كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب

ولقد أقول وعنبرٌ ذاك الفتى ... يلقى الفوارس في العجاج الأكور
يا عاثرين لدى الجلاد لعاً فقد ... بسقت لكم ريح الجلاد بعنبر
وقال وقد اشتاق إلى السبيكة خارج حمراء غرناطة:
وإن إفراط بكائي ... لم يرع مني عريكة
قد أذاب العين لما ... زاد شوقي للسبيكة
لما نزلت من السبيكة صادني ... ظبيٌ وددت لديه أن لم أنزل
فاعجب لظبي صاد ليثاً لم يكن ... من قبلها متخبطاً في أخبل
وقال وهو ظريف:
قد قارب العشرين ظبيٌ لم يكن ... ليرى الورى عن حبه سلوانا
وبدا الربيع بخده فكأنما ... وافي الربيع ينادم النعمانا
وقال:
أتوني فعابوا من أحب جماله ... وذاك على سمع المحب خفيف
فما فيه عيبٌ غير أن جفونه ... مراضٌ وأن الخصر منه ضعيف
وقال:
أيا عجباً كيف تهوى الملوك ... محلي وموطن أهلي وناسي
وتحسدني وهي مخدومة ... وما أنا إلا خديم بفاس
نثرهونثره تلو نظمه في الإجادة، وقد تضمن الكتاب المسمى بنفاضة الجراب منه ذكر كل بديع فمما ثبت فيه، مما خاطبته به. وقد ولي خطة القضاء بالإقليم، أداعبه، وأثير ما تستحويه.
عجائبهأيا قاضي العدل الذي لم تزل ... تمتار شهب الفضل من شمسك
قعدت للإنصاف بين الورى ... فاطلب لنا الإنصاف من نفسك

ما للقاضي، أبقاه الله، ضاق ذرع عدله الرحيب، عن العجيب، وهم عن العتب، وضن على صديقه حتى بالكتب، أمن المدونة الكبرى ركب هذا التحريج، أم من المبسوطة ذهب إلى هذا الأمر المريج، أم من الواضحة امتنع عن الإمام ببديع الوفاء والتعريج، من أمثالهم إرض من أخيك بعشر وده إذا ولى، وقد قنعنا والحمد لله بحبة من مده، وإشارة من درجه، وبرة وصاعةٍ، معتدلة، من زمان بلوغ أشده، فما باله يمطل مع الغني، ويحوج إلى العنا، مع قرب الجني، المحلة حلة ضالع، ومطمعٍ وطامع، ومرأى، ومستمع وسامع، والكنف الواسع، والمكان لاناءٍ ولا شاسع، والضرع حافل، والزرع كافٍ كافل، والقريحة وارية الزند، والإمامة خافقة البند، وهب أن البخل يقع بها في الخوان على الإخوان، فما باله يسمح بالبيان، وليس الخبر كالعيان، ويتعدى حظ الجنان، لاخط البنان، أعيذ سيدي من ارتكاب رأيٍ ذميم، ينقل إلى نميرها بيت تميم، ويقصد معناه بتميم، وهلا تلاحم، وعهدي بالسياسة القاضوية، وقد نامت في مهاد أهل الظرف، نوم أهل الكهف، ولم تبال بمردد الويل واللهف، أو شربة لحفظ الصحة بختجا، ودقت لإعادة الشبيبة عفصا ورد سختجا، وغطت الصبح بالليل إذا سجا، ومدت على ضاحي البياض صلاً سجسجا، وردت سوسن العارض بنفسجا، ولبس بحرها الزاخر من طحلب البحر منتسجا، وأحكام العامة، ومزين المرأة ينصح ويرشد، ويطوي المحاسن وينشد، حتى حسنت الدارة، وصحت الاستدارة، وأعجبه الوجه الجميل، والقد الذي يميد في دكة الدار ويميل، وأغرى بالسواك السميم والتكميل، وولج بين شفرتي سيد الميل، وقيل لو صاح اليمين خاب فيك التأميل، وامتد جناح برنس السرق، واحتفل الغصن الرطيب في الورق، ورش الورد بمائه عند رشح العرق، وتهيأ لمنطلق، فقرأت عليه نساء أعوانه، وكتبة ديوانه، سورة الفلق، من بعد ما وقف الإمليق حجابه على إقدامهم، وسحبهم جلاوزته من أقوامهم، فمثلوا واصطفوا، وتألفوا والتفوا، وداروا وحفوا، وما تسللوا ولا خفوا، كأنما أسمعتهم صيحة النشر، وأخروجوا لأول الحشر. فعيونهم بملتقى المصراع معقودة، وأذهانهم لمكان الهيبة مفقودة، وحبالتهم قبل الطلب بها منقودة، فبعد ما فرش الوساد، وارتفع بالنفاق الكساد، وذارع البكا وتأرج الحساد، واستقام الكون وارتفع الفساد، وراجعت أرواحها الأجساد، جاءت السادة القاضوية فجلست، وتنعمت الأحداق بالنظر فيها واختلست، وسجت الأكف حتى أفلست، وزانت شمسها ذلك الفلك، وجلت الأنوار ذلك الحلك، وفتحت الأبواب وقالت هيت لك، ووقفت الأعوان سماطين، ومثلوا خطين، وتشكلوا مجرة تنتهي منك إلى البطين، يعلنون بالهدية ويجهرون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، من كل شهاب ثاقب وطائفٍ غاسق واقب، وملاحظ مراقب، كميش الإزار، بعيد المزار، حامل للأوبار، خصيم مبين، وراثٌ سوفسطائياً عن رثين، مضطلع بفقه البين وحريمها، فضلا عن تلقين الخصوم وتعليمها، يرأسهم العريف المقرب، والمقدم المدرب، والمشافة المباشر، والنابح الشاكر، والنهج العاشر، الذي يقتضي خلاص العقد، ويقطع الكالي والنقد، ويزكي ويجرح، ويمسك ويسرح ويطرح، ويحمل من شاء أو يشرح، والمسيطر الذي بيده ميزان الرزق، وجميع أجزاء المفترق، وكافة قابلة، وحم الدواة الفاغرة، ورشا بلالة الصدور الواغرة، فإذا وقف الخمصان بأقصى مطرح الشعان، أيان يجتمع الرعاع، وأعلنا الندا، وطلب الأعداء. وصاحا جعل الله أنفسنا لك الفدا، ورفع الأمر إلى مقطع الحق، والأولى بالمثوبة الأحق، أخذتهما الأيدي دفعاً في القفي، ورفعا الستر اللطيف الخفي، وأمسكا بالحجر والأكمام، ومنعا المباشرة والإلمام، فإذا أدلى بحجته من أدلى، وسمعها دينه عدلا، وحق القول، واستقر الهول، ووجبت اليمين، أو الأداء الذي يفوت له الذخر اليمين، أو الرهن أو الضمين، أو الاعتقال الذي هو على أحدهما كالأمين، نهش الصل، الذي سليمه لأهل، ولسبت العقارب، التي لا يفلتها الهارب، ولا تخفي منها المشارب، وكم تحت ظلام الليل من غرارة يحملها غر، وصده ريح فيها صر، ويهدي ارتقاب قلة شهد، وكبش يجر بقرنيه، ويدفع بعد رفع ساقيه، ومعزى وجدي وقلائد، وسرب دجاج، ذوات بجاج، يفضحن الطارق، ويشعثن المفارق، فمتى يستفيق سيدي مع هذا اللغط العائد بالصلة، واللهو المتصلة، وتفرغ يده البيضا لأعمال ارتياض، وخط سوادٍ في بياض، أو حنينٍ لدوحٍ أو رياض

أو إمتاع طرف، باكتشاف حرف، أو إعمال عدل لرسول في صرف، أو حشو طرف، بتحفة ظرف، شأنه أشد استغراقاً، ومثواه أ كثر طراقاً، من ذكرى حبيبٍ ومنزل، وأم معدل، وكيف يستخدم القلم الذي يصرف ماء الحبر، بذوب التبر، في ترهاتٍ عدم جناها، وأقطع جانب الخيبة لفظها ومعناها، اللهم إلا أن تحصل النفس على كفاية تحتم لها الصدر، ويشام من خلالها اللجين الرفيع القدر، أو يحيى للفكاهة والأنس، أو ينفق لديها ذمامٌ على الجنس، فربما تقع المخاطبة المبرورة، وتبيح هذا المرتكب الصعب الضرورة، والمرغوب من سيدنا القاضي أن يذكرنا يوماً بالإغفال في نعيمه، ولا يخيب آمالنا المتعلقة بأذيال زعيمه، ويسهمنا حظاً من فرائد خطه، لا من فرايد خطته، ويجعل لنا كفلا من فضل برينه وحنطته لا من فضل هرته وقطته، فقد غنينا عن الحلاوات بحلاوات لفظه، وعن الطرف المجموعة، بغنون حفظه، وعن قصب السكر، بقصب أقلامه، وعن جنى الروم بروامه، وبهديه، عن جديه، وبمجاجته، عن دجاجته، وبدلجه عن أترجه، وعن البر ببره، وعن الحب بحبه ولا نأمل إلا طلوع بطاقته، وقد رضينا بوسع طاقته، وإلا فلا بد أن يجيش جيش الكلام إلى عتبه، ونوالي عليه ضرايب الكتايب، حتى يتقى بضريبة كتبه. والسلام.أو إمتاع طرف، باكتشاف حرف، أو إعمال عدل لرسول في صرف، أو حشو طرف، بتحفة ظرف، شأنه أشد استغراقاً، ومثواه أ كثر طراقاً، من ذكرى حبيبٍ ومنزل، وأم معدل، وكيف يستخدم القلم الذي يصرف ماء الحبر، بذوب التبر، في ترهاتٍ عدم جناها، وأقطع جانب الخيبة لفظها ومعناها، اللهم إلا أن تحصل النفس على كفاية تحتم لها الصدر، ويشام من خلالها اللجين الرفيع القدر، أو يحيى للفكاهة والأنس، أو ينفق لديها ذمامٌ على الجنس، فربما تقع المخاطبة المبرورة، وتبيح هذا المرتكب الصعب الضرورة، والمرغوب من سيدنا القاضي أن يذكرنا يوماً بالإغفال في نعيمه، ولا يخيب آمالنا المتعلقة بأذيال زعيمه، ويسهمنا حظاً من فرائد خطه، لا من فرايد خطته، ويجعل لنا كفلا من فضل برينه وحنطته لا من فضل هرته وقطته، فقد غنينا عن الحلاوات بحلاوات لفظه، وعن الطرف المجموعة، بغنون حفظه، وعن قصب السكر، بقصب أقلامه، وعن جنى الروم بروامه، وبهديه، عن جديه، وبمجاجته، عن دجاجته، وبدلجه عن أترجه، وعن البر ببره، وعن الحب بحبه ولا نأمل إلا طلوع بطاقته، وقد رضينا بوسع طاقته، وإلا فلا بد أن يجيش جيش الكلام إلى عتبه، ونوالي عليه ضرايب الكتايب، حتى يتقى بضريبة كتبه. والسلام.
فراجعني بما نصه:
فنيت عن الإنصاف مني لأنني ... كما قلت لكم من فراقكم قاض
فمن سمعنا أو من بعينك إنني ... بكل الذي ترضاه يا سيدي راض
عمرك الله أيها الإمام الفذ، ومن بمدحه تطرب الأسماع وتلذ، أوحد الدنيا وحائز الرتبة العليا، ولولا أنك فوق ما يقال، والزلة إن لم تظهر العجز عن وصفك لا تقال، لأطلت في القول، وهدرت هدير قرع الشول، لكن تحصيل، الحاصل محال، ولكل من تهيب كمالك مقال، ومقامٌ وحال، ولولا أن الدعاء مأمول، وهو يظهر الغيب مقبول، والزيادة من فضل الله لا تنتهي، والنعم قد توافيك، فوق ما تشتهي، لاريت أن أمراٌ كفى، وأمرٌ ظهر فيه ما خفي
إن قلت لازلت مرفوعاً فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا

إيه يا سيدي ما هذه الكلمات السحرية والأنفاس النفيسة الشجرية، والألفاظ التي أنالت المرغوب وخالطت بشاشتها القلوب، والنزعات الرائقة، والأساليب الفائقة، والفصاحة التي سلبت العقول، والبلاغة التي أوجبت الذهول، والبيان الذي لا يضيق صحيفه، ولا يبلغ أحد مده ونصيفه، يميناً بما احتوى من المحاسن، واللطائف التي لم يكن ماؤها بالآسن، وقسماً ببراعتك التي هي الواسي المطاع، وطرسك الذي أبهجت به الأبصار والأسماع، لقد عادلي بكتابتك عيد الشوق، وجاد لي بخطابك جد التوق، ولعهدي بنفسي رهن أشجاني، غير محلولة عقدة لساني، أشد من الصخرة جلدا، وأغلظ من الإبل كبداً، حتى إذا بدت حقيدة القلب وهب نسيمه الرطب، وأفيح مورده العذب، وأضاء بنوره الشرق والغرب، ولم يبق لي بثٌ ولا شجن، ولا شاقني أهل ولا وطن، ومضى سيف اللسان بعد النبو، ونهض طرف الفكر بعد البكر، وهزني الطرب المثير للأفراح، ومشى الجذل في أطرافي وأعطافي مشي الراح، بيد أني خجلت ولا خجلة ربة الخدر، وتضاءلت نفسي لجلالة ذلك القدر، وقلت ما لي بشربةٍ من كأس بيانه، وقطرة من بحور إحسانه، حتى أؤدي، ولو بعض حقك، وأكتب عقد ملك رقي لرقك، إنني على ما وليت من الصدقة والصداقة وبعد طلاقك، لكني أقوم في حقك مستغفراً، ولا أرضى أن أكون لذمة المخدوم خفراً، على أنني أقول، قد كتبت فلم يرد جوابي، وجرمت فهاج الجوى بي، ولعمري قد لزمت فيه خطة الأدب، ولم أر التثقيل على المولى الرفيع الرتب، فأما وقد نفقت عندك بضاعتي المزجاة، وشملني من لدنك الحلم والأناة، وشرفتني بالخطاب الكريم، والرسالة التي عرفت في وجهها نضرة النعيم، فما أبغي إلا إيرادها عليك وكلها خراج، ولبردها في الإجادة إنهاج، ولعلك ترضى التخريج من مدونة الأخبار، والمبسوطة والواضحة، لكن من الأعذار. وأما الولاية التي يقنع بسببها من الود بالعشر، أو بحبة من المد إلى يوم النشر، فلا بد أن يكون القانع محتاجاً للوالي، ومفتقراً إلى التفقد المتوالي، وأما إذا كان القانع هو الذي تولى الخطة، وأكسب الهر الذي أشار إليه والقطة، فهو قياسٌ عكسه كان أقيس، بل تعليمٌ لمن وجد في نفسه خيفةً وأوجس، وهأنا قد فهمت وعلمت، من حسن تأديبك ما علمت، وعلى ما فرطت في جنبك ندمت، وإلى المعذرة والحمد لله ألهمت، ومع ذلك أعيد حديث الشيخ القاضي، وذكر عهدك به في الزمان الماضي، فلقد أجاد، في الخضاب بالسواد، واعتمد على قول المالكي الذي هدى إلى الرشاد، وأوجبه بعضهم في بلاد الجهاد، وبين عمر منافع الخضاب الصادقة الإشهاد، وخضب بالسواد جماعة من الصحابة الأمجاد، وكان ذلك ترخيصاً لم يعد شرعاً، لكنه دفع شراً وجلب نفعاً، لا كأخيه الذي أبكى عين الحميم، وأنشد قول الرضي يوم السقيم، وفجع قلوب أترابه، ولم يأت بيت النصف من بابه، وإلا فقد علم أن في الخير مشروع، وتعجل الشيء قبل أوانه ممنوع، وستغبط أخاك ولو بعد حين، وما كل صاحب يحمد في إيضاح وتبيين، وإني لأرجو أن تتزوجها بكراً، تلاعبها وتلاعبك، أو ثيباً تقصر عن حبها مآربك، فلا جرم ترجع إلى الخضاب، وحينئذ تمتع برشف الرضاب، وإلا قالت سيدي، لا تعظم المني، ولا تجعل القطر قبل أن يموت عمر، لعمر الله إن هذا الموقف صعب، قد ملأ الروح منه روعٌ ورعب، وإن أضاف إلى ذلك غلبة الأوهام، وظن الشيخوخة الصادرة عن نيل المرام، سكن المتحرك المصلوب، وتنغص عند ذلك المحبوب، والله يعينك أيها المولى، ويواليك من بسطه أضعاف ما ولي. وأما الأوصاف التي حسبتها أوصافي، وأوجبت حكمها بالقياس على خلافي، فهي لعمري أوصاف لا تراد، ومراعٍ لا شك أنها تراد، غير أني بعيد العهد بهذه البلاد، لا أمت لها إلا بالانتساب والميلاد لا كالقضاة الذين ذكرت، لهم عهداً، ونظمت حلاهم في جيد الدهر عقداً، ولو أنك بسرك بصرتني بشروط القضاء وسجايا أهل الصرامة والمضاء، لحققت المناط، وأظهرت الزهد والاغتباط، لكني جهلت والآن ألهمت، وما علم الإنسان إلا ليعلم، والله يهدينا إلى الذي يكون أحسن وأقوم، وإني لأعلم سيدي بخبري، وأطلع جلاله على عجري وبجري، ولكني رحلت عن تلك الحضرة، وعدمت النظرة في تلك النظرة، لبست الإهمال، واطعلت في السفر والاعتمال، فأقيم بادي الكآبة، مهتاج الصبابة، قد فارقت السكن، وخلفت الدار مثيرة الشجن:

وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار

حتى إذا حططت رحلي بالقرى، وقنعت بالزاد الذي كفى معياراً والقرى، أدخلت إلى دار ضيقة المسالك، شديدة الظلمة كالليل الحالك، تذكرني القبر وأهواله وتنسيني الذي أهواه، بل تزيد على القبر برفل لا يتخلص، وبراغيث كزريعة الكتان حين تمحص، وبعوضٍ يطيل اللهز، ولا تغني حتى تشرب، وبوق يسقط سقوط الندى، ويزحف إلى فراشي زحف العدا، وأراقم خارجة من الكوى، وحيات بلدغها نزاعة للشوى، وجنون يسمع عزيفها، وسراق لا يعدم تخويفها، هذا ولا قرق لمن بالقهر حبس، إلا حصيرٌ قد اسود من طول ما لبس، لا يجتزي في طهارته بالنضح، ولا يحشد من جلس عليه إلا بالجرح، حتى إذا سجا الليل، وامتد منه على الآفاق الذيل، فارقني العون فراق الكرى، ورأيت الدمع لما جرى قد جرى، فأتوسد والله ذراعي، ولأحمد والله اضطجاعي، فكلا ليلي محمومين، والوجع والسهر محمولان على الرأس والعين،حتى إذا طلع الصبح، وآن لبالي وعيون الخصوم الفتح، أتاني عونٌ قد انحنى ظهره ظهره، ونيف عن المائة عمره لا يشعر بالجون الصيب، ولا تسمعه كلمات أبي الطيب، بربري الأصل، غير عارف بالفصل، حتى إذا أذنت للخصوم، وأردت إحياء الرسوم، دخل على غولان عاقلان، وأثقل كتفي منهما ما يلان، قد أكلا الثوم النيء والبصل، وعرقا في الزنانير عرقاً اتصل، يهديان إلى تلك الروائح، ويظهران لي المخازي والفضائح، فإذا حكمت لأحدهما على خصمه، وأردت الفصل الذي لا مطمع في فصمه، هرب العون هربا، وقضى من النجاة بنفسه أربا، واجتمع إلى النصحاء، وجاء المرضى والأصحاء، كل يقول أتريد تعجيل المنايا، وإثكال الولايا، وإتعاب صديقك السيد العماد، بمرتبةٍ كما فعل مع القاضي الحداد، فأقول هذا جهاد، وما لي في الحياة مراد، فأرتكب الخطر، وأقضى في الحكم الوطر. والله يسلم، ويكمل اللطف ويتمم. وأما إذا جاء أحدكم لكتب عقد، وطمعت في نسيئةٍ أو نقد، قطعت يومي في تفهم مقصده، مستعيذاً بالله من غضبه وحرده، حتى إذا ما تخلصت منه، وملأت السجل بما أثبته عنه، كشف عن أنياب عضل، وعبس عبوس المحب لانقطاع وصل، وقال لقد أخطأت فيما كتبت، ورسمت ما أردت وأحببت، فأكتب عقداً ثانياً وثالثاً، وأرتقب مع كل كلام حادثٍ حادثاً، فإذا رضي، فأسأله كيف، وسن السالي الذي أظهره، أو اسمه أو السيف، أخرج من فمه درهماً نتناً، قد لزم ضرساً عفناً، فأعاجله في البخور، وأحكه في الصخور، حتى إذا حمل لمن يبيع خبز الذرة منتناً، ويرى أنه قد فضل بذلك أنساً وحسناً، وجده ناقصاً زايفاً، فيرجع حامله وجلاً خايفاً، ويبقى القاضي فقيد الهجوع، يشد الحجر على بطنه من الجوع، على أنني أحمد خلاء البطن، وما بجسمي لا يحكى من الوهن، لتعذر المرحاض، وبعد ماء الحياض، وكمون السباع في الغياض، وتعلق الأفاعي بالرداء الفضفاض، ونجاسة الحجارة، وكثرة تردد السيارة، والانكشاف للريح العقيم، والمطر المنصب إلى الموضع الذميم. هذه الحال وعلى شرحها مجال، وقد صدقتك سنن فكري، وأعلمتك بذات صدري، فتجلى الغرارة غرور، وشهود الشهد زور، والطمع في الصرة إصرار ودون التبر يعلم الله تيار. وأما الكبش فحظى منه غباره إذا خطر، والثور بقرنه إذا العيد حضر، كما أن حظى من الجدي التأذي بمسلكه، وإن جدى السماء لأقرب لي من تملكه، وأنا من الحلاوة سالم ابن حلاوة، ولا أعهده من طرف الطرف الدماوة، ودون الدجاج كل مدجج، وعوض الأترج رجة بكل معرج، ولو عرفت أنك تقبل على علاتها الهدايا، وتوجب المزيد لأصحابك المزايا، لبعثت بالقماش، وأنفذت الرياش، وأظهرت الغنى، والوقوف بمبنى المنى، وأوردتها عليك من غير هلع، مطلعة في الجوف بعد بلع، من كل ساحلية تقرب إلى البحر، وعدوية لا تعد، وصدر مجلس الصدر، حتى أجمع بين الفاكهة والفكاهة، ويبدو لي بعد الشقف وجوه الوجاهة، وأتبرأ من الصد المذموم، ولا أكون أهدأ من القطا لطرق اللوم، لأنك زهدت في الدنيا زهد ابن أدهم، وألهمك الله من ذلك أكرم ما ألهم، فيدك من أموال الناس مقبوضة، وأحاديث اللها الفاتحة للها مرفوضة، وإذا كان المرء على دين خليله، ومن شأنه سلوك نهجه وسبيله، فالأليق أن أزهد في الصفراء والبيضاء، وأقابل زخرف الدنيا بالبغضاء، وأحقق وأرجو على يدك حسن التخلي، والاطلاع على أسرار التجلي، حتى أسعد بك في آخرتي ودنياي، وأجد بركة خاطرك في مماتي ومحياي، أبقاك الله بقاء يسر، وأمتع

بمناقبك التي يحسدها الياقوت والدر، ولا زلت في سيادة تروق نعتاً، وسعادةٍ لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً، وأقرأ عليك سلاماً عاطر العرف، كريم التأكيد والعطف ما رثى لحالي راث، وذكرت أداية حراث، ورحمة الله وبركاته. وكتبه أخوك ومملوكك، وشيعة مجدك، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى عام أربعة وستين وسبعمائة.بك التي يحسدها الياقوت والدر، ولا زلت في سيادة تروق نعتاً، وسعادةٍ لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً، وأقرأ عليك سلاماً عاطر العرف، كريم التأكيد والعطف ما رثى لحالي راث، وذكرت أداية حراث، ورحمة الله وبركاته. وكتبه أخوك ومملوكك، وشيعة مجدك، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى عام أربعة وستين وسبعمائة.
مولدهبغرناطة عام ثلاثة عشر وسبعمائة
محنتهتوجه رسولا عن السلطان إلى صاحب تلمسان السلطان أحمد بن موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمر اسن بن زيان: وظفر بالجفن الذي ركبه العدو، بأحواز جزيرة حبيبة، من جهة وهران، فأسر هو ومن بأسطول سفره من المسلمين، وبلغ الخبر فعظم الفجع، وبين نحن نروم سفر أسطول يأخذ الثار، ويستقري الآثار، فيقيل العثار، إذا اتصل الخبر بمهادنة السلطان المذكور، ففدى من أسر بذلك المال الذي ينيف على سبعة آلاف من العين في ذلك، فتخلص من المحنة لأيام قلائل، وعاد، فتولى السلطان إرضاءه عما فقد، وضاعف له الاستغناء وجدد، وكان حديثه من أحاديث الفرج بعد الشدة محسوباً، وإلى سعادة السلطان منسوباً، وأنشدته شعراً في مصابه، بعدها، وقد قضيبت له من بر السلطان على عادتي، ما جبر الكسر، وخفض الأمر:
خلصت كما خلص الزبرقان ... وقد محق النور عنه السرا
وفي السيق والرار ... في هذا سر وفي ذا أسرار
وكان تاريخ هذه المحنة المردفة المنحة، حسبما نقلته من خطه، قال اعلموا يا سيدي أبقاكم الله تعالى، أن سفرنا من ألمرية، كان في يوم الخميس السادس لشهر ربيع الآخر من عام ثمانية وستين وسبعمائة، وتغلب علينا العدو في عشية يوم الجمعة الثاني منه، بعد قتال شديد، وكان خروجنا من الأسر في يوم السبت الثاني والعشرين لربيع الثاني المذكور، وكان وصولي إلى الأندلس في أسطول مولانا نصره الله، في جمادى الآخرة من العام المذكور، بعد أن وصلوا قرطاجنة وأخذوا أجفاناً ثلاثة من أجفان العدو، وعمل المسلمون الأعمال الكريمة.
إبراهيم بن خلف القرشي العامريإبراهيم بن خلف بن محمد بن الحبيب بن عبد الله ابن عمر بن فرقد القرشي العامري قال ابن عبد الملك، كذا وقفت على نسبه بخطه في غير ما موضع من أهل مورة، وسكن إشبيلية.
حالهكانت متفنناً في معارفه، محدثاً، راوية، عدلاً فقيها، حافظاً، شاعراً، كاتباً، بارعاً، حسن الأخلاق، وطيء الأكناف، جميل المشاركة لإخوانه وأصحابه، كتب بخطه الكثير من كبار الدواوين وصغارها، وكان من أصح الناس كتباً، وأتقنهم ضبطاً وتقييداً، لا تكاد تلقى فيما تولى تصحيحه خللا، وكان رؤوفاً شديد الحنان على الضعفاء والمساكين واليتامى، صليباً في ذات الله تعالى، يعقد الشروط محتسباً، لا يقبل ثواباً عليها إلا من الله تعالى.
مشيختهتلا بالسبع على أبي عمران موسى بن حبيب، وحدث عن أبي الحسن بن سليمان ابن عبد الرحمن المقرى، وعبد الرحمن بن بقى، وأبي عمرو ميمون بن ياسين، وأبي محمد بن عتاب، وتفقه بأبوى عبد الله بن أحمد بن الحاج، وابن حميد وأبي الوليد بن رشد، وأجاز له أبو الأصبغ بن مناصف، وأبو بكر بن قزمان، وأبو الوليد بن طريف.
من روى عنه، روى عنه أبو جعفر، وأبو إسحاق بن علي المزدالي، وأبو أمية إسماعيل بن سعد السعود بن عفير، وأبو بكر بن حكم الشرمسي، وابن خير، وابن تسع، وابن عبد العزيز الصدفي، وأبو الحجاج ابراهيم بن يعقوب، وأبو علي ابن وزير، وأبو الحسن بن أحمد بن خالص، وأبو زيد محمد الأنصاري، وأبو عبد الله ابن عبد العزيز الذهبي، وأبو العباس بن سلمة، وأبو القاسم بن محمد بن إبراهيم المراعي، وأبو محمد بن أحمد بن جمهور، وعبد الله بن أحمد الأطلس.
تواليفهدون برنامجاً ممعتعاً ذكر فيه شيوخه، وكيفية أخذه عنهم، وله رجزٌ في الفرائض مشهور، ومنظومٌ كثير، وترسل منوع، وخطب مختلفة المقاصد، ومجموعٌ في العروض.

دخوله غرناطة
قال المؤرخ: وفي عام أربعة وخمسين وخمسمائة، عند تغيب الخليفة بالمهدية استدعى السيد أبو سعيد الوالي بغرناطة، عند استقراره بها، الحافظ أبا بكر بن الجد، والحافظ أبا بكر بن حبيش، والكاتب أبا القاسم بن المراعي، والكاتب أبا إسحاق بن فرقد، وهو هذا المترجم به، فأقاموا معه مدة تقرب عن عامين اثنين بها.
شعرهمما ينقل عنه قصيدة شهيرة في رثاء الأندلس:
ألا مسعدٌ منجزٌ ذو فطن ... يبكي بدمعٍ معين هتن
جزيرة أندلسٍ حسرةً ... لا غالب من حقود الزمن
ويندب أطلالها آسفاً ... ويرثى من الشعر ما قد وهن
ويبكي الأيام ويبكي اليتامى ... ويحكي الحمام ذوات الشجن
ويشكو إلى الله شكوى شجٍ ... ويدعوه في السر ثم العلن
وكانت رباطاً لأهل التقى ... فعادب مناطاً لأهل الوثن
وكانت معاذاً لأهل التقى ... فصارت ملاذاً لمن لمن يدن
وكانت شجى في حلوق العدا ... فأضحى لهم مالها محتجن
وهي طويلة، ولدى خلاف فيمن أفرط في استحسانها. وشعره عندي وسط. ومن شعره وهو حجة في عمره عند الخلاف في ميلاده ووفاته. قال:
ثمانون عاماً مع ست عمرت وليتني ... أرقت دموعي بالبكاء على ذنب
فلا الدمع في محو الخطيئة غنيةٌ ... إذا هاج من قلبٍ منيب إلى الرب
فيا سامع الأصوات رحماك أرتجي ... فهب لي انسكاب الدمع من رقة القلب
وزك الذي تدريه من شيمةٍ ... تعلق بالمظلوم من شدة الكرب
وزك مثابي في العقود وكتبها ... لوجهك لم أقبل ثواباً على كتب
ولا تحرمني أجر ما كنت فاعلاً ... فحق اليتامى عندي من لذي صعب
ولا تحزني يوم الحساب وهوله ... إذا جئت مذعوراً من الهول والرعب
مولدهحسبما نقل من خط ابنه أبي جعفر، ولد يعني أباه سنة أربع وثمانين وأربعمائة.
وفاتهبعد صلاة المغرب من ليلة الثلاثاء الثامن عشر من محرم عام اثنين وسبعين وخمسمائة. ونقل غير ذلك.
إبراهيم بن محمود النفريإبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبيدس بن محمود النفري أبدي الأصل غرناطي الإستقرار، ويكنى أبا إسحاق.
حالهخاتمة الرجال بالأندلس، وشيخ المجاهدات وأرباب المعاملات، صادق الأحوال، شريف المقامات، مأثور الإخلاص مشهور الكرامات، أصبر الناس على مجاهداته، وأدومهم على عمل وذكرٍ وصلاة وصوم، ولا يفتر عن ذلك ولا ينام، آيه الله في الإيثار، لا يدخر شيئاً لغد، ولا يتحرف بشيء، وكان فقيهاً حافظاً، ذاكراً للغة والأدب، نحوياً ماهراً، درس ذلك كله أول أمره، كريم الأخلاق، غلب عليه التصوف فشهر به، وبمعرفة طريقه الذي ند فيها أهل زمانه، وصنف فيها التصانيف المفيدة.
ترتيب زمانهكان يجلس إثر صلاة الصبح لمن يقصده من الصالحين، فيتكلم لهم بما يجريه الله على لسانه، وييسر من تفسير، وحديث وعظة، إلى طلوع الشمس، فيتنفل صلاة الضحى، وينفصل إلى منزله، ويأخذ في أوراده، من قراءة القرآن والذكر والصلاة إلى صلاة الظهر، فيبكر في رواحه، ويوالي التنفل إلى إقامة الصلاة، ثم كذلك في كل صلاة، ويصل ما بين العشاءين بالتنفل، هذا دأبه أبدا.
وكان أمره في التوكل عجباً، لا يلوي على سبب، وكانت تجبى إليه ثمرات كل شيء، فيدفع ذلك بجملته، وربما كان الطعام بين يديه، وهو محتاجٌ، فيعرض من يسأله، فيدفعه جملة، ويبقى طاوياً، فكان الضعفاء والمساكين له لياذاً ينسلون من كل حدب، فلا يرد أحداً منهم خائباً، ونفع الله بخدمته وصحبته، واستخرج بين يديه عالماً كثيراً.
مشيختهأخذ القراءة عن أبي عبد الله الحضرمي، وأبي الكوم جودي بن عبد الرحمن، والحديث عن أبي الحسن بن عمر الوادي آشي، وأبي محمد عبد الله بن سليمان ابن حوط الله، والنحو واللغة عن ابن يربوع وغيره. ورحل وحج، وجاور وتكرر.

ولقي هناك غير واحد، من صدور العلماء وأكابر الصوفيه، فأخذ صحيح البخاري سماعاً منه سنة خمس وستمائة عن الشريف أبي محمد بن يونس، وأبي الحسن علي بن عبد الله بن المغرباني، ونصر بن أبي الفرج الحضرمي، وسنن أبي داود وجامع الترمذي علي أبي الحسن بن أبي المكارم نصر بن أبي المكارم البغدادي، أحد السامعين علي أبي الفتح الكروخي، وأبي عبد الله محمد بن مسترى الحمة، وأبي المعالي بن وهب بن البنا، وببجاية عن أبي الحسن علي بن عمر ابن عطية.
من روى عنه، روي عنه خلق لا يحصون كثرة، منهم أحمد بن عبد المجيد ابن هذيل الغساني، وأبو جعفر بن الزبير، وغيره.
تواليفهصنف في طريقه التصوف وغيرها تصانيف مفيدة، منها مواهب العقول وحقائق المعقول، والغيرة المذهلة، عن الحيرة والتفرقة والجمع، والرحلة العنوية، ومنها الرسائل في الفقه والمسائل، وغير ذلك.
شعرهله أشعار في التصوف بارعة، فمن ذلك ما نقلته من خط الكاتب أبي إسحاق ابن زكريا في مجموع جمع فيه الكثير من القول:
يضيق علي من وجدي الفضاء ... ويقلقني من الناس العناء
وأرض الله واسعة ولكن ... أبت نفسي تحيط بها السماء
رأينا العرش والكرسي أعلا ... فواليناهما حرم الولاء
فأين الأين منا أو زمانٌ ... بحيث لنا على الكل استواء
شهدنا للإله بكل حكم ... فغاب القلب وانكشف الغطاء
ويدعوني الإله إليه حقاً ... فيؤنسني من الخوف الرجاء
ويقبضني ويبسطني ويقضي ... بتفريقي وجمعي ما يشاء
ويعي في وجود الخلق نحواً ... ينعت من تولاه الفناء
فكم أخفي وجودي وقت فقدي ... كأن الفقد والإحيا سواء
فسكرٌ ثم صحوٌ ثم سكر ... كذاك الدهر ليس له انقضاء
فوصفي حال من وصفي ولكن ... ظهور الحق ليس له خفاء
إذا شمس النهار بدت تولت ... نجوم الليل ليس لها انجلاء
ومن شعره:
كم عارف سرحت في العلم همته ... فعقله لحجاب العقل هتاك
كساه نور الهدى برداً وقلده ... دراً ففي قلبه للعلم أسلاك
كسب ابن آدم في التحقيق كسوته ... إن القلوب لأنوار وأحلاك
كلف فؤادك ما يبدي عجائبه ... إن ابن آدم للأسرار دراك
كيف وكم ومتى والأين منسلب ... عن وصف باريها والجهل تباك
كبر وقدس ونزه ما أطقت فلم ... يصل إلى ملك الأملاك أملاك
كرسيه ذل والعرش استكان له ... ونزه الله أملاك وأفلاك
كل يقر بأن العجز قيده ... والعجز عن درك الإدراك دراك
وقال، وهو ما اشتهر عنه، وأنشدها بعض المشارقة في رحلته في غرض اقتضى ذلك، يقتضي ذكره طولا:
يا من أنامله كالمزن هاميةٌ ... وجود كفيه أجرى من يجاريها
بحق من خلق الإنسان من علقٍ ... أنظر إلى رقعتي وافهم معانيها
أني فقيرٌ ومسكين بلا سبب ... سوى حروف من القرآن أتلوها
سفينة الفقر في بحر الرجا غرقت ... فامنن عليها بريحٍ منك يجريها
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
وقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، وقد ذكره، على الجملة فبه ختم جلة أهل هذا الشأن بصقع الأندلس، نفعه الله ونفع به.
مولدهولد بجيان سنة اثنتين وخمسمائة أو ثلاث وستين.
إبراهيم بن أبي بكر التسوليإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي من أهل تازي يكنى أبا سالم ويعرف بابن أبي يحيى.
حاله

من أهل الكتاب المؤتمن، كان هذا الرجل قيماً على التهذيب، ورسالة ابن أبي زيد، حسن الإقراء لهما، وله عليهما تقييدان نبيلان، قيدهما أيام قراءته إياهما على أبي الحسن الصغير، حضرت مجالسه بمدرسة عدوة الأندلس من فاس، ولم أر في متصدري بلده أحسن تدريباً منه. كان فصيح اللسان، سهل الألفاظ، موفياً حقوقها، وذلك لمشاركته الحضر فيما في أيديهم من الأدوات، وكان مجلسه وقفاً على التهذيب والرسالة، وكان مع ذلك شيخاً فاضلاً، حسن اللقاء، على خالق بائنة من أخلاق أهل مصرة. امتحن بصبحة السلطان، فصار يستعمله في الرسايل، فمر في ذلك حظٌ كبير من عمره ضايعاً، لا في راحة دنيا، ولا في نصيب آخرة، ثم قال هذه سنة الله فيمن خدم الملوك، ملتفتاً إلى ما يعطونه، لا إلى ما يأخذون من عمره وراحته، أن يبوؤا بالصفقة الخاسرة، لطف الله بمن ابتلى بذلك، وخلصنا خلاصاً جميلاً.
ومن كتاب عائد الصلة: الشيخ، الحافظ، الفقيه، القاضي، من صدور المغرب، مشاركاً في العلم، متبحراً في الفقه، كان وجيهاً عند الملوك صحبهم، وحضر مجالسهم، واستعمل في السفارة، فلقيناه بغرناطة، وأخذنا بها عنه، تام السراوة، حسن العهد، مليح المجالس، أنيق المحاضرة، كريم الطبع، صحيح المذهب.
تصانيفهقيد على المدونة، بمجلس شيخه القاضي أبي الحسن، كتاباً مفيداً، وضم أجوبته على المسائل في سفر، وشرح كتاب الرسالة شرحاً عظيم الفائدة.
مشيختهلازم أبا الحسن الصغير، وهو كان قارىء كتب الفقه عليه، وجل انتفاعه في التفقه به، وروى عن أبي زكريا بن أبي ياسين، قرأت عليه كتاب الموطأ إلا كتاب المكاتب وكتاب المدبر، فإنه سمعه بقراءة الغير، وعن أبي عبد الله بن رشد، قرأ عليه الموطأ، وشفاء، عياض، وعن أبي الحسن ابن عبد الجليل السداري، قرأ عليه الأحكام الصغرى لعبد الحق، وأبي الحسن ابن سليمان، قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد، وعن غيرهم.
وفاتهفلج بآخرة، فالتزم منزله بفاس، يزوره السلطان فمن دونه، وتوفي بعد عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
إبراهيم بن أبي العاصي التنوخيإبراهيم بن محمد بن علي بن محمد بن أبي العاصي التنوخي أصله من جزيرة طريف ونشأ بغرناطة واشتهر.
حالهمن عائد الصلة: كان نسيج وحده حياءً، وصدقة وتخلقاً، ومشاركة، وإيثاراً. رحل عند استيلاء العدو على جزيرة طريف، عام أحد وسبعين وستمائة، متحولاً إلى مدينة سبتة، فقرأ بها واستفاد. وورد الأندلس فاستوطن مدينة غرناطة، وكتب في الجملة عن سلطانها، وترقى معارج الرتب، حالاً محالا، من غير اختلاف على فضله، ولا نزاع في استحقاقه، وأقرأ فنوناً من العلم، بعد مهلك أستاذ الجماعة، أبي جعفر بن الزبير، بإشارة منه به، وولي الخطابة والإمامة بجامعها منتصف صفر عام ستة عشر وسبعمائة، وجمع بين القراءة والتدريس، فكان مقرئاً للقرآن، مبرزاً في تجويده، مدرساً للعربية والفقه، آخذاً في الأدب، متكلماً في التفسير، ظريف الخط، ثبتاً محققاً لما ينقله، وألقى الله عليه من المحبة والقبول، وتعظيم الخلق له، ما لا عهد بمثله لأحد، بلغ من ذلك مبلغاً عظيماً، حتى كان أحب إلى الجمهور من أوصل أهلهم وآبائهم، يتزاحمون عليه في طريقه، يتمسحون به، ويسعون بين يديه، ومن خلفه، ويتزاحم مساكينهم على بابه، قد عودهم طلاقة وجهه، ومواساته لهم بقوته، يفرقه عليهم متى وجدوه، وربما أعجلوه قبل استواء خبزه، فيفرقه عليهم عجيناً. له في ذلك أخبار غريبة. وكان صادعاً بالحق، غيوراً على الدين، مخالفاً لأهل البدع، ملازماً للسنة، كثير الخشوع والتخلق على علو الهمة، مبذول المشاركة للناس والجد في حاجاتهم، مبتلى بوسواس في وضوئه، يتحمل الناس من أجله مضضاً في تأخير الصلوت ومضايقة أوقاتها.
مشيخته

قرأ ببلده على الخطيب القاضي المقرى أبي الحسن عبيد الله بن عبد العزيز القرشي المعروف بابن القارىء، من أهل إشبيلية، وقرأ بسبتة على الأستاذ إمام المقرئين لكتاب الله، أبي القاسم محمد بن عبد الرحمن بن الطيب بن زرقون القيسي الضرير، نزيل سبتة، والأستاذ أبي إسحاق الغافقي المريوني، وقرأ على الشيخ الوزير أبي الحكم بن منظور القيسي الإشبيلي، وعلى الشيخ الراوية، الحاج أبي عبد الله محمد بن الكتامي التلمساني بن الخضار، وقرأ بغرناطة على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير، وأخذ عن أبي الحسن بن مستقور.
شعرهكان يقرض شعراً وسطاً، قريباً من الانحطاط. قال شيخنا أبو بكر ابن الحكيم في كتابه المسمى بالفوائد المنتخبة، والموارد المستعذبة، كتب إليه شيخنا وبركتنا أبو جعفر بن الزيات في شأن شخص من أهل البيت النبوي بما نصه:
رجل يدعي القرابة للبي ... ت وإن الثريا منه بمعزل
سأل مني خطابكم وهو هذا ... ولكم في القلوب أرفع منزل
فهبوه دعاءكم وامنحوني ... منه حظا ينمي الثواب ويجزل
وعليكم تحية الله ما دا ... م أمير الهدى يولي ويعزل
فأجابه:
يا إمامي ومن به قطركم ذا ... ك وحادي البلاد أطيب منزل
لم أضع ما نظمتم من يدي حتى ... أنيل الشريف تحفة منزل
وحباه بكل منح جزيل ... من غدا يمنح الثواب ويجزل
دمتم تنشرون علماً ثواب الل ... ه فيه لكم أعز وأجزل
تذكرون الله ذكراً كثيراً ... وعليكم سكينة الله تنزل
وطلبتم مني الدعاء وإني ... عند نفسي من الشروط بمعزل
لكن ادعو ولتدع لي يرضا الل ... ه وأبدى فهم ذكر قد انزل
وحديث الرسول صلى عليه ... كل وقت ورب لنا الغيث ينزل
وعليكم تحيتي كل حين ... ما اطمأنت بمكة أم بمعزل
قال، ومما أنشدني من نظمه أيضاً في معرض الوصية للطلبة:
إعمل بعلمك تؤت علماً إنما ... عدوي علوم المرء منح الأقوم
وإذا الفتى قد نال علماً ثم لم ... يعمل به فكأنما لم يعلم
وقال موطئاً على البيت الأخير:
أمولاي أنت العفور الكريم ... لبذل النوال مع المعذرة
على ذنوبٌ وتصحيفها ... ومن عندك الجود والمغفرة
إسماعيل بن فرج الأنصاريإسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد ابن خميس بن نصر بن قيس الأنصاري الخزرجي أمير المؤمنين بالأندلس رحمه الله.
أوليتهتقرر عند ذكر الملوك من قومه في اسم صنو جده، أمير المسلمين أبي عبد الله الغالب بالله.
حالهمن كتاب طرفة العصر في تاريخ دولة بني نصر، من تصنيفنا: كان رحمه الله، حسن الخلق، جميل الرواء، رجل جد، سليم الصدر، كثير الحياء، صحيح العقل، ثبتاً في المواقف، عفيف الإزار، ناشيئاً في حجر الطهارة، بعيدا ًعن الصبوة، برياً من المعاقرة، نشأ مشتغلا بشأنه متبنكاً نعمة الله، مختصاً بإيثار السلطان جده أبي أمه، وابن عم والده، منقطعاً إلى الصيد، معروف اللذة إلى استجادة سلاحه، وانتقاء مراكبه، واستفراه جوارحه، إلى أن أفضي إليه الأمر، وساعدته الأيام. وخدمه الجد، وتنقل إلى بيته الملك به، وثوى في عقبه الذكر، فبذلك العدل في رعيته، واقتصد في جبايته، واجتهد في مدافعة عدو الله، وسد ثلم ثغوره، فكان غرة في قومه، ودرة في بيته، وحسنةً من حسنات دهره. وسيرد نبذٌ من أحواله، مما يدل على فضل جلاله.
صفته

كان معتدل القد، وسيم الصورة، عبل اليدين، أبيض اللون، كثير اللحية، بين السواد والصهوبة أنجل أعين أفوه مليح العين، أقنى الأنف، جهير الصوت، أمه الحرة الجليلة، العريقة في الملوك، فاطمة بنت أمير المؤمنين، أبي عبد الله نخبة الملك، وواسطة العقد، وفخر الحرم، البعيدة الشأو في العز والحرمة، وصلة الرعي، وذكر التراث. واتصلت حياتها، ملتمسة الرأي، برنامجا للفوائد، تاريخاً للأنساب، إلى أن توفيت في عهد حفيدها السلطان أبي الحجاج، رحمها الله، وقد أنفت على تسعين من السنين، فكان الحفل في جنازتها، موازياً لمنصبها، ومتروكها، المفضي إليه خطيره، وقلت في رثائها:
نبيت على علم بغائله الدهر ... ونعلم أن الخلق في قبضة الدهر
ونركن للدنيا اغتراراً بقهرها ... وحسبك من يرجو الوفاء من الغدر
ونمطل بالعزم الزمان سفاهةً ... فيومٌ إلى يوم وشهرٌ إلى شهر
وتغري بها نفسي المطامع والهوى ... ونرفض ما يبقى فيا ضيعةً العمر
هو الدهر لا يبقى على حدثانه ... جديدٌ ولا ينفك من حادث نكر
وبين الخطوب الطارقات تفاضل ... كفضل من اغتالته في رفعة القدر
ألم تر أن المجد أقوت ربوعه ... وصوح من أدواحه كل مخضر
ولاحت على وجه العلاء كآبة ... فقطب من بعد الطلاقة والبشر
وثبت اسمها في الوفيات من الكتاب المذكور بما نصه: السلطانة الحرة الطاهرة، فاطمة بنت أمير المسلمين، أبي عبد الله ابن أمير المسلمين الغالب بالله، بقية نساء الملوك، الحافظة لنظام الإمارة، رعيا للمتات، وصلة للحرمة، وإسداء للمعروف، وستراً للبيوتات، واقتداء بسلفها الصالح، في نزاهة النفس، وعلو الهمة، ومتانة الدين، وكشف الحجاب، ونفاذ العزم، واستشعار الصبر، توفيت في كفالة حفيدها، أمير المسلمين أبي الحجاج، مواصلا برها، ملتمساً دعاءها، مستفيداً تجربتها وتاريخها، مباشراً مواراتها بمقبرة الجنان، داخل الحمراء، سحر يوم الأحد السابع لذي حجة من عام تسعة وأربعين وسبعمائة.
أولادهتخلف من الولد أربعة، أكبرهم محمد، ولي الأمر من بعده، وفرج شقيقه التالي له بالسن، المنصرف عن الأندلس بعد مهلك أخيه المذكور، المتقلب في الإيالات، الهالك أخيراً في سجن قصبة ألمرية عام أحد وخمسين وسبعمائة، مظنونا به الاغتيال، ثم أخوه أمير المسلمين، أبو الحجاج، تغمده الله برحمته، أقعد القوم في الملك، وأبعدهم أمداً في السعادة، ثم إسماعيل أصغرهم سناً، المبتلي في زمان الشبيبة في الثقاف، المخيف مدة أخيه، المستقر الآن موادعاً مرفودا، بقصر المستخلص من ظاهر شالوبانية، وبنتين ثنتين من حظيته علوة، عقد عليهما أخوهما أبو الحجاج، لرجلين من قرابته.
وزراؤهوزر له أول أمره القائد البهمة، أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الفهري، وبيت هؤلاء القواد شهير، ومكانتهم من الملوك النصريين مكينة، أشرك معه في الوزارة الفقيه الوزير أبا الحسن علي بن مسعود بن علي بن مسعود المحاربي، من أعيان الحضرة، وذوي النباهة، فجاذب رفيقه حبل الخطة، ونازعه لباس الحظوة، حتى ذهب باسمها ومسماها، وهلك القائد أبو عبد الله بن أبي الفتح، فخلص له شربها، وسيأتي التعريف بكل على انفراد.
كتابهكتب عنه لأول أمره بمالقة، ثم بطريقه إلى غرناطة، وأياماً يسيرة بها، الفقيه الكاتب أبو جعفر بن صفوان المتقدم ذكره، ثم ألقى المعتادة إلى كاتب الدولة قبل، شيخنا أبي الحسن بن الجياب، فاصل الخطة، وباري القوس، واقتصر عليه إلى آخر أيامه.
قضاتهاستقضى أخا وزيره، الشيخ الفقيه أبا بكر بن يحيى بن مسعود بن علي، رجل الجزالة، وفيصل الحكم، فاشتد في إقامة الحكم، وغلظ بالشرع، واستعان بالجاه، فخيف سطوته، واستمر قاضياً إلى آخر أيامه
رئيس جنده الغربيالشيخ البهمة، لباب قومه، وكبير بيته، أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء إدريس ابن عبد الله بن عبد الحق، مشاركا له في النعمة، ضارباً بسهم في المنحة، كثير التجني والدالة، إلى أن هلك المخلوع، وخلا الجو، فكان منه بعض الإقصار.
الملوك على عهده

وأولاد بعدوة المغرب، كان على عهده من ملوك المغرب السلطان الشهير، جواد الملوك، الرحب الجناب، الكثير الأمل، خدن العافية، ومحالف الترفية، مفحم النعيم، السعيد على خاصته وعامته، أبو سعيد عثمان بن السلطان الكبير، المجاهد المرابط، أبي يوسف بن عبد الحق. وجرت بينه وبينه المراسلات، واتصلت أيامه بالمغرب بعد مهلكه، وصدراً من أيام ولده أبي عبد الله حسبما مر عند ذكره.
وبمدينة تلمسان، وطن القبلة، الأمير أبو حمو موسى بن عثمان بن يغمر اسن بن زيان، ثم توفي قتيلا على عهده بأمر ولده المذكور، واستغرقت أيام ولده المذكور الوالي بعده، إلى أن هلك في صدر أيام أبي الحجاج، وجرت بينه وبين الأمير مراسلات وهدايات.
وبمدينة تونس، الشيخ المتلقب بأمير المؤمنين أبو يحيى زكريا بن أبي حفص المدعو باللحياني، المتوثب بها على الأمير أبي البقاء خالد بن أبي زكريا بن أبي حفص، وهو كبير، إلا أن أبا حفص أكبر سناً وقدراً، وقد تملك تونس تاسع جمادى الآخرة من عام ظهر له اضطرب من بها، أحد عشر وسبعمائة، وتم له الأمر، واعتقل أبا البقاء بعد خلعه، ثم اغتاله في شوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، ثم رحل عن تونس لما ظهر له من اضطراب أمره بها، وتوجه إلى طرابلس في وسط عام خمسة عشر، واستناب صهره الشيخ أبا عبد الله بن أبي عمر، ولم يعد بعد إليها، ثم اضطراب أمر إفريقية، وتنوبه عدة من الملوك الحفصيين، منهم الأمير أبو عبد الله بن أبي عمر المذكور، وأبو عبد الله بن اللحياني، والسلطان أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي إسحاق، لبنة تمامهم، وآخر رجالهم، واستمرت أيامه إلى أيام ولده الأمير بالأندلس ومعظم أيامه ولديه، رحم الله الجميع.
ومن ملوك الروم بقشتاله، كان على عهده مقروناً بالعهد القريب من ولايته، الطاغية هراندة بن شانجه بن ألهنشة بن هراندة المجتمع له ملك قشتالة وليون، وهو المتغلب على إشبيلية، وقرطبة، ومرسية، وجيان، ابن ألهنشة، الذي جرت له وعليه هزيمة الأرك والعقاب، ابن شانجه بن ألهنشة المسمى إنبرذور، وهو الذي أفرد صهره وزوج بنته بملك برتقال، إلى أجداد، يخرجنا تقصي ذكرهم عن الغرض.
ومن ملوك رغون من شرق الأندلس، الطاغية جايمش بن بطره بن جايمش الذي تغلب على بلنسية، ابن بطره بن ألهنشة، إلى أجداد عدة كذلك. ثم هلك في أخريات أيامه، فولي ملك أرغون بعده ألهنشة بن جايمش إلى أخريات أيامه.
وببرتقال ألهنشة بن يومس بن ألهنشة بن شانجه ابن ألهنشة بن شانجه بن ألهونشة، ويسمو أولا دوقاً.
ذكر تصير الأمر إليه

لما ولي الأمر بالأندلس، حرسها الله، السلطان أبو الجيوش نصر بن السلطان أبي عبد الله محمد بن السلطان الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر، يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة، بالهجوم على أخيه أبي عبد الله الزمن المقعد، الآمن في ركن بيته، واغتيال ابن الحكيم وزيره ببابه، والإشادة بخلعه حسبما يأتي في موضعه، استقر الأمر على ضعف أخيه، وسارع دخلته، فساءت السيرة لمنافسة الخاصة، وكان الرئيس الكبير عميد القرابة، وعلم الدولة أبو سعيد فرج، ابن عم السلطان المخلوع، وأخيه الوالي بعده، راسخاً قدمه وعرفه، بمثوبة الوارث، ولنظره عن أبيه المسوغ عن جده مالقة وما إليها، ولنظره مدينة سبتة، المضافة إلى إيالة المخلوع عن عهد قريب، قد أفرد بها ولده المترجم به، وجميعهم تحت طاعته، وفي زمان انقياد سوغ مديد الدولة، بل مد سروها لما شاء عز وجل من احتوائهم في حبل هذا الدايل، يتعقبون على الرئيس الكبير أموراً تثر مخيمة الصدور، وتستدعي فرض الطاعة، وتحتوي على مظنات مخلة، واحترسوا صافيات منافعه، وأوعزوا إلى ولاة الأعمال بالتضييق على رجاله، وصرفوا سننه عن نظره. ولما بادر إلى الحضرة لإعطاء صفقة البيعة وتهنئة السلطان نصر، عن روحه، وابن عمه، على عادته، داخله بعض أرباب الأمر، محذراً، ومشيراً بالامتناع ببلده، والدعء لنفسه، ووعده بما وسعه، فاستعجل الانصراف إلى بلده، ولم تمر إلا برهة، واشتعلت نار الفتنة، وهاجت مراجل الحفيظة، فتلاحق به ولده، وأظهر الانفراد والاستعداد في سابع عشر رمضان من هذا العام. وأقام ولده إسماعيل، برسم الملك والسلطان، ورتب له ألقاب الملك، ودون ديوان الملك بحسبه، ونازل حضرة أنتقيرة، وناصبها القتال، فتملكها، ودخلت مربلة في طاعته، وتحرك إلى بلش فنازلها، ونصب عليها المجانيق فدانت، فضخمت الدعوة، ومكنت الجباية، والتف إليه من مساعير الحروب ومن أجاب.

وتحرك إلى غرناطة في أول شهر محرم، عام اثني عشر وسبعمائة، ونزل بقرية العطشا من مرجها. وبرز السلطان نصر في جيش خشن، مستجاد العدة، وافر الرجل، فكان اللقاء ثالث عشر الشهر، فأظهر الله أقل الفئتين، وانجرت على الجيش الغرناطي الهزيمة، وكبا بالسلطان نصر فرسه في مجرى سقى لبعض الفدن، فنجا بعد لأي ودخل البلد مفلولا، وانصرف الجيش المالقي ظاهراً إلى بلده، وطال بالرئيس وولده الأمر وضرستها الفتنة، وعظم احتياجه إلى المال، وكادت تفضحه المطاولة، وزاحمه الملك بمكلف ضخم، فاقتضى ذلك إذعانه إلى الصلح، وإصغاره المهادنة، على سبيله من المقام ببلده، مسلماً للسلطان في جبايته، جاريةً وطايفةً في رياسته، وأرزاق جنده، فتم ذلك في ربيع الأول من العام المذكور. ثم لقحت فتنة في العام المذكور هاتفين بخلعان السلطان وطاعة مخلوعهم، وطالبين منه إسلام وزيره خدن الروم، المتهم على الإسلام أبي عبد الله بن الحاج. ثم لحق زعماؤهم بمالقة عند اختلال ما أبرموه، فكانت الحركة الثانية لغرناطة بعد أمور اختصرتها، من استبداد السلطان أبي الوليد بأمره، والانحطاط في القبض على أبيه، إلى هوى جنده، والتصميم في طلب حقه، فاتصل سيره، واحتل بلوشة سرار شوال فتملكها، ورحل قافلا إلى وطنه، طريد كلب الشتاء، وافر الخزانة، واقتضى الرأي الفائل ممن له النظر الجاش من زعيم شيوخ جندها، اتهاماً له بالطاغية، فسجنه. ثم بدا له في أمره. ثم سرحه بعد استدعاء يمينه، فوغرت صدور حاشيته، وبتعهم من كان على مثل رأيهم، وهو شوكة حادة، فصرفوا الوجوه إلى السلطان المقبل الحظ، المحبوب إليه هوى الملك، بما راعه، ثانياً من عنانه بأحواز أرجدونة، إلا تثويب داعيهم، فكر إلى المدينة وبزر إليه جيشها، ملتفا على عبد الحق بن عثمان، فأبلى، وصدق الحملة، فكادت تكون الدائرة، فلولا ثبوت السلطان لما استقبلت بأسفلهم الحملة، فولوا منهزمين، وتبعهم إلى سور المدينة، وقد خفت اللفيف والغوغا، الناعقون بالخلعان، الشرهون إلى تبديل الدعوات، وإلى تسم المآذن والمنارات والربا، وبرز أهل ربض البيازين، الهافون إلى مثل هذه البوارق، إلى شرف ربوتهم، كل يشير مستدعيا، إعلاناً بسوء الجوار، وملل الإيالات، والانحطاط، وبعد التلون والتقلب، وسآمة العافية، شنشنة معروفة في الخلق مألوفة. وبودر غلق باب إلبيرة، ففض قفله، ودخلت المدينة، وجاء السلطان إلى معقل الحمراء بأهله وذخيرته وخاصته، وبزر السلطان أبو الوليد بالقصبة القدمى تجاهها، بالدار الكبرى المنسوبة لابن المول، ينفذ الصكوك، ويذيع العفو، ويؤلف الشارد، وضعفت بصاير المحصورين، وفشلوا على وجود الطعمة، ووفور المال، وتمكن المنعة، فالتمسوا لهم ولسلطانهم عهداً نزلوا به، منتقلين إلى مدينة وادي آش، في سبيل العوض بمال معروف، وذخيرة موصوفة، وتم ذلك، وخرج السلطان رحمه الله مخلوعاً، ساء به القرار، جانياً على ملكه الأخابيث والأغمار، ليلة الثامن والعشرين من شوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، واستقر بها موادعاً مرة ومحارباً أخرى، إلى أن هلك حسبما يأتي ذكره. وخلا للسلطان الجو، وصرفت إليه المقادة وأطاعة القاضي والداني، ولم يختلف عليه اثنان، والبقاء الخلص لله وحده.
مناقبهاشتد رحمه الله على أهل البدع، وقصر الخوض على ما تضطر إليه الملة، ولقد تذوكر بين يديه أهل البيت، فبذل في فدية بعضهم ما يعز بذله، ونقل منهم بعضاً من حرف خبيثة، فزعموا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فشكر له ذلك. واشتد في إقامة الحدود، وإراقة المسكرات، وحظر تجلى القينات للرجال في الولائم، وقصر طربهن على أجناسهن من الناس، وأخذ يهود الذمة بالتزام سمةٍ تشهرهم، وشارة تميزهم، وليوفي حقهم من المعاملة التي أمر بها الشارع في الخطاب والطرق، وهي شواشي صفر.

ولقد حدث من يخف حديثه، من الشيوخ أولى المجانة والدعابة، قال: كنا عاكفين على راح، وبرأسي شاشية ملف حمراء، فحاول أصحابي إنامتي، حتى أمكن ذلك، وبادروا إلى رقاع من ثوب أصفر، فصنعوا منها شاشية، ووضعوها في رأسي، مكان شاشيتي، وأيقظوني، فقمت لشأني، وقد هيئوا ثمناً لشراء بقل وفاكهة، وجهزوني لشرائه، فخرجت حتى أتيت دكان السوق، فساومته، فلما نظر إلي قال لصاحبه: جزى الله هذا السلطان خيراً، والله لقد كنت أبادر هذا اللعين بالسلام عند لقائه أظنه مسلماً، وبصق علي، فهممت أن أوقع به، ثم فطنت للحيلة، فانتزعتها وبادرت فأوسعتهم ذماً، وعظم خجلي، وسبقني إليهم عين لهم علي، فكاد الضحك يهلكهم عند دخولي. ومناقبه كثيرة.
جهاده وبعض الأحداث في مدتهوالتأثت الأمور، لأول مدته، فجرت على جيشه بمظاهرة جيش المخلوع لجيش الروم، الهزيمة الشنيعة، بوادي فرتونه، أوقع بهم الطاغية بطره، كافل ملك الروم، المملك صغيرا على عهد أبيه، وعمه الذاب عنه، ففشا في الأعلام القتل، وذلك في صفر من عام ستة عشر وسبعمائة، وظهر العدو بعدها فغلب على حصن شتمانس وحصن بجيج، وحصن طشكر، وتغر روط. ثم صرفت المطامع عزمه إلى الحضرة، فقصد مرجها، وكف الله عاديته، وقمعه، ونصر الإسلام عليه، ودالت للدين عليه الهزيمة العظمى بالمرج من ظاهر غرناطة على بريد منها، واستولى على محلته النهب، وعلى فرسانه ورجاله القتل، وعظم الفتح، وبهر الصنع وطار الذكر، وثاب السعد. وكانت الوقيعة سادس جمادى الأولى من عام تسعة عشر وسبعمائة، وفي ذلك يقول كاتبه شيخنا أبو الحسن بن الجياب:
الحمد حق الحمد للرحمن ... كافي العدو وناصر الإيمان
ومكيف الصنع الكريم ودافع ال ... خطب العظيم وواهب الإحسان
في كل أمر للمهيمن حكمة ... أعيت على الأفكار والأذهان
واستقر ملكهم القتيل بأيدي المسلمين بعد فرارهم، فجعل في تابوت خشب، ونصب بالسور المنازل من الحمراء يسار الداخل بباب يعقوب من أبوابها، إذاعةً للشهرة، وتثبتاً لتخليد الفخر.
ومن الغريب أنني في هذه الأيام بعد خمسين سنة تماماً. تفقدت ذلك المكان في بعض ما أباشره، أيام نيابتي عن السلطان بدار ملكه على عادتي، فألفيته قد علا عليه كوم من الحجارة، رجم الصبيان إياه، فظهر لي تجديد الإشادة به، والاستفتاح بوقوع مثله، ولما كشف عن الرمة لتنقل إلى وعاء ثان، ألفى بعظم القطن العريض منها، سنانٌ مرهب ثبت في العظم، انتزع منه، وقد غالبتتي الرقة والإجهاش، وقلت اللهم ادخر رضوانك لمن أودع في هذه الرمة الطاغية، سنان جهادك إلى اليوم، وأثبه وارفع درجته، إنك أهل لذلك.
رجعٌ واستقامت الأيام، وهلك المخلوع، فصفا الجو، واتحدت الكلمة، وأمكن الجهاد. فتحرك في شهر رجب من عام أربعة وعشرين وسبعمائة، وأعمل القصد إلى بلاد العدو، ونازل حصن إشكر، الشجى المعترض في حلق بسطة، فأخذ بمخنقة، ونشر الحرب عليه، ورمى بالآله العظمى المتخذة بالنفط كرة حديد محماة طاق البرج المنيع من معقله، فاندفعت يتطاير شررها، واستقرت بين محصوريه، فعاثت عياث الصواعق السماوية، فألقى الله الرعب في قلوبهم، وأتوا بأيديهم، ونزلوا قسراً على حكمه في الرابع والعشرين من الشهر، وأقام بظاهره، فصيره دار جهاد، وعمل في خندقه بيده، وانصرف، فكانت غزاة جمة البركة عظمت بها على الشرق الجدوى، وأنشد الشعراء في هذه الوجهة قصائد أشادت بفضلها، وشهرت من ذكرها، فمن ذلك عن كاتب سره قوله:
أما مداك فغاية لم تلحق ... أعيت على غر الجياد السبق
ورفع إليه شيخنا الحكيم أبو زكريا بن هذيل، قصيدة أولها:
بحيث القباب الحمر والأسد الورد ... كتائب سكان السماء لها جند
أنشدني منها في وصف النفط قوله
وظنوا بأن الصعق والرعد في السما ... فحاق بهم من دونها الصقع والرعد
غرائب أشكال سما هرمسٌ بها ... مهندةٌ تأتي الجبال فتنهد
ألا إنها الدنيا تريك عجائباً ... وما في القوى منها فلا بد أن يبدو

وفي العاشر لشهر رجب من عام خمسة وعشرين وسبعمائة، تحرك للغزو بعد أخذ الأهبة والاستكثار والاجتهاد للمطوعة، وقصد مدينة مرتش العظيمة الساحة، الطيبة البقعة، فأضرب بها المحلات وكان القصد إجمام الناس، فصوب الحشود ووجهها إلى ما بها من بحر الكروم والملتفات، وأدواح الأشجار، فأمعنوا في إفسادها، وبزر حاميتها فناشبت الناس القتال، فحميت النفوس، وأريد منع الناس، فأعيا أمرهم وسال منهم البحر، فتعلقوا بالأسوار وقيل السلطا بادر بالركوب، فقد دخل الربض، فركب ووقف بإزائها، فدخل البلد عنوة، واعتصم أهله بالقصبة، فدخلت أيضاً القصبة عنوة، وانطلقت أيدي الغوغاء على من بها من ذكر وأنثى كبيراً أو صغيراً، فساءت القتلة، وقبحت الأحدوثة. ورفعت من الغد آكام من الجثث، صعدت ذراها المؤذنون، وقفل إلى غرناطة بنصر لا كفاً له، فكان دخوله من هذه الغزاة في الرابع والعشرين لرجب المذكور.
وفاتهولما فصل من مرتش نقم على أحد الرؤساء من قرابته، وهر ابن عمه محمد ابن إسماعيل المعروف بصاحب الجزيرة، أمراً تقرعه عليه، وبالغ في الإهمال له، وتوعده بما أثار حفيظته، فأقدم عليه بالفتكة الشنعاء التي ارتكبها منه بباب قصره، بين عبيده وأرباب دولته، آمن ما كان سرباً، وأعز سلطاناً وجنداً، وذلك اليوم الإثنين ثالث يوم من دخوله من مرتش، بعد أن عاهد في الأمر جملة من القرابة والخدام، فوثب به، وهو مجتاز بين السماطين من ناسه إلى مجلس كان يجلس فيه للناس، فاعتنقه وانتضى خنجراً كان ملصقاً في ذراعه، فأصابه بجراحات ثلاث، إحداهن في عنقه، بأعلى ترقوته، فخر صريعاً. وصاح بكرٌ وزيره، فعمته سيوف الحاضرين من أصحاب الفاتك، ووقعت الرجة، وسلت السيوف، وتشاغل كل بمن يليه، واستخلص السلطان من يديه، وحيل بينه وبينه، وحين تشاغل القوم بالوزير، رفع السلطان وظن أنه قد أفلت جريحاً، فرقع البهت، وبادروا الفرار، فسدت المذاهب، فقتلوا حيث وجدوا، وأخذت الظنة قوماً من أبريائهم، فامتحنوا، ونهب الغوغاء دورهم، وعلقت بالجدرات أشلاؤهم، وكان يوماً عصيباً، وموقفاً صعباً، واحتمل السلطان إلى بعض دور قصره، وبه صبابة روح، أشبه شيء بالعدم، للزوق العمامة بفوهة شريانه المبتور، ففاض لحينه بنفس زوال العمامة، رحمه الله.
وكان من أخذ البيعة لولده الأمير أبي عبد الله من بعده، ما هو معروف في موضعه. ودفن غلس ليلة الثلاثاء، ثاني يوم وفاته، بروضة الجنة من قصره، إلى جانب جده، وتنوهي الاحتفال بقبره نقشاً، وتخريماً، وإحكاماً، وحلياً، وتمويهاً، يشق على الوصف، وكتب بإزاء رأسه في لوح الرخام ما نصه، من كلام شيخنا، بعد سطر الافتتاح: هذا قبر السلطان الشهيد فتاح الأمصار، وناصر ملة المصطفى المختار ومحيى سبيل آبائه الأنصار، الإمام العادل، الهمام الباسل، صاحب الحرب والمحراب الطاهر الأنساب والأثواب، أسعد الملوك دولة، وأمضاهم في ذات الله صولة، سيف الجهاد، ونور البلاد، ذي الحسام المسلول في نصرة الإيمان، والفؤاد المعمور بخشية الرحمن، المجاهد في سبيل الله، المنصور بفضل الله، أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن الهمام الأعلى، الطاهر الذات والفخار، الكريم المآثر والآثار، كبير الإمامة النصرية، وعماد الدولة الغالبية، المقدس، المرحوم أبي سعيد فرج، ابن علم الأعلام وحامي حمى الإسلام، صنوا الإمام الغالب، وظهيره المقدس العلي المراتب، المقدس، المرحوم أبي الوليد إسماعي بن نصر، قدس الله روحه الطيب، وأفاض عليها غيث رحمته الصيب، ونفعه بالجهاد والشهادة، وحياه بالحسنى والزيادة، جاهد في سبيل الله حق الجهاد، وصنع الله له في فتح البلاد، وقتل كبار الأعاد، ما يجده مذخوراً يوم التناد، إلى أن قضى الله بحضور أجله، فحتم عمره بخير عمله، وقبضه إلى ما أعد له من كرامته وثوابه، وغبار الجهاد طي أثوابه، فاستشهد رحمه الله شهادةً أثبتت له في الشهداء من الملوك قدماً، ورفعت له في أعلام السعادة علماً.
ولد رضي الله عنه في الساعة المباركة بين يدي الصبح من يوم الجمعة سابع عشر شوال عام سبعة وسبعين وستمائة، وبويع يوم الخميس السابع والعشرين لشوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، واستشهد في يوم الإثنين السادس والعشرين لشهر رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، فسبحان الملك الحق، الباقي بعد فناء الخلق.

وبعده من جهة اللوح الأخير:
تخص قبرك يا خير السلاطين ... تحيةٌ كالصبا مرت بدارين
قبر به من بني نصر إمام هدى ... عالي المراتب في الدنيا وفي الدين
أبو الوليد وما أدراك من ملكٍ ... مستنصرٍ واثقٍ بالله مأمون
سلطان عدلٍ وبأسٍ غالبٍ وندىً ... وفضل تقوى وأخلاقٍ ميامين
لله ما قد طواه الموت من شرف ... وسر مجدٍ بهذا اللحد مدفون
ومن لسان بذكر الله منطلق ... ومن فؤادٍ بحب الله مسكون
أما الجهاد فقد أحيا معالمه ... وقام منه بمفروض ومسنون
فكم فتوحٍ له تزهو المنابر من ... عجبٍ بهن وأوراق الدواوين
مجاهدٌ نال من فضل الشهادة ما ... يجبى عليه بأجر غير ممنون
قصى كعثمان في الشهر الحرام ضحىً ... وفاة مستشهد في الدار مطعون
في عارضيه غبار الغزو تمسحه ... في جنة الخلد أيدي حورها العين
يسقي بها عين تسلمي وقاتله ... مردد بين زقوم وغلسين
تبكي البلاد عليه والعباد معاً ... فالخلق ما بين أحزان أفانين
لكنه حكم رب لا مردً له ... فأمره الجزم بين الكاف والنون
فرحمة الله رب العالمين على ... سلطان عدلٍ بهذا القبر مدفون
بعض ما رثى به وعظمت فيه فجيعة المسلمين لما ثكلوا من جهاده وعزمه، وبلوه من سعده وعز نصره، فكثرت فيه المراثي، وتراهنت في شجوه القرائح، وبكاه الغادي والرائح. فمن المراثي التي أنشدت على قبره، قول كاتبه شخنا أبي الحسن بن الجياب.
أيا عبرة العين امزجي الدمع بالدم ... ويا زفرة الحزن احكمي وتحكمي
ويا قلب ذب وجدا وغماً ولوعةً ... فإن الأسى فرضٌ على كل مسلم
ويا سلوة الأيام لا كنت فابعدي ... إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
وصح بأناة الصبر سحقاً تأخري ... وقل لشكاة الحزن أهلا تقدمي
ولم لا وشمس الملك والمجد والهدى ... وفتاح أبواب الندى والتكرم
ثوى بين أطباق الثرى رهن غربة ... وحيداً وأصمته الليالي بأسهم
على ملك الإسلام فاسمح بزفرةٍ ... تساقط دراً بين فذ وتوأم
على علم الأعلام والقمر الذي ... تجلى بوجه العصر غرة أدهم
على أوحد الأملاك غير منازع ... أصالة أعراق وفضل تقدم
ومن مثل إسماعيل نورٌ لمهتدٍ ... وبشرى لمكروبٍ وعفوٌ لمجرم
وما مثل إسماعيل للبأس والندى ... لأصراخ مذعور وإغناء معدم
وما مثل إسماعيل للحرب يجتني ... به الفتح من غرس القنا المتحطم
وما مثل إسماعيل سهم سعادةٍ ... أصاب به الإسلام شاكلة الدم
شهيدٌ سعيدٌ صبحته شهادة ... تبوأ منها في الخلود التنعم
أتت وغبار الغزو طي ثيابه ... ظهير أمانٍ من دخان جهنم
فتباً لدارٍ لا يدوم نعيمها ... فما عرسها إلا طليعة مأتم
ولا أنسها إلا رهينٌ بوحشة ... ولا شهدها إلا مشوبٌ بعلقم
فيا من يرى الدنيا مجاجة نحلة ... ألا فاعتبرها فهي نبتة أرقم
فمن شام منها اليوم برق تبسم ... ففي الغد تلقاه بوجه جهنم
فضاحكها باكٍ وجذلانها شجٍ ... وطالعها هاوٍ ومبصرها عم
وسراؤها تفنى وضراؤها معاً ... فكلتاهما طيف الخيال المسلم
سطت بملوك الأرض من بعد آدم ... تبدد منهم كل شملٍ منظم
فكم من قصير قصرت شأو عمره ... فخر صريعاً لليدين وللفم
وكم كسرت كسرى وفضت جيوشه ... فلم تحمه منها كتائب رستم

ولو أنها ترعى إمام هدايةٍ لأعفت ... علياً من حسام ابن ملجم
وما قتلت عثمان في جوف داره ... فقدس من مستسلم ومسلم
وما أمكنت فيروز من عمر الرضى ... فهدت من الإسلام أرفع معلم
إلى آخرها. وتضمن إجمال ما ذكر من ذلك، التاريخ المسمى بقطع السلوك المنظوم رجزاً من تأليفي بما نصه:
وعندما خيف انتثار السلك ... ووزر الروم وزير الملك
تدارك الأمر الإمام الطاهر ... فعالج الدار طبيب ماهر
وهو أبو الوليد إسماعيل ... والشمس لا يفقدها دليل
ابن الرئيس الماجد الهمام ... فرد العلا وعلم الأعلام
وجده صنو الإمام الغالب ... مناقب كالشهب الثواقب
فقاد من مالقة الجنودا ... ونشر الأعلام والبنودا
وعاد نصر بمدى حمرائه ... أتى وأمر الله من ورائه
فخلع الأمر وألقى باليد ... من بعد عهد موثق مؤكد
وسار في الليل إلى وادي الأشى ... والملك لله يعز من يشا
ولم يزل فيها إلى أن ماتا ... وطلق الدنيا بها بتاتا
واتسق الأمر وقر الملك ... وربما جر الحياة الهلك
ومن الرجز المذكور في وصف جهاده ومقتله:
وكان يوم المرج في دولته ... ففرق الأعداء من صولته
وفتح المعاقل المنيعة ... وابتهجت بعدله الشريعة
وانتبه الدهر له من نومه ... على يدي طائفة من قومه
بكى عليه الحرب والمحراب ... وندبته الضمر العراب
إسماعيل بن فرج بن نصرإسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر السلطان الذي احتال على أخيه، المتوثب على ملكه، يكنى أبا الوليد.
حالهكان صبياً كما اجتمع وجهه، بادناً، دمت الخلق، لين الجانب، شديد البياض كثيف الحاشية، متصلا بالجفوة، لطول الحجبة، وبعد التمرن والحنكة غراً، فاقداً لحسن الأدب، عريقةً ألفاظه في العجمة. تصير الأمر إلى أخيه السلطان خيرتهم ولباب بيتهم، يوم قتل أبوهما، وله مزية السن والرجاحة، والسكنى بمحل وفاة الأب، فأبقى عليه، وأسكنه بعض القصور لصقه، ولم يضايق أمه فيما استأثرت به من بيت المال، إذ كان إقليده في يدها، وبيضاؤه وصفراؤه في حكمها، ورفه متبوأه، واستدعى له ولأخيه المعلم الذي كان السبب في إفاته إرماقهما، وإعدام حياتهما، الشيخ السفلة محمد البطروجي البائس، قرد ذلك السرب فاستمرت أيام احتجابه وانتظاره على قصره، إلى رمضان من عام ستين وسبعمائة. وحرك سماسرة الفتنة له ولأمه جواز الطمع في الملك، ودندنوا لها حتى رقصت على إيقاعهم، وخفت إلى مواعدهم، وشمروا إلى خلاص الأمر، وأحام الوثبة صهره الرئيس أبو عبد الله، حلف الشؤم زوج أخته، محمد بن إسماعيل، الشهير الكائنة، المذكور في موضعه من حرف الميم. فسيرت إليه أمه المال، فبثه في الدعرة والشرار، حتى تم غرضه، واقتحم القلعة من بعض أسوارها عند البالية، وقد هدم منها شيء في سبيل إصلاحه، ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من عام ستين وسبعمائة، والسلطان ليلتئذ غير حال بها، فملؤوها لجباً ولغطاً، وصراخاً وهولا وتنويراً، في جملة تناهز المائة، وانضاف إليهم أخوان رأيهم من حراسها وسكانها، فألبس الناس، وسقط في أيديهم. وأهدى الليل فتكته هائلة، وأداها شنيعة، فاقتصر كل على النظر لنفسه، وانقسموا فرقتين، قصدت إحداهما دار كبير الدولة، وقيوم التفويض، وشيخ رجال الملك رضوان، المستبد بإحالة كورتها، الشيخ الذهول، معزوز القدر ورائب النكتة، ومعود الإقامة، وجرار رسن الأطواد، وطول الإملا، الماشي على خد الدنيا، المغضوض البصر عن النظر، المستهين بكل سبة، وحية تسعى، المعول على نظره، وقوة سعده وإجابة دعوته، مع كونه نسيج وحده في عفافه وديانته، ورضى الناس به، وسقوط منافستهم من أجله، ومأويهم على مول لفظه، وبساط معاملته، وصحة عقده، فعالجوا بابه طويلاً وتولجوا داره، وقتلوه بين أهله وولده.

وقصدت الأخرى دار الأمير المترجم به ومعها صهره، فأخرجوه وأركبوه على فرس، راعدٍ الفرائض، منتقع اللون، مختلط القول، تحف به داياته بين مولولةٍ، وتافلةٍ ومعوذة، قد جعلوا به سيفاً مصلتاً على سبيل اللواعب بالنصول والرواقص، في مدارج اللهو، واستخرجت طبول الملك فقرعت، وقيدت الخيل من مرابطها فركبت، وقصدت الخزائن السلاحية ففرقت، وتم الأمر. وحل من الريب على دار الإمارة القصد، وخرجت الكتب إلى البلاد والقواعد، فالتفت باليد أمهاتها لقطع من بها من أولى الأمانة، بتمام الأمر، وهلاك السلطان، فتم له الأمر. وبادر أخوه السلطان لحينه لظهر سابق كان مرتبطاً عند مجرٍ له من الجنة لصق القلعة، فاستأجر الليل، ووافق الحزم، فاستقر بوادي آش. وكان أملك بها، ونازلته المحلات، وأخذ بمخنقه الحصص، واستنصرت لمنازلته الناس، وأعملت الحيل، وتأذن الله بثبوت قدمه، وانتقاله إلى ملك المغرب صبح عيد النحر من العام المذكور، إلى أن أعاد الله إليه أمره ورد عليه حقه، وتولى بعد اليأس جبره، حسبما يذكر في موضعه إن شاء الله.
وخلا الجو لهذا الأمير المضعوف، واستولى على أريكة الملك الأغمار وأولو البطالة، وأولياء صهره الرئيس، خاطبها له ابتداءً ثم ناقلها إلى فسه انتهاءً، وحاملها إلى غايته درجاً، وإلى إعاقته سلماً، وهو ما هو من غش الحبيب، وسوء العقد، ودخل السريرة، واستيطان المكروه، فأغرى منه بالعهد نفساً مطاوعةً للشهوة، متبرمة بالامتحان والخلوة، برية من نور العلم وتهذيب الحكمة، ناشئة بين أخابيث القسوة، جانيةً أماني الشهوة والمخالفة، مضادة للفلاح، حايدة عن سبيل النجاة، بمحل اغتراب عن النصحاء، وانتباذ عن مقاعد الأحرار، فجرى طلق الجموح في التخلف، حتى كبا لفيه ويديه، وأعان نسمة السوء الرئيس على نفسه، وقد كان اصطنع الرجال، واستركب أولى البسالة، وأسالف الدعرة، واختص في سبيل خدمته والذب عنه، بالبؤساء والمساعير، يشركهم في الأكلة. ويصافيهم النعمة. واظلم ما بينهما، فحذر كل جانب أخيه، إلا أن المهين كان أضعف من أن يستأثر بخطة المعالجة، ويهتدي إلى سبيل الحزم. وفي عشي يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر شعبان، شارفه من مكمن غدره الرحب بجوار قصره، وارتبط به الخيل واستكثر من الحاشية، وأخفى المساعير. وداخل المورورى المشئوم على الدولة، فبادر رجاله سد الأبواب، وانخرط في جملة أو باشه من باب السلطان، من الرجل لنظر ممالئه في العنا، وعونه على الهول الموروري، فأحاط به، وقد بادر الاعتصام بالمصنع ثاني الصرح المنسوب إلى هامان سموا ونفالاً في السكاك وسعة ذرع. وبعد ما رقى وصرخ بالناس، يناشدهم الذمام، فخف إليهم منهم الكثير، وتراكموا بالطريق تحته، وتولى استنزاله عن سويه مملوك أبيه، العلج المخذول عباد، وقد تحصل في قبضته الغادر، ففتل له في الغارب والذروة، ووعده الحياة، فنزل عن أمان فسحة الغدر الصراح، والوفاء المستباح، ولحين استهاله، أمر نقله إلى المطبق، فقيد مختبلاً كثير الضراعة إلى الأرى لصق قصره، وتعاورته السيوف وألحق به صغيره قيس، استخرج من بعض الخزاين، وقد جهدت أمه في إخفائه، فمضى لسبيله، وطرح رأسه على الرعاع المجيبين لندائه، فانفضوا لحينه، وبقي مطروحاً مواري، بحلس دابة من دواب الظهر، إلى يوم بعده، فووري هو وأخوه بمقربة من مدفن أبيهم، فكان من أمرهما عبرة. وقد استوفى ذلك الكتاب المسمى بنفاضة الجراب من تأليفنا.
وزراء دولته

قدم للوزارة عشية يوم ولايته، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري بطالع الشؤم، ونعبة النحس. عهدي بالطبيب الإسرائيلي الحبري العظيم المهارة في الفن النجومي، إبراهيم بن زرزار، يتطاير بتلك الولاية بكون النحس الأعظم في درجة طالعها، جذواً انفرد بنحز أديمه الجهالة، المعدودون في البهم والهمج، الذين لا يعبأ الله بهم، فكان الخبر وفوق الخبر، فلم ير في الأندلس وزارةٌ أثقل وطأة، ولا أخبث عهداً، ولا أعظم شرهاً، ولا أكثر حجراً منها، ثم كان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين من رجل حبركة، كمداللون، تنطف سحنته مرةً وسماً، غائر العين مطأطىء الرأس، طرفٌ في الحقد والطمع، وعي المنطق، وجمود الكف، معدنٌ من معادن الجهل، مثلٌ في الخيانة، تناول الأمر مزاحماً فيه بالرئيس المتوثب، وابن عم نفسه، الغادر الضخم الجرارة، بالوعث المهين، وثور النقل، وثعيان الفواكه، وصاعقة الاخونه، ووكيل الدولة المنحط عن خلالهم بالأبوة والنشأة، فجرت أمورها أسوأ مجاريها، إلى ان كان ما أذن الله به، من مداحلة الرئيس الغادر، على قتل أميره المسكين المهين، مقلده أنوه الرتب، وتاركه وخطة الخيانة، ثم أخذه الأخذة الرابية بيد من أمده في الغي، وظاهره في الخزي، فجعله نكالاً لما بين يديه وما خلفه، وموعظةً للمتقين، حسبما يأتي في اسمه بحول الله تعالى.
كاتبهواستعمل في الكتابة صاحبنا الرجل الأخرق، الطوال، الأهوج البري من الخلال الحميدة، إلا ما كان من وسط الخط وسوقي السجع، والدرك الأسفل من النظم، عبد الحق بن محمد بن عطية المحاربي، الآتي ذكره. وهو الذي أفرده الله جل جلاله، بالغاية البعيدة من مجال سوء العهد، وقلة الوفاء. وتولى القضاء، أبو جعفر أحمد بن أبي القاسم بن جزي أياماً، ثم شهر به قوم من الفقهاء منافسيه، ورشقوه بما أوجب صرفه، وقدم للقضاء الشيخ المسن، الطويل السباحة في بحر الأحكام، المفرى الودجين والحلقوم بسكين القضاء، المنبور بالموبقات فيه، تجاوز الله عنه، سلمون بن علي بن سلمون. وشيخ الغزاة على عهده، يحيى بن عمر بن عبد الله ابن عبد الحق، شيخ الغزاة لأخيه، أصبح يوم الكائنة في قياده، ونصح له فأمر له، وضاعف بره.
الملوك على عهده
مولدهفي يوم الإثنين الثامن والعشرين لربيع الأول من عام أربعين وسبعمائة.
وفاتهحسبما تقرر آنفاً في يوم الأربعاء السابع والعشرين لشعبان من عام أحد وستين وسبعمائة.
أبو يحيى المسوفي الصحراويأبو بكر إبراهيم، الأمير أبو يحيى المسوفي الصحراوي من أمراء المرابطين صهر علي بن يوسف بن تاشفين، زوج أخته، وأبو ولده منها يحيى، المشهور بالكرم.
أوليتهمعروفة تستقرأ عند ذكر ملوكهم
حالهكان مثلاً في الكرم، وآيةً في الجود، أنسي أجواد الإسلام والجاهلية إلى الغاية، في الحياء والشجاعة والتبريز في ميدان الفضائل. استوزر الوزير الحكيم الشهير أبا بكر بن الصائغ، واختصه فتجملت دولته ونبه قدره. وأخباره معه شهيرة.
ولايتهولي غرناطة سنة خمسمائة. ثم انتقل منها إلى سرقسطة. عند خروج المستعين ابن هود إلى روطة. فأقام بها مراسم الملك، وانهمك في اللذات، وعكف على المعاقرة، وكان يجعل التاج بين ندمائه، ويتزيا بزي الملوك، إلى أن هلك بها تحت مضايقة طاغية الروم المستولى عليها بعد.
خروجه من الصحراءقال المؤرخ: كان أبو بكر هذا رئيساً على بعض قبيله في الصحراء، وكان ابن عمه منفرداً بالتدبير، فاتفق يوماً أن دخل على ابن عمه في خبائه، وزوج ابن عمه تمتشط في موضع قريب من الخباء، فاشتغلت نفس أبو بكر بالمرأة لحسنها وجمالها، فحين دخل قال لابن عمه، فلانة تريد الوصول إليك، وإنما قصد الاستئذان لرجل من أصحابه، فنطق باسم المرأة لشغل باله بها: فقال له ابن عمه بعد طول صمت وفكرة، وقد أنكر ذلك، عهدي بهذا الشخص لا يستأذن علينا.

فرجع عقله، وثاب لبه، وعلم قدر ما من القبيح وقع فيه، فخرج من ذلك المجلس، وركب جمله، وهان عليه مفارقة وطنه من أجل العار، واستصحب نفراً قليلاً من أصحابه على حال استعجال، ورحل ليلا ونهاراً، حتى وصل سجلماسة أولى عمالات علي بن يوسف ابن عمه، واتصل به قدومه، فأوجب حقه، وعرف قدره، وعقد له على أخته، وولاه على سرقسطة دار ملك بني هود بشرق الأندلس، بعد ولاية غرناطة.
نبذة من أخباره في الكرمقالوا، لما حل بظاهر سجلماسة، مجهول الوفادة، خافي الأمر، نزل بظل نخلة بظاهرها، لا يعرف أحداً ولا يقصده، فجاء في ذلك الموضع رجل حدادٌ فقراه بعنز كان عنده، وتعرف له وأبو بكر يستغرب أمره، فلما فرغوا من أكلهم، قال للحداد ألا تصحبنا لموضع أملنا، وتكون أحد إخواننا، حتى تحمد لقاءنا، فأجابه، وصحبه الحداد، وخدمه، فلما قربوا من مراكش، استأذن أبو بكر، علي بن يوسف بن تاشفين، وأعلمه بنفسه، فأخرج له علي بن يوسف فرساً من عتاق خيله، وكسوة من ثيابه وألف دينار، فأمر أبو بكر بدفعها للحداد، فبهت الحداد، وانصرف الرسول موجهاً إلى مرسله فأخبره بما عاين من كرمه وفعله، فأعاده إليه في الحين بفرسٍ أخرى، وكسى كثيرة، وآلاف من المال، فلما دخل مراكش، ولقي علي بن يوسف وأنزله، أنزل الحداد مع نفسه في بيت واحد، وشاركه في الأموال التي توجه بها فانصرف يجر وراءه دنيا عريضة.
ولما ملك سرقسطة، احتضن الوزير الحكيم أبا بكر بن الصائغ، ولطف منه محله. ذكر أنه غاب يوماً عنه وعن حضور مجلسه بسرقسطة، ثم بكر من الغد، فلما دخل قال له أين غبت يا حكيم عنا؟ فقال يا مولاي أصابتني سوداء واغتتمت، فأشار إلى الفتى الذي كان يقف على رأسه، وخاطبه بلسان عجيمة، فأحضره طبقاً مملوءاً مثاقيل محشمة وعليها نوادير ياسمين فدفعه كله إليه، فقال ابن باجة: يا مولاي لم يعرف جالينوس من هذا الطب، فضحك.
وذكر أنه أنشد شعراً في مدحه، وقد قعد يشرب، فاستفزه الطب، وحلف أن لا يمشي إلا من فوق المال إلى منزله في طريقه، فالتمس الخدام برنسه بأن كانوا يطرحون من المال شيئاً له خطر، على أوعيته حتى يغمرها، فيمشي خطواً إلى أن وصل إلى منزله، وحسد الحكيم أصحابه، ولم يقدروا على مطالبته. واتفق أن سار الأمير أبو بكر، وأمر أصحابه بالتأهب والاستعداد، فاستعد ابن باجة، واتخذ الأقبية والأخبية، واستفره الجياد من بغال الحمولة، فكانت له منها سبعة صفر الألوان، حمل عليها الثياب والفرش والمال، فلما نزل الأمير بمقره، مرت عليه البغال المذكورة في أجمل الهيئات، فقال لجلسائه لمن هذه البغال، ومن يكون من رجالنا هذا، فأصابوا العزة، فقالوا هي للحكيم ابن الصائغ صاحب سرقسطة، وليعلم مولانا أن في وسط كل حمل منها ألف دينار ذهباً سوى المتاع والعدة، فاستحسن ذلك. وقال أهذا حق؟ قالوا نعم، فدعا الخازن على المال، وقال له ادفع لابن باجة خمسة آلاف دينار ليكمل له ذلك اثني عشر ألفاً، فقد سمعته غير ما مرة يتمنى أن يكون له ذلك، ثم بعث عنه في الحين وقال له، يا حكيم ما هذا الاستعداد، فقال يا مولاي كل ذلك من هباتكم وأعطياتكم، ولما علمت أن أظهار ذلك يسركم، فسر بذلك. وأخباره رحمه الله كثيرة.
محنتهقالوا، ولما ولى غرناطة سنة خمسمائة. ثار بها، وانبرى على قومه لأمر رابه، فانتبذ عنه قومه، وناصبوه الحرب، حتى استنزلوه عنوة، وقبضوا عليه، ووجهوه إلى علي بن يوسف. فآثر الإبقاء عليه، وعفا عنه، واستعمله بسرقسطة، كذا ذكره الملاحي، وأشار إليه. وعندي أن الأمر ليس كذلك وأن الذي جرى له ذلك، أبو بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين فيتحقق.
وفاتهتوفي بسرقسطة في سنة عشر وخمسمائة بعد أن ضاق ذرعه بطاغية الروم، الذي أناخ عليه بكلكله. وعندما تعرف خبر وفاته، واتصلت بالأمير أبي إسحاق إبراهيم بن تاشفين، وهو يومئذ والي مرسية، بادر إلى سرقسطة، فضبطها، ونظر في ساير أمورها ثم صدر إلى مرسية.
رثاؤهورثاه الحكيم أبو بكر بن الصائغ بمراث اشتهر عنه منها قوله:
سلام وإلمام ووسمي مزنةٍ ... على الجدث الثاني الذي لا أزوره
أحقٌ أبو بكر تقضي فلا ترى ... ترد جماهير الوفود ستوره
لئن أنست تلك اللحود بلحده ... لقد أوحشت أقصاره وقصوره

ومن ذلك قوله:
أيها الملك المفدى لعمري ... نعي المجد ناعيك يوم قمنا فنحنا
كما تقارعت والخطوب إلى أن ... غادرتك الخطوب في الترب وهنا
غير أني إذا ذكرتك والده ... ر أخال اليقين في ذاك ظنا
وسألنا متى اللقاء فقيل الحش ... ر قلنا صبراً إليه وحزنا
إدريس بن عبد المؤمن بن عليإدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي أمير المؤمنين الملقب بالمأمون، مأمون الموحدين
أوليتهجده عبد المؤمن، جذع الشجرة، وينبوع الجداول، هو ابن علي بن علوي بن يعلي بن موار بن نصر بن علي بن عامر بن موسى بن عون الله بن يحيى بن ورجايغ بن سطفور بن نفور بن مطماط بن هزرج بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وكان طالباً بربرياً ضعيفاً، خرج مع عمه يؤم للشرق، وكان رأى رؤيا هالته تدل على ملك، إذ كان صفحته من طعام على ركبتيه، يأكل منها الناس، وكانت أمه رأت وهي حاملٌ، كأن ناراً خرجت منها أحرقت المشرق والمغرب، فكانت في نفسه حركة، لأجل هذه الرؤيا، فلمات حل بسجلماسة، سمع بها عن المهدي، وكان رجلاً يعرف بأبي عبد الله السوسي، ووصف له بالعلم، فتشوف إلى لقائه، ليرى ما عنده في تأويل رؤياه، فانصرف إليه مع بعض الطلبة، فلقي رجلا قد وسمه، على ما يزعم الناس، حدثان من أبي حامد الغزالي، وعلقت به دعوة منه، في إذهاب ملك أهل اللثام، لحرق كتابه على أيديهم، فهو مغري بالخروج عليهم، مهيأ في عالم الغيب إلى تخريب دعوتهم، فوافق شن طبقه وما اجتمع الداآن إلا ليقتتلا، والله غالب على أمره. فأجلسه، وسأله عن اسمه، وبلده وسنه، ونسبه، بالتعريف، وأمره أن يخفي من أمره، وعبر له رؤياه، بأنه يملك الأرض، فاهتزت الآمال وتعاضدت، ونفذت مشيئة الله، بأن دالت الدولة، وهلك محمد بن تومرت المهدي، فأفضى الأمر إلى عبد المؤمن، واستولى على ملك اللمتونيين، فأباد خضراءهم، واستأصل شأفتهم، واستولى على ملك المغرب، فأقام به رسماً عظيماً، وأمراً جسيماً، وأورثه بنيه من بعده، والله يؤتي ملكه من يشاء.
حالهكان رحمه الله شهماً شجاعاً، جريئاً، بعيد الهمة، نافذ العزيمة، قوي الشكيمة، لبيباً، كاتباً أديباً، فصيحاً، بليغاً، أبياً، جواداً، حازماً. وذكره ابن عسكر المالقي، في تاريح بلده، قال دخل مالقة من قبل أخيه، فوصل إليها في الحادي عشر من محرم، وهو شاب حدث، فكان منه من نباهة القدر وجلالة النفس، وأبهة الملك، ما يعجز عنه كثير من الملوك. ولحين وصوله عقد مجلس مذاكرة، استظهر له نبهاء الطلبة، وكان الشيخ علي بن عبد المجيد يحضره. وكان يبدو منه مع حداثة سنة، من الذكاء والنبل والتفطن، ما كان يبهت الحاضرين، وكانوا ينظرون منه إلى بدري الحسن، وأسدي الهيبة، وكهلي الوقار والتؤدة، واشتغل بما يشتغل به الملوك من تفخيم البناء، كبينان رياض السيد الذي على ضفة الوادي بمالقة المعروف باسمه، لله ورسوله، وكان عرفاء البنائين لا يتصرفون إلا بنظره، واستمرت ولايته مفخم الأمر، عظيم الولاية، إلى أن نقل منها إلى قرطبة، ثم نقل إلى إشبيلية وفيها بويع الخلافة.
تصير الأمر إليه، وجوازه إلى العدوة

قام على أخيه العادل بين يدي مقلعة، بممالأة أخيه السيد أبي زيد، أمير بلنسية وتحريكه إياه، فتم له ذلك، وعقدت له البيعة بمراكش والأندلس. ثم إن الموحدين في مراكش بدا لهم في أمره، وعدلوا عنه إلى ابن عمه أبي زكريا ابن الناصر، واتصل به خبر خلعهم إياه فهاجت نفسه، ووقدت جمرته، واستعد لأخذ ثاره، ورحل من إشبيلية، واستصحب جمعاً من فرسان الروم، واستجاز البحر سنة ست وعشرين وستمائة، قاصداً مراكش، وبرز ابن عمه إلى مدافعته، والتقى الجمعان فكانت الهزيمة على يحيى بن الناصر، وفر إلى الجبال، واستولى القتل على جيشه، ودخل المأمون مراكش فأمر بتقليد شرفاتها بالرءوس فعمتها على اتساع الساحة، واستحضر الناكثين لبيعته وبيعة أخيه، وهم كبار الدولة، واستفتى قاضيه بمرأى منهم، واستحضر خطوطهم وبيعاتهم، فأفتى بقتلهم، فقتل جماعتهم، وهم نحو مائة رجل، واتصل البحث عمن أفلت منهم، وصرف عزمه إلى محو آثار دولة الموحدين، وتغيير رسمها، فأزال اسم مهديها من الخطبة والسكة والمآذن، وقطع النداء عند الصلاة تاصليت الإسلام وكذلك منسوب رب وبادري وغير ذلك، مما جرى عليه عمل الموحدين، وأصدر في ذلك رسالة حسنة، من إنشائه، يأتي ذكرها في موضعه. وعند انصرافه من الأندلس، خلا للأمير أبي عبد الله بن هود الجو، بعد وقائع خلت بينهما، وانتهز النصارى الفرصة، فعظمت الفتنة، وجلت المحنة.
دخوله غرناطةلم يصح عندي أنه دخل غرناطة، مع غلبة الظن القريب من العلم بذلك، إلا طريقه إلى مدافعته المتوكل بن هود بجهة مرسية، فإنه تحرك لمعالجة أمره في جيش إشبيلية باستدعاء أخيه السيد أبي زيد والي بلنسية، بعد هزائم جرت بصقع الشرق لابن هود، فتحرك المأمون إليه، واحتل غرناطة، في رمضان من عام خمسة وعشرين وستمائة، وأنفذ منها كتابه إلى أخيه، يقوي بصيرته، ويعلمه بنفوذه إليه، والتف عليه جيش غرناطة وما والاها، واتصل سيره إلى الشرق، فبرز ابن هود إلى لقائه، فكان اللقاء بخارج لورقة، فانهزم ابن هود، وفر إلى مرسية، وعساكر الموحدين في عقبه، واستقصاء مثل هذا يخرج عن الغرض.
وخاطب لأول أمره، وأخذ الناس ببيعته. من بأقطار الأندلس، صادعاً بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحض على الصلوات وإيتاء الزكاة، وإيتاء الصدقات، والنهي عن شرب الخمر والمسكرات والتحريض على الرعاية فمن كتابه: الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلين يتفرع منهما مصالح الدنيا والدين، وأمر بالعدل والإحسان، إرشاداً إلى الحق المبين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الكريم، المبعوث بالشريعة التي طهرت الجيوب من الأدران، واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان، طوراً بالشدة، وتارة باللين، القائل، ولا عدول عن قوله: " ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " تنبيهاً على ترك الشك لليقين، وعلى آله أعلام الإسلام، الملقين راية الإسلام باليمين، الذين مكنهم الله في الأرض، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفاء بالواجب لذلك التمكين.
ومن فصل: وإذا كنا نوفي الأمة تمهيد دنياها، ونعني بحماية أقصاها وأدناها، فالدين أهم وأولى، والتهمم، بإقامة الشريعة وإحياء شعائرها، أحق أن يقدم وأحرى، وعلينا أن نأخذ بحسب ما يأمر به الشرع وندع، ونتبع السنن المشروعة ونذر البدع. ولنا أن لا ندخر عنها نصيحة، ولا نغبنها أداة من الأدوات مريحة، ولنا عليها أن تطيع وتسمع.

ومن فصل وأول ما يتناول به الأمر النافذ، الصلاة لأوقاتها، والأداء لها على أكمل صفاتها، وشهودها إظهاراً لشرائع الإيمان في جماعتها. فقد قال عليه الصلاة والسلام: أحب الأعمال إلى الصلاة لأوقاتها. وقال: أول ما ينظر فيه من أعمال العمد الصلاة. وقال عمر: إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. وقال: لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وهي الركن الأعظم من أركان الإيمان، والسور الأوثق لأعمال الإنسان، والمواظبة على حضورها في المساجد، وإيثار ما لصلاة الجماعة من المزية على صلاة الواحد، أمرٌ لا يضيعه المفلحون، ولا يحافظ عليها إلا المؤمنون. قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأينا، وما يتخلف عنها إلا المنافق، معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي يتهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف. وشهود الصبح، وعشاء الآخرة شاهد بمحضر الإيمان. ولقد جاء: حضور الصبح في جماعة يعدل قيام ليلة، وحسبكم بهذا الرجحان. ومن الواجب أن يعتني بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدين، ويأخذ بها في جميع الأمصار الصغير والكبير من المسلمين، ونيط في إلزامها قوله عليه الصلاة والسلام: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين " . وهي طويلة في معاني متعددة.
نثره ونظمهولما غير رسوم الموحدين، وأوقع بأرباب دولتهم خبر النكث ببيعته، وبيعتي أخيه وعمه، كتب إلى الأقطار عن نفسه، ولم يكمل إنشاءه بكتابة رسالة بديعة، اشتملت على فصول كثيرة تنظر في كتاب المغرب والبيان المغرب وغير ذلك. وكتابا بخطه إلى أهل اندوجر: إلى الجماعة والكافة من أهل فلانة، وقاهم الله عثرات الألسنة، وأرشدهم إلى محو السيئة بالحسنة، أما بعد فإنه قد وصل من قبلكم كتابكم الذي جدد لكم أسهم الانتقاد، ورماكم من السهاد، بالداهية الساد، أتعتذرون من المحال بضعف الحال، وقلة الرجال. إذاً نلحقكم بربات الحجال، كأنا لا نعرف مناحي أقوالكم، وسوء منقلبكم وأحوالكم، لا جرم أنكم سمتعم بالعدو قصمه الله، وقصده إلى ذلك الموضع عصمه الله، فطاشت قلوبكم خوراً، وعاد صفوكم كدراً، وشممتم ريح الموت ورداً وصدراً، وظننتم أنكم أحيط بكم من كل جانب، وأن الفضاء قد غص بالتفاف القنا واصطفاف المناكب، ورأيتم غير شيء فتخيلتموه طلائع الكتائب، تباً لهمتكم المنحطة، وشيمتكم الراضية، بأدون خطة، أحين ندبتم إلى حماية إخوانكم، والذب عن كلمة إيمانكم نسقتم الأقوال وهي مكذوبة، ولفقتم الأعذار وهي بالباطل مشوبة، لقد آن لكم أن تتبدلوا جل الخرصان، إلى مغازل النسوان، وما لكم ولصهوات الخيول وإنما على الغانيات جر الذيول. أتظهرون العناد تخريصاً، بل تصريحاً وتلويحاً، ونظن أن لا يجمع لكم شتا، ولا يدني منكم نزوحاً. أين المفر وأمر الله يدرككم، وطلبنا الحثيث لا يترككم، فأزيلوا هذه النزعة النفاقية من خواطركم، قبل أن نمحو بالسيف أقوالكم وأفعالكم، ونستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم. ونحن نقسم بالله لو اعتسفتم كل بيداء سملق، واعتصمتم بأمنع معقل، وأحفل فيلق، ما ونينا عنكم زماناً، ولا ثنينا عن استيصال العزم منكم عناناً فلا يغرنكم الإمهال، أيها الجهال. وهي طويلة وقال عند الإيقاع بالأشياخ أولى الفساد على الدول، وصلبهم في الأشجار والأسوار، مما كلف السلمى بحفظها واستظرافها:
أهل الحرابة والفساد من الورى ... يعزون في التشبيه بالذكار
ففساده فيه الصلاح لغيره ... بالقطع والتعليق في الأشجار
ذكارهم ذكرى إذا ما أبصروا ... فوق الجذوع وفي ذرى الأسوار
لو عم عفو الله سائر خلقه ... ما كان أكثرهم من أهل النار
توقيعهقال ابن عسكر، وكانت تصدر منه توقيعات نبيلة. فمنها أن المرأة رفعت رقعتها بأحد من الأجناد ممن نزل دارها، وصدر لها أمر ينكر، فوقع على رقعتها: يخرج هذا النازل، ولا يعوض بشيء من المنازل. وغير ذلك مما اختصرناه.
بنوهأبو محمد عبد الواحد ولي عهده، وأمير المؤمنين بعد وفاته، الملقب بالرشيد، وعبد العزيز، ومان، وأبو الحسن علي، الملقب بالسعيد، الوالي بعد أخيه الرشيد.
بناته: ابنة العزيز، وصفية، ونجمة، وعائشة، وفتحونة، وأمهات الجميع روميات، وسريات مغربيات.

وزراؤه
وزر له الشيخ أبو زكريا بن أبي الغمر وغيره.
كتابه، كتب له جملة من مشاهير الكتاب، منهم أبو زكريا الفازازي، وأبو المطرف بن عميرة. وأبا الحسن الرعيني، وأبوعبد الله بن عياش وأبو العباس ابن عمران وغيرهم. وما منهم إلا شهير كبير.
وفاتهتوفي رحمه الله بوادي أم الربيع، وقد طوى المراحل من ظاهر سبتة، مقلعا عن حصارها، مبادراً إلى مراكش، وقد اتصل به دخول يحيى بن الناصر إياها، فأعد السير وقد اشتد حنقه على أهلها، وأقسم أن يبيح حماها للروم، ويذهب اسمها ومسماها، فهلك عند دنوه منها فجأة، فكانت عند أهل مركش من غرر الفرج بعد الشدة، وكتمت زوجة حبابة الرومية، أم الرشيد ولده، خبر وفاته إلا عن الأفراد من قواد النصارى وبعض الأشياخ، واتفق القول على مبايعة ابنها المذكور، بيعةً خاصة ثاني يوم وفاته، ثم جعل في هودج وأشيع أنه مريض، وزحفت الجيوش على تعبيته، وبرز يحيى بن الناصر من مراكش إلى لقائه، والتقى الجمعان فانهزم يحيى واستولى الرشيد عليه، ودخل مراكش فاستقام الأمر، وكانت وفاة المأمون أبي العلا رحمه الله، ليلة الخامس عشر لمحرم عام ثلاثين وستمائة.
وجرى ذكر المأمون والمهدي وأوليتهم في الرجز المتضمن ذكر بالمسلمة من نظمي بما نصه بعد ذكر الدولة اللمتونية:
ونجم المهدي وهو الداهية ... فأصبحت تلك المباني واهية
وانحكم الأمر له وانجمعا ... في خبر نذكر منه لمعا
لم يأل فيها أن دعا لنفسه ... وكان في الحزم فريد جنسه
أغرب في ناموسه ومذهبه ... وفي الذي سطره من نسبه
وعنده سياسةٌ وعلمٌ ... وجرأةٌ وكرم وحلمٌ
ووافقت أيامه في الناس ... لدولة المسترشد العباسي
ثم انقضت أيامه المنيفة ... وكان عبد المؤمن الخليفة
فضاء لون سعده ووضحا ... ولاح مثل الشمس في وقت الضحى
ثم تلمسان وفاساً فتحا ... وملك أصحاب اللثام قد محا
ولما انتهى القول إلى المأمون المترجم به، بعد ذكر من يليه وعبد المؤمن جده، قلت:
ثم تولى أمرهم أبو العلا ... فسلط البيض على بيض الطلا
وهو الذي أركب جيش الروم ... وجد في إزالة الرسوم
أسباط بن جعفر
بن سليمان بن أيوب بن سعد السعدي
سعد بن بكر بن عفان الإلبيري هذا هو جد سعيد بن جودي، بن سوادة، بن جودي، بن أسباط، أمير المغرب. وقدرهم بهذه المدينة شهير.
حالهوكان من أهل العلم والفقه، والدين المتين، والورع الشديد، والصلاح الشهير.
نباهتهولاه الأمير عبد الرحمن قضاء إلبيرة حين بلغه زهده وورعه، وأنه لم يشرك إخوته في شيء من ميراث أبيه، إذ كان لم يحضر الفتح، فبرىء به إليهم وابتاع موئلاً بوطنه أنيط به ماءٌ، وانفرد به للعبادة والتبتل، فاستقدمه هشام، فركب حماره وقدم عليه في هيئة رثة بذلة، فتوسم فيه الخير، وقدمه ووسع له في الرزق، ووهب له ضياعاً كثيرة، تعرف اليوم باسمه، وتوفي هشام وهو قاض بإلبيرة، فأقره ابنه الحكم ثم ولاه شرطته، إلى أن توفي أسباط، قلت، انظر حال الشرطة عند الخلفاء من كان يختار لها لولايتها.
أسلم بن عبد العزيز بن أبانأسلم بن عبد العزيز بن هشام بن خالد بن عبد الله بن خالد ابن حسين بن جعفر بن أسلم بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، يكنى أبا الجعد.
أوليتهمن أهل شرق الأندلس، أصلهم من لوشة فتية غرناطة وموضعهم بها معروف، وإلى جدهم ينسب جبل أبي خالد المطل عليها، وكان لهم ظهور هنالك، وفيهم أعلام وفضلاء.
حالهكان أسلم من خيار أهل إلبيرة، شريف البيب، كريم الأبوة، من كبار أهل العلم، وكانت فيه دعابة، لم ينسب إليه قط بسببها خزية في دين ولا زلة. قال أبو الفضل عياض، كان أسلم من خيار أهل إلبيرة، رفيع الدرجة في العلم، وعلو الهمة في الإدراك، والرواية والديانة، والصحبة، وبعد الرحلة في طلب العلم، معروف النصيحة والإخلاص للأمراء.
مشيخته

لقي بمصر، المدني، ومحمد بن عبد الحكم، ويونس، والربيع بن سليمان المؤذن، وأحمد بن عبد الرحيم البرقي. وسمع من علي بن عبد العزيز، وسليمان ابن عمران بالقيروان.
من روي عنه، سمع منه عثمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن يونس، ومحمد بن قاسم، وغير واحد، وانصرف إلى الأندلس من رحلته، فنال الوجاهة العظيمة.
ولايتهولاه قضاء الجماعة بغرناطة، الناصر لدين الله، أول ولايته، وسط سنة ثلاثمائة، إلى أن استعفى سنة تسع وثلاثمائة فأعفاه، ثم أعاده. وكان في قضاء صارماً لا هوادة عنده. قال المؤرخ، كان الناصر يستخلفه في سطح القصر إذا خرج إلى مغازيه. وحكى ابن حارث، أن ابن معاذ وابن صالح أتيا يوماً، فلما أخذا مجلسهما نظر إليهما، وقال ألقوا ما أنتم ملقون فأبهتهما. ودخل عليه محمد بن وليد يوماً، فكلمه في شيء، فقال أسلم سمعنا وعصينا، فقال ابن وليد ونحن قلنا واحتسبنا. وأتاه في بعض مجالسه شهود، بعضهم من أهل المدينة بقرطبة، وبعضهم من شلار من الربض الشرقي، يشهدون في ترشيد امرأة من الربض الغربي، فلما أخذوا مجالسهم، فتح باب الخوخة التي في المجلس الذي يجلس بدهليزه، ونادى من بخارجه فاجتمعوا، اسمعوا عجباً، لله در الشاعر حيث يقول:
راحت مشرقة ورحت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب
هؤلاء من أهل المدينة وشلار، يشهدون في ترشيد امرأة من ساكنات آخر بلاط مغيث، ثم سكت فدهش القوم وتسللوا. وبلغه عن بعض الشهود المتهمين أنه أرشي في شهادته ببساط، فلما أتى ليؤديها، ودخل على أسلم جعل يخلع نعليه عند المشي على بساط القاضي، فناداه أبا فلان البساط، الله الله، فتنبه بأن أمره عند القاضي، ولم يجسر على أداء شهادته تلك. وخاصم فقيهٌ عند أسلم رجلاً في خادم أغربها وجاء بشاهد أتى به من إشبيلية، فقال يا قاضي هذا شاهدي فاسمع منه، فصعد أسلم في الشاهد وصوب، وقال أمحتسب، أو مكتسبٌ أصلحك الله، فقال الشاهد أحسن الظن أيها القاضي، فليس هذا إليك، هذا إلى الله المطلع على ما في القلوب، ولم تقعد هذا المقعد لتسأل عن هذا وشبهه، وإنما عليك الظاهر، وتكل الباطن إلى الله، فإن شئت، فاسمع الشهادة كما يلزمني أداؤها، ثم أقبلها أو اضرب بها الحائط. وفي رواية أخرى، وليس لك أن تكشف الستر المنسدل بينك وبيني، فإن هذا التفسير للشهود يوقف عن الشهادة عندك، ويعرض لإهانتك أهل لائقةٍ، وفي ذلك من ضياع الحقوق ما لا يخفي، فأخجل أسلم كلامه، وقال له، لك ما قلت، فأد شهادتك يرحمك الله. قال، فأين الخادم تحضر حتى أشهد على عينها، قال أسلم وفقيهٌ أيضاً؟ هاتوا الخادم، فجاءت من عند الأمين، فلما مثلت بين يديه، نظر منها ملياً، ثم قال، أعرف هذه الخادم ملكا لهذا الرجل، لا أعرف ملكه زال عنها بوجه من الوجوه، إلى حين شهادتي هذه، سلامٌ على القاضي، ثم خرج، فبقى أسلم متعجباً منه.
محنتهكف بصره في أخريات أيامه، فطلب لأجل ذلك الإعفاء فأعفى، ولزم بيته صابراً محتسباً إلى حين وفاته.
مولدهسنة إحدى وثلاثين ومائتين.
أسد بن الفرات

بن بشر بن أسد المري
من أهل قرية الصير مورته من إقليم البساط من قرى غرناطة.
حالهكان عظيم القدر والشرف والشهرة، أصيل المعرفة والدين.
مشيختهخرج إلى المشرق، ولقي مالك بن أنس رضي الله عنه، روي عنه سحنون ابن سعيد.
تآليفهألف كتاب المختلطة، وولى القضاء بالقيروان أجمل ما كانت وأكثر علماً، وولاه زيادة الله غزو صقلية، ففتحها وأبلى بلاء حسناً.
وفاتهتوفي رحمه الله محاصراً سرقوسة منها سنة ثلاث عشر ومائتين. هذا ما وقع في كتاب أبي القاسم الملاحي. وذكره عياض فذكر خلافاً في اسمه وفي أوليته.
أبو بكر المخزومي
الأعمى المورورى المدوري
حاله
كان أعمى، شديد القحة والشر، معروفاً بالهجاء، مسلطاً على الأعراض، سريع الجواب، ذكي الذهن، فطناً للمعاريض، سابقاً في ديوان الهجاء، فإذا مدح ضعف شعره.
دخوله غرناطةوذكر شيء من شعره، ومهاترته مع نزهون بنت القلاعي.

قال أبوالحسن بن سعيد، في كتابه المسمى بالطالع السعيد، قدم على غرناطة أيام ولاية أبي بكر بن سعيد عمل غرناطة، ونزل قريباً منه، وكان يسمع به، فقال صاعقةٌ يرسلها الله عز وجل على من يشاء من عباده، ثم رأى أن يبدأه بالتأنيس والإحسان، فاستدعاه بهذه الأبيات:
يا ثانيا للمعري ... في حسن نظمٍ ونثر
وفرط ظرف ونبلٍ ... وغوص فهم وفكر
صل ثم واصل حفياً ... بكل شكر وبر
وليس إلا حديث ... كما زها عقد در
وشادنٌ قد تغنى ... على ربابٍ وزمر
وما يسامح فيه الغف ... ور من كأس خمر
وبيننا عقد حلف ... لبان شركٍ وكفر
فقم نجدده عهداً ... يطيب شكر وسكر
والكأس مثل رضاع ... ومن كمثلك يدري
ووجه له الوزير أبو بكر بن سعيد، عبداً صغيراً قاده. فلما استقر به المجلس، وأفعمته روائح الند والعود والأزهار، وهزت عطفه الأوتار، قال:
دار السعيدي ذي أم دار رضوانٍ ... ما تشتهي النفس فيها حاضرٌ دان
سقت أبارقها للند سحب ندى ... تحدو برعد لأوتار والحان
والبرق من كل دن ساكبٌ مطرا ... يحيي به ميت أفكار وأشجان
هذا النعيم الذي كنا نحدثه ... ولا سبيل له إلا بآذان
فقال أبو بكر بن سعيد ولا سبيل له إلا بآذان، فقال حتى يبعث الله ولد زنا كلما أنشدت هذه الأبيات، قال: وإن قائلها أعمى، فقال: أما أنا فلا أنطق بحرف في ذلك. فقال من صمت نجا. وكانت نزهون بنت القلاعي الآتي ذكرها حاضرة، فقالت ونراك يا أستاذ قديم النغمة، بند وغناء وطيب شراب، تتعجب من تأتيه، وتشبهه بنعيم الجنة، وتقول ما كان يلم إلا بالسماع، ولا يبلغ إليه إلا بالعيان، لكن من يجيئ من حصن المدور، وينشأ بين تيوس وبقر، من أين له معرفةٌ بمجالس النغم. فلما استوفت كلامها تنحنح الأعمى، فقالت له دعه، فقال من هذه الفاعلة؟ فقالت عجوز مقام أمك، فقال كذبت ما هذا صوت عجوز، إنما هذه نغمة قحبة محترقة تشم روائح كذا منها على فرسخ، فقال له أبو بكر: يا أستاذ هذه نزهون بنت القلاعي الشاعرية الأديبة، فقال سمعت بها لا أسمعها الله خيراً، ولا أراها إلا... فقالت له يا شيخ سوءٍ تناقضت، وأي خير أفضل للمرأة.؟ ففكر المخزومي ساعة ثم قال:
على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وإن كان قد أمسى من الضوء عاريا
قواصد نزهون تدارك غيرها ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
فأعملت فكرها وقالت:
قل للوضيع مقالاً ... يتلى إلى حين يحشر
من المدور أنش ... ئت والخرا منه أعطر
حيث البداوة أمست ... في أهلها تتبختر
لذلك أمسيت صبا ... بكل شيء مدور
خلقت أعمى ولكن ... تهيم في كل أعور
جازيت شعراً بشعر ... فقل لعمري من أشعر
إن كنت في الخلق أنثى ... فإن شعري مذكر
فقال لها اسمعي:
ألا قل لنزهونة ما لها ... تجر من التيه أذيالها
ولو أبصرت بشةً شمرت ... كما عودتني سربالها
فحلف أبو بكر بن سعيد ألا يزيد أحدهما على الآخر في هجوه كلمة، فقال المخزومي أكون هجاء الأندلس وأكف عنها دون شيء، فقال أنا أشتري منك عرضها فاطلب، فقال بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك، فإنه لين القد رقيق الملمس. فقال أبو بكر لولا أنه صغير كنت أبلغك فيه مرادك، وأهبه لك، ففطن لقصده، وقال أصبر عليه، حتى يكبر، ولو كان كبيراً ما آثرتني على نفسك، فضحك أبو بكر وقال قد هجوت نثراً، وإن لم نهج نظماً، فقال أيها الوزير، لا تبديل لخلق الله، وانفصل المخزومي بالعبد بعد ما أصلح بينه وبين نزهون.
وقال يمدح القاضي بغرناطة أبا الحسن بن أضحى رحمهما الله:
عجباً للزمان يطلب هضمي ... وملاذي منه على بن أضحى
جاره قد سما على النطح عزاً ... ليس يخشى من حادث الدهر نطحا

فكأني علوت قرن فلان ... أي تيس مطول القرن ألحا
فقال له ابن أضحى، هلا اقتصرت على ما أنت بسبيله، فكم تقع في الناس، فقال أنا أعمى وهم حفرٌ فلا أزال أقع فيها، فقال فأعجبني كلامه على قبحه، وحديث مقامه بغرناطة يقتضي طويلا.
وفاته: قال أبو القاسم بن خلف، كان حياً بعد الأربعين وخمسمائة.
أصبغ بن محمد بن الشيخ المهدييكنى أبا القاسم، عالم مشهور.
حالهكان محققاً بعلم العدد والهندسة، مقدماً في علم الهيئة والفلك وعلم النجوم، وكانت له مع ذلك عناية بالطب.
تواليفه حسان، وموضوعاته مفيدة، منها كتاب المدخل إلى الهندسة، في تفسير كتاب إقليدس، ومنها كتاب ثمار العدد المعروف بالمعاملات. ومنها كتابه الكبير في الهندسة تقصي فيه أجزاءها. ومنها كتاب في الآلة المعروفة بالأسطرلاب. ومنها تاريخه الذي ألفه وهو تاريخ كبير.
وفاتهقال ابن جماعة في تاريخه، أخبرني أبو مروان، سليمان بن عيسى الناشي المهندس، أنه توفي بمدينة غرناطة قاعدة الأمير حبوس ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت لرجب سنة ست وعشرين وأربعمائة، وهو ابن ست وخمسين سنة شمسية. وعده من مفاخر الأندلس.
أبو علي بن هديةمن أهل غرناطة
حالهقال أبوالقاسم الملاحي فيه، من أهل الدين، والفضل، والأمانة، والعدالة، والمعرفة بالتكسير والأعمال السلطانية، وولى المستخلص بغرناطة، فثقب وأجاد النظر. قال ابن الصيرفي: ولما ولي الوزير أبو علي بن هدية المستخلص، وباشر جلائل الأمور ودقائقها بنفسه، حمي المناصفين، ورفع المؤن والكلف، عنهم، ووسع بسليف البذر عليهم، وآثرهم بالنصفة بالتزام حصة بيت المال، ولم يكن له حجاب ولا بواب، فكان القوي والضعيف، والمشروف والشريف، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، شرعاً سواءً في الوصول إليه، والتكلم في مجلسه، فلم يهتضم جانب، ولا دحضت حجة، إلا أنه ارتفعت الرقبة، وزالت الهيبة، وأمحق نور الخطة، وخص أحباس جامع غرناطة بنظره، بفضل مال كثير من غلته، ونبه باجتماعه ليزيد بن بلاطين في مسقفه من شرقه وغربه، فأكمل الله ذلك بسعيه وعلى يديه، ورام ربع المستخلص، وزاد به في حماماته، ورم حوانيته، واستحدث منيحة سماها المستحدثة. وغرس قضبان الجوز في مواضع المياه، وعوض بما ذهب، وشمر في جمع المال، ووالي الحفز على العمل، ونصح بمقتضى جهده، ومنتهى وسعه، ولم تمد يده في مصانعة، ولا مالت إلى مداخلة، ولكنه لم يحمل في حق ولا نوقش في باطل.
أم الحسن

بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي
من أهل لوشة.
نبيلةٌ حسيبةٌ، تجيد قراءة القرآن، وتشارك في فنون من الطلب، من مبادىء غريبة، وخلف وإقراء مسائل الطب، وتنظم أبياتاً من الشعر. وذكرتها في خاتمة الإكليل بما نصه: ثالثة حمدة وولادة، وفاضلة الأدب والمجادة، تقلدت المحاسن من قبل ولادة، وأولدت أبكار الأفكار قبل سن الولادة. نشأت في حجر أبيها، لا يدخر عنها تدريجاً ولا سهماً، حتى نهض إدراكها وظهر في المعرفة حراكها، ودرسها الطب ففهمت أغراضه، وعلمت أسبابه وأعراضه. وفي ذكر.
شعرهاولما قدم أبوها من المغرب، وحدث بخبرها المغرب، توجه بعض الصدور إلى اختبارها، ومطالعة أخبارها، فاستنبل أغراضها واستحسنها، واستطرف لسنها، وسألها عن الخط، وهو أكسد بضاعة جلبت، وأشح درة حلبت. فأنشدته من نظمها:
الخط ليس له في العلم فائدة ... وإنما هو تزيينٌ بقرطاس
والدرس سؤلي لا أبغي به بدلاً ... بقدر علم الفتى يسمو على الناس
وراجعها بعض المجان يغفر الله له:
إن فرط الدرس يا أمي سحق ... وهذا هو المشهور في الناس
فخذ من الدرس شيئاً تافها ... خطا وبالفهم يحيى كل الناس
ومن شعرها في غرض المدح:
إن قيل من الناس رب فضيلةٍ ... حاز العلا والمجد منه أصيل
فأقول رضوان وحيد زمانٍ ... إن الزمان بمثله لبخيل
بلكين بن باديس
بن حبوس بن ماكسن بن زيري
بن مناد الصنهاجي الأمير الملقب بسيف الدولة، صاحب أمر والده والمرشح للولاية بعده
حاله

قال المؤرخ: كان زيري بن مناد، ممن ظهر في حرب ابن يزيد بإفريقية، واتسم هو وقومه بطاعة العبيديين أمراء الشيعة، فكانوا حرباً لأضدادهم من زنانة الموالين لأملاك المراونة لتحقق جدهم خزر بولايته عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما صار الأمر إلى بني مناد بعد انتقال ملك الشيعة إلى المشرق، وولي الأمر باديس بن منصور بن بلكين بن زيري، ذهب أعمامه وأعمام أبيه إلى استضعافه، فلم يعطهم ذلك من نفسه، ووقعت بينهم الحرب التي قتل فيها عم أبيه ما كسن بن زيري، فرهب الباقون منهم صولة باديس، وخافوا عاديته على أنفسهم، على صغر سنه، فخاطب شيخ بيته يومئذ زاوي بن زيري ومعه أبناء أخيه، المظفر ابن أبي عامر ليجوز إليه إلى الأندلس رغبة في الجهاد، فألفى همه بعيدة، وملكاً شامخاً، يذهب إلى استخدام الأشراف واصطناع الملوك، فأذن في ذلك، فدخل منهم جماعةٌ الأندلس مع أميرهم زاوي بن زيري، ومعه أبناء أخيه حباسة وحبوس وماكسن، فأنزلهم المظفر وأكرمهم، إلا أنهم كابدوا مشقة من دهرهم الذي أصارهم يخدمون بأبواب الملوك من أعدائهم غيرهم، فلما انهدمت الإمامة، وانشقت عصا الجماعة، سعوا في الفتنة سعى غيرهم، من سائر قبائل البرابرة، عند تشديد أهل الأندلس للبربر، وانحازوا عند ظهورهم على أهل الأندلس، بملوك بني حمود، إلى بلاد تضمهم، فانحازت صنهاجة مع شيخهم ورئيسهم زاوي بن زيري إلى مدينة غرناطة. ثم آثر زاوي العودة إلى وطنه إفريقية، فخرج عن الأندلس حسبما يتفسر في موضعه. والتف قومه على ابن أخيه حبوس بن ماكسن، في جماعة عظيمة تحمي حوزته، وأقام بها ملكاً، وغلب على ما اتصل بمدينته من الكور، فتملك قبرة، وجيان، واتسع نظره، وحمى وطنه ورعيته ممن جاوره من البرابر، وكان داهية شجاعاً، فدامت رياسته، واتصل ملكه، إلى أن هلك. فولى بعده ابنه باديس، وسيأتي التعريف به، وولد له ابنه بلكين هذا المترجم به، فرشحه إلى ملكه، وأخذ له بيعة قومه، وأهله للأمر من بعده. قال المؤرخ: ونشأ لباديس ابن حبوس، ولد اسمه بلكين، وكان عاقلاً نبيلاً، فرشحه للأمر من بعده، وسماه سيف الدولة، وقال: ولي مالقة في حياة أبيه، وكان نبيلاً جليلاً، ووقعت على كتاب بخطه نصه بعد البسملة: هذا ما التزمه واعتقد العمل به، بلكين بن باديس، للوزير القاضي أبي عبد الله بن الحسن الجذامي سلمة الله. أعتقد به إقراره على خطة الوزارة، والقضاء في جميع كوره، وأن يجري من الترفيع والإكرام له، إلى أقصى غاية وأن يحمل على الجراية في جميع أملاكه بالكور المذكورة، حاضرتها وباديتها، الموروثة منها، والمكتسبة، القديمة الاكتساب والحديثة، وما ابتاع منها من العالي رحمة الله وغيره، لا يلزمها وظيفٌ بوجه، ولا يكلف منها كلفة، على كل حال، وأن يجري في قرابته، وخوله وحاشيته وعامري ضيعه، على المحافظة والبر والحرية. وأقسم على ذلك كله بلكين بن باديس بالله العظيم، والقرآن الحكيم، وأشهد الله على نفسه وعلى التزامه له، وكفى بالله شهيداً. وكتب بخط يده مستهل شهر رمضان العظيم سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، والله المستعان. ولا شك أن هذا المقدار يدل على نبل، ويعرف عن كفاية.
سبب وفاته: قال صاحب البيان المغرب وغيره: وأمضى باديس كاتب أبيه ووزيره إسماعيل ابن نغرالة اليهودي على وزارته وكتابته وسائر أعماله، ورفعه فوق كل منزلة، وكان لولده بلكين، خاصة من المسلمين يخدمونه، وكان مبغضاً في اليهودي، فبلغه أنه تكلم في ذلك لأبيه، فبلغ منه كل مبلغ، فدبر الحيلة، فذكروا أنه دخل عليه يوماً فقبل الأرض بين يديه، فقال له الغلام: ولم ذلك، فقال: يرغب العبد أن تدخل داره مع من أحببت من عبيدك ورجالك، فدخل إليه بعد ذلك، فقدم له ولرجاله طعاماً وشراباً، ثم جعل السم في الكأس لابن باديس، فرام القيء فلم يقدر عليه، فحمل إلى قصره وقضى نحبه في يومه، وبلغ الخبر إلى أبيه ولم يعلم السبب، فقرر اليهودي عنده أن أصحابه وبعض جواريه سموه. فقتل باديس جواري ولده، ومن فتيانه وبني عمه جماعة كبيرة، وخافه سائرهم ففروا عنه. وكانت وفاته سنة ست وخمسين وأربعمائة. وبعده قتل اليهودي في سنة تسع وخمسين.
باديس بن حبوس

بن ماكسن بن زيري
ابن مناد الصنهاجي كنيته أبو مناد ولقبه الحاجب المظفر بالله، الناصر لدين الله.
أوليته

قد تقدم الإلماع بذلك عند ذكر ابنه بلكين
حالهكان رئيساً يبساً، طاغيةً، جباراً، شجاعاً، داهية، حازماً، جلداً، شديد الأمر، سديد الرأي، بعيد الهمة، مأثور الإقدام، شره السيف، واري زناد الشر، جماعة للمال، ضخمت به الدولة، ونبهت الألقاب، وأمنت لحمايته الرعايا، وطم تحت جناح سيفه العمران، واتسع بطاعته المرهبة الجوانب ببأسه النظر، وانفسخ الملك، وكان ميمون الطائر، مطعم الظفر، مصنوعاً له في الأعداء، يقنع أقتاله بسلمه، ولا يطمع أعداؤه في حربه. قال ابن عساكر: يكنى أبا مسعود، وكان من أهل الحزم وحماية الجانب، وكان يخطب ويدعو للعلويين بمالقة، فلما توفي إدريس بن يحيى العالي، ملك مالقة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
وقال الفتح في قلائده: كان باديس بن حبوس بغرناطة عاثياً في فريقه، عادلاً عن سنن العدل وطريقه، يجتريء على الله غير مراقب، ويسري إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم يبت من ذنبٍ على ندم، ولم يشرب الماء إلا من قليب دم، أحزم من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر، وما زال متقداً في مناحيه، متفقداً لنواحيه، لا يرام بريث ولاعجل، ولا يبيت له جار إلا على وجل.
أخباره في وقائعهينظر إيقاعه بزهير العامري ومن معه في اسم زهير، فقد ثبت منه هنالك نبذة، وإيقاعه بجيش ابن عباد بمالقة عندما طرق مالقة وتملكها، واستصرخ من استمسك بقصبتها من أساودتها، وغير ذلك مما هو معلوم، وشهرته مغنية عن الإطالة.
ومن أخباره في الجبرية والقسوة، قال ابن حيان: عندما استوعب الفتكة بأبي نصر بن أبي نور اليفرني أمير رندة المنتزي بها وقتله، ورجوعها إلى ابن عباد، حكي أبو بكر الوسنشاني الفقيه عن ثقة عنده من أصادقة التجار، أنه حضر مدينة غرناطة، حضرة باديس بن حبوس الجبار، أيام حدث علي أبي نصر صاحب تاكرنا ما حدث، وأن أميرها باديس قام للحادثة، وقعد، وهاج من داء عصبيته ما قد سكن، وشق أثوابه، وأعلن أعواله، وهجر شرابه الذي لا صبر له عنه، وجفا ملاذه، وأوهمته نفسه الخبيثة تمالؤ رعيته من أهل الأندلس، على الذي دهي أبا نصر، فسولت له نفسه حمل السيف على أهل حضرته جميعاً، مستحضراً لهم، وكيماً ينبرهم، ويخلص برابرته وعبيده فيريح نفسه، ودبر أن يأتي ذلك إليهم عند اجتماعهم بمسجدهم الجامع الأقرب أيام الجمعة، من قوة همومه، وشاور وزيره اليهودي يوسف بن إسماعيل، مدبر دولته الذي لا يقطع أمراً دونه، مستخلياً مستكتماً بسره، مصمماً في عزمه، إن هو لم يوافقه عليه، فنهاه عن ذلك وخطأ رأيه فيها، وسأله الأناة ومحض الروية، وقال له هبك وصلت إلى إرادتك ممن بحضرتك، على ما في استباحتهم من الخطر، فأني تقدر على الإحاطة بجميعهم من أهل حضرتك، وبسائط أعمالك؟ أتراهم يطمئنون إلى الذهول عن مصائبهم، والاستقرار في موضعهم؟ ما أراهم إلا سيوفاً ينتظمون عليك في جموعٍ، يغرقونك في لججها أنت وجندك، فرد نصيحته، وأخذ الكتمان عليه، وتقدم إلى عارضه باعتراض الجند في السلاح، والتعبية لركوبه يوم الفتكة، يوم تلك الجمعة، فارتج البلد. وذكر أن اليهودي دس نسواناً إلى معارف لهن من زعماء المسلمين بغرناطة، ينهاهم عن حضور المسجد يومهم، ويأمرهم بإخفاء أنفسهم، وفشا الخبر فتخلف الناس عن شهود الجمعة، ولم يأته إلا نفر من عامتهم، اقتدوا بمن أتاه من مشيخة البربر وأغفال القادمين، وجاء إلى باديس الخبر، والجيش في السلاح حوالي قصره، فساءه وفت في عضده، ولم يشك في فشو سره، وأحضر وزيره وقلده البوح بسره فأنكر ما قرفه به، وقال ومن أين ينكر على الناس الحذر، وأنت قد استركبت جندك وجميع جيشك في التعبية، لا لسفرٍ ذكرته، ولا لعدو وثب إليك، فمن هناك حدس القوم على أنك تريدهم، وقد أجمل الله لك الصنع في نفارهم، وقادك إصارهم، فأعد نظرك يا سيدي، فسوف تحمد عاقبة رأيي وغبطة نصحي. فنصح وزيره شيخٌ من موالي صنهاجته، فانعطف لذلك بعد لأي، وشرح الله صدره. ويجري التعريف بشيء من أمور وزيره.

قال ابن عذاري المراكشي في كتابه المسمى بالبيان المغرب: أمضى باديس كاتب أبيه ووزيره ابن نغرالة اليهودي، وعمالاً متصرفين من أهل ملته، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين. قال ابن حيان، وكان هذا اللعين في ذاته، على ما زوى الله عنه من هدايته، من أكمل الرجال علماً وحلماً وفهماً، وذكاء، ودماثة، وركانة، ودهاء، ومكراً، وملكا لنفسه، وبسطاً من خلقه، ومعرفةً بزمانه، ومداراة لعدوه، واستسلالاً لحقودهم بحلمه، ناهيك من رجل كتب بالقلمين، واعتنى بالعلمين، وشغف باللسان العربي، ونظر فيه، وقرأ كتبه، وطالع أصوله، فانطلقت يده ولسانه، وصار يكتب عنه وعن صاحبه بالعربي، فيما احتاج إليه من فصول التحميد لله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، والتزكية لدين الإسلام، وذكر فضائله، ما يريده، ولا يقصرفيما ينشئه عن أوسط كتاب الإسلام، فجمع لذلك، السجيج في علوم الأوائل الرياضية وتقدم منتحليها بالتدقيق للمعرفة النجومية، ويشارك في الهندسة والمنطق، ويفوق في الجدل كل مستول منه على غاية، قليل الكلام مع ذكائه، ماقتاً للسباب، دائم التفكر، جماعةٌ للكتب. هلك في العشر الثاني لمحرم سنة تسع وخمسين وأربعمائة، فجلل اليهود نعشه، ونكسوا لها أعناقهم خاضعين، وتعاقدوه جازعين، وبكوه معلنين، وكان قد حمل ولده يوسف المكنى بأبي حسين على مطالعة الكتب، وجمع إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية، يعلمونه ويدارسونه، وأعلقه بصناعة الكتابة، ورشحه لأول حركته، لكتابة ابن مخدومه بلكين برتبة المترشح لمكانه، تمهيداً لقواعد خدمته، فلما هلك إسماعيل في هذا الوقت، أدناه باديس إليه، وأظهر الاغتباط به، والاستعاضة بخدمته عن أبيه.
مقتل اليهودي يوسف بن إسماعيلابن نغرالة الإسرائيلي قال صاحب البيان، وترك ابناً له يسمى يوسف لم يعرف ذل الذمة، ولا قذر اليهودية. وكان جميل الوجه، حاد الذهن، فأخذ في الاجتهاد في الأحوال، وجمع المال، واستخراج الأموال، واستعمال اليهود على الأعمال، فزادت منزلته عند أميره، وكانت له عليه عيون في قصره من نساءٍ وفتيانٍ، يشملهم بالإحسان، فلا يكاد باديس يتنفس، إلا وهو يعلم ذلك. ووقع ما تقدم ذكره، في ذكر بلكين من اتهامه بسمه، وتوليه التهمة به عند أبيه، للكثير من جواريه وخدامه، وفتك هذا بقريب له، تلو له في الخدمة والوجاهة، يدعى بالقائد، شعر منه بمزاحمته إياه فتكة شهيرة، واستهدف للناس فشغلت به ألسنتهم، وملئت غيظاً عليه صدورهم، وذاعت قصيدة الزاهد أبي إسحاق الإلبيري، في الإغراء بهم، واتفق أن أغارت على غرناطة بعوثٌ صمادحية تقول إنها باستدعائه، ليصير الأمر الصنهاجي إلى مجهزها الأمير بمدينة ألمرية. وباديس في هذه الحال منغمسٌ في بطالته، عاكفٌ على شرابه. ونمى هذا الأمر إلى رهطه من صنهاجة، فراحوا إلى دار اليهودي مع العامة، فدخلوا عليه، فاختفى، زعموا في بيت فحم، وسود وجهه، يروم التنكير فقتلوه لما عرفوه، وصلبوه على باب مدينة غرناطة، وقتل من اليهود في يومه، مقتلةٌ عظيمة، ونهبت دورهم، وذلك سنة تسع وخمسين وأربعمائة. وقبره اليوم وقبر أبيه يعرف أصلاً من اليهود ينقلونه بتواترٍ عندهم، أمام باب إلبيرة، على غلوة، يعترض الطريق، على لحده حجارة كدان جافية الجرم، ومكانه من الترفه والترف والظرف والأدب معروفٌ، وإنما أتينا ببعض أخباره لكونه ممن لا يمنع ذكره في أعلام الأدباء والأفراد إلا نحلته.

مكان باديس من الذكاء وتولعه بالقضايا الآتية: قال ابن الصيرفي حدثني أبو الفضل جعفر الفتى، وكان له صدقٌ. وفي نفسه عزة وشهامة وكرم، وأثنى عليه،وعرف به، حسبما يأتي في اسم جعفر المذكور. قال، خاض باديس مع أصحابه في المجلس العلي، من دار الشارب بقصره، واصطفت الصقاليب والعبيد بالبرطل المتصل به لتخدم إرادته، فورد عليه نبأ قام لتعرفه عن مجلسه، ثم عاد إلى موضعه وقد تجهم وجهه، وخبثت نفسه، فحذر ندماؤه على أنفسهم، وتخيلوا وقوع الشر بهم، ثم قال أعلمتم ما حدث، قالوا لا والله يطلع على خير، قال: دخل المرابط الدمنة، فسرى عن القوم، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء بنصره، وفسحة عمره، ودوام دولته، ثم وجموا لوجومه، فلما رأى تكدر صفوهم، قال أقبلوا على شأنكم، ما نحن وذاك، اليوم خمر وغداً أمر، بيننا وبينه أمداد الفجو، والنشور الجبال وأمواج البحار، ولكن لا بد له أن يتملك بلدي، ويقعد منه مقعدي، وهذا أمر لا يلحقه أحد منا، وإنما يشقى أحفادنا، قال جعفر، فلما دخل الأمير القصر، عند خلعه حفيد باديس برحبة مؤمل، طاف بكل ركن ومكان منه، وأنا في جملته حتى انتهى إلى ذلك المجلس، فبسط له ما قعد عليه فتذكرت قول باديس، وتعجبت منه تعجباً ظهر علي، فالتفت إلى أمير المسلمين منكراً، وسألني ما بي، فأخبرته وصدقته، وقصصت عليه قول باديسن فتعجب، وقام إلى المسجد بمن معه، فصلى فيه ركعات، وأقبل يترحم على قبره.
وفاته: قال أبو القاسم بن خلف: توفي باديس ليلة الأحد الموفى عشرين من شوال سنة خمسة وستين وأربعمائة، ودفن بمسجد القصر. قلت، وقد ذهب أثر المسجد، وبقي القبر يحف به حلقٌ له باب، كل ذلك على سبيل من الخمول، وجدث القبر رخام، إلى جانب قبر الأمير المجاهد أبي زكريا يحيى بن غانية المدفون في دولة الموحدين به.
وقد أدال اعتقاد الخليفة في باديس بعد وفاته، قدم العهد بتعرف أخبار جبروته وعتوه على الله سبحانه، لما جبلهم عليه من الانقياد للأوهام والانصياع للأضاليل، فعلى حفرته اليوم من الازدخام بطلاب الحوائج والمستشفين من الأسقام، حتى أولى الدواب الوجيعة، ما ليس على قبر معروف الكرخي، وأبي يزيد البسطامي.
ومن أغرب ما وقفت عليه رقعة رفعها إلى السلطان على يدي، وجل من أهل الخبر مكتب يوم في مسجد القصبة القدمى من دار باديس، يعرف بابن باق، وهو يتوسل إلى السلطان ويسأل منه الإذن في دفنه مجاوراً لقبره. وعفو الله أوسع من أن يضيق على مثله، ممن أسرف على نفسه، وضيع حق ربه. ودايره اليوم طلول قد تغيرت أشكالها وقسم التملك جناتها، ومع ذلك فمعاهدها إليه منسوبةٌ، وأخباره متداولة.
وقد ألمعت في بعض مشاهده بقولي من قصيدة، غريبة الأغراض، تشتمل على فنون أثبتها إحماضاً وفكاهة، لمن يطالع هذا الكتاب، وإن لم يكن جلبها ضرورياً فيه فمنها:
عسى خطرة بالركب يا حادي العيس ... على الهضبة الشماء من قصر باديس
بكرون بن أبي بكر

بن الأشقر الحضرمي
يكنى أبا يحيى
حالهكان من ذوي الأصالة ومشايخ الجند، فارساً نجداً حازماً سديد الرأي، مسموع القول، شديد العضلة أيداً، فحلاً وسيماً، قائداً عند الجند الأندلسي، في أيام السلطان ثاني ملوك بني نصر، من أحفل ما كان الأمر، يجر وراءه دنيا عريضة، وجبى الجيش على عهده مغانم كثيرة.
قال شيخنا ابن شبرين في تذكرة ألفيتها بخطه، كان له في الخدمة مكانٌ كبير، وجاهٌ عريض، ثم صرفه الأمر عن رسمه، وأنزله الدهر عن حكمه، تغمدنا الله وإياه برحمته.
وفاته: في عام أربعة عشر وسبعمائة، ودفن بمقبرة قومه بباب إلبيرة.
بدر مولى عبد الرحمن بن معاوية الداخليكنى أبا النصر، رومي الأصل
حالهكان شجاعاً داهية، حازماً فاضلاً، مصمماً تقياً، علماً من أعلام الوفاء. لازم مولاه في أعقاب النكبة، وصحبه إلى المغرب الأقصى، مختصاً به ذابا عنه، مشتملا عليه، وخطب له الأمر بالأندلس، فتم له بما هو مذكور.

قال أبومروان في المقتبس، إن عبد الرحمن لما شرده الخوف إلى قاصية المغرب، وتنقل بين قبائل البربر، ودنا من ساحل الأندلس وكان بها همه يستخبر من قرب، فعرف أن بلادها مفترقةٌ بفرقتي المضرية واليمانية، فزاد ذلك في أطماعه، فأدخل إليهم بدراً مولاه يحسس عن خبرهم، فأتى القوم وبلى ما عندهم، فداخل اليمانيين منهم، وقد عصفت ريح المضريين بظهور بني العباس بالمشرق، فقال لهم ما رأيكم في رجل من أهل الخلافة يطلب الدولة بكم، فيقيم أودكم ويدرككم آمالكم. فقالوا: ومن لنا به في هذه الديار، فقال بدرٌ: ما أدناه منكم، وأنا الكفيل لكم به، هذا فلان بمكان كذا وكذا يقدمن نفسه فقالوا: فجيء به أهلا إنا سراعٌ إلى طاعته، وأرسلوا بدراً بكتبهم يستدعونه، فدخل إليه بأيمن طائر، واستجمع إليه خلق كثير من أنصاره قاتل بهم يوسف الفهري، فقهره لأول وقائعه، وأخذ الأندلس منه وأورثها عقبه.
محنتهقال الراوي: وكان من أكبر من أمضى عليه عبد الرحمن بن معاوية حكم سياسته وقومه معدلته، مولاه بدر المعتق منه بكل ذمة محفوظة، الخائض معه لكل غمرة مرهوبة، وكل ذلك لم يغن عنه نقيراً لما أسلف في إدلاله عليه، وكثر من الانبساط لحرمته فجمح مركب تحامله حتى أورده ألماً يضيق الصدر عنه، وآسف أميره ومولاه، حتى كبح عنانه عن نفسه بعد ذلك كبحة أقعى بها أو شارف حمامه، لولا أن أبقى الأمير على نفسه التي لم يزل مسرفاً عليها. قال: فانتهى في عقابه لما سخط عليه أن سلب نعمته، وانتزع دوره وأملاكه وأغرمه على ذلك كله أربعين ألفاً من صامته، ونفاه إلى الثغر، فأقصاه عن قربه، ولم يقله العثرة إلى أن هلك، فرفع طمع الهوادة عن جميع ثقله وخدمته، وصير خبره مثلا في الناس بعده.
تاشفين بن علي

بن يوسف أمير المسلمين
بعد أبيه بالعدوة، صالي حروب الموحدين
أوليتهفيما يختص به التعريف بأولية قومه، ينظر في اسم أبيه وجده إن شاء الله. قال ابن الوراق في كتاب المقياس وغيره: وفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولي الأمير علي بن يوسف أمير لمتونة، الشهير بالمرابط ولده الأمير المسمى بسير عهده من بعده، وجعل له الأمر في بقية حياته، ورأى أن يولي ابنه تاشفين الأندلس، فولاه مدينة غرناطة، وألمرية ثم قرطبة مضافة إلى ما بيده، قلت، وفي قولهم رأى أن يولي الأندلس فولاه مدينة غرناطة، شاهد كبير على ما وصفناه من شرف هذه المدينة، فنظر في مصالحها، وظهر له بركة في النصر على العدو، وخدمه الجد الذي أسلمه، وتبرأ منه في حروبه مع الموحدين حسبما يتقرر في موضعه، فكانت له على النصارى وقائع عظيمة بعد لها الصيت، وشاع الذكر حسبما يأتي في موضعه. قال، فكبر ذلك على أخيه سيرولي عهد أبيه، وفاوض أباه في ذلك وقال له: إن الأمر الذي أهلتني إليه لا يحسن لي مع تاشفين، فإنه قد حمل الذكر والثناء دوني، وغطى على اسمي، وأمال إليه جميع أهل المملكة، فليس لي معه اسمٌ ولا ذكرٌ. فأرضاه بأن عزله عن الأندلس وأمره بالوصول إلى حضرته، فرحل عن الأندلس في أواسط سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ووصل مراكش، وصار من جملة من يتصرف بأمر أخيه سير ويقف ببابه كأحد حجابه، فقضى الله وفاة الأمير سير على الصورة القبيحة حسبما يذكر في اسمه، وثكله أبوه واشتد جزعه عليه، وكان عظيم الإيثار والإرضاء لأمه قمر، وهي التي تسببت في عزل تاشفين وإخماله نظراً إلى ابنها، فقطع المقدار بها عن أملها بهلاكه.
ولما توفي الأمير سير، أشارت الأم المذكورة على أبيه بتقديم ولده إسحاق، وكان رؤوماً لها قد تولت تربيته عند هلاك أمه وتبنته، فقال لها، وهو صغير السن لم يبلغ الحلم، ولكن حتى أجمع الناس في المسجد خاصة وعامة، وأخبرهم فإن صرفوا الخيار إلى فعلت ما أشرت به، فجمع الناس وعرض عليهم الأمر، فقالوا كلهم في صوت واحد: تاشفين، فلم توسعه السياسة مخالفتهم، فعقد له الولاية بعده ونقش اسمه في الدنانير والدراهم مع اسمه، وقلده النظر في الأمور السلطانية، فاستقر بذلك. وكتب إلى العدوة والأندلس وبلاد المغرب ببيعته، فوصلت البيعات من كل جهة. ثم رمى به جيوش الموحدين الخارجين عليه، فنبا جده ومرضت أيامه، وكان الأمر عليه لا له بخلاف ما صنع الله له بالأندلس.

قال أبو مروان الوراق: وكان أمير المسلمين، علي بن يوسف بن تاشفين قد أمل في ابنه تاشفين ما لم تكن الأقدار تساعده به، فتشاءم به وعزم على خلعه وصرف عهده، إلى إسحاق ولده الأصغر، ووجه إلى عامله على إشبيلية أغمار، أن يصل إليه ليجعله شيخ ابنه، إلى أن وافاه خبرٌ أمضه وأقلقه ولم يمهله، فأزعج تاشفين إلى عدوه على غير أهبة بتفويضه إياه، وصرف المدد في إثره، وتوفي لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين لفعله ذلك.
ملكه ووصف حاله: فأفضى إليه ملك أبيه، بتفويضه إياه في حياته،لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وكان بطلاً شجاعاً حسن الركبة والهيئة. سالكاً ناموس الشريعة، مائلاً إلى طريقة المستقيمين، وكتب المريدين، قبل إنه لم يشرب قط مسكراً ولا استمع إلى قينة، ولا اشتغل بلذة مما يلهو به الملوك.
الثناء عليه: قال ابن الصيرفي: وكان بطلاً شجاعاً، أحبه الناس، خواصهم وعوامهم، وحسنت سياسته فيهم، وسد الثغور، وأذكى على العدو العيون، وآثر الجند، ولم يكن منه إلا الجد، ولم تنل عنده الحظوة إلا بالعناء والنجدة. وبذلك حمل على الخيل، وقلد الأسلحة، وأوسع الأرزاق، واستكثر من الرماة، وأركبهم، وأقام همتهم للاعتناء بالثغور ومباشرة الحرب، ففتح الحصون وهزم الجيوش وهابه العدو، ولم ينهض إلا ظاهراً ولا صدر إلا ظافراً، وملك الملك ومهد بالحزم وتملك نفوس الرعية بالعدل. وقلوب الجند بالنصفة. ثم قال: ولولا الاختصار الذي اشترطناه لأوردنا من سنى خلاله ما يضيق عنه الرحب، ولا يسعه الكتب.
دينه: قال المؤرخ، عكف على زيارة قبر أبي وهب الزاهد بقرطبة، وصاحب أهل الإرادة، وكان وطيء الأكناف، سهل الحجاب. يجالس الأعيان ويذاكرهم، قال ابن الصيرفي، ولما قدم غرناطة أقبل على صيام النهار، وقيام الليل، وتلاوة القرآن، وإخفاء الصدقة، وإنشاء العدل، وإيثار الحق.
دعابتهقالوا مر يوماً بمرج القرون، من أحواز قلعة يحصب فقال لزمال من عبيده كان يمازحه هذا مرجك، فقال الزمال ما هو إلا مرجك ومرج أبيك، وأما أنا فمن أنا؟ فضحك وأعرض عنه.
دخوله غرناطة: قالوا: وفي عام ثلاثة وعشرين وخمسمائة، ولي الأمير أبو محمد تاشفين بن أمير المسلمين علي بن امير المسلمين يوسف، ووافاها في السابع عشر لذي حجة، فقوي الحصون وسد الثغور وأذكى العيون، وعمد إلى رحبة القصر، فأقام بها السقائف والبيوت، واتخذها لخزن السلاح ومقاعد الرجال، وضرب السهام، وأنشأ السقي، وعمل التراس، ونسج الدروع، وصقل البيضات والسيوف، وارتبط الخيل، وأقام المساجد في الثغور، وبنى لنفسه مسجداً بالقصر، وواصل الجلوس للنظر في الظلامات، وقراءة الرقاع، ورد الجواب، وكتب التوقيعات، وأكرم الفقهاء والطلبة، وكان له يوم في كل جمعة، يتفرغ فيه للمناظرة.
وزراؤه: قال أبو بكر، وقرن الله به ممن ورد معه، الزبير بن عمر اللمتوني، ندرة الزمان كرماً وبسالة، وحزماً وأصالة. فكان كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ولي شيئاً من أمور المسلمين فأراد الله به خيراً، جعل الله له بطانة خيرٍ، وجعل له وزيراً صالحاً، إن نسي شيئاً ذكره، وإن ذكره أعانه " .
عمالهالوزير أبو محمد الحسين بن زيد بن أيوب بن حامد بن منحل بن يزيد
كتابهالرئيس العالم أبو عبد الله بن أبي الخصال، والكاتب المؤرخ أبو بكر الصيرفي وغيرهم.
من أخبار جهاده

خرج الأمير تاشفين في رمضان عام أربعة وعشرين وخمسمائة بجيش غرناطة ومطوعتها، واتصل به جيش قرطبة إلى حصن السكة من عمل طليطلة، وقد اتخذه العدو ركاباً لإضراره بالمسلمين، وسحنه وجم به شوكة حادة بقومس مشهور، فأحدق به، ونشر الحرب عليه، فافتتحه عنوة وقتل من كان به، وأحيا قائده فرند ومن معه من الفرسان، وصدر إلى غرناطة، فبرز له الناس بروزاً لم يعهد مثله. وفي شهر صفر من عام خمسة وعشرين أوقع بالعدو المضيق على أوليته. وفي ربيع الأول من عام ستة وعشرين، تعرف خروج عدو طليطلة إلى قرطبة، فبادر الأمير تاشفين إلى قرطبة، ثم نهد إلى العدو في خف، وترك السيقة والثقل بأرجونة. وقد اكتسح العدو بشنت إشطيبن والوادي الأحمر. وأسرى الليل، وواصل الركض، وتلاحق بالعدو بقرية براشة. فتراءى الجمعان صبحاً، وافتضح الجيش، ونشرت الرماح والرايات، وهدرت الطبول، وضاقت المسافة، وانتبذ العدو عن الغنيمة، والتف الجمع، فتقصرت الرماح، ووقعت المسابقة، ودارت الحرب على العدو، وأخذ السيف مأخذه، فأتى القتل على آخرهم، وصدر إلى غرناطة ظافراً. وفي آخر هذا العام خرج العدو للنمط وقد احتفل في جيشه إلى بلاد الإسلام، فصبح إشبيلية يوم النصف من رجب، وبرز إليه الأمير أبو حفص عمر بن علي بن الحاج، فكانت به الدبرة في نفر من المسلمين استشهد جميعهم، ونزل العدو على فرسخين من المدينة فجللها نهباً وغارةً، فقتل عظيماً، وسبى عظيما، وبلغ الخير الأمير تاشفين، فطوى المراحل، ودخل إشبيلية، وقد أسرها،واستؤصلت باديتها، وكثر بها التأديب والتنكيل فأخذ أعقاب العدو، وقد قصد ناحية بطليوس وباجة ويابرة في ألف عديدة من أنجاد الرجال، ومشهور الأبطال، فراش جولاً عهداً بالروع، فظفر بما لا يحصيه أحد، ولا يقع عليه عدد، وانثنى على رسل انتقل السيقة، وثقته ببعد الصارخ، وتجشمت بالأمير تاشفين الأدلاء كل ذروة وتنية، وأفضى به الإعداد إلى فلاة بقرب الزلاقة، وهو المهيع الذي يضطر العدو إليه، ولم يكن إلا كلا ولا، حتى أقبلت الطلائع منذرةً بإقبال العدو، والغنيمة في يده قد ملأت الأرض، فلما تراءى الجمعان، واضطربت المحلات، ورتبت المراكب، فأخذت مصافها، ولزمت الرجال مراكبها، فكان القلب مع الأمير ووجوه المرابطين وأصحاب الطاعات، وعليه البنود الباسقات، مكتبة بالآيات، وفي المجتبين كبار الدولة من أبطال الأندلس، عليهم حمر الرايات بالصور الهائلة، وفي الجناحين أهل الثغر والأوشاب من أهل الجلادة، عليهم الرايات المرقعات، بالعذبات المجزعات. وفي المقدمة مشاهير زناتة ولفيف الحشم بالرايات المصبغات المنبقات. والتقى الجمعان، ونزل الصبر، وحميت النفوس، واشتد الضرب والضراب وكثرت الحملات، فهزم الله الكافرين، وأعطوا رقابهم مدبرين، فوقع القتل، واستلحم العدو السيف، واستأصله الهلاك والأسار، وكان فتحاً جليلا لا كفاء له، وصدر الأمير تاشفين ظافراً إلى بلده في جمادى من هذا العام. ولو ذهبنا لاستقصاء حركات الأمير تاشفين وظهوره لاستدعى ذلك طولا كثيراً.
بعض ما مدح به: فمن ذلك:
أما وبيض الهند عنك خصوم ... فالروم تبذل ما ظباك تروم
تمضي سيوفك في العدا ويردها ... عن نفسه حيث الكلام وخيم
وهذه القصائد قد اشتملت على أغراضها الحماسية. والملك سوقٌ يجلب إليها ما ينفق عندها.
وفاته

قد تقدم انصرافه عن الأندلس سنة إحدى وثلاثين وخمسماية، وقيل سنة اثنين، واستقراره بمراكش مرؤوساً لأخيه سير، إلى أن أفضى إليه الأمر بعد أبيه قال، واستقبل تاشفين مدافعة جيش أمير الموحدين، أبي محمد عبد المؤمن بن علي خليفة مهديهم، ومقاومة أمر قضى الله ظهوره، والدفاع عن ملك بلغ مداه، وتمت أيامه. كتب الله عليه، فالتأث سعده، وفل جده، ولم تقم له قائمةٌ إلى أن هزم، وتبدد عسكره، ولجأ إلى وهران، فأحاط به الجيش، وأخذ الحصار، قالوا فكان من تدبيره أن يلحق ببعض السواحل، وقد تقدم به وصول ابن ميمون قائد أسطوله، ليرفعه إلى الأندلس، فخرج ليلا في نفر من خاصته فرقهم الليل، وأضلهم الروع، وبددتهم الأوعار، فمنهم من قتل، ومنهم من لحق بالقطائع البحرية، وتردى بتاشفين فرسه من بعض الحافات، ووجد ميتاً في الغد، وذلك ليلة سبع وعشرين لرمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وصلبه الموحدون، واستولوا على الأمر من بعده، والبقاء لله تعالى.
ثابت بن محمد الجرجاني

ثم الإستراباذي
يكنى أبا الفتوح
حالهقال ابن بسام، كان الغالب على أدواته علم اللسان، وحفظ الغريب، والشعر الجاهلي والإسلامي، إلى المشاركة في أنواع التعاليم، والتصرف في حمل السلاح، والحذق بأنواع الجندية، والنفاذ في أنواع الفروسية، فكان الكامل في خلال جمة. قال أبومروان: ولم يدخل الأندلس أكمل من أبي الفتوح في علمه وأدبه قال ابن زيدون لقيشة بغرناطة، فأخذت عنه أخبار المشارقة، وحكايات كثيرة، وكان غزير الأدب، قوي الحفظ في اللغة، نازعاً إلى علم الأوائل من المنطق والنجوم والحكمة، له بذلك قوة ظاهرة.
طروؤه على الأندلسقال صاحب الذحيرة، طرأ على الحاجب منذ صدر الفتنة للذائع من كرمه فأكرمه ورفع شأنه، وأصحبه ابنه، المرشح لمكانه، فلم يزل له بهما المكان المكين، إلى أن تغير عليه يحيى لتغير الزمان، وتقلب الليالي والأيام بالإنسان، ولحق بغرناطة بعسكر البرابرة، فحلت به من أميرهم باديس الفاقرة.
من روي عنه: قال أبوالوليد، قرأت عليه بالحضرة، الحماسة في اختيار أشعار العرب، يحملها عن أحمد بن عبد السلام بن الحسين البصري، ولقيه ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، عن أبي رياش أحمد بن أبي هشام بن شبل العبسي بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وله في الفضائل أخبار كثيرة.
محنته ووفاتهلحقه عند باديس مع عمه يدير بن حباسه تهمةٌ في التدبير عليه، والتسور على سلطانه، دعتهما إلى الفرار عن غرناطة، واللحاق بإشبيلية، قال أبو يحيى الوراق، واشتد شوق أبي الفتوح إلى أهله عند هربه مع يدير إلى إشبيلية لما بلغه أن باديس قبض على زوجته وبنيه وحبسهم بالمنكب عند العبد قداح صاحب عذابه، وكان لها من نفسه موقعٌ عظيمٌ، وكانت أندلسية جميلة جداً لها طفلان ذكرٌ وأنثى، لم يطق عنهما صبراً وعمل على الرجوع إلى باديس طمعاً في أن يصفح عنه، كما عمل مع عمه أبي ريش، فاستأمن إلى باديس يوم نزوله على باب إستجه إثر انهزام عسكر ابن عباد، وفارق صاحبه يدير، ورمي هو بنفسه إلى باديس من غير توثق بأمان أو مراسلة، فلما أدخل عليه وسلم، قال له ابتدي، بأي وجهٍ جئتني يا نمام ما أجرأك على خلقك، وأشد اغترارك بسحرك، فرقت بين بني ماكسن، ثم جئت تخدعني كأنك لم تصنع شيئاً، فلاطفه، وقال اتق الله يا سيدي، وارع ذمامي، وارحم غربتي وسوء مقامي، ولا تلزمني ذنب ابن عمك، فما لي سبب فيه، وما حملني على الفرار معه إلا الخوف على نفسي لسابق خلطته، ولقد لفظتني البلاد إليك مقراً بما لم أجنه رغبة في صفحك، فافعل أفعال الملوك الذين يجلون عن الحقد على مثلى من الصعاليك، قال بل أفعل ما تستحقه إن شاء الله، أن تنطلق إلى غرناطة، فدم على حالك، والق أهلك إلى أن أقبل، فأصلح من شأنك. فاطمأن إلى قوله، وخرج إلى غرناطة وقد وكل به فارسان، وقد كتب إلى قداح بحبسه، فلما شارف إلى غرناطة قبض عليه، وحلق رأسه، وأركب على بعير، وجعل خلفه أسود فظٌ ضخم يوالي صفعه، فأدخل البلد مشهراً، ثم أودع حبساً ضيقاً، ومعه رجل من أصحاب يدير أسر في الوقعة من صنهاجة، فأقاما في الحبس معاً إلى أن قفل باديس.
مقتله

قال أبو مروان في الكتاب المسمى بالمتين، واستراح باديس أياماً في غرناطة يهيم بذكر الجرجاني، ويعض أنامله، فيعارضه فيه أخوه بلكين، ويكذب الظنون وسعى في تخليصه، فارتبك باديس في أمره أياماً، ثم غافض أخاه بلكين فقتله وقتاً أمن فيه أمر معارضته، لاشتغاله بشرابٍ وآلة، وكانت من عادته، فأحضر باديس الجرجاني إلى مجلسه، وأقبل يشتمه ويسبه ويبكته، ويطلق الشماتة ويقول، لم تغن عنك نجومك يا كذاب، ألم يعد أميرك الجاهل، يعين يدير، أنه سوف يظفر بي ويملك بلدي ثلاثين سنة، لم لم تدقق النظر لنفسك وتحذر ورطتك، قد أباح الله لي دمك. فأيقن أبو الفتوح بالموت، وأطرق ينظر إلى الأرض، لا يكلمه ولا ينظر إليه، فزاد ذلك في غيظ باديس، فوثب من مجلسه والسيف في يده، فخبط به الجرجاني حتى جد له وأمر بحز رأسة، قال، وقدم الصنهاجي الذي كان محبوساً معه إلى السيف، فاشتد جزعه، وجعل يعتذر من خطيئته، ويلح في ضراعته، فقال له باديس أما تستحي يا ابن الفاعلة، يصبرالمعلم الضعيف القلب على الموت مثل هذا الصبر، ويملك نفسه عن كلامه لي واستعطافي، وأنت تجزع مثل هذا الجزع، وطال ما أعددت نفسك في أشداء الرجال، لا أقال الله مقيلك، فضرب عنقه، وانقضى المجلس.
ومن تمام الحكاية مما جلبه ابن حيان. قال، وكلم الصنهاجيون باديس في جثة صنهاجهم المقتول مع أبي الفتوح، فأمرني بإسلامها إليهم، فخرجوا بها من فورهم إلى المقبرة على نعش، فأصابوا قبرا قد احتفر لميت من أهل البلد، فصبوا صاحبهم الصنهاجي فيهن ووراوه من غير غسل ولا كفن ولا صلاة، فعجب الناس من تسحيهم في الاغتصاب حتى الموتى في قبورهم.
مولدهسنة خمسين وثلاثمائة.
وفاتهكما ذكر ليلة السبت لاثنتين بقيتا من محرم سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، قال برهون من خدام باديس: أمرني بمواراة أبي الفتوح إلى جانب قبر أحمد بن عباس وزير زهير العامري، فقبراهما في تلك البقعة، متجاوران، وقال اجعل قبر عدو إلى جانب عدو إلى يوم القصاص، فيا لهما قبران أجما أدبا لا كفاء له، والبقاء لله سبحانه.
جعفر بن أحمد بن علي الخزاعي

من أهل غرناطة، ويعسوب الثاغية والراغية من أهل ربض البيازين يكنى أبا أحمد الشهير ذكره بشرق الأندلس، المعروف بكرامة الناس، المقصود الحفرة، المحترم التربة حتى من العدو، والرائق بغير هذه الملة. خرج قومه من وطنهم عند تغلب العدو على الشرق، فنزلوا ربض البيازين جوفي المدينة، وارتاشوا، وتلثموا، وبنوا المسجد العتيق، وأقاموا رسم الإرادة، يرون أنهم تمسكوا من طريق الشيخ أبي أحمد بآثاره، فلا يغبون بيته، ولا يقطعون اجتماعاً، على حالهم المعروفة من تلاوة حسنة، وإيثار ركعات، ثم ذكر ثم ترجيع أبياتٍ في طريق التصوف، مما ينسب للحسين بن منصور الحلاج وأمثاله، يعرفونها منهم مشيخةٌ، قوالون هم فحول الأجمة وضرائك تلك القطيعة، يهيجون بلابلهم، فلا ينشبون أن يحمي وطيسهم، ويخلط مريعهم بالهمل، فيرقصون رقصا غير مساوق للإيقاع الموزون، دون العجال الغالبة منهم، بإفراد كلمات من بعض المقول، ويكر بعضهم على بعض، وقد خلعوا خشن ثيابهم، ومرقوعات قباطيهم ودرانيكهم، فيدوم حالهم حتى يتصببوا عرقاً، وقوالهم يحركون فتورهم، ويزمرون روحهم، يخرجون بهم من قول إلى آخر، ويصلون الشيء بمثله، فربما أخذت نوبة رقصهم بطرفي الليل التمام، ولا تزال المشيعة لهم يدعونهم، ويحاجونهم إلى منازلهم، وربما استدعاهم السلطان إلى قصره محمضاً في لطايف نعيمه باخشيشانهم، مبدياً التبرك بألويتهم، ولهم في الشيخ أبي أحمد والد نحلتهم، وشحنة قلوبهم، عصبية له وتقليد بإيثاره، أنفجت لعقده أيمانهم، وشرطٌ في صحة دينهم، وارتكبوا في النفور عن سماع المزمار القصبي المسمى بالشبابة الذي أرخص في حضور الولائم، مع نفخٍ برعه العدد الكثير من الجلة الصلحاء القدوة مرتكباً، حتى ألحقوه بالكبائر المربقة، وتعدوا اجتنابه جبلة وكراهةً طباعية، فتزوي عند ذكره الوجوه، وتقتحم عند الاتهام به الدور، وتسقط فيما بينهم بفلتة سماعه أخوة الطريق، وهم أهل سذاجة وسلامة، أو لو اقتصاد في ملبس وطعمة واقتيات بأدنى بلغة، ولهم في التعصب نزعة خارجية، وأعظمهم ما بين مكتسب متسبب، وبين معالج مدرة، ومريع حياكة، وبين أظهر من الذعرة والصعاليك كثير، والطرق إلى الله عدد أنفاس الخلايق جعلنا الله ممن قبل سعيه، وارتضى ما عنده، ويسره لليسرى.
حاله: قام هذا الرجل مقام الشيخ أبي تمام قريبه على هيئة مهلكه، فسد مسده، على حال فتور وغرارة حتى لان متن الخطة، وخف عليه بالمران ثقل الوظيفة، فأم وخطب، وقاد الجماعة من أهل الإرادة. وقضى في الأمور الشرعية بالربض، تحت ضبن قاضي الجماعة وهو الآن بعده على حاله، حسن السجية، دمث الأخلاق، لين العريكة، سهل الجانب، مقترن الصدق والعفة، ظاهر الجدة، محمود الطريقة، تطأه أقدام الكلف، وتطرح به المطارح القاصية، حوا على الشفاعات، مستور الكفاية في لفق الضعف، متوالي شعلة الإدراك في حجر الغفلة، وجهٌ من وجوه الحضرة في الجمهورية، مرعى الجانب، مخفف الوظايف، مقصوداً من منتامي أهل طريقه بالهدايا، مستدعي إلى من بالجهات منهم في كثير من الفصول، ظاهر الجدوى في نفير الجهاد، رحمه الله، ونفع بأهل الخير.
مولدهعام تسعة وسبعمائة.
وفاتهيوم الإثنين التاسع والعشرين لرمضان خمسة وستين وسبعمائة.
جعفر بن سيدبونة الخزاعيجعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونة الخزاعي من أهل شرق الأندلس من نظر دانية، يكنى أبا أحمد الولي الشهير.
حالهكان أحد الأعلام المنقطعي القرين في طريق كتاب الله، وأولى الهداية الحقة، فذ، شهير، شائع الخلة، كثير الأتباع، بعيد الصيت، توجب حقه حتى الأمم الداينة بغير دين الإسلام، عند التغلب على قرية مدفنه بما يقضي منه بالعجب. قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عند ذكره في الصلة: أحد أعلام المشاهير فضلاً وصلاحاً، قرأ ببلنسية، وكان يحفظ نصف المدونة وأقرأها، ويؤثر الحديث والتفسير والفقه، على غير ذلك من العلوم.
مشيخته

أخذ القراءات السبع عن المقرىء أبي الحسن بن هذيل، وأبي الحسن بن النعمة، ورحل إلى المشرق، فلقي في رحلته جلة، أشهرهم وأكبرهم في باب الزهد وأنواع سنى الأحوال، ورفيع المقامات، الشيخ الجليل، الولي لله تعالى، العارف، أبو مدين شعيب بن الحسين المقيم ببجاية، صحبه وانتفع به، ورجع من عنده بعجايب دينية، ورفيع أحوال إيمانية، وغلبت عليه العبادة، فشهر بها حتى رحل إليه الناس للتبرك بدعائه، والتيمن برؤيته ولقائه، فظهرت بركته على القليل والكثير منهم، وارتورا زلالا من ذلك العذب النمير، وحظه من العلم مع عمله الجليل موفور، وعلمه نورٌ على نور. لقيت قريبه الشيخ أبا تمام غالب بن حسين بن سيدبونة حين ورد غرناطة، فكان يحدث عنه بعجائب.
دخوله غرناطةوذكر المعتنون بأخباره بالحضرة إلى طريقه، أنه دخل الحضرة وصلى في رابطة الربط من باب... وأقام بها أياماً، فلذلك المسجد المزية عندهم إلى اليوم. وانتقل الكثير من أهله وأذياله عند تغلب العدو على الشرق على بلدهم، إلى هذه الحضرة، فسكنوا منها ربض البيازين، على دين وانقباض وصلاح، فيحجون بكنوز من أسراره، ومبشراته مضنونٌ بها على الناس، وبالحضرة اليوم منهم بقية تقدم الإلماع بذكرهم.
وفاتهتوفي رحمه الله بالموضع المعروف بزناتة في شوال سنة أربع وعشرين وستمائة، وقد نيف على الثمانين.
الحسين بن أبي الأحوصالحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص القرشي الفهري نشأ بغرناطة، يكنى أبا علي، ويعرف بابن الناظر.
حالهكان متفنناً في جملة معارف، أخذ من كل علم سنى بحظ وافر، حافظاً للحديث والتفسير، ذاكراً للأدب واللغة والتواريخ، شديد العناية بالعلم، مكباً على استفادته وإفادته، حسن اللقاء لطلبة العلم، حريصاً على نفعهم، جميل المشاركة لهم. وقال الأستاذ: كان من بقايا أهل الضبط والإتقان لما رواه، وآخر مقرئي القرآن، ممن يعتبر في الأسانيد ومعرفة الطرق والروايات، متقدماً في ذلك على أهل وقته، وهو أوفر من كان بالأندلس في ذلك، أقرأ القرآن والعربية بغرناطة مدة، ثم انتقل إلى مالقة فأقرأ بها يسيراً، ثم انقبض عن الإقراء، وبقي خطيباً بقصبة مالقة نحواً من خمسة وعشرين سنة، ثم كر منتقلا إلى غرناطة، فولى قضاء ألمرية، ثم قضاء يسطة، ثم قضاء مالقة.
وصمته، قال الأستاذ: إلا أنه كان فيه خلق أخلت به، وحملته على إعداء ما ليس من شأنه، عفا الله عنه، فكان ذلك مما يزهد فيه.
مشيختهروي عن الأستاذ المقرىء أبي محمد عبد الله بن حسين الكواب، أخذ عنه قراءة السبع وغير ذلك، وعن أبي علي وأبي الحسن بن سهل بن مالك الأزدي، وأبي عبد الله محمد بن يحيى المعروف بالحلبى، وجماعة غير هؤلاء، ورحل إلى إشبيلية فروى بها عن الشيخ الأستاذ أبي علي أكثر كتاب سيبويه تفقهاً، وغير ذلك.
وأخذ عن جماعة كثيرة من أهلها، وقدم عليها إذ ذاك القاضي أبو القاسم بن بقي فلقيه بها وأخذ عنه، ورحل إلى بلنسية، فأخذ بها عن الحاج أبي الحسن ابن خيرة، وأبي الربيع بن سالم، وسمع عليه جملةٌ صالحة، كأبي عامر بن يزيد بن أبي العطاء بن يزيد وغيرهم، وبجزيرة شقر عن أبي بكر بن وضاح، وبمرسية عن جماعة من أهلها، وبأوريولة عن أبي الحسن بن بقي، وبمالقة عن آخرين، وتحصل له جماعة نيفوا على الستين.
تصانيفهمنها المسلسلات، والأربعون حديثاً، والترشيد في صناعة التجويد، وبرنامج رواياته وهو نبيل.
شعره، كان يقرض شعراً لا يرضى لمثله، ممن برز تبريزه في المعارف.
مولدهيوم الخميس لإثني عشر ليلة بقيت من شوال سنة خمسين وستمائة.
وفاتهتوفي بغرناطة لأربع عشر ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة تسع و تسعين وستمائة.
الحسن بن النباهي الجذاميالحسن بن محمد بن الحسن النباهي الجذامي من أهل مالقة، يكنى أبا علي.
أوليتهقال القاضي المؤرخ أبو عبد الله بن أبي عسكر فيه، من حسباء مالقة وأعيانها وقضاتها، وهو جد بني الحسن المالقيين، وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة، لم يزالوا يرثون ذلك كابراً عن كابر، استقضى جده المنصور بن أبي عامر، وكانت له ولأصحابه حكاية مع المنصور.

قال القاضي ابن بياض، أخبرني أبي، قال: اجتمعنا يوماً في منتزه لنا بجهة الناعورة بقرطبة مع المنصور بن أبي عامر في حداثة سنه، وأوان طلبه، وهو مرتج مؤمل، ومعنا ابن عمه عمرو بن عبد الله بن عسكلاجة، والكاتب ابن المرعزي، والفقيه أبوالحسن المالقي، وكانت سفرة فيها طعام، فقال ابن أبي عامر من ذلك الكلام الذي كان يتكلم به، لا بد أن نملك الأندلس، ونحن نضحك منه ومن قوله. ثم قال: يتمنى كل واحد منكم على ما شاء أوليه، فقال عمرو: أتمنى أن توليني المدينة، نضرب ظهور الجنات، وقال ابن المرعزي: وأنا أشتهي الأسفح، القضاء في أحكام السوق، وقال أبوالحسن: وأنا أحب هذه أن توليني قضاء مالقة بلدي. قال موسى بن غدرون، قال لي تمن أنت، فشققت لحيته بيدي، واضطربت به وقلت قولا قبيحاً من قول السفهاء. فلما ملك ابن أبي عامر الأندلس، ولي ابن عمه المدينة، وولي ابن المرعزي أحكام السوق، وولي أبا الحسن المالقي قضاء ريه، وبلغ كل واحد ما تمنى، وأخذ مني مالا عظيما أفقرني لقبح قولي: فبيت بني الحسن الشهير، وسيأتي من أعلامه ما فيه كفاية.
حالهقال ابن الزبير، كان طالباً نبيلاً من أهل الدين والفضل والنهي والنباهة.
نباهته، قال ابن الزبير في كتاب نزهة البصائر والأبصار، استقضى بغرناطة.
وفاتهتوفي سنة اثنين وسبعين وأربعمائة، ذكره ابن بشكوال في الصلة، وعرف بولايته قضاء غرناطة، وذكره ابن عسكر، وتوهم فيه الملاحي، فقال، هو من أهل إلبيرة.
القلنارحسن بن محمد بن حسن القيسي من أهل مالقة، يكنى أبا علي، ويعرف بالقلنار
حالهكان رحمه الله بقية شيوخ الأطباء ببلده، حافظاً للمسائل الطبية، ذاكراً للدواء، فسيح التجربة، طويل المزاولة، متصرفاً في الأمور التي ترجع إلى صناعة اليدين صدلة وإخراعةً، محارباً، مقدوراً عليه في أخرياته، ساذجاً، مخشوشناً، كثير الصحة والسلامة، محفوظ العقيدة، قليل المصانعة، برياً من التشمت، يعالج معيشته بيده في صبابة فلاحة. أخذ صناعة الطب عن أبي الحسن الأركثي، ومعرفة أعيان النبات عن المصحفي وسرح معه، وارتاد منابت العشب في صحبته، فكان آخر السحارين بالأندلس، وحاول عمل الترياق الفارق بالديار السلطانية عام اثنين وخمسين وسبعمائة مبرزاً في اختيار أجزائه، وإحكام تركيبه، وإقدام على اختبار مرهوب حياته، قتلاً وصنجاً وتقريصاً، بما يعجب من إدلاله فيه، وفراهته عليه.
حسن بن محمد بن باصةيكنى أبا علي، ويعرف بالصعلعل، رئيس المؤقتين بالمسجد الأعظم من غرناطة، أصله من شرق الأندلس.
حالهكان فقيهاً إماماً في علم الحساب والهيئة، أخذ عنه الجلة والنبهاء قائماً على الأطلال والرخائم وآلالات الشعاعية، ماهراً في التعديل، مع التزام السنة، والوقوف عندما حد العلماء في ذلك، مداوم النظر، ذا مستنبطات ومستدركات وتواليف، نسيج وحده ورحقة وقته.
وفاتهتوفي بغرناطة عام ستة عشر وسبعمائة.
الحسن بن محمد بن علي الأنصاريمن أهل يكنى أبا علي ويعرف بابن كسرى
حالهكان متقدماً في حفظ الأدب واللغة، مبرزاً في علم النحو، شاعراً مجيداً، ممتع المؤانسة، كثير المواساة، حسن الخلق، كريم النفس، مثراً في نظم الشعر في غير فن، مدح الملوك والرؤساء، مؤثراً للخمول على الظهور وفي تخامله يقول شعراً ثبت في موضعه.
مشيختهروي عن أبي بكر بن عبد الله بن ميمون الكندي، وأبي عبد الله الكندي، وابي الحكم بن هردوس، وأبي عبد الله بن غالب الرصافي.
ممن روي عنه، روى عنه أبو الطاهر أحمد بن علي الهواري السبتي، وأبو عبد الله إبراهيم بن سالم بن صالح بن سالم.
نباهته وإدراكهمن كتاب نزهة البصائر والأبصار، قال القاضي أبو عبد الله بن عسكر، نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي رحمه الله ما معناه:

قال، حدثني الفقيه الأديب أبو علي، قال كنت بإشبيلية. وقد قصدتها لبعض الملوك، فبينما أنا أسير في بعض طرقها، لقيت الشيخ أبا العباس، فسلمت عليه، ووقفت معه، وكنت قد ذكر لي أن بها رجلا من الصالحين، زاهداً، فاضلاً ينتقد من الشعر في الزهد والرقائق، ببدائع تعجب وكان بالمغرب قد قصد الهربي والنادر، فسألني أبوالعباس عن مصيري، فأعلمته بقصدي، فرغب أن يصحبني إليه، حتى أتيناه، فرأيناه رجلاً عاقلاً، قاعداً في موضع قذر، فسلمنا عليه، فرد علينا، وسألناه عن قعوده في ذلك الموضع، فقال أتذكر الدنيا وسيرتها، فزدنا به غبطة، ثم استنشدناه في ذلك الغرض من كلامه، ففكر ساعة ثم أنشدنا كلاماً قبيحاً، تضمن من القبيح ومن الإقذاع والفواحش ما لا يحل سماعه، فقمنا نلعنه، وخجلت من أبي العبس، واعتذرت له. ثم اتفق أن اجتمعنا في مجلس الأمير الذي كنت قد قصدته، فقال أبو العباس، إن أبا علي قد حفظ لبعض الحاضرين شعراً في الزهد، من أعذب الكلام وأحسنه، فسألني الأمير وطلب مني إنشاده، فخجلت ثم ثاب إلى عقلي، فنظمت بيتين فأنشدتهما إياه وهما:
أشهد ألا إله إلا الله ... محمد المصطفى رسول الله
لا حول للخلق في أمورهم ... إنما الحول كله لله
قال، فأعجب الأمير ذلك واستحسنه.
ومن مقاماته بين يدي الملوك وبعض حاله، نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي أبي الحسن بن أبي الحسن، قال، المروي منسوب إلى قرية بقرب مالقة، وهو الذي قال فيه الشيخ أبو الحجاج بن الشيخ رضي الله عنه:
إذا سمعت من أسرى ... ومن إلى المسجد أسرى
فقل ولا تتوقف ... أبا علي بن كسرى
قال وهو قريب الأستاذ الأديب أبي علي الإستجي ومعلمه، وأحد طلبة الأستاذ أبي القاسم السهيلي، وممن نبع صغيراً، وارتحل إلى غرناطة ومرسية، وهو الذي أنشد في طفولته السيد أبا إسحاق بإشبيلية:
قسماً بحمص وإنه لعظيم ... وهي المقام وأنت إبراهيم
وكان بالحضرة أبو القاسم السهيلي، فقام عند إتمامه القصيدة، وقال لمثل هذا أحسيك الحسا، وأواصل في تعليمك الإصباح والإمسا، وكان يوماً مشهوداً.
وأنشد الأمير أبا يعقوب حين حلها:
أمعشر أهل الأرض في الطول والعرض ... بهذا استنادي في القيامة والعرض
لقد قال فيك الله ما أنت أهله ... فيقضي بحكم الله فيك بلا نقض
وإياك يعني ذو الجلال بقوله ... كذلك مكنا ليوسف في الأرض
وذكره ابن الزبير، وابن عبد الملك، وابن عسكر وغيرهم.
ومن شعره في معنى الانقطاع والتسليم إلى الله تعالى، وهي لزومية، ولنختتم بها، ختم الله لنا بالحسنى:
إلهي أنت الله ركني وملجيء ... وما لي إلى خلق سواك ركون
رأيت بني الأيام عقبي سكونهم ... حراكٌ وفي عقبي الحراك سكون
رضي بالذي قدرت تسليم عالمٍ ... بأن الذي لا بد منه يكون
وفاتهتوفي بمدينة مالقة في حدود ثلاث وستمائة.
الحسين بن عتيق

بن الحسين بن رشيق التغلبي
يكنى أبا علي، مرسي الأصل سبتي الاستيطان، منتمٍ إلى صاحب الثورة على المعتمد.
حالهكان نسيج وحده، وفريد دهره، إتقاناً ومعرفة، ومشاركة في كثير من الفنون اللسانية والتعالمية، متبحراً في التاريخ، رياناً من الأدب، شاعراً مفلقاً، عجيب الإستنباط، قادراً على الإختراع والأوضاع، جهم المحيا، موحش الشكل، يضم برداه طوياً لا كفاء له، تحرف بالعدالة، وبرز بمدينة سبتة، وكتب عن أميرها، وجرت بينه وبين الأديب أبي الحكم مالك بن المرحل من الملاحات والمهاترات أشد ما يجري بين متناقضين، آلت به إلى الحكاية الشهيرة، وذلك أنه نظم قصيدة نصها:
لكلاب سبتة في النباح مدارك ... وأشدها دركاً لذلك مالك
شيخ تفاني في البطالة عمره ... وأحال فكيه الكلام الآفك
كلبٌ له في كل عرض عضة ... وبكل محصنةٍ لسانٌ آفك
متهم بذوي الخنا متزمعٌ ... متهازلٌ بذوي التقى متضاحك
أحلى شمائله السباب المفتري ... وأعف سيرته الهجاء الماعك

وألذ شيء عنده في محفلٍ ... لمزٌ لأستار المحافل هاتك
يغشى مخاطره اللثيم تفكها ... ويعاف رؤيته الحليم الناسك
لو أن شخصاً يستحيل كلامه ... خرءا للاك الخرء منه لائك
فكأنه التمساح يقذف جوفه ... من فيه ما فيه ولا يتماسك
أنفاسه وفساؤه من عنصر ... وسعاله وضراطه متشارك
ما ضرفا من معد الله ... لو أسلمته نواجذ وضواحك
في شعره من جاهلية طبعه ... أثقال أرضٍ لم ينلها فانك
صدر وقافية تعارضتا معاً ... في بيت عنسٍ أو بعرسٍ فارك
قد عم أهل الإرض بلعنه ... فللأعنية في السماء ملائك
ولأعجب العجبين أن كلامه ... لخلاله مسكٌ يروح ورامك
إن سام مكرمة جثا متثاقلا ... يرغو كما يرغو البعير البارك
ويدب في جنح الظلام إلى الخنا ... عدواً كما يعدو الظليم الراتك
نبذ الوقار لصبيةٍ يهجونة ... فسياله فرشٌ لهم وأرائك
يبدي لهم سوآته ليسوءهم ... بمسالك لا يرتضيها سالك
والدهر باكٍ لانقلاب صروفه ... ظهراً لبطن وهو لاه ضاحك
واللسن تنصحه بأفصح منطق ... لو كان ينجو بالنصيحة هالك
تب يا ابن تسعين فقد جزت المدا ... وارتاح للقيا بسنك مالك
أو ما ترى من حافديك تشابها ... ابنٌ بضاجع جده ويناسك
هيهات أية عشرة لهجت به ... هنوات مملوك وطيع مالك
يا ابن المرحل لو شهدت مرحلا ... وقد انحنى بالرحل منه الحارك
وطريد لومٍ لا يحل بمعشر ... إلا أمال قفاه صفعٌ دالك
مركوب لهو لجاجة وركاكة ... وأراك من ذاك اللجاج البارك
لرأيت للعين اللئيمة سحة ... وعلا بصفع عرك أذنك عارك
وشغلت عن ذم الأنام بشاغل ... وثناك خصمٌ من أبيك مماحك
قسماً بمن سمك السماء مكانها ... ولديه نفس رداء نفسك شائك
لأقول للمغرور منك بشيبةٍ ... بيضاء طي الصحف منها حالك
لا تأمنن للذئب دفع مضرة ... فالذئب إن أعفتيه بك فاتك
عارٌ على الملك المنزة أن يرى ... في مثل هذا للملوك مسالك
فكلامه للدين سم قاتل ... ودنوه للعرض داءً ناهك
فعليه ثم على الذي يصغي له ... ويلٌ يعاجله وحتفٌ واشك
وأتاه من مثواه آت مجهزٍ ... لدم الخناجر بالخناجر سافك
وهي طويلة تشتمل من التعريض والصريح على كل غريب، واتخذ لها كنانة خشبية كأوعية الكتب، وكتب عليها: رقاص معجل، إلى ما ملك بن المرحل. وعمد إلى كلب، وجعلها في عنقه، وأوجعه خبطاً حتى لا يأوي إلى أحد، ولا يستقر، وطرده بالزقاق متكتما بذلك. وذهب الكلب وخلفه من الناس أمة، وقرىء مكتوب الكنانة، واحتمل إلى أبي الحكم، ونزعت من عنق الكلب، ودفعت إليه، فوقف منها على كل فاقرةٍ كفت من طماحه، وغضت عن عنان مجاراته، وتحدث بها مدة، ولم يغب عنه أنها من حيل ابن رشيق، فعوق سهام المراجعة، ثم أقصر مكبوحاً، وفي أجوبته عن ذلك يقول:
كلاب المزابل آذينني ... بأبوالهن على باب داري
وقد كنت أوجعها بالعصا ... ولكن عوت من وراء الجدار
واستدعاه بآخرةٍ أمير المغرب السلطان أبو يعقوب، فاستكتبه، واستكتب أبا الحكم صدقةً، فيقال أن جر عليه خجلةً كانت سبب وفاة أبي علي. ودخل الأندلس، وحط بها بألمرية، وقد أصيب بأسر عياله، فتوسل إلى واليها من قرابة السلطان الغالب بالله، بشعر مدحه فيه من قصيدة أولها:
ملقى النوى ملقٍ لبعض نوالكا ... فاشف المحب ولو بطيف خيالكا
ومنها:
لا تحسبني من فلانٍ أو فلا ... أنا من رجال الله ثم رجالكا
ومنها:

نصب العدو حبائلا لحبائبي ... وعلقت في استخلاصها بحبالكا
وفي خاتمها:
وكفاك شر العين عيبٌ واحد ... لا عيب فيه سوى فلول نصالكا
ولحق بغرناطة، ومدح السلطان بها، ونجحت لديه مشاركة الرئيس بألمرية. فجبر الله حاله، وخلص أسره.
ومما جمع فيه بين نثره ونظمه ما كتبه لما كتب إليه الأديب الطبيب صالح بن شريف بهاتين القصيدتين، اللتين تنازع فيهما الأقوام، واتفقوا على أن يحكم بينهما الأحلام، وعبر عن ذلك الأقلام، ولينظرهما من تشوق إليهما بغير هذا الموضع.
تواليفهوأوضاعه غريبة، واختراعاته عجيبة، تعرفت أنه اخترع في سفرة الشطرنج شكلا مستديراً. وله الكتاب الكبير في التاريخ، والتلخيص المسمى بميزان العمل وهو من أظرف الموضوعات، وأحسنها شهرة.
وفاتهكان حيا عام أربعة وسبعين وستمائة.
حبوس بن ماكسن

بن زيري بن مناد الصنهاجي
يكنى أبا مسعود ملك إلبيرة وغرناطة وما والاها.
حاله وأوليتهأما أوليته فقد مر ذلك بما فيه الكفاية عند ذكر بلكين. ولما دخل زاوي ابن زيري على الأندلس غب إيقاعه بالمرتضى، الذي نصبته الجماعة، واستيلائه على محلته بظاهر غرناطة، وخاف تمالؤ الأندلس عليه، ونظر للعاقبة، فأسند الأمر إلى ابن أخيه، حبوس بن ماكسن، وكان بحصن أشتر، فلما ركب البحر من المنكب، وودعه به زعيم البلدة وكبير فقهائها أبو عبد الله بن أبي زمنين، ذهب إلى ابن أخيه المذكور واستقدمه، وجرت بينه وبين ابن عمه المتخلف على غرناطة من قبل والده، محاورة أنجلت عن رحيلة تبعاً لأبيه، وانفرد حبوس، فاستبد بالملك، ورأب الصدع سنة أحد عشر وأربعمائة، قال ابن عذارى في تاريخه: فانحازت صنهاجة مع شيخهم ورئيسهم حبوس بن ماكسن، وقد كان أخوه حباسة هلك في الفتنة، وبقي منهم معه بعد انصراف زاوي إلى إفريقية، جماعة عظيمة، فانحازوا إلى مدينة غرناطة، وأقام حبوس بها ملكاً عظيماً، وحامي رعيته ممن جاوره من سائر البرابرة المنتشرين حوله، فدامت رياسته.
وفاتهتوفي بغرناطة سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
الحكم بن عبد الرحمن بن معاويةالحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية
صفته وحالهكان أصهب العين، أسمر، أقنى، معسل اللحية، جهير الصوت، طويل الصلب، قصير الساقين، عظيم الساعد، أفصم، وكان ملكاً جليلاً، عظيم الصيت، رفيع القدر، عالي الهمة، فقيهاً بالمذهب، عالماً بالأنساب، حافظاً للتاريخ، جماعاً للكتب، محباً في العلم والعلماء، مشيراً للرجال من كل بلد، جمع العلماء من كل قطر، ولم يكن في بني أمية أعظم همة، ولا أجل رتبة في العلم، وغوامض الفنون منه. واشتهر بهمته بالجهاد وتحدث بصدقاته في المحلول، وأملته الجبابرة والملوك.
دخوله إلبيرةقال ابن الفياض، كتب إليه من الثغر الجنوبي أن عظيم الفرنجة من النصارى حشدوا إليه وسألوه الممرة بطول المحاصرة، فاحتسب شخوصه بنفسه إلى ألمرية في رجب سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، في جحفل لجبٍ من نجدة الأولياء وأهل المراتب. ولما أحل إلبيرة ورد عليه كتاب أحمد بن يعلي من طرطوشة بنصر الله العزيز وصنعه الكريم على الروم، ووافي ألمرية، وأشرف على أمورها، ونظر إلى أسطولها وجدده، وعدته يومئذ ثلاثمائة قطعة، وانصرف إلى قرطبة.
مولدهلست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثمائة.
وفاتهلأربع خلون من صفر سنة ست وستين وثلاثمائة، وعمره نحوٌ من ثلاث وستين سنة، وهو خاتمة العظماء من بني أمية.
الحكم بن هشام بن عبد الرحمن
بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن أمية
كنيته أبو العاصي.
صفتهآدم شديد الأدمة، طويل، أشم، نحيف، لم يخضب. بنوه تسعة عشر من الذكور، منهم عبد الرحمن ولي عهده.
بناته، إحدى وعشرون، أمه أم ولد اسمها زخرف.
وزراؤه وقواده، خمسة منهم إسحاق بن المنذر، والعباس بن عبد الله، وعبد الكريم بن عبد الواحد، وفطيس بن سليمان، وسعيد بن حسان.
قضاتهمصعب بن عمران، وعمر بن بشر والفرج بن كنانة، وبشر ابن قطن، وعبد الله بن موسى، ومحمد بن تليد، وحامد بن محمد بن يحيى.
كتابه

فطيس بن سليمان. وعطاف بن زيد، وحجاج بن العقيلي.
حاجبه، عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث.
حالهكان الحكم شديد الحزم، ماضي العزم، ذا صولة تتقى، وكان حسن التدبير في سلطانه، وتولية أهل الفضل، والعدل في رعيته، مبسوط اليد بالعطاء الكثير، وكان فصيحاً، بليغاً، شاعراً مجيداً، أديباً، نحوياً.
قال ابن عذارى، كانت فيه بطالة، إلا أنه كان شجاعاً، مبسوط اليد، عظيم العفو، وكان يسلط قضاته وحكامه على نفسه، فضلا عن ولده وخاصته، وهو الذي جرت على يده الفتكة العظيمة بأهل ربض قرطبة، الذين هاجوا به وهتفوا بخلعانه، فأظهره الله عليهم، في خبر شهير، وهو الذي أوقع بأهل طليطلة أيضاً، فأبادهم بحيلة الدعاء إلى الطعام بما هو معلوم.
دخوله غرناطة: قالوا، وبإلبيرة وأحوازها تلاقي مع عمه أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن، فهزمه وقتله حسبما ثبت في اسم أبي أيوب.
شعرهقالوا وكان له خمس جوارٍ قد استخلصهن لنفسه، وملكهن أمره، فذهب يوماً إلى الدخول عليهن، فتابين عليه، وأعرضن عنه، وكان لا يصبر عنهن، فقال:
قضبٌ من البان ماست فوق كثبان ... ولين عني وقد أزمعن هجراني
ناشدتهن بحقي فاعتزمن على ال ... عصيان حتى خلا منهن همياني
ملكنني ملك من ذلت عزيمته ... للحب ذل أسير موثقٍ عاني
من لي بمغتصبات الروح من بدني ... يغصبنني في الهوى عزي وسلطاني
ثم عطفن عليه بالوصال فقال:
نلت الوصال بعد البعاد ... فكأني ملكت كل العباد
وتناهى السرور إذ نلت ما لم ... يغن عنه تكاثف الأجناد
مناقبهأنهى إليه عباس بن ناصح وقد عاد من الثغر أن امرأة من ناحية وادي الحجارة سمعها تقول: واغوثاه، يا حكم ضيعتنا، وأسلمتنا، واشتغلت عنا حتى استأسد العدو علينا، ورفع إليه شعر في هذا المعنى والغرض، فخرج من قرطبة كاتماً وجهته، وأوغل في بلاد الشرك، ففتح الحصون، وهدم المنازل، وقتل وسبى، وقفل بالغنائم على الناحية التي فيها تلك المرأة فأمر لأهل تلك الناحية بمال من الغنائم يفدون به أسراهم، ويصلحون به أحوالهم، وخص المرأة وآثرها، وأعطاها عدداً من الأسرى، وقال لها، هل أغاثك الحكم؟ قالت أي والله أغاثنا وما غفل عنا، أعانه الله وأعز نصره.
وفاتهتوفي لأربع بقين لذي الحجة سنة ست ومائتين، وكان عمره اثنين وخمسين سنة. وجرى ذكره في الرجز من نظمي في تاريخ دول الإسلام بما نصه:
حتى إذا الدهر عليه احتكما ... قام بها ابنه المسمى حكما
واستشعر الثورة فيها وانقبض ... مستوحشاً كالليث أقعى وربض
حتى إذا فرصته لاحت تفض ... فأفحش الوقعة في أهل الربض
وكان جباراً بعيد الهمة ... لم يرع من آلٍ بها أو ذمة
حكم بن أحمد بن رجا الأنصاريمن أهل غرناطة، يكنى أبا العاصي.
حاله: كان من قرائها، ونبهائها، وكان من أهل الفضل والطلب، وإليه ينسب مسجد أبي العاصي، وحمام أبي العاصي، ودربه بغرناطة. وكفى بذلك دليلا على الأصالة والتأثل، ذكره أبو القاسم ولم يذكر من أمره مزيداً على ذلك.
حاتم بن سعيد بن خلف

بن سعيد بن محمد بن عبد الله
ابن سعيد بن الحسن بن عثمان بن سعيد بن عبد الملك بن سعيد بن عمار بن ياسر
أوليته: قد مر بعض ذلك وسيأتي بحول الله.
حالهقال أبو الحسن بن سعيد في كتابه الموضوع في مآثر القلعة: كان صاحب سيف وقلم وعلم، ودخل في الفتنة المردنيشيه حسبما مر ذلك عند ذكر أخيه أبي حعفر، فصار من جلساء الأمير أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش بمرسية، وأرباب آرائه، وذوي الخاصة من وزرائه، وكان مشهوراً بالفروسية والشجاعة والرأي.

حكاياته ونوادره: قال كانت التندير والهزل قد غلبا عليه. وعرف بذلك فصار يحمل منه ما لا يحمل من غيره، قالوا، فحضر يوماً مع الأمير محمد بن سعد. يوم الجلاب من حروبه، وقد صبر الأمير صبراً جميلاً، ووالي الكر المرة بعد المرة. وذلك بمرأى من حاتم، فرد رأسه إليه، وقال يا قائداً أبا الكرم كيف رأيت، فقال له حاتم، لو رآك السلطان اليوم لزاد في مرتبك، فضحك ابن مردنيش، وعلم أنه أراد بذلك: لا تليق به المخاطرة، وإنما هو للثبات والتدبير. وقال له يوماً وقد جرى ذلك الجنات، جن اليوم يا أبا الكرم على بستانك بالزنقات، وأردت أن أكون من ضيافتك، فقال عبد الرحمن بن عبد الملك وهو إذ ذاك وزير الأمير، وبيده المجابي والأعمال لعل الأمير اغتر بسماع اسمه حاتم، ما فيه من الكرم إلا الاسم، فقال الحاتم، ولعل الأمير اغتر بسماع أمانة عبد الرحمن، فقدمة على وزرائه، وما عنده من الأمانة إلا الاسم،فقال ابن مردنيش وقد ضحك، الأولى فهمت، ولم أفهم الثانية، فقال له كاتبه أبو محمد السلمى، إنما أشار إلى قول رسول الله صلى الله عليه، في عبد الرحمن بن عوف رضي الله: أمير هذه الأمة، وأمين في أهل السماء، وأمين في أهل الأرض، فطرب ابن مردنيش، وجعل يقول: أحسنتما.
شعره: قال أبو الحسن ولم أحفظ من شعر حاتم ما أورده في هذا المكان إلا قوله يخاطب حفصة الركونية الشاعرة، التي يأتي ذكرها، حين فر إلى مرسية، وتركها بغرناطة:
أحن إلى ديارك يا حياتي ... وأبصر ذو وهد سيل الظبات
وأهوى أن أعود إليك لكن ... خفوق البند عاق عن القنات
وكيف إلى جنابك من سبيل ... وليس يحله إلا عداتي
مولدهفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. وقال أبو القاسم الغافقي فيه عند ذكره: كان طالباً نبيهاً جميلاً سرياص، تام المروءة، جميل العشرة.
وفاتهقال، مات بغرناطة سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
حباسة بن ماكسن

بن زيري بن مناد الصنهاجي
كان شهماً، هيباً، بهمةً من البهم، كريماً في قومه، أبياً في نفسه، صدراً من صدور صنهاجة، وكان أشجع من أخيه حبوس.
وفاتهقال أبو مروان عند ذكر وقعة رمداي بطرف قرطبة في حروب البرابرة لأهلها في شوال عام اثنين وأربعمائة قال: واستلحم حباسة بن ماكسن الصنهاجي ابن أخي زاوي بن زيري، وهو فارس صنهاجة طراً وفتاها، وكان قد تقدم إلى هذه الناحية. زعموا لما بلغه اشتداد الأمر فيها، فرمى بنفسه على طلابها، واتفق أن ركب بسرج طري العمل متفتح اللبد، وخانه مقعده عند المجاولة، لتقلبه على الصهوة، وقيل إنه كان منتبذاً على ذلك. فتطارح على من بإزائه، ومضى قدماً بسكرى شجاعته ونشوته، يصافح البيوت بصفحته، ويستقبل القنا بلباته، لا يعرض له شيء إلا حطه، إلى أن مال به سرجه، فأتيح حمامه لاشتغاله بذلك، بطعنة من يد المسمى النبيه النصراني. أحد فرسان الموالي العامريين، فسقط لفيه، وانتظمته رماح الموالي فأبادته، وحامي أخوه حبوس، وبنو عمه، وغيرهم من أنجاد البرابرة على جئته، فلم يقدروا على استنقاذها. بعد جلاد طويل، وغلب عليه الموالي فاحتزوا رأسه، وعجلوا به إلى قصر السلطان، وأسلموا جسده للعامة، فركبوه بكل عظيمة، واجتمعوا إليه اجتماع البغاث على كبير الصقورة، فجروه في الطريق وطافوا به الأسواق، وقطعوا بعض أعضائه، وأبدوا شواره وكبده بكل مكروه من أنواع الأذى، بأعظم ما ركب ميت، فلما سئموا تجراره، وأوقدوا له ناراً فخرقوه بها جرياً على ذميم عادتهم، في قبح المثلة. ولؤم القدرة، وانجلت الحروب في هذا اليوم لمصابه، عن أمر عظيم، وبلغ من جميع البرابرة الحزن عليه مناله، ورأت أن دماء أهل قرطبة جميعاً لا تعدله. من الكتاب المتين.
حبيب بن محمد بن حبيبمن أهل النجش من وادي المنصورة أخوه مالك النجشي، دباب الحلقات، ومراد أذناب المقربين.
حاله

كان على سجية غريبة من الإنقباض المشوب بالاسترسال، والأمانة مع الحاجة، بادي الزي واللسان، يحفظ الغريب من اللغة، ويحرك شعراً لا غاية وراءه في الركاكة. وله قيامٌ على الفقه وحفظ القرآن ونغمةٌ حسنة عند التلاوة. قدم الحضرة غير ما مرة، وكان الأستاذ، إمام الجماعة، وسيبويه الصناعة، أبو عبد الله ابن الفخار المعروف بالبيري، أبا مثواه ومحط طيته، يطلب منه مشاركته بباب السلطان في جراية يرغب في تسميتها، وحال يروم إصلاحها، فقصدني مصحباً منه رقعة تتضمن الشفاعة، وعرض على قصيدة من شعره يروم إيصالها إلى السلطان، فراجعت الأستاذ برقعة أثبتها على جهة الإحماض وهي: يا سيدي الذي أتشرف، وبالانتماء إلى معارفه أتميز، وصل إلى عميد حصن النجش، وناهض أفراخ ذلك العش، تلوح عليه مخائل أخيه المسمى بمالك، ويترجج به الحكم في الغاية في أمثال تلك المسالك، أشبه من الغراب بالغراب، وإنها لمن عجائب الماء والتراب، فألقى من ثنائكم الذي أوجبته السيادة والأبوة، ما يقصر عن طيب الألوة، وتخجل عند مشاهدته الغرر المجلوة، وليست بأولى بر أسديتم، ومكرمة أعدتم وأبديتم، والحسنات وإن كانت فهي إليكم منسوبة، وفي أياديكم محسوبة، وبلوت من الرجل طلعة نتفة، لم يغادر من صفات النبل صفة، حاضر بمسائل من الغريب، وقعد مقعد الذكي الأريب، وعرض على حاجته وغرضه، وطلب مني المشاركة، وهي مني لأمثالة مفترضة، ووعدني بإيقافي على قصيدة حبرها وأنسى بالخبر خبرها، وباكرني بها اليوم مباكرة الساقي بدهاقة، وعرضها على عرض التاجر نفائس أعلاقه، وطلب مني أن أهذب له ما أمكن من معانيها وألفاظها، وأجلو القذى عن ألحاظها، فنظرت منها إلى روضٍ كثرت أثغابه وجيشٍ من الكلام زاحم خواصه أو شابه، ورمت الإصلاح ما استطعت، فعجزت عن ذلك وانقطعت، ورأيت لا جدوى إلى ذلك الغرض، ما لم تبدل الأرض غير الأرض. وهذا الفن أبقى الله سيدي، ما لم يمت إلى الإجادة بسبب وثيق، وينتمي في الإحسان إلى مجد عريق، كان رفضه أحسن وأحمد، واطراحه بالفائدة أعود، وإذا اعتبره من عدل وقسط، وجده طريقين لا يقبل الوسط، فمنهما مال يقتنى ويدخر، وسافلٌ يهزء به ويسخر، والوسط ثقيل لا يتلبس به نبيل. قيل لبعضهم ألا تقول الشعر؟ فقال أريد منه ما لا يتأتى لي، ويتأتى لي منه ما لا أريده. وقال بعضهم، فلان كمغن وسط لا يجيد فيطرب، ولا يسيء فيسلي. فاقتضى نظركم الذي لا يفارق السداد والتوفيق، وإرشادكم الذي رافقة الهدى ونعم الرفيق، أن يشير عليه بالاستغناء عن رفعها، والامتساك عن دفعها، فهو أقوى لأمته، وأبقى على سكنته وسمته، وأستر لما لديه، قبل أن يمد أبو حنيفة رجليه، وإن أصمت عن هذا العذل مسامعه، وهفت به إلى النجاح مطامعه، فليعمد على الاختصار، فذو الإكنار جم العثار، وليعدل إلى الجادة عن ثنيات الطرق، ويجتزىء عن القلادة بما أحاط بالعنق، فإذا رتبها وهذبها، وأوردها من موارد العبارة أعذبها، توليت زفافها وإهداءها، وأمطت بين يدي الكفوء الكريم رداءها والسلام.
حمدة بنت زياد المكتبمن ساكني وادي الحمة بقرية بادي من وادي آش.
حالهاقال أبو القاسم، نبيلةً، شاعرةٌ، كاتبة، ومن شعرها وهو مشهور:
أباح الدمع أسراري برادي ... له في الحسن آثارٌ بوادي
فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يطرف بكل وادي
ومن بين الظبا مهات إنس ... سبت لبي وقد سلبت فؤادي
لها لحظٌ ترقده لأمرٍ ... وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في جنح السوادي
كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل في الحدادي
ومن غرائبها:
ولما أبى الواشون إلا قتالنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على آذاننا كل غارة ... وقلت حماتي عند ذاك وأنصاري
رميتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
وقال أبو الحسن بن سعيد في حمدة وأختها زينب: شاعرتان، أديبتان من أهل الجمال، والمال، والمعارف والصون، إلا أن حب الأدب، كان يحملها على مخالطة أهله، مع صيانة مشهورة، ونزاهةٍ موثق بها.
حفصة بنت الحاج الركوني

من أهل غرناطة، فريدة الزمان في الحسن، والظرف، والأدب واللوذعية، قال أبوالقاسم، كانت أديبة، نبيلة، جيدة البديهة، سريعة الشعر.
بعض أخبارهاقال الوزير أبو بكر بن يحيى بن محمد بن عمر الهمداني، رغبت أختي إلى حفصة أن تكتب شيئاً بخطها فكتبت.
يا ربة الحسن بل يا ربة الكرم ... غضى جفونك عما خطه القلم
تصفحيه بلحظ الود منعمة ... لا تحفلي بقبيح الخط والكلم
قال أبوالحسن بن سعيد، وقد ذكر أنهما باتا بحوز مؤمل في جنة له هنالك على ما يبيت عليه أهل الظرف والأدب، قال:
رعى الله ليلاً لم يرع بمذمم ... رعانا ووارانا بحوز مؤمل
وقد نفحت من نحو نجد أريجه ... إذا نفحت هبت بريح القرنفل
وغرد قمريٌ على الدوح وانثنى ... قضيبٌ من ريحان من فوق جدول
يرى الروض مسروراً بما قد بدا له ... عناق وضم وارتشاف مقبل
فقالت:
لعمرك ما سر الرياض وصالنا ... ولكنه أبدى لنا الغل والحسد
ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ... ولا مدح القمري الأ لما وجد
فلا تحسبن الظن الذي أنت أهله ... فما هو في كل المواطن بالرشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمرٍ سوى كي ما يكون لنا رصد
قال أبوالحسن بن سعيد، وبالله ما أبدع ما كتبت به إليه وقد بلغها أنه علق بجارية سوداء أسعت له من بعض القصور، فاعتكف معها أياماً وليالي، بظاهر غرناطة، في ظل ممدود، وطيب هوى مقصور وممدود:
يا أظرف الناس قبل حالٍ ... أوقعه نحوه القدر
عشقت سوداء مثل ليل ... بدائع الحسن قد ستر
لا يظهر البشر في دجاها ... كلا ولا يبصر الخفر
بالله قل لي وأنت أدرى ... بكل من هام في الصور
من الذي هام في جنان ... لا نوار فيه ولا زهر
فكتب إليها بأظرف اعتذار، وألطف أنوار:
لا حكم إلا لآمر ناهٍ ... له من ذنبه معتذر
له محيا به حياتي ... أعيذ مداه بالسور
كصحبة العيد في ابتهاج ... وطلعةٍ الشمس والقمر
سعده لم أمل إليه إلا ... اطرافاً له خبر
عدمت صبحي فاسود عش ... قي وانعكس الفكر والنظر
إن لم تلح يا نعيم رو ... حي فكيف لا تفسد الفكر
قال، وبلغنا أنه خلا مع حاتم وغيره من أقاربهم، لهم طربٌ ولهو، فمرت على الباب مستترة. وأعطت البواب بطاقةً فيها مكتوب:
زائر قد أتى بجيد غزال ... طامع من محبه بالوصال
أتراكم بإذنكم مسعفيه ... أم لكم شاغلٌ من الأشغال
فلما وصلت الرقعة إليه، قال ورب الكعبة، ما صاحب هذه الرقعة إلا الرقيعة حفصة، ثم طلبت فلم توجد. فكتب إليها راغباً في الوصال والأنس الموصول:
أي شغل عن الحبيب يعوق ... يا صاحباً قد آن منه الشروق
صل وواصل فأنت أشهى إلينا ... من جميع المنى فكم ذا تشوق
بحياة الرضى يطيب صبوحٌ ... عرفاً إن جفوتنا أو غبوق
لا وذل الهوى وعز التلاقي ... واجتماع إليه عز الطريق
وذكرها الأستاذ في صلته فقال: وكانت أستاذة وقتها. وانتهت إلى أن علمت النساء في دار المنصور، وسألها يوماً أن تنشده ارتجالا فقالت:
أمنن على بصك ... يكون للدهر عدة
تخط يمناك فيه ... الحمد لله وحده
قال: فمن عليها، وحرز لها ما كان لها من ملك.
وفاتها: قالوا: توفيت بحضرة مراكش في آخر ثمانين أو إحدى وثمانين وخمسمائة.
الخضر بن أحمد

بن الخضر بن أبي العافية
من أهل غرناطة، يكنى أبا القاسم.
حاله

من كتاب عائد الصلة، كان رحمه الله صدراً من صدور القضاة، من أهل النظر والتقييد، والعكوف على الطلب، مضطلعاً بالمسائل، مسائل الأحكام، مهتدياً لمظنات النصوص، نسخ بيده الكثير، وقيد على الكثير من المسائل، حتى عرف فضله، واستشاره الناس في المشكلات. وكان بصيراً بعقد الشروط، ظريف الخطاب، بارع الأدب، شاعراً مكثراً، مصيباً غرض الإجادة. وتصرف في الكتابة السلطانية، ثم في القضاء، وانتقل في الولايات الرفيعة النبيهة. وجرى ذكره في التاج المحلي بما نصه: فارس في ميدان البيان. وليس الخبر كالعيان، وحامل لواء الإحسان، لأهل هذا الشان، رفل في حلل البدائع فسحب أذيالها، وشعشع أكواس العجائب فأدار جرياً لها، واقتحم على الفحول أغيالها، وطمح إلى الغاية البعيدة فنالها، وتذوكرت المعصلات فقال أنا لها. عكف واجتهد، وبرز إلى مقارعة المشكلات ونهد، فعلم وحصل، وبلغ الغاية وتوصل، وتولى القضاء، فاضطلع بأحكام الشرع. وبرع في معرفة الأصل والفرع، وتميز في المسائل بطول الباع، وسعة الذراع، فأصبح صدراً في مصره، وغرة في صفحة عصره، وسيمر من بديع كلامه، وهثات أقلامه، وغرر إبداعه ودرر اختراعه، ما يستنير لعلم الحليم، وتلقى له البلغاء يد التسليم.
شعرهقال في غرض الحكمة والأمثال:
عز الهوى نقصان والرأي الذي ... ينجيك منه إذا ارتأيت مروما
فإذا رأيت الرأي يتبع الهوى ... خالف وفاقهما تعد حكيما
وكيف تخاف من الحليم مراجياً ... خف من نصيحك ذي السفاهة شوما
واحذر معادات الرجال توقياً ... منهم ظلوماً كنت أو مظلوما
فالناس إما جاهلٌ لا يتقى ... عاراً ولا يخشى العقوبة لؤما
أو عاقلٌ يرمي بسهم مكيدةٍ ... كالقوس ترسل سهمها مسموما
فاحلم عن القسمين تسلم منهما ... وتسد فتدعي سيداً وحليما
ودع المعادات التي من شأنها ... أن لا تديم على الصفاء قديما
أبت المغالبة الوداد فلا تكن ... ممن يغالب ما حييت نديما
وإذا منيت بقربه فاخفض له ... جناح الذل واخضع ظاعناً ومقيما
إن الغريب لكالقضيب محاير ... إن لم يمل للريح عاد رميما
وارع الكفاف ولا تجاوز حده ... ما بعده يجنى عليك هموما
وابسط يديك متى غنيت ولا تكن ... فيما يكون به المديح ذميما
وإذا بذلت فلا تبذر إن ذا التب ... ذير يومئذ أخوه رجيما
وعف الورود إذا تزاحم موردٌ ... واحسب ورود الماء منه حميما
واصحب كريم الأصل ذا فضلٍ فمن ... يصحب لئيم الأصل عد لئيما
فالفضل من لبس الكرام فمن عرا ... عنه فليس لما يقول كريما
إن المقارن بالمقارن يقتدي ... مثلٌ جرى جرى الرياح قديما
وجماع كل الخير في التقوى فلا ... تعدم حلي التقوى تعد عديما
وقال يصف الشيب من قصيدة، وهي طويلة، أولها:
لاح الصباح صباح شيب المفرق ... فاحمد سراك نجوت مما تتقى
هي شيبة الإسلام فاقدر قدرها ... قد أعتقتك وحق قدر المعتق
خطت بفودك أبيضاً في أسودٍ ... بالعكس من معهود خطٍ مهرق
كالبرق راع بسيفه طرف الدجا ... فأعار دهمته شتات الأبلق
كالفجر يرسل في الدجنة خيطه ... ويجر ثوب ضيائه بالمشرق
كالماء يستره بقعر طحلب ... فتراه بين خلاله كالزئبق
كالحية الرقشاء إلا أنه ... لا يبرأ الملسوع منه إذا رقى
كالنجم عد لرجم شيطان الصبا ... يا ليت شيطان الصبا لم يحرق
كالزهر إلا أنه لم يستنم ... إلا بغصن ذابلٍ لم يورق
كتبسم الزنجي إلا أنه ... يبكي العيون بدمعه المترقرق
وكذا البياض قذى العيون ولا ترى ... للعين أبكي من بياض المفرق

ما للغواني وهو لون خدودها ... يجزعن من لألائه المتألق
وأخلته لمع السيوف ومن يشم ... لمع السيوف على المفارق يفرق
هو ليس ذاك ولا الذي أنكرته ... فكن خائفاً ما خفن منه واتق
داءٌ يعز على الطبيب دواؤه ... ويضيع خسرا فيه مال المنفق
لكنه والحق أصدق مقولٍ ... شين المسيء الفعل زين المتقى
ومن مقطوعاته قوله:
أقلى فما الفقر بالمرء عارٌ ... ولا دار من يألف الهون دارا
وما يكسب العز إلا الغنى ... غنى النفس فاتخذه شعارا
وما اجتمع الشمل في غيره ... فيحسن إلا وساء انتشارا
فدهر غيرك لا تنظرن ... فيألم قلبك منه انكسارا
وهزي إليك بجذع الرضى ... تساقط عليك الأماني ثمارا
وقال أيضاً:
العلم حسنٌ وزين ... والجهل قبحٌ وشين
والمال عزٌ وعيشٌ ... والفقر ذلٌ وحين
والناس أعضاء جسم ... فمنهم أستٌ وعين
هذي مقالة حق ... ما في الذي قلت مين
وقال أيضاً:
إن أراك الزمان وجهاً عبوساً ... فتلقاه من بعد ذاك طلقا
لا يهمنك حاله إن في طر ... فة عينٍ ترتاح فيه وتشقى
أي عز رأيت أو أي ذل ... لذوي الحالتين في الدهر يبقى
سل نجوم الدجى إذا ما استنارت ... ما الذي في وقت الظهيرة تلقى
وتفكر وقل بغير ارتيابٍ ... كل شيء يفنى وربك يبقى
وقال أيضاً:
لو أن أيام الشباب تعود لي ... عود النضارة للقضيب المورق
ما إن بكيت على شبابٍ قد ذوى ... وبقيت منتظراً لآخر مونق
وقال في القلم:
لك القلم الأعلى الذي طال فخره ... وإن لم يكن إلا قصيراً مجوفا
تعلم منه الناس أبدع حكمة ... فها هو أمضى ما يكون محرفا
وقال في التشبيه:
كأنما السوسن الغض الذي افتتح ... ت منه كمائمه المبيضة اللون
بنان كف فتاةٍ قط ما خضبت ... تلقى بها من يراها خيفة العين
وقال يعرض بقوم من بني أرقم:
إذا ما نزلت بوادي الآشى ... فقل رب من لدغه سلم
وكيف السلامة في موطنٍ ... به عصبةٌ من بني أرقم
وقال مورياً بالفقه. وهو بديع:
لي دينٌ على الليالي قديمٌ ... ثابت الرسم منذ خمسين حجة
أقاعداً بالحكم عليها أم لها ... في تقادم الدهر حجة
ونختم مقطوعاته بقوله:
نجوت بفضل الله مما أخافه ... ولم لا وخير العالمين شفيع
وما ضعت في الدنيا بغير شفاعة ... فكيف إذا كان الشفيع أضيع
وقال أيضاً:
عليك بتقوى الله فيما ترومه ... من الأمر تخلص بالمرام وبالأجر
ولا ترج غير الله في نيل حاجةٍ ... ولا دفع ضرٍ في سرار ولا جهر
فمن أم غير الله أشرك عاجلا ... وفارقه إيمانه وهو لا يدر
وفاته: توفي قاضياً ببرجة، وسيق إلى غرناطة فدفن بباب إلبيرة عصر يوم الأربعاء آخر يوم من ربيع عام خمسة وأربعين وسبعمائة.
خالد بن أبي خالد البلويخالد بن عيسى بن إبراهيم بن أبي خالد البلوي من أهل قنتورية، من حصون وادي المنصورة.
حالههذا الرجل من أهل الفضل والسذاجة، كثير التواضع، منحط في ذمة التخلق، نابه الهيئة، حسن الأخلاق، جميل العشرة، محبٌ في الأدب، قضى ببلده وبغيره، وحج وقيد رحلته في سفر، وصف فيه البلاد ومن لقي، بفصول جلب أكثرها من كلام العماد الأصبهاني، وصفوان وغيرهما، من ملح. وقفل إلى الأندلس، وارتسم في تونس في الكتابة عن أميرها زماناً يسيراً، وهو الآن قاض ببعض الجهات الشرقية.
وجرى ذكره في الرحلة التي صدرت عني في صحبة الركاب السلطاني عند تفقد البلاد الشرقية، في فصل حفظه الناس، وأجروه في فكاهاتهم وهو:

حتى إذا الفجر تبلج. والصبح من باب المشرق تولج، عدنا وتوفيق الله قائدٌ، وكنفنا من عنايته صلةٌ وعائدٌ، تتلقى ركابنا الأفواج، وتحيينا الهضاب والفجاج إلى قنتورية، فناهيك من مرحلة قصيرة كأيام الوصال، قريبة البكر من الآصال، كان المبيت بإزاء قلعتها السامية الارتفاع، الشهيرة الامتناع، وقد برز أهلها في العديد والعدة، والاحتفال الذي قدم به العهد على طول المدة، صفوفاً بتلك البقعة خيلاً ورجلا كشطرنج الرقعة، لم يتخلف ولدٌ عن والدٍ، وركب قاضيها ابن أبي خالد، وقد شهرته النزعة، الحجازية، وقد لبس من الحجازي، وأرخى من البياض طيلسانا، وتشبه بالمشارقة شكلاً ولسانا، وصبغ لحيته بالحناء والكتم، ولاث عمامته واختتم، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم، فداعبته مداعبة الأديب للأديب، والأريب للأريب، وخيرته بين خصلتين، وقلت نظمت مقطوعتين، إحداهما مدحٌ، والأخرى قدحٌ، فإن همت ديمتك، وكرمت شيمتك، فللذين أحسنوا الحسنى. وإلا فالمثل الأدنى. فقال: انشدني لأرى على أي أمري أتيت، وأفرق بين ما جنيتني وما جنيت، فقلت:
قالوا وقد عظمت مبرة خالد ... قاري الضيوف بطارفٍ وبتالد
ماذا تممت به فجئت بحجة ... قطعت بكل مجادل ومجالد
أن يفترق نسبٌ يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناه مقام الوالد
وأما الثانية فيكفي من البرق شعاعه، وحسبك من شر سماعه. ويسير التنبيه كافٍ للنبيه، فقال، لست إلى قراي بذي حجة، وإذا عزمت فأصالحك على دجاجة، فقلت ضريبةٌ غريبةٌ، ومؤنةٌ قريبةٌ، عجل ولا تؤجل، وإن انصرم أمد النهر فأسجل، فلم يكن إلا كلا ولا، وأعوانه من القلعة تنحدر، والبشر منهم بقدومها يبتدر، يزفونها كالعروس فوق الرؤوس، فمن قائل يقول أمها يمانية، وآخر يقول أخوها الخصي الموجه إلى الحضرة العلية، وأدنوا مرابطها من المضرب بعد صلاة المغرب، وألحقوا في السؤال، وتشططوا في طلب النوال، فقلت يا بني اللكيعة جئتم ببازي، بماذا كنت أجازي، فانصرفوا وما كادوا يفعلون، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، حتى إذا سلت لذبحها المدى، وبلغت من طول أعمارها المدى، قلت يا قوم ظفرتم بقرة العين، وابشروا باقتراب اللقاء، فقد ذبحت لكم غراب البين.
ولقد بلغني أنه لهذا العهد بعد أن طال المدى، يتظلم من ذلك، وينطوي من أجله على الوجدة، فكتبت إليه: وصل الله عزة الفقيه النبيه، العديم النظير والتشبيه، وارث العدالة عن عمه وابن أبيه، في عزة تظلله، وولاية تتوج جاهه وتكاله.
داود بن سليمان

بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمر
ابن حوط الله الأنصاري الحارثي الأندي يكنى أبا سليمان.
أوليتهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، من بيت علم وعفاف، أصله من أندة، حصن بشرقي الأندلس، وانتقل أبو سليمان هذا مع أخيه أبي محمد إلى حيث يذكر بعد.
حالهقال ابن عبد الملك، كان حافظاً للقراءة، عارفاً بإقراء القرآن بها، أتقن ذلك عن أبيه، ثم أخيه كبيره أبي محمد، محدثاُ متسع الرواية، شديد العناية بها، كثير السماع، مكثراً، عدلاً، ضابطاً لما ينقله، عارفاً بطرق الحديث، أطال الرحلة في بلاد الأندلس، شرقها وغربها، طالبا للعلم بها، ورحل إلى سبتة وغيرها، من بلاد الأندلس العدوية، وعني بلقاء الشيوخ كباراً وصغاراً، والأخذ منهم، أتم عناية، وحصل له بذلك ما لم يحصل لغيره، وكان فهيماً بصيراً بعقد الشروط، حاذقاً في استخراج نكتها، تلبس بكتبها زماناً طويلاً بمسجد الوحيد من مالقة، وكان محباً في العلم وأهله، حريصاً على إفادته أياهم، صبوراً على سماع الحديث، حسن الخلق طيب النفس، متواضعاً، ورعاً، منقبضاً، لين الجانب، مخفوض الجناح، حسن الهدى، نزيه النفس، كثير الحياء، رقيق القلب، تعدد الثناء عليه من الجلة.
قال ابن الزبير، كان من أهل العدالة والفضل، وحسن الخلق، وطيب النفس والتواضع، وكثرة الحياء. وقال ابن عبد المجيد، كان ممن فضله الله بحسن الخلق والحياء على كثير من العلماء. وقال أبو عبد الله بن سلمة مثل ذلك. وقال ابن... بمثله.
مشيخته

قال الأستاذ، أقرأ بمرسيه، وأخذ بها، وبقرطبه، ومالقة، وإشبيلية، وغرناطة وسبتة، وغيرها من بلاد الأندلس. وغرب العدوه، واعتناؤه يعينه وأخاه بباب الرواة، والأخذ عن الشيوخ، حتى اجتمع لهما ما لم يجتمع لأحد من أهل عصرهما، فمن ذلك أبوهما أبو داود، وأبو الحسن صالح بن يحيى بن صالح الأنصاري، وأبوالقاسم بن حسن، وأبوعبد الله بن حميد، وأبو زيد السهيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عراق الغافقي، وأبوالعباس يحيى بن عبد الرحمن المجريطي، وعن ابن بشكوال، وأخذ عن أبي بكر بن الجد، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي محمد ابن عبد الله، وأبي عبد الله بن الفخار الحافظ، وأبي العباس بن مضاء، وأبي محمد ابن بونة، وأبي محمد بن عبد الصمد بن يعيش الغساني، وأبي بكر بن أبي حمزة، وأبي جعفر بن حكم الزاهد، وأبي خالد بن يزيد بن رفاعة، وأبي محمد عبد المنعم ابن الفرس، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي عبد الله بن عروس، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي محمد بن جمهور، وأبي بكر بن النيار، وأبي الحسن بن محمد بن عبد العزيز الغافقي الشقوري، وأبي القاسم الحوفي القاضي، وأبي بكر بن بيبش بن محمد ابن بيبش العبدري، وأبي الوليد بن جابر بن هشام الحضرمي، وأبي بكر ابن مالك الشريشي، وأبي عبد اليسر الجزيري، وأبي بكر بن عبد الله السكسكي وأبي الحجاج ابن الشيخ الفهري، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
قضاؤه وسيرته فيهقال ابن الربيع لازمت ابني حوط الله، فكان أبو محمد يفوق أخاه والناس في العلم، وكان أبو سليمان يفوق أخاه والناس في الحلم. واستقضى بسبتة والمرية والجزيرة الخضراء، وقام قاضياً بها مدة، ثم نقل منها إلى قضاء بلنسية آخر ثمان وستمائة، ثم صرف بأبي القاسم بن نوح، وقدم على القضاء بمالقة في حدود إحدى عشر وستمائة، فشكرت أحواله كلها، وعرف في قضائه بالنزاهة. قال أبو عبد الله بن سلمة، كان إذا حضر خصوم، ظهر منه من التواضع ووطأة الأكناف، وتبيين المراشد والصبر على المداراة، والملاطفة، وتحبيب الحق، وتكريه الباطل، ما يعجز عنه، ولقد حضرته، وقد أوجبت الأحكام عنده الحدود على رجل، فهاله الأمر، وذرفت عيناه، وأخذ يعتب عليه ويؤنبه على أن ساق نفسه إلى هذا، وأمر بإخراجه ليحد بشهود في موضع آخر لرقة نفسه، وشدة إشفاقه، واستمرت ولايته بمالقة إلى أن توفي.
مولدهببلدة أندة سنة ستين وخمسمائة
وفاتهقال أبو عبد الرحمن بن غالب، توفي إثر صلاة الصبح من يوم السبت سادس ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وستمائة، ودفن إثر صلاة العصر يوم وفاته، بسفح جبل فارة، في الروضة المدفون بها أخوه أبو محمد، فأتبعه الناس ثناءً جميلا، ذكر، واختلفوا في جنازته، وخرج إليها النساء، والصبيان داعين متبكين.
رضوان النصري

الحاجب المعظم
حسنة الدولة النصرية، وفخر مواليها.
أوليتهرومي الأصل. أخبرني أنه من أهل القلصادة، وأن انتسابه يتجاذبه القشتالية من طرف العمومة، والبرجلونية من طرف الخؤولة، وكلاهما نبيه في قومه. وأن أباه ألجأه الخوف بدم ارتكبه في محل أصالته من داخل قشتالة إلى السكني بحيث ذكر، ووقع عليه سباءٌ في سن الطفولية، واستقر بسببه بالدار السلطانية، ومحض إحراز رقه، السلطان دايل قومه، أبو الوليد المار ذكره، فاختص به، ولازمه قبل تصيير الملك إليه، مؤثراً له مغتبطاً بمحائل فضله، وتماثل استقامته، ثم صير الملك إليه فتدرج في معارج حظوته، واختص بتربية ولده، وركن إلى فضل أمانته، وخلطه في قرب الجوار بنفسه، واستجلى الأمور المشكلة بصدقه، وجعل الجوائز السنيه لعظماء دولته على يده، وكان يوجب حقه، ويعرف فضله، إلى أن هلك، فتعلق بكنف ولده، وحفظ شمله، ودبر ملكه، فكان آخر اللخف، وستراً للحرم، وشجىً للعدا وعدة في الشدة، وزيناً في الرخاء، رحمة الله عليه.
حاله وصفته

كان هذا الرجل مليح الشيبة والهيئة. معتدل القد والسحنة، مرهب البدن. مقبل الصورة، حسن الخلق، واسع الصدر، أصيل الرأي، رصين العقل، كثير التجمل، عظيم الصبر، قليل الخوف من الهيعات، ثابت القدم في الأزمات، ميمون النقيبة، عزيز النفس، عالي الهمة، بادي الحشمة، آية في العفه، مثلاً في النزاهة، ملتزماً للسنة، دؤباً على الجماعة، جليس القبلة، شديد الإدراك مع السكون، ثاقب الذهن مع إظهار الغفلة، مليح الدعابة مع الوقار والسكينة، مستظهراً لعيون التاريخ، ذاكراً للكثير من الفقه والحديث، كثير الدالة على تصوير الأقاليم وأوضاع البلاد، عارفاً للسياسة، مكرماً للعلماء، متركاً للهوادة، قليل التصنع، نافراً من أهل البدع، متساوي الظاهر والباطن، مقتصداً في المطعم والملبس.
مكانته من الدينأتفق على أنه لم يعاقر مسكراً قط ولا زن بهناة، ولا لطخ بريبة، ولا وصم بخلة تقدح في منصب، ولا باشر عقاب جاز، ولا أظهر شفاء من غائظ، ولا اكتسب من غير التجر والفلاحة مالا.
آثارهأحدث المدرسة بغرناطة. ولم تكن بها بعد، وسبب إليها الفوائد ووقف عليها الرباع المغلة، وانفرد بمنقبها، فجاءت نسيجة وحدها بهجة وصدراً وظرفاً وفخامة، وجلب الماء الكثير إليها من النهر، فأبد سقيه عليها، وأدار السور الأعظم على الربض الكبير المنسوب للبيازين، فانتظم منه النجد والغور، في زمان قريب، وشارف التمام إلى هذا العهد، وبنى من الأبراج المنيعة في مثالم الثغور وروابي مطالعها المنذرة، ما ينيف على أربعين برجا، فهي ماثلة كالنجوم ما بين البحر الشرقي من ثغر بيرة إلى الأحواز الغريبة، وأجرى الماء بجبل مورور، مهتدياً إلى ما خفي على من تقدمه، وأفذاذ أمثال هذه الأنقاب يشق تعداده.
جهاده: غزا في السادس والعشرين من محرم عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة بجيش مدينة باغة، وهي ما هي من الشهرة، وكرم البقعة، فأخذ بمخنقها، وشد حصارها وعاق الصريخ عنها، فتملكها عنوة، وعمرها بالحماة ورتبها بالمرابطة، فكان الفتح فيها عظيما، وفي أوائل شهر المحرم من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة غزا بالجيش عدو المشرق، وطوى المراحل مجتازاً على بلاد قشتالة، لورقة ومرسية، وأمعن فيها، ونازل حصن المدور، وهو حصن أمن غائلة العدو مكتنفٌ بالبلاد، مد بالبسيني، موضوعٌ على طية التجارة، وناشبه القتال، فاستولى عنوة عليه منتصف المحرم من العام المذكور، وآب مملوء الحقائب سبياً وغنماً. وغزواته كثيرة، كمظاهرة الأمير الشهير أبي مالك على منازلة جبل الفتح، وما اشتهر عنه فيه من الجد والصبر، وأوثر عنه من المنقبة، الدالة على صحة اليقين، وصدق الجهاد، إذ أصابه سهم في ذراعه وهو يصلي، فلمي شغله عن صلاته، ولا حمله توقع الإغارة على إبطال عمله.

ترتيب خدمته وما تخلل عن ذلك من محنته: لما استوثق أمر الأمير المخصوص بتربيته، محمد ابن أمير المسلمين أبي الوليد نصر، وقام بالأمر وكيل أبيه الفقيه أبو عبد الله محمد بن المحروق، ووقع بينه وبين المترجم عهدٌ على الوفاء والمناصحة، ولم يلبث أن نكبه وقبض عليه ليلة كذا من رجب عام ثمانية وعشرين وسبعمائة، وبعثه ليلا إلى مرسي المنكب، واعتقله في المطبق من قصبتها بغياً عليه، وارتكب فيه أشنوعة أساءت به العامة، وأنذرت باختلال الحال، ثم أجازه البحر، فاستقر بتلمسان، ولم يلبث أن قتل المذكور، وبادر سلطانه الموتور بفرقته عن سدته، فاستدعاه فلحق محله من هضبة الملك متملياً ما شاء من عز وعناية، فصرفت إليه المقاليد، ونيطت به الأمور، وأسلم إليه الملك، وأطلقت يده في المال، واستمرت الأحوال إلى عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، والتأث الأمر وظهر من سلطانه التنكر عليه، فعاجله الحمام فخلصه الله منه، وولى أخوه أبو الحجاج من بعده، فوقع الإجماع على اختياره للوزارة أوائل المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، فرضي الكل به، وفرحت العامة والخاصة للخطة، لارتفاع المنافسات بمكانه، ورضي الأضداد بتوسطه، وطابت النفوس بالأمن من غائلته، تفولى الوزارة وسحب أذيال الملك، وانفرد بالأمر واجتهد في تنفيذ الأحكام، وتقدم الولاة، وجواب المخاطبات، وقواد الجيوش، إلى ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب عام أربعين وسبعمائة، فنكبه الأمير المذكور نكبة ثقيلة البرك، هائلة الفجأة من غير زلة مأثورة، ولا سقطة معروفة، إلا ما لا يعدم بأبواب الملوك من شرور المنافسات، ودبيب السعايات الكاذبة، وقبض عليه بين يدي محراب الجامع من الحمراء إثر صلاة المغرب، وقد شهر الرجال سيوفهم فوقه يحفون به، ويقودونه إلى بعض دور الحمراء، وكبس ثقات السلطان منزله، فاستوعبوا ما اشتمل عليه من نعمة، وضم إلى المستخلص عقاره، وسوغ الخبر عظيم غلاته، ثم نقل بعد أيام إلى قصبة ألمرية محمولا على الظهر، فشد بها اعتقاله، ورتب الحرس عليه إلى أوائل شهر ربيع الثاني من عام أحد وأربعين وسبعمائة، فبدا للسلطان في أمره واضطر إلى إعادته، ووجد فقد نصحه، وأشفق لما عدم من أمانته، والانتفاع برأيه، وعرض عليه بما لنوم الكف والإقصار عن ضره، فعفا عنه، وأعاده إلى محله من الكرامة، وصرف عليه من ماله، وعرض الوزارة فأباها، واختار برد العافية، وأنس لذة التخلي، فقدم لذلك من سد الثغور، فكان له اللفظ، ولهذا الرجل المعنى، فلم يزل مفزعاً للرأي، محلى في العظة على الولاية، كثير الآمل والغاشي، إلى أن توفي السلطان المذكور غرة شوال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، فشعب الثأي، وحفظ البلوى، وأخذ البيعة لولده سلطاننا الأسعد أبي عبد الله، وقام خير قيام بأمره، وجرى على معهود استبرائه. وقد تحكمت التجربة، وعلت السن، وزادت أنة الخشية، وقربت من لقاء الله الشقة، فلا تسأل عما حط من خل، وأفاض من عدل، وبذل من مداراة، وحلول عقد السلم، وسد أمور الجند على القل، ودامت حاله متصلة على ما ذكره، وسنه تتوسط عشر التسعين إلى أن لحق بربه. وقد علم الله أني لم يحملني على تقرير سيرته، والإشادة بمنقبته داعيةٌ، وإنما هو قول بالحق، وتسليم لحجة الفضل، وعدل في الوصف، والله عز وجل يقول: وإذا قلتم فأعدلوا
وفاتهفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان من عام ستين وسبعمائة، طرق منزله بعد فراغه من إحياء ثلث الليل، متبذل اللبسة، خالص الطوية، مقتضياً للأمن مستشعراً للعافية، قائماً على المسلمين بالكل حاملا للعظيمة، وقد بادره الغادرون بسلطانه، فكسروا غلقه بعد طول معالجة، ودخلوا عليه وقتلوه بين أهله وولده، وذهبوا إلى الدايل برأسهن وفجعوا الإسلام، بالسائس الخصيب المتغاضي، راكب متن الصبر، ومطوق طوق النزاهة والعفاف، وآخر رجال الكمال والستر. الضافي على الأندلس، ولوئم من الغدبين رأسه وجسده، ودفن بإزاء لحود مواليه من السبيكة ظهراً، ولم يشهد جنازته إلا القليل من الناس، وتبرك بعد بقبره. وقلت عند الصلاة عليه، أخاطبه دون الجهر من القول لمكان التقية:
أرضوان لا توحشك فتكة ظالم ... فلا موردٌ إلا سيتلوه مصدر
ولله سرٌ في العباد مغيبٌ ... يشهد بخافيه القضاء المقدر

سميك مرتاحٌ إليك مسلم ... عليك ورضوان من الله أكبر
فحث المطاليس النعيم منغصٌ ... ولا العيش في دار الخلود مكدر
زاوي بن زيري

بن مناد الصنهاجي
الحاجب المنصور، يكنى أبا مثنى.
أوليتهقد مر ما حدث بين أبيه زيري وبين قرابته من ملوك إفريقية، وباديس بن منصور من المشاحنة التي أوجبت مخاطبة المظفر بن أبي عامر في اللحاق بالأندلس، وإذنه في ذلك. فدخل الأندلس، منهم على عهده جماعة وافرة من مساعير الحروب وآثار الحتوف، مع شيخهم هذا وأميرهم، ودخل منهم معه أبناء أخيه ماكسن وحباسة وحبوس، وقاموا في جملة المظفر، وزاوي مخصوصٌ باسم الحجابة، فلما اختل بناء الخلافة، بمحمد بن عبد الجبار الملقب بالمهدي، أذلهم وتنكر لهم، وأشاع بينهم وبين أمثالهم من البرابر، المغايرة، فكان ذلك سبب الفتنة التي يسميها أهل الأندلس بالبربرية، فانحاشوا، ونفروا عهده، وبايعوا سليمان بن الحكم، واستعانوا بالنصارى، وحركوا على أهل قرطبة خصوصاً، وعلى أهل الأندلس عموماً، ما شاء الله من استباحة، وإهلاك النفوس، وغلبوا على ملك الأندلس، وما وراء البيضة، واقتسموا أمهات الأقطار، وانحازوا إلى بلاد تضمهم، فانحازت صنهاجة مع رئيسهم المذكور إلى غرناطة، فأووا إليها، واتخذوها ملجأ، وحماها زاوي المذكور، وأقام بها ملكاً، وأثل بها سلطاناً لذويه، فهو أول من مدن غرناطة، وبناها وزادها تشييداً ومنعة، واتصل ملكه بها، وارتشحت عروقه، إلى أن كان من ظهوره بها وأحوازها، على عساكر الموالي، الراجعين بإمامهم المرتضى إلى قرطبة، البادين بقتاله، والآخذين بكظمه، بما تقرر ويتقرر في اسم المرتضى، من باب المحمدين بحول الله.
وكان زاوي كبش الحروب، وكاشف الكروب، خدم قومه شهير الذكر أصيل المجد، المثل المضروب في الدهاء، والرأي، والشجاعة، والأنفة، والحرم. قال بعضهم، أحكم التدبير، والدولة تسعده، والمقادر تنجده، وحكيت له في الحروب حكايات عجيبة.
بعض أخباره في الرأيقال أبو مروان، وقد مر ذكر الفتنة البربرية، لما خلص ملأ القوم، لتشاور أميرهم وهم فرض في خروجهم من قرطبة، عند ما انتهوا إلى فحص هلال، واجتمعوا على التأسي، وضرب لهم زعيمهم زاوي بن زيري بن مناد الصنهاجي، مثلا بأرماح خمسة جمعها مشدودة، ودفعها لأشد من حضره منهم، وقال، إجهد نفسك في كسرها كما هي وأغمزها، فعالج ذلك فلم يقدر عليه، فقال له حلها وعالجها رمحاً رمحاً، فلم يبعد عليه دقها، فأقبل على الجماعة، فقال: هذا مثلكم يا برابرة، إن جمعتم لم تطاقوا، وإن تفرقتتم لم تبقوا، والجماعة في طلبكم، فانظروا لأنفسكم وعجلوا، فقالوا نأخذ بالوثيقة، ولا نلقى بأيدينا إلى التهلكة، فقال هم بايعوا لهذا القرشي سليمان، يرفع عنكم الأنفة في الرياسات، وتستميلون إليه العامة بالجنسية، ففعلوا، فلما تمت البيعة، قال إن مثل هذا الحال لا يقوى على أهل الإستطالة، فيقيد له رئيس كل قبيله منكم، قبيلة يتكفل السلطان بتقويمهم، وأنا الكفيل بصنهاجة، قال، وامتارت بطون القبائل على أرحامها، وقبائلها إلى أفخاذها وفصائلها، فاجتمع كل فريق منهم على تقديم سيده، فاجتمعت صنهاجة على كبيرها زاوي، ولم تزل تلك القبائل المتألفة بالأندلس لطاعة أميرها، المنادين له إلى ان أورثوهم الإمارة.
التوقيع قالوا، ولما نازله المرتضى الذي أجلب به الموالي العامريين بظاهر غرناطة، خاطبه بكتاب يدعوه فيه إليه طاعته، وأجمل موعده فيه، فلما قرىء على زاوي قال لكاتبه، اكتب على ظهر رقعته: قل يا أيها الكافرون السورة. فلما بلغت المرتضى أعاد عليه كتاباً يعده فيه بوعيده، فلما قرىء على زاوي، قال رد عليه: ألها كم التكاثر إلى آخرها، فازداد المرتضى غيظاً، وناشبه القتال، فكان الظهور لزاوي.
قال المؤرخ، واقتتلت صهناجه مع أميرهم مستميتين لما دهمهم من بحر العساكر، على انفرادهم وقلة عددهم، إلى أن انهزم أهل الأندلس، وطاروا على وجوههم، مسلموهم وإفرنجهم، لا يلوون على أحد، فأوقع البرابر بهم السيف، ونهبوا تلك المحلات، واحتووا على مالا كفاء له اتساعاً وكثرة، ظل الفارس يجيء من أتباع المنهزمين ومعه العشرة، ولا تسل عما دون ذلك من فاخر النهب، وخير الفساطيط، ومضارب الأمراء والرؤساء.

قال ابن حيان: فحل بهذه الوقيعة على جماعة الأندلس مصيبةٌ أنست ما قبلها، ولم يجتمع لهم جمعً بعدها وفروا بإدبار، وباءوا بالصغار.
منصرفه عن الأندلسقال المؤرخ، ولهول ما عاينه زاوي من اقتدار أهل الأندلس في أيام تلك الحروب وجعاجعهم، وإشرافهم على التغلب عليه، هان سلطانه عنده بالأندلس، وخرج عنها نظراً إلى عاقبة أمره، ودعا بجماعة من قومه لذلك فعصوه، وركب البحر بجيشه وأهله، فلحق بإفريقية وطنه. قال، فكان من أغرب الأخبار في الدولة الحمودية انزعاج ذلك الشيخ زاوي عن سلطانه بعد ذلك الفتح العظيم الذي ناله على أهل الأندلس، وعبوره البحر، بعد أن استأذن ابن عمه المعز بن باديس، فأذن له. وحرص بنو عمه بالقيروان، على رجوعه لهم لحال سنه، وتقريبهم يومئذ من مثله من مشيختهم لمهلك جميع إخوتهم، وحصوله هو على مقرر بني مناد الغريب الشأن، في أن لا تحجب عنهم نساؤهم وكن زهاء ألف امرأة في ذلك الوقت، هن ذوات محرم من بنات أخوته وبناتهن وبين بنيهن. وكان رحيل زاوي عن الأندلس سنة ستة عشر وأربعمائة. قال ابن حيان، وأخبار هذا الداهية كثيرة، وأفعاله ونوادره مأثورة.
زهير العامري

فتى المنصور بن أبي عامر
حاله
كان شهماً داهية، سديد المذهب، مؤثراً للأناة، ولي بعد خيران صاحب ألمرية، وقام بأمره أحمد قيام، سنة تسعة عشر وأربعمائة، يوم الجمعة لثلاث خلون من جمادى الأولى. وكان أميراً بمرسية، فوجه عند خيران حين أحس بالموت، فوصل إليه، وكان عنده إلى أن مات، فخرج زهير مع ابن عباس إلى الناس، فقال لهم، أما الخليفة خيران فقد مات، وقد قدم أخاه زهيراً هذا. فما تقولون: فرضي الناس به، فدامت مدة ولايته عشرة أعوان ونصف عام إلى أن قتل.
مناقبهقال أبو القاسم الغافقي، وكان حسن السيرة جميلها، بنى المسجد في ألمرية، ودار فيه من جهاته الثلاث، المشرق والمغرب والجوف، وبني مسجداً ببجانة، وشاور الفقهاء، وعمل بقولهم، وملك قرطبة، ودخل قصرها، يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سنة خمس وعشرين وأربعمائة، ودام سلطانه عليها خمسة عشر شهراً ونصف شهر.
قال ابن عذاري، وأما زهير الفتى فامتدت أطناب مملكته من ألمرية إلى قرطبة ونواحيها، وإلى بياسة، وإلى الفج من أول طليطلة. وقالوا: قر ما بينه وبين باديس فأرسل باديس، إلى زهير رسوله مكاتباً مستدعياً تجديد المحالفة، فسارع زهير، وأقبل نحوه، وضيع الحزم، واغتر بالعجب، ووثق بالكثرة. أشبه شيء بمجيء الأمير الضخم إلى عامل من عماله قد ترك رسم الالتقاء بالنظراء وغير ذلك من وجوه الحزم وأعرض عن ذلك كله، وأقبل ضارباً بسوطه، حتى تجاوز الحد الذي جرت العادة بالوقوف عنده من عمل باديس دون إذنه، وصير الأوعار والمضايق خلف ظهره، فلا يفكر فيها، واقتحم البلد، حتى صار إلى باب غرناطة. ولما وصل خرج باديس في جمعه، وقد أنكر اقتحامه عليه، وعده حاصلاً في قبضته، فبدأه بالجميل والتكريم، وأوسع عليه وعلى رجاله في العطاء والقرى، والتعظيم بما مكن اغترارهم، وثبت طمأنينتهم، ووقعت المناظرة بين زهير وباديس، ومن حضرهما من رجال دوليتهما، فنشأ بينهما عارض الخلاف لأول وهلة، وحمل زهير أمره على التشطط، فعزم باديس على اللقاء ووافقه عليه قوم من خدامه، فأقام المراتب، ونصب الكتائب، وقطع قنطرة لا محيد عنها لزهير، والحائن لا يشعر، وغاداه عن تعبية محكمة، فلم يرعه إلا رجة القوم راجعين، فدهش زهير وأصحابه، إلا أنه أحسن تدبير الثبات لو استتمه، وقام فنصب الحرب، وثبت في قلب العسكر، وقدم خليفته هذيلا في وجوه أصحابه إلى الموالي، فلما رأتهم صنهاجة، علموا أنهم الحماة والشوكة، ومتى حصدوا لم يثبت من وراءهم، فاختلطوا بهم، واشتد القتال، فحكم الله لأقل الطائفتين من صنهاجة ليرى قدرته، فانهزم زهير وأصحابه وتقطعوا، وعمل السيف فيهم فمزقوا، وقتل زهير، وجهل مصرعه، وغنم رجال باديس من المال والمرافق والأسلحة والحيلة والعدة والغلمان والخيام، ما لا يحاط بوصفه. وكانت وفاة زهير يوم الجمعة عقب شوال، سنة تسع وعشرين وأربعمائة بقرية ألفنت خارج غرناطة.
طلحة بن عبد العزيز
بن سعيد البلطيوسي
وأخواه أبو بكر وأبو الحسن بنو القبطرنة يكنى أبا محمد.
حالهم

كانوا عيوناً من عيون الأدب بالأندلس، ممن اشتهروا بالظرف، والسرو والجلالة. وقال أبو الحسن بن بسام وقد ذكر أبا بكر منهم، فقال، أحد فرسان الكلام، وحملة السيوف والأقلام، من أسرة أصالة، وبيت جلالة، أخذوا العلم أولا عن آخر، وورثوه كابراً عن كابر، ثلاثة كهقعة الجوزاء، وإن أربوا عن الشهر في السنا والسناء. كتب أبو محمد عبد العزيز وأخواه عن ملك لمتونة، ودخلوا معه غرناطة. ذكر ذلك غير واحد. واجتزأت بذكر أبي محمد، وأتبعه أخويه اختصاراً.
شعرهمن شعر أبي محمد، قوله في الاستدعاء:
هلم إلى روضنا يا زه ... ير ولح في سماء المنى يا قمر
وفوق إلى الأنس سهم الإخا ... ء فقد عطلت قوسه والوتر
إذا لم تكن عندنا حاضراً ... فما بغصون الأماني ثمر
وقعت من القلب وقع المنى ... وحزت من العين حسن الحور
قال أبو نصر، بات مع أخويه في أيام صباه، واستطابة جنوب الشباب وصباه، بالمنية المسماة بالبديع، وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته، ويبتهج بحسن صفاته، ويقطف ريحانه وزهره، ويقف عيه إغفاءه وسهره، ويستفزه الطرب متى ذكره، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره، ويدير حمياه على ضفة نهره، ويخلع سره فيه لطاعة جهره، ومعه أخواه، فطاردوا اللذات حتى أنضوها، ولبسوا برود السرور فما نضوها، حتى صرعتهم العقار، وطلحتهم تلك الأوقار، فلما هم رداء الفجر أن يندي، وجبين الصبح أن يبتدي، قام الوزير أبو محمد فقال:
يا شقيقي وافي الصباح بوجهه ... ستر الليل نوره وبهاؤه
فاصطبح واغتنم مسرة يومٍ ... لست تدري بما يجيء مساؤه
ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال:
يا أخي قم تر النسيم عليلا ... باكر الروض والمدام شمولا
في رياض تعانق الزهر فيها ... مثل ما عانق الخليل خليلا
لا تنم واغتنم مسرة يوم ... إن تحت التراب نوماً طويلا
ثم استيقظ أخوهما أبوالحسن وقد ذهب من عقله الوسن فقال:
يا صاحبي ذرا لومي ومعتبتي ... قم نصطبح قهوة من خير ما ذخروا
وبادرا غفلة الأيام واغتنما ... فاليوم خمرٌ ويبدو في غد خبر
وقال أبو بكر في بقرة أخذها له الرنق صاحب قلمورية، وقد أعاد أرضه:
وأفقدنيها الرنق أما حفية ... إذا هي حفت ألفت بين وفدين
تعنفني أمي على أن رثيتها ... وأن أتبعتها الدم من عين
لها الفضل عندي أرضعتني ... وبالرغم ما بلغتني وأمي حولين
محمد بن إسماعيل بن نصرمحمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن نصر الرئيس المتوثب على الملك، وحي كرسي الإمارة، وعاقد صفقة الخسران المبين، يكنى أبا عبد الله.
أوليته، معروفة.
حاله

: من نفاضة الجراب وغيره كان شيطاناً، ذميم الخلق، حرفوشاً، على عرف المشارقة، مترامياً للخسائس، مألفاً للدعرة والأجلاف والسوار وأولى الريب، خبيثاً كثير النكر، منغمساً في العهن، كلفاً بالأحداث، متقلباً عليهم في الطرق، خليع الرسن، ساقط الحشمة، كثير التبذل، قواد عصبة كلاب، معالجاً لأمراضها، مباشراً للصيد بهما، راجلاً في ثياب منتاب الشعر من الجلود والسوابل والأسمال، عقد له السلطان على بنته لوقوع القحط في رجال بيتهم، ونوههه بالولاية، وأركبه، وأغضى له عن موبقات تقصر به، إلى أن هلك، وحاد الأمر عن شقيق زوجه، واستقر في أخيه، وثقل على الدولة، لكراهة طلعته، وسوء الأحدوثة به، فأمر بترك المباشرة، والدخول للقلعة، وأذن له في التصرف في البلد والفحص، وأبقيت عليه النعمة، فداخل أم زوجه، وضمن لها تمام الأمر لولدها، وأمدته بالمال، فنظر من المساعير شيعةً، من كسرة الأغلاق، وقتلة الزقاق، ومختلسي البضائع، ومخيفي السابلة، واستضاف من أسافلة الدولة، من آسفته بإقصار قصد، أو مطل وعد، أو حط رتبة، أو عزل عن ولاية، فاستظهر منهم بعدد ولا، كالشقي الدليل الموروي، الغريب الطور، وإبراهيم بن أبي الفتح المنبوذ بالإضليع، قريع الجهل، ومستور العظيمة، وارتادوا عورة القلعة، فاهتدوا منها إلى ما شاءوا وتألفوا بخارج، ثم تسللوا ببطن الوادي المعروف بهداره، إلى أن لصقوا بجناح السور الصاعد، الراكبة قوسه جرية النهر، وصعدوا مساوقين جناحه المتصل بسور القلعة، وقد نقص كثير من ارتفاعه، لحدثان إصلاح فيه، فتسوروه عن سلم، ودافع بعض محاربيهم بعضاً، في استباق أدراجه، فدخلوا البلد في الثلث الأخير من ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان، عام ستين وسبعمائة، ثم استغلظوا بالمشاعل، وقتلوا نائب الملك رضواناً النصري، سايس الأمر، وبقية المشيخة، واستخرجوا السلطان الذي هو يزيفه، فنصبوه للناس، وتم الأمر، بما دل على احتقار الدنيا عند الله، وانخرط هذا الخب، في طور غريب من التنزل للسلطان، والاستخدام لأمه، والتهالك في نصحه، وخلط نفسه فيه، وتبذل في خدمته، يتولى له الأمور، ويمشي في زي الأشراط بين يديه، ويتأتى لشهواته، ويتظاهر بحراسته. ولما علم أن الأمر يشق تصيره إليه من غير واسطة، بغير انقياد الناس إليه، من غير تدريج كاده، فألطف الحيلة في مساعدته على اللذات، وإغرائه بالخبائث، وشغله بالعهر، وقتله بالشهوات المنحرفة، وجعل يترأ من دنيته وينفق بين الناس من سلع اغتيابه، ويرى الجماهير الإنكار لصنيعه، ويزين لهم الاستعاضة منه بعد ما غلظت شوكته، وضم الرجال إلى نفسه مورياً بحفظه، والاستظهار على صونه. وفي الرابع من شعبان عام أحد وستين وسبعمائة، ثار به في محل سكناه في جواره، واستجاش أولياء غدره، وكبس منزله، مداخلا للوزير المشئوم، عاقداً معه صفقة الغدر. وامتنع السلطان بالبرج الأعظم، فاستنزله وقتله، كما مر في اسم المذكور قبل، واستولى على الملك، فلم يختلف عليه اثنان، واشتغل طاغية الروم بحرب، كان بينه وبين القطالنيين، فتمالأ لمسالمته، فاغتبط الصنيع وتهنا المنحة، وتشطط على الروم في شروط غير معتادة، سامحوه بها مكيدة واستدراجاً، واجتاز أمير المسلمين المصاب بغدره إلى الأندلس، طالباً لحقه، ومبادراً إلى رد أمره، فسقط في يده، ووجه الجيش إليه بمثواه من بلد رندة، فانصرف عنها خائباً، ورجع أدراجه، يشك في النجاة، وتفرغ إليه الطاغية، ففض عليه جمه، وقد أجرت عليه شوكته وقيعةً، نصر الله فيها الدين، وأملى لهذا الوغد فلم يقله العثرة بعدها. ونازل حصونه المهتضمة واستولى على كثير منها، وحام فلم يصحر غلوة، وأكذب ما موه به من البسالة. وظهر للناس بلبس الصوف، وأظهر التوبة على سريرة دخلة، وفسق مبين، وقل ما بيده، ونفد بيت ماله، فلم يجد شيئاً يرجع إليه، من بعد ما سبك الآنية والحلية، وباع العقار لبتذيره، وسحه المال سحاً، في أبواب الأراجيف والاختلاف، والبهج بالغنا، فشرف الإنقاب إلى الفرار، وأزمع إلى الانسلال. وعندما تحرك السلطان إلى غربي مالقة، ونجع أهلها بطاعته ودخلوا في أمره، وسقط عليه الخبر. اشتمل على الذخيرة جمعاء، وهي التي لم تشتمل خزائن الملوك مطلقاً على مثلها، من الأحجار واللؤلؤ والقصب، والتف عليه الجمع المستميت، جمع الضلال ومرد الغي، وخرج عن المدينة

ليلة الأربعاء السابع عشر من جمادى الآخرة. وصوب وجهه إلى سلطان قشتالة، مكظومٌ تجنيه، وموتور سوء جواره، من غير عهد، إلا ما أمل من التبقي عنده من التذميم به، وضمان إتلاف الإسلام، واستباحة البلاد والعباد بنكرته.ة الأربعاء السابع عشر من جمادى الآخرة. وصوب وجهه إلى سلطان قشتالة، مكظومٌ تجنيه، وموتور سوء جواره، من غير عهد، إلا ما أمل من التبقي عنده من التذميم به، وضمان إتلاف الإسلام، واستباحة البلاد والعباد بنكرته.
ولما استقر لديه نزله، تقبض عليه، وعلى شر ذمته المنيفة على ثلاثمائة فارس من البغاة، كشيخ جنده الغربي إدريس بن عثمان بن إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، ومن سواه، تحصل بسببهم بيد الطاغية، كل ما تسمو إليه الآمال، من جواد فاره، أومنطقة ثقيلة، وسلاح محلي، وجوشن رفيع، ودرع حصينة، وبلبلة منيعة، وبيضة مذهبة، وبزة فاخرة، وصامت عتيد، وذخيرة شريفة، فتنخل منهم متولي التسور فجعلهم أسوة رأسهم في القتل، خر بعضهم يومئذ على بعض، في القتل، وأخذتهم السيوف، فحلوا بعد الشهرة، والتمثيل في أزقة المدينة، وإشاعة النداء في الجزيرة، ثاني رجب من العام المؤرخ به، وركب أسوق سايرهم الأداهم، واستخلصهم الإسار، وبارد بتوجيه رؤسهم، فنصبت من فوق العورة التي كان منها تسورهم القلعة، فمكثت بها إلى أن استنزلت وووريت، وانقضى أمره على هذه الوتيرة مشئوماً دبيراً، لم يمتعه الله بالنعيم، ولا هناه سكنى المحل الكريم، ولا سوغه راحة، ولا ملأه موهبة، ولا أقام على فضله حجة، ولا أعانه على زلفة، إنما كان رئيس السراق وعريف الخراب، وإمام الشرار، ندر يوماص في نفسه، وقد رفعت إليه امرأة من البدو تدعى أنها سرقت دارها، قال: إن كان ليلا بعد ما سد باب الحمراء علي وعلى ناسي، فهي والله كاذبة، إذ لم يبق سارق في الدنيا، أو في البلاد، إلا وقد تحصل خلفه، وقانا الله المحن، وثبتنا على مستقر الرشد، ولا عاقنا عن جادة الاستقامة.
وزراء دولتهاستوزر الوزير المشئوم ممدهً في الغي، الوغد، الجهول، المرتاش من السرقة، الحقود على عباد الله لغير علة عن سوء العاقبة، المخالف في الأدب سنن الشريعة، البعيد عن الخير بالعادة والطبيعة، دودة القز، وبغل طاحونة الغدر، وزق القطران، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري، فانطلقت يده على الإبشار، ولسانه على الأعراض، وعينه على النظر الشزر، وصدره على التأوه والرين، يلقى الرجال كأنه قاتل أبيه، محدقاً إلى كميه، يحترش بهما خبيئة، أو يظن بهما رشوة، فأجاب الله دعاء المضطرين، ورغبات السائلين، وعاجله بالأخذة الرابية، والبطشة القاضية فقبض عليه في ليلة السبت العاشر لرمضان من العام المذكور، وعلى ابن عمه العصر فوط وعلى الحيرا من نواهض بيتهما وأنفذ الأمر بتعريضهم، فمضى حكم الله بهذه المنية الفرعونية فيهم لا تبديل لكلمات الله، قاهر الجبابرة، وغالب الغلاب، وجاعل العاقبة للمتقين.
واستوزر بعده، أولى الناس وأنسبهم إلى دولته، وأحقهم بمظاهرته، المسوس الجبار اليأس والفطرة، المختبل الفكرة، القيل، المرجس، الحول، الشهير، الضجر، محمد بن علي بن مسعود، فميا يلي الناس على طول الحمرة، وانفساح زمان التجربة، أسوأ تدبيراً، ولا أشر معاملة، ولا أبذأ لساناً، ولا أكثر شكوى ومعاتبة، ولا أشح يداً، ولا أجدب خواناً، من ذلك المشئوم، بنعق البوم، ينعق بما لا يسمع، ويسرد الأكاذيب، ويسيء السمع، فيسيء الإجابة، ويقود الجيش فيعود بالخيبة، إلى أن كان الفرار، فصحبه إلى مصرعه، وكان ممن استؤثر به القيد الثقيل، والأسر الشديد، والعذاب الأليم، عادة بذلك عبد المالاخوينا، التي كان يحجب سمتها، زمان ترفيهه، فقضت عليه سيء الميتة، مطرح الجثة. سترنا الله بستره ولا سلبنا في الحياة، ولا في الممات ثوب عنايته.
كاتب سرهصاحبنا الفقيه الأهوج، قصب الريح، وشجرة الخور، وصوت الصدى، أبو محمد عبد الحق بن عطية، المستبد بتدبير الدبير، خطاً فوق الرقاع الجاهلة، ومسارةً في الخلوات الفاسقة، وصدعاً فوق المنابر الكبيبة، بحلة لث الراية، ويذب عنه ذب الوالدة، ينتهي في الاعتذار عن هناته إلى الغايات القاصرة.
قضاتهشيخنا أبو البركات، قيس ليلى القضاء، المخدوع بزخرف الدنيا على الكبرة والعناء، لطف الله به، وألهمه رشده.

شيخ الغزاة على عهده: إدريس بن عثمان بن إدريس بن عبد الحق بن محيو، بقية بيت الدبرة ووشيجة الشجرة المجتثة، عذب في الجملة من أهل بيته عند القبض عليهم، واستقر في القبض الأشهب من قبيله بالمغرب، مطلق الإقطاع، مرموقاً بعين التجلة، مكنوفاً بشهرة الأب، إلى أن سعى به إلى السلطان، نسيج وحده فارس بن علي، واستشعر البث فطار به الذعر لا يلوي عناناً، حتى سقط بإفريقية، وعبر البحر إلى ملك برجلونة، ثم اتصل بالدولة النصرية، بين إدالة الغدر، وإيالة الشر، فقلده الدائل مشيخة الغزاة، ونوه به، فاستراب معزله يحيى بن عمر، ففر إلى أرض الروم حسبما يذكر في اسمه، فقام له بهذا الوظيف، ظاهر الشهرة والأبهة، مخصوصاً منه بالتجلة، إلى أن كان ما كان من إزمانه وفراره، فوفى له وصحبه ركابه، وقاسمه المنسجة شق الأبلة، واستقر بعد قتله أسيراً عانياً علق الدهر، لضنانة العدو بمثله، إلى أن أفلت من دون الأغلاق، وشد الوثاق، ولحق بالمسلمين في خبر لم يشتمل كتاب الفرج بعد الشدة على مثله، والأغراب منه، يستقر في اسمه إلماعٌ به، ثم استقر بالمغرب معتقلا. ثم مات رحمه الله.
من كان على عهده من الملوك: وأولاً بمدينة فاس دار ملك المغرب، السلطان، الخير، الكريم الأبوة، المودود قبل الولاية، اللين العريكة، الشهير الفضل في الحياة، آية الله في إغراب الصنع، وإغراب الإدبار، أبو سالم إبراهيم بن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، أمير المسلمين، المترجم به في حرف الألف. ولما قتل يوم الحادي والعشرين لذي قعدة من عام اثنتين وستين، قام بالأمر بعده أخوه المتحيل أبو عامر تاشفين بن علي إلى أواخر صفر عام ثلاثة وستين، ولحق بالبلد الجديد، الأمير أبو محمد زيان بن الأمير أبي عبد الرحمن بن علي بن عثمان المترجم به في بابه، ثم المتولي من عام ثمانية وستين وسبعمائة السلطان أبو فارس عمه المؤمل للم الشعث، وضم النشر، وتجديد الأمر بحول الله، ابن السلطان الكبير المقدس، أبي الحسن بن سعيد بن يعقوب بن عبد الحق، وهو بعد متصل الحال إلى اليوم.
وبتلمسان الأمير أبو حمو، موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى ابن يغمر اسن بن زيان.
وبإفريقية الأمير الخليفة على عرفهم، إبراهيم بن أمير المؤمنين أبي يحيى ابن حفص.
وبقشتالة، بطره بن ألهنشة بن هراندة بن شانجه المصنوع له، ولي النعمة منه، ومستوجب الشكر من المسلمين لأجله، بإراحته منهم.
وبرغون، بطره بن شانجه.
وبرندة، مزاحمه بالملك الفخم، أمير المسلمين حقيقة، المرتب الحق، المعقود البيعة، وصاحب الكرة، وولي حسن العاقبة، مجتث شجرته الخبيثة، وصارخ إيالته الدنية، أبو عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج، بن أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر.
مولدهمولد هذه النسمة المشئومة أول يوم من رجب عام اثنين وثلاثين وسبعمائة.
وفاتهتوفي قتيلاً ممثلا به بطيلاطه، من ظاهر إشبيلية، في ثاني من رجب عام ثلاثة وستين وسبعمائة، وسيقت رؤوس أشياعه، الغادرين مع رأسه إلى الحضرة فصلبت بها. وفي ذلك قلت:
في غير حفظ الله من هامةٍ ... هام بها الشيطان في كل واد
لا خلفت ذكراً ولا رحمةً ... في فم إنسانٍ ولا في فؤاد
محمد بن إسماعيل بن يوسفمحمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد ابن أحمد بن خميس بن نصر الخرزجي أمير المسلمين بالأندلس بعد أبيه رحمه الله.
أوليته: معروفة.
حاله

كان معدوداً في نبلاء الملوك، صيانة، وعزاً وشهامة، وجمالاً، وخصلاً، عذب الشمائل، حلواً لبقاً، لو ذعياً هشاً، سخياً، المثل المضروب به في الشجاعة المقتحمة حد التهور، حلس ظهور الخيل، وأفرس من جال على ظهورها، لا تقع العين، وإن غصت الميادين على أدرب بركض الجياد منه، مغرماً بالصيد عارفاً بسمات السقار وشتات الخيل، يحب الأدب، ويرتاح إلى الشعر وينبه على العيون، ويلم بالنادرة الحارة. أخذت له البيعة يوم مهلك أبيه، وهو يوم الثلاثاء السابع والعشرين لرجب من عام خمسة وعشرين وسبعمائة. وناله الحجب، واشتملت عليه الكفالة إلى أن شب وظهر، وفتك بوزيره، المتغلب على ملكه، وهو غلام لم يبقل خده، فهيب شأنه، ورهبت سطوته، وبرز لمباشرة الميادين، وارتياد المطارد، واجتلاء الوجوه، فكان ملء العيون والصدور.
ذكاؤهحدثني القائد أبو القاسم بن الوزير عبد الله بن عيسى وزير جده، قال، تذوكر يوماً بحضرته تباين قول المتنبي:
ألا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
وقول امرىء القيس:
وإن كنت قد ساءتك مني خليقةً ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقول إبراهيم بن سهل:
أني له من دمي المسفوك معتذراً ... أقول حملته في سفكه تعبا
فقال رحمه الله، بديهة: بينهما ما بين نفس ملك عربي وشاعر، ونفس يهودي تحت الذمة، وإنما تتنفس بقدر همتها، أو كلاماً هذا معناه. ولما نازل مدينة قبرة ودخل جفنها عنوة، ونال قصبتها، ورماها بالنفط، وتغلب عليها، وهي ما هي عند المسلمين، وعند النصارى، من الشهرة والجلالة، بادرناه نهنيه بما نسق له، فزوي وجهه عنا، وقال، ماذا تهنونني به، كأنكم رأيتم تلك الخرقة بكذا يعني العلم الكبير في منار إشبيلية، فعجبنا من بعد همته، ومرمى عزمه.
شجاعتهأقسم أن يغير على باب مدينة بيانة في عدة قليلة عينها الميمن، فوقع البهت وتوقعت الفاقرة، لقرب الصريخ، ومنعة الحوزة، وكثرة الحامية، واتصال تخوم البلاد، ووفور الفرسان بذلك الصقع، وتنخل أهل الحفاظ، وهجم على باب الكفار نهاراً، وانتهى إلى باب المدينةن وقد برزت الحامية، وتوقع فرسان الروم الكمناء، فأقصروا عن الإحصار، وحمى المسلمون فشد عليهم، فأعطوهم الضمة ودخلوا أمامهم المدينة، ورمي السلطان أحد الرجال الناشبة بمزراق كان بيده محلى السنان رفيع القيمة، وتحامل يريد الباب فمنع الإجهاز عليه، وانتزاع الرمح الذي كان يجره خلفه، وقال اتركوه يعالج به رمحه أن كان أخطأته المنية، وقد أفلت من أنشوطة خطر عظيم.
جهاده ومناقبهكان له وقائع في الكفار، على قلة أيامه، وتحرك ونال البلاد، وفتح قبرة، ومقدم جيش العدو الذي بيت بظاهرها وأثخن فيه، وفتح الله على يده مدينة باغوة، وتغلب المسلمون على حصن قشتالة، ونازل حصن قشرة بنفسه لدى قرطبة، فكاد أن يتغلب عليه، لولا مددٌ اتصل للنصارى به. وأعظم مناقبه تخليص جبل الفتح، وقد أخذ الطاغية بكظمه، ونازله على قرب العهد من تلك المسلمين إياه، وناخ بكلكله، وهد بالمجانيق أسواره، فداري الطاغية، واستنزل عزمه وتحفه، ولحق في موضع اختلاله، إلى أن صرفه عنه، وعقد له له صلحاً، ففازت به قداح الإسلام، وتخلصه من بين ناب العدو وظفره، فكان الفتح عظيماً لا كفاء له.

بعض الأحداث في دولته: وفي شهر المحرم من عام سبعة وعشرين وسبعمائة، نشأت بين المتغلب على دولته، وزيره، وبين شيخ الغزاة وأمير القبائل العدوية، عثمان بن أبي العلاء، الوحشة وألحقت ربحها السعايات، فصبت على المسلمين شؤبوب فتنة عظم فيهم أثرها معاطباً، وسئم الانصراف عن الأندلس، فلحق بساحل ألمرية، وأحوزته المذاهب، وتحامت جواره الملوك، فداخل أهل حصن أندرش، فدخل في طاعته، ثم استضاف إليه ما يجاوره، فأعضل الداء، وتفاقمت اللأواء، وغامت سماء الفتنة، واستنفد خزائن الأموال المستعدة لدفاع العدو، واستلحق الشيخ أبو سعيد عم السلطان، وقد استقر بتلمسان، فلحق به، وقام بدعوته في أخريات صفر عام سبعة وعشرين وسبعمائة، واغتنم الطاغية فتنة المسلمين فنزل ثغربيرة، ركاب الجهاد، وشجى العدو، فتغلب عليه، واستولى على جملة من الحصون التي تجاوره، فاتسع نطاق الخوف، وأعيى داء الشر، وصرف إلى نظر ملك المغرب، في أخريات العام، رندة ومربلةً وما يليهما، وترددت الرسائل بين السلطان وبين شيخ الغزاةن فأجلت الحال عن مهادنة، ومعاودة للطاعة، فصرف أميرهم أدراجه إلى العدوة، وانتقلوا إلى سكنى وادي آش على رسم الخدمة والحماية على شروط مقررة، وأوقع السلطان بوزيره، وأعاد الشيخ إلى محله من حضرته، أوائل عام ثمانية وعشرين بعده، واستقدم القائد الحاجب أبا النعيم رضوان من أعاصم حباليه قتيله، فقام بأمره أحسن قيام. وعبر البحر بنفسه بعد استقرار ملكه في الرابع والعشرين من شهر ذي حجة من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة، فاجتمع مع ملك المغرب السلطان الكبير أبي الحسن بن عثمان، فأكرم نزله، وأصحبه إلى الأندلس، وحباه بما لا يحب به ملك تقدمه، من مغربيات الخيل، وخطير الذخيرة، ومستجاد العدة، ونزل الجيش على أثره جبل الفتح، وتوجه الحاجب أبو النعيم بأكبر إخوة السلطان، مظاهراً على سبيل النيابة، وهيأ الله فتحه، ثم استنقاذه بلحاق السلطان، ومحاولة أمره كما تقدم، فتم ذلك يوم الثلاثاء الثاني عشر لذي الحجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
وزراء دولتهوزر له وزير أبيه، وأخذ له البيعة، وهو مثخن بالجراحات، التي أصابته يوم الفتك بأبيه السلطان أبي الوليد، ولم ينشب أن أجهز جرح تجاوز عظم الدماغ، بعد مصابرة ألم العلاج الشديد، حسبما يأتي في اسمه، وهو أبو الحسن علي بن مسعود بن يحيى بن مسعود المحاربي، وترقى إلى الوزارة والحجابة وكيل أبيه محمد بن أحمد المحروق، من أهل غرناطة، يوم الإثنين غرة شهر رمضان من عام خمسة وعشرين وسبعمائة، ويأتي التعريف بهم. ثم اغتيل بأمره، عشي ثاني يوم من محرم فاتح تسعة وعشرين وسبعمائة. ثم وزر له، القائد أبو عبد الله بن القائد أبي بكر عتيق بن يحيى بن المول من وجوه الدولة، وصدور من يمت بوصله، إلى السابع عشر من رجب من العام، ثم صرف إلى العدوة، وأقام رسم الوزارة والحجابة والنيابة، أبو النعيم مولى أبيه، إلى آخر مدته، بعد أن التأث أمره لديه، وزاحمه بأحد المماليك المسمى بعصام حسبما يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
رئيس كتابه: كتب له كاتب أبيه قبله وأخيه بعده، شيخنا نسيج وحده، أبو الحسن علي بن الجياب الآتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
قضاتهاستمرت الأحكام لقاضي أبيه، أخي وزيره، الشيخ الفقيه أبي بكر بن مسعود رحمه الله إلى عام سبعة وعشرين وسبعمائة، ووجهه رسولاً عنه إلى ملك المغرب، فأدركته وفاته بمدينة سلا، فدفن بمقبرة سلا. رأيت قبره بها رحمه الله. وتخلف ابنه أبا يحيى مسعود عام أحد وثلاثين وسبعمائة، وتولى الأحكام الشرعية القاضي أبو عبد الله محمد بن يحيى بن بكر الأشعري، خاتمة الفقهاء، وصدر العلماء، رحمة الله، فاستمرت له الأحكام إلى تمام مدة أخيه بعده.
أمهرومية اسمها علوة وكانت أحظى لداتها عند أبيه، وأم بكره، إلى أن نزع عنها في أخريات أمره، لأمر جرته الدالة، وتأخرت وفاتها عنه إلى مدة أخيه.

من كان على عهده من الملوك بأقطار المسلمين والنصارى: فبفاس، السلطان الكبير، الشهير، الجواد، خدن العافية، وحلف السعادة، وبحر الجود، وهضبة الحلم، أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق الذي بذل المعروف، وقرب الصلحاء والعلماء، وأدنى مكانهم، وأعمل إشارتهم، وأوسع بأعطيته المؤمنين المسترفدين، وعظم قدره، واشتهر في الأقطار صيته، وفشا معروفه، وعرفت بالكف عن الدماء والحرمات عفته، إلى أن توفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة عام أحد وثلاثين وسبعمائة، ثم صار الأمر إلى ولده السلطان، مقتفي سننه في الفضل والمجد، وصخامة السلطان، مبراً عليه، بالبأس المرهوب، والعزم الغالب، والجد الذي لا يشوبه هزل، والاجتهاد الذي لا يتخلله راحة، الذي بعد مداه، وأذعن لصولته عداه، واتصلت ولايته مدته، ومعظم مدة أخيه الوالي بعده.
وبتلمسان الأمير عبد الرحمن بن موسى بن يغمر اسن، ومن بني عبد الواد، مشيد القصور، ومروض الغروس، ومتبنك الترف، واتصل إلى تمام مدته، وصدرا من مدة أخيه بعده.
وبتونس الأمير أبو يحيى، أبو بكر بن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي إسحاق لبنة تمام قومه، وصقر الجوارح من عشه، وسابق الجياد من حلبته، إلى تمام المدة، وصدراً كبيراً من دولة أخيه بعده.
ومن ملوك النصارى، ملك على عهده الجفرتين القنيطية والتاكرونية، الطاغية المرهوب الشبا، المسلط على دين الهدى، ألهنشة بن هراندة بن شانجه بن ألفتش بن هراندة، الذي احتوى على كثير من بلاد المسلمين حتى الجفرتين واتصلت أيامه إلى أخريات أيام أخيه، وأوقع بالمسلمين على عهده، وتملك الجزيرة الخضراء وغيرها.
وبرغون ألفنش بن جايمش بن ألفنش بن بطره بن جايمش الذي استولى على بلنسية، ودام إلى آخر مدته، وصدراً من مدة أخيه. وقد استقصينا من العيون أقصى ما سح به الاستقصاء، وما أغفلناه أكثر، ولله الإحاطة.
مولدهفي الثامن من شهر المحرم من عام خمسة عشر وسبعمائة.
وفاتهوإلى هذا العهد مات، وغرت عليه رؤوس الجند، من قبائل العدوة، الصدور، وشحنت عليه القلوب غيظاً، وكان شرها لسانه، غير جزوع ولا هياب، فربما يتكلم بملىء فيه من الوعيد الذي لا يخفى على المعتمد به، وفي ثاني يوم من إقلاع الطاغية من الجبل، وهو يوم الأربعاء الثاني عشر من ذي حجة، وقد عزم على ركوب البحر من ساحل مربلة، فهو مع وادي ياروا من ظاهر جبل الفتح، تخفيفاً للمؤنة، واستعجالا للصدور، وقد أخذت على حركته المراصد، فلما توسط كمين القوم، ثاروا إليه وهو راكب بغلا أثابه به ملك الروم، فشرعوا في عتبه بكلام غليظ، وتأنيب قبيح، وبدأوا بوكيله فقتلوه، وعجل بعضهم بطعنه، وترامى عليه مملوك من مماليك أبيه، زنمة من أخابيث العلوج يسمى زياناً، صونع على مباشرة الإجهاز عليه، فقضى لحينه بسفح الربوة الماثلة، يسرة العابر للوادي ممن يقصد جبل الفتح، وتركوه بالعراء بادي البوار، مسلوب البزة، سيء المصرع، قد عدت عليه نعمه، وأوبقه سلاحه، وأسلمه أنصاره وحماته.
ولما فرغ القوم من مبايعة أخيه السلطان أبي الحجاج، صرفت الوجوه يومئذ إلى دار الملك، ونقل القتيل إلى مالقة، فدفن على حاله تلك برياضٍ تجاور منية السيد، فكانت وفاته ضحوة يوم الأربعاء الثالث عشر لذي حجة من عام ثلاث وثلاثين وسبعمائة. وأقيمت على قبره بعد حين قبة، ونوه بقبره، وهو اليوم ماثلٌ رهن غربةٍ، وجالب عبرة، جعلنا الله للقائه على حذر وأهبة، وبلوح الرخام الماثل عند رأسه مكتوب: هذا قبر السلطان الأجل، الملك الهمام، الأمضى الباسل، الجواد ذي المجد الأثيل، والملك الأصيل، المقدس، المرحوم، أبي عبد الله محمد بن السلطان الجليل، الكبير، الرفيع، الأوحد، المجاهد، الهمام، صاحب الفتوح المسطورة، والمغازي المشهورة، سلالة أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، أمير المؤمنين، وناصر الدين، الشهيد، المقدس، المرحوم أبي الوليد بن فرج، بن نصر، قدس الله روحه وبرد ضريحه. كان مولده في الثاني لمحرم عام خمسة عشر وسبعمائة، وبويع في اليوم الذي استشهد فيه والده رضي الله عنه السادس والعشرين لرجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، وتوفي رحمه الله في الثالث عشر لذي حجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، فسبحان من لا يموت.

يا قبر سلطان الشجاعة والندى ... فرع الملوك الصيد أعلام الهدى
وسلالةٍ السلف الذي آثاره ... وضاحة لمن اقتدى ومن اهتدى
سلفٌ لأنصار النبي نجاره ... قد حل منه في المكارم محتدا
متوسط البيت قد أس ... سته سادة الأملاك أوحد أوحدا
بيتٌ بناه محمدون ثلاثةٌ ... من آل نصر أورثوه محمدا
أودعت وجهاً قد تهلل حسنه ... بدراً بآفاق الجلالة قد بدا
ونداً يسح على العفاة مواهباً ... مثنى الأيادي السابغات وموحدا
يبكيك مذعورٌ بك استعدى على ... أعدائه فسقيتهم كاس الردى
يبكيك محتاجٌ أتاك مؤملا ... فغدا وقد شفعت يداك له اليدا
أما سماحك فهو أسنى دية ... أما جلالك فهو أسمى مصعدا
جادت ثراك من الإلة سحابةٌ ... لرضاه عنك تجود هذا المعهدا
وشر ما تبع هذا السلطان تواطؤ قتلته من بني أبي العلاء وأصهارهم وسواهم من شيوخ خدامه، كالوكيل في مدة أخيه بعد، الشيخ الذهول مسافر بن حركات وسواه، على اكتتاب عقد بعد وفاته، بأمور من القول تقدح في أصل الديانة، وأغراض تقتضي إلى الوهن في الدين، وهنات تسوغ إراقة دمه الذي توفرت الدواعي على حياطته، والذب عنه، تولي كبرها شيخنا أبو الحسن بن الجياب، مرتكباً منها وصمة محت على غرر فضله إلى كثير من خدامه وممالكيه، وبعثوا بها إلى ملك المغرب، فاقتطعت جانب التمهيل والتأخير واللبث عن الحكم، والتعليل عن السماع، وبروز الأغراض، واتباع السيئة أمثالها. وقد كان رحمه الله من الجهاد وإقامة رسم الدين، بحيث تزل عن هذه الهنات صفاته، وتنكر هذه المذمات صفاته وكان بمكان من العز، وإرسال السجية، ربما عذله الشيخ في بعض الأمر، فيسجم إضجاراً وتمليحاً بإخراجه، ولم يمر إلا الزمان اليسير، وأوقع الله بالعصبة المتمالئة عليه من أولاد عبد الله، فسفتهم رياح النكبات، واستأصلت نعمهم أيدي النقمات، ولم تقم لهم من بعد ذلك قائمة، والله غالب على أمره.
وتبعت هذا السلطان نفوس أهل الحرية، ممن له طبع رقيق، وحسٌ لطيف، ووفاءٌ كريم، ممن كان بينه وبين سطوته دفاعٌ، وفي جو اعتقاده له صفاءٌ، فصدرت مراث مؤثرة، وأقاويل للشجون مهيجة، نثبت منها يسيراً على العادة. فمن ذلك ما نظمه الشيخ الكاتب القاضي أبو بكر بن شبرين، وكان على فصاحة ظرفه، وجمال روايته، غراب قربه، ونائحة مأتمه، يرثيه ويعرض ببعض من حمل عليه من ناس وخدامه:
استقلا ودعاني ... ظائفاً بين المغاني
وانعما بالصبر إني ... لا أرى ما تريان
ومن قوله:
عينٌ بكى لميت غادروه ... في ثراه ملقى وقد غدروه
دفنوه ولم يصل عليه ... أحدٌ منهم ولا غسلوه
إنما مات يوم مات شهيداً ... فأقاموا رسماً ولم يقصدوه
محمد بن قيس الخزرجيمحمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن نصر بن قيس الخزرجي ثالث الملوك من بني نصر، يكنى أبا عبد الله.
أوليته معروفة.
حالهكان من أعاظم أهل بيته، صيتاً وهمة، أصيل المجد، مليح الصورة، عريق الإمارة، ميمون النقيبة، سعيد النصبة عظيم الإدراك، تهنأ العيش مدة أبيه، وتملى السياسة في حياته، وباشر الأمور بين يديه، فجاء نسيج وحده إدراكاً، ونبلا، وفخاراً، وشأواً. ثم تولى الأمر بعد أبيه فأجراه على ديدنه، وتقبل سيرته، ونسج على منواله، وقد كان الدهر ضايقه في حصته، ونغصه ملاذ الملك بزمانة، سدكت بعينيه لمداخلة السهر، ومباشرة أنوار ضخام الشمع، إذ كانت تتخذ له منها جذوع في أجسادها مواقيت تخبر بانقضاء ساعات الليل، ومضى الربع، وعلى التزامه لكنه وغيبوبته في كسر بيته، فقد خدمته السعود، وأملت بابه الفتوح، وسالمته الملوك، وكانت أيامه أعياداً. وكان يقرض الشعر، ويصغي إليه، ويثيب عليه، فيجيز الشعراء، ويرضخ للندماء، ويعرف مقادر العلماء، ويواكل الأشراف والرؤساء، ضاربا في كل إصلاح بسهم، مالئا من كل تجربة وحنكة، حار النادرة، حسن التوقيع، مليح الخط، تغلب عليه الفظاظة والقسوة.
شعره

كان له شعر مستظرف من مثله، لا بل يفضل به الكثير ممن ينتحل الشعر من الملوك.ووقعت على مجموع له، ألفه بعض خدامه، فنقلب من مطولاته:
واعدني وعدا وقد أخلفا ... أقل شيء في المليح الوفا
وحال من عهدي ولم يرعه ... ما ضره لو أنه أنصفا
ما بالها لم تتعطف على ... صاحب لها ما زال مستعطفا
يستطلع الأنباء من نحوها ... ويرقب البرق إذا ما هفا
خفيت سقماً عن عيون الورى ... وبان حبي بعد ما قد خفا
لله كم من ليلةٍ بتها ... أدير من ذاك اللمى قرقفا
متعتني بالوصل منها وما ... أخلفت وعداص خلت أن يخلفا
ومنها:
ملكتك القلب وأني امرؤٌ ... على ملك الأرض قد وقفا
أوامري في الناس مسموعةٌ ... وليس مني في الورى أشرفا
يرهف سيفي في الوغى متسلطاً ... ويتقي عزمي إذا ما أرهفا
وترتجي يمناي يوم الندى ... تخالها السحب غدت وكفا
نحن ملوك الأرض من مثلنا ... حزنا تليد الفخر والطرفا
نخاف إقداماً ونرجى نداً ... لله ما أرجى وما أخوفا
لي رايةٌ في الحرب كم غادرت ... ربع العدا قاعاً بها صفصفا
يا ليت شعري والمنى جمة ... والدهر يوماً هل يرى منصفا
هل يرتجي العبد تداينكم ... أو يصبح الدهر له مسعفا
مناقبهوأعظم مناقبه المسجد الجامع بالحمراء، على ما هو عليه، من الظرف والتنجيد، والترقيش، وفخامة العمد، وإحكام أنوار الفضة، وإبداع ثراها، ووقف عليه الحمام بإزائه وأنفق فيه مال الجزية، وأغرمها لمن يليه من الكفار، فدوا به زرعاً، نهد إليه صائفته لا نتسافه، وقد أهمتهم فتنة، فظهر بها منقبة يتيمة، ومعلوة فذة، فاق بها من تقدمه، ومن تأخره من قومه.
جهادهأغزى الجيش لأول أمره مدينة المنظر، فاستولى عليها عنوة، وملك من احتوت عليه المدينة، ومن جملتهم الزعيمة صاحبة المدينة، من أفراد عقائل الروم، فقدمت الحضرة في جملة السبي، نبيهة المركب، ظاهرة الملبس، رائقة الجمال، خص بها ملك المغرب، فاتخذها لنفسه، وكان هذا الفتح عظيماً، والصيت بمزايه عظيماً بعيداً أنشدني.
ما نقل عنه من الفظاظة والقسوة: هجم لأول أمره على طائفة من مماليك أبيه، وكان سيء الرأي فيهم، فسجنهم في مطبق الأرى من حمرائه، وأمسك مفتاح قفله عنده، وتوعد من يرمقهم بقوت بالقتل، فمكثوا أياما، وصارت أصواتهم تعلو بشكوى الجوع، حتى خفتت ضعفاً بعد أن اقتات آخرهم موتاً من لحم من سبقه، وحملت الشفقة حارساً كان برأس المطبق، على أن طرح لهم خبزاً يسيراً، تنقص أكله مع مباشرة بلواهم، وتمنى إليه ذلك، فأمر بذبحه على حافة الجب، فسالت عليهم دماؤه وقانا الله مصارع السوء، وما زالت المقالة عنها شنيعة، والله أعلم بجريرتهم لديه.
وزراؤهبقي على خطة الوزارة. وزير أبيه أبو سلطان عزيز بن علي بن عبد المنعم الداني، الجاري ذكره بحول الله في محله، متبرماً بحياته إلى أن توفي، فأنشد عند موته:
مات أبو زيد فواحسرتا ... إن لم يكن مات من جمعة
مصيبة لا غفر الله لي ... أن كنت أجريت لها دمعة

وتمادى بها أمره، يقوم بها حاشيته، وقد ارتاح إليها متوليها بعده، المترفع بدولته، القائد الشهير، البهمة أبو بكر بن المول. حدث قارىء العشر من القرآن بين يدي السلطان، ويعرف بابن بكرون، وكان شيخاً متصاوناً ظريفاً، قال: عزم السلطان على تقديم هذا الرجل وزيراً، وكان السلطان يؤثر الفال، وله في هذا المعنى وساوسٌ ملازمة، فوجه إلى الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى يومئذ، أبو عبد الله بن الحكيم المستأثر بها دونه، والمتلقف لكرتها قبله، وخرج لي عن الأمر، وطلب مني أن أقرأ آياً يخرج فألها عن الغرض، قال فلما غدون لشآني تلوت بعد التعوذ قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم، إلى قوله لنا " فلما فرغت الآية، سمعته حاد عن رأيه الذي كان أزمعه. وقدم للوزارة كاتبه أبا عبد الله بن الحكيم في ذي قعدة من عام ثلاثة وسبعمائة. وصرف إليه تدبير ملكه، فلم يلبث أن تغلب على أمره، وتقلد جميع شئونه، حسبما يأتي في موضعه إن شاء الله.
كتابهاستقل برياسته وزيره المذكور، وكان ببابه من كتابه جملةٌ تباهي بهم دسوت الملوك، أدباً وتفنناً وفضلاً وظرفاً، كشيخنا تلوه وولي الرتبة الكتابية من بعده، وفاصل الخطبة على أثره. وغيره ممن يشار إليه في تضاعيف الأسماء، كالشيخ الفقيه القاضي أبي بكر بن شبرين، والوزير الكاتب أبي عبد الله بن عاصم، والفقيه الأديب أبي إسحاق بن جابر. والوزير الشاعر المفلق أبي عبد الله اللوشي، من كبار القادمين عليه، والفقيه الرئيس أبي محمد الحضرمي، والقاضي الكاتب أبي الحجاج الطرطوشي، والشاعير المكثر أبي العباس القراق وغيرهم.
قضاتهاستمرت ولاية قاضي أبيه الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد بن هشام الألثي قاضي العدل، وخاتمة أولى الفضل، إلى أن توفي عام أربعة وسبعمائة.
وتولي له القضاء، القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد القرشي المنبور بابن فركون، وتقدم التعريف به، والتنبيه على فضله، إلى آخر أيامه.
من كان على عهده من الملوك بالأقطار وأول ذلك بفاس، كان على عهده بها، السلطان الرفيع القدر، السامي الخطر، المرهوب الشبا، المستولى في العز وبعد الصيت على المدى، أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المنصور، بن عبد الحق، وهو الذي وطد الدولة المرينية، وجبا الأموال العريقة، واستأصل من تتقي شوكته من القرابة وغيرهم، وجاز إلى الأندلس في أيام أبيه وبعده، غازياً، ثم حاصر تلمسان، وهلك عليها في أوائل ذي قعدة عام ستة وسبعمائة، فكانت دولته إحدى وعشرين سنة وأشهراً. ثم صار الأمر إلى حافده أبي ثابت عامر بن الأمير أبي عامر عبد الله بن يوسف بن يعقوب بعد اختلاف وقع، ونزاع انجلى عن قتل جماعة من كبارهم منهم الأمير أبو يحيى بن السلطان أبي يوسف، والأمير أبو سالم بن السلطان أبي يعقوب، واستمر الأمر للسلطان أبي ثابت إلى صفر من عام ثمانية وسبعمائة، وصار الأمر إلى أخيه أبي الربيع سليمان تمام مدة ملكه وصدرا من دولة أخيه نصر، حسبما يذكر في موضعه إن شاء الله.
وبتلمسان الأمير أبو سعيد عثمان بن يغمر اسن ثم أخوه أبو عمران موسى، ثم ولده أبو تاشفين عبد الرحمن إلى آخر مدة أخيه.
وبتونس، السلطان الفاضل، الميمون النقيبة. المشهور الفضيلة، أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن المستنصر أبي عبد الله بن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص، من أولى العفة، والنزاهة، والتؤدة والحشمة، والعقل، عني بالصالحين، واختص بأبي محمد المرجاني، فأشار بتقويمه، وظهرت عليه بركته، وكان يرتبط إليه، ويقف في الأمور عنده، فلم تعدم الرعية بركة ولا صلاحاً في أيامه، إلى أن هلك في ربيع الآخر عام تسعة وسبعمائة، ووقعت بينه وبين هذا الأمير المترجم به المراسلة والمهاداة.
وبقشتالة، هراندة بن شانجة بن أدفونش بن هراندة، المستولي على إشبيلية وقرطبة، ومرسية، وجيان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هلك أبوه وتركه صغيراً، مكفولا على عادتهم، فتنفس المخنق، وانعقدت السلم، واتصل الأمان مدة أيامه، وهلك في دولة أخيه.
وبرغون، جايمش بن ألفنش بن بطره.
الأحداث

في عام ثلاثة وسبعمائة، نقم على قريبه الرئيس أبي الحجاج بن نصر الوالي بمدينة وادي آش، أمراً أوجب عزله عنها، وكان مقيماً بحضرته فاتخذ الليل جملا وكان أملك بأمرها، وذاع الخبر، فاستركب الجيش، وقد حد ما ينزل في استصلابه، وجدد الصكوك بولايته خوفاً من اشتعال الفتنة، وقد أخذ على يديه، وأغرى أهل المدينة بحربه، فتداعوا لحين شعورهم باستعداده وأحاطوا به، فدهموه وعاجلوه، فتغلبوا عليه، وقيد إلى بابه أسيراً مصفداً، فأمر أحد أبناء عمه فقتله صبراً، وتملا فتحاً كبيراً، وأمن فتنة عظيمة، وفي شهر شوال من عام خمسة وسبعمائة قرع الأسماع النبأ العظم، الغريب من تملك سبتة وحصولها في قبضته، وانتزاعها من يد رئيسها أبي طالب عبد الله بن أبي القاسم، الرئيس الفقيه، ابن الإمام المحدث أبي العباس العزمي حسبما يتقرر في اسم الرئيس الفقيه أبي طالب إن بلغنا الله ذلك، واستأصل ما كان لأهلها من الذخائر والأموال، ونقل رؤساءها، وهم عدة، إلى حضرته غرناطة في غرة المحرم من العام، فدخلوا عليه، وقد احتفل بالملك، واستركب في الأبهة الجند، فلثموا أطرافه، واستعطفه شعراؤهم بالمنظوم من القول، وخطباؤهم بالمنثور منه، فطمأن روعهم وسكن جأشهم، وأسكنهم في جواره، وأجرى عليهم الأرزاق الهلالية، وتفقدهم في الفصول إلى أن كان من أمرهم ما هو معلوم.
اختلاعه في يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة أحيط بهذا السلطان، وأتت الحيلة عليه، وهو مصاب بعينيه، مقعدٌ في كنه، فداخلت طائفة من وجوه الدولة أخاه، وفتكت بوزيره الفقيه أبي عبد الله بن الحكيم،ونصبت للناس الأمير أبا الجيوش نصراً أخاه، وكبست منزل السلطان، فأحيط به، وجعل الحرس عليه، وتسومع بالكائنة فكان البهت، وسال من الغوغاء البحر، فتعلقوا بالحمراء، يسألون عن الحادثة، فشغلوا بانتهاب دار الوزير، وبها من مال الله ما يفوت الوصف، وكان الفجع في إضاعته على المسلمين، وإطلاق الأيدي الخبيثة عليه عظيماً، وفي آخر اليوم عند الفراغ من الأمر، دخل على السلطان المخلوع، الشهداء، عليه بخلعه، بعد نقله من دار ملكه إلى دار أخرى، فأملى رحمه الله، زعموا، وثقية خلعه، مع شغب الفكر، وعظم الداهية، وانتقل رحمه الله بعد، إلى القصر المنسوب إلى السيد بخارج الحضرة، أقام به يسيراً، ثم نقل إلى مدينة المنكب، وكان من أمره ما يذكر إن شاء الله.
ومما يؤثر من ظرفه، حدث من كان منوطاً به من خاصته، مدة أيام إقامته بقصر نجد، قبل خلعه، قال: أرسل الله الأغربة على سقف القصر، وكان شديد التطير والقلق لذلك حسبما تقدم من الإشارة إلى ذلك بحديث العشر، وكان من جملتها غرابٌ، شديد الإلحاح، حاد النعيب والصياح، فأغرى به الرماة من مماليكه بأنواع القسى، فأبادوا من الغربان أمة، وتخطأ الحتف ذلك الغراب الخبيث العبقان، فلما انتقل إلى سكنى الحمراء، ظهر ذلك الغراب على سقفه، ثم لما أهبط مخلوعاً إلى قصر شنيل تبعه، وقام في بعض السقف أمامه، فقال يخاطبه رحمه الله: يا مشئوم، يا محروم بين الغربان، قد خلصت أمرنا، ولم يبق لك علينا طلب، ولا بيننا وبينك كلام، إرجع إلى هؤلاء المحارم فاشتغل بهم، قال، فأضحكنا على حال الكآبة بعذوبة منطقه، وخفة روحه.
وفاتهقد تقدم ذكر استقراره بالمنكب، وفي أخريات شهر جمادى الآخرة عام عشرة وسبعمائة، أصابت السلطان نصراً سكتةٌ، توقع منها موته، بل شك في حياته، فوقع التفاوض الذي تمحض إلى التوجيه عن السلطان المخلوع الذي بالمنكب ليعود إلى الأمر، فكان ذلك وأسرع إلى إيصاله إلى غرناطة في محفة، فكان حلوله بها في رجب من العام المذكور. وكان من قدر الله، أن أفاق أخوه من مرضه، ولم يتم للمخلوع الأمر، فنقل من الدار التي كان بها إلى دار أخيه الكبرى، فكان آخر العهد به. ثم شاعت وفاته أوائل شوال من العام المذكور، فذكر أنه اغتيل غريقاً في البركة في الدار المذكورة لما توقع من عادية جواره، ودفن بمقبرة السبيكة، مدفن قومه، بجوار الغالب بالله جده، ونوه بجدثه وعليه مكتوب ما نصه:

هذا قبر السلطان الفاضل، الإمام العادل، علم الأتقياء، أحد الملوك الصلحاء، المخبت الأواه، المجاهد في سبيل الله، الرضي الأورع، الأخشى الله الأخشع، المراقب في السر والإعلان، المعمور الجنان بذكره واللسان، السالك في سياسة الخلق وإقامة الحق، منهاج التقوى والرضوان، كافل الأمة بالرأفة والحنان، الفاتح لها بفضل سيرته، وصدق سريرته، ونور بصيرته، أبواب اليمن والأمان، المنيب الأواب، العامل ما يجده نوراً مبيناً يوم الحساب، ذي الآثار السنية، والأعمال الطاهرة، القائم في جهاد الكفار بماضي العزم وخلص النية، المقيم قسطاس العدل، المنير منهاج الحلم والفضل، حامي الذمار، وناصر دين المصطفى المختار، المقتدي بأجداده الأنصار، المتوسل بفضل ما أسلفوه من أعمال البر والجهاد، ورعاية العباد والبلاد، إلى الملك القهار، أمير المسلمين، وقامع المعتدين، المنصور بفضل الله، أبي عبد الله، ابن أمير المسلمين الغالب بالله، السلطان الأعلى، إمام الهدى، وغمام الندى، محيي السنة، حسن الأمة، المجاهد في سبيل الله، الناصر لدين الله، أبي عبد الله، ابن أمير المسلمين الغالب بالله، أبي عبد الله، بن يوسف بن نصر،كرم الله وجهه ومثواه، ونعمه برضاه. ولد رضي الله عنه يوم الأربعاء الثالث لشعبان المكرم من عام خمسة وخمسين وستمائة. وتوفي قدس الله روحه، وبرد ضريحه، ضحوة يوم الإثنين الثالث لشوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، رفعه الله إلى منازل أوليائه الأبرار، وألحقه بأئمة الدين، لهم عقبى الدار، وصلى الله على سيدنا محمد المختار، وعلى آله، وسلم تسليما.
ومن الجانب الآخر:
رضي الملك الأعلى يروح ويغتدي ... على قبر مولانا الإمام المؤيد
مقر العلى والملك والبأس والندى ... فقدس من مغنى كريم ومشهد
ومثوى الهدى والفضل والعدل والتقي ... فبورك من مثوى زكي وملحد
فيا عجباً طود الوقار جلالة ... ثوى تحت أطباق الصفيح المنضد
وواسطة العقد الكريم الذي له ... مآثر فخرٍ بين مثنى وموحد
محمد الرضى سليل محمد ... إمام الندى نجل الإمام محمد
فيا نخبة الأملاك غير منازعٍ ... ويا علم الأعلام غير مفند
بكتك بلادٌ كنت تحمي ذمارها ... بعزمٍ أصيلٍ أو برأي مسدد
وكم معلم للدين أوضحت رسمه ... بني لك في الفردوس أرفع مصعد
كأنك ما سست البلاد وأهلها ... بسيرة ميمون النقيبة مهتد
كأنك ما قدت الجيوش إلى العدا ... فصيرتهم نهب القنا المتقصد
وفتحت من أقطارهم كل مبهم ... فتحت به باب النعيم المخلد
كأنك ما أنفقت عمرك في الرضى ... بتجديد غزوات وتشييد مسجد
وإنصاف مظلومٍ وتأمين خائفٍ ... وإصراخ مذعورٍ وإسعاف مجتد
كأنك ما احييت للخلق سنة ... تجادل عنها باللسان وباليد
كأنك ما أمضيت في الله عزمة ... تدافع فيها بالحسام المهند
فإن تجهل الدنيا عليك وأهلها ... بذاك ثوب الله يلقاك في غد
تعوضت ذخراً من مقام خلافة ... مقيمٍ منيبٍ خاشع متعبد
وكل الورى من كان أو هو كائنٌ ... صريع الردى إن يكن فكأن قد
فلا زال جاراً للرسول محمد ... بدار نعيمٍ في رضى الله سرمد
وهذي القوافي قد وفيت بنظمها ... فيا ليت شعري هل يصيخ لمنشد
محمد بن نصر الأنصاري الخزرجيمحمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الأنصاري الخزرجي ثاني الملوك الغالبين من بني نصر، وأساس أمرهم، وفحل جماعتهم
أوليتهتقرر بحول الله في اسم أبيه الآتي بعد حسب الترتيب المشترط.
حاله

من كتاب طرفة العصر من تأليفنا، كان هذا السلطان أوحد الملوك جلالة وصرامة، وحزماً. مهد الدولة، ووضع ألقاب خدمتها، وقرر مراتبها، واستجاد أبطالها، وأقام رسوم الملك فيها، واستدر جباياتها، مستظهراً على ذلك، بسعة الذرع، وأصالة السياسة، ورصانة العقل، وشدة الأسر ووفور الدهاء، وطول الحنكة، وتملؤ التجربة، مليح الصورة، تام الخلق، بعيد الهمة، كريم الخلق، كثير الأناة. قام بالأمر بعد أبيه، وباشره مباشرة الوزير أيام حياته، فجرى على سنن أبيه، من اصطناع أجناسه، ومداراة عدوه، وأجرى صدقاته، وأربى عليه بخلال، منها براعة الخط، وحسن التوقيع، وإيثار العلماء، والأطباء، والعدلين، والحكماء، والكتاب، والشعراء، وقرض الأبيات الحسنة، وكثرة الملح، وحرارة النادرة. وطما بحرٌ من الفتنة لأول استقرار أمره، وكثر عليه المنتزون والثوار، وارتجت الأندلس، وسط أكلب الكفار، فصبر لزلزالها، رابط الجأش، ثابت المركز، وبذل من الاحتيال، والدهاء، المكنوفين بجميل الصبر، ما أظفره بخلو الجو. وطال عمره، وجد صيته، واشتهر في البلاد ذكره، وعظمت غزواته، وسيمر من ذكره ما يدل على أجل من ذلك إن شاء الله.
شعره وتوقيعهوقفت على كثير من شعره، وهو نمطٌ منحط بالنسبة إلى أعلام الشعراء ومستظرفٌ من الملوك والأمراء. من ذلك، يخاطب وزيره:
تذكر عزيز ليالٍ مضت ... وأعطاءنا المال بالراحتين
وقد قصدتنا ملوك الجها ... ت ومالوا إلينا من العدوتين
وإذا سأل السلم منا اللعي ... ن فلم يحظ إلى بخفي حنين
وتوقيعه يشذ عن الإحصاء، وبأيدي الناس إلى هذا العهد كثير من ذلك، فمما كتب به على رقعة كان رافعها يسأل التصرف في بعض الشهادات ويلح عليها:
يموت على الشهادة وهو حي ... إلهي لا تمته على الشهادة
وأطال الخط عند إلهي إشعاراً بالضراعة عند الدعاء والجد. ويذكر أنه وقع بظهر رقعة اشتكى ضرر أحد الجند المنزلين في الدور، ونبزه بالتعرض لزوجه: يخرج هذا النازل ولا يعوض بشيء من المنازل.
بنوهثلاثة، ولي عهده أبو عبد الله المتقدم الذكر، وفرج المغتال أيام أخيه، ونصر الأمير بعد أخيه.
بناته: أربع، عقد لهن، جمع أبرزهن إلى أزواجهن، من قرابتهن، تحت أحوال ملوكية، ودنيا عريضة، وهن: فاطمة، ومؤمنة، وشمس، وعائشة. وفاطمة منهن أم حفيده إسماعيل الذي ابتز ملك بنيه عام ثلاثة عشر وسبعمائة.
وزيرهكان وزيره، الوزير الجليل الفاضل، أبو سلطان، لتقارب الشبه، زعموا في السن والصورة، وفضل الذات، ومتانة الدين، وصحة الطبع، وجمال الرواء، أغنى وحسنت واسطته، ورفعت إليه الوسائل، وطرزت باسمه الأوضاع، واتصلت إلى أيامه أيام مستوزره، ثم صدراً من أيام ولي عهده.
كتابهولي له خطة الكتابة والرياسة العليا في الإنشاء جملةٌ، منهم كاتب أبيه أبو بكر ابن أبي عمرو اللوشي، ثم الأخوان أبو علي الحسن والحسين، إبنا محمد بن يوسف ابن سعيد اللوشي، سبق الحسن وتلاه الحسين، وكانا توأمين، ووفاتهما متقاربة، ثم كتب له الفقيه أبو القاسم محمد بن محمد بن العابد الأنصاري، آخر الشيوخ، وبقية الصدور والأدباء، أقام كاتباً مدة إلى أن أبرمه انحطاطه في هوى نفسه، وإيثاره المعاقرة، حتى زعموا أنه قاء ذات يوم بين يديه.
فأخره عن الرتبة، وأقامة في عداد كتابه إلى أن توفي تحت رفده. وتولى الكتابة الوزير أبو عبد الله بن الحكيم، فاضطلع بها إلى آخر دولته.
قضاتهتولي له خطة القضاء، قاضي أبيه، الفقيه العدل، أبو بكر بن محمد بن فتح الإشبيلي الملقب بالأشبرون. تولى قبل ذلك خطة السوق، فلقي سكران أفرط في قحته، واشتد في عربدته، وحمل على الناس، فأفرجوا عنه، فاعترضه واشتد عليه حتى تمكن منه بنفسه، واستنصر في حده، وبالغ في نكاله، واشتهر ذلك عنه، فجمع له أمر الشرطة وخطة السوق، ثم ولي القضاء، فذهب أقصى مذاهب الصرامة، إلى أن هلك، فولي خطة القضاء بعده الفقيه العدل أبو عبد الله محمد بن هشام من أهل ألش، لحكاية غبطت السلطان بدينه، ودلته على محله من العدل والفضل، فاتصلت أيام قضائه إلى أيام مستقضية، رحمه الله.

جهاده: وباشر هذا السلطان الوقائع، فانجلت ظلماتها، عن صبح نصره، وطرزت مواقعها بطراز جلادته وصبره، فمنها وقيعة المطران وغيرها، مما يضيق التأليف عن استقصائه. وفي شهر المحرم من عام خمسة وتسعين وستمائة، على تفئة هلاك طاغية الروم، شانجه بن أدفونش، عاجل الكفار لحين دهشهم، فحشد أهل الأندلس، واستنفر المسلمين، فاغتنم الداعية، وتحرك في جيش، يجر الشوك والشجر، ونازل مدينة قيجاطة وأخذ بكظمها، ففتحها الله على يديه، وتملك بسببها جملة من الحصون التي ترجع إليها، وكان الفتح في ذلك عظيما، وأسكنها جيشاً من المسلمين، وطائفة من الحامية، فأشرقت العدو بريقه. وفي صائفة عام تسعة وتسعين وستمائة، نازل مدينة القبذاق فدخل جفنها، واعتصم من تأخر أجله بقصبتها، ذات القاهرة العظيمة الشأن، الشهيرة في البلدان، فأحيط بهم، فخذلوا وزلزل الله أقدامهم، فألقوا باليد، وكانوا أمنع من عقاب الجو، وتملكها على حكمه، وهي من جلالة الوضع، وشهرة المنعة، وخصب الساحة، وطيب الماء، والوصل إلى أفلاذ الكفر، والاطلاع على عوراته، بحيث شهر. فكان تيسر فتحها من غرائب الوجود، وشواهد اللطف، وذلك في صلاة الظهر من يوم الأحد الثامن لشهر شوال عام تسعة وتسعين وستمائة، وأسكن بها رابطة المسلمين، وباشر العمل في خندقها بيده رحمه الله، فتساقط الناس، من ظهور دوابهم إلى العمل، فتم ما أريد منه سريعاً.
وأنشدني شيخنا أبو الحسن الجياب بهنئه بهذا الفتح:
عدوك مقهورٌ وحزبك غالب ... وأمرك منصور وسهمك صائب
وشخصك مهما لاح للخلق أذعنت ... لهيبته عج الورى والأعارب
وهي طويلة.
من كان على عهده من الملوك.
كان على عهده بالمغرب، السلطان الجليل، أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق، الملقب بالمنصور، وكان ملكاً صالحاً، ظاهر السذاجة، سليم الصدر، مخفوض الجناح، شارعاً أبواب الدالة عليه منهم، أشبه بالشيوخ منه بالملوك، في إخمال اللفظ، والإغضاء عن الجفوة، والنداء بالكنية. وهو الذي استولى على ملك، الموحدين، واجتث شجرتهم من فوق الأرض، وورث سلطانهم، واجتاز إلى الأندلس، كما تقدم مرات ثلاث أو أزيد منها، وغزا العدو، وجرت بينه وبين السلطان المترجم به أمور، من سلم ومنقاضة، وإعتاب، وعتب، حسبما تدل على ذلك القصائد الشهيرة المتداولة، وأولها ما كتب به على عهده، الفقيه الكاتب الصدر، أبو عمرو بن المرابط، في غرض استنفاد للجهاد:
هل من معيني في الهوى أو منجدي ... من متهم في الأرض أو منجد
وتوفي السلطان المذكور بالجزيرة الخضراء في عنفوان وحشة بينه وبين هذا السلطان في محرم خمسة وثمانين وستمائة، وولي بعده ولده، العظيم الهمة، القوي العزيمة، أبو يعقوب يوسف، وجاز إلى الأندلس على عهده، واجتمع به بظاهر مربلة، وتجدد العهد، وتأكد الود، ثم عادت الوحشة المفضية إلى تغلب، العدو على مدينة طريف، فرضة المجاز الأدنى، واستمرت أيام السلطان أبي يعقوب إلى آخر مدة السلطان المترجم به، ومدة ولده بعده.
وبوطن تلمسان، أبو يحيى يغمور، وهو يغمر اسن بن زيان بن ثابت بن محمد ابن بندوسن بن طاع الله بن علي بن يمل، وهو أوحد اهل زمانه جرأة وشهامة، ودهاء، وجزالة، وحزماً. مواقفه في الحروب شهيرة، وكانت بينه وبين بني مرين وقائع، كان عليه فيها الظهور، وربما ندرت الممانعة، وعلى ذلك فقوى الشكيمة، ظاهر المنعة. ثم ولي بعده ولده عثمان إلى تمام مدة السلطان المترجم به، وبعضاً من دولة ولده.
وبوطن إفريقية، الأمير الخليفة، أبو عبد الله بن أبي زكريا بن أبي حفص، الملقب بالمستنصر، المثل المضروب، في البأس والأنفة، وعظم الجبروت، وبعد الصيت، إلى أن هلك سنة أربعة وسبعين وستمائة، ثم ولده الواثق بعده، ثم الأمير أبو إسحاق وقد تقدم ذكره. ثم كانت دولة الدعي ابن أبي عمارة المتوثب على ملكهم، ثم دولة أبي حفص مستنقذها من يده، وهو عمر بن أبي زكريا ابن عبد الواحد، ثم السلطان الخليفة الفاضل، الميمون النقيبة، أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن المستنصر أبي عبد الله، بن الأمير زكريا.

وبوطن النصارى، بقشتالة، ألفنش بن هراندة، إلى أن ثار عليه ولده شانجه، واقتضت الحال إجازة سلطان المغرب، واستجار به، وكان من لقائه بأحواز الصخرة من كورة تاكرنا ما هو معلوم. ثم ملك بعده ولده شانجه، واتصلت ولايته مدة أيام السلطان، وجرت بينهما خطوب إلى أن هلك عام أربع وسبعين وستمائة. وولي بعده ولده هراندة سبعة عشر عاماً، وصار الملك إليه، وهو صبيٌ صغير فتنفس مخنق أهل الأندلس، وغزا سلطانهم وظهر إلى آخر مدته. وبرغون، ألفنش بن جايمش بن بطره بن جايمش المستولى على بلنسية، ثم هلك وولي بعده جايمش ولده، وهو الذي نازل مدينة ألمرية على عهد نصرٍ ولده، واستمرت أيام حياته إلى آخر مدته. وكان لا نظير له في الدهاء، والحزم، والقوة.
من الأحداث في أيامهعلى عهده تفاقم الشر، وأعيا داء الفتنة، ولقحت حرب الرؤساء، الأصهار من بني إشقيلولة، فمن دونهم، وطنب سرادق الخلاف، وأصاب الأسر وفحول الثروة الرؤساء، فكان بوادي آش الرئيسان أبو محمد وأبو الحسن، وبمالقة وقمارش الرئيس أبو محمد عبد الله، وبقمارش: رئيس آخر هو الرئيس أبو إسحاق، فأما الرئيس أبو محمد فهلك، وقام بأمره بمالقة، ولده، وابن أخت السلطان المترجم به. ثم خرج عنها في سبيل الانحراف والمنابذة إلى ملك المغرب، ثم تصير أمرها إلى السلطان، على يد واليها من بني علي. وأما الرئيسان فصابرا المضايقة، وعزماً على النطاق والمقاطعة بوادي آش زماناً طويلاً. وكان آخر أمرهما الخروج عن وادي آش إلى ملك المغرب: معوضين بقصر كتامة، حسبما يذكر في أسمائهم. إن بلغنا الله إليه.
في أيامهكان جواز السلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبدالحق، إلى الأندلس، مغازياً ومجاهداً في سبيل الله. في أوائل عام اثنين وسبعين وستمائة، وقد فسد ما بين سلطان النصارى وبين ابنه، واغتنم المسلمون الغرة، واستدعى سلطان المغرب إلى الجواز، ولحق به السلطان المترجم به، وجمع مجلسه بين المنتزين عليه وبينه، وأجلت الحال عن وحشة، وقضيت الغزاة، وآب السلطان إلى مستقره.
وفي العام بعده، كان إيقاع السلطان ملك المغرب بالزعيم، ذنوبه، واستئصال شأفته، وحصد شوكته. ثم عبر البحر ثانية بعد رجوعه إلى العدوة، واحتل بمدينة طريف في أوائل ربيع الأول عام سبعة وسبعين وستمائة، ونازل إشبيلية، وكان اجتماع السلطانين بظاهر قرطبة، فاتصلت اليد، وصلحت الضمائر، ثم لم تلبث الحال أن استحالت إلى فساد، فاستولى ملك المغرب على مالقة، بخروج المنتزي بها إليه، إلى يوم الأربعاء التاسع والعشرين لرمضان عام سبعة وسبعين وستمائة. ثم رجعت إلى ملك الأندلس بمداخلة من كانت بيده ولنظره، حسبما يأتي بعد إن شاء الله.
وعلى عهده نازل طاغية الروم الجزيرة الخضراء، وأخذ بمخنقها، وأشرف على افتتاحها، فدافع الله عنها، ونفس حصارها، وأجاز الروم بحرها، على يد الفئة القليلة من المسلمين، فعظم المنح، وأسفر الليل، وانجلت الشدة، في وسط ربيع الأول من عام ثمانية وسبعة وسبعين وستمائة.
مولدهبغرناطة عام ثلاثة وثلاثين وستمائة، وأيام دولته ثلاثون سنة، وشهر واحد، وستة أيام.
وفاتهمن كتاب طرفة العصر من تأليفنا في التاريخ، قال، واستمرت الحال إلى أحد وسبعمائة، فكانت في ليلة الأحد الثامن من شهر شعبان في صلاة العصر، وكان السلطان رحمه الله في مصلاه، متوجهاً إلى القبلة لأداء فريضته، على أتم ما يكون عليه المسلم من الخشية والتأهب، زعموا أن شرقاً كان يعتاده لمادة كانت تنزل من دماغه، وقد رجمت الظنون في غير ذلك لتناول عشية يومه كعكا اتخذت له بدار ولي عهده، والله أعلم بحقيقة ذلك. ودفن منفرداً، عن مدفن سلفه، شرقي المسجد الأعظم في الجنان المتصل بداره، ثم ثني بحافده السلطان أبي الوليد، وعزز بثالث كريم من سلالته، وهو السلطان أبو الحجاج ابن أبي الوليد، تغمد الله جميعهم برحمته، وشملهم بواسع مغفرته وفضله.
الجزء الثاني

محمد بن يوسف بن قصر الخزرجي
محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن فرج بن يوسف بن قصر الخزرجي

أمير المسلمين لهذا العهد بالأندلس، صدر الصدور، وعلم الأعلام، وخليفة الله، وعماد الإسلام، وقدوة هذا البيت الأصيل، ونير هذا البيت الكريم، ولباب هذا المجد العظيم، ومعنى الكمال، وصورة الفضل، وعنوان السعد، وطاير اليمن، ومحول الصنع، الذي لا تبلغ الأوصاف مداه، ولا توفى العبارة حقه، ولا يجري النظم والنثر في ميدان ثنايه، ولا تنتهي المدائح إلى عليائه.
أوليتهأشهر من إمتاع الضحى، مستولية على المدا، بالغلة بالسعة بالانتساب إلى سعد بن عبادة عنان السماء، مبتجحة في جهاد العدا؛ بحالة من ملك جزيرة الأندلس، وحسبك بها، وهي بها في أسنى المزاين والحلى، وقدماً فيه بحسب لمن سمع ورأى.
حالههذا السلطان أيمن أهل بيته نقيبة، وأسعدهم ميلاداً وولاية، قد جمع الله له بين حسن الصورة، واستقامة البنية، واعتدال الخلق، وصحة الفكر، وثقوب الذهن، ونفوذ الإدراك. ولطافة المسايل، وحسن التأني؛ وجمع له من الظرف ما لم يجمع لغيره، إلى الحلم، والأناة اللذين يحبهما الله، وسلامة الصدر، التي هي من علامة الإيمان، ورقة الحاشية، وسرعة العبرة، والتبرين في ميدان الطهارة والعفة، إلى ضخامة التنجد، واستجادة الآلات، والكلف بالجهاد، وثبات القدم، وقوة الجأشئ،ِ ومشهور البسالة، وإيثار الرفق، وتوخي السداد، ونجح المحاولة. زاده الله من فضله، وأبقى أمره في ولده، وأمتع المسلمين بعمره. ساق الله إليه الملك طواعية واختياراً، إثر صلاة عيد الفطر على بغتة وفاة المقدس أبيه، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، لمخايل الخير، ومزية السن، ومظنة البركة، وهو يافع، قريب العهد بالمراهقة، فأنبته الله النبات الحسن، وسدل به الستر؛ وسوغ العافية، وهنأ العيش؛ فلم تشح في مدته السماء، ولا كلب الأعداء، ولا تبدلت الألقاب، ولا عونيت الشدائد، ولا عرف الخوف، ولا فورق الخصب، إلى أن كانت عليه الحادثة، ونابه التمحيص، الذي أكسبه الحنكة، وأفاده العبرة، فشهد بعناية الله في كف الأيدي العادية، وأخطأ ألم السهام الراشقة، وتخييب الآمال المكايدة، وانسدال أروقة الستر والعصمة، ثم العودة، الذي عرف الإسلام، بدار الإسلام قدرها، وتملأ عزها، ورجح وزنها، كما اختبر ضدها فرصة الملك، وشاع العدل، وبعد الصيت، وانتشر الذكر، وفاض الخير؛ وغزر القطر، فظهرت البركات، وتوالت الفتوح، وتخلدت الآثار. وسيرد من بيان هذه الجمل، ما يسعه الترتيب بحول الله.
ترتيب دولته الأولىإذ هو ذو دولتين، ومسوغ ولايتين، عززهما الله، بملك الآخرة، بعد العمر الذي يملأ صحايف البر، ويخلد حسن الذكر، ويعرف إلى الوسيلة، ويرفع في الرفيق الأعلى الدرجة، عند الله خير وأبقى للذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون.
وزراؤه وحجابه أنتدب إلى النيابة عنه، والتشمير إلى الحجابة ببابه، الشيخ القايد المعتمد بالتجلة، المتحول من الخدام النبهاء، المتسود الأبوة، المخصوص بالفدح المعلى من المزية، المسلم له في خصوصية الملك والتربية، ظهير العلم والأدب، وأمين الجد، ومولى السلف، ومفرغ الرأي إلى هذا العهد، وعقد سفرة السلطان، وبقية رجال الكمال من مشيخة المماليك، وخيار الموالي، أبا النعيم رضوان رحمه الله، فحمد الكل، وخلف السلطان، وأبقى الرتب، وحفظ الألقاب، وبذل الإنصاف، وأوسع السكنف، واستدعى النصيحة، ولم يأل جهداً في حسن السيرة، وتظاهر المحض، وأفردني بالمزية وعاملني بما يرتد عنه جسر أطرف الموالاة والصحبة، ووفى لي الكيل الذي لا يقتضيه السن، والقربة من الاشتراك في الرتبة، والتزحزح عن الهضبة، والاختصاص باسم الوزارة على المشهر والغيبة، والمحافظة على التشيع والقدمة، بلغ في ذلك أقصى الغايات. مدارج التخلق المأثور عن الجلة، والتودد إلى المرة بعد المرة، واختصصت بفوت المدة بالسلطان، فكنت المنفرد بسره دونه، ومفضي همه، وشفاء نفسه، فيما ينكره من فتنة تقع في سيرته، أو تصير توجيه السذاجة في معاملاته، وصلاح ما يتغير عليه من قلبه، إلى أن لحق بربه.
شيخ الغزاة ورئيس الجند الغربي لأول أمره

أقر على الغزاة شيخهم على عهد أبيه، أبا زكريا يحيى بن عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق، مطمح الطواف، وموفي الاختيار، ولباب القوم، وبقية السلف. حزماً ودهاء، وتجربة وحنكة وجداً وإدراكاً ناهيك من رجل فذ المنازع، غريبها، مستحق التقديم، شجاعة وأصالة، ورأياً ومباحثة، نسابة قبيله، وأضحى قسهم، وكسرى ساستهم، إلى لطف السجية، وحسن التأني، لغرض السلطان، وطرق التنزل للحاجات، ورقة غزل الشفاعات. وإمتاع المجلس، وثقوب الذهن والفهم، وحسن الهيئة. وزاده خصوصية ملازمته مجلس الرفاع المعروضة. والرسل الواردة. وسيأتي ذكره في موضعه بحول الله تعالى.
كاتب سره قمت لأول الأمر بين يديه بالوظيفة التي أسندها إلي أبوه المولى المقدس، رحمه الله، من الوقوف على رأسه، والإمساك في التهاني والمبايعة بيده. والكتابة والإنشاء والعرض والجواب. والخلعة والمجالسة، جامعاً بين خدمة القلم، ولقب الوزارة، معزز الخطط برسم القيادة، مخصوصاً بالنيابة عنه في الغيبة، على كل ما اشتمل عليه سور القلعة والحضرة، مطلق أمور الإيالة، محكماً في أشتاته تحيكم الأمانة، مطلق الجراية، ظاهر الجاه والنعمة. ثم تضاعف العز، وتأكد الرعي، وتمحض القرب، فنقلني من جلسة المواجهة، إلى صف الوزارة؛ وعاملني بما لا مزيد عليه من العناية، وأحلني المحل الذي لا فوقه في الخصوصية، كافأ الله فضله، وشكر رعيه، وأعلى محله عنده.
وأصدر لي هذا الظهير لثاني يوم ولايته: هذا ظهير كريم، صفي شربه. وسفرني في الرسالة عنه، إلى السلطان، الخليفة الإمام، ملك المغرب، وما إليه من البلاد الإفريقية، أبي عنان، حسبما يأتي ذكره. ثم أعفاني في هذه المدة الأولى، عن كثير من الخدمة، ونوه بي عن مباشرة العرض بين يديه بالجملة، فاخترت للكل والبدلة، وما صان عنه في سبيل التجلة، وإن كان منتهي أطوار الرفعة، الفقيه أبا محمد بن عطية، مستنزلاً عن قضاه وادي آش وخطابتها، فكان يتولى ما يكتب بنظري، وراجعاً لحكمى، ومتردداً لبالي، مكفي المؤنة في سبيل الحمل الكلي، إلى وقوع الحادثة، ونفوذ المشيئة بتحويل الدولة.
قضاته حدد أحكام القضاء والخطابة لقاضي أبيه الشيخ الأستاذ الشريف، نسيج وحده، وفريد دهره، إغراباً في الوقار، وحسن السمت وأصالة البيت، وتبحراً في علوم اللسان، وإجهازاً في فصل القضايا، وانفراداً ببلاغة الخطبة، وسبقاً في ميدان الدهاء والرجاحة، أبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني، الجانح إلى الإيالة النصرية من مدينة سبتة. وسيأتي التعريف به في مكانه إن شاء الله. وتوفي رحمه الله بين يدي حدوث الحادثة، فأرجئ الأمر بمكانه، إلى قدوم متلفق الكرة، ومتعاور تلك الخطة، الشيخ الفقيه القاضي، أبي البركات قاضي أبيه. ووليها الأحق بها بعده، إذ كان غايباً في السفارة عنه، فوقع التمحيص قبل إبرام الأمر على حال الإستنابة.
الملوك على عهده وأولهم بالمغرب، السلطان، الإمام، أمير المسلمين، أبو عنان ابن أمير المسلمين أبي الحسن بن أمير المسلمين أبي سعيد بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، البعيد الشأو في ميدان السعادة، والمصمى أغراض السداد، ومعظم الظفر، ومخول الموهبة، المستولي على آماد الكمال، عقلاً وفضلاً وأبهةً ورواءاً، وخطاً وبلاغة، وحفظاً وذكاء وفهماً وأقداماًً، تغمده الله برحمته، بعثني إلى بابه رسولاً على إثر بيعته، وتمام أمره، وخاطباً إثره ووده، مسترفداً من منحة قبوله، فألفيت بشراً مبذولا، ورفداً ممنوحاً، وعزاً باذخاً، يضيق الزمان عن جلالته، وتقصر الألسنة عن كنه وصفه، فكان دخولي عليه في الثامن والعشرين من شهر ذي قعدة عام خمسة وخمسين المذكور، وأنشدته بين يدي المخاطبة، ومضمن الرسالة:
خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجا قمر

فأحسب وكفى، واحتفل واحتفى، وأفضت بين يدي كرمته، إلى الحضور معه في بعض المواضع المطلة على مورد وحب. هاج به الخدام أسداً، أرود، شئن الكفين مشعر اللبدة، حتى مرق عن تابوت خشبي كان مسجونا به، من بعد إقلاعه، من بعض كواه، وأثارته من خلقه، واستشاط وتوقد بأساً. وجلب ثور عبل الشوى، منتصب المروى، يقدمه صوار من الجواميس، فقربت الخطا، وحميت الوغى، وبلغ الزئير والجوار ما شاء، في موقف من ميلاد الشيم العلي يخشى الجبان مقارعة العدا، ويوطن نفسه الشجاع على ملاقة الردى، وخار الأسد عن المبارزة، لما بلغ منه ثقافاً عن رد المناوشة، ومضطلعاً بأعباء المحاملة، فتخطاه إلى طائفة من الرجالة، أولى عدة، وذوي دربة، حمل نفسه متطارحاً كشهاب الرجم، وسرك الدجا، وأخذته رماحهم بإبادته، بعد أن أردى بعضهم، وجدل بين يدي السلطان، متخبطا في دمه. وعرض بعض الحاضرين، وأغرى بالنظم في ذلك، فأنشدته:
أنعام أرضك تقهر الآسادا ... طبعاً كسا الأرواح والأجسادا
وخصايص لله بث ضروبها ... في الخلق ساد لأجلها من سادا
إن الفضايل في حماك بضايع ... لم تخش من بعد النفاق كسادا
كان الهزبر محارباً فجزيته ... بجزاء من في الأرض رام فسادا
فابغ المزيد من آلايه بشكره ... وأرغم بما خولته الحسادا
فستحسن تأتى القريحة، وإمكان البديهة، مع قيد الصفة، وهيبة المجلس. وكان الانصراف بأفضل ما عاد به سفير، من واد أصيل، وإمداد موهوب، ومهاداة أثيرة وقطار مجنوب، وصامت محمول، وطعمة مسوغة. وكان الوصول في وسط محرم من عام ست وخمسين وسبع ماية، وقد نجح السعي، وأثمر الجهد، وصدقت المخيلة، وقد تضمن رحلى الوجهة، والأخرى قبلها جزء. والحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وتوفى زعموا بحيلة، وقيل حتف أنفه، لما نهكه المرض، وشاع عنه الإرجاف، وتنازع ببابه الوزراء، وتسابق إلى بابه الأبناء. وخاف مدبر أمره، عايدة ملامته، على توقع برئه، وكان سيفه يسبق على سوطه، والقبر أقرب إلى من تعرض لعتبه من سجنه، فقضى موضع هذا السبيل خاتمة الملوك الجلة، من أهل بيته. جدد الملك، وحفظ الرسوم، وأجرى الألقاب، وأغلظ العقاب، وصير إيالته أضيق من الخد. وأمد الأندلس، وهزم الأضداد، وخلد الآثار، وبنى المدارس والزوايا، واستجلب الأعلام. وتحرك إلى تلمسان فاستضافها إلى إيالته، ثم ألحق بها قسنطينة وبجاية، وجهز أسطوله إلى تونس، فدخلها وتملكها ثقاته في رمضان عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، واستمرت بها دعوته إلى ذي قعدة من العام، رحمة الله عليه. وكانت وفاته في الرابع عشر لذي حجة من عام تسع وخمسين وسبعمائة. وصار الأمر إلى ولده المسمى بالسعيد، المكنى بأبي بكر، مختار وزيره ابن عمر الفدووي. ورام ضبط الإيالة المشرقية فأعياه ذلك، وبايع الجيش الموجه إليها منصور بن سليمان، ولجأ الوزير وسلطانه إلى البلد الجديد، مثوى الخلافة المرينية، فكان أملك بها. ونازله منصور بن سليمان، ثم استفضى إليه أمر البلد لحزم الوزير وقوة شكيمته. وغادر السلطان أبو سالم إبراهيم بن السلطان أبي الحسن أخو الهالك السلطان أبي عنان الأنلسي، وقد كان استقر بها بإبعاد أخيه إياه عن المغرب، كما تقدم في اسمه، فطلع على الوطن الغربي بإعانة من ملك النصارى، عانى فيها هولاً كثيراً، واستقر بآخرة بعد إخفاق شيعته المراكشيةِ، بساحل طنجة، مستدعي ممن بجبال غمارة، ودخلت سبتة وطنجة في طاعته. وفر الناس عن منصور بن سليمان، ضربة لازب، وتقبض عليه وعلى ابنه، فقتلا صبراً، نفعهما الله. وتملك السلطان أبو سالم المدينة البيضاء يوم الخميس عشر لشعبان عام ستين وسبعمائة، بنزول الوزير وسلطانه عنها إليه. ثم دالت الدولة. وكان من لحاق السلطان برندة، واستعانته على رد ملكه ما يأتي في محله، والبقاء لله سبحانه.
وبتلمسان السلطان أبو حمو موسى بن يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراس بن زيان، قريب العهد باسترجاعها، لأول أيام السعيد.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10