كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي

قال الجوهري : الذل ضد العز ، ورجل ذليل بيّن الذل ، وقوم أذلاء وأذلة ، والذل بالكسر اللين وهو ضد الصعوبة يقال : دابة ذلول ودواب ذلل { عَلَى المؤمنين } ولم يقل للمؤمنين لتضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل : عاكفين عليهم على وجه التذلل والتواضع { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } أشداء عليهم والعزاز الأرض الصلبة فهم مع المؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده ومع الكافرين كالسبع على فريسته { يجاهدون فِي سَبِيلِ الله } يقاتلون الكفار وهو صفة ل «قوم» ك «يحبهم» و «أعزة» و «أذلة» { وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ } الواو يحتمل أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود ، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم ، وأما المؤمنون فمجاهدتهم لله لا يخافون لومة لائم . وأن تكون للعطف أي من صفتهم المجاهدة في سبيل الله وهم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لا تزعهم لومة لائم : واللومة المرة من اللوم وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم واحد من اللوام { ذلك } إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله واسع } كثير الفواضل { عَلِيمٌ } بمن هو من أهلها .
عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءَامَنُواْ } وإنما يفيد اختصاصهم بالموالاة ولم يجمع الولي وإن كان المذكور جماعة تنبيهاً على أن الولاية لله أصل ولغيره تبع ، ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع . ومحل { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } الرفع على البدل من «الذين آمنوا» ، أو على هم الذين ، أو النصب على المدح { وَيُؤْتُونَ الزكواة } . والواو في { وَهُمْ راكعون } للحال أي يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة . قيل : إنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل يفسد صلاته . وورد بلفظ الجمع وإن كان السبب فيه واحداً ترغيباً للناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه . والآية تدل على جواز الصدقة في الصلاة ، وعلى أن الفعل القليل لا يفسد الصلاة .

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)

{ وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءَامَنُواْ } يتخذه ولياً أو يكن ولياً { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } من إقامة الظاهر مقام الضمير أي فإنهم هم الغالبون ، أو المراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا يغالب . وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمرٍ حزبهم أي أصابهم .
وروي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزل { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } يعني اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء بل يقابل ذلك بالبغضاء والمنابذة { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } «من» للبيان { مِن قَبْلِكُمْ والكفار } أي المشركين وهو عطف على «الذين» المنصوبة . و«الكفار» بصري وعلي عطف على الذين المجرورة أي من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار { أَوْلِيَاءَ واتقوا الله } في موالاة الكفار { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حقاً لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين { وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها } أي الصلاة أو المناداة { هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } لأن لعبهم وهزوهم من أفعال السفهاء والجهلة فكأنهم لا عقل لهم ، وفيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } يعني هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالله وبالكتب المنزلة كلها { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } وهو عطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وما أنزل وبأن أكثركم فاسقون ، والمعنى أعاديتمونا لأنا اعتقدنا توحيد الله وصدق أنبيائه وفسقكم لمخالفتكم لنا في ذلك؟ ويجوز أن يكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أنكم فاسقون . { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله } أي ثواباً وهو نصب على التمييز والمثوبة وإن كانت مختصة بالإحسان ولكنها وضعت موضع العقوبة كقوله { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وكان اليهود يزعمون أن المسلمين مستوجبون للعقوبة فقيل لهم { مَن لَّعَنَهُ الله } شر عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم وذلك إشارة إلى المتقدم أي الإيمان أي بشر مما نقمتم من إيماننا ثواباً أي جزاء ، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل «من» تقديره : بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله { وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة } يعني أصحاب السبت { والخنازير } أي كفار أهل مائدة عيسى عليه السلام ، أو كلا المسخين من أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير { وَعَبَدَ الطاغوت } أي العجل أو الشيطان لأن عبادتهم العجل بتزيين الشيطان وهو عطف على صلة «من» كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت .

«وعبد الطاغوتِ» حمزة جعله اسماً موضوعاً للمبالغة كقولهم «رجل حذر وفطن» للبليغ في الحذر والفطنة ، وهو معطوف على «القردة والخنازير» أي جعل الله منهم عبد الطاغوت { أولئك } الممسوخون الملعونون { شَرٌّ مَّكَاناً } جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة { وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل } عن قصد الطريق الموصل إلى الجنة .
ونزل في ناس من اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويظهرون له الإيمان نفاقاً .
{ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } الباء للحال أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين وتقديره ملتبسين بالكفر ، وكذلك قد دخلوا وهم قد خرجوا ولذا دخلت «قد» تقريباً للماضي من الحال وهو متعلق ب «قالوا آمنا» أي قالوا ذلك وهذه حالهم { والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } من النفاق { وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ } من اليهود { يسارعون فِي الإثم } الكذب { والعدوان } الظلم . أو الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم ، والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة { وَأَكْلِهِمُ السحت } الحرام { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لبئس شيئاً عملوه { لَوْلاَ } هلا وهو تحضيض { ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } هذا ذم للعلماء والأول للعامة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي أشد آية في القرآن حيث أنزل تارك النهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر في الوعيد .
{ وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } روي أن اليهود لعنهم الله لما كذبوا محمداً عليه السلام كف الله ما بسط عليهم من السعة وكانوا من أكثر الناس مالاً ، فعند ذلك قال فنحاص : يد الله مغلولة ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه . وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] . ولا يقصد المتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى إنه يستعمل في ملك يعطي ويمنع بالإشارة من غير استعمال اليد ، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال . وقد استعمل حيث لا تصح اليد يقال : بسط البأس كفيه في صدري فجعل للبأس الذي هو من المعاني كفان ، ومن لم ينظر في علم البيان يتحير في تأويل أمثال هذه الآية . وقوله «غلت أيديهم» دعاء عليهم بالبخل ومن ثم كانوا أبخل خلق الله ، أو تغل في جهنم فهي كأنها غلت وإنما ثنيت اليد في «بل يداه مبسوطتان» وهي مفردة في «يد الله مغلولة» ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه ، فغاية ما يبذله السخي أن يعطيه بيديه { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } تأكيد للوصف بالسخاء ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم } من اليهود { مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً } أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات الله ، وهذا من إضافة الفعل إلى السبب كما قال «فزادتهم رجساً إلى رجسهم» .

{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } فكلمهم أبداً مختلف وقلوبهم شتى لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله على أحد قط ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس . وقيل : كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم . عن قتادة : لا تلقي يهودياً في بلد إلا وقد وجدته من أذل الناس { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي عليه السلام من كتبهم { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءَامَنُواْ } برسول الله عليه السلام وبما جاء به مع ما عددنا من سيئآتهم { واتقوا } أي وقرنوا إيمانهم بالتقوى { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم } ولم نؤاخذهم بها { ولأدخلناهم جنات النعيم } مع المسلمين .

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } أي أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبِّهِمْ } من سائر كتب الله لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم . وقيل : هو القرآن . { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } يعني الثمار من فوق رؤوسهم { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } يعني الزروع وهذه عبارة عن التوسعة كقولهم «فلان في النعمة من فرقه إلى قدمه» . ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق وهو كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مِّنَ السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] . { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] . { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] الآيات . { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً } [ الجن : 16 ] { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } طائفة حالها أُمَمٌ في عداوة رسول الله عليه السلام . وقيل : هي الطائفة المؤمنة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } فيه معنى التعجب كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم . وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه وغيرهم .
{ ياأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من رّبِّكَ } جميع ما أنزل إليك ، وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه { وإن لّم تفعل } وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فما بَلَّغْتَ رسالته } «رسالاته» : مدني وشامي وأبو بكر . أي فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض ، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لكونها في حكم شيء واحد لدخولها تحت خطاب واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن . قالت الملحدة لعنهم الله تعالى : هذا كلام لا يفيد وهو كقولك لغلامك : «كل هذا الطعام فإن لم تأكله فإنك ما أكلته» ، قلنا : هذا أمر بتبليغ الرسالة في المستقبل أي بلغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل فإن لم تفعل أي إن لم تبلغ الرسالة في المستقبل فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً ، أو بلغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر به كثرة الشوكة والعدة ، فإن لم تبلغ كنت كمن لم يبلغ أصلاً ، أو بلغ ذلك غير خائف أحداً فإن لم تبلغ على هذا الوصف فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً . ثم قال مشجعاً له في التبليغ { واللّهُ يعصمك من النّاسِ } يحفظك منهم قتلاً فلم يقدر عليه وإن شج في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته أو نزلت بعدما أصابه ما أصابه .

والناس الكفار بدليل قوله { إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين } لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك .
{ قل ياأهل الكتاب لستم على شيءٍ } على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لبطلانه { حتّى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم مّن رَّبِّكمْ } يعني القرآن { وليزيدنّ كثيراً مّنهم مّآ أنزل إليك من رّبّك طغياناً وكفراً } إضافة زيادة الكفر والطغيان إلى القرآن بطريق التسبيب { فلا تأس على القوم الكافرين } فلا تتأسف عليهم فإن ضرر ذلك يعود إليهم لا إليك .
{ إنَّ الّذين آمَنُوا } بألسنتهم وهم المنافقون ودل عليه قوله : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } [ آل عمران : 76 ] { والّذين هادوا والصّبئون والنّصارى } قال سيبويه وجميع البصريين : ارتفع «الصابئون» بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز «إن» من اسمها وخبرها كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى { من آمن باللّهِ واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون } والصابئون كذلك أي من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم فقدم وحذف الخبر كقوله
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
أي فإني لغريب وقيار كذلك ، ودل اللام على أنه خبر «إن» ولا يرتفع بالعطف على محل «إن» واسمها لأن ذا لا يصح قبل الفراغ من الخبر . لا تقول «إن زيداً وعمرو منطلقان» وإنما يجوز «إن زيداً منطلق وعمرو» ، والصابئون مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله «إن الذين آمنوا» إلى آخره ، ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها . وفائدة التقديم التنبيه على أن الصابئين وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان فما الظن بغيرهم! ومحل «من آمن» الرفع على الابتداء وخبره «فلا خوف عليهم» والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط . ثم الجملة كما هي خبر «إن» والراجح إلى اسم «إن» محذوف تقديره : من آمن منهم .
{ لقد أخذنا ميثاق بني إسرآءِيل } بالتوحيد { وأرسلنا إليهم رسلاً } ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم { كلّما جآءَهُم رسولٌ } جملة شرطية وقعت صفة ل «رسلاً» والراجع محذوف أي رسول منهم { بما لا تهوى أنفسهم } بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع ، وجواب الشرط محذوف دل عليه { فريقاً كذَّبُوا وفريقاً يقتلون } كأنه يقول : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه . وقوله «فريقاً كذبوا» جواب مستأنف لقائل كأنه يقول : كيف فعلوا برسلهم! وقال «يقتلون» بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل ، وتنبيهاً على أن القتل من شأنهم ، وانتصب «فريقاً» و«فريقاً» على أنه مفعول «كذبوا» و«يقتلون» . وقيل : التكذيب مشترك بين اليهود والنصارى ، والقتل مختص باليهود فهم قتلوا زكريا ويحيى .

{ وحسبوا ألا تكون } «أن لا تكون» : حمزة وعلي وأبو عمرو على «أن» مخففة من الثقيلة أصله أنه لا تكون فخففت «إن» وحذف ضمير الشأن ، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم فلذا دخل فعل الحسبان على «أن» التي هي للتحقيق { فتنةٌ } بلاء وعذاب أي وحسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل . وسد ما يشتمل عليه صلة «أن» وأن من المسند والمسند إليه مسد مفعولي «حسب» { فَعَمُوا وصَمُّوا } فلم يعملوا بما رأوا ولا بما سمعوا ، أو فعموا عن الرشد وصموا عن الوعظ { ثمّ تابَ اللَّهُ عليهم } رزقهم التوبة { ثمّ عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ مِّنهم } هو بدل من الضمير أي الواو وهو بدل البعض من الكل ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم { واللّه بصيرٌ بما يعملون } فيجازيهم بحسب أعمالهم .
{ لقد كفر الّذين قالوآ إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسراءيل اعبدوا اللّه ربّي وربّكم } لم يفرق عيسى عليه السلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب ليكون حجة على النصارى { إنّه من يشرك باللّه } في عبادته غير الله { فقد حَرَّمَ اللَُّه عليهِ الجنّةَ } التي هي دار الموحدين أي حرمه دخولها ومنعه { ومأواه النَّارُ } أي مرجعه { وما للظّالمين } أي الكافرين { من أنصَارٍ } وهو من كلام الله تعالى أو من كلام عيسى عليه السلام .
{ لقد كفر الّذين قالوآ إنّ اللّه ثَالِثُ ثلاثةٍ } أي ثالث ثلاثة آلهة ، والإشكال أنه تعالى قال في الآية الأولى «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» وقال في الثانية «لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة» والجواب أن بعض النصارى كانوا يقولون : كان المسيح بعينه هو الله لأن الله ربما يتجلى في بعض الأزمان في شخص فتجلى في ذلك الوقت في شخص عيسى ، ولهذا كان يظهر من شخص عيسى أفعال لا يقدر عليها إلا الله ، وبعضهم ذهبوا إلى آلهة ثلاثة : الله ومريم والمسيح وأنه ولد الله من مريم . و «من» في قوله { وما من إلهٍ إلاّ إلهٌ واحد } للاستغراق أي وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله وحده لا شريك له . وفي قوله { وإن لّم ينتهوا عمّا يقولون ليمسّنّ الّذين كفروا منهم } للبيان كالتي في { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] ولم يقل «ليمسنهم» لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر تكريراً للشهادة عليهم بالكفر ، أو للتبعيض أي ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية { عذابٌ أليمٌ } نوع شديد الألم من العذاب . { أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه } ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه وفيه تعجيب من إصرارهم { واللّه غفورٌ رّحيمٌ } يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم .

{ مّا المسيح ابن مريم إلاّ رسولٌ } فيه نفي الألوهية عنه { قد خلت من قبله الرّسل } صفة لرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله ، وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى لم يكن منه لأنه ليس إلها بل الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده كما أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى ، وخلقه من غير ذكر كخلق آدم من غير ذكر وأنثى { وأمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي وما أمه أيضاً إلا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم . ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } [ التحريم : 12 ] . ثم أبعدهما عما نسب إليهما بقوله { كانا يأكلان الطّعام } لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنقض لم يكن إلا جسماً مركباً من لحم وعظم وعروق وأعصاب وغير ذلك ما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام { انظر كيف نبيّن لهم الآيات } أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم { ثمّ انظر أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان ، وهذا تعجيب من الله تعالى في ذهابهم عن الفرق بين الرب والمربوب .
{ قل أتعبدون من دون اللّه ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعاً } هو عيسى عليه السلام أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلاء والمصائب في الأنفس والأموال ، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب ، لأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبتخليقه تعالى فكأنه لا يملك منه شيئاً ، وهذا دليل قاطع على أن أمره منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً ، وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته { واللّه هو السّميعُ العليمُ } متعلق ب «أتعبدون» أي أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولونه ويعلم ما تعتقدونه { قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } الغلو مجاوزة الحد ، فغلو النصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية ، وغلو اليهود وضعه عن استحقاق النبوة { غير الحقِّ } صفة لمصدر محذوف أي غلوا غير الحق يعني غلواً باطلاً { ولا تتّبعوآ أهوآءَ قومٍ قد ضلُّوا من قبلُ } أي أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم { وأضلُّوا كثيراً } ممن تابعهم { وضلُّوا } لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم { عن سوآءِ السَّبِيلِ } حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه .

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

{ لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } قيل : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة . ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى : اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل { ذلك بما عصوا وّكانوا يعتدون } ذلك اللعن بعصيانهم واعتدائهم ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله { كانوا لا يتناهون } لا ينهي بعضهم بعضاً { عن مّنكرٍ فعلوه } عن قبيح فعلوه . ومعنى وصف المنكر ب «فعلوه» ولا يكون النهي بعد الفعل أنهم لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر أرادوا فعله ، أو المراد لا ينتهون عن منكر فعلوه بل يصرون عليه . يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه . ثم عجب من سوء فعلهم مؤكداً لذلك بالقسم بقوله { لبئس ما كانوا يفعلون } وفيه دليل على أن ترك النهي عن المنكر من العظائم فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عنه { ترى كثيراً مِّنهم يتوّلّون الّذين كفروا } هم منافقو أهل الكتاب كانوا يوالون المشركين ويصافونهم { لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سَخِطَ اللّه عليهم } لبئس شيئاً قدموه لأنفسهم سخط الله عليهم أي موجب سخط الله { وفي العذاب هم خالدون } أي في جهنم { ولو كانوا يؤمنون باللّهِ } إيماناً خالصاً بلا نفاق { والنّبيِّ } أي محمد صلى الله عليه وسلم { ومآ أنزل إليه } يعني القرآن { ما اتّخذوهم أوليآء } ما اتخذوا المشركين أولياء يعني أن موالاة المشركين تدل على نفاقهم { ولكن كثيراً مّنهم فاسقون } مستمرون في كفرهم ونفاقهم ، أو معناه ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وما أنزل إليه يعني التوراة ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون ولكن كثيراً منهم فاسقون خارجون عن دينهم فلا دين لهم أصلاً .
{ لَتَجِدَنَّ أشدّ النّاس عداوة لّلّذين آمنوا اليهودَ } هو مفعول ثان ل «تجدن» . و«عداوة» تمييز { والّذين أشركوا } عطف عليهم { ولتجدنّ أقربهم مّودّةً لّلّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى } اللام تتعلق ب «عداوة» و «مودة» . وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة ، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين ، ونبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين { ذلك بأنّ منهم قِسّيسينَ ورهباناً } أي علماء وعباداً { وأنّهم لا يستكبرونَ } علل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهباناً وأن فيهم تواضعاً واستكانة ، واليهود على خلاف ذلك ، وفيه دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وإن كان علم القسيسين ، وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني { وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرّسول تراى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ } وصفهم برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن كما روي عن النجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون وهم يقرأونه عليهم : هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر : فيه سورة تنسب إلى مريم .

فقرأها إلى قوله : { ذلك عيسى ابن مريم } [ طه : 34 ] وقرأ سورة طه إلى قوله : { وهل أتاك حديث موسى } [ الآية : 9 ] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم سورة «يس» فبكوا . «تفيض من الدمع» تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلىء الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من أجل البكاء . و«من» في «مما عرفوا» لابتداءالغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله ، «ومن» في «من الحق» لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، أو للتبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنَة { يقولون } حال من ضمير الفاعل في «عرفوا» { ربّنآ آمنّا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد إنشاء الإيمان والدخول فيه { فاكتبنا مع الشّاهدين } مع أمة محمد عليه السلام الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة لتكونوا شهداء على الناس ، وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك .
{ وما لنا لا نؤمن باللّه } إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين . وقيل : لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك . «وما لنا» مبتدأ وخبر و «لا نؤمن» حال أي غير مؤمنين كقولك «مالك قائماً» { وما جآءنا } وبما جاءنا { من الحقِّ } يعني محمداً عليه السلام والقرآن { ونطمع } حال من ضمير الفاعل في «نؤمن» والتقدير : ونحن نطمع { أن يدخلنا ربّنا } الجنة { مع القوم الصّالحين } الأنبياء والمؤمنين { فأثابهم اللّه بما قالوا } أي بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم لذلك { جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين } وفيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هومذهب الفقهاء . وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله «بما قالوا» لكن الثناء بفيض الدمع في السباق وبالإحسان في السياق يدفع ذلك ، وأنى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 8 ] . نفى الإيمان عنهم مع قولهم «آمنا بالله» لعدم التصديق بالقلب . وقال أهل المعرفة : الموجود منهم ثلاثة أشياء : البكاء على الجفاء ، والدعاء على العطاء ، والرضا بالقضاء ، فمن ادعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه { والّذين كفروا وكذّبوا بأياتنا أولئك أصحاب الجحيم } هذا أثر الرد في حق الأعداء ، والأول أثر القبول للأولياء ، ونزل في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حلفوا أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويقوموا الليل ويصوموا النهار ويسيحوا في الأرض ويجبّوا مذاكيرهم ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

{ ياأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّباتِ مآ أحلّ اللّه لكم } ما طاب ولذ من الحلال . ومعنى «لا تحرموا» لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم ، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال " إن المؤمن حلو يحب الحلاوة " وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك ، فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن : أهو صائم؟ قالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل الحسن عليه وقال : يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟ وعنه أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوذ ويقول لا أؤدي شكره . فقال : أفيشرب الماء البارد؟ قالوا : نعم . قال : إنه جاهل أن نعمة الله عليه في الماء البارد أكبر من نعمته عليه في الفالوذ . { ولا تعتدوا } ولا تجاوزوا الحد الذي حد عليكم في تحليل أو تحريم ، أو ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات { إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين } حدوده .
{ وكلوا ممّا رزقكم اللّه حلالاً طيّباً } «حلالاً» حال «مما رزقكم الله» { واتّقوا اللّه } توكيد للتوصية بما أمر به وزاده توكيداً بقوله { الّذي أنتم به مؤمنون } لأن الإيمان به يوجب التقوى فيما أمر به ونهى .
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم } اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم ، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن ، وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزلت تلك الآية قالوا : فكيف أيماننا؟ فنزلت . وعند الشافعي رحمه الله ما يجري على اللسان بلا قصد { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } أي بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها . وبالتخفيف : كوفي غير حفص . والعقد : العزم على الوطء ، وذا لا يتصور في الماضي فلا كفارة في الغموس . وعند الشافعي رحمه الله القصد بالقلب ويمين الغموس مقصودة فكانت معقودة فكانت الكفارة فيها مشروعة . والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فخذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم ، أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف { فَكَفَّارَتُهُ } أي فكفارة نكثه أو فكفارة معقود الأيمان . والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين } هو أن يغديهم ويعشيهم ، ويجوز أن يعطيهم بطريق التمليك وهو لكل أحد نصف صاع من بر أوصاع من شعير أو صاع من تمر . وعند الشافعي رحمه الله مد لكل مسكين { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي غداء وعشاء من بر إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام والأدنى مرة من تمر أو شعير { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } عطف على «إطعام» أو على محل «من أوسط» ، ووجهه أن «من أوسط» بدل من «إطعام» والبدل هو المقصود في الكلام وهو ثوب يغطي العورة .

وعن ابن عمر رضي الله عنه : إزار وقميص ورداء { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مؤمنة أو كافرة لإطلاق النص ، وشرط الشافعي رحمه الله الإيمان حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل . ومعنى «أو» التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } إحداها { فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ } «متتابعة» لقراءة أبيّ وابن مسعود كذلك { ذلك } المذكور { كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ } وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة لا تجب بنفس الحلف ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث { واحفظوا أيمانكم } فبروا فيها ولا تحنثوا إذا لم يكن الحنث خيراً أو ولا تحلفوا أصلاً { كذلك } مثل ذلك البيان { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أعلام شريعته وأحكامه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } أي القمار { والأنصاب } الأصنام لأنها تنصب فتعبد { والأزلام } وهي القداح التي مرت { رِجْسٌ } نجس أو خبيث مستقذر { مِّنْ عَمَلِ الشيطان } لأنه يحمل عليه فكأنه عمله . والضمير في { فاجتنبوه } يرجع إلى الرجس ، أو إلى عمل الشيطان ، أو إلى المذكور ، أو إلى المضاف المحذوف كأنه قيل : إنما تعاطى الخمر والميسر ولذا قال «رجس» . { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أكد تحريم الخمر والميسر من وجوه حيث صدر الجملة بإنما وقرنهما بعبادة الأصنام ومنه الحديث " شارب الخمر كعابد الوثن " وجعلهما رجساً من عمل الشيطان ولا يأتي منه إلا الشر البحت ، وأمر بالاجتناب ، وجعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خساراً { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } ذكر ما يتولد منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة ، وخص الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال : وعن الصلاة خصوصاً . وإنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً ، لأن الخطاب مع المؤمنين وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر ، وذكر الأنصاب والألزام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعاً من أعمال أهل الشرك فكأنه لا مباينة بين عابد الصنم وشارب الخمر والمقامر ، ثم أفردهما بالذكر ليعلم أنهما المقصود بالذكر { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل : قد تُلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا } وكونوا حذرين خاشعين لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن ذلك { فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } أي فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات ، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه .

ونزل فيمن تعاطى شيئاً من الخمر والميسر قبل التحريم .
{ لَيْسَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } أي شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار قبل تحريمهما { إِذَا مَا اتقوا } الشرك { وَءامَنُواْ } بالله { وَعَمِلُواْ الصالحات } بعد الإيمان { ثُمَّ اتَّقَواْ } الخمر والميسر بعد التحريم { وَءَامَنُواْ } بتحريمهما { ثُمَّ اتَّقَواْ } سائر المحرمات ، أو الأول عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات { وَأَحْسَنُواْ } إلى الناس { والله يُحِبُّ المحسنين } .
ولما ابتلاهم الله بالصيد عام الحديبية وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في زحالهم فيستمكنون من صيده أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم نزل :
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم } ومعنى يبلو يختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم لا لعلم ما لم يعلم ، و«من» للتبعيض إذ لا يحرم كل صيد أو لبيان الجنس { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن الاصطياد موجوداً كما كان يعلم قبل وجوده أنه يوجد ليثيبه على عمله لا على علمه فيه { فَمَنِ اعتدى } فصاد { بَعْدَ ذَلِكَ } الابتلاء { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قلل في قوله «بشيء» من الصيد ليعلم أنه ليس من الفتن العظام «وتناله» صفة ل «شيء» { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد } أي المصيد إذ القتل إنما يكون فيه { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } أي محرمون جمع حرام كردح في جمع رداح في محل النصب على الحال من ضمير الفاعل في «تقتلوا» { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً } حال من ضمير الفاعل أي ذاكراً لإحرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه ، فإن قتله ناسياً لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطىء . وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ ، لأن مورد الآية فيمن تعمد ، فقد رُوي أنه عَنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت . ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ ملحق به للتغليظ .

وعن الزهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ . { فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ } كوفي أي فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد وهو قيمة الصيد يقوّم حيث صيد ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد ، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً . وعند محمد والشافعي رحمهما الله تعالى مثله نظيره من النعم ، فإن لم يوجد له نظير من النعم فكما مر .
«فجزاء مثل» على الإضافة : غيرهم . وأصله فجزاء مثل ما قتل أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ، ثم أضيف كما تقول «عجبت من ضرب زيداً ثم من ضرب زيد» . { مِنَ النعم } حال من الضمير في «قتل» إذ المقتول يكون من النعم أو صفة ل «جزاء» { يَحْكُمُ بِهِ } بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } حكمان عادلان من المسلمين ، وفيه دليل على أن المثل القيمة لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة ، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى ، أو بالمعنى لا بالصورة ، أو بالصورة بلا معنى ، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له صورة إجماعاً فلم يبق غيرها مراداً إذ لا عموم للمشترك . فإن قلت : قوله «من النعم» ينافي تفسير المثل بالقيمة . قلت : من أوجب القيمة خُير بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم كما خير الله تعالى في الآية ، فكان من النعم بياناً للهدي المشتري بالقيمة في أحد وجوه التخيير ، لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه فقد جزى بمثل ما قتل من النعم ، على أن التخيير الذي في الآية بين أن يُجزي بالهدي أو يكفر بالطعام أو الصوم ، إنما يستقيم إذا قوم ونظر بعد التقويم أي الثلاثة يختار ، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير ، فإذا كان شيئاً لا نظير له قُوِّم حينئذ ثم يخير بين الطعام والصيام ، ففيه نبّو عما في الآية ألا ترى إلى قوله { أوكَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } كيف خير بين الأشياء الثلاثة ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم { هَدْياً } حال من الهاء في «به» أي يحكم به في حال الهدي { بالغ الكعبة } صفة ل «هدياً» لأن إضافته غير حقيقية . ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم ، فأما التصدق به فحيث شئت . وعند الشافعي رحمه الله : في الحرم { أَوْ كَفَّارَةٌ } معطوف على «جزاء» { طَعَامٌ } بدل من «كفارة» أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام . «أو كفارة طعام» على الإضافة : مدني وشامي . وهذه الإضافة لتبيين المضاف كأنه قيل : أو كفارة من طعام { مساكين } كما تقول «خاتم فضة» أي خاتم من فضة { أَو عَدْلُ } وقرىء بكسر العين .

قال الفراء : العدل ما عادل الشيء من غير جنسه كالصوم والإطعام ، والعدل مثله من جنسه ومنه «عدلا الحمل» . يقال «عندي غلام عدل غلامك» بالكسر إذا كان من جنسه ، فإن أريد أن قيمته كقيمته ولم يكن من جنسه قيل «هو عَدل غلامك» بالفتح { ذلك } إشارة إلى الطعام { صِيَاماً } تمييز نحو «لي مثله رجلاً» والخيار في ذلك إلى القاتل ، وعند محمد رحمه الله إلى الحكمين { لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } متعلق بقوله «فجزاء» أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق سوء عقاب عاقبة هتكه لحرمة الإحرام . والوبال المكروه والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى : { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } [ المزمل : 16 ] أي ثقيلاً شديداً . والطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ . { عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ } لكم من الصيد قبل التحريم { وَمَنْ عَادَ } إلى قتل الصيد بعد التحريم أو في ذلك الإحرام { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } بالجزاء وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه { والله عَزِيزٌ } بإلزام الأحكام { ذُو انتقام } لمن جاوز حدود الإسلام .

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر } مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل { وَطَعَامُهُ } وما يطعم من صيده . والمعنى : أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده { متاعا لَّكُمْ } مفعول له أي أحل لكم تمتيعاً لكم { وَلِلسَّيَّارَةِ } وللمسافرين . والمعنى : أحل لكم طعامه تمتيعاً لتُنّائكم يأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزودونه قديداً كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر . { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر } ما صيد فيه وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كالبط فإنه بري لأنه يتولد في البر والبحر له مرعى كما للناس متجر { مَا دُمْتُمْ حُرُماً } محرمين { واتقوا الله } في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام { الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
تبعثون فيجزيكم على أعمالكم .
{ جَعَلَ الله الكعبة } أي صير { البيت الحرام } بدل أو عطف بيان { قِيَاماً } مفعول ثانٍ أو «جعل» بمعنى «خلق» و«قياماً» حال { لِلنَّاسِ } أي انتعاشاً لهم في أمر دينهم ونهوضاً إلى أغراضهم في معاشهم ومعادهم لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وأنواع منافعهم . قيل : لو تركوه عاماً لم ينظروا ولم يؤخروا { والشهر الحرام } والشهر الذي يؤدي فيه الحج وهو ذو الحجة لأن في اختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد علمه الله ، أو أريد به جنس الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم . { والهدى } ما يهدى إلى مكة { والقلائد } والمقلد منه خصوصاً وهو البدن فالثواب فيه أكثر وبهاء الحج معه أظهر { ذلك } إشارة إلى جعل الكعبة قياماً أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره { لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض وكيف لا يعلم وهو بكل شيء عليم { اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن استخف بالحرم والإحرام { وَأَنَّ الله غَفُورٌ } لآثام من عظم المشاعر العظام { رَّحِيمٌ } بالجاني الملتجىء إلى البلد الحرام { مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ } تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } فلا يخفى عليه نفاقكم ووفاقكم .
{ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب } لما أخبر أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون ذكر أنه لا يستوي خبيثهم وطيبهم بل يميز بينهما ، فيعاقب الخبيث أي الكافر ويثيب الطيب أي المسلم { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث فاتقوا الله } وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر .

وقيل : هو عام في حلال المال وحرامه وصالح العمل وطالحه وجيد الناس ورديئهم .
{ ياأولي الألباب } أي العقول الخالصة { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء امتحاناً فنزل :
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَسْئَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ } قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين : أصله «شيئاء» بهمزتين بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث ولذا لم تنصرف ك «حمراء» وهي مفردة لفظاً جمع معنى ، ولما استثقلت الهمزتان المجتمعتان قدمت الأولى التي هي لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار وزنها «لفعاء» ، والجملة الشرطية والمعطوفة عليها أي قوله { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْئَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ } صفة ل «أشياء» أي وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم «تبد لكم» تلك التكاليف التي تسوؤكم أي تغمكم وتشق عليكم وتؤمرون بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها { عَفَا الله عَنْهَا } عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار . والضمير في { قَدْ سَأَلَهَا } لا يرجع إلى «أشياء» حتى يعدى ب «عن» بل يرجع إلى المسألة التي دلت عليها «لا تسألوا» أي قد سأل هذه المسألة { قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ } من الأولين { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا } صاروا بسببها { كافرين } كما عرف في بني إسرائيل .
{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } كان أهل الجاهلية إذا انتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا إذنها أي شقوها وامتنعوا من ركوبها وذبحها ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى واسمها البحيرة . وكان يقول الرجل : إذا قدمت من سفري أو برأت من مرضي فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها . وقيل : كان الرجل إذا أعتق عبداً قال : هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث . وكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً أكله الرجال ، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم ، وكذا إن كان ذكراً وأنثى وقالوا : أوصلت أخاها فالوصيلة بمعنى الواصلة . وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى . ومعنى «ما جعل» ما شرع ذلك ولا أمر به { ولكن الذين كَفَرُواْ } بتحريمهم ما حرموا { يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } في نسبتهم هذا التحريم إليه { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أن الله لم يحرم ذلك وهم عوامهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول } أي هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة { قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا } أي كافينا ذلك ، «حسبنا» مبتدأ والخبر «ما وجدنا» «وما» بمعنى «الذي» والواو في { أَوَ لَّوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ } للحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره : أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم { لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } أي الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } انتصب «أنفسكم» ب «عليكم» وهو من أسماء الأفعال أي الزموا إصلاح أنفسكم .

والكاف والميم في «عليكم» في موضع جر لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور لا على وحدها { لاَ يَضُرُّكُمْ } رفع على الاستئناف ، أو جزم على جواب الأمر ، وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد { مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة يتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم : عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها لا يضركم الضّلاّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تركهما مع القدرة عليهما لا يجوز . { إلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } رجوعكم { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ثم يجزيكم على أعمالكم .
روي أنه خرج بديل مولى عمرو بن العاص وكان من المهاجرين مع عدي وتميم وكانا نصرانيين إلى الشام ، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله . ومات ففتشا متاعه ، فأخذا إناء من فضة فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل :
{ يِأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان } ارتفع «اثنان» لأنه خبر المبتدأ وهو «شهادة» بتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين ، أو لأنه فاعل «شهادة بينكم» أي فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان . واتسع في «بين» فأضيف إليه المصدر . «وإذا حضر» ظرف للشهادة و«حين الوصية» بدل منه ، وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية لأن حضور الموت من الأمور الكائنة ، «وحين الوصية» بدل منه فيدل على وجوب الوصية ولو وجدت بدون الاختيار لسقط الابتلاء فنقل إلى الوجوب ، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل { ذَوَا عَدْلٍ } صفة ل «اثنان» { مِّنكُمْ } من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت { أو آخران } عطف على «اثنان» { مِنْ غَيْرِكُمْ } من الأجانب { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } سافرتم فيها . «وأنتم» فاعل فعل يفسره الظاهر { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } أو منكم من المسلمين ومن غيركم من أهل الذمة . وقيل : منسوخ إذ لا يجوز شهادة الذمي على المسلم ، وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين { تَحْبِسُونَهُمَا } تقفونهما للحلف هو استئناف كلام أو صفة لقوله «أو آخران من غيركم» أي أو آخران من غيركم محبوسان ، «وإن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت» اعتراض بين الصفة والموصوف { مِن بَعْدِ الصلاة } من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس .

وعن الحسن رحمه الله : بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وفي حديث بديل أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعديِّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر فحلفا ثم وجد الإناء بمكة فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي . { فَيُقْسِمَانِ بالله } فيحلفان به { إِنِ ارتبتم } شككتم في أمانتهما وهو اعتراض بين «يقسمان» وجوابه وهو { لاَ نَشْتَرِي } وجواب الشرط محذوف أغنى عنه معنى الكلام والتقدير : إن ارتبتم في شأنهما فحلفوهما { بِهِ } بالله أو بالقسم { ثَمَناً } عوضاً من الدنيا { وَلَوْ كَانَ } أي المقسم له { ذَا قربى } أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم له قريباً منا { وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله } أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها { إنّآ إذاً } إن كتمنا { لَّمِنَ الآثمين } . وقيل : إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين ، وإن أريد الوصيان فلم ينسخ تحليفهما .

ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

{ فَإِنْ عُثِرَ } فإن اطلع { على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً } فعل ما أوجب إثماً واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين { فئاخران } فشاهدان آخران { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ } أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته ، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلان من ورثته إنه إناء صاحبهما وإن شهادتهما أحق من شهادتهما { الأولاين } الأحقان بالشهادة لقرابتهما أو معرفتهما . وارتفاعهما على «هما الأوليان» كأنه قيل : ومن هما؟ فقيل : الأوليان . أو هما بدل من الضمير في «يقومان» أو من ««آخران» . «استحق عليهم الأوليان» . حفص أي من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين . «الأوَّلين» : حمزة وأبو بكر على أنه وصف للذين استحق عليهم مجرور أو منصوب على المدح . وسموا أولين لأنهم كانوا أولين في الذكر في قوله «شهادة بينكم» { فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما } أي ليميننا أحق بالقبول من يمين هذين الوصيين الخائنين { وَمَا اعتدينا } وما تجاوزنا الحق في يميننا { إِنَّآ إِذاً لَّمِنَ الظالمين } أي إن حلفنا كاذبين { ذلك } الذي مر ذكره من بيان الحكم { أدنى } أقرب { أَن يَأْتُواْ } أي الشهداء على نحو تلك الحادثة { بالشهادة على وَجْهِهَا } كما حملوها بلا خيانة فيها { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم } أي تكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم { واتقوا الله } في الخيانة واليمين الكاذبة { واسمعوا } سمع قبول وإجابة { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } الخارجين عن الطاعة . فإن قلت : ما معنى «أو» هنا؟ قلت : معناه ذلك أقرب من أن يؤدّوا الشهادة بالحق والصدق ، إما لله أو لخوف العار والافتضاح برد الأيمان ، وقد احتج به من يرى ردّ اليمين على المدعي ، والجواب أن الورثة قد ادّعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا ، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما فأنكرت الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهما الشراء .
{ يَوْمَ } منصوب ب «اذكروا» أو احذروا { يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى الإيمان؟ وهذا السؤال توبيخ لمن أنكرهم . «وماذا» منصوب ب «أجبتم» نصب المصدر على معنى أيَّ إجابة أجبتم { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا } بإخلاص قومنا دليله { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } أو بما أحدثوا بعدنا دليله «كنت أنت الرقيب عليهم» أو قالوا ذلك تأدباً أي علمنا ساقط مع علمك ومغمور به فكأنه لا علم لنا { إِذْ قَالَ الله } بدل من «يوم يجمع» { ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى والدتك } حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين .

والعامل في { إِذْ أَيَّدتُّكَ } أي قويتك «نعمتي» { بِرُوحِ القدس } جبريل عليه السلام أيد به لتثبت الحجة عليهم ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، وأضافه إلى القدس لأنه سبب الطهر من أو ضارم الآثام دليله { تُكَلّمُ الناس فِى المهد } حال أي تكلمهم طفلاً إعجازاً { وَكَهْلاً } تبليغاً { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ } معطوف على «إذ أيدتك» ونحوه «وإذ تخلق» . «وإذ تخرج» . «وإذ كففت» . «وإذ أوحيت» { الكتاب } الخط { والحكمة } الكلام المحكم الصواب { والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ } تقدر { مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } هيئة مثل هيئة الطير { بِإِذْنِى } بتسهيلي { فَتَنفُخُ فِيهَا } الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ، وكذا الضمير في { فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } وعطف { وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي } على «تخلق» { وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى } من القبور أحياء { بِإِذْنِي } قيل : أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية .
{ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إسراءيل عَنكَ } أي اليهود حين هموا بقتله { إِذْ جِئْتَهُمْ } ظرف ل «كففت» { بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ساحر حمزة وعلي { وَإِذْ أَوْحَيْتُ } ألهمت { إِلَى الحواريين } الخواص أو الأصفياء { أن آمنوا } أي آمنوا { بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون } أي اشهد بأننا مخلصون من أسلم وجهه { إِذْ قَالَ الحواريون } أي اذكروا إذ { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } «عيسى» نصب على اتباع حركته حركة الابن نحو «يا زيد بن عمرو» { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هل يفعل أو هل يطيعك ربك إن سألته ، فاستطاع وأطاع بمعنى كاستجاب وأجاب . هل تستطيع ربك على أي هل تستطيع سؤال ربك فحذف المضاف ، والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله { أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا } «ينزول» : مكي وبصري { مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } هي الخوان إذا كان عليه الطعام من مادَه إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليها { قَالَ اتقوا الله } في اقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إذ الإيمان يوجب التقوى .
{ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } تبركاً { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } ونزداد يقيناً كقول إبراهيم عليه السلام { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } أي نعلم صدقك عياناً كما علمناه استدلالاً { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } بما عاينا لمن بعدنا . ولما كان السؤال لزيادة العلم لا للتعنت { قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم } أصله «يا الله» فحذف «يَا» وعوض منه «الميم» { رَبَّنَا } نداء ثانٍ { أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء تَكُونُ لَنَا عِيداً } أي يكون يوم نزولها عيداً .

قيل : هو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصارى عيداً ، والعيد : السرور العائد ولذا يقال «يوم عيد» فكان معناه : تكون لنا سروراً وفرحاً { لأَِوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا } بدل من «لنا» بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا ، ولمن يأتي بعدنا ، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم ، أو للمتقدمين منا والأتباع { وآيةً مِنكَ } على صحة نبوّتي ثم أكد ذلك بقوله { وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } وأعطنا ما سألناك وأنت خير المعطين { قَالَ الله إِنّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } بالتشديد : مدني وشامي وعاصم . وعد الإنزال وشرط عليهم شرطاً بقوله { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } بعد إنزالها منكم { فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً } أي تعذيباً كالسلام بمعنى التسليم . والضمير في { لآَّ أُعَذِّبُهُ } للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء { أَحَداً مِّنَ العالمين } عن الحسن أن المائدة لم تنزل ولو نزلت لكانت عيداً إلى يوم القيامة لقوله : «وآخرنا» . والصحيح أنها نزلت . فعن وهب نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة عليها كل طعام إلا اللحم . وقيل : كانوا يجدون عليها ما شاءُوا . وقيل : كانت تنزل حيث كانوا بكرة وعشياً .

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

{ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } الجمهور على أن هذا السؤال يكون في يوم القيامة دليله سياق الآية وسباقها . وقيل : خاطبه به حين رفعه إلى السماء دليله لفظ «إذ» { قَالَ سبحانك } من أن يكون لك شريك { مَا يَكُونُ لِي } ما ينبغي لي { أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } إن صح أني قلته فيما مضى فقد علمته ، والمعنى : أني لا أحتاج إلى الاعتذار لأنك تعلم أني لم أقله ولو قلته لعلمته لأنك { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } ذاتي { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } ذاتك . فنفس الشيء ذاته وهويته والمعنى : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلم علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد .
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به . ثم فسر ما أمر به فقال : { أَنِ اعبدوا الله رَبّي وَرَبَّكُمْ } ف «أن» مفسرة بمعنى «أي» { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } رقيباً { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } مدة كوني فيهم { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } الحفيظ { وَأَنتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } من قولي وفعلي وقولهم وفعلهم { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } قال الزجاج : علم عيسى عليه السلام أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر فقال في جملتهم «إن تعذبهم» أي إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك الذين علمتهم جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك وأنت العادل في ذلك فإنهم قد كفروا بعد وجوب الحجة عليهم ، وإن تغفر لهم أي لمن أقلع منهم وآمن فذلك تفضل منك ، وأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد ، حكيم في ذلك ، أو عزيز قوي قادر على الثواب ، حكيم لا يعاقب إلا عن حكمة وصواب .
{ قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } برفع اليوم والإضافة على أنه خبر هذا أي يقول الله تعالى «هذا يوم ينفع الصادقين» فيه صدقهم المستمر في دنياهم وآخرتهم . والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب على المفعولية كما تقول «قال زيد عمرو منطلق» ، وبالنصب : نافع . على الظرف أي قال الله هذا لعيسى عليه السلام يوم ينفع الصادقين صدقهم وهو يوم القيامة { لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ } بالسعي المشكور { وَرَضُواْ عَنْهُ } بالجزاء الموفور { ذلك الفوز العظيم } لأنه باقٍ بخلاف الفوز في الدنيا فهو غير باقٍ { للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ } عظم نفسه عما قالت النصارى إن معه إلهاً آخر { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء ، نسأله أن يوفقنا لمرضاته ويجعلنا من الفائزين بجناته ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)

مكية وهي مائة وخمس وستون آية كوفي أربع وستون بصرى
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الحمد للَّهِ } تعليم اللفظ والمعنى مع تعريض الاستغناء أي الحمد له وإن لم تحمدوه { الذى خَلَقَ السماوات والأرض } جمع السموات لأنها طباق بعضها فوق بعض . والأرض وإن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض . «جعل» يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله { وَجَعَلَ الظلمات والنور } وإلى مفعولين إن كان بمعنى «صير» كقوله { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] وفيه رد قول الثنوية بقدم النور والظلمة ، وأفرد النور لإرادة الجنس ولأن ظلمة كل شيء تختلف باختلاف ذلك الشيء ، نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منها صاحبها ، والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات ، وقدم الظلمات لقوله عليه السلام : " خلق اللّه خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } بعد هذا البيان { بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } يساوون به الاوثان ، تقول عدلت بذا أي ساويته به ، والباء في { بِرَبِّهِمْ } لا للكفر ، أو ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه أي يعرضرن عنه فتكون الباء صلة للكفر وصلة { يَعْدِلُونَ } أي عنه محذوفة ، وعطف { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } على { الحمد للَّهِ } على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق إلا نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، أو على خلق السماوات على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه . ومعنى «ثم» استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته . { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } «من» لابتداء الغاية أي ابتداء خلق أصلكم يعنى آدم منه { ثُمَّ قضى أَجَلاً } أي حكم أجل الموت { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } أجل القيامة ، أو الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ . أو الأول ، والثاني الموت ، أو الثاني هو الأول وتقديره : وهو أجل مسمى أي معلوم ، و { أَجَلٍ مُّسَمًّى } مبتدأ والخبر { عِندَهُ } وقدم المبتدأ وإن كان نكرة والخبر ظرفاً وحقه التأخير لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } تشكون من المرية أو تجادلون من المراء . ومعنى «ثم» استبعاد أن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم { وَهُوَ الله } مبتدأ وخبر { السماوات وَفِي الأرض } متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : وهو المعبود فيهما كقوله { وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِي الأرض إله }

[ الزخرف : 84 ] أو المعروف بالإلهية فيهما ، أو هو الذي يقال له الله فيهما ، والأول تفريع على أنه مشتق وغيره على أنه غير مشتق { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } خبر بعد خبر أو كلام مبتدأ أي هو يعلم سركم وجهركم { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } من الخير والشر ويثيب عليه ويعاقب ، و «من» في { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ } للاستغراق وفي { مِّنْ ءايات رَبِّهِمْ } للتبعيض أي وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } تاركين للنظر لا يلتفتون إليه لقلة خوفهم وتدبرهم في العواقب { فَقَدْ كَذَّبُواْ } مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين على الآيات فقد كذبوا { بالحق لَمَّا جَاءَهُمْ } أي بما هو أعظم آية وأكبرها وهو القرآن الذي تُحدوا به فعجزوا عنه { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أنباؤا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } إي أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن أي أخباره وأحواله يعني سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا ، أو يوم القيامة ، أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته .
{ أَلَمْ يَرَوْاْ } يعني المكذبين { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } هو مدة انقضاء أهل كل عصر وهو ثمانون سنة أو سبعون { مكناهم } في موضع جر صفة ل «قرن» وجمع على المعنى { فِي الأرض ما لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } التمكين في البلاد إعطاء المكنة والمعنى : لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا { وَأَرْسَلْنَا السماء } المطر { عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } كثيراً وهو حال من السماء { وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } من تحت أشجارهم والمعنى عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار وسقيا الغيث المدرار { فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ } ولم يغن ذلك عنهم شيئاً { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ } بدلاً منهم { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا } مكتوباً { فِي قِرْطَاسٍ } في ورق { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } هو للتأكيد لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ومن المحتج عليهم العمى { لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره { وَقَالُواْ لَوْلآ } هلا { أُنزِلَ عَلَيْهِ } على النبي صلى الله عليه وسلم { مَلَكٌ } يكلمنا أنه نبي فقال الله { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر } لقضي أمر هلاكهم { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون . ومعنى «ثم» بعدما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار ، جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأه الشدة أشد من نفس الشدة { وَلَوْ جعلناه مَلَكاً } ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون تارة لولا أنزل على محمد ملك ، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { لجعلناه رَجُلاً } لأرسلناه في صورة رجل كما كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعم الأحوال في صورة دحية ، لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } ولخلطنا وأشكلنا عليهم من أمره إذا كان سبيله كسبيلك يا محمد ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك .

يقال لبست الأمر على القوم وألبسته إذا أشبهته وأشكلته عليهم .
ثم سلى نبيه على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق حيث أهلكوا من أجل استهزائهم به و «منهم» متعلق ب «سخروا» كقوله { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] والضمير للرسل والدال مكسورة عند أبي عمرو وعاصم لا لتقاء الساكنين ، وضمها غيرهما إتباعاً لضم التاء { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } والفرق بين فانظروا وبين { ثُمَّ انظروا } إن النظر جعل مسبباً عن السير في «فانظروا» فكأنه قيل : سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين . ومعنى { سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا } إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين على ذلك ب «ثم» لتباعد ما بين الواجب والمباح { قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض } «من» استفهام و «ما» معنى الذي في موضع الرفع على الابتداء و «لمن» خبره { قُل لِلَّهِ } تقرير لهم أي هو لله لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا منه شيئاً إلى غيره { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } أصل كتب أوجب ولكن لا يجوز الإجراء على ظاهره إذ لا يجب على الله شيء للعبد ، فالمراد به أنه وعد ذلك وعداً مؤكداً وهو منجزه لا محالة . وذكر النفس للاختصاص ورفع الوسائط ، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر و إشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } فيجازيكم على إشراككم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } في اليوم أو في الجمع { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } نصب على الذم أي أريد الذين خسروا أنفسهم باختيارهم الكفر { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقال الأخفش : «الذين» بدل من «كم» في { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } أي ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم و الوجه هو الأول لأن سيبويه قال : لا يجوز «مررت بي المسكين ولا بك المسكين» فتجعل «المسكين» بدلاً من الياء أو الكاف لأنهما في غاية الوضوح فلا يحتاجان إلى البدل والتفسير .

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

{ وَلَهُ } عطف على { لِلَّهِ } { مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار } من السكنى حتى يتناول الساكن والمتحرك أو من السكون ومعناه ما سكن وتحرك فيهما فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر كقوله { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 82 ] أي الحر والبرد ، و ذكر السكون لأنه أكثر من الحركة وهو احتجاج على المشركين لأنهم لم ينكروا أنه خالق الكون و مدبره { وَهُوَ السميع العليم } يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان .
{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } ناصراً ومعبوداً وهو مفعول ثان ل { اتخذ } والأول { غَيْرَ } وإنما أدخل همزة الاستفهام على مفعول { اتخذ } لا عليه لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي فكان أحق بالتقديم { فَاطِرَ السماوات والأرض } بالجر صفة لله أي مخترعهما . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } وهو يرزق ولا يرزق أي المنافع كلها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع { قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لأن النبي سابق أمته في الإسلام كقوله : { وبذلك أُمِرْتُ وَأَنتَ أَوَّلُ المسلمين } [ الأنعام : 163 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } وقيل لي لا تكونن من المشركين ولو عطف على ما قبله لفظاً لقيل : وأن لا أكون ، والمعنى : أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك { قُلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي إني أخاف عذاب يوم عظيم وهو القيامة إن عصيت ربي فالشرط معترض بين الفاعل والمفعول به محذوف الجواب { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } الله الرحمة العظمى وهي النجاة .
{ مَّن يُصْرَفْ } حمزة وعلي و أبو بكر . أي من يصرف الله عنه العذاب { وَذَلِكَ الفوز المبين } النجاة الظاهرة { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } من مرض أو فقر أوغير ذلك من بلاياه { فَلاَ كاشف لَهُ إلا هُوَ } فلا قادر على كشفه إلا هو { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من غنى أو صحة { فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } فهو قادر على إدامته وإزالته { وَهُوَ القاهر } مبتدأ وخبر أي الغالب المقتدر { فَوْقَ عِبَادِهِ } خبر بعد خبر أي عال عليهم بالقدرة . والقهر بلوغ المراد بمنع غيره من بلوغه { وَهُوَ الحكيم } في تنفيذ مراده { الخبير } بأهل القهر من عباده .
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة } { أَيُّ شَيْء } مبتدأ و { أَكْبَرُ } خبره و { شَهَادَةً } تمييز و «أي» كلمة يراد بها بعض ما تضاف إليه ، فإذا كانت استفهاماً كان جوابها مسمى باسم ما أضيفت إليه .

وقوله { قُلِ الله } جواب أي الله أكبر شهادة ف { الله } مبتدأ والخبر محذوف فيكون دليلاً على أنه يجوز إطلاق اسم الشيء على الله تعالى ، وهذا لأن الشيء اسم للموجود ولا يطلق على المعدوم والله تعالى موجود فيكون شيئاً ولذا نقول الله تعالى شيء لا كالأشياء . ثم ابتدأ { شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي هو شهيد بيني وبينكم ، ويجوز أن يكون الجواب { الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } لإنه إذا كان الله شهيداً بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرءان لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أي ومن بلغه القرآن إلى قيام الساعة في الحديث " من بلغه القرآن فكأنما رأى محمد " صلى الله عليه وسلم و «من» في محل النصب بالعطف على «كم» والمراد به أهل مكة والعائد إليه محذوف أي ومن بلغه ، وفاعل { بَلَغَ } ضمير القرآن { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءَالِهَةً أخرى } استفهام إنكار وتبكيت { قُلْ لا أشهد } بما تشهدون وكرر { قُلْ } توكيداً { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } «ما» كافة «أن» عن العمل وهو مبتدأ و { إله } خبره و { واحد } صفة أو بمعنى الذي في محل النصب «إن» وهو مبتدأ وإله خبره والجملة صلة «الذي» و { واحد } خبر «إن» وهذا الوجه أوقع { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ } به .
{ الذين ءاتيناهم الكتاب } يعنى اليهود والنصارى . والكتاب : التوراة والإنجيل { يَعْرِفُونَهُ } أي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ } بحلاهم ونعوتهم وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته ثم قال { الذين خسروا أنفسهم } من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به { وَمَنْ أَظْلَمُ } استفهام يتضمن معنى النفي أي لا أحد أظلم لنفسه ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وأشنعه اتخاذ المخلوق معبوداً { مِمَّنِ افترى } اختلق { عَلَى الله كَذِبًا } فيصفه بما لا يليق به { أَوْ كَذَّبَ بئاياته } بالقرآن والمعجزات { إِنَّهُ } إن الأمر والشأن { لاَ يُفْلِحُ الظالمون } جمعوا بين أمرين باطلين ، فكذبوا على الله مالا حجة عليه وكذبوا بما ثبت بالحجة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وسموا القرآن والمعجزات سحراً .
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } هو مفعول به والتقدير : واذكر يوم نحشرهم { جَمِيعاً } حال من ضمير المفعول { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } مع الله غيره توبيخاً ، وبالياء فيهما : يعقوب { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي تزعمونهم شركاء فحذف المفعولان { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ } وبالياء : حمزة وعلي { فِتْنَتُهُمْ } كفرهم { إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ } يعني ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به ، أو ثم لم يكم جوابهم إلا أن قالوا : فسمي فتنة لأنه كذب .

وبرفع الفتنة مكي وشامي وحفص؛ فمن قرأ { تَكُنْ } بالتاء ورفع الفتنة فقد جعل الفتنة اسم { تَكُنْ } و { أَن قَالُواْ } الخبر أي لم تكن فتنتهم إلا قولهم ، ومن قرأ بالياء ونصب الفتنة جعل { أَن قَالُواْ } اسم { يَكُنِ } أي لم يكن فتنتهم إلا قولهم ، ومن قرأ بالتاء ونصب الفتنة حمل على المقالة : { رَبَّنَا } حمزة وعلي ، على النداء أي ياربنا وغيرهما بالجر على النعت من اسم الله { انظُرْ } يامحمد { كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ } بقولهم { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال مجاهد : إذا جمع الله الخلائق ورأى المشركون سعة رحمة الله وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين قال بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد فإذا قال لهم الله : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم { وَضَلَّ عَنْهُم } وغاب عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } إلهيته وشفاعته { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } حين تتلو القرآن . روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر : ما يقول محمد؟ فقال : والله ما أدري ما يقول محمد ألا إنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية . فقال أبو سفيان : إني لأراه حقاً فقال أبو جهل : كلا فنزلت { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطية جمع كنان وهو الغطاء مثل عنان وأعنة أن يفقهوه } كراهة أن يفقهوه { وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا } ثقلا يمنع من السمع ، ووحد الوقر لأنه مصدر وهو عطف على { أَكِنَّةً } وهو حجة لنا في الأصلح على المعتزلة { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حتى إِذَا جَاءُوكَ يجادلونك يَقُولُ الذين كَفَرُواْ } «حتى» هي التي تقع بعدها الجمل ، والجملة قوله { إذا جاؤك يقول الذين كفروا } و { يجادلونك } في موضع الحال ، ويجوز أن تكون جارة ويكون { إذا جاءوك } في موضع الجر بمعنى حتى وقت مجيئهم و { يجادلونك } حال و { يقول الذين كفروا } تفسير له ، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون { إِنْ هَذَآ } ما القرآن { إِلاَّ أساطير الأولين } فيجعلون كلام الله أكاذيب ، وواحد الأساطير أسطورة .
{ وَهُمْ } أي المشركون { يَنْهَوْنَ عَنْهُ } ينهون الناس عن القرآن أو عن الرسول واتباعه والإيمان به { ويَنْئَوْنَ عَنْهُ } ويبعدون عنه بأنفسهم فيضلون ويضلون { وَإِن يُهْلِكُونَ } بذلك { إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي لا يتعداهم الضرر إلى غيرهم وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله وقيل : عنى به أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه فلا يؤمن به والأول أشبه .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)

{ وَلَوْ ترى } حذف جوابه أي ولو ترى لشاهدت أمراً عظيماً { إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار } أروها حتى يعاينوها أو حبسوا على الصراط فوق النار { فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ } إلى الدنيا تمنوا الرد الدنيا ليؤمنوا وتم تمنيهم ثم ابتدأوا بقوله { وَلاَ نُكَذِّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } واعدين الإيمان كأنهم قالوا : ونحن لا نكذب ونؤمن . { وَلاَ نُكَذِّبَ } { وَنَكُونَ } حمزة وعلي وحفص على جواب التمني بالواو وبإضمار «أن» ومعناه أن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين ، وافقهما في { وَنَكُونَ } شامي { بَلْ } للإضراب عن الوفاء بما تمنوا { بَدَا لَهُمْ } ظهر لهم { مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } من الناس { مِن قَبْلُ } في الدنيا من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم . وقيل : هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه ، أو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَوْ رُدُّواْ } إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار { لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } من الكفر { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } فيما وعدوا من أنفسهم لا يوفون به { وَقَالُواْ } عطف على { لعادوا } أي ولو ردوا لكفروا ولقالوا { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، أو على قوله { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } أي وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء وهم الذين قالوا إن إلا حياتنا الدنيا وهي كناية عن الحياة ، أو هو ضمير القصة { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } .
{ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ } مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه ، أو وقفوا على جزاء ربهم { قَالَ } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل : قال { أَلَيْسَ هذا } أي البعث { بالحق } بالكائن الموجود وهذا تعيير لهم على التكذيب للبعث . وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث ما هو بحق { قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا } أقروا و أكدوا الإقرار باليمين { قَالَ } الله تعالى { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بكفركم .
{ قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله } ببلوغ الآخرة وما يتصل بها ، أو هو مجرى على ظاهره لأن منكر البعث منكر للرؤية { حتى } غاية ل { كَذَّبُواْ } لا ل { خسر } لأن خسرانهم لا غاية له { إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة } أي القيامة لأن مدة تأخرها مع تابد ما بعدها كساعة واحدة { بَغْتَةً } فجأة وانتصابها على الحال يعني باغتة ، أو على المصدر كأنه قيل : بغتتهم الساعة بغتة وهي ورود الشيء على صاحبه من غير علمه بوقته { قَالُواْ ياحسرتنا } نداء تفجع معناه ياحسرة احضري فهذا أوانك { على مَا فَرَّطْنَا } قصرنا { فِيهَا } في الحياة الدنيا أو في الساعة أي قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ } آثامهم { على ظُهُورِهِمْ } خص الظهر لأن المعهود حمل الأثقال على الظهور كما عهد الكسب بالأيدي ، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم .

وقيل : إن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحاً فيقول : أنا عملك السيء فطالما ركبتني في الدنيا وأنا أركبك اليوم { أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ } بئس شيئاً يحملونه ، وأفاد «ألا» تعظيم ما يذكر بعده { وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } جواب لقولهم { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع ، واللهو الميل عن الجد إلى الهزل . قيل : ما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو . وقيل : ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة { وَلَلدَّارُ } مبتدأ { الآخرة } صفتها : { وَلَدَارُ الآخرة } بالإضافة : شامي . أي ولدار الساعة الآخرة لأن الشيء لا يضاف إلى صفته . وخبر المبتدأ على القراءتين { خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وفيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } بالتاء : مدني وحفص .
ولما قال أبو جهل : ما نكذبك يا محمد وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به نزل { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ } الهاء ضمير الشأن { لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } لا ينسبونك إلى الكذب . وبالتخفيف : نافع وعلى من أكذبه إذا وجده كاذباً { ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ } من أقامة الظاهر مقام المضمر ، وفيه دلالة على أنهم ظلموا في جحودهم والتاء يتعلق ب { يَجْحَدُونَ } أو ب { الظالمين } كقوله { فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الاعراف : 103 ] والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله ، لأن تكذيب الرسول تكذيب المرسل . { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على أن قوله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } ليس بنفي لتكذيبه وإنما هو من قولك لغلامك إذا أهانه بعض الناس «إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني» { فَصَبَرُواْ } والصبر حبس النفس على المكروه { على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ } على تكذيبهم وإيذائهم { حتى أتاهم نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله } لمواعيده من قوله { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171 ، 172 ] { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] { وَلَقدْ جَآءكَ مِن نَّبَإِىْ المرسلين } بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين ، وأجاز الأخفش أن تكون «من» زائدة والفاعل { نَّبَإِ المرسلين } وسيبويه لا يجيز زيادتها في الواجب كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم ويحب مجيء الآيات ليسلموا فنزل { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ } عظم وشق { إِعْرَاضُهُمْ } عن الإسلام { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً } منفذاً تنفيذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها { فِى الأرض } صفة ل { نَفَقاً } { أَوْ سُلَّماً فِي السماء فَتَأْتِيَهُمْ } منها { بِئَايَةٍ } فافعل ، وهو جواب { فَإِن استطعت } و { إِنِ استطعتم } وجوابها جواب { وَإِن كَانَ كَبُرَ } والمعنى إنك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم { وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } لجعلهم بحيث يختارون الهدى ، ولكن لما علم أنهم يختارون الكفر لم يشأ أن يجمعهم على ذلك كذا قاله الشيخ أبو منصور رحمه الله { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } من الذين يجهلون ذلك .

ثم أخبر أن حرصه على هدايتهم لا ينفع لعدم سمعهم كالموتى بقوله :

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)

{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } أي إنما يجيب دعاءك الذين يسمعون دعاءك بقلوبهم { والموتى } مبتدأ إي الكفار { يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ } هلا أنزل عليه { ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } كما نقترح من جعل الصفا ذهباً وتوسيع أرض مكة وتفجير الأنهار خلالها { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً } كما اقترحوا { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } إن الله قادر على أن ينزل تلك الآية ، أو لا يعلمون ما عليهم في الآية من البلاء لو أنزلت { وَمَا مِن دَابَّةٍ } هي اسم لما يدب وتقع على المذكر والمؤنث { فِي الأرض } في موضع جر صفة ل { دَابَّةٍ } { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } قيد الطيران بالجناحين لنفي المجاز لأن غير الطائر قد يقال فيه طار إذا أسرع { إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم } في الخلق والموت والبعث والاحتياج إلى مدبر يدبر أمرها { مَّا فَرَّطْنَا } ما تركنا { فِي الكتاب } في اللوح المحفوظ { مِن شَيْءٍ } من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت ، أو الكتاب القرآن . وقوله { مِن شَيْءٍ } أي من شيء يحتاجون إليه فهو مشتمل على ما تعبدنا به عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني الأمم كلها من الدواب والطيور فينصف بعضها من بعض كما رُوي أنه يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني تراباً . وإنما قال { إِلاَّ أُمَمٌ } مع إفراد الدابة والطائر لمعنى الاستغراق فيهما . ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال { والذين كَذَّبُواْ باياتنا صُمٌّ } لا يسمعون كلام المنبه { وَبُكْمٌ } لا ينطقون بالحق خابطون { فِي الظلمات } أي ظلمة الجهل والحيرة والكفر ، غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه . { صُمٌّ وَبُكْمٌ } خبر { الذين } ودخول الواو لا يمنع من ذلك ، و { فِي الظلمات } خبر آخر . ثم قال إيذاناً بأنه فعال لما يريد { مَن يَشَأْ الله يُضْلِلْهُ } أي من يشأ الله ضلاله يضلله { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } وفيه دلالة خلق الأفعال وإرادة المعاصي ونفي الأصلح .
{ قُلْ أَرَءَيتَكُم } وبتليين الهمزة : مدني ، وبتركه : علي ، ومعناه هل علمتم أن الأمر كما يقال لكم فأخبروني بما عندكم ، والضمير الثاني لا محل له من الإعراب والتاء ضمير الفاعل ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره أرأيتكم { إِنْ أتاكم عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } من تدعون . ثم بكتهم بقوله { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } أي أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله دونها { إِن كُنتُمْ صادقين } في أن الأصنام آلهة فادعوها لتخلصكم { بَلْ إياه تَدْعُونَ } بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } أي ما تدعونه إلى كشفه { إِن شَاءَ } إن أراد أن يتفضل عليكم { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وتتركون آلهتكم ، أو لا تذكرون آلهتكم في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر ربكم وحده إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره ، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } كأنه قيل : أرأيتكم أغير اللّه تدعون إن أتاكم عذاب اللّه .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ } رسلاً فالمفعول محذوف فكذبوهم { فأخذناهم بالبأساء والضراء } بالبؤس والضر ، والأول القحط والجوع والثاني المرض ونقصان الأنفس والأموال { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد .
{ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } أي هلا تضرعوا بالتوبة ومعناه نفي التضرع كأنه قيل : يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء ب «لولا» ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } فلم يزجروا بما ابتلوا به { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } وصاروا معجبين بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } من البأساء والضراء أي تركوا الاتعاظ به ولم يزجرهم { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبواب كُلِّ شَيْءٍ } من الصحة والسعة وصنوف النعمة { فَتَحْنَا } شامي { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } من الخير والنعمة { أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } آيسون متحسرون وأصله الإطراق حزناً لما أصابه أو ندماً على مافاته و «إذا» للمفاجأة { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ } أي أهلكوا عن آخرهم ولم يترك منهم أحد { والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم ، أو احمدوا الله على إهلاك من لم يحمد الله .
ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم } بأن أصمكم وأعماكم { وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ } فسلب العقول والتمييز { مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ } بما أخذ وختم عليه . { مِنْ } رفع بالابتداء و { إِلَهٌ } خبره و { غَيْرِ } صفة ل { إله } وكذا { يَأْتِيَكُمُ } والجملة في موضع مفعولي { أَرَءيْتُمْ } وجواب الشرط محذوف { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ } لهم { الآيات } نكررها { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } يعرضون عن الآيات بعد ظهورها ، والصدوف الإعراض عن الشيء { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً } بأن لم تظهر أماراته { أَوْ جَهْرَةً } بأن ظهرت أماراته . وعن الحسن : ليلاً أو نهاراً { هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون } ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم { وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } بالجنان والنيران للمؤمنين والكفار ، ولن نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة { فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ } أي داوم على إيمانه { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فلا خوف يعقوب .
{ والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا يَمَسُّهُمُ العذاب } جعل العذاب ماساً كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى بالكفر { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله } أي قسمه بين الخلق وأرزاقه ، ومحل { وَلا أَعْلَمُ الغيب } النصب عطفاً على محل { عِندِي خَزَائِنُ الله } لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول { وَلآ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ } أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وعلم الغيب ودعوى الملكية ، وإنما أدعي ما كان لكثير من البشر وهو النبوة { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } أي ما أخبركم إلا بما أنزل الله علي { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } مثل للضال والمهتدي ، أو لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع ، أو لمن يدعي المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } فلا تكونوا ضالين أشباه العميان أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر ، أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إلي مما لا بد لي منه ، { وَأَنذِرْ بِهِ } بما يوحى { الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ } هم المسلمون المقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه ، أو أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث { لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } في موضع الحال من { يُحْشَرُواْ } أي يخافون أن يحشروا غير منصورين و لا مشفوعاً لهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يدخلون في زمرة أهل التقوى .

ولما أمر النبي عليه السلام بإنذار غير المتقين ليتقوا ، أمر بعد ذلك بتقريب المتقين ونهى عن طردهم بقوله :
{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها . والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام ، أو معناه يصلون صلاة الصبح والعصر أو الصلوات الخمس . { بالغُدوة } شامي . ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فالوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته ، نزلت في الفقراء بلال وصهيب وعمار وأضرابهم حين قال رؤساء المشركين : لو طردت هؤلاء السقاط لجالسناك . فقال عليه السلام : « ما أنا بطارد المؤمنين » فقالوا : اجعل لنا يوماً ولهم يوماً وطلبوا بذلك كتاباً فدعا علياً رضي الله عنه ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية فنزلت ، فرمى عليه الصلاة والسلام بالصحيفة وأتى الفقراء فعانقهم { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } كقوله { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي } [ الشعراء : 113 ] { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ } وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال : حسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب النفي وهو { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم } { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب النهي وهو { وَلاَ تَطْرُدِ } ويجوز أن يكون عطفاً على { فَتَطْرُدَهُمْ } على وجه التسبيب لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } ومثل ذلك الفتن العظيم ابتليتا الأغنياء بالفقراء { لِّيَقُولُواْ } أي الأغنياء { أهؤلاءآء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا } أي أنعم الله عليهم بالإيمان ونحن المقدمون والرؤساء وهم الفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير ونحوه

{ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } بمن يشكر نعمته .
{ وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } إِما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم ، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم . وكذا قوله { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } من جملة ما يقول لهم ليبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم ومعناه وعدكم بالرحمة وعداً مؤكداً { أَنَّهُ } الضمير للشأن { مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا } ذنباً { بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال أي عمله وهو جاهل بما يتعلق به من المضرة ، أو جعل جاهلاً لإيثاره المعصية على الطاعة { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } من بعد السوء أو العمل { وَأَصْلَحَ } أخلص توبته { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { أَنَّهُ } { فَإِنَّهُ } شامي وعاصم . الأول بدل الرحمة ، والثاني خبر مبتدأ محذوف أي فشأنه أنه غفور رحيم . { أَنَّهُ } { فَإِنَّهُ } مدني الأول بدل الرحمة ، والثاني مبتدأ . { إِنَّهُ } { فَإِنَّهُ } غيرهم على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل : إنه من عمل منكم { وكذلك نُفَصَّلُ الآياتِ وَلتستبينَ } وبالياء : حمزة وعلي وأبو بكر { سَبِيلُ المجرمين } بالنصب : مدني . غيره : بالرفع . فرفع السبيل مع التاء والياء لأنها تذكر وتؤنث ، ونصب السبيل مع التاء على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم يقال استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته ، والمعنى ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه ومن يرجى إسلامه ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل .

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

{ قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله { قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ } أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل ، وهو بيان سبب الذي منه وقعوا في الضلال { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال { وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين } وما أنا من المهتدين في شيء يعني أنكم كذلك ولما نفي أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله { قُلْ إِنّي على بَيّنَةٍ مِّن رَّبّي } أي إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة { وَكَذَّبْتُم بِهِ } حيث أشركتم به غيره . وقيل : على بينة من ربي على حجة من جهة ربي وهو القرآن وكذبتم به بالبينة ، وذكر الضمير على تأويل البرهان أو البيان أو القرآن . ثم عقبه بما دل على أنهم أحقاء بأن يعاقبوا بالعذاب فقال { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } في تأخير عذابكم { يَقُصُّ الحق } حجازي وعاصم أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره من قص أثره . الباقون { يَقْضِ الحق } في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل ، والحق صفة لمصدر يقضي وقوله { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } أي القاضين بالقضاء الحق إذ الفصل هو القضاء ، وسقوط الياء من الخط لاتباع اللفظ لالتقاء الساكنين { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى } أي في قدرتي وإمكاني { مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب { لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي { والله أَعْلَمُ بالظالمين } فهو ينزل عليكم العذاب في وقت يعلم أنه أردع .
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } المفاتح جمع مفتح وهو المفتاح ، أو هي خزائن العذاب والرزق ، أو ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال . جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال ، ومن علم مفاتحها وكيفية فتحها توصل إليها فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها فهو المتوصل إلى ما في المخازن . قيل : عنده مفاتح الغيب وعندك مفاتح الغيب ، فمن آمن بغيبه أسبل الله الستر على عيبه { وَيَعْلَمُ مَا فِي البر } من النبات والدواب { والبحر } من الحيوان والجواهر وغيرهما { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } «ما» للنفي و «من» للاستغراق أي يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } عطف على { وَرَقَةٍ } وداخل في حكمها وقوله { إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ } كالتكرير لقوله { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأن معنى { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } ومعنى { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } واحد وهو علم الله أو اللوح .

ثم خاطب الكفرة بقوله { وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل } أي يقبض أنفسكم عن التصرف بالتمام في المنام { وَيَعْلَمَ مَا جَرَحْتُم بالنهار } كسبتم فيه من الآثام { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } ثم يوقظكم في النهار ، أو التقدير ثم يبعثكم في النهار ويعلم ما جرحتم فيه فقدم الكسب لأنه أهم ، وليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا بالليل ولا أنه لا يتوفانا بالنهار فدل أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه { ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى } لتوفى الآجال على الاستكمال { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } رجوعكم بالبعث بعد الموت { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في ليلكم ونهاركم . قال بعض أهل الكلام : أن لكل حاسة من هذه الحواس روحاً تقبض عند النوم ثم ترد إليها إذا ذهب النوم ، فأما الروح التي تحيا بها النفس فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل . والمراد بالأرواح المعاني والقوى التي تقوم بالحواس ويكون بها السمع والبصر والأخذ والمشي والشم . ومعنى { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي يوقظم ويرد إليكم أرواح الحواس فيستدل به على منكري البعث لأنه بالنوم يذهب أرواح هذه الحواس ثم يردها إليها فكذا يحيي الأنفس بعد موتها .
{ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ليكون ذلك أزجر للعباد عن ارتكاب الفساد إذا تفكروا أن صحائفهم تقرأ على رؤوس الأشهاد { حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت } «حتى» لغاية حفظ الأعمال أي وذلك دأب الملائكة مع المكلف مدة الحياة إلى أن يأتيه الممات { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه { توفيه } و { استوفيه } بالإمالة : حمزة { رُسُلُنَا } أبو عمرو { وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } لا يتوانون ولا يؤخرون { ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله } إلى حكمه وجزائه أي رد المتوفون برد الملائكة { مولاهم } مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم { الحق } العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وهما صفتان لله { أَلاَ لَهُ الحكم } يومئذ لا حكم فيه لغيره { وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } لا يشغله حساب عن حساب يحاسب جميع الخلق في مقدار حلب شاة وقيل : الرد إلى من رباك خير من البقاء مع من آذاك .
{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ } { يُنَجِّيكُمْ } ابن عباس { مِّن ظلمات البر والبحر } مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما ، أو ظلمات البر الصواعق والبحر الأمواج وكلاهما في الغيم والليل { تَدْعُونَهُ } حال من ضمير المفعول في { يُنَجِّيكُمْ } { تَضَرُّعًا } معلنين الضراعة وهو مصدر في موضع الحال ، وكذا { وَخُفْيَةً } أي مسرين في أنفسكم { خفية } حيث كان : أبو بكر وهما لغتان { وَخُفْيَةً لَّئِنْ أنجانا } عاصم وبالإمالة حمزة وعلي .

الباقون { أَنْجَيْتَنَا } والمعنى يقولون لئن خلصنا { مِنْ هذه } الظلمات { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } لله تعالى { قُلِ الله يُنَجّيكُمْ } بالتشديد كوفي { مِّنْهَا } من الظلمات { وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } وغم وحزن { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } ولا تشكرون .
{ قُلْ هُوَ القادر } هو الذي عرفتموه قادراً أو هو الكامل القدرة فاللام يحتمل العهد والجنس { على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ } كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } كما غرّق فرعون وخسف بقارون ، أو من قبل سلاطينكم وسفلتكم ، أو هو حبس المطر والنبات { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام . ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } يقتل بعضكم بعضاً . والبأس السيف وعنه عليه الصلاة والسلام « سألت الله تعالى أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف » { انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الآيات } بالوعد والوعيد { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ } بالقرآن أو بالعذاب { قَوْمُكَ } قريش { وَهُوَ الحق } أي الصدق أو لا بد أن ينزل بهم { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظ وكل إليّ أمركم إنما أنا منذر { لِكُلِّ نَبَاءٍ } لكل شيء ينبأ به يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به { مُّسْتَقَرٌّ } وقت استقرار وحصول لا بد منه { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تهديد .

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)

{ وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا } أي القرآن يعني يخوضون فى الاستهزاء بها والطعن فيها ، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } ولا تجالسهم وقم عنهم { حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } غير القرآن مما يحل فحينئذ يجوز أن تجالسهم { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } ما نهيت عنه { يُنسِيَنَّكَ } شامي نسّي وأنسى واحد { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى } بعد أن تذكر { مَعَ القوم الظالمين * وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم } من حساب هؤلاء الذين يخوضون في القرآن تكذيباً واستهزاء { مِّن شَيْءٍ } أي وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم { ولكن } عليهم أن يذكروهم { ذِكْرِى } إذا سمعوهم يخوضون بالقيام عنهم وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم . ومحل { ذِكْرِى } نصب أي ولكن يذكرونهم ذكرى أي تذكيراً ، أورفع والتقدير ولكن عليهم ذكرى؛ { ذِكْرِى } مبتدأ والخبر محذوف .
{ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم { وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ } الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام { لَعِباً وَلَهْواً } سخروا به واستهزءوا . ومعنى { ذَرْهُمْ } أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، واللهو ما يشغل الإنسان من هوى أو طرب { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَذَكّرْ بِهِ } وعظ بالقرآن { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها ، وأصل الإبسال المنع { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ } ينصرها بالقوة { وَلاَ شَفِيعٌ } يدفع عنها بالمسألة . ولا وقف على { كَسَبَتْ } في الصحيح لأن قوله { لَيْسَ لَهَا } صفة لنفس والمعنى وذكر بالقرآن كراهة أن تبسل نفس عادمة ولياً وشفيعاً بكسبها { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } نصب على المصدر وإن تفد كل فداء ، والعدل الفدية لأن الفادي يعدل المفدي بمثله ، وفاعل { لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } لا ضمير العدل لأن العدل هنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ ، وأما في قوله { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] فبمعنى المفدى به فصح إسناده إليه { أولئك } إشارة إلى المتخذين من دينهم لعباً ولهواً وهو مبتدأ والخبر { الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ } وقوله { لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أي ماء سخين حار خبر ثان ل { أولئك } والتقدير : أولئك المبسلون ثابت لهم شراب من حميم أو مستأنف . { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } بكفرهم .
{ قُلْ } لأبي بكر يقل لابنه عبد الرحمن وكان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان { أَنَدْعُواْ } أنعبد { مِن دُونِ الله } الضار النافع { مَا لاَ يَنفَعُنَا } ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه { وَلاَ يَضُرُّنَا } إن تركنا { وَنُرَدُّ } وأنرد { على أعقابنا } راجعين إلى الشرك { بَعْدَ إِذْ هدانا الله } للإسلام وأنقذنا من عبادة الأصنام { كالذي استهوته الشياطين } كالذي ذهبت به الغيلان ومردة الجن .

والكاف في محل النصب على الحال من الضمير في { نُرَدُّ على أعقابنا } أي أننكص مشبهين من استهوته الشياطين وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه { فِي الأرض } في المهمه { حَيْرَانَ } حال من مفعول { استهوته } أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع { لَهُ } لهذا المستهوي { أصحاب } رفقة { يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى } إلى أن يهدوه الطريق . سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له { ائتنا } وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم ، وهذا مبني على ما يقال إن الجن تستهوي الإنسان ، والغيلان تستولي عليه ، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم { قُلْ إِنَّ هُدَى الله } وهو الإسلام { هُوَ الهدى } وحده وما وراءه ضلال { وَأُمِرْنَا } محله النصب بالعطف على محل { إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } على أنهما مقولان كأنه قيل : قل هذا القول وقل أمرنا { لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة } والتقدير : وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة { واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } يوم القيامة { وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } بالحكمة أو محقاً { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } على الخبر دون الجواب { قَوْلُهُ الحق } مبتدأ و { يَوْمَ يَقُولُ } خبره مقدماً عليه كما تقول «يوم الجمعة قولك الصدق» أي قولك الصدق كائن يوم الجمعة واليوم بمعنى الحين . والمعنى أنه خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة وحين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء ، قوله الحق والحكمة أي لا يكوَّن شيئاً من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب { وَلَهُ الملك } مبتدأ وخبر { يَوْمَ يُنفَخُ } ظرف لقوله { وَلَهُ الملك } { فِي الصور } هو القرن بلغة اليمن أو جمع صورة { عالم الغيب } هو عالم الغيب { والشهادة } أي السر والعلانية { وَهُوَ الحكيم } في الإفناء والإحياء { الخبير } بالحساب والجزاء .
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءَازَرَ } هو اسم أبيه أو لقبه لأنه لا خلاف بين النسابين أن اسم أبيه تارخ ، وهو عطف بيان لأبيه وزنه فاعل { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً } استفهام توبيخ أي أتتخذها آلهة وهي لا تستحق الإلهية { إِنّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضلال مُّبِينٍ * وكذلك } أي وكما أريناه قبح الشرك { نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السماوات والأرض } أي نري بصيرته لطائف خلق السماوات والأرض ، ونرى حكاية حال ماضية . والملكوت أبلغ من الملك لأن الواو والتاء تزادان للمبالغة .

قال مجاهد : فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى نظره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع حتى نظر إلى ما فيهن { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } فعلنا ذلك أو ليستدل ، وليكون من الموقنين عياناً كما أيقن بياناً { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } أي أظلم وهو عطف على { قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ } وقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم } جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه { رَءاَ كَوْكَباً } أي الزهرة أو المشتري ، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئاً منها ليس بإله لقيام دليل الحدوث فيها ، ولأن لها محدثاً أحدثها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها . فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه { قَالَ هذا رَبّي } أي قال لهم هذا ربي في زعمكم ، أو المراد أهذا استهزاء بهم وإنكاراً عليهم ، والعرب تكتفي عن حرب الاستفهام بنغمة الصوت . والصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأنه أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة { فَلَمَّا أَفَلَ } غاب { قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين } أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال لأن ذلك من صفات الأجسام { فَلَمَّا رَءَا القمر بَازِغاً } مبتدئاً في الطلوع { قَالَ هذا رَبّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضآلين } نبه قومه على أن من اتخذ القمر إلها فهو ضال ، وإنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال لأن الاحتجاج به أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب { فَلَمَّا رَءا الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبّي } وإنما ذكره لأنه أراد الطالع ، أو لأنه جعل المبتدأ مثل الخبر لأنهما شيء واحد معنى ، وفيه صيانة الرب عن شبهة التأنيث ولهذا قالوا في صفات الله تعالى علام ولم يقولوا علامة وإن كان الثاني أبلغ تفادياً من علامة التأنيث { هذا أَكْبَرُ } من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه { فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنّي بَرِىءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ } من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها . وقيل : هذا كان نظره واستدلاله في نفسه فحكاه الله تعالى ، والأول أظهر لقوله { ياقوم إِنّي بَرِىءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ } { إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والأرض } أي للذي دلت هذه المحدثات على أنه منشئها { حَنِيفاً } حال أي مائلاً عن الأديان كلها إلى الإسلام { وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين } بالله شيئاً من خلقه .
{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } في توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه { قَالَ أَتُحَآجُّونّي فِي الله } في توحيده .

{ أَتُحَاجُّونّي } مدني وابن ذكوان { وَقَدْ هدان } إلى التوحيد ، وبالياء في الوصل : أبو عمرو . ولما خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء قال { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبّي شَيْئاً } أي لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا إذا شاء ربي أن يصيبني منها بضر ، فهو قادر على أن يجعل فيما شاء نفعاً وفيما شاء ضراً لا الأصنام { وَسِعَ رَبّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } فلا يصيب عبداً شيء من ضر أو نفع إلا بعلمه { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } فتميزوا بين القادر والعاجز { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } معبوداتكم وهي مأمونة الخوف { وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } بإشراكه { عَلَيْكُمْ سلطانا } حجة إذ
الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة ، والمعنى وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف { فَأَيُّ الفريقين } أي فريقي الموحدين والمشركين { أَحَقُّ بالأمن } من العذاب { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ولم يقل «فأينا» احترازاً من تزكية نفسه ، ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله { الذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } بشرك عن الصديق رضي الله عنه { أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } تم كلام إبراهيم عليه السلام .

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا } إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } إلى قوله { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } { ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ } وهو خبر بعد خبر { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاءُ } في العلم والحكمة وبالتنوين كوفي وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } بالرفع { عَلِيمٌ } بالأهل .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ } لإبراهيم { إسحاق وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا } أي كلهم وانتصب { كَلاَّ } ب { هَدَيْنَا } { وَنُوحاً هَدَيْنَا } أي وهدينا نوحاً { مِن قَبْلُ } من قبل إبراهيم { وَمِن ذُرّيَّتِهِ } الضمير لنوح أو لإبراهيم ، والأوّل أظهر لأن يونس ولوطاً لم يكونا من ذرية إبراهيم { دَاوُدَ وسليمان وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وهارون } والتقدير : وهدينا من ذريته هؤلاء { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } ونجزي المحسنين جزاء مثل ذلك ، فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف { وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ } أي كلهم { مِّنَ الصالحين } وذكر عيسى معهم دليل على أن النسب يثبت من قبل الأم أيضاً لأنه جعله من ذرية نوح عليه السلام وهو لا يتصل به إلا بالأم ، وبذا أجيب الحجاج حين أنكر أن يكون بنو فاطمة أولاد النبي عليه السلام { وإسماعيل واليسع } { والليسع } حيث كان بلامين : حمزة وعلي { واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين } بالنبوة والرسالة { وَمِنْ ءَابَائِهِمْ } في موضع النصب عطفاً على { كُلاَّ } أي وفضلنا بعض آبائهم { وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * ذلك } أي ما دان به هؤلاء المذكورون { هُدَى الله } دين الله { يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فيه نقض قول المعتزلة لأنهم يقولون إن الله شاء هداية الخلق كلهم لكنهم لم يهتدوا { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات العلى { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لبطلت أعمالهم كما قال { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ]
أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب } يريد الجنس { والحكم } والحكمة أو فهم الكتاب { والنبوة } وهي أعلى مراتب البشر { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } بالكتاب والحكم والنبوة أو بآيات القرآن { هؤلاءآء } أي أهل مكة { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } أو أصحاب النبي عليه السلام ، أوكل من آمن به أو العجم . ومعنى توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه . والباء في { لَّيْسُواْ بِهَا } صلة { كافرين } وفي { بكافرين } لتأكيد النفي { أولئك الذين هَدَى الله } أي الأنبياء الذين مر ذكرهم { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم ، وهذا معنى تقديم المفعول .

والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع فهي مختلفة ، والهاء في { اقتده } للوقف تسقط في الوصل ، واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف ويحذفها حمزة . وعلى في الوصل ويختلسها : شامي . { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } على الوحي أو على تبليغ الرسالة والدعاء إلى التوحيد { أَجْراً } جعلاً . وفيه دليل على أن أخذ الأجر على تعليم القرآن ورواية الحديث لا يجوز { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى للعالمين } ما القرآن إلا عظة للجن والإنس { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَيْءٍ } أي ما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم رحمته { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] رُوي أن جماعة من اليهود منهم مالك بن الصيف كانوا يجادلون النبي عليه السلام فقال النبي عليه السلام له « أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين » قال : نعم . قال : « فأنت الحبر السمين » فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء . و { حَقَّ قَدْرِهِ } منصوب نصب المصدر .
{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذى جَاء بِهِ موسى نُوراً } حال من الضمير في { بِهِ } أو { مِّنَ الكتاب } { وَهُدًى لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قراطيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } مما فيه نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعضوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء . وبالياء في الثلاثة : مكي وأبو عمرو { وَعُلِّمْتُمْ } يا أهل الكتاب بالكتاب { مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ } من أمور دينكم ودنياكم { قُلِ الله } جواب أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ } في باطلهم الذي يخوضون فيه { يَلْعَبُونَ } حال من { ذَرْهُمْ } أو { مِنْ خَوْضِهِمْ } { وهذا كتاب أنزلناه } على نبينا عليه السلام { مُّبَارَكٌ } كثير المنافع والفوائد { مُّصَدِّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب { وَلِتُنذِرَ } وبالياء : أبو بكر ، أي الكتاب وهو معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار { أُمَّ القرى } مكة ، وسميت أم القرى لأنها سرة الأرض وقبلة أهل القرى وأعظمها شأناً ولأن الناس يؤمونها { وَمَنْ حَوْلَهَا } أهل الشرق والغرب { والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة } يصدقون بالعاقبة ويخافونها { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بهذا الكتاب فأصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } خصت الصلاة بالذكر لأنها علم الإيمان وعماد الدين فمن حافظ عليها يحافظ على أخواتها ظاهراً .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } هو مالك بن الصيف { أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } هو مسيلمة الكذاب { وَمَن قَالَ } في موضع جر عطف على { مَنِ افترى } أي وممن قال { سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله } أي سأقول وأملي هو عبد الله بن سعد ابن أبي سرح كاتب الوحي ، وقد أملى النبي عليه السلام عليه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } إلى { خَلْقاً ءاخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] فجرى على لسانه { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] . فقال عليه السلام : " اكتبها فكذلك نزلت " فشك وقال : إن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، وإن كان كاذباً فقد قلت كما قال ، فارتد ولحق بمكة . أو النضر ابن الحرث كان يقول : والطاحنات طحناً فالعاجنات عجناً فالخابزات خبزاً كأنه يعارض { وَلَوْ ترى } جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً { إِذِ الظالمون } يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة فتكون اللام للعهد ، ويجوز أن تكون للجنس فيدخل هؤلاء لاشتماله { فِي غَمْرَاتِ الموت } شدائده وسكراته { والملائكة بَاسِطُوآ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } أي يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم ، وهذه عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال { اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أرادوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع . والهون : الهوان الشديد وإضافة العذاب إليه كقولك «رجل سوء» يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق } من أن له شريكاً وصاحبة وولداً . { غَيْرَ الحق } مفعول { تَقُولُونَ } أو وصف لمصدر محذوف أي قولاً غير الحق { وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ } فلا تؤمنون بها { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } للحساب والجزاء { فرادى } منفردين بلا مال ولا معين وهو جمع فريد كأسير وأسارى { كَمَا خلقناكم } في محل النصب صفة لمصدر { جِئْتُمُونَا } أي مجيئاً مثل ما خلقناكم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } على الهيئات التي ولدتم عليها في الانفراد { وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم } ملكناكم { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } ولم تحتملوا منه نقيراً { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شركاوءا } في استعبادكم { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } بينكم وصلكم عن الزجاج والبين : الوصل والهجر قال
فوالله لولا البين لم يكن الهوى ... ولولا الهوى ما حن للبين الف
بَيْنِكُمْ } مدني وعلي وحفص أي وقع التقطع بينكم { وَضَلَّ عَنكُم } وضاع وبطل { مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنها شفعاؤكم عند الله .
{ إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى } بالنبات والشجر أي فلق الحب عن السنبلة والنواة عن النخلة ، والفلق : الشق ، وعن مجاهد : أراد الشقين اللذين في النواة والحنطة { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } النبات الغض النامي من الحب اليابس { وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } الحب اليابس من النبات النامي ، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان ، أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، فاحتج الله عليهم بما يشاهدونه من خلقه لأنهم أنكروا البعث فأعلمهم أنه الذي خلق هذه الأشياء فهو يقدر على بعثهم .

وإنما قال { وَمُخْرِجُ الميت } بلفظ اسم الفاعل لأنه معطوف على فالق الحب لا على الفعل { وَيُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } موقعه موقع الجملة المبينة لقوله { فَالِقُ الحب والنوى } لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان دليله قوله : { ويحيي الأرض بعد موتها } [ الروم : 19 ] . { ذلكم الله } ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية لا الأصنام { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف تصرفون عنه وعن تواليه إلى غيره بعد وضوح الأمر بما ذكرنا { فَالِقُ الإصباح } هو مصدر سمي به الصبح أي شاق عمود الصبح عن سواد الليل أو خالق نور النهار { وَجَعَلَ اليل } { وَجَعَلَ اليل } كوفي لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي ، فلما كان فالق بمعنى فلق عطف عليه { جَعَلَ } لتوافقهما معنى { سَكَناً } مسكوناً فيه من قوله { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ يونس : 67 ] أي ليسكن فيه الخلق عن كد المعيشة إلى نوم الغفلة ، أو عن وحشة الخلق إلى الأنس بالحق { والشمس والقمر } انتصبا بإضمار فعل يدل عليه جاعل الليل أي وجعل الشمس والقمر { حُسْبَاناً } أي جعلهما على حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما . والحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب { ذلك } إشارة إلى جعلهما حسباناً أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم { تَقْدِيرُ العزيز } الذي قهرهما وسخرهما { العليم } بتدبيرهما وتدويرهما { وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم } خلقها { لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظلمات البر والبحر } أي في ظلمات الليل بالبر وبالبحر ، وأضافها إليهما لملابستها لهما أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قد بينا الآيات الدالة على التوحيد لقوم يعلمون .
{ وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة } هي آدم عليه السلام { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } { فَمُسْتَقَر } بالكسر : مكي وبصري . فمن فتح القاف كان المستودع اسم مكان مثله ، ومن كسرها كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول يعني فلكم مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها ، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } وإنما قيل { يَعْلَمُونَ } ثم { يَفْقَهُونَ } هنا لأن الدلالة ثمّ أظهر وهنا أدق ، لأن إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة أدق فكان ذكر الفقه الدال على تدقيق النظر أوفق { وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً } من السحاب مطراً { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } بالماء { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } نبت كل صنف من أصناف النامي أي السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف مختلفة { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } من النبات { خَضِْرًا } أي شيئاً غضاً أخضر .

يقال أخضر وخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة { نُّخْرِجُ مِنْهُ } من الخضر { حَبّاً مُّتَرَاكِباً } وهو السنبل الذي تراكب حبه { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قنوان } هو رفع بالابتداء { وَمِنَ النخل } خبره و { مِن طَلْعِهَا } بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو وهو العذق نظيره «صنو» و «صنوان» . { دَانِيَةٌ } من المجتني لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها ، وفيه اكتفاء أي وغير دانية لطولها كقوله { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] { وجنات } بالنصب عطفاً على { نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ } أي وأخرجنا به جنات { مِّنْ أعناب } أي مع النخل وكذا { والزيتون والرمان } { وجنات } بالرفع : الأعشى أي وثم جنات من أعناب أي مع النخل { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه } يقال اشتبه الشيئان وتشابها نحو استويا وتساويا ، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً وتقديره : والزيتون متشابهاً وغير متشابه ، والرمان كذلك يعني بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفاً لا ينتفع به { وَيَنْعِهِ } ونضجه أي انظروا إلى حال نضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع ، نظر اعتبار واستدلال على قدرة مقدره ومدبره وناقله من حال إلى حال .
{ إِنَّ فِي ذلكم لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } { ثَمَرِهِ } وكذا ما بعده : حمزة وعلي جمع ثمار فهو جمع الجمع يقال : ثمرة وثمر وثمار وثمر .
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ الجن } إن جعلت { لِلَّهِ شُرَكَاءَ } مفعولي { جَعَلُواْ } كان { الجن } بدلاً من { شُرَكَاء } وإلا كان { شُرَكَاء الجن } مفعولين قدم ثانيهما على الأوّل ، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو غير ذلك ، والمعنى أنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله { وَخَلَقَهُمْ } أي وقد خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكاً لخالقه؟ والجملة حال ، أو وخلق الجاعلين لله شركاء فكيف يعبدون غيره؟ { وَخَرَقُواْ لَهُ } أي اختلقوا يقال : خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى ، أو هو من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له { بَنْيَنَ } كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير { وَبَنَاتٍ } كقول بعض العرب في الملائكة . { وَخَرَقُواْ } بالتشديد للتكثير : مدني لقوله { بَنِينَ وَبَنَاتٍ } { بِغَيْرِ عِلْمٍ } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوا من خطأ أو صواب ولكن رمياً بقول عن جهالة ، وهو حال من فاعل { خرقوا } أي جاهلين بما قالوا { سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ } من الشريك والولد { بَدِيعُ السماوات والأرض } يقال بدُع الشيء فهو بديع وهو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها يعني بديع سمواته وأرضه ، أو هو بمعنى المبدع أي مبدعها وهو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أو هو فاعل { تَعَالَى } { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة } أي من أين يكون له ولد والولد لا يكون إلا من صاحبة ولا صاحبة له ، ولأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون له ولد { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي ما من شيء إلا وهو خالقه وعالمه ومن كان كذلك كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج { ذلكم } إشارة إلى الوصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي { الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ } وقوله { فاعبدوه } مسبب عن مضمون الجملة أي من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه { وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي هو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأَرزاق والآجال رقيب على الأعمال { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } لا تحيط به أو أبصار من سبق ذكرهم .

وتشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب لأن المنفي هو الإدراك لا الرؤية ، والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده ، وما يستحيل عليه الحدود والجهات يستحيل إدراكه لا رؤيته ، فنزل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم ، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود لا يقتضي نفي العلم به فهكذا هذا ، على أن مورد الآية وهو التمدح يوجب ثبوت الرؤية إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدح فيه لأن كل ما لا يرى لا يدرك ، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات ، فكانت الآية حجة لنا عليهم . ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التقصي عن عهدتها ، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي أنه معلوم موجود وإلا فكما يعلم موجوداً بلا كيفية وجهة بخلاف كل موجود لم يجز أن يرى بلا كيفية وجهة بخلاف كل مرئي ، وهذا لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو ، فإن كان المرئي في الجهة يرى فيها وإن كان لا في الجهة يرى لا فيها { وَهُوَ } للطف إدراكه { يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف } أي العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها { الخبير } العليم بظواهر الأشياء وخفياتها وهو من قبيل اللف والنشر .

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

{ قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } البصيرة نور القلب الذي به يستبصر القلب كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي والتنبيه ما هو للقلوب كالبصائر { فَمَنْ أَبْصَرَ } الحق وآمن { فَلِنَفْسِهِ } أبصر وإياها نفع { وَمَنْ عَمِيَ } عنه وضل { فَعَلَيْهَا } فعلى نفسه عمى وإياها ضر بالعمى { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم . الكاف في { وكذلك نُصَرّفُ الآيات } في موضع نصب صفة المصدر المحذوف أي نصرف الآيات تصريفاً مثل ما تلونا عليك { وَلِيَقُولُواْ } جوابه محذوف أي وليقولوا { دَرَسْتَ } نصرفها ومعنى { دَرَسْتَ } قرأت كتب أهل الكتاب . { دارست } مكي وأبو عمرو أي دارست أهل الكتاب . { دَرَسْتَ } شامي أي قدمت هذه الآية ومضت كما { قالوا أساطير الأولين } { وَلِنُبَيِّنَهُ } أي القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً أو الآيات لأنها في معنى القرآن . قيل : اللام الثانية حقيقة ، والأولى لام العاقبة والصيرورة أي لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا درست وهو كقوله { فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وهم لم يلتقطوه للعداوة وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة ، فكذلك الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا درست ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين فشبه به . وقيل : ليقولوا كما قيل لنبينه وعندنا ليس كذلك لما عرف { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } الحق من الباطل { اتبع مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } ولا تتبع أهواءهم { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محل له من الإعراب أو حال { مِن رَبِّكَ } مؤكدة { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } في الحال إلى أن يرد الأمر بالقتال { وَلَوْ شَاءَ الله } أي إيمانهم فالمفعول محذوف { مَا أَشْرَكُواْ } بيّن أنهم لا يشركون على خلاف مشيئة الله ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم فأشركوا بمشيئته { وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } مراعياً لأعمالهم مأخوذاً بإجرامهم { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } بمسلط .
وكان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا عنه لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله بقوله :
{ وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله } منصوب على جواب النهي { عَدْوَاً } ظلماً وعدواناً { بِغَيْرِ عِلْمٍ } على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به { كذلك } مثل ذلك التزيين { زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } من أمم الكفار { عَمَلَهُمْ } وهو كقوله { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء }

[ فاطر : 8 ] وهو حجة لنا في الأصلح { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ } مصيرهم { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فيخبرهم بما عملوا ويجزيهم عليه { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } جهد مصدر وقع موقع الحال أي جاهدين في الإتيان بأوكد الأيمان { لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ } من مقترحاتهم { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } وهو قادر عليها لا عندي فكيف آتيكم بها { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } وما يدريكم { إنَّهَا } أن الآية المقترحة { إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بها يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تعلمون ذلك ، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله تعالى : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى إنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون { أَنَّهَا } بالكسر : مكي وبصري وأبو بكر على أن الكلام تم قبله أي وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة . ومنهم من جعل «لا» مزيدة في قراءة الفتح كقوله { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] . { لاَ تُؤْمِنُونَ } شامي وحمزة . { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ } عن قبول الحق { وأبصارهم } عن رؤية الحق عند نزول الآية التي اقترحوها فلا يؤمنون بها . قيل : هو عطف على { لاَ يُؤْمِنُونَ } داخل في حكم { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } أي وما يشعركم أنهم لا يؤمنون وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } كما كانوا عند نزول آياتنا أولا لا يؤمنون بها { وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قيل : وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم يعمهون يتحيرون .
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة } كما قالوا : لولا أنزل علينا الملائكة { وَكَلَّمَهُمُ الموتى } كما قالوا فأتوا بآبائنا { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ } جمعنا { كُلَّ شَيْء قُبُلاً } كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا جمع قبيل وهو الكفيل { قُبُلاً } مدني وشامي أي عياناً وكلاهما نصب على الحال { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } إيمانهم فيؤمنوا وهذا جواب لقول المؤمنين لعلهم يؤمنون بنزول الآية { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } أي هؤلاء لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية المقترحة .
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً } وكما جعلنا لك أعداء من المشركين جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء أعداء لما فيه من الابتلاء الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر وانتصب { شياطين الإنس والجن } على البدل من { عَدُوّا } أو على أنه من المفعول الأول و { عَدُوّا } مفعول ثانٍ { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وكذلك بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وعن مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً .

وقال عليه السلام « قرناء السوء شر من شياطين الجن » { زُخْرُفَ القول } ما زينوه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي { غُرُوراً } خدعاً وأخذاً على غرة وهو مفعول له { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أي الإيحاء يعني ولو شاء الله لمنع الشياطين من الوسوسة ولكنه امتحن بما يعلم أنه أجزل في الثواب { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } عليك وعلى الله فإن الله يخزيهم وينصرك ويجزيهم { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } ولتميل إلى زخرف القول قلوب الكفار وهي معطوفة على { غُرُوراً } أي ليغروا ولتصغي إليه { وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَاهُم مُّقْتَرِفُونَ } من الآثام { أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً } أي قل يا محمد أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل { وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب } المعجز { مُفَصَّلاً } حال من الكتاب أي مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء . ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له بقوله { والذين ءاتيناهم الكتاب } أي عبد الله بن سلام وأصحابه { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ } شامي وحفص { مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } الشاكين فيه أيها السامع ، أو فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق ولا يَرِبْكَ جحود أكثرهم وكفرهم به .

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } أي ما تكلم به . { كلمات رَبّكَ } حجازي وشامي وأبو عمرو أي تم كل ما أخبر به وأمر ونهي ووعد وأوعد { صِدْقاً } في وعده ووعيده { وَعَدْلاً } في أمره ونهيه . وانتصبا على التمييز أو على الحال { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } لا أحد يبدل شيئاً من ذلك { وَهُوَ السميع } لإقرار من أقر { العليم } بإصرار من أصر أو السميع لما يقولون العليم بما يضمرون .
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض } أي الكفار لأنهم الأكثرون { يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } دينه { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يكذبون في أن الله حرم عليهم كذا وأحل لهم كذا { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } أي هو يعلم الكفار والمؤمنين . من رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام والخبر { يَضِلُّ } وموضع الجملة نصب ب «يعلم» المقدر لا ب { أَعْلَمُ } لأن أفعل لا يعمل في الاسم الظاهر النصب ويعمل الجر . وقيل : تقديره أعلم بمن يضل بدليل ظهور الباء بعده في بالمهتدين { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُم بئاياته مُّؤْمِنِينَ } هو مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم . فقيل للمسلمين : إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة أي على ذبحه دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ } «ما» استفهام في موضع رفع بالابتداء و { لَكُمْ } الخبر أي وأي غرض لكم في أن لا تأكلوا { مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } بين لكم { مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } مما لم يحرم بقوله { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] { فَصْلٌ } و { حَرَّمَ } كوفي غير حفص وبفتحهما مدني وحفص وبضمهما غيرهم { إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ } مما حرم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة أي شدة المجاعة إلى أكله { وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ } { ليضلون } كوفي { بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي يضلون فيحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم من غير تعلق بشريعة { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } بالمتجاوزين من الحق إلى الباطل .
{ وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } علانيته وسره أو الزنا في الحوانيت والصديقة في السر أو الشرك الجلي والخفي { إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ } يوم القيامة { بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } يكتسبون في الدنيا { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } عند الذبح { وَأَنَّهُ } وإن أكله { لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ } ليوسوسون { إلى أَوْلِيَائِهِمْ } من المشركين { ليجادلوكم } بقولهم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تذبحون بأيديكم ، والآية تحرم متروك التسمية وخصت حالة النسيان بالحديث أو بجعل الناسي ذاكراً تقديراً { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في استحلال ما حرمه الله { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } لأن من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به ، ومن حق المتدين أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لما في الآية من التشديد العظيم .

ومن أوّل الآية بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه لقوله { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } وقال : إن الواو في { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } للحال لأن عطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يحسن فيكون التقدير : ولا تأكلوا منه حال كونه فسقاً والفسق مجمل فبين بقوله { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } فصار التقدير ولا تأكلوا منه حال كونه مهلاً لغير الله به فيكون ما سواه حلالاً بالعمومات المحلة منها قوله { قُل لا أَجِدُ } أي كافراً فهديناه لأن الإيمان حياة القلوب { مَيْتًا } مدني { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس } مستضيئاً به والمراد به اليقين { كَمَن مَّثَلُهُ } أي صفته { فِي الظلمات } أي خابط فيها { لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } لا يفارقها ولا يتخلص منها وهو حال . قيل : المراد بهما حمزة وأبو جهل . والأصح أن الآية عامة لكل من هداه الله ولكل من أضله الله ، فبين أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أحيي وجعل مستضيّئاً يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان ، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات التي لا يتخلص منها { كذلك } أي كما زين للمؤمن إيمانه { زُيّنَ للكافرين } بتزيين الله تعالى كقوله { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم } [ النمل : 4 ] { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي أعمالهم .
{ وكذلك } أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا الناس فيها { جَعَلْنَا } صيرنا { فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي . واللام على ظاهرها عند أهل السنة وليست بلام العاقبة ، وخص الأكابر وهم الرؤساء لأن ما فيهم من الرياسة والسعة أدعى لهم إلى المكر والكفر من غيرهم ، دليله { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } [ الشورى : 27 ] ثم سلى رسوله عليه السلام ووعد له النصرة بقوله { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } لأن مكرهم يحيق بهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } أنه يحيق بهم { أكابر } مفعول أول والثاني { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } و { مُجْرِمِيهَا } بدل من { أكابر } أو الأول { مُجْرِمِيهَا } والثاني { أكابر } والتقدير : مجرميها أكابر .

ولما قال أبو جهل : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحي إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، نزل { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ } أي الأكابر { ءَايَةً } معجزة أو آية من القرآن بالإيمان { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله } أي نعطي من الآيات مثل ما أعطي الأنبياء فأعلم الله تعالى أنه أعلم بمن يصلح للنبوة فقال تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } مكي وحفص { رسالاته } : غيرهما { حَيْثُ } مفعول به والعامل محذوف والتقدير يعلم موضع رسالته .
{ سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ } من أكابرها { صَغَارٌ } ذل وهو إن { عَندَ الله } في القيامة { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدارين من القتل والأسر وعذاب النار { بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } في الدنيا { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } يوسعه وينور قلبه . قال عليه السلام « إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح » قيل وما علامة ذلك قال « الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت » { وَمَن يُرِدِ } أي الله { أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً } { ضَيقاً } مكي { حَرَجاً } { حَرِجاً } صفة ل { ضَيّقاً } مدني وأبو بكر بالغافي الضيق { حَرَجاً } غيرهما وصفاً بالمصدر { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء } كأنه كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه إذا ضاقت عليه الأرض ، فطلب مصعداً في السماء أو كعازب الرأي طائر القلب في الهواء { يَصْعَدُ } مكي { يصّاعد } أبو بكر وأصله يتصاعد الباقون { إِلَيْهِ يَصّعّد } وأصله يتصعد { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس } العذاب في الآخرة واللعنة في الدنيا { عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } والآية حجة لنا على المعتزلة في إرادة المعاصي { وهذا صراط رَبِّكَ } أي طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنته في شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيقاً لمن أراد ضلاله { مُّسْتَقِيماً } عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يتعظون .
{ لَهُمْ } أي لقوم يذكرون { دَارُ السلام } دار الله يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها ، أو دار السلامة من كل آفة وكدر ، أو السلام التحية سميت دار السلام لقوله : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } [ يونس : 10 ] . { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } [ الواقعة : 26 ] { عِندَ رَبِّهِمْ } في ضمانة { وَهُوَ وَلِيُّهُم } محبهم أو ناصرهم على أعدائهم { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بأعمالهم أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون أو هو ولينا في الدنيا بتوفيق الأعمال وفي العقبى بتحقيق الآمال .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } وبالياء حفص أي واذكر يوم نحشرهم أو ويوم نحشرهم قلنا { جَمِيعًا يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس } أضللتم منهم كثيراً وجعلتموهم أتباعكم كما تقول استكثر الأمير من الجنود { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس } الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها ، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في أغوائهم { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا } يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى ، والتكذيب بالبعث وتحسر على حالهم { قَالَ النار مَثْوَاكُمْ } منزلكم { خالدين فِيهَا } حال والعامل معنى الاضافة كقوله تعالى { أَنَّ دَابِرَ هؤلاءآء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] ف { مُّصْبِحِينَ } حال من هؤلاء والعامل في الحال معنى الاضافة إذ معناه الممازجة والمضامّة والمثوى ليس بعامل لأن المكان لا يعمل في شيء { إِلاَّ مَا شَاءَ الله } أي يخلّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء اللّه إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب السعير إلى عذاب الزمهرير { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } فيما يفعل بأوليائه وأعدائه { عَلِيمٌ } بأعمالهم فيجزي كلاً على وفق عمله { وكذلك نُوَلّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } نتبع بعضهم بعضاً في النار ، أو نسلط بعضهم على بعض أو نجعل بعضهم أولياء بعض { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي ، ثم يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ { يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } عن الضحاك : بعث إلى الجن رسلا منهم كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم لأنهم بهم آنس وعليه ظاهر النص ، وقال آخرون : الرسل من الإنس خاصة وإنما قيل { رُسُلٌ مّنكُمْ } لأنه لما جمع الثقلين في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] أو رسلهم رسل نبينا كقوله { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتي } يقرءون كتبي { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا } يعني يوم القيامة { قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } بوجوب الحجة علينا وتبليغ الرسل إلينا { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين } بالرسل .
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون } تعليل أي الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم على أن «أن» مصدرية ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، والمعنى لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم بسبب ظلم أقدموا عليه أو ظالماً ، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب لكان ظالماً وهو متعال عنه { وَلِكُلٍّ } من المكلفين { درجات } منازل { مّمَّا عَمِلُواْ } من جزاء أعمالهم ، وبه استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على أن للجن الثواب بالطاعة لأنه ذكر عقيب ذكر الثقلين { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } بساه عنه وبالتاء شامي .

{ وَرَبُّكَ الغني } عن عباده وعن عبادتهم { ذُو الرحمة } عليهم بالتكليف ليعرِّضهم للمنافع الدائمة { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أيها الظلمة { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ } من الخلق المطيع { كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام { إِنَّ مَا } ما بمعنى الذي { تُوعَدُونَ } من البعث والحساب والثواب والعقاب { لآتٍ } خبر «إن» أي لكائن { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين رد لقولهم من مات فقد فات . المكانة تكون مصدراً يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن ، وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة وقوله { قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، ويقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله : على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه { إِنّي عامل } على مكانتي التي أنا عليها أي اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم وهو أمر تهديد ووعيد ، دليله قوله { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار } أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة ، وهذا طريق لطيف في الإنذار { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } أي الكافرون { مكاناتكم } حيث كان : أبو بكر { يَكُونَ } حمزة وعلي . وموضع { منْ } رفع إذا كان بمعنى «أي» وعلق عنه فعل العلم ، أو نصب إذا كان بمعنى الذي { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } أي وللأصنام نصيباً فاكتفى بدلالة قوله تعالى { فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنَا } { يزعمهم } علي . وكذا ما بعده أي زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة { لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله } أي لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين { وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ } من إنفاقهم عليها والإجراء على سدنتها . رُوي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله وأشياء منهما لآلهتهم ، فإذا رأوا ما جعلوا لله زاكياً نامياً رجعوا فجعلوه للأصنام ، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها وقالوا : إن الله غني ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها . وفي قوله { مِمَّا ذَرَأَ } إشارة إلى أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه .

ثم ذم صنيعهم بقوله { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } في إيثار آلهتهم على الله وعملهم على ما لم يشرع لهم . وموضع «ما» رفع أي ساء الحكم . حكمهم بأو نصب أي ساء حكماً حكمهم .
{ وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين } أي كما زين لهم تجزئة المال زين وأد البنات { قَتْلَ } هو مفعول زين { أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ } هو فاعل زين ، { زُيِّنَ } بالضم { قَتْلَ } بالرفع { أولادهم } بالنصب { شُرَكَائِهِمْ } بالجر : شامي على إضافة القتل إلى الشركاء أي الشياطين والفصل بينهما بغير الظرف وهو المفعول وتقديره : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم { لِيُرْدُوهُمْ } ليهلكوهم بالإغواء { وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } وليخلطوا عليهم ويشوبوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك { وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ } وفيه دليل على أن الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } وما يفترونه من الإفك ، أو وافتراءهم لأن ضرر ذلك الافتراء عليهم لا عليك ولا علينا { وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ } للأوثان { حِجْرٍ } حرام فعل بمعنى المفعول كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ، وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا { لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ } يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء ، والزعم قول بالظن يشوبه الكذب { وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } هي البحائر والسوائب والحوامي { وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا } حالة الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام { افتراء عَلَيْهِ } هو مفعول له أو حال أي قسموا أنعامهم قسم حجر ، وقسم لا يركب ، وقسم لا يذكر اسم الله عليها ونسبوا ذلك إلى الله افتراء عليه { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وعيد { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب : ما ولد منها حياً فهو خالص للذكور لا يأكل منه الإناث ، وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث . وأنث { خَالِصَةٌ } وهو خبر «ما» للحمل على المعنى لأن «ما» في معنى الأجنة ، وذكر { وَمُحَرَّمٌ } حملاً على اللفظ أو التاء للمبالغة كنسابة { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } أي وإن يكن ما في بطونها ميتة . { وَأَنْ تَكُنْ مَيْتَةً } أبو بكر أي وإن تكن الأجنة ميتة ، { وَإِنْ تَكُنْ مَيْتَةً } شامي على «كان» التامة ، { يَكُن مَّيْتَةً } مكي لتقدم الفعل . وتذكير الضمير في { فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ } لأن الميتة اسم لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل : وإن يكن ميت فهم فيه شركاء { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } جزاء وصفهم الكذب على الله في التحريم { إِنَّهُ حَكِيمٌ } في جزائهم { عَلِيمٌ } باعتقادهم { قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم } كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر { قَتَّلُواْ } مكي وشامي { سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم لاهم { وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله } من البحائر والسوائب وغيرها { افتراء عَلَى الله } مفعول له { قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } إلى الصواب .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

{ وَهُوَ الذي أَنشَأَ } خلق { جنات } من الكروم { معروشات } مسموكات مرفوعات { وَغَيْرَ معروشات } متروكات على وجه الأرض لم تعرش ، يقال عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان { والنخل والزرع مُخْتَلِفًا } في اللون والطعم والحجم والرائحة ، وهو حال مقدرة لأن النخل وقت خروجه لا أكل فيه حتى يكون مختلفاً وهو كقوله { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] { أَكُلُهُ } { أَكْله } حجازي وهو ثمره الذي يؤكل ، والضمير للنخل ، والزرع داخل في حكمه لأنه معطوف عليه ، أو لكل واحد { والزيتون والرمان متشابها } في اللون { وَغَيْرَ متشابه } في الطعم { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } من ثمر كل واحد ، وفائدة { إِذَا أَثْمَرَ } أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك { وَءَاتُواْ حَقَّهُ } عشره وهو حجة أبي حنيفة رحمه الله في تعميم العشر { يَوْمَ حَصَادِهِ } بصري وشامي وعاصم ، وبكسر الحاء غيرهم . وهما لغتان { وَلاَ تُسْرِفُواْ } بإعطاء الكل وتضييع العيال . وقوله { كُلُواْ } إلى { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } اعتراض { وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا } عطف على { جنات } أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح ، أو الحمولة الكبار التي تصلح للحمل والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي ما أحل الله لكم منها ولا تحرموها كما في الجاهلية } { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } طرقه في التحليل والتحريم كفعل أهل الجاهلية { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } فاتهموه على دينكم { ثمانية أزواج } بدل من { حَمُولَةً وَفَرْشًا } { مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } زوجين اثنين يريد الذكر والأنثى ، والواحد إذا كان وحده فهو فرد ، وإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً وهما زوجان بدليل قوله { خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] ويدل عليه قوله { ثمانية أزواج } ثم فسرها بقوله { مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } والضأن والمعز جمع ضائن وماعز كتاجر وتجر . وفتح عين المعز : مكي وشامي وأبو عمرو وهما لغتان .
والهمزة في { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين } للإنكار . والمراد بالذكرين الذكر من الضأن والذكر من المعز ، وبالأنثيين الأنثى من الضأن والأنثى من المعز والمعنى إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما تحمل الإناث ، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكورة الأنعام تارة وإناثها طوراً وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة تارة ، وكانوا يقولون : قد حرمها الله فأنكر ذلك عليهم .

وانتصب { آلذكرين } ب { حَرَّمَ } وكذا { أَمِ الأنثيين } أي أم حرم الأنثيين وكذا «ما» في { أَمَّا اشتملت } { نَبّئُونِي بِعِلْمٍ } أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم { إِن كُنتُمْ صادقين } في أن الله حرمه .
{ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ } منهما { حَرَّمَ أَمِ الأنثيين } منهما { أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين } أم ما تحمل إناثها { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ } «أم» منقطعة أي بل أكنتم شهداء { إِذْ وصاكم الله بهذا } يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم . ولما كانوا لا يؤمنون برسول الله وهم يقولون الله حرم هذا الذي نحرمه تهكم بهم في قوله { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ } على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فنسب إليه تحريم ما لم يحرم { لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي الذين في علمه أنهم يختمون على الكفر . ووقع الفاصل بين بعض المعدود وبعضه اعتراضاً غير أجنبي من المعدود ، وذلك أن الله تعالى مَنَّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم ، فالاعتراض بالاحتجاج على من حرمها يكون تأكيداً للتحليل ، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد .
{ قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ } أي في ذلك الوقت أو في وحي القرآن لأن وحي السنة قد حرم غيره ، أو من الأنعام لأن الآية في رد البحيرة وأخواتها . وأما الموقوذة والمتردية والنطيحة فمن الميتة ، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يثبت بوحي الله وشرعه لا يهوى الأنفس { مُحَرَّمًا } حيواناً حرم أكله { على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } على آكل يأكله { إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة { أَن تَكُونَ } مكي وشامي وحمزة { مَيْتَةً } شامي { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } مصبوباً سائلاً فلا يحرم الدم الذي في اللحم والكبد والطحال { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } نجس { أَوْ فِسْقًا } عطف على المنصوب قبله . وقوله { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه { أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } منصوب المحل صفة ل { فِسْقًا } أي رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله ، وسمي بالفسق لتوغله في باب الفسق { فَمَنِ اضطر } فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات { غَيْرَ بَاغٍ } على مضطر مثله تارك لمواساته { وَلاَ عَادٍ } متجاوز قدر حاجته من تناوله { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يؤاخذه { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } أي ماله أصبع من دابة أو طائر ويدخل فيه الإبل والنعام { وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } أي حرمنا عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه ، ولم يحرم من البقر والغنم إلا الشحوم وهي الثروب وشحوم الكلى { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السَّحفة { أَوِ الحوايا } أو ما اشتمل على الأمعاء واحدها حاوياء أو حوية { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } وهو الألية أو المخ { ذلك } مفعول ثان لقوله { جزيناهم } والتقدير جزيناهم ذلك { بِبَغْيِهِمْ } بسبب ظلمهم { وِإِنَّا لصادقون } فيما أخبرنا به وكيف نشكر من سبب معصيتهم لتحريم الحلال ومعصية سالفنا لتحليل الحرام حيث قال :

{ وعفا عنكم فالآن باشروهن { } [ البقرة : 187 ] { فَإِن كَذَّبُوكَ } فيما أوحيت إليك من هذا { فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة } بها يمهل المكذبين ولا يعاجلهم بالعقوبة { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } عذابه مع سعة رحمته { عَنِ القوم المجرمين } إذا جاء فلا تغتر بسعة رحمته عن خوف نقمته .

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)

{ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } إخبار بما سوف يقولونه { لَوْ شَآءَ الله } أن لا نشرك { مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ولكن شاء فهذا عذرنا ، يعنون أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله لهم بمشيئته ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي كتكذيبهم إياك . كان تكذيب المتقدمين رسلهم وتشبثوا بمثل هذا فلم ينفعهم ذلك إذ لم يقولوه عن اعتقاد بل قالوا ذلك استهزاء ، ولأنهم جعلوا مشيئته حجة لهم على أنهم معذورون به وهذا مردود لا الإقرار بالمشيئة ، أو معنى المشيئة هنا الرضا كما قال الحسن : أي رضي الله منا ومن آبائنا الشرك والشرك مراد لكنه غير مرضي ، ألا ترى أنه قال { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أخبر أنه لو شاء منهم الهدى لآمن كلهم ولكن لم يشأ من الكل الإيمان بل شاء من البعض الإيمان ومن البعض الكفر ، فيجب حمل المشيئة هنا على ما ذكرناه دفعاً للتناقض { حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } حتى أنزلنا عليهم العذاب { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ } من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } فتظهروه { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } تكذبون { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } عليكم بأوامره ونواهيه ولا حجة لكم على الله بمشيئته { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي فلو شاء هدايتكم وبه تبطل صولة المعتزلة { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ } هاتوا شهداءكم وقربوهم ، ويستوي في هذه الكلمة الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين ، وبنو تميم تؤنث وتجمع { الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا } أي ما زعموه محرماً { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم فكان واحداً منهم { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا } من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن من كذب بآيات الله فهو متبع للهوى إذ لو تبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } هم المشركون { وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } يسوون الأصنام .
{ قُلْ } للذين حرموا الحرث والأنعام { تَعَالَوْاْ } هو من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقول : من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر حتى عم { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } الذي حرمه ربكم { عَلَيْكُمْ } من صلة حرم { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } «أن» مفسرة لفعل التلاوة و «لا» للنهي { وبالوالدين إِحْسَانًا } وأحسنوا بالوالدين إحساناً . ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ذكر في المحرمات وكذا حكم ما بعده من الأوامر { وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مِّنْ إملاق } من أجل فقر ومن خشيته كقوله

{ خَشْيَةَ إملاق } [ الإسراء : 31 ] { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأن رزق العبيد على مولاهم { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ما بينك وبين الخلق { وَمَا بَطَنَ } ما بينك وبين الله ، ما ظهر بدل من الفواحش { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } كالقصاص والقتل على الردة والرجم { ذلكم وصاكم بِهِ } أي المذكور مفصلاً أمركم ربكم بحفظه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لتعقلوا عظمها عند الله { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } إلا بالخصلة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أشده مبلغ حلمه فادفعوه إليه وواحده شد كفلس وأفلس { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط } بالسوية والعدل { لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلا ما يسعها ولا تعجز عنه ، وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك لأن مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما فيه حرج فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } فاصدقوا { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل كقوله { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] { وَبِعَهْدِ الله } يوم الميثاق أو في الأمر والنهي والوعد والوعيد والنذر واليمين { أَوْفُواْ ذلكم } أي ما مر { وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف حيث كان : حمزة وعلي وحفص على حذف إحدى التاءين . غيرهم بالتشديد أصله «تتذكرون» فأدغم التاء الثانية في الذال أي أمركم به لتتعظوا .
{ وَأَنَّ هذا صراطي } ولأن هذا صراطي فهو علة الاتباع بتقدير اللام ، { وَأَنْ } بالتخفيف شامي ، وأصله وأنه على أن الهاء ضمير الشأن والحديث . { وَإنْ } على الابتداء : حمزة وعلي { مُّسْتَقِيماً } حال { فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فتفرقكم أيادي سبأ عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستوياً ثم قال " هذا سبيل الرشد وصراط الله فاتبعوه " ثم خط على كل جانب ستة خطوط ممالة ثم قال " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه فاجتنبوها " وتلا هذه الآية . ثم يصير كل واحد من الاثني عشر طريقاً ستة طرق فتكون اثنين وسبعين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب . وعن كعب : إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة { ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لتكونوا على رجاء إصابة التقوى .

ذكر أولاً { تَعْقِلُونَ } ثم { تَذَكَّرُونَ } ثم { تَتَّقُونَ } لأنهم إذا عقلوا تفكروا ثم تذكروا أي اتعظوا فاتقوا المحارم { ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا } أي ثم أخبركم إنا آتينا أو هو عطف على { قُلْ } أي ثم قل آتينا ، و «ثم» مع الجملة تأتي بمعنى الواو كقوله { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] { عَلَى الذي أَحْسَنَ } على من كان محسناً صالحاً يريد جنس المحسنين دليله قراءة عبد الله { عَلَى الذين أَحْسَنُواْ } أو أراد به موسى عليه السلام أي تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ في كل ما أمر به { وَتَفْصِيلاً لّكُلِّ شَيْءٍ } وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاجون إليه في دينهم { وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم } أي بني إسرائيل { بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يصدقون أي بالبعث والحساب وبالرؤية .
{ وهذا } أي القرآن { كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ } كثير الخير { فاتبعوه واتقوا } مخالفته { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لترحموا { أَن تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا { إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } أي أهل التوراة وأهل الإنجيل ، وهذا دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ } عن تلاوة كتبهم { لغافلين } لا علم لنا بشيء من ذلك «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والأصل : وإنه كنا عن دراستهم غافلين على أن الهاء ضمير الشأن ، والخطاب لأهل مكة والمراد إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كيلا يقولوا يوم القيامة : إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما { أَوْ تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا وغزارة حفظنا لأيام العرب { فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبِّكُمْ } أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم فقد جاءكم ما فيه البيان الساطع والبرهان القاطع ، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله } بعدما عرف صحتها وصدقها { وَصَدَفَ عَنْهَا } أعرض { سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنَا سُوءَ العذاب } وهو النهاية في النكاية { بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } بإعراضهم .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما يعتقدون من الضلالة فما ينتظرون في ترك الضلالة بعدها { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم { يَأْتِيهِمُ } حمزة وعلي { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } أي أمر ربك وهو العذاب أو القيامة ، وهذا لأن الإتيان متشابه وإتيان أمره منصوص عليه محكم فيرد إليه { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ } أي أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءايات رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } لأنه ليس بإيمان اختياري بل هو إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم { لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ } صفة { نَفْساً } { أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْرًا } أي إخلاصاً كما لا يقبل إيمان الكافر بعد طلوع الشمس من مغربها لا يقبل إخلاص المنافق أيضاً أو توبته وتقديره : لا ينفع إيمان من لم يؤمن ولا توبة من لم يتب قبل { قُلِ انتظروا } إحدى الآيات الثلاث { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } بكم إحداها .
{ إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } اختلفوا فيه وساروا فرقاً كما اختلفت اليهود والنصارى وفي الحديث " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية وإلا واحدة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي السواد الأعظم " وفي رواية " وهي ما أنا عليه وأصحابي " وقيل : فرقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض . { فارقوا دِينَهُمُ } حمزة وعلي أي تركوا { وَكَانُواْ شِيَعاً } فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم أو من عقابهم { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } فيجازيهم على ذلك { مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } تقديره عشر حسنات أمثالها إلا أنه أقيم صفة الجنس المميزة مقام الموصوف { وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بنقص الثواب وزيادة العقاب { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبّي } { رَبّي } أبو عمرو ومدني { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ دِينًا } نصب على البدل من محل { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } لأن معناه هداني صراطاً بدليل قوله { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 20 ] ( قِيِّماً ) «قيما» فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم { قَيِّماً } كوفي وشامي وهو مصدر بمعنى القيام وصف به { مِلَّةِ إبراهيم } عطف بيان { حَنِيفاً } حال من { إِبْرَاهِيمَ } { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } بالله يا معشر قريش .
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي } أي عبادتي ، والناسك العابد أو ذبحي أو حجي { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } وما أتيته في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل { للَّهِ رَبِّ العالمين } خالصة لوجهه .

{ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } بسكون الياء الأول وفتح الثاني : مدني . وبعكسه غيره { لاَ شَرِيكَ لَهُ } في شيء من ذلك { وبذلك } الإخلاص { أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } لأن إسلام كل نبيٍ متقدم على إسلام أمته .
{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً } جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم . والهمزة للإنكار أي منكر أن أطلب رباً غيره ، وتقديم المفعول للإشعار بأنه أهم { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } وكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } جواب عن قولهم { اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي لا تأخذ نفس آثمة بذنب نفس أخرى { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الأديان التي فرقتموها { وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف الأرض } لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فأمته قد خلفت سائر الأمم ، أو لأن بعضهم يخلف بعضاً أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ } في الشرف والرزق وغير ذلك { درجات } مفعول ثانٍ ، أو التقدير إلى درجات ، أو هي واقعة موضع المصدر كأنه قيل رفعة بعد رفعة { لّيَبْلُوَكُمْ فِى ما آتاكم } فيما أعطاكم من نعمة الجاه والمال كيف تشكرون تلك النعمة وكيف يصنع الشريف بالوضيع والغني بالفقير والمالك بالمملوك { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب } لمن كفر { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن قام بشكرها ، ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آتٍ قريب { وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم « من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام حين يصبح وكل الله تعالى به سبعين ألف ملك يحفظونه وكتب له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة » .

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

{ المص } قال الزجاج : المختار في تفسيره ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا الله أعلم وأفصل { كِتَابٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب { أُنزِلَ إِلَيْكَ } صفته والمراد بالكتاب السورة { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } شك فيه ، وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرجه كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه أي لا شك في أنه منزل من الله أو حرج منه بتبليغه لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم ، فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينشط له فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم ، والنهي متوجه إلى الحرج وفيه من المبالغة ما فيه ، والفاء للعطف أي هذا الكتاب أنزلناه إليك فلا يكن بعد إنزاله حرج في صدرك . واللام في { لِتُنذِرَ بِهِ } متعلق ب { أُنزِلَ } أي أنزل إليك لإنذارك به ، أو بالنهي ولأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذا إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه { وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } في محل النصب بإضمار فعلها أي لتنذر به وتذكر تذكيراً ، فالذكرى اسم بمعنى التذكير ، أو الرفع بالعطف على { كِتَابٌ } أي هو كتاب وذكرى للمؤمنين ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو الجر بالعطف على محل { لّتُنذِرَ } أي للإنذار وللذكرى { اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } أي القرآن والسنة { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ } من دون الله { أَوْلِيَاء } أي ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره و { قَلِيلاً } نصب ب { تَذَكَّرُونَ } أي تذكرون تذكراً قليلاً . و «ما» مزيدة لتوكيد القلة { تَتَذَكَّرُونَ } شامي .
{ وَكَمْ } مبتدأ { مِن قَرْيَةٍ } تبيين والخبر { أهلكناها } أي أردنا إهلاكها كقوله { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] { فَجَاءهَا } جاء أهلها { بَأْسَنَا } عذابنا { بَيَاتًا } مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين ، يقال بات بياتاً حسناً { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } حال معطوفة على { بَيَاتًا } كأنه قيل : فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين . وإنما قيل { هُمْ قَائِلُونَ } بلا «واو» ولا يقال «جاءني زيد هو فارس» بغير واو ، لأنه لما عطف على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً لاجتماع حرفي عطف ، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل . وخص هذان الوقتان لأنهما وقتا الغفلة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع . وقوم لوط عليه السلام أهلكوا بالليل وقت السحر ، وقوم شعيب عليه السلام وقت القيلولة . وقيل { بَيَاتًا } ليلاً أي ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } دعاؤهم وتضرعهم { إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا } لما جاءهم أوائل العذاب { إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } اعترفوا بالظلم على أنفسهم والشرك حين لم ينفعهم ذلك .

و { دَعْوَاهُمْ } اسم «كان» و { أَن قَالُواْ } الخبر ويجوز العكس { فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } أرسل مسند إلى إليهم أي فلنسألن المرسل إليهم وهم الأمم عما أجابوا به رسلهم { وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين } عما أجيبوا به { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم } على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بِعِلْمِ } عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عنهم وعما وجد منهم ومعنى السؤال التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم { والوزن } أي وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها وهو مبتدأ وخبره { يَوْمَئِذٍ } أي يوم يسأل الله الأمم ورسلهم فحذفت الجملة وعوض عنها التنوين { الحق } أي العدل صفته ثم قيل توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان إظهاراً للنصفة وقطعاً للمعذرة . وقيل : هو عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل ، والله أعلم بكيفيته { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } جمع ميزان أو موزون أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات أو ما توزن به حسناتهم { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الفائزون { وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } هم الكفار فإنه لا إيمان لهم ليعتبر معه عمل فلا يكون في ميزانهم خير فتخف موازينهم { فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ } يجحدون فالآيات الحجج والظلم بها وضعها في غير موضعها أي جحودها وترك الانقياد لها .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

{ وَلَقَدْ مكناكم فِى الأرض } جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ، أو مكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما . والوجه تصريح الياء لأنها أصلية بخلاف صحائف فالياء فيها زائدة ، وعن نافع أنه همز تشبيهاً بصحائف { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } مثل { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الحاقة : 42 ] .
{ وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } أي خلقنا أباكم آدم عليه السلام طيناً غير مصور ثم صورناه بعد ذلك دليله { ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين } ممن سجد لآدم عليه السلام { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } «ما» رفع أيْ أيّ شيء منعك من السجود؟ «ولا» زائدة بدليل { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ ص : 75 ] ومثلها { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم { إِذْ أَمَرْتُكَ } فيه دليل على أن الأمر للوجوب ، والسؤال عن المانع من السجود مع علمه به للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } وهي جوهر نوراني { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } وهو ظلماني وقد أخطأ الخبيث بل الطين أفضل لرزانته ووقاره ومنه الحلم والحياء والصبر وذلك دعاه إلى التوبة والاستغفار ، وفي النار الطيش والحدة والترفع وذلك دعاه إلى الاستكبار . والتراب عمدة الممالك ، والنار عدة المهالك . والنار مظنة الخيانة والإفناء ، والتراب مئنة الأمانة والإنماء ، والطين يطفيء النار ويتلفها ، والنار لا تتلفه . وهذه فضائل غفل عنها إبليس حتى زل بفاسد من المقاييس . وقولنا في القياس أول من قاس إبليس قياس . على أن القياس عند مثبته مردود عند وجود النصوص وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص . وكان الجواب ل { مَا مَنَعَكَ } أن يقول «منعني كذا» وإنما قال { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } لأنه قد استأنف قصة وأخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم عليه السلام وبعلة فضله عليه فعلم منها الجواب كأنه قال : منعني من السجود فضلي عليه ، وزيادة عليه وهي إنكار الأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله ، إذ سجود الفاضل للمفضول خارج عن الصواب { قَالَ فاهبط مِنْهَا } من الجنة أو من السماء لأنه كان فيها وهي مكان المطيعين والمتواضعين . والفاء في { فاهبط } جواب لقوله { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } أي إن كنت تتكبر فاهبط { فَمَا يَكُونُ لَكَ } فما يصح لك { أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } وتعصي { فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين } من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه ، يذمك كل إنسان ويلعنك كل لسان لتكبرك ، وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار { قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أمهلني إلى يوم البعث وهو وقت النفخة الأخيرة { قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين } إلى النفخة الأولى .

وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء ، وفيه تقريب لقلوب الأحباب أي هذا بريء بمن يسيئني فكيف بمن يحبني وإنما جسره على السؤال مع وجود الزلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال .
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } أضللتني أي فبسبب إغوائك إياي . والباء تتعلق بفعل القسم المحذوف تقديره فسبب إغوائك أقسم ، أو تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } لأعترضن لهم على طريق الإسلام مترصداً للرد متعرضاً للصد كما يتعرض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة . وانتصابه على الظرف كقولك «ضرب زيد الظهر» أي على الظهر . وعن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل قدري فقال له طاوس : تقوم أو تقام . فقام الرجل فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال : إبليس أفقه منه { قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } وهو يقول أنا أغوي نفسي .
{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في الآخرة { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في الدنيا { وَعَنْ أيمانهم } من قبل الحسنات { وَعَن شَمَائِلِهِمْ } من قبل السيئات وهو جمع شمال يعني ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الأغلب . وعن شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد : من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فاقرأ { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا } [ طه : 82 ] . ومن خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي فاقرأ { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] وعن يميني فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] وعن شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة ، وقال في الأولين «من» لابتداء الغاية وفي الأخيرين «عن» لأن «عن» تدل على الانحراف { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } مؤمنين قاله ظناً فأصاب لقوله { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] أو سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى إياهم .
{ قَالَ اخرج مِنْهَا } من الجنة أو من السماء { مَذْءومًا } معيباً من ذأمه إذا ذمه والذأم والذم العيب { مَّدْحُورًا } مطروداً مبعداً من رحمة الله . واللام في { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } موطئة للقسم وجوابه { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } وهو ساد مسد جواب الشرط { مّنكُمْ } منك ومنهم فغلب ضمير المخاطب { أَجْمَعِينَ وَيا ءَادَمَ } وقلنا يا آدم بعد إخراج إبليس من الجنة { اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } اتخذها مسكناً { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا } فتصيرا { مِنَ الظالمين فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } وسوس إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره وهو غير متئد ، ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ولكن موسوس له وموسوس إليه وهو الذي يلقي إليه الوسوسة .

ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا } ليكشف لهما ما ستر عنهما من عوراتهما . وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنه لم يزل مستقبحاً في الطباع والعقول . فإن قلت : ما للواو المضمومة في { ووري } لم تقلب همزة كما في «أو يصل» تصغير واصل وأصله «وويصل» فقلبت الواو همزة كراهة لاجتماع الواوين؟ قلت : لأن الثانية مدة كألف «وارى» فكما لم يجب همزها في «واعد» لم يجب في { وورى } وهذا لأن الواوين إذا تحركتا ظهر فيهما من الثقل ما لا يكون فيهما إذا كانت الثانية ساكنة ، وهذا مدرك بالضرورة فالتزموا إبدالها في موضع الثقل لا في غيره . وقرأ عبد الله { أورى } بالقلب { وَقَالَ مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } إلا كراهة أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الغذاء . وقرىء { مَلَكَيْنِ } لقوله { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] { أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين { وَقَاسَمَهُمَا } وأقسم لهما { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } وأخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه لما كان منه القسم ومنهما التصديق فكأنهما من اثنين .

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

{ فدلاهما } فنزلهما إلى الأكل من الشجرة { بِغُرُورٍ } بما غرهما به من القسم بالله وإنما يخدع المؤمن بالله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : من خدعنا بالله انخدعنا له { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة } وجدا طعمها آخذين في الأكل منها وهي السنبلة أو الكرم { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا } ظهرت لهما عوراتهما لتهافت اللباس عنهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر . وقيل : كان لباسهما من جنس الأظفار أي كالظفر بياضاً في غاية اللطف واللين فبقي عند الأظفار تذكيراً للنعم وتجديداً للندم { وَطَفِقَا } وجعلا يقال طفق يفعل كذا أي جعل { يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } يجعلان على عورتهما من ورق التين أو الموز ورقة فوق ورقة ليستترا بها كما تخصف النعل .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } هذا عتاب من الله وتنبيه على الخطأ . وروي أنه قال لآدم عليه السلام : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا بكد يمين وعرق جبين ، فأهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرى وطحن وعجن وخبز { وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } فيه دليل لنا على المعتزلة لأن الصغائر عندهم مغفورة { قَالَ اهبطوا } الخطاب لآدم وحواء بلفظ الجمع لأن إبليس هبط من قبل ، ويحتمل أنه هبط إلى السماء ثم هبطوا جميعاً إلى الأرض { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } في موضع الحال أي متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه { وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ } استقرار أو موضع استقرار { ومتاع } وانتفاع بعيش { إلى حِينٍ } إلى انقضاء آجالكم . وعن ثابت البناني : لما أهبط آدم عليه السلام وحضرته الوفاة وأحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني ما أصابني فيك . فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له قبراً ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ } في الأرض { وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } للثواب والعقاب { تُخْرَجُونَ } حمزة وعلي { يابَنِي ءادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } جعل ما في الأرض منزلاً من السماء لأن أصله من الماء وهو منها { يوارى سَوْءاتِكُمْ } يستر عوراتكم { وَرِيشًا } لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين : لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزينكم { وَلِبَاسُ التقوى } ولباس الورع الذي يقي العقاب وهو مبتدأ وخبره الجملة وهي { ذلك خَيْرٌ } كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر ، أو { ذلك } صفة للمبتدأ و { خَيْرٌ } خبر المبتدأ كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير ، أو { لِبَاسَ التقوى } خبر مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى أي ستر العورة لباس المتقين ، ثم قال { ذلك خَيْرٌ } وقيل : ولباس أهل التقوى من الصوف والخشن .

{ وَلِبَاسُ التقوى } مدني وشامي وعلي عطفا على { لِبَاساً } أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى { ذلك مِنْ ءايَاتِ الله } الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فيعرفوا عظيم النعمة فيه ، وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري من الفضيحة وإشعاراً بأن التستر من التقوى .
{ يابنى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة } لا يخدعنكم ولا يضلنكم بأن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم بأن أخرجهما منها { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } حال أي أخرجهما نازعاً لباسهما بأن كان سبباً في أن نزع عنهما . والنهي في الظاهر للشيطان وفي المعنى لبني آدم أي لا تتبعوا الشيطان فيفتنكم { لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا } عوراتهما { إِنَّهُ } الضمير للشأن والحديث { يَرَاكُمْ هُوَ } تعديل للنهي وتحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي يكيدكم من حيث لا تشعرون { وَقَبِيلُهُ } وذريته أو وجنوده من الشياطين وهو عطف على الضمير في { يَرَاكُمْ } المؤكد ب { هُوَ } ، ولم يعطف عليه لأن معمول الفعل هو المستكن دون هذا البارز وإنما يعطف على ما هو معمول الفعل { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } قال ذو النون : إن كان هو يراك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه وهو الله الكريم الستار الرحيم الغفار .
{ إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه دلالة خلق الأفعال { وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة } ما يبالغ في قبحه من الذنوب وهو طوافهم بالبيت عراة وشركهم { قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } أي إذا فعلوها اعتذروا بأن آبائهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم ، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها حيث أقرنا عليها إذا لو كرهها لنقلنا عنها وهما باطلان ، لأن أحدهما تقليد للجهال والثاني افتراء على ذي الجلال { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } إذ المأمور به لا بد أن يكون حسناً وإن كان فيه على مراتب على ما عرف في أصول الفقه { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } استفهام إنكار وتوبيخ { قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط } بالعدل وبما هو حسن عند كل عاقل فكيف يأمر بالفحشاء { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } وقل أقيموا وجوهكم أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها في كل وقت سجود أو في كل مكان سجود { وادعوه } واعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي الطاعة مبتغين بها وجهه خالصاً { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما أنشأكم ابتداء يعيدكم ، احتج عليه في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق ، والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة { فَرِيقًا هدى } وهم المسلمون { وَفَرِيقًا } أي أضل فريقاً { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } وهم الكافرون { إِنَّهُمُ } إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة { اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله } أي أنصاراً { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } والآية حجة لنا على أهل الاعتزال في الهداية والإضلال .

{ يابنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } لباس زينتكم { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } كلما صليتم . وقيل : الزينة المشط والطيب ، والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئاته للصلاة لأن الصلاة مناجاة الرب فيستحب لها التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر { وَكُلُواْ } من اللحم والدسم { واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ } بالشروع في الحرام أو في مجاوزة الشبع { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما شئت ، واشرب ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة . وكان للرشيد طبيب حاذق فقال لعليّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان . فقال له عليّ : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه وهو قوله { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ } فقال النصراني : ولم يرو عن رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة وهي قوله عليه السلام « المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته » فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً . ثم استفهم إنكاراً على محرم الحلال بقوله .
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله } من الثياب وكل ما يتجمل به { التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } أي أصلها يعني القطن من الأرض والقز من الدود { والطيبات مِنَ الرزق } والمستلذات من المآكل والمشارب . وقيل : كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها { قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فيالحياة الدنيا } غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } لا يشركهم فيها أحد . ولم يقل للذين آمنوا ولغيرهم لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة والكفار تبع لهم . { خَالِصَةٌ } بالرفع : نافع ف { هِىَ } مبتدأ خبره { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } و { فيالحياة الدنيا } ظرف للخبر ، أو { خَالِصَةٌ } خبر ثانٍ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي خالصة ، وغيره نصبها على الحال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيامة { كذلك نُفَصّلُ الآيات } نميز الحلال من الحرام { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أنه لا شريك له .

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش } { رَبّي } حمزة { الفواحش } ما تفاحش قبحه أي تزايد { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } سرها وعلانيتها { والإثم } أي شرب الخمر أو كل ذنب { والبغي } والظلم والكبر { بِغَيْرِ الحق } متعلق بالبغي . ومحل { وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } حجة النصب كأنه قال حرم الفواحش وحرم الشرك { يُنَزّلٍ } بالتخفيف : مكي وبصري ، وفيه تهكم إذ لا يجوز أن ينزل برهاناً على أن يشرك به غيره { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وأن تتقولوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره { وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } وقت معين يأتيهم فيه عذاب الاستئصال إن لم يؤمنوا ، وهو وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } قيد بساعة لأنها أقل ما يستعمل في الإمهال { يابنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } هي «إن» الشرطية ضمت إليها «ما» مؤكدة لمعنى الشرط ، لأن «ما» للشرط ولذا لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة { رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى } يقرءون عليكم كتبي وهو في موضع رفع صفة ل { رُسُلُ } وجواب الشرط { فَمَنِ اتقى } الشرك { وَأَصْلَحَ } العمل منكم { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أصلاً { فَلاَ خَوْفٌ } يعقوب { والذين كَذَّبُواْ } منكم { بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا } تعظموا عن الايمان بها { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

{ فَمَنْ أَظْلَمُ } فمن أشنع ظلماً { مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بئاياته } ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله { أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب } ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار { حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا } ملك الموت وأعوانه . و «حتى» غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له وهي «حتى» التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام هنا الجملة الشرطية وهي { إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا } { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } يقبضون أرواحهم وهو حال من الرسل أي متوفيهم و «ما» في { قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ } في خط المصحف موصولة ب { أَيْنَ } وحقها أن تكتب مفصولة لأنها موصولة ، والمعنى أين الآلهة الذين تعبدون { مِن دُونِ الله } ليذبوا عنكم { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } غابوا عنا فلا نراهم { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين } اعترفوا بكفرهم بلفظ الشهادة التي هي لتحقيق الخبر .
{ قَالَ ادخلوا } أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء الكفار : ادخلوا { فِى أُمَمٍ } في موضع الحال أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم { قَدْ خَلَتْ } مضت { مِن قَبْلِكُم مّن الجن والإنس } من كفار الجن والإنس { فِى النار } متعلق ب { أَدْخِلُواْ } { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ } النار { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } شكلها في الدين أي التي ضلت بالاقتداء بها { حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا } أصله تداركوا أي تلاحقوا واجتمعوا في النار ، فأبدلت التاء دالاً وسكنت للإدغام ثم أدخلت همزة الوصل { جَمِيعاً } حال { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } منزلة وهي الأتباع والسفلة { لأولاهم } منزلة وهي القادة والرءوس . ومعنى { لأولاهم } لأجل أولاهم لأن خطابهم مع الله لا معهم { رَبَّنَا } يا ربنا { هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا } مضاعفاً { مّنَ النار قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ } للقادة بالغواية والإغواء وللأتباع بالكفر والاقتداء { ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } ما لكل فريق منكم من العذاب . { لاَّ يَعْلَمُونَ } أبو بكر أي لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر .
{ وَقَالَتْ أولاهم لأُِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة { لِكُلّ ضِعْفٌ } أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنا متساوون في استحقاق الضعف { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } بكسبكم وكفركم وهو من قول القادة للسفلة . ولا وقف على { فَضَّلَ } أو من قول الله لهم جميعاً والوقف على { فَضَّلَ } { إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء } أي لا يؤذن لهم في صعود السماء ليدخلوا الجنة إذ هي في السماء ، أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا تنزل عليهم البركة ، أو لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين إلى السماء ، وبالتاء مع التخفيف : أبو عمرو وبالياء معه : حمزة وعلي .

{ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط } حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة أي لا يدخلون الجنة أبداً لأنه علقه بما لا يكون . والخياط والمخيط ما يخاط به وهو الإبرة { وكذلك } ومثل ذلك الجزاء الفظيع الذي وصفنا { نَجْزِي المجرمين } أي الكافرين بدلالة التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } فراش { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أغطية جمع غاشية { وكذلك نَجْزِى الظالمين } أنفسهم بالكفر .
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } طاقتها والتكليف إلزام ما فيه كلفة أي مشقة { أولئك } مبتدأ والخبر { أصحاب الجنة } والجملة خبر { الذين } ، و { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } اعتراض بين المبتدأ والخبر { هُمْ فِيهَا خالدون * وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } حقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد والتعاطف ، وعن علي رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأضنهار } حال من «هم» في { صُدُورُهُمْ } والعامل فيها معنى الإضافة { وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } لما هو وسيلة إلى هذا الفوز العظيم وهو الإيمان { وَمَا كُنَّا } { مَا كُنَّا } بغير «واو» : شامي على أنها جملة موضحة للأولى { لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله } اللام لتوكيد النفي أي وما كان يصح أن نكون مهتدين لولا هداية الله ، وجواب «لولا» محذوف دل عليه ما قبله { لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } فكان لطفاً لنا وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا ، يقولون ذلك سروراً بما نالوا وإظهاراً لما اعتقدوا { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة } «أن» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ، والجملة بعدها خبرها تقديره ونودوا بأنه تلكم الجنة . والهاء ضمير الشأن ، أو بمعنى أي كأنه قيل ، لهم تلكم الجنة { أُورِثْتُمُوهَا } أعطيتموها وهو حال من { الجنة } والعامل فيها ما في { تِلْكَ } من معنى الإشارة { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } سماها ميراثاً لأنها لا تستحق بالعمل بل هي محض فضل الله وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو صلة خالصة . وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله : إن المعتزلة خالفوا الله فيما أخبر ونوحاً عليه السلام وأهل الجنة والنار وإبليس ، لأنه قال الله تعالى { يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء } [ النحل : 93 ] وقال نوح عليه السلام : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] وقال أهل الجنة : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله } وقال أهل النار : { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } [ ابراهيم : 21 ] وقال إبليس { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى }

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

{ وناداى أصحاب الجنّة أصحاب النّار أن قد وجدنا } «أن» مخففة من الثقيلة أو مفسرة وكذلك { أن لعنة اللّه على الظالمين } { ما وعدنا ربّنا } من الثواب { حقًّا } حال { فهل وجدّتم مّا وعد ربّكم } من العذاب { حقًّا } وتقديره وعدكم ربكم فحذف «كم» لدلالة { وعدنا ربنا } عليه . وإنما قالوا لهم ذلك شماتة بأصحاب النار واعترافاً بنعم الله تعالى { قالوا نعم } وبكسر العين حيث كان : عليٌّ { فأذّن مؤذّنٌ بينهم } نادى مناد وهو ملك يسمع أهل الجنة والنار { أن لّعنة اللّه على الظّالمين } { أن لعنة } مكي وشامي وحمزة وعلي { الّذين يصدّون } يمنعون { عن سبيل اللّه } دينه { ويبغونها عوجاً } مفعول ثان ل «يبغون» أي ويطلبون لها الاعوجاج والتناقض { وهم بالآخرة } بالدار الآخرة { كافرون وبينهما } وبين الجنة والنار أو بين الفريقين { حجابٌ } وهو السور المذكور في قوله : { فضرب بينهم بسور } [ الحديد : 13 ] { وعلى الأعراف } على أعراف الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي أعاليه جمع عرف ، استعير من عرف الفرس وعرف الديك { رجالٌ } من أفاضل المسلمين أو من آخرهم دخولاً في الجنة لاستواء حسناتهم وسيآتهم ، أو من لم يرض عنه أحد أبويه أو أطفال المشركين { يعرفون كلاًّ } من زمرة السعداء والأشقياء { بسيماهم } بعلامتهم . قيل : سيما المؤمنين بياض الوجوه ونضارتها ، وسيما الكافرين سواد الوجوه وزرقة العيون { ونادوا } أي أصحاب الأعراف { أصحاب الجنّة أن سلامٌ عليكم } أنه سلام أو أي سلام وهو تهنئة منهم لأهل الجنة { لم يدخلوها } أي أصحاب الأعراف ولا محل له لأنه استئناف كأن سائلاً سأل أصحاب الأعراف فقيل { لم يدخلوها } { وهم يطمعون } في دخولها أوله محل وهو صفة ل { رجال } .
{ وإذا صرفت أبصارهم } أبصار أصحاب الأعراف ، وفيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا { تلقآء } ظرف أي ناحية { أصحاب النّار } ورأوا ما هم فيه من العذاب { قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظّالمين } فاستعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً } من رءوس الكفرة { يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم } المال أو كثرتكم واجتماعكم و «ما» نافية { وما كنتم تستكبرون } واستكباركم على الحق وعلى الناس ثم يقولون لهم :
{ أهؤلاء } مبتدأ { الّذين } خبر مبتدأ مضمر تقديره أهؤلاء هم الذين { أقسمتم } حلفتم في الدنيا ، والمشار إليهم فقراء المؤمنين كصهيب وسليمان ونحوهما { لا ينالهم اللّه برحمةٍ } جواب { أقسمتم } وهو داخل في صلة { الذين } تقديره أقسمتم عليهم بأن لا ينالهم الله برحمة أي لا يدخلهم الجنة يحتقرونهم لفقرهم . فيقال لأصحاب الأعراف : { ادخلوا الجنّة } وذلك بعد أن نظروا إلى الفريقين وعرفوهم بسيماهم وقالوا ما قالوا { لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون وناداى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من المآء } أن مفسرة .

وفيه دليل على أن الجنة فوق النار { أو ممّا رزقكم اللّه } من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة ، أو أريد أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله :
علفتها تبناً وماءاً بارداً
أي وسقيتها وإنما سألوا ذلك مع يأسهم عن الإجابة لأن المتحير ينطق بما يفيد وما لا يفيد { قالوآ إنّ اللّه حرّمهما على الكافرين } هو تحريم منع كما في { وحرمنا عليه المراضع } [ القصص : 12 ] وتقف هنا إن رفعت أو نصبت ما بعده ذماً ، وإن جررته وصفاً للكافرين فلا . { الّذين اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً } فحرموا وأحلوا ما شاءوا أو دينهم عيدهم { وغرّتهم الحياة الدّنيا } اغتروا بطول البقاء { فاليوم ننساهم } نتركهم في العذاب { كما نسوا لقآء يومهم هذا وما كانوا بئاياتنا يجحدون } أي كنسيانهم وجحودهم .
{ ولقد جئناهم بكتابٍ فصّلناه } ميزنا حلاله وحرامه ومواعظه وقصصه { على علمٍ } عالمين بكيفية تفصيل أحكامه { هدًى ورحمةً } حال من منصوب { فصلناه } كما أن { على علم } حال من مرفوعة { لّقومٍ يؤمنون هل ينظرون } ينتظرون { إلاّ تأويله } إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد { يوم يأتي تأويله يقول الّذين نسوه من قبل } تركوه وأعرضوا عنه { قد جآءت رسل ربّنا بالحقّ } أي تبين وصح أنهم جاءوا بالحق فأقروا حين لا ينفعهم { فهل لّنا من شفعآء فيشفعوا لنآ } جواب الاستفهام { أو نردّ } جملة معطوفة على الجملة قبلها داخلة معها في حكم الاستفهام كأنه قيل : فهل لنا من شفعاء ، أو هل نرد؟ ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم كقولك ابتداء «هل يضرب زيد» ، أو عطف على تقدير : هل يشفع لنا شافع أو هل نرد { فنعمل } جواب الاستفهام أيضاً { غير الّذي كنّا نعمل قد خسروآ أنفسهم وضلّ عنهم مّا كانوا يفترون } ما كانوا يعبدونه من الأصنام .
{ إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوت والأرض في ستّة أيّامٍ } أراد السموات والأرض وما بينهما وقد فصلها في «حم السجدة» أي من الأحد إلى الجمعة لاعتبار الملائكة شيئاً فشيئاً ، وللإعلام بالتأني في الأمور ، ولأن لكل عمل يوماً ، ولأن إنشاء شيء بعد شيء أدل على عالم مدبر مريد يصرّفه على اختياره ويجريه على مشيئته { ثمّ استوى } استولى { على العرش } أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه وتعالى مستولياً على جميع المخلوقات ، لأن العرش أعظمها وأعلاها . وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل ، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان ، لأن التغير من صفات الأكوان . والمنقول عن الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهم ، أن الاستواء معلوم ، والتكييف فيه مجهول ، والإيمان به واجب ، والجحود له كفر ، والسؤال عنه بدعة . { يغشى الّيل النّهار } { يغشى } حمزة وعلي وأبو بكر .

أي يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل { يطلبه حثيثاً } حال من الليل أي سريعاً . والطالب هو الليل كأنه لسرعة مضيه يطلب النهار { والشّمس والقمر والنّجوم } أي وخلق الشمس والقمر والنجوم { مسخّراتٍ } حال أي مذللات { والشمس والقمر والنجوم مسخراتٌ } شامي { والشمس } مبتدأ والبقية معطوفة عليها والخبر { مسخرات } { بأمره } هو أمر تكوين . ولما ذكر أنه خلقهن مسخرات بأمره قال { ألا له الخلق والأمر } أي هو الذي خلق الأشياء وله الأمر { تبارك اللّه } كثر خيره أو دام بره من البركة النماء أو من البروك الثبات ومنه البركة { ربّ العالمين } .
{ ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً } نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية ، والتضرع تفعل من الضراعة وهي الذل أي تذللاً وتملقاً . قال عليه السلام " إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً إنه معكم أينما كنتم " عن الحسن : بين دعوة السر والعلانية سبعون ضعفاً . { إنّه لا يحبّ المعتدين } المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره . وعن ابن جريج : الرافعين أصواتهم بالدعاء . وعنه : الصياح في الدعاء مكروه وبدعة . وقيل : هو الإسهاب في الدعاء . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل " ثم قرأ { إنه لا يحب المعتدين } { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } أي بالمعصية بعد الطاعة ، أو بالشرك بعد التوحيد ، أو بالظلم بعد العدل { وادعوه خوفاً وطمعاً } حالان أي خائفين من الرد طامعين في الإجابة ، أو من النيران وفي الجنان ، أو من الفراق وفي التلاق ، أو من غيب العاقبة وفي ظاهر الهداية ، أو من العدل وفي الفضل { إنّ رحمت اللّه قريبٌ مّن المحسنين } ذكر قريب على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم ، أو لأنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب ، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، أو للإضافة إلى المذكر .
{ وهو الّذي يرسل الرّياح } { الريح } مكي وحمزة وعلي { بُشرا } { نشرا } حمزة وعلي . مصدر نشر ، وانتصابه إما لأن أرسل ونشر متقاربان فكأنه قيل نشرها نشراً ، وإما على الحال أي منشورات { بشرا } عاصم تخفيف «بشرا» جمع «بشير» ، لأن الرياح تبشر بالمطر { نشراً } شامي تخفيف «نشر» كرسل ورسل وهو قراءة الباقين جمع «نشور» أي ناشرة للمطر { بين يدي رحمته } أمام نعمته وهو الغيث الذي هو من أجلّ النعم { حتى إذآ أقلّت } حملت ورفعت ، واشتقاق الإقلال من القلة لأن الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلاً { سحاباً ثقالاً } بالماء جمع سحابة { سقناه } الضمير للسحاب على اللفظ ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلاً { لبلدٍ مّيّتٍ } - ميت - لأجل بلد ليس فيه مطر ولسقيه { ميّت } مدني وحمزة وعلي وحفص { فأنزلنا به المآء } بالسحاب أو بالسوق وكذلك { فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك } مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات { نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون } فيؤديكم التذكر إلى الإيمان بالبعث إذ لا فرق بين الإخراجين ، لأن كل واحد منهما إعادة الشيء بعد إنشائه { والبلد الطّيّب } الأرض الطيبة الترب { يخرج نباته بإذن ربّه } بتيسيره وهو موضع الحال كأنه قيل : يخرج نباتة حسناً وافياً لأنه واقع في مقابلة { نكدا } { والّذي خبث } صفة للبلد أي والبلد الخبيث { لا يخرجُ } أي نباته فحذف للاكتفاء { إلاّ نكداً } هو الذي لا خير فيه وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ وهو المؤمن ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك وهو الكافر ، وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر مثل المطر وإنزاله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد { كذلك } مثل ذلك التصريف { نُصرّف الآيات } نرددها ونكررها { لقومٍ يشكرون } نعمة الله وهم المؤمنون ليتفكروا فيها ويعتبروا بها .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

{ لقد أرسلنا } جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا { نوحاً إلى قومه } أرسل وهو ابن خمسين سنة وكان نجاراً ، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو اسم إدريس عليه السلام { فقال ياقوم اعبدوا اللّه ما لكم مّن إله غيره } { غيره } علي . فالرفع على المحل كأنه قيل : ما لكم إله غيره فلا تعبدوا معه غيره ، والجر على اللفظ { إنى أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ } يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان .
{ قال الملأ } أي الأشراف والسادة { من قومه إنّا لنراك في ضلالٍ مّبينٍ } أي بين في ذهاب عن طريق الصواب ، والرؤية رؤية القلب { قال يا قوم ليس بي ضلالةٌ } ولم يقل ضلال كما قالوا لأن الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال . ثم استدرك لتأكيد نفي الضلالة فقال { ولكنّي رسولٌ مّن رّبّ العالمين } لأن كونه رسولاً من الله مبلغاً لرسالاته في معنى كونه على الصراط المستقيم فكان في الغاية القصوى من الهدى { أبلّغكم رسالات ربّي } ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والبشائر والنظائر . { أبلغكم } أبو عمرو . وهو كلام مستأنف بيان لكونه رسول رب العالمين { وأنصح لكم } وأقصد صلاحكم بإخلاص . يقال نصحته ونصحت له ، وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة . وحقيقة النصح إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك أو النهاية في صدق العناية { وأعلم من اللّه ما لا تعلمون } أي من صفاته يعني قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين { أو عجبتم } الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم { أن جآءكم } من أن جاءكم { ذكرٌ } موعظة { مّن رّبّكم على رجلٍ مّنكم } على لسان رجل منكم أي من جنسكم ، وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { لينذركم } ليحذركم عاقبة الكفر { ولتتّقوا } ولتوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار { ولعلّكم ترحمون } ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم { فكذّبوه } فنسبوه إلى الكذب { فأنجيناه والّذين معه } وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة وقيل تسعة : بنوه سام وحام ويافث ، وستة ممن آمن به { في الفلك } يتعلق بمعه كأنه قيل : والذين صحبوه في الفلك { وأغرقنا الّذين كذّبوا بأياتنا إنّهم كانوا قوماً عمين } عن الحق . يقال أعمى في البصر وعمٍ في البصيرة .
{ وإلى عادٍ } وأرسلنا إلى عاد وهو عطف على { نوحا } { أخاهم } واحداً منهم من قولك «يا أخا العرب» للواحد منهم .

وإنما جعل واحداً منهم لأنهم عن رجل منهم أفهم فكانت الحجة عليهم ألزم { هوداً } عطف بيان ل { أخاهم } وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح { قال ياقوم اعبدوا اللّه ما لكم مّن إله غيره أفلا تتّقون } وإنما لم يقل { فقال } كما في قصة نوح عليه السلام لأنه على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود؟ فقيل : { قال يا قوم اعبدوا اللّه } وكذلك { قال الملأ الّذين كفروا من قومه } وإنما وصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح لأن في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد فأريدت التفرقة بالوصف ، ولم يكن في أشراف قوم نوح عليه السلام مؤمن { إنّا لنراك في سفاهةٍ } في خفة حلم وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر . وجعلت السفاهة ظرفاً مجازاً يعني أنه متمكن فيها غير منفك عنها { وإنّا لنظنّك من الكاذبين } في ادعائك الرسالة .
{ قال يا قوم ليس بي سفاهةٌ ولكنّي رسولٌ مّن رّبّ العالمين أبلّغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصحٌ } فيما أدعوكم إليه { أمينٌ } على ما أقول لكم . وإنما قال هنا { وأنا لكم ناصح أمين } لقولهم { وإنا لنظنك من الكاذبين } أي ليقابل الاسم الاسم ، وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من ينسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم ، أدب حسن وخلق عظيم ، وإخبار الله تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم { أو عجبتم أن جآءكم ذكرٌ مّن رّبّكم على رجلٍ مّنكم لينذركم واذكروآ إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوحٍ } أي خلفتموهم في الأرض أو في مساكنهم . و «إذ» مفعول به وليس بظرف أي اذكروا وقت استخلافكم { وزادكم في الخلق بصطةً } طولاً وامتداداً فكان أقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع { بصطة } : حجازي وعاصم وعلي { فاذكروا ءالاء اللّه } في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه . وواحد الآلاء «إلى» نحو «إنى» و «آناء» { لعلّكم تفلحون } .
ومعنى المجيء في { قالوا أجئتنا } أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم { لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءابآؤنا } أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه حباً لما نشئوا عليه { فأتنا بما تعدنآ } من العذاب { إن كنت من الصّادقين } أن العذاب نازل بنا { قال قد وقع } أي قد نزل { عليكم } جعل المتوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب إليك بعض المطالب «قد كان» { مّن رّبّكم رجسٌ } عذاب { وغضبٌ } سخط { أتجادلونني في أسمآء سمّيتموهآ } في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات لأنكم تسمون الأصنام آلهة وهي خالية عن معنى الألوهية { أنتم وءابآؤكم مّا نزّل الله بها من سلطانٍ } حجة { فانتظروآ } نزول العذاب { إنّي معكم مّن المنتظرين } ذلك .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)

{ فأنجيناه والذين مَعَهُ } أي من آمن به { بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء ، وقطع دابرهم استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } فائدة نفي الإيمان عنهم مع إثبات التكذيب بآيات الله الإشعار بأن الهلاك خص المكذبين . وقصتهم أن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت ، وكانت لهم أصنام يعبدونها صداء وصمود والهباء ، فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه فأمسك القطر عنهم ثلاث سنين . وكانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج منه عند بيته الحرام فأوفدوا إليه قيل ابن عنز ونعيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان يكتم إيمانه بهود عليه السلام وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوز بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر ، فنزلوا عليه بظاهر مكة فقال لهم مرثد : لن تسقوا حتى تؤمنوا بهود فخلفوا مرثداً وخرجوا فقال قيل : اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه منادٍ من السماء : يا قيل اختر لنفسك ولقومك ، فاختار السوداء على ظن أنها أكثر ماء فخرجت على عاد من وادٍ لهم فاستبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا .
{ وإلى ثَمُودَ } وأرسلنا إلى ثمود . وقريء { وإلى ثمودٍ } بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر ، ومنع الصرف بتأويل القبيلة ، وقيل : سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام { أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } آية ظاهرة شاهدة على صحة نبوتي فكأنه قيل : ما هذه البينة؟ فقال : { هذه نَاقَةُ الله } وهذه إضافة تخصيص وتعظيم لأنها بتكوينه تعالى بلا صلب ولا رحم { لَكُمْ ءايَةً } حال من الناقة والعامل معنى الإشارة في { هذه } كأنه قيل : أشير إليها آية ولكم بيان لمن هي له آية وهي ثمود لأنهم عاينوها { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فذروها تأكل في أرض ربها من نبات ربها فليس عليكم مؤنتها { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } ولا تضربوها ولا تعقروها ولا تطردوها إكراماً لآية الله { فَيَأْخُذَكُمْ } جواب النهي { عَذَابٌ أَلِيمٌ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ } ونزلكم ، والمباءة المنزل { فِى الأرض } في أرض الحجر بين الحجاز والشام { تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا } غرفاً للصيف { وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتًا } للشتاء ، و { بُيُوتًا } حال مقدرة نحو «خط هذا الثوب قميصاً» إذ الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب قميصاً في حال الخياطة { فاذكروا ءالآء الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوها في الأرض وعمروا أعماراً طوالاً ، فنحتوا البيوت من الجبال خشية الانهدام قبل الممات ، وكانوا في سعة من العيش فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالح من أوسطهم نسباً ، فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فأنذرهم ، فسألوه أن يخرج من صخرة بعينها ناقة عشراء فصلى ودعا ربه فتمخضت تمخض النتوج بولدها فخرجت منها ناقة كما شاؤوا فآمن به جندع ورهط من قومه .

{ قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ } { وَقَالَ } شامي { لِلَّذِينَ استضعفوا } للذين استضعفهم رؤساء الكفار { لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } بدل من { الذين استضعفوا } بإعادة الجار ، وفيه دليل على أن البدل حيث جاء كان في تقدير إعادة العامل ، والضمير في { مِنْهُمْ } راجع إلى قومه وهو يدل على أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين ، أو إلى { الذين استضعفوا } وهو يدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين { أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ } قالوه على سبيل السخرية { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } وإنما صار هذا جواباً لهم لأنهم سألوهم عن العلم بإرساله أمراً معلوماً مسلماً كأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به لا شبهة فيه ، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنابه مؤمنون { قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذى ءامَنتُمْ بِهِ كافرون } فوضعوا { آمنتم به } موضع أرسل به رداً لما جعله المؤمنون معلوماً مسلماً { فَعَقَرُواْ الناقة } أسند العقر إلى جميعهم وإن كان العاقر قدار بن سالف لأنه كان برضاهم . وكان قدار أحمر أزرق قصيراً كما كان فرعون كذلك . وقال عليه السلام : « يا علي ، أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك » { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } وتولوا عنه واستكبروا وأمر ربهم ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } أو شأن ربهم وهو دينه { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا } من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ المرسلين فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } في بلادهم أو مساكنهم { جاثمين } ميتين قعوداً . يقال : الناس جثم أي قعود لا حراك بهم ولا يتكلمون { فتولى عَنْهُمْ } لما عقروا الناقة { وَقَالَ يا قَوْمِ } عند فراقه إياهم { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } الآمرين بالهدى لاستحلاء الهوى والنصيحة منيحة تدرأ الفضيحة ، ولكنها وخيمة تورث السخيمة .

روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء فقال صالح : تعيشون بعده ثلاثة أيام ، تصفر وجوهكم أول يوم ، وتحمر في الثاني ، وتسود في الثالث ، ويصيبكم العذاب في الرابع وكان كذلك . روي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي ، فلما علم أنهم هلكوا رجع بمن معه فسكنوا ديارهم . { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } أي واذكر لوطاً «وإذ» بدل منه { أَتَأْتُونَ الفاحشة } أتفعلون السيئة المتمادية في القبح { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } ما عملها قبلكم والباء للتعدية ومنه قوله عليه السلام " سبقك بها عكاشة " { مّنْ أَحَدٍ } «من» زائدة لتأكيد المنفي وإفادة معنى الاستغراق { مّن العالمين } «من» للتبعيض وهذه جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله { أَتَأْتُونَ الفاحشة } ثم وبخهم عليها فقال أنتم أول من عملها . وقوله تعالى { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } -أئنكم لتأتون الرجال - بيان لقوله { أَتَأْتُونَ الفاحشة } والهمزة مثلها في { أَتَأْتُونَ } للإنكار . { إِنَّكُمْ } على الإخبار : مدني وحفص . يقال : أتى المرأة إذا غشيها { شَهْوَةً } مفعول له أي للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة ، ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمية { مّن دُونِ النساء } أي لا من النساء { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء فمن ثمّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد .
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ } أي لوطاً ومن آمن معه يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط من إنكار الفاحشة ، ووصفهم بصفة الإسراف الذي هو أصل الشر ، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } يدّعون الطهارة ويدعون فعلنا الخبيث عن ابن عباس رضي الله عنهما : عابوهم بما يتمدح به { فأنجيناه وَأَهْلَهُ } ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين { إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } من الباقين في العذاب ، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث وكانت كافرة موالية لأهل سدوم ، وروي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً قالوا : أمطر الله عليهم الكبريت والنار . وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت حجارة على مسافريهم . وقال أبو عبيدة : أمطر في العذاب ومطر في الرحمة { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين } الكافرين .
{ وإلى مَدْيَنَ } وأرسلنا إلى مدين وهو اسم قبيلة { أخاهم شُعَيْباً } يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين { قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } أي معجزة وإن لم تذكر في القرآن { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } أتموهما والمراد فأوفوا الكيل ووزن الميزان ، أو يكون الميزان كالميعاد بمعنى المصدر { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } ولا تنقصوا حقوقهم بتطفيف الكيل ونقصان الوزن ، وكانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعتهم .

«وبخس» يتعدى إلى مفعولين وهما الناس وأشياءهم تقول : بخست زيداً حقه أي نقصته إياه { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها } بعد الإصلاح فيها أي لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء والأولياء . وإضافته كإضافة { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] أي بل مكركم في الليل والنهار { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض { خَيْرٌ لَّكُمْ } في الإنسانية وحسن الأحدوثة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } مصدقين لي في قولي { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط } بكل طريق { تُوعَدُونَ } من آمن بشعيب بالعذاب { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } عن العبادة { مَنْ ءامَنَ بِهِ } بالله وقيل : كانوا يقطعون الطرق . وقيل : كانوا عشارين { وَتَبْغُونَهَا } وتطلبون لسبيل الله { عِوَجَا } أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة لتمنعوهم عن سلوكها . ومحل { تُوعَدُونَ } وما عطف عليه النصب على الحال أي لا تقعدوا موعدين وصادين عن سبيل الله وباغين عوجاً { واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً } «إذ» مفعول به غير ظرف أي واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم { فَكَثَّرَكُمْ } الله ووفر عددكم . وقيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا { وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح وهود ولوط عليهم السلام { وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا } فانتظروا { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } أي بين الفريقين بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم ، وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم ، أو هو حث للمؤمنين على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم ، أو هو خطاب للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار ، والكافرون على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب . { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } لأن حكمه حق وعدل لا يخاف فيه الجور .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

{ قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم وإما عودكم في الكفر { قَالَ } شعيب { أَوَلَوْ كُنَّا كارهين } الهمزة للاستفهام والواو للحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ومع كوننا كارهين قالوا : نعم . ثم قال شعيب { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } وهو قسم على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } خلصنا الله . فإن قلت : كيف قال شعيب { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } والكفر على الأنبياء عليهم السلام محال؟ قلت : أراد عود قومه إلا أنه يضم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب { وَمَا يَكُونُ لَنَا } وما ينبغي لنا وما يصح { أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا } إلا أن يكون سبق في مشيئته أن نعود فيها إذ الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى خيرها وشرها { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } تمييز أي هو عالم بكل شيء فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول وقلوبهم كيف تتقلب { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } أي الحكم والفتاحة الحكومة والقضاء بالحق بفتح الأمر المغلق فلذا سمي فتحاً ، ويسمي أهل عمان القاضي فتاحاً { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } كقوله { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } { وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } مغبونون لفوات فوائد البخس والتطفيف باتباعه لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية . وجواب القسم الذي وطأته اللام في { لَئِنِ اتبعتم } وجواب الشرط { إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } فهو ساد مسد الجوابين { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } الزلزلة { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } ميتين { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } مبتدأ خبره { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } لم يقيموا فيها . غني بالمكان أقام { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } مبتدأ خبره { كَانُواْ هُمُ الخاسرين } لا من قالوا لهم إنكم إذاً لخاسرون وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا كأن لم يقيموا في دارهم ، لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله ، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه فهم الرابحون ، وفي التكرار مبالغة واستعظام لتكذيبهم ولما جرى عليهم .
{ فتولى عَنْهُمْ } بعد أن نزل بهم العذاب { وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسى } أحزن { على قَوْمٍ كافرين } اشتد حزنه على قومه ، ثم أنكر على نفسه فقال : كيف يشتد حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم ، أو أراد لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والتحذير مما حل بكم فلم تصدقوني فكيف آسى عليكم { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } يقال لكل مدينة قرية ، وفيه حذف أي فكذبوه { إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء } بالبؤس والفقر { والضراء } الضر والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم ، أو هما نقصان النفس والمال { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء ، والمحنة : الرخاء والسعة والصحة { حتى عَفَواْ } كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم «عفا النباب» إذا كثر ، ومنه قوله عليه السلام

" واعفوا اللحى " .
وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء } أي قالوا هذه عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا نحو ذلك وما هو بعقوبة الذنب فكونوا على ما أنتم عليه { فأخذناهم بَغْتَةً } فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بنزول العذاب .
واللام في { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } إشارة إلى أهل القرى التي دل عليها { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } كأنه قال : ولو أن أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا { ءامَنُواْ } بدل كفرهم { واتقوا } الشرك مكان ارتكابه { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم } { لَفَتَحْنَا } شامي { بركات مّنَ السماء والأرض } أراد المطر والنبات أو لآتيناهم بالخير من كل وجه { ولكن كَذَّبُواْ } الأنبياء { فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بكفرهم وسوء كسبهم ، ويجوز أن تكون اللام للجنس { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } يريد الكفار منهم { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا } عذابنا { بَيَاتًا } ليلاً أي وقت بيات ، يقال بات بياتاً { وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى } نهاراً . والضحى في الأصل ضوء الشمس إذا أشرقت . والفاء والواو في { أَفَأَمِنَ } و { أَوَ أَمِنَ } حرفا عطف دخل عليهما همزة الإنكار ، والمعطوف عليه { فأخذناهم بَغْتَةً } وقوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } إلى { يَكْسِبُونَ } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه . وإنما عطفت بالفاء لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى { أَوَ أَمِنَ } شامي وحجازي على العطف ب «أو» والمعنى إنكار الأمن من أحد هذين الوجهين من إتيان العذاب ليلاً أو ضحى ، فإن قلت : كيف دخل همزة الاستفهام على حرف العطف وهو ينافي الاستفهام؟ قلت : التنافي في المفرد لا في عطف جملة على جملة لأنه على استئناف جملة بعد جملة { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } يشتغلون بما لا يجدي عليهم .
{ أَفَأَمِنُواْ } تكرير لقوله { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } { مَكْرَ الله } أخذه العبد من حيث لا يشعر .

وعن الشبلي قدس الله روحه العزيز : مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه . وقالت ابنة الربيع بن خيثم لأبيها : مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات أراد قوله { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا } { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } إلا الكافرون الذين خسروا أنفسهم حتى صاروا إلى النار .
{ أَوَلَمْ يَهْدِ } يبين { لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ } { أَن لَّوْ نَشَاء } مرفوع بأنه فاعل { يَهْدِ } «وأن» مخففة من الثقيلة أي أولم يهدِ للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثونهم أرضهم هذا الشأن ، وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم فأهكلنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين ، وإنما عدي فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين { وَنَطْبَعُ } مسأنف أي ونحن نختم { على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } الوعظ { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا } كقوله { هذا بَعْلِى شَيْخًا } [ هود : 72 ] في أنه مبتدأ وخبر وحال ، أو تكون { القرى } صفة { تِلْكَ } و { نَقُصُّ } خبراً والمعنى : تلك القرى المذكورة من قوم نوح إلى قوم شعيب نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالمعجزات { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } عند مجيء الرسل بالبينات { بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } بما كذبوا من آيات الله من قبل مجيء الرسل ، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين مع تتابع الآيات ، واللام لتأكيد النفي . { كذلك } مثل ذلك الطبع الشديد { يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } لما علم منهم أنهم يختارون الثبات على الكفر { وَمَا وَجَدْنَا لأَِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } الضمير للناس على الإطلاق يعني أن أكثر الناس نقضوا عهد الله وميثاقه في الإيمان ، والآية اعتراض ، أو للأمم المذكورين فإنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن ثم أنجاهم نكثوا { وإن } وإن الشأن والحديث { وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين } لخارجين عن الطاعة ، والوجود بمعنى العلم بدليل دخول «إن» المخففة واللام الفارقة ، ولا يجوز ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } الضمير للرسل في قوله { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } أو للأمم { موسى بئاياتنا } بالمعجزات الواضحات { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا } فكفروا بآياتنا ، أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] أو فظلموا الناس بسببها حين آذوا من آمن ، أو لأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً حيث وضعوا الكفر غير موضعه وهو موضع الإيمان { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } حيث صاروا مغرقين { وَقَالَ موسى يافرعون } يقال لملوك مصر «الفراعنة» كما يقال لملوك فارس «الأكاسرة» ، وكأنه قال : يا ملك مصر واسمه قابوس أو الوليد بن مصعب بن الريان { إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ العالمين } إليك . قال فرعون : كذبت . فقال موسى : { حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق } أي أنا حقيق على قول الحق أي واجب على قول الحق أن أكون قائله والقائم به . { حَقِيقٌ عَلَىَّ } نافع أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا الحق أي الصدق ، وعلى هذه القراءة تقف على { العالمين } وعلى الأول يجوز الوصل على جعل { حَقِيقٌ } وصف الرسول ، و«علي» بمعنى الباء كقراءة أبي أي إني رسول خليق بأن لا أقول ، أو يعلق «على» بمعنى الفعل في الرسول أي إني رسول حقيق جدير بالرسالة أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مِّن رَبُّكُمْ } بما يبين رسالتي { فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل } فخلهم يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم . وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي غلب فرعون على نسل الأسباط واستعبدهم فأنقذهم الله بموسى عليه السلام ، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام { مَعِىَ } حفص { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ } من عند من أرسلك { فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فأتني بها لتصح دعواك ويثبت صدقك فيها { فَأُلْقِىَ } موسى عليه السلام { عصاه } من يده { فَإِذَا هِىَ } { إِذَا } هذه للمفاجأة وهي من ظروف المكان بمنزلة «ثمة» و«هناك» { ثُعْبَانٌ } حية عظيمة { مُّبِينٌ } ظاهر أمره . روي أنه كان ذكراً فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً ، وضع لحيه الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون فهرب وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك ، وحمل على الناس فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً ، فصاح فرعون : يا موسى خذه وأنا أومن بك فأخذه موسى فعاد عصاً { وَنَزَعَ يَدَهُ } من جيبه { فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } أي فإذا هي بيضاء للنظارة ، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجمع الناس للنظر إليه .

روي أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه؟ فقال : يدك ثم أدخلها في جيبه ونزعها فإذا هي بيضاء غلب شعاعها شعاع الشمس ، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة .
{ قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } عالم بالسحر ماهر فيه قد خيل إلى الناس العصاحية والآدم أبيض . وهذا الكلام قد عزي إلى فرعون في سورة «الشعراء» وأنه قال للملأ ، وهنا عزي إليهم فيحتمل أنه قد قاله هو وقالوه هم فحكي قوله ثمّة وقولهم هنا ، أو قاله ابتداء فتلقنه منه الملأ فقالوه لأعقابهم { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ } يعني مصر { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } تشيرون من آمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ، وهو من كلام فرعون قاله للملأ لما قالوا له { إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم } { قَالُواْ أَرْجِهْ } بسكون الهاء : عاصم وحمزة أي أخر واحبس أي أخر أمره ولا تعجل ، أو كأنه هم بقتله فقالوا : أخر قتله واحبسه ولا تقتله ليتبين سحره عند الخلق { وَأَخَاهُ } هرون { وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين } جامعين .
{ يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } { سَحَّارٍ } : حمزة وعلي . أي يأتوك بكل ساحر عليم مثله في المهارة أو بخير منه { وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ } يريد فأرسل إليهم فحضروا { قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا } على الخبر وإثبات الأجر العظيم حجازي وحفص . ولم يقل «فقالوا» لأنه على تقدير سؤال سائل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله { قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا } لجعلاً على الغلبة . والتنكير للتعظيم كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر عظيم { إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ } إن لكم لأجراً { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } عندي فتكونون أول من يدخل وآخر من يخرج ، وكانوا ثمانين ألفاً أو سبعين ألفاً أو بضعة وثلاثين ألفاً { قَالُواْ يا موسى إَمَا أَن تُلْقِىَ } عصاك { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } لما معنا ، وفيه دلالة على أن رغبتهم في أن يلقوا قبله حيث أكد ضميرهم المتصل بالمنفصل وعرف الخبر { قَالَ } لهم موسى عليه السلام { أَلْقَوْاْ } تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل المتناظرون قبل أن يتحاوروا الجدال ، وقد سوغ لهم موسى ما رغبوا فيه ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم واعتماداً على أن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس } أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه . روي أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي أمثال الحيات قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضاً { واسترهبوهم } وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهوبتهم بالحيلة { وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } في باب السحر أو في عين من رآه .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15