي أني أخلق لكم» . «ِإنِّيَ» : نافع على الاستئناف { مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } أي أقدر لكم شيئاً مثل صورة الطير { فَأَنفُخُ فِيهِ } الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير { فَيَكُونُ طَيْرًا } فيصير طيراً كسائر الطيور . «طائراً» : مدني { بِإِذُنِ الله } بأمره . قيل : لم يخلق شيئاً غير الخفاش { وَأُبْرِىءُ الأكمه } الذي ولد أعمى { والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله } كرر «بإذن الله» دفعاً لو هم من يتوهم فيه اللاهوتية .

روي أنه أحيا سام بن نوح عليه السلام وهم ينظرون إليه فقالوا : هذا سحر مبين فأرنا آية فقال : يا فلان أكلت كذا ويا فلان خبىء لك كذا وهو قوله { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } و«ما» فيهما بمعنى «الذي» ، أو مصدرية { إِنَّ فِي ذَلِكَ } فيما سبق { لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } أي قد جئتكم بآية وجئتكم مصدقاً { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } رد على قوله «بآية من ربكم» أي جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم . وما حرم الله عليهم في شريعة موسى عليه السلام الشحوم ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر فأحل لهم عيسى بعض ذلك { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } كرر للتأكيد { فاتقوا الله } في تكذيبي وخلافي { وَأَطِيعُونِ } في أمري { إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } إقرار بالعبودية ونفي للربوبية عن نفسه بخلاف ما يزعم النصارى { فاعبدوه } دوني { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } يؤدي صاحبه إلى النعيم المقيم .
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } علم من اليهود كفراً علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس { قَالَ مَنْ أَنصَارِي } «أنصاري» مدني وهو جمع ناصر كأصحاب أو جمع نصير كأشراف { إِلَى الله } يتعلق بمحذوف حال من الياء أي من أنصاري ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه { قَالَ الحواريون } حواريّ الرجل صفوته وخاصته { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } أعوان دينه { آمنا بالله واشهد } يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } إنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيداً لإيمانهم لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم ، وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد { رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول } أي رسولك عيسى { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم ، أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية ، أو مع أمة محمد عليه السلام لأنهم شهداء على الناس { وَمَكَرُواْ } أي كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حين أرادوا قتله وصلبه { وَمَكَرَ الله } أي جازاهم على مكرهم بأن رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل ، ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء ، لأنه مذموم عند الخلق وعلى هذا الخداع والاستهزاء كذا في شرح التأويلات . { والله خَيْرُ الماكرين } أقوى المجازين وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب { إِذْ قَالَ الله } ظرف لمكر الله { ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ } أي مستوفي أجلك ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } إلى سمائي ومقر ملائكتي { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } من سوء جوارهم وخبث صحبتهم .

وقيل : متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته ، أو مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن ، إذ الواو لا توجب الترتيب . قال النبي عليه السلام « ينزل عيسى خليفة على أمتي يدق الصليب ويقتل الخنازير ويلبث أربعين سنة ، ويتزوج ويولد له ثم يتوفى وكيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي وفي وسطها » أو متوفي نفسك بالنوم ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } أي المسلمين لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ } بك { إلى يَوْمِ القيامة } يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مّن ناصرين * وَأَمَّا الذين ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } وتفسير الحكم هاتان الآيتان فيوفيهم حفص .

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره وهو مبتدأ { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } خبره { مِنَ الأيات } خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف { والذكر الحكيم } القرآن يعني المحكم ، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه . ونزل لما قال وفد بني نجران هل رأيت ولداً بلا أب . { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ } أي إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم عليه السلام { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } قدره جسداً من طين وهي جملة مفسرة لحالة شبه عيسى بآدم ولا موضع لها أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم ، فكذلك حال عيسى مع أن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أب له قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وحزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } أي أنشأه بشراً { فَيَكُونُ } أي فكان وهو حكاية حال ماضية ، و «ثم» لترتيب الخبر على الخبر لا لترتيب المخبر عنه { الحق مِن رَّبّكَ } خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق { فَلاَ تَكُن } أيها السامع { مِنَ الممترين } الشاكين . ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون من باب التهييج لزيادة الثبات لأنه عليه السلام معصوم من الامتراء { فَمَنْ حَاجَّكَ } من النصارى { فِيهِ } في عيسى { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } من البينات الموجبة للعلم و«ما» بمعنى «الذي» { فَقُلْ تَعَالَوْاْ } هلموا والمراد المجيء بالعزم والرأي كما تقول : تعالى نفكر في هذه المسألة { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } ثم نتباهل بأن نقول «بهلة الله على الكاذب منا ومنكم» . والبهلة بالفتح والضم اللعنة ، وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته ، وأصل الابتهال هذا ثم يستعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً . روي أنه عليه السلام لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى ننظر . فقال العاقب . وكان ذا رأيهم - والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل وما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكن ، فإن أبيتم إلا ألف دينكم فودعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم .

فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول : " إذا أنا دعوت فأمنوا " فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك فصالحهم النبي على ألفي حلة كل سنة فقال عليه السلام " والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير " وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة به وبمن يكاذبه لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم ، وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك { فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين } منا ومنكم في شأن عيسى ونبتهل ونجعل معطوفان على «ندع» .
{ إِنَّ هَذَا } الذي قص عليك من نبأ عيسى { لَهُوَ القصص الحق } هو فصل بين اسم «إن» وخبرها ، أو مبتدأ و«القصص الحق» خبره ، والجملة خبر «إن» وجاز دخول اللام على الفصل لأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ منه ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ . و«من» في { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } بمنزلة البناء على الفتح في «لا إله إلا الله» في إفادة معنى الاستغراق ، والمراد الرد على النصارى في تثليثهم { وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز } في الانتقام { الحكيم } في تدبير الأحكام { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا ولم يقبلوا { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .
{ قُلْ ياأهل الكتاب } هم أهل الكتابين أو وفد نجران أو يهود المدينة { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء } أي مستوية { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل . وتفسير الكلمة قوله { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله } يعني تعالوا إليها حتى لا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا ، ولا نطيع أحبارنا فميا أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله .

وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم " قال : نعم . قال : " هو ذاك " { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن التوحيد { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع : اعترف بأني أنا الغالب وسلم إليّ الغلبة . { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم : إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل وبين إبراهيم وموسى ألف سنة وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال .
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء } «ها» للتنبيه و«أنتم» مبتدأ و«هؤلاء» خبره { حاججتم } جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى . وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } مما نطق به التوراة والإنجيل { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم . وقيل : هؤلاء بمعنى «الذين» و«حاججتم» صلته . «ها أنتم» بالمد وغير الهمز حيث كان : مدني وأبو عمرو . { والله يَعْلَمُ } علم ما حاججتم فيه { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وأنتم جاهلون به .
ثم أعلمهم بأنه بريء من دينهم فقال { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } كأنه أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، أو ما كان من المشركين كما لم يكن منهم { إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم } إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب { لَلَّذِينَ اتبعوه } في زمانه وبعده { وهذا النبي } خصوصاً خص بالذكر لخصوصيته بالفضل والمراد محمد عليه السلام { والذين ءَامَنُواْ } من أمته { والله وَلِيُّ المؤمنين } ناصرهم . { وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } هم اليهود دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهود { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } بذلك .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

{ يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله } بالتوراة والإنجيل ، وكفرهم بها أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } تعترفون بأنها آيات الله أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين ، أو تكفرون بآيات الله جميعاً وأنتم تعلمون أنها حق { ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَتَكْتُمُونَ الحق } نعت محمد عليه السلام { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه حق { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } فيم بينهم { ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ } أي القرآن { وَجْهَ النهار } ظرف أي أوله يعني أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار { واكفروا ءاخِرَهُ } واكفروا به آخره { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعل المسلمين يقولون ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم .
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } «ولا تؤمنوا» متعلق بقوله { أن يؤتى أحدٌ مّثل ما أوتيتم } وما بينهما اعتراض أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } عطف على «أن يؤتى» والضمير في «يحاجوكم» لأحد لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير اتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة . ومعنى الاعتراض أن الهدى هدى الله من شاء هداه حتى أسلم أو ثبت على الإسلام كان ذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } يريد الهداية والتوفيق ، أو يتم الكلام عند قوله «إلا لمن تبع دينكم» أي ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم . ومعنى قوله «أن يؤتى» لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه لا لشيء آخر يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يأتي أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ، ويدل عليه قراءة ابن كثير «آن» بالمد والاستفهام يعني الآن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب تحسدونهم . وقوله «أو يحاجوكم» على هذا معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم { والله واسع } أي واسع الرحمة { عَلِيمٌ } بالمصلحة { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } بالنبوة أو بالإسلام { مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم * وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ } هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } هو فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه .

وقال : المأمونون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم { إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه ملازماً له . «يؤده» و«لا يؤده» بكسر الهاء مشبعة : مكي وشامي ونافع وعلي وحفص ، واختلس أبو عمرو في رواية . غيرهم : بسكون الهاء .
{ ذلك } إشارة إلى ترك الأداء الذي دل عليه «لا يؤده» { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ } أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم «ليس علينا من الأميين سبيل» أي لا يتطرق علينا إثم وذم في شأن الأميين يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم لأنهم ليسوا على ديننا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم وكانوا يقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة . وقيل : بايع اليهود رجالاً من قريش ، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب } بادعائهم أن ذلك في كتابهم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون { بلى } إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين أي بلى عليهم سبيل فيهم . وقوله { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى } جملة مسأنفة مقررة للجملة التي سدت «بلى» مسدها ، والضمير في «بعده» يرجع إلى الله تعالى أي كل من أوفى بعهد الله واتقاه { فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } أي يحبهم فوضع الظاهر موضع الضمير وعموم المتقين قام مقام الضمير الراجع من الجزاء إلى «من» ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء . قيل : نزلت في عبد الله بن سلام ونحوه من مسلمي أهل الكتاب ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى «من أوفى» أي كل من أوفى بما عاهد الله عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه . ونزل فيمن حرّف التوراة وبدل نعته عليه السلام من اليهود وأخذ الرشوة على ذلك { إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ } يستبدلون { بِعَهْدِ الله } بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم { وأيمانهم } وبما حلفوا به من قولهم «والله لنؤمنن به ولننصرنه» { ثَمَناً قَلِيلاً } متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك ، وقوله «بعهد الله» يقوي رجوع الضمير في «بعهده» إلى الله { أولئك لاَ خلاق لَهُمْ فِى الآخرة } أي لا نصيب { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله } بما يسرهم { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } نظر رحمة { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } ولا يثني عليهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم .

{ وَإِنَّ مِنْهُمْ } من أهل الكتاب { لَفَرِيقًا } هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وغيرهم { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب } يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، واللّيُ الفتل وهو الصرف والمراد تحريفهم كآبة الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك . والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يرجع إلى ما دل عليه «يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب » وهو المحرف ، ويجوز أن يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه { مّنَ الكتاب } أي التوراة { وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب } وليس هو من التوراة { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } تأكيد لقوله «وما هو من الكتاب» وزيادة تشنيع عليهم { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الكتاب } تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى عليه السلام . وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : " لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله " { والحكم } والحكمة وهي السنة أو فصل القضاء { والنبوة ثُمَّ يَقُولَ } عطف على «يؤتيه» { لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله ولكن كُونُواْ ربانيين } ولكن يقول : كونوا ربانيين . والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون وهو شديد التمسك بدين الله وطاعته . وحين مات ابن عباس قال ابن الحنفية : مات رباني هذه الأمة . وعن الحسن : ربانيين علماء فقهاء . وقيل : علماء معلمين . وقالوا : الرباني العالم العامل { بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب } كوفي وشامي أي غيركم غيرهم بالتخفيف { وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } أي تقرأون ، والمعنى بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم كانت الربانية التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان كمن غرس شجرة حسناء تؤنقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها . وقيل : معنى «تدرسون» تدرسونه على الناس كقوله { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس } [ الإسراء : 106 ] فيكون معناه معنى تدرسون من التدريس كقراءة ابن جبير .
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالنصب عطفاً على «ثم يقول» ووجهه أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله «ما كان لبشر» والمعنى ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم { أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } كما تقول «ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي»وبالرفع حجازي وأبو عمرو وعليّ على ابتداء الكلام ، والهمزة في { أَيَأْمُرُكُم بالكفر } للإنكار والضمير في «لا يأمركم» و«أيأمركم» للبشر أو لله .

وقوله { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } يدل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له .
{ وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } هو على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك ، أو المراد ميثاق الأولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف . واللام في { لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ } لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف ، وفي «لتؤمنن» لام جواب القسم ، وما يجوز أن تكون متضمنة لمعنى الشرط و«لتؤمنن» ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً ، وأن تكون موصولة بمعنى للذي آتيتكموه لتؤمنن به { ثُمَّ جَاءكُمْ } معطوف على الصلة والعائد منه إلى ما محذوف والتقدير ثم جاءكم به { رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لّمَا مَعَكُمْ } للكتاب الذي معكم { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } بالرسول { وَلَتَنصُرُنَّهُ } أي الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم «لما آتيتكم» حمزة و «ما» بمعنى الذي ، أو مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم . واللام للتعليل أي أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه لأجل أني آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف . «آتيناكم» : مدني { قَالَ } أي الله { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى } أي قبلتم عهدي ، وسمي إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد { قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا } فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين } وأنا معكم على ذلك من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين ، وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض . وقيل : قال الله للملائكة اشهدوا { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك } الميثاق والتوكيد ونقض العهد بعد قبوله وأعرض عن الإيمان بالنبيّ الجائي { فأولئك هُمُ الفاسقون } المتمردون من الكفار .

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

{ أَفَغَيْرَ دِينِ الله } دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة ، والمعنى فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما . ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره : أيتولون فغير دين الله يبغون . وقدم المفعول وهو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل { يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات } الملائكة { والأرض } الإنس والجن { طَوْعاً } بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه { وَكَرْهًا } بالسيف أو بمعاينة العذاب كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون والإشفاء على الموت ، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده . وانتصب { طَوْعًا وَكَرْهًا } على الحال أي طائعين ومكرهين { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فيجازيكم على الأعمال «يبغون» و«يرجعون» بالياء فيهما : حفص ، وبالتاء في الثاني وفتح الجيم أبو عمرو لأن الباغين هم المتولون والراجعون جميع الناس ، وبالتاء فيهما وفتح الجيم : غيرهما .
{ قُلْ ءَامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذا وحد الضمير في «قل» وجمع في «آمنا» أو أمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه . وعدي «أنزل» هنا بحرف الاستعلاء وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين ، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر . وقال صاحب اللباب : الخطاب في البقرة للأمة لقوله { قُولُواْ } فلم يصح إلا «إلى» لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعاً ، وهنا قال «قل» وهو خطاب للنبي عليه السلام دون أمته فكان اللائق به «علي» لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيه ، وفيه نظر لقوله تعالى : { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ } [ آل عمران : 72 ] { وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط } أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء { وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى والنبيون } كرر في البقرة و«ما أوتي» ولم يكرر هنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال «لما آتيتكم» { مّن رَّبّهِمُ } من عند ربهم { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } في الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتنا { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } يعني التوحيد وإسلام الوجه لله أو غير دين محمد عليه السلام { دِينًا } تمييز { فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين } من الذين وقعوا في الخسران ونزل في رهط أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة .
{ كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم } والواو في { وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ } للحال و «قد» مضمرة أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول أي محمداً حق ، أو للعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأن معناه بعد أن آمنوا { وَجَاءهُمُ البينات } أي الشواهد كالقرآن وسائر المعجزات { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } أي ما داموا مختارين الكفر ، أو لا يهديهم طريق الجنة إذا ماتوا كفاراً { أولئك } مبتدأ { جَزَآؤُهُمْ } مبتدأ ثانٍ خبره { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } وهما خبر «أولئك» أو «جزاؤهم» بدل الاشتمال من «أولئك» { والملائكة والناس أَجْمَعِينَ خالدين } حال من الهاء والميم في «عليهم» { فِيهَا } في اللعنة { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك } الكفر العظيم والارتداد { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح { فَإِنَّ الله غَفُورٌ } لكفرهم { رَّحِيمٌ } بهم .

ونزل في اليهود { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } بعيسى والإنجيل { بَعْدَ إيمانهم } بموسى والتوراة { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، أو كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه في كل وقت أو نزل في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة . وازديادهم الكفر أن قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } أي إيمانهم عند البأس لأنهم لا يتوبون إلا عند الموت قال الله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون * إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرض } الفاء في «فلن يقبل» يؤذن بأن الكلام بني على الشرط والجزاء ، وأن بسبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وترك الفاء فيما تقدم يشعر بأن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب { ذَهَبًا } تمييز { وَلَوِ افتدى بِهِ } أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً قال عليه السلام " يقال للكافر يوم القيامة لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول : نعم . فيقال له : لقد سئلت أيسر من ذلك " قيل : الواو لتأكيد النفي { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } معينين دافعين للعذاب .
{ لَن تَنَالُواْ البر } لن تبلغوا حقيقة البر أو لن تكونوا أبراراً أو لن تنالوا بر الله وهو ثوابه { حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثروها . وعن الحسن : كل من تصدق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو تمرة فهو داخل في هذه الآية . قال الواسطي : الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب وإلى الرب بالتخلي عن الكونين ، وقال أبو بكر الوراق : لن تناولوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم .

والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدال السكر ويتصدق بها فقيل له : لم لا تتصدق بثمنها؟ قال : لأن السكر أحب إليّ فأردت أن أنفق مما أحب . { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } أي هو عليكم بكل شيء تنفقونه فيجازيكم بحسبه . و«من» الأولى للتبعيض لقراءة عبد الله «حتى تنفقوا بعض ما تحبون» والثانية للتبيين أي من أي شيء كان الإنفاق طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه . ولما قالت اليهود للنبي عليه السلام : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام " كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحله " فقالت اليهود : إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام نزل تكذيباً لهم .
{ كُلُّ الطعام } أي المطعومات التي فيها النزاع فإن منها ما هو حرام قبل ذلك كالميتة والدم { كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل } أي حلالاً وهو مصدر . يقال حل الشيء حلاً ولذا استوى في صفة المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال الله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } [ الممتحنة : 10 ] { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل } أي يعقوب { على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } وبالتخفيف مكي وبصري وهو لحوم الإبل وألبانها ، وكانا أحب الطعام إليه . والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه ، فلما نزلت التوراة على موسى حرم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين } أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ماحرم عليهم تحريم حادث سبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدعونه ، فلم يجرؤوا على إخراج التوراة وبهتوا . وفيه دليل بيّن على صدق النبي عليه السلام وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } بزعمه أن ذلك كان محرماً في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام { مِن بَعْدِ ذلك } من بعدما لزمهم من الحجة القاطعة { فأولئك هُمُ الظالمون } المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات { قُلْ صَدَقَ الله } في إخباره أنه لم يحرم وفيه تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون { فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم } وهي ملة الإسلام التي عليها محمد عليه السلام ومن آمن معه حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه { حَنِيفاً } حال من إبراهيم أي مائلاً من الأديان الباطلة { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .

ولما قالت اليهود للمسلمين : قبلتنا قبل قبلتكم نزل { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } والواضع هو الله عز وجل . ومعنى وضع الله بيتاً للناس أنه جعله متعبداً لهم فكأنه قال : إن أول متعبد للناس الكعبة وفي الحديث " إن المسجد الحرام وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة " قيل : أول من بناه إبراهيم . وقيل : هو أول بيت حج بعد الطوفان . وقيل : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض . وقيل : هو أول بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض . وقوله «وضع للناس» في موضع جر صفة ل «بيت» والخبر { لَلَّذِى بِبَكَّةَ } أي للبيت الذي ببكة وهي علم للبلد الحرام . ومكة وبكة لغتان فيه . وقيل : مكة البلد وبكة موضع المسجد . وقيل : اشتقاقها من بكه إذا زحمه لازدحام الناس فيها ، أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله . { مُبَارَكاً } كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيئات { وَهُدًى للعالمين } لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، و«مباركاً وهدى» حالان من الضمير في وضع { فِيهِ ءايات بينات } علامات واضحات لا تلتبس على أحد { مَّقَامُ إبراهيم } عطف بيان لقوله «آيات بينات» . وصح بيان الجماعة بالواحد لأنه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد ، أو لاشتماله على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة على أن { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً } عطف بيان ل «آيات» وإن كان جملة ابتدائية أو شرطية من حيث المعنى لأنه يدل على أمن داخله فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام لإبراهيم وأمن داخله ، والاثنان في معنى الجمع . ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله وكثير سواهما نحو انمحاق الأحجار مع كثرة الرماة ، وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك ، ونحوه في طي الذكر قوله عليه السلام " حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة " فقرة عيني ليس من الثلاث بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا ، والثالث مطوي وكأنه عليه السلام ترك ذكر الثالث تنبيهاً على أنه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئاً من الدنيا فذكر شيئاً هو من الدين . وقيل في سبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه السلام عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه .

وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل عليه السلام : إِنزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه ، وأمان من دخله بدعوة إبراهيم عليه السلام { رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا } [ إبراهيم : 35 ] وكان الرجل لو جنى كل جناية ثم التجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . ومن لزمه القتل في الحل بقود أو ردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج . وقيل : آمنا من النار لقوله عليه السلام من " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا من النار " وعنه عليه السلام " الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة " وهما مقبرتا مكة والمدينة . وعنه عليه السلام " من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام " { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } أي استقر له عليهم فرض الحج «حج البيت» : كوفي غير أبي بكر وهو اسم وبالفتح مصدر . وقيل : هما لغتان في مصدر حج { منْ } في موضع جر على أنه بدل البعض من الكل { استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } فسرها النبي عليه السلام بالزاد والراحلة . والضمير في «إليه» للبيت أو للحج وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيل إليه . ولما نزل قوله تعالى : «ولله على الناس حج البيت» . جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال : " إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا " فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون ، وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل { وَمَن كَفَرَ } أي جحد فرضية الحج وهو قول ابن عباس والحسن وعطاء ، ويجوز أن يكون من الكفران أي ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج { فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين } مستغنٍ عنهم وعن طاعتهم . وفي هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد : منها اللام و «على» أي أنه حق واجب لله في رقاب الناس ، ومنها الإبدال ففيه تثنية للمراد وتكرير له ، ولأن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ، ومنها قوله «ومن كفر» مكان ومن لم يحج تغليظاً على تاركي الحج ، ومنها ذكر الاستغناء وذلك دليل على المقت والسخط ، ومنها قوله «عن العالمين» وإن لم يقل عنه وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

{ قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بئايات الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله الدالة على صدق محمد عليه السلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها؟! { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ } الصد المنع { عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ } عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام ، وكانوا يمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ومحل { تَبْغُونَهَا } تطلبون لها نصب على الحال { عِوَجَا } اعوجاجاً وميلاً عن القصد والاستقامة بتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلاّ ضال مضل { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من الصد عن سبيله وهو وعيد شديد . ثم نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين عن سبيله بقوله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين } قيل : مرّ شاس ابن قيس اليهودي على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون ، فغاظه تحدثهم وتألفهم فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون ، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ، ففعل فتنازع القوم عند ذلك وقالوا : السلاح السلاح . فبلغ النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال « أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم » بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً باكين فنزلت الآية { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجب أي من أين يتطرق إليكم الكفر { وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله } والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } وبين أظهركم رسول الله عليه السلام ينبهكم ويعظكم ويزيح عنكم شبهكم { وَمَن يَعْتَصِم بالله } ومن يتمسك بدينه أو بكتابه ، أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم { فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ } أرشد إلى الدين الحق ، أو ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعاً عند الشبه يحفظه عن الشبه . { ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم . وعن عبد الله هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى . أو هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو بنيه أو أبيه . وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه .

والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت { واعتصموا بِحَبْلِ الله } تمكسوا بالقرآن لقوله عليه السلام " القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم " { جَمِيعاً } حال من ضمير المخاطبين . وقيل : تمكسوا بإجماع الأمة دليله { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي ولا تتفرقوا يعني ولا تفعلوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع ، أو ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } كانوا في الجاهلية بينهم العداوة والحروب فألف بين قلوبهم بالإسلام وقذف في قلوبهم المحبة فتحابوا وصاروا إخواناً { وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار } وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } بالإسلام وهو رد على المعتزلة ، فعندهم هم الذين ينقذون أنفسهم لا الله تعالى . والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا ، وأنث لإضافته إلى الحفرة . وشفا الحفرة : حرفها ، ولامها واو فلهذا يثنى شفوان { كذلك } مثل ذلك البيان البليغ { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أي القرآن الذي فيه أمر ونهي ووعد ووعيد { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لتكونوا على رجاء الهداية أو لتهتدوا به إلى الصواب وما ينال به الثواب .
{ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف } بما استحسنه الشرع والعقل { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عما استقبحه الشرع والعقل ، أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة . والمنكر ما خالفهما ، أو المعروف الطاعة والمنكر المعاصي . والدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك وما عطف عليه خاص . و«من» للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ، ولأنه لا يصلح له إلا من علم بالمعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته فإنه يبدأ بالسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب قال الله تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } . ثم قال : { فقاتلوا } [ الحجرات : 9 ] . أو للتبيين أي وكونوا أمة تأمرون كقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف } { وأولئك هُمُ المفلحون } أي هم الأخصاء بالفلاح الكامل قال عليه السلام " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه " وعن علي رضي الله عنه : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ } بالعداوة { واختلفوا } في الديانة وهم اليهود والنصارى فإنهم اختلفوا وكفر بعضهم بعضاً { مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات } الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ونصب { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } أي وجوه المؤمنين بالظرف وهو لهم أو بعظيم أو باذكروا { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } أي وجوه الكافرين .

والبياض من النور والسواد من الظلمة { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } فيقال لهم { أَكْفَرْتُمْ } فحذف الفاء ، والقول جميعاً للعلم به والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم { بَعْدَ إيمانكم } يوم الميثاق فيكون المراد به جميع الكفار وهو قول أبي وهو الظاهر ، أو هم المرتدون أو المنافقون أي أكفرتم باطناً بعد إيمانكم ظاهراً ، أو أهل الكتاب ، وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله } ففي نعمته وهي الثواب المخلد . ثم استأنف فقال { هُمْ فِيهَا خالدون } لا يظعنون عنها ولا يموتون . { تِلْكَ آيات الله } الواردة في الوعد والوعيد وغير ذلك { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } ملتبسة { بالحق } والعدل من جزاء المحسن والمسيء { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين } أي لا يشاء أن يظلم هو عباده فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن { وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته . «ترجع» . شامي وحمزة وعلي . كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماضٍ على سبيل الإبهام ، ولا دليل فيه على عدم سابق ولا على انقطاع طارىء ومنه قوله .
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كأنه قيل : وجدتم خير أمة أو كنتم في علم الله أو في اللوح خير أمة ، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به { أُخْرِجَتْ } أظهرت { لِلنَّاسِ } اللام يتعلق ب «أخرجت» { تَأْمُرُونَ } كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول «زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم» بينت بالإطعام والإلباس وجه الكرم فيه { بالمعروف } بالإيمان وطاعة الرسول { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عن الكفر وكل محظور { وَتُؤْمِنُونَ بالله } وتدومون على الإيمان به أو لأن الواو لا تقتضي الترتيب { وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب } بمحمد عليه السلام { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } لكان الإيمان خيراً لهم مما هم فيه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام ، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله ، مع الفوز بما وعدوا على الإيمان به من إيتاء الأجر مرتين { مّنْهُمُ المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأصحابه { وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } المتمردون في الكفر .
{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك { وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار } منهزمين ولا يضروكم بقتلٍ أو أسر { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم ، وفيه تثبيت لمن أسلم منهم لأنهم كانوا يؤذونهم بتوبيخهم وتهديدهم وهو ابتداء إخبار معطوف على جملة الشرط والجزاء وليس بمعطوف على «يولوكم» إذ لو كان معطوفاً عليه لقيل ثم لا ينصروا ، وإنما استؤنف ليؤذن أن الله لا ينصرهم قاتلوا أم لم يقاتلوا ، وتقدير الكلام : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .

و«ثم» للتراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .
{ ضُرِبَتْ } ألزمت { عَلَيْهِمُ الذلة } أي على اليهود { أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ } وجدوا { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله } في محل النصب على الحال ، والباء متعلق بمحذوف تقديره إلا معتصمين أو متمسكين بحبل من الله { وَحَبْلٍ مّنَ الناس } والحبل العهد والذمة ، والمعنى ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عزّ لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية { وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } استوجبوه { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } الفقر عقوبة لهم على قولهم { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } [ آل عمران : 181 ] أو خوف الفقر مع قيام اليسار { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بئايات الله وَيَقْتُلُونَ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } ذلك إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق . ثم قال { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي ذلك الكفر وذلك القتل كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده .

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

{ لَيْسُواْ سَوَاءً } ليس أهل الكتاب مستوين { مِّنْ أَهْلِ الكتاب } كلام مستأنف لبيان قوله «ليسوا سواء» كما وقع قوله { تَأْمُرُونَ بالمعروف } بياناً لقوله «كنتم خير أمة» { أمّةٌ قائمةٌ } جماعة مستقيمة عادلة من قولك «أقمت العود فقام» أي استقام وهم الذين أسلموا منهم { يَتْلُونَ ءايات الله } القرآن { ءَانَآءَ اليل } ساعاته واحدها «إنى» كمعي أو «إنو» كقنو أو «إنى» ك «نحى» .
{ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } يصلون . قيل : يريد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها . وقيل : عبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف } بالإيمان وسائر أبواب البر { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عن الكفر ومنهيات الشرع { ويسارعون فِى الخيرات } يبادرون إليها خشية الفوت . وقوله : «يتلون» و«يؤمنون» في محل الرفع صفتان لأمة أي أمة قائمة تالون مؤمنون . وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها ، والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به { وأولئك } الموصوفون بما وصفوا به { مّنَ الصالحين } من المسلمين أو من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } بالياء فيهما كوفي غير أبي بكر وأبو عمرو . مخير غيرهم بالتاء . وعدي «يكفروه» إلى مفعولين وإن كان شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول شكر النعمة وكفرها لتضمنه معنى الحرمان كأنه قيل : فلن تحرموه أي فلن تحرموا جزاءه { والله عَلِيمٌ بالمتقين } بشارة للمتقين بجزيل الثواب .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مِّنَ الله شَيْئًا } أي من عذاب الله { وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون *مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا } في المفاخر والمكارم وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس أو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم { كَمَثَلِ رِيحٍ } كمثل مهلك ريح وهو الحرث أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح { فِيهَا صِرٌّ } برد شديد عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو مبتدأ وخبر في موضع جر صفة ل «ريح» مثل { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر { فَأَهْلَكَتْهُ } عقوبة على كفرهم { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بإهلاك حرثهم { ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بارتكاب ما استحقوا به العقوبة ، أو يكون الضمير للمنفقين أي وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها لائقة للقبول .

ونزل نهياً للمؤمنين عن مصافات المنافقين { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً } بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه شبه ببطانة الثوب كما يقال «فلان شعاري» وفي الحديث " الأنصار شعار والناس دثار " { مّن دُونِكُمْ } من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون وهو صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } في موضع النصب صفة لبطانة يعني لا يقصرون في فساد دينكم يقال «ألا في الأمر يألو» إذا قصر فيه ، والخبال الفساد . وانتصب «خبالاً» على التمييز أوعلى حذف في أي في خبالكم { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي عنتكم ف «ما» مصدرية . والعنت شدة الضرر والمشقة أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر وأبلغه ، وهو مستأنف على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة كقوله { قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم } لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضه للمسلمين { وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ } مع البغض لكم { أَكْبَرُ } مما بدا { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات } الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه { إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } ما بين لكم .
{ هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ } «ها» للتنبيه و«أنتم» مبتدأ و«أولاء» خبره أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافي أهل الكتاب { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء ، أو أولاء موصول صلته «تحبونهم» . والواو في { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ } للحال وانتصابها من «لا يحبونكم» أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم . وقيل : الكتاب للجنس . { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا } أظهروا كلمة التوحيد { وَإِذَا خَلَوْاْ } فارقوكم أو خلا بعضهم ببعض { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } يوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به ، والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله ومالهم في ذلك من الذل والخزي { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء وما يكون منهم في حال خلو بعضهم ببعض ، وهو داخل في جملة المقول أي أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أو خارج عن المقول ، أي قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم بما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } رخاء وخصب وغنيمة ونصرة { تَسُؤْهُمْ } تحزنهم إصابتها { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ } أضداد ما ذكرنا .

والمس مستعار من الإصابة فكأن المعنى واحد ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [ التوبة : 50 ] { يَفْرَحُواْ بِهَا } بإصابتها { وَإِن تَصْبِرُواْ } على عداوتهم { وَتَتَّقُواْ } ما نهيتم عنه من موالاتهم ، أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا الله في اجتنابكم محارمه { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } مكرهم وكنتم في حفظ الله ، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى . وقال الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك . { لاَ يَضُرُّكُمْ } : مكي وبصري ونافع من ضاره يضيره بمعنى ضره وهو واضح . والمشكل قراءة غيرهم لأنه جواب الشرط وجواب الشرط مجزوم فكان ينبغي أن يكون بفتح الراء كقراءة المفضل عن عاصم ، إلا أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد نحو «مد يا هذا» { إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ } بالتاء : سهل أي من الصبر والتقوى وغيرهما { مُحِيطٌ } ففاعل بكم ما أنتم أهله . وبالياء : غيره أي أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه .
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } واذكر يا محمد إذ خرجت غدوة من أهلك بالمدينة ، والمراد غدوة من حجرة عائشة رضي الله عنها إلى أحد { تُبَوّىءُ المؤمنين } تنزلهم وهو حال { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } مواطن ومواقف من الميمنة والميسرة والقلب والجناحين والساقة . و«للقتال» يتعلق ب «تبوىء» { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم . رُوي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ فاستشاره فقال : أقم بالمدينة فما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا ، وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم . فقال عليه السلام : " إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأولتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلمة فأولتها هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فلم يزل به قوم ينشطون في الشهادة حتى لبس لأمته ثم ندموا " فقالوا : الأمر إليك يا رسول الله فقال عليه السلام " لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال { إِذْ هَمَّتْ } بدل من «إذ غدوت» أو عمل فيه معنى «عليم» { طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ } خيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس . وكان عليه السلام خرج إلى أحد في ألف ، والمشركون في ثلاثة آلاف ، ووعدهم الفتح إن صبروا فانخذل عبد الله بن أبيّ بثلث الناس وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله { أَن تَفْشَلاَ } أي بأن تفشلا أي بأن تجبنا وتضعفا والفشل الجبن والخور { والله وَلِيُّهُمَا } محبهما أو ناصرهما أو متولي أمرهما فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمرهم بأن لا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه .

قال جابر : والله ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا . ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حال قلة وذلة فقال :

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)

{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } وهو اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به ، أو ذكر بدراً بعد أحد للجمع بين الصبر والشكر . { وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } لقلة العدد فإنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، وكان عدوهم زهاء ألف مقاتل والعدد ، فإنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس والشكة والشوكة . وجاء بجمع القلة وهو «أذلة» ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلاً «فاتّقوا اللّه» في الثبات مع رسوله { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بتقواكم ما أنعم الله به عليكم من النصر { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ظرف ل «نصركم» على أن يقول لهم ذلك يوم بدر أي نصركم الله وقت مقالتكم هذه ، أو بدل ثانٍ من «إذ غدوت» على أن تقول لهم ذلك يوم أحد { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } «منزّلين» شامي . «مُنزلِين» أبو حيوة أي للنصرة . ومعنى «ألن يكفيكم» إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة ، وجيء ب «لن» الذي هو لتأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكته كالآيسين من النصر { بلى } إيجاب لما بعد« لن» أي يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية . ثم قال { إِن تَصْبِرُواْ } على القتال { وَتَتَّقُواْ } خلاف الرسول عليه السلام { وَيَأْتُوكُمْ } يعني المشركين { مّن فَوْرِهِمْ هذا } هو من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت بها الحالة التي لا ريث بها ولا تعريج على شيء من صاحبها فقيل «خرج من فوره» كما تقول «من ساعته لم يلبث» ومنه قول الكرخي «الأمر المطلق على الفور لا على التراخي» والمعنى إن يأتوكم من ساعتهم هذه { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الملائكة } في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم يعني أن الله تعالى يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم { مُسَوِّمِينَ } بكسر الواو : مكي وأبو عمر وعاصم وسهل أي معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامة يعون بها في الحرب . والسومة العلامة . عن الضحاك : معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها . غيرهم : بفتح الواو أي معلمين . قال الكلبي : معلين بعمائم صفر مرخاة على اكتافهم ، وكانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك . قال قتادة : نزلت ألفاً فصاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف { وَمَا جَعَلَهُ الله } الضمير يرجع إلى الإمداد الذي دل عليه «أن يمدكم» { إِلاَّ بشرى لَكُمْ } أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } لا من عند المقاتلة ولا من عند الملائكة ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة { العزيز } الذي لا يغالب في أحكامه { الحكيم } الذي يعطي النصر لأوليائه ويبتليهم بجهاد أعدائه .

واللام في { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش متعلقه بقوله : «ولقد نصركم الله» . أو بقوله : «وما النصر إلا من عند الله» . أو ب «يمددكم ربكم» { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ، وحقيقة الكبت شدَّة وهن تقع في القلب فيصرع في الوجه لأجله { فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ } فيرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْءٌ } اسم ليس «شيء» والخبر «لك» و«من الأمر» حال من «شيء» لأنها صفة مقدمة { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } عطف على «ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم» و«وليس لك من الأمر شيء» اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم . وعن الفراء «أو» بمعنى «حتى» . وعن ابن عيسى بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم . وقيل : أراد أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه أن فيهم من يؤمن { فَإِنَّهُمْ ظالمون } مستحقون للتعذيب .
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } أي الأمر له لا لك لأن ما في السموات وما في الأرض ملكه { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } للمؤمنين { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } الكافرين { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة } «مضعفَّة» مكي وشامي . هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول : إما أن تقضي حقي أو تربي وتزيد في الأجل { واتقوا الله } في أكله { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه ، وقد أمد ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله { وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وفيه رد على المرجئة في قولهم «لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلاً» وعندنا غير الكافرين من العصاة قد يدخلها ولكن عاقبة أمره الجنة . وفي ذكره تعالى «لعل» و «عسى» في نحو هذه المواضع وإن قال أهل التفسير إن «لعل» و «عسى» من الله للتحقيق ، ما لا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى وصعوبة إصابة رضا الله تعالى وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه .

{ وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } «سَارَعوا» : مدني وشامي . فمن أثبت الواو عطفها على ما قبلها ، ومن حذفها استأنفها . ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يوصل إليهما . ثم قيل : هي الصلوات الخمس أو التكبيرة الأولى ، أو الطاعة ، أو الإخلاص ، أو التوبة ، أو الجمعة والجماعات . { عَرْضُهَا السموات والأرض } أي عرضها عرض السماوات والأرض كقوله : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } [ الحديد : 21 ] . والمراد وصفها بالسعة والبسط فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه . وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض . وما روي أن الجنة في السماء السابعة أو في السماء الرابعة فمعناه انها في جهتها لا أنها فيها أو في بعضها كما يقال في الدار بستان وإن كان يزيد عليها لأن المراد أن بابه إليها { أُعِدَّتْ } في موضع جر صفة ل «جنة» أيضاً أي جنة واسعة معدة { لّلْمُتَّقِينَ } ودلت الآيتان على أن الجنة والنار مخلوقتان . ثم المتقي من يتقي الشرك كما قال { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } [ الحديد : 21 ] أو من يتقي المعاصي فإن كان المراد الثاني فهي لهم بغير عقوبة ، وإن كان الأول فهي لهم أيضاً في العاقبة ، ويوقف عليه إن جعل { الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ والضراء } في حال اليسر والعسر مبتدأ وعطف عليه «والذين إذا فعلوا فاحشة» وجعل الخبر «أولئك» . وإن جعل وصفاً للمتقين وعطف عليه «والذين إذا فعلوا فاحشة» أي أعدت للمتقين والتائبين فلا وقف . فإن قلت : الآية تدل على أن الجنة معدة للمتقين والتائبين دون المصرين . قلت : جاز أن تكون معدة لهما ثم يدخلها بفضل الله وعفوه غيرهما كما يقال «أعدت هذه المائدة للأمير» ثم قد يأكلها أتباعه . ألا ترى أنه قال { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ثم قد يدخلها غير الكافرين بالاتفاق ، وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص ، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين . وقيل : المراد الإنفاق في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة { والكاظمين الغيظ } والممسكين الغيظ عن الإمضاء يقال كظم القربة إذا امتلأها وشد فاها ، ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثراً . والغيظ : توقد حرارة القلب من الغضب ، وعن النبي عليه السلام " من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً "

{ والعافين عَنِ الناس } أي إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه وروي " ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا " وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه { والله يُحِبُّ المحسنين } اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون ، أو للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء . عن الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة .
{ والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } فعلة متزايدة القبح ، ويجوز أن يكون و«والذين» مبتدأ خبره «أولئك» { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } قيل : الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، أو الفاحشة الزنا وظلم النفس القبلة واللمسة ونحوهما { ذَكَرُواْ الله } بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } فتابوا عنها لقبحهما نادمين . قيل : بكى إبليس حين نزلت هذه الآية { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } «من» مبتدأ و«يغفر» خبره ، وفيه ضمير يعود إلى «من» و«إلا الله» بدل من الضمير في «يغفر» والتقدير : ولا أحد يغفر الذنوب إلا الله ، وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب ، وإشعار بأن الذنوب وإن جلّت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم . { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } ولم يقيموا على قبيح فعلهم والإصرار الإقامة قال عليه السلام " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " وروي " لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار " { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حال من الضمير في «ولم يصروا» أي وهم يعلمون أنهم أساؤوا ، أو وهم يعلمون أنه لا يغفر ذنوبهم إلا الله { أولئك } الموصوفون { جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ } بتوبته { وجنات } برحمته { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات ، نزلت في تمار قال لامرأة تريد التمر : في بيتي تمر أجود ، فأدخلها بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فندم . أو في أنصاري استخلفه ثقفي وقد آخى بينهما النبي عليه السلام في غيبة غزوة فأتى أهله لكفاية حاجة فرآها فقبلها فندم فساح في الأرض صارخاً فاستعتبه الله تعالى . { قَدْ خَلَتْ } مضت { مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } يريد ما سنه الله تعالى في الأمم المكذبين من وقائعه { فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } فتعتبروا بها هذا أي القرآن أو ما تقدم ذكره { بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى } أي إرشاد { وَمَوْعِظَةٌ } ترغيب وترهيب { لّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك { وَلاَ تَهِنُواْ } ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم من الهزيمة { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما فاتكم من الغنيمة أو على من قتل منكم أو جرح ، وهو تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية لقلوبهم { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد ، أو وأنتم الأعلون بالنصر والظفر في العاقبة وهي بشارة لهم بالعلو والغلبة وإن جندنا لهم الغالبون ، أو وأنتم الأعلون شأناً لأن قتالكم لله ولإعلاء كلمته وقتاً لهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر ، أو لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالنهي أي ولا تهنوا إن صح إيمانكم يعني أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بوعد الله وقلة المبالاة بأعدائه ، أو ب «الأعلون» أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله به ويبشركم به من الغلبة .

{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } بضم القاف حيث كان : كوفي غير حفص . ويفتح القاف : غيرهم . وهما لغتان كالضعف والضعف . وقيل : بالفتح الجراحة وبالضم ألمها { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ } أي إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا { وَتِلْكَ } مبتدأ { الأيام } صفته والخبر { نُدَاوِلُهَا } نصرفها { بَيْنَ الناس } أي نصرف ما فيها من النعم والنقم نعطي لهؤلاء تارة وطوراً لهؤلاء كبيت الكتاب :
فيوماً علينا ويوماً لنا ... ويوماً نساء ويوماً نسر
{ وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءَامَنُواْ } أي نداولها لضروب من التدبير وليعلم الله المؤمنين مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم كما علمهم قبل الوجود { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } وليكرم ناساً منكم بالشهادة يريد المستشهدين يوم أحد ، أو ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة من قوله { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } اعتراض بين بعض التعليل وبعض ، ومعناه والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيله وهم المنافقون والكافرون { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين ءَامَنُواْ } التمحيص : التطهير والتصفية { وَيَمْحَقَ الكافرين } ويهلكهم يعني إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص ، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم }
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي لا تحسبوا { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } أي ولما تجاهدون لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة لأنه منتف بانتفائه ، تقول : ما علم الله في فلان خيراً أي ما فيه خير حتى يعلمه . و«لما» بمعنى «لم» إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل { وَيَعْلَمَ الصابرين } نصب بإضمار «أن» والواو بمعنى الجمع نحو «لا تأكل السمك وتشرب اللبن» ، أو جزم للعطف على «يعلم الله» ، وإنما حركت الميم لالتقاء الساكنين واختيرت الفتحة لفتحة ما قبلها .

{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوا كرامة الشهادة ، وهم الذين ألحوا على رسول الله في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة ، يعني وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم وشارفتم أن تقتلوا ، وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه . وإنما تمنوا الشهادة لينالوا كرامة الشهداء من غير قصد إلى ما يتضمنه من غلبة الكفار كمن شرب الدواء من طبيب نصراني فإن قصده حصول الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو الله وتنفيقاً لصناعته . لما رمى ابن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلت محمداً وخرج صارخ قيل هو الشيطان ألا إن محمداً قد قتل . ففشا في الناس خبر قتله فانكفئوا وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : « إليّ عباد الله » حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فولينا مدبرين فنزل { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ } مضت { مِن قَبْلِهِ الرسل } فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه { أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم } الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبيب ، والهمزة لأنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد عليه السلام لا للانقلاب عنه ، والانقلاب على العقبين مجاز عن الارتداد أو عن الانهزام { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } وإنما ضر نفسه { وَسَيَجْزِى الله الشاكرين } الذين لم ينقلبوا ، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا .
{ وَمَا كَانَ } وما جاز { لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي بعلمه أو بأن يأذن ملك الموت في قبض روحه ، والمعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله ، وفيه تحريض على الجهاد ، وتشجيع على لقاء العدو ، وإعلام بأن الحذر لا ينفع ، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك { كتابا } مصدر مؤكد لأن المعنى كتب الموت كتاباً { مُّؤَجَّلاً } مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر { وَمَن يُرِدْ } بقتاله { ثَوَابَ الدنيا } أي الغنيمة وهو تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد { نُؤْتِهِ مِنْهَا } من ثوابها { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة } أي إعلاء كلمة الله والدرجة في الآخر { نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين } وسنجزي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد .

{ وَكَأَيّن } أصله أي دخل عليه كاف التشبيه وصارا في معنى «كم» التي للتكثير . وكائن بوزن كاع حيث كان : مكي { مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ } «قتل» : مكي وبصري ونافع . { مَعَهُ } حال من الضمير في قتل أي قتل كائناً معه { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } والربيون الربانيون . وعن الحسن بضم الراء وعن البعض بفتحها ، فالفتح على القياس لأنه منسوب إلى الرب ، والضم والكسر من تغييرات النسب { فَمَا وَهَنُواْ } فما فتروا عند قتل نبيهم { لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ } عن الجهاد بعده { وَمَا استكانوا } وما خضعوا لعدوهم ، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن عند الإرجاف بقتل رسول الله عليه السلام واستكانتهم لهم حيث أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان { والله يُحِبُّ الصابرين } على جهاد الكافرين .
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي وما كان قولهم إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضماً لها { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } تجاوزنا حد العبودية { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } في القتال { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } بالغلبة . وقدم الدعاء بالاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على الأعداء ، لأنه أقرب إلى الإجابة لما فيه من الخضوع والاستكانة .

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

{ فئاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا } أي النصرة والظفر والغنيمة { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } المغفرة والجنة . وخص بالحسن دلالة على فضله وتقدمه وأنه هو المعتد به عنده { والله يُحِبُّ المحسنين } أي هم محسنون والله يحبهم . { ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم } يرجعوكم إلى الشرك { فَتَنقَلِبُواْ خاسرين } قيل : هو عام في جميع الكفار وعلى المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم في شيء حتى لا يستجروهم إلى موافقتهم . وعن السدي : إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم . وقال علي رضي الله عنه : نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم { بَلِ الله مولاكم } ناصركم فاستغنوا عن نصرة غيره { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين * سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } «الرعب» شامي وعلي وهما لغتان . قيل : قذف الله في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة { بِمَا أَشْرَكُواْ بالله } بسبب إشراكهم أي كان السبب في إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم به { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة ، ولم يرد أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم لأن الشرك لا يستقيم أن تقوم عليه حجة ، وإنما المراد نفي الحجة ونزولها جميعاً كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر ... أي ليس بها ضب فينجحر ، ولم يعن أن بها ضباً ولا ينجحر { وَمَأْوَاهُمُ } مرجعهم { النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين } النار فالمخصوص بالذم محذوف .
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة قال ناس من أصحابه ، من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فنزل { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } أي حقق { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } تقتلونهم قتلاً ذريعاً . وعن ابن عيسى : حسه أبطل حسه بالقتل { بِإِذْنِهِ } بأمره وعلمه { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } جبنتم { وتنازعتم فِى الأمر } أي اختلفتم { وَعَصَيْتُمْ } أمر نبيكم بترككم المركز واشتغالكم بالغنيمة { مِن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } من الظفر وقهر الكفار . ومتعلق «إذا» محذوف تقديره حتى إذا فشلتم منعكم نصره ، وجاز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } أي الغنيمة وهم الذين تركوا المركز لطلب الغنيمة . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يقتلونهم .

حتى إذا فشلوا وتنازعوا فقال بعضهم : قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا ، فادخلوا عسكر المسلمين وخذوا الغنيمة مع إخوانكم ، وقال بعضهم : لا تخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن ثبت مكانه عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأخرة } فكر المشركون على الرماة وقتلوا عبد الله ابن جبير وأقبلوا على المسلمين حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا وهو قوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي كف معونته عنكم فغلبوكم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم عندها وحقيقته ليعاملكم معاملة المختبر لأنه يجازي على ما يعمله العبد لا على ما يعلمه منه { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } حيث ندمتم على ما فرط منكم من عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } بالعفو عنهم وقبول توبتهم ، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم ، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة . وانتصب .
{ إِذْ تُصْعِدُونَ } تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض ، والإصعاد الذهاب في صعيد الأرض أو الإبعاد فيه بصرفكم ، أو بقوله «ليبتليكم» أو بإضمار «اذكروا» { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } ولا تلتفون وهو عبارة عن غاية انهزامهم وخوف عدوهم { والرسول يَدْعُوكُمْ } يقول " إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة " والجملة في موضع الحال { فِى أُخْرَاكُمْ } في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة . يقال جئت في آخر الناس وأخرهم كما تقول في أولهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى { فأثابكم } عطف على «صرفكم» أي فجازاكم الله { غَمّاً } حين صرفكم عنهم وابتلاكم { بِغَمّ } بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم أمره أو غماً مضاعفاً ، غماً بعد غم وغماً متصلاً بغم ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله عليه السلام والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ } لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع { وَلاَ مَا أصابكم } ولا على مصيب من المضار { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } عالم بعملكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهذا ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية . { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً } ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم . عن أبي طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه . والأمنة الأمن ، و«نعاساً» بدل من «أمنة» أو هو مفعول و«أمنة» حال منه مقدمة عليه نحو «رأيت راكباً رجلاً» والأصل أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة إذ النعاس ليس هو الأمن ، ويجوز أن يكون «أمنة» مفعولاً له أو حالاً من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة { يغشى } يعني النعاس .

«تغشى» بالتاء والإمالة : حمزة وعلي أي الأمنة { طَائِفَةٌ مّنكُمْ } هم أهل الصدق واليقين { وَطَائِفَةٌ } هم المنافقون { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ما يهمهم إلا هم أنفسهم وخلاصها لا همّ الدين ولا همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين رضوان الله عليهم { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق } في حكم المصدر أي يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به وهو أن لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم { ظَنَّ الجاهلية } بدل منه والمراد الظن المختص بالملة الجاهلية ، أو ظن أهل الجاهلية أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء } هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط يعنون النصر والغلبة على العدو { قُلْ إِنَّ الأمر } أي النصر والغلبة { كُلُّهُ لِلهِ } ولأوليائه المؤمنين { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] «كله» تأكيد للأمر و«لله» خبر «أن» «كله» بصري وهو مبتدأ و«لله» خبره والجملة خبر «إن» { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } خوفاً من السيف { يَقُولُونَ } في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم «إن الأمر كله لله» { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَىْء مَّا قُتِلْنَا هاهنا } أي لو كان الأمر كما قال محمد " إن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون " لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة . «قد أهمتهم» صفة ل «طائفة» و«يظنون» خبر ل «طائفة» أو صفة أخرى ، أو حال أي قد أهمتهم أنفسهم ظانين . و«يقولون» بدل من «يظنون» و«يخفون» حال من «يقولون» و«قل إن الأمر كله لله» اعتراض بين الحال وذي الحال و«يقولون» بدل من «يخفون» أو استئناف { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ } أي من علم الله منه أنه يقتل في هذه المعركة وكتب ذلك في اللوح لم يكن به من وجوده ، فلو قعدتم في بيوتكم { لَبَرَزَ } من بينكم { الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } مصارعهم بأحد ليكون ما علم الله أنه يكون ، والمعنى أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله ، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم { وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان فعل ذلك .

أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } بخفياتها .
{ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ } انهزموا { يَوْمَ التقى الجمعان } جمع محمد عليه السلام وجمع أبي سفيان للقتال بأحد { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } دعاهم إلى الزلة وحملهم عليها { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } بتركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات فيه فالإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب . وكان أصحاب محمد عليه السلام تولوا عنه يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلاً منهم أبو بكر وعلي وطلحة وابن عوف وسعد بن أبي وقاص والباقون من الأنصار { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } تجاوز عنهم { إِنَّ الله غَفُورٌ } للذنوب { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } كابن أبيّ وأصحابه { وَقَالُواْ لإخوانهم } أي في حق إخوانهم في النسب أو في النفاق { إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض } سافروا فيها للتجارة أو غيرها { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } جمع غازٍ كعافٍ وعفّى وأصابهم موت أو قتل { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } اللام يتعلق ب «لا تكونوا» أي لا تكونوا كهؤلاء في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم ، أو ب «قالوا» أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون ذلك حسرة في قلوبهم والحسرة الندامة على فوت المحبوب { والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ } رد لقولهم «إن القتال يقطع الآجال» أي الأمر بيده قد يحيي المسافر والمقاتل . ويميت المقيم والقاعد { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على أعمالكم . «يعملون» مكي وحمزة وعلي أي الذين كفروا .

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ } متم وبابه بالكسر : نافع وكوفي غير عاصم ، تابعهم حفص إلا في هذه السورة كأنه أراد الوفاق بينه وبين قتلتم . غيرهم : بضم الميم في جميع القرآن ، فالضم من مات يموت ، والكسر من مات يمات كخاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت { لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } «ما» بمعنى «الذي» والعائد محذوف وبالياء : حفص { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } لإلى الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون . ولوقوع اسم الله في هذا الموضع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به شأن غني عن البرهان . «لمغفرة» جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط ، وكذلك «لالى الله تحشرون» كذب الكافرين أولاً في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزا لو كان بالمدينة لما مات ، ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد ثم قال لهم : ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ، فإن الدنيا زاد المعاد فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد .
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } «ما» مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله . ومعنى الرحمة ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً } جافياً { غَلِيظَ القلب } قاسيه { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم { فاعف عَنْهُمْ } ما كان منهم يوم أحد مما يختص بك { واستغفر لَهُمُ } فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر } أي في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي تطييباً لنفوسهم وترويحاً لقلوبهم ورفعاً لأقدارهم ، ولتقتدي بك أمتك فيها . في الحديث " ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم " وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومعنى شاورت فلاناً أظهرت ما عندي وما عنده من الرأي . وشرت الدابة استخرجب جريها ، وشرت العسل أخذته من مآخذه ، وفيه دلالة جواز الاجتهاد وبيانا أن القياس حجة { فَإِذَا عَزَمْتَ } فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في إمضاء أمرك على الأرشد لا على المشورة { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } عليه والتوكل الاعتماد على الله والتفويض في الأمور إليه . وقال ذو النون : خلع الأرباب وقطع الأسباب { إِن يَنصُرْكُمُ الله } كما نصركم يوم بدر { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } فلا أحد يغلبكم وإنما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه وقدرته { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } كما خذلكم يوم أحد { فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ } من بعد خذلانه وهو ترك المعونة ، أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان تريد إذا جاوزته ، وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يقتضي ذلك .

{ وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } مكي وأبو عمرو وحفص وعاصم أي يخون ، وبضم الياء وفتح الغين : غيرهم . يقال غلّ شيئاً من المغنم غلولاً وأغلّ إغلالاً إذا أخذه في خفية ، ويقال أغله إذا وجده غالاً ، والمعنى ما صح له ذلك يعني أن النبوة تنافي الغلول ، وكذا من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى هذا لأن معناه : وما صح له أن يوجد غالاً ولا يوجد غالاً إلا إذا كان غالاً . روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أصيب من المشركين فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فنزلت الآية { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أي يأت بالشيء الذي غله بعينه حاملاً له على ظهره كما جاء في الحديث " أو يأت بما احتمل من وباله وإثمه " { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } تعطي جزاءها وافياً ولم يقل «ثم يوفى ما كسب» ليتصل بقوله «ومن يغلل» بل جيء بعام ليدخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى وهو أبلغ ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزي فموفى جزاءه علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي جزاء كل على قدر كسبه { أَفَمَنِ اتبع رضوان الله } أي رضا الله قيل هم المهاجرون والأنصار { كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ الله } وهم المنافقون والكفار { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } المرجع { هُمْ درجات عِندَ الله } هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات أو ذوو درجات ، والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين أو التفاوت بين الثواب والعاقب { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها .
{ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } .
على من آمن مع رسول الله عليه السلام من قومه ، وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ } من جنسهم عربياً مثلهم أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده ، والمنة في ذلك من حيث إنه إذا كان منهم كان اللسان واحد فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه ، وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه ، وكان لهم شرف بكونه منهم .

وفي قراءة رسول الله «من أنفسهم» أي من أشرفهم { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته } أي القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم بالإيمان من دنس الكفر والطغيان أو يأخذ منهم الزكاة { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة } القرآن والسنة { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ } من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم { لَفِى ضلال } عمى وجهالة { مُّبِينٍ } ظاهر لا شبهة فيه «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والتقدير : وإن الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال مبين .
{ أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ } يريد ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم { قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا } يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين وهو في موضع رفع صفة ل «مصيبة» { قُلْتُمْ أنى هذا } من أين هذا { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } لاختياركم الخروج من المدينة أو لترككم المركز . لما نصب ب «قلتم» و«أصابتكم» في محل الجر بإضافة «لما» إليه وتقديره : أقلتم حين أصابتكم . «وأنى هذا» نصب لأنه مقول والهمزة للتقرير والتقريع ، وعطفت الواو هذه الجملة على ما مضى من قصة أحد من قوله : «ولقد صدقكم الله وعده» . أو على محذوف كأنه قيل : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } يقدر على النصر وعلى منعه .
وَمَا أصابكم } «ما» بمعنى «الذي» وهو مبتدأ { يَوْمَ التقى الجمعان } جمعكم وجمع المشركين بأحد والخبر { فَبِإِذْنِ الله } فكائن بأذن الله أي بعلمه وقضائه { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين * وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء { وَقِيلَ لَهُمْ } للمنافقين وهو كلام مبتدأ { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } أي جاهدوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون { أَوِ ادفعوا } أي قاتلوا دفعاً على أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة . وقيل : أو ادفعوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين إن لم تقاتلوا لأن كثرة السواد مما تروع العدو { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم } أي لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم ليس بشيء ، ولا يقال لمثله قتال إنما هو إلقاء النفس في التهلكة { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان } يعني أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر ، أو هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليلهم سواد المؤمنين بالانخذال تقوية للمشركين { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } أي يظهرون خلاف ما يضمرون من الإيمان وغيره والتقييد بالأفواه للتأكيد ونفي المجاز { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } من النفاق { الذين قَالُواْ } أي ابن أبيّ وأصحابه وهو في موضع رفع على «هم الذين قالوا» أو على الإبدال من واو «يكتمون» أو نصب بإضمار «أعني» ، أو على البدل من «الذين نافقوا» أو جر على البدل من الضمير «في أفواههم» أو «قلوبهم» { لإخوانهم } لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد { وَقَعَدُواْ } أي قالوا وقد قعدوا عن القتال { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل { قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين } بأن الحذر ينفع من القدر فخذوا حذركم من الموت ، أو معناه قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال فجدوا إلى دفع الموت سبيلاً .

وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً .
ونزل في قتلى أحد { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } شامي وحمزة وعلي وعاصم ، وبكسر السين غيرهم : والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد { الذين قَتَلُواْ } «قتلوا» : شامي { فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء } بل هم أحياء { عِندَ رَبّهِمْ } مقربون عنده ذوو زلفى { يُرْزَقُونَ } مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون ، وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله «فرحين» حال من الضمير في «يرزقون» { بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين معجلاً لهم رزق الجنة ونعيمها . وقال النبي عليه السلام " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش " وقيل : هذا الرزق في الجنة يوم القيامة وهو ضعيف لأنه لا يبقى للتخصيص فائدة { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين } بإخوانهم المجاهدين الذين { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } لم يقتلوا فيلحقوا بهم { مّنْ خَلْفِهِمْ } يريد الذين من خلفهم قد بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم أو لم يلحقوا بهم لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } بدل من «الذين» والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة ، بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به . وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم ، بعثٌ للباقين بعدهم على الجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } يسرون بما أنعم الله عليهم وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة { وَأَنَّ الله } عطف على النعمة والفضل . «وإن الله» : عليٌّ بالكسر على الاستئناف وعلى أن الجملة اعتراض { لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } بل يوفر عليهم . { الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول } مبتدأ خبره «للذين أحسنوا» ، أو صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح { مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح } الجرح . روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب النبيّ أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان ، فخرج يوم الأحد من المدينة مع سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال ، وكان بأصحابه القرح فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا } «من» للتبيين . مثلها في قوله : { وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] . لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم { أَجْرٌ عَظِيمٌ } في الآخرة .
{ الذين قَالَ لَهُمُ الناس } بدل من الذين استجابوا { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } روي أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل . فقال عليه السلام " إن شاء الله " فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وقد بدا لي أن أرجع فالحق بالمدينة ، فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل ، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : أتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم فوالله لا يفلت منكم أحد فقال عليه السلام " والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد " فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون «حسبنا الله ونعم الوكيل» حتى وافوا بدراً وأقاموا بها ثماني ليال وكانت معهم تجارة فباعوها وأصابوا خيراً ، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ولم يكن قتال ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا : إنما خرجتم لتأكلوا السويق . فالناس الأول نعيم وهو جمع أريد به الواحد أو كان له أتباع يثبطون مثل تثبيطه ، والثاني أبو سفيان وأصحابه . { فاخشوهم } فخافوهم { فَزَادَهُمُ } أي المقول الذي هو «إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» أو القول ، أو نعيم { إيمانا } بصيرة وإيقاناً { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } كافينا الله أي الذي يكفينا الله .

يقال أحسبه الشيء إذا كفاه وهو بمعنى المحسب بدليل أنك تقول «هذا رجل حسبك» فتصف به النكرة لأن إضافته غير حقيقية لكونه في معنى اسم الفاعل { وَنِعْمَ الوكيل } ونعم الموكول إليه هو { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله } وهي السلامة وحذر العدو منهم { وَفَضْلٍ } وهو الربح في التجارة فأصابوا بالدرهم درهمين { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدو وهو حال من الضمير في «انقلبوا» ، وكذا «بنعمة» والتقدير : فرجعوا من بدر منعمين بريئين من سوء { واتبعوا رضوان الله } بجرأتهم وخروجهم إلى وجه العدو على أثر تثبيطه وهو معطوف على «انقلبوا» { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا . { إِنَّمَا ذلكم الشيطان } هو خبر «ذلكم» أي إنما ذلك المثبط هو الشيطان وهو نعيم { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أي المنافقين وهو جملة مستأنفة بيان لشيطنته ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة و«يخوف» الخبر { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي أولياءه { وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } لأن الإيمان يقتضي أن يؤثر العبد خوف الله على خوف غيره . و«خافوني» في الوصل والوقف : سهل ويعقوب ، وافقهما أبو عمرو في الوصل .
{ وَلاَ يَحْزُنكَ } «يحزنك» في كل القرآن : نافع إلا في سورة الأنبياء { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] { الذين يسارعون فِى الكفر } يعني لا يحزنوك لخوف أن يضروك ألا ترى إلى قوله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } أي أولياء الله يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم وما وبال ذلك عائداً على غيرهم . ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الآخرة } أي نصيباً من الثواب { وَلَهُمْ } بدل الثواب { عَذَابٌ عظِيمٌ } وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه ، والآية تدل على إرادة الكفر والمعاصي لأن إرادته أن لا يكون لهم ثواب في الآخرة لا تكون بدون إرادة كفرهم ومعاصيهم .
{ إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي استبدلوه به { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } هو نصب على المصدر أي شيئاً من الضرر . الآية الأولى فيمن نافق من المتخلفين أو ارتد عن الإسلام ، والثانية في جميع الكفار أو على العكس { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ } وثلاثة بعدها مع ضم الباء في «يحسبنهم» بالياء : مكي وأبو عمرو ، وكلها بالتاء : حمزة ، وكلها بالياء : مدني وشامي إلا «فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ» فإنها بالتاء . الباقون : الأوليان بالياء والأخريان بالتاء . { الذين كَفَرُواْ } فيمن قرأ بالياء رفع أي ولا يحسبن الكافرون . و «أن» مع اسمه وخبره في قوله { أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ } في موضع المفعولين ل «يحسبن» والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا إملاءنا خيراً لأنفسهم . و«ما» مصدرية وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15