كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } القنوت الطاعة { وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا } وبالياء فيهما : حمزة وعلي { أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } مثلي ثواب غيرها { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } جليل القدر وهو الجنة { يانساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء } أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل . وأحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه { إِنِ اتقيتن } إن أردتن التقوى أو إن كنتن متقيات { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } أي إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب فلا تجئن بقولكن خاضعاً أي ليناً خنثاً مثل كلام المريبات { فَيَطْمَعَ } بالنصب على جواب النهي { الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } ريبة وفجور { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } حسناً مع كونه خشناً { وَقَرْنَ } مدني وعاصم غير هبيرة وأصله «اقررن» فحذفت الراء تخفيفاً وألقيت فتحتها على ما قبلها ، أو من قار يقار إذا اجتمع . والباقون { قَرْنٍ } من وقر يقر وقاراً ، أو من قرّ يقر ، حذفت الأولى من راء اقررن قراراً من التكرار ونقلت كسرتها إلى القاف { فِى بُيُوتِكُنَّ } بضم الباء بصري ومدني وحفص { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } أي القديمة . والتبرج التبختر في المشي وإظهار الزينة والتقدير : ولا تبرجن تبرجاً مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم أو ما بين آدم ونوح عليهما السلام أو زمن داود وسليمان والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام . أو الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام . أو الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام .
{ وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } خص الصلاة والزكاة بالأمر ثم عم بجميع الطاعات تفضيلاً لهما لأن من واظب عليهما جرتاه إلى ما وراءهما { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت } نصب على النداء أو على المدح ، وفيه دليل على أن نساءه من أهل بيته . وقال : { عَنْكُمْ } ، لأنه أريد الرجال والنساء من آله بدلالة { وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً } من نجاسة الآثام . ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم وليتصونوا عنها بالتقوى . واستعار الذنوب الرجس وللتقوى الطهر ، لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس ، وأما المحسنات فالعرض منها نقي كالثوب الطاهر وفيه تنفير لأولي الألباب عن المناهي وترغيب لهم في الأوامر { واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله } القرآن { والحكمة } أي السنة أو بيان معاني القرآن { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً } عالماً بغوامض الأشياء { خَبِيراً } عالماً بحقائقها أي هو عالم بأفعالكن وأقوالكن فاحذرن مخالفة أمره ونهيه ومعصية رسوله .

ولما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء ، فنزلت :
{ إِنَّ المسلمين والمسلمات } المسلم الداخل في السّلم بعد الحرب المنقاد الذي لا يعاند ، أو المفوض أمره إلى الله المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله { والمؤمنين } المصدقين بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به { والمؤمنات والقانتين } القائمين بالطاعة { والقانتات والصادقين } في النيات والأقوال والأعمال { والمتصدقات والصابرين والصابرات } على الطاعات وعن السيئات { والخاشعين } المتواضعين لله بالقلوب والجوارح أو الخائفين { والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات } فرضاً ونفلاً { والصائمين والصائمات } فرضاً ونفلاً . وقيل : من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ، ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين { والحافظين فُرُوجَهُمْ } عما لا يحل { والحافظات والذكرين الله كَثِيراً } بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر والمعنى والحافظات فروجهن { والذاكرات } الله فحذف لدلالة ما تقدم عليه . والفرق بين عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين لأن الأول نظير قوله { ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] في أنهما جنسان مختلفان واشتركا في حكم واحد فلم يكن بد من توسط العاطف بينهما ، وأما الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ومعناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات { أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } على طاعاتهم .
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } أي وما صح لرجل مؤمن ولا امرأة مؤمنة { إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ } أي رسول الله { أمْراً } من الأمور { أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه واختيارهم تلوا لاختياره فقالا : رضينا يا رسول الله ، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها . وإنما جمع الضمير في { لَهُمْ } وإن كان من حقه أن يوحد لأن المذكورين وقعا تحت النفي فعما كل مؤمن ومؤمنة فرجع الضمير إلى المعنى لا إلى اللفظ . و { يَكُونَ } بالياء : كوفي ، والخيرة ما يتخير ودل ذلك على أن الأمر للوجوب { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالا مُّبِيناً } فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال وكفر ، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق .

{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } بالإسلام الذي هو أجل النعم { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بالإعتاق والتبني فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله وهو زيد بن حارثة { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } زينب بنت جحش ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعدما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال : " «سبحان الله مقلب القلوب» " وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : " مالك أرابك منها شيء؟» " قال : " «لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني فقال له : أمسك عليك زوجك» " { واتق الله } فلا تطلقها . وهو نهي تنزيه إذ الأولى أن لا يطلق أو واتق الله فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج { وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } أي تخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد وهو الذي أبداه الله تعالى . وقيل : الذي أخفى في نفسه تعلق قلبه بها ومودة مفارقة زيد إياها . والواو في { وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ } { وَتَخْشَى الناس } أي قالة الناس إنه نكح امرأة ابنه { والله أَحَقُّ أَن تخشاه } واو الحال أي تقول لزيد أمسك عليك زوجك مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها وتخفي خاشياً قالة الناس وتخشى الناس حقيقاً في ذلك بأن تخشى الله . وعن عائشة رضي الله عنها : لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية .
{ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً } الوطر الحاجة فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة . قيل : قضى منه وطره ، والمعنى فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وتقاصرت عنها همته وطلقها وانقضت عدتها { زوجناكها } . روي أنها لما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد« : " ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك : أخطب عليّ زينب» " قال زيد : فانطلقت وقلت : يا زينب أبشري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك ففرحت وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار { لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } قيل : قضاء الوطر إدراك الحاجة وبلوغ المراد منه { وَكَانَ أَمْرُ الله } الذي يريد أن يكونه { مَفْعُولاً } مكوناً لا محالة وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب .

مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)

{ مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ } أحل له وأمر له وهو نكاح زينب امرأة زيد أو قدر له من عدد النساء { سُنَّةَ الله } اسم موضع موضع المصدر كقولهم «تراباً وجندلاً» مؤكد لقوله { مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ } كأنه قيل : سن الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين وهو أن لا يحرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره ، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداود مائة امرأة وثلثمائة سرية ولسليمان ثلثمائة حرة وسبعمائة سرية { فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } في الأنبياء الذين مضوا من قبل { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } قضاء مقضياً وحكماً مبتوتاً ، ولا وقف عليه إن جعلت { الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله } بدلاً من { الذين } الأول ، وقف إن جعلته في محل الرفع أو النصب على المدح أي هم الذين يبلغون أو أعني الذي يبلغون { وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } وصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا اللّه تعريض بعد التصريح في قوله { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه } { وكفى بالله حَسِيباً } كافياً للمخاوف ومحاسباً على الصغيرة والكبيرة فكان جديراً بأن تخشى منه .
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ } أي لم يكن أبا رجل منكم حقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح ، والمراد من رجالكم البالغين ، والحسن والحسين لم يكونا بالغين حينئذ والطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم توفوا صبياناً { ولكن } كان { رَسُولِ الله } وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء ، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة فكان حكمه كحكمكم والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير { وَخَاتَمَ النبيين } بفتح التاء عاصم بمعنى الطابع أي آخرهم يعني لا ينبأ أحد بعده وعيسى ممن نبي قبله ، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه بعض أمته . وغيره بكسر التاء بمعنى الطابع وفاعل الختم . وتقوّيه قراءة ابن مسعود { ولكن نَبِيّاً خَتَمَ النبيين } { وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } أثنوا عليه بضروب الثناء وأكثروا ذلك { وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً } أول النهار { وَأَصِيلاً } آخر النهار ، وخصا بالذكر لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما . وعن قتادة : قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . والفعلان أي اذكروا الله وسبحوه موجهان إلى البكرة والأصيل كقولك «صم وصل يوم الجمعة» .

والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختص من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة إبانة لفضله على سائر الأذكار ، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات . وجاز أن يراد بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات والعبادات فإنها من جملة الذكر ، ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وهي صلاة الفجر وأصيلاً وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء أو صلاة الفجر والعشاءين .
{ هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ } لما كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنواً عليه وترؤفاً كعائد المريض في انعطافه عليه والمرأة في حنوها على ولدها ، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم «صلى الله عليك» أي ترحم عليك وترأف . والمراد بصلاة الملائكة قولهم «اللهم صل على المؤمنين» جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة ، والمعنى هو الذي يترحم عليكم ويترأف حين يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة { لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور } من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } هو دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة . وروي أنه لما نزل { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى } قال أبو بكر : ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فنزلت { تَحِيَّتُهُمْ } من إضافة المصدر إلى المفعول أي تحية الله لهم { يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } يرونه { سلام } يقول الله تبارك وتعالى السلام عليكم { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } يعني الجنة .
{ ياأيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً } على من بعثت إليهم وعلى تكذيبهم وتصديقهم أي مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم . كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم ، وهو حال مقدرة كما تقول «مررت برجل معه صقر صائداً به» إي مقدراً به الصيد غداً { وَمُبَشّراً } للمؤمنين بالجنة { وَنَذِيرًا } للكافرين بالنار { وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ } بأمره أو بتيسيره والكل منصوب على الحال { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } جلا به الله ظلمات الشرك واهتدى به الضالون كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به . والجمهور على أنه القرآن فيكون التقدير وذا سراج منير أو وتالياً سراجاً منيراً ، ووصف بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته ، أو شاهداً بواحدانيتنا ومبشراً برحمتنا ونذيراً بنقمتنا وداعياً إلى عبادتنا وسراجاً وحجة ظاهرة لحضرتنا { وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } ثواباً عظيماً { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } المراد به التهييج أو الدوام والثبات على ما كان عليه { وَدَعْ أَذَاهُمْ } هو بمعنى الإيذاء فيحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي اجعل إيذاءهم إياك في جانب ولا تبال بهم ولا تخف عن إيذائهم ، أو إلى المفعول أي دع إيذاءك إياهم مكافأة لهم { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } فإنه يكفيكهم { وكفى بالله وَكِيلاً } وكفى به مفوضاً إليه .

وقيل : إن الله تعالى وصفه بخمسة أوصاف وقابل كلاً منها بخطاب مناسب له ، قابل الشاهد { وَبَشّرِ المؤمنين } لأنه يكون شاهداً على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم وهو الفضل الكبير ، والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمناققين لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين وهو مناسب للبشارة ، والنذير ب { وَدَعْ أَذَاهُمْ } لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر والأذى لا بد له من عقاب عاجل أو آجل كانوا منذرين به في المستقبل ، والداعي إلى الله بتيسيره بقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } فإن من توكل على الله يسر عليه كل عسير ، والسراج المنير بالإكتفاء به وكيلاً لأن من أناره الله برهاناً على جميع خلقه كان جديراً بأن يكتفى به عن جميع خلقه .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات } أي تزوجتتم . والنكاح هو الوطء في الأصل وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث إنه طريق إليه كتسمية الخمر إثماً لأنه سببه ، وكقول الراجز .
أسنمة الآبال في سحابه
سمى الماء بأسنمة الآبال لأنه سبب سمن الآبال وارتفاع أسنمتها . ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به ، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان . وفي تخصيص المؤمنات مع أن الكتابيات تساوي المؤمنات في هذا الحكم إشارة إلى أن الأولى بالمؤمن أن ينكح مؤمنة { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } والخلوة الصحيحة كالمس { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } فيه دليل على أن العدة تجب على النساء للرجال . ومعنى { تَعْتَدُّونَهَا } تستوفون عددها تفتعلون من العد { فَمَتّعُوهُنَّ } والمتعة تجب للتي طلقها قبل الدخول بها ولم يسم لها مهر دون غيرها { وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي لا تمسكوهن ضراراً وأخرجوهن من منازلكم إذ لا عدة لكم عليهن .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)

{ ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } مهورهن إذ المهر أجر على البضع ولهذا قال الكرخي : إن النكاح بلفظ الإجارة جائز . وقلنا : التأييد من شرط النكاح والتأقيت من شرط الإجارة وبينهما منافاة . وإيتاؤها إعطاؤها عاجلاً أو فرضها وتسميتها في العقد { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ } وهي صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما { وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ } ومع ليس للقران بل لوجودها فحسب كقوله { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان } [ النمل : 44 ] وعن أم هانيء بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت فعذرني فأنزل الله هذه الآية ، فلم أحل له لأني لم أهاجر معه { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ } وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها نولا تطلب مهراً من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك ولذا نكرها . قال ابن عباس : هو بيان حكم في المستقبل ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة . وقيل : الواهبة نفسها ميمونة بنت الحرث أو زينب بنت خزيمة أو أم شريك بنت جابر أو خولة بنت حكيم . وقرأ الحسن «أن» بالفتح على التعليل بتقدير حذف اللام . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير «إن» { إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا } استنكاحها طلب نكاحها والرغبة فيه . وقيل : نكح واستنكح بمعنى ، والشرط الثاني تقييد للشرط الأول شرط في الإحلال هبتها نفسها وفي الهبة إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها لأن إرادته هي قبول الهبة وما به تتم ، وفيه دليل جواز النكاح بلفظ الهبة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل { خَالِصَةٌ } بلا مهر حال من الضمير في { وَهَبَتْ } أو مصدر مؤكد أي خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة بمعنى خلوصاً والفاعلة في المصادر غير عزيز كالعافية والكاذبة { لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } بل يجب المهر لغيرك وإن لم يسمه أو نفاه . عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله { إِنْ أَرَادَ النبى } ثم رجع إلى الخطاب ليؤذن أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة وتكريره أي تكرير النبي تفخيم له .
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم } أي ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم أو ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق { وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم } بالشراء وغيره من وجوه الملك . وقوله { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } ضيق متصل ب { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } وقوله { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم } جملة اعتراضية { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } بالتوسعة على عباده .

{ تُرْجِى } بلا همز : مدني وحمزة وعلي وخلف وحفص ، وبهمز غيرهم : تؤخر { مَن تَشَاء مِنْهُمْ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء } تضم بمعنى تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء ، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء ، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت ، أو تترك تزوج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت ، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك ، فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أولم يقسم ، وإذا طلق وعزل فإما أن يخلي المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها . ورُوي أنه أرجى منهن جويرية وسودة وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب ، أرجى خمساً وآوى أربعاً ، وروي أنه كان يسوي مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك { وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } أي ومن دعوت إلى فراشك وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء فلا ضيق عليك في ذلك أي ليس إذا عزلتها لم يجز لك ردها إلى نفسك . و«من» رفع بالابتداء وخبره { فَلاَ جُنَاحَ } { ذلك } التفويض إلى مشيئتك { أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً لأنهن إذا علمن أن هذا التفويض من عند الله اطمأنت نفوسهن وذهب التغاير وحصل الرضا وقرت العيون . { كُلُّهُنَّ } بالرفع تأكيد لنون { يرضين } وقرىء { وَيَرْضَيْنَ كُلُّهُنَّ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ } على التقديم ، وقرىء شاذاً «كلهن» بالنصب تأكيداً لهن في { ءاتَيْتَهُنَّ } { والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ } فيه وعيد لمن لم ترض منهن بما دبر الله من ذلك وفوض إلى مشيئة رسوله { وَكَانَ الله عَلِيماً } بذات الصدور { حَلِيماً } لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقي ويحذر .
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء } بالتاء : أبو عمرو ويعقوب ، وغيرهما بالتذكير لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وإذا جاز بغير فصل فمع الفصل أجوز { مِن بَعْدِ } من بعد التسع لأن التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } الطلاق . والمعنى أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهن أو بعضهن كرامة لهن وجزاء على ما اخترن ورضين فقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن وهن التسع التي مات عنهن : عائشة ، حفصة ، أم حبيبة ، سودة أم سلمة ، صفية ، ميمونة ، زينب بنت جحش ، جويرية .

و«من» في { مِنْ أَزْوَاجٍ } التأكيد النفي وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } في موضع الحال من الفاعل وهو الضمير في { تبَدَّلُ } أي تتبدل لا من المفعول الذي هو من أزواج لتوغله في التنكير ، وتقديره مفروضاً إعجابك بهن . وقيل : هي أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبي طالب فإنها ممن أعجبه حسنهن . وعن عائشة وأم سلمة : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء يعني أن الآية نسخت ، ونسخها إما بالسنة أو بقوله { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك } وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } استثنى ممن حرم عليه الإماء ومحل «ما» رفع بدل من { النساء } { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْءٍ رَّقِيباً } حافظاً وهو تحذير عن مجاوزة حدوده .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه } { أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } في موضع الحال أي لا تدخلوا إلا مأذوناً لكم ، أو في معنى الظرف تقديره إلا وقت أن يؤذن لكم ، { غَيْرَ ناظرين } حال من { لاَ تَدْخُلُواْ } وقع الاستثناء على الحال والوقت معاً كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين أي غير منتظرين . وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه ، ومعناه لا تدخلوا يا أيها المتحينون للطعام إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ، وإنى الطعام إدراكه يقال أَنى الطعام أني كقولك قلاه قلي . وقيل : إناه وقته أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله . ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنساً أن يدعو بالناس فترادفوا أفواجاً يأكل فوج ويخرج ثم يدخل فوج إلى أن قال يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه فقال «ارفعوا طعامكم» ، وتفرق الناس وبقيء ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجرات وسلم عليهن ودعون له ورجع ، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فتولى ، فلما رأوه متولياً خرجوا فرجع ونزلت { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } فتفرقوا { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } هو مجرور معطوف على { ناظرين } أو منصوب أي ولا تدخولها مستأنسين نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدث به { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النبى فَيَسْتَحْيِى مّنكُمْ } من إخراجكم { والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق } يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه .

ولما كان الحياء مما يمنع الحيّي من بعض الأفعال قيل لا يستحيي من الحق أي لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم ، هذا أدبٌ أدّب اللّه به الثقلاء . وعن عائشة رضي الله عنها : حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم وقال { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } .
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } الضمير لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لدلالة بيوت النبي لأن فيها نساءه { متاعا } عارية أو حاجة { فَسْئَلُوهُنَّ } المتاع { مِن وَرَاء حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } من خواطر الشيطان وعوارض الفتن ، وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال وكان عمر رضي الله عنه يجب ضرب الحجاب عليهن ويود أن ينزل فيه وقال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت . وذكر أن بعضهم قال : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوّجن فلانة فنزل { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } أي وما صح لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعد موته { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } أي ذنباً عظيماً .

إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)

{ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً } من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو من نكاحهن { أَوْ تُخْفُوهْ } في أنفسكم من ذلكم { فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } فيعاقبكم به .
ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله أو نحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فنزل { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ } أي نساء المؤمنات { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي لا إثم عليهن في ألا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين وقد جاءت تسمية العم أبا قال الله تعالى : { وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] . وإسماعيل عم يعقوب ، وعبيدهن عند الجمهور كالأجانب . ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب وفي هذا النقل فضل تشديد كأنه قيل { واتقين الله } فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحي من الاستتار واحتطن فيه { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً } عالماً . قال ابن عطاء : الشهيد الذي يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح . { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى ياأيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } أي قولوا اللهم صل على محمد أو صلى الله على محمد { وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً } أي قولوا اللهم سلم على محمد أو انقادوا لأمره وحكمه انقياداً . وسئل عليه السلام عن هذه الآية فقال " إن الله وكل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين آمين ، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين آمين " ثم هي واجبة مرة عند الطحاوي ، وكلما ذكر اسمه عند الكرخي وهو الاحتياط وعليه الجمهور . وإن صلى على غيره على سبيل التبع كقوله «صلى الله على النبي وآله» فلا كلام فيه ، وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة فمكروه وهو من شعائر الروافض .
{ إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } أي يؤذون رسول الله ، وذكر اسم الله للتشريف أو عبر بإيذاء الله ورسوله عن فعل ما لا يرضى به الله ورسوله كالكفر وإنكار النبوة مجازاً ، وإنما جعل مجازاً فيهما وحقيقة الإيذاء يتصور في رسول الله لئلا يجتمع المجاز والحقيقة في لفظ واحد { لَعَنَهُمُ الله فِى الدنيا والآخرة } طردهم الله عن رحمته في الدارين { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } في الآخرة { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } أطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن ذاك يكون غير حق أبداً ، وأما هذا فمنه حق كالحد والتعزيز ومنه باطل .

قيل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه ويسمونه . وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات . وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات { فَقَدِ احتملوا } تحملوا { بهتانا } كذباً عظيماً { وَإِثْماً مُّبِيناً } ظاهراً .
{ ياأيها النبى قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } الجلباب : ما يستر الكل مثل الملحفة عن المبرد . ومعنى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن . يقال : إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة أدنى ثوبك على وجهك . و «من» للتبعيض أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة ، أو المراد أن تتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب وأن لا تكون المرأة متبذلة في درع وخمار كالأمة ولها جلبابان فصاعداً في بيتها ، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار لا فضل بين الحرة والأمة ، وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الملاحف وستر الرؤوس والوجوه فلا يطمع فيهن طامع وذلك قوله { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرض لهن { وَكَانَ الله غَفُوراً } لما سلف منهن من التفريط { رَّحِيماً } بتعليمهن آداب المكارم { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } فجور ، وهم الزناة من قوله { فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } { والمرجفون فِى المدينة } هم أناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين . يقال : أرجف بكذا إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } لنأمرنك بقتالهم أو لنسلطنك عليهم { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا } في المدينة وهو عطف على { لَنُغْرِيَنَّكَ } لأنه يجوز أن يجاب به القسم لصحة قولك لئن لم ينتهوا لا يجاورونك . ولما كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أصيبوا به عطف ب { ثُمَّ } لبعد حاله عن حال المعطوف عليه { إِلاَّ قَلِيلاً } زماناً قليلاً . والمعنى لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء ، لنأمرنك بأن تفعل الأفعال التي تسوءهم ، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة وإلى أن لا يساكنوك فيها إلا زماناً قليلاً ريثما يرتحلون ، فسمي ذلك إغراء وهو التحريش على سبيل المجاز .

مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

{ مَّلْعُونِينَ } نصب على الشتم أو الحال أي لا يجاورنك إلا ملعونين ، فالاستثناء دخل على الظرف والحال معاً كما مر ولا ينتصب عن { أُخِذُواْ } لأن ما بعد حروف الشرط لا يعمل فيما قبلها { أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } وجدوا { أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً } والتشديد يدل على التكثير { سُنَّةَ الله } في موضع مصدر مؤكد أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا أينما وجدوا { فِى الذين خَلَوْاْ } مضوا { مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } أي لا يبدل الله سنته بل يجريها مجرى واحداً في الأمم .
{ يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة } كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء ، واليهود يسألونه امتحاناً لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب ، فأمر رسوله بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به ، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع تهديداً للمستعجلين وإسكاناً للممتحنين بقوله { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } شيئاً قريباً أو لأن الساعة في معنى الزمان { إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } ناراً شديدة الاتقاد { خالدين فِيهَا أَبَداً } هذا يرد مذهب الجهمية لأنهم يزعمون أن الجنة والنار تفنيان . ولا وقف على { سَعِيراً } لأن قوله { خالدين فِيهَا } حال عن الضمير في { لَهُمْ } . { لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ناصراً يمنعهم . اذكر { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار } تصرّف في الجهات كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت ، وخصصت الوجوه لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده أو يكون الوجه عبارة عن الجملة { يَقُولُونَ } حال { ياليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا } فنتخلص من هذا العذاب فتمنوا حين لا ينفعهم التمني { وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا } جمع سيد . { ساداتنا } شامي وسهل ويعقوب جمع الجمع ، والمراد رؤساء الكفرة الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم { وَكُبَرَاءنَا } ذوي الأسنان منا أو علماءنا { فَأَضَلُّونَا السبيلا } يقال : ضل السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف { رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } للضلال والإضلال { والعنهم لَعْناً كَبِيراً } بالباء عاصم ليدل على أشد اللعن وأعظمه ، وغيره بالثاء تكثيراً لأعداد اللعائن .
ونزل في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قاله بعض الناس { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } «ما» مصدرية أو موصولة ، وأيهما كان فالمراد البراءة عن مضمون القول ومؤاده وهو الأمر المعيب .

وأذى موسى عليه السلام هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها أواتهامهم إياه بقتل هرون فأحياه الله تعالى فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام كما برأ نبينا عليه السلام بقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ } { وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } ذا جاه ومنزلة مستجاب الدعوة . وقرأ ابن مسعود والأعمش { وَكَانَ عَبْداً للَّهِ وَجِيهاً } .
ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } صدقاً وصواباً أو قاصداً إلى الحق . والسداد : القصد إلى الحق والقول بالعدل والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول والبعث على أن يسددوا قولهم في كل باب ، لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس كل خير . ولا تقف على { سَدِيداً } لأن جواب الأمر قوله { يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم } يقبل طاعتكم أو يوفقكم لصالح العمل { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي يمحها . والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها . وهذه الآية مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . ولما علق بالطاعة الفوز العظيم بقوله { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } أتبعه قوله .
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال } وهو يريد بالأمانة الطاعة لله وبحمل الأمانة الخيانة . يقال : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها أي يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ، إذ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ولهذا يقال : ركبته الديون ولي عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حامل لها يعني أن هذا الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها وهو ما يأتي من الجمادات ، وأطاعت له الطاعة التي تليق بها حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة كما قال : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . وأخبر أن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب يسجدون لله وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله ، وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، وهذا معنى قوله { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } أي أبين الخيانة فيها وأن لا يؤدينها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } وخفن من الخيانة فيها { وَحَمَلَهَا الإنسان } أي خان فيها وأبى أن لا يؤديها { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً } لكونه تاركاً لأداء الأمانة { جَهُولاً } لإخطائه ما يساعده مع تمكنه منه وهو أداؤها .

قال الزجاج : الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا ولم يطيعا . ومن أطاع من الأنبياء والمؤمنين فلا يقال كان ظلوماً جهولاً . وقيل : معنى الآية أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها وضمنها ثم خاس بضمانه فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم من ذلك قولهم «لو قيل للشحم أين تذهب لقال أسوي العوج» .
واللام في { لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } للتعليل لأن التعذيب هنا نظير التأديب في قولك «ضربته للتأديب» فلا تقف على { جَهُولاً } { وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات } وقرأ الأعمش { وَيَتُوبُ الله } بالرفع ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ويبتديء { وَيَتُوبَ الله } ومعنى المشهورة ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها لأنه إذا تيب على الوافي كان نوعاً من عذاب الغادر ، أو للعاقبة أي حملها الإنسان فآل الآمر إلى تعذيب الأشقياء وقبول توبة السعداء { وَكَانَ الله غَفُوراً } للتائبين { رَّحِيماً } بعباده المؤمنين والله الموفق للصواب .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)

مكية وهي أربع وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الحمد } إن أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود ، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق { لِلَّهِ } بلام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلاً فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلاً { الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض } خلقاً وملكاً وقهراً فكان حقيقاً بأن يحمد سراً وجهراً { وَلَهُ الحمد فِى الآخرة } كما هو له في الدنيا إذ النعم في الدارين من المولى ، غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا ، لعدم التكليف وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم وتلذذاً بما نالوا من الأجر العظيم بقولهم { الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] { الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] { وَهُوَ الحكيم } بتدبير ما في السماء والأرض { الخبير } بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض { يَعْلَمْ } مستأنف { مَا يَلْجُ } ما يدخل { فِى الأرض } من الأموات والدفائن { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات وجواهر المعادن { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء } من الأمطار وأنواع البركات { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } يصعد إليها من الملائكة والدعوات { وَهُوَ الرحيم } بإنزال ما يحتاجون إليه { الغفور } لما يجترئون عليه .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } أي منكرو البعث { لاَ تَأْتِينَا الساعة } نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة { قُلْ بلى } أوجب ما بعد النفي ب «بلى» على معنى أن ليس الأمر إلا إتيانها { وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل ، ثم أمد التوكيد القسمى بما اتبع المقسم به من الوصف بقوله { عالم الغيب } لأن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وبشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ ، ولما كان قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية كان الوصف بما يرجع إلى علم الغيب أولى وأحق . { عالم الغيب } مدني وشامي أي هو عالم الغيب { علامِ الغيب } حمزة وعلي على المبالغة { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } وبكسر الزاي : عليّ . يقال : عزب يعزب ويعزب إذا غاب وبعد { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } مقدار أصغر نملة { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } من مثقال ذرة { وَلا أَكْبَرُ } من مثقال ذرة { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } إلا في اللوح المحفوظ ، { وَلاَ أَصْغَرُ وَلا أَكْبَرُ } بالرفع عطف على { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ويكون «إلا» بمعنى لكن ، أو رفعاً بالابتداء والخبر { فِى كتاب } واللام في { لّيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } لما قصروا فيه من مدارج الإيمان { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما صبروا عليه من مناهج الإحسان متعلق ب { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تعليلاً له .

{ والذين سَعَوْا فِى ءاياتنا } جاهدوا في رد القرآن { معاجزين } مسابقين ظانين أنهم يفوتوننا . { مُعَجِزِينَ } مكي وأبو عمرو أي مثبطين الناس عن اتباعها وتأملها أو ناسبين الله إلى العجز { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ } برفع { أَلِيمٌ } مكي وحفص ويعقوب صفة لعذاب أي عذاب أليم من سيء العذاب . قال قتادة : الرجز سوء العذاب ، وغيرهم بالجر صفة لرجز .
{ وَيَرَى } في موضع الرفع بالاستئناف أي ويعلم { الذين أُوتُواْ العلم } يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه ، والمفعول الأول ل { يرى } { الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } يعني القرآن { هُوَ الحق } أي الصدق وهو فصل و { الحق } مفعول ثانٍ أو في موضع النصب معطوف على { لِيَجْزِىَ } وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الإيقان { وَيَهْدِى } الله أو الذي أنزل إليك { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } وهو دين الله { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } وقال قريش بعضهم لبعض { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم . وإنما نكّروه مع أنه كان مشهوراً علماً في قريش وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم تجاهلاً به وبأمره وباب التجاهل في البلاغة وإلى سحرها { يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب أنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق أي يفرقكم كل تفريق ، فالممزق مصدر بمعنى التمزيق ، والعامل في { إِذَا } ما دل عليه { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي تبعثون ، والجديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين تقول جد فهو جديد كقل فهو قليل ولا يجوز { إِنَّكُمْ } بالفتح للام في خبره { افترى عَلَى الله كَذِبًا } أهو مفترٍ على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك والهمزة للاستفهام وهمزة الوصل حذفت استغناء عنها { أَم بِهِ جِنَّةٌ } جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه { بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِى العذاب والضلال البعيد } ثم قال سبحانه وتعالى : ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء وهو مبرأ منهما بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك . وذلك أجن الجنون ، جعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال كأنهما كائنان في وقت واحد ، لأن الضلال لما كان العذاب من لوازمه جعلا كأنهما مقترنان . ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادة .

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)

{ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ } وبالإدغام : عليّ للتقارب بين الفاء والباء ، وضعفه البعض لزيادة صوت الفاء على الباء { الأرض أَوْ نُسْقِطْ } الثلاثة بالياء : كوفي غير عاصم لقوله { افترى عَلَى الله كَذِبًا } { عَلَيْهِمْ كِسَفاً } { كِسَفًا } حفص { مّنَ السماء } أي أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله ولم يخافوا أن يخسف الله بهم ، أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول وبما جاء به كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة { إِنَّ فِى ذَلِكَ } النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما تدلان عليه من قدرة الله تعالى { لآيَةً } لدلالة { لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } راجع إلى ربه مطيع له إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال } بدل من { فَضْلاً } أو من { ءاتَيْنَا } بتقدير قولنا يا جبال أو قلنا يا جبال { أَوّبِى مَعَهُ } من التأويب رجعي معه التسبيح ومعنى تسبيح الجبال أن الله يخلق فيها تسبيحاً فيسمع منها كما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه السلام { والطير } عطف على محل الجبال و { الطير } عطف على لفظ الجبال وفي هذا النظم من الفخامة ما لا يخفى حيث جعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا وإذا دعاهم أجابوا إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئة الله تعالى ، ولو قال آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة . { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } وجعلناه له ليّناً كالطين المعجون يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة . وقيل : لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة { أَنِ اعمل } «أن» بمعنى أي أو أمرناه أن أعمل { سابغات } دروعاً واسعة تامة من السبوغ وهو أول من اتخذها ، وكان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء . وقيل : كان يخرج متنكراً فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم ما تقولون في داود فيثنون عليه فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه وهو أنه يطعم عياله من بيت المال فسأله عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال فعلمه صنعة الدروع { وَقَدّرْ فِى السرد } لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتفصم الحلق ، والسرد : نسج الدروع { واعملوا } الضمير لداود وأهله { صالحا } خالصاً يصلح للقبول { إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فأجازيكم عليه .

{ ولسليمان الريح } أي وسخرنا لسليمان الريح وهي الصبا . ورفع { الريح } أبو بكر وحماد والفضل أي وسليمان الريح مسخرة { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك ، وكان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر فارس وبينهما مسيرة شهر ويروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع . وقيل : كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } أي معدن النحاس فالقطر النحاس وهو الصفر ولكنه أساله وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام كما يسيل الماء وكان قبل سليمان لا يذوب ، وسماه عين القطر باسم ما آل إليه { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ } «من» في موضع نصب أي وسخرنا من الجن من يعمل { بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ } بأمر ربه { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ } ومن يعدل منهم { عَنْ أَمْرِنَا } الذي أمرنا به من طاعة سليمان { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } عذاب الآخرة . وقيل : كان معه ملك بيده سوط من نار فمن زاع عن أمر سليمان عليه السلام ضرب ضربة أحرقته { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب } أي مساجد أو مساكن { وتماثيل } أي صور السباع والطيور . وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما وكان التصوير مباحاً حينئذ { وَجِفَانٍ } جمع جفنة { كالجواب } جمع جابية وهي الحياض الكبار . قيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل . { كالجوابي } في الوصل والوقف : مكي ويعقوب وسهل ، وافق أبو عمرو في الوصل ، الباقون بغير ياء اكتفاء بالكسرة { وَقُدُورٍ راسيات } ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها . وقيل : إنها باقية باليمن وقلنا لهم { اعملوا ءالَ دَاوُودَ شاكرا } أي ارحموا أهل البلاد واسألوا ربكم العافية عن الفضل و { شاكرا } مفعول له أو حال أي شاكرين أو اشكروا شكراً لأن { اعملوا } فيه معنى اشكروا من حيث إن العمل للمنعم شكر له أو مفعول به يعني إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً ، وسئل الجنيد عن الشكر فقال : بذل المجهود بين يدي المعبود { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ } بسكون الياء : حمزة وغيره بفتحها { الشكور } المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً وكدحاً . وعن ابن عباس رضي الله عنه : من يشكر على أحواله كلها . وقيل : من يشكر على الشكر . وقيل : من يرى عجزه عن الشكر . وحكي عن داود عليه السلام أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي .

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } أي على سليمان { مَا دَلَّهُمْ } أي الجن وآل داود { على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } أي الأرضة وهي دويبة يقال لها صرفة والأرض فعلها فأضيفت إليه . يقال : أرضت الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرضة { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } والعصا تسمى منسأة لأنه ينسأ بها أي يطرد ، و { مِنسَأَتَهُ } بغير همز : مدني وأبو عمرو { فَلَمَّا خَرَّ } سقط سليمان { تَبَيَّنَتِ الجن } علمت الجن كلهم علماً بيناً بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ } بعد موت سليمان { فِى العذاب المهين } وروي أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه ، فلما بقي من عمره سنة سأل ربه أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة ، ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة فبقي في ملكه أربعين سنة وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه . وروي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه .
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } بالصرف بتأويل الحي ، وبعدمه : أبو عمرو بتأويل القبيلة { فِى مَسْكَنِهِمْ } حمزة وحفص { مَسْكَنِهِمْ } علي وخلف وهو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها باليمن أو مسكن كل واحد منهم ، غيرهم { مساكنهم } { ءايَةً } اسم كان { جَنَّتَانِ } بدل من { ءايَةً } أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان ، ومعنى كونهما آية أن أهلها لما أعرضوا عن شكر الله سلبهم الله النعمة ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم ، أو جعلهما آية أي علامة دالة على قدرة الله وإحسانه ووجوب شكره { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بساتين البلاد العامرة ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ } حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان الحال ، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك . ولما أمرهم بذلك أتبعه قوله { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره . قال ابن عباس : كانت سبأ على ثلاث فراسخ من صنعاء وكانت أخصب البلاد ، تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر فيمتليء المكتل مما يتساقط فيه من الثمر وطيبها ليس فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، ومن يمر بها من الغرباء يموت قمله لطيب هوائها .

{ فَأَعْرِضُواْ } عن دعوة أنبيائهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم } أي المطر الشديد أو العرم اسم الوادي أو هو الجرذ الذي نقب عليهم السّكر لما طغوا سلط الله عليهم الجرذ فنقبه من أسفل فغرقهم { وبدلناهم بِجَنَّتَيْهِمْ } المذكورتين { جَنَّتَيْنِ } وتسمية البدل جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام كقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } الأكل الثمر يثقل ويخفف وهو قراءة نافع ومكي ، والخمط شجر الأراك ، وقيل : كل شجر ذي شوك { وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } الأثل شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً ، ووجه من نون الأكل وهو غير أبي عمرو أن أصله ذواتي أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشع ، ووجه أبي عمر أن أكل الخمط في معنى البرير وهو ثمر الأراك إذا كان غضاً فكأنه قيل ذواتي برير ، والأثل والسدر معطوفان على { أَكَلَ } لا على { خَمْطٍ } لأن الأثل لا أكل له . وعن الحسن : قلل السدر لأنه أكرم ما بدلوا لأنه يكون في الجنان { ذَلِكَ جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ } أي جزيناهم ذلك بكفرهم فهو مفعول ثان مقدم { وَهَلْ نُجَازِىِ إِلاَّ الكفور } كوفي غير أبي بكر . { وَهَلْ نُجازَى إِلاَّ الكفور } غيرهم يعني وهل نجازي مثل هذا الجزاء إلا من كفر النعمة ولم يشكرها أو كفر بالله ، أو هل يعاقب لأن الجزاء وإن كان عاماً يستعمل في معنى المعاقبة وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص وهو العقاب . وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام .
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم } بين سبإٍ { وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } بالتوسعة على أهلها في النعم والمياه وهي قرى الشام { قُرًى ظاهرة } متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها فهي ظاهرة لأعين الناظرين ، أو ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبإٍ إلى الشام { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } أي جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم يقيل المسافر في قرية ويروح في أخرى إلى أن يبلغ الشام { سِيرُواْ فِيهَا } وقلنا لهم سيروا ولا قول ثمة ، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه فكأنهم أمروا بذلك { ليالي وأياماً آمنين } أي سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات أي سيروا فيها آمنين لا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياماً وليالي { فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا } قالوا يا ليتها كانت بعيدة فنسير على نجائبنا ، ونربح في التجارات ونفاخر في الدواب والأسباب ، بطروا النعمة وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب ، { بَعْدَ } مكي وأبو عمرو { وَظَلَمُواْ } بما قالوا { أَنفُسَهُمْ فجعلناهم أَحَادِيثَ } يتحدث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم { ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } وفرقناهم تفريقاً اتخذه الناس مثلاً مضروباً يقولون «ذهبوا أيدي سبأ» و «تفرقوا أيادي سبأ» فلحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ } عن المعاصي { شَكُورٍ } للنعم أو لكل مؤمن لأن الإيمان نصفان نصفه شكر ونصفه صبر .

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)

{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } بالتشديد : كوفي أي حقق عليهم ظنه أو وجده صادقاً ، وبالتخفيف : غيرهم أي صدق في ظنه { فاتبعوه } الضمير في { عَلَيْهِمْ } و { اتبعوه } لأهل سبإ أو لبني آدم . وقلل المؤمنين بقوله { إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين } لقلتهم بالإضافة إلى الكفار { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } [ الأعراف : 17 ] { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ } لإبليس على الذين صار ظنه فيهم صدقاً { مِنْ سلطان } من تسليط واستيلاء بالوسوسة { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } موجوداً ما علمناه معدوماً والتغير على المعلوم لا على العلم { مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ } محافظ عليه وفعيل ومفاعل متآخيان { قُلْ } لمشركي قومك { ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مّن دُونِ الله } أي زعمتموهم آلهة من دون الله ، فالمفعول الأول الضمير الراجع إلى الموصول وحذف كما حذف في قوله { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] استخفافاً لطول الموصول بصلته . والمفعول الثاني آلهة وحذف لأنه موصوف صفته { مِن دُونِ الله } والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوماً ، فإذاً مفعولا زعم محذوفان بسببين مختلفين ، والمعنى ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته ، ثم أجاب عنهم بقوله { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ } من خير أو شر أو نفع أو ضر { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } وما لهم في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك { وَمَا لَهُ } تعالى { مِنْهُمْ } من آلهتهم { مّن ظَهِيرٍ } من عوين يعينه على تدبير خلقه يريد أنهم على هذه الصفة من العجز فكيف يصح أن يدعوا كما يدعي ويرجوا كما يرجى .
{ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي أذن له الله يعني إلا من وقع الإذن للشفيع لأجله وهي اللام الثانية في قولك «أذن لزيد لعمرو» أي لأجله ، وهذا تكذيب لقولهم { هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } { أَذِنَ لَهُ } كوفي غير عاصم إلا الأعشى { حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن و { فَزّعَ } شامي أي الله تعالى ، والتفزيع إزالة الفزع و { حتى } غاية لما فهم من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقفاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن لهم كأنه قيل : يتربصون ويتوقعون ملياً فزعين حتى إذا فزع عن قلوبهم { قَالُواْ } سأل بعضهم بعضاً { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ } قال { الحق } أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى .

{ وَهُوَ العلى الكبير } ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه وان يشفع إلا لمن ارتضى
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماوات والأرض قُلِ الله } أمره بأن يقررهم بقوله { مَن يَرْزُقُكُم } ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله «يرزقكم الله» وذلك للإشعار بأنهم مقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به لأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق ، وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } ومعناه وإن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موالٍ أو منافٍ قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك . وفي درجة بعد تقدم ما قدم من التقرير دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين ولكن التعرض أوصل بالمجادل إلى الغرض ، ونحوه قولك للكاذب «إن أحدنا لكاذب» . وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال كأنه ينغمس في ظلام لا يرى أين يتوجه .
{ قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } هذا أدخل في الإنصاف من الأول حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه محظور ، والعمل إلى المخاطبين وهو مأمور به مشكور .
{ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يوم القيامة { ثُمَّ يَفْتَحُ } يحكم { بَيْنَنَا بالحق } بلا جور ولا ميل { وَهُوَ الفتاح } الحاكم { العليم } بالحكم { قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ } أي ألحقتموهم { بِهِ } بالله { شُرَكَاء } في العبادة معه . ومعنى قوله { أَرُونِىَ } وكان يراهم أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله وأن يطلعهم على حالة الإشراك به { كَلاَّ } ردع وتنبيه أي ارتدعوا عن هذا القول وتنبهوا عن ضلالكم { بَلْ هُوَ الله العزيز } الغالب فلا يشاركه أحد وهو ضمير الشأن { الحكيم } في تدبيره { وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتّهم أن يخرج منها أحد منهم . وقال الزجاج : معنى الكافة في اللغة الإحاطة ، والمعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ ، فجعله حالاً من الكاف والتاء على هذا للمبالغة كتاء الراوية والعلاّمة { بَشِيراً } بالفضل لمن أقر { وَنَذِيرًا } بالعدل لمن أصر { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } فيحملهم جهلهم على مخالفتك .

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)

{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } أي القيامة المشار إليها في قوله { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } { إِن كُنتُمْ صادقين قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ } الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا الزمان ويدل عليه قراءة من قرأ { مّيعَادُ يَوْمٍ } فأبدل منه اليوم ، وأما الإضافة فإضافة تبيين كما تقول «بعير سانية» { لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال ولا التقدم إليه بالاستعجال ، ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم أنهم سألوا عن ذلك وهم منكرون له تعنتاً لا استرشاداً فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً للسؤال على الإنكار والتعنت وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } أي أبو جهل وذووه { لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ } أي ما نزل قبل القرآن من كتب الله أو القيامة والجنة والنار حتى إنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله ، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ } محبوسون { عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ } يرد { بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول } في الجدال أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمخاطب : ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب فحذف الجواب { يَقُولُ الذين استضعفوا } أي الأتباع { لِلَّذِينَ استكبروا } أي للرؤوس والمقدمين { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } لولا دعاؤكم إيانا إلى الكفر لكنا مؤمنين بالله ورسوله { قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى } أولى الاسم أي نحن حرف الانكار لأن المراد إنكار أن يكون هم الصادين لهم عن الإيمان وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه وأنهم أتوا من قبل اختيارهم { بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ } إنما وقعت «إذ» مضافاً إليها وإن كانت «إذ» و «إذا» من الظروف اللازمة للظرفية لأنه قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره فأضيف إليها الزمان { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } كافرين لاختياركم وإيثاركم الضلال على الهدى لا بقولنا وتسويلنا . { وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا } لم يأت بالعاطف في { قَالَ الذين استكبروا } وأتى به في { وَقَالَ الذين استضعفوا } لأن الذين استضعفوا مر أولاً كلامهم فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستئناف ، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين فعطف على كلامهم الأول { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } بل مكركم بنا بالليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه ، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي أي الليل والنهار مكراً بطول السلامة فيهما حتى ظننا أنكم على الحق { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } أشباهاً .

والمعنى أن المستكبرين لما أنكروا بقولهم { أَنَحْنُ صددناكم } أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } أن ذلك بكسبهم واختيارهم ، كر عليهم المستضعفون بقولهم { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } فأبطلوا إضرابهم بأضرابهم كأنهم قالوا : ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد { وَأَسَرُّواْ الندامة } أضمروا أو أظهروا وهو من الأضداد وهم الظالمون في قوله { إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ } يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } الجحيم { وَجَعَلْنَا الأغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } أي في أعناقهم فجاء بالصريح للدلالة على ما استحقوا به الأغلال { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ } نبي { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } متنعموها ورؤساؤها { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وافتخروا بكثرة الأموال والأولاد كما قال { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم نظراً إلى أحوالهم في الدنيا ، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم الله ، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ، فأبطل الله ظنهم بأن الرزق فضل من الله يقسمه كيف يشاء ، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع وربما عكس ، وربما وسع عليهما أو ضيق عليهما فلا ينقاس عليهما أمر الثواب وذلك قوله :
{ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } قدر الرزق تضييقه قال الله تعالى { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } أي وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم ، وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث ، والزلفى والزلفة كالقربى والقربة ومحلها النصب على المصدر أي تقربكم قربة كقوله { أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } الاستثناء من «كم» في { تُقَرّبُكُمْ } يعني أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة . وعن ابن عباس : «إلا» بمعنى «لكن» ومن شرط جوابه { فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف } وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف ، ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشراً وقرأ يعقوب { جَزَاءً الضعف } ، على «فأولئك لهم الضعف جزاء» { بِمَا عَمِلُواْ } بأعمالهم { وَهُمْ فِى الغرفات } أي غرف منازل الجنة { الغرفة } حمزة { ءامِنُونَ } من كل هائل وشاغل .

{ والذين يَسْعَوْنَ فِى ءاياتنا } في إبطالها { معاجزين أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق } يوسع { لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ } «ما» شرطية في موضع النصب { مِن شَىْء } بيانه { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال أو آجلاً بالثواب جواب الشرط { وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } المطعمين لأن كل ما رزق غيره من سلطان أو سيد أو غيرهما فهو من رزق الله أجراه على أيدي هؤلاء ، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق . وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشتهٍ لا يجد وواجد لا يشتهي .
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } وبالياء فيهما : حفص ويعقوب . هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر :
إياك أعني واسمعي يا جاره
ونحوه قوله { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى } [ المائدة : 116 ] الآية { قَالُواْ } أي الملائكة { سبحانك } تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك { أَنتَ وَلِيُّنَا } الموالاة خلاف المعاداة وهي مفاعلة من الولي وهو القرب والولي يقع على الموالي والموالى جميعاً ، والمعنى أنت الذي تواليه { مِن دُونِهِمُ } إذ لا موالاة بيننا وبينهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله ، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها ، أو صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا هذه صور الملائكة فاعبدوها { أَكْثَرُهُمْ } أكثر الإنس أو الكفار { بِهِمُ } بالجن { مُؤْمِنُونَ } .

فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

{ فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } لأن الأمر في ذلك اليوم لله وحده لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لأحد ، لأن الدار دار ثواب وعقاب والمثيب والمعاقب هو الله . فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف والناس فيها مخلى بينهم يتضارون ويتنافعون ، والمراد أنه لا ضار ولا نافع يومئذ إلا هو . ثم ذكر عاقبة الظالمين بقوله { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } بوضع العبادة في غير موضعها معطوف على { لاَ يَمْلِكُ } { ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } في الدنيا { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي إذا قريء عليهم القرآن { بينات } واضحات { قَالُواْ } أي المشركون { مَا هذا } أي محمد { إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَذَآ } أي القرآن { إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرى } .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } أي وقالوا ، والعدول عنه دليل على إنكار عظيم وغضب شديد { لِلْحَقّ } للقرآن أو لأمر النبوة كله { لَمَّا جَاءهُمْ } وعجزوا عن الإتيان بمثله { إِنَّ هَذَا } أي الحق { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } بتوه على أنه سحر ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمله سماه سحراً { وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } أي ما أعطينا مشركي مكة كتباً يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك { وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ } ولا أرسلنا إليهم نذيراً يندرهم بالعقاب إن لم يشركوا . ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } أي وكذب الذين تقدموهم من الأمم الماضية والقرون الخالية الرسل كما كذبوا { وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم } أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال والأولاد { فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } للمكذبين الأولين فليحذروا من مثله . وبالياء في الوصل والوقف : يعقوب أي فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم مستظهرون ، فما بال هؤلاء؟ وإنما قال { فَكَذَّبُواْ } وهو مستغنى عنه بقوله { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } لأنه لما كان معنى قوله { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه وهو كقول القائل : «أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم » .
{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة } بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله { أَن تَقُومُواْ } على أنه عطف بيان لها وقيل هو بدل ، وعلى هذين الوجهين هو في محل الجر . وقيل : هو في محل الرفع على تقدير وهي أن تقوموا ، والنصب على تقدير أعني ، وأراد بقيامهم القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقهم عن مجتمعهم عنده ، أو قيام القصد إلى الشيء دون النهوض والانتصاب ، والمعنى إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا { لِلَّهِ } أي لوجه الله خالصاً لا لحمية ولا عصبية بل لطلب الحق { مثنى } اثنين اثنين { وفرادى } فرداً فرداً { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق ، وكذلك الفرد يتفكر في نفسه بعدل ونصفة ويعرض فكره على عقله .

ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ويعمي البصائر ويمنع من الروية ويقال الإنصاف فيه ويكثر الاعتساف ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب . و { تَتَفَكَّرُواْ } معطوف على { تَقُومُواْ } { مَا بصاحبكم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { مّن جِنَّةٍ } جنون . والمعنى ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قدام عذاب شديد وهو عذاب الآخرة وهو كقوله عليه السلام « بعثت بين يدي الساعة » ثم بين أنه لا يطلب أجراً على الإنذار بقوله :

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ } على إنذاري وتبليغي الرسالة { فَهُوَ لَكُمْ } جزاء الشرط تقديره أي شيء سألتكم من أجر كقوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] ومعناه نفي مسألة الأجر رأساً نحو مالي في هذا فهو لك أي ليس فيه شيء { إِنْ أَجْرِىَ } مدني وشامي وأبو بكر وحفص ، وبسكون الياء : غيرهم { إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ } فيعلم أني لا أطلب الأجر على نصحيتكم ودعائكم إليه إلا منه .
{ قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق } بالوحي . والقذف توجيه السهم ونحوه بدفع واعتماد ويستعار لمعنى الإلقاء ومنه { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] { أَنِ اقذفيه فِى التابوت } [ طه : 39 ] ومعنى يقذف بالحق يلقيه وينزله إلى أنبيائه أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه { علام الغيوب } مرفوع على البدل من الضمير في { يَقْذِفُ } أو على أنه خبر مبتدأ محذوف { قُلْ جَاء الحق } الإسلام والقرآن { وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } أي زال الباطل وهلك لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي فعدمهما عبارة عن الهلاك ، والمعنى جاء الحق وزهق الباطل كقوله { جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل } [ الإسراء : 81 ] وعن ابن مسعود رضي الله عنه : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة أصنام فجعل يطعنها بعود معه ويقول « جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد » وقيل : الباطل الأصنام . وقيل : إبليس لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك أي لا يخلق الشيطان ولا الصنم أحداً ولا يبعثه فالمنشيء والباعث هو الله . ولما قالوا : قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى { قُلْ إِن ضَلَلْتُ } عن الحق { فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى } إن ضللت فمني وعليّ { وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى } أي فتبسديده بالوحي إلي . وكان قياس التقابل أن يقال وإن اهتديت فإنما أهتدي لها كقوله : { فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [ الزمر : 41 ] . ولكن هما متقابلان معنى ، لأن النفس كل ما عليها وضار لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء ، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عام لكل مكلف ، وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به { إِنَّهُ سَمِيعٌ } لما أقوله لكم { قَرِيبٌ } مني ومنكم يجازيني ويجازيكم .
{ وَلَوْ تَرَى } جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة { إِذْ فَزِعُواْ } عند البعث أو عند الموت أو يوم بدر { فَلاَ فَوْتَ } فلا مهرب أو فلا يفوتون الله ولا يسبونه { وَأُخِذُواْ } عطف على { فَزِعُواْ } أي فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم أو على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من الموقف إلى النار إذا بعثوا أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا أو من صحراء بدر إلى القليب { وَقَالُواْ } حين عاينوا العذاب { آمَنَّا بِهِ } بمحمد عليه السلام لمرور ذكره في قوله

{ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } [ سبأ : 46 ] أو بالله { وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } التناوش : التناول أي كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم ، يريد أن التوبة كانت تقبل منهم في الدنيا وقد ذهبت الدنيا وبعدت من الآخرة . وقيل : هذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة كما يتناول الآخر من قيس ذراع . { التناؤش } بالهمزة : أبو عمرو وكوفي غير حفص همزت الواو لأن كل واو مضمومة ضمتها لازمة إن شئت أبدلتها همزة وإن شئت لم تبدل نحو قولك «أدور وتقاوم» ، وإن شئت قلت «أدؤر وتقاؤم» . وعن ثعلب : التناؤش بالهمز التناول من بعد ، وبغير همز التناول من قرب . { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } من قبل العذاب أو في الدنيا { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } معطوف على { قَدْ كَفَرُواْ } على حكاية الحال الماضية يعني وكانوا يتكلمون بالغيب أو بالشيء الغائب يقولون لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } عن الصدق أو عن الحق والصواب ، أو هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ساحر كذاب وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً . وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله لأن أبعد شيء مما جاء به السحر والشعر وأبعد شيء من عاداته التي عرفت بينهم وجربت الكذب { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } عن أبي عمرو على البناء للمفعول أي تأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه وإن شئت فعلقه بقوله { وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } على أنه مثّلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم { آمنا } في الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه بعيداً .
ويجوز أن يكون الضمير في { آمنا به } للعذاب الشديد في قوله : { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سبأ : 46 ] . وكانوا يقولون وما نحن بمعذبين إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا ، فهذا كان قذفهم بالغيب وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف { وَحِيلَ } وحجز { بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة أو من الرد إلى الدنيا كما حكي عنهم بقوله { فارجعنا نَعْمَلْ صالحا } [ السجدة : 12 ] والأفعال التي هي { فَزِعُواْ } { وَأُخِذُواْ } { وَحِيلَ } كلها للمضي والمراد بها الاستقبال لتحقق وقوعه { كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ } بأشباههم من الكفرة { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ } من أمر الرسل والبعث { مُرِيبٍ } موقع في الريبة من أرابه إذا أوقعه في الريبة ، هذا رد على من زعم أن الله لا يعذب على الشك والله أعلم .

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)

{ الحمد للَّهِ } حمد ذاته تعليماً وتعظيماً { فَاطِرِ السماوات } مبتدئها ومبتدعها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها . أي ابتدأتها { والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } إلى عباده { أُوْلِى } ذوي اسم جمع لذو وهو بدل من { رُسُلاً } أو نعت له { أَجْنِحَةٍ } جمع جناح { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } صفات لأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر كما عدل عمر عن عامر وعن تكرير إلى غير تكرير . وقيل : للعدل والوصف والتعويل عليه ، والمعنى أن الملائكة طائفة أجنحتهم اثنان اثنان أي لكل واحد منهم جناحان ، وطائفة أجنحتهم ثلاثة ثلاثة ، ولعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة ، وطائفة أجنحتهم أربعة أربعة { يَزِيدُ فِى الخلق } أي يزيد في خلق الأجنحة وغيره { مَا يَشَآءُ } وقيل : هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن والخط الحسن والملاحة في العينين ، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وذلاقة في اللسان ومحبة في قلوب المؤمنين وما أشبه ذلك { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } قادر .
{ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } نكرت الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قال من أية رحمة رزق أو مطر أو صحة أو غير ذلك { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها ، واستعير الفتح للإطلاق والإرسال ألا ترى إلى قوله { وَمَا يُمْسِكُ } يمنع ويحبس { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } مطلق له { مِن بَعْدِهِ } من بعد إمساكه . وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمن معنى الشرط على معنى الرحمة ، ثم ذكره حملاً على اللفظ المرجع إليه إذ لا تأنيث فيه لأن الأول فسر بالرحمة فحسن اتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير . وعن معاذ مرفوعاً «لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم ويعظم برهم فاجرهم وتعن قراؤهم أمراءهم على معصية الله فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم» . { وَهُوَ العزيز } الغالب القادر على الإرسال والإمساك { الحكيم } الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه .
{ يأَيُّهَا الناس اذكروا } باللسان والقلب { نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } وهي التي تقدمت من بسط الأرض كالمهاد ، ورفع السماء بلا عماد ، وإرسال الرسل لبيان السبيل دعوة إليه وزلفة لديه ، والزيادة في الخلق وفتح أبواب الرزق . ثم نبه على رأس النعم وهو اتحاد المنعم بقوله { هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله } برفع { غَيْرُ } على الوصف لأن { خالق } مبتدأ خبره محذوف أي لكم .

وبالجر : علي وحمزة على الوصف لفظاً { يَرْزُقُكُمْ } يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون صفة ل { خالق } { مِّنَ السمآء } بالمطر { والأرض } بأنواع النبات { لآ إله إِلاَّ هُوَ } جملة مفصولة لا محل لها { فأنى تُؤْفَكُونَ } فبأي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك . { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله وتكذيبهم بها ، وسلى رسوله بأن له في الأنبياء قبله أسوة ولهذا نكر { رُسُل } أي رسل ذوو عدد كبير وأولو آيات ونذر وأهل أعمال طوال وأصحاب صبر وعزم لأنه أسلى له ، وتقدير الكلام وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك لأن الجزاء يتعقب الشرط ، ولو أجرى على الظاهر يكون سابقاً عليه . ووضع { فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } موضع «فتأس» استغناء بالسبب عن المسبب أي بالتذكيب عن التأسي { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } كلام يشتمل على الوعد والوعيد من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذّب والمكذّب بما يستحقانه ، { ترجع } بفتح التاء : شامي وحمزة وعلي ويعقوب وخلف وسهل .
{ يأَيُّهَا الناس إِنَّ وَعْدَ الله } بالبعث والجزاء { حَقٌّ } كائن { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } فلا تخدعنكم الدنيا ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } أي الشيطان فإنه يمنِّيكم الأمانيّ الكاذبة ويقول إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك .
{ إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ } ظاهر العداوة فعل بأبيكم ما فعل وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بأحواله { فاتخذوه عَدُوّاً } في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجَدنّ منكم إلا ما يدل على معاداته في سركم وجهركم . ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأن غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته هو أن يوردهم مورد الهلاك بقوله { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير } .
ثم كشف الغطاء فبنى الأمر كله على الإيمان وتركه فقال { الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي فمن أجابه حين دعاه فله عذاب شديد لأنه صار من حزبه أي أتباعه { والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ولم يجيبوه ولم يصيروا من حزبه بل عادوه { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } لكبر جهادهم . ولما ذكر الفريقين قال لنبيه عليه السلام { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً } بتزيين الشيطان كمن لم يزين له فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ، فقال { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } وذكر الزجاج أن المعنى : أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليه حسرة ، فحذف الجواب لدلالة { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ } عليه ، أو أفمن له سوء عمله كمن هداه الله فحذف لدلالة { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء } عليه .

{ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ } : يزيد أي لا تهلكها { حسرات } مفعول له يعني فلا تهلك نفسك للحسرات و { عَلَيْهِمْ } صلة { تَذْهَبْ } كما تقول : هلك عليه حباً ومات عليه حزناً . ولا يجوز أن يتعلق ب { حسرات } لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم { والله الذى أَرْسَلَ الرياح } { الريح } : مكي وحمزة وعلي { فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } بالتشديد : مدني وحمزة وعلي وحفص ، وبالتخفيف : غيرهم . { فَأَحْيَيْنَا بِهِ } بالمطر لتقدم ذكره ضمناً { الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } يبسها . وإنما قيل { فَتُثِيرُ } لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصورة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب ، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها . لما كان من الدليل على القدرة الباهرة قيل فسقنا وأحيينا معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه { كَذَلِكَ النشور } الكاف في محل الرفع أي مثل إحياء الموت نشور الأموات قيل يحيي الله الخلق بما يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

{ مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } أي العزة كلها مختصة ، بالله عزة الدنيا وعزة الآخرة وكان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال : { واتخذوا مِن دُونِ الله ءَالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] . والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] . فبين أن لا عزة إلا بالله . والمعنى فليطلبها عند الله فوضع قوله { لِلَّهِ العزة جَمِيعاً } موضعه استغناء عنه به لدلالته عليه لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه وماله ونظير قولك : «من أراد النصيحة فهي عند الأبرار» . تريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت مايدل عليه مقامه ، وفي الحديث " إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز " ثم عرف أن ما يطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } ومعنى قوله { إِلَيْهِ } إلى محل القبول والرضا وكل ما اتصف بالقبول وصف بالرفعة والصعود ، أو إلى حيث لا ينفذ فيه إلا حكمه والكلم الطيب كلمات التوحيد أي لا إله إلا الله . وكان القياس الطيبة ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يذكر ويؤنث . والعمل الصالح العبادة الخالصة يعني والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب فالرافع الكلم والمرفوع العمل لأنه لا يقبل عمل إلا من موحد . وقيل : الرافع الله والمرفوع العمل أي العمل الصالح يرفعه الله ، وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع والكلم الطيب يصعد بنفسه . وقيل : العمل الصالح يرفع العامل ويشرفه أي من أراد العزة فليعمل عملاً صالحاً فإنه هو الذي يرفع العبد { والذين يَمْكُرُونَ السيئات } هي صفة لمصدر محذوف أي المكرات السيئات لأن مكر فعل غير متعدٍ ، لا يقال مكر فلان عمله . والمراد مكر قريش به عليه السلام حين اجتمعوا في دار الندوة كما قال الله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } [ الأنفال : 130 ] الآية { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ } مبتدأ { هُوَ } فصل { يَبُورُ } خبر أي ومكر أولئك الذين مكروا هو خاصة يبور أي يفسد ويبطل دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم جميعاً حقق بهم . قوله تعالى { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] وقوله { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] .
{ والله خَلَقَكُمْ } أي أباكم { مّن تُرَابٍ ثُمَّ } أنشأكم { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا } أصنافاً أو ذكراناً وإناثاً { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } هو في موضع الحال أي معلومة له { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي وما يعمر من أحد .

وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب } يعني اللوح أو صحيفة الإنسان ولا ينقص زيد . فإن قلت : الإنسان إما معمر أي طويل العمر أو منقوص العمر أي قصيره ، فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال فكيف صح قوله { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } قلت : هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد وعليه كلام الناس يقولون : لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق . أو تأويل الآية أنه يكتب في الصحيفة عمره كذا كذا سنة ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي على آخره فذلك نقصان عمره . وعن قتادة : المعمر من يبلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة { إِنَّ ذلك } أي إحصاءه أو زيادة العمر ونقصانه { عَلَى الله يَسِيرٌ } سهل .
{ وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا } أي أحدهما { عَذْبٌ فُرَاتٌ } شديد العذوبة . وقيل : هو الذي يكسر العطش { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } مريء سهل الانحدار لعذوبته وبه ينتفع شرّابه { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } شديد الملوحة . وقيل : هو الذي يحرق بملوحته { وَمِن كُلِّ } ومن كل واحد منهما { تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } وهو السمك { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } وهي اللؤلؤ والمرجان { وَتَرَى الفلك فِيهِ } في كل { مَوَاخِرَ } شواقّ للماء بجريها . يقال : مخرت السفينة الماء أي شقته وهي جمع ماخرة { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } من فضل الله ولم يجر له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على ما أتاكم من فضله . ضرب البحرين العذب والملح مثلين للمؤمن والكافر . ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علّق بهما من نعمته وعطائه ، ويحتمل غير طريق الاستطراد وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه . والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ثم قال { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خشية الله } [ البقرة : 74 ] .
{ يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } يدخل من ساعات أحدهما في الآخر حتى يصير الزائد منهما خمس عشرة ساعة والناقص تسعاً { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } أي ذلل أضواء صوره لاستواء سيره { كُلٌّ يَجْرِى لأَِجَلٍ مُّسَمًّى } أي يوم القيامة ينقطع جريهما { ذلكم } مبتدأ { الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك } أخبار مترادفة أو { الله رَبُّكُمُ } خبر إن و { لَهُ الملك } جملة مبتدأة واقعة في قران قوله { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعني الأصنام التي تعبدونها من دون الله يدعون قتيبة { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } هي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة { إِن تَدْعُوهُمْ } أي الأصنام { لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } لأنهم جماد { وَلَوْ سَمِعُواْ } على سبيل الفرض { مَا استجابوا لَكُمْ } لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من الإلهية ويتبرءون منها { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم ويقولون ما كنتم إيانا تعبدون { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } ولا ينبئك أيها المفتون بأسباب الغرور كما ينبك الله الخبير بخبايا الأمور ، وتحقيقه ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به يريد أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به ، والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

{ ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله } قال ذو النون : الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة وكيف لا ووجودهم به وبقاؤهم به! { والله هُوَ الغنى } عن الأشياء أجمع { الحميد } المحمود بكل لسان ، ولم يسمهم بالفقراء للتحقير بل للتعريض على الاستغناء ولهذا وصف نفسه بالغني الذي هو مطعم الأغنياء ، وذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه والجواد المنعم عليهم إذ ليس كل غني نافعاً بغناه إلا إذا كان الغني جواداً منعماً وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم . قال سهل : لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى ولهم بالفقر ، فمن ادعى الغنى حجب عن الله ، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه . فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسر إليه ومنقطعاً عن الغير إليه حتى تكون عبوديته محضة ، فالعبودية هي الذل والخضوع وعلامته أن لا يسأل من أحد . وقال الواسطي : من استغنى بالله لا يفتقر ومن تعزز بالله لا يذل . وقال الحسين : على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنياً بالله وكلما ازداد افتقاراً ازداد غنى . وقال يحيى : الفقر خير للعبد من الغنى لأن المذلة في الفقر والكبر في الغنى ، والرجوع إلى الله بالتواضع ، والذلة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال . وقيل : صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء . وقال الشبلي : الفقر يجر البلاء وبلاؤه كله عز .
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } كلكم إلى العدم فإن غناه بذاته لا بكم في القدم { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } وهو بدون حمدكم حميد { وَمَا ذلك } الأنشاء والإفناء { عَلَى الله بِعَزِيزٍ } بممتنع . وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً . { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى . والوزر والوقر أخوان ، ووزر الشيء إذا حمله ، والوازرة صفة للنفس ، والمعنى أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته لا تؤاخذ نفس بذنب نفس كما تأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولي والجار بالجار . وإنما قيل { وازرة } ولم يقل ولا تزر نفس وزر أخرى ، لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها . وقوله { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] وارد في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم ، ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم { اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] بقوله { وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء } [ العنكبوت : 12 ] { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي نفس مثقلة بالذنوب أحداً { إلى حِمْلِهَا } ثقلها أي ذنوبها ليتحمل عنها بعض ذلك { لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ } أي المدعو وهو مفهوم من قوله { وَإِن تَدْعُ } { ذَا قربى } ذا قرابة قريبة كأب أو ولد أو أخ .

والفرق بين معنى قوله { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } ومعنى { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء } أن الأول دال على عدل الله في حكمه وأن لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها ، والثاني في بيان أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث حتى إن نفساً قد أثقلتها الأوزار لودعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث وإن كان المدعو بعض قرابتها { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي إنما ينتفع بإنذارك هؤلاء { بالغيب } حال من الفاعل أو المفعول أي يخشون ربهم غائبين عن عذابه ، أو يخشون عذابه غائباً عنهم . وقيل : بالغيب في السر حيث لا اطلاع للغير عليه { وَأَقَامُوا الصلاوة } في مواقيتها { وَمَن تزكى } تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي { فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ } وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي { وإلى الله المصير } المرجع وهو وعد للمتزكي الثواب . { وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير } مثل للكافر والمؤمن أو للجاهل والعالم .
{ وَلاَ الظلمات } مثل للكفر { وَلاَ النور } للإيمان { وَلاَ الظل وَلاَ الحرور } الحق والباطل أو الجنة والنار . والحرور الريح الحار كالسموم إلا أن السموم تكون بالنهار والحرور بالليل والنهار . عن الفراء { وَمَا يَسْتَوِى الأحيآء وَلاَ الأموات } مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه وزيادة . «لا» لتأكيد معنى النفي . والفرق بين هذه الواوات أن بعضها ضمت شفعاً إلى شفع وبعضها وتراً إلى وتر { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور } يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه فيهدي من يشاء هدايته ، وأما أنت فخفي عليك أمرهم فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين . شبه الكفار بالموتى حيث لا ينتفعون بمسموعهم { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع وإن كان من المصرين فلا عليك { إِنَّا أرسلناك بالحق } حال من أحد الضميرين يعني محقاً أو محقين أو صفة للمصدر أي إرسالاً مصحوباً بالحق { بَشِيراً } بالوعد { وَنَذِيرًا } بالوعيد { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ } وما من أمة قبل أمتك . والأمة : الجماعة الكثيرة وجد عليه أمة من الناس ويقال لأهل كل عصر أمة ، والمراد هنا أهل العصر وقد كانت آثار النذارة باقية فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام فلم تخل تلك الأمم من نذير ، وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث محمد عليه السلام { إِلاَّ خَلاَ } مضى { فِيهَا نَذِيرٌ } يخوفهم وخامة الطغيان وسوء عاقبة الكفران ، واكتفى بالنذير عن البشير في آخر الآية بعدما ذكرهما لأن النذارة مشفوعة بالبشارة فدل ذكر النذارة على ذكر البشارة .

{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } رسلهم { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم } حال و«قد» مضمرة { بالبينات } بالمعجزات { وبالزبر } وبالصحف { وبالكتاب المنير } أي التوراة والإنجيل والزبور . ولما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ أَخَذْتُ } عاقبت { الذين كَفَرُواْ } بأنواع العقوبة { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } إنكاري عليهم وتعذيبي لهم { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ } بالماء { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } طرق مختلفة جدة كمدة ومدد { بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ } جمع غربيب وهو تأكيد للأسود . يقال : أسود غربيب وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب . وكان من حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك «أصفر فاقع» إلا أنه أضمر المؤكد قبله والذي بعده تفسير للمضمر ، وإنما يفصل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعاً ، ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال { ثمرات مختلفاً ألوانها } .
{ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } يعني ومنهم بعض مختلف ألوانه { كذلك } أي كاختلاف الثمرات والجبال . ولما قال { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدل به عليه وعلى صفاته ، أتبع ذلك { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماؤا } أي العلماء به الذين علموه بصفاته فعظموه ومن ازداد علماً به ازداد منه خوفاً ومن كان علمه به أقل كان آمن . وفي الحديث " أعلمكم بالله أشدكم له خشية " وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يؤذن أن معناه أن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم ولو عكس لكان المعنى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله : { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } [ الأحزاب : 39 ] وبينهما تغاير ، ففي الأول بيان أن الخاشين هم العلماء ، وفي الثاني بيان أن المخشي منه هو الله تعالى . وقرأ أبو حنيفة وابن عبد العزيز وابن سيرين رضي الله عنهم { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } والخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى إنما يعظم الله من عباده العلماء { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم والمعاقب المثيب حقه أن يخشى .

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

{ إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله } يداومون على تلاوة القرآن { وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } أي مسرين النفل ومعلنين الفرض يعني لا يقتنعون بتلاوته عن حلاوة العمل به { يَرْجُونَ } خبر «إنّ» { تجارةً } هي طلب الثواب بالطاعة { لَّن تَبُورَ } لن تكسد يعني تجارة ينتفى عنها الكساد وتنفق عند الله { لِيُوَفّيَهُمْ } متعلق ب { لَّن تَبُورَ } أي ليوفيهم بنفاقها عنده { أُجُورَهُمْ } ثواب أعمالهم { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } بتفسيح القبور أو بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم أو بتضعيف حسناتهم أو بتحقيق وعد لقائه . أو { يَرْجُونَ } في موضع الحال أي راجين . واللام في { لِيُوَفّيَهُمْ } تتعلق ب { يَتْلُونَ } وما بعده أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق لهذا الغرض وخبر «إنّ» { إِنَّهُ غَفُورٌ } لفرطاتهم { شَكُورٍ } أي غفورٌ لهم شكور لأعمالهم أي يعطي الجزيل على العمل القليل { والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } أي القرآن . و«من» للتبيين { هُوَ الحق مُصَدّقاً } حال مؤكدة لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما تقدمه من الكتب { إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } فعلمك وأبصر أحوالك ورآك أهلاً لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب .
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي حكمنا بتوريثه { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } وهم أمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بكرامة الإنتماء إلى أفضل رسله . ثم رتبهم على مراتب فقال { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } وهو المرجأ لأمر الله { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } وهذا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين } [ التوبة : 100 ] الآية وقال بعده : { وَءَاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } [ التوبة : 102 ] الآية وقال بعده : { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ الله } [ التوبة : 106 ] الآية . والحديث فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له " وعنه عليه السلام : " السابق يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة ، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة " رواه أبو الدرداء .
والأثر فعن ابن عباس رضي الله عنهما : السابق المخلص ، والمقتصد المرائي ، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة . وقول السلف فقد قال الربيع بن أنس : الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد صاحب الصغائر ، والسابق المجتنب لهما .

وقال الحسن البصري : الظالم من رجحت سيئاته ، والسابق من رجحت حسناته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته . وسئل أبو يوسف رحمه الله عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون ، وأما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده فإنه قال : { فَمِنْهُمْ } { وَمِنْهُمُ } { وَمِنْهُمُ } والكل راجع إلى قوله { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور . وإنما قدم الظالم للإيذان بكثرتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل . وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله . وقيل : إنما قدمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربه . وقيل : إن أول الأحوال معصية ثم توبة ثم استقامة . وقال سهل : السابق العالم والمقتصد المتعلم والظالم الجاهل . وقال أيضاً : السابق الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد الذي اشتغل بمعاشه ومعاده ، والظالم الذي اشتغل بمعاشه عن معاده . وقيل : الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق . وقيل : الظالم من أخذ الدنيا حلالاً كانت أو حراماً ، والمقتصد من يجتهد أن لا يأخذها إلا من حلال ، والسابق من أعرض عنها جملة . وقيل : الظالم طالب الدنيا ، والمقتصد طالب العقبي ، والسابق طالب المولى { بِإِذُنِ الله } بأمره أو بعلمه أو بتوفيقه { ذلك } أي إيراث الكتاب { هُوَ الفضل الكبير*جنات عَدْنٍ } خبر ثان ل { ذلك } أو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر { يَدْخُلُونَهَا } أي الفرق الثلاثة { يَدْخُلُونَهَا } : أبو عمرو { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } جمع أسورة جمع سوار { مّن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } أي من ذهب مرصع باللؤلؤ { ذَهَبٍ } بالنصب والهمزة : نافع وحفص عطفاً على محل { مِنْ أَسَاوِرَ } أي يحلون أساور ولؤلؤاً { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } لما فيه من اللذة والزينة .
{ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } خوف النار أو خوف الموت أو هموم الدنيا { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ } يغفر الجنايات وإن كثرت { شَكُورٌ } يقبل الطاعات وإن قلت { الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة } أي الإقامة لا نبرح منها ولا نفارقها يقال أقمت إقامة ومقاماً ومقامة { مِن فَضْلِهِ } من عطائه وإفضاله لا باستحقاقنا { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } تعب ومشقة { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } إعياء من التعب وفترة . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي { لغُوبٌ } بفتح اللام وهو شيء يلغب منه أي لا نتكلف عملاً يلغبنا { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } جواب النفي ونصبه بإضمار «أن» أي لا يقضى عليهم بموت ثانٍ فيستريحوا { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا } من عذاب نار جهنم { كذلك } مثل ذلك الجزاء { نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } { يجزى كُلَّ كَفُورٍ } : أبو عمرو { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } يستغيثون فهو يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد ومشقة ، واستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث { رَبَّنَا } يقولون ربنا { أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } أي أخرجنا من النار ردنا إلى الدنيا نؤمن بدل الكفر ونطع بعد المعصية فيجاوبون بعد فدر عمر الدنيا { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } يجوز أن يكون «ما» نكرة موصوفة أي تعميراً يتذكر فيه من تذكر وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر ، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم .

ثم قيل : هو ثمان عشرة سنة . وقيل : أربعون . وقيل : ستون سنة { وَجَاءكُمُ النذير } الرسول عليه السلام أو المشيب وهو عطف على معنى { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ } لأن لفظه لفظ استخبار ومعناه إخبار كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم النذير { فَذُوقُواْ } العذاب { فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } ناصر يعينهم .

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

{ إِنَّ الله عالم غَيْبِ السماوات والأرض } ما غاب فيهما عنكم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } كالتعليل لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون فقد علم كل غيب في العالم . وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذو في نحو قول أبي بكر رضي الله عنه : ذو بطن خارجة جاريةٌ . أي ما في بطنها من الحبل لأن الحبل يصحب البطن . وكذا المضمرات تصحب الصدور وذو موضوع لمعنى الصحبة { هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الأرض } يقال للمستخلف خليفة ويجمع على خلائف ، والمعنى أنه جعلكم خلفاء في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة { فَمَن كَفَرَ } منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } فوبال كفره راجع عليه وهو مقت الله وخسار الآخرة كما قال { وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً } وهو أشد البغض { وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } هلاكاً وخسراناً { قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ } آلهتكم التي أشركتموهم في العباد { الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } { أَرُونِىَ } بدل من { أَرَءَيْتُمْ } أخبروني كأنه قيل : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الشركة ، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله؟ { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السماوات } أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات { أَمْ ءاتيناهم كتابا فَهُمْ على بينات مِّنْهُ } أي معهم كتاب من عند الله ينطق أنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب . { بينات } علي وابن عامر ونافع وأبو بكر { بَلْ إِن يَعِدُ } ما يعد { الظالمون بَعْضُهُم } بدل من { الظالمون } وهم الرؤساء { بَعْضًا } أي الأتباع { إِلاَّ غُرُوراً } هو قولهم { هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] . { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } يمنعهما من أن تزولا لأن الإمساك منع { وَلَئِن زَالَتَآ } على سبيل الفرض { إِنْ أَمْسَكَهُمَا } ما أمسكهما { مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } من بعد إمساكه . و«من» الأولى مزيدة لتأكيد النفي والثانية للابتداء { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدَّا هدًّا لعظم كلمة الشرك كما قال { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض } [ مريم : 90 ] الآية .
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } نصب على المصدر أي إقساماً بليغاً أو على الحال أي جاهدين في أيمانهم { لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم } بلغ قريشاً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم أي من الأمة التي يقال فيها هي إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة كما يقال للداهية العظيمة هي إحدى الدواهي { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم { مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } أي ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تباعداً عن الحق وهو إسناد مجازي { استكبارا فِى الأرض } مفعول له وكذا { وَمَكْرَ السيىء } والمعنى وما زادهم إلا نفوراً للاستنكار ومكر السيء ، أو حال يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأصل قوله ومكر السيء وأن مكروا السيء أي المكر السيء ، ثم ومكراً السيء ثم ومكر السيء والدليل عليه وقوله { وَلاَ يَحِيقُ } يحيط وينزل { المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ولقد حاق بهم يوم بدر وفي المثل «من حفر لأخيه جباً وقع فيه مكباً { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتُ الأولين } وهو إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم ، والمعنى فهل ينظرون بعد تكذيبك إلا أن ينزل بهم العذاب مثل الذي نزل بمن قبلهم من مكذبي الرسل ، جعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً } بين أن سنته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل سنة لا يبدلها في ذاتها ولا يحولها عن أوقاتها وأن ذلك مفعول لا محالة .
{ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم { وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ } من أهل مكة { قُوَّةَ } اقتداراً فلم يتمكنوا من الفرار { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ } ليسبقه ويفوته { مِن شَىْءٍ } أيّ شيء { فِى السماوات وَفِى الارض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً } بهم { قَدِيراً } قادراً عليهم { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ } بما اقترفوا من المعاصي { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } على ظهر الأرض لأنه جرى ذكر الأرض في قوله { لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض } [ فاطر : 44 ] { مِن دَآبَّةٍ } من نسمة تدب عليها { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } إلى يوم القيامة { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } أي لم تخف عليه حقيقة أمرهم وحكمة حكمهم والله الموفق للصواب .

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)

{ يس } عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه يا إنسان في لغة طيء ، وعن ابن الحنفية يا محمد ، وفي الحديث : " إن الله سماني في القرآن بسبعة أسماء : محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله " وقيل يا سيد . { يَاسِين } بالإمالة : علي وحمزة وخلف وحماد ويحيى { والقرءان } قسم { الحكيم } ذي الحكمة أو لأنه دليل ناطق بالحكمة أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } جواب القسم وهو رد على الكفار حين قالوا : { لَسْتَ مُرْسَلاً } [ الرعد : 43 ] { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } خبر بعد خبر أوصلة ل { المرسلين } أي الذين أرسلوا على صراط مستقيم أي طريقة مستقيمة وهو الإسلام { تَنزِيلَ } بنصب اللام : شامي وكوفي غير أبي بكر على «اقرأ تنزيل» أو على أنه مصدر أي نزل تنزيل ، وغيرهم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل والمصدر بمعنى المفعول { العزيز } الغالب بفصاحة نظم كتابه أو هام ذوي العناد { الرحيم } الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهام أولي الرشاد . واللام في { لِتُنذِرَ قَوْماً } متصل بمعنى المرسلين أي أرسلت لتنذر قوماً { مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ } «ما» نافية عند الجمهور أي قوماً غير منذر آباؤهم على الوصف بدليل قوله { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } [ القصص : 46 ] { وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ } [ سبأ : 44 ] . أو موصولة منصوبة على المفعول الثاني أي العذاب الذي أنذره آباؤهم كقوله { إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] أو مصدرية أي لتنذر قوماً إنذار آبائهم أي مثل إنذار آبائهم { فَهُمْ غافلون } إن جعلت «ما» نافية فهو متعلق بالنفي أي لم ينذروا فهم غافلون وإلا فهو متعلق بقوله : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين لّتُنذِرَ } . كما تقول «أرسلتك إلى فلان لتنذره فإنه غافل أو فهو غافل» { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } يعني قوله : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] أي تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر .
ثم مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر ، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله بقوله { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا فَهِىَ إِلَى الأذقان } معناه فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها { فَهُم مُّقْمَحُونَ } مرفوعة رءوسهم . يقال : قمح البعير فهو قامح إذا روي فرفع رأسه وهذا لأن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجاً من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحاً { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } بفتح السين : حمزة وعلي وحفص .

وقيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله كالجبل ونحوه فبالضم { فأغشيناهم } فأغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } الحق والرشاد . وقيل : نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره { وَسَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي سواء عليهم الإنذار وتركه ، والمعنى من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار . ورُوي أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية على غيلان القدري فقال : كأني لم أقرأها أشهدك أني تائب عن قولي في القدر . فقال عمر : اللهم إن صدق فتب عليه وإن كذب فسلط عليه من لا يرحمه ، فأخذه هشام بن عبد الملك من عنده فقطع يديه ورجليه وصلبه على باب دمشق { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } أي إنما ينتفع بإنذارك من اتبع القرآن { وَخشِىَ الرحمن بالغيب } وخاف عقاب الله ولم يره { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } وهي العفو عن ذنوبه { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي الجنة .

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيىِ الموتى } نبعثهم بعد مماتهم أو نخرجهم من الشرك إلى الإيمان { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها { وَءَاثَارَهُمْ } ما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علّموه أو كتاب صنّفوه أو حبيس حبّسوه أو رباط أو مسجد صنعوه أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلمة ، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها ونحوه قوله تعالى { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] قدم من أعماله وأخر من آثاره . وقيل : هي خطاهم إلى الجمعة أو إلى الجماعة { وَكُلَّ شىْءٍ أحصيناه } عددناه وبيناه { فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ } يعني اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب ومقتداها . { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية } ومثل لهم من قولهم «عندي من هذا الضرب كذا» أي من هذا المثال ، وهذه الأشياء على ضرب واحد أي على مثال واحد ، والمعنى واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية أي أنطاكية ، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، والمثل الثاني بيان للأول . وانتصاب { إِذْ } بأنه بدل من { أصحاب القرية } { جَآءَهَا المرسلون } رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان { إِذْ } بدل من { إِذْ } الأولى { أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ } أي أرسل عيسى بأمرنا { اثنين } صادقاً وصدوقاً ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار فسأل عن حالهما فقالا : نحن رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال : أمعكما آية؟ فقالا : نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص ، وكان له ابن مريض مدة سنتين فمسحاه فقام ، فآمن حبيب وفشا الخبر فشفي على أيديهما خلق كثير ، فدعاهما الملك وقال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك . فقال : حتى أنظر في أمركما فتبعهما الناس وضربوهما . وقيل : حبسا ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم : بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت قولهما؟ قال : لا . فدعاهما فقال شمعون : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء ورزق كل حي وليس له شريك . فقال : صفاه وأوجزا . قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . قال : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنى الملك . فدعا بغلام أكمه فدعوا الله فأبصر الغلام . فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف؟ قال الملك : ليس لي عنك سر إن إلهنا لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع . ثم قال : إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به ، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار لما مت عليه من الشرك وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا .

وقال : فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة . قال الملك : ومن هم؟ قال : شمعون وهذان ، فتعجب الملك . فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن وآمن قوم ، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل فهلكوا .
{ فَكَذَّبُوهُمَا } فكذب أصحاب القرية الرسولين { فَعَزَزْنَا } فقويناهما ، { فَعَزَّزْنَا } أبو بكر من عزّه يعزّه إذا غلبه أي فغلبنا وقهرنا { بِثَالِثٍ } وهو شمعون وترك ذكر المفعول به لأن المراد ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وذل الباطل ، وإذا كان الكلام منصباً إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه كأن ما سواه مرفوض { فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } أي قال الثلاثة لأهل القرية { قَالُواْ } أي أصحاب القرية { مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } رفع { بشر } هنا ونصب في قوله { مَا هذا بَشَرًا } [ يوسف : 31 ] لانتقاض النفي ب «إلا» فلم يبق لما شبه بليس وهو الموجب لعمله { وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْءٍ } أي وحياً { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } ما أنتم إلا كذبة . { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } أكد الثاني باللام دون الأول لأن الأول ابتداء إخبار والثاني جواب عن إنكار فيحتاج إلى زيادة تأكيد . و { رَبُّنَا يَعْلَمُ } جارٍ مجرى القسم في التوحيد وكذلك قولهم «شهد الله» و «علم الله» { وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين } أي التبليغ الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة بصحته { قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } تشاءمنا بكم وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه وقبلته طباعهم ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابهم بلاء أو نعمة قالوا بشؤم هذا وبركة ذلك . وقيل : حبس عنهم المطر فقالوا ذلك { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ } عن مقالتكم هذه { لَنَرْجُمَنَّكُمْ } لنقتلنكم أو لنطردنكم أو لنشتمنكم { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } وليصيبنكم عذاب النار وهو أشد عذاب { قَالُواْ طائركم } أي سبب شؤمكم { مَّعَكُمْ } وهو الكفر { أئِن } بهمزة الاستفهام وحرف الشرط : كوفي وشامي { ذُكِّرْتُم } وعظتم ودعيتم إلى الإسلام ، وجواب الشرط مضمر وتقديره «تطيرتم» ، { آين } بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة : أبو عمرو ، و { أَيْنَ } بهمزة مقصورة بعدها ياء مسكورة : مكي ونافع . { ذكرتم } بالتخفيف : يزيد { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } مجاوزون الحد في العصيان فمن ثم أتاكم الشؤم من قبلكم لا من قبل رسل الله وتذكيرهم ، أو بل أنتم مسرفون في ضلالكم وغيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله .
{ وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى } هو حبيب النجار وكان في غار من الجبل يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقال : أتسألون على ما جئتم به أجراً؟ قالوا : لا { قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً } على تبليغ الرسالة { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } أي الرسل : فقالوا : أو أنت على دين هؤلاء؟ فقال : { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى } خلقني { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وإليه مرجعكم ، { وَمَا لِى } حمزة .

{ ءَأَتَّخِذُ } بهمزتين : كوفي { مِن دُونِهِ ءَالِهَةً } يعني الأصنام { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ } شرط جوابه { لاَّ تُغْنِ عَنِّى شفاعتهم شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ } من مكروه ، { ولا ينقذوني } { فاسمعوني } في الحالين : يعقوب { إِنِّى إِذاً } أي إذا اتخذت { لَفِى ضلال مُّبِينٍ } ظاهر بين . ولما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال لهم { إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } أي اسمعوا إيماني لتشهدوا لي به . ولما قتل { قِيلَ } له { ادخل الجنة } وقبره في سوق أنطاكية . ولم يقل «قيل له» لأن الكلام سيق لبيان المقول لا لبيان المقول له مع كونه معلوماً ، وفيه دلالة أن الجنة مخلوقة . وقال الحسن : لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إليه وهو في الجنة ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض ، فلما دخل الجنة ورأى نعيمها { قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى } أي بمغفرة ربي لي أو بالذي غفر لي { وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين } بالجنة .

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)

{ وَمَا أَنزَلْنَا } «ما» نافيه { على قَوْمِهِ } قوم حبيب { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد قتله أو رفعه { مِن جُندٍ مِّنَ السمآء } لتعذيبهم { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء ، وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض لحكمة اقتضت ذلك { إِن كَانَتْ } الأخذة أو العقوبة { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } صاح جبريل عليه السلام صيحة واحدة { فَإِذَا هُمْ خامدون } ميتون كما تخمد النار . والمعنى أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك ولم ينزل لإهلاكهم جنداً من جنود السماء كما فعل يوم بدر والخندق .
{ ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } الحسرة شدة الندم وهذا نداء للحسرة عليهم كأنما قيل لها تعالي يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها وهي حال استهزائهم بالرسل ، والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون ، أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين { أَلَمْ يَرَوْاْ } ألم يعلموا { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون } «كم» نصب ب { أَهْلَكْنَا } و { يَرَوْاْ } معلق عن العمل في «كم» لأن «كم» لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناه نافذ في الجملة . وقوله { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدل من { كَمْ أَهْلَكْنَا } على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلا كنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } { لَّمّاً } بالتشديد : شامي وعاصم وحمزة بمعنى إلا و «إن» نافية . وغيرهم بالتخفيف على أن «ما» صلة للتأكيد و «إن» مخففة من الثقيلة وهي متلقاة باللام لا محالة . والتنوين في { كُلٌّ } عوض من المضاف إليه ، والمعنى إن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب أو معذبون . وإنما أخبر عن { كُلٌّ } بجميع لأن «كلا» يفيد معنى الإحاطة والجميع فعيل بمعنى مفعول ومعناه الاجتماع يعني أن المحشر يجمعهم { وَءَايَةٌ لَّهُمُ } مبتدأ وخبر أي وعلامة تدل على أن الله يبعث الموتى إحياء الأرض الميتة ، ويجوز أن يرتفع { ءَايَة } بالابتداء و { لَهُمْ } صفتها ، وخبرها { الأرض الميتة } اليابسة . وبالتشديد : مدني { أحييناها } بالمطر وهو استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية وكذلك { نَسْلَخُ } ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل لأنه أريد بهما جنسان مطلقان لا أرض وليل بأعيانهما فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالأفعال ونحوه :
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً } أريد به الجنس { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } قدم الظرف ليدل على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس ، وإذا قل جاء القحط ووقع الضر وإذا فقد حضر الهلاك ونزل البلاء { وَجَعَلْنَا فِيهَا } في الأرض { جنات } بساتين { مِّن نَّخِيلٍ وأعناب وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون } «من» زائدة عند الأخفش وعند غيره المفعول محذوف تقديره ما ينتفعون به { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } والضمير لله تعالى أي ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر .

{ مِن ثُمُره } حمزة وعلي { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أي ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والتلقيح وغير ذلك من الأعمال إلى أن يبلغ الثمر منتهاه ، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه وفيه آثار من كد بني آدم وأصله من ثمرنا كما قال { وَجَعَلْنَا } { وَفَجَّرْنَا } فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات . ويجوز أن يرجع الضمير إلى النخيل وتترك الأعناب غير مرجوع إليها لأنه علم أنها في حكم النخيل مما علق به من أكل ثمره ، ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنات كما قال رؤبة .
فيها خطوط من بياض وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له فقال : أردت كأن ذاك . { وما عملت } كوفي غير حفص وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك ، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير . وقيل : «ما» نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } استبطاء وحث على شكر النعمة . { سبحان الذى خَلَق الأزواج } الأصناف { كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض } من النخيل والشجر والزرع والثمر { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } الأولاد ذكوراً وإناثاً { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها ، ففي الأودية والبحار أشياء لا يعلمها الناس .
{ وَءَايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } نخرج منه النهار إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار ، أو ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض فيعرى نفس الزمان كشخص زنجي أسود لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء الظلمة فاكتسى بعضه ضوء الشمس كبيت مظلم أسرج فيه فإذا غاب السراج أظلم { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } داخلون في الظلام { والشمس تَجْرِى } وآية لهم الشمس تجري { لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } لحد لها موقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة ، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره أو لحد لها من مسيرها كل يوم في مرائي عيوننا وهو المغرب ، أو لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا { ذلك } الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق { تَقْدِيرُ العزيز } الغالب بقدرته على كل مقدور { العليم } بكل معلوم { والقمر } نصب بفعل يفسره { قدرناه } وبالرفع مكي ونافع وأبو عمرو وسهل على الابتداء والخبر قدرناه أو على «وآية لهم القمر» { مَنَازِلَ } وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر كل ليلة وفي واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستوٍ يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر .

ولا بد في { قدرناه مَنَازِلَ } من تقدير مضاف لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل أي قدرنا نوره فيزيد وينقص ، أو قدرنا مسيره منازل فيكون ظرفاً فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس { حتى عَادَ كالعرجون } هو عود الشمراخ إذا يبس واعوج ووزنه فعلون من الانعراج وهو الانعطاف { القديم } العتيق المحول وإذا قدم دق وانحنى واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه .

لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)

{ لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا } أي لا يتسهل لها ولا يصح ولا يستقيم { أَن تدْرِكَ القمر } فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره لأن لكل واحد من النيرين سلطاناً على حياله ، فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } ولا يسبق الليل النهار أي آية الليل آية النهار وهما النيران ، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن تقوم القيامة فيجمع الله بين الشمس والقمر وتطلع الشمس من مغربها { وَكُلٌّ } التنوين فيه عوض من المضاف إليه أي وكلهم والضمير للشموس والأقمار { فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . يسيرون
{ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } { ذرياتهم } مدني وشامي { فِى الفلك المشحون } أي المملوء . والمراد بالذرية الأولاد ومن يهمهم حمله وكانوا يبعثونهم إلى التجارات في بر أو بحر ، أو الآباء لأنها من الأضداد . والفلك على هذا سفينة نوح عليه السلام . وقيل : معنى حمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم . وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ } من مثل الفلك { مَا يَرْكَبُونَ } من الإبل وهي سفائن البر { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } في البحر { فَلا صَرِيْخَ لَهُمْ } فلا مغيث أو فلا إغاثة { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } لا ينجون { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } أي ولا ينقذون إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل ، فهما منصوبان على المفعول له .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } أي ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر مما أنتم تعملون من بعد أو من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها ، وما خلفكم من أمر الساعة أو فتنة الدنيا وعقوبة الآخرة { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لتكونوا على رجاء رحمة الله . وجواب «إذا» مضمر أي أعرضوا ، وجاز حذفه لأن قوله { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءايات رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } يدل عليه . و «من» الأولى لتأكيد النفي والثانية للتبعيض أي ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } لمشركي مكة { أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله } أي تصدقوا على الفقراء { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان بمكة زنادقة فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ } قول الله لهم أو حكاية قول المؤمنين لهم أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين .
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } أي وعد البعث والقيامة { إِن كُنتُمْ صادقين } فيما تقولون خطاب للنبي وأصحابه { مَا يَنظُرُونَ } ينتظرون { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } هي النفخة الأولى { تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا غلبه في الخصومة ، وشدد الباقون الصاد أي { يَخِصّمُونَ } بإدغام التاء في الصاد ، لكنه مع فتح الخاء : مكي بنقل حركة التاء المدغمة إليها ، وبسكون الخاء : مدني ، وبكسر الياء والخاء : يحيى فأتبع الياء الخاء في الكسر ، وبفتح الياء وكسر الخاء : غيرهم .

والمعنى تأخذهم وبعضهم يخصم بعضاً في معاملاتهم .
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } فلا يستطيعون أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية { وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم بل يموتون حيث يسمعون الصيحة { وَنُفِخَ فىلصور } هي النفخة الثانية والصور القرن أو جمع صورة { فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث } أي القبور { إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } يعدون بكسر السين وضمها { قَالُواْ } أي الكفار { ياويلنا مَن بَعَثَنَا } من أنشرنا { مِن مَّرْقَدِنَا } أي مضجعنا ، وقف لازم عن حفص وعن مجاهد للكفار مضجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا من بعثنا { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } كلام الملائكة أو المتقين أو الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضاً ، أو «ما» مصدرية ومعناه هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسلمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق ، أو موصولة وتقديره هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي والذي صدق فيه المرسلون { إِن كَانَتْ } النفخة الأخيرة { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } للحساب . ثم ذكر ما يقال لهم في ذلك اليوم { فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ } بضمتين : كوفي وشامي ، وبضمة وسكون : مكي ونافع وأبو عمرو . والمعنى في شغل في أي شغل وفي شغل لا يوصف ، وهو افتضاض الأبكار على شط الأنهار تحت الأشجار أو ضرب الأوتار أو ضيافة الجبار { فاكهون } خبر ثان { فَكِهُونَ } يزيد ، والفاكه والفكه : المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها مما يتلذذ به وكذا الفكاهة { هُمْ } مبتدأ { وأزواجهم } عطف عليه { فِى ظلال } حال جمع ظل وهو الموضع الذي لا تقع عليه الشمس كذئب وذئاب ، أو جمع ظلة كبرمة وبرام دليله قراءة حمزة وعليّ ، { ظُلَلٌ } جمع ظلة وهي ما سترك عن الشمس { على الأرآئك } جمع الأريكة وهي السرير في الحجلة أو الفراش فيها { مُتَّكِئُونَ } خبر أو { فِى ظلال } خبر و { على الأرائك } مستأنف { لَهُمْ فِيهَا فاكهة وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } يفتعلون من الدعاء أي كل ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم أو يتمنون من قولهم «ادع علي ما شئت» أي تمنه عليَّ ، عن الفراء هو من الدعوى ولا يدعون ما لا يستحقون .

سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

{ سلام } بدل من { مَّا يَدَّعُونَ } كأنه قال لهم سلام يقال لهم { قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيماً لهم وذلك متمناهم ولهم ذلك لا يمنعونه . قال ابن عباس : والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين . { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } وانفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة . وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أبداً ويقول لهم يوم القيامة { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } العهد الوصية وعهد إليه إذا وصاه وعهد الله إليهم ما ركزه فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع ، وعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم { وَأَنِ اعبدونى } وحدوني وأطيعوني { هذا } إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن { صراط مُّسْتَقِيمٌ } أي صراط بليغ في استقامته ولا صراط أقوم منه { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ } بكسر الجيم والباء والتشديد : مدني وعاصم وسهل { جبلاً } بضم الجيم والباء والتشديد : يعقوب { جُبْلاًّ } مخففاً : شامي وأبو عمرو . و { جُبُلاًّ } بضم الجيم والباء وتخفيف اللام : غيرهم ، وهذه لغات في معنى الخلق { كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل { هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } بها { اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ادخلوها بكفركم وإنكاركم لها .
{ اليوم نَخْتِمُ على أفواههم } أي نمنعهم من الكلام { وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يروى أنهم يجحدون ويخاصمون فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحيئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم ، وفي الحديث « يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز عليّ إلا شاهداً من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه : أنطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل » { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } لأعميناهم وأذهبنا أبصارهم . والطمس تعفيه شق العين حتى تعود ممسوحة { فاستبقوا الصراط } على حذف الجار وإيصال الفعل والأصل فاستبقوا إلى الصراط { فأنى يُبْصِرُونَ } فكيف يبصرون حينئذ وقد طمسنا أعينهم { وَلَوْ نَشَآءُ لمسخناهم } قردة أو خنازير أو حجارة { على مكانتهم } { على مكاناتهم } أبو بكر وحماد . والمكانة والمكان واحد كالمقامة والمقام أي لمسخناهم في منازلهم حيث يجترحون المآثم { فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } فلم يقدروا على ذهاب ولا مجيء أو مضياً أمامهم ولا يرجعون خلفهم .
{ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ } عاصم وحمزة ، والتنكيس : جعل الشيء أعلاه أسفله ، الباقون { نَنْكُسه } { فِى الخلق } أي نقلبه فيه بمعنى من أطلنا عمره نكسنا خلقه فصار بدل القوة ضعفاً وبدل الشباب هرماً ، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده وخلو من عقل وعلم ثم جعلناه يتزايد إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته ويعقل ويعلم ما له وما عليه ، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقض حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله قال عز وجل :

{ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } [ الحج : 5 ] { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } أن من قدر على أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوة إلى الضعف ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ، قادر على أن يطمس على أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويبعثهم بعد الموت . وبالتاء : مدني ويعقوب وسهل .
وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر فنزل { وَمَا علمناه الشعر } أي وما علمنا النبي عليه السلام قول الشعراء أو وما علمناه بتعليم القرآن الشعر على معنى أن القرآن ليس بشعر فهو كلام موزون مقفى يدل على معنى ، فأين الوزن وأين التقفية؟ . فلا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققته { وَمَا يَنبَغِى لَهُ } وما يصح له ولا يليق بحاله ولا يتطلب لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل كما جعلناه أمياً لا يهتدي إلى الخط لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض وأما قوله :
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقوله :
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
فما هو إلا من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلف إلا أنه اتفق من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه أن جاء موزوناً كما يتفق في خطب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة ، ولا يسميها أحد شعراً لأن صاحبه لم يقصد الوزن ولا بد منه ، على أنه عليه السلام قال «لقيت» بالسكون ، وفتح الباء في «كذب» وخفض الباء في «المطلب» ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال { إِنْ هُوَ } أي المعلم { إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِيْنٌ } أي ما هو إلا ذكر من الله يوعظ به الإنس والجن ، وما هو إلا قرآن كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ويتلى في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين ، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين { لِّيُنذِرَ } القرآن أو الرسول { لّتُنذِرَ } مدني وشامي وسهل ويعقوب { مَن كَانَ حَيّاً } عاقلاً متأملاً لأن الغافل كالميت أو حياً بالقلب ، { وَيَحِقَّ القول } وتجب كلمة العذاب { عَلَى الكافرين } الذين لا يتأملون وهم في حكم الأموات .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما } أي مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا { فَهُمْ لَهَا مالكون } أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم فهم متصرفون فيها تصرف الملاك مختصون بالانتفاع بها أو فهم لها ضابطون قاهرون { وذللناها لَهُمْ } وصيرناها منقادة لهم وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله تعالى وتسخيره لها ، ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [ الزخرف : 13 ] { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } وهو ما يركب { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } أي سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها { وَلَهُمْ فِيهَا منافع } من الجلود والأوبار وغير ذلك { ومشارب } من اللبن وهو جمع مشرب وهو موضع الشرب أو الشراب { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } الله على إنعام الأنعام { واتخذوا مِن دُونِ الله ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } أي لعل أصنامهم تنصرهم إذا حزبهم أمر { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } أي آلهتهم { نَصَرَهُمْ } نصر عابديهم { وَهُمْ لَهُمْ } أي الكفار للأصنام { جُندٌ } أعوان وشيعة { مُحْضَرُونَ } يخدمونهم ويذبون عنهم ، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم والأمر على خلاف ما توهموا حيث هم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقود النار { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } وبضم الياء وكسر الزاي : نافع من حزنه وأحزنه يعني فلا يهمك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم .
{ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } من عداوتهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } وإنا مجازوهم عليه فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهم ولا يرهقه الحزن . ومن زعم أن من قرأ { إِنا نعلم } بالفتح فسدت صلاته وإن اعتقد معناه كفر فقد أخطأ ، لأنه يمكن حمله على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن والشعر وفي كل كلام ، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الحمد والنعمة لك " كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي رحمة الله عليهما ، وكلاهما تعليل . فإن قلت : إن كان المفتوح بدلاً من { قَوْلُهُمْ } كأنه قيل : فلا يحزنك أنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ففساده ظاهر . قلت : هذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول ، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالماً وعدم تعلقه لا يدوران على كسر «إن» وفتحها ، وإنما يدوران على تقديرك فتفصل إن فتحت ب «أن» تقدر معنى التعليل ولا تقدر معنى البدل كما أنك تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدر معنى المفعولية . ثم إن قدرته كاسراً أو فاتحاً على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل فما فيه إلا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على علمه تعالى بسرهم وعلانيتهم ، والنهي عن حزنه ليس إثباتاً لحزنه بذلك كما في قوله :

{ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } [ القصص : 86 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ } [ القصص : 88 ] . ونزل في أبي بن خلف حين أخذ عظماً بالياً وجعل يفته بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعدما رم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» " { أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ } مذرة خارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } بين الخصومة أي فهو على مهانة أصله ودناءة أوله يتصدى لمخاصمة ربه وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه ، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر إنشاءه من موات وهو غاية المكابرة { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } بفته العظم { وَنَسِىَ خَلْقَهُ } من المني فهو أغرب من إحياء العظم ، المصدر مضاف إلى المفعول أي خلقنا إياه { قَالَ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } هو اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات ولهذا لم يؤنث ، وقد وقع خبراً لمؤنث ومن يثبت الحياة في العظام ويقول إن عظام الميتة نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها يتشبث بهذه الآية وهي عندنا طاهرة ، وكذا الشعر والعصب لأن الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت . والمراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس { قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا } خلقها { أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي ابتداء { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ } مخلوق { عَلِيمٌ } لا تخفى عليه أجزاؤه وإن تفرقت في البر والبحر فيجمعه ويعيده كما كان { الذى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } تقدحون . ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي تورى بها الأعراب وأكثرها من المرخ والعفار ، وفي أمثالهم «في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار» لأن المرخ شجر سريع الوري ، والعفار شجر تقدح منه النار ، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب لمصلحة الدق للثياب ، فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قدر على المعاقبة بين الموت والحياة في البشر ، وإجراء أحد الضدين على الآخر بالعقيب أسهل في العقل من الجمع معاً بلا ترتيب .

والأخضر على اللفظ وقريء الخضراء على المعنى .
ثم بين أن من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسيّ أقدر بقوله { أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السماوات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } في الصغر بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به { بلى } أي قل بلى هو قادر على ذلك { وَهُوَ الخلاق } الكثير المخلوقات { العليم } الكثير المعلومات { إِنَّمَا أَمْرُهُ } شأنه { إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن } أن يكونه { فَيَكُونُ } فيحدث أي فهو كائن موجود لا محالة . فالحاصل أن المكونات بتخليقه وتكوينه ولكن عبر عن إيجاده بقوله { كُن } من غير أن كان منه كاف ونون وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد كأنه يقول : كما لا يثقل قول «كن» عليكم فكذا لا يثقل على الله ابتداء الخلق وإعادتهم ، { فيكون } شامي وعلي عطف على { يقول } ، وأما الرفع فلأنها جملة من مبتدأ وخبر لأن تقديرها «فهو يكون» معطوفة على مثلها وهي «أمره أن يقول له كن» { فسبحان } تنزيه مما وصفه به المشركون وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا { الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ } أي ملك كل شيء . وزيادة الواو والتاء للمبالغة يعني هو مالك كل شيء { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } تعادون بعد الموت بلا فوت ، { تَرجعون } : يعقوب . قال عليه الصلاة والسلام " إن لكل شيء قلباً وإن قلب القرآن يس " " من قرأ يس يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة " وقال عليه السلام " من قرأ يس أمام حاجته قضيت له " وقال عليه السلام " من قرأها إن كان جائعاً أشبعه الله ، وإن كان ظمآن أرواه الله ، وإن كان عرياناً ألبسه الله ، وإن كان خائفاً أمنه الله ، وإن كان مستوحشاً آنسه الله ، وإن كان فقيراً أغناه الله ، وإن كان في السجن أخرجه الله ، وإن كان أسيراً خلصه الله ، وإن كان ضالاً هداه الله ، وإن كان مديوناً قضى الله دينه من خزائنه " وتدعى الدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة والله أعلم .

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)

{ والصافات صَفَّا فالزجرات زَجْراً فالتاليات ذِكْراً } أقسم سبحانه وتعالى بطوائف الملائكة ، أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة . فالزاجرات الحساب سوقاً أو عن المعاصي بالإلهام ، فالتاليات لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها وهو قول ابن عباس وابن مسعود ومجاهد؛ أو بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات ، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح ، فالتاليات آيات الله والدارسات شرائعه . أو بنفوس الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد وتتلو الذكر مع ذلك . و { صَفَّا } مصدر مؤكد وكذلك { زَجْراً } والفاء تدل على ترتيب الصفات في التفاضل فتفيد الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو على العكس . وجواب القسم { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } قيل : هو جواب قولهم { أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا } [ ص : 5 ] { رَبُّ السماوات والأرض } خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب { وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق } أي مطالع الشمس وهي ثلثمائة وستون مشرقاً ، وكذلك المغارب تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب منها ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين . وأما { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } [ الرحمن : 17 ] فإنه أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ، وأما { رَّبُّ المشرق والمغرب } [ المزمل : 9 ] فإنه أراد به الجهة فالمشرق جهه والمغرب جهة .
{ إِنَّا زَيَّنَّا السمآءض الدنيا } القربى منكم تأنيث الأدنى { بِزِينَةٍ الكواكب } حفص وحمزة على البدل من { زينة } والمعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب ، { بِزِينَةٍ الكواكب } أبو بكر على البدل من محل { بزينة } أو على إضمار أعني أو على إعمال المصدر منوناً في المفعول ، { بِزِينَة الكواكب } غيرهم بإضافة المصدر إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وأصله بزينةٍ الكواكبُ أو على إضافته إلى المفعول أي بأن زان الله الكواكب وحسنها ، لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها وأصله { بِزِينَةٍ الكواكب } لقراءة أبي بكر { وَحِفْظاً } محمول على المعنى لأن المعنى إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً من الشياطين كما قال { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين } [ الملك : 5 ] أو الفعل المعلل مقدر كأنه قيل : وحفظاً من كل شيطان قد زيناها بالكواكب ، أو معناه حفظناها حفظاً { مِّن كُلِّ شيطان مَّارِدٍ } خارج من الطاعة . والضمير في { لاَ يَسَّمَّعُونَ } لكل شيطان لأنه في معنى الشياطين ، { يَسَّمَّعون } كوفي غير أبي بكر ، وأصله «يتسمعون» والتسمع تطلب السماع يقال : تسمع فسمع أو فلم يسمع . وينبغي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ اقتصاصاً لما عليه حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمعوا . وقيل : أصله لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في «جئتك أن تكرمني» فبقي أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها كما في قوله :

... ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وفيه تعسف يجب صون القرآن عن مثله ، فإن كل واحد من الحذفين غير مردود على انفراده ولكن اجتماعهما منكر . والفرق بين «سمعت فلاناً» يتحدث و «سمعت إليه يتحدث» و «سمعت حديثه» و «إلى حديثه» ، أن المعدى بنفسه يفيد الإدراك ، والمعدى ب «إلى» يفيد الإصغاء مع الإدراك { إلى الملإ الأعلى } أي الملائكة لأنهم يسكنون السماوات ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض { وَيُقْذَفُونَ } يرمون بالشهب { مِن كُلِّ جَانِبٍ } من جميع جوانب السماء من أي جهة صعدوا للإستراق { دُحُوراً } مفعول له أي ويقذفون للدحور وهو الطرد ، أو مدحورين على الحال ، أو لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى فكأنه قيل : يدحرون أو قذفاً { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } دائم من الوصوب أي أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب وقد أعد لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع . و «من» في { إِلاَّ مَنْ } في محل الرفع بدل من الواو في { لا يسمعون } أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي { خَطِفَ الخطفة } أي سلب السلبة يعني أخذ شيئاً من كلامهم بسرعة { فَأَتْبَعَهُ } لحقه { شِهَابٌ } أي نجم رجم { ثَاقِبٌ } مضيء . { فاستفتهم } فاستخبر كفار مكة { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أي أقوى خلقاً من قولهم شديد الخلق وفي خلقه شدة ، أو أصعب خلقاً وأشقه على معنى الرد لإنكارهم البعث ، وأن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } يريد ما ذكر من خلائقه من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما . وجيء ب «من» تغليباً للعقلاء على غيرهم ويدل عليه قراءة من قرأ «أم من» عددنا بالتشديد والتخفيف .
{ إِنَّا خلقناهم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } لاصق أو لازم وقرىء به ، وهذا شهادة عليهم بالضعف لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة ، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا أئذا كنا تراباً؟ وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث { بَلْ عَجِبْتَ } من تكذيبهم إياك { وَيَسْخُرُونَ } هم منك ومن تعجبك ، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث ، { بَلْ عَجِبْتَ } حمزة وعلي أي استعظمت ، والعجب روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء فجرد لمعنى الاستعظام في حقه تعالى لأنه لا يجوز عليه الروعة ، أو معناه قل يا محمد بل عجبتُ { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به .
{ وَإِذَا رَأَوْاْ ءَايَةً } معجزة كانشقاق القمر ونحوه { يَسْتَسْخِرُونَ } يستدعي بعضهم بعضاً أن يسخر منها أو يبالغون في السخرية .

{ وَقَالُواْ إِن هذا } ما هذا { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ظاهر { أَءِذَا } استفهام إنكار { مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } أي أنبعث إذا كنا تراباً وعظاماً { أوَ آبَاؤُنَا } معطوف على محل «ان» واسمها ، أو على الضمير في { مَّبْعُوثُونَ } والمعنى أيبعث أيضاً آباؤنا على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل . { أَو آباؤنا } بسكون الواو : مدني و شامي أي أيبعث واحد منا على المبالغة في الإنكار { الأولون } الأقدمون { قُلْ نَعَمْ } تبعثون { نِعْم } علي وهما لغتان { وَأَنتُمْ داخرون } صاغرون { فَإِنَّمَا هِىَ } جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلا { زَجْرَةٌ واحدة } و «هي» لا ترجع إلى شيء إنما هي مبهمة موضحها خبرها ، ويجوز فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية . والزجرة الصيحة من قولك زجر الراعي الإبل أو الغنم إذا صاح عليها { فإذاهم } أحياء بصراء { هُمْ يَنَظُرُونَ } إلى سوء أعمالهم أو ينتظرون ما يحل بهم { وَقَالُواْ ياويلنا } الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة { هذا يَوْمُ الدين } أي اليوم الذي ندان فيه أي نجازي بأعمالنا { هذا يَوْمُ الفصل } يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلال { الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } ثم يحتمل أن يكون { هذا يَوْمُ الدين } إلى قوله { احشروا } من كلام الكفرة بعضهم مع بعض ، وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون { ياويلنا هذا يَوْمُ الدين } من كلام الكفرة و { هذا يَوْمُ الفصل } من كلام الملائكة جواباً لهم .
{ احشروا } خطاب الله للملائكة { الذين ظَلَمُواْ } كفروا { وأزواجهم } أي وأشباههم وقرناءهم من الشياطين أو نساءهم الكافرات ، والواو بمعنى «مع» وقيل : للعطف . وقرىء بالرفع عطفاً على الضمير في { ظَلَمُواْ } { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } أي الأصنام { فاهدوهم } دلوهم ، عن الأصمعي : هديته في الدين هدىً وفي الطريق هداية { إلى صراط الجحيم } طريق النار { وَقِفُوهُمْ } احبسوهم { إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } عن أقوالهم وأفعالهم { مَا لَكُمْ لاَ تناصرون } أي لا ينصر بعضكم بعضاً ، وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا متناصرين في الدنيا . وقيل : هو جواب لأبي جهل حيث قال يوم بدر نحن جميع منتصر ، وهو في موضع النصب على الحال أي ما لكم غير متناصرين { بَلْ هُمْ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } منقادون أو قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله عن عجر وكلهم مستسلم غير منتصر . { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي التابع على المتبوع { يَتَسَآءَلُونَ } يتخاصمون { قَالُواْ } أي الأتباع للمتبوعين { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } عن القوة والقهر إذ اليمين موصوفة بالقوة وبها يقع البطش أي أنكم كنتم تحمولننا على الضلال وتقسروننا عليه .

قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)

{ قالوآ } أي الرؤساء { بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر غير ملجئين { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سلطان } تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين } بل كنتم قوماً مختارين الطغيان { فَحَقَّ عَلَيْنَا } فلزمنا جميعاً { قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ } يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا ، ولو حكى الوعيد كما هو لقال إنكم لذائقون ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قوله
: فقد زعمت هوازن قل ما لي ... ولو حكى قولها لقال «قل مالك» { فأغويناكم } فدعوناكم إلى الغي { إِنَّا كُنَّا غاوين } فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا { فَإِنَّهُمْ } فإن الأتباع والمتبوعين جميعاً { يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة { فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } كما كانوا مشتركين في الغواية { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين } أي بالمشركين إنا مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } إنهم كانوا إذا سمعوا بكلمة التوحيد استكبروا وأبو إلا الشرك { وَيَقُولُونَ ائِنَّا } بهمزتين : شامي وكوفي { ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ } يعنون محمداً عليه السلام { بَلْ جَاء بالحق } رد على المشركين { وَصَدَّقَ المرسلين } كقوله : { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ البقرة : 97 ] .
{ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُوا العذاب الأليم وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بلا زيادة { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } بفتح اللام : كوفي ومدني ، وكذا ما بعده أي لكن عباد الله على الاستثناء المنقطع { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فواكه } فسر الرزق المعلوم بالفواكه وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة يعني أن رزقهم كله فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسادهم محكمة مخلوقة للأبد فما يأكلونه للتلذذ ، ويجوز أن يراد رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر . وقيل : معلوم الوقت كقوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] والنفس إليه أسكن { وَهُم مُّكْرَمُونَ } منعمون { فِي جنات النعيم } يجوز أن يكون ظرفاً وأن يكون حالاً وأن يكون خبراً بعد خبر ، وكذا { على سُرُرٍ متقابلين } التقابل أتم للسرور وآنس { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ } بغير همز : أبو عمرو وحمزة في الوقف ، وغيرهما بالهمزة . يقال للزجاجة فيها الخمر كأس وتسمى الخمر نفسها كأساً . وعن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخمر ، وكذا في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما { مِّن مَّعِينٍ } من شراب معين أو من نهر معين وهو الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون ، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء قال الله تعالى : { وأنهار مّنْ خَمْرٍ } [ محمد : 15 ] { بَيْضَآءَ } صفة للكأس { لَذَّةٍ } وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها أو ذات لذة { لِلشَّارِبِينَ } .

لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ } أي لا تغتال عقولهم كخمور الدنيا وهو من غاله يغوله غولاً إذا أهلكه وأفسده { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } يسكرون من نزف الشارب إذا ذهب عقله ويقال للسكران نزيف ومنزوف ، { يُنزِفُونَ } علي وحمزة أي لا يسكرون أو لا ينزِف شرابهم من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف } قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفاً إلى غيرهم { عِينٌ } جمع عيناء أي نجلاء واسعة العين { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } مصون شبههن ببيض النعام المكنون في الصفاء وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور . وعطف { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ } يعني أهل الجنة . { على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } عطف على { يُطَافُ عَلَيْهِمْ } والمعنى يشربون ويتحادثون على الشراب كعادة الشّرب قال :
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام
فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا إلا أنه جيء به ماضياً على ما عرف في أخباره . { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءِنَّكَ } بهمزتين : شامي وكوفي { لَمِنَ المصدقين } بيوم الدين { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَدِينُونَ } لمجزيون من الدين وهو الجزاء { قَالَ } ذلك القائل { هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } إلى النار لأريكم ذلك القرين قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار . أو قال الله تعالى لأهل الجنة : هل أنتم مطلعون إلى النار فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار { فَأَطَّلَعَ } المسلم { فَرَءَاهُ } أي قرينة { فِى سَوَآءِ الجحيم } في وسطها { قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } «إن» مخففة من الثقيلة وهي تدخل على «كاد» كما تدخل على «كان» ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والإرداء الإهلاك . وبالياء في الحالين : يعقوب { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى } وهي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام { لَكُنتُ مِنَ المحضرين } من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } الفاء للعطف على محذوف تقديره أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين ، والمعنى أن هذه حال المؤمنين وهو أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى بخلاف الكفار فإنهم فيما يتمنون فيه الموت كل ساعة . وقيل لحكيم : ما شر من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت . وهذا قول يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله يسمع من قرينه ليكون توبيخاً له وزيادة تعذيب . و { موتتنا } نصب على المصدر والاستثناء متصل تقديره ولا نموت إلا مرة ، أو منقطع وتقديره لكن الموتة الأولى قد كانت في الدنيا . ثم قال لقرينه تقريعاً له { إِنَّ هذا } أي الأمر الذي نحن فيه { لَهُوَ الفوز العظيم } .

ثم قال الله عز وجل { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } وقيل : هو أيضاً من كلامه .
{ أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً } تمييز { أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } أي نعيم الجنة وما فيها من اللذات والطعام والشراب خير نزلاً أم شجرة الزقوم خير نزلاً؟ والنزل ما يقام للنازل بالمكان من الرزق ، والزقوم : شجرة مر يكون بتهامة { إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين } محنة وعذاباً لهم في الآخرة أو ابتلاء لهم في الدنيا ، وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر فكذبوا { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم } قيل منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوُسُ الشياطين } الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها ، وشبه برءوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر ، لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس لاعتقادهم أنه شر محض . وقيل : الشيطان حية عرفاء قبيحة المنظر هائلة جداً .
{ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا } من الشجرة أي من طلعها { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } فمالئون بطونهم لما يغلبهم من الجوع الشديد { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا } على أكلها { لَشَوْباً } لخلطاً ولمزاجاً { مِّنْ حَمِيمٍ } ماء حار يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم كما قال في صفة شراب أهل الجنة { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } [ المطففين : 27 ] والمعنى ثم إنهم يملئون البطون من شجرة الزقوم وهو حار يحرق بطونهم ويعطشهم فلا يسقون إلا بعد مليء تعذيباً لهم بذلك العطش ثم يسقون ما هو أحر وهو الشراب المشوب بالحميم . { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم } أي أنهم يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم فيأكلون إلى أن يمتلئوا ويسقون بعد ذلك ثم يرجعون إلى دركاتهم ، ومعنى التراخي في ذلك ظاهر { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ على ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدين واتباعهم إياهم في الضلال وترك اتباع الدليل . والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يحثون حثاً { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ } قبل قومك قريش { أَكْثَرُ الأولين } يعني الأمم الخالية بالتقليد وترك النظر والتأمل { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ } أنبياء حذروهم العواقب { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } أي الذين أنذروا وحذروا أي أهلكوا جميعاً { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } أي إلا الذين آمنوا منهم وأخلصوا لله دينهم أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين .
ولما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين أتبع ذلك ذكر نوح ودعاءه إياه حين أيس من قومه بقوله { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } دعانا لننجيه من الغرق . وقيل : أريد به قوله { أَنّى مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] { فَلَنِعْمَ المجيبون } اللام الداخلة على «نعم» جواب قسم محذوف ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ولقد نادانا نوح فوالله لنعم المجيبون نحن ، والجمع دليل العظمة والكبرياء .

والمعنى إنا أجبناه أحسن الإجابة ونصرناه على أعدائه وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون { ونجيناه وَأَهْلَهُ } ومن آمن به وأولاده { مِنَ الكرب العظيم } وهو الغرق { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } وقد فنى غيرهم . قال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد : سام وهو أبو العرب وفارس والروم ، وحام وهو أبو السودان من المشرق إلى المغرب ، ويافث وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج . { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين } من الأمم هذه الكلمة وهي { سلام على نُوحٍ } يعني يسلمون عليه تسليماً ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقولك «قرأت سورة أنزلناها» { فِى العالمين } أي ثبت هذه التحية فيهم جميعاً ولا يخلو أحد منهم منها كأنه قيل : ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } علل مجازاته بتلك التكرمة السنية بأنه كان محسناً { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً ليريك جلالة محل الإيمان وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الأخرين } أي الكافرين .

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)

{ وَإِنَّ من شِيَعتِهِ لإبْراهِيمَ } أي من شيعة نوح أي ممن شايعه على أصول الدين أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة وما كان بينهما إلا نبيان هود وصالح .
{ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ } «إذ» تعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } من الشرك أو من آفات القلوب لإبراهيم ، أو بمحذوف وهو «اذكر» . ومعنى المجيء بقلبه ربه أنه أخلص لله قلبه وعلم الله ذلك منه فضرب المجيء مثلاً لذلك { إِذْ } بدل من الأولى { قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكاً ءالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ } { أئفكاً } مفعول له تقديره أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ وإنما قدم المفعول به على الفعل للعناية ، وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم . ويجوز أن يكون { إِفْكاً } مفعولاً به أي أتريدون إفكاً؟ ثم فسر الإفك بقوله { آلِهَةً دُونَ الله } على أنها إفك في نفسها ، أو حالاً أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟ { فَمَا ظَنُّكُم } أيّ شيء ظنكم { بِرَبِّ العالمين } وأنتم تعبدون غيره؟ و «ما» رفع بالابتداء والخبر { ظنكم } أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره وعلمتم أنه المنعم على الحقيقة فكان حقيقاً بالعبادة؟ { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم } أي نظر في النجوم رامياً ببصره إلى السماء متفكراً في نفسه كيف يحتال ، أو أراهم أنه ينظر في النجوم لاعتقادهم علم النجوم فأوهمهم أنه استدل بأمارة على أنه يسقم { فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ } أي مشارف للسقم وهو الطاعون وكان أغلب الإسقام عليهم وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ، ففعل بالأصنام ما فعل . وقالوا : علم النجوم كان حقاً ثم نسخ الاشتغال بمعرفته . والكذب حرام إلا إذا عرّض ، والذي قاله إبراهيم عليه السلام معراض من الكلام أي سأسقم ، أو من الموت في عنقه سقيم ومنه المثل «كفى بالسلامة داء» . ومات رجل فجأة فقالوا : مات وهو صحيح . فقال أعرابي : أصحيح مَن الموت في عنقه ، أو أراد إني سقيم النفس لكفركم كما يقال أنا مريض القلب من كذا { فَتَوَلَّوْاْ } فأعرضوا { عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي مولين الأدبار .
{ فَرَاغَ إلى ءَالِهَتِهِمْ } فمال إليهم سراً { فَقَالَ } استهزاء { أَلآ تَأْكُلُونَ } وكان عندها طعام { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } والجمع بالواو والنون لما أنه خاطبها خطاب من يعقل { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً } فأقبل عليهم مستخفياً كأنه قال فضربهم ضرباً لأن راغ عليهم بمعنى ضربهم أو فراغ عليهم يضربهم ضرباً أي ضارباً { باليمين } أي ضرباً شديداً بالقوة لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما أو بالقوة والمتانة ، أو بسبب الحلف الذي سبق منه وهو قوله

{ تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم } [ الأنبياء : 57 ] { فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ } إلى إبراهيم { يَزِفُّونَ } يسرعون من الزفيف وهو الإسراع . { يُزِفون } حمزة من أزفّ إذا دخل في الزفيف إزفافاً فكأنه قد رآه بعضهم يكسرها وبعضهم لم يره فأقبل من رآه مسرعاً نحوه ثم جاء من لم يره يكسرها فكأنه قد رآه { مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } ، فأجابوه على سبيل التعريض بقولهم { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم } [ الأنبياء : 60 ] ثم قالوا بأجمعهم نحن نعبدها وأنت تكسرها فأجابهم بقوله { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } بأيديكم { والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } وخلق ما تعملونه من الأصنام أو «ما» مصدرية أي وخلق أعمالكم وهو دليلنا في خلق الأفعال أي الله خالقكم وخالق أعمالكم فلم تعبدون غيره؟ { قَالُواْ ابنوا لَهُ } أي لأجله { بنيانا } من الحجر طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً { فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم } في النار الشديدة . وقيل : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } بإلقائه في النار { فجعلناهم الأسفلين } المقهورين عند الإلقاء فخرج من النار { وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إلى رَبِّى } إلى موضع أمرني بالذهاب إليه { سَيَهْدِينِ } سيرشدني إلى ما فيه صلاحي في ديني ويعصمني ويوفقني . { سيهديني } فيهما : يعقوب .
{ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } بعض الصالحين يريد الولد لأن لفظ الهبة غلب في الولد { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ } انطوت البشارة على ثلاث : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم لأن الصبي لا يوصف بالحلم ، وأنه يكون حليماً وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال : { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } ثم استسلم لذلك . { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه . و { مَعَهُ } لا يتعلق ب { بَلَغَ } لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي ، ولا ب { السعى } لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه ، فبقي أن يكون بياناً كأنه لما قال : { فَلَمَّا بَلَغَ السعى } أي الحد الذي يقدر فيه على السعي قيل : مع من؟ قال : مع أبيه وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة { قَالَ يابنى } حفص والباقون بكسر الياء { إِنّى أرى فِى المنام أَنِّى أَذْبَحُكَ } وبفتح الياء فيهما : حجازي وأبو عمرو . قيل له في المنام : اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة . وإنما لم يقل رأيت لأنه رأى مرة بعد مرة فقد قيل : رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا .

فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثَمَّ سمي يوم الترويه . فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فمن ثَمَّ سُمي يوم عرفة . ثم رأى مثل ذلك في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر { فانظر مَاذَا ترى } من الرأي على وجه المشاورة لا من رؤية العين ، ولم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته ولكن ليعلم أيجزع أم يصبر . { تُرِى } علي وحمزة أي ماذا تصبر من رأيك وتبديه { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } أي ما تؤمر به وقرىء به { سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } على الذبح . رُوي أن الذبيح قال لأبيه : يا أبت خذ بناصيتي واجلس بين كتفي حتى لا أوذيك إذا أصابتني الشفرة ، ولا تذبحني وأنت تنظر في وجهي عسى أن ترحمني ، واجعل وجهي إلى الأرض . ويُروى اذبحني وأنا ساجد واقرأ على أمي السلام ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها .

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)

{ فَلَمَّا أَسْلَمَا } انقادا لأمر الله وخضعا . وعن قتادة : أسلم هذا ابنه وهذا نفسه { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } صرعه على جبينه ووضع السكين على حلقه فلم يعمل ، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . رُوي أن ذلك المكان عند الصخرة التي بمنى . وجواب «لما» محذوف تقديره فلما أسلما وتله للجبين { وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } أي حققت ما أمرناك به في المنام من تسليم الولد للذبح كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله ، أو الجواب قبلنا منه و { ناديناه } معطوف عليه { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } تعليل لتخويل ما خولهما من الفرج بعد الشدة { إِنَّ هذا لَهُوَ البلاؤا المبين } الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة .
{ وفديناه بِذِبْحٍ } هو ما يذبح . وعن ابن عباس : هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة حتى فدي به إسماعيل . وعنه : لو تمت تلك الذبيحة لصارت سنة وذبح الناس أبناءهم { عظِيمٍ } ضخم الجثة سمين وهي السنة في الأضاحي . ورُوي أنه هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي . وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر . فقال الذبيح : لا إله إلا الله والله أكبر . فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد ، فبقي سنة وقد استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده أنه يلزمه ذبح شاة . والأظهر أن الذبيح إسماعيل وهو قول أبي بكر وابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين رضي الله عنهم لقوله عليه السلام " أنا ابن الذبيحين " فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله . وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح آخر ولده تقرباً ، وكان عبد الله آخراً ففداه بمائة من الإبل ، ولأن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت في زمن الحجاج وابن الزبير . وعن الأصمعي أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ومتى كان اسحق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة . وعن علي وابن مسعود والعباس وجماعة من التابعين رضي الله عنهم أنه إسحق ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف عليهما السلام : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله . وإنما قيل { وفديناه } وإن كان الفادي إبراهيم عليه السلام والله تعالى هو المفتدى منه لأنه الآمر بالذبح ، لأنه تعالى وهب له الكبش ليفتدي به .

وههنا إشكال وهو أنه لا يخلو إما أن يكون ما أتى به إبراهيم عليه السلام من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه في حكم الذبح أم لا ، فإن كان في حكم الذبح فما معنى الفداء والفداء هو التخليص من الذبح ببدل؟ وإن لم يكن فما معنى قوله { قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح أصلاً أو بدلاً ولم يصح؟ والجواب أنه عليه السلام قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح ، ولكن الله تعالى جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم ، ووهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة في نفس إسماعيل بدلاً منه وليس هذا بنسخ منه للحكم كما قال البعض ، بل ذلك الحكم كان ثابتاً إلا أن المحل الذي أضيف إليه لم يحله الحكم على طريق الفداء دون النسخ ، وكان ذلك ابتلاء ليستقر حكم الأمر عند المخاطب في آخر الحال ، على أن المبتغي منه في حق الولد أن يصير قرباناً بنسبة الحكم إليه مكرماً بالفداء الحاصل لمعرة الذبح مبتلى بالصبر والمجاهدة إلى حال المكاشفة ، وإنما النسخ بعد استقرار المراد بالأمر لا قبله وقد سمي فداء في الكتاب لا نسخاً . { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين } ولا وقف عليه لأن { سلام على إبراهيم } مفعول { وَتَرَكْنَا } .
{ كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } ولم يقل «إنا كذلك» هنا كما في غيره لأنه قد سبق في هذه القصة فاستخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً } حال مقدرة من { إسحاق } ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي وبشرناه بوجود إسحق نبياً أي بأن يوجد مقدرة نبوّته فالعامل في الحال الوجود لا البشارة { مِّنَ الصالحين } حال ثانية وورودها على سبيل الثناء لأن كل نبي لا بد وأن يكون من الصالحين { وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق } أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا . وقيل : باركنا على إبراهيم في أولاده ، وعلى إسحق بأن أخرجنا من صلبه ألف نبي ، أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليهم السلام { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } مؤمن { وظالم لِّنَفْسِهِ } كافر { مُّبِينٌ } ظاهر أو محسن إلى الناس وظالم على نفسه بتعديه عن حدود الشرع ، وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر ، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر ، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة ، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاقب على ما اجترحت يداه لا على ما وجد من أصله وفرعه .

{ وَلَقَدْ مَنَنَّا } أنعمنا { على موسى وهارون } بالنبوة { ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا } بني إسرائيل { مِنَ الكرب العظيم } من الغرق أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم { ونصرناهم } أي موسى وهرون وقومهما { فَكَانُواْ هُمُ الغالبين } على فرعون وقومه { وءاتيناهما الكتاب المستبين } البليغ في بيانه وهو التوراة { وهديناهما الصراط المستقيم } صراط أهل الإسلام وهي صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الآخرين سلام على موسى وهارون إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين } هو إلياس بن ياسين من ولد هرون أخي موسى . وقيل : هو إدريس النبي عليه السلام . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه { وَإِنْ إِدْرِيسَ } في موضع «إلياس» .
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ } ألا تخافون الله { أَتَدْعُونَ } أتعبدون { بَعْلاً } هو علم لصنم كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وكان موضعه يقال له بك فركب وصار بعلبك وهو من بلاد الشأم . وقيل : في إلياس والخضر إنهما حيان ، وقيل إلياس وكل بالفيافي كما وكل الخضر بالبحار ، والحسن يقول : قد هلك إلياس والخضر ولا تقول كما يقول الناس إنهما حيان { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين } وتتركون عبادة الله الذي هو أحسن المقدرين { الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَآبَائِكُمُ الأولين } بنصب الكل : عراقي غير أبي بكر وأبي عمرو على البدل من { أحسن } ، وغيرهم بالرفع على الابتداء . { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } في النار { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } من قومه { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين سلام على إِلْ يَاسِينَ } أي إلياس وقومه المؤمنين كقولهم الخبيبون يعني أبا خبيب عبد الله بن الزبير وقومه . { آلْ يَاسِينَ } شامي ونافع لأن ياسين اسم أبي إلياس فأضيف إليه الآل { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين } في الباقين { ثُمَّ دَمَّرْنَا } أهلكنا { الآخرين وَإِنَّكُمْ } يا أهل مكة { لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } داخلين في الصباح { وباليل } والوقف عليه مطلق { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } يعني تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشأم ليلاً ونهاراً فما فيكم عقول تعتبرون بها . وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام كما ختم قصة من قبلهما ، لأن الله تعالى قد سلم على جميع المرسلين في آخر السورة فاكتفي بذلك عن ذكر كل واحد منفرداً بالسلام .

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ } الإباق : الهرب إلى حيث لا يهتدي إليه الطلب ، فسمى هربه من قومه بغير إذن ربه إباقاً مجازاً { إِلَى الفلك المشحون } المملوء . وكان يونس عليه السلام وعد قومه العذاب ، فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمستور منهم فقصد البحر وركب السفينة فوقفت فقالوا : ههنا عبد آبق من سيده . وفيما يزعم البحارون أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فقال : أنا الآبق ، وزج بنفسه في الماء فذلك قوله { فساهم } فقارعهم مرة أو ثلاثاً بالسهام . والمساهمة : إلقاء السهام على جهة القرعة { فَكَانَ مِنَ المدحضين } المغلوبين بالقرعة { فالتقمه الحوت } فابتلعه { وَهُوَ مُلِيمٌ } داخل في الملامة .
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح . أو من القائلين { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } أو من المصلين قبل ذلك . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة . ويقال : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر { لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } الظاهر لبثه حياً إلى يوم البعث . وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة . وقد لبث في بطنه ثلاثة أيام أو سبعة أو أربعين يوماً . وعن الشعبي : التقمه ضحوة ولفظه عشية { فنبذناه بالعراء } فألقيناه بالمكان الخالي الذي لا شجر فيه ولا نبات { وَهُوَ سَقِيمٌ } عليل مما ناله من التقام الحوت . ورُوي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً } أي أنبتناها فوقه مظلة له كما يطنّب البيت على الإنسان { مِّن يَقْطِينٍ } الجمهور على أنه القرع ، وفائدته أن الذباب لا يجتمع عنده وأنه أسرع الأشجار نباتاً وامتداداً وارتفاعاً . وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتحب القرع قال : " أجل هي شجرة أخي يونس " { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ } المراد به القوم الذين بعث إليهم قبل الالتقام فتكون «قد» مضمرة { أَوْ يَزِيدُونَ } في مرأى الناظر أي إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر . وقال الزجاج : قال غير واحد : معناه بل يزيدون . قال ذلك الفراء وأبو عبيدة ونقل عن ابن عباس كذلك { فَئَامَنُواْ } به وبما أرسل به { فمتعناهم إلى حِينٍ } إلى منتهى آجالهم .
{ فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون } معطوف على مثله في أول السورة أي على { فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } وإن تباعدت بينهما المسافة . أمر رسول الله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً ، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها حيث جعلوا لله تعالى الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم الملائكة بنات الله مع كراهتهم الشديدة لهن ووأدهم واستنكافهم من ذكرهن { أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا وَهُمْ شاهدون } حاضرون تخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم وتجهيل لهم لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدة لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق ولا بطريق استدلال ونظر ، أو معناه أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس لإفراط جهلهم كأنهم شاهدوا خلقهم { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لكاذبون } في قولهم .

{ أَصْطَفَى البنات على البنين } بفتح الهمزة للاستفهام ، وهو استفهام توبيخ . وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا الحكم الفاسد .
{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف : حمزة وعلي وحفص { أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ } حجة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله { فَأْتُواْ بكتابكم } الذي أنزل عليكم { إِن كُنتُمْ صادقين } في دعواكم { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ } بين الله { وَبَيْنَ الجنة } الملائكة لاستتارهم { نَسَباً } وهو زعمهم أنهم بناته أو قالوا إن الله تزوج من الجن فولدت له الملائكة { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون في النار { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } نزه نفسه عن الولد والصاحبة { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } استثناء منقطع من المحضرين معناه ولكن المخلصين ناجون من النار و { سبحان الله } اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه ، ويجوز أن يقع الاستثناء من واو { يَصِفُونَ } أي يصفه هؤلاء بذلك ولكن المخلصون براء من أن يصفوه به { فَإِنَّكُمْ } يا أهل مكة { وَمَا تَعْبُدُونَ } ومعبوديكم { مَآ أَنتُمْ } وهم جميعاً { عَلَيْهِ } على الله { بفاتنين } بمضلين { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } بكسر اللام أي لستم تضلون أحداً إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها . يقال : فتن فلان على فلان امرأته كما تقول أفسدها عليه . وقال الحسن : فإنكم أيها القائلون بهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام ، ما أنتم على عبادة الأوثان بمضلين أحداً إلا من قدر عليه أن يصلى الجحيم أي يدخل النار . وقيل : ما أنتم بمضلين إلا من أوجبت عليه الضلال في السابقة . و «ما» في { مَا أَنتُمْ } نافية و «من» في موضع النصب ب { فاتنين } وقرأ الحسن { هُوَ صالُ الجحيم } بضم اللام ، ووجهه أن يكون جمعاً فحذفت النون للإضافة وحذفت الواو لالتفاء الساكنين هي واللام في الجحيم ومن موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه .
{ وَمَا مِنَّا } أحد { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } في العبادة لا يتجاوزه فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون } نصف أقدامنا في الصلاة أو نصف حول العرش داعين للمؤمنين { وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } المنزهون أو المصلون .

والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة } كأنه قيل : ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤوهم منه وقالوا للكفرة : فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه وتضلوه إلا من كان من أهل النار ، وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام معلوم من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفراً خشوعاً لعظمته ، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته مسبحين ممجدين كما يجب على العباد لربهم؟ وقيل : هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله من قوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه .
{ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ } أي مشركو قريش قبل مبعثه عليه السلام { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين } أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل { لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين } لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا كما كذبوا ولما خالفنا كما خالفوا ، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب { فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام . و«إن» مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادين فيه فكم بين أول أمرهم وآخره { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } الكلمة قوله { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } وإنما سماها كلمة وهي كلمات لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة . وعن الحسن : ما غلب نبي في حرب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في العقبى . والحاصل أن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة والعبرة للغالب .
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عنهم { حتى حِينٍ } إلى مدة يسيرة وهي المدة التي أمهلوا فيها أو إلى يوم بدر أو إلى فتح مكة { وَأَبصِرْهُمْ } أي أبصر ما ينالهم يومئذ { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } ذلك وهو للوعيد لا للتبعيد ، أو انظر إليهم إذا عذبوا فسوف يبصرون ما أنكروا ، أو أعلمهم فسوف يعلمون .

{ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } قبل حينه { فَإِذَا نَزَلَ } العذاب { بِسَاحَتِهِمْ } بفنائهم { فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين } صباحهم . واللام في { المنذرين } مبهم في جنس من أنذروا ، لأن «ساء» و«بئس» يقتضيان ذلك . وقيل : هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة . مثّل العذاب النازل بهم بعدما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة ، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } وإنما ثنى ليكون تسلية على تسلية وتأكيداً لوقوع الميعاد إلى تأكيد ، وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة . وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا وبالآخرة عذاب الآخرة .
{ سبحان رَبِّكَ رَبِّ العزة } أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق ، ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد إلا وهو ربها ومالكها كقوله ، { تعز مَن تَشَاء } [ آل عمران : 26 ] { عَمَّا يَصِفُونَ } من الولد والصاحبة والشريك { وسلام على المرسلين } عم الرسل بالسلام بعدما خص البعض في السورة لأن في تخصيص كل بالذكر تطويلاً { والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء . اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوه إليه مما هو منزه عنه وما عاناه المرسلون من جهتهم وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم ، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون والتسليم على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب . والمراد تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلّوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتاب الكريم ومودعات قرآنه المجيد . وعن علي رضي الله عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه { سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ وسلام على المرسلين والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } .

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)

{ ص } ذكر هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز ، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه كأنه قال { والقرءآن ذِى الذكر } أي ذي الشرف إنه لكلام معجز ، ويجوز أن يكون { ص } خبر مبتدأ محذوف على أنه اسم للسورة كأنه قال : هذه ص أي هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر كما تقول : هذا حاتم والله ، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله ، وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمت ب { ص والقرءان ذِى الذكر } إنه لمعجز . ثم قال { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ } تكبر عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق { وَشِقَاقٍ } خلاف لله ولرسوله . والتنكير في { عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } للدلالة على شدتهما وتفاقمهما . وقريء { فِى غرة } أي في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق { كَمْ أَهْلَكْنَا } وعيد لذوي العزة والشقاق { مِن قَبْلِهِمُ } من قبل قومك { مِّن قَرْنٍ } من أمة { فَنَادَوْاْ } فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب { وَّلاَتَ } هي «لا» المشبهة ب «ليس» زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على «رب» و«ثم» للتوكيد ، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضييها إما الاسم أو الخبر وامتنع بروزهما جميعاً وهذا مذهب الخليل وسيبويه ، وعند الأخفش أنها «لا» النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان . وقوله { حِينَ مَنَاصٍ } منجا منصوب بها كأنك قلت : ولا حين مناص لهم . وعندهما أن النصب على تقدير ولات الحين . حين مناص أي وليس الحين حين مناص .
{ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم } من أن جاءهم { مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } رسول من أنفسهم ينذرهم يعني استبعدوا أن يكون النبي من البشر { وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عُجَابٌ } ولم يقل «وقالوا» إظهاراً للغضب عليهم ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغي إذ لا كفر أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله كاذباً ساحراً ويتعجبوا من التوحيد وهو الحق الأبلج .
ولا يتعجبوا من الشرك وهو باطل لجلج . ورُوي أن عمر رضي الله عنه لما أسلم فرح به المؤمنون وشق على قريش ، فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : أنت كبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء يريدون الذين دخلوا في الإسلام وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك . فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك .

فقال عليه السلام : ماذا يسألونني؟ فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال عليه السلام : أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ قالوا : نعم وعشراً أي نعطيكها وعشر كلمات معها . فقال : قولوا لا إله إلا الله . فقاموا وقالوا { أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا } أي أصيّر { إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عُجَابٌ } أي بليغ في العجب . وقيل : العجيب ما له مثل والعجاب ما لا مثل له . { وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا } وانطلق أشراف قريش عن مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد قائلين بعضهم لبعض { أَنِ امشوا } و«أن» بمعنى أي لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم فكان انطلاقهم متضمناً معنى القول { وَاْصْبِرُواْ على } عبادة { ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هذا } الأمر { لَشَىْءٌ يُرَادُ } أي يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه فلا مرد له ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه { مَّا سَمِعْنَا بهذا } بالتوحيد { فِى الملة الآخرة } في ملة عيسى التي هي آخر الملل لأن النصارى مثلثه غير موحدة ، أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا { إِن هَذَا } ما هذا { إِلاَّ اختلاق } كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر } القرآن { مِّن بَيْنِنَا } أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم حسداً { بْل هُمْ فَى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى } من القرآن { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } بل لم يذوقوا عذابي بعد ، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد حينئذ أي أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب فيصدقون حينئذ { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب } يعني ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا ، ويتخيروا للنبوة بعض صناديدهم ، ويترفعوا بها عن محمد ، وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها العزيز القاهر على خلقه الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها ، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته . ثم رشح هذا المعنى فقال { أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والارض وَمَا بَيَنَهُمَا } حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء . ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال : فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة { فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب } فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى السماء حتى يدبروا أمر العالم وملكوت الله وينزلوا الوحي إلى من يختارون . ثم وعد نبيه عليه السلام النصرة عليهم بقوله .
{ جُندٌ } مبتدأ { مَّا } صلة مقوية للنكرة المبتدأة { هُنَالِكَ } إشارة إلى بدر ومصارعهم ، أو إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله لست { هُنَالِكَ } خبر المبتدأ { مَهْزُومٌ } مكسور { مِّن الأحزاب } متعلق ب { جُندٌ } أو ب { مَهْزُومٌ } يريد ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسول الله مهزوم عما قريب ، فلا تبال بما يقولون ولا تكترث لما به يهذون .

{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } قبل أهل مكة { قَوْمُ نُوحٍ } نوحاً { وَعَادٌ } هوداً { وَفِرْعَوْن } موسى { ذُو الأوتاد } قيل : كانت له أوتاد وجبال يلعب بها بين يديه . وقيل : يوتد من يعذب بأربعة أوتاد في يديه ورجليه { وَثَمُودُ } وهم قوم صالح صالحاً { وَقَوْمُ لُوطٍ } لوطاً { وأصحاب لئَيْكَةِ } الغيضة شعيباً { أُوْلَئِكَ الأحزاب } أراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم وأنهم الذين وجد منهم التكذيب { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } ذكر تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام حيث لم يبين المكذب ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها وبيّن المكذَّب وهم الرسل ، وذكر أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأن في تكذيب الواحد منهم تكذيب الجميع لاتحاد دعوتهم . وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً وبالاستثنائية ثانياً وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد ، أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه ، ثم قال { فَحَقَّ عِقَابِ } أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم . { عذابي } و { عقابي } في الحالين : يعقوب . { عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ } وما ينتظر أهل مكة ، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } أي النفخة الأولى وهي الفزع الأكبر { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } وبالضم : حمزة وعلي ، أي ما لها من توقف مقدار فواق وهو ما بين حلبتي الحالب أي إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما لها من رجوع وترداد ، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحة وفواق الناقة ساعة يرجع الدر إلى ضرعها يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } حظنا من الجنة لأنه عليه السلام ذكر وعد الله المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء : عجل لنا نصيبنا منها أو نصيبنا من العذاب الذي وعدته كقوله : { ويستعْجِلُونَكَ بالعذاب } [ الحج : 47 ] . وأصل القط القسط من الشيء لأنه قطعة منه من قطه إذا قطعه ، ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس { قَبْلَ يَوْمِ الحساب اصبر على مَا يَقُولُونَ } فيك وصن نفسك أن تزلّ فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم .
{ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ } وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة اليسيرة فلقي من عتاب الله ما لقي { ذَا الأيد } ذا القوة في الدين وما يدل على أن الأيد القوة في الدين قوله { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي رجاع إلى مرضاة الله تعالى ، وهو تعليل لذي الأيد .

رُوي أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل { إنّا سخّرنا } ذللنا { الجبال مَعَهُ } قيل : كان تسخيرها أنها تسير معه إذا أراد سيرها إلى حيث يريد { يُسَبِّحْنَ } في معنى مسبحات على الحال . واختار { يُسَبّحْنَ } على «مسبحات» ليدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال { بالعشى والإشراق } أي طرفي النهار ، والعشي وقت العصر إلى الليل ، والإشراق وقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس أي تضيء وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها تقول : شرقت الشمس ولمَّا تُشْرِق . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية { والطير مَحْشُورَةً } وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت فذلك حشرها { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } كل واحد من الجبال والطير لأجل داود أي لأجل تسبيحه مسبح لأنها كانت تسبح لتسبيحه . ووضع الأواب موضع المسبح لأن الأواب وهو التواب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه . وقيل : الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجّع للتسبيح { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } قويناه . قيل : كان يبيت حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل يحرسونه .
{ وءاتيناه الحكمة } الزبور وعلم الشرائع . وقيل : كل كلام وافق الحق فهو حكمة { وَفَصْلَ الخطاب } علم القضاء وقطع الخصام والفصل بين الحق والباطل . والفصل هو التمييز بين الشيئين . وقيل : للكلام البين فصل بمعنى المفصول كضرب الأمير ، وفصل الخطاب البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه ، وجاز أن يكون الفصل بمعنى الفاصل كالصوم والزور . والمراد بفصل الخطاب الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد والحق والباطل ، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات . وعن علي رضي الله عنه : هو الحكم بالبينة على المدعي واليمين على المدعي عليه ، وهو من الفصل بين الحق والباطل . وعن الشعبي : هو قوله «أما بعد» وهو أول من قال «أما بعد» ، فإن من تكلم في الأمر الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له فصل بينه وبين ذكر الله بقوله «أما بعد» . { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم } ظاهره الاستفهام ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة . والخصم الخصماء وهو يقع على الواحد والجمع لأنه مصدر في الأصل تقول خصمه خصماً . وانتصاب { إِذْ } بمحذوف تقديره : وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم أو بالخصم ملا فيه من معنى الفعل { تَسَوَّرُواْ المحراب } تصعدوا سوره ونزلوا إليه ، والسور الحائط المرتفع ، والمحراب الغرفة أو المسجد أو صدر المسجد .

إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

{ إِذْ } بدل من الأولى { دَخَلُواْ على دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ } رُوي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسوروا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ، ففزع منهم لأنهم دخلوا عليه المحراب في غير يوم القضاء ، ولأنهم نزلوا عليه من فوق وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه { قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ } خبر مبتدأ محذوف أي نحن خصمان { بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } تعدى وظلم { فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ } ولا تجر من الشطط وهو مجاوزة الحد وتخطى الحق { واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط } وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته والمراد عين الحق ومحضه .
رُوي أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة في المواساة بذلك وكان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك ، فاتفق أن داود عليه السلام وقعت عينه على امرأة أوريا فأحبها فسأله النزول له عنها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان . فقيل له : إنك مع عظم منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها لك بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به . وقيل : خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه . وما يحكى أنه بعث مرة بعد مرة أوريا إلى غزوة البلقاء وأحب أن يقتل ليتزوجها فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء . وقال علي رضي الله عنه : من حدثكم بحديث داود عليه السلام ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء .
ورُوي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها وأعظم بأن يقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه . فقال عمر : لسماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس . والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله بقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب ، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح لكونها أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه وأشد تمكناً من قلبه وأعظم أثراً فيه مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة .

{ إِنَّ هَذَا أَخِى } هو بدل من { هذا } أو خبر ل { إن } ، والمراد أخوة الدين أو إخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة لقوله { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء } { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة } { وَلِيَ } حفص . والنعجة كناية عن المرأة . ولما كان هذا تصويراً للمسئلة وفرضاً لها لا يمتنع أن يفرض الملائكة في أنفسهم كما تقول لي : أربعون شاة ولك أربعون فخلطناها وما لكما من الأربعين أربعة ولا ربعها { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اجعلها كفلي أن نصيبي { وَعَزَّنِى } وغلبني يقال عزه يعزه { فِى الخطاب } في الخصومة أي أنه كان أقدر على الاحتجاج مني . وأراد بالخطاب مخاطبة المحاج المجادل ، أو أراد خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطاباً أي غالبني في الخطبة فغلبني حيث زوجها دوني . ووجه التمثيل أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطة وأراده على الخروج من ملكها إليه وحاجّة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه ليحكم بما حكم به من قوله { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } حتى يكون محجوجاً بحكمه . وهذا جواب قسم محذوف وفي ذلك استنكار لفعل خليطه والسؤال مصدر مضاف إلى المفعول وقد ضمن معنى الإضافة فعدي تعديتها كأنه قيل : بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب . وإنما ظلّم الآخر بعدما اعترف به خصمه ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم .
ويُروى أنه قال : أنا أريد أن آخذها منه وأكمل نعاجي مائة فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وأشار إلى طرف الأنف والجبهة . فقال : يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا وأنت فعلت كيت وكيت . ثم نظر داود فلم ير أحداً فعرف ما وقع فيه { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء } الشركاء والأصحاب { لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين ءَأمَنُوا وَعَملُوا الصالحات } المستنثى منصوب وهو من الجنس والمستثنى منه بعضهم { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } { مَا } للابهام و { هُمْ } مبتدأ و { قَلِيلٌ } خبره { وَظَنَّ دَاوُدُ } أي علم وأيقن وإنما استعير له لأن الظن الغالب يداني العلم { أَنَّمَا فتناه } ابتليناه { فاستغفر رَبَّهُ } لزلته { وَخَرَّ رَاكِعاً } أي سقط على وجهه ساجداً لله ، وفيه دليل على أن الركوع يقوم مقام السجود في الصلاة إذا نوي لأن المراد مجرد ما يصلح تواضعاً عند هذه التلاوة والركوع في الصلاة يعمل هذا العمل بخلاف الركوع في غير الصلاة { وَأَنَابَ } ورجع إلى الله بالتوبة .

وقيل : إنه بقي ساجداً أربعين يوماً وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بد منه ، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع { فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك } أي زلته { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى } لقربة { وَحُسْنَ مَئَابٍ } مرجع وهو الجنة . { ياداود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الأرض } أي استخلفناك على الملك في الأرض أو جعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } أي بحكم الله إذ كنت خليفته أو بالعدل { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } أي هوى النفس في قضائك { فَيُضِلَّكَ } الهوى { عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله } دينه { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب } أي بنسيانهم يوم الحساب .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)

{ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } من الخلق { باطلا } خلقاً باطلاً لا لحكمة بالغة ، أو مبطلين عابثين كقوله { وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الأنبياء : 16 ] وتقديره ذوي باطل ، أو عبثاً فوضع { باطلا } موضعه أي ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب ولكن للحق المبين ، وهو أنا خلقنا نفوساً أودعناها العقل ومنحناها التمكين وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف وأعددنا لها عاقبة وجزاءً على حسب أعمالهم . { ذلك } إشارة إلى خلقها باطلاً { ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } الظن بمعنى المظنون أي خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا ، وإنما جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض وما بينهما لقوله { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] لأنه لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب مؤدياً إلى أن خلقها عبث وباطل جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه ، لأن الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم ، فمن جحده فقد جحد الحكمة في خلق العالم { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار أَمْ نَجْعَلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } «أم» منقطعة ، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار ، والمراد أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكفار لاستوت أحوال من أصلح وأفسد واتقى وفجر ، ومن سوّى بينهم كان سفيهاً ولم يكن حكيماً { كِتَابٌ } أي هذا كتاب { أنزلناه إِلَيْكَ } يعني القرآن { مُّبَارَكٌ } صفة أخرى { لِّيَدَّبَّرُواْ ءاياته } وأصله ليتدبروا قرىء به ومعناه ليتفكروا فيها فيقفوا على ما فيه ويعملوا به . وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيعوا حدوده { لتدَبّروا } على الخطاب بحذف إحدى التاءين : يزيد { وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } وليتعظ بالقرآن أولو العقول .
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد } أي سليمان . وقيل : داود ، وليس بالوجه فالمخصوص بالمدح محذوف { إِنَّهُ أَوَّابٌ } وعلل كونه ممدوحاً بكونه أواباً أي كثير الرجوع إلى الله تعالى { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ } على سليمان { بالعشى } بعد الظهر { الصافنات } الخيول القائمة على ثلاث قوائم وقد أقامت الأخرى على طرف حافر { الجياد } السراع جمع جواد لأنه يجود بالركض ، وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجان وإنما هو العراب . وقيل : وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية ، يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها . وقيل : الجياد الطوال الأعناق من الجيد . ورُوي أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس . وقيل : ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة . وقيل : خرجت من البحر لها أجنحة فقعد يوماً بعدما صلى الظهر على كرسيه واستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر وكانت فرضاً عليه ، فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقرباً لله وبقي مائة ، فما في أيدي الناس من الجياد ، فمن نسلها .

وقيل : لما عقرها أبدله الله خيراً منها وهي الريح تجري بأمره .
{ فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِىِّ } أي آثرت حب الخيل عن ذكر ربي كذا عن الزجاج . فأحببت بمعنى آثرت كقوله تعالى { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] و «عن» بمعنى «على» ، وسمى الخيل خيراً كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها كما قال عليه السلام " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " وقال أبو علي : أحببت بمعنى جلست من إحباب البعير وهو بروكه . حب الخير أي المال مفعول له مضاف إلى المفعول { حتى تَوَارَتْ } الشمس { بالحجاب } والذي دل على أن الضمير للشمس مررو ذكر العشي ولا بد للضمير من جري ذكر أو دليل ذكر ، أو الضمير للصافنات أي حتى توارت بحجاب الليل يعني الظلام { رُدُّوهَا عَلَىَّ } أي قال للملائكة : ردوا الشمس علي لأصلي العصر فردت الشمس له وصلى العصر ، أو ردوا الصافنات { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } فجعل يمسح مسحاً أي يمسح السيف بسوقها وهي جمع ساق كدار ودور وأعناقها ، يعني يقطعها لأنها منعته عن الصلاة . تقول : مسح عُلاوته إذا ضرب عنقه ، ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه . وقيل : إنما فعل ذلك كفارة لها أو شكراً لرد الشمس ، وكانت الخيل مأكولة في شريعته فلم يكن إتلافاً . وقيل : مسحها بيده استحساناً لها وإعجاباً بها .

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان } ابتليناه . { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ } سرير ملكه { جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } رجع إلى الله . قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة ، وكان من فتنته أنه ولد له ابن فقالت الشياطين : إن عاش لم ننفك من السخرة فسبيلنا أن نقتله أو نخبله ، فعلم ذلك سليمان عليه السلام فكان يغذوه في السحابة خوفاً من مضرة الشياطين ، فألفى ولده ميتاً على كرسيه فتنبه على زلته في أن لم يتوكل فيه على ربه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة منهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره ، فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون " وأما ما يُروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان عليه السلام فمن أباطيل اليهود .
{ قَالَ رَبِّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً } قدم الاستغفار على استيهاب الملك جرياً على عادة الأنبياء عليهم السلام والصالحين في تقديم الاستغفار على السؤال { لاَّ يَنبَغِى } لا يتسهل ولا يكون { لأَِحَدٍ مّن بَعْدِى } أي دوني . وبفتح الياء : مدني وأبو عمرو ، وإنما سأل بهذه الصفة ليكون معجزة له لا حسداً وكان قبل ذلك لم يسخر له الريح والشياطين ، فلما دعا بذلك سخرت له الريح والشياطين ولن يكون معجزة حتى يخرق العادات { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح } { الرياح } أبو جعفر .
{ تَجْرِى } حال من { الريح } { بِأَمْرِهِ } بأمر سليمان { رُخَآءَ } لينة طيبة لا تزعزع وهو حال من ضمير { تَجْرِى } { حَيْثُ } ظرف { تَجْرِى } { أَصَابَ } قصد وأراد . والعرب تقول : أصاب الصواب فاخطأ الجواب { والشياطين } عطف على { الريح } أي سخرنا له الشياطين { كُلَّ بَنَّآءٍ } بدل من { الشياطين } كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية { وَغَوَّاصٍ } أي ويغوصون له في البحر لإخراج اللؤلؤ ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر . والمعنى وسخرنا له كل بناء وغواص من الشياطين { وَءَاخَرِينَ } عطف على { كُلَّ بَنَّاء } داخل في حكم البدل { مُّقَرَّنِينَ فِى الأصفاد } وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد . والصفد : القيد وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ، ومنه قول علي رضي الله عنه : من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك { هذا } الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة { عَطَآؤُنَا فامنن } فأعط منه ما شئت من المنة وهي العطاء { أَوْ أَمْسِكْ } عن العطاء ، وكان إذا أعطى أجر وإن منع لم يأتم بخلاف غيره { بِغَيْرِ حِسَابٍ } متعلق ب { عَطَاؤُنَا } وقيل : هو حال أي هذا عطاؤنا جماً كثيراً لا يكاد يقدر على حصره ، أو هذه التسخير عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق أو أمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب أي لا حساب عليك في ذلك { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَئَابٍ } { لزلفى } اسم «إن» والخبر { لَهُ } والعامل في { عِندَ } الخبر .

{ واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ } هو بدل من { عَبْدَنَا } أو عطف بيان { إِذْ } بدل اشتمال منه { نادى رَبَّهُ } دعاه { إِنِّى مَسَّنِىَ } بأني مسني حكاية لكلامة الذي ناداه بسببه ولو لم يحك لقال بأنه مسه لأنه غائب { الشيطان بِنُصْبٍ } قراءة العامة { بِنُصُب } ، يزيد تثقيل نُصْب { بِنَصَب } كرشد ورشد ، يعقوب { بِنصب } على أصل المصدر هبيرة والمعنى واحد وهو التعب والمشقة { وَعَذَابٍ } يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل . ورُوي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسأل عنه فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين . وذكر في سبب بلائه أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع ، أو رأى منكراً فسكت عنه ، أو ابتلاه الله لرفع الدرجات بلا زلة سبقت منه { اركض بِرِجْلِكَ } حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام أي أرسلنا إليه جبريل عليه السلام فقال له : اركض برجلك أي اضرب برجلك الأرض وهي أرض الجابية فضربها فنبعت عين فقيل : { هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } أي هذا ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك . وقيل : نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله تعالى .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } قيل : أحياهم الله تعالى بأعيانهم وزاده مثلهم { رَحْمَةً مّنَّا وذكرى لأُِوْلِى الألباب } مفعول لهما أي الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب ، لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره رغبهم في الصبر على البلاء { وَخُذْ } معطوف على { اركض } { بِيَدِكَ ضِغْثاً } حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قبضة من الشجر { فاضرب بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ } وكان حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برأ ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ، وهذه الرخصة باقية ويجب أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة .

والسبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فحرج صدره . وقيل : باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب عليه السلام إذا قام { إِنَّا وجدناه } علمناه { صَابِراً } على البلاء نعم قد شكا إلى الله ما به واسترحمه لكن الشكوى إلى الله لا تسمى جزعاً فقد قال يعقوب عليه السلام { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] على أنه عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة حيث كان الشيطان يوسوس إليهم أنه لو كان نبياً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به وإرادة القوة على الطاعة فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان { نِعْمَ العبد } أيوب { إِنَّهُ أَوَّابٌ } .

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

{ واذكر عِبَادَنَا } { عَبْدَنَا } مكي . { إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ } فمن جمع ف { إِبْرَاهِيمَ } ومن بعده عطف بيان على { عِبَادِنَا } ومن وحد ف { إبراهيم } وحده عطف بيان له ، ثم عطف ذريته على { عَبْدَنَا } ولما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم وإن كان عملاً لا تتأتى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمال جذماً لا أيدي لهم وعلى هذا ورد قوله { أُوْلِى الأيدى والأبصار } أي أولي الأعمال الظاهرة والفكر الباطنة كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يجاهدون في الله ولا يتفكرون أفكار ذوي الديانات في حكم الزمني الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار لهم ، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ولا من المستبصرين في دين الله وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما { إِنَّا أخلصناهم } جعلناهم لنا خالصين { بِخَالِصَةٍ } بخصلة خالصة لا شوب فيها . { ذِكْرَى الدار } { ذِكْرِى } في محل النصب أو الرفع بإضمار «أعني» ، أو «هي» ، أو الجر على البدل من ب { خَالِصَة } والمعنى إنا أخلصناهم بذكرى الدار ، والدار هنا : الدار الآخرة يعني جعلناهم لنا خالصين بأن جعلناهم يذكرون الناس الدار الآخرة ويزهدونهم في الدنيا كما هو ديدن الأنبياء عليهم السلام ، أو معناه أنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله وينسون ذكر الدنيا بخالصة ذكرى الدار ، على الإضافة مدني ونافع وهي من إضافة الشيء إلى ما يبينه ، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى . و { ذِكْرى } مصدر مضاف إلى المفعول أي بإخلاصهم ذكرى الدار . وقيل : خالصة بمعنى خلوص فهي مضافة إلى الفاعل أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بِهمٍ آخر ، إنما همهم ذكرى الدار لا غير . وقيل : ذكرى الدار الثناء الجميل في الدنيا ، وهذا شيء قد أخلصهم به فليس يذكر غيرهم في الدنيا بمثل ما يذكرون به يقويه قوله { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } [ مريم : 50 ] { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين } المختارين من بين أبناء جنسهم { الأخيار } جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت .
{ واذكر إسماعيل واليسع } كأن حرف التعريف دخل على «يسع» { وَذَا الكفل وَكُلٌّ } التنوين عوض عن المضاف إليه أي وكلهم { مِّنَ الأخيار هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَئَابٍ } أي هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبداً ، وإن لهم مع ذلك لحسن مرجع يعني يذكرون في الدنيا بالجميل ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة رب جليل . ثم بين كيفية حسن ذلك المرجع فقال { جنات عَدْنٍ } بدل من { حسن مئاب } { مُّفَتَّحَةً } حال من { جنات } لأنها معرفة لإضافتها إلى { عَدْنٍ } وهو علم ، والعامل فيها ما في { لّلْمُتَّقِينَ } من معنى الفعل { لَّهُمُ الأبواب } ارتفاع الأبواب بأنها فاعل { مُّفَتَّحَةً } والعائد محذوف أي مفتحة لهم الأبواب منها فحذف كما حذف في قوله

{ فَإِنَّ الجحيم هِىَ المأوى } [ النازعات : 39 ] أي لهم أو أبوابها إلا أن الأول أجود ، أو هي بدل من الضمير في { مُّفَتَّحَةً } وهو ضمير الجنات تقديره مفتحة هي الأبواب وهو من بدل الاشتمال { مُتَّكِئِينَ } حال من المجرور في { لَهُمْ } والعامل { مُّفَتَّحَةً } { فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } أي وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف } أي قصرن طرفهن على أزواجهن { أَتْرَابٌ } لدات أسنانهن كأسنانهم لأن التحاب بين الأقران أثبت كأن اللدات سمين أتراباً لأن التراب مسهن في وقت واحد .
{ هذا مَا تُوعَدُونَ } وبالياء : مكي وأبو عمر { لِيَوْمِ الحساب } أي ليوم تجزى كل نفس بما عملت { إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } من انقطاع والجملة حال من الرزق والعامل الإشارة . { هذا } خبر والمبتدأ محذوف أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر { وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَأَبٍ } مرجع { جَهَنَّمَ } بدل منه { يَصْلَوْنَهَا } يدخلونها { فَبِئْسَ المهاد } شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم { هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } أي هذا حميم وغساق فليذوقوه ، ف { هذا } مبتدأ و { حَمِيم } خبر { وَغَسَّاقٌ } بالتشديد : حمزة وعلي وحفص . والغساق بالتشديد والتخفيف ما يغسق من صديد أهل النار ، يقال : غسقت العين إذا سال دمعها . وقيل : الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده { وَءَاخرُ } أي وعذاب آخر أو مذوق آخر { مِن شَكْلِهِ } من مثل العذاب المذكور . { وأَخر } بصري أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق في الشدة والفظاعة { أزواج } صفة ل { ءَاخَرَ } لأنه يجوز أن يكون ضروباً { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم . والاقتحام : الدخول في الشيء بشدة ، والقحمة : الشدة ، وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض أي يقولون هذا والمراد بالفوج اتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة فيقتحمون معهم العذاب { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } دعاء منهم على أتباعهم تقول لن تدعو له مرحباً أي أتيت رحباً من البلاد لا ضيقاً أو رحبت بلادك رحباً ثم تدخل عليه «لا» في دعاء السوء ، وبهم بيان للمدعو عليهم { إِنَّهُمْ صَالُو النار } أي داخلوها وهو تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم . وقيل : { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ } كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم ، و { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النار } كلام الرؤساء . وقيل : هذا كله كلام الخزنة .

{ قَالُواْ } أي الأتباع { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به ، وعللوا ذلك بقوله { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } والضمير للعذاب أو لصليهم أي انكم دعوتمونا إليه فكفرنا باتباعكم { فَبِئْسَ القرار } أي النار { قَالُواْ } أي الأتباع { رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً } أي مضاعفاً { فِى النار } ومعناه ذا ضعف . ونحوه قوله { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا } وهو أن يزيد على عذابه مثله { وَقَالُواْ } الضمير لرؤساء الكفرة { مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً } يعنون فقراء المسلمين { كُنَّا نَعُدُّهُمْ } في الدنيا { مِّنَ الأشرار } من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى { اتخذناهم سِخْرِيّاً } بلفظ الإخبار : عراقي غير عاصم على أنه صفة ل { رِجَالاً } مثل { كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشرار } وبهمزة الاستفهام : غيرهم على أنه إنكار على أنفسهم في الاستسخار منهم ، { سُخرِياً } مدني وحمزة وعلي وخلف والمفضل { أَمْ زَاغَتْ } مالت { عَنْهُمُ الأبصار } هو متصل بقوله { مَا لَنَا } أي ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها ، قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنه خفي عليهم مكانهم { إِنَّ ذلك } الذي حكينا عنهم { لَحَقٌّ } لصدق كائن لا محالة لا بد أن يتكلموا به . ثم بين ما هو فقال : هو { تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } ولما شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين سماه تخاصماً ، ولأن قول الرؤساء { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } وقول أتباعهم : { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } من باب الخصومة فسمى التقاول كله تخاصماً لاشتماله على ذلك .
{ قُلْ } يا محمد لمشركي مكة { إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ } ما أنا إلا رسول منذر أنذركم عذاب الله تعالى { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } وأقول لكم إن دين الحق توحيد الله وأن تعتقدوا أن لا إله إلا الله { الواحد } بلا ند ولا شريك { القهار } لكل شيء { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } له الملك والربوبية في العالم كله { العزيز } الذي لا يغلب إذا عاقب { الغفار } لذنوب من التجأ إليه { قُلْ هُوَ } أي هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولاً منذراً وأن الله واحد لا شريك له { نَبَؤُا عظِيمٌ } لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة . ثم { أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } غافلون { مَا كَانَ لِىَ } حفص { مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } احتج لصحة نبوته بأن ما ينبىء به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط ، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب ، فعلم أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى .

{ إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي لأنما أنا نذير مبين ومعناه ما يوحى إلي إلا للإنذار فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه ، ويجوز أن يرتفع على معنى ما يوحى إلي إلا هذا وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك أي ما أومر إلا بهذا الأمر وحده وليس لي غير ذلك . وبكسر { إِنَّمَا } يزيد على الحكاية أي إلا هذا القول وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين ولا أدعي شيئاً آخر . وقيل : النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : القرآن . وعن الحسن : يوم القيامة . والمراد بالملإ الأعلى أصحاب القصة : الملائكة وآدم وإبليس ، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم و { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } متعلق بمحذوف إذ المعنى ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم .

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ } بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي في شأن آدم حين قال تعالى على لسان ملك { للملائكة إِنِّى خالق بَشَراً مِّن طِينٍ } وقال { إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } فإذا أتممت خلقته وعدلته { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } الذي خلقته ، وأضافه إليه تخصيصاً كبيت الله وناقة الله ، والمعنى أحييته وجعلته حساساً متنفساً { فَقَعُواْ } أمر من وقع يقع أي اسقطوا على الأرض والمعنى اسجدوا { لَهُ ساجدين } قيل : كان انحناء يدل على التواضع . وقيل : كان سجدة لله أو كان سجدة التحية { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } «كل» للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعهم في وقت واحد غير متفرقين في أوقات { إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر } تعظم عن السجود { وَكَانَ مِنَ الكافرين } وصار من الكافرين بإباء الأمر { قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } ما منعك عن السجود { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } أي بلا واسطة امتثالاً لأمري وإعظاماً لخطابي ، وقد مر أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيده فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما حتى قيل في عمل القلب : هو ما عملت يداك ، حتى قيل لمن لا يدين له : يداك اوكتا وفوك نفخ . وحتى لم يبق فرق بين قولك «هذا مما عملته» و «هذا مما عملته يداك» ، ومنه قوله { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } [ يس : 71 ] و { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } { أَسْتَكْبَرْتَ } استفهام إنكار { أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } ممن علوت وفقت . وقيل : أستكبرت الآن أم لم تزل مذ كنت من المستكبرين .
{ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } يعني لو كان مخلوقاً من نار لما سجدت له لأنه مخلوق مثلي فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله؟ وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } مجرى المعطوف عطف البيان والإيضاح . { قَالَ فاخرج مِنْهَا } من الجنة أو من السماوات أو من الخلقة التي أنت فيها ، لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته واسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسناً وأظلم بعدما كان نورانياً { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } مرجوم أي مطرود . تكبر إبليس أن يسجد لمن خلق من طين وزل عنه أن الله أمر به ملائكته واتبعوا أمره إجلالاً لخطابه وتعظيماً لأمره فصار مرجوماً ملعوناً بترك أمره { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى } بفتح الياء : مدني أي إبعادي من كل الخير { إلى يَوْمِ الدين } أي يوم الجزاء ولا يظن أن لعنته غايتها يوم الدين ثم تنقطع ، لأن معناه أن عليه اللعنة في الدنيا وحدها فإذا كان يوم الدين اقترن بها العذاب فينقطع الانفراد ، أو لما كان عليه اللعنة في أوان الرحمة فأولى أن تكون عليه في غير أوانها ، وكيف تنقطع وقد قال الله تعالى

{ فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى } فأمهلني { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } الوقت المعلوم الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى ، ويومه اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه ، ومعنى المعلوم أنه معلوم عند الله معين لا يتقدم ولا يتأخر { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } أي أقسم بعزة الله وهي سلطانه وقهره { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } وبكسر اللام : مكي وبصري وشامي .
{ قَالَ فالحق } بالرفع : كوفي غير عليّ على الابتداء أي الحق قسمي ، أو على الخبر أي أنا الحق . وغيرهم بالنصب على أنه مقسم به كقولك الله لأفعلن كذا يعني حذف عنه الباء فانتصب وجوابه { لأَمْلاَنَّ } { والحق أَقُولُ } اعتراض بين المقسم والمقسم عليه وهو منصوب ب { أَقُولُ } ومعناه ولا أقول إلا الحق ، والمراد بالحق إما اسمه عز وجل الذي في قوله { أَنَّ الله هُوَ الحق } [ الحج : 6 ] أو الحق الذي هو نقيض الباطل عظمه الله بإقسامه به { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ } من جنسك وهم الشياطين { وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } من ذرية آدم { أَجْمَعِينَ } أي لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحداً { قُلْ مَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } الضمير للقرآن أو للوحي { وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين } من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعاً ولا مدعياً بما ليس عندي حتى أنتحل النبوة وأتقول القرآن { إِنْ هُوَ } ما القرآن { إِلاَّ ذِكْرٌ } من الله { للعالمين } للثقلين أوحى إليّ فأنا أبلغه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم « للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم » { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ } نبأ القرآن وما فيه من الوعد والوعيد وذكر البعث والنشور { بَعْدَ حِينِ } بعد الموت أو يوم بدر أو يوم القيامة ، ختم السورة بالذكر كما افتتحها بالذكر والله الموفق .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)

{ تَنزِيلُ الكتاب } أي القرآن مبتدأ خبره { مِنَ الله } أي نزل من الله ، أو خبر مبتدأ محذوف والجار صلة التنزيل ، أو غير صلة بل هو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره هذا تنزيل الكتاب هذا من الله { العزيز } في سلطانه { الحكيم } في تدبيره { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } هذا ليس بتكرار لأن الأول كالعنوان للكتاب والثاني لبيان ما في الكتاب { فاعبد الله مُخْلِصاً } حال { لَّهُ الدين } أي ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر ، ف { الدين } منصوب ب { مُخْلِصاً } وقرىء { الدين } بالرفع وحق من رفعه أن يقرأ { مُخْلِصاً } { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } أي هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة كدر لاطلاعه على الغيوب والأسرار . وعن قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله . وعن الحسن : الإسلام . { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أي آلهة وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : والذين عبدوا الأصنام يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } مصدر أي تقريباً { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } بين المسلمين والمشركين { فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } قيل : كان المسلمون إذا قالوا لهم من خلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . والمعنى أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ } أي لا يهدي من هو في علمه أنه يختار الكفر يعني لا يوفقه للهدى ولا يعينه وقت اختياره الكفر ولكنه يخذله ، وكذبهم قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء بنات الله ، ولذا عقبه محتجاً عليهم بقوله { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي لو جاز اتخاذ الولد على ما تظنون لاختار مما يخلق ما يشاء لا ما تختارون أنتم وتشاءون { سبحانه } نزه ذاته عن أن يكون له أخذ ما نسبوا إليه من الأولياء والأولاد ، ودل على ذلك بقوله { هُوَ الله الواحد القهار } يعني أنه واحد متبريء عن انضمام الأعداد متعال عن التجزؤ والولاد ، قهار غلاب لكل شيء ومن الأشياء آلهتهم فأنى يكون له أولياء وشركاء؟ .
ثم دل بخلق السماوات والأرض وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر وتسخير النيرين وجريهما لأجل مسمى ، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة ، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك قهار لا يغالب بقوله { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق يُكَوِّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى اليل } والتكوير اللف واللي يقال : كار العمامة على رأسه وكورها ، والمعنى أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيّبه عن مطامح الأبصار ، أو أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي يوم القيامة { إِلاَّ هُوَ العزيز } الغالب القادر على عقاب من لم يعتبر بتسخير الشمس والقمر فلم يؤمن بمسخرهما { الغفار } لمن فكر واعتبر فآمن بمدبرهما .

{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة } أي آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي حواء من قُصَيراه . قيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام } أي جعل . عن الحسن : أو خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام ثم أنزلها ، أو لأنها لا تعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها { ثمانية أزواج } ذكراً وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز كما بين في سورة الأنعام ، والزوج اسم لواحد معه آخر فإذا انفرد فهو فرد ووتر { يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم إلى تمام الخلق { فِى ظلمات ثلاث } ظلمة البطن والرحم والمشيمة أو ظلمة الصلب والبطن والرحم { ذلكم } الذي هذه مفعولاته هو { الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُصْرَفُونَ } فكيف يعدل بكم من عبادته إلى عبادة غيره .
ثم بين أنه غني عنهم بقوله { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ } عن إيمانكم وأنتم محتاجون إليه لتضرركم بالكفر وانتفاعكم بالإيمان { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } لأن الكفر ليس برضا الله تعالى وإن كان بإرادته { وَإِن تَشْكُرُواْ } فتؤمنوا { يَرْضَهُ لَكُمْ } أي يرض الشكر لكم لأنه سبب فوزكم فيثيبكم عليه الجنة { يرضه } بضم الهاء والإشباع : مكي وعلي : { يرضه } بضم الهاء بدون الإشباع : نافع وهشام وعاصم غير يحيى وحماد . وغيرهم { يرضه } { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي لا يؤاخذ أحد بذنب آخر { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } إلى جزاء ربكم رجوعكم { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } بخفيات القلوب { وَإِذَا مَسَّ الإنسان } هو أبو جهل أو كل كافر { ضُرٌّ } بلاء وشدة والمس في الأعراض مجاز { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } راجعاً إلى الله بالدعاء لا يدعو غيره { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } أعطاه { نِعْمَةً مِّنْهُ } من الله عز وجل { نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي نسى ربه الذي كان يتضرع إليه . و «ما» بمعنى «من» كقوله

{ وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى } [ الليل : 3 ] أو نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } أمثالاً { لِيُضِلَّ } { لَيِضل } مكي وأبو عمرو ويعقوب { عَن سَبِيلِهِ } أي الإسلام { قُلْ } يا محمد { تَمَتَّعَ } أمر تهديد { بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أي في الدنيا { إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار } من أهلها . { أَمَّنْ } قرأ بالتخفيف مكي ونافع وحمزة على إدخال همزة الاستفهام على «من» ، وبالتشديد غيرهم على إدخال «أم» عليه و «من» مبتدأ خبره محذوف تقديره «أمن» { هُوَ قَانِتٌ } كغيره أي أمن هو مطيع كمن هو عاص والقانت المطيع لله؟ وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جرى ذكر الكافر قبله ، وقوله بعده { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } { ءَانَاءَ اليل } ساعاته { ساجدا وَقَائِماً } حالان من الضمير في { قَانِتٌ } { يَحْذَرُ الآخرة } أي عذاب الآخرة { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي الجنة ، ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء ، يرجو رحمته لا عمله ويحذر عقابه لتقصيره في عمله . ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمناً ، والخوف إذا جاوز حده يكون إياساً ، وقد قال الله تعالى { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] وقال { إنه لا ييأس من من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] ، فيجب أن لا يجاوز أحدهما حده { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي يعلمون ويعملون به كأنه جعل من لا يعمل غير عالم ، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنّون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء ، أو أريد به التشبيه أي كما لا يستوي العالم والجاهل كذلك لا يستوي المطيع والعاصي { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } جمع لب أي إنما يتعظ بوعظ الله أولو العقول .

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)

{ قُلْ ياعباد الذين ءَامَنُواْ } بلا ياء عند الأكثر { اتقوا رَبَّكُمُ } بامتثال أوامره واجتناب نواهيه { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي أطاعوا الله في الدنيا . و «في» يتعلق ب { أَحْسَنُواْ } لا ب { حَسَنَةٌ } ، معناه الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة أي حسنة لا توصف . وقد علقه السدي ب { حَسَنَةٌ } ففسر الحسنة بالصحة والعافية . ومعنى { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } أي لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة حتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكنون في أوطانهم من التوفر على الإحسان . قيل لهم : فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فتحولوا إلى بلاد أخرى . واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون } على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرها من تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير { أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يهتدي إليه حساب الحسّاب ولا يعرف . وهو حال من الأجر أي موفراً { قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } بأن أعبد الله { مُخْلِصاً لَّهُ الدين } أي أمرت بإخلاص الدين { وَأُمِرْتُ لأَِنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين } وأمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين أي مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة ، والمعنى أن الإخلاص له السُّبقة في الدين فمن أخلص كان سابقاً ، فالأول أمر بالعبادة مع الإخلاص ، والثاني بالسبق فلاختلاف جهتيهما نزلاً منزلة المختلفين ، فصح عطف أحدهما على الآخر .
{ قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } لمن دعاك بالرجوع إلى دين آبائك ، وذلك أن كفار قريش قالوا له عليه السلام : ألا تنظر إلى أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فنزلت رداً عليهم { قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى } وهذه الآية إخبار بأنه يخص الله وحده بعبادته مخلصاً له دينه دون غيره ، والأولى إخبار بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فالكلام أولاً واقع في نفس الفعل وإثباته ، وثانياً فيما يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله :
{ فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } وهذا أمر تهديد . وقيل له عليه السلام : إن خالفت دين آبائك فقد خسرت فنزلت { قُلْ إِنَّ الخاسرين } أي الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } بإهلاكها في النار { وَأَهْلِيهِمْ } أي وخسروا أهليهم { يَوْمُ القيامة } لأنهم أضلوهم فصاروا إلى النار ، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله : { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين } حيث صدر الجملة بحرف التنبيه ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران ونعته بالمبين ، وذلك لأنهم استبدلوا بالجنة ناراً وبالدرجات دركات { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ } أطباق { مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } أطباق من النار وهي ظلل لآخرين أي النار محيطة بهم { ذلك } الذي وصف من العذاب أو ذلك الظلل { يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ } ليؤمنوا به ويجتنبوا مناهيه { ياعباد فاتقون } ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي خوّفهم بالنار .

ثم حذرهم نفسه { والذين اجتنبوا الطاغوت } الشياطين «فعلوت» من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين ، أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكون الطاغوت مصدراً ، وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأن عين الشيطان طغيان وأن البناء بناء مبالغة ، فإن الرحموت الرحمة الواسعة ، والملكوت الملك المبسوط والقلب وهو للاختصاص ، إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها ههنا الجمع وقريء { الطواغيت } { أَن يَعْبُدُوهَا } بدل الاشتمال من الطاغوت أي عبادتها { وَأَنَابُواْ } رجعوا { إِلَى الله لَهُمُ البشرى } هي البشارة بالثواب تتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين وحين يحشرون { فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } هم الذين اجتنبوا أنابوا ، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة فوضع الظاهر موضع الضمير أراد أن يكونوا نقاداً في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب ، وكذا المباح والندب حراصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً ، أو يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن ، أو يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو ونحو ذلك ، أو يستمعون الحديث مع القوم فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه { أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب } أي المنتفعون بعقولهم .

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)

{ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار } أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب أي وجب { أَفَأَنتَ } جملة شرطية دخلت عليها همزة الانكار والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف تقديره : أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الانكار . ووضع { مَن فِى النار } موضع الضمير أي تنقذه ، فالآية على هذا جملة واحدة ، أو معناه : أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه ، أفأنت تنقذه أي لا يقدر أحد أن ينقذ من أضله الله وسبق في علمه أنه من أهل النار { لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ } أي لهم منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل أرفع منها يعني للكفار ظلل من النار وللمتقين غرف { مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي من تحت منازلها { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد } وعد الله مصدر مؤكد ، لأن قوله { لَهُمْ غُرَفٌ } في معنى وعدهم الله ذلك .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } يعني المطر . وقيل : كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله { فَسَلَكَهُ } فادخله { يَنَابِيعَ فِى الأرض } عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد . و { يَنَابِيعَ } نصب على الحال أو على الظرف و { فِى الأرض } صفة ل { يَنَابِيعَ } . { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ } بالماء { زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض أو أصنافه من بن وشعير وسمسم وغير ذلك { ثُمَّ يَهِيجُ } يجف { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } بعد نضارته وحسنه { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما } فتاتاً متكسراً ، فالحطام ما تفتت وتكسر من النبت وغيره { إِنَّ فِى ذلك } في إنزال الماء وإخراج الزرع { لذكرى لأُِوْلِى الألباب } لتذكيراً وتنبيهاً على أنه لا بد من صانع حكيم ، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير لا عن إهمال وتعطيل { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ } أي وسع صدره { للإسلام } فاهتدى ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرح فقال : " «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» فقيل : فهل لذلك من علامة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت " { فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبّهِ } بيان وبصيرة ، والمعنى : أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فقسا قلبه؟ فحذف لأن قوله { فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ } يدل عليه { مِّن ذِكْرِ الله } أي من ترك ذكر الله أو من أجل ذكر الله أي إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة كقوله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15