كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } إلا متكلماً بلغتهم { لِيُبَيّنَ لَهُمْ } ما هو مبعوث به وله فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولون له : لم نفهم ما خوطبنا به . فإن قلت : إن رسولنا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس جميعاً بقوله { قُلْ يا أَيُّهَا الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة قلت : لا يخلو ما إن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها فلا
حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فتعين أن ينزل بلسان واحد ، وكان لسان قومه أولى بالتعيين لأنهم أقرب إليه ولأنه أبعد من التحريف والتبديل { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء } من آثر سبب الضلالة { وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ } من آثر سبب الاهتداء { وَهُوَ العزيز } فلا يغالب على مشيئته { الحكيم } فلا يخذل إلا أهل الخذلان { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا } التسع { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } بأن أخرج أو أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول كأنه قيل : أرسلناه وقلنا له أخرج قومك { مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها أو بأيام الإنعام حيث ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وفلق لهم البحر { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ } على البلايا { شَكُورٍ } على العطايا كأنه قال لكل مؤمن إذ الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر
.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)

{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } «إذ» ظرف للنعمة بمعنى الإنعام أي إنعامه عليكم ذلك الوقت ، أو بدل اشتمال من نعمة الله أي اذكروا وقت إنجائكم { وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ } ذكر في البقرة { يذبحون } [ البقرة : 49 ] وفي الأعراف { يقتلون } [ الأعراف : 141 ] بلا واو ، وهنا مع الواو . والحاصل أن التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له ، وحيث أثبت الواو جعل التذبيح من حيث إنه زاد على جنس العذاب كأنه جنس آخر { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } الإشارة إلى العذاب والبلاء المحنة أو إلى الإنجاء والبلاء النعمة . { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً { } [ الأنبياء : 35 ] { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي آذن ونظير «تأذن» و«آذن» توعد وأوعد . ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل : وإذ آذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك والشبه وهو من جملة ما قال موسى لقومه ، وانتصابه للعطف على { نعمة الله عليكم } كأنه قيل : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال : { لَئِن شَكَرْتُمْ } يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها { لأَزِيدَنَّكُمْ } نعمة إلى نعمة فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود وقيل : إذا سمعت النعمة نغمة الشكر تأهبت للمزيد . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لئن شكرتم بالجد في الطاعة لأزيدنكم بالجد في المثوبة { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } ما أنعمت به عليكم { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } لمن كفر نعمتي ، أما في الدنيا فسلب النعم وأما في العقبى فتوالى النقم .

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)

{ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ } يا بني إسرائيل { وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً } والناس كلهم { فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ } عن شكركم { حَمِيدٌ } وإن لم يحمده الحامدون وأنتم ضررتم أنفسكم حيث حرمتموها الخير الذي لا بد لكم منه { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } من كلام موسى لقومه أو ابتداء خطاب لأهل عصر محمد عليه السلام { والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً ، أو عطف { الذين من بعدهم } على { قوم نوح } و { لا يعلمهم إلا الله } اعتراض ، والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون . ورُوى أنه عليه السلام قال عند نزول هذه الآية : كذب النسابون { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالمعجزات { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } الضميران يعودان إلى الكفرة أي أخذوا أناملهم بأسنانهم تعجباً أو عضوا عليها تغيظاً ، أو الثاني يعود إلى الأنبياء أي رد القوم أيديهم في أفواه الرسل كيلا يتكلموا بما أرسلوا به { وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } من الإيمان بالله والتوحيد { مُرِيبٍ } موقع في الريبة { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ } أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وهو جواب قولهم { وإنا لفي شك } { فَاطِرِ السموات والأرض يَدْعُوكُمْ } إِلَى الإيمان { لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } إِذا آمنتم ولم تجيء مع «من» إلا في خطاب الكافرين كقوله : { واتقوه وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 4 ، 3 ] { ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [ الاحقاف : 31 ] وقال في خطاب المؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة } إلى أن قال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 11 ، 10 ] وغير ذلك مما يعرف بالاستقراء ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد { وَيُؤَخّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت قد سماه وبين مقداره .
{ قَالُواْ } أي القوم { إِنْ أَنتُمْ } ما أنتم { إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } لا فضل بيننا وبينكم ولا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا { تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } يعني الأصنام { فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ } بحجة بينة وقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجا

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } تسليم قولهم إنهم بشر مثلهم { ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } بالإيمان والنبوة كما منّ علينا { وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان إِلاَّ بِإِذْنِ الله } جواب لقولهم : { فأتونا بسلطان مبين } والمعنى أن الإتيان بالآية التي قد اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وإيذائكم ألا ترى إلى قوله : { وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } معناه وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه وهو التوفيق لهداية كل منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين قال أبو تراب : التوكل طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والشكر عند العطاء والصبر عند البلاء { وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا } جواب قسم مضمر أي حلفوا على الصبر على أذاهم وأن لا يمسكوا عن دعائهم { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } أي فليثبت المتوكلون على توكلهم حتى لا يكون تكرارا .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)

{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ } { سبْلنا } { لرسْلهم } أبو عمرو { لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا } من ديارنا { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي ليكونن أحد الأمرين إخراجكم أو عودكم وحلفوا على ذلك والعود بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن معه فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } القول مضمر أو أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ } أي أرض الظالمين وديارهم . في الحديث : « من آذى جاره ورثه الله داره » { ذلك } الإهلاك والإسكان أي ذلك الأمر حق { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي } موقفي وهو موقف الحساب أو المقام مقحم أو خاف قيامي عليه بالعلم كقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] والمعنى أن ذلك حق للمتقين { وَخَافَ وَعِيدِ } { عذابي } وبالياء يعقوب { واستفتحوا } واستنصروا الله على أعدائهم وهو معطوف على أوحى إليهم { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ } وخسر كل متكبر بطر { عَنِيدٍ } مجانب للحق . معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم وقيل : الضمير للكفار ومعناه واستفتح الكفار على الرسل ظناً منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه { مِّن وَرَآئِهِ } من بين يديه { جَهَنَّمُ } وهذا وصف حاله وهو في الدنيا لأنه مرصد لجهنم فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حيث يبعث ويوقف { ويسقى } معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى { مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ } ما يسيل من جلود أهل النار ، و { صديد } عطف بيان لماء لأنه مبهم فبين بقوله { صديد }

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)

{ يَتَجَرَّعُهُ } يشربه جرعة جرعة { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة كقوله : { لم يكد يراها } [ النور : 40 ] أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ } أي أسباب الموت من كل جهة أو من كل مكان من جسده وهذا تفظيع لما يصيبه من الآلام أي لو كان ثمة موت لكان كل واحد منها مهلكاً { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } لأنه لو مات لاستراح { وَمِن وَرَائِهِ } ومن بين يديه { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ . وعن الفضيل هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد .
{ مَثَلُ الذين } مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليكم مثل الذين { كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد { اشتدت بِهِ الريح } { الرياح } مدني { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } جعل العصف لليوم وهو لما فيه وهو الريح كقولك : «يوم ماطر» ، وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسرى وعقر الإبل للأضياف وغير ذلك شبهها في حبوطها لبنائها على غير أساس وهو الإيمان بالله تعالى برماد طيرته الريح العاصف { لاَّ يَقْدِرُونَ } يوم القيامة { مِمَّا كَسَبُواْ } من أعمالهم { على شَيْءٍ } أي لا يرون له أثراً من ثواب كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء { ذلك هُوَ الضلال البعيد } إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب { أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم الخطاب لكل أحد { أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض } { خالق } مضافاً حمزة وعلي { بالحق } بالحكمة والأمر العظيم ولم يخلقها عبثاً { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقاً آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم إعلاماً بأنه قادر على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم

وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)

{ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } بمتعذر .
{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا } ويبرزون يوم القيامة وإنما جيء به بلفظ الماضي لأن ما أخبر به عز وجل لصدقه كأنه قد كان ووجد . ونحوه { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] { ونادى أصحاب النار } [ الأعراف : 50 ] وغير ذلك ، ومعنى بروزهم لله والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز لهم أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية ، أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه { فَقَالَ الضعفاء } في الرأي وهم السفلة والأتباع وكتب الضعفاء بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو { لِلَّذِينَ استكبروا } وهم السادة والرؤساء الذين استغووهم وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } تابعين . جمع تابع على تبع كخادم وخدم وغائب وغيب أو ذوي تبع والتبع الأتباع يقال : تبعه تبعاً { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } فهل تقدرون على دفع شيء مما نحن فيه . و«من» الأولى للتبيين والثانية للتبعيض كأنه قيل فهل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو هما للتبعيض أي فهل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ولما كان قول الضعفاء توبيخاً لهم وعتاباً على استغوائهم لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم { قَالُواْ } لهم مجيبين معتذرين { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } أي لو هدانا الله إلى الإيمان في الدنيا لهديناكم إليه أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } مستويان علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية . روى أنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر ثم يقولون { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } واتصاله بما قبله من حيث إن عتابهم لهم كان جزعاً مما هم فيه فقالوا لهم : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا يريدون أنفسهم وإياهم لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } منجى ومهرب جزعنا أم صبرنا ، ويجوز أن يكون هذا من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً .

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)

{ وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر } حكم بالجنة والنار لأهليهما وفرغ من الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ورُوي أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً . على منبر من نار فيقول لأهل النار { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم { وَوَعَدتُّكُمْ } بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء { فَأَخْلَفْتُكُمْ } كذبتكم { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } من تسلط واقتدار { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } لكني دعوتكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني والاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السلطان { فاستجبتم } فأسرعتم إجابتي { فَلاَ تَلُومُونِي } لأن من تجرد للعداوة لا يلام إذا دعا إلى أمر قبيح مع أن الرحمن قد قال لكم : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة } { [ الأعراف : 27 ] { وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } حيث اتبعتموني بلا حجة ولا برهان وقول المعتزلة هذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين باطل لقوله : لو هدانا الله أي إلى الإيمان { لهديناكم } [ إبراهيم : 21 ] كما مر { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه . والإصراخ الإغاثة { بمصرخيِّ } حمزة اتباعاً للخاء غيره بفتح الياء لئلا تجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين وهو جمع مصرخ فالياء الأولى يا الجمع والثانية ضمير المتكلم { إِنّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ } وبالياء بصري و«ما» مصدرية { مِن قَبْلُ } متعلق ب { أشركتموني } أي كفرت اليوم بإشراككم إياي مع الله من قبل هذا اليوم أي في الدنيا كقوله { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } [ فاطر : 14 ] ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له كقوله : { أَنَاْ بَرَاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ } [ الممتحنة : 4 ] أو من قبل متعلق { بكفرت } و«ما» موصولة أي كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل . تقول : أشركني فلان أي جعلني له شريكاً ، ومعنى إشراكهم الشيطان بالله طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وهذا آخر قول الشيطان وقوله : { إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قول الله عز وجل . وقيل : هو من تمام إبليس وإنما حكى الله عز وجل ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون لطفاً للسامعين .

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)

{ وَأُدْخِلَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا } عطف على { برزوا } { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } متعلق ب { أدخل } أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } هو تسليم بعضهم على بعض في الجنة أو تسليم الملائكة عليهم { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً } أي وصفه وبينه { كَلِمَةً طَيّبَةً } نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } وهو تفسير لقوله : { ضرب الله مثلاً } نحو شرف الأمير زيداً كساه حلة وحمله على فرس ، أو انتصب { مثلا } ً و { كلمة } ب { ضرب } أي ضرب كلمة طيبة مثلاً يعني جعلها مثلاً ثم قال { كشجرة طيبة } على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة طيبة { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } أي في الأرض ضارب بعروقه فيها { وَفَرْعُهَا } وأعلاها ورأسها { فِي السماء } والكلمة الطيبة كلمة التوحيد أصلها تصديق بالجنان ، وفرعها إقرار باللسان ، وأكلها عمل الأركان ، وكما أن الشجرة شجرة وإن لم تكن حاملاً فالمؤمن مؤمن وإن لم يكن عاملاً ولكن الأشجار لا تراد إلا للثمار فما أقوات النار إلا من الأشجار إذا اعتادت الإخفار في عهد الأثمار . والشجرة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين ونحو ذلك والجمهور على أنها النخلة ، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : « إن الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ » فوقع الناس في شجر البوادي ، وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا إنها النخلة » فقال عمر : يا بني لو كنت قلتها لكانت أحب إلي من حمر النعم

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } تعطي ثمرها كل وقت وقتها الله لإثمارها { بِإِذْنِ رَبّهَا } بتيسير خالقها وتكوينه { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني .
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } هي كلمة الكفر { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } هي كل شجرة لا يطيب ثمرها وفي الحديث : أنها شجرة الحنظل { اجتثت مِن فَوْقِ الأرض } استؤصلت جثتها وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها وهو في مقابلة { أصلها ثابت } { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي استقرار يقال قر الشيء قراراً كقولك ثبت ثبوتاً ، شبه بها القول الذي لا يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت { يُثَبِّتُ الله الذين ءَامَنُواْ } أي يديمهم عليه { بالقول الثابت } هو قول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» { في الحياة الدنيا } حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك { وَفِي الآخرة } الجمهور على أن المراد به في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب ، فعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : " ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } ثم يقول الملكان : عشت سعيداً ومت حميداً نم نومة العروس " { وَيُضِلُّ الله الظالمين } فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء } فلا اعتراض عليه في تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله } أي شكر نعمة الله { كُفْراً } لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً وهم أهل مكة ، كرمهم بمحمد عليه السلام فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ } الذين تابعوهم على الكفر { دَارَ البوار } دار الهلاك { جَهَنَّمَ } عطف بيان { يَصْلَوْنَهَا } يدخلونها { وَبِئْسَ القرار } وبئس المقر جهنم { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا } أمثالا في العبادة أو في التسمية { لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } وبفتح الياء : مكي وأبو عمرو { قُلْ تَمَتَّعُواْ } في الدنيا والمراد به الخذلان والتخلية . وقال ذو النون : التمتع أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } مرجعكم إليها .
{ قُل لّعِبَادِيَ الذين ءَامَنُواْ } خصهم بالإضافة إليه تشريفاً . وبسكون الياء شامي وحمزة وعلي والأعشى { يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } المقول محذوف لأن { قل } تقتضي مقولاً وهو أقيموا وتقديره : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا . وقيل إنه أمر وهو المقول والتقدير ليقيموا ولينفقوا ، فحذف اللام لدلالة قل عليه ، ولو قيل يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام لم يجز { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } انتصبا على الحال أي ذوي سر وعلانية يعني مسرين ومعلنين ، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية ، أو على المصدر أي إنفاق سر وإنفاق علانية ، والمعنى إخفاء التطوع وإعلان الواجب { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال } أي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة والخلال المخالة ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله . بفتحهما : مكي وبصري ، والباقون بالرفع والتنوين

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

{ الله } مبتدأ { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } خبره { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً } من السحاب مطراً { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } من الثمرات بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو ثمرات أو { من الثمرات } مفعول { أخرج } و { رزقاً } حال من المفعول { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِى البحر بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار * وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينِ } دائمين وهو حال من الشمس والقمر أي يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات { وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار } يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } «من» للتبعيض أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه ، أو وآتاكم من كل شيء سألتموه وما لم تسألوه ف { ما } موصولة والجملة صفة لها ، وحذفت الجملة الثانية لأن الباقي يدل على المحذوف كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] { من كلّ } ٍ عن أبي عمرو { وما سألتموه } نفي ومحله النصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه أو «ما» موصولة أي وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } لا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال وأما التفصيل فلا يعلمه إلا الله { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } بظلم النعمة بإغفال شكرها { كَفَّارٌ } شديد الكفران لها أو ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع والإنسان للجنس فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم } واذكر إذ قال إبراهيم { رَبِّ اجعل هذا البلد } أي البلد الحرام { آمِناً } ذا أمن والفرق بين هذه وبين ما في البقرة أنه قد سأل فيها أن يجعله من جملة البلدان التي يأمن أهلها ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة الخوف إلى الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً { واجنبني } وبعدني أي ثبتني وأدمني على اجتناب عبادتها كما قال { واجعلنا مسلمين لك } [ البقرة : 128 ] أي ثبتنا على الإسلام { وَبَنِيَّ } أراد بنيه من صلبه { أَن نَّعْبُدَ الأصنام } من أن نعبد الأصنام { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } جعلن مضلات على طريق التسبيب لأن الناس ضلوا بسببهن فكأنهم أضللنهم { فَمَن تَبِعَنِي } على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي { فَإِنَّهُ مِنّي } أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي { وَمَنْ عَصَانِى } فيما دون الشرك { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أو ومن عصاني عصيان شرك فإنك غفور رحيم إن تاب وآمن { رَّبَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِي } بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه { بِوَادٍ } هو واد مكة { غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } لا يكون فيه شيء من زرع قط { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } هو بيت الله سمي به لأن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه ، أو لأنه لم يزل ممنعاً يهابه كل جبار ، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها ، أو لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه { رَّبَّنَا لِيِقُيمُواْ الصلاة } اللام متعلقة ب { أسكنت } أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } أفئدة من أفئدة الناس و«من» للتبعيض لما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند . أو للابتداء كقولك : «القلب مني سقيم» تريد قلبي فكأنه قيل أفئدة ناس ، ونكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة { تَهْوِي إِلَيْهِمْ } تسرع إليهم من البلاد الشاسعة وتطير نحوهم شوقاً { وارزقهم مّنَ الثمرات } مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها بأن تجلب إليهم من البلاد الشاسعة { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في واد ليس فيه شجر ولا ماء .

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)

{ رَبَّنَا } النداء المكرر دليل التضرع واللجإ إلى الله { إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } تعلم السر كما تعلم العلن { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَى الأرض وَلاَ فِي السماء } من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام ، أو من كلام إبراهيم و«من» للاستغراق كأنه قيل : وما يخفى على الله شيء ما { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر } «على» بمعنى «مع» وهو في موضع الحال أي وهب لي وأنا كبير { إسماعيل وإسحاق } روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة . ورُوي أنه ولد له إسمعيل لأربع وستين ، وإسحاق لتسعين ، وإنما ذكر حال الكبر لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم لأنها حال وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجل النعم ، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم { إِنَّ رَبّي لَسَمِيعُ الدعاء } مجيب الدعاء من قولك «سمع الملك كلام فلان» إذا تلقاه بالإجابة والقبول ، ومنه سمع الله لمن حمده وكان قد دعا ربه وسأله الولد فقال : { رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } فشكر الله ما أكرمه به من إجابته . وإضافة السميع إلى الدعاء من إضافة الصفة إلى مفعولها وأصله «لسميع الدعاء» وقد ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل كقولك«هذا رحيم أباه»

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)

{ رَبّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرّيَتِي } وبعض ذريتي عطفاً على المنصوب في اجعلني وإنما بعض لأنه علم بأعلام الله أنه يكون في ذريته كفار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يزال من ولد إبراهيم ناس على الفطرة إلى أن تقوم الساعة { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } بالياء في الوصل والوقف : مكي ، وافقه أبو عمرو وحمزة في الوصل . الباقون بلا ياء أي استجب دعائي أو عبادتي { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [ مريم : 48 ] { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } أي آدم وحواء أو قاله قبل النهي واليأس عن إيمان أبويه { وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب } أي يثبت أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً مثل { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، والخطاب لغير الرسول عليه السلام وإن كان للرسول فالمراد تثبيته عليه السلام على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ القصص : 88 ] وكما جاء في الأمر { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] وقيل : المراد به الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ البقرة : 283 ] { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } أي عقوبتهم { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } أي أبصارهم لا تقر في أماكنها من هول ما ترى { مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي { مُقْنِعِي رُؤُوسُِِمْ } رافعيها { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } صفر من الخير لا تعي شيئاً من الخوف ، والهواء الذي لم تشغله الأجرام فوصف به فقيل : قلب فلان هواء إذا كان جباناً لا قوة في قلبه ولا جراءة . وقيل : جُوف لا عقول لهم

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)

{ وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } أي يوم القيامة . و { يوم } مفعول ثان ل { أنذر } لا ظرف إذ الإنذار لا يكون في ذلك اليوم { فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ } أي الكفار { رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل } أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك فيقال لهم : { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } أي حلفتم في الدنيا أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة ولا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرتم بالبعث كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] و { ما لكم } جواب القسم . وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله : { أقسمتم } ولو حكى لفظ المقسمين لقيل ما لنا من زوال ، أو أريد باليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى فإنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب .
يقال : سكن الدار وسكن فيها ومنه { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر لأن السكنى من السكون وهو اللبث والأصل تعديته ب «في» نحو «قر في الدار وأقام فيها» ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل : «سكن الدار» كما قيل «تبوأها» ، ويجوز أن يكون سكنوا من السكون أي قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد لا يحدثونها بما لقي الأولون من أيام الله ، وكيف كان عاقبة ظلمهم فيعتبروا ويرتدعوا { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } بالأخبار أو المشاهدة وفاعل { تبين } مضمر دل عليه الكلام أي تبين لكم حالهم و { كَيْفَ } ليس بفاعل لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وإنما نصب { كيف } بقوله { فَعَلْنَا بِهِمْ } أي أهلكناهم وانتقمنا منهم { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم وهو ما فعلوه من تأييد الكفر وبطلان الإسلام { وَعِندَ الله مَكْرهُمْ } وهو مضاف إلى الفاعل كالأول والمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه أو إلى المفعول أي عند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } بكسر اللام الأولى ونصب الثانية والتقدير : وإن وقع مكرهم لزوال أمر النبي صلى الله عليه وسلم فعبر عن النبي عليه السلام بالجبال لعظم شأنه ، و«كان تامة» و«إن» نافية واللام مؤكدة لها كقوله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ } [ الأنفال : 33 ] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً دليله قراءة ابن مسعود { وما كان مكرهم } وبفتح اللام الأولى ورفع الثانية عليُّ ، أي وإن كان مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها ف «إن» مخففة من «إن» واللام مؤكدة .

{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني قوله { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي } [ المجادلة : 21 ] { مخلف } مفعول ثانٍ ل { تحسبن } وأضاف { مخلف } إلى { وعده } وهو المفعول الثاني له والأول { رسله } والتقدير مخلف رسله وعده وإنما قدم المفعول الثاني على الأول ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله : { إن الله لا يخلف الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ثم قال { رسله } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته { إِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب لا يماكر { ذُو انتقام } لأوليائه من أعدائه وانتصاب { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } على الظرف للانتقام أو على إضمار اذكر والمعنى يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة وتبدل السماوات غير السماوات وإنما حذف لدلالة ما قبله عليه والتبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك «بدلت الدراهم دنانير» وفي الأوصاف كقولك «بدلت الحلقة خاتماً» إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل واختلف في تبديل الأرض والسماوات فقيل تبدل أوصافها وتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض وإنما تغير . وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبواباً . وقيل : تخلق بدلها أرض وسماوات أخر . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة . وعن علي رضي الله عنه : تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب { وَبَرَزُواْ } وخرجوا من قبورهم { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } هو كقوله : { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] لأن الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره كان الأمر في غاية الشدة

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)

{ وَتَرَى المجرمين } الكافرين { يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة { مُقْرَِّنِينَ } قرن بعضهم مع بعض أو مع الشياطين أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين { فِي الأصفاد } متعلق ب { مقرنين } أي يقرنون في الأصفاد أو غير متعلق به والمعنى مقرنين مصفدين ، والأصفاد القيود أو الأغلال { سَرَابِيلُهُم } قمصهم { مّن قَطِرَانٍ } هو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فيهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحدته وحره ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ليجتمع عليهم لذع القطران وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ، وكل ما وعده الله أو أوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة نعوذ بالله من سخطه وعذابه من «قِطرٍ آن» زيد عن يعقوب نحاس مذاب بلغ حره إناه { وتغشى وُجُوهَهُمُ النار } تعلوها باشتعالها وخص الوجه لأنه أعز موضع في ظاهر البدن كالقلب في باطنه ولذا قال { تطلع على الأفئدة } [ الهمزة : 7 ]

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

{ لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي كل نفس مجرمة ما كسبت أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المؤمنين بطاعتهم { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } يحاسب جميع العباد في أسرع من لمح البصر { هذا } أي ما وصفه في قوله : { ولا تحسبن } إلى قوله : { سريع الحساب } { بلاغ لّلنَّاسِ } كفاية في التذكير والموعظة { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } بهذا البلاغ وهو معطوف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد لأن الخشية أم الخير كله { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } ذوو العقول .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)

{ الر تِلْكَ ءايات الكتاب وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ } { تلك } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب ، والقرآن المبين السورة ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأي قرآن مبين كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال وللغرابة في البيان { رُّبَمَا } بالتخفيف : مدني وعاصم ، وبالتشديد غيرهما ، و«ما» هي الكافة لأنها حرف يجر ما بعده ، ويختص الاسم النكرة فإذا كفت وقع بعدها الفعل الماضي والاسم . وإنما جاز { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل : ربما ود ، ووداتهم تكون عند النزع أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ، وإذا رأوا المسلمين يخرجون من النار فيتمنى الكافر لو كان مسلماً ، كذا رُوى عن ابن عباس رضي الله عنهما { لَوْ كَانُواْ مَسْلِمِينَ } حكاية ودادتهم . وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم كقولك : «حلف بالله ليفعلن» ولو قيل : «حلف يالله لأفعلن» و«لو كنا مسلمين» لكان حسناً وإنما قلل ب «رب» لأن أهوال القيامة تشغلهم عن التمني فإذا أفاقوا من سكرات العذاب ودوا لو كانوا مسلمين . وقول من قال : إن «رب» يعني بها الكثرة سهو لأنه ضد ما يعرفه أهل اللغة لأنها وضعت للتقليل

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)

{ ذَرْهُمْ } أمر إهانة أي اقطع طمعك من ارعوائهم ودعهم عن النهي عما هم عليه والصد عنه بالتذكرة والنصيحة وخلهم { يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } بدنياهم { وَيُلْهِهِمُ الأمل } ويشغلهم أملهم وأمانيهم عن الإيمان { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } سوء صنيعهم ، وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين . { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ } ولها كتاب جملة واقعة صفة ل { قرية } والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف إذ الصفة ملتصقة بالموصوف بلا واو فجيء بالواو تأكيداً لذلك . والوجه أن تكون هذه الجملة حالاً ل { قرية } لكونها في حكم الموصوفة كأنه قيل : وما أهلكنا قرية من القرى لا وصفاً . وقوله : { كتاب معلوم } أي مكتوب معلوم وهو أجلها الذي كتب في اللوح المحفوظ وبين ألا ترى إلى قوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } في موضع كتابها { وَمَا يَسْتَئَخِرُونَ } أي عنه وحذف لأنه معلوم ، وأنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً حملاً على اللفظ والمعنى . { وَقَالُواْ } أي الكفار { ياأيها الذى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } أي القرآن { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } يعنون محمداً عليه السلام ، وكان هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء كما قال فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وكيف يقرون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم سائغ ومنه { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] { إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] والمعنى إنك لتقول قول المجانين حيث تدعى أن الله نزل عليك الذكر

لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)

{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } «لو» ركبت مع «لا» و«ما» لامتناع الشيء لوجود غيره أو للتحضيض ، و«هل» ركبت مع «لا» للتحضيض فحسب ، والمعنى هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ، أو هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقاً { مَا نُنَزِّلُ الملائكة } كوفي غير أبي بكر ، { تُنَزَّل الملائكة } أبو بكر { تَنَزَّل الملائكة } أي تتنزل : غيرهم { إِلاَّ بالحق } إلا تنزيلاً ملتبساً بالحكمة { وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } { إذا } جواب لهم وجزاء الشرط مقدر تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين إذاً وما أخر عذابهم { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } للقرآن { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } وهو رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } ولذلك قال : { إنا نحن } فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع وأنه هو الذي نزله محفوظاً من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغياً فوقع التحريف ، ولم يكل القرآن إلى غير حفظه وقد جعل قوله : { وإنا له لحافظون } دليلاً على أنه منزل من عنده آية إذ لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه ، أو الضمير في { له } لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله : { والله يَعْصِمُكَ } { [ المائدة : 67 ] وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأولين } أي ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً في الفرق الأولين ، والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة { وَمَا يَأْتِيهِم } حكاية حال ماضية لأن ما لا تدخل على المضارع إلا وهو في معنى الحال وعلى ماضٍ إلا وهو قريب من الحال { مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } يعزي نبيه عليه السلام

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)

{ كذلك نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } أي كما سلكنا الكفر أو الاستهزاء في شيع الأولين نسلكه أي الكفر أو الاستهزاء في قلوب المجرمين من أمتك من اختار ذلك . يقال : سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته إذا أدخلته فيها وهو حجة على المعتزلة في الأصلح وخلق الأفعال { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } بالله أو بالذكر وهو حال { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا رسله وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ السمآء } ولو أظهرنا لهم أوضح آية وهو فتح باب من السماء { فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } يصعدون { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أبصارنا } حيرت أو حبست من الإبصار أو من السكر ، { سكِرت } مكي أي حبست كما يحبس النهر من الجري ، والمعنى أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ورأوا من العيان ما رأوا لقالوا هو شيء نتخايله لا حقيقة له ولقالوا { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } قد سحرنا محمد بذلك ، أو الضمير للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك . وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون وقال : إنما ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السمآء } خلقنا فيها { بُرُوجاً } نجوماً أو قصوراً فيها الحرس أو منازل للنجوم { وزيناها } أي السماء { للناظرين وحفظناها } أي السماء { مِن كُلِّ شيطان رَّجِيمٍ } ملعون أو مرمي بالنجوم { إِلاَّ مَنِ استرق السمع } أي المسموع و«من» في محل النص على الاستثناء { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } نجم ينقض فيعود { مُّبِينٌ } ظاهر للمبصرين . قيل : كانوا لا يحجبون عن السماوات كلها فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)

{ والأرض مددناها } بسطناها من تحت الكعبة ، والجمهور على أنه تعالى مدها على وجه الماء { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } في الأرض جبالاً ثوابت { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } وزن بميزان الحكمة وقدر بمقدار تقتضيه لا تصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أوله وزن وقدر في أبواب المنفعة والنعمة ، أو ما يوزن كالزعفران والذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها ، وخص ما يوزن لانتهاء الكيل إلى الوزن { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا } في الأرض { معايش } ما يعاش به من المطاعم جمع معيشة وهي بياء صريحة بخلاف الخبائث ونحوها فإن تصريح الياء فيها خطأ { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } { من } في محل النصب بالعطف على { معايش } أو على محل { لكم } كأنه قيل وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقين ، أو جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يظنون أنهم يرزقونهم ويخطئون فإن الله هو الرزاق يرزقهم وإياهم ، ويدخل فيه الأنعام والدواب ونحو ذلك . ولا يجوز أن يكون محل { من } جراً بالعطف على الضمير المجرور في { لكم } لأنه لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار { وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ذكر الخزائن تمثيل والمعنى وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به ، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } جمع لاقحة أي وأرسلنا الرياح حوامل بالسحاب لأنها تحمل السحاب في جوفها كأنها لاقحة بها من لقحت الناقة حملت وضدها العقيم . { الريح } حمزة { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } فجعلناه لكم سقياً { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين } نفى عنهم ما اثبته لنفسه في قوله : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } كأنه قال : نحن الخازنون للماء على معنى نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها ، وما أنتم عليه بقادرين دلالة عظيمة على قدرته وعجزهم

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)

وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيي وَنُمِيتُ } أي نحيي بالإيجاد ونميت بالإفناء ، أو نميت عند انقضاء الآجال ونحيي لجزاء الأعمال على التقديم والتأخير إذ الواو للجمع المطلق { وَنَحْنُ الوارثون } الباقون بعد هلاك الخلق كلهم . وقيل : للباقي وارث استعارة من وارث الميت لأنه يبقى بعد فنائه { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين } من تقدم ولادة وموتاً ومن تأخر ، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد ، أو من تقدم في الإسلام أو في الطاعة أو في صف الجماعة أو في صف الحرب ومن تأخر ، { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي هو وحده يقدر على حشرهم ويحيط بحصرهم { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } باهر الحكمة واسع العلم . { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } أي آدم { مِن صلصال } طين يابس غير مطبوخ { مِّنْ حَمَإٍ } صفة { لصلصال } أي خلقه من صلصال كائن من حمإ أي طين أسود متغير { مَّسْنُونٍ } مصور
وفي الأول كان تراباً فعجن بالماء فصار طيناً فمكث فصار حمأ فخلص فصار سلالة فصوِّر ويبس فصار صلصالاً فلا تناقض { والجآن } أبا الجن كآدم للناس أو هو إبليس وهو منصوب بفعل مضمر يفسره { خلقناه مِن قَبْلُ } من قبل آدم { مِن نَّارِ السموم } من نار الحر الشديد النافذ في المسام . قيل : هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من سموم النار التي خلق الله منها الجان { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } واذكر وقت قوله { للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أتممت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } وجعلت فيه الروح وأحييته وليس ثمة نفخ وإنما هو تمثيل والإضافة للتخصيص { فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } هو أمر من وقع يقع أي اسقطوا على الأرض يعني اسجدوا له ، ودخل الفاء لأنه جواب «إذا» وهو دليل على أنه يجوز تقدم الأمر عن وقت الفعل

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)

{ فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } فالملائكة جمع عام محتمل للتخصيص فقطع باب التخصيص بقوله { كلهم } وذكر الكل احتمل تأويل التفرق فقطعه بقوله { أجمعون } { إِلاَّ إِبْلِيسَ } ظاهر الإستثناء يدل على أنه كان من الملائكة لأن المستثنى يكون من جنس المستثنى منه . وعن الحسن أن الاستثناء منقطع ولم يكن هو من الملائكة . قلنا : غير المأمور لا يصير بالترك ملعوناً . و في الكشاف كان بينهم مأموراً معهم بالسجود فغلب اسم الملائكة ثم استثنى بعد التغليب كقولك «رأيتهم إلا هنداً» { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } امتنع أن يكون معهم و { أبى } استئناف على تقدير قول قائل يقول : هلا سجد؟ فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه . وقيل : معناه ولكن إبليس أبى . { قَالَ يا بْلِيسُ مَالَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } حرف الجر مع أن محذوف تقديره مالك في أن لا تكون مع الساجدين أي أي غرض لك في إبائك السجود { قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ } اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني أن أسجد { لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فاخرج مِنْهَا } من السماء أو من الجنة أو من جملة الملائكة { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } مطرود من رحمة الله ومعناه ملعون لأن اللعنة هي الطرد من الرحمة والإبعاد منها { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين } ضرب يوم الدين حداً للعنة لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم ، والمراد به إنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السماوات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)

{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى } فأخرني { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } { يوم الدين } و { يوم يبعثون } و { يوم الوقت المعلوم } في معنى واحد ، ولكن خولف بين العبارات سلوكاً بالكلام طريقة البلاغة . وقيل : إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت لأنه لا يموت يوم البعث أحد فلم يجب إلى ذلك وانظر إلى آخر أَيام التكليف { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } الباء للقسم و«ما» مصدرية وجواب القسم لأزينن لهم ومعنى أقسم بإغوائك إياي { لازَيِّنَنَّ لَهُمْ } المعاصي ونحو قوله { بما أغويتني لأزينن لهم } { فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ } [ ص : 82 ] في أنه إقسام إلا أن أحدهما إقسام بصفه الذات والثاني بصفة الفعل ، وقد فرق الفقهاء بينهما فقال العراقيون : الحلف بصفة الذات كالقدرة والعظمة والعزة يمين ، والحلف بصفة الفعل كالرحمة والسخط ليس بيمين . والأصح أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف به يكون يميناً ومالاً فلا ، والآية حجة على المعتزلة في خلق الأفعال . وحملهم على التسبيب عدول عن الظاهر { فِى الأرض } في الدنيا التي هي دار الغرور ، وأراد إني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر . { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } وبكسر اللام : بصري ومكي وشامي استثنى المخلص لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلونه منه . { قَالَ هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } أي هذا طريق حق عليَّ أن أراعيه وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته . وقيل : معنى { على } إلي . { على } يعقوب من علو الشرف والفضل

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)

{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } الضمير للغاوين { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ } من أتباع إبليس { جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } نصيب معلوم مفرز . قيل : أبواب النار أطباقها وأدراكها ، فأعلاها للموحدين يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين { إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ } وبضم العين : مدني وبصري وحفص . المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه . وقال في الشرح : إن دخل أهل الكبائر في قوله { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } فالمراد بالمتقين الذين اتقوا الكبائر وإلا فالمراد به الذين اتقوا الشرك { ادخلوها } أي يقال لهم ادخلوها { بِسَلامٍ } حال أي سالمين أو مسلماً عليكم تسلم عليكم الملائكة { ءَامِنِينَ } من الخروج منهما والآفات فيها وهو حال أخرى { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } وهو الحقد الكامن في القلب أي إن كان لأحدهم غل في الدنيا على آخر نزع الله ذلك في الجنة من قلوبهم وطيب نفوسهم . وعن علي رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . وقيل : معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع منها كل غل وألقى فيها التوادد والتحابب { إِخْوَانًا } حال { على سُرُرٍ متقابلين } كذلك قيل تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين يرى بعضهم بعضاً { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } في الجنة تعب { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } فتمام النعمة بالخلود ، ولما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه .

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)

{ نَبِّىءْ عِبَادِى أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس . قال عليه السلام : " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه في العبادة ولما أقدم على ذنب " وعطف { وَنَبِّئْهُمْ } وأخبر أمتك . عطفه على { نبىء عبادي } ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم { عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } أي أضيافه وهو جبريل عليه السلام مع أحد عشر ملكاً ، والضيف يجىء واحداً وجمعاً لأنه مصدر ضافه { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا } أي نسلم عليك سلاماً أو سلمنا سلاماً { قَالَ } أي إبراهيم { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } خائفون لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وبغير وقت { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } لا تخف { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل أي إنك مبشر آمن فلا توجل . وبالتخفيف وفتح النون : حمزة { بغلام عَلِيمٍ } هو إسحاق لقوله في سورة هود { فبشرناها بإسحاق { } [ هود : 71 ] { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر } أي أبشرتموني مع مس الكبر بأن يولد لي أي إن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } هي «ما» الاستفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قيل : فبأي أعجوبة تبشرون ، وبكسر النون والتشديد : مكي ، والأصل «تبشرونني» فأدغم نون الجمع في نون العماد ثم حذفت الياء وبقيت الكسرة دليلاً عليها . { تبشرون } بالتخفيف : نافع ، والأصل «تبشرونني» فحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذف نون الجمع لاجتماع النونين ، والباقون : بفتح النون ، وحذف المفعول والنون نون الجمع

قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)

{ قَالُواْ بشرناك بالحق } باليقين الذي لا لبس فيه { فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين } من الآيسين من ذلك { قَالَ } أي إبراهيم { وَمَن يَقْنَطُ } وبكسر النون : بصري وعلي { مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } إلا المخطئون طريق الصواب أو إلا الكافرون كقوله : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] أي لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها . { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } فما شأنكم { أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي قوم لوط { إِلآ ءَالَ لُوطٍ } يريد أهله المؤمنين ، والاستثناء منقطع لأن القوم موصوفون بالإجرام والمستثني ليس كذلك ، أو متصل فيكون استثناء من الضمير في { مجرمين } كأنه قيل : إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم ، والمعنى يختلف باختلاف الاستثناءين لأن آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال يعنى أنهم ارسلوا إلى القوم المجرمين خاصة ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً ، ومعنى ارسالهم إلى القوم المجرمين كإرسال السهم إلى المرمى في أنه في معنى التعذيب والإهلاك كأنه قيل : إنا أهلكنا قوماً مجرمين ولكن آل لوط أنجيناهم . وأما في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال يعني أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء . وإذا انقطع الاستثناء جرى { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } مجرى خبر لكن في الاتصال بآل لوط لأن المعنى . لكن آل لوط منجون ، وإذا اتصل كان كلاماً مستأنفاً كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم : فما حال آل لوط؟ فقالوا : إنا لمنجوهم { إِلاَّ امرأته } مستثنى من الضمير المجرور في { لمنجوهم } وليس باستثناء من الاستثناء ، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه بأن يقول «أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته» وهنا قد اختلف الحكمان لأن إلا آل لوط متعلق ب { أرسلنا } أو ب { مجرمين } و { إلا امرأته } متعلق ب { منجوهم } فكيف يكون استثناء من استثناء . { لمنجوهم } بالتخفيف : حمزة وعلي { قَدَّرْنَآ } وبالتخفيف : أبو بكر { إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } الباقين في العذاب . قيل : لو لم تكن اللام في خبرها لوجب فتح «إن» لأنه مع اسمه وخبره مفعول { قدرنا } ولكنه كقوله { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } { الصافات : 158 ) وإنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم ولم يقولوا قدر الله لقربهم كما يقول خاصة الملك أمرنا بكذا والآمر هو الملك .

فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

{ فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ المرسلون قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي لا أعرفكم أي ليس عليكم زي السفر ولا أنتم من أهل الحضر فأخاف أن تطرقوني بشر { قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه سرورك وتشفيك من أعدائك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله فيمترون فيه أي يشكون ويكذبونك { وأتيناك بالحق } باليقين من عذابهم { وِإِنَّا لصادقون } في الإخبار بنزوله بهم { فَأْسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ } في آخر الليل أو بعد ما يمضي شيء صالح من الليل { واتبع أدبارهم } وسر خلفهم لتكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم ، أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يلتفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } حيث أمركم الله بالمضي إليه وهو الشام أو مصر { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } عدى { قضينا } ب «إلى» لأنه ضمن معنى أوحينا كأنه قيل : وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً ، وفسر ذلك الأمر بقوله { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ } وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر ودابرهم آخرهم أي يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد { مُّصْبِحِينَ } وقت دخولهم في الصبح وهو حال من { هؤلاء }

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)

{ وَجَآءَ أَهْلُ المدينة } سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور { يَسْتَبْشِرُونَ } بالملائكة طمعاً منهم في ركوب الفاحشة { قَالَ } لوط { إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ } بفضيحة ضيفي لأن من أساء إلى ضيفي فقد أساء إليّ { واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ } أي ولا تذلوني بإذلال ضيفي من الخزي وهو الهوان . وبالياء فيهما : بعقوب { قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } عن أن تجير منهم أحداً أو تدفع عنهم فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان عليه السلام يقوم بالنهي عن المنكر والحجز بينهم وبين المتعرض له فأوعدوه وقالوا { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } [ الشعراء : 167 ] أو عن ضيافة الغرباء { قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى } فانكحوهن وكان نكاح المؤمنات من الكفار جائزاً ولا تتعرضوا لهم { إِن كُنتُمْ فاعلين } إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم فقالت الملائكة للوط عليه السلام { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ } أي في غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطإ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم من ترك البنين إلى البنات { يَعْمَهُونَ } يتحيرون فيكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك ، أو الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط تعظيماً له . والعُمر والعَمر واحد وهو البقاء إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح إيثاراً للأخف لكثرة دور الحلف على ألسنتهم ولذا حذفوا الخبر وتقديره لعمرك قسمي

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)

{ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } صيحة جبريل عليه السلام { مُشْرِقِينَ } داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس { فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا } رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء ثم قلبها والضمير لقرى قوم لوط { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتفرسين المتأملين كأنهم يعرفون باطن الشيء بسمة ظاهرة { وَإِنَّهَا } وإن هذه القرى يعني آثارها { لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد . وهم يبصرون تلك الآثار وهو تنبيه لقريش كقوله { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل } { [ الصافات : 137 ] إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } لأنهم المنتفعون بذلك . { وَإِن كَانَ أصحاب الأيكة } وإن الأمر والشأن كان أصحاب الأيكة أي الغيضة { لظالمين } لكافرين وهم قوم شعيب عليه السلام { فانتقمنا مِنْهُمْ } فأهلكناهم لما كذبوا شعيباً { وَإِنَّهُمَا } يعني قرى قوم لوط والأيكة { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } لبطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به فسمى به الطريق ومِطمر البناء لأنهما مما يؤتم به { وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين } هم ثمود ، والحجر واديهم وهو بين المدينة والشام المرسلين يعني بتكذيبهم صالحاً لأن كل رسول كان يدعو إلى الإيمان بالرسل جميعاً ، فمن كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين كما قيل «الخبيبون» في ابن الزبير وأصحابه { وءاتيناهم ءاياتنا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي أعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا } أي ينقبون في الجبال بيوتاً أو يبنون من الحجارة { ءَامِنِينَ } لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تنهدم ومن نقب اللصوص والأعداء ، أو آمنين من عذاب الله يحسبون أن الجبال تحميهم منه { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } العذاب { مُّصْبِحِينَ } في اليوم الرابع وقت الصبح { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من بناء البيوت الوثيقة واقتناء الأموال النفيسة . { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } إلا خلقاً ملتبساً بالحق لا باطلاً وعبثا أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال { وَإِنَّ الساعة } أي القيامة لتوقعها كل ساعة { لآتِيَةٌ } وإن الله ينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأَرض وما بينهم ، إلا لذلك
{ فاصفح الصفح الجميل } فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء . قيل : هو منسوخ بآية السيف ، وإن أريد به المخالفة فلا يكون منسوخاً { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق } الذي خلقك وخلقهم { العليم } بحالك وحالهم فلا يخفي عليه ما يجري بينكم وهو يحكم بينكم { وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا } أي سبع آيات وهي الفاتحة أو سبع سور وهي الطوال ، واختلف في السابعة فقيل الأنفال وبراءة لأنهما في حكم سورة بدليل عدم التسمية بينهما ، وقيل سورة يونس أو أسباع القرآن { مِّنَ المثاني } هي من التثنية وهي التكرير لأن الفاتحة مما يتكرر في الصلاة ، أو من الثناء لاشتمالهما على ما هو ثناء على الله ، والواحدة مثناة أو مثنية صفة للآية .

وأما السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد ولما فيها من الثناء كأنها تثني على الله ، وإذا جعلت السبع مثاني فمن للتبيين ، وإذا جعلت القرآن مثاني ف «من» للتبعيض { والقرءان العظيم } هذا ليس بعطف الشيء على نفسه لأنه إذا أريد بالسبع الفاتحة أو الطوال فما وراءهن ينطلق عليه اسم القرآن لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل دليله قوله { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } [ يوسف : 3 ] يعني سورة يوسف ، وإذا أريد به الأَسباع فالمعنى ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي الجامع لهذين النعتين وهو التثنية أو الثناء والعظم . ثم قال لرسوله

لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)

{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } أصنافاً من الكفار كاليهود والنصارى والمجوس يعني قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة وهي القرآن العظيم فعليك أن تستغني به ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا . وفي الحديث « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » وحديث أبي بكر « من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظم صغيراً » { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تتمن أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام والمسلمون { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وطب نفساً عن إيمان الأغنياء { وَقُلْ } لهم { إِنِّى أَنَا النذير المبين } أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)

{ كَمَآ أَنْزَلْنَا } متعلق بقوله { ولقد آتيناك } أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا { عَلَى المقتسمين } وهم أهل الكتاب { الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ } أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء حيث قالوا بعنادهم : بعضه . حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه . وقيل كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم سورة البقرة لي ، ويقول الآخر سورة آل عمران لي . أو أريد بالقرآن ما يقرؤونه من كتبهم وقد اقتسموه؛ فاليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض ، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ، ويجوز أن يكون { الذين جعلوا القرآن عضين } منصوباً ب { النذير } أي أنذر المعضين الذين يجزّئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ، ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر فأهلكهم الله . { لا تمدن عينيك } على الوجه الأول اعتراض بينهما ، لأنه لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الإلتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الأمر بأن يقبل بكليته على المؤمنين . { فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أقسم بذاته وربوبيته ليسألن يوم القيامة واحداً واحداً من هؤلاء المقتسمين عما قالوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في القرآن أو في كتب الله { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فاجهر به وأظهره . يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً من الصديع وهو الفجر ، أو فاصدع فافرق بين الحق والباطل من الصدع في الزجاجة وهو الإبانة بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجار كقوله : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
{ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } هو أمر استهانة بهم

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمسْتَهْزِئينَ } الجمهور على أنها نزلت في خمسة نفر كانوا يبالغون في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فأهلكهم الله وهم : الوليد بن المغيرة مر بنبّال فتعلق بثوبه سهم فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات ، والعاص بن وائل دخل في أخمصه شوكة فانفتخت رجله فمات ، والأسود بن عبد المطلب عمي ، والأسود ابن عبد يغوث جعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، والحارث بن قيس امتخط قيحاً ومات { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إلها ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } عاقبة أمرهم يوم القيامة { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } فيك أو في القرآن أو في الله { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين } فافزع فيما نابك إلى الله ، والفزع إلى الله هو الذكر الدائم وكثرة السجود يكفك ويكشف عنك الغم { واعبد رَبَّكَ } ودم على عبادة ربك { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي الموت يعني ما دمت حياً فاشتغل بالعبادة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ونزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيباً بالوعد فقيل لهم : { أتى أَمْرُ الله } أي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تبرأ جل وعز عن أن يكون له شريك وعن إشراكهم ، ف { ما } موصولة أو مصدرية ، واتصال هذا باستعجالهم من حيث إن استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك { يُنَزِّلُ الملائكة } وبالتخفيف مكي وأبو عمرو { بالروح } بالوحي أو بالقرآن لأن كلاً منهما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد أو يحيي القلوب الميتة بالجهل { مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ } أن مفسرة لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول ومعنى أنذروا { أَنَّهُ لآ إله إِلا أَنَاْ فاتقون } أعلموا بأن الأمر ذلك من نذرت بكذا إذا علمته ، والمعنى أعلموا الناس قولي لا إله إلَّا أنا فاتقون فخافون . وبالياء : يعقوب ، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السماوات والأرض وهو قوله

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)

{ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وبالتاء في الموضعين : حمزة وعلي . وخلق الإنسان وما يكون منه وهو قوله { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح لخصومه مبين لحجته بعدما كان نطفة لا حس به ولا حركة ، أو فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيى العظام وهي رميم . وهو وصف للإنسان بالوقاحة والتمادي في كفران النعمة وخلق ما لا بد منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وحمل أثقاله وسائر حاجاته وهو قوله { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي الأزواج الثمانية وأكثر ما يقع على الإبل ، وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } [ ياس : 39 ] أو بالعطف على الإنسان أي خلق الإنسان والأنعام ثم قال خلقها لكم أي ما خلقها إلا لكم يا جنس الإنسان { فِيهَا دِفْءٌ } هو اسم ما يدفأ به من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر { ومنافع } وهي نسلها ودرها { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } قدم الظرف وهو يؤذن بالاحتصاص ، وقد يؤكل من غيرها لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجاري مجرى التفكه { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ } تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } ترسلونها بالغداة إلى مسارحها . منّ الله تعالى بالتجمل بها كما منّ بالاتنفاع بها لأَنه من أغراض أصحاب المواشي لأَن الرعيان إذا روحوها بالعشي وسرحوها بالغداة تزينت بإراحتها وتسريحها الأَفنية ، وفرحت أربابها وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس . وإنما قدمت الإراحة على التسريح لأَن الجمال في الإِراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } أحمالكم { إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس } وبفتح الشين : أبو جعفر وهما لغتان في معنى المشقة . وقيل : المفتوح مصدر شق الأمر عليه وشقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع ، وأما الشق فالنصف كأنه يذهب نصف قوته لما ينال من الجهد . والمعنى وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه لو لم تخلق الإبل إلا بجهد ومشقة فضلاً أن تحملوا أثقالكم على ظهوركم ، أو معناه لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس . وقيل : أثقالكم أبدانكم ومنه الثقلان للجن والإنس ومنه { وأخرجت الأرض أثقالها } [ الزلزلة : 2 ] أي بني آدم { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } عطف على الأنعام أي وخلق هذه للركوب والزينة ، وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله على حرمة أكل لحم الخيل بأنه علل خلقها للركوب والزينة ولم يذكر الأكل بعدما ذكره في الأنعام ، ومنفعة الأكل أقوى ، والآية سيقت لبيان النعمة ولا يليق بالحكيم أن يذكر في مواضع المنة أدنى النعمتين ويترك أعلاهما . وانتصاب { زينة } على المفعول له عطفاً على محل { لتركبوها } وخلق مالا تعلمون من أصناف خلائقه وهو قوله { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ومنْ هذا وصفه يتعالى عن أن يشرك به غيره { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } المراد به الجنس ولذا قال { وَمِنْهَا جَائِرٌ } والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد . يقال : سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، ومعناه أن هداية الطريق الموصل إلى الحق عليه كقوله { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } [ الليل : 12 ] وليس ذلك للوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكن يفعل ذلك تفضلاً . وقيل : معناه وإلى الله . وقال الزجاج : معناه وعلى الله تبيين الطريق الواضح المستقيم والدعاء إليه بالحجج { ومنها جائر } أي من السبيل مائل عن الاستقامة { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أراد هداية اللطف بالتوفيق والإنعام بعدالهدى العام .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

{ هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } { لكم } متعلق ب «أنزل» أو خبر ل «شراب» وهو ما يشرب { وَمِنْهُ شَجَرٌ } يعني الشجر الذي ترعاه المواشي { فِيهِ تُسِيمُونَ } من سامت الماشية إذا رعت فهي سائمة وأسامها صاحبها وهي من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والاعناب وَمِن كُلِّ الثمرات } ولم يقل كل الثمرات لأن كلها لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته والآية الدلالة الواضحة { وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ } بنصب الكل : عليّ وجعل النجوم مسخرات والنجوم مسخرات فقط : حفص { والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخرات } شامي على الابتداء والخبر { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } جمع الآية . وذكر العقل لأن الآثار العلوية أطهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض } معطوف على { الليل والنهار } أي ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك { مُخْتَلِفًا } حال { أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يتعظون

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

{ وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّاً } هو السمك ، ووصفه بالطراوة لأن الفساد ، يسرع إليه فيؤكل سريعاً طرياً خيفة الفساد وإنما لا يحنث بأكله إذا حلف لا يأكل لحماً لأن مبني الإيمان على العرف . ومن قال لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحماً ، فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً } هي اللؤلؤ والمرجان { تَلْبَسُونَهَا } المراد بلبسهم لبس نسائهم ولكنهن إنما يتزين بها من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم . { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ } جواري تجري جرياً وتشق الماء شقاً والمخرشق الماء بحيزومها { فِيهِ } في البحر { وَلِتَبْتَغوُا مِن فَضْلِهِ } هو عطف على محذوف أي لتعتبروا ولتبتغوا وابتغاء الفضل التجارة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على ما أنعم عليكم به { وألقى فِى الأرض رَوَاسِيَ } جبالاً ثوابت { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهية أن تميل بكم وتضطرب أو لئلا تميد بكم لكن حذف المضاف أكثر . قيل : خلق الله الأرض فجعلت تميد فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت { وأنهارا } وجعل فيها أنهاراً لأن ألقى فيه معنى جعل { وَسُبُلاً } طرقاً { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إلى مقاصدكم أو إلى توحيد ربكم { وعلامات } هي معالم الطرق وكل ما يستدل به السابلة من جبل وغير ذلك { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } المراد بالنجم الجنس أو هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدى . فإن قلت : { وبالنجم هم يهتدون } مخرج عن سنن الخطاب مقدم فيه النجم مقحم فيه هم كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون فمن المراد بهم؟ قلت : كأنه أراد قريشاً فلهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ولهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)

{ أَفَمَن يَخْلُقُ } أي الله تعالى { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } أي الأصنام وجيء ب { من } الذي هو لأولي العلم لزعمهم حيث سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ، أو لأن المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده . وإنما لم يقل أفمن لا يخلق كمن يخلق مع اقتضاء المقام بظاهره إياه لكونه إلزاماً للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله لأنهم حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فأنكر عليهم ذلك بقوله { أفمن يخلق كمن لا يخلق } وهو حجة على المعتزلة في خلق الأفعال { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } فتعرفون فساد ما أنتم عليه { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر ، وإنما اتبع ذلك ما عدد من نعمه تنبيهاً على أن ما رواءها لا ينحصر ولا يعد { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ولا يقطعها عنكم لتفريطكم . { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } من أقوالكم وأفعالكم وهو وعيد { والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِن دُونِ الله } وبالتاء : غير عاصم { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ } أي هم أموات { غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث ، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون أموات جاهلون بالبعث ، ومعنى { أموات غير أحياء } أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات أي غير جائز عليها الموت وأمرهم بالعكس من ذلك . والضمير في { يبعثون } للداعين أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم ، وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء أعمالهم منهم على عبادتهم ، وفيه دلالة على أنه لا بد من البعث

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)

{ إلهكم إله واحد } أي ثبت بما مر أن الإلهية لا تكون لغير الله وأن معبودكم واحد { فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } للوحدانية { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عنها وعن الإقرار بها { لاَ جَرَمَ } حقا { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي سرهم وعلانيتهم فيجازيهم وهو وعيد { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } عن التوحيد يعني المشركين . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } لِهؤلاء الكفار { مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أساطير الأولين } { ماذا } منصوب ب { أَنزل } أي أيَّ شيء أنزل ربكم ، أو مرفوع على الابتداء أي أيُّ شيء أنزله ربكم و { أساطير } خبر مبتدأ محذوف . قيل : هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أساطير الأولين أي أحاديث الأولين وأباطيلهم واحدتها أسطورة ، وإذا رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونهم بصدقه وأنه نبي فهم الذين قالوا خيراً { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ } أي قالوا ذلك إضلالاً للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة وبعض أوزار من ضل بضلالهم وهو وزر الإضلال لأن المضل والضال شريكان واللام للتعليل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } محل «ما» رفع { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد } أي من جهة القواعد وهي الأساطين ، وهذا تمثيل يعني أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا بها رسل الله فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين ، فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا ، والجمهور على أن المراد به نمرود بن كنعان حين بني الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع وقيل فرسخان فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا فأتى الله أي أمره بالاستئصال { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون .

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

{ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ } يذلهم بعذاب الخزي سوى ما عذبوا به في الدنيا { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم { الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ } تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم { تشاقون } نافع أي تشاقونني فيهم لأن مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } أي الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم فلا يلتفتون إليهم ويشاقونهم يقولون ذلك شماتة بهم أو هم الملائكة { إِنَّ الخزى اليوم } الفضيحة { والسوء }
العذاب { عَلَى الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة } وبالياء : حمزة وكذا ما بعده { ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ } بالكفر بالله { فَأَلْقَوُاْ السلم } أي الصلح والاستسلام أي أخبتوا وجاؤوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق وقالوا { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ } وجحدوا ما وجد منهم من الكفران والعداوة فرد عليهم أولو العلم وقالوا { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهو يجازيكم عليه وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } جهنم .

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)

{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا } الشرك { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا } وإنما نصب هذا ورفع { أساطير } لأن التقدير هنا أنزل خيراً فأطبقوا الجواب على السؤال وثمة التقدير هو أساطير الأولين فعدلوا بالجواب عن السؤال { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا } أي آمنوا وعملوا الصالحات أو قالوا : لا إله إلا الله { حَسَنَةٌ } بالرفع أي ثواب وأمن وغنيمة وهو بدل من { خيراً } حكاية لقول { الذين اتقوا } أي قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيراً . ثم حكاه ، أو هو كلام مستأنف عدة للقائلين وجعل قولهم من جملة إحسانهم { وَلَدَارُ الاخرة خَيْرٌ } أي لهم في الآخرة ما هو خير منها كقوله { فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } [ آل عمران : 148 ] { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره { جنات عَدْنٍ } خبر لمبتدأ محذوف أو هي المخصوص بالمدح { يَدْخُلُونَهَا } حال { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طَيِّبِينَ } طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم { يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ } قيل : إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك ، فقال : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلام ، ويبشره بالجنة ويقال لهم في الآخرة { ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بعملكم { هَلْ يَنظُرُونَ } ما ينتظر هؤلاء الكفار { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } لقبض أرواحهم . وبالياء : علي وحمزة { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي العذاب المستأصل أو القيامة { كذلك } مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب { فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بتدميرهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث فعلوا ما استحقوا به التدمير

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)

{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } جزاء سيئات أعمالهم { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } وأحاط بهم جزاء استهزائهم : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلآ ءابَآؤُنَا } هذا كلام صدر منهم استهزاء ولو قالوه اعتقاداً لكان صواباً { وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ } يعني البحيرة والسائبة ونحوهما { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي كذبوا الرسل وحرموا الحلال وقالوا مثل قولهم استهزاء { فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } إلا أن يبلغوا الحق ويطّلعوا على بطلان الشرك وقبحه { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله } بأن وحدوه { واجتنبوا الطاغوت } الشيطان يعني طاعته { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله } لاختيارهم الهدى { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي لزمته لاختياره إياها { فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } حيث أهلكهم الله وأخلى ديارهم عنهم . ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم وأعلمه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة فقال { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } بفتح الياء وكسر الدال : كوفي . الباقون : بضم الياء وفتح الدال ، والوجه فيه أن { من يضل } مبتدأ و { لا يهدي } خبره { وَمَا لَهُم مِّن ناصرين } يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم ويدفعون عنهم عذابه الذي أعد لهم . { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } معطوف على { وقال الذي أشركوا } { لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى } هو إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا } وهو مصدر مؤكد لما دل عليه { بلى } لأن { يبعث } موعد من الله وبين أن الوفاء بهذا الوعد حق { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن وعده حق أو أنهم يبعثون

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ } متعلق بما دل عليه { بلى } أي يبعثهم ليبين لهم ، والضمير ل { من يموت } وهو يشمل المؤمنين والكافرين { الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } هو الحق { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين } في قولهم { لا يبعث الله من يموت } { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي فهو يكون ، وبالنصب : شامي وعلي ، على جواب . كن { قولنا } مبتدأ و { أن نقول } خبره و { كن فيكون } من «كان» التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فهو يحدث بلا توقف ، وهذه عبارة عن سرعة الإيجاد تبين أن مراداً لا يمتنع عليه ، وأن وجوده عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع المتمثل ولا قول ثَم . والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من بعض المقدورات؟ { والذين هاجروا فِى الله } في حقه ولوجهة { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } هم رسول الله وأصحابه ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله ، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين ، ومنهم من هاجر إلى المدينة { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة } صفة للمصدر أي تبوئة حسنة أو لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم { وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ } الوقف لازم عليه لأن جواب { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } محذوف والضمير للكفار أي لو علموا ذلك لرغبوا في الدين أو للمهاجرين أي لو كانوا يعلمون لزادوا في اجتهادهم وصبرهم { الذين صَبَرُواْ } أي هم الذين صبروا أو أعني الذين صبروا ، وكلاهما مدح أي صبروا على مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤوسهم ، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي يفوضون الأمر إلى ربهم ويرضون بما أصابهم في دين الله . ولما قالت قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً نزل

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } يوحى اليهم على ألسنة الملائكة . { نوحي } حفص { فاسألوا أَهْلَ الذكر } أهل الكتاب ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً . وقيل للكتاب الذكر لأنه موعظة وتنبيه للغافلين { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } أي بالمعجزات والكتب والباء يتعلق ب { رجالاً } صفة له أي رجالاً ملتبسين بالبينات ، أو بأرسلنا مضمراً كأنه قيل : بم أرسل الرسل؟ فقيل : بالبينات ، أو ب { يوحي } أي يوحي إليهم بالبينات أو ب { لا تعلمون } ، وقوله : { فاسألوا أهل الذكر } اعتراض على الوجوه المتقدمة وقوله { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } القرآن { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا به وأوعدوا { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } في تنبيهاته فينتبهوا { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } أي المكرات السيئات ، وهم أهل مكة وما مكروا به رسول الله عليه السلام { أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض } كما فعل بمن تقدمهم { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي بغتة { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ } متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } متخوفين وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا فيأخذهم العذاب وهم متخوفون متوقعون وهو خلاف قوله { من حيث لا يشعرون } [ الزمر : 25 ] { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم مع استحقاقكم ، والمعنى أنه إذا لم يأخذكم مع ما فيكم فإنما رأفته تقيكم ورحمته تحميكم .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } وبالتاء : حمزة وعلي وأبو بكر { إلى مَا خَلَقَ الله } «ما» موصولة ب { خلق الله } وهو مبهم بيانه { مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظلاله } أي يرجع من موضع إلى موضع . وبالتاء : بصري { عَنِ اليمين } أي الأيمان { والشمآئل } جمع شمال { سُجَّدًا لِلَّهِ } حال من الظلال . عن مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء { وَهُمْ داخرون } صاغرون وهو حال من الضمير في { ظلاله } لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل . وجمع بالواو والنون لأن الدخور من أوصاف العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب . والمعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب ، منقادة لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها ، داخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها غير ممتنعة { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض مِن دَآبَّةٍ } «من» بيان لما في السماوات وما في الأرض جميعاً على أن في السماوات خلقاً يدبون فيها كما تدب الأناسي في الأرض ، أو بيان لما في الأرض وحده والمراد بما في السماوات ملائكتهن ، وبقوله { والملئكة } ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم . قيل : المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم ، وبسجود غيرهم انقيادهم لإرادة الله . ومعنى الانقياد يجمعهما فلم يختلفا فلذا جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد . وجيء ب «ما» إذ هو صالح للعقلاء وغيرهم ولو جيء ب «من» لتناول العقلاء خاصة { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يخافون رَبَّهُمْ } هو حال من الضمير في { لا يستكبرون } أي لا يستكبرون خائفين { مِّن فَوْقِهِمْ } إن علقته ب { يخافون } فمعناه يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإن علقته ب { ربهم } حالاً منه فمعناه يخافون ربهم غالباً لهم قاهراً كقوله { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } { [ الانعام : 61 ، 18 ] وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي وأنهم بين الخوف والرجاء .

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)

{ وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } فإن قلت : إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا عندي رجال ثلاثة ، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص ، فأما رجل ورجلان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال «رجل واحد ورجلان اثنان» . قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين : على الجنسية والعدد المخصوص . فإذا أريدت الدلالة على أن المعنيّ به منهما هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ، ألا ترى أنك لو قلت «إنما هو إله» ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية { فإياي فارهبون } نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم وهو من طريقة الالتفات وهو أبلغ في الترغيب من قوله «فإياي فارهبوه» . { فارهبوني } يعقوب { وَلَهُ مَا فِى السموات والأرض وَلَهُ الدين } أي الطاعة { وَاصِبًا } واجباً ثابتاً لأن كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه ، وهو حال عمل فيه الظرف ، أو وله الجزاء دائماً يعني الثواب والعقاب { أفغيرالله تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مّن نِّعْمَةٍ } وأي شيء اتصل بكم من نعمة عافية وغنى وخصب { فَمِنَ الله } فهو من الله { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر } المرض والفقر والجدب { فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ } فما تتضرعون إلا إليه ، والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } الخطاب في و { ما بكم من نعمة } إن كان عاماً فالمراد بالفريق الكفرة ، وإن كان الخطاب للمشركين فقوله { منكم } للبيان لا للتبعيض كأنه قال : فإذا فريق كافر وهم أنتم ، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله { فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ، ثم أوعدهم فقال { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } هو عدول إلى الخطاب على التهديد { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رزقناهم } أي لآلهتهم ، ومعنى { لا يعلمون } أنهم يسمونها آلهة ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله وليس كذلك لأنها جماد لا تضر ولا تنفع ، أو الضمير في { لا يعلمون } للآلهة أي لأشياء غير موصوفة بالعلم ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا ، وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم { تالله لَتُسْئَلُنَّ } وعيد { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } من أنها آلهة وأنها أهل للتقرب إليها { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه لذاته من نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يعني البنين .

ويجوز في «ما» الرفع على الابتداء و { لهم } الخبر ، والنصب على العطف على { البنات } ، و { سبحانه } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّا } أي صار فظل وأمسى وأصبح وبات تستعمل بمعنى الصيرورة لأن أكثر الوضع يتفق بالليل فيظل نهاره مغتماً مسود الوجه من الكآبة والحياء من الناس { وَهُوَ كَظِيمٌ } مملوء حنقاً على المرأة { يتوارى مِنَ القوم مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } يستخفى منهم من أجل سوء المبشر به ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } أيمسك ما بشر به على هون وذل { أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب } أم يئده { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف .

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء } صفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ، ووأدهن خشية الإملاق { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } وهو الغني عن العالمين والنزاهة عن صفات المخلوقين { وَهُوَ العزيز } الغالب في تنفيذ ما أراد { الحكيم } في إمهال العباد { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } بكفرهم ومعاصيهم { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } على الأرض { مِن دَآبَّةٍ } قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين . عن أبي هريرة رضي الله عنه : إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما . { من دابة } من مشرك يدب { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } أي أجل كل أحد أو وقت تقتضيه الحكمة أو القيامة { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ومن الاستخفاف برسلهم ، ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } مع ذلك أي ويقولون الكذب { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } عند الله وهي الجنة إن كان البعث حقاً كقوله { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] و { أن لهم الحسنى } بدل من { الكذب } { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } { مفرِطون } نافع { مفرِّطون } أبو جعفر . فالمفتوح بمعنى مقدمون إلى النار معجلون إليها من أفرطت فلاناً وفرطته في طلب الماء إذا قدمته ، أو منسيون متروكون من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته . والمكسور المخفف من الإفراط في المعاصي ، والمشدد من التفريط في الطاعات أي التقصير فيها .

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)

{ تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } أي أرسلنا رسلاً إلى من تقدمك من الأمم { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ } من الكفر والتكذيب بالرسل { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } أي قرينهم في الدنيا تولى إضلالهم بالغرور ، أو الضمير لمشركي قريش أي زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم ، أو هو على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في القيامة { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } القرآن { إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ } للناس { الذى اختلفوا فِيهِ } هو البعث لأنه كان فيهم من يؤمن به { وَهُدًى وَرَحْمَةً } معطوفان على محل { لتبين } إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب . ودخلت اللام على { لتبيين } لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ والله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه لا يسمع . { وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ } وبفتح النون : نافع وشامي وأبو بكر . فال الزجاج : سقيته وأسقيته بمعنى واحد . ذكر سيبويه الأنعام في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ولذا رجع الضمير إليه مفرداً ، وأما في بطونها في سورة «المؤمنين» فلأن معناه الجمع وهو استئناف كأنه قيل : كيف العبرة؟ فقال { نسقيكم مما في بطونه } { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا } أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله . قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً ، والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش ثم ينحدر ، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر . وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم { سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } سهل المرور في الحلق ، ويقال : لم يغص أحد باللبن قط . و«من» الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها ، والثانية لابتداء الغاية .

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)

ويتعلق { وَمِن ثمرات النخيل والأعناب } بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وحذف لدلالة { نسقيكم } قبله عليه وقوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } بيان وكشف عن كنه الإسقاء ، أو تتخذون ومنه من تكرير الظرف للتوكيد ، والضمير في { منه } يرجع إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير ، والسكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً . ثم فيه وجهان : أحدهما أن الآية سابقة على تحريم الخمر فتكون منسوخة ، وثانيهما أن يجمع بين العتاب والمنة . وقيل : السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد ، وهو حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلى حد السكر ، ويحتجان بهذه الآية وبقوله عليه السلام : " الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب " وبأخبار جمة { وَرِزْقًا حَسَنًا } هو الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك { إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } وألهم { أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا } هي «أن» المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول . قال الزجاج : واحد النحل نحلة كنخل ونخلة والتأنيث باعتبار هذا ، و«من» في { من الجبال } { وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } يرفعون من سقوف البيت أو ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تعسل فيها للتبعيض لأنها لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش والضمير في { يعرشون } للناس ، وبضم الراء : شامي وأبو بكر

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

{ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات } أي ابني البيوت ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها { فاسلكى سُبُلَ رَبِّكِ } فادخلي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها { ذُلُلاً } جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله تعالى ذللها وسهلها ، أو من الضمير في { فاسلكي } أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } يريد العسل لأنه مما يشرب تلقيه من فيها { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } منه أبيض وأصفر وأحمر من الشباب والكهول والشيب أو على ألوان أغذيتها { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } لأنه من جملة الأدوية النافعة ، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل . وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض كما أن كل دواء كذلك ، وتنكيره لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء لأن النكرة في الإثبات تخص ، وشكا رجل استطلاق بطن أخيه فقال عليه السلام : « اسقه عسلاً » فجاءه وقال : زاده شراً فقال عليه السلام : « صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً » فسقاه فصح . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : « العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين : القرآن والعسل » ومن بدع الروافض أن المراد بالنحل عليّ وقومه . وعن بعضهم أن رجلاً قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم . فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي ، وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في عجيب أمرها فيعلمون أن الله أودعها علماً بذلك وفطنها كما أعطى أولي العقول عقولهم .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

{ والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم } بقبض أرواحكم من أبدانكم { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة أو ثمانون أو تسعون { لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } لينسى ما يعلم أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل أو إلى الإفناء من الإحياء { قَدِيرٌ } على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق } أي جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم { فَمَا الذين فُضِّلُواْ } في الرزق يعني الملاك { بِرَآدِّي } بمعطي { رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم } فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } جملة اسمية وقعت في موضع جملة فعلية في موضع النصب لأنه جواب النفي بالفاء وتقديره : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا مع عبيدهم في الرزق ، وهو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء فقال لهم : أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم ، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟ { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } وبالتاء : أبو بكر ، فجعل ذلك من جملة جحود النعمة .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)

{ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي من جنسكم { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً } جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت
وإليك نسعى ونحفد ... واختلف فيه فقيل : هم الأختان على البنات وقيل : أولاد الأولاد . والمعنى وجعل لكم حفدة أي خدماً يحفدون في مصالحكم ويعينونكم { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات } أي بعضها لأن كل الطيبات في الجنة وطيبات الدنيا أنموذج منها { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } هو ما يعتقدونه من منفعة الأصنام وشفاعتها { وَبِنعْمَتِ اللهِ } أي الإسلام { هُمْ يَكْفُرُونَ } أو الباطل الشيطان والنعمة محمد صلى الله عليه وسلم أو الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السماوات والأرض شَيْئًا } أي الصنم وهو جماد لا يملك أن يرزق شيئاً ، فالرزق يكون بمعنى المصدر وبمعنى ما يرزق ، فإن أردت المصدر نصبت به { شيئاً } أي لا يملك أن يرزق شيئاً ، وإن أردت المرزوق كان { شيئا } ً بدلاً منه أي قليلاً ، و { من السماوات والأرض } صلة للرزق إن كان مصدراً أي لا يرزق من السماوات مطراً ولا من الأرض نباتاً ، وصفة إن كان اسماً لما يرزق ، والضمير في { ولاَ يَسْتَطِيعُونَ } لما لأنه في معنى الآلهة بعدما قال لا يملك على اللفظ ، والمعنى لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ولا يتأتى ذلك منهم { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } فلا تجعلوا لله مثلًا فإنه لا مثل له أي فلا تجعلوا له شركاء { أَنَّ الله يَعْلَمُ } أنه لا مثل له من الخلق { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك أو إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك والوجه الأول . ثم ضرب المثل فقال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا } هو بدل من { مثلاً } { مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرَّا وَجَهْرًا } مصدران في موضع الحال أي مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر مالك قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه وينفق منه ما شاء . وقيد بالمملوك ليميزه من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً إذ هما من عباد الله وب { لا يقدر على شيء } ليمتاز من المكاتب والمأذون فيهما يقدران على التصرف . و«من» موصوفة أي وحراً رزقناه ليطابق عبداً ، أو موصولة { هَلْ يَسْتَوُونَ } جمع الضمير لإرادة الجمع أي لا يستوي القبيلان { الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بأن الحمد والعبادة لله ثم زاد في البيان فقال :

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَىْءٍ } الأبكم الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا يفهم { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } أي ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل والخير { وَهُوَ } في نفسه { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على سيرة صالحة ودين قويم ، وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمته وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه ، أو أراد بغيب السماوات والأرض يوم القيامة على أن علمه غائب عن أهل السماوات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم { وَمَآ أَمْرُ الساعة } في قرب كونها وسرعة قيامها { إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } كرجع طرف ، وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه { أَوْ هُوَ } أي الأمر { أَقْرَبُ } وليس هذا لشك المخاطب ولكن المعنى ، كونوا في كونها على هذا الاعتبار . وقيل : بل هو أقرب { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق لأنه بعض المقدورات ثم دل على قدرته بما بعده فقال :

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

{ والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهاتكم } وبكسر الألف وفتح الميم : عليّ اتباعاً لكسرة النون وبكسرهما : حمزة ، والهاء مزيدة في أمهات للتوكيد كما زيدت في «أراق» فقيل «أهراق» وشذت زيادتها في الواحدة { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } حال أي غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه ، واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه . والأفئدة في فؤاد كالأغربة في غراب وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة لعدم السماع في غيرها { أَلَمْ يَرَوْاْ } وبالتاء : شامي وحمزة { إلى الطير مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك { فِى جَوِّ السمآء } هو الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في قبضهن وبسطهن ووقوفهن { إِلاَّ الله } بقدرته ، وفيه نفي لما يصوره الوهم من خاصية القوى الطبيعية { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بأن الخلق لا غنى به عن الخالق { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } هو فعل بمعنى مفعول أي ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا } هي قباب الأدم { تَسْتَخِفُّونَهَا } ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } بسكون العين : كوفي وشامي ، وبفتح العين : غيرهم . والظعن بفتح العين وسكونها الارتحال { وَيَوْمَ إقامتكم } قراركم في منازلكم ، والمعنى أنها خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر على أن اليوم بمعنى الوقت { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } أي أصواف الضأن { وَأَوْبَارِهَا } وأوبار الإبل { وَأَشْعَارِهَآ } وأشعار المعز { أَثَاثاً } متاع البيت { ومتاعا } وشيئاً ينتفع به { إلى حِينٍ } مدة من الزمان

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

{ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظلالا } كالأشجار والسقوف { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أكنانا } جمع كن وهو ما سترك من كهف أو غار { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } هي القمصان والثياب من الصوف والكتاب والقطن { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وهي تقي البرد أيضاً إلا أنه اكتفى بأحد الضدين ، ولأن الوقاية من الحر أهم عندهم لكون البرد يسيراً محتملاً { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ودروعاً من الحديد ترد عنكم سلاح عدوكم في قتالكم ، والبأس : شدة الحرب والسربال عام يقع على ما كان من حديد أو غيره { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي تنظرون في نعمته الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن الإسلام { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين } أي فلا تبعة عليك في ذلك لأن الذي عليك هو التبليغ الظاهر وقد فعلت { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله } التي عددناها بأقوالهم فإنهم يقولون إنها من الله { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } بأفعالهم حيث عبدوا غير المنعم أو في الشدة ثم في الرخاء { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } أي الجاحدون غير المعترفين ، أو نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم ، و«ثم» يدل على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)

{ وَيَوْمَ } انتصابه ب «اذكر» { نَبْعَثُ } نحشر { مِْن كُلِّ أُمَةٍ شَهِيداً } نبياً يشهد لهم وعليهم بالتصديق والتكذيب والإيمان والكفر { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلِّذِيِنَ كَفَرُوا } في الاعتذار ، والمعنى لا حجة لهم ولا عذر { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا هم يسترضون ، أي : لا يقال لهم ارضوا اربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل . ومعنى «ثم» أنهم يمنون أي : يبتلون بعد شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو اطم وأغلب منها ، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة { وَإِذَا رَءَا الذين ظَلَمُواْ } كفروا { العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } أي العذاب بعد الدخول { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } يمهلون قبله { وَإِذَا رَءَا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ } أوثانهم التي عبدوها { قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا } أي آلهتنا التي جعلناها شركاء { الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ } أي نعبد { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون } أي أجابوهم بالتكذيب لأنها كانت جماداً لا تعرف من عبدها ، ويحتمل أنهم كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيهاً لله عن الشرك { وَأَلْقَوْاْ } يعني الذين ظلموا { إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } إلقاء السلم الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا { وَضَلَّ عَنْهُم } وبطل عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا منهم { الذين كَفَرُواْ } في أنفسهم { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } وحملوا غيرهم على الكفر { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } أي عذاباً بكفرهم وعذاباً بصدهم عن سبيل الله { بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } بكونهم مفسدين الناس بالصد

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ } يعني نبيهم لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { شَهِيدًا على هَؤُلآءِ } على أمتك { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا } بليغاً { لّكُلِّ شَىْءٍ } من أمور الدين . أما في الأحكام المنصوصة فظاهر ، وكذا فيما ثبت بالسنة أو بالإجماع أو بقول الصحابة أو بالقياس ، لأن مرجع الكل إلى الكتاب حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ المائدة : 92 ] وحثنا على الإجماع فيه بقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه بقوله : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّئوا طرق الاجتهاد والقياس مع أنه أمرنا به بقوله { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] فكانت السنة والإجماع وقول الصحابي والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فتبين أنه كان تبياناً لكل شيء { وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } ودلالة إلى الحق ورحمة لهم وبشارة لهم بالجنة .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)

{ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل } بالتسوية في الحقوق فيما بينكم وترك الظلم وإيصال كل ذي حق إلى حقه { والإحسان } إلى من أساء إليكم أو هما الفرض والندب لأن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب { وَإِيتَآءِ ذِى القربى } وإعطاء ذي القرابة وهو صلة الرحم { وينهى عَنِ الفحشآء } عن الذنوب المفرطة في القبح { والمنكر } ما تنكره العقول { والبغي } طلب التطاول بالظلم والكبر { يَعِظُكُمُ } حال أو مستأنف { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تتعظون بمواعظ الله . وهذه الآية سبب إسلام عثمان بن مظعون فإنه قال : ما كنت أسلمت إلا حياء منه عليه السلام لكثرة ما كان يعرض علي الإسلام ، ولم يستقر الإيمان في قلبي حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر . وقال أبو جهل : إن إلهه ليأمر بمكارم الأخلاق وهي أجمع آية في القرآن للخير والشر ، ولهذا يقرءُها كل خطيب على المنبر في آخر كل خطبة لتكون عظة جامعة لكل مأمور ومنهي . { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم } هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } { [ الفتح : 10 ] وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان } أيمان البيعة { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } بعد توثيقها باسم الله . و«أكد» و«وكد» لغتان فصيحتان والأصل الواو والهمزة بدل منها { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } شاهداً ورقيباً لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } من البر والحنث فيجازيكم به

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)

{ وَلاَ تَكُونُواْ } في نقض الأيمان { كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته { أنكاثا } جمع نكث وهو ما ينكث فتله . قيل : هي ريطة وكانت حمقاء تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن { تَتَّخِذُونَ أيمانكم } حال ك { أنكاثا } ً { دَخَلاً } أحد مفعولي { تتخذ } أي ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً { بَيْنِكُمْ } أي مفسدة وخيانة { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } بسبب أن تكون أمة يعني جماعة قريش { هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } هي أزيد عدداً وأوفر مالاً من أمة من جماعة المؤمنين . { هي أربى } مبتدأ وخبر ، في موضع الرفع صفة ل { أمة } و { أمة } فاعل { تكون } وهي تامة و { هي } ليست بفصل لوقوعها بين نكرتين { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } الضمير للمصدر أي إنما يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما وكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقلة المؤمنين وفقرهم { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } إِذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب ، وفيه تحذير عن مخالفة ملة الإسلام { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } حنيفة مسلمة { ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } من علم منه اختيار الضلالة { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } من علم منه اختيار الهداية { وَلَتُسُئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يوم القيامة فتجزون به . { وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ } كرر النهي عن اتخاذ الإيمان دخلاً بينهم تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظمه { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها . وإنما وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن تثبت عليه فكيف بأقدام كثيرة { وَتَذُوقُواْ السوء } في الدنيا { بِمَا صَدَدتُّمْ } بصدودكم { عَن سَبِيلِ الله }
وخروجكم عن الدين ، أو بصدكم غيركم لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدوا لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الآخرة

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

{ وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا { بِعَهْدِ الله } وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً من الدنيا يسيراً كأن قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله { إِنَّمَا عِنْدَ الله } من ثواب الآخرة { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ } من أعراض الدنيا { يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله } من خزائن رحمته { بَاقٍ } لا ينفد { وَلَنَجْزِيَنَّ } وبالنون : مكي وعاصم { الذين صَبَرُواْ } على أذى المشركين ومشاق الإسلام { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صالحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } «من» مبهم يتناول النوعين إلا أن ظاهره للذكور فبين بقوله { من ذكر أو أنثى } ليعم الموعد النوعين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } شرط الإيمان لأن أعمال الكفار غير معتد بها وهو يدل على أن العمل ليس من الإيمان { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيِّبَةً } أي في الدنيا لقوله { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وعده الله ثواب الدنيا والآخرة كقوله { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } [ آل عمران : 148 ] وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً فظاهر ، وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى . وأما الفاجر فأمره بالعكس ، إن كان معسراً فظاهر ، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . وقيل : الحياة الطيبة القناعة أو حلاوة الطاعة أو المعرفة بالله ، وصدق المقام مع الله ، وصدق الوقوف على أمر الله ، والإعراض عما سوى الله

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

{ فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان } فإذا أردت قراءة القرآن { فاستعذ بالله } فعبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأنها سبب له ، والفاء للتعقيب إذ القراءة المصدرة بالاستعاذة من العمل الصالح المذكور { مِنَ الشيطان } يعني إبليس { الرجيم } المطرود أو الملعون . قال ابن مسعود رضي الله عنه : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي : «قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام» { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ } لإبليس { سلطان } تسلط وولاية { على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } فالمؤمن المتوكل لا يقبل منه وساوسه { إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } يتخذونه ولياً ويتبعون وساوسه { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير يعود إلى ربهم أو إلى الشيطان أي بسببه { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ } تبديل الآية مكان الآية هو النسخ ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لحكمة رآها وهو معنى قوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } وبالتخفيف : مكي وأبو عمرو { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } هو جواب { إذا } ً . وقوله : { والله أعلم بما ينزل } اعتراض ، كانوا يقولون إن محمداً يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً فيأتيهم بما هو أهون ، ولقد افتروا فقد كان ينسخ الأشق بالأهون والأهون بالأشق { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } الحكمة في ذلك

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } أي جبريل عليه السلام أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال «حاتم الجود»؛ والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد والمقدس المطهر من المآثم { مِن رَبِّكَ } من عنده وأمره { بالحق } حال أي نزله ملتبساً بالحكمة { لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ } ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا ، والحكمة لأنه حكيم لا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب ، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب { وَهُدًى وبشرى } مفعول لهما معطوفان على محل { ليثبت } والتقدير تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة { لِلْمُسْلِمِينَ } وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم . { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } أرادوا به غلاماً كان لحويطب قد أسلم وحسن إسلامه ، اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب ، أو هو جبر غلام رومي لعامر بن الحضرمي ، أو عبدان : جبر ، ويسار ، كانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقرآن ، أو سلمان الفارسي { لِّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } وبفتح الياء والحاء : حمزة وعلي { أَعْجَمِىٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } أي لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بيّن ، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة رداً لقولهم وإبطالاً لطعنهم ، وهذه الجملة أعني { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } لا محل لها لأنها مستأنفة جواب لقولهم . واللسان اللغة . ويقال : ألحد القبر ولحده وهو ملحد وملحود إذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ، ثم استعير لكل إمالة عن الاستقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله ، وألحد في دينه ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

{ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } أي القرآن { لاَ يَهْدِيهِمُ الله } ما داموا مختارين الكفر { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة على كفرهم { إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب } على الله { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقاباً عليه وهو رد لقولهم { إنما أنت مفتر } { وَأُوْلئِكَ } إشارة إلى { الذين لايؤمنون } أي وأولئك { هُمُ الكاذبون } على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب أو وأولئك هم الكاذبون في قولهم { إنما أنت مفتر } جوزوا أن يكون { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه } شرطاً مبتدأ وحذف جوابه لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل : من كفر بالله فعليهم غضب { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } ساكن به . { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي طاب به نفساً واعتقده { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وأن يكون بدلاً من { الذين لا يؤمنون بآيات الله } على أن يجعل { وأولئك هم الكاذبون } اعتراضاً بين البدل والمبدل منه . والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الإفتراء ثم قال : { ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله } وأن يكون بدلاً من المبتدأ الذي هو { أولئك } أي ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون ، أو من خبر الذي هو { الكاذبون } أي وأولئك هم من كفر بالله من بعد ايمانه وأن ينتصب على الذم . رُوى أنَّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا ، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان منهم عمار ، وأما أبواه ياسر وسمية فقد قتلا وهما أول قتيلين في الإسلام فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عماراً كفر فقال : « كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنة إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه » فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : « مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » وما فعل أبو عمار أفضل لأن في الصبر على القتل إعزازاً للإسلام

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

{ ذلك } إشارة إلى الوعيد وهو لحوق الغضب والعذاب العظيم { بِأَنَّهُمُ استحبوا } آثروا { الحياة الدُّنْيَا علىوا الآخِرَةِ } أي بسبب إيثارهم الدنيا على الآخرة { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين } ما داموا مختارين للكفر { أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم } فلا يتدبرون ولا يصغون إلى المواعظ ولا يبصرون طريق الرشاد { وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون } أي الكاملون في الغفلة لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الخاسرون } . { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } «يدل» على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك { لِلَّذِينَ هاجروا } من مكة أي أنه لهم لا عليهم يعني أنه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل لا عليه فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بالعذاب والإكراه على الكفر { فَتِنوا } : شامي أي بعد ما عذبوا المؤمنين ثم أسلموا { ثُمَّ جاهدوا } المشركين بعد الهجرة { وَصَبَرُوآ } على الجهاد { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر { لَغَفُورٌ } لهم لما كان منهم من التكلم بكلمة الكفر تقية { رَّحِيمٌ } لا يعذبهم على ما قالوا في حالة الإكراه

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)

{ يَوْمَ تَأْتِى } منصوب ب { رحيم } أو ب «اذكر» { كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا } وإنما أضيفت النفس إلى النفس لأنه يقال لعين الشيء وذاته نفسه وفي نقيضه غيره والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كلٌّ يقول : نفسي نفسي . ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم : { هَؤُلاء أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] { ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } [ الأحزاب : 67 ] الآية { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] { وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } تعطى جزاء عملها وافياً { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } في ذلك . { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } أي جعل القرية التي هذه حالها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها فضربها الله مثلاً لمكة إنذراً من مثل عاقبتها { كَانَتْ ءَامِنَةً } من القتل والسبى { مُّطْمَئِنَّةً } لا يزعجها خوف لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا } واسعاً { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من كل بلد { فَكَفَرَتْ } أهلها { بِأَنْعُمِ الله } جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } الإذاقة واللباس استعارتان والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، ووجه صحة ذلك أن الإذاقة جارية عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث ، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف .

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)

{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } أي محمد صلى الله عليه وسلم { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون } أي في حال التباسهم بالظلم قالوا : إنه القتل بالسيف يوم بدر . رُوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه إلى أهل مكة في سني القحط بطعام ففرق فيهم فقال : " الله لهم بعد أن أذاقهم الجوع " { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } على يدي محمد صلى الله عليه وسلم { حلالا طَيِّباً } بدلاً عما كنتم تأكلونه حراماً خبيثاً من الأموال المأخوذة بالغارات والغصوب وخبائث الكسوب { واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } تطيعون أو إن صح زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة لأنها شفعاؤكم عنده . ثم عدد عليهم محرمات الله ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم فقال : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } «إنما» للحصر أي المحرم هذا دون البحيرة وأخواتها وباقي الآية قد مر تفسيره { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } هو منصوب ب { لا تقولوا } أي ولا وتقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم : { مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي أو إلى القياس المستنبط منه . واللام مثلها في قولك لا تقولوا لما أحل الله هو حرام . وقوله { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بدل من الكذب ولك أن تنصب { الكذب } ب { تصف } وتجعل «ما» مصدرية وتعلق { هذا حلال وهذا حرام } . ب { لا تقولوا } أي و لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام وهذا لوصف ألسنتكم الكذب ، أي ولا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم لا لأجل حجة وبينة ولكن قول ساذج ودعوى بلا برهان . وقوله { تصف ألسنتكم الكذب } من فصيح الكلام جعل قولهم كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولك «وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر» واللام في { لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ }

مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

{ متاع قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هو خبر مبتدأ محذوف أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعذابها عظيم . { وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } في سورة الأنعام يعني { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] الآية { وَمَا ظلمناهم } بالتحريم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فحرمنا عليهم عقوبة على معاصيهم { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة } في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ، ومرادهم لذة الهوى لا عصيان المولى { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد التوبة { لَغَفُورٌ } بتكفير ما كثروا قبل من الجرائم { رَّحِيمٌ } بتوثيق ما وثقوا بعد من العزائم .

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

{ إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً } إنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقوله
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار ، أو كان أمة بمعنى مأموم يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير { قَانِتاً لِلَّهِ } هو القائم بما أمره الله . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن معاذاً كان أمة قانتاً لله فقيل له : إنما هو إبراهيم عليه السلام . فقال : الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله ورسوله ، وكان معاذ كذلك . وقال عمر رضي الله عنه : لو كان معاذ حياً لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أبو عبيدة أمين هذه الأمة ، ومعاذ أمة لله قانت لله ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون " { حَنِيفاً } مائلاً عن الأديان إلى ملة الإسلام { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } نفى عنه الشرك تكذيباً لكفار قريش لزعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم ، وحذف النون للتشبيه بحروف اللين { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } رُوى أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاماً فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم { اجْتَبَاهُ } اختصه واصطفاه للنبوة { وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } إلى ملة الإسلام { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } نبوة وأموالاً وأولاداً ، أو تنويه الله بذكره فكل أهل دين يتولونه ، أو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم { وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } لمن أهل الجنة . { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكين } في «ثم» تعظيم منزلة نبينا عليه السلام وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

{ إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ } أي فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } رُوى أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة وأن يكون يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاروه وبعضهم اختاروا عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيجازي كل واحد من الفريقين بما هو أهله { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ } إلى الإسلام { بِالْحِكْمَةِ } بالمقالة الصحيحة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة { وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها ، أو بالقرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة ، أو الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن يخلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة { وَجَادِلُهُم بِالِّتِي هِيَ أَحْسَنُ } بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ، أو بما يوقظ القلوب ويعظ النفوس ويجلو العقول وهو رد على من يأبى المناظرة في الدين { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل . { وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } سمى الفعل الأول عقوبة والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام كقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] فالثانية ليست بسيئة ، والمعنى إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أونحوه فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه . رُوى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد ، وبقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، فرأى النبي عليه السلام حمزة مبقور البطن فقال : « أما والذي أحلف به لأمثلن بسبعين مكانك » فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده . ولا خلاف في تحريم المثلة لورود الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } الضمير في { لهو } يرجع إلى مصدر { صبرتم } والمراد بالصابرين المخاطبون أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم ، فوضع { الصابرين } موضع الضمير ثناء من الله عليهم لأنهم صابرون على الشدائد ، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

{ وَاصْبِرْ } أنت فعزم عليه بالصبر { وَمَا صبَرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } أي بتوفيقه وتثبيته { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } على الكفار أن لم يؤمنوا وعلى المؤمنين وما فعل بهم الكفار فإنهم وصلوا إلى مطلوبهم { وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } { ضِيق } مكي . والضيق تخفيف الضيق أي في أمر ضيق ويجوز أن يكونا مصدرين كالقيل والقول ، والمعنى ولا يضيقن صدرك من مكرهم فإنه لا ينفذ عليك { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } أي هو ولي الذين اجتنبوا السيئات وولي العاملين بالطاعات . قيل : من اتقى في أفعاله وأحسن في أعماله كان الله معه في أحواله . ومعيته نصرته في المأمور وعصمته في المحظور .

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

{ سُبْحَانَ } تنزيه الله عن السوء وهو علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إِظهاره تقديره أسبح الله سبحان ، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده ودل على التنزيه البليغ { الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم وسرى وأسرى لغتان { لَيْلاً } نصب على الظرف وقيده بالليل والإسراء لا يكون إلا بالليل للتأكيد ، أو ليدل بلفظ التنكير على تقرير مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة { مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قيل : أسري به من دار أم هانىء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الحرم كله مسجد . وقيل : هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر ، فقد قال عليه السلام : « بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق وقد عرج بي إلى السماء في تلك الليلة » وكان العروج به من بيت المقدس وقد أخبر قريشاً عن عيرهم وعدد جمالها وأحوالها ، وأخبرهم أيضاً بما رأى في السماء من العجائب ، وأنه لقي الأنبياء عليهم السلام وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى ، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة وكان في اليقظة ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه . وعن معاوية مثله . وعلى الأول الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم { إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَا } هو بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } يريد بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء عليهم السلام ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة { لِنُرِيَهُ } أي محمداً عليه السلام { مِنْ آيَاتِنَا } الدالة على وحدانية الله وصدق نبوته برؤيته السماوات وما فيها من الآيات { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } للأقوال { الْبَصِيرُ } بالأفعال ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم فقيل { أسرى } ثم { باركنا } ثم { إنه هو } وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة .

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)

{ وَآتَيْنَا مُوَسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ } أي الكتاب وهو التوراة { هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا } أي لا تتخذوا . وبالياء : أبو عمرو أي لئلا يتخذوا { مِن دُونِي وَكِيلاً } رباً تكلون إليه أموركم { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } نصب على الاختصاص أو على النداء فيمن قرأ { لا تتخذوا } بالتاء على النهي أي قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح { إِنَّهُ } إن نوحاً عليه السلام { كَانَ عَبْداً شَكُوراً } في السراء والضراء ، والشكر مقابلة النعمة بالثناء على المنعم ، وروي أنه كان لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا قال الحمد لله ، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم ، وآية رشد الأبناء صحة الاقتداء بسنة الآباء وقد عرفتم حال الآباء هنالك فكونوا أيها الأبناء كذلك .
{ وقضينا إلى بني إِسْرَآءِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ } وأوحينا إليهم وحياً مقضياً أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة . والكتاب التوراة ، ولتفسدن جواب محذوف أو جرى القضاء المبتوت مجرى القسم فيكون { لتفسدن } جواباً له كأنه قال وأقسمنا لتفسدن في الأرض { مَرَّتَيْنِ } أولاهما قتل زكرياء عليه السلام وحبس أرمياء عليه السلام حين أنذرهم سخط الله ، والأخرى قتل يحيى بن زكرياء عليهما السلام وقصد قتل عيسى عليه السلام { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوَّاً كَبِيراً } ولتستكبرن عن طاعة الله من قوله { إِن فرعون علا في الأَرض } [ القصص : 4 ] والمراد به البغي والظلم وغلبة المفسدين على المصلحين .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } أي وعد الله عقاب أولاهما { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ } سلطنا عليكم { عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدِ } أشداء في القتال يعني سنجاريب وجنوده أو بختنصر أو جالوت ، قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفاً { فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } ترددوا للغارة فيها . قال الزجاج : الجوس طلب الشيء بالاستقصاء { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } وكان وعد العقاب وعداً لا بد أن يفعل { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ } أي الدولة والغلبة { عَلَيْهِمْ } على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو . قيل : هي قتل بختنصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم . وقيل أعدنا لكم الدولة بملك طالوت وقتل داود جالوت { وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } مما كنتم وهو تمييز جمع نفر وهو من ينفر مع الرجل من قومه .
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } قيل اللام بمعنى «على» كقوله : { وعليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] والصحيح أنها على بابها لأن اللام للاختصاص والعامل مختص بجزاء عمله ، حسنة كانت أو سيئة يعني أن الإحسان والإساءة كلاهما مختص بأنفسكم لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم . وعن علي رضي الله عنه : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } وعد المرة الآخرة بعثناهم { لِيَسوؤوا } أي هؤلاء { وُجُوهَكُمْ } وحذف لدلالة ذكره أولاً عليه أي ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها كقوله { سيئت وجوه الذين كفروا } [ الملك : 27 ] { ليسوء } شامي وحمزة وأبو بكر ، والضمير لله عز وجل أو للوعد أو للبعث . { لنسوء } علي . { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ } بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً } { ما علوا } مفعول ل { يتبروا أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ، أو بمعنى مدة علوهم
.

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

{ عسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي { وَإِنْ عُدتُّمُ } مرة ثالثة { عُدْنَا } إلى عقوبتكم وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الإتاوة عليهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سلط عليهم المؤمنون إلى يوم القيامة { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } محبساً . يقال : للسجن محصر وحصير .
{ إِنَّ هذا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها وهي توحيد الله والإيمان برسله والعمل بطاعته أو للملة أو للطريقة { ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } ويَبْشر حمزة وعلي { أَنَّ لَهُمْ } بأن لهم { أَجْراً كَبِيراً } أي الجنة { وَأَنَّ الَّذِينَ } وبأن الذين { لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا } أي أعددنا قلبت تاء { لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يعني النار . والآية ترد القول بالمنزلة بين المنزلتين حيث ذكر المؤمنين وجزاءهم ، والكافرين وجزاءهم ، ولم يذكر الفسقة { وَيَدْعُ الإنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ } أي ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله وولده كما يدعو لهم بالخير ، أو يطلب النفع العاجل وإن قل بالضرر الآجل وإن جل { وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً } يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله لا يتأنى فيه تأني المتبصر ، أو أريد بالإنسان الكافر وأنه يدعوه بالعذاب استهزاء ويستعجل به كما يدعو بالخير إذا مسته الشدة ، { وكان الإنسان عجولاً } يعني أن العذاب آتيه لا محالة فما هذا الاستعجال؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو النضر بن الحارث قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } [ الأنفال : 32 ] الآية . فأجيب فضربت عنقه صبراً . وسقوط الواو من { يدع } في الخط على موافقة اللفظ { وَجَعَلْنَا الَّليْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّليْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } أي الليل والنهار آيتان في أنفسهما فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود أي فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة أو جعلنا نيري الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر . فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم نخلق له شعاعاً كشعاع الشمس فترى الأشياء به رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء { لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرف في معايشكم { وَلِتَعْلَمُوا } باختلاف الجديدين { عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } يعني حساب الآجال ومواسم الأعمال ، ولو كانا مثلين لما عرف الليل من النهار ولا استراح حراص المكتسبين والتجار { وَكُلَّ شَيْءٍ } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } بيناه بياناً غير ملتبس فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا .
{ وَكُلَّ إنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ } عمله { فِي عُنُقِهِ } يعني أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل للعنق لا يفك عنه { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ } هو صفة ل { كتابا } ً .

يُلقَّاه شامي { مَنْشوراً } حال من { يلقاه } يعني غير مطوي ليمكنه قراءته أو هما صفتان للكتاب ونقول له { اقْرَأْ كِتَابَكَ } أي كتاب أعمالك وكلٌّ يُبعث قارئاً { كفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ } الباء زائدة أي كفى نفسك { حَسِيباً } تمييز وهو بمعنى حاسب وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي . وضع موضع الشهيد فعدي« بعلى» لأن الشاهد يكفي المدعى ما أهمه ، وإنما ذكر حسيباً لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير إذا الغالب أن يتولى هذه الأمور الرجال فكأنه قيل : كفى نفسك رجلاً حسيباً ، أو تؤوّل النفس بالشخص .

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)

{ مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي فلها ثواب الاهتداء وعليها وبال الضلال { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي كل نفس حاملة وزراً فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى { وَمَا وَكُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وما صح منا أن نعذب قوماً عذاب استئصال في الدنيا إلا بعد أن نرسل إليهم رسولاً يلزمهم الحجة { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً } أي أهل قرية { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } متنعميها وجبابرتها بالطاعة عن أبي عمرو والزجاج { فَفَسَقُوا فِيهَا } أي خرجوا عن الأمر كقولك «أمرته فعصى» أو { أمرنا } كثرنا ، دليله قراءة يعقوب أمرنا ومنه الحديث " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة " أي كثيرة النسل { فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } فوجب عليها الوعيد { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } فأهلكناها إهلاكاً { وَكَمْ } مفعول { أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ } بيان لكم { مِن بَعْدِ نُوحٍ } يعني عاداً وثموداً وغيرهما { وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خِبِيراً } وإن أخفوها في الصدور { بَصِيراً } وإن أرخوا عليها الستور .
{ مَن كَانَ يُريدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشآءُ } لا ما يشاء { لِمَن نُّرِيدُ } بدل من { له } بإعادة الجار وهو بدل البعض من الكل إذ الضمير يرجع إلى { من } أي من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد ، فقيد المعجل بمشيئته والمعجل له بإرادته وهكذا الحال ، ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه ، وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة ، وأما المؤمن التقي فقد اختار غنى الآخرة فإن أوتي حظاً من الدنيا فبها ، وإلا فربما كان الفقر خيراً له { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } في الآخرة { يَصْلاهَا } يدخلها { مَذْمُوماً } ممقوتاً { مَّدْحُوراً } مطروداً من رحمة الله .

وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)

{ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وسعى لَهَا سَعْيَهَا } هو مفعول به أو حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } مصدق لله في وعده ووعيده { فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } مقبولاً عند الله مثاباً عليه . عن بعض السلف : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا الآية : فإنه شرط فيها ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً : إرادة الآخرة والسعي فيما كلف والإيمان الثابت { كُلاً } كل واحد من الفريقين والتنوين عوض عن المضاف إليه وهو منصوب بقوله { نُّمِدُّ هَؤُلآءِ } بدل من { كلاً } أي نمد هؤلاء { وهؤلاءآء } أي من أراد العاجلة ومن أراد الآخرة { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } رزقه و«من» تتعلق «بنمد» والعطاء اسم للمعطي أي نزيدهم من عطائنا ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه فنرزق المطيع والعاصي جميعاً على وجه التفضل { وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } ممنوعاً عن عباده وإن عصوا { انظُرْ } بعين الاعتبار { كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } في المال والجاه والسعة والكمال { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } روي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو : إنما أتينا من قبلنا . إنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر .
{ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } فتصير جامعاً على نفسك الذم والخذلان . وقيل : مشتوماً بالإهانة محروماً عن الإعانة ، إذ الخذلان ضد النصر والعون . دليله قوله تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده } [ آل عمران : 160 ] حيث ذكر الخذلان بمقابلة النصر .
{ وقضى رَبُّكَ } وأمر أمراً مقطوعاً به { أَلاَّ تَعْبُدُوآ إِلاَّ إِيَّاهُ } «أن» مفسرة و { لا تعبدوا } نهي أو بأن لا تعبدوا { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وأحسنوا بالوالدين إحساناً أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ } «إما» هي «أن» الشرطية زيد عليها «ما» تأكيداً لها ولذا دخلت النون المؤكدة في الفعل ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها لا تقول . «إن تكرمن زيداً يكرمك» ولكن «إما تكرمنه» { أَحَدُهُمَآ } فاعل { يبلغن } وهو في قراءة حمزة وعليّ { يبلغان } بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين { أَوْ كِلاهُمَا } عطف على { أحدهما } فاعلاً وبدلاً { فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } مدني وحفص . { أفّ } َ مكي وشامي . { أفّ } ُ غيرهم . وهو صوت يدل على تضجر فالكسر على أصل التقاء الساكنين والفتح للتخفيف ، والتنوين لإرادة التنكير أي أتضجر تضجراً ، وتركه لقصد التعريف أي أتضجر التضجر المعلوم { وَلا تَنْهَرْهُمَا } ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك والنهي والنهر أخوان { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيماً } جميلاً ليناً كما يقتضيه حسنِ الأدب أو هو أن يقول : يا أبتاه يا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء ولا بأس به في غير وجهه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : نحلني أبو بكر كذا ، وفائدة { عندك } إنهما إذا صارا كلاً على ولدهما ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه وذلك أشق عليه ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما لين الخلق حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما «أف» فضلاً عما يزيد عليه ، ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها .

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } أي اخفض لهما جناحك كما قال { واخفض جناحك للمؤمنين } [ الحجر : 88 ] فأضافه إلى الذل كما أضيف حاتم إلى الجود والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل { مِنَ الرَّحْمَةِ } من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس . وقال الزجاج : وألن جانبك متذللاً لهما من مبالغتك في الرحمة لهما { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء ، لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . والمراد بالخطاب غيره عليه السلام ، والدعاء مختص بالأبوين المسلمين ، وقيل : إذا كانا كافرين له أن يسترحم لهما بشرط الإيمان وأن يدعو الله لهما بالهداية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما » وروي « يفعل البار ما شاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما شاء أن يفعل فلن يدخل الجنة » وعنه عليه السلام : « إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجد عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين » { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفِوسِكُمْ } بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين ومن النشاط والكرامة في خدمتهما { إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ } قاصدين الصلاح والبر ثم فرطت منكم في حال الغضب وعند حرج الصدر هنة تؤدي إلى أذاهما ثم أبتم إلى الله واستغفرتم منها { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } الأواب الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة فجاز أن يكون هذا عاماً لكل من فرطت منه جناية ، ثم تاب منها ويندرج تحت الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره .

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)

{ وَآتِ ذَا القربى } منك { حَقَّهُ } أي النفقة إذا كانوا محارم فقراء { وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } أي وآت هؤلاء حقهم من الزكاة { وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } ولا تسرف إسرافاً . قيل : التبذير تفريق المال في غير الحل والمحل ، فعن مجاهد : لو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً . وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه : لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوآ إِخوَانَ الشَّيَاطِينِ } أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان ، أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } فما ينبغي أن يطاع فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله .
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ } إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد { ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم رداً جميلاً ، فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسبباً عنه ، فوضع المسبب موضع السبب ، يقال : يسر الأمر وعسر مثل سعد الرجل ونحس فهو مفعول . وقيل : معناه : فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم كأن معناه قولاً ذا ميسور وهو اليسر أي دعاء فيه يسر . و { ابتغاء } مفعول له أو مصدر في موضع الحال و { ترجوها } حال { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنْقِكَ وَلا تُبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } { كل } نصب على المصدر لإضافته إليه . وهذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف أمر باقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير { فَتَقْعُدَ مَلُوماً } فتصير ملوماً عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده وعند الناس يقول الفقير : أعطى فلاناً وحرمني ، ويقول الغني : ما يحسن تدبير أمر المعيشة ، وعند نفسك إذا احتجت فندمت على ما فعلت { مَّحْسُوراً } منقطعاً بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا أثر فيه أثراً بليغاً أو عارياً من حسر رأسه . وقد خاطرت مسلمة ضرتها اليهودية في أنه يعني محمداً عليه السلام أجود من موسى عليه السلام فبعثت ابنتها تسأله قميصه الذي عليه فدفعه وقعد عرياناً فأقيمت الصلاة فلم يخرج للصلاة فنزلت . ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة بأَن ذلك ليس لهوان منك عليه ولا لبخل به عليك ، ولكن لأن بسط الأرزاق وقدرها مفوض إلى الله تعالى فقال :

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءَ } فليس البسط إليك { وَيَقْدِرُ } أي هو يضيق فلا لوم عليك { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً } بمصالحهم فيمضيها { بَصِيراً } بحوائجهم فيقضيها .
{ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ } قتلهم أولادهم وأدهم بناتهم { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } فقر { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } نهاهم عن ذلك وضمن أرزاقهم { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } إثماً عظيماً . يقال : خطىء خطأ كأثم إثماً . { خطأ } شامي وهو ضد الصواب اسم من أخطأ . وقيل : والخطء كالحذر والحذر { خطاء } بالمد والكسر : مكي { وَلا تَقْرَبُوا الزنى } القصر فيه أكثر والمدلغة وقد قرئ به وهو نهي عن دواعي الزنا كالمس والقبلة ونحوهما ، ولو أريد النهي عن نفس الزنا لقال «ولا تزنوا» { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } معصية مجاوزة حد الشرع والعقل { وَسَآءَ سَبِيلاً } وبئس طريقاً طريقه { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } أي بارتكاب ما يبيح الدم { وَمَن قُتِلَ مَظْلوماً } غير مرتكب ما يبيح الدم { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه { فَلا يسْرِف فِّي الْقَتْلِ } الضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة أهل الجاهلية ، أو الإسراف المثلة ، أو الضمير للقاتل الأول { فلا تسرف } حمزة وعلي على خطاب الولي أو قاتل المظلوم { إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً } الضمير للولي أي حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك ، أو للمظلوم أي الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله وينصره في الآخرة بالثواب ، أو للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه كان منصوراً بإيجاب القصاص على المسرف . وظاهر الآية يدل على أن القصاص يجري بين الحر والعبد وبين المسلم والذمي لأن أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في الآية لكونها محرمة .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } بالخصلة والطريقة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أي ثماني عشرة سنة { وَأَوْفُوا بِالْعَهْد } بأوامر الله تعالى ونواهيه { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به ، أو أن صاحب العهد كان مسؤولاً { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ } بكسر القاف : حمزة وعلي وحفص وهو كل ميزان صغير أو كبير من موازين الدراهم وغيرها . وقيل هو القرسطون أي القبان { الْمُسْتَقِيمِ } المعتدل { ذَلِكَ خَيْرٌ } في الدنيا { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } عاقبة وهو تفعيل من آل إذا رجع وهو ما يؤول إليه .
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } ولا تتبع ما لم تعلم أي لا تقل رأيت وما رأيت وسمعت وما سمعت . وعن ابن الحنفية : لا تشهد بالزور . وعن ابن عباس . لا ترم أحداً بما لا تعلم . ولا يصح التثبت به لمبطل الاجتهاد لأن ذلك نوع من العلم فإن علمتموهن مؤمنات ، وأقام الشارع غالب الظن مقام العلم وأمر بالعمل به كما في الشهادات ولنا في العمل بخبر الواحد لما ذكرنا { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } { أولئك } إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد لأن { أولئك } كما يكون إشارة إلى العقلاء يكون إشارة إلى غيرهم كقول جرير
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
و { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية أي كل واحد منها كان مسئولاً عنه ، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ]
يقال للإنسان . لم سمعت ما لم يحل لك سماعه ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه ، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ كذا في الكشاف ، وفيه نظر لبعضهم لأن الجار والمجرور إنما يقومان مقام الفاعل إذا تأخرا عن الفعل ، فأما إذا تقدما فلا { وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا } هو حال أي ذا مرح { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض } لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدة وطئتك { وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } بتطاولك وهو تهكم بالمختال أو لن تحاذيها قوة وهو حال من الفاعل أو المفعول { كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ } كوفي وشامي على إضافة سيء إلى ضمير «كل» . { سيئة } غيرهم { عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا } ذكر { مكروهاً } لأن السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ألا تراك تقول : «الزنا سيئة» ، كما تقول : «السرقة سيئة» ، فإن قلت : الخصال المذكورة بعضها سييء وبعضها حسن ولذلك قرأ من قرأ { سيئة } بالإضافة أي ما كان من المذكور سيئاً كان عند الله مكروهاً فما وجه قراءة من قرأ { سيئة } قلت : كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة .

{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من قوله : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ } إلى هذه الغاية { مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة } مما يحكم العقل بصحته وتصلح النفس بأسوته { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فتلقى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا } مطروداً من الرحمة . عن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها : { لا تجعل مع الله إلها آخر } وآخرها { مدحوراً } ولقد جعلت فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه حكمة وإن بذ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم . ثم خاطب الذين قالوا الملائكة بنات الله بقوله :

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)

َ { أَفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين } الهمزة للإنكار يعني أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون { واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا } واتخذ أدونهم وهي البنات وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم ، فالعبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها ويكون أردؤها وأدونها للسادات { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا } حيث أضفتم إليه الأولاد وهي من خواص الأجسام ، ثم فضلتم عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان } أي التنزيل والمراد ولقد صرفناه أي هذا المعنى في مواضع من التنزيل فترك الضمير لأنه معلوم { لّيَذْكُرُواْ } وبالتخفيف : حمزة وعلي ، أي كررناه ليتعظوا { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا } عن الحق . وكان الثوري إذ قرأها يقول : زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ } مع الله { أألِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ } وبالياء مكي وحفص . { إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً } يعني لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلاً بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض ، أو لتقربوا إليه كقوله : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } { وإذاً } دالة على أن ما بعدها وهو { لابتغوا } جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل «لو»

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)

{ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ } وبالتاء : حمزة وعلي { عَلَوْاْ } أي تعاليا والمراد البراءة من ذلك والنزاهة { كَبِيراً } وصف العلو بالكبر مبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به .
{ تُسَبّحُ } وبالتاء : عراقي غير أبي بكر { لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } أي يقول سبحان الله وبحمده . عن السدي قال عليه السلام : « ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير لا بما يضيع من تسبيح الله تعالى » { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } لاختلاف اللغات أو لتعسر الإدراك أو سبب لتسبيح الناظر إليه ، والدال على الخير كفاعله . والوجه الأول { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا } عن جهل العباد { غَفُوراً } لذنوب المؤمنين .
{ وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا } ذا ستر أو حجاباً لا يرى فهو مستور { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } جمع كنان وهو الذي يستر الشيء { أَن يَفْقَهُوهُ } كراهة أن يفقهوه { وفي ءاذانهم وقراً } ثقلاً يمنع عن الاستماع { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } يقال : وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة فهو مصدر سد مسد الحال أصله يحد وحده بمعنى واحداً { وَلَّوْاْ على أدبارهم } رجعوا على أعقابهم { نُفُورًا } مصدر بمعنى التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود أي يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا .

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)

{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي نحن أعلم بالحال أو الطريقة التي يستمعون القرآن بها ، فالقرآن هو المستمع وهو محذوف و { به } حال وبيان ل «ما» أي يستمعون القرآن هازئين لا جادين والواجب عليهم أن يستمعوه جادين { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } نصب ب { أعلم } أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون { وَإِذْ هُمْ نجوى } وبما يتناجون به إذ هم ذوو نجوى { إِذْ يَقُولُ الظالمون } بدل من { إذ هم } { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } سحر فجن { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون ، { فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } أي فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه فهو متحير في أمره لا يدري ما يصنع .
{ وَقَالُواْ } أي منكرو البعث { أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } أي مجدداً و { خلقاً } حال أي مخلوقين { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } أي السماوات والأرض فإنها تكبر عندكم عن قبول الحياة { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ } يعيدكم { الذى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة بعدما كنتم عظاماً يابسة مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى الحالة الأولى ، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة وهو أن تكونوا حجارة أو حديداً لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاءً { وَيَقُولُونَ متى هُوَ } أي البعث استبعاداً له ونفياً { قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا } أي هو قريب و«عسى» للوجوب
.

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } إلى المحاسبة وهو يوم القيامة { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي تجيبون حامدين والباء للحال . عن سعيد بن جبير : ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون سبحانك اللهم وبحمدك { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لبثاً قليلاً أو زماناً قليلاً في الدنيا أو في القبر .
{ وَقُل لّعِبَادِى } وقل للمؤمنين { يَقُولُواْ } للمشركين الكلمة { التى هِىَ أَحْسَنُ } وألين ولا يخاشنوهم وهي أن يقولوا يهديكم الله { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليوقع بينهم المشاقة . والنزغ : إيقاع الشر وإفساد ذات البين . وقرأ طلحة : { ينزغ } بالكسر وهما لغتان { إِنَّ الشيطان كَانَ للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا } ظاهر العداوة أو فسر { التي هي أحسن } بقوله : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } بالهداية والتوفيق { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } بالخذلان أي يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يقولوا لهم إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر . قوله : { إن الشيطان ينزع بينهم } . اعتراض { وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظاً لأعمالهم وموكولاً إليك أمرهم وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بالمداراة { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السماوات والأرض } وبأحوالهم وبكل ما يستأهل كل واحد منهم .
{ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } فيه إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : { وءاتينا داوُود زَبوراً } دلالة على وجه تفضيله وأنه خاتم الأنبياء ، وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مكتوب في زبور داود قال الله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وهم محمد وأمته . ولم يعرف الزبور هنا وعرفه في قوله : { ولقد كتبنا في الزبور } لأنه كالعباس وعباس والفضل وفضل

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

{ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم } إنها آلهتكم { مِن دُونِهِ } من دون الله وهم الملائكة ، أو عيسى وعزير ، أو نفر من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } أي ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب ، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر { أولئك } مبتدأ { الذين يَدْعُونَ } صفة أي يدعونهم آلهة أو يعبدونهم والخبر { يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله عز وجل { أَيُّهُم } بدل من واو يبتغون و«أي» موصولة أي يبتغي من هو { أَقْرَبُ } منهم الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إِلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ } كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم { وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا } قبل الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة { كَانَ ذلك فِى الكتاب } في اللوح المحفوظ { مَسْطُورًا } مكتوباً . وعن مقاتل : وجدت في كتب الضحاك في تفسيرها : أما مكة فيخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق والرواجف . أما خراسان فعذابها ضروب ، وأما بلخ فتصيبهم هدَّة فيهلك أهلها ، وأما بدخشان فيخربها أقوام ، وأما ترمذ فأهلها يموتون بالطاعون ، وأما صغانيان إلى ولشجرد فيقتلون بقتل ذريع ، وأما سمرقند فيغلب عليها بنو قنطوراء فيقتلون أهلها قتلاً ذريعاً ، وكذا فرغانة والشاش واسبيجاب وخوارزم ، وأما بخارى فهي أرض الجبابرة فيموتون قحطاً وجوعاً ، وأما مرو فيغلب عليها الرمل ويهلك بها العلماء والعباد ، وأما هراة فيمطرون بالحيات فتأكلهم أكلاً ، وأما نيسابور فيصيب أهلها رعد وبرق وظلمة فيهلك أكثرهم ، وأما الري فيغلب عليها الطبرية والديلم فيقتلونهم ، وأما أرمينية وأذربيجان فيهلكها سنابك الخيول والجيوش والصواعق والرواجف ، وأما همذان فالديلم يدلخها ويخربها ، وأما حلوان فتمر بها ريح ساكنة وهم نيام فيصبح أهلها قردة وخنازير ثم يخرج رجل من جهينة فيدخل مصر ، فويل لأهلها ولأهل دمشق ، وويل لأهل إفريقية وويل لأهل الرملة ، ولا يدخل بيت المقدس ، وأما سجستان فيصيبهم ريح عاصف أياماً ثم هدة تأتيهم ويموت فيها العلماء وأما كرمان وأصبهان وفارس فيأتيهم عدو وصاحوا صيحة تنخلع القلوب وتموت الأبدان .

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } استعير المنع لترك إرسال الآيات . و«أن» الأولى مع صلتها في موضع النصب لأنها مفعول ثان ل { منعنا } و«أن» الثانية مع صلتها في موضع الرفع لأنها فاعل { منعنا } والتقدير : وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين . والمراد الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهباً ومن إحياء الموتى وغير ذلك وسنة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال . والمعنى : وما منعنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وعذبوا العذاب المستأصل ، وقد حكمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة . ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح عليه السلام ، لأن آثار هلاكهم قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال : { وءَاتينا ثمود الناقة } باقتراحهم { مُبْصِرَةً } آية بينة { فَظَلَمُواْ بِهَا } فكفروا بها { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات } إن أراد بها الآيات فالمعنى لا نرسلها { إِلاَّ تَخْوِيفًا } من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له ، فإن لم يخافوا وقع عليهم ، وإن أراد غيرها فالمعنى وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفاً وإنذاراً بعذاب الآخرة وهو مفعول له .

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

{ وَإذا قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش علماً وقدرة فكلهم في قبضته ، فلا تبال بهم وامض لأمرك وبلغ ما أرسلت به ، أو بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم وذلك قوله : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 12 ] فجعله كأن قد كان ووجد فقال : أحاط بالناس على سنته في إخباره ، ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : « والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم » وهو يومىء إلى الأرض ويقول : « هذا مصرع فلان » فتسامعت قريشاً بما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر بدر وما أري في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويسخرون ويستعجلون به استهزاء . { والشجرة الملعونة فِى القرءان } أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ، فإنهم حين سمعوا بقوله : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } [ الدخان : 43 ] جعلوها سخرية وقالوا : إن محمداً يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ، ثم يقول : تنبت فيها الشجرة وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار فوبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار ، فذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار وترى النعامة تبتلع الجمر فلا يضرها ، وخلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها ، فجاز أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها . والمعنى أن الآيات إنما ترسل تخويفاً للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم . ثم قال : { وَنُخَوّفُهُمْ } أي بمخاوف الدنيا والآخرة { فَمَا يَزِيدُهُمْ } التخويف { إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟ وقيل : الرؤيا هي الإسراء ، والفتنة ارتداد من استعظم ذلك وبه تعلق من يقول : كان الإسراء في المنام ، ومن قال : كان في اليقظة فسر الرؤيا بالرؤية . وإنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له لعلها رؤيا رأيتها استبعاداً منهم كما سمى أشياء بأساميها عند الكفرة كقوله { فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ } [ الصافات : 91 ] { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } [ النحل : 27 ] أو هي رؤيا أنه سيدخل مكة ، والفتنة الصد بالحديبية . فإن قلت : ليس في القرآن ذكر لعن شجرة الزقوم . قلت : معناه : والشجرة الملعون آكلها وهم الكفرة لأنه قال { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون * لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } [ الواقعة : 53 ، 52 ] فوصفت بلعن أهلها على المجاز ، ولأن العرب تقول : لكل طعام مكروه ضار ملعون ، ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)

{ وَإِذا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُد لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } هو تمييز أو حال من الموصول ، والعامل فيه { أأسجد } على أأسجد له وهو طين أي أصله طين { قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذى } الكاف لا موضع لها لأنها ذكرت للخطاب تأكيداً هذا مفعول به والمعنى أخبرني عن هذا الذي { كَرَّمْتَ عَلَيَّ } أي فضلته ، لم كرمته علي وأنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، فحذف ذلك اختصاراً لدلالة ما تقدم عليه . ثم ابتدأ فقال : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } وبلا ياء : كوفي وشامي . واللام موطئة للقسم المحذوف { إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } لأستأصلنهم بإغوائهم { إِلاَّ قَلِيلاً } وهم المخلصون . قيل : من كل ألف واحد . وإنما علم الملعون ذلك بالإعلام أو لأنه رأى أنه خلق شهواني .

قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)

{ قَالَ اذهب } ليس من الذهاب الذي هو ضد المجيء وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلاناً وتخلية . ثم عقبه بذكر ما جره سوء اختياره فقال : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } والتقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤك ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل { جزاؤكم } وانتصب { جَزَاء مَّوفُورًا } أي موفراً بإضمار تجازون { واستفزز } استزل أو استخف استفزه أي استخفه والفز الخفيف . { مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } بالوسوسة أو بالغناء أو بالمزمار { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } اجمع وصح بهم من الجلبة وهو الصياح { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } بكل راكب وماش من أهل العيث ، فالخيل الخيالة ، والرجل اسم جمع للراجل ونظيره الركب والصحب { ورجلك } حفص على أن فعلاً بمعنى فاعل كتعب وتاعب ، ومعناه وجمعك الرِجل وهذا لأن أقصى ما يستطاع في طلب الأمور الخيل والرجل . وقيل : يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال { وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال والأولاد } قال الزجاج : كل معصية في مال وولد فإبليس شريكهم فيها كالربا والمكاسب المحرمة والبحيرة والسائبة والإنفاق في الفسوق والإسراف ومنع الزكاة والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام والتسمية بعبد العزى وعبد شمس { وَعِدْهم } المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } هو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب { أَن عِبَادِى } الصالحين { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } يد بتبديل الإيمان ولكن بتسويل العصيان { وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً } لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك أو حافظاً لهم عنك ، والكل أمر تهديد فيعاقب به أو إهانة أي لا يخل ذلك بملكي .
{ رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى } يجري ويسير { لَكُمُ الفلك فِى البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني الربح في التجارة { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . }

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِى البحر } أي خوف الغرق { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } ذهب عن أوهامكم كل من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده فإنكم لا تذكرون سواه ، أو ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله وحده الذي ترجونه على الاستثناء المنقطع { فَلَمَّا نجاكم إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } عن الإخلاص بعد الخلاص { وَكَانَ الإنسان } أي الكافر { كَفُورًا } للنعم { أَفَأَمِنتُمْ } الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تفديره : أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض { أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } انتصب { جانب } ب { يخسف } مفعولاً به كالأرض في قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] و { بكم } حال ، والمعنى أن يخسف جانب البر أي يقلبه وأنتم عليه ، والحاصل أن الجوابب كلها في قدرته سواء وله في كل جانب أو براً كان أو بحراً ، من أسباب الهلاك ليس جانب البحر وحده مختصاً به ، بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر الخسف ، وهو تغييب تحت التراب والغرق تغييب تحت الماء ، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } هي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء يعني أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } يصرف ذلك عنكم { أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } أي أم أمنتم أن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم فينتقم منكم بأن يرسل عليكم { قَاصِفًا مّنَ الريح } وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد أو هو الكاسر للفلك { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } بكفرانكم النعمة هو إعراضكم حين نجاكم { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } مطالباً من قوله : { فاتباع بالمعروف } [ البقرة : 178 ] أي مطالبة ، والمعنى إنا نفعل ما نفعل بهم ثم لا تجدوا أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودركاً للنار من جهتنا وهذا نحو قوله : { وَلاَ يَخَافُ عقباها } [ الشمس : 16 ] { أن نخسف } { أو نرسل } { أن نعيدكم } { فنرسل } { فنغرقكم } بالنون : مكي وأبو عمرو .

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } بالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المعتدلة وتدبير أمر المعاش والمعاد والاستيلاء وتسخير الأشياء وتناول الطعام بالأيدي . وعن الرشيد أنه أحضر طعاماً فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردها وأكل بأصابعه { وحملناهم فِى البر } على الدواب { والبحر } على السفن { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } باللذيذات أو بما كسبت أيديهم { وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } أي على الكل كقوله { وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون } [ الشعراء : 223 ] قال الحسن : أي كلهم وقوله : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } [ يونس : 36 ] ذكر في الكشاف أن المراد بالأكثر الجميع . وعنه عليه السلام : " المؤمن أكرم على الله من الملائكة " وهذا لأنهم مجبولون على الطاعة ففيهم عقل بلا شهوة . وفي البهائم شهوة بلا عقل ، وفي الآدمي كلاهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو أكرم من الملائكة ، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم ، ولأنه خلق الكل لهم وخلقهم لنفسه { يَوْمَ نَدْعُواْ } منصوب ب «اذكر» { كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } الباء للحال والتقدير مختلطين بإمامهم أي بمن ائتموا به من نبي ، أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال : يا أتباع فلان ، يا أهل دين كذا أو كتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر { فَمَنْ أُوتِىَ } من هؤلاء المدعوين { كتابه بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم } وإنما قيل أولئك لأن «من» في معنى الجمع { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء . ولم يذكر الكفار وإيتاء كتبهم بشمالهم اكتفاء بقوله :

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)

{ وَمَن كَانَ فِى هذه } الدنيا { أعمى فَهُوَ فِى الآخرة أعمى } كذلك { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } من الأعمى أي أضل طريقاً ، والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه . وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل بدليل عطف { وأضل } ومن ثم قرأ أبو عمرو الأول ممالاً والثاني مفخماً ، لأن أفعل التفضيل تمامه ب «من» فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلمة فلا يقبل الإمالة وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف فقبلت الإمالة ، وأمالهما حمزة وعلي وفخمهما الباقون .
ولما قالت قريش اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك نزل { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية ، والمعنى إن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين { عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } لتتقول علينا ما لم نقل يعني ما اقترحوه من تبديل الوعد وعيداً والوعيد وعداً { وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك خليلا ولكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك } ولولا تثبيتنا وعصمتنا { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } لقاربت أن تميل إلى مكرهم { شَيْئًا قَلِيلاً } ركوناً ، قليلاً وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت .

إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)

{ إِذَا } لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة { إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات } لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين لعظيم ذنبك بشرف منزلتك ونبوتك كما قال : { يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة } [ الأحزاب : 30 ] الآية . وأصل الكلام لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان : عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار . والعذاب يوصف بالضعف كقوله : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] أي مضاعفاً فكأن أصل الكلام لأذقناك عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل ضعف الحياة وضعف الممات . ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار . وفي ذكر الكيدودة وتقليلها مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله ، ولما نزلت كان عليه السلام يقول : " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } معيناً لك يمنع عذابنا عنك .
{ وَإِن كَادُواْ } أي أهل مكة { لَيَسْتَفِزُّونَكَ } ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم { مّنَ الأرض } من أرض مكة { لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ } لا يبقون { خلافك } بعدك أي بعد إخراجك { خلافك } كوفي غير أبي بكر وشامي بمعناه { إِلاَّ قَلِيلاً } زماناً قليلاً فإن الله مهلكهم وكان كما قال : فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل ، أو معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم ولم يخرجوه بل هاجر بأمر ربه . وقيل : من أرض العرب أو من أرض المدينة { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم ، ونصبت نصب المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } تبديلاً .
{ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } لزوالها . على هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ، أو لغروبها وعلى هذا يخرج الظهر والعصر { إلى غَسقِ الليل } هو الظلمة وهو وقت صلاة العشاء { وقرءان الفجر } صلاة الفجر سميت قرآناً وهو القراءة لكونها ركناً كما سميت ركوعاً وسجوداً ، وهو حجة على الأَصم حيث زعم أن القراءة ليست بركن ، أو سميت قرآناً لطول قراءتها وهو عطف على { الصلاة } { إن قرءان الفجر كان مشهوداً } يشهده ملائكة الليل والنهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار ، أو يشهده الكثير من المصلين في العادة { وَمِنَ اليل } وعليك بعض الليل { فَتَهَجَّدْ } والتهجد ترك الهجود للصلاة ويقال في النوم أيضاً تهجد { بِهِ } بالقرآن { نَافِلَةً لَّكَ } عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس ، وضع { نافلة } موضع «تهجداً» لأن التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد ، والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة غنيمة لك أو فريضة عليك خاصة دون غيرك لأنه تطوع لهم { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } نصب على الظرف أي عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاماً محموداً ، أو ضمن يبعثك معنى يقيمك وهو مقام الشفاعة عند الجمهور ، ويدل عليه الأخبار أو هو مقام يعطى فيه لواء الحمد .

{ وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ } هو مصدر أي أدخلني القبر إدخالاً مرضياً على طهارة من الزلات { وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } أي أخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من الملامة ، دليله ذكره على أثر ذكر البعث . وقيل : نزلت حين أمر بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة ، أو هو عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من أمر ومكان { واجعل لّي مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا } حجة تنصرني على من خالفني أو ملكاً وعزاً قوياً ناصراً للإسلام على الكفر مظهراً له عليه { وَقُلْ جَاء الحق } الإسلام { وَزَهَقَ } وذهب وهلك { الباطل } الشرك أو جاء القرآن وهلك الشيطان { إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } كان مضمحلاً في كل أوان .

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)

{ وَنُنَزّلُ } وبالتخفيف : أبو عمرو { مِن القرآن } «من» للتبيين { مَا هُوَ شِفَاء } من أمراض القلوب { وَرَحْمَةً } وتفريج للكروب وتطهير للعيوب وتكفير للذنوب { لِلْمُؤْمِنِينَ } وفي الحديث : " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله " { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين } الكافرين { إَلاَّ خَسَارًا } ضلالاً لتكذيبهم به وكفرهم { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } بالصحة والسعة { أَعْرَضَ } عن ذكر الله أو أنعمنا بالقرآن أعرض { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } تأكيد للإعراض لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أي يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره ، أو أراد الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين { نأى } بالأمالة : حمزة وبكسرها عليَّ { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } الفقر والمرض أو نازلة من النوازل { كَانَ يَئُوساً } شديد اليأس من روح الله { قُلْ كُلٌّ } أي كل أحد { يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } أسد مذهباً وطريقة .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } أي من أمر يعلمه ربي ، الجمهور على أنه الروح الذي في الحيوان ، سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله أي مما استأثر بعلمه . وعن أبي هريرة : لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح ، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه . والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز ، ولذا رد ما قيل في حده أنه جسم دقيق هوائي في كل جزء من الحيوان . وقيل : هو خلق عظيم روحاني أعظم من الملك . وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو جبريل عليه السلام : { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 ] وعن الحسن : القرآن دليله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] ولأن به حياة القلوب و { من أمر ربي } أي من وحيه وكلامه ليس من كلام البشر . ورُوي أن اليهود بعثت إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عن الكل أو سكت عن الكل فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم . وقيل : كان السؤال عن خلق الروح يعني أهو مخلوق أم لا . وقوله : { من أمر ربي } دليل خلق الروح فكان هذا جواباً { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } الخطاب عام
فقد رُويَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال : " بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً " وقيل : هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 269 ] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله . فالقلة والكثرة من الأمور الإضافية ، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله تعالى فهي قليلة . ثم نبه على نعمة الوحي وعزاه بالصبر على أذى الجدال في السؤال بقوله :

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)

{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } { لنذهبن } جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط ، واللام الداخلة على «إن» توطئة للقسم ، والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف فلم نترك له أثراً { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } أي ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطوراً .

إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)

{ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } أي إلا إن يرحمك ربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد ، أو يكون على الاستثناء المنقطع أي ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به ، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه ونزل جواباً لقول النضر : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 21 ]
{ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } معيناً و { لا يأتون } جواب قسم محذوف ، ولولا اللام الموطئة لجاز أن يكون جواباً للشرط كقوله :
يقول لا غائب مالي ولا حرم ... لأن الشرط وقع ماضياً أي لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه لعجزوا عن الإتيان بمثله { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } رددنا وكررنا { لِلنَّاسِ فِي هذا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه { فأبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } جحوداً . وإنما جاز { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } ولم يجز «ضربت إلا زيداً» لأن أبى متأول بالنفي كأنه قيل : فلم يرضوا إلا كفوراً . ولما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر ولزمتهم بالحجة وغلبوا اقترحوا الآيات فعل المبهوت المحجوج المتحير .
{ وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تفْجُرَ لَنَا } وبالتخفيف : كوفي { مِنَ الأرْضِ } أي مكة { يَنبُوعاً } عيناً غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع ، يفعول من نبع الماء { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ } والتشديد هنا مجمع عليه { الأنْهَارَ خَلالَهَا } وسطها { تَفْجيراً } .

أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)

{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } بفتح السين : مدني وعاصم . أي قطعاً يقال : أعطني كسفة من هذا الثوب . وبسكون السين : غيرهما جمع كسفة كسدرة وسدر يعنون قوله { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } { [ سبأ : 9 ] } أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً } كفيلاً بما تقول شاهداً بصحته ، والمعنى أو تأتي بالله قبيلاً وبالملائكة قبلاً كقوله : «كنت منه ووالدي برياً» أو مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه : { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [ الفرقان : 21 ] أو جماعة حالاً من الملائكة { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } ذهب { أَوْ ترقى في السَّمَآءِ } تصعد إليها { وَلَنْ نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ } لأجل رقيك { حتى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا } وبالتخفيف : أبو عمرو { كِتاباً } أي من السماء فيه تصديقك { تقرؤُه } صفة كتاب { قُلْ } { قال } مكي وشامي أي قال الرسول { سُبْحَانَ رَبِّي } تعجب من اقتراحاتهم عليه { هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أي أنا رسول كسائر الرسل بشر مثلهم ، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات فليس أمر الآيات إلى إنما هو إلى الله ، فما بالكم تتخيرونها علي { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } يعني أهل مكة ، ومحل { أَن يُؤْمِنُوا } نصب بأنه مفعول ثان ل { منع } { إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } النبي والقرآن { إِلاَّ أَن قَالُوا } فاعل { منع } والتقدير : وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا قولهم { أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } أي إلا شبهة تمكنت في صدورهم وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر ، والهمزة في { أبعث الله } للإنكار وما أنكروه ففي قضية حكمته منكر .
ثم رد الله عليهم بقوله :

قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)

{ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ } على أقدامهم كما يمشي الإنس ، ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه { مُطْمَئِنِّينَ } حال أي ساكنين في الأرض قارين { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } يعلمهم الخير ويهديهم المراشد ، فأما الإنس فإنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم و { بشراً } و { ملكاً } حالان من { رسولاً } { قُلْ كفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم كذبتك وعاندتم . { شهيداً } تمييز أو حال { إِنَّهُ كَان بِعِبَادِهِ } المنذرين والمنذرين { خَبِيراً } عالماً بأحوالهم { بَصِيراً } بأفعالهم فهو مجازيهم وهذه تسلية لرسول الله عليه السلام ووعيد للكفرة { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } وبالياء : يعقوب وسهل ، وافقهما أبو عمرو ، ومدني في الوصل أي من وفقه الله لقبول ما كان من الهدى فهو المهتدي عند الله { وَمَنْ يُضْلِلْ } أي ومن يخذله ولم يعصمه حتى قبل وساوس الشيطان { فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } أي أنصاراً { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على وُجُوهِهِمْ } أي يسحبون عليها كقوله { يوم يسحبون في النار على وجوههم } [ القمر : 48 ] وقيل لرسول الله عليه الصلاة والسلام كيف يمشون على وجوههم؟ قال : « إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم » { عُمْياً وَبُكْماً وَصُمَّاً } كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن استماعه ، فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ } طفئ لهبها { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } توقدا .

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)

{ ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوآ أَئذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } أي ذلك العذاب بسبب أنهم كذبوا بالإعادة بعد الإفناء فجعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها ثم يعيدها ، لا يزالون على ذلك ليزيد في تحسرهم على تكذيبهم البعث .
{ أَوَ لَمْ يَرَوْا } أو لم يعلموا { أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } من الإنس { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجلاً لاَّ رَيْبَ فِيه } وهو الموت أو القيامة { فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كَفُوراً } جحوداً مع وضوح الدليل { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } تقديره : لو تملكون أنتم لأن «لو» تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من فعل بعدها فأضمر تملك على شريطة التفسير وأبدل من الضمير المتصل وهو الواو ضمير منفصل وهو أنتم لسقوط ما يتصل به من اللفظ ف { أنتم } فاعل الفعل المضمر و { تملكون } تفسيره ، وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب . وأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن { أنتم تملكون } فيه دلالة على الاختصاص وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ { خَزَآئِنَ رَحْمَةِ ربي } رزقه وسائر نعمه على خلقه { إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفَاقِ } أي لبخلتم خشية أن يفنيه الإنفاق { وَكَانَ الإنْسانُ قَتُوراً } بخيلاً .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل . وعن الحسن : الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور { فَاسْألْ بني إِسْرَاءِيلَ } فقلنا له اسأل بني إسرائيل أي سلهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل . وقوله { إِذْ جاءهم } متعلق بقوله المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم { فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً } سحرت فخولط عقلك
.

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)

{ قَالَ } أي موسى { لَقَدْ عَلِمْتَ } يا فرعون { مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ } الآيات { إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } خالقهما { بَصَآئِرَ } حال أي بينات مكشوفات إلا أنك معاند ونحوه { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [ النمل : 14 ] { علمت } بالضم : عليّ أي إني لست بمسحور كما وصفتني بل أنا عالم بصحة الأمر ، وأن هذه الآيات منزلها رب السماوات والأرض . ثم قارع ظنه بظنه بقوله : { وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَافرِعَوْنُ مَثْبُوراً } كأنه قال : إن ظننتني مسحوراً فأنَا أظنك مثبوراً هالكاً وظني أصح من ظنك لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها ، وأما ظنك فكذب بحت ، لأن قولك مع علمك بصحة أمري { إني لأظنك مسحوراً } قول كذب . وقال الفراء : مثبوراً مصروفاً عن الخير من قولهم «ما ثبرك عن هذا» أي ما منعك وصرفك؟ { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم } يخرجهم أي موسى وقومه { مِّنَ الأرْضِ } أي أرض مصر أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ } من بعد فرعون { لبني إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ } التي أراد فرعون أن يستفزكم منها . { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرَةِ } أي القيامة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } جمعاً مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز بين سعدائكم وأشقيائكم ، واللفيف الجماعات من قبائل شتى .
{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين . قال الراوي : اشتكى محمد بن السماك فأخذنا ماءه وذهبنا به إلى طبيب نصراني ، فاستقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة نقي الثوب فقال لنا : إلى أين؟ فقلنا له : إلى فلان الطبيب نريه ماء ابن السماك . فقال : سبحان الله تستعينون على ولي الله بعدو الله! اضربوه على الأرض وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له : ضع يدك على موضع الوجع وقل : { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } ثم غاب عنا فلم نره فرجعنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك فوضع يده على موضع الوجع وقال ما قال الرجل وعوفي في الوقت وقال : كان ذلك الخضر عليه السلام { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً } بالجنة { وَنَذِيراً } من النار .

وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)

{ وَقُرْآناً } منصوب بفعل يفسره { فَرَقْنَاهُ } أي فصلناه أو فرقنا فيه الحق من الباطل { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ على مُكْثٍ } على تؤدة وتثبت { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } على حسب الحوادث { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا } أي اختاروا لأنفسكم النعيم المقيم أو العذاب الأليم . ثم علل بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ } أي التوراة من قبل القرآن { إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } القرآن { يُخِرُّونَ للأذْقَانِ سُجَّداً } حال { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } لقوله { آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي أعرض عنهم فإنهم إن لم يؤمنوا به ولم يصدقوا بالقرآن فإن خيراً منهم وهم العلماء الذين قرءوا الكتب قد آمنوا به وصدقوه ، فإذا تلي عليهم خروا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه وهو المراد بالوعد المذكور . «إن» بمعنى «إنه» وهي تؤكد الفعل كما أن «إن» تؤكد الاسم ، وكما أكدت «إن» باللام في { إنهم لمحضرون } [ الصافات : 158 ] أكدت «إن» باللام في { لمفعولا }

وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

{ وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ } ومعنى الخرور للذقن السقوط على الوجه ، وإنما خص الذقن لأن أقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض عند السجود الذقن . يقال : خر على وجهه وعلى ذقنه ، وخر لوجهه ولذقنه . أما معنى «على» فظاهر ، وأما معنى اللام فكأنه جعل ذقنه ووجهه للخرور ، واختصه به إذ اللام للاختصاص . وكرر { يخرون للأذقان } لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين وخرورهم في حال كونهم باكين { وَيَزِيدُهُمْ } القرآن { خُشُوعاً } لين قلب ورطوبة عين .
{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرحمن } لما سمعه أبو جهل يقول يا الله يا رحمن قال : إنه نهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر فنزلت . وقيل : إن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت . والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء ، وأو للتخيير أي سموا بهذا الاسم ، أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا ، والتنوين في { أَيَّا مَّا تَدْعُوا } عوض من المضاف إليه و«ما» زيدت للتوكيد و«أياً» نصب ب { تدعوا } وهو مجزوم بأي أي أي هذين الاسمين ذكرتم وسميتم { فَلَهُ الأسْمَآءُ الحسنى } والضمير في { فله } يرجع إلى ذات الله تعالى ، والفاء لأنه جواب الشرط أي أيَّاماً تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله : { فله الأسماء الحسنى } لأنه إذا حسنت أسماؤه حسن هذان الاسمان لأنهما منها ، ومعنى كونها أحسن الأسماء إنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } بقراءة صلاتك على حذف المضاف لأنه لا يلبس ، إذ الجهر والمخافتة تعتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا فأمر بأن يخفض من صوته ، والمعنى ولا تجهر حتى تسمع المشركين { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } حتى لا تسمع من خلفك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ } بين الجهر والمخافتة { سَبِيلاً } وسطاً ، أو معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار أو بصلاتك بدعائك { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } كما زعمت اليهود والنصارى وبنو مليح { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } كما زعم المشركون { وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ } أي لم يذل فيحتاج إلى ناصر أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } وعظمه وصفه بأنه أكبر من أن يكون له ولد أو شريك وسمى النبي عليه السلام الآية آية العز وكان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)

{ الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { الكتاب } القرآن ، لقن الله عباده ووفقهم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام ، وما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } أي شيئاً من العرج والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، يقال في رأيه عوج وفي عصاه عوج ، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وخروج شيء منه من الحكمة { قَيِّماً } مستقيماً وانتصابه بمضمر وتقديره ، جعله قيماً لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة ، وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر التأكيد ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند التصفح ، أو قيماً على سائر الكتب مصدقا لها شاهداً بصحتها { لّيُنذِرَ } «أنذر» متعدٍ إلى مفعولين كقوله : { إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] فاقتصر على أحدهما ، وأصله لينذر الذين كفروا { بَأْسًا } عذاباً { شَدِيداً } وإنما اقتصر على أحد مفعولي «أنذر» لأن المنذر به هو المسوق إليه فاقتصر عليه { مِن لَّدُنْهُ } صادراً من عنده { وَيُبَشّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم { أَجْرًا حَسَنًا } أي الجنة ، { ويبشر } حمزة وعليَّ .

مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)

{ مَّاكِثِينَ } حال من «هم» في { لهم } { فِيهِ } في الأجر وهو الجنة { أَبَدًا وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } ذكر المنذرين دون المنذر به بعكس الأول استغناء بتقديم ذكره .
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي بالولد أو باتخاذه يعني أن قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط فإن قلت : إتخاذ الله ولداً في نفسه محال فكيف قيل { ما لهم به من علم } قلت : معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه ، أو لأنه في نفسه محال . { وَلاَ لائَبَائِهِمْ } المقلدين { كَبُرَتْ كَلِمَةً } نصب على التمييز وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أكبرها كلمة! والضمير في { كبرت } يرجع إلى قولهم { اتخذ الله ولداً } وسميت كلمة كما يسمعون القصيدة بها { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } صفة ل { كلمة } تفيد استعظاماً لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيراً مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوهوا به بل يكظمون عليه فكيف بمثل هذا المنكر { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } ما يقولون ذلك إلا كذباً هو صفة لمصدر محذوف أي قولاً كذباً { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } قاتل نفسك { على ءاثارهم } أي آثار الكفار ، شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الأسف على توليهم برجل فارقه أحبته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفا على فراقهم { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } بالقرآن { أَسَفاً } مفعول لهُ أي لفرط الحزن ، والأسف المبالغة في الحزن والغضب { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } أي ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها . ثم زهد في الميل إليها بقوله :

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)

{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا } من هذه الزينة { صَعِيداً } أرضاً ملساء { جُرُزاً } يابساً لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة ، والمعنى نعيدها بعد عمارتها خراباً بإماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك .
ولما ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن قال : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم } يعني أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة ، والكهف : الغار الواسع في الجبل والرقيم اسم كلبهم أو قريتهم أو اسم كتاب كتب في شأنهم أو اسم الجبل الذي فيه الكهف { كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا } أي كانوا آية عجباً من آياتنا وصفاً بالمصدر أو على ذات عجب { إِذْ } أي اذكر إذ { أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رحمةً } أي رحمة من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء { وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } أي الذي نحن عليه من مفارقة الكفار { رَشَدًا } حتى نكون بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا رشداً كله كقولك «رأيت منك أسداً»أو يسر لنا طريق رضاك { فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف } أي ضربنا عليها حجاباً من النوم يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأَصوات فحذف المفعول الذي هو الحجاب { سِنِينَ عَدَدًا } ذوات عدد فهو صفة لسنين . قال الزجاج : أي تعد عدداً لكثرتها لأن القليل يعلم مقداره من غير عدد فإذا كثر عُدَّ فأما { دراهم معدودة } [ يوسف : 20 ] فهي على القلة لأنهم كانوا يعدون القليل ويزنون الكثير { ثُمَّ بعثناهم } أيقظناهم من النوم { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } المختلفين منهم في مدة لبثهم لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك وذلك قوله { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } وكان الذين قالوا { ربكم أعلم بما لبثتم } هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول ، أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم { أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا } غاية . و { أحصى } فعل ماض و { أمدا } ظرف ل { أحصى } أو مفعول له ، والفعل الماضي خبر المبتدأ وهو أي والمتبدأ مع خبره سد مسد مفعولي «نعلم» . والمعنى أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم وأحاط علماً بأمد لبثهم؟ ومن قال : «أحصى» أفعل من الإحصاء وهو العد فقد زل لأن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس . وإنما قال : { لنعلم } مع أنه تعالى لم يزل عالماً بذلك ، لأن المراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيماناً واعتباراً ، وليكون لطفاً لمؤمني زمانهم ، وآية بينة لكفاره . أو المراد لنعلم اختلافهما موجوداً كما علمناه قبل وجوده .

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)

{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق } بالصدق { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } جمع فتى والفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى واجتناب المحارم واستعمال المكارم . وقيل : الفتى من لا يدعي قبل الفعل ولا يزكي نفسه بعد الفعل { ءَامَنُواْ بِرَبّهِمْ وزدناهم هُدًى } يقينا ، وكانوا من خواص دقيانوس قد قذف الله في قلوبهم الإيمان وخاف بعضهم بعضاً وقالوا : ليخل اثنان اثنان منا فيظهر كلاهما ما يضمر لصاحبه ففعلوا فحصل اتفاقهم على الإيمان { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } وقويناها بالصبر على هجران الأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام { إِذْ قَامُواْ } بين يدي الجبار وهو دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض } مفتخرين { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } ولئن سميناهم آلهة { لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } قولاً ذا شطط وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من شط يشط ويشط إذا بعد .

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)

{ هَؤُلاء } مبتدأ { قَوْمُنَا } عطف بيان { اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } خبر وهو إخبار في معنى الإنكار { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم } هلا يأتون على عبادتهم فحذف المضاف { بسلطان بَيّنٍ } بحجة ظاهرة وهو تبكيت لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } بنسبة الشريك إليه .
{ وَإِذِ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } نصب عطف على الضمير أي وإذ اعتزلتموهم وإذ اعتزلتم معبوديهم { إِلاَّ الله } استثناء متصل لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه غيره كأهل مكة ، أو منقطع أي وإذ اعتزلتم الكفار والأصنام التي يعبدونها من دون الله ، أو هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله { فَأْوُواْ إِلَى الكهف } صيروا إليه أو اجعلوا الكهف مأواكم { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ } من رزقه { وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا } { مَرفقاً } مدني وشامي وهو ما يرتفق به أي ينتفع . وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم ، أو أخبرهم به نبي في عصرهم { وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ } بتخفيت الزاي : كوفي ، { تزَّور } شامي ، { تزَّاور } غيرهم وأصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها والكل من الزور وهو الميل ، ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور الميل عن الصدق { عَن كَهْفِهِمْ } أي تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم { ذَاتَ اليمين } جهة اليمين وحقيقتها الجهة المسماة باليمين { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } تقطعهم أي تتركهم وتعدل عنهم { ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ } في متسع من الكهف . والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم . وقيل : منفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسون كرب الغار { ذلك مِنْ آيات الله } أي ما صنعه الله بهم من إزورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آيات الله يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة . وقيل : باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبداً ، ومعنى ذلك من آيات الله أن شأنهم وحديثهم من آيات الله { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } مثل ما مر في «سبحان» وهو ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا } أي من أضله فلا هادي له .

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)

{ وَتَحْسَبُهُمْ } بفتح السين : شامي وحمزة وعاصم غير الأعشى ، وهو خطاب لكل أحد { أَيْقَاظًا } جمع يقظ { وَهُمْ رُقُودٌ } نيام . قيل : عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظاً { وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } قيل : لهم تقلّبتان في السنة . وقيل : تقلبة واحدة في يوم عاشوراء { وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ } حكاية حال ماضية لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي { بالوصيد } بالفناء أو بالعتبة { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ } لو أشرفت عليهم فنظرت إليهم { لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ } لأعرضت عنهم وهربت منهم { فِرَاراً } منصوب على المصدر لأن معنى { وليت منهم } فررت منهم { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ } ويتشديد اللام : حجازي للمبالغة { رُعْبًا } تمييز . وبضم العين : شامي وعلي ، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة أو لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم . وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : أريد أن أدخل فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لقد قيل لمن هو خير منك { لوليت منهم فراراً } فدخلت جماعة بأمره فأحرقتهم ريح .

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)

{ وكذلك بعثناهم } وكان أنمناهم تلك النومة كذلك أيقظناهم إظهاراً للقدرة على الإنامة والبعث جميعاً { لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ } ليسأل بعضهم بعضاً ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ويزدادوا يقيناً ويشكروا ما أنعم الله به عليهم { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } رئيسهم { كَمْ لَبِثْتُمْ } كم مدة لبثكم؟ { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } جواب مبني على غالب الظن ، وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } بمدة لبثكم إنكار عليهم من بعضهم كأنهم قد علموا بالأدلة أو بإلهام أن المدة متطاولة وأن مقدارها لا يعلمه إلا الله . ورُوي أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال فظنوا أنهم في يومهم ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك : وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما على أن الصحيح عددهم سبعة لأنه قد قال في الآية : { قال قائل منهم كم لبثتم } وهذا واحد ، وقالوا في جوابه { لبثنا يوماً أو بعض يوم } وهو جمع وأقله ثلاثة ، ثم قال { ربكم أعلم بما لبثتم } وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة { فابعثوا أَحَدَكُمْ } كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى علمه فخذوا في شيء آخر مما يهمكم فابعثوا أحدكم أي يمليخا { بِوَرِقِكُمْ } هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وبسكون الراء : أبو عمرو وحمزة وأبو بكر { هذه إلى المدينة } هي طرسوس وحملهم الورق عند فرارهم دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات . وعن بعض العلماء أنه كان شديد الحنين إلى بيت الله ويقول : ما لهذا السفر إلا شيئان شد الهميان والتوكل على الرحمن { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا } أي أهلها فخذف كما في { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] و«أي» مبتدأ وخبره { أزكى } أحل وأطيب أو أكثر وأرخص { طَعَامًا } تمييز { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن أو في أمر التخفي حتى لا يعرف { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور بنا من غير قصد منه فسمى ذلك إشعاراً منه بهم لأنه سبب فيه .

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)

والضمير في { أَنَّهُمْ } راجع إلى الأهل المقدر في { أيها } { إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } يطلعوا عليكم { يَرْجُمُوكُمْ } يقتلوكم أخبث القتلة { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ } بالإكراه ، والعود بمعنى الصيرورة كثير في كلامهم { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا } { إذاً } يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن دخلتم في دينهم أبداً .
{ وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } وكما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم { لِيَعْلَمُواْ } أي الذين أطلعناهم على حالهم { أَنَّ وَعْدَ الله } وهو البعث { حَقّ } كائن لأن حالهم في نومهم وانتباههم بعدها كحال من يموت ثم يبعث { وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا } فإنهم يستدلون بأمرهم على صحة البعث { إِذْ يتنازعون } متعلق ب { أعثرنا } أي أعثرناهم عليهم حين يتنازع أهل ذلك الزمان { بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث فكان بعضهم يقول : تبعث الأرواح دون الأجساد ، وبعضهم يقول : تبعث الأجساد مع الأرواح ليرتفع الخلاف وليتبين أن الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت { فَقَالُواْ } حين توفى الله أصحاب الكهف { ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا } أي على باب كهفهم لئلا يتطرق إليهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا { ربهم أعلم بهم } أو من كلام الله عز وجل رداً لقول الخائضين في حديثهم { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ } على باب الكهف { مَّسْجِدًا } يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم .
رُوي أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها وممن شدد في ذلك دقيانوس ، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه ، ثم هربوا إلى الكهف ومروا بكلب فتبعهم فطردوه . فأنطقه الله تعالى فقال : ما تريدون مني إني أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم . وقيل : مرواً براعٍ معه كلب فتبعهم على دينهم ودخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم ، وقبل أن يبعثهم الله مَلِكَ مدينتهم رجل صالح مؤمن ، وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين ، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يبين لهم الحق ، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سد به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه . ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقص عليه القصة ، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث . ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا .

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)

{ سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } الضمير في { سيقولون } لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين ، وأهل الكتاب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم فنزلت إخباراً بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم ، وأن المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم . ويُروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد : وكان يعقوبيا كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم . وقال العاقب : وكان نسطوريا كانوا خمسة سادسهم كلبهم . وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم . فحقق الله قول المسلمين . وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما ذكرنا من قبل . وعن علي رضي الله عنه : هم سبعة نفر أسماؤهم : يمليخا ومكشلينا ومشليينار هؤلاء أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس ، واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير . وسين الاستقبال وإن دخل في الأول دون الآخرين فهما داخلان في حكم السين كقولك «قد أكرم وأنعم» تريد معنى التوقع في الفعلين جميعاً ، أو أريد ب { يفعل } معنى الاستقبال الذي هو صالح له { ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلاثة ، وكذلك { خمسة } و { سبعة } و { رابعهم كلبهم } جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة ل { ثلاثة } وكذلك { سادسهم كلبهم } و { ثامنهم كلبهم رجماً بالغيب } رمياً بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله { ويقذفون بالغيب } [ سبأ : 53 ] أي يأتون به ، أو وضع الرجم موضع الظن فكأنه قيل : «ظنا» بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين . والواو الداخلة على الجملة الثالثة هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة النكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في قولك «جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف» وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف . والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر ، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا { سبعة وثامنهم كلبهم } قالوه عن ثبات علم ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم دليله أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله { رجماً بالغيب } وأتبع القول الثالث قوله { قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } أي قل ربي أعلم بعدّتهم وقد أخبركم بها بقوله { سبعة وثامنهم كلبهم } { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من ذلك القليل .

وقيل : إلا قليل من أهل الكتاب ، والضمير في { سيقولون } على هذا لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على ظن وتخمين { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ } فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف { إِلاَّ مِرَآء ظاهرا } إلا جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل لهم أو بمشهد من الناس ليظهر صدقك { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً } ولا تسأل أحداً منهم عن قصتهم سؤال متعنت له حتى يقول شيئاً فترده عليه وتزيف ما عنده ولا سؤال مسترشد لأن الله تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم .

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء } لأجل شيء تعزم عليه { إِنّى فَاعِلٌ ذلك } الشيء { غَداً } أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أن تقوله بأن يأذن ذلك لك فيه ، أو ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله أي إلا بمشيئته ، وهو في موضع الحال أي إلا ملتبساً بمشيئة الله قائلاً إن شاء الله . وقال الزجاج : معناه : ولا تقولن إني أفعل ذلك إلا بمشيئة الله تعالى ، لأن قول القائل «أنا أفعل ذلك إن شاء الله» معناه : لا أفعله إلا بمشيئة الله ، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه فقال : ائتوني غداً أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه { واذكر رَّبَّكَ } أي مشيئة ربك وقل إن شاء الله { إِذَا نَسِيتَ } إذا فرط منك نسيان لذلك ، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر ، عن الحسن : مادام في مجلس الذكر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ولو بعد سنة . وهذا محمول على تدارك التبرك بالاستثناء ، فأما الاستثناء المغير حكماً فلا يصح إلا متصلاً ، وحُكي أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع عليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه وأمر الطاعن فيه بإخراجه من عنده . أو معناه واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء تشديداً في البعث على الاهتمام بها ، أو صل صلاة نسيتها إذا ذكرتها ، أو إذا نسيت شيئاً فاذكره ليذكرك المنسي { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى لأَِقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا } يعني إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك ، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول : عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشداً وأدنى خيراً ومنفعه . { أن يهدين } ، { إن ترن } ، { أن يؤتين } ، { أن تعلمن } . مكى في الحالين ، ووافقه أبو عمرو ومدني في الوصل .

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)

{ وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةِ سِنِينَ } يريد لبثهم فيه أحياء مضروباً على آذانهم هذه المدة وهو بيان لما أجمل في قوله : { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً } وسنين عطف بيان لثلثمائة . ثلثمائة سنين بالإضافة : حمزة وعليّ ، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله { بالأخسرين أعمالاً } [ الكهف : 103 ] { وازدادوا تِسْعًا } أي تسع سنين لدلالة ما قبله عليه { تسعاً } مفعول به لأن «زاد» تقتضي مفعولين ف «ازداد» يقتضي مفعولاً واحداً { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي هو أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم والحق ما أخبرك به ، أو هو حكاية لكلام أهل الكتاب و { قل الله أعلم } رد عليهم ، والجمهور على أن هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى أنهم لبثوا في كهفهم كذا مدة { لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض } ذكر اختصاصه بعلم ما غاب في السماوات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي وأسمع به والمعنى ما أبصره بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع { مَالَهُم } لأهل السموات والأرض { مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ } من متول لأمورهم { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ } في قضائه { أَحَدًا } منهم ، ولا تشرك على النهي : شامي . كانوا يقولون له ائت بقرآن غير هذا أو بدله فقيل له : { واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ } أي من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل فإنه { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } أي لا يقدر أحد على تبديلها أو تغييرها إنما يقدر على ذلك هو وحده { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك . ولما قال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحِّ هؤلاء الموالي وهم صهيب وعمار وخباب وسلمان وغيرهم من فقراء المسلمين حتى نجالسك نزل :

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

{ واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } واحبسها معهم وثبتها { بالغداة والعشى } دائبين على الدعاء في كل وقت ، أو بالغداة لطلب التوفيق والتيسير ، والعشي لطلب عفو التقصير ، أوهما صلاة الفجر والعصر . { بالغُدوة } شامي { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } رضا الله { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } ولا تجاوز ، عداه إذا جاوزه وعدى ب «عن» لتضمن «عدا» معنى «نبا» في قولك «نبت عنه عينه» ، وفائدة التضمين إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى قد { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } في موضع الحال { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر وهو دليل لنا على أنه تعالى خالق أفعال العباد { واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } مجاوزاً عن الحق { وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ } أي الإسلام أو القرآن ، و { الحق } خبر مبتدأ محذوف أي هو { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } أي جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك . وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ماشاء من النجدين . ثم ذكر جزاء من اختار الكفر فقال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا } هيأنا { للظالمين } للكافرين فقيد بالسياق كما تركت حقيقة الأمر والتخيير بالسياق وهو قوله { إنا أعتدنا للظالمين } { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق وهي الحجرة التي تكون حول الفسطاط ، أو هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار ، أو هو حائط من نار يطيف بهم { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } من العطش { يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل } هو دردى الزيت أو ما أذيب من جواهر الأرض وفيه تهكم بهم { يَشْوِى الوجوه } إذا قدم ليشرب انشوى الوجوه من حرارته { بِئْسَ الشراب } ذلك { وَسَاءتْ } النار { مُرْتَفَقًا } متكأ من الرفق وهذه لمشاكلة قوله : { وحسنت مرتفقا } وإلا فلا ارتفاق لأهل النار .
وبين جزاء من اختار الإيمان فقال :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)

{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } كلام مستأنف بيان للأجر المبهم ، ولك أن تجعل { إنَّا لا نضيع } و { أولئك } خبرين معاً . والمراد من أحسن منهم عملاً كقولك «السمن منوان بدرهم» ، أو لأن { من أحسن عملاً } و { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ينتظمهما معنى واحد فأقام من «أحسن» مقام الضمير { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } «من» للإبتداء ، وتنكير أساور وهي جمع أسورة التي هي جمع سوار لإبهام أمرها في الحسن { مّن ذَهَبٍ } «من» للتبيين { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ } ما رَقَّ من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } ما غلظ منه أي يجمعون بين النوعين { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك } خص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرتهم { نِعْمَ الثواب } الجنة { وَحَسُنَتْ } الجنة والأرائك { مُرْتَفَقًا } متكأ .
{ واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } ومثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين في بني إسرائيل ، أحدهما كافر اسمه قطروس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا . وقيل : هما المذكوران في«والصافات» في قوله : { قال قائل منهم إني كان لي قرين } [ الصافات : 51 ] ورثاً من أبيهما ثمانية آلاف دينار فجعلاها شطرين ، فاشترى الكافر أرضاً بألف دينار فقال المؤمن : اللهم إن أخي اشترى أرضاً بألف دينار وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ، ثم بنى أخوه داراً بألف فقال : اللهم إني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ، ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال : اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور ، ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال : اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق ، به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله { جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب } بساتين من كروم { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة . يقال حفوه إذا أطافوا به ، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيد الباء مفعولاً ثانياً { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه ، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)

{ كِلْتَا الجنتين اتَتْ } أعطت حمل على اللفظ لأن اللفظ «كلتا» مفرد ولو قيل «آتتا» على المعنى لجاز { أُكُلُهَا } ثمرها { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ } ولم تنقص من أكلها { شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً } نعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به وهو النهر الجاري فيها .
{ وَكَانَ لَهُ } لصاحب الجنتين { ثَمَرٌ } أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثره أي كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الكثيرة من الذهب والفضة وغيرهما له ثمر . { وأحيط بثمره } بفتح الميم والثاء : عاصم ، وبضم الثاء وسكون الميم : أبو عمرو ، وبضمهما : غيرهما { فَقَالَ لصاحبه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع ، يعني قطروس أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه { أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } أنصاراً وحشماً ، أو أولاداً ذكوراً لأنهم ينفرون معه دون الإناث .

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)

{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } إحدى جنتيه أو سماها جنة لاتحاد الحائط ، وجنتين للنهر الجاري بينهما { وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ } ضار لها بالكفر { قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } أي أن تهلك هذه الجنة ، شك في بيدودة جنته لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بالمهلة ، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين تنطق ألسنة أحوالهم بذلك { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } كائنة { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً } إقسام منه على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض كما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا إدعاء لكرامته عليه ومكانته عنده { منقلباً } تمييز أي مرجعاً وعاقبة { قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } أي خلق أُصلك لأن خلق أصله سبب في خلقه وكان خلقه خلقاً له { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي خلقك من نطفة { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعله كافراً بالله لشكه في البعث .
{ لَكُنَّا } بالألف في الوصل : شامي ، الباقون بغير ألف ، وبالألف في الوقف اتفاق ، وأصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فتلاقت النونان فأدغمت الأولى في الثانية بعد أن سكنت { هُوَ الله رَبّى } هو ضمير الشأن والشأن الله ربي والجملة خبر «أنا» والراجع منها إليه ياء الضمير ، وهو استدراك لقوله { أكفرت } قال لأخيه أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد كما تقول : زيد غائب لكن عمراً حاضر ، وفيه حذف أي أقول هو الله بدليل عطف { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا وَلَوْلاَ } وهلا { إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله } «ما»موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره : الأمر ما شاء الله ، أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف يعني أي شيء شاء الله كان والمعنى هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله ، اعترافا بأنها وكل ما فيها إنما حصل بمشيئة الله ، وأن أمرها بيده إن شاء تركها عامرة وإن شاء خربها ، { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها هو بمعونته وتأييده . من قرأ { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً } بنصب { أقل } فقد جعل { أنا } فصلاً ومن رفع وهو الكسائي جعله مبتدأ و { أقل } خبره والجملة مفعولاً ثانياً ل «ترني» وفي قوله : { وَوَلَدًا } نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله : { وأعز نفرا } .

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)

{ فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ } في الدنيا أو في العقبي { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا } عذاباً { مِّنَ السماء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } أرضاً بيضاء يزلق عليها لملاستها { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } غائراً أي ذاهباً في الأرض { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } فلا يتأتى منك طلبه فضلاً عن الوجود ، والمعنى إن ترن أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بي ومابك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيراً من جنتك ، ويسلبك لكفرك نعمته ويخرب بساتينك .
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } هو عبارة عن إهلاكه وأصله من أحاط به العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك { فَأَصْبَحَ } أي الكافر { يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } يضرب إحداهما على الآخر ندماً وتحسراً وإنما صار تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن كما كنى عن ذلك بِعَضِّ الكف والسقوط في اليد ، ولأنه في معنى الندم عُدي تعديته ب «على» كأنه قيل : فأصبح يندم { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي في عمارتها { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } يعني أن المعرشة سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم { وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا } تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة كفره وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه حين لم ينفعه التمني ، ويجوز أن يكون توبة من الشرك وندماً على ما كان منه ودخولاً في الإيمان
.

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)

{ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ } يقدرون على نصرته { مِن دُونِ الله } أي هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لحكمة { وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } وما كان ممتنعاً بقوته عن انتقام الله { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق } { يكن } بالياء و { الولاية } بكسر الواو : حمزة وعلي فهي بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر السلطان والملك ، والمعنى هنالك أي في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريراً لقوله { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله } أو هنالك السلطان والملك صلى الله عليه وسلم لا يغلب ، أو في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني أن قوله { ياليتني لم أشرك بربي أحداً } كلمة ألجيء إليها فقالها جزعاً مما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها . أو هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله { فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء } ويؤيده قوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقباً } أي لأوليائه ، أو { هنالك } إشارة إلى الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله : { لمن الملك اليوم } [ غافر : 16 ] { الحق } بالرفع : أبو عمرو وعلي صفة ل { الولاية } أو خبر مبتدأ محذوف أي هي الحق أو هو الحق . غيرهما بالجر صفة لله . و { عقبا } ً بسكون القاف : عاصم وحمزة ، وبضمها : غيرهما ، وفي الشواذ «عقبى» على وزن «فعلى» وكلها بمعنى العاقبة .
{ واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاء أنزلناه مِنَ السماء } أي هي كماء أنزلناه { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً أو أثر في النبات الماء فاختلط به حتى روى { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } يابساً متكسراً الواحدة هشيمة { تَذْرُوهُ الرياح } تنسفه وتطيره . { الريح } حمزة وعلي { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء } من الإنشاء والإفناء { مُّقْتَدِرًا } قادراً ، شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والإفناء بحال النبات يكون أخضر ثم يهيج فتطيره الريح كأن لم يكن .

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

{ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } لا زاد القبر وعدة العقبى { والباقيات الصالحات } أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان ، أو الصلوات الخمس ، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } جزاء { وَخَيْرٌ أَمَلاً } لأنه وعد صادق وأكثر الآمال كاذبه يعني أن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ويصيبه في الآخرة { وَيَوْمَ } واذكر يوم { نُسَيّرُ الجبال } { تُسيَّر الجبال } مكي وشامي وأبو عمرو أي تسير في الجو ، أو يذهب بها بأن تجعل هباء منثوراً منبثاً { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } ليس عليها ما يسترها مما كان عليها من الجبال والأشجار { وحشرناهم } أي الموتى { فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي فلم نترك . غادره أي تركه ومنه الغدر ترك الوفاء والغدير ما غادره السيل { وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا } مصطفين ظاهرين ترى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً ، شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } أي قلنا لهم لقد جئتمونا ، وهذا المضمر يجوز أن يكون عامل النصب في { يوم نسير } { كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي لقد بعثناكم كما أنشأناكم أول مرة ، أو جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أولاً . وإنما قال : { وحشرناهم } ماضياً بعد { نسير } و { ترى } للدلالة على حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال . كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } وقتاً لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور أو مكان وعد للمحاسبة .
{ وَوُضِعَ الكتاب } أي صحف الأعمال { فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ } خائفين { مِمَّا فِيهِ } من الذنوب { وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَّالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } أي لا يترك شيئاً من المعاصي { إِلاَّ أَحْصَاهَا } حصرها وضبطها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا } في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه أو يعذبه بغير جرم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15