كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي

{ فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] لأن سورة «براءة» من آخر ما نزل . وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق . أو المراد بالمن أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا ، أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وبالفداء أن يفادى بأسراهم أسارى المسلمين فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة رحمه الله وهو قولهما ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره لئلا يعودوا حرباً علينا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى : للإمام أن يختار أحد الأمور الأربعة : القتل والاسترقاق والفداء بأسارى المسلمين والمن .
{ حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } أثقالها وآلاتها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع . وقيل : أوزارها آثامها يعني حتى يترك أهل الحرب وهم المشركون شركهم بأن يسلموا وحتى لا يخلو من أن يتعلق بالضرب والشد أو بالمن والفداء ، فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين ، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وقيل : إذا نزل عيسى عليه السلام . وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين . وإذا علق بالمن والفداء فالمعنى أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل { ذلك } أي الأمر ذلك فهو مبتدأ وخبر أو افعلوا بهم ذلك فهو في محل النصب { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } لانتقم منهم بغير قتال ببعض أسباب الهلاك كالخسف أو الرجفة أو غير ذلك { ولكن } أمركم بالقتال { لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي المؤمنين بالكافرين تمحيصاً للمؤمنين وتمحيقاً للكافرين { والذين قُتِلُواْ } بصري وحفص . { قَاتَلُواْ } غيرهم { فِى سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أعمالهم سَيَهْدِيهِمْ } إلى طريق الجنة أو إلى الصواب في جواب منكر ونكير { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } يرضى خصماءهم ويقبل أعمالهم { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } عن مجاهد : عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يحتاجون أن يسألوا أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة . { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله } أي دين الله ورسوله { يَنصُرْكُمْ } على عدوكم ويفتح لكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام { والذين كَفَرُواْ } في موضع رفع بالابتداء والخبر { فَتَعْساً لَّهُمْ } وعطف قوله { وَأَضَلَّ أعمالهم } على الفعل الذي نصب { تعسا } لأن المعنى فقال تعساً لهم والتعس العثور .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار . { ذلك } أي التعس والضلال { بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله } أي القرآن { فَأَحْبَطَ أعمالهم أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض } يعني كفار أمتك { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } أهلكهم هلاك استئصال { وللكافرين } مشركي قريش { أمثالها } أمثال تلك الهلكة لأن التدمير يدل عليها { ذلك } أي نصر المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين { أَنَّ الله مَوْلَى الذين ءَامَنُواْ } وليهم وناصرهم { وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } أي لا ناصر لهم فإن الله مولى العباد جميعاً من جهة الاختراع وملك التصرف فيهم ، ومولى المؤمنين خاصة من جهة النصرة { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ } ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياماً قلائل { وَيَأْكُلُونَ } غافلين غير متفكرين في العاقبة { كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } في معالفها ومسارحها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } منزل ومقام .
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } أي وكم من قرية للتكثير وأراد بالقرية أهلها ولذلك قال { أهلكناهم } { هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ } أي وكم من قرية أشد قوة من قومك الذين أخرجوك أي كانوا سبب خروجك { أهلكناهم فَلاَ ناصر لَهُمْ } أي فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ } أي على حجة من عنده وبرهان وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله . وقال سوء عمله { واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } للحمل على لفظ من ومعناه { مَّثَلُ الجنة } صفة الجنة العجيبة الشأن { التى وُعِدَ المتقون } عن الشرك { فِيهَآ أَنْهَارٌ } داخل في حكم الصلة كالتكرير لها ألا ترى إلى صحة قولك التي فيها أنهار ، أو حال أي مستقرة فيها أنهار { مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ } غير متغير اللون والريح والطعم . يقال : أسن الماء إذا تغير طعمه وريحه { أسِن } مكي { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة وغيرها { وأنهار مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ } تأنيث لذ وهو اللذيذ { لِّلشَّارِبِينَ } أي ما هو إلا التلذذ الخالص ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ولا آفة من آفات الخمر { وأنهار مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبِّهِمْ } { مَثَلُ } مبتدأ خبره { كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً } حاراً في النهاية { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } والتقدير : أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ودخوله في حيزه وهو قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } .

وفائدة حذف حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار وبين النار التي يسقى أهلها الحميم . { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ ءَانِفاً } هم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالاً تهاوناً منهم ، فإذا خرجوا قالوا لأولي العلم من الصحابة : ماذا قال الساعة على جهة الاستهزاء { أُوْلَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } .

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)

{ والذين اهتدوا } بالإيمان واستماع القرآن { زَادَهُمْ } الله { هُدًى } أي بصيرة وعلماً أو شرح صدورهم { وءاتاهم تقواهم } أعانهم عليها أو آتاهم جزاء تقواهم أو بين لهم ما يتقون { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } أي ينتظرون { أَن تَأْتِيهُم } أي إتيانها فهو بدل اشتمال من { الساعة } { بَغْتَةً } فجأة { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } علاماتها وهو مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وإنشقاق القمر والدخان . وقيل : قطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام { فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } قال الأخفش : التقدير فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم { فاعلم أَنَّهُ } أن الشأن { لآ إله إِلاَّ الله واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } والمعنى فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله وعلى التواضع وهضم النفس باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك . وفي شرح التأويلات جاز أن يكون له ذنب فأمره بالاستغفار له ولكنا لا نعلمه ، غير أن ذنب الأنبياء ترك الأفضل دون مباشرة القبيح ، وذنوبنا مباشرة القبائح من الصغائر والكبائر . وقيل : الفاآت في هذه الآيات لعطف جملة على جملة بينهما اتصال { والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } في معايشكم ومتاجركم { وَمَثْوَاكُمْ } ويعلم حيث تستقرون من منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثوا كم في القبور ، أو متقلبكم في أعمالكم ومثوا كم في الجنة والنار ، ومثله حقيق بأن يتقى ويخشى وأن يستغفره وسئل سفيان ابن عيينة عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ الله واستغفر لِذَنبِكَ } فأمر بالعمل بعد العلم .
{ وَيَقُولُ الذين ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } فيها ذكر الجهاد { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } في معنى الجهاد { مُّحْكَمَةٌ } مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال . وعن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة { وَذُكِرَ فِيهَا القتال } أي أمر فيها بالجهاد { رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } نفاق أي رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي تشخص أبصارهم جبناً وجزعاً كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت { فأولى لَهُمْ } وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولى وهو القرب ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } كلام مستأنف أي طاعة وقول معروف خير لهم { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } فإذا جد الأمر ولزمهم فرض القتال { فَلَوْ صَدَقُواْ الله } في الإيمان والطاعة { لَكَانَ } الصدق { خَيْراً لَّهُمْ } من كراهة الجهاد . ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب بضرب من التوبيخ والإرهاب فقال :
{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } أي فلعلكم إن أعرضتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ووأد البنات .

وخبر عسى { أَن تُفْسِدُواْ } والشرط اعتراض بين الاسم والخبر والتقدير : فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم إن توليتم { أولئك } إشارة إلى المذكورين { الذين لَعَنَهُمُ الله } أبعدهم عن رحمته { فَأَصَمَّهُمْ } عن استماع الموعظة { وأعمى أبصارهم } عن إبصارهم طريق الهدى .
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } فيعرفوا ما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة حتى لا يجسروا على المعاصي . و «أم» في { أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } بمعنى بل وهمزة التقرير للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكره . ونكرت القلوب لأن المراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك ، والمراد بعض القلوب وهي قلوب المنافقين ، وأضيفت الأقفال إلى القلوب لأن المراد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح نحو الرين والختم والطبع .
{ إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } أي المنافقون رجعوا إلى الكفر سراً بعد وضوح الحق لهم { الشيطان سَوَّلَ } زين { لَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً ل «إن» نحو : إن زيداً عمرو مر به { وأملى لَهُمْ } ومدّ لهم في الآمال والأماني { وَأُمْلِىَ } أبو عمرو أي امهلوا ومد في عمرهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله } أي المنافقون قالوا لليهود { سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر } أي عدواة محمد والقعود عن نصرته { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } على المصدر من أسر : حمزة وعلي وحفص . { أسْرَارَهُمْ } غيرهم جمع سر { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة } أي فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذ { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم } عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره { ذلك } إشارة إلى التوفي الموصوف { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله } من معاونة الكافرين { وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ } من نصرة المؤمنين { فَأَحْبَطَ أعمالهم أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم } أحقادهم . والمعنى أظن المنافقون أن الله تعالى لا يبرز بغضهم وعداوتهم للمؤمنين { وَلَوْ نَشَآءُ لأريناكهم } لعرّفناكهم ودللناك عليهم { فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم } بعلامتهم وهو أن يسمهم الله بعلامة يعلمون بها وعن أنس رضي الله عنه : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول } في نحوه وأسلوبه الحسن من فحوى كلامهم لأنهم كانوا لا يقدرون على كتمان ما في أنفسهم .

واللام في { فَلَعَرَفْتَهُم } داخلة في جواب «لو» كالتي في { لأريناكهم } كررت في المعطوف ، وأما اللام في { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف { والله يَعْلَمُ أعمالكم } فيميز خيرها من شرها .
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } بالقتال إعلاماً لا استعلاماً أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العدل { حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } على الجهاد أي نعلم كائناً ما علمناه أنه سيكون { وَنَبْلُوَ أخباركم } أسراركم وليبلونكم حتى يعلم . { ويبلو } أبو بكر وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَآقُّواْ الرسول } وعادوه يعني المطعمين يوم بدر وقد مر { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } من بعد ما ظهر لهم أنه الحق وعرفوا الرسول { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أعمالهم } التي عملوها في مشاقة الرسول أي سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } بالنفاق أو بالرياء .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } قيل : هم أصحاب القليب والظاهر العموم { فَلاَ تَهِنُواْ } فلا تضعفوا ولا تذلوا للعدو { وَتَدْعُواْ إِلَى السلم } وبالكسر : حمزة وأبو بكر وهما المسالة أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي الأغلبون وتدعوا مجزوم لدخوله في حكم النهي { والله مَعَكُمْ } بالنصرة أي ناصركم { وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم } ولن ينقصكم أجر أعمالكم { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } تنقطع في أسرع مدة { وَإِن تُؤْمِنُواْ } بالله ورسوله { وَتَتَّقُواْ } الشرك { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } ثواب إيمانكم وتقواكم { وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم } أي لا يسألكم جميعها بل ربع العشر ، والفاعل الله أو الرسول وقال سفيان بن عيينة : غيضاً من فيض { إِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ } أي يجهدكم ويطلبه كله والإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء . يقال : أحفاه في المسئلة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح ، وأحفى شاربه إذا استأصله { تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ } أي الله أو البخل { أضغانكم } عند الامتناع أو عند سؤال الجميع لأنه عند مسئلة المال تظهر العداوة والحقد .
{ هَآأَنتُمْ } ها للتنبيه { هؤلاءآء } موصول بمعنى الذين صلته { تَدْعُونَ } أي أنتم الذين تدعون { لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } هي النفقة في الغزو أو الزكاة كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } بالرفع لأن من هذه ليست للشرط أي فمنكم ناس يبخلون به { وَمَن يَبْخَلْ } بالصدقة وأداء الفريضة { فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي يبخل عن داعي نفسه لا عن داعي ربه . وقيل : يبخل على نفسه يقال بخلت عليه وعنه { والله الغنى وَأَنتُمُ الفقرآء } أي أنه لا يأمر بذلك لحاجته إليه لأنه غني عن الحاجات ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } وإن تعرضوا أيها العرب عن طاعته وطاعة رسوله والإنفاق في سبيله ، وهو معطوف على { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } يخلق قوماً خيراً منكم وأطوع وهم فارس وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال : « هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناله رجال من فارس » { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم } أي ثم لا يكونوا في الطاعة أمثالكم بل أطوع منكم .

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب ، لأنه مغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به فقد فتح ، ثم قيل هو فتح مكة وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح . وجيء به على لفظ الماضي لأنها في تحققها بمنزلة الكائنة وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر عنه وهو الفتح ما لا يخفى . وقيل : هو فتح الحديبية ولم يكن فيه قتال شديد ولكن ترامٍ بين القوم بسهام وحجارة ، فرمى المسلمون المشركين حتى أدخلوهم ديارهم وسألوا الصلح فكان فتحاً مبيناً وقال الزجاج : كان في فتح الحديبية آية للمسلمين عظيمة ، وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه في البئر فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس . وقيل : هو فتح خيبر . وقيل : معناه قضينا لك قضاء بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت من الفتاحة وهي الحكومة . { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } قيل : الفتح ليس بسبب للمغفرة والتقدير : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً فاستغفر ليغفر لك الله ومثله { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } إلى قوله { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره } [ النصر : 1 ، 3 ] ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سبباً للغفران . وقيل : الفتح لم يكن ليغفر له بل لإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، ولكنه لما عدد عليه هذه النعم وصلها بما هو أعظم النعم كأنه قيل : يسرّنا لك فتح مكة أو كذا لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } يريد جميع ما فرط منك أو ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك { وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً } ويثبتك على الدين المرضي { وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً } قوياً منيعاً لا ذل بعده أبداً .
{ هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين لِيَزْدَادُوآ إيمانا مَّعَ إيمانهم } السكينة للسكون كالبهيتة للبهتان أي أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب الصلح ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم . وقيل : السكينة الصبر على ما أمر الله والثقة بوعد الله والتعظيم لأمر الله { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } أي ولله جنود السماوات والأرض يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته ، ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه { الظآنين بالله ظَنَّ السوء } وقع السوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده .

يقال : فعل سوء أي مسخوط فاسد ، والمراد ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهراً { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } مكي وأبو عمرو أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم ، والسوء الهلاك والدمار وغيرهما { دَائِرَة السوء } بالفتح إلا أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء ، وأما السوء فجارٍ مجرى الشر الذي هو نقيض الخير { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } جهنم { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } فيدفع كيد من عادى نبيه عليه السلام والمؤمنين بما شاء منها { وَكَانَ الله عَزِيزاً } غالباً فلا يرد بأسه { حَكِيماً } فيما دبر .
{ إِنَّآ أرسلناك شَاهِداً } تشهد على أمتك يوم القيامة وهذه حال مقدرة { وَمُبَشِّراً } للمؤمنين بالجنة { وَنَذِيرًا } للكافرين من النار { لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته { وَتُعَزِّرُوهُ } وتقووه بالنصر { وَتُوَقِّرُوهُ } وتعظموه { وَتُسَبِّحُوهُ } من التسبيح أو من السبحة ، والضمائر لله عز وجل . والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ، ومن فرق الضمائر فجعل الأولين للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أبعد { لِيُؤْمِنُواْ } مكي وأبو عمرو والضمير للناس وكذا الثلاثة الأخيرة بالياء عندهما { بُكْرَةً } صلاة الفجر { وَأَصِيلاً } الصلوات الأربع { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ } أي بيعة الرضوان . ولما قال { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أكده تأكيداً على طريقة التخييل فقال { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما كقوله { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] و { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } خبر «إن» { فَمَن نَّكَثَ } نقض العهد ولم يف بالبيعة { فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه . قال جابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقاً اختبأ تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم { وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد } يقال : وفيت بالعهد وأوفيت به ومنه قوله { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] { والموفون بِعَهْدِهِمْ } [ البقرة : 177 ] { عَلَيْهِ الله } حفص { فَسَيُؤْتِيهِ } وبالنون حجازي وشامي { أَجْراً عَظِيماً } الجنة .

{ سَيَقُولُ لَكَ } إذا رجعت من الحديبية { المخلفون مِنَ الأعراب } هم الذين خلّفوا عن الحديبية وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدئل ، وذلك أنه عليه السلام حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حرباً ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة { شَغَلَتْنَآ أموالنا وَأَهْلُونَا } هي جمع أهل اعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس من يقوم بأشغالهم { فاستغفر لَنَا } ليغفر لنا الله تخلفنا عنك { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } تكذيب لهم في اعتذارهم وأن الذي خلفهم ليس ما يقولون ، وإنما هو الشك في الله والنفاق فطلبهم الاستغفار أيضاً ليس بصادر عن حقيقة { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً } ما يضركم من قتل أو هزيمة { ضَرّا } حمزة وعلي { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } من غنيمة وظفر .
{ بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلك فِى قُلُوبِكُمْ } زينه الشيطان { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء } من علو الكفر وظهور الفساد { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } جمع بائر كعائذ وعوز من بار الشيء هلك وفسد أي وكنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم ، أو هالكين عند الله مستحقين لسخطه وعقابه { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين } أي لهم فأقيم الظاهر مقام الضمير للإيذان بأن من لم يجمع بين الإيمانين : الإيمان بالله والإيمان برسوله ، فهو كافر ونكّر { سَعِيراً } لأنها نار مخصوصة كما نكر { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } يدبره تدبير قادر حكيم { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } يغفر ويعذب بمشيئته وحكمته وحكمته المغفرة للمؤمنين والتعذيب للكافرين { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } سبقت رحمته غضبه .
{ سَيَقُولُ المخلفون } الذين تخلفوا عن الحديبية { إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ } إلى غنائم خيبر { لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كلام الله } { كَلِمَ الله } : حمزة وعلي أي يريدون أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئاً { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } إلى خيبر وهو إخبار من الله بعدم اتباعهم ولا يبدل القول لديه { كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ } من قبل انصرافهم إلى المدينة إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية دون غيرهم { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } أي لم يأمركم الله به بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ } من كلام الله { إِلاَّ قَلِيلاً } إلا شيئاً قليلاً يعني مجرد القول . والفرق بين الإضرابين أن الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتّبعوهم وإثبات الحسد ، والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أطم منه وهو الجهل وقلة الفقه .

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

{ قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب } هم الذين تخلفوا عن الحديبية { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني بني حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف . وقيل : هم فارس وقد دعاهم عمر رضي الله عنه { تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ } أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام . ومعنى يسلمون على هذا التأويل ينقادون لأن فارس مجوس تقبل منهم الجزية ، وفي الآية دلالة صحة خلافة الشيخين حيث وعدهم الثواب على طاعة الداعي عند دعوته بقوله { فَإِن تُطِيعُواْ } من دعاكم إلى قتاله { يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً } فوجب أن يكون الداعي مفترض الطاعة { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ } أي عن الحديبية { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } في الآخرة { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } نفي الحرج عن ذوي العاهات في التخلف عن الغزو { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } في الجهاد وغير ذلك { يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ } يعرض عن الطاعة { يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } { ندخله } و { نُعَذِّبُهُ } مدني وشامي .
{ لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة } هي بيعة الرضوان سميت بهذه الآية . وقصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل بالحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي رسولاً إلى مكة فهموا به فمنعه الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي لما عرف من عداوتي إياهم ، فبعث عثمان بن عفان فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً للبيت فوقروه واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا نبرح حتى نناجز القوم » ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه على أن يناجزوا قريشاً ولا يفروا تحت الشجرة ، وكانت سمرة وكان عدد المبايعين ألفاً وأربعمائة { فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه { فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ } أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم { وأثابهم } وجازاهم { فَتْحاً قَرِيباً } هو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } هي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال فقسمها عليهم { وَكَانَ الله عَزِيزاً } منيعاً فلا يغالب { حَكِيماً } فيما يحكم فلا يعارض { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } هي ما أصابوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } المغانم يعني مغانم خيبر { وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ } يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا .

وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح { وَلِتَكُونَ } هذه الكفة { ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } وعبرة يعرفون بها أنهم من الله عز وجل بمكان وأنه ضامن نصرتهم والفتح عليهم فعل ذلك { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } ويزيدكم بصيرة ويقيناً وثقة بفضل الله .
{ وأخرى } معطوفة على { هذه } أي فعجل لكم هذه المغانم و { مَغَانِمَ أخرى } هي مغانم هوازن في غزوة حنين { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } لما كان فيها من الجولة { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها ، ويجوز في { أخرى } النصب بفعل مضمر يفسره { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } تقديره : وقضى الله أخرى قد أحاط بها ، وأما { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } فصفة ل { أخرى } والرفع على الابتداء لكونها موصوفة ب { لَمْ تَقْدِرُواْ } ، و { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } خبر المبتدأ { وَكَانَ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً } قادراً { وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ } من أهل مكة ولم يصالحوا أو من حلفاء أهل خيبر { لَوَلَّوُاْ الأدبار } لغلبوا وانهزموا { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يلي أمرهم { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم { سُنَّةَ الله } في موضع المصدر المؤكد أي سن الله غلبة أنبيائه سنة وهو قوله { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] { التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } تغييراً .
{ وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } أي أيدي أهل مكة { وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم } عن أهل مكة يعني قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك يوم الفتح وبه استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً . وقيل : كان في غزوة الحديبية لما رُوي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت { بِبَطْنِ مَكَّةَ } أي بمكة أو بالحديبية لأن بعضها منسوب إلى الحرم { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي أقدركم وسلطكم { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } وبالياء : أبو عمرو { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى } هو ما يهدي إلى الكعبة . ونصبه عطفاً على «كم» في { صَدُّوكُمْ } أي وصدوا الهدي { مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ } محبوساً أن يبلغ ، و { مَعْكُوفاً } حال . وكان عليه السلام ساق سبعين بدنة { مَحِلَّهُ } مكانه الذي يحل فيه نحره أي يجب ، وهذا دليل على أن المحصر محل هديه الحرم والمراد المعهود وهو منى { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مؤمنات } بمكة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة للرجال والنساء جميعاً { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في { تَعْلَمُوهُمْ } { فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } إثم وشدة وهي مفعلة من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه وهو الكفارة إذا قتله خطأ ، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز والإثم إذا قصر .

{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلق ب { أَن تَطَئُوهُمْ } يعني أن تطئوهم غير عالمين بهم . والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة . والمعنى أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم فقيل : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كف أيديكم عنهم . وقوله { لِّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } تعليل لما دلت عليه الآية وسيقت له من كف الأيدي عن أهل مكة والمنع عن قتلهم صوناً لمن بين أظهرهم من المؤمنين كأنه قال : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم ، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم { لَوْ تَزَيَّلُواْ } لو تفرقوا وتميز المسلمون من الكافرين ، وجواب «لولا» محذوف أغنى عنه جواب «لو» ، ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير ل { لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون { لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ } هو الجواب تقديره ولولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف { مِنْهُمْ } من أهل مكة { عَذَاباً أَلِيماً } .
والعامل في { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ } أي قريش لعذبنا أي لعذبناهم في ذلك الوقت أو اذكر { فِى قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } المراد بحمية الذين كفروا وهي الأنفة وسكينة المؤمنين وهي الوقار ما يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية بعث قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ففعل ذلك وكتبوا بينهم كتاباً . فقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم . ثم قال : " اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة " فقالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة . فقال عليه السلام : " اكتب ما يريدون فأنا أشهد أني رسول الله وأنا محمد بن عبد الله " فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } الجمهور على أنها كلمة الشهادة . وقيل : بسم الله الرحمن الرحيم . والإضافة إلى التقوى باعتبار أنها سبب التقوى وأساسها . وقيل : كلمة أهل التقوى { وَكَانُواْ } أي المؤمنون { أَحَقَّ بِهَا } من غيرهم { وَأَهْلَهَا } بتأهيل الله إياهم { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً } فيجري الأمور على مصالحها .

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

{ لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا } أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله : { صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } [ الاحزاب : 23 ] . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلفوا وقصروا ، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وغيره : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت { بالحق } متعلق ب { صَدَقَ } أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقاً ملتبساً بالحق أي بالحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن الخالص وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن يكون بالحق قسماً إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أو بالحق الذي هو من أسمائه ، وجوابه { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } وعلى الأول هو جواب قسم محذوف { إِن شَآءَ الله } حكاية من الله تعالى ما قال رسوله لأصحابه وقص عليهم ، أو تعليم لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنته { ءَامِنِينَ } حال والشرط معترض { مُحَلِّقِينَ } حال من الضمير في { ءَامِنِينَ } { رُءُوسَكُمْ } أي جميع شعورها { وَمُقَصِّرِينَ } بعض شعورها { لاَ تخافون } حال مؤكدة { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي من دون فتح مكة { فَتْحاً قَرِيباً } وهو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود .
{ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى } بالتوحيد { وَدِينِ الحق } أي الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلِّهِ } على جنس الدين يريد الأديان المختلفة من أديان المشركين وأهل الكتاب ، ولقد حقق ذلك سبحانه فإنك لا ترى ديناً قط إلا وللإسلام دونه العزة والغلبة . وقيل : هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر . وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات { وكفى بالله شَهِيداً } على أن ما وعده كائن ، وعن الحسن : شهد على نفسه أنه سيظهر دينه والتقدير وكفاه الله شهيداً و { شَهِيداً } تمييز أو حال { مُحَمَّدٌ } خبر مبتدأ أي هو محمد لتقدم قوله { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } أو مبتدأ خبره { رَسُولِ الله } وقف عليه نصير { والذين مَعَهُ } أي أصحابه مبتدأ والخبر { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } أو { مُحَمَّدٌ } مبتدأ و { رَسُول الله } عطف بيان و { الذين مَعَهُ } عطف على المبتدأ و { أَشِدَّاء } خبر عن الجميع ومعناه غلاظ { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } متعاطفون وهو خبر ثانٍ وهما جمعاً شديد ورحيم ونحوه

{ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] وبلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه .
{ تراهم رُكَّعاً } راكعين { سُجَّدًا } ساجدين { يَبْتَغُونَ } حال كما أن ركعاً وسجداً كذلك { فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سيماهم } علامتهم { فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود } أي من التأثير الذي يؤثره السجود . وعن عطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لقوله عليه السلام : " من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " { ذلك } أي المذكور { مَثَلُهُمْ } صفتهم { فِي التوراة } وعليه وقف { وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل } مبتدأ خبره { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ } فراخه . يقال : أشطأ الزرع إذا فرخ { فَأَزَرَهُ } قواه ، { فَأزره } شامي { فاستغلظ } فصار من الرقة إلى الغلظ { فاستوى على سُوقِهِ } فاستقام على قصبه جمع ساق { يُعْجِبُ الزراع } يتعجبون من قوته . وقيل : مكتوب في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضوان الله عليهم . وهذا مثل ضربه الله تعالى لبدء الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة .
ويجوز أن يعلل به { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الكفار إذا سمعوا بما أعد لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك . و «من» في { مِنْهُمْ } للبيان كما في قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان } [ الحج : 30 ] يعني فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، وقولك «أنفق من الدراهم» أي اجعل نفقتك هذا الجنس . وهذه الآية ترد قول الروافض إنهم كفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون أن لو ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ } قدّمه وأقدمه منقولان بتثقيل الحشو ، والهمزة من قدمه إذا تقدمه في قوله تعالى { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } [ هود : 98 ] وحذف المفعول ليتناول كل ما وقع في النفس مما يقدم من القول أو الفعل ، وجاز أن لا يقصد مفعول والنهي متوجه إلى نفس التقدمة كقوله { هُوَ الذى يُحْيىِ وَيُمِيتُ } [ غافر : 68 ] أو هو من قدّم بمعنى تقدم كوجه بمعنى توجه ومنه مقدمة الجيش وهي الجماعة المتقدمة منه ويؤيده قراءة يعقوب { لاَ تُقَدّمُواْ } بحذف إحدى تاءي تتقدموا { بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره . وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلاً ، وفيه فائدة جليلة وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة . ويجوز أن يجري مجرى قولك «سرني زيد وحسن حاله» أي سرني حسن حال زيد . فكذلك هنا المعنى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص . ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك ، وفي هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام ، لأن من فضله الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت . وعن الحسن أن إناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر . وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك . { واتقوا الله } فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لما تقولون { عَلِيمٌ } بما تعملون وحق مثله أن يتقي .
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ } إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد ، وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم { لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم وجهره باهراً لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر ، أو لا تقولوا : له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم ، ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر إلا كأخي السرار .

وعن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذانه وقر وكان جهوري الصوت ، وكان إذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته ، وكاف التشبيه في محل النصب أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض ، وفي هذا أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها . { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } منصوب الموضع على أنه المفعول له متعلق بمعنى النهي ، والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أي لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } . { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله } تم اسم «إن» عند قوله { رَسُولِ الله } والمعنى يخفضون أصواتهم في مجلسه تعظيماً له { أولئك } مبتدأ خبره { الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } وتم صلة { الذين } عند قوله { للتقوى } و { أولئك } مع خبره خبر «إن» . والمعنى أخلصها للتقوى من قولهم «امتحن الذهب وفتنة» إذا أذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه ، وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضي الله عنه : أذهب الشهوات عنها . والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } جملة أخرى قيل : نزلت في الشيخين رضي الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت ، وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً ل «إن» المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً والمبتدأ اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم ، وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم .
{ إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات } نزلت في وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته وقالوا : اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمنا شين ، فاستيقظ وخرج . والوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام ، و «من» لابتداء الغاية ، وأن المناداة نشأت من ذلك المكان ، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهي فعلة بمعنى مفعولة كالقبضة وجمعها الحجرات بضمتين ، والحجرات بفتح الجيم وهي قراءة يزيد والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت لكل منهن حجرة .

ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين فكأنهم تولوه جميعاً { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } يحتمل أن يكون فيهم من قصد استثناؤه ، ويحتمل أن يكون المراد النفي العام إذا القلة تقع موقع النفي .
وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها : التسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل ، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه ، ومنها التعريف باللام دون الإضافة ، ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك . فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد ، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كأن الأول بساط للثاني ، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظيم موقعه عند الله ، ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغاً { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } أي ولو ثبت صبرهم ، ومحل { أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } الرفع على الفاعلية . والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها قال الله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] . وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس . وقيل : الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حرّ . وقوله { حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم { لَكَانَ } الصبر { خَيْراً لَّهُمْ } في دينهم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بليغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } أجمعوا أنها نزلت في الوليد بن عقبة وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً إلى بني المصطلق وكانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين إليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة .

فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع . وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ { فَتَبَيَّنُوآ } فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق ، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه . وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا التخصيص به عن الفائدة ، والفسوق الخروج من الشيء . يقال : فسقت الرطبة عن قشرها ، ومن مقلوبه : فقست البيضة إذا كسرتها وأخرجت ما فيها ، ومن مقلوبه أيضاً : قفست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له عليه ، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر . حمزة وعلي { فتثبتوا } والتثبت والتبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف { أَن تصيبوا قَوْماً } لئلا تصيبوا { بِجَهَالَةٍ } حال يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة { فَتُصْبِحُواْ } فتصيروا { على مَا فَعَلْتُمْ نادمين } الندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام .
{ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } فلا تكذبوا فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب ، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه . ثم قال مستأنفاً { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ } لوقعتم في الجهد والهلاك ، وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان } وقيل : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . ولما كانت صفة الذين حبب الله إليهم الإيمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقعت «لكن» في حاقّ موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً { وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر } وهو تغطية نعم الله وغمطها بالجحود { والفسوق } وهو الخروج عن محجة الإيمان بركوب الكبائر { والعصيان } وهو ترك الانقياد بما أمر به الشارع { أُوْلَئِكَ هُمُ الراشدون } أي أولئك المستثنون هم الراشدون يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلوا عن الاستقامة ، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة { فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً } الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام ، والانتصاب على المفعول له أي حبب وكره للفضل والنعمة { والله عَلِيمٌ } بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل { حَكِيمٌ } حين يفضل وينعم بالتوفيق على الأفاضل .

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبي بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه . فقال عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيب من مسكك . ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي . وقيل : بالأيدي والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم ونزلت . وجمع { اقتتلوا } حملاً على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس ، وثنى في { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } نظراً إلى اللفظ { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى } البغي الاستطالة والظلم وإباء الصلح { فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىءَ } أي ترجع والفيء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين ، وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت { إلى أَمْرِ الله } المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء { فَإِن فَآءَتْ } عن البغي إلى أمر الله { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } بالإنصاف { وَأَقْسِطُواْ } واعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } العادلين والقسط : الجور ، والقسط : العدل ، والفعل منه أقسط وهمزته للسلب أي أزال القسط وهو الجور .
{ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } هذا تقرير لما ألزمه من تولي الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين ، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها . ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الأخوين ولاداً لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالإخوة في الدين أحق بذلك ، { أخوتكم } يعقوب { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي واتقوا الله ، فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم مرجواً ، والآية تدل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغي .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } القوم : الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } [ النساء : 34 ] وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر . واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله :

وما أدري ولست إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء؟
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن . وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض ، وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية . وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه ، وقوله : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } . كلام مستأنف ورد مورد جواب المستخبر عن علة النهي وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء ، والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر ، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً .
{ وَلاَ تَلْمِزُوآ أَنفُسَكُمْ } ولا تطعنوا أهل دينكم . واللمز : الطعن والضرب باللسان { وَلاَ تَلْمُزُواْ } يعقوب وسهل . والمؤمنون كنفس واحدة فإذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه . وقيل : معناه لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } التنابز بالألقاب التداعي بها ، والنبز لقب السوء والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذماً له ، فأما ما يحبه فلا بأس به . ورُوي أن قوماً من بني تميم استهزءوا ببلال وخباب وعمار وصهيب فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة وكانت قصيرة ، وعن أنس رضي الله عنه : عيرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر . ورُوي أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع ، فأتى يوماً وهو يقول تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل : تنح فلم يفعل . فقال : من هذا؟ فقال الرجل : أنا فلان . فقال : بل أنت ابن فلانة يريد أماً كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً .

{ بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم «طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم» وحقيقته ما سما من ذكره وارتفع بين الناس كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق . وقوله { بَعْدَ الإيمان } استقباح للجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يحظره الإيمان كما تقول «بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة» . وقيل : كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } عما نهي عنه { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } وحد وجمع للفظ من ومعناه .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن } يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه . وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين قال الله تعالى : { واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولاً والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة ألا ترى إلى قوله { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } قال الزجاج : هو ظنك بأهل الخير سوأ ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم . أو معناه اجتناباً كثيراً أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض ، والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الأثام فعلا منه كالنكال والعذاب { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم . يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس . وعن مجاهد : خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله . وقال سهل : لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره الله على عباده { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهي من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال ، وفي الحديث " هو أن تذكر أخاك بما يكره " فإن كان فيه فهو غيبة وإلا فهو بهتان . وعن ابن عباس : الغيبة إدام كلاب الناس .
{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } { مَيِّتًا } مدني . وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه ، وفي مبالغات منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ، ومنها أن لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتاً . وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي ، وانتصب { مَيْتًا } على الحال من اللحم أو من أخيه ، ولما قررهم بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله { فَكَرِهْتُمُوهُ } أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين { واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } التواب : البليغ في قبول التوبة ، والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين .

ورُوي أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها . فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا : ما تناولنا لحماً ، قال : إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه . ثم قرأ الآية ، وقيل : غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

{ يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب { وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة . فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل ، خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة ، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها { لتعارفوا } أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب . ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } في الحديث : « من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى . ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « الحمد لله الذي أذهب عنكم عِبُية الجاهلية وتكبرها . يا أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر وشقي هين على الله » ثم قرأ الآية . وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئاً فنزلت { إِنَّ الله عَلِيمٌ } كرم القلوب وتقواها { خَبِيرٌ } بهمّ النفوس في هواها .
{ قَالَتِ الأعراب } أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فاظهروا الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه { ءَامَنَّا } أي ظاهراً وباطناً { قُلْ } لهم يا محمد { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } لم تصدقوا بقلوبكم { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } فالإيمان هو التصديق ، والإسلام الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين ، ألا ترى إلى قوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ } فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان ، وهذا من حيث اللغة . وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف ، وفي { لَّمّاً } معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد .

والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنَّ باللسان ، فإن قلت : مقتضى نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم . قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً فقيل { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحاً ووضع { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان ، ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك . ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به . وليس قوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ } تكريراً لمعنى قوله { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } فإن فائدة قوله { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } تكذيب لدعواهم وقوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ } توقيب لما أمروا به أن يقولوه كأن قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في { قُولُواْ } .
{ وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } في السر بترك النفاق { لاَ يَلِتْكُمْ } { لا يألتكم } : بصري { مِّنْ أعمالكم شَيْئاً } أي لا ينقصكم من ثواب حسناتكم شيئاً . ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص { أَنَّ الله غَفُورٌ } بستر الذنوب { رَّحِيمٌ } بهدايتهم للتوبة عن العيوب . ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال { إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة ، والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لما صدقوه . ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه ، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً { وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى ، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد ، ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وأن يتناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة ، وأن يتناول الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر . وخبر المبتدأ الذي هو { المؤمنون } { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق . وقوله { الذين آمَنُواْ } صفة لهم .
ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مخلصون فنزل { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ } أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم { والله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض والله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } من النفاق والإخلاص وغير ذلك { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ } أي بأن { أَسْلَمُواْ } يعني بإسلامهم .

والمن ذكر الأيادي تعريضاً للشكر { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } أي المنة لله عليكم { أَنْ هَداكُمْ } بأن هداكم أو لأن { للإيمان إِنُ كُنتُمْ صادقين } إن صح زعمكم وصدقت دعواكم إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم وقرىء { إِنْ هَداكُمْ } { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وبالياء : مكي . وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفي عليه منه شيء فكيف يخفي عليه ما في ضمائركم وهو علام الغيوب؟

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

الكلام في { ق والقرءان المجيد بَلْ عَجِبُوآ } كالكلام في { ص والقرءان ذِى الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ } سواء بسواء لالتقائهما في أسلوب واحد . والمجيد ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس . وقوله { بَلْ عَجِبُواْ } أي كفار مكة { أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي محمد صلى الله عليه وسلم إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته ، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه خائفاً أن ينالهم مكروه ، وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم فكيف بما هو غاية المخاوف وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وعلى اختراع كل شيء وإقرارهم بالنشأة الأولى مع شهادة العقل بأنه لا بد من الجزاء؟ ثم عول على أحد الإنكارين بقوله { فَقَالَ الكافرون هذا شَىْءٌ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار . وضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم ، وهذا إشارة إلى الرجع . و«إذا» منصوب بمضمر معناه أحين نموت ونبلى نرجع . { مِتْنَا } نافع وعلي وحمزة وحفص { ذلك رَجْعُ بَعِيدٌ } مستبعد مستنكر كقولك «هذا قول بعيد» أي بعيد من الوهم والعادة . ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف على { ترابا } على هذا حسن ، وناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ما دل عليه المنذر من المنذر به وهو البعث { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } رد لاستبعادهم الرجع لأن من لطف علمه حتى علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادراً على رجعهم أحياء كما كانوا { وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ } محفوظ من الشياطين ومن التغير وهو اللوح المحفوظ ، أو حافظ لما أودعه وكتب فيه { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ } إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } مضطرب . يقال : مرج الخاتم في الإصبع إذا اضطرب من سعته فيقولون تارة شاعر وطوراً ساحر ومرة كاهن لا يثبتون على شيء واحد . وقيل : الحق القرآن . وقيل : الإخبار بالبعث .
ثم دلهم على قدرته على البعث فقال { أَفَلَمْ يَنظُرُوآ } حين كفروا بالبعث { إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ } إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم { كَيْفَ بنيناها } رفعناها بغير عمد { وزيناها } بالنيرات { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } من فتوق وشقوق أي أنها سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل { والأرض مددناها } دحوناها { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } جبالاً ثوابت لولا هي لمالت { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } صنف { بَهِيجٍ } يبتهج به لحسنه { تَبْصِرَةً وذكرى } لنبصر به ونذكر { لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } راجع إلى ربه مفكر في بدائع خلقه .

{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا } كثير المنافع { فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات وَحَبَّ الحصيد } أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة والشعير وغيرهما { والنخل باسقات } طوالاً في السماء { لَّهَا طَلْعٌ } هو كل ما يطلع من ثمر النخيل { نَّضِيدٌ } منضود بعضه فوق بعض لكثرة الطلع وتراكمه أو لكثرة ما فيه من الثمر { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ } أي أنبتناها رزقاً للعباد لأن الإنبات في معنى الرزق فيكون { رِزْقاً } مصدراً من غير لفظه ، أو هو مفعول له أي أنبتناها لرزقهم { وَأَحْيَيْنَا بِهِ } بذلك الماء { بَلْدَةً مَّيْتاً } قد جف نباتها { كذلك الخروج } أي كما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم لأن إحياء الموات كإحياء الأموات ، والكاف في محل الرفع على الابتداء .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } قبل قريش { قَوْمُ نُوحٍ وأصحاب الرس } هو بئر لم تطو وهم قوم باليمامة وقيل أصحاب الأخدود { وَثَمُودُ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ } أراد بفرعون قومه كقوله { مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } [ يونس : 83 ] لأن المعطوف عليه قوم نوح والمعطوفات جماعات { وإخوان لُوطٍ وأصحاب الأيكة } سماهم إخوانه لأن بينهم وبينه نسباً قريباً { وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } هو ملك باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه وسمي به لكثرة تبعه { كُلٌّ } أي كل واحد منهم { كَذَّبَ الرسل } لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميعهم { فَحَقَّ وَعِيدِ } فوجب وحل وعيدي وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم { أَفَعَيِينَا } عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة للإنكار { بالخلق الأول } أي أنا لم نعجز عن الخلق الأول فكيف نعجز عن الثاني والاعتراف بذلك اعتراف بالإعادة { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ } في خلط وشبهة قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم وذلك تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر { مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } بعد الموت . وإنما نكر الخلق الجديد ليدل على عظمة شأنه وأن حق من سمع به أن يخاف ويهتم به .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } الوسوسة الصوت الخفي ووسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس ، والباء مثلها في قوله «صوت بكذا» { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } المراد قرب علمه منه { مِنْ حَبْلِ الوريد } هو مثل في فرط القرب ، والوريد عرق في باطن العنق ، والحبل العرق ، والإضافة للبيان كقولهم «بعير سانية» { إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان } يعني الملكين الحافظين { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } التلقي التلقن بالحفظ والكتابة والقعيد والمقاعد بمعنى المجالس وتقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال من المتلقيين فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه كقوله

: ... رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئاً ومن أجل الطوى رماني ... أي رماني بأمر كنت منه بريئاً وكان والدي منه بريئاً . و«إذ» منصوب بأقرب لما فيه من معنى يقرب ، والمعنى إنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس ولا شيء أخفى منه وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به إيذاناً بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه ، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائف العمل يوم القيامة من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات .
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } ما يتكلم به وما يرمي به من فيه { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } حافظ { عَتِيدٌ } حاضر . ثم قيل : يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقيل : لا يكتبان إلا ما فيه أجر أو وزر . وقيل : إن الملكين لا يجتنبانه إلا عند الغائط والجماع . لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بقدرته وعلمه أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة ، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي وهو قوله { وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } أي شدته الذاهبة بالعقل ملتبسة { بالحق } أي بحقيقة الأمر أو بالحكمة { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ } الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان في قوله { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } على طريق الالتفات { تَحِيدُ } تنفر وتهرب { وَنُفِخَ فِى الصور } يعني نفخة البعث { ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد } أي وقت ذلك يوم الوعيد على حذف المضاف والإشارة إلى مصدر نفخ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } أي ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه بعمله ، ومحل { مَّعَهَا سَائِقٌ } النصب على الحال من { كُلٌّ } لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة { لَّقَدْ كُنتَ } أي يقال لها لقد كنت { فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هذا } النازل بك اليوم { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } أي فأزلنا غفلتك بما تشاهده { فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله أو غشاوة غطي بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً ، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق ، ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته حديداً لتيقظه .

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

{ وَقَالَ قَرِينُهُ } الجمهور على أنه الملك الكاتب الشهيد عليه { هذا } أي ديوان عمله ، مجاهد : شيطانه الذي قيض له في قوله { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . هذا أي الذي وكلت به { مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } { هذا } مبتدأ و { مَا } نكرة بمعنى شيء والظرف بعده وصف له وكذلك { عَتِيدٌ } و { مَا } وصفتها خبر { هذا } والتقدير هذا شيء ثابت لديّ عتيد . ثم يقول الله تعالى { أَلْقِيَا } والخطاب للسائق والشهيد أو لمالك ، وكأن الأصل ألقِ ألقِ فناب ألقيا عن ألق ألق لأن الفاعل كالجزء من الفعل فكانت تثنية الفاعل نائبة عن تكرار الفعل . وقيل : أصله ألقين والألف بدل من النون إجراء للوصل مجرى الوقف دليله قراءة الحسن { ألقين } { فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ } بالنعم والمنعم { عَنِيدٍ } معاند مجانب للحق معاد لأهله { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله { مُعْتَدٍ } ظالم متخط للحق { مُرِيبٍ } شاك في الله وفي دينه { الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ } مبتدأ متضمن معنى الشرط خبره { فألقياه فِى العذاب الشديد } أو بدل من { كُلَّ كَفَّارٍ } و { فألقياه } تكرير للتوكيد ولا يجوز أن يكون صفة ل { كَفَّار } لأن النكرة لا توصف بالموصول .
{ قَالَ قرِينُهُ } أي شيطانه الذي قرن به وهو شاهد لمجاهد ، وإنما أخليت هذه الجملة عن الواو دون الأولى لأن الأولى واجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه ما قال له ، وأما هذه فهي مستأنفة كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما في مقاولة موسى وفرعون ، فكأن الكافر قال رب هو أطغاني فقال قرينه { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِى ضلال بَعِيدٍ } أي ما أوقعته في الطغيان ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ } هو استئناف مثل قوله تعالى { قَالَ قرِينُهُ } كأن قائلاً قال : فماذا قال الله؟ فقيل : قال لا تختصموا { لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } أي لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فما تركت لكم حجة عليّ . والباء في { بالوعيد } مزيدة كما في قوله { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو معدية على أن قدم مطاوع بمعنى تقدم { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } أي لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } فلا أعذب عبداً بغير ذنب .

وقال { بظلام } على لفظ المبالغة لأنه من قولك هو ظالم لعبده وظلام لعبيده { يَوْمَ } نصب ب { ظلام } أو بمضمر هو اذكر وأنذر { نَّقُولُ } نافع وأبو بكر أي يقول الله { لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وهو مصدر كالمجيد أي أنها تقول بعد امتلائها هل من مزيد أي هل بقي فيّ موضع لم يمتليء يعني قد امتلأت ، أو أنها تستزيد وفيها موضع للمزيد وهذا على تحقيق القول من جهنم وهو غير مستنكر كإنطاق الجوارح ، والسؤال لتوبيخ الكفرة لعلمه تعالى بأنها امتلأت أم لا .
{ وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } غير نصب على الظرف أي مكاناً غير بعيد ، أو على الحال وتذكيره لأنه على زنة المصدر كالصليل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث ، أو على حذف الموصوف أي شيئاً غير بعيد ومعناه التوكيد كما تقول : هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل { هذا } مبتدأ وهو إشارة إلى الثواب أو إلى مصدر أزلفت { مَّا تُوعَدُونَ } صفته وبالياء : مكي { لِكُلِّ أَوَّابٍ } رجاع إلى ذكر الله خبره { حَفِيظٍ } حافظ لحدوده جاء في الحديث " من حافظ على أربع ركعات في أول النهار كان أواباً حفيظاً " { مَّنْ } مجرور المحل بدل من { أَوَّاب } أو رفع بالابتداء وخبره { ادخلوها } على تقدير يقال لهم ادخولها بسلام لأن «من» في معنى الجمع { خَشِىَ الرحمن } الخشية انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة ، وقرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته مع علمه أنه الواسع الرحمة كما أثنى عليه بأنه خاشٍ مع أن المخشي منه غائب { بالغيب } حال من المفعول أي خشيه وهو غائب ، أو صفة لمصدر خشي أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب . الحسن : إذا أغلق الباب وأرخى الستر { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } راجع إلى الله . وقيل : بسريرة مرضية وعقيدة صحيحة { ادخلوها بِسَلامٍ } أي سالمين من زوال النعم وحلول النقم { ذلك يَوْمُ الخلود } أي يوم تقدير الخلود كقوله { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] أي مقدرين الخلود { لَهُم مَّا يَشَآءَونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } على ما يشتهون ، والجمهور على أنه رؤية الله تعالى بلا كيف .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } قبل قومك { مِّن قَرْنٍ } من القرون الذين كذبوا رسلهم { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم } من قومك { بَطْشاً } قوة وسطوة { فَنَقَّبُواْ } فخرقوا { فِى البلاد } وطافوا . والتنقيب التنقير عن الأمر والبحث والطلب ، ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي شدة بطشهم أقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه ، ويجوز أن يراد فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ، ويدل عليه قراءة من قرأ { فَنَقِّبُواْ } على الأمر { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مهرب من الله أو من الموت .

{ إِنَّ فِى ذلك } المذكور { لِذِكْرِى } تذكرة وموعظة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } واعٍ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له { أَوْ أَلْقَى السمع } أصغى إلى المواعظ { وَهُوَ شَهِيدٌ } حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب . { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } إعياء ، قيل : نزلت في اليهود لعنت تكذيباً لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش وقالوا : إن الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ . وأنكر اليهود التربيع في الجلوس وزعموا أنه جلس تلك الجلسة يوم السبت { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } أي على ما يقول اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه ، أو على ما يقول المشركون في أمر البعث فإن من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منه { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } حامداً ربك ، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة فالصلاة { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } الفجر { وَقَبْلَ الغروب } الظهر والعصر { وَمِنَ اليل فَسَبِّحْهُ } العشاءان أو التهجد { وأدبار السجود } التسبيح في آثار الصلوات والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة . وقيل : النوافل بعد المكتوبات أو الوتر بعد العشاء والأدبار جمع دبر ، { وإدبار } حجازي وحمزة وخلف من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت ، ومعناه وقت انقضاء السجود كقولهم «آتيك خفوق النجم» . { واستمع } لما أخبرك به من حال يوم القيامة وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به وقد وقف يعقوب عليه . وانتصب { يَوْمَ يُنَادِ المناد } بما دل عليه { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . وقيل : تقديره واستمع حديث يوم ينادي المنادي . { المنادي } بالياء في الحالين : مكي وسهل ويعقوب ، وفي الوصل : مدني وأبو عمرو ، وغيرهم بغير ياء فيهما . والمنادي إسرافيل ينفخ في الصور وينادي : أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من صخرة بيت المقدس وهي أقرب من الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض .
{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة } بدل من { يَوْمٍ يُنَادِى } . الصيحة النفخة الثانية { بالحق } متعلق ب { الصيحة } والمراد به البعث والحشر للجزاء { ذلك يَوْمُ الخروج } من القبور { إِنَّا نَحْنُ نُحْيىِ } الخلق { وَنُمِيتُ } أي نميتهم في الدنيا { وَإِلَيْنَا المصير } أي مصيرهم { يَوْمَ تَشَقَّقُ } بالتخفيف : كوفي وأبو عمرو ، وغيرهم بالتشديد { الأرض عَنْهُمْ } أي تتصدع الأرض فتخرج الموتى من صدوعها { سِرَاعاً } حال من المجرور أي مسرعين { ذلك حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } هين .

وتقديم الظرف يدل على الاختصاص أي لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } فيك وفينا تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } كقوله { بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] أي ما أنت بمسلط عليهم إنما أنت داعٍ وباعث . وقيل : هو من جبره على الأمر بمعنى أجبره أي ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان { فَذَكِّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ } كقوله : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها } [ النازعات : 45 ] . لأنه لا ينفع إلا فيه والله أعلم .

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)

{ والذريات } الرياح لأنها تذرو التراب وغيره ، وبادغام التاء في الذال : حمزة وأبو عمرو { ذَرْواً } مصدر والعامل فيه اسم الفاعل { فالحاملات } السحاب لأنها تحمل المطر { وِقْراً } مفعول الحاملات { فالجاريات } الفلك { يُسْراً } جرياً ذا يسر أي ذا سهولة { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما ، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك ، أو تتولى تقسيم أمر العباد؛ فجبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ . ويجوز أن يراد الرياح لا غير لأنها تنشيء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب . ومعنى الفاء على الأول أنه أقسم بالرياح فبالسحاب التي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعها . وعلى الثاني أنها تبتديء في الهبوب فتذرو التراب والحصباء فتقل السحاب فتجري في الجوّ باسطة له فتقسم المطر { إِنَّمَا تُوعَدُونَ } جواب القسم و«ما» موصولة أو مصدرية والموعود البعث { لصادق } وعد صادق كعيشة راضية أي ذات رضا { وَإِنَّ الدين } الجزاء على الأعمال { لَوَاقِعٌ } لكائن .
{ والسماء } هذا قسم آخر { ذَاتِ الحبك } الطرائق الحسنة مثل ما يظهر على الماء من هبوب الريح ، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره جمع حبيكة كطريقة وطرق . ويقال : إن خلقة السماء كذلك . وعن الحسن : حبكها نجومها جمع حباك { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } أي قولهم في الرسول ساحر وشاعر ومجنون وفي القرآن سحر وشعر وأساطير الأولين { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } الضمير للقرآن أو الرسول أي يصرف عنه من صرف ، الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم ، أو يصرف عنه من صرف في سابق علم الله أي علم فيما لم يزل أن مأفوك عن الحق لا يرعوي . ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين ، أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد ، ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو مأفوك { قُتِلَ } لعن وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ثم جرى مجرى لعن { الخراصون } الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم أصحاب القول المختلف ، واللام إشارة إليهم كأنه قيل : قتل هؤلاء الخراصون { الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ } في جهل يغمرهم { ساهون } غافلون عما أمروا به .
{ يَسْئَلُونَ } فيقولون { أَيَّانَ يَوْمُ الدين } أي متى يوم الجزاء وتقديره : أيان وقوع يوم الدين لأنه إنما تقع الأحيان ظروفاً للحدثان . وانتصب اليوم الواقع في الجواب بفعل مضمر دل عليه السؤال أي يقع { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } ويجوز أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى غير متمكن وهو الجملة ، ومحله نصب بالمضمر الذي هو يقع أو رفع على هو يوم هم على النار يفتنون يحرقون ويعذبون { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أي تقول لهم خزنة النار ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار { هذا } مبتدأ خبره { الذى } أي هذا العذاب هو الذي { كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } في الدنيا بقولكم

{ فأتنا بما تعدنا } ثم ذكر حال المؤمنين فقال .
{ إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ } أي وتكون العيون وهي الأنهار الجارية بحيث يرونها وتقع عليها أبصارهم لا أنهم فيها { ءاخِذِينَ مَآ ءاتاهم رَّبُّهُمْ } قابلين لكل ما أعطاهم من الثواب راضين به وآخذين حال من الضمير في الظرف وهو خبر إن { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } قبل دخول الجنة في الدنيا { مُحْسِنِينَ } قد أحسنوا أعمالهم وتفسير إحسانهم ما بعده .
{ كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ } ينامون . و«ما» مزيدة للتوكيد و { يَهْجَعُونَ } خبر { كَانَ } والمعنى كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل ، أو مصدرية والتقدير : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم فيرتفع هجوعهم لكونه بدلاً من الواو في { كَانُواْ } لا ب { قَلِيلاً } لأنه صار موصوفاً بقوله { مِّنَ اليل } خرج من شبه الفعل وعمله باعتبار المشابهة أي كان هجوعهم قليلاً من الليل ، ولا يجوز أن تكون «ما» نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويحيونه كله لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لا تقول : زيداً ما ضربت { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ، والسحر السدس الأخير من الليل { وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ } لمن يسأل لحاجته { والمحروم } أي الذي يتعرض ولا يسأل حياء .
{ وَفِى الأرض ءايات } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها ، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها وهي مجزأة؛ فمن سهل ومن جبل وصلبة ورخوة وعذاة وسبخة ، وفيها عيون متفجرة ومعادن مفتنة ودواب منبثة مختلفة الصور والأشكال متباينة الهيئات والأفعال { لّلْمُوقِنِينَ } للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصّل إلى المعرفة ، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها فازدادوا إيقاناً على إيقانهم { وَفِى أَنفُسِكُمْ } في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وبالألسن والنطق ومخارج الحروف وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة مدبرها وصانعها مع الأسماء والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له ، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني فإنه إذا جسا منها شيء جاء العجز ، وإذا استرخى أناخ الذل ، فتبارك الله أحسن الخالقين . وما قيل إن التقدير أفلا تبصرون في أنفسكم ضعيف لأنه يفضي إلى تقديم ما في حيز الاستفهام على حرف الاستفهام { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } تنظرون نظر من يعتبر { وَفِى السماء رِزْقُكُمْ } أي المطر لأنه سبب الأقوات ، وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم { وَمَا تُوعَدُونَ } الجنة فهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش ، أو أراد أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدونه في العقبى كله مقدور مكتوب في السماء .

فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

{ فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } الضمير يعود إلى الرزق أو إلى { مَّا تُوعَدُونَ } { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } بالرفع : كوفي غير حفص صفة للحق أي حق مثل نطقكم ، وغيرهم بالنصب أي إنه لحق حقاً مثل نطقكم ، ويجوز أن يكون فتحاً لإضافته إلى غير متمكن و«ما» مزيدة . وعن الأصمعي أنه قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : من الرجل؟ فقلت : من بني أصمع . قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الله ، قال : اتلو عليّ فتلوت { والذريات } فلما بلغت قوله { وَفِى السماء رِزْقُكُمْ } قال : حسبك . فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد وطفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم عليّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً } [ الأعراف : 44 ] ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت { فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى حلف قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .
{ هَلُ أَتَاكَ } تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالوحي وانتظامها بما قبلها باعتبار أنه قال { وَفِى الأرض ءايات } وقال في آخر هذه القصة { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً } { حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم } الضيف للواحد والجماعة كالصوم والزور لأنه في الأصل مصدر ضافه ، وكانوا اثني عشر ملكاً . وقيل : تسعة عاشرهم جبريل . وجعلهم ضيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك { المكرمين } عند الله لقوله { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقيل : لأنه خدمهم بنفسه وأخدمهم امرأته وعجل لهم القرى { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } نصب ب { المكرمين } إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم وإلا فبإضمار اذكر { فَقَالُواْ سَلامًا } مصدر سادٌّ مسد الفعل مستغنى به عنه ، وأصله نسلم عليكم سلاماً { قَالَ سلام } أي عليكم سلام فهو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف ، والعدول إلى الرفع للدلالة على إثبات السلام كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذاً بأدب الله ، وهذا أيضاً من إكرامه لهم . حمزة وعلي : سلم والسلم السلام { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي أنتم قوم منكرون فعرفوني من أنتم { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ } فذهب إليهم في خفية من ضيوفه ومن أدب المضيف أن يخفي أمره وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يكفه ، وكان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر { فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } ليأكلوا منه فلم يأكلوا { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } أنكر عليهم ترك الأكل أو حثهم عليه { فَأَوْجَسَ } فأضمر { مِنْهُمْ خِيفَةً } خوفاً لأن من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك .

عن ابن عباس رضي الله عنهما : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } إنا رسل الله ، وقيل : مسح جبريل العجل فقام ولحق بأمه { وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ } أي يبلغ ويعلم والمبشر به إسحاق عند الجمهور .
{ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ } في صيحة من صر القلم والباب ، قال الزجاج : الصرة شدة الصياح ههنا ومحله النصب على الحال أي فجاءت صارة . وقيل : فأخذت في صياح وصرتها قولها يا ويلتا { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } فلطمت ببسط يديها . وقيل : فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي أنا عجوز فكيف ألد كما قال في موضع آخر { أألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِى شَيْخًا } [ هود : 72 ] { قَالُواْ كَذَلِكِ } مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به { قَالَ رَبُّكِ } أي إنما نخبرك عن الله تعالى والله قادر على ما تستبعدين { إِنَّهُ هُوَ الحكيم } في فعله { العليم } فلا يخفى عليه شيء . ورُوي أن جبريل قال لها حين استبعدت : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة . ولما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بأمر الله رسلاً في بعض الأمور { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } أي فما شأنكم وما طلبكم وفيم أرسلتم؟ { أَيُّهَا المرسلون } أرسلتم بالبشارة خاصة أو لأمر آخر أولهما { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي قوم لوط { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ } أريد السجيل وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر حتى صار في صلابة الحجارة { مُّسَوَّمَةً } معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به { عِندَ رَبّكَ } في ملكه وسلطانه { لِلْمُسْرِفِينَ } سماهم مسرفين كما سماهم عادين لإسرافهم وعدوانهم في عملهم حيث لم يقتنعوا بما أبيح لهم { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا } في القرية ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة { مِنَ المؤمنين } يعني لوطاً ومن آمن به { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين } أي غير أهل بيت وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد لأن الملائكة سموهم مؤمنين ومسلمين هنا { وَتَرَكْنَا فِيهَا } في قراهم { ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم } علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم . قيل : هي ماء أسود منتن .

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

{ وَفِى موسى } معطوف على { وَفِى الأرض ءايات } أو على قوله { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً } على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً ... { إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ } بحجة ظاهرة وهي اليد والعصا { فتولى } فأعرض عن الإيمان { بِرُكْنِهِ } بما كان يتقوى به من جنوده وملكه ، والركن ما يركن إليه الإنسان من مال وجند { وَقَالَ ساحر } أي هو ساحر { أَوْ مَجْنُونٌ فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم وَهُوَ مُلِيمٌ } آتٍ بما يلام عليه من كفره وعناده . وإنما وصف يونس عليه السلام به في قوله { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } ( الصافات ) 142 ) لأن موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكفر ملوم على مقداره ، وراكب الكبيرة والصغيرة والذلة كذلك ، والجملة مع الواو حال من الضمير في { فأخذناه } .
{ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } هي التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر وهي ريح الهلاك ، واختلف فيها والأظهر أنها الدبور لقوله عليه السلام : « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور » { مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } هو كل ما رم أي بلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك ، والمعنى ما تترك من شيء هبت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا أهلكته { وَفِى ثَمُودَ } آية أيضاً { إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ } تفسيره قوله { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } فاستكبروا عن امتثاله { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } العذاب وكل عذاب مهلك صاعقة { الصعقة } علي وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة { وَهُمْ يَنظُرُونَ } لأنها كانت نهاراً يعاينونها { فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ } أي هرب أو هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } ممتنعين من العذاب أو لم يمكنهم مقابلتنا بالعذاب لأن معنى الانتصار المقابلة { وَقَوْمَ نُوحٍ } أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه ، أو واذكر قوم نوح . وبالجر أبو عمرو وعلي وحمزة أي وفي قوم نوح آية ويؤيده قراءة عبد الله { وَفِى قَوْمُ نُوحٍ } { مِن قَبْلُ } من قبل هؤلاء المذكورين { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } كافرين .
{ والسماء } نصب بفعل يفسره { بنيناها بِأَيْيْدٍ } بقوة والأيد القوة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } لقادرون من الوسع وهي الطاقة والموسع القوي على الإنفاق أو لموسعون ما بين السماء والأرض { والأرض فرشناها } بسطناها ومهدناها وهي منصوبة بفعل مضمر أي فرشنا الأرض فرشناها { فَنِعْمَ الماهدون } نحن { وَمِن كُلّ شَىْء } من الحيوان { خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ذكراً وأنثى .

وعن الحسن : السماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة ، فعدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج لتتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه { فَفِرُّواْ إِلَى الله } أي من الشرك إلى الإيمان بالله أو من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن أو مما سواه إليه { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } والتكرير للتوكيد والإطالة في الوعيد أبلغ .
{ كذلك } الأمر مثل ذلك وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً أو مجنوناً . ثم فسر ما أجمل بقوله { مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قومك { مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ } هو { ساحر أَوْ مَجْنُونٌ } رموهم بالسحر أو الجنون لجهلهم { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } الضمير للقول أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعاً متفقين عليه { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون } أي لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان والطغيان هو الحامل عليه { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا عناداً { فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة { وَذَكِّر } وعظ بالقرآن { فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } بأن تزيد في عملهم { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } العبادة إن حملت على حقيقتها فلا تكون الآية عامة بل المراد بها المؤمنون من الفريقين دليله السياق أعني { وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } وقراءة ابن عباس رضي الله عنهما { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس مِنَ المؤمنين } وهذا لأنه لا يجوز أن يخلق الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة لأنه إذا خلقهم للعبادة وأراد منهم العبادة فلا بد أن توجد منهم ، فإذا لم يؤمنوا علم أنه خلقهم لجهنم كما قال : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس } [ الأعراف : 179 ] . وقيل : إلا لآمرهم بالعبادة وهو منقول عن علي رضي الله عنه . وقيل : إلا ليكونوا عباداً لي . والوجه أن تحمل العبادة على التوحيد فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل عبادة في القرآن فهي توحيد . والكل يوحدونه في الآخرة لما عرفه أن الكفار كلهم مؤمنون موحدون في الآخرة دليلة قوله { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
نعم قد أشرك البعض في الدنيا بالإضافة إلى الأبد أقل من يوم ، ومن اشترى غلاماً وقال : ما اشتريته إلا للكتابة كان صادقاً في قوله ما اشتريته إلا للكتابة ، وإن استعمله في يوم من عمره لعمل آخر { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ } ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم أو واحداً من عبادي { وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } قال ثعلب : أن يطعموا عبادي وهي إضافة تخصيص كقوله عليه السلام خبراً عن الله تعالى :

« من أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومن آذى مؤمناً فقد آذاني » { إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } الشديد القوة والمتين بالرفع صفة لذو ، وقرأ الأعمش بالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } رسول الله بالتكذيب من أهل مكة { ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم } نصيباً من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون المهلكة . قال الزجاج : الذنوب في اللغة النصيب { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } نزول العذاب وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ } أي من يوم القيامة . وقيل : من يوم بدر { ليعبدوني } ، { أن يطعموني } . { فَلا يستعجلوني } بالياء في الحالين : يعقوب ، وافقه سهل في الوصل الباقون بغير ياء ، والله أعلم .

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)

{ والطور } هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين { وكتاب مُّسْطُورٍ } هو القرآن ونُكِّر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب أو اللوح المحفوظ أو التوراة { فِى رَقّ } هو الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه { مَّنْشُورٍ } مفتوح لا ختم عليه أو لائح { والبيت المعمور } أي الضراح وهو بيت في السماء حيال الكعبة وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة . رُوي أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ويخرجون ثم لا يعودون إليه أبداً . وقيل : الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار { والسقف المرفوع } أي السماء أو العرش { والبحر المسجور } المملوء أو الموقد ، والواو الأولى للقسم والبواقي للعطف ، وجواب القسم { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ } أي الذي أوعد الكفار به { لَوَاقِعٌ } لنازل . قال جبير بن مطعم : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فلقيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور ، فلما بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ } أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب { مَالَهُ مِن دَافِعٍ } لا يمنعه مانع والجملة صفة ل «واقع» أي واقع غير مدفوع .
والعامل في { يَوْمٍ } { لَوَاقِعٌ } أي يقع في ذلك اليوم ، أو اذكر { يَوْمَ تَمُورُ } تدور كالرحى مضطربة { السماء مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً } في الهواء كالسحاب لأنها تصير هباء منثوراً { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب ومنه قوله { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين } [ المدثر : 45 ] ويبدل { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } من { يَوْمَ تَمُورُ } والدع : الدفع العنيف وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في أقفيتهم فيقال لهم { هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } في الدنيا { أَفَسِحْرٌ هذا } { هذا } مبتدأ و { سِحْرٌ } خبره يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفسحر هذا يريد أهذا المصداق أيضاً سحر ودخلت الفاء لهذا المعنى { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } كما كنتم لا تبصرون في الدنيا يعني أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر وهذا تقريع وتهكم .
{ اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ } خبر { سَوَآء } محذوف أي سواء عليكم الأمران الصبر وعدمه بقوله { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة فلا مزية له على الجزع .
{ إِنَّ المتقين فِى جنات } في أية جنات { وَنَعِيمٍ } أي وأي نعيم بمعنى الكمال في الصفة أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة { فاكهين } حال من الضمير في الظرف والظرف خبر أي متلذذين { بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } وعطف قوله { ووقاهم رَبُّهُمْ } على { فِي جنات } أي إن المتقين استقروا في جنات .

. . ووقاهم ربهم ، أو على { آتاهم ربهم } على أن تجعل «ما» مصدرية والمعنى فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم { عَذَابَ الجحيم } أو الواو للحال و«قد» بعدها مضمرة يقال لهم { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أكلاً وشرباً هنيئاً أو طعاماً وشراباً هنيئاً وهو الذي لا تنغيص فيه { مُتَّكِئِينَ } حال من الضمير في { كُلُواْ واشربوا } { على سُرُرٍ } جمع سرير { مَصْفُوفَةٌ } موصول بعضها ببعض { وزوجناهم } وقرناهم { بِحُورٍ } جمع حوراء { عِينٌ } عظام الأعين حسانها { والذين ءامَنُواْ } مبتدأ و { أَلْحَقْنَا بِهِمْ } خبره { واتبعتهم } { وأتبعناهم } أبو عمرو { ذُرّيَّتُهُم } أولادهم { بإيمان } حال من الفاعل { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } أي نلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء . وقيل : إن الذرية وإن لم يبلغون مبلغاً يكون منهم الإيمان استدلالاً وإنما تلقنوا منهم تقليداً فهم يلحقون بالآباء . { ذُرّيَّتُهُم } { ذرياتهم } مدني { ذرياتهم } { ذرياتهم } أبو عمرو { ذرياتهم } { ذرياتهم } شامي { وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء } وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء . { ألتناهم } مكي ألت يألِت ألتِ يألَت لغتان من الأولى متعلقة بألتناهم والثانية زائدة { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي مرهون فنفس المؤمن مرهونة بعمله وتجازى به .

وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

{ وأمددناهم } وزدناهم في وقت بعد وقت { بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ } وإن لم يقترحوا { يتنازعون فِيهَا كَأْساً } خمراً أي يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم يتناول هذا الكأس من يد هذا وهذا من يد هذا { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } في شربها { وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي لا يجري بينهم ما يلغي يعني لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه إثم لو فعله فاعل في دار التكليف من الكذب والشتم ونحوهما كشاربي خمر الدنيا ، لأن عقولهم ثابتة فيتكلمون بالحكم والكلام الحسن . { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } مكي وبصري .
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } مملوكون لهم مخصوصون بهم { كَأَنَّهُمْ } من بياضهم وصفائهم { لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } في الصدف لأنه رطباً أحسن وأصفى أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة ، في الحديث : " إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك " { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } يسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استحق به نيل ما عند الله { قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } أي في الدنيا { فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أرقاء القلوب من خشية الله أو خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان ، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات { فَمَنَّ الله عَلَيْنَا } بالمغفرة والرحمة { ووقانا عَذَابَ السموم } هي الريح الحارة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ } من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه يعنون في الدنيا { نَدْعُوهُ } نعبده ولا نعبد غيره ونسأله الوقاية { إِنَّهُ هُوَ البر } المحسن { الرّحيم } العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب . { أَنَّهُ } بالفتح : مدني وعلي أي بأنه أو لأنه { فَذَكِّرْ } فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبَّكَ } برحمة ربك وإنعامه عليه بالنبوة ورجاحة العقل { بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ } كما زعموا وهو في موضع الحال والتقدير لست كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك .
{ أَمْ يَقُولُونَ } هو { شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } حوادث الدهر أي ننتظر نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة . و«أم» في أوائل هذه الآي منقطعة بمعنى بل والهمزة { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين } أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم } عقولهم { بهذا } التناقض في القول وهو قولهم كاهن وشاعر مع قولهم مجنون وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم ، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } اختلقه محمد من تلقاء نفسه { بَلِ } رد عليهم أي ليس الأمر كما زعموا { لاَ يُؤْمِنُونَ } فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن مع علمهم ببطلان قولهم وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه وما محمد إلا واحد من العرب { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ } مختلق { مّثْلِهِ } مثل القرآن { إِن كَانُواْ صادقين } في أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه لأنه بلسانهم وهم فصحاء { أم خُلِقُواْ } أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم { مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ } من غير مقدر { أَمْ هُمُ الخالقون } أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق .

وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب أم هم الخالقون فلا يأتمرون { أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض } فلا يعبدون خالقهما { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } أي لا يتدبرون في الآيات فيعلموا خالقهم وخالق السماوات والأرض .
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ } من النبوة والرزق وغيرهما فيخصوا من شاءوا بما شاءوا { أَمْ هُمُ المصيطرون } الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على مشيئتهم . وبالسين : مكي وشامي .
{ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } منصوب يرتقون به إلى السماء { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون . قال الزجاج : يستمعون فيه أي عليه { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ } بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } ثم سفه أحلامهم حيث اختاروا لله ما يكرهون وهم حكماء عند أنفسهم { أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً } على التبليغ والإنذار { فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } المغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه أي لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في اتباعك { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي اللوح المحفوظ { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما فيه حتى يقولوا لا نبعث وإن بعثنا لم نعذب { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله وبالمؤمنين { فالذين كَفَرُواْ } إشارة إليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله تعالى { هُمُ المكيدون } هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } يمنعهم من عذاب الله { سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السماء ساقطا يَقُولُواْ سحاب } والكسف القطعة وهو جواب قولهم : { أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } [ الإسراء : 92 ] يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا هذا سحاب { مَّرْكُومٌ } قدركم أي جمع بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب .
{ فَذَرْهُمْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ } بضم الياء : عاصم وشامي .

الباقون بفتح الياء ، يقال : صعقه فصعق وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق { يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وإن لهؤلاء الظلمة { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } دون يوم القيامة وهو القتل ببدر والقحط سبع سنين وعذاب القبر { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك . ثم أمره بالصبر إلى أن يقع بهم العذاب فقال { واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } بإمهالهم وبما يلحقك فيه من المشقة { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي بحيث نراك ونكلؤك . وجمع العين لأن الضمير بلفظ الجماعة ألا ترى إلى قوله { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى } [ طه : 39 ] { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ } للصلاة وهو ما يقال بعد التكبير سبحانك اللهم وبحمدك ، أو من أي مكان قمت أو من منامك { وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ وإدبار النجوم } وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل وأدبار زيد أي في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر بقول سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات . وقيل : التسبيح الصلاة إذا قام من نومه ، ومن الليل صلاة العشاءين ، وإدبار النجوم صلاة الفجر ، وبالله التوفيق .

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)

{ والنجم } أقسم بالثريا أو بجنس النجوم { إِذَا هوى } إذا غرب أو انتثر يوم القيامة وجواب القسم { مَا ضَلَّ } عن قصد الحق { صاحبكم } أي محمد صلى الله عليه وسلم والخطاب لقريش { وَمَا غوى } في اتباع الباطل . وقيل : الضلال نقيض الهدى والغي نقيض الرشد أي هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى } وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه إنما هو وحي من عند الله يوحى إليه . ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام ، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي لا نطقاً عن الهوى . { علَّمَهُِ } علم محمداً عليه السلام { شَدِيدُ القوى } ملك شديد قواه والإضافة غير حقيقية لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهو جبريل عليه السلام عند الجمهور ، ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين { ذُو مِرَّةٍ } ذو منظر حسن عن ابن عباس { فاستوى } فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق . وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء عليهم السلام في صورته الحقيقية سوى محمد صلى الله عليه وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء .
{ وَهُوَ } أي جبريل عليه السلام { بالأفق الأعلى } مطلع الشمس { ثُمَّ دَنَا } جبريل من رسول الله صلى الله عليه وسلم { فتدلى } فزاد في القرب ، والتدلي هو النزول بقرب الشيء { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } مقدار قوسين عربيتين . وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع ومنه : «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» ، وفي الحديث : " لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها " والقد السوط وتقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات { أَوْ أدنى } أي على تقديركم كقوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وهذا لأنهم خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم وهم يقولون هذا قدر رمحين أو أنقص . وقيل : بل أدنى { فأوحى } جبريل عليه السلام { إلى عَبْدِهِ } إلى عبد الله وإن لم يجر لاسمه ذكر لأنه لا يلتبس كقوله { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } [ فاطر : 45 ] { مَا أوحى } تفخيم للوحي الذي أوحي إليه .

قيل : أوحي إليه إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك { مَا كَذَبَ الفؤاد } فؤاد محمد { مَا رأى } ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أن ما رآه حق . وقيل : المرئي هو الله سبحانه ، رآه بعين رأسه وقيل بقلبه { أفتمارونه } أفتجادلونه من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه ، { أفتمارونه } حمزة وعلي وخلف ويعقوب ، أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ولما فيه من معنى الغلبة قال { على مَا يرى } فعدي ب «على» كما تقول غلبته على كذا . وقيل : أفتمرونه أفتجحدونه يقال : مريته حقه إذا جحدته وتعديته ب «على» لا تصح إلا على مذهب التضمين .
{ وَلَقَدْ رَءاهُ } رأى محمد جبريل عليهما السلام { نَزْلَةً أخرى } مرة أخرى من النزول نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها أي نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها وذلك ليلة المعراج { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } الجمهور على أنها شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش . والمنتهى بمعنى موضع الانتهاء أو الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وآخرها ، وقيل : لم يجاوزها أحد وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ولا يعلم أحد ما وراءها . وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء { عِندَهَا جَنَّةُ المأوى } أي الجنة التي يصير إليها المتقون . وقيل : تأوي إليها أرواح الشهداء { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } أي رآه إذ يغشى السدرة ما يغشى ، وهو تعظيم وتكثير لما يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله تعالى وجلاله أشياء لا يحيط بها الوصف . وقد قيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله تعالى عندها . وقيل : يغشاها فراش من ذهب { مَا زَاغَ البصر } بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها { وَمَا طغى } وما جاوز ما أمر برؤيته .
{ لَقَدْ رأى } والله لقد رأى { مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى } الآيات التي هي كبراها وعظماها يعني حين رقي به إلى السماء فأري عجائب الملكوت .
{ أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة } أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها من دون الله عز وجل هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة؟ اللات والعزى ومناة أصنام لهم وهي مؤنثات ، فاللات كانت لثقيف بالطائف . وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، والعزى كانت لغطفان وهي ثمرة وأصلها تأنيث الأعز وقطعها خالد بن الوليد ، ومناة صخرة كانت لهذيل وخزاعة .

وقيل : لثقيف وكأنها سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق { ومناءة } مكي مفعلة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها { الأخرى } هي صفة ذم أي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله { وَقَالَتِ أُخْرَاهُمْ لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم ، ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله مع وأدهم البنات وكراهتهم لهن فقيل لهم { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } أي جعلكم لله البنات ولكم البنين قسمة ضيزى أي جائزة من ضازه يضيزه إذا ضامه . و { ضيزى } فعلى إذ لا فعلى في النعوت فكسرت الضاد للياء كما قيل «بيض» وهو بوض مثل حمر وسود ، { ضئزى } بالهمز : مكي من ضأزه مثل ضازه .

إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)

{ إِنْ هِىَ } ما الأصنام { إِلاَّ أَسْمَاء } ليس تحتها في الحقيقة مسميات لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشذ منافاة لها { سَمَّيْتُمُوهَا } أي سميتم بها يقال سميته زيداً وسميته بزيد { أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان } حجة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } إلا توهم أن ما هم عليه حق { وَمَا تَهْوَى الأنفس } وما تشتهيه أنفسهم { وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى } الرسول والكتاب فتركوه ولم يعملوا به { أَمْ للإنسان مَا تمنى } هي «أم» المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان يعني الكافر ما تمنى من شفاعة الأصنام أو من قوله : { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] . وقيل : هو تمني بعضهم أن يكون هو النبي { فَلِلَّهِ الآخرة والأولى } أي هو مالكهما وله الحكم فيهما يعطى النبوة والشفاعة من شاء وارتضى لا من تمني .
{ وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السماوات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء ويرضى } يعني أن أمر الشفاعة ضيق فإن الملائكة مع قربتهم وكثرتهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم شيئاً قط ، ولا تنفع إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلاً لأن يشفع له فكيف تشفع الأصنام إليه لعبدتهم { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة } أي كل واحد منهم { تَسْمِيَةَ الأنثى } لأنهم إذا قالوا للملائكة بنات الله فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى .
{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي بما يقولون وقرىء بها أي بالملائكة أو التسمية { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } هو تقليد الآباء { وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً } أي إنما يعرف الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظن والتوهم { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا } فأعرض عمن رأيته معرضاً عن ذكر الله أي القرآن { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا * ذلك } أي اختيارهم الدنيا والرضا بها { مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم } منتهى علمهم { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى } أي هو أعلم بالضال والمهتدي ومجازيهما .
{ وَلِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض لِيَجْزِىَ الذين أسائوا بِمَا عَمِلُواْ } بعقاب ما عملوا من السوء أو بسبب ما عملوا من السوء { وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } بالمثوبة الحسنى وهي الجنة أو بسبب الأعمال الحسنى ، والمعنى أن الله عز وجل إنما خلق العالم وسوى هذه الملكوت ليجزي المحسن من المكلفين والمسيء منهم إذ الملك أهل لنصر الأولياء وقهر الأعداء { الذين } بدل أو في موضع رفع على المدح أي هم الذين { يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم } أي الكبائر من الإثم لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر والكبائر الذنوب التي يكبر عقابها ، { كَبِيرٌ } حمزة وعلي أي النوع الكبير منه { والفواحش } ما فحش من الكبائر كأنه قال : والفواحش منها خاصة .

قيل : الكبائر ما أوعد الله عليه النار والفواحش ما شرع فيها الحد { إِلاَّ اللمم } أي الصغائر والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر والفواحش وهو كالنظرة والقبلة واللمسة والغمزة { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } فيغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ } أي أباكم { مّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } جمع جنين { فِى بُطُونِ أمهاتكم فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير والطاعات ، أو إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكي منكم والتقي أولاً وآخراً قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم . وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فنزلت . وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء لا على سبيل الاعتراف بالنعمة فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } فاكتفوا بعلمه عن علم الناس وبجزائه عن ثناء الناس .
{ أَفَرَأَيْتَ الذى تولى } أعرض عن الإيمان .
{ وأعطى قَلِيلاً وأكدى } قطع عطيته وأمسك ، وأصله إكداء الحافر وهو أن تلقاه كدية وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر . عن ابن عباس رضي الله عنهما : فيمن كفر بعد الإيمان . وقيل : في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بعض الكافرين وقال له : تركت دين الأشياخ وزعمت أنهم في النار . قال : إني خشيت عذاب الله . فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ففعل وأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه { أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى } فهو يعلم أن ما ضمنه من عذاب الله حق { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } يخبر { بِمَا فِى صُحُفِ موسى } أي التوراة { وإبراهيم } أي وفي صحف إبراهيم { الذى وفى } أي وفر وأتم كقوله { فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية . وقرىء مخففاً والتشديد مبالغة في الوفاء . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به ، وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً فلما قذف في النار قال له جبريل : ألك حاجة؟ فقال أما إليك فلا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الضحى »

ورُوي " ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ } إلى { حِينٍ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 18 ] " وقيل : وفي سهام الإسلام وهي ثلاثون : عشرة في «التوبة» { التائبون } [ التوبة : 112 ] ، وعشرة في «الأحزاب» { إِنَّ المسلمين } [ الآية : 35 ] وعشرة في «المؤمنين» { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] ثم أعلم بما في صحف موسى وإبراهيم فقال { أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } تزر من وزر يزر إذا اكتسب وزراً وهو الإثم ، و «إن» مخففة من الثقيلة والمعنى أنه لا تزر والضمير ضمير الشأن ومحل «أن» وما بعدها الجر بدلاً من { مَا فِى صُحُفِ موسى } أو الرفع على هو أن لا تزر كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل : { أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } أي لا تحمل نفس ذنب نفس .

وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

{ وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } إلا سعيه وهذه أيضاً مما في صحف إبراهيم وموسى ، وأما ما صح في الأخبار من الصدقة عن الميت والحج عنه فقد قيل : إن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً كان سعي غيره كأنه سعي نفسه لكونه تابعاً له وقائماً بقيامه ، ولأن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } أي يرى هو سعيه يوم القيامة في ميزانه { ثُمَّ يُجْزَاهُ } ثم يجزى العبد سعيه . يقال : جزاه الله عمله وجزاه على عمله بحذف الجار وإيصال الفعل ، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء . ثم فسره بقوله { الجزاء الأوفى } أو أبدله عنه { وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى } هذا كله في الصحف الأولى . والمنتهى مصدر بمعنى الانتهاء أي ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه كقوله : { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } خلق الضحك والبكاء . وقيل : خلق الفرح والحزن . وقيل : أضحك المؤمنين في العقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب و { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } قيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء ، أو أمات بالكفر وأحيا بالإيمان ، أو أمات هنا وأحيا ثمة { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } إذا تدفق في الرحم يقال منى وأمنى { وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى } الإحياء بعد الموت { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك .
{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } هو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وكانت خزاعة تعبدها ، فأعلم الله أنه رب معبودهم هذا { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } هم قوم هود وعاد الأخرى إرم { عَادٍ الولى } مدني وبصري غير سهل بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة { أُوْلِى } ونقل ضمتها إلى لام التعريف { وَثَمُودَاْ فَمَا أبقى } حمزة وعاصم الباقون { وَثَمُودَاْ } وهو معطوف على { عَاداً } ولا ينصب ب { فَمَا أبقى } لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبله لا تقول : زيداً فضربت ، وكذا ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله ، والمعنى وأهلك ثمود فما أبقاهم .
{ وَقَوْمَ نُوحٍ } أي أهلك قوم نوح { مِن قَبْلُ } من قبل عاد وثمود { إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى } من عاد وثمود لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حرام وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه { والمؤتفكة } والقرى التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت وهم قوم لوط يقال : أفكه فأتفك { أهوى } أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها و { المؤتفكة } منصوب ب { أهوى } { فغشاها } ألبسها { مَا غشى } تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود { فَبِأَىّ الآء رَبّكَ } أيها المخاطب { تتمارى } تتشكك بما أولاك من النعم أو بما كفاك من النقم ، أو بأي نعم ربك الدالة على وحدانيته وربوبيته تشكك { هذا نَذِيرٌ } أي محمد منذر { مّنَ النذر الأولى } من المنذرين الأولين .

وقال { الأولى } على تأويل الجماعة أو هذا القرآن نذير من النذر الأولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم { أَزِفَتِ الآزفة } قربت الموصوفة بالقرب في قوله : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ } أي ليس لها نفس كاشفة أي مبينة متى تقوم كقوله : { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] . أو ليس لها نفس كاشفة أي قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله تعالى غير أنه لا يكشفها { أَفَمِنْ هذا الحديث } أي القرآن { تَعْجَبُونَ } إنكاراً { وَتَضْحَكُونَ } استهزاء { وَلاَ تَبْكُونَ } خشوعاً { وَأَنتُمْ سامدون } غافلون أو لاهون لاعبون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } أي فاسجدوا لله واعبدوه ولا تعبدوا الآلهة ، والله أعلم .

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)

{ اقتربت الساعة } قربت القيامة { وانشق القمر } نصفين . وقرىء { وَقَدْ انشق } أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . قال ابن مسعود رضي الله عنه : رأيت حراء بين فلقتي القمر . وقيل : معناه ينشق يوم القيامة . والجمهور على الأول وهو المروي في الصحيحين . ولا يقال لو انشق لما خفي على أهل الأقطار ولو ظهر عندهم لنقلوه متواتراً لأن الطباع جبلت على نشر العجائب لأنه يجوز أن يحجبه الله عنهم بغيم { وَإِن يَرَوْاْ } يعني أهل مكة { ءايَةً } تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { يُعْرِضُواْ } عن الإيمان به { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } محكم قوي من المرة القوة أو دائم مطرد أو مار ذاهب يزول ولا يبقى { وَكَذَّبُواْ } النبي صلى الله عليه وسلم { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره { وَكُلُّ أَمْرٍ } وعدهم الله { مُّسْتَقِرٌّ } كائن في وقته . وقيل : كل ما قدر واقع . وقيل : كل أمر من أمرهم واقع مستقر أي سيثبت ويستقر عند ظهور العقاب والثواب { وَلَقَدْ جَاءهُمْ } أهل مكة { مّنَ الأنباء } من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفار { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } ازدجار عن الكفر . تقول : زجرته وازدجرته أي منعته وأصله ازتجر ولكن التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالاً لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور ، فأبدل من التاء حرف مجهور وهو الدال ليتناسبا وهذا في آخر كتاب سيبويه { حِكْمَةٌ } بدل من «ما» أو على «هو حكمة» { بالغة } نهاية الصواب أو بالغة من الله إليهم { فَمَا تُغْنِى النذر } «ما» نفي و { النذر } جمع نذير وهم الرسل أو المنذر به أو النذر مصدر بمعنى الإنذار .
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } لعلمك أن الإنذار لا يغني فيهم . نصب { يَوْمَ يَدْعُ الداع } ب { يُخْرِجُونَ } أو بإضمار اذكر . { الداعى } ، { إلى الداعى } سهل ويعقوب ومكي فيهما ، وافق مدني وأبو عمرو في الوصل ، ومن أسقط الياء اكتفى بالكسرة عنها . وحذف الواو من { يَدْعُو } في الكتابة لمتابعة اللفظ ، والداعي إسرافيل عليه السلام { إلى شَىْءٍ نُّكُرٍ } منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثلة وهو هول يوم القيامة { نُّكُرٍ } بالتخفيف : مكي { خُشَّعاً أبصارهم } { خاشعا } عراقي غير عاصمٍ وهو حال من الخارجين وهو فعل للأبصار ، وذكر كما تقول يخشع أبصارهم غيرهم خشعاً على يخشعن أبصارهم وهي لغة من يقول «أكلوني البراغيث» . ويجوز أن يكون في { خُشَّعاً } ضميرهم وتقع { أبصارهم } بدلاً عنه ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } من القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } في كثرتهم وتفرقهم في كل جهة .

والجراد مثل في الكثرة والتموج يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض جاءوا كالجراد { مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } مسرعين مادي أعناقهم إليه { يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } صعب شديد .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } قبل أهل مكة { قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } نوحاً عليه السلام . ومعنى تكرار التكذيب أنهم كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } أي هو مجنون { وازدجر } زجر عن أداء الرسالة بالشتم وهدد بالشتم وهدد بالقتل ، أو هو من جملة قيلهم أي قالوا هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه { فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى } أي بأني { مَغْلُوبٌ } غلبني قومي فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي { فانتصر } فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم { فَفَتَحْنَا أبواب السماء } { فَفَتَحْنَا } شامي ويزيد وسهل ويعقوب { بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر وهو أبلغ من قولك «وفجرنا عيون الأرض» { فَالْتَقَى الماء } أي مياه السماء والأرض وقرىء { الماءان } أي النوعان من الماء السماوي والأرضي { على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } على حال قدرها الله كيف شاء أو على أمر قد قدر في اللوح المحفوظ أنه يكون وهو هلاك قوم نوح بالطوفان .

وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

{ وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ } أراد السفينة وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتؤدي مؤداها بحيث لا يفصل بينها وبينها ونحوه «ولكنّ قميصي مسرودة من حديدً» أراد ولكن قميصي درع ، ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه ، والدسر جمع دسار وهو المسمار فعال من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه { تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا } بمرأى منا أو بحفظنا أو { بِأَعْيُنِنَا } حال من الضمير في { تَجْرِى } أي محفوظة بنا { جَزَاء } مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده أي فعلنا ذلك جزاء { لّمَن كَانَ كُفِرَ } وهو نوح عليه السلام وجعله مكفوراً لأن النبي نعمة من الله ورحمة قال الله تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] فكان نوح نعمة مكفورة { وَلَقَدْ تركناها } أي السفينة أو الفعلة أي جعلناها { ءايَةً } يعتبر بها . وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة . وقيل : على الجودي دهراً طويلاً حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } متعظ يتعظ ويعتبر ، وأصله مذتكر بالذال والتاء ولكن التاء أبدلت منها الدال والدال والذال من موضع فأدغمت الذال في الدال { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } جمع نذير وهو الإنذار { ونذري } يعقوب فيهما ، وافقه سهل في الوصل . غيرهما بغير ياء وعلى هذا الاختلاف ما بعده إلى آخر السورة { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ } سهلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } متعظ يتعظ . وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ويُروى أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن .
{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } أي وإنذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله أو وإنذاراتي في تعذيبهم لمن بعدهم { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } باردة أو شديدة الصوت { فِى يَوْمِ نَحْسٍ } شؤم { مُّسْتَمِرٌّ } دائم الشر فقد استمر عليهم حتى أهلكهم وكان في أربعاء في آخر الشهر { تَنزِعُ الناس } تقلعهم عن أماكنهم وكانوا يصطفون آخذاً بعضهم بأيدي بعض ويتداخلون في الشعاب ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم { كَأَنَّهُمْ } حال { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أصول نخل منقلع عن مغارسه ، وشبهوا بأعجاز النخل لأن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجساداً بلا رءوس فيتساقطون على الأرض أمواتاً وهم جثث طوال كأنهم أعجاز نخل ، وهي أصولها بلا فروع ، وذكر صفة نخل على اللفظ ولو حملها على المعنى لأنث كما قال

{ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحدا } انتصب { بَشَرًا } بفعل يفسره { نَّتَّبِعُهُ } تقديره أنتبع بشراً منا واحداً { إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال وَسُعُرٍ } كأن يقول إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق . وسعر ونيران جمع سعير فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذا كما تقول . وقيل : الضلال الخطأ والبعد عن الصواب ، والسعر الجنون ، وقولهم { أَبَشَراً } إنكار لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية وطلبوا أن يكون من الملائكة وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا { واحدا } إنكاراً لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، أو أرادوا واحداً من أفنائهم ليس من أشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قوله { أَءلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } بطر متكبر حمله بطره وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك { سَيَعْلَمُونَ غَداً } عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة { مَّنِ الكذاب الأشر } أصالح أم من كذبه . { ستعلمون } : شامي وحمزة على حكاية ما قال لهم صالح مجيباً لهم أو هو كلام الله على سبيل الالتفات { إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة } باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا { فِتْنَةً لَّهُمْ } امتحاناً لهم وابتلاء وهو مفعول له أو حال { فارتقبهم } فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون { واصطبر } على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري { وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } مقسوم بينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم وقال { بَيْنَهُمْ } تغليباً للعقلاء { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } محضور يحضر القوم الشرب يوماً وتحضر الناقة يوماً { فَنَادَوْاْ صاحبهم } قدار بن سالف أحيمر ثمود { فتعاطى } فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له { فَعَقَرَ } الناقة أو فتعاطى الناقة فعقرها أو فتعاطى السيف . وإنما قال { فَعَقَرُواْ الناقة } [ الأعراف : 77 ] في آية أخرى لرضاهم به أو لأنه عقر بمعونتهم { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } في اليوم الرابع من عقرها { صَيْحَةً واحدة } صاح بهم جبريل عليه السلام { فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } والهشيم الشجر اليابس المتهشم المتكسر ، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم ، وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار أي الحظيرة { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } يعني على قوم لوط { حاصبا } ريحاً تحصبهم بالحجارة أي ترميهم { إِلا ءالَ لُوطٍ } ابنتيه ومن آمن معه { نجيناهم بِسَحَرٍ } من الأسحار ولذا صرفه ويقال : لقيته بسحر إذا لقيته في سحر يومه .

وقيل : هما سحران : فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ، والآخر عند انصداعه { نِعْمَةً } مفعول له أي إنعاماً { مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ } نعمة الله بإيمانه وطاعته { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ } لوط عليه السلام { بَطْشَتَنَا } أخذتنا بالعذاب { فَتَمَارَوْاْ بالنذر } فكذبوا بالنذر متشاكين { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } طلبوا الفاحشة من أضيافه { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } أعميناهم . وقيل : مسحناها وجلناها كسائر الوجه لا يرى لها شق . رُوي أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت الملائكة : خلهم يدخلوا إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ، فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة فتركهم يترددون ولا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط { فَذُوقُواْ } فقلت لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة { عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً } أول النهار { عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } ثابت قد استقر عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة . وفائدة تكرير { فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكاراً واتعاظاً ، وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وهذا حكم التكرير في قوله { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] عند كل نعمة عدها ، وقوله { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } [ المرسلات : 25 ] عند كل آية أوردها ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية في كل أوان .
{ وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النذر } موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء أو هو جمع نذير وهو الإنذار { كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا } بالآيات التسع { فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ } لا يغالب { مُّقْتَدِرٍ } لا يعجزه شيء { أكفاركم } يا أهل مكة { خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون أي أهم خير قوة وآلة ومكانة في الدنيا أو أقل كفراً وعناداً يعني أن كفاركم مثل أولئك بل شر منهم { أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزبر } أم أنزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدمة أن من كفر منكم وكذب الرسل كان آمناً من عذاب الله فأمنتم بتلك البراءة؟ { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ } جماعة أمرنا مجتمع { مُّنتَصِرٌ } ممتنع لا نرام ولا نضام { سَيُهْزَمُ الجمع } جمع أهل مكة { وَيُوَلُّونَ الدبر } أي الأدبار كما قال :
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... أي ينصرفون منهزمين يعني يوم بدر وهذه من علامات النبوة .
{ بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ } موعد عذابهم بعد بدر { والساعة أدهى } أشد من موقف بدر والداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه { وَأَمَرُّ } مذاقاً من عذاب الدنيا أو أشد من المرة .

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

{ إِنَّ المجرمين فِى ضلال } عن الحق في الدنيا { وَسُعُرٍ } ونيران في الآخرة أو في هلاك ونيران { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار } يجرون فيها { على وُجُوهِهِمْ } ويقال لهم { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } كقولك «وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب» لأن النار إذا أصابتهم بحرها فكأنها تمسهم مساً بذلك . و { سَقَرَ } غير منصرف للتأنيث والتعريف لأنها علم لجهنم من سقرته النار إذا لوحته { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } كل منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر ، وقرىء بالرفع شاذاً والنصب أولى لأنه لو رفع لأمكن أن يكون { خلقناه } في موضع الجبر وصفاً ل { شَىْء } ويكون الخبر { بِقَدَرٍ } وتقديره : إنا كل شيء مخلوق لنا كائن بقدر ، ويحتمل أن يكون { خلقناه } هو الخبر وتقديره : إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر ، فلما تردد الأمر في الرفع عدل إلى النصب وتقديره . إنا خلقنا كل شيء بقدر فيكون الخلق عاماً لكل شيء وهو المراد بالآية . ولا يجوز في النصب أن يكون { خلقناه } صفة ل { شَىْء } لأنه تفسير الناصب والصفة لا تعمل في الموصوف . والقدْر والقدَر التقدير أي بتقدير سابق أو خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدراً مكتوباً في اللوح معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه . قال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية ، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة } إلا كلمة واحدة أي وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلا أن نقول له كن فيكون { كَلَمْحٍ بالبصر } على قدر ما يلمح أحدكم ببصره . وقيل : المراد بأمرنا القيامة كقوله { وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } [ النحل : 77 ] .
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم } أشباهكم في الكفر من الأمم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } متعظ { وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ } أي أولئك الكفار أي وكل شيء مفعول لهم ثابت { فِى الزبر } في دواوين الحفظة ف { فَعَلُوهُ } في موضع جر نعت ل { شَىْء } و { فِى الزبر } خبر ل { كُلٌّ } { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } من الأعمال ومن كل ما هو كائن { مُّسْتَطَرٌ } مسطور في اللوح { إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَهَرٍ } وأنهار اكتفى باسم الجنس وقيل : هو السعة والضياء ومنه النهار { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } في مكان مرضي { عِندَ مَلِيكٍ } عندية منزلة وكرامة لا مسافة ومماسة { مُّقْتَدِرٍ } قادر . وفائدة التنكير فيهما أن يعلم أن لا شيء إلا هو تحت ملكه وقدرته وهو على كل شيء قدير .

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

{ الرحمن عَلَّمَ القرءان خَلَقَ الإنسان } أي الجنس أو آدم أو محمداً عليهما السلام { عَلَّمَهُ البيان } عدّد الله عز وجل آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قدماً من ضروب آلائه وصنوف نعمائه وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو سنام في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة وأحسنه في أبواب الدين أثراً ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علماً بوحيه وكتبه ، وقدم ما خلق الإنسان من أجله عليه ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير . و { الرحمن } مبتدأ وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد كما تقول : زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟ .
{ الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } بحساب معلوم وتقدير سويٍ يجريان في بروجهما ومنازلهما وفي ذلك منافع للناس منها علم السنين والحساب { والنجم } النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول { والشجر } الذي له ساق . وقيل : النجم نجوم السماء { يَسْجُدَانِ } ينقادان لله تعالى فيما خلقا له تشبيهاً بالساجد من المكلفين في انقياده ، واتصلت هاتان الجملتان ب { الرحمن } بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له . ولم يذكر العاطف في الجمل الأولى ثم جيء به بعد ، لأن الأولى وردت على سبيل التعديد تبكيتاً لمن أنكر آلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال المذكور ، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعطف . وبيان التناسب أن الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان ، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل . وإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود النجم والشجر .
{ والسماء رَفَعَهَا } خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه { وَوَضَعَ الميزان } أي كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس أي خلقه موضوعاً على الأرض حيث علق به أحكام عباده من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان } لئلا تطغوا أو هي «أن» المفسرة { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } وقوموا وزنكم بالعدل { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } ولا تنقصوه أمر بالتسوية ونهى عن الطيغان الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان ، وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه { والأرض وَضَعَهَا } حفضها مدحوّة على الماء { لِلأَنَامِ } للخلق وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة .

وعن الحسن : الإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها { فِيهَا فاكهة } ضروب مما يتفكه به { والنخل ذَاتُ الأكمام } هي أوعية الثمر الواحد «كم» بكسر الكاف أو كل ما يكم أي يغطى من ليفه وسعفه وكفراه ، وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه { والحب ذُو العصف } هو ورق الزرع أو التبن { والريحان } الرزق وهو اللب أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه ، والجامع بين التلذذ والتغذي هو ثمر النخل وما يتغذى به وهو الحب . { والريحان } بالجر : حمزة وعلي أي والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام والريحان الذي هو مطعم الأنام ، والرفع على و «ذو الريحان» فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : معناه وفيها الريحان الذي يشم { والحب ذَا العصف والريحان } شامي أي وخلق الحب والريحان أو وأخص الحب والريحان { فَبِأَىّ الاء } أي النعم مما عدد من أول السورة جمع ألى وإلى { رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } الخطاب للثقلين بدلالة الأنام عليهما .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)

{ خَلَقَ الإنسان مِن صلصال } طين يابس له صلصلة { كالفخار } أي الطين المطبوخ بالنار وهو الخذف . ولا اختلاف في هذا وفي قوله { مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] { مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] { مّن تُرَابٍ } [ غافر : 67 ] لاتفاقها معنى لأنه يفيد أنه خلقه من تراب ثم جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً { وَخَلَقَ الجان } أبا الجن قيل : هو إبليس { مِن مَّارِجٍ } هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه . وقيل : المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط { مّن نَّارٍ } هو بيان لما رج كأنه قيل : من صاف من نار أو مختلط من نار ، أو أراد من نار مخصوصة كقوله { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } أراد مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ومغربيهما .
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ } أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا فصل بين الماءين في مرأى العين { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } حاجز من قدرة الله تعالى { لاَّ يَبْغِيَانِ } لا يتجاوزان حديهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ } { يَخْرُجُ } مدني وبصري { مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ } بلا همز : أبو بكر ويزيد وهو كبار الدر { وَالمَرْجَانُ } صغاره . وإنما قال { مِنْهُمَا } وهما يخرجان من الملح لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه وتقول : خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
{ وَلَهُ } ولله { الجوار } السفن جمع جارية . قال الزجاج : الوقف عليها بالياء والاختيار وصلها ، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذا جائز على بعد ولكن يروم الكسر في الراء ليدل على حذف الياء { المنشآت } المرفوعات الشرع { المنشآت } بكسر الشين ، حمزة ويحيى الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن { فِى البحر كالأعلام } جمع علم وهو الجبل الطويل { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا } على الأرض { فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبّكَ } ذاته { ذُو الجلال } ذو العظمة والسلطان وهو صفة الوجه { والإكرام } بالتجاوز والإحسان ، وهذه الصفة من عظيم صفات الله وفي الحديث « ألظوا بياذا الجلال والإكرام » وروي أنه عليه السلام مر برجل وهو يصلي ويقول يا ذا الجلال والإكرام فقال : قد استجيب لك . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } والنعمة في الفناء باعتبار أن المؤمنين به يصلون إلى النعيم السرمد . وقال يحيى بن معاذ : حبذا الموت فهو الذي يقرب الحبيب إلى الحبيب .

{ يَسْأَلُهُ مَن فِى السماوات والأرض } وقف عليها نافع كل من أهل السماوات والأرض مفتقرون إليه فيسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم ، وينتصب { كُلَّ يَوْمٍ } ظرفاً بما دل عليه { هُوَ فِى شَأْنٍ } أي كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً كما روي أنه عليه السلام تلاها فقيل له : وما ذلك الشأن؟ فقال : من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين . وعن ابن عيينة : الدهر عند الله يومان : أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، والآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء والحساب . وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً . وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر فيها فقال غلام له أسود : يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي فأخبره فقال : أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال : أيها الملك شأن الله أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً ، ويبتلي معافى ويعافي مبتلي ، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ، ويفقر غنياً ويغني فقيراً . فقال الأمير : أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال : يا مولاي هذا من شأن الله . وقيل : سوق المقادير إلى المواقيت .
وقيل : إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي : قوله { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } وقد صح أن الندم توبة ، وقوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وقوله { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله . وكذا قيل : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى مخصوص بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام . وأما قوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها . فقام عبد الله وقبل رأسه وسوع خراجه { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده «سأفرغ لك» يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه ، والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه . ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فلا يبقى إلي شأن واحد وهو جزاؤكم فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل . { سيفرغ } حمزة وعلي أي الله تعالى { أَيُّه الثقلان } الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض .

{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
{ يامعشر الجن والإنس } هو كالترجمة لقوله { أَيُّهَا الثقلان } { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السماوات والأرض فانفذوا } أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هرباً من قضائي فاخرجوا ، ثم قال { لاَ تَنفُذُونَ } لا تقدرون على النفوذ { إِلاَّ بسلطان } بقوة وقهر وغلبة وأنى لكم ذلك؟ وقيل : دلهم على العجز عن قوتهم للحساب غداً بالعجز عن نفوذ الأقطار اليوم . وقيل : يقال لهم هذا يوم القيامة حين تحدق بهم الملائكة فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة احتاطت به { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ } وبكسر الشين : مكي وكلاهما اللهب الخالص { وَنُحَاسٌ } أي دخان { وَنُحَاسٌ } مكي وأبو عمرو فالرفع عطف على شواظ ، والجر على نار ، والمعنى إذا خرجتم من قبوركم يرسل عليكما لهب خالص من النار ودخان يسوقكم إلى المحشر { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } فلا تمتنعان منهما { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَإِذَا انشقت السماء } انفك بعضها من بعض لقيام الساعة { فَكَانَتْ وَرْدَةً } فصارت كلون الورد الأحمر . وقيل : أصل لون السماء الحمرة ولكن من بعدها ترى زرقاء { كالدهان } كدهن الزيت كما قال { كالمهل } [ المعارج : 8 ] وهو دردي الزيت وهو جمع دهن وقيل : الدهان الأديم الأحمر { فبأيّ ءالآ
ءربّكما تكذّبان فيومئذٍ } أي فيوم تنشق السماء { لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } أي ولا جن فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال : هاشم ويراد ولده والتقدير : لا يسئل إنس ولا جان عن ذنبه . والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقوله { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] أن ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر . وقال قتادة : قد كانت مسئلة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . وقيل : لا يسئل عن ذنبه ليعلم من جهته ولكن يسئل للتوبيخ .
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم } بسواد وجوههم وزرقة عيونهم { فَيُؤْخَذُ بالنواصى والاقدام } أي يؤخذ تارة بالنواصي وتارة بالأقدام . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

{ هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } ماء حار قد انتهى حره أي يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } والنعمة في هذا نجاة الناجي منه بفضله ورحمته وما في الإنذار به من التنبيه { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة فترك المعاصي أو فأدى الفرائض . وقيل : هو مقحم كقوله : ونفيت عنه مقام الذئب أي نفيت عنه الذئب { جَنَّتَانِ } جنة الإنس وجنة الجن لأن الخطاب للثقلين وكأنه قيل : لكل خائفين منكما جنتان : جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } أغصان جمع فنن وخص الأفنان لأنها هي التي تورق وتثمر ، فمنها تمتد الظلال ، ومنها تجتنى الثمار ، أو ألوان جمع فن أي له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال :
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا } في الجنتين { عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } حيث شاءوا في الأعالي والأسافل . وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ } صنفان : صنف معروف وصنف غريب { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ } نصب على المدح للخائفين أو حال منهم لأن من خاف في معنى الجمع { عَلَى فُرُشٍ } جمع فراش { بَطَائِنُهَا } جمع بطانة { مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } ديباج ثخين وهو معرب . قيل : ظهائرها من سندس . وقيل : لا يعلمها إلا الله { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } وثمرها قريب يناله القائم والقاعد والمتكيء . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ } .
في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني { قاصرات الطرف } نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } بكسر الميم : الدوري وعلي بضم الميم والطمث الجماع بالتدمية { إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس { فَبِأَىّ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الياقوت } صفاء { وَالمَرْجَانُ } بياضاً فهو أبيض من اللؤلؤ { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَاء الإحسان } في العمل { إِلاَّ الإحسان } في الثواب وقيل : ما جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة . وعن إبراهيم الخواص فيه : هل جزاء الإسلام إلا دار السلام .
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا } ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين { جَنَّتَانِ } لمن دونهم من أصحاب اليمين { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ } سوداوان من شدة الخضرة قال الخليل الدهمة السواد { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } فوارتان بالماء لا تنقطعان { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فاكهة } ألوان الفواكه { وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } والرمان والتمر ليسا من الفواكه عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه للعطف ، ولأن التمر فاكهة وغذاء والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ، وهما قالا : إنما عطفا على الفاكهة لفضلهما كأنهما جنسان آخران لما لهما من المزية كقوله

{ وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] .
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ } أي خيرات فخففت وقرىء خيّرات على الأصل ، والمعنى فاضلات الأخلاق حسان الخلق { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ حُورٌ مقصورات فِى الخيام } أي مخدرات يقال : امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة . قيل : الخيام من الدر المجوف { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ } قبل أصحاب الجنتين ودل عليهم ذكر الجنتين { وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ } نصب على الاختصاص { على رَفْرَفٍ } هو كل ثوب عريض وقيل الوسائد { خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ } ديباج أو طنافس { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل { وَمِن دُونِهِمَا } لأن { مُدْهَامَّتَانِ } دون { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } و { نَضَّاخَتَانِ } دون { تَجْرِيَانِ } و { فاكهة } دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ { تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال } ذي العظمة . { ذُو الجلال } شامي صفة للاسم { والإكرام } لأوليائه بالإنعام .
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن فقال : « مالي أراكم سكوتاً ، الجن كانوا أحسن منكم رداً ما أتيت على قول الله { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ولك الشكر » وكررت هذه الآية في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة ، ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما ، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة وأغلقت عنه أبواب جهنم نعوذ بالله منها . والله أعلم .

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)

{ إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } قامت القيامة . وقيل : وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة فكأنه قيل : إذا وقعت الواقعة التي لا بد من وقوعها . ووقوع الأمر نزوله يقال : وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله . وانتصاب { إِذَا } بإضمار «اذكر» { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } نفس كاذبة أي لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات . واللام مثلها في قوله تعالى : { ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي هي خافضة رافعة ترفع أقواماً وتضع آخرين { إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } حركت تحريكاً شديداً حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء ، وهو بدل من { إِذَا وَقَعَتِ } ، ويجوز أن ينتصب ب { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } وفتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها كقوله : { وَسُيّرَتِ الجبال } [ النبأ : 20 ] { فَكَانَتْ هَبَاء } غباراً { مُّنبَثّاً } متفرقاً { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً } أصنافاً يقال للأصناف التي بعضها من بعض أو يذكر بعضها من بعض أزواج { ثلاثة } صنفان في الجنة وصنف في النار .
ثم فسر الأزواج فقال { فأصحاب الميمنة } مبتدأ وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم { مَا أصحاب الميمنة } مبتدأ وخبر وهما خبر المبتدأ الأول ، وهو تعجيب من حالهم في السعادة وتعظيم لشأنهم كأنه قال : ما هم وأي شيء هم؟ { وأصحاب المشئمة } أي الذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة من قولك : فلان مني باليمين وفلان مني بالشمال إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة ، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل . وقيل : يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال { مَا أصحاب المشئمة } أي أيُّ شيء هم؟ وهو تعجيب من حالهم بالشقاء { والسابقون } مبتدأ { السابقون } خبره تقديره السابقون إلى الخيرات السابقون إلى الجنات . وقيل : الثاني تأكيد للأول والخبر { أُوْلَئِكَ المقربون } والأول أوجه { فِي جنات النعيم } أي هم في جنات النعيم { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين } أي هم ثلة ، والثلة الأمة من الناس الكثيرة ، والمعنى أن المسابقين كثير من الأولين وهم الأمم من لدن آدم إلى نبينا محمد عليهما السلام ، وقليل من الآخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : من الأولين من متقدمي هذه الأمة ، ومن الآخرين من متأخريها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " الثلتان جميعاً من أمتي " . { على سُرُرٍ } جمع سرير ككثيب وكثب { مَّوْضُونَةٍ } مرمولة ومنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت { مُتَّكِئِينَ } حال من الضمير في { على } وهو العامل فيها أي استقروا عليها متكئين { عَلَيْهَا متقابلين } ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا ينظر بعضهم في أقفاء بعض ، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة و { متقابلين } حال أيضاً { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } يخدمهم { ولدان } غلمان جمع وليد { مُّخَلَّدُونَ } مبقّون أبداً على شكل الولدان لا يتحولون عنه .

وقيل : مقرّطون والخلدة القرط . قيل : هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ، وفي الحديث : « أولاد الكفار خدام أهل الجنة » { بِأَكْوَابٍ } جمع كوب وهي آنية لا عروة لها ولا خرطوم { وَأَبَارِيقَ } جمع إبريق وهو ماله خرطوم وعروة { وَكَأْسٍ } وقدح فيه شراب وإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس { مّن مَّعِينٍ } من خمر تجري من العيون { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها أو لا يفرقون عنها { وَلاَ يُنزِفُونَ } ولا يسكرون . نزف الرجل ذهب عقله بالسكر . { وَلاَ يُنزِفُونَ } بكسر الزاي : كوفي أي لا ينفد شرابهم . يقال : أنزف القوم إذا فني شرابهم { وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } يأخذون خيره وأفضله .
{ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ } يتمنون { وَحُورٌ } جمع حوراء { عِينٌ } جمع عيناء أي وفيها حور عين أو ولهم حور عين ، ويجوز أن يكون عطفاً على { ولدان } { وَحُورٌ } : يزيد وحمزة وعلي عطفاً على { جنات النعيم } كأنه قال : هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم وحورٍ { كأمثال اللؤلؤ } في الصفاء والنقاء { المكنون } المصون . وقال الزجاج : كأمثال الدر حين يخرج من صدفه لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } جزاء مفعول له أي يفعل بهم ذلك كله لجزاء أعمالهم أو مصدر أي يجزون جزاء .
{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } في الجنة { لَغْواً } باطلاً { وَلاَ تَأْثِيماً } هذياناً { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } إلا قولاً ذا سلامة . والاستثناء منقطع و { سَلاَماً } بدل من { قِيلاً } أو مفعول به ل { قِيلاً } أي لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً . والمعنى أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاماً بعد سلام { وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين * فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } السدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنما خضد شوكه { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } الطلح شجر الموز والمنضود الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه فليست له ساق بارزة { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } ممتد منبسط كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } جار بلا حد ولا خد أي يجري على الأرض في غير أخدود { وفاكهة كَثِيرَةٍ } أي كثيرة الأجناس { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا بل هي دائمة { وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } لا تمنع عن متناولها بوجه . وقيل : لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } رفيعة القدر أو نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة . وقيل : هي النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك قال الله تعالى : { هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ } [ يس : 56 ] . ويدل عليه قوله .

إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)

{ إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء } ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة ، فإما أن يراد اللاتي ابتدىء انشاؤهن أو اللاتي أعيد انشاؤهن ، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهن لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن { فجعلناهن أبكارا } عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً { عُرُباً } { عرْباً } حمزة وخلف ويحيى وحماد جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أَتْرَاباً } مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك ، واللام في { لأصحاب اليمين } من صلة { أَنشَأْنَا } { ثُلَّةٌ } أي أصحاب اليمين ثلة { مّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } فإن قلت : كيف قال قبل هذا { وَقِيلَ مَنْ الآخرين } ثم قال هنا { وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } ؟ قلت : ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين ، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً . وعن الحسن : سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا ، وتابعوا الأُمم مثل تابعي هذه الأمة .
{ وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال } الشمال والمشأمة واحدة { فِى سَمُومٍ } في حر نار ينفذ في المسام { وَحَمِيمٍ } وماء حار متناهي الحرارة { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } من دخان أسود { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } نفي لصفتي الظل عنه يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا ، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه ، والمعنى أنه ظل حار ضار { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } أي في الدنيا { مُتْرَفِينَ } منعمين فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } يداومون { عَلَى الحنث العظيم } أي على الذنب العظيم أو على الشرك لأنه نقض عهد الميثاق ، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين أو الكفر بالبعث بدليل قوله { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] { وَكَانُواْ يِقُولُونَ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } تقديره : أنبعث إذا متنا؟ وهو العامل في الظرف ، وجاز حذفه إذ { مَّبْعُوثُونَ } يدل عليه ، ولا يعمل فيه { مَّبْعُوثُونَ } لأن «إن» والاستفهام يمنعان أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما { أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون } دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف وحسن العطف على المضمر في { لَمَبْعُوثُونَ } من غير توكيد ب «نحن» للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله { مَا أَشْرَكْنَا وَلآ ءَابَآؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] لفصل لا المؤكدة للنفي . { أَوَ ءابَاؤُنَا } مدني وشامي .
{ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى «من» كخاتم فضة ، والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون } عن الهدى { المكذبون } بالبعث وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم { لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ } «من» لابتداء الغاية { مّن زَقُّومٍ } «من» لبيان الشجر { فَمَالِئَونَ مِنْهَا البطون فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم } أنث ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في منها وعليه .

{ فشاربون شُرْبَ } بضم الشين : مدني وعاصم وحمزة وسهل ، وبفتح الشين : غيرهم وهما مصدران { الهيم } هي إبل عطاش لا تروى جمع أهيم وهيماء ، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل ، فإذا ملئوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم . وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء أمر عجيب وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين { هذا نُزُلُهُمْ } هو الرزق الذي يعد للناس تكرمة له { يَوْمِ الدين } يوم الجزاء { نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ } فهلا { تُصَدّقُونَ } تحضيض على التصديق فكأنهم مكذبون به ، وإما بالبعث لأن من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً .
{ أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } ما تمنونه أي تقذفونه في الأرحام من النطف { ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ } تقدرونه وتصورونه وتجعلونه بشراً سوياً { أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } تقديراً قسمناه عليكم قسمة الأرزاق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط { قَدَّرْنَآ } بالتخفيف : مكي سبقته بالشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ، فمعنى قوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم } إنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه . و { أمثالكم } جمع مثل أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق { وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها يعني أنا نقدر على الأمرين جميعاً : على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم ، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون { أمثالكم } جمع مثل أي على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى } { النشاءة } مكي وأبو عمرو { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أن من قدر على شيء مرة لم يمتنع عليه ثانياً ، وفيه دليل صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى .
{ أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } ما تحرثونه من الطعام أي تثيرون الأرض وتلقون فيها البذر { ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } تنبتونه وتردونه نباتاً { أَمْ نَحْنُ الزرعون } المنبتون وفي الحديث : « لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت » { لَّوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حطاما } هشيماً متكسراً قبل إدراكه { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تعجبون أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه ، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها { إِنَّاْ } أي تقولون إنا { أئنا } أبو بكر { لَمُغْرَمُونَ } لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك { بَلْ نَحْنُ } قوم { مَحْرُومُونَ } محارفون محدودون لا مجدودون لا حظ لنا ولا بخت لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا .

أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

{ أَفَرَءيْتُمُ الماء الذى تَشْرَبُونَ } أي الماء العذب الصالح للشرب { ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن } السحاب الأبيض وهو أعذب ماء { أَمْ نَحْنُ المنزلون } بقدرتنا { لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجاً } ملحاً أو مراً لا يقدر على شربه { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } فهلا تشكرون . ودخلت اللام على جواب لو في قوله { لَجَعَلْنَاهُ حطاما } ونزعت منه هنا ، لأن «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة الشرط ك «إن» ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضموني جملتيها ، أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق ، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك ، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به وتساوي حالي حذفه وإثباته ، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغنٍ عن ذكرها ثانية ، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب .
{ أَفَرَءيْتُمُ النار التى تُورُونَ } تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شبهوهما بالفحل والطروقة { ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا } التي منها الزناد { أَم نَحْنُ المنشئون } الخالقون لها ابتداء { نَحْنُ جعلناها } أي النار { تَذْكِرَةٌ } تذكيراً لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به { ومتاعا } ومنفعة { لّلْمُقْوِينَ } للمسافرين النازلين في القواء وهي القفر ، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام من قولهم «أقوت الدار» إذا خلت من ساكنيها . بدأ بذكر خلق الإنسان فقال { أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم ، ثم بما فيه قوامه وهو الحب فقال { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } ثم بما يعجن به ويشرب عليه وهو الماء ، ثم بما يخبز به وهو النار ، فحصول الطعام بمجموع الثلاثة ولا يستغني عنه الجسد ما دام حياً { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ } فنزه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل ، أو أراد بالاسم الذكر أي فسبح بذكر ربك { العظيم } صفة للمضاف أو للمضاف إليه . وقيل : قل سبحان ربي العظيم وجاء مرفوعاً أنه لما نزلت هذه الآية قال : اجعلوها في ركوعكم .
{ فَلاَ أُقْسِمُ } أي فأقسم و«لا» مزيدة مؤكدة مثلها قوله { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب }

[ الحديد : 29 ] وقرىء { فلأقسم } ومعناه فلأَنا أقسم ، اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي «أنا أقسم» ، ثم حذف المبتدأ . ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة { بمواقع النجوم } بمساقطها ومغاربها { بموقع } حمزة وعلي ، ولعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين ونزول الرحمة والرضوان عليهم فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } وهو اعتراض في اعتراض لأنه اعترض به بين القسم والمقسم عليه وهو قوله { إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ } حسن مرضي أو نفاع جم المنافع أو كريم على الله ، واعترض ب { لَّوْ تَعْلَمُونَ } بين الموصوف وصفته { فِى كتاب } أي اللوح المحفوظ { مَّكْنُونٌ } مصون عن أن يأتيه الباطل أو من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } من جميع الأدناس أدناس الذنوب وغيرها إن جعلت الجملة صفة ل { كتاب مَّكْنُونٍ } وهو اللوح ، وإن جعلتها صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس والمراد مس المكتوب منه { تَنزِيلَ } صفة رابعة للقرآن أي منزل { مِن رَّبّ العالمين } أو وصف بالمصدر لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه فقيل : جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل ، أو هو تنزيل على حذف المبتدأ .
{ أفبهذا الحديث } أي القرآن { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } متهاونون به كمن يدهن في بعض الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب أي وضعتم التكذيب موضع الشكر . وفي قراءة علي رضي الله عنه وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به . وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليهم والرزق المطر أي وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى النجوم .
{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ } النفس أي الروح عند الموت { الحلقوم } ممر الطعام والشراب { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } الخطاب لمن حضر الميت تلك الساعة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } إلى المحتضر { مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ } لا تعقلون ولا تعلمون { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم { تَرْجِعُونَهَا } تردون النفس وهي الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم { إِن كُنتُمْ صادقين } أنكم غير مربوبين مقهورين . { فَلَوْلا } في الآيتين للتحضيض يستدعي فعلاً وذا قوله { تَرْجِعُونَهَا } واكتفى بذكره مرة ، وترتيب الآية فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، و { فَلَوْلا } الثانية مكررة للتأكيد ونحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت ، والمعنى أنكم في جحودكم آيات الله في كل شيء ، إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء ، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل ، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد؟ .

{ فَأَمَّا إِن كَانَ } المتوفي { مِنَ المقربين } من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة { فَرَوْحٌ } فله استراحة { وَرَيْحَانٌ } ورزق { وجنات نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين * فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين } أي فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين } هم الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة وهم الذين قيل لهم في هذه السورة { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون } { فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي إدخال فيها . وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ، وأن أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين لأنهم غير مكذبين { إِنَّ هَذَا } الذي أنزل في هذه السورة { لَهُوَ حَقُّ اليقين } أي الحق الثابت من اليقين { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } رُوي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته فقال له : ما تشتكي؟ فقال : ذنوبي . فقال : ما تشتهي؟ قال : رحمة ربي . قال : أفلا تدعو الطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني . فقال : ألا نأمر بعطائك؟ قال : لا حاجة لي فيه . قال : ندفعه إلى بناتك . قال : لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً » وليس في هذه السور الثلاث ذكر الله : اقتربت ، الرحمن ، الواقعة ، والله أعلم .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

{ سَبَّحَ للَّهِ } جاء في بعض الفواتح «سبح» بلفظ الماضي ، وفي بعضها بلفظ المضارع ، وفي «بني إسرائيل» بلفظ المصدر ، وفي «الأعلى» بلفظ الأمر استيعاداً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وهي أربع : المصدر والماضي والمضارع والأمر . وهذا الفعل قد عُدي باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله { وَتُسَبّحُوهُ } [ الفتح : 9 ] وأصله التعدي بنفسه لأن معنى سبحته بعدته من السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد بسبح الله اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً { مَا فِى السماوات والارض } ما يتأتى منه التسبيح ويصح { وَهُوَ العزيز } المنتقم من مكلف لم يسبح له عناداً { الحكيم } في مجازاة من سبح له انقياداً { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض } لا لغيره وموضع { يُحْيىِ } رفع أي هو يحيي الموتى { وَيُمِيتُ } الأحياء أو نصب أي له ملك السماوات والأرض محيياً ومميتاً { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ هُوَ الأول } هو القديم الذي كان قبل كل شيء { والآخر } الذي يبقي بعد هلاك كل شيء { والظاهر } بالأدلة الدالة عليه { والباطن } لكونه غير مدرك بالحواس وإن كان مرئياً . والواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن . وقيل : الظاهر العالي على كل شيء الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه { وَهُوَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .
{ هُوَ الذى خَلَقَ السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } عن الحسن : من أيام الدنيا ولو أراد أن يجعلها في طرفة عين لفعل ولكن جعل الستة أصلاً ليكون عليها المدار { ثُمَّ استوى } استولى { عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض } ما يدخل في الأرض من البذر والقطر والكنوز والموتى { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات وغيره { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء } من الملائكة والأمطار { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الأعمال والدعوات { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } بالعلم والقدرة عموماً وبالفضل والرحمة خصوصاً { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على حسب أعمالكم { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور يُولِجُ اليل فِى النهار } يدخل الليل في النهار بأن ينقض من الليل ويزيد في النهار { وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
{ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ } يحتمل الزكاة والإنفاق في سبيل الله { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه ، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم وسينقله منكم إلى من بعدكم فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به { فالذين ءامَنُواْ } بالله ورسله { مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله } هو حال من معنى الفعل في { مَالَكُمْ } كما تقول : مالك قائماً؟ بمعنى ما تصنع قائماً أي ومالكم كافرين بالله .

والواو في { والرسول يَدْعُوكُمْ } واو الحال فهما حالان متداخلتان ، والمعنى وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم { لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم } وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] أو بما ركب فيكم من العقول ومكنكم من النظر في الأدلة ، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون؟ { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه { أُخِذَ ميثاقكم } أبو عمرو .
{ هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { ءايات بَيّنَاتٍ } يعني القرآن { لِيُخْرِجَكُمْ } الله تعالى أو محمد بدعوته { مِنَ الظلمات إِلَى النور } من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان { وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءوفٌ } بالمد والهمزة : حجازي وشامي وحفص { رَّحِيمٌ } الرأفة أشد الرحمة { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } في أن لا تنفقوا { فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره يعني وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم؟ وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله . ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل } أي فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لأن قوله : { مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ } يدل عليه { أولئك } الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : « لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » { أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا وَكُلاًّ } أي كل واحد من الفريقين { وَعَدَ الله الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات .

{ وَكُلاًّ } مفعول أول ل { وَعْدُ } و { الحسنى } مفعول ثانٍ . { وَكُلٌّ } : شامي أي وكل وعده الله الحسنى نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازيكم على قدر أعمالكم .
{ مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } بطيب نفسه والمراد الإنفاق في سبيله واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافاً مضاعفة من فضله { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه . { فيضعّفُهُ } مكي { فيضعفَهُ } شامي { فَيُضَاعِفَهُ } : عاصم وسهل { فيضاعفُهُ } غيرهم . فالنصب على جواب الاستفهام ، والرفع على فهو يضاعفه أو عطف على { يُقْرِضُ } { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات } ظرف لقوله { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أو منصوب بإضمار «اذكر» تعظيماً لذلك اليوم { يسعى } يمضي { نُورُهُم } نور التوحيد والطاعات . وإنما قال { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم ، فيجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون سعي بسعيهم ذلك النور وتقول لهم الملائكة { بُشْرَاكُمُ اليوم جنات } أي دخول جنات لأن البشارة تقع بالأحداث دون الجثث { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } .

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

{ يَوْمَ يَقُولُ } هو بدل من { يَوْمَ تَرَى } { المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا } أي انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة . { أَنظُرُونَا } حمزة من النظرة وهي الإمهال جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به { قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً } طرد لهم وتهكم بهم أي تقول لهم الملائكة ، أو المؤمنون ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك فمن ثم يقتبس ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان { فَضُرِبَ بَيْنَهُم } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار . قيل : هو الأعراف { لَهُ } لذلك السور { بَابٍ } لأهل الجنة يدخلون منه { بَاطِنُهُ } باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة { فِيهِ الرحمة } أي النور أو الجنة { وظاهره } ما ظهر لأهل النار { مِن قِبَلِهِ } من عنده ومن جهته { العذاب } أي الظلمة أو النار { ينادونهم } أي ينادي المنافقون المؤمنين { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يريدون مرافقتهم في الظاهر { قَالُواْ } أي المؤمنون { بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } محنتموها بالنفاق وأهلكتموها { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالمؤمنين الدوائر { وارتبتم } وشككتم في التوحيد { وَغرَّتْكُمُ الأمانى } طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار { حتى جَاء أَمْرُ الله } أي الموت { وَغَرَّكُم بالله الغرور } وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم أو بأنه لا بعث ولا حساب .
{ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ } وبالتاء : شامي { مّنكُمْ } أيها المنافقون { فِدْيَةٌ } ما يفتدى به { وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النار } مرجعكم { هِىَ مولاكم } هي أولى بكم وحقيقة مولاكم محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال : هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل إنه لكريم { وَبِئْسَ المصير } النار .
{ أَلَمْ يَأْنِ } من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه أي وقته . قيل : كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين . وعن ابن أبي بكر رضي الله عنه : إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } بالتخفيف : نافع وحفص . الباقون { نَزَّلَ } و «ما» بمعنى «الذي» ، والمراد بالذكر وما نزل من الحق القرآن لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء { وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ } القراءة بالياء عطف على { تَخْشَعَ } وبالتاء : ورش على الالتفاف ، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد } الأجل أو الزمان { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } باتباع الشهوات { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين أي وقليل منهم مؤمنون { اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض .

{ إِنَّ المصدقين والمصدقات } بتشديد الدال وحده : مكي وأبو بكر وهو اسم فاعل من «صدق» وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين . الباقون بتشديد الصاد والدال وهو اسم فاعل من «تصدق» فأدغمت التاء في الصاد وقرىء على الأصل { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } هو عطف على معنى الفعل في { المصدقين } لأن اللام بمعنى «الذين» واسم الفاعل بمعنى الفعل وهو اصدقوا كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا والقرض الحسن أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة { يُضَاعَفُ لَهُمُ } { يضعف } مكي وشامي { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي الجنة { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ } يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ، ويجوز أن يكون { والشهداء } مبتدأ و { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبره { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم } .
{ اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ } كلعب الصبيان { وَلَهْوٌ } كلهو الفتيان { وَزِينَةٌ } كزينة النسوان { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } كتفاخر الأقران { وَتَكَاثُرٌ } كتكاثر الدهقان { فِى الأموال والأولاد } أي مباهاة بهما والتكاثر ادعاء الاستكثار { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } بعد خضرته { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } متفتتاً ، شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين . وقيل : الكفار الزراع { وَفِى الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ } للكفار { وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان } للمؤمنين يعني أن الدنيا وما فيها ليست إلا من محقرات الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر ، وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد .

والكاف في { كَمَثَلِ غَيْثٍ } في محل رفع على أنه خبر بعد خبر أي الحياة الدنيا مثل غيث { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } لمن ركن إليها واعتمد عليها . قال ذو النون : يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها فإن الزاد منها والمقيل في غيرها .
ولما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة بقوله { سَابِقُواْ } أي بالأعمال الصالحة { إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } وقيل : سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } قال السدي : كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين . وذكر العرض دون الطول لأن كل ماله عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله ، فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أن طوله أبسط ، أو أريد بالعرض البسطة وهذا ينفي قول من يقول : إن الجنة في السماء الرابعة ، لأن التي في إحدى السماوات لا تكون في عرض السماوات والأرض { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } وهذا دليل على أنها مخلوقة { ذلك } الموعود من المغفرة والجنة { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } وهم المؤمنون ، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله { والله ذُو الفضل العظيم } .
ثم بين أن كل كائن بقضاء الله وقدره بقوله { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض } من الجدب وآفات الزروع والثمار . وقوله { فِى الأرض } في موضع الجر أي ما أصاب من مصيبة ثابتة في الأرض { وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ } من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد { إِلاَّ فِى كتاب } في اللوح وهو في موضع الحال أي إلا مكتوباً في اللوح { مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } من قبل أن نخلق الأنفس { إِنَّ ذلك } إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب { عَلَى الله يَسِيرٌ } وإن كان عسيراً على العباد . ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه بقوله :
{ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } تحزنوا حزناً يطغيكم { على مَا فَاتَكُمْ } من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها { وَلاَ تَفْرَحُواْ } فرح المختال الفخور { بِمَا ءاتاكم } أعطاكم من الإيتاء . أبو عمرو وأتاكم أي جاءكم من الإتيان يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله ، قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي ، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه وأن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله ، وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة تصيبه ويحزن عند مضرة تنزل به ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً والحزن صبراً ، وإنما يذم من الحزن الجزع المنافي للصبر ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به وتكبر على الناس { الذين يَبْخَلُونَ } خبر مبتدأ محذوف أو بدل من كل مختال فخور كأنه قال : لا يحب الذين يبخلون ، يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا ، فلحبهم له وعزته عندهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به { وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } ويحضون غيرهم على البخل ويرغبونهم في الإمساك { وَمَن يَتَوَلَّ } يعرض عن الإنفاق أو عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي { فَإِنَّ الله هُوَ الغنى } عن جميع المخلوقات فكيف عنه؟ { الحميد } في أفعاله .

{ فَإِنَّ الله الغنى } بترك «هو» : مدني وشامي .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء { بالبينات } بالحجج والمعجزات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } أي الوحي . وقيل : الرسل الأنبياء . والأول أولى لقوله { مَعَهُمْ } لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب { والميزان } رُوي أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به { لِيَقُومَ الناس } ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء { بالقسط } بالعدل ولا يظلم أحد أحداً { وَأَنزْلْنَا الحديد } قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة . ورُوي ومعه المرّ والمسحاة . وعن الحسن : وأنزلنا الحديد خلقناه { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } وهو القتال به { ومنافع لِلنَّاسِ } في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها أو ما يعمل بالحديد { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ } باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين . وقال الزجاج : ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله { بالغيب } غائباً عنهم { إِنَّ الله قَوِىٌّ } يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته { عَزِيزٌ } يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته . والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أن الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد والعهود ويتضمن جوامع الأحكام والحدود ، ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي والطغيان ، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل وهي الميزان . ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعنَدَ ، ونزع عن صفقة الجماعة اليد . وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم } خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا } أولادهما { النبوة والكتاب } الوحي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الخط بالقلم . يقال : كتب كتاباً وكتابة { فَمِنْهُمْ } فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين { مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون } هذا تفصيل لحالهم أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل ، ومنهم من فسق أي خرج عن الطاعة والغلبة للفساق .
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم } أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء { بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وءاتيناه الإنجيل وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً } مودة وليناً { وَرَحْمَةً } تعطفاً على إخوانهم كما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] { وَرَهْبَانِيَّةً } هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف . فعلان من رهب كخشيان من خشي .

وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية { ابتدعوها } أي أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها { مَا كتبناها عَلَيْهِمْ } لم نفرضها نحن عليهم { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه { فَئَاتَيْنَا الذين ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام و الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } الكافرون .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ } الخطاب لأهل الكتاب { اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ } الله { كِفْلَيْنِ } نصيبين { مّن رَّحْمَتِهِ } لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن قبله { وَيَجْعَل لَّكُمْ } يوم القيامة { نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } وهو النور المذكور في قوله { يسعى نُورُهُم } الآية { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبكم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ لّئَلاَّ يَعْلَمَ } ليعلم { أَهْلِ الكتاب } الذين لم يسلموا و «لا» مزيدة { أَلاَّ يَقْدِرُونَ } «أن» مخففة من الثقيلة أصله أنه لا يقدرون يعني أن الشأن لا يقدرون { على شَىْءٍ مّن فَضْلِ الله } أي لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلاً قط { وَأَنَّ الفضل } عطف على { أَن لا يَقْدِرُونَ } { بِيَدِ الله } أي في ملكه وتصرفه { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } من عباده { والله ذُو الفضل العظيم } ، والله أعلم .

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

{ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ } تحاورك وقرىء بها ، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت راودها فأبت فغضب فظاهر منها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه . ورُوي أنها قالت : إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فقال صلى الله عليه وسلم : " ما عندي في أمرك شيء " وروي أنه قال لها : " حرمت عليه " فقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ . فقال : حرمت عليه فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرمت عليه " هتفت وشكت فنزلت { فِى زَوْجِهَا } في شأنه ومعناه { وَتَشْتَكِى إِلَى الله } تظهر ما بها من المكروه { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما } مراجعتكما الكلام من حار إذا رجع { إِنَّ الله سَمِيعٌ } يسمع شكوى المضطر { بَصِيرٌ } بحاله { الذين يظاهرون } عاصم { يظَّهرون } : حجازي وبصري غيرهم { يظاهرون } وفي { مّنكُمْ } توبيخ للعرب لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم { مِن نّسَائِهِمْ } زوجاتهم { مَّا هُنَّ أمهاتهم } أمهاتهم المفضل ، الأول حجازي والثاني تميمي { إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ } يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع ، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة حرمتهن ، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلذا قال { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول } تنكره الحقيقة والأحكام الشرعية { وَزُوراً } وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } لما سلف منهم .
{ والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ } بين في الآية الأولى أن ذلك من قائله منكر وزور ، وبين في الثانية حكم الظهار { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } العود الصيرورة ابتداء أو بناء فمن الأول قوله تعالى : { حتى عَادَ كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] . ومن الثاني : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ] ويعدى بنفسه كقولك : عدته إذا أتيته وصرت إليه ، وبحرف الجر ب «إلى» وعلى وفي واللام كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] ومنه { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } أي يعودون لنقض ما قالوا أو لتداركه على حذف المضاف ، وعن ثعلبة : يعودون لتحليل ما حرموا على حذف المضاف أيضاً غير أنه أراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه كقوله { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] أراد المقول فيه وهو المال والولد .

ثم اختلفوا أن النقض بماذا يحصل؟ فعندنا بالعزم على الوطء وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ، وعند الشافعي بمجرد الإمساك وهو أن لا يطلقها عقيب الظهار .
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فعليه اعتاق رقبة مؤمنة أو كافرة ولم يجز المدبر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئاً { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } الضمير يرجع إلى ما دل عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها . والمماسة الاستمتاع بها من جماع أو لمس بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة { ذلكم } الحكم { تُوعَظُونَ بِهِ } لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } والظهار أن يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي . وإذا وضع موضع أنت عضواً منها يعبر به عن الجملة أو مكان الظهر عضواً آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ ، أو مكان الأم ذات رحم محرم منه بنسب أو رضاع أو صهر أو جماع نحو أن يقول : أنت عليّ كظهر أختي من الرضاع ، أو عمتي من النسب ، أو امرأة ابني ، أو أبي أو أم امرأتي أو ابنتها فهو مظاهر ، وإذا امتنع المظاهر من الكفارة للمرأة أن ترافعه ، وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه ، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأنه يضر بها في ترك التكفير . والامتناع من الاستمتاع فإن مس قبل أن يكفر استغفر الله ولا يعود حتى يكفر ، وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رضي الله عنه .
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الرقبة { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } فعليه صيام شهرين { مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } الصيام { فَإِطْعَامُ } فعليه إطعام { سِتّينَ مِسْكِيناً } لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، ويجب أن يقدمه على المسيس ولكن لا يستأنف إن جامع في خلال الإطعام { ذلك } البيان والتعليم للأحكام { لّتُؤْمِنُواْ } لتصدقوا { بالله وَرَسُولِهِ } في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم { وَتِلْكَ } أي الأحكام التي وصفنا في الظهار والكفارة { حُدُودَ الله } التي لا يجوز تعديها { وللكافرين } الذين لا يتبعونها { عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم { إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ } يعادون ويشاقون { كُبِتُواْ } أخزوا وأهلكوا { كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من أعداء الرسل { وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات } تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به { وللكافرين } بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يذهب بعزهم وكبرهم { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ } منصوب ب { مُّهِينٌ } أو بإضمار «اذكر» تعظيماً لليوم { الله جَمِيعًا } كلهم لا يترك منهم أحداً غير مبعوث أو مجتمعين في حال واحدة { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد { أحصاه الله } أحاط به عدداً لم يفته منه شيء { وَنَسُوهُ } لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظمات الأمور { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } لا يغيب عنه شيء .

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض مَا يَكُونُ } من «كان» التامة أي ما يقع { مِن نجوى ثلاثة } النجوى التناجي وقد أضيفت إلى ثلاثة أي من نجوى ثلاثة نفر { إِلاَّ هُوَ } أي الله { رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى } ولا أقل { مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه وقد تعالى عن المكان علواً كبيراً وتخصيص الثلاثة والخمسة لأنها نزلت في المنافقين وكانوا يتحلقون للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين . وقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عدديهم ولا أكثر إلا والله معهم يسمع ما يقولون ، ولأن أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ } فدل على الاثنين والأربعة ، وقال { وَلاَ أَكْثَرَ } فدل على ما يقارب هذا العدد { أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة } فيجازيهم عليه { إِنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ويريدون أن يغيظوهم ويوهموهم في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته ، { وينتجون } حمزة وهو بمعنى الأول { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد . والسام الموت والله تعالى يقول { وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى } النمل : 59 ) ، { ياأيها الرسول } [ المائدة : 67 ] ، { ياأيها النبى } [ الأحزاب : 1 ] { وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } أي يقولون فيما بينهم لو كان نبياً لعاقبنا الله بما نقوله فقال الله تعالى { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } عذاباً { يَصْلَوْنَهَا } حال أي يدخلونها { فَبِئْسَ المصير } المرجع جهنم .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ } بألسنتهم وهو خطاب للمنافقين والظاهر أنه خطاب للمؤمنين { إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } أي إذا تناجيتم فلا تشبهوا باليهود والمنافقين في تناجيهم بالشر { وتناجوا بالبر } بأداء الفرائض والطاعات { والتقوى } وترك المعاصي { واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } للحساب فيجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر { إِنَّمَا النجوى } بالإثم والعدوان { مِنَ الشيطان } من تزيينه { لِيَحْزُنَ } أي الشيطان وبضم الياء : نافع { الذين ءامَنُواْ وَلَيْسَ } الشيطان أو الحزن { بِضَارّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } بعلمه وقضائه وقدره { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس } ( في المجلس ) توسعوا فيه ، { فِى المجالس } عاصم ونافع والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه . وقيل : هو المجلس من مجالس القتال وهي مراكز الغزاة كقوله { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] . مقاتل في صلاة الجمعة { فافسحوا } فوسعوا { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر غير ذلك { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } انهضوا للتوسعة على المقبلين ، أو انهضوا عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتم بالنهوض عنه ، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير { فَانشُزُواْ } بالضم فيهما : مدني وشامي وعاصم غير حماد { يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ } بامتثال أوامره وأوامر رسوله { والذين أُوتُواْ العلم } والعالمين منهم خاصة { درجات والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وفي الدرجات قولان : أحدهما في الدنيا في المرتبة والشرف ، والآخر في الآخرة .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » وعنه صلى الله عليه وسلم : « عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة » وعنه صلى الله عليه وسلم « يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه . وقال صلى الله عليه وسلم : « أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم » وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم . وعن الزبيري : العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال ، والعلوم أنواع فأشرها أشرفها معلوماً .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول } إذا أردتم مناجاته { فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً } أي قبل نجواكم وهي استعارة ممن له يدان كقول عمر رضي الله عنه : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته { ذلك } التقديم { خَيْرٌ لَّكُمْ } في دينكم { وَأَطْهَرُ } لأن الصدقة طهرة { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ } ما تتصدقون به { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في ترخيص المناجاة من غير صدقة . قيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ . وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ . وقال علي رضي الله عنه : هذه آية من كتاب الله ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مسائل فأجابني عنها . قلت : يا رسول الله ما الوفاء؟ قال : « التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله » قلت : وما الفساد؟ قال : « الكفر والشرك بالله » قلت : وما الحق؟ قال : « الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك » قلت : وما الحيلة؟ قال : « ترك الحيلة » قلت : وما عليّ؟ قال : « طاعة الله وطاعة رسوله » قلت : وكيف أدعو الله تعالى؟ قال : « بالصدق واليقين » قلت : وماذا أسأل الله؟ قال : « العافية » قلت : وما أصنع لنجاة نفسي؟ قال : « كل حلالاً وقل صدقاً » قلت : وما السرور؟ قال : « الجنة » قلت : وما الراحة؟ قال :

« لقاء الله » فلما فرغت منها نزل نسخها .
{ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات } أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } ما أمرتم به وشق عليكم { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } أي خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه { فَأَقِمُواْ الصلاوة وَءَاتُواْ الزكاوة وَأَطِعُواْ الله وَرَسُولِهُ } أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وهذا وعد ووعيد .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم } كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] وينقلون إليهم أسرار المؤمنين { مَّا هُم مّنكُمْ } يا مسلمون { وَلاَ مِنْهُمْ } ولا من اليهود كقوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب } أي يقولون والله إنا لمسلمون لا منافقون { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون منافقون { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } نوعاً من العذاب متفاقماً { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي إنهم كانوا في الزمان الماضي مصرين على سوء العمل أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة .
{ اتخذوا أيمانهم } الكاذبة { جَنَّةُ } وقاية دون أموالهم ودمائهم { فَصَدُّواْ } الناس في خلال أمنهم وسلامتهم { عَن سَبِيلِ الله } عن طاعته والإيمان به { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } وعدهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم كقوله { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله } من عذاب الله { شَيْئاً } قليلاً من الإغناء { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ } أي لله في الآخرة أنهم كانوا مخلصين في الدنيا غير منافقين { كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } في الدنيا على ذلك { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ } في الدنيا { على شَىْءٍ } من النفع أو يحسبون أنهم على شيء من النفع ثم بأيمانهم الكاذبة كما انتفعوا ههنا { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة .
{ استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان } استولى عليهم { فأنساهم ذِكْرَ الله } قال شاه الكرماني : علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس ، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها ، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان ، ويشغل لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان } جنده { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون } .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الأذلين } في جملة من هو أذل خلق الله تعالى لا ترى أحداً أذل منهم { كتاب الله } في اللوح { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } بالحجة والسيف أو بأحدهما { إِنَّ الله قَوِىٌّ } لا يمتنع عليه ما يريد { عَزِيزٌ } غالب غير مغلوب .

{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ } هو مفعول ثان ل { تَجِدُ } أو حال أو صفة ل { قَوْماً } وتجد بمعنى تصادف على هذا { مَنْ حَادَّ الله } خالفه وعاداه { وَرَسُولُهُ } أي من الممتنع أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين ، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في الزجر عن مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم . وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله { وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } وبقوله { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } أي أثبته فيها وبمقابلة قوله { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان } بقوله { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله } { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ } أي بكتاب أنزله فيه حياة لهم ، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان أي بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به . وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان . وعن عبد العزيز بن أبي رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها . وقال سهل : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس بمبتدع ولا يجالسه ويظهر له من نفسه العداوة ، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله حلاوة السنن ، ومن أجاب مبتدعاً لطلب عز الدنيا أو غناها أذله الله بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه ، ومن لم يصدق فليجرب . { وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ } بتوحيدهم الخالص وطاعتهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } بثوابه الجسيم في الآخرة أو بما قضى عليهم في الدنيا { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله } أنصار حقه ودعاة خلقه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } الباقون في النعيم المقيم الفائزون بكل محبوب الآمنون من كل مرهوب .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } رُوي أن هذه السورة نزلت بأسرها في بني النضير ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالف أبا سفيان عند الكعبة فأمر صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة ، ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات .
{ هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } يعني يهود بني النضير { مِن ديارهم } بالمدينة . واللام في { لأَِوَّلِ الحشر } تتعلق ب { أَخْرَجَ } وهي اللام في قوله تعالى { ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] وقولك جئته لوقت كذا . أي أخرج الذين كفروا عند أول الحشر . ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشأم وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط ، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشأم ، أو هذا أول حشرهم ، وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ، أو آخر حشرهم حشر يوم القيامة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : من شك أن المحشر بالشأم فليقرأ هذه الآية ، فهم الحشر الأول وسائر الناس الحشر الثاني . وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خرجوا " امضوا فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر " قتادة : إذا كان آخر الزمان جاءت نار من قبل المشرق فحشرت الناس إلى أرض الشأم وبها تقوم عليهم القيامة . وقيل : معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } أي ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله . والفرق بين هذا التركيب وبين النظم الذي جاء عليه أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً ل«أَن» وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغازاتهم ، وليس ذلك في قولك «وظنوا أن حصونهم تمنعهم» .

{ فأتاهم الله } أي أمر الله وعقابه وفي الشواذ «فآتاهم الله» أي فآتاهم الهلاك { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه رضاعاً .
{ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } الخوف { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين } { يُخْرِبُونَ } أبو عمرو . والتخريب والإخراب الإفساد بالنقض والهدم ، والخَرُبة الفساد وكانوا يخرّبون بواطنها والمسلمون ظواهرها لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا تبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديّار ، والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة ، وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج . وأما المؤمنون فداعيهم إلى التخريب إزالة متحصنهم وأن يتسع لهم مجال الحرب . ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين أنهم لما عرضوهم بنكث العهد لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه { فاعتبروا ياأولى الأبصار } أي فتأملوا فيما نزل بهؤلاء والسبب الذي استحقوا به ذلك فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم فتعاقبوا بمثل عقوبتهم ، وهذا دليل على جواز القياس { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء } الخروج من الوطن مع الأهل والولد { لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا } بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة { وَلَهُمْ } سواء أجلوا أو قتلوا { فِى الآخرة عَذَابُ النار } الذي لا أشد منه { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } أي إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم { شَاقُّواْ الله } خالفوه { وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ الله } ورسوله { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
{ مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } هو بيان ل { مَا قَطَعْتُمْ } ومحل «ما» نصب ب { قَطَعْتُمْ } كأنه قيل : أي شيء قطعتم وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } لأنه في معنى اللينة ، واللينة : النخلة من الألوان وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها . وقيل : اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين { قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله } فقطعها وتركها بإذن الله { وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } وليذل اليهود ويغيظهم أذن في قطعها { وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ } جعله فيئاً له خاصة { مِنْهُمْ } من بني النضير { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } فلم يكن ذلك بإيجاف خيل أو ركاب منكم على ذلك والركاب الإبل ، والمعنى فما أوجفتم على تحصيله وتغنيمه خيلاً ولا ركاباً ولا تعبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم لأنه على ميلين من المدينة ، وكان صلى الله عليه وسلم على حمار فحسب { ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء } يعني أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً فقسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة منهم لفقرهم { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } وإنما لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها غير أجنبية عنها ، بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة ، وزيف هذا القول بعض المفسرين وقال : الآية الأولى نزلت في أموال بني النضير وقد جعلها الله لرسوله خاصة ، وهذه الآية في غنائم كل قرية تؤخذ بقوة الغزاة ، وفي الآية بيان مصرف خمسها فهي مبتدأة { كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً } { تَكُونُ دُولَةً } يزيد على «كان» التامة والدولة والدولة ما يدول للإنسان أي يدور من الجد .

ومعنى قوله { لاَ يَكُونَ دُولَةً } { بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ } كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطي الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به { وَمَا ءاتاكم الرسول } أي أعطاكم من قسمة غنيمة أو فيء { فَخُذُوهُ } فاقبلوه { وَمَا نهاكم عَنْهُ } عن أخذه منها { فانتهوا } عنه ولا تطلبوه { واتقوا الله } أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه { أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم . والأجود أن يكون عاماً في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه .
{ لِلْفُقَرَاء } بدل من قوله { وَلِذِى القربى } والمعطوف عليه ، والذي منع الإبدال من { لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } وإن كان المعنى لرسول الله إن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل { المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم } بمكة ، وفيه دليل على أن الكفار يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين لأن الله تعالى سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال { يَبْتَغُونَ } حال { فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً } أي يطلبون الجنة ورضوان الله { وينصرون الله ورسوله } أي ينصرون دين الله ويعينون رسوله { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } في إيمانهم وجهادهم { والذين } معطوف على المهاجرين وهم الأنصار { تَبَوَّءوا الدار } توطنوا المدينة { والإيمان } وأخلصوا الإيمان كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً ... أو وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك ، أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه .

{ مِن قَبْلِهِمُ } من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان . وقيل : من قبل هجرتهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } حتى شاطروهم أموالهم وأنزلوهم منازلهم ، ونزل من كانت له امرأتان عن إحديهما حتى تزوج بها رجل من المهاجرين .
{ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ } ولا يعلمون في أنفسهم طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره والمحتاج إليه يسمي حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه . وقيل : حاجة حسداً مما أعطي المهاجرون من الفيء حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم به . وقيل : لا يجدون في صدورهم مس حاجة من فقد ما أوتوا فحذف المضافان { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } فقر وأصلها خصاص البيت وهي فروجه ، والجملة في موضع الحال أي مفروضة خصاصتهم . روي أنه نزل برجل منهم ضيف فنوّم الصبية وقرّب الطعام وأطفأ المصباح ليشبع ضيفه ولا يأكل هو . وعن أنس : أهدى لبعضهم رأس مشوي وهو مجهود فوجهه إلى جاره فتداولته تسعة أنفس حتى عاد إلى الأول . أبو زيد قال لي شاب من أهل بلخ : ما الزهد عندكم؟ قلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا . فقال : هكذا عندنا كلاب بلخ بل إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الظافرون بما أرادوا . الشح اللؤم وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، وأما البخل فهو المنع نفسه . وقيل : الشح أكل مال أخيك ظلماً ، والبخل منع مالك . وعن كسرى : الشح أضر من الفقر لأن الفقير يتسع إذا وجد بخلاف الشحيح .
{ والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } عطف أيضاً على { المهاجرين } وهم الذين هاجروا من بعده . وقيل : التابعون بإحسان . وقيل : من بعدهم إلى يوم القيامة . قال عمر رضي الله عنه : دخل في هذا الفيء كل من هو مولود إلى يوم القيامة في الإسلام ، فجعل الواو للعطف فيهما . وقرىء { لِلَّذِينَ } فيهما { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } قيل : هم المهاجرون والأنصار . عن عائشة رضي الله عنها : أمروا بأن يستغفروا لهم فسبوهم { وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ } حقداً { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } يعني الصحابة { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } وقيل لسعيد بن المسيب : ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال : أقول ما قولنيه الله وتلى هذه الآية . ثم عجب نبيه بقوله :

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا } أي ألم تر يا محمد إلى عبد الله بن أبيّ وأشياعه { يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } يعني بني النضير والمراد إخوة الكفر { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } من دياركم { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } رُوي أن ابن أبيّ وأصحابه دسوا إلى بني النضير حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ } في قتالكم { أَحَداً أَبَداً } من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون } في مواعيدهم لليهود ، وفيه دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب .
{ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } إنما قال { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم على الفرض والتقدير كقوله { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وكما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . والمعنى ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك أي يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم ، أو لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً } أي أشد مرهوبية . مصدر رهب المبني للمفعول . وقوله { فِى صُدُورِهِمْ } دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم { مّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته { لاَ يقاتلونكم } لا يقدرون على مقاتلتكم { جَمِيعاً } مجتمعين يعني اليهود والمنافقين { إِلا } كائنين { فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالخنادق والدروب { أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } { جدار } مكي وأبو عمرو { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة لأن الشجاع يجبن عند محاربة الله ورسوله { تَحْسَبُهُمْ } أي اليهود والمنافقين { جَمِيعاً } مجتمعين ذوي ألفة واتحاد { وَقُلُوبُهُمْ شتى } متفرقة لا ألفة بينها يعني أن بينهم إحناً وعداوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ، وهذا تحسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم { ذلك } التفرق { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم .
{ كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي مثلهم كمثل أهل بدر فحذف المبتدأ { قَرِيبًا } أي استقروا من قبلهم زمناً قريباً { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم كلأ وبيل وخيم سيء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب النار { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } أي مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم كمثل الشيطان إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة .

وقيل : المراد استغواؤه قريشاً يوم بدر وقوله لهم { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } إلى قوله { إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ } [ الأنفال : 48 ] { فَكَانَ عاقبتهما } عاقبة الإنسان الكافر والشيطان { أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا } { عاقبتهما } خبر «كان» مقدم و«أن» مع اسمها وخبرها أي في النار في موضع الرفع على الاسم و { خالدين } حال { وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } في أوامره فلا تخالفوها { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ } نكر النفس تقليلاً للأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة { مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } يعني يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له أو عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد . وتنكيره لتعظيم أمره أي لغد لا يعرف كنهه لعظمه . وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة وجدنا ما عملنا ربحنا ما قدما خسرنا ما خلفنا . { واتقوا الله } كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو اتقوا الله في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل ، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد وهو { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وفيه تحريض على المراقبة لأن من علم وقت فعله أن الله مطلع على ما يرتكب من الذنوب يمتنع عنه { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله } تركوا ذكر الله عز وجل وما أمرهم به { فأنساهم أَنفُسَهُمْ } فتركهم من ذكره بالرحمة والتوفيق { أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون } الخارجون عن طاعة الله .
{ لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هُمُ الفائزون } هذا تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار ، والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز العظيم مع أصحاب الجنة والعذاب الأليم مع أصحاب النار ، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه كما تقول لمن يعق أباه «هو أبوك» تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضي البر والتعطف . وقد استدلت الشافعية بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالاستيلاء ، وقد أجبنا عن مثل هذا في أصول الفقه والكافي .
{ لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } أي من شأن القرآن وعظمته أنه لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع أي لخضع وتطأطأ وتصدع أي تشقق من خشية الله ، وجائز أن يكون هذا تمثيلاً كما في قوله

{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] ويدل عليه قوله { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وهي إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل ، والمراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره . ثم رد على من أشرك وشبهه بخلقه فقال { هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة } أي السر والعلانية أو الدنيا والآخرة أو المعدوم والموجود { هُوَ الرحمن الرحيم هُوَ الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك } الذي لا يزول ملكه { القدوس } المنزه عن القبائح وفي تسبيح الملائكة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح { السلام } الذي سلم الخلق من ظلمه عن الزجاج { المؤمن } واهب الأمن . وعن الزجاج : الذي آمن الخلق من ظلمه أو المؤمن من عذابه من أطاعه { المهيمن } الرقيب على كل شيء الحافظ له مفيعل من الأمن إلا أن همزته قلبت هاء { العزيز } الغالب غير المغلوب { الجبار } العالي العظيم الذي يذل له من دونه أو العظيم الشأن في القدرة والسلطان أو القهار ذو الجبروت { المتكبر } البليغ الكبرياء والعظمة { سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } نزه ذاته عما يصفه به المشركون { هُوَ الله الخالق } المقدر لما يوجده { البارىء } الموجد { المصور } في الأرحام { لَهُ الأسماء الحسنى } الدالة على الصفات العلا { يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } ختم السورة بما بدأ به . عن أبي هريرة رضي الله عنه سألت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاسم الأعظم : فقال « عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته » فأعدت عليه فأعاد عليّ فأعدت عليه فأعاد عليّ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

روي أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها : أمسلمة جئت؟ قالت : لا . قال : أفمهاجرة جئت؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك؟ قالت : احتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم . فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرساناً وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم ، فاستحضر برسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها ، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه وقبل عذره . فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه فنزل .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } عدي «اتخذ» إلى مفعوليه وهما { عَدُوّى } و { أَوْلِيَاء } والعدوّ فعول من عدا كعفوّ من عفا ولكنه على زنة المصدر ، أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد ، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان { تُلْقُونَ } حال من الضمير في { لاَ تَتَّخِذُواْ } والتقدير لا تتخذوهم أولياء ملقين { إِلَيْهِمْ بالمودة } أو مستأنف بعد وقف على التوبيخ . والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم . والباء في { بالمودة } زائدة مؤكدة للتعدي كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] أو ثابتة على أن مفعول { تُلْقُونَ } محذوف معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم { وَقَدْ كَفَرُواْ } حال من { لاَ تَتَّخِذُواْ } أو من { تُلْقُونَ } أي لا تتولوهم أو توادونهم وهذه حالهم { بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق } دين الإسلام والقرآن { يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم } استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم أو حال من { كَفَرُواْ } { أَن تُؤْمِنُواْ } تعليل ل { يُخْرِجُونَ } أي يخرجونكم من مكة لإيمانكم { بالله رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلق ب { لاَ تَتَّخِذُواْ } أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي .

وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه { جِهَاداً فِى سَبِيلِى } مصدر في موضع الحال أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي { وابتغاء مَرْضَاتِى } ومبتغين مرضاتي { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } أي تفضون إليهم بمودتكم سراً أو تسرون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة وهو استئناف { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ } والمعنى أي طائل لكم في أسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأنا مطلع رسولي على ما تسرون { وَمَن يَفْعَلْهُ } أي هذا الإسرار { مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } فقد أخطأ طريق الحق والصواب .
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ } إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم { يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء } خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء } بالقتل والشتم { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } وتمنوا لو ترتدون عن دينكم فإذاً موادة أمثالهم خطأ عظيم منكم . والماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع ففيه نكتة كأنه قيل : ودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفاراً أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذالون لها دونه ، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أهم شيء عند صاحبه .
{ لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم } قراباتكم { وَلاَ أولادكم } الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ثم قال { يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } وبين أقاربكم وأولادكم { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } [ عبس : 34 ] الآية . فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً . { يُفَصّلُ } : عاصم . { يُفَصّلُ } حمزة وعلي والفاعل هو الله عز وجل { يُفَصّلُ } ابن ذكوان غيرهم { يُفَصّلُ } { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على أعمالكم .
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ } قدوة في التبري من الأهل { حَسَنَةٌ فِى إبراهيم } أي في أقواله ولهذا استثنى منها إلا قول إبراهيم { والذين مَعَهُ } من المؤمنين وقيل : كانوا أنبياء { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ } جمع بريء كظريف وظرفاء { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة } بالأفعال { والبغضاء } بالقلوب { أَبَداً حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } فحينئذ نترك عداوتكم { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } وذلك لموعدة وعدها إياه أي اقتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء } أي من هداية ومغفرة وتوفيق ، وهذه الجملة لا تليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله :

{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً } [ الفتح : 11 ] ولكن المراد استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده تابع له كأنه قال : أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } متصل بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة . وقيل : معناه قولوا ربنا فهو ابتداء أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أقبلنا { وَإِلَيْكَ المصير } المرجع { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب { واغفر لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } أي الغالب الحاكم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15