كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب

والسيوف قد كادت تلفظها غمودها، وبصاير الأولياء المجاهدين قد لاح من نصر الله تعالى معهودها. فلما وصلناها، وجدنا ناسنا قد سبقوا إليها بالبوس، وهتكوا ستر عصمتها المحروس، وأذن لها بزوال النعم، وذهاب النفوس، فعاجلها الأولياء بالقتال، وأهدوا إليها حمر المنايا من زرق النصال، ورشقوا جنودها بالنبال، وجدوا بنات الآجال، فلما رأوا ما لا طاقة لهم به، لاذوا بالفرار من الأسوار، وولوا الأدبار، وودعوا الديار وما فيها من الآثار. وتسنم المسلمون ذروة البلد الأول فملكوه، وخرقوا حجاب الستر المسدول عليه وهتكوه، وتسرعوا إلى البلد الثاني، وقد ملأ النصارى أسواره من حماة رجالهم، وانتقوهم من متخيري أبطالهم، ممن وثقوا بإقدامه في حماية ضلالهم، فحمل عليهم المسلمون حملة عرفوهم بها كيف يكون اللقاء، وصرفوهم إلى ما تنصرف إليه أرواحهم من الشقاء، وأظهروا لهم من صدق العزايم ما علموا به أن لدين الإسلام أنصاراً لا يرغبون بأنفسهم عن الذب عنه وحماية راياته، ولا يصدرون إلا إلى طاعة الله ابتغاء مرضاته. وبادر جماعة إلى إضرام باب المدينة بالنيران، وعقدوا تحت سماء العجاج منها سماء الدخان، ورموا النصارى من النبال بشهب تتبع منهم كل شيطان. فهزم الله النصارى؛ وولوا أدبارهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فأخلوا بروجهم وأسوارهم، وتسنمها المسلمون معلنين شعار الإسلام، رافعين من الرايات الحمر كواكب في سماء السعادة تبشر بتيسير كل مرام. ودخلوا المدينة، فألفوا بها من القوت والعتاد، والمتاع الفاخر، الذي يربو على العتداد، ما ملأ كل يمين وشمال، وظهروا عليها بعد بلوغ الأماني على الكمال، وقتلوا بها من الحماة أعداء، أبدوا في حماية ضلالهم ماضي الغنا والاعتزام وأعملوا فيهم ماضي العوامل وشبا الإضرام. وارتفع الصارى إلى القصبة لائذين بامتناعها، معتصمين بعلوها وارتفاعها، متخليلين لضلالهم، وعدم استبصارهم أن نور الهدى لا يحل بديارهم. فرأينا أن نرقى الرجال إلى أبراج البلد وأسواره، وأمرناهم أن يبيتوا طول ليلتهم مضيقين على من اعتصم بالقصبة في حصاره، وعمدنا بالعسكر المظفر إلى موضع استيطانه من المحلة المنصورة واستقراره. فلما بدا ضوء الصباح بنور الإشراق، ولاح وجه الغزالة طارحاً شعاعه على الآفاق، أمرنا بترتيب العساكر على القصبة للحصار، وعينا لكل جماعة مهنهم جهة يبادرون إلى منازلتها بالقتال أشد البدار، فانتهى المسلمون من ذلك إلى غاية لم تخطر للكافرين ببال، وجرعوهم كؤوس المنايا، وأداروا بها بنات الحنايا، فأفضت السجال وأظهر الكفار، مع وقوعهم في بحر الموت صبرا وطمعوا، أن يقيموا بذلك لصلباتهم عذرا. فلما رأوا من عزمنا ما لم تتخيله ظنونهم وأوهامهم، وصابرهم المسلمون عند النزال مصابرة عظم فيها إقدامهم وثبتت أقدامهم ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، إلقاء من هاله لمعان الأسنة، واهتزاز ردينيات القنا، ولاذوا بطلب الأمان لياذ الغريق بالساحل، بعد ما أشرف على الفناء، وهبط زعيمهم، مقتحماً خطر تلك المسالك، متضرعاً تضرع من طمع في الحياة بعد ما أخذته أيدي المهالك، وشرط أن يملكنا القصبة. ويبقى خديماً لنا بما بيده من البلاد الكثيرة والكتيبة المتخبة، فلم نظهر له عند ذلك قبولاً، ولم نجعل له إلى تكميل ما رغب فيه سبلا، فقاده البأس الشديد إلى الإذعان، ورغب أن يكمل ما نريده على شرط الأمان. فأسعفنا رغبته على شروط، بعد عهد المسلمين بمثلها، وهيئت الأسباب بما نعتمده من الثقة بالله وحده في أمورنا كلها، وذلك على كذا وكذا. وحين كملت الشروط حق التكميل، وظهرت لنا منه إمارات الوفاء الجميل، دخلنا القصبة حماها الله، وقد أغنى يوم النصر عن شهر السلاح، كما أغنى ضوء الصبح عن نور المصباح، ورفعت على أبراجها حمر الأعلام، ناطقة عن الإسلام، بالتعريف والإعلام. وفي الحين وجهنا من يقبض تلك الحصون، ويزيل ما بها من جرم الكفر المأفون، أمناء ردالنا. فالحمد لله على هذه النعمة التي أحدثت للقلوب استبشاراًً، وخفضت علم التثليث، ورفعت للتوحيد مناراً، وأظهرت للملة الحنيفية على أعدائها اعتلاء واستكباراً. وهذا القدر من الفتح وإن كان سامي الفخر، باقي الذكر بقائ الدهر، فإننا لنرجو من الله أن يتبعه بما هو أعلى منه متانة، وأعظم في قلوب أهل إيمان موقعاً وأعز مكانة، وأن يرغم بما يظهر على

أيدينا من عز الإسلام، أنف من أظهر له عناداً وخذلانا. فاستبشروا بهذا الفتح العظيم وبشروا، واشكروا الله عليه، فواجب أن تشكروا. وقد كتبنا هذا، ونحن على عزمنا في غزو بلاد الكفار، والسعي الحميد إلى التنكيل بهم والإضرار، والمسلمون أعزهم الله في أرضهم يشنون المغار، ويمتلكون الأنجاد منها والأغوار، ويكثرون القتل والإسار، ويحمون أينما نزلوا السيف والنار، والسلام.ا من عز الإسلام، أنف من أظهر له عناداً وخذلانا. فاستبشروا بهذا الفتح العظيم وبشروا، واشكروا الله عليه، فواجب أن تشكروا. وقد كتبنا هذا، ونحن على عزمنا في غزو بلاد الكفار، والسعي الحميد إلى التنكيل بهم والإضرار، والمسلمون أعزهم الله في أرضهم يشنون المغار، ويمتلكون الأنجاد منها والأغوار، ويكثرون القتل والإسار، ويحمون أينما نزلوا السيف والنار، والسلام.
ومن نثر آخر إجازة ما صورته: وها أنا أجري منه على حسن معتقده، وأكله في هذا الغرض إلى ما رآه بمقتضى تودده، وأجيز له ولولديه، أقر الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه، رواية جميع ما نقلته وحملته، وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني، ولهم الاختيار في تنويعه. والله سبحانه وتعالى يخلص أعمالنا لذاته، و يجعلها في ابتغاء مرضاته. قال هذا محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامداً لله عز وجل، ومصلياً ومسلماً.
وفاتهقتل حمه الله صبيحة عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه. واستولت يد الغوغاء على منازله، شغلهم بها مدبر الفتنة، خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره. فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب، والذخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثي، وأخفرت ذمته، وتعدى به عدوة القتل إلى المثلة، وقانا الله مصارع السوء، فطييف بشلوه، وانتهب فضاع ولم يقبر، وجرت فيه شناعة كبيرة، رحمه الله تعالى.
مولدهبرندة ظهر يوم الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول المبارك، من عام ستين وستمائة. وممن رثاه شيخنا أبو بكر بي شبرين رحمه الله تعالى بقوله:
سقى الله أشلاء كرمن على البلى ... وما غض من مقدارها حادث البلا
ومما شجاني أن أهين مكانها ... وأهمل قدر ما عهدناه مهملا
ألا أصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلا عبدها المتذللا
سفكت وما كان الرقوء نواله ... لقد جئتها شنعاء فاضحة الملا
يكفي سبنتي أزرق العين مطرق ... عدا فغدا في غيه متوغلا
لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكيه المكارم والعلا
إلا إن يوم ابن الحكيم لمثكل ... فؤادي فما ينفك ما عشت مثكلا
فقدناه في يوم أغر محجل ... ففي الحشر نلقاه أغر محجلا
سمت نحوه الأيام وهو عميدها ... فلم تشكر النعمى ولم تحفظ الولا
وخانته رجل في الطواف به سعت ... فناء بصدر للعلوم تحملا
وجدل لم يحضره في الحي ناصر ... فمن مبلغ الأحياء أن مهلهلا
يد الله في ذاك الأديم ممزقا ... تبارك ما هبت جنوباً وشمألا
ومن حزني أن لست أعرف ملحداً ... له فأرى للترب منه مقبلا
رويدك يا من قد غدا شامتاً به ... فبالأمس ما كان العماد المؤملا
وكنا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظل في أوج العلا متوقلا
ذكرناه يوماً فاستهلت جفوننا ... بدمع إذا ما أمحل العام أخضلا
وما زج منه الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا
وهاج لنا شجواً تذكر مجلس ... له كان يهدي الحي والملأ الألى
به كانت الدنيا تؤخر مدبراً ... من الناس حتماً أو تقدم مقبلا
لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا
على خادم الآثار تتلى صحائحا ... على حامل القرآن يتلى مفصلا

على عضد الملك الذي قد تضوعت ... مكارمه في الأرض مشكاً ومندلا
على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كل إصر على علا
وأني لنا من بعده متعلل ... وما كان في حاجاتنا متعللا
ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يميناً لقد غادرت حزناً مؤثلا
بسوء المصلى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدها الملا
وذاك لأن الأمر فيه شهادة ... وسنتها محفوظة لن تبدلا
فيا أيها الميت الكريم الذي قضى ... سعيداً حميداً فاضلاً ومفضلا
لتنهل من رب السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهللا
رثيتك عن حب ثوى في جوانحي ... فما ودع القلب العميد وما قلا
ويا رب من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخراً عتيداً وموئلا
تناساك حتى ما تمر بباله ... ولم يدكر ذاك الندى والتفضلا
يرابض في مثواك كل عشية ... صفيف شواء أو قديداً معجلا
لحي الله من ينسى الأذمة رافضاً ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا
حمانيك يا بدر الهدى فلشد ما ... تركت بدور الأفق بعد أفلا
وكنت لآمالي حياة هنيئة ... فغادرت مني اليوم قلباً مقتلا
فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد يئس من ذمامك ما خلا
فأنت الذي آويتني متغرباً ... وأنت الذي أكرمتني متطفلا
فإن لم أنل منك الذي كنت آملاً ... فما كنت إلا المحسن المتفضلا
فآليت لا ينفك قلبي مكممداً ... عليك ولا ينفك دمعي مسبلا
العقيلي الجراويمحمد بن عبد الرحمن العقيلي الجراوي من أهل وادي آش، وسكن غرناطة.
حالهفقيه أديب متطبب، متقن في علوم جمة، شاعر مطبوع، يكنى أبا بكر.
مدح الأمير علي بن يوسف اللمتوني بقوله:
رحلوا الركايب موهناً ... فأذاع عرفهم السنا
والحلى قد أغرى بهم ... لما ترنم معلنا
كم حف حول حماهم ... من كل خطار القنا
قال أبو جعفر بن الزبير، ينفك منها قصايد:
رحلوا الركاب موهناً ليكتموا ... ظعن الحمول وهل توارى الأنجم
فأذاع سرهم السنا ورمى بهم ... فل الذميل شذاهم المتنسم
كم حف حمل قبابهم وركابهم ... من ليث غاب في براثنه الدم
من كل خطار القناة مموه ... بين الرحيل نصبه يستسلم
وهي طويلة، خاطب بها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. وقال في وصف القصيدة:
أبا ملكاً يسمو بسعد مساعد ... وقدر على علو الكواكب صاعد
نظمت قصيداً في علاك مضمناً ... ثلات قواف في ثلاث قصايد
إذا فصلت أغنى عن البعض بعضها ... وإن وصلت كانت ككعب وساعد
فأجازه بظهير كريم بتحرير ماله وتنويهه.
محمد بن عبد الرحمن المتأهلمن أهل وادي آش يعرف بعمامتي
حالهمن التاج: ناظم أبيات، وموضح غرر وشيات، وصاحب توقيعات رفيعات، وإشارات ذوات شارات، وكان شاعراً مكثاراً، وجواداً لا يخاف عثاراً. أدخل على أمير بلده المخلوع عن ملكه، بعد انتثار سلكه، وخروج الحضرة عن ملكه، واستقراره بوادي آش، مروع البال، معللا بالآمال، وقد بلغه دخول طبرنش في طاعته، فأنشده من ساعته:
خذها إليك طبرنشا ... شفع بها وادي الأشا
والأم تتبع بنتها ... والله يفعل ما يشا
ومن نوادره العذبة يطلب خطة الحسبة:
أنلني يا خير البرية خطة ... ترفعني قدراً وتكسبني عزاً
فأعتز في أهلي كما اعتز بيدق ... على سفرة الشطرنج لما انثنى فرزاً
فوقع الأمر بظهر رقعته، ما ثبت في حرف النون عند ذكره؛ والاحتجاج بفضله.
وفاتهكان حياً بعد سنة سبع عشرة وسبعمائة. وفد على الحضرة مرات كثيرة.

ابن طفيل القيسي
محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي من أهل وادي آش، يكنى أبا بكر.
حالهكان عالماً، صدراً، حكيماً، فيلسوفاً، عارفاً بالمقالات والآراء، كلفاً بالحكمة المشرقية، محققاً، متصوفاً، طبيباً ماهراً، فقيهاً بارع الأدب، ناظماً، ناثراً، مشاركاً في جملة من الفنون.
مشيختهروى عن أبي محمد الرشاطي، وعبدالحق بن عطية وغيرهما.
حظوته ودخوله غرناطةاختص بالريس أبي جعفر، وأبي الحسن نب ملحان. قال ابن الأبار في تحفته، وكتب لوالي غرناطة وقتاً.
تواليفهرسالة حي بن يقظان، والأرجوزة الطبية المجهولة، وغير ذلك.
شعرهقال، وهو القايل من قصيدة في فتح قفصة سنة ست وتسعين وأنقذت إلى البلاد:
ولما انقضى الفتح الذي كان يرتجى ... وأصبح حزب الله أغلب غالب
وانجزنا وعد من الله صادق ... كفيل بإبطال الظنون الكواذب
وساعدنا التوفيق حتى بينت ... مقاصدنا مشروحة بالعواقب
وأذعن من عليا هلال بن عامر ... أبي ولبي الأمر كل مجانب
وهبوا إذا هب النسيم كما سرى ... ولم يتركوا بالشرق علقة آيب
يغص بهم عرض الفلا وهو واسع ... وقد زاحموا الآفاق من كل جانب
كأن بسيط الأرض حلقة خاتم ... بهم وخضم البحر بعض المذانب
ومد على حكم الصغار لسلمنا ... يديه عظيم الروم في حال راغب
يصرح بالرويا وبين ضلوعه ... نفس مذعور ونفرة راهب
وعي من لسان الحال أفصح خطبة ... ما وضحت عنه فصاح القواضب
وأبصر متن الأرض كفة حامل ... عليه وإصراه في كف حالب
أشرنا بأعناق الجياد إليكم ... وعدباً عليكم من صدور الركايب
إلى بقعة قد بين الله فضلها ... بمن حل فيها من ولي وصاحب
على الصفوة الأدنين منا تحية ... توافيهم بين الصبا والجنايب
وله أيضاً:
ألمت وقد نام الرقيب وهوما ... وأسرت الوادي العقيق من الحما
وراح إلى نجد فرحت منجدا ... ومرت بنعمان فأضحى منعما
وجرت على ترب المخصب ذيلها ... فما زال ذاك الترب نهباً مقسما
تناقله أيدي التجار لطيمة ... ويحمله الدارين أيان يمما
ولما رأت أن لا ظلام يجنها ... وأن سراها فيه لن يتكتما
سرت عذبات الربط عن حر وجهها فأبدت شعاعاً يرفع اليوم مظلما
فكان تجليها حجاب جمالها كشمس الضحى يعشى بها الطرف كلما
ولما رأت زهر الكواكب أنها ... هي النير الأسمى وإن كان باسما
بكت أسفاً أن لم تغز بجوارها ... وأسعدها صوب الغمام فأسجما
فجلت يمج القطر ريان بردها ... فتنفضه كالدر فذاً وتوأما
يضم علينا الماء فضل زكاتها كمل بل سقط الطل نوراً مكمماً
ويفتق نضح الغيث طيب عرفها ... نسيم الصبا بين العرار منسما
وجلت عن ثناياها وأومض برقها ... فلم أدر من شق الدجنة منهما
وساعدني جفن الغمام على البكا ... فلم أدر وجداً أينا كان أسجما
ونظم سمطى ثغرها ووشاحها ... فأبصرت در الثغر أحلى وأنظما
تقول وقد ألممت أطراف كمها ... يدي وقد أنعلت أخمثها الغما
نشدتك لا يذهب بك الشوق مذهباً ... يسهل صعباً أو يرخص مأثما
فأقصرت لا مستغنياً عن نوالها ... ولكن رأيت الصبر أوفى وأكرما
وقال:
أتذكر إذ مسحت بفيك عيني ... وقد حل البكا فيها عقوده
ذكرت بأن ريقك ماء ورد ... فقابلت الحرارة بالبرودة
وقال:
سألت من المليحة برء دايي ... برشف برودها العذب المزاج
فما زالت تقبل في جفوني ... وتبهرني بأصناف الحجاج
وقالت إن طرفك أصلاً لدايك ... فليقدم في العلاج

توفي بمراكش سنة إحدى وثمانين وخمسماية وحضر السلطان جنازته.
ابن عياش التجيبي البرشانيمحمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن عياش التجيبي البرشاني، من أهل حصن برشانة المحسوب في هذه العمالة، يكنى أبا عبد الله، كاتب الخلافة.
حالهقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، كان كاتباً بارعاً، نصيحاً، مشرفاً على علوم اللسان، حافظاً للغات والآداب، جزلاً، سري الهمة، كبير المقدار، حسن الخلق، كريم الطباع، نفاعاً بجاهه وماله، كثير الاعتناء بطلبة العلم، والسعي الجميل لهم، وإفاضة المعروف على قصاده، مستعيناً على ذلك بما نال من الثروة والحظوة والجاه، عند الأمراء من بني عبد المؤمن، إذ كان صاحب القلم الأعلى، على عهد المنصور وابنه، رفيع المنزلة والمكانة لديهم، قاصداً الإعراب في كلامه، لا يخاطب أحداً في كلامه من الناس، على تفاريق أحوالهم، إلا بكلام معرب، وربما استعمله في مخاطبة قدمته وأمته، من حوشي الألفاظ، ما لا يكاد يستعمله، ولا يفهمه إلا حفاظ اللغة من أهل العلم، عادة ألفها واستمرت حاله عليها.
مشيختهروى عن أبي عبد الله بن حميد، وابن أبي القاسم السهيلي، وابن حبيش، وروى عنه بنوه أبو جعفر، وأبو القاسم، وعبد الرحمن، وأبو جعفر ابن عثمان، وأبو القاسم البلوي.
تواليفهله اختصار حسن في إصلاح المنطق، ورسايل مشهورة، تناقلها الناس، وشعره يحسن في بعضه.
جاههحدث الشيخ أبو القاسم البلوي، قال كنت أخف إليه، وأشفع عنده في كبار المسايل، فيسرع في قضايها. ولقد عرضت لبعض أصحابي من أهل بلاد الأندلس حاجة مهمة كبيرة، وجب علي السعي فيها، ورحوته من جميل أثره في تيسير أمرها، وكان قد أصابه حينئذ التياث لزم من أجله داره، ودخلت عليه عايداً، فأطال السؤال عن حالي، وتبسط معي في الكلام، مبالغة في تأنيس، فأجلت ذكر الحاجة، ورغبت منه في الشفاعة عند السلطان في شأنها، وكان مضطجعاً، فاستوى جالساً، وقال لي، جهل الناس قدري، وكررها ثلاثاً، في مثل هذا أشفع إلى أمير المؤمنين، هات الدواة والقرطاس، فناولته إياهما، فكتب برغبتي، ورفعه إلى السلطان، فصرف في الحين معلماً، فاستدعاني، ودفعه إلي، وقال يا أبا القاسم، لا أرضى منك أن تحجم عني في التماس قضاء حاجة تعرضت لك خاصة، وإن كانت لأحد من معارفك عامة، كبرت أو صغرت؛ فألتزم قضاءها، وعلى الوفا، فإن لكل مكتسب زكاة، وزكاة الجاه بذله.
وحدثني شيخي أبو الحسن بن الجياب، عمن حدثه من أشياخه، قال، عرض أبو عبد الله بن عياش والكاتب ابن القالمي على المنصور كتابين، وهو في بعض الغزوات، في كسلب البرد، وبين يديه كانون جمر. وكان ابن عياش بارع الخط، وابن القالمي ركيكه، ويفضله في البلاغة، أو بالعكس الشك مني. وقال المنصور أي كتب لو كان بهذا الخط، وأي خط لو كان بهذا الكتب، فرضي ابن القالمي، وسخط ابن عياش. فانتزع الكتاب من يد المنصور، وطرحه في النار وانصرف. قال، فتغير وجه المنصور، وابتدر أحد الأشياخ؛ فقال يا أمير المؤمنين، طعنتم له في الوسيلة التي عرفته ببابكم، فعظمت غيرته لمعرفته بقدر السبب الموصل إليكم. فسرى عن المنصور، وقال لأجد خدامه، إذهب إلى السبي، فاختر أجمل نساء الأبكار؛ وأت بابن عياش، فقل له هذه تطفي من خلقك. قال ابن عياش يخاطب ولده، وقد حدث الحديث: هي أمك يا محمد أو فلان.
بعض أخباره مع المنصور

ومحاورته الدالة على جلالة قدره

قال ابن خميس؛ حدثني خالي أبو عبد الله ابن عسكر، أن الكاتب أبا عبد الله بن عياش، كتب يوماً كتاباً ليهودي، فكتب فيه، ويحمل على البر والكرامة. فقال له المصور، من أين لك أن تقول في كافر، ويحمل على ابر والكرامة. فقال له المنصور، من أين لك أن تقول في كافر، ويحمل على البر والكرامة. فقال ففكرت ساعة، وقد علمت أن الاعتراض يلزمني، فقلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ " إذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه " ؛ وهذا عام في الكافر، وغيره. فقال نعم هذه الكرامة، فالمبرة أين أخذتها، قال فسكت ولم أجد جواباً، قال فقرأ المنصور، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لا ينهاكم الله عن الدين، لم يقاتلونكم في الدين، ولم يخرجوحكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين " . قال فشهدت بذلك؛ وشكرته.
شعرهمن شعره:
بلنسية بيني عن العلياء سلوة ... فإنك روض لا أحن لزهرك
وكيف يجب المرء داراً تقسمت ... على صارمي جذع وفتنة مشرك
وذكره الأديب أبو بحر صفوان بن إدريس في زاد المسافر عند اسم ابن عياش؛ قال، اجتمعنا في ليلة بمراكش، فقال أبو عبد الله ابن عياش:
أشفارها أم صارم الحجاج ... وجفونها أم فتنة الحلاج
فإذا نظرت لأرضها وسمائها ... لم تلف غير أسنة وزجاج
وقال في المصحف الإمام، المنسوب إلى عثمان بن عفان، لما أمر المنصور بتحليته بنفيس الدر من قصيده:
ونقلت من كل ملك ذخيرة ... كأنهم كانوا برسم مكاسبه
فإن ورث الأملاك شرقاً ومغرباً ... فكم قد أخلوا جاهلين بواجبه
وألبسته الدر والياقوت حلية ... وغيرك قد رواه من دم صاحبه
كتابتهقال ابن سعيد في المرقصات والمطربات، أبو عبد الله بن عياش، كاتب الناصر وغيره، من بني عبد المؤمن وواسطة عقد ترسيله، قوله في رسالة كتبها في نزول الناصر على المهدية بحراً وبراً، واسترجاعها من أيدي الملثمين: ولما حللنا عرى السفر، بأن حللنا حمى المهدية، تفاءلنا بأن تكون لمن حل بساحتها هدية، فأحدقنا بها إحداق الهدب بالعين، وأطرنا لمختلس وصالها غربان البين، فبانت بليلة باسنية، وصابح يوماً صافحته فيه يد المنية. ولما اجتلينا منها عروساً، قد مد بين يديها بساط الماء، وتوجهت بالهلال، وقرطته بالثريا، ووشجت بنجوم السماء، والسحب تسحب عليها أردانها، فترتديها تارة متلثمة، وطوراً سافرة، وكأنما شرفاتها المشرفة أنامل مخضبة بالدياجي، مختتمة بالكواكب الزاهرة، تضحي عن شنب لا تزال تقبله أفواه المجانيق، وتمسي باسمة عن لعس، لا تبرح ترشفه شفاه سهام الحريق، خطبناها، فأرادت التنبيه على قدرها، والتوفير في إعلاء مهرها، ومن خطب الحسناء، لم يغله المهر، فتمنعت تمنع المقصورات في الخيام، وأطالت إعمال العامل في خدمتها، وتجريد الحسام، إلى أن تحققت عظم موقعها في النفوس، ورأت كثرة ما ألقى لها من نثار الرؤوس، جنحت إلى الإحصان بعد النشوز، ورأت اللجاج في الامتناع من قبول الإحسان لا يجوز، فأمكنت زمامها من يد خاطبها، فبانت معرساً، حيث لا حجال إلا من البنود، ولا خلوق إلا من دماء أبطال الجنود، فأصبح وقد تلألأت بهذه البشاير وجوه الأفكار؛ وطارت بمسارها سوايح البراري، وسوانح البحار. فالحمد لله الذي أقر الحق في نصابه، واسترجعه من أيدي غصابه، حمداً يجمع شمل النعم، ويلقحها كما تلقح الرياح الديم، فشنفوا الأسماع بهذه البشاير، واملئوا الصدور بما يرويه لكم من أحاديثها كل وارد وصادر، فهو الفتح الذي تفتحت له أبواب السماء وعم الخير واليمن به بسيطي الشرق والماء؛ فشكر الله عليه فرض، في كل قطر من أقطار الأرض.
دخل غرناطة، مرتاداً، ومتعلماً، ومجتازاً.
مولده: ببرشانة بلده، عام خمسين وخمس ماية.
وفاته: توفي بمراكش في شهر رجب الفرد من عام ثمانية عشرة وستماية، رحمه الله.
ابن محمد الهمدانيمحمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد الهمداني من أهل وادي آش، يكنى أبا القاسم ويعرف بابن البراق.
حاله

قال ابن عبد الملك، كان محدثاً حافظاً، راوية مكثرا، ثقة ضابطاً، شهر بحفظ كتب كثيرة، من الحديث، وغيره، ذا نظر صالح في الطلب، أديباً بارعاً، كاتباً بليغاً، مكثراً لجيده، سريع البديهة في النظم والنثر، والأدب أغلب عليه. قال أبو القاسم بن المواعيني، ما رأيت في عباد الله، أسرع ارتجالاً منه.
مشيختهروى عن أبي بحر يوسف بن أحمد بن أبي عيشون، وأبي بكر بن زرقون، وابن قيد، وابن إبراهيم بن المل، وابن النعمة وصحبه، ولقيه بمراكش، ووليد بن موفق، وأبي عبد الله بن يوسف بن سعادة، ولازمه أزيد من ست سنين، وأكثر عنه، وابن العمرسي، وأبي العباس بن إدريس، والخروبي، وتلا عليه بالسبع، وأكثر عنه، وعرض عليه من حفظه كثيراً، وابن مضاء، وأبي علي بن عرب، وأبي القاسم بن حبيش، وابن عبد الجبار، وأبي محمد بن سهل الضرير، وعاشر وقاسم بن دحمان، وأبي يوسف بن طلحة. وأجاز له أبو بكر بن العربي، وابن خير، وابن مندلة. وابن تمارة، وأبو الحسن شريح، وابن هذيل، ويونس بن مغيث، وأبو الجليل مفرج ين سلمة، وأبو عبد الله حفيد مكي، وأبو عبد الرحمن بن مساعد، وأبو عامر محمد بن أحمد السالمي، أبو القاسم بن بشكوال، وأبو محمد بن عبيد الله وأبو مروان البياض، وابن قزمان، وأبو الوليد بن حجاج.
من روى عنهروى عنه ابنه أبو القاسم، وأبو الحسن بن محمد بن بقي الغساني، وأبو عبد الله محمد بن يحيى السكري، وأبو العباس النباتي، وأبو عمرو بن عياد، وهو أسن منه وأبو الكرم جودى.
تواليفهصنف في الأدب مصنفات منها بهجة الأفكار، وفرصة التذكار، في مختار الأشعار، ومباشرة ليلة السفح، ومقاله في الإخوان، خرجها من شواهد الحكم، ومصنف في أخبار معاوية، والدر المنظم في الإحسار المعظم، ومجموع في الألغاز، ورضة الحدائق في تأليف الكلام الرائق، مجموع نظمه ونثره، وملقي السبل في فضل رمضان، وقصيدته في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وخطرات الواجد في رثاء الواحد، ورجوم الإنذار بهجوم العذار، إلى غير ذلك.
محنتهغربه الأمير ابن سعد من وطنه، وألزمه سكنى مرسية، ثم بلنسية. ولما مات ابن سعد آخر يوم من رجب سبع وستين وخمس ماية، عاد إلى وطنه واستقر به يفيده الدية، إلى آخر عمره.
شعرهوشعره كثير. فمن ذلك القصيدة الشهيرة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر صحابته:
بالهضب هضب زرود أو تلعاتها ... ساقتك هاتفة على نغماتها
مصدورة تفتن في جيعها ... فيبين نفث السحر في نفثاتها
إن راغها راد الضحى أو راعها ... جنح الدجا سيان في ذكراتها
هذا يمتعها وذاك يشوقها ... والموت في يقظاتها وسناتها
ولولا التعلل بالكرى ينتابها ... نضحت فزور الطيف برح شكاتها
لكن بين جفونها وهنامها ... خرزاً تثير النهب في كراتها
ولئن نصقت لها به فتقول من ... يلقى الرياح بملتقى هباتها
مطلولة الفرعين يلحفها الربى ... كتفاً ويلثمها المنى زهراتها
وتسيغها ماء النخيلة جرعة ... لغياضها من مجتني نجلاتها
منها:
يا من تبلج نوره عن صادع ... بالواضحات الغر من آياتها
يا شارعاً في أمة جعلت به ... وسطاً فغالت مستدام حياتها
في دار خلد لا يشيب وليدها ... حيث الشباب يرف في وجناتها
يا مصطفاها مرفع قدرها ... بأكنفها يا منتهى علياتها
يا منتقاها من راومة هاشم ... يا هاشم الصلبان في نزواتها
يا خاضداً للشرك شوكة حزبه ... يا يا فعاً للعرب في جمراتها
قلت، نقل الشيخ أزيد من ذلك أو ضعفه أو نحوه. إلى أن قال، وهي طويلة، قلت وثقيلة الروح. ولقد صدق في قوله.
ومن شعره:
يا بدر تم طالعاً في الحشيي ... برح بي منك أوان المغيب
حظك من قلبي تعذيبه ... وحظه منك الأسى والوجيب
فمن يكن يزهى بلبس المنى ... فإن زهوى بلحاس النحيب
في ساعة قصر أنيابها ... غييته لي وحضور الرقيب
وقال:

رثوا القباب بأدمع مغضوضة ... ذوي للفراق وأكبد تتصرم
فللنفس في تلك الربوع حبيبة ... والقلب في إثر الوداع مقسم
هل لي بهاتيك الظبا إلماعة ... أم هل لذاك السرب شمل ينظم
حقاً فقدت الذات عند فراقهم ... فالشخص يوجد والحقيقة تعدم
وفاتهتوفي ببلده لثلاث بقين من رمضان ست وتسعين وخمس ماية. قال أبو القاسم المواعيني، عثر في مشيه فسقط، فكان سبب منيته، ودخل غرناطة، في غير ما وجهة منها، راويا عن أبي القاسم بن الفرس. ومع ذلك فهو من أحوازها وبنياتها.
ابن خاتمة الأنصاريمحمد بن علي بن نحمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله.
حالهمن كتاب الإكليل ما نصه: ممن ثكلته اليراعة، وفقدته البراعة، تأدب بأخيه، وتهذبن وأراه في النظم المذهب، وكساه من التفهم والتعليم البرد المذهب، فاقتفي واقتدى، وراح في الحلبة واغتدى، حتى نبل وشدا. ولو أمهله الدهر لمبلغ المدا. وأما خطه فقيد الأبصار، وطرفة من طرف الأمصار، واعتبط يانع الشبيبة، مخضر الكتيبة.
شعرهكفوا الملام فلا أصغى إلى العذل ... عقلي وسمعي عن العذال في شغل
يقول في هذه القصيدة:
هزل المحبة جد والهوان هوى ... والصب يتلف بين الجد والهزل
من مسعد وفؤادي لا يساعدني ... أو من شفيعي وذلي ليس يشفع لي
أعلل النفس بالآمال أطمعها ... حتى وقعت من التعليل في علل
لئن كنت تجهل ما في الحب من محن ... أنا الخبير فغيري اليوم لا تسل
أنا الذي قد حلبت الحب أشطره ... فلم يفدني لا حولي ولا حيل
لا أشرب الراح كي أحلو براحتها ... لكن لأدفع ما بالنفس من كسل
ولا أجول بطرفي في الرياض سوى ... ذكري لأيامنا في ظلها الأول
أنا العهد مضى ما كان أعذبه ... لم يبق لي غير آيات من الخبل
كم فديتك يا قلبي وأنت على ... تلك الغواية لم تبرح ولم تزل
فاختر لنفسك إما أن تصاحبني ... حلواً وإلا فدعني منك وارتحل
فقد تبعتك حتى سرت من شغفي ... ولوعتي في الهوى أعجوبة المثل
ومن شعره:ومض البرق فثار القلق ... ومضى النوم وحل الأرق
وينعاني من غرامي قد شكا ... ودموعي من ولوعي تنطق
ودليلي في غليلي زفرتي ... وعذابي بانتحابي أصدق
وحسودي من وقودي رق لي ... ضمناً فيها الحمى والأيفق
وعشيات تقضت باللوى ... في مخيلي الدهر منها رونق
إذ شبابي والتصايي جمعا ... ورياض الأنس غض مونق
شت يوم البين شملي ... ليت ما خلق البين لقلب يعشق
آه من يوم قضى له فرقة ... شاب مني يوم حلت مفرق
ومن ذلك:
أيا جيرة الحي الممنع جاره ... سقى ريقكم دمعي إذا بخل الوبل
متى غبتم عني فأنتم بخاطري ... وإن تقصدوا ذلي فقد لذني الذل
عذابكم قرب وبخلكم ندى ... وإذلاكم عز وهجرانكم وصل
وأنتم نعيمي لا نعمت بغريكم ... وروضي لا ما أريد ولا ظل
ومن ظريف نزعاته قوله:
الرفع نعتكم لا خابك أمل ... والخفض شيمة شأني والهوى دول
هل منكم لي عطف بعد بعدكم ... إذ ليس لي منكم يا سادتي بدل
وفاتهاعتبط في الطاعون في أوايل ربيع الأول عام خمسين وسبعماية. ورد إلى الحضرة غير ما مرة.
ابن قزمان الزهريمحمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان الزهري من أهل قرطبة يكنى أبا بكر
حاله

نسيج وحده، أدباً وظرفاً ولوذعية وشهرة. قال ابن عبد الملك، كان أديباً بارعاً، محسناً، شاعراً حلو الكلام، مليح التندير، مبرزاً في نظم الطريقة الهزلية، بلسان عوام الأندلس، الملقب بالزجل. قلت وهذه الطريقة بديعة يتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسخ لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر. وبلغ فيها أبو بكر مبلغاً حجره الله عن سواه. فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها العلم، والمبتدي فيها والمتمم، رحمه الله. وقال الفتح فيه: مبرز في البيان، ومحرز السبق عند تسابق الأعيان، اشتمل عليه المتوكل على الله اشتمالاً رقاه إلى مجالس، وكساه ملابس، واقتطع أسمى الرتب وتبوأها، ونال أسنى الخطط وما تمالأها.
شعرهقال الفتح، وقد أثبت له ما يعلم به رفيع قدره، ويعرف كيف أسا الزمن بغدره، قوله:
ركبوا السيول من الخيول وركبوا ... فوق العوالي السمر زرق قطاف
وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجة إلا على الأكتاف
وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال يستدعيه إلى مجلس أنس:
أني أهزك هز الصارم الخذم ... وبيننا كل ما تدريه من ذمم
ذاك شاك من قطع أنس أنت واصله ... بما لديك من الآداب والحكم
وشت شمل كرام أنت ناظمه ... ورد دعوة أهل المجد والكرم
ولو دعيت إلى أمثالها لسعت ... إليك سعي مشوق هائم قدم
وإن نشطت لتصريفي صرفت له ... وجهي وكنت من الأعوان والخدم
وما أريد سوى عفو تجود به ... وفي حديثك ما يشفي من الألم
أنت المقدم في فخر وفي أدب ... فاطلع علينا طلوع السيد العمم
فأجابه رحمه الله:
أتى من المجد أمر لا مرد له ... نمشي على الرأس فيه لا على القدم
لبيك لبيك أضعافاً مضاعفة ... إني أجبت ولكن داعي الكرم
لي همة ولأهل العز مطمحها ... لا زلت في كل مجد مطمح الهمم
وإن حقك معروف وملتزم ... وكيف يوجد عندي غير ملتزم
زفن ورقص وما أحببت من ملح ... عندي وأكثر ما تدريه من شيم
حتى يكون كلام الحاضرين بها ... عند الصباح وما بالعهد من قدم
يا ليلة السفح هلا عدت ثانية ... سقى زمانك هطال من الديم
وقال في غرض النسيب:
يا رب يوم زادني فيه ... من أطلع من غربه كوكبا
ذو شفة لمياء معسولة ... ينشع من خديه ماء الصبا
قلت له وهب لي بها قبلة ... فقال لي مبتسما مرحبا
فذقت شيئاً لم أذق مثله ... لله ما أحلى وما أعذبا
أسعدني الله بإسعاده ... يا شقوتي يا شقوتي لو أبا
وقال:
جئت لتوديعه وقد ذرفت ... عيناي من حسرة وعيناه
في موكب البين باكين ولا ... أصعب من موقف وقفناه
معانقاً جيده على حذر ... فمن رآني مقبلاً فاه
نغص توديعه لعاشقه ... ما كان من قبل قد تمناه
وقال يعتذر ارتجالا وأحسن ما أراد:
يا أهل ذا المجلس السامي سراوته ... ما ملت لكنني مالت بن الراح
وإن أكن مظعناً مصباح بيتكم ... فكل من فيكم في البيت مصباح
وقال يهني بعرسك
صرفت إليك وجوهها الأفراح ... وتكنفتك سعادة ونجاح
فاقض المآرب في زمان صالح ... لا سد عنك من الزمان صلاح
إن كان كالشمس المنيرة حسنها ... فالبدر أنت وما عليك جناح
لا فرق بينكما لرأي فاستوى ... زي النساء قلادة ووشاح
هل يوقد المصباح عند كما مهجاً ... وكلاكما ببهائه مصباح
أحرزت يا عبد العزيز محاسنا ... كثرت فلم تستوفها الأمداح
يا من له كف تجود وأضلع ... مطوى على حفظ الوداد شجاح

ما ألقت الحاجات دوني قفلها ... إلا ويمن يمينك المفتاح
في كل ما تنحو إليه ملاحة ... وكذاك أفعال المليح ملاح
ومن الحكمة قوله:
كثير المال تبذله فيبقى ... ولا يبقى مع البخل القليل
ومن غرست يداه ثمار جود ... ففي ظل الثناء له مقيل
وقال رحمه الله:
وعهدي بالشباب وحسن قدي ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب
فصرت اليوم منحنياً كأني ... أفتش في التراب على الشباب
وقال رحمه الله:
يمسك الفارس رمحاً ... وأنا أمسك فيها قصبة
وكلانا بطل في حربه ... إن الأقلام رماح الكتبة
قال ابن عبد الملك: أنشدت على شيخنا أبي الحسن الرعيني، قال، أخبرنا الراوية أبو القاسم بن الطيلسان، قال سألته، يعني أبا القاسم أحمد بن أبي بكر هذا، أن ينشد شيئاً من شعر أبيه المغرب، فأخرج لي قطعة بخط أبيه وأنشده. وقال أنشدني أبي رحمه الله لنفسه:
أحسن ما نيط في الدعا لمن ... رتب في خطة من الخطط
خلصك الله من عوايقها ... ودمت في عصمة من الغلط
مقرباً منك ما تسر به ... وكل مكروهة على شحط
الكل بالعدل منك مغتبط ... وليس في الناس غير مغتبط
وليس يخليك من أنا لكها ... من عمل بالنجاة مرتبط
فانفذ بعون الله مجتهدا ... بقلب صفي بالضمير مرتبط
يا صاحب الأمر والذي يده ... نايلها للعفاة غير بط
رفعتم يا بني رفاعة ما كان ... من المعلوات في هبط
ومنبر الحق من سواه بكم ... فها هو الآن غير مختلط
وانضبط الأمر واستقام لكم ... ولم يكن من قبل ذا بمنضبط
أتيت في كل ما أتيت به ... فالغيث بعد الرجا والقنط
جللت عمن سواك منزلة ... فلست ممن سواك في نمط
أنت من المجد والعلا طرف ... وكلهم في العلا من الوسط
كتابتهوقفت من ذلك على أفانين. منها في استهلال شهر رمضان قوله:

سلام على أنس المجتهدين، وراحة المتهجدين، وقرة أعين المهتدين، والذي زين الله به الدنيا، وأعز به الدين. شرف الله به الإسلام، وجعل أيامه رقوماً في عواتق الأيام. وشهوره غرراً في جباه الأعلام، وحل به عن رقاب الأمة قلايد الآثام، ونزه فيه الأسماع عن المكاره، وصان الأفواه من رفث الكلام. أشهد أن اله أنبني عليك، وأدخل من شاء الجنة على يديك، وخصك من الفضايل بما يمشي فيه التفسير حتى يكل ويسأم، ذلك اللسان ويمل، وأبادت ذنوب الأمة بمثل ما أبادت الشمس الظل، ذلك الذي يتهلل للسماء هلاله، ويهتز العرش لجلاله، وترتج الملايكة في حين إقباله، وتدخل الحور العين في زينتها تكريماً، وتلتزم إجلاله وتعظيماً، ويهتدي فيه الناس إلى دينهم صراطاً مستقيماً، وتغل الشياطين على ما خليت. وتذوق وبال ما كادت به وتخيلت، ويشمر التقي لعبادة ربه ذيلاً، وتهبط الملايكة إلى سماء الدنيا ليلا، وينتظم المتقون في ديوانه انتظام السلك. ويكون خلوف فم الصايم عند الله أطيب من ريح المسك، وتفتح الجنة أبواباً، ويغفر لمن صامه إيماناً واحتساباً، جزاء من ربك عطاء حسابا، وبما فضلك الله على سائر الشهور، وقضى لك بالشرف والفضل المشهور. فرضك في كتابه، ومدحك في خطابه، حيث قال، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان، يعني تكبير الناس عليك، وتقليب أحداقهم بالنظر إليك، حين لثمت بالسحاب، ونظرت من تحت ذلك النقاب، وقد يمتاز الشيب وأن استتر بالخضاب، حتى إذا وقف الأيمة منك على الصحيح، وصرحوا برؤيتك كل التصريح، نظرت كل جماعة في اجتماعها، وتأهبت القراء لإشفاعها، واندفعت الأصوات باختلاف أنواعها، وتضرعت الألباب، وطلبت المواقف أواخر العشار والأحزاب، وابتديت ألم ذلك الكتاب، عندما أوقدت قناديل كأنما قد بدت من الصباح، ورقصت رقص النواهد عند هبوب الرياح، والله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، فأملك المسلمون في سر وجهر، وحطت أثقال السيئات عن كل ظهر، والتمست الليلة التي هي خير من ألف شهر، فنشط الصالحون بك صوماً، وهجر المتهجدون في ليلك نوماً، وأكملناك إن أذن الله ثلاثين يوما. فيا أيها الذي رحل، رحل بعد مقامة، وقام للسفر من مقامه، ورأى من قضى حقه، ومن قصر في صيامه، فمشى الناس إلى تشييعه، وبكوا لفراقه وتوديعه، وندم المضيع على ما كان من تضييعه، ولم يثق بدوام العيش إلى وقت رجوعه، فعض على كفه ندماً، وبكت عيه ماء وكبده دماً. رويداً حتى أمرح في ميدان فراتك، وأتضرع إلى حنانك وإشفاقك، وأتشفى من تقبيلك وعناقك، وأسل منك حاجة إن أراد الله قضاها، وشاء نفوذها وإمضاها، إذا أنت وقفت لرب العالمين، فقبلك من قوم، وردك في وجوه آخرين. إن تثنى جميلاً، فعسى يصفح لعهده وإن أسا، فعلم الله أني نويت التوبة أولا وآخراً، وأملت الأداء باطنا وظاهرا، وكنت على ذلك لو هدى الله قادراً، وإنما علم، من تقصير الإنسان ما علم، وللمرء ما قضى عليه به وحكم، وإن النفس لأمارة بالسوء غلا من رحم، فإن غفر فبطوله وإحسانه، وإن عاقب فيما قدمت يد العبد من عصيانه، فيا وحشة لهذه الفرقة، ويا أسفاً على بعد الشقة، ويا شد ما خلفته لنا بفراقك من الجهد والمشقة، ولطالما هجر الإنسان بك ذنبه، وراقب إعظاماً لكربه، وشرحت إلى أعمال البر قلبه. ومع هذا أتراك ترجع وترى، أم تضم علينا دونك أطباق الثرى. فيا ويلنا إن حل الأجل، ولم أقض دينك، ورجعت وقد حال الموت بيني وبينك. فأغرب، لا جعله الله آخر التوديع، وأي قلب يستطيع.
وقال في استهلال شوال:

ولكل مقام مقال. الله أكبر هذا هلال شوال قد طلع، وكر في منازله وقطع، وغاب أحد عشر شهراً، ثم رجع. مالي أراه رقيق الاستهلال، خفي الهلال، وروحاً تردد في مثل انملال، ما باله أمسى الله رسمه، وصحح جسمه، ورفع في شهور العام اسمه، على وجهه صفرة بينة، ونار إشراقه لينة، وأرى السحاب تعتمده وتقف، وتغشاه سويعة وتنصرف، ما أراه إلا بطول ذلك المقام، وتوالي الأهوال العظام. أصابه مرض في فصل من فصول العام، فعادته كما يعاد المريض، وبكته الأيام الغر والليالي البيض، وقلن كلأك الله وكفاك، وحاطك وشفاك، وقل كيف نجدك، لا فض فاك، هذا على الظن لا على التحقيق، ومجاز لا يحكم التصديق. وإنه ليبعد مثل هذا المقدار، أن يقدح فيه طول الغيب، وتواتر الأسفار. أليس هو قد ألف مجالي الرياح، وصحب برد الصباح، وشاهد الأهوية مع الغدو والرواح، وطواها بتجربته طي الوشاح. ما ذاك إلا أنه رأى الشمس في بعض الأيام ماشية، والحسن يأخذ منها وسطاً وحاشية، ودلائل شبابها ظاهرة فاشية، فوقع منها في نفسه ما وقع، وثبت على قلبه من النظر ما زرع، ووقع في شركها، وحق له أن يقع. فرثت هي لحاله وأشفقت، ونهجت بوصالها وتأنقت، وقطعت من معدن نيلها وأنفقت، ورأت أنها له شاكله يبلغ أملها، وتبلغ مأمله، ولذلك ما مدت لذيذ السماح، فتعرضت بالعشي، وارتصدها في الصباح، مع ما أيقنا به من النقطاع، ويمسنا من الاجتماع، كما نفد القدر، وصدر الخبر. وقال تعلن لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، فوجد لذلك وجداً شديداً، وأذاقه مع الساعات شوقاً جديداً، وأصبح بها دنفاً، وأمسى عميداً، حتى سلب ذلب بهاه، وأذهب سناه، ورده النحول كما شاه، ولقي مها مثل ما لقي غيلان من ميته، وجميل من بثينته، وحن إليها حنين عروة إلى عفرا، وموعدهما يوم وهب ناقته الصفراء. على رسك أني وهمت، وحسبت ذلك حقاً وتوهمت، والآن وقد فطنت، وأصبت الفص فيما ظننت، إنه لقي رمضان ي إقباله، وضمه نقصان هلاله، وصامه فجأة ولم يك في باله، فأثر ذلك في وجهه الطلق، وأضعفه كما فعل بساير الخلق، وها هو قد أقبل من سفره البعيد، فقل هو هلال الفطر أو قل هو هلال العيد، فلقه صباح مشى الناس فيه مشيى الحباب، ولبسوا أفضل الثياب، وبرزوا إلى مصلاهم من كل باب، فارتفعت همة الإسلام. وشرفت أمة محمد عليه السلام، وخطب بالناس ودعا للإمام، عندما طلعت الشمس بوجه المرآة، ولون كصفا المهراة. وخرج لا ينسيها ريم الفلاة. وقضوا السنة، وبذلوا الجهد في ذلك والمنة، وسألوا من الله أن يدخلهم الجنة، ثم خطبوا حمداً لله وشكراً، وذكروه كذكرهم آبائهم أو أشد ذكراً، ثم انصرفوا راشدين، وافترقوا حامدين، وشبك الشيخ بيديه، ونظر الشاب في كفيه. ورجعوا على غير الطريق الذي أتوا عليه، فلقد استشفى من الرؤية ذو عينين، وتذكر العاشق موقف البين، وشق المتنزه بين الصفين، فنقل عينيه من الوشيي إلى الديباج، ووجوه كضوء السراج، وعيون أقتل من سيف الحجاج، ونظرات لا يدفع داؤها بالعلاج، وقد زينت العيون بالتكحيل، والشعور بالترجيل، وكرر السواك على مواضع التقبيل، وطوقت الأعناق بالعقود، وضرب الفكر في صفحات الخدود، ومد بالغالية على مواضع السجود، وأقبلت صنعاً بأوشيتها، وعنت بأرديتها، ودخلت العروس في حليتها، ورقمت الكفوف بالحناء، وأثني على الحسن وهو أحق بالثناء، وطلقت التوبة ثلاثاً بعد البناء، وغص الذراع بالسوار، وتختم في اليمين واليسار، وأمسكت الثياب بأيدي الأبكار، ومشت الإماء أمام الأحرار، وتقدمت الدايات بالأطفال الصغار، وامتلأت الدنيا سرراً، وانقلب الكل إلى أهله مسروراً. وبينما كانت الحال كما نصصت، والحكاية كما قصصت، إذ لألأت الدنيا برقاً، وامتد مع الأفقين غرباً وشرقاً، ورد لمعانه عيون الناظرين زرقاً، ولولا أنه جرب حتى يدرا، لقيل قد طلعت مع الشمس شمس أخرى، حتى أقبل من شرفت العرب بنسبه، وفخر الإسلام بسببه، من انتسب إلى زهرة وقصي، وازدانت به آل غالب وآلي لؤي، من إذا ذكر المجد فهو ممسك بنده، أو الفضل فهو لابس برده، أو الفخر فهو واسطة عقده، أو الحسن فهو نسيج وحده، الذي رفع لواء العليا، وعارضت مكارمه صوب الحبا، وحكت محاسنه زهرة الحياة الدنيا. فأما وجهه فكما شرقت الشمس وأشرقت، وغربت كواكب سمايها وشرقت، وتفتحت أطواق الليل عن غرر ومجده وتشققت. ولولا حياً يغلب

عليه، وخفر يصحبه إذا نظرت إليه، لاستحال النهار، وغارت لنوره كواكب الأسحار، ولكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، لا يحفل بالصبح إذا انفلق، ولا بالفجر إذا عم آفاق الدجا وطبق، ولو بدا للمسافر في ليله لطرق، قد عجم الأبنوس على العاد، وأدار جفناً كما عطف على أطفالها النعاج، يضرب بها ضرب السيف، ويلم بالفؤاد إلمام الطيف، ويتلقاها السحر تلقي الكريم للضيف، لو جردها على الريم لوقف، أو على فرعون ما صرف من سحره ما صرف، أو على بسطام ابن قيس لألقى سلاحه وانصرف. وأما أدواته فكما انشقت الأرض عن نباتها، وأخذت زخرفها في إنباتها، ونفخ عرف النسيم في جنباتها، يتفنن أفانين الزهر، ويتقلب تقلب الدهر، وتطلع له نوادر كالنجوم الزهر، لو أبصره مطرف ما شهر بخطه، ولا جر من العجب ذيل مرطه، ولا كان المخبر معه من شرطه. وأما أنه لو قرى على سحبان كتابه، وانحدر على نهره عبابه، وملأت مسامعه أطنابه وأسبابه، ما قام في بيانه ولا قعد، ولنزل عن مقامه الذي إليه صعد، ولا خلف من بلاغته ما وعد. لعمرك ما كان بشر بن المعتمر بتفنن للبلاغة فنوناً، ولا يتقبلها بطوناً ومتوناً، ولا أبو العتاهية ليشرطها كلاماً موزوناً، ولا نمق الحسن بن سهل الألفاظ، ولا رفع قس بن ساعدة صوته بعكاظ، ولا أغلظ زيد بن علي، هشاماً بما أغاظ. وأما مكارمه فكما انسكب الغيث عن ظلاله وخرج الودق من غلاله، فتدارك النعمة عن فوتها، وأحيا الأرض بعد موتها. ذلك الشريف الأجل، الوزير الأفضل، أبو طالب ابن القرشي الزهري، أدام الله اعتزازه، كما رقم في حلل الفخر طرازه، فاجتمعت به السيادة بعد افتراقها. وأشرق وجه الأرض لإشراقها، والتفت الثياب بالثياب، وضم الركاب بالركاب، ولا عهد كأيام الشباب، فوصل القريب البعيد، وهنوه كما جرت العادة بالعيد، فوقف مع ركابه وسلمت، وجرت كلاماً وبه تكلمت، فقلت تقبل الله سعيك، وزكى عملك، وبلغك فيما توده أملك، ولا تأملت وجهاً من السرور غلا تأملك، ونفعك بما أوليت، وأجزل حظك على ما صمت وصليت، ووافقتك لعل وساعدتك ليت، وهناك عيد الفطر وهنأته، وبداك بالمسرات وبدأته، وتبرأ لك الدهر مما تحسد وبرأته. وهكذا بحول الله أعياد واعتياد، وعمر في دوام، وعز في ازدياد، والسنة تفصح بفضلك إفصاح الخطباء من إياد، وأقرأ عليك سلام الله ما أشرق الضحا، ودام الفطر والأضحى.، وخفر يصحبه إذا نظرت إليه، لاستحال النهار، وغارت لنوره كواكب الأسحار، ولكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، لا يحفل بالصبح إذا انفلق، ولا بالفجر إذا عم آفاق الدجا وطبق، ولو بدا للمسافر في ليله لطرق، قد عجم الأبنوس على العاد، وأدار جفناً كما عطف على أطفالها النعاج، يضرب بها ضرب السيف، ويلم بالفؤاد إلمام الطيف، ويتلقاها السحر تلقي الكريم للضيف، لو جردها على الريم لوقف، أو على فرعون ما صرف من سحره ما صرف، أو على بسطام ابن قيس لألقى سلاحه وانصرف. وأما أدواته فكما انشقت الأرض عن نباتها، وأخذت زخرفها في إنباتها، ونفخ عرف النسيم في جنباتها، يتفنن أفانين الزهر، ويتقلب تقلب الدهر، وتطلع له نوادر كالنجوم الزهر، لو أبصره مطرف ما شهر بخطه، ولا جر من العجب ذيل مرطه، ولا كان المخبر معه من شرطه. وأما أنه لو قرى على سحبان كتابه، وانحدر على نهره عبابه، وملأت مسامعه أطنابه وأسبابه، ما قام في بيانه ولا قعد، ولنزل عن مقامه الذي إليه صعد، ولا خلف من بلاغته ما وعد. لعمرك ما كان بشر بن المعتمر بتفنن للبلاغة فنوناً، ولا يتقبلها بطوناً ومتوناً، ولا أبو العتاهية ليشرطها كلاماً موزوناً، ولا نمق الحسن بن سهل الألفاظ، ولا رفع قس بن ساعدة صوته بعكاظ، ولا أغلظ زيد بن علي، هشاماً بما أغاظ. وأما مكارمه فكما انسكب الغيث عن ظلاله وخرج الودق من غلاله، فتدارك النعمة عن فوتها، وأحيا الأرض بعد موتها. ذلك الشريف الأجل، الوزير الأفضل، أبو طالب ابن القرشي الزهري، أدام الله اعتزازه، كما رقم في حلل الفخر طرازه، فاجتمعت به السيادة بعد افتراقها. وأشرق وجه الأرض لإشراقها، والتفت الثياب بالثياب، وضم الركاب بالركاب، ولا عهد كأيام الشباب، فوصل القريب البعيد، وهنوه كما جرت العادة بالعيد، فوقف مع ركابه وسلمت، وجرت كلاماً وبه تكلمت، فقلت تقبل الله سعيك، وزكى عملك، وبلغك فيما توده أملك، ولا تأملت وجهاً من السرور غلا تأملك، ونفعك بما أوليت، وأجزل حظك على ما صمت وصليت، ووافقتك لعل وساعدتك ليت، وهناك عيد الفطر وهنأته، وبداك بالمسرات وبدأته، وتبرأ لك الدهر مما تحسد وبرأته. وهكذا بحول الله أعياد واعتياد، وعمر في دوام، وعز في ازدياد، والسنة تفصح بفضلك إفصاح الخطباء من إياد، وأقرأ عليك سلام الله ما أشرق الضحا، ودام الفطر والأضحى.

دخوله غرناطة
دخل غرناطة، وتردد إليها غير ما مرة، وأقام بها؛ وامتدح ابن أضحى وابن هاني، وابن سعيد وغيرهم من أهلها. قال ابن سعيد في طالعه، وقد وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطة، واجتماعه بجنبته بقرية الزاوية من خارجها، بنزهون القليعية الأديبة، وما جرى بينهما، وأنها قالت له بعقب ارتجال بديع، وكان لبس غفاره صفراء، أحسنت يا بقرة بني إسرائيل، إلا أنك لا تسر الناظرين، فقال لها إن لم أسر الناظرين، فأنا أسر السامعين، وإنما يطلب سرور الناظرين منك، يا فاعلة يا صانعة. وتمكن السكر من ابن قزمان، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة، فما خرج منها إلا وثيابه تقطر، وقد شرب كثيراً من الماء، فقال إسمع يا وزير ثم أنشد:
إيه أبا بكر ولا حول لي ... بدفع أعيان وأنذال
وذات جرح واسع دافق ... بالماء يحكي حال أذيال
غرقتني في الماء يا سيدي ... كفره بالتغريق في المال
فأمر بتجريده، وخلع عليه ما يليق به ولمن يمر لهم بعد عهدهم بمثله.
ولم ينتقل ابن عزمان من غرناطة، إلا بعد ما أجزل من الإحسان، ومدحه بما هو في ديوان أزجاله.
محنتهجرت عليه بابن حمدين محنة كبيرة، عظم لها نكاله، بسبب شكاسة أخلاق كان موصوفاً بها، وحدة شقي بسببها. وقد ألم الفتح في قلايده بذلك، واختلت حاله بآخرة، واحتاج بعد انفصال أمر مخدومه الذي نوه به.
توفي بقرطبة لليلة بقيت من رمضان سنة خمس وخمسين وخمس ماية، والأمير ابن سعد يحاصر قرطبة. رحمه الله.
محمد بن غالب الرصافييكنى أبا عبد الله، بلنسي الأصل، سكن غرناطة مدة، ثم مالقة.
حالهقال الأستاذ، كان فحلاً من فحول الشعراء، ورئيساً في الأدباء، عفيفاً، ساكناً، وقوراً، ذا سمت وعقل. وقال القاضي، كان شاعراً مجيداً، رقيق الغزل، سلس الطبع، بارع التشبيهات، بديع الاستعارات، نبيل المقاصد والأغراض، كاتباً بليغاً، دنياً، وقوراً، عفيفاً، متفقهاً، عالي الهمة، حسن الخلق والخلق والسمت، تام العقل، مقبلاً على ما يعنيه من التعيش بصناعة الرفي التي كان يعالجها بيده، لم يبتذل نفسه في خدمة، والتعرض لانتجاع بقافية، خلا وقت سكناه بغرناطة، فغنه امتدح واليها حينئذ، ثم نزع عن ذلك، راضياً بالخمول حالاً، والقناعة مالاً، على شدة الرغبة فيه، واغتنام ما يصدر عنه.
أخبار عقله وسكونهقال الفقيه أبو الحسن شاكر بن الفخار المالقي، وكان خبيراً بأحواله: ما رأيت عمري رجلاً أحسن سمتاً، وأطول صمتاً، من أبي عبد الله الرصافي. وقال غيره من أصحابه، كان رفاء، فما سمع له أحد من جيرانه كلمة في أحد. وقال أبو عمرو ابن سالم، كان صاحباً لأبي، ولقيته غير ما مرة، وكان له موضع يخرج إليه في فصل العصير، فكنت أجتاز عليه مع أبي فألثم يده، فربما قبل رأسي، ودعا لي، وكان أبي يسله الدعاء فيخجل، ويقول أنا والله أصغر من ذلك. قال، وكان بإزايه أبو جعفر البلنسي. وكان متوقد الخاطر، فربما تكلم مع أحد التجار، فكان منه هفوة، فيقول له جلساؤه، شتان والله بينك وبين أبي عبيد الله في العقل والصمت، فربما طالبه بأشياء ليجاوبه عليها، فما يزيد على التبسم. فلما كان أحد الأيام، جاء البلنسي ليفتح دكانه. فتعمد إلقاء الغلق من يده، فوقع على رأس أبي عبد الله. وهو مقبل على شغله، فسال دمه، فما زاد على أن قام ومسح الدم، ثم ربط رأسه، وعاد إلى شغله. فلما رأى ذلك منه أبو جعفر ترامى عليه، وجعل يقبل يديه، ويقول، والله ما سمعت برجل أصبر منك، ولا أعقل.
شعرهوشعره لا نهاية فوفه رونقاً ومائية، وحلاوة وطلاوة، ورقة ديباجة، وتمكن ألفاظ، وتأصل معنى. وكان رحمه الله، قد خرج صغيراً من وطنه، فكان أبداً يكثر الحنين إليه، ويقصر أكثر منظومه عليه. ومحاسنه كثيرة فيه، فمن ذلك قوله:
خليلي ما لليد قد عبقت نشرا ... وما لرؤوس الركب قد رجحت سكرا
هل المسك مفتوتاً بمدرجة الصبا ... أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا
خليلي عوجا بي قليلاً فإنه حديث ... كبرد الماء في الكبد الحرا
قفا غير مأمورين ولتتصديا ... على ثقة للمزن فاستسقيا القطرا

بجسر معان والرصافة إنه على القطر أن يسقى الرصافة والجسرا
بلادي التي ريشت قويد متى بها ... فريخاً وأورثتني قرارتها وكرا
فبادي أنيق العيش في رريق الصبا ... أبى الله أن أنسى اغتراري بها غراً
لبسنا بها ثوب الشباب لباسها ... ولكن عرينا من حلاه ولم تعرا
أمنزلنا عصر الشبيبة ما الذي ... طوى دوننا تلك الشبيبة والعصرا
محل أغر العهد لم نبد ذكره ... على كبد إلا امترى أدمعاً حمرا
أكل مكان كان في الأرض مسقطاً ... لرأس الفتى يهواه ما عاش مضطرا
ولا مثل مدحو من المسك تربة ... تملي الصبا فيه حيقتها عطرا
نبات كأن الخد يحمل نوره ... تخال لجيناً في أعاليه أو تبرا
وما كثر صيع المجرة جللت ... نواصيه الأزهار واشتبكت زهرا
أنيق كريان الحياة التي خلت ... طليق كريعان الشباب الذي مرا
وقالوا هل الفردوس ما قد وصفته ... فقلت وما الفردوس في الجنة الأخرا
بلنسية تلك الزمردة التي ... تسيل عليها كل لؤلؤة نهرا
كأن عروساً أبدع الله حسنها ... فصير من شرخ الشباب لها عمرا
يويد منها شعشعانية الضحى ... مضاحكة الشمس البحيرة والبحرا
تراجم أنفاس الرياح بزهرها ... نجوماً فلا شيطان يغربها ذعرا
وإن كان قد مدت يد البين بيننا من الأرض ما يهوى المجد به شهرا
هي الدرة البيضاء من حيت جدتها ... أضاءت ومن للدر أن يشبه الدرا
خليلي أن أسدر لها فإنها ... هي الوطن المحبوب أوكلته الصدرا
ولم أطوعنها الخطو هجراً لها إذاً ... فلا لثمت نعلي مساكنها الخضرا
ولكن إجلالاً لتربتها التي ... تضم فتاها الندب أو كهلها الحرا
أكارم عاث الدهر ما شاء فيهم ... فبادت لياليهم فهل أشتكى الدهرا
هجوع ببطن وأرض قد ضرب الردى عليهم قبيبات فويق الثرى غبرا
تقضوا فمن نجم سالك ساقط ... أبي الله أن يرعى السماك أو والنشر
ومن سابق هذا إذا شا غاية شا ... وغير محمود جياد العلى خضرا
أناس إذا لاقيت من شيت منهم ... تلقوك لا غث الحديث ولا غمرا
وقد درجت أعمارهم فتطلعوا ... هلال ثلاث لو شفا رق أو بدرا
ثلاثة أمجاد من النفر الألى ... زكوا خبراً بين الورى وزكوا خبرا
تكلتهم ثكلاً دهى العين والحشى ... فعجرذا أماً وسجر ذا جمرا
كفى حزناً أني تباعدت عنهم ... فلم ألق من سرى منها ولا سرا
وإلى متى أسل بهم كل راكب ... ليظهر لي خيراً تأبط لي شرا
أباحثه عن صالحات عهدتها هناك ... فيسبني بما يقصم الظهرا
محياً خليل عاض ماء حياته ... وساكن قصر أضر مسكنه القبرا
وأزهر كالإصباح قد كنت أجتلي ... سناء كما يستقبل الأرق الفجرا
يصرف ما بين اليراعة والقنا ... أنامله لا بل هواطله الغرا
طويل نجاد السيف لان كأنما ... تخطى به في البرد خطية سمرا
سقته على ما فيك من أريحية ... خلايق هن الخمر أو تشبه الخمرا
ونشر محيا للمكارم لو سرت ... حمياه في وه الأصيل لما اصفرا
هل السعد إلا حيث حط صعيده ... لمن بل في شفري ضريح له شفرا
طوين الليالي طيهن وإنما ... طوين عني التجلد والصبرا
فلا حرمت سقياه أدمع مزنة ... ترى مبسم النوار عنبر معترا
وما دعوتي للمزن عذراً لدعوتي ... إذا ما جعلت البعد عن قربه عذرا
وقال برثي أبا محمد بن أبي العباس بمالقة:

أبنى البلاغة فيم حفل النادى ... هبها عكاظ فأين قس أياد
أما البيان فقد أجر لسانه ... فيكم بفتكته الحمام العاد
عرشت سما علايكم ما أنتم ... من بعد ذلكم الشهاب الهادي
حطوا على عمد الطريق فقد خبت ... لآلى ذاك الكوكب الوقاد
ما فل لهزمه الصقيل وإنما ... نثرت كعوب قناكم المناد
إيه عميد الحي غير مدافع ... إيه فدى لك غابر الأمجاد
ما عذر سلك كنت عقد نظامه ... إن لم يصر برداً إلى الأباد
كثف الحجاب فما ترى متفضلا ... في ساعة تصغي به وتناد
ألمم بربعك غير مأمور فقد ... غص القنا بأرجل القصاد
خبراً يبلغه غير مأمور فقد ... غص الفنا بأرجل القصاد
خبراً يبلغه إليك ودونه ... أمن العداة وراحة الحساد
قد طأطأ الجبل المنيف قذاله ... للجار بعدك واقشعر الواد
أعد التفاتك نحونا وأظنه ... مثل الحديث لديك غير معاد
وامسح لنا عن مقلتيك من الكرى ... نوماً تكابد من بكى وسهاد
هذا الصباح ولا تهب إلى ... متى طال الرقاد ولات حين رقاد
وكأنما قال الردى نم وادعاً ... سبقت إلى البشرى بحسن معاد
أموسداً تلك الرخام بمرقد ... أخشن به من مرقد ووساد
خضبت بقدرك حفرة فكأنها ... من جوفها في مثل حرف الصاد
وثر لجنبك من أثاث مخيم ... ترب ند وصفايح أنضاد
يا ظاعناً ركب السرى في ليلة ... طار الدليل بها وحاد الحاد
أعزز علينا أن حططت بمنزل ... تبل عن الزوار والعواد
جار الأفراد هنالك جيرة ... سقياً لتلك الجيرة الأفراد
الساكنين إلى المعاد قبابهم ... منشورة الأطناب والأغماد
من كل ملقية الجراب بمضرب ... ناب البلى فيه عن الأوتاد
بعرس السفر الألى ركبوا ... السرى مجهولة الغايات والآماد
سيان فيهم ليلة ونهارها ... ما أشبه التأويب بالإسناد
لحق البطون من اللعب على الطوى ... وعلى الرواحل عنفوان الزاد
لله هم فلشد ما نفضوا من ... أمتعة الحياة في حقايب الأجساد
ياليت شعري ولامنا لك جنة ... والحال مرذنة بطول بعاد
هل للعلا بك بعدها من نهضة ... أم لانقضاء نواك من ميعاد
بأبي رقد ساروا بنعشك صارم ... كثرت حمايله على الأكناد
ذلت عوانق حاميك فإنها ... شاموك في غمد بغير نجاد
نعم الذما البر ما قد غوروا ... جثمانه بالأبرق المنقاد
عليا خص بها الضريح وإنما ... نعم الغوير بأبؤس الأنجاد
أبنى العباس أي حلاحل ... سلبتكم الدنيا وأي مصاد
هل كان إلا العين وافق سهمها ... قدراً فأقصد أيما إقصاد
أخلل جد لا يسد مكانه ... بالإخوة النجباء والأولاد
ولكم يرى بك من هضاب لم يكن ... لولاك غير دكادك ووهاد
ما زلت تنعشها بسيبك قابضاً ... منها على الأضباع والأعضاد
حتى أراك أبا محمد الردى ... كيف انهداد بواذخ الأطواد
يا حرها من جمرة مشبوبة ... يلقى لها الأيدي على الأكتاد
كيف العزاء وإنها لرزية ... خرج الأسى فيها عن المعتاد
صدع النعاة بها فقلتن لمدمعي ... كيف انسكابك يا أبا الجواد
لك من دمي ما شيت غير منهنه ... صب كيف شيت معصفر الأبراد

بقصير مجتهد وحسبك غاية ... لو قد بلغت بها كبير مراد
أما الدموع فهي أضعف ناصر ... لكنهن كثيرة التعداد
ثم السلام ولا أغب قراره ... وأرتك صوب روايح وغواد
تسقيك ما سفحت عليك يراعة ... في خد قرطاس دموع مداد
ومن غرامياته وإخوانياته قوله من قصيدة:
عاد الحديث إلى ما جر أطيبه ... والشيء يبعث ذكر الشيء عن سبب
إيه عن الكدية البيضاء إن لها ... هوى يغلب أخيك الواله الوصب
راوح بها السهل من أكنافها ... وأرح ركابنا ليلنا هذا من التعب
وانضح نواحيها من مقلتيك وسل ... من الكثيب الكريم العهد في الكتب
وقل لسرحته يا سرحة كرمت ... على أبي عامر عزي عن السحب
يا عذبة الماء والظل انغمى ... طفلا حييت ممسية ميادة الغضب
ماذا على ظلك الألمى وقد قلصت ... أفياؤه لو ضفى شياً لمغترب
أهكذا تنقضي نفسي لديك ظما ... الله في رمق من جارك الجنب
لولاك يا سرح لم يبق الفلا عطلا ... من السرى والدجا خفاقة الطنب
ولم نبت نتقاضى من مدامعنا ... ديناً لتربك من رقراقها الرب
إنا إذا ما تصدى من هوى طلل ... عجنا عليه فحييناه عن كثب
مستعطفين سخيات الشئون له ... حتى يحاك عليه مموق العشب
سلي خميلتك الريا بأية ما ... كانت ترف بها ريحانة الأدب
عن فتية نزلوا على سرارتها ... عفت محاسنهم إلا من الكتب
محافظين على العليا وربما ... هزوا السجايا قليلاً بابنة النب
حتى إذا ما قضوا من كأسها وطراً ... وضاحكوها لدى جد من طرب
راحوا رواحاً وقد ريدت عمايمهم ... حلماً ودارت على أسفي من السبب
لا يظهر الشكر حالاً في ذوايبهم ... إلا التفات الصبا في السن العذب
المنزلين القوافي ن معاقلها ... والخاضدين لديها شوكة العرب
ومن مقطوعاته قوله:
دعاك خليل والأصيل كأنه ... عليل يقضي مدة الزمن الباق
إلى شط منساب كأنك ماؤه ... صفاً ضميراً وعذوبة أخلاق
ومهوي جناح للصبا يمسح الربا ... خفي الخوافي والقوادم خفاق
وفتيان صدق كالنجوم تألفوا ... على النأي من شتى بروج وآفاق
على حين راح البرق في الجو مغمداً ... ظباه ودمع المزن في جفنه راق
وجالت بعيني في الرياض التفاتة ... حبست بها كأسي قليلاً عن الساق
على سطر خيري ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناق ويرنو بأحداق
وقف وقفة المحبوب منه فإنها ... شمايل مشغوف بمرآك مشتاق
وصل زهرات منه صفر كأنها ... وقد خضلت قطراً محاجر عشاق
وقال وكلفها في حايك وهو بديع.
قالوا وقد أكثروا في حبه عذل ... لو لم تهم بمزال القدر مبتذل
فقلت لو أن أمري في الصبابة لي ... لاخترت ذاك ولكن ليس ذلك ل
في كل قلب عزيزات مذللة للحسن ... والحسن ملك حيث جل ول
علقته حبيبي الثغر عاطره ... دري لون المحيا أحور المقل
إذا تأملته أعطاك ملتفتاً ... ما شيت من لحظات الشادن الوجل
هيهات أبغي به من غيره بدلا ... أخرى الليالي وهل في الغير من بدل
غزيل لم تزل في الغزل جايلة ... بنانه جولان الفطر في الغزل
جذلان تلعب بالمحراك أنمله ... على السدي لعب الأيام بالأمل
ما أن يني تعب الأطراف مشتغلا ... أفديه من تعب الأطراف مشتغل
ضرباً بكفيه أو فحصاُ بأخمصه ... تخبط الظبي في أشراك محتبل
وقال:

ومهفهف كالغصن إلا أنه ... سلب التثني النوم عن أثنايه
أضحى ينام وقد تخدد خده ... عرقاً فقلت الورد رش بمايه
وقال:
أدرها فالغمامة قد أجالت ... سيوف البرق في لمم البطاح
وراق الروض طاووساً بهياً ... تهب عليه أنفاس الرياح
تقول وقد ثنى قزح عليه ... ثياب الغيم معلمة النواح
خذوا للصحو أهبتكم فإني ... أعرت المزن قادمتي جناح
وقال:
أدرها على أمر فما ثم من بأس ... وإن جددت آذانها ورق الآس
وما هي إلا ضاحكا غمايم ... لواعب من ومض البروق بمقياس
ووفد رياح زعزع النهر مدة ... كما وطيت درعاً سنا بك أفراس
وقال في وصف مغن محسن:
ومطارح مما تحس بنانه ... صوتاً أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لو كره ... طرباً ورزق بنيه في منقاره
وقال يصف جدول ماء عليه سرحة، ولها حكاية معروفة:
ومهدل الشطين تحسب أنه ... متسيل من درة لصفايه
فاءت عليه مع العشية سرحة ... صدئت لفيئتها صفيحة مايه
فتراه أزرق في غلالة سمرة ... كالدارع استلقى بظل لوايه
نثرهقال من مقامة يصف القلم:
قصير كالأنابيب لكنه ... يطول مضاً طوال الرماح
إذا عب للنفس في دامس ... ودب من الطرس فوق الصفاح
تجلت به مشكلات الأمور ... ولان له الصعب بعد الجماح
فلولا هو لغدت أغصان الاكتساب ذاوية، وبيوت الأموال خاوية، وأسرعت إليها البوسى، وأصبحت كفؤاد أم موسى، فهو لا محالة تجرها الأربح، وميزانها الأرجح. به تدر ألبانها، وتثمر أفنانها، وتستمر أفضالها وإحسانها، وهو رأس مالها، وقطب عمالها وأعمالها. وصاحب القلم قد حوى الملكة بأسرها، وتحكم في طيها ونشرها، وهو قطب مدارها، وجهينة أخبارها، وسر اختيارها واختبارها، ومظهر مجدها وفخارها، يعقد الرايات لكل وال، ويمنحهم من المبرة كل صافية المقيل، ضافية السربال، يطفي جمرة الحرب العوان، ويكايد العدو بلا صارم ولا سنان، يقد المفاصل، ويتخلل الأباطح والمعاقل، ويقمع الحواسد والعواذل.
وفاته: توفي بمالقة يوم الثلاثاء لإحدى عشرة بقيت من رمضان سنة اثنين وسبعين وخمسماية. وقبره مشهور بها.
ابن أبي بكر القرشي المالقيمحمد بن قاسم بن أبي بكر القرشي المالقي من أهل مالقة، وسكن غرناطة وتردد إليها
حالهكان لبيباً لوذعياً، جامعاً لخصال؛ من خط بارع وكتابة، ونظم، وشطرنج، إلى نادر حار، وخاطر ذكي، وجرأة. توجه إلى العدوة، وارتسم بها طبيباً، وتولى النظر على المارستان بفاس في ربيع الثاني من عام أربعة وخمسين وسبعمائة.
شعرهأنشدني بمدينة فاس عام ستة وخمسين، في وجهتي رسولا إلى المغرب، قوله في رجل يقطع في الكاغد:
أبا علي حسينا ... أين الوفا منك أينا
قد بين الدمع وجدي ... وأنت تزداد بينا
بلت لحاظك قلبي ... تا لله ما قلت مينا
قط المقص لهذا ... سبب الصب مينا
بقيط تفتر حسنا ... وجمت تزداد زينا
وقال أيضاً:
فضل التجارات باد في الصناعات ... لولا الذي هو فيها هاجر عات
حاز الجمال فأعياني وأعجزني ... وإن دعيت بوصاف ونعات
وكان شديد المغالطة، ذاهباً أقصى مذاهب القحة، يحرك من لا يتحرك، ويغضب من لا يغضب. عتب يوماً جدته على طعام طبخته له، ولم يستطبه، وكان بين يديه القط يصدعه بصياد طلبه، فقال له ضجراً، خمسمائة سوط، فقالت له جدته لم تعط هذه السياط للقط، إنما عنيتني بها، وأعطيتها باسم القط، فقال لها حاش لله يا مولاتي، وبهذا البخل تدريني أو الزحام عليها، بل ذلك للقط حلالاً طيباً، ولك أنت ألف من طيبة قلب، فأرسلها مثلا، وما زلنا نتفكه بذلك، وكان في هذا الباب لا يشق غباره.
مولده: بمالقة عام ثلاثة وسبع ماية.
وفاته: بعث إلي الفقيه أبو عبد الله الشديد، يعرفني أنه توفي في أواسط عام سبعة وخمسين وسبعمائة.

محمد بن سليمان بن القصيرة
أبو بكر، كاتب الدولة اللمتونية، وعلم وقته.
حالهقال ابن الصيرفي الوزير الكاتب، الناظم، الناثر، القايم بعمود الكتابة، والحامل للواء والبلاغة، والسابق الذي لا يشق غباره، ولا تخمد أبداً أنواره. اجتمع له براعة النثر، وجزالة النظم، رقيق النسيج، حصيف المتن، رقعته ماشيت في العين واليد. قال ابن عبد الملك؛ وكان كاتباً مجيداً، بارع الخط، كتب عن يوسف بن تاشفين.
مشيختهروى عن أبي الحجاج الأعلم، وأبي الحسن بن شريح، وروى عنه أبو الوليد هشام بن يوسف بن الملجوم، لقيه بمراكش.
شعرهوهو عندي في نمط دون ما وصف به. فمن ذلك قوله من قصيدة أنحى فيها على ابن ذي النون، ومدح ابن عباد، عند خلع ابن جهور، أبي الوليد، وتصيير قرطبة إليه:
فسل عنه أحشاء ابن ذي النون هل ... سرى إليها سكون منذ زلزلها الذعر
وهل قدرت مذ أوحشته طلايع ... الظهور عليه أن تؤنسه الخمر
ألم يجن يحيى من تعاطيك ظله ... سجا لك هيهات السهى من ك يا بدر
لجاراك واستوفيت أبعد غاية ... وآخره عن شأوك الكف والعثر
فأحرزت فضل السبق عفواً ... وكفه على رغمه مما توهمه صفر
ويا شد ما أغرته قرطبة وقد ... أبشرتها خيلنا فكان لك الدر
ومنها:
أتتك وقد أزرى ببهجة حسنها ... ولا لأنها من جور مالكها طمر
فألبستها من سابغ العدل حلة ... زهاها بها تيه وغازلها كبر
وجاءتك متفالا فضمخ حيها ... وازدانها من ذكرك المعتلى عطر
وأجريت ماء الجود في عرصاتها ... فروض حتى كاد أن يورق الصخر
وطاب هوا أفقها فكأنها تهب نسيماً فيه أخلاقك الزهر
وما أدركتهم في هواك هوادة ... وما أثتمروا إلا لما أمر البر
وما قلدوك لأمر إلا لواجب ... جئته فيه المجر والغمر
وبوأهم في ذروة المجد معقلا ... حرام على الأيام إلمامه حجر
وأوردهم من فضل سيبك مورداً ... على كثرة الوارد مشرعه غمر
فلولاك لم تفصل عرى الإصر عنهم ... ولا انفك من ربق الأذى لهم أسر
أعدت نهار ليلهم ولطالما ... أراهم نجوم الليل في أفقه الظهر
ولا زلت تؤويهم إلى ظل دوحة ... من العز في أرحابها النعم لخضر
كتابته
وهي من قلة التصنع والإخشوشان، بحيث لا يخفى غرضها. ولكل زمان رجاله. وهي مع ذلك تزينها السذاجة، وتشفع لها الغضاضة. كتب عن الأمير يوسف بن تاشفين ولاية عهده لولده:

هذا كتاب تولية عظيم جسيم، وتوصية حميم كريم، مهدت على الرضا قواعده، وأكدت بيد التقوى مواعده ومعاقده، وسددت إلى الحسني مقاصده، وأبعدت عن الهوادة والهوى مصادره وموارده. أنفذه أمير المسلمين، وناصر الدين، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، أدام الله أمره، وأعز نصره، وأطال فيما يرضيه منه، ويرضى به عنه عمره، غير محاب، ولا تارك في النصيحة لله ولرسوله والمسلمين، وموضع ارتياب لمرتاب، للأمير الأجل أبي الحسن علي ابنه، المتقبل هممه وشيمه، المتأثل حلمه وتحلمه، الناشئ في حجر تقويمه وتأديبه، المتصرف بين يدي تخريجه، وتدريبه، أدام الله عزه وتوفيقه، ونهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه، وقد تهمم بمن تحت عصاه من المسلمين، وهدى في انتقاء من يخلفه هدى المتقين، ولم ير أن يتركهم بعد سدى غير مدينين واعتام في النصاب الرفيع، واختار واستنصح أولي الرأي والتشاور إلا لديه. فولاه عن استحكام بصيرة، وبعد طول مشورة، عهده، وأفضى إليه الأمر والنهي، والقبض والبسط عنده بعده، وجعله خليفته الساد في رعاياه مسده، وأووطأ عقبه جماهير الرجال، وناط به مهمات الأمور والأعمال، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسنة، في أحد عصا أو أطاع، ولا ينام عن حماه الحيف والخوف بالاضطجاع، ولا يتلين دون معلن شكوى، ولا يتصام عن مستصرخ لذي بلوى، وأن ينظم أقصى البلاد وأدناها في سلك تدبيره، ولا يكون بين القريب والبعيد بون في إحصائه وتقديره. ثم دعا أدام الله تأييده، لمبايعته، أدام الله عزه ونصره، من حضر ودنا من المسلمين، فلبوا مسرعين، وأتوا مهطعين، وأعطوا صفقة إيمانهم متبرعين متطوعين، وبايعوه على السمع والطاعة، والتزام سنن الجماعة، وبذل النصيحة جهد الاستطاعة، ومناصفة من ناصفه، ومحاربة من حاربه، ومكايدة من كايده، ومعاندة من عانده، لا يدخرون في ذلك على حال المنشط مقدرة، ولا يحتجون في حالتي الرضا والسخط إلى معذرة. ثم أمر بمخاطبة ساير أهل البلاد لمبايعته، كل طائفة منهم في بلدها، وتعطيه كما أعطاه من حضر، وصفقة يدها، حتى ينتظم في التزام طاعته القريب والبعيد، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته، الغايب والشهيد، وتطمين من أعلام الناس وخيارهم نفوس قلقة، وتنام عيون لم تزل مخافة إقذئها مورقة، ويشمل الناس كافة السرور والاستبشار، وتتمكن لديهم الدعة، ويتمهد القرار، وتنشأ لهم في الصلاح آمال، ويستقبلهم جد صالح وإقبال. والله يبارك لهم بيعة رضوان، وصفقة رجحان، ودعوة يمن وأمان، إنه على ما يشاء قدير، لا إله إلا هو، نعم المولى ونعم النصير. شهد على إشهاد أمير المسلمين بكل ما ذكر عنه فوق هذا من بيعته، ولقيه حملة عنه ممن التزم البيعة المنصوصة قبل، وأعطة صفقته طائعاً متبرعاً بها. وبالله التوفيق. وكتب بحضرة قرطبة في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة.
دخل غرناطة غير ما مرة، وحده، وفي ركاب أميره.
توفي في جمادى الآخرة من عام ثمانية وخمسمائة.
التميمي المازنيمحمد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي المازني من أهل سرقسطة، ودخل غرناطة، وروى عن أبي الحسن بن الباذش بها، يكنى أبا الطاهر. وله المقامات اللزوميات العروفة.
حالهكان كاتباً لغوياً شاعراً، معتمداً في الأدب، فرداً، متقدماً في ذلك في وقته، وله المقامات المعروفة، وشعره كثير مدون.
مشيختهروى عن أبي علي الصدفي، وأبي محمد بن السيد، وأبي الحسن بن الأخضر، وأبي عبد الله بن سليمان المعروف بابن أخت غانم، وأبي محمد بن عتاب، وأبي الحسن بن الباذش. وأبي محمد عبد الله بن محمد التجيبي الدكلي، وأبي القاسم ابن صوابه، وأبي عمران بن أبي تليد، وغيرهم. أخذ عنه القاضي أبو العباس ابن مضاء، أخذ عنه الكامل للمبرد، قال. وعليه اعتمد في تقييده. وروى عنه المقري المسن، الخطيب أبو جعفر بن يحيى الكتامي، وذكره هو وابن مضاء.
توفي بقرطبة ظهر يوم الثلاثاء، الحادي والعشرين من جمادى الأولى، سنة ثمان وثلاثين وخمسماية، بزمانة لازمته نحوا من ثلاثة أعوام، نفعه الله.
شعرهأيا قمر أتطلع من وشاح ... على غض فاخر من كل راح
أدار السحر من عينيه خمراً ... معتقة فأسكر كل صاح

وأهدى إذ تهادى كل طيب ... كخوط البان في أيدي الرياح
وأحيا حين حيا نفس صب ... غدت في قبضة الحب المتاح
وسوغ منه عتبي بعد عتب ... وعللني براح فوق راح
وأجناني الأماني في أمان ... وجنح الليل مسدول الجناح
وقال أيضاً:
ومنعم الأعطاف معسول اللما ... ما شيت من بدع المحاسن فيه
لما ظفرت بليلة من وصله ... والصب غير الوصل لا يشفيه
أنضحت وردة خده بنفسي ... وظللت أشرب ماءها من فيه
وقال أيضاً:
رحكت السلاف صفاته بحبابها ... من ثغره ومذاقها من رشفه
وتوردت فحكت شقايق خده ... وتأرجت فيسيمها من عرفه
لعبت بألباب الرجال وغادرت ... أجسامهم صرعى كفعلة طرفه
ومن الغرباء في هذا الحرف

محمد بن حسن العمراني الشريف
من أهل فاس
حالهكان جهوياً ساذجاً، خشن البزة، غير مرهف التجند، ينظم الشعر، ويذكر كثيراً من مسائل الفروع، ومعانات الفرائض، يجعجع بها في مجالس الدروس، تشقى به المدرسون، على وتيرة من صحة السجية وحسن العهد، وقلة التصنع. وجرى ذكره في الكليل: كريم الانتماء، مستظل بأغصان الشجرة الشماء، من رجل، سليم الضمير، ذي باطن أصفى من الماء النمير، له في الشعر طبع بشهد بعروبية أصوله، ومضاء نصوله.
فمن ذلك قوله يخاطب السلطان أمير المسلمين، وقد أمر له بكسوة:
منحت منحت النضر والعز والرضا ... ولا زلت بالإحسان له مقرضاً
ولا زلت للعليا جني مكارماً ... وللإمر الملك العزيز مقيضا
ولا زالت الأملاك باسمك تتقي ... وجيشك وفراً يملأ الأرض والفضا
ولا زلت ميمون النقيبة ظافراً ... مهيباً ووهاباً وسيفك منتضا
تقر به الدين الحنيف وأهله ... تقمع جباراً وتهلك مبغضا
وصلت شريف البيت من آل هاشم ... وخولته أسنى مراد ومقتضا
وجدت بإعطاء اللجين وكسوة ... ستكسي ثوباً من النور أبيضا
وما زالت الأنصار تفعل هكذا ... نال علي في الزمان الذي مضا
هم نصروا الهادي وآووا وجدلوا ... بحد ذباب السيف من كان معرضا
فخذ ذا أبا الحجاج من خير مادح ... لخير مليك في البرية مرتضا
فقد كان قبل اليوم غاض قريضه ... فلما رأى الإحسان منك تفيضا
ومن حكم القول اللهى متح اللهى ... ومن مدح الأملاك يرجو التعرضا
فلا زال يهديك الشريف قاصدا ... ينال بها منك المودة والرضا
وقال يخاطب من أخلفته بوارق الأمل فيه، وخابت لديه وسائل قوافيه:
الشعر أسنى كلام خص بالعرب ... والجود في كل صنف خير مكتسب
وأفضل الشعر أبيات يقدمها ... في صدر حاجته من كان ذا أدب
فما يوفي كريم حق مادحه ... لو كان أولاه ما يحويه من نشب
المال يفني إذا طال الثواء به ... والمدح يبقى مدى الأزمان والحقب
وقد مدحت لأقوام ذي حسب ... فيما ظننت وليسوا من ذوي حسب
مدحتهم بكلام لو مدحت به ... دهري أمنت من الإملاق والنصب
فعاد مدحي لهم هجواً يضدقه ... من لؤمهم عودتي عنهم بلا أرب
فكان ما قلت من مدحهم كذباً ... أستغفر الله من زور ومن كذب
وقال في غرض يظهر من الأبيات، يخاطب السلطان:
مالي أرى تاج الملوك وحوله ... عبدان لا حلم ولا آداب
فكأنه البازي الصيود وحوله ... نغر يقلب ريشه وغراب
يا أيها الملك الكرام جدوده ... أسنى المحافل غيرها أتراب
أبدلهما من بالبيض من صفيهما ... إن العبيد محلها الأبواب
وفاتهتوفي في حدود ثمانية وأربعين وسبعمائة أو بعد ذلك.
ابن العشابمحمد بن محمد بن إبراهيم بن المرادي ابن العشاب

قرطبي الأصل، تونسي الولادة والمنشأ، ابن نعمة وغذى جاه وحرمة.
حالهكان حيياً فاضلاً كريماً، سخياً. ورد على الأندلس، مفلتاً من نكبة أبيه، وقد عركته عرك الرحى لثقالها، على سنن من الوقار والديانة والحما، يقوم على بعض الأعمال النبيهة.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: جواد لا يتعاطى طلقه، وصبح فضل لا يماثل فلقه. كانت لوالده رحمه الله، من الدول الحفيصة منزلة لطيفة المحل، ومفاوضة في العقد والحل، ولم يزل يسمو به قدم النجابة، من العمل إلى الحجابة. ونشأ ابنه هذا، مقضي الديون، مفدي بالأنفس والعيون. والدهر ذو ألوان، ومارق حرب عوان، والأيام كرات تتلقف، وأهوال لا تتوقف، فألوى بهم الدهر وأنحى، وأغام جوهم بعقب ما أضحى، فشملهم الاعتقال؛ وتعاورتهم النوب الثقال، واستقرت بالمشرق ركابه، وحطت به أقتابه؛ فحج واعتمر، واستوطن تلك المعاهد وعمر، وعكف على كتاب الله فجود الحروف، وأحكم الخلف المعروف وقيد وأسند، وتكرر إلى دور الحديث وتردد، وقدم على هذا الوطن قدوم النسيم البليل على كبد العليل. ولما استقر به قراره، واشتمل على جفنه غراره، بادرت إلى مؤانسته، وثابرت على مجالسته. فاجتليت للسرو شخصاً، وطالعت ديوان الوفا مستقصا.
شعرهوشعره ليس بحايد عن الإحسان، ولا غفل من النكت الحسان. فمن ذلك ما خاطبني به:
بيمن أبي عبد الله محمد يمن ... هدأ القطر وانسجم القطر
أفاض علينا من جزيل عطايه ... بحور الديم المد ليس لها جزر
وأنسنا لما عدمنا مغانياً ... إذا ذكرت في القلب من ذكرها عبر
هنيياً بعيد الفطر يا خير ماجد ... كريم به تسمو السيادة والفخر
ودمت مدى الأيام في ظل نعمة ... تطيع لك الدنيا ويعنو لك الدهر
ومما خاطب به سلطانه في حال الاعتقال:
لعل عفوك بعد السخط يغشاني ... يوماً فينعش قلب الوالد العان
مولاي رحماك إني قد عهدتك ... ذا حلم وعفو وإشفاق وتحنان
فاصرف حنانك واعطف علي ... وجد برحمة منك تحيي جسمي الفان
فقد تناهى الأسى عندي وعذبني ... وشرد النوم عن عيني وأعيان
وحق ألايك الحسنى وما لك من ... طول وفضل وإنعام وإحسان
إني ولو حلت البلوى على كيدي ... وأسبكت فوق خد دمعي القان
لواثق بجمتم منك يطرقني ... عما قريب وعفو عاجل دان
دامت سعودك في الدنيا مضاعفة ... تذل طوعاً كل سلطان
ابن عبد الملكمحمد بن محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عبد الملك، من أهل مراكش، وسكن غرناطة.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله غريب المنزع، شديد الانقباض، محجوب المحاسن، تنبو العين عنه جهامة، وغرابة شكل، ووحشة ظاهر، في طي ذلك أدب غض، ونفس حرة، وحيديث ممتع، وأبوة كريمة، أحد الصابرين على الجهد، المتمسكين بأسباب الحشمة، الراضين بالخصاصة. وأبوه قاضي القضاة، نسيج وحده، الإمام العالم، التاريخي، المتبحر في الأدب، تقلبت به أيدي الدهر بعد وفاته لتبعة سلطت على نسبه، فاستقر بمالقة، متحارفاً مقدوراً عليه، لا يهتدي لمكان فضله، إلا من عثر عليه جزافا.
شعرهمن لم يصن في أمل وجهه ... عنك فصن وجهك عن رده
وأعرف له الفضل وعرف به ... حيث أحل النفس من قصده
ومما خاطبني به قوله:
وليت ولاية أحسنت فيها ... ليعلم أنها شرفت بقدرك
وكم وال أساء فقيل فيه ... دني القدر ليس لها بمدرك
وأنشدني في ذلك أيضاً رحمة الله عليه:
وليت فقيل أحس خير وال ... فعاق مدى مدركها بفضله
وكم وال أساء فقيل ... دنا فمحا محاسنها بفعله
ومما خاطب به السلطان يستعديه على من مطله من العمال، وعذر عليه واجبه من الطعام والمال:
مولاي نصيراً فكم يضام ... من ما له غيرك اعتصام
أمرت لي بالخلاص فمر لي ... عنده المال والطعام

فقال ما اعتاده جواباً ... وحسبي الله والإمام
هذا مقام ولا فعال ... بغير مولاي والسلام
وفاتهفقد في وقيعة على المسلمين من جيش مالقة بأخواز إستبة في ذي قعدة من عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة.
ابن خميسمحمد بن خميس بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد ابن خميس الحجري حجرذي رعين التلمسان، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن خميس
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه اله نسيج وحده زهداً وانقباضاً، وأدباً وهمة، حسن الشيبة، جميل الهيئة، سليم الصدر، قليل التصنع، بعيد عن الريا والهوادة عاملاً على السياحة والعزلة، عالما بالمعارف القديمة. مضطلعاً بتفاريق النحل، قايماً على صناعة العربية والأصلين، طبقة الوقت في الشعر، وفحل الأوان في النظم المطول، أقدر الناس على اجتلاب الغريب، ومزج الجزالة بالسلاسة، ووضع الألفاظ البيانية مواضعها. شديد الانتقا وإلا رجا، خامد نار الروية، منافساً في الطريقة منافسة كبيرة. كتب بتلمسان عن ملوكها من بني زيان، ثم فر عنهم، وقد أوجس منهم خيفة. لبعض ما يجري بأبواب الملوك. وبعد ذلك بمدة، قدم غرناطة، فاهتز الوزير ابن الحكيم لتلقيه، ومت إليه بالوسيلة العلمية، واجتدبه بخطبة التلميذ، واستفزه بتأنيسه وبره، وأقعده للإقراء بجواره. وكان يروم الرحلة، وينوي السفر، والقضاء يثبطه. حدثني شيخنا الرئيس أبو الحسن بن الجياب، قال بلغ الوزير أبا عبد الله الحكيم أنه يروم السفر فشق ذلك عليه، وكلفنا تحريك الحديث بحضرته. وجرى ذلك. فقال الشيخ أنا كالدم بطبعي، أتحرك في كل ربيع.
شعرهوشعره بديع. فمن ذلك قوله يمدح أبا سعيد بن عامر، ويذكر الوحشة الواقعة بينه وبين أبي بكر بن خطاب:
مشوق زار ربعك يا إماما ... محا آثار دمنتها التثاما
تتبع ريقه الطل ارتشافاً ... فما نفعت ولا نقعت أواما
وقبل خد وردتها جهارا ... وما راعى لضرتها ذماما
وما لحريم بيتك أن يدانى ... ولا لعلا قدرك أن يساما
ولكن عاش في رسم مغنى ... تجشمه سلاماً واستلاماً
نفس روضة المطول وهنا ... فحن وشم رياه فهاما
تلقى طيب حديثا ... روت مسنداً عنه النعاما
فيا نفس الصبا إن جيت ساحا ... ولم تعرف لساكنها مقاما
وأخطأت الطريق إلى حماها ... فردتك العرادة والخزآما
فلا تبصر بسرحتها قضيباً ... ولا تذعر بمسرحها سواما
وعانق قربانتها اراتباطاً ... وصافح كف سوسنها التزاما
ونافح عرف زهرتها كباً ... تعاطك ماء ريقتها مداما
ويا برقاً أضاء على أوال ... يمانياً متى جيت الشآما
أثغر إمامة أنت ابتساماً ... أم الدر الأوامي انتظاما
خفقت ببطن واديها لواً ... ولحت على ثنيتها حساما
أمشبه قلبي المضني احتداما ... على م ذدت عن عيني المناما
ولم أسهرتني وطردت عني ... خيالاً كان يأتيني لماما
وأبلغ منه تأريقاً لجفني ... كلام أثخن الأحشا كلاما
تعرض لي فأيقظت القوافي ... ولو ترك القطا يوماً لناما
وقيل وما أرى يومي كأمسي ... جدعت رواطبا وقلبت هاما
وجرعت العدو سماً زعافاً ... فكان لحسد موتاً زواما
نزعت شواه كبشهم نطاحا ... ولم أترك لقرمهم سناما
أضام وفي يدي قلبي لماذا ... أضام أبا سعيد أو علاما
به وبما أذلق من لساني ... أفل الصارم العضب انهزاما
وغرام الوزير أبي سعيد ... أصرفه إذا شيت انتقاما
به وبنجله البر انتصارى ... لما أكلوه من لحمي حراما
وردت فلم أرد إلا سرابا ... وشمت فلم أشم إلا جهاما
قطعت الأرض طولاً ثم عرضاً ... أزور بني ممالكها الكراما

وجا جانبي على كرم نداهم ... وأعجلت الخوافي والقداما
وذللت المطامع من إبايي ... وقبلت البراجم والسلاما
ومن أدبي نصبت لهم حبالا ... أصيد بها النعام ولا النعاما
فلم أر مثل ربعي دار أنس ... ولم أر مثل عثمن إماما
ولا كأبيه أو كنى أبيه ... أبي يحيى غيوثاً أو رهاما
كفاني بابن عامر خفض عيش ... ورفع مكاتبي إلا أضاما
وإني من ولايك في يفاع ... أقابل منهم بدرهم التمام
ومن شعره رحمه الله قوله:
تراجع من دنياك ما أنت تارك ... وتسلها العتيي وها هي فارك
تؤمل بعد الترك رجع ودادها ... وشر وداد ما تود الترائك
حلالك منها ما خلا لك في الصبا ... فأنت على حلوايه متهالك
تظاه بالسلوان عنها تجملا ... فقلبك محزون وثغرك ضاحك
تنزهت عنها نخوة لا زهادة ... وشعر عذاري أسود اللون حالك
ليالي تغري بي وإن هي أعرضت ... زنانب من ضواتها وعواتك
غصون قدود في حقاف روادف ... تمايل من ثقل بين الأرايك
تطاعنني منهن في كل ملعب ... ثدي كأسنان الرماح فواتك
وكم كلة فيها هنكت ودونها ... صدور العوالي والسيوف البواتك
ولا خدن إلا ما أعدت ردينه ... لطالبها أو ما تحير هالك
تضل فواد المرء عن قصد رشده ... فواتر ألحاظ للظبا الفواتك
وفي كل سن لابن آدم وإن تطل ... سنوه طباع جمة وعوايك
وإلا فمالي بعد ما شاب مفرقي ... وأعجز رأيي عجز من الركارك
أجوب إليها كل بيداء سملق ... ترافقني فيها الرجال الجواتك
واسترشد الشهب الشوابك جار ... إذا اشتبهت فيها هي المسالك
نهازز أمثال الجياد توودة ... أغوارب أمثال الهضاب توامك
ظما وما غير السماوة مورد ... وينحى وما دون الصواة مبارك
ذو أهل عن عض الرجال ظهورها ... إذا ما اشتكت عض السروج الموارك
إذا ما نبا عن سنبك الأرض سنبك ... هلعن فلانت تحتهن السنابك
تقد بنا في كل قاع وفدفد ... بوايكها والمنغيات الدراهك
فأمامها ري كالسحاب موالع ... وأمامها ركاً كالرياح بواشك
قلاص بأطواف الجديل بوالع ... وجرد لأوساط الشكيم عوالك
ترامى بها ليد النوق كل مرتمي ... فهن نواح للردى أو هوالك
وكم منزل خليته لطلابها ... تعفيه تعدي السافيات السواهك
يمر به زواره وعفاته ... وما آن به إلا الصوق الحبايك
وآثارتنا تقادم عهدهم ... وهن عليه جانيات بوارك
لوارب أفراس ونؤى حذاة ... ثلاث أثاف كالحمام سوادك
تمر عليه نسمة الفجر مثلما ... تمر على طيب العروس المدارك
وأرك بكالشهذ ينفح برده ... لمجهول حسي ماله للدهر مبانك
يطلبها مني غريم مماحك ... ويمطلني منها عديم مماعك
أحاول منها لما تعذر في الصبا ... ومن دونه وقع الحمام المواشك
فمنها ملال دايم لا تمله ... وترور إفك عن رضى الحق آفك
تهاون بالإفك الرجال جهالة ... وما أهلك الأحياء إلا الأفايك
تزن طول تسهادي وقدري تململى ... طوال الليالي والنجوم النوابك
تغير على الدهر منه جحافل ... كأن مدوم الرجم فيها نيازك
فليت الذي سودت فيها معوض ... بما بيضت مني دجاها الحوالك

ألا لا تذكريني تلمسان والهوى ... وما دهكت منا الخطوب الدواهك
فإن ادكار ما مضى من زمانها ... لجسمي وللصبر الجميل لناهك
ولا تصفن أمواهها لي فإنها ... لنيران أشواقي إليها محارك
ومن حال عن عهد أو أخفر ذمة ... فإني على تلك العهود لرامك
سقى منزلي فيها وإن مح رسمه ... عهاد الغوادي والدموع السوافك
وجادت ثرى قبر بمسجد صالح ... رواعدها والمدخمات الحواشك
ولا أقلعت عن دار يونس مزنة ... هوى صداه لقطرها المتدارك
إلى أن يروق الناظرين رواؤها ... ويرضى الرعاوي نبتها المتلاحك
ويصبح من حول الحيا في عراصها ... زرق تحكى بسطها ودرانك
ولا برحت منه ملايكة الرضى ... تصلي على ذاك الصدى وتبارك
وطوبى لمن روى منازله الحيا ... وبشرى لمن صلت عليه الملايك
ألا ليت شعري هل تقضي لبانتي ... إذا ما انقضت عشر عليها دكادك
وهل تمكن الطيف المغب زيارة ... فيرقب أو تلقى إليه الروامك
وهل تغفل الأيام عنها بقدر ما ... تودي إليها بالعتاب الحالك
ويا ليت شعري أرض تقلني إذا ... كل عن رحلي الجلال اللكالك
وأي غرار من صفاها يحثني ... إذا فقدتني مسها والدكادك
إذا جهل الناس الزمان فإنني ... بدونهم دون الأنام لحاتك
تثبت إذا ما قمت تعمل خطوة ... فإن بقاع الأرض طراً شوائك
ولا تبذل وجهاً لصاحب نعمة ... فما مثل بذل الوجه للستر هاتك
تجشم ما استطعت واحذر أذاهم ... ولا تلقهم إلا وهرك شانك
فكل على ما أنعم الله حاسد ... وكل إذا لم يعصم الله حاسك
ولا تأنس ريبة الزمان فإنه ... بمن فات منا لا محالة فانك
تمنى مصاب بربر وأعاره ... وترضى ذكامي فارس والهنادك
وبدرت الليالي الجون حوضى لجاجها ... وتعرف إقدامي عليها المهالك
فما أذعنت إلا إلى عشار ... ولا أصفقت إلا على الشكاشك
ولا قصدت إلا فنايى وقودها ... ولن أملت إلا قتامى الضرارك
به شرفت أذواوها وملوكها ... كما شرفت بالنويهار البرامك
فلا تدعون غيري لدفع ملمة ... إذا ما دهى من حادث الدهر داهك
فما إن لذاك الصوت غيرى سامع ... وما إن لبيت المجد بعدي سامك
يغص ويشجي نهشل ومجاشع ... بما أورثتني حمير والسكاسك
تفارقني روحي التي لست غيرها ... وطيب ثناي لاصق بي صايك
وماذا عسى ترجو لداتي وأرتجي ... وقد شمطت منا اللحا والأفانك
يعود لنا شرخ الشاب الذي مضى ... إذا عاد للدنيا عقيل ومالك
ومن شعره أيضاً قوله:
سحت بساحك يا محل الأدمع ... وتصرمت سفاً عليك الأضلع
ولطالما جادت ثرى الأمال من ... جاوي مؤمك الغيوث الهمع
لله أيام بها قضيتها ... قد كنت أعلم أنها لا ترجع
فلقد رشفت بها رضاب مدامة ... بنسيم أنفاس البديع تشعشع
في روضة يرضيك منها أنها ... مرعى لأفكار الندام ومشرع
تجري بها فقر سكنت رهانها ... أجدى بميدان الكلام وأسرع
فقر كريعان الشباب وعهدنا ... بجنابها وهو الجناب الأمنع
نفاثة الأنواء في عقد الثرى ... والنفت في عقد الثرى لا يمنع
حتى إذا حاك الربيع برودها ... وكسا رباها وشيه المتنوع
بدأت كمايم زهرها تبدي بها ... بدعاً تفرق تارة وتجمع

قد صم منها ما تجمع مغلق ... إذ بت منها ما تفرق مصقع
وكلاهما مهما أردت مسالم ... ومحارب ومؤمن ومروع
كل له شرع البيان محلل ... المنكر في مثل هذا مدفع
حيث ازدهت أنوار كل حديقة ... أدباً ينظم تارة ويسجع
فمرجل من رقمها ومهلل ... ومسمط من نظمها ومصرع
أبدي البديع بها بدايع صنعه ... فمجنس ومبدل ومرصع
وموشح ومرشح ومصدر ... ومكرر ومفرع ومتبع
كل بروق بها بحسن روايه ... وإذا تزين به كلامك تبرع
ولقد غدوت بها وفي وكناتها ... طير لها فوق الغصون ترجع
بمطهم الفكر الذي ما إن له ... إلا بمستن الأدلة مرتع
قيد المطالب لا يزال تحبه ... بين الجياد لعتقه أو يوضع
أرمى به الأمد البعيد وإنه ... حمل يضل به الدليل الأصمع
من بعد ما عفت النواري سبله ... ومحت معالمه البرياح الأربع
لكنني جددت دانر رسمه ... فطريقه من بعد ذلك مهيع
أوضحت فهم حدوده وضروبه ... والكل في كل المسالك ينفع
حتى وردت من السماع موارداً ... فيها لظمآن المباحث مكرع
مع كل مصقل الذكاء فحدسه ... لذكاء أسرار الطبايع مطلع
يرتاد من نجع العناصر نجعه ... فيها مصيف للعقول ومرتع
لا شيء أبدع من تجاورها وما ... يبتدي بها ذاك التجاور أبدع
فإذا تشعشع مزجها أورى بها ... نار الحباحب مرجها المتشعشع
فمكين سر حياته بحبابها ... من بعد قدح زنادها مستودع
وهنا تفاض عليه صورته التي ... لبهائها شم الطبايع تخضع
من واهب الصور التي قد خصها ... ببديع حكمته الحكيم المبدع
رب له في كل شيء حكمة ... يقضي بها البدعى والمتشرع
وحللت من أرض الرياضة أربعاً ... نفسي الفداء لها وهذي الأربع
قامت زوايها فما أوتادها ... إلا تقوم ما تقيم الأضلع
وتناسب أقدارها نسباً لها ... لو كنت تبصرها فروع فرع
فأجل ما قد سمته بحولها ... من بارق لجناب رشدي يلمع
لا شك أن وراءه مطراً له ... في كل ضرب من قياسي موقع
بحر روى مترع ملاحه ... من فيضه هذا الروي المترع
لم لا أضيع بها عهاد مدامعي ... إني إذاً لعهوها لمضيع
خلي لو لم تسعداني في البكا ... لقطعت من حبليكما ما يقطع
أرأيتما نفساً تفارق جسمها ... وبه تنعمها ولا تتوجع
عظمت رزيتها وأي رزية ... ظلت لها أكبادنا تتصدع
هذي حمامك يا علي سواجع ... وأخالها أسفاً عليها تسجع
إن طارحتني ورقها فبأضلعي ... شوق يطارحه ادكار موجع
آه على جسمي الذي فارقته ... لا كنت ممن جسمه لا يرجع
ومر العجاب رجوع ما أودى به ... دهر بتشتت الأحبة مولع
الحور منه إذا استمر طبيعة ... والعدل منه إذا استقام تطبع
هذي عقوبة زلة سلفت بها ... من أكل طعمته التي لا تشبع
قد كنت أمنع رسخ نفسي قبلها ... واليوم أوجب أنه لا يمنع
لم لا وقد أصبحت بعد محلة ... فيها السحايب بالرغايب تهمع
دار يدر الرزق من أخلاقها ... ولكم دعا داع بها من يوضع
وكأن مجلسها البهي بصدرها ... ملك بأعلى دسته متربع
وكأن مجمر عنبر بفنايها ... يذكي ما قد سيف منه يسطع
وكأنها المتوكلية بهجة ... وعلي بن الجهم فيها يبدع
في حجر ضب خافض بجواره ... من كان قبل له العوامل ترفع

يا نفثة المصدور كم لك قبلها ... من زفرة بين الجوانح تسفع
وعساك تنقع غل بك إنها ... بجحيم ما أسبلته لا تنقع
لله أنت مذاعة أودعتها ... من كل سر بالضمائر يودع
بدوية في لفظها ونظامها ... حضرية فيما به يترجع
لم لا تشفع في الذي أشكو بها ... ومثالها في مثله يتشفع
كملت وما افترعت فأي خريدة ... لو كان يفرعها همام أروع
بارت علي فأصبحت لحيائها ... منى بضافي مرطها تتلفع
ومن شعره قوله يمدح ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم، وهي من مشاهير أمداحه:
سل الريح إن لم تسعد السفن أنواء ... فعند صباها من تلمسان أنباء
وفي خفقان البرق منها إشارة ... إليك بما تنمي إليها إيماء
تمر الليالي ليلة بعد ليلة ... وللأذن إصغاء وللعين إكلاء
وإني لأصبو للصبا كلما سرت ... وللنجم مهما كان للنجم أصباء
وأهدي إليها كل حين تحية ... وفي رد إهداء التحية إهداء
واستجلب النوم الغرار ومضجعي ... قتاد كما شاءت نواها وسلاء
لعل خيالاً من لدنها يمر بي ... ففي مره بي من جوى الشرق إبراء
وكيف خلوص الطيف منها وحولها ... عيون لها في كل طالعة راء
وإني لمشتاق إليها ومنبئ ... ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء
وكم قايل تفنى غراماً بحيها ... وقد أخلقت منها ملاء وإملاء
لعشرة أعوام عليها تجرمت ... إذا مضى قيظ بها جاء إهراء
يطنب فيها عابثون وحزب ... ويرحل عنها قاطنون وأحياء
كأن رماح الذاهبين لملكها ... قداح وأموال المنازل أبداء
فلا تبغين فيها مناخاً لراكب ... فقد قلصت منها ظلال وأفياء
ومن عجبي أن طال سقمي ونزعها ... وقسم إضناء علينا وإطناء
وكم أرجفوا غيظاً بها ثم أرجؤا ... فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء
يرددها عياً بها الدهر مثلما ... يردد حرف الفاء في النطق فأفاء
فيا منزلاً نال الردى منه ما اشتهى ... ترى وهل لعمر الأنس بعدك إنساء
وهل للظى الحرب التي فيك تلتظي ... إذا ما انقضت أيام بوسك إطفاء
وهل لي زمان أرتجي فيه عودة ... إليك ووجه البشر أزهر وضاء
فوا سيئى حالي إن هلكت ولم أقل ... لصحبي بها الغر الكرام الاهاؤا
ولم أطرق الدير الذي كنت طارقاً ... كعادي وبدر الأفق أسلغ مسناء
أطيف به حتى تهر كلابه ... وقد نام عساس وهوم سباء
ولا صاحب الأحسام ولهذم ... وطرف لخد الليل مذ كان وطاء
وأسحم قاري كشعري حلكة ... تلألأ فيه من سنى الصبح أضواء
فما لشرابي في سواك مرارة ... ولا لطعامي دون بابك إمراء
وباداري الأولى بدرب حلاوة ... وقد جد عيث في بلاها وأرداء
أما آن أن يحمى حماك كعهده ... وتجتاز أحماش عليك وأحماء
أما آن أن يعشو لنارك طارق ... جنيب له رفع إليك ودأداء
يرجى نوالا أو يؤمل دعوة ... فما زال قار في ذراك وقراء
أحن لها ما أطت النيب حولها ... وما عاقها عن مورد الماء إظماء
فما فاتها مني نزاع على النوى ... ولا فاتني منها على القرب إجشاء
كذلك جدي في صحابي وأسرتي ... ومن لي به من أهل ودي إن فاؤوا
ولولا جوار ابن الحكيم محمد ... لما فات نفسي من بني الدهر إقماء

حماني فلم تنتب محلى نوايب ... بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء
وأكفاء بيتي في كفالة جاهه ... فصاروا عبيداً لي وهم لي أكفاء
يؤمون قصدي طاعة ومحبة ... فما عفتة عافوا وما شئته شاء
دعاني إلى المجد الذي كنت آملا ... فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء
وبوأني من هضبة العز تلعة ... يناجي السها منه صعود وطأطاء
يشايعني فيها إذا سرت حافظ ... ويكلأني منها إذا نمت كلاء
ولا مثل نومي في كفالة غيره ... وللذيب إلمام وللصل إلماء
بغيضة ليث أو بمرقب خالب ... تند كساً فيه وتقطع أكساء
إذا كان لي من نايب الملك كافل ... ففي حيثما هومت كن وإدفاء
وأخوان صدق من صنايع جاهه ... يبادرني منهم قيام وإيلاء
سر اع لما يرجى من الخير عندهم ... ومن كل ما يخشى من الشر إبراء
إليك أيا عبد الآله صنعتها ... لزومية فيها لوجدي إفشاء
مبراة مما يعيب لزومها ... إذا عاب أكفاء سواها وإيطاء
أذعت بها السر الذي كان قبلها ... عليه لأحناء الجوانح إضناء
وإن لم يكمن كل الذي كنت آملاً ... واعوز إكلاء فما عاز إكماء
ومن يتكلف مفحما شكر منة ... فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء
إذا منشد لم يكن عنك ومنشئ ... فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء
ومن شعره قوله.
أطار فؤادي برق ألاحا ... رقم ضم بعد لو كر جناحا
كأن تألقه في الدجا ... حسام جبان يهاب الكفاحا
أضاء وللعين إغفاءة ... تلذ إذا ما سنى الفجر لاحا
كمعني خفي بدا بعضه ... وزيد بيانا فزاد اتضاحا
كأن النجوم وقد غربت ... نواهل ماء صدرن قماحا
لواغب باتت تجد السرى ... فأدركها الصبح روحى طلاحا
وقد لبس الليل أسما له ... فمحت عليه بلا وانصياحا
وأيقظ روض ابربا زهره ... فمحت عليه بلا وانصياحا
وأيقظ روض الربا زهره ... فحيا نسيم صباه الصباحا
كأن النهار وقد غالها ... مبيت مال حواه اجتياحا
أتى يستفيض دموعي امتياحا ... ويلهب نار ضلوعي اقتداحا
فلم يلق دجن انتحابي شحيحا ... ولم يلف زند اشتياقي شحاحا
ولولا توقد نار الحشى ... لانفدت ماء جفوني امتياحا
ومما يشرد عني الكرى ... هديل حمام إذا نمت صاحا
ينوح علي وأبكي له ... فأقطع ليلى بكاً أو نباحا
أعين أريحى أطلب الأسى ... عليك وما زدت إلا انتزاحا
دعيني أرد ماء دمعي فلم ... أرد بعد مايك ماء قراحا
أحن إليك إذا سفت ريحا ... وأبكي عليك إذا ذقت راحا
وأفني التياحا إليك وكم ... أشحت بوجهي عنك اتشاحا
ولولا سخايم قوم أبوا ... إيابي ركبت إليك الرياحا
أباحوا حماي وكم مرة ... حميت حمى عرضهم أن يباحا
ودافعت عنهم بشعري انتصارا ... فكان الجزاء جلاى المتاحا
أباعوا ودادي بخسا فسل ... أكان سماحهم بي رباحا
وأغروا بنفسي طلابها ... سراراً فجاءوا لقتلي صراحا
وآلو يمينا على أن ما ... توهمت لم يك إلا مزاحا
فشاورت نفسي في ذا فما ... رأت لي بغير الفلاة فلاحا
فبت أناغي نجوم الدجا ... نجاء فلم ألق إلا نجاحا

أجوب الدياجير وحدي ولا ... مؤانس إلا القطا والسراحا
وإلا الثعالب تحتس في ... مبيتي فتملأ سمعي ضباحا
أجوز الأفاحيص فيحاً قفارا ... وأعرو الأداحي غبرا فساحا
فأعيي شوارد هذي عداء ... وأعلو لواغي تلك صياحا
وجواب بدو إذا استنبحوا ... أجابوا عواء وأموا النباحا
يرون قتالي في الحجر حلاً ... وإذهاب نفسي فيه مباحا
قصدت هناهم فلم أخطهم ... أعاجم شوس العيون قباحا
فسل كيف كان خلاصي من ... أسارهم أسرى أم سراحا
ولا مثل بيت تيممته فلم ... ألف إلا الغنا والسماحا
عيابا ملاء ونيباً سمانا ... وغيداً خدالا وعوداً أقاحا
وإلا أعاريب شم الأنوف ... كرام الجدود فصاحاً صباحا
وإلا يعافير سود العيون ... يرين فساد المحب صلاحا
يرددن فينا لحاظاً مراضا ... يمرضن منا القلوب الصحاحا
وتحت الوجا طلاً ربرب ... لو أن القيان رفعن الوجاحا
أراني محاسن منه فلم ... أطق عن حماه بقلبي براحا
محياً وسيماً وفرعاً أثيثا ... وقداً قويماً وردفاً رداحا
وأبدي لعيني بدايع لم ... يدع لي عقلاً بها حين راحا
إذا لم يرد غير سفك دمي ... فحل وبل له ما استباحا
وما زلت سمحاً بنفسي كذا ... متى ما رأيت الوجوه الملاحا
وباين رشيد تعوذت من ... هواه فقد زدت فيه افتضاحا
وقد ضاق صدري عن كتمه ... وأودعته جفن عيني فباحا
وبابن رشيد تعوذت من ... خطوب أجلن علي القداحا
ألح الزمان بأحداثه ... فألقيت طوعاً إليه السلاحا
أعاد شبابي مشيباً كما ... سمعت وصير نسكي طلاحا
وفرق بيني وبين الأهيل ... ولم ير ذا عليه جناحا
أخي وسميى أصخ مسعداً ... لشجو حزين إليك استراحا
فقد جب ظهري على ضعفه ... كداماً وأدهاى شواتي نطاحا
وطوح بي عن تلمسان ما ... ظننت فراقي لها أن يتاحا
وأعجل سيري عنه ولم ... يدعني أودع تلك البطاحا
نأى بصديقك عن ربعه ... فكان له النأي موتاً صراحا
وكان عزيزاً على قومه ... إذا هاج خاضوا إليه الرماحا
فها هو إن قال لم يلتفت ... إليه امتهاناً له واطراحا
عجبت لدهري هذا وما ... ألاقي مساء به وصباحا
لقد هد مني ركناً شديداً ... وذلل مني حياء لقاحا
وقيت الردى من أخ مخلص ... لو استطعت طرت إليه ارتياحا
وإني على فيح ما بيننا ... لأتبع ذاك الشذا حيث فاحا
أحن إليه حنين الفحول ... ونوح الحمام إذا ما ألاحا
إن شيت عرفان حالي وما ... يعانيه جسمي ضني أو صحاحا
فقلب يذوب إليك اشتياقا ... وصدر يفاح إليك انشراحا
وغرس وداد أصاب فضاء ... ندياً وصادف أرضاً براحا
كراسخ مجد تأثلته ... فلم تخش بعد عليه امتصاحا
وعلياء بوئتها لو بغى ... سمواً إليها السماك لطاحا
مكارم جمعت أفذاذها ... فكانت لعطف علاك وشاحا
ودرس علوم تهيم بها ... عمرت الغدو به والرواحا
نشأت عن الخير واعتدته ... فلم تدر إلا التقي والصلاحا
وقمت لها أيما رحلة ... كسحت المعارف فيها اكتساحا

بهرت رجال الحديث اقتداء ... وفت رجال الكمال اقتراحا
فما إن جليس إذا قلت قال ... أو أن الخطيب إذا لحت لاحا
ولو لم تحج بها مكة ... لحج الملايك عنك صراحا
وأما أنا بعد نهي النهى ... فما زادني الطبع إلا جماحا
أدير كؤوس هواي اغتباقا ... وأشرب ماء دموعي اصطباحا
فبرد جواي برد جواب ... توبخ فيه مشي الوقاحا
وهن بنيات فكري وقد ... أتينك فاخفض لهن الجناحا
ومن شعره رحمه الله قوله يمدح ذا الوزارتين المتقدم ذكره، ويذكر غفارة وجهها له مع هدية:
كبت العدى إنعامك البغت ... فلي الهنا وللعدى الكبت
يا من إلى جدوي أنامله ... يزجي للسفين وتزجر البخت
لولاك لم يوصل بناحية ... وخد ولم يقطع بها دشت
لولاك لم يطلع بها نشر ... منه ولم يهبط بها خبت
خولتني ما لم تسعه يدي ... فأصابني من كثره غمت
شتى أياد كلما عظمت ... عندي تلكأ خاطري الهت
يعيي لساني عن إذاعتها ... ويضيق عن شكري لها الوقت
وطأت لي الدنيا فلا عوج ... فيما أرى منها ولا أمت
أمكنتني منها فما ليدي ... ردء ولا لمقالتي عت
بالغت في بري ولا نسب ... أدلي إليك ودادي البحت
بوركت من رجل برؤيته ... يوسي الضنا ويعالج الغت
لو سار في بهماء مقفرة ... في حيث لا ماء ولا نبت
لتفجر الماء النمير بها ... ولأعشبت أرجاؤها المرت
لا تحسبن البخت نيل عني ... نيل الرضا منه هو البخت
آلت جلالته وحق لها ... أن لا يحيط بكنهها نعت
أظهرت دين الله في زمن ... ما زال يغلب حقه البهت
شيدته وهددت ممتعضاً ... لضياعه ما شيد الجبت
أمنت أرض المسلمين فلا ... ذئب يخاف بها ولا لصت
وحفظتها من كل نايبة ... تخشى فأنت حفيظها الثبت
ونهجت سبيل المكرمات فما ... لمؤمل عن غايه ألت
لم تبق غفلاً من متالعها ... إلا وفيه لحاير برت
هادن ظفاة الكفر ما هدأت ... حتى يجيء نهارها المحت
دعها تودع في معاقلها ... ما لم تعد جفاتها العفت
كم ذدتها عنا وقد هبرت ... لهراشنا أشداقها الهرت
بوقوف طرفك عند شدته ... يبأى ويفخر ملكها الرت
ويشكر ما اظهرت من كرم ... في ذاك تفصح عجمها المرت
لك من ممالكها وإن رغمت ... ما جال فيه جوادك الحت
ولكل أصيد من بطارقها ... في كل أرى له دعت
لولا لباك البيض ما أرقت ... للقايها أفراسنا الكمت
عنده لمن ينتابه مقة ... ولمن ينيب لغيره مقت
ولو أن بيضك لم تسل لما ... ذلت أنوف طغاتها السلت
يا ابن الحكيم أمنت صرف ردى ... أبداً له في أثلتي نحت
وبيمنه أنست من أملي ... ما لم يكن يوماً له عرت
مثني الوزارة موئلي وله ... ما دمت أملك قدرتي أقت
وببأسه أطفى شرارة من ... يعثو وأقدح أنف من يعت
عم الورى جوداً وفضل غنى ... حتى تساوى العد والغلت
وهمي على عال ومنخفض ... لم يبق فوق لا ولا تحت
ظل إذا نصطاف معتدل ... عطر الشذا وحياً إذا نشت
يتضاءل الصبح المنير إذا ... لاقى سناه جبينك الصلت
حتى كأن شمس الضحى قمر ... وكأن ضوء شعاعها فخت

وغيبة في لطف صنعتها ... يمضي الزمان وما لها أخت
ينأى الندى بها إذا لبست ويتيه إن طويت بها التخت
زنجية لكن لمحتدها ... في الروم يعنو القس والشنت
مثل العروس على منصتها ... من شأنها التزيين والزت
لأكون أنحل ما أكون هدى ... فيها فيعبل جسمي الشخت
وبمثل شيبي فوق حلكتها ... يبدو الوقار ويحفظ السمت
تظهريني بلباسها وبه ... عندي لها الإيثار ما عشت
لا زلت تؤثرني بها أبداً ... ولا تف من يشقي بذا السلت
وبقيت تدرك ما تريد وما ... تهوي بقاء ما له فت
ومن شعره أيضاً في المدح قوله رحمه الله من قصيدة ثبتت في ديوان مجموع من أمداحه منها قوله:
طرقتك وهناً أخت آل علاج ... والركب بين دكادك وحراج
في ليلة ليلاء لم ينبح بها ... كلب ولم يصرخ أذين دجاج
أني اهتدت لمضللين توهنوا ... منها لهتك دياجر ودياج
متسربلى برد الظلام كأنهم ... فيه قداح في رماية ساج
وثقوا بمحمود السرى وتسلموا ... لمخارم مجهولة وفجاج
ومنازل درس الرسوم بلاقع ... أخوين من هيج ومن هجهاج
محت معالمهن غير مثلم ... كسوار تاج أو كدملج عاج
ومواثل مثل الحمام جواثم ... ورق وأسمج دائم التشحاج
ومشجج ما زال منهل الحيا ... يبكي صداه بدمعه الثجاج
حتى أعاد لعوده أوراقه ... خضر الظلال ذكية الآراج
وكسا عراة عراصه من وشيه ... حللا تبور صنعة الديباج
لا مثل ليلات مضين سريعة ... بردت حرارة قلبي المهتاج
أدركت منها في صباي مطالبي ... وقضيت منها في شبابي حاج
كم ليلة مرت ولم يشعر بها ... غيري وغير منادمي وسراج
بتنا ندير إلى انبلاج صباحها ... كأس الهوى صرفاً بغير مزاج
وتدير أعيننا حديث غرامنا ... بمرامز من فضها وأحاج
بمآرج النفحات من دارين أو ... بمدارج النسمات من دراج
وخلوص ود في نقاء سريره ... كسلاف راح في صفاء زجاج
أمحضته حظي من الزمن الذي ... أعيي مراسي أهله وعلاج
واخترت قرب جواره لخلوصه ... وتركت كل مماذق مراج
ما في زمانك غير فاخلص له ... غيباً وداهن من أردت وداج
لا تحلفن بغيره واستعفين ... بوقاره عن كل غمر ماج
أترك بني الدنيا وأعرض عنهم ... فعساك تطعم لذة الإثلاح
نزهت نفسي عنهم بنواله ... وحفظتها من جاهه بسياج
أصبحت من آلايه وولايه ... في عزة ضحيا وعز داج
ولو أنني عجت الركاب ميمما ... أحداً سواه ما حمدت معاج
طلق إذا احتلك الزمان أنار في ... ظلمائه كالكوكب الوهاج
طود الرصانة والرزانة والحجا ... بحر الندى المتلاطم الأمواج
وغمامه الهامي على آماله ... من غير إرعاد ولا إرعاج
وهزبر آجام القنى الضاري إذا ... سقطت عواتمها على الأزجاج
ضمن الإله له على أعدايه ... ما شاء من ظفر ومن إفلاج
أبقى أبو عبد الإله محمد ... ما شاد والده أبو الحجاج
وبني أبو إسحق قبل وصنوه ... ركنا الضعيف ومعدنا المحتاج
وجرى على آثار أسلاف لهم ... درجوا وكلهم على منهاج
ما منهم إلا أعز مبارك ... مصباح ليل أو صباح عجاج
بيت بنوه من سراوة حمير ... في الذروة العلياء من صنهاج

كم كان في الماضين من أسلافهم ... من رب إكليل وصاحب تاج
أساس كل رياسة ورؤس ... كل سياسة وليوث كل هياج
أعيت نجوم الليل من سهر وما ... أعيا أبو موسى من الإدلاج
حتى أصارته لرحمة ربه ... يوم العقاب وقيعة الأعلاج
وأقيم نجل أخيه بعد مقامه ... فيهم يطاعن مثله ويواج
فردا يلف كتايباً بكتايب ... ويكب أفواجا على أفواج
حتى تجلى دجن كل عجاجة ... عنهم وأمسك رعد كل ضجاج
من مثل يوسف قراع كتايب ولقاء أعداء وخوض لجاج
أو من يشق من الأنام غباره ... في رد آراء ونقض حجاب
إن خاض يوماً في بيان حقيقة ... أنهى عن الثوري والحلاج
وإذا تكلم في الغريب وضبطه ... لم يعبأ بالعتبي والزجاج
جمع الفصاحة والصباحة والتقا ... والجود في وجد وفي إحراج
تخشاه أسد الغاب في أجماتها ... والروم في الأسوار والأبراج
إنا بني قحطان لم تخلق لغير غياث ملهوف ومنعة لاج
نبري طلا الأعراب في الهيجا وفي ... اللأواء سوف تماري الأعراج
بسيوفنا البيض اليمانية التي ... طبعت لحز غلاصم ووداج
تأبى لنا الإحجام عن أعداينا ... يوم اللقاء طهارة الأمشاج
أنصار خير العالمين وحزبه ... وحماته في الجحفل الرجراج
وفداته بنفوسهم ونفيسهم ... من غدر مغتال وسبة هاج
هم صفوة الخلق التي اختيرت له ... وسواهم همج من الأهماج
إلا الألى سبقوا بباهر فضلهم ... من ساير الأصحاب والأزواج
وكفى بحكمتنا إقامة حجة ... وبركننا من كعبة الحجاج
ولنا مفاخر في القديم شهيرة ... كالصبح في وضح وفي إبلاج
منا التبابعة الذين ببابهم ... كانت تنيخ جباة كل خراج
ولأمرهم كانت تدين ممالك الدنيا بلا قهر ولا إحراج
من يقتدح زنداً فإن زنادهم ... في الجود وارية بلا إخراج
بوابهم مفتوحة لضيوفهم ... أبداً بلا قفل ولا مزلاج
ومما اشتهر من شعره قوله:
أرق عيني بارق من أثال ... كأنه في جنح ليلي ذبال
أثار شوقاً في ضمير الحشى ... عبرتي في صحن خدي أسال
حكى فؤاد قلقاً واشتعال ... وجفن عيني أرقاً وانهمال
جوانح تلفح نيرانها ... وأدمع تنهل مثل العزال
قولوا وشاة الحب ما شئتم ... ما لذة الحب سوى أن يقال
عذراً للوامي ولا عذر لي ... فزلة العالم ما إن تقال
قم نطرد الهم بمشمولة ... تقصر الليل إذا الليل طال
وعاطها صفراء ذمية ... تمنعها الذمة من أن تنال
كالمسك ريحاً واللما مطمعا ... والتبر لوناً والهوا في اعتدال
عتقها في الدن خمارها ... والبكر لا تعرف غير الحجال
لا تثقب المصباح لا واسقني ... على سنى البرق وضوء الهلال
فالعيش نوم والردى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال
خذها على تنغيم مسطارها ... بين خوابيها وبين الدوال
في روضة باكر وسميها ... أخمل دارين وأنسى أوال
كأن فار المسك مغبوقة ... فيها إذا هبت صباً أو شمال
من كل ساجي الطرف ألحاظه ... مفوقات أبداً للنضال
من عاذري والكل لي عاذل ... من حسن الوجه قبيح الفعال
من خلني الوعد كذابه ... ليان لا يعرف غير المطال
كأنه الدهر وأي امرئ ... يبقى على حال إذا الدهر حال
أما تراني آخذاً ناقضاً ... عليه ما سوغني من محال

ولم أكن قسط له عائباً ... كمثل ما عابته قبلي رجال
يأبى ثراء المال علمي وهل ... يجتمع الضدان علم ومال
وتأنف الأرض مقامي بها ... حتى تهاداني ظهور الرجال
لولا بنو زيان ما لذ لي العيش ولا هانت على الليال
هم خوفوا الدهر وهم خففوا ... على بني الدهر خطاه الثقال
ورثت من عامرهم سيداً ... غمر رداء الحمد عمر النوال
وكعبة للجود منصوبة ... يسعى إليها الناس من كل حال
خذها أبا زيان من شاعر ... مستملح النزعة عذب المقال
يلتفظ الألفاظ لفظ النوى ... وينظم الآلاء نظم اللآل
مجارياً مهيار في قوله ... ما كنت لولا طمعي في الخيال
ومما قال أيضاً، واشتمل ذلك على شيء من نظمه ونثره. وهذا الرجل مغرب النزعة، في شفوف نظمه على نثره:
عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يطمع أن يمر ببالها
وأنا الفقير إلى تعلة ساعة ... منها وتمنعني زكاة جمالها
كم ذا وعن عيني الكرى متأنف ... يبدو ويخفى في خفي مطالها
يسمو لها بدر الدجا متضايلاً ... كتضاءل الحسناء في أسمالها
وابن السبيل يجيء يقبس نارها ... ليلاً فتمنحه عقيلة مالها
يعتادني في النوم طيف خيالها ... فتصيبني ألحاظها بنبالها
كم ليلة جادت به فكأنما ... زفت على ذكا وقتت زوالها
أشري فعطرها وعطل شهبها ... يأبى شذا المعطار من معطالها
وسواد طرته كجنح ظلامها ... وبياض غرته كضوء هلالها
دعني أشم بالوهم أدنى لمحة ... من نغرها وأشم مسكة خالها
ما راد طرفي في حديقة خدها ... إلا لفتنته بحسن دلالها
أنسيب شعري رق مثل نسيمها ... فشمول راحك مثل ريح شمالها
وانقل أحاديث الهوى واشرح غريب لغاتها وأذكر ثقات رجالها
وإذا مررت برامة فتوق من ... أطلايها وتمش في أطلالها
وانصب لمغزلها حبالة قانص ... ودع الكرى شر كالصيد غزالها
وأسل جداولها بفيض دموعها ... وانضح جوانحها بفضل سجالها
أنا من بقية معشر عركتهم ... هذي النوى عرك الرحى بثقالها
أكرم بها فئة أريق نجيعها ... بغياً فراق العين حسن جمالها
حلت مدامة وصلها وحلت لهم ... فإن انتشوا فبحلوها وحلالها
بلغت بهرمس غاية ما نالها ... أحد وناء بها لبعد منالها
وعدت على سقراط صورة كأسها فهريق ما في الدن من جريالها
وسرت إلى فاراب منها نفحة ... قدسية جاءت بنخبة آلها
ليصوغ من ألحانه في حانها ... ما سوغ القسيس من أرمالها
وتعلقت في سهر ورد فأسهرت ... عيناً يؤرقها طروق خيالها
فخبا شهاب الدين لما أشرقت ... وخبا فلم يثبت لنور جلالها
ما جن مثل جنونه أحد ولا ... سمحت يد بيضاء بمثل نوالها
وبدت على الشوذي منها نفحة ... ما لاح منها غير لمعة آلها
بطلت حقيقته وحالت حاله ... فيما يعبر عن حقيقته حالها
هذي صبابتهم ترق صبابة ... فيروق شاربها صفاء زلالها
إعلم أبا الفضل بن يحيى أنني ... من بعدها أجري على آسالها
فإذا رأيت مولهاً مثلي فخذ ... في عذله إن كنت من عذالها
لا تعجين لما ترى من شأنها ... في حلها إن كان أو ترحالها
فصلاحها بفسادها ونعيمها ... بعذابها ورشادها بضلالها
ومن العجايب أن أقيم ببلدة ... يوماً وأسلم من أذى جهالها
شغلوا بدنياهم أما شغلتهم ... عني فك م ضيعت من أشغالها
حجبوا بجهلهم فإن لاحت لهم ... شمس الهدى عشوا بضوء ذبالها

وإن انتسبت فإنني من دوحة ... تتقيل الأقيال برد ظلالها
من حمير من ذي وعين من ذرى ... حجر من العظماء من أقيالها
وإذا رجعت لطينتي معنى فما ... سلسالهم بأرق من صلصالها
لله درك أي نجل كريمة ... ولدته فاس منك بعد حبالها
ولأنت لاعد منك والد فخرها ... وسماك سؤددها وبدر كمالها
أغلظ على من عاث من أنذالها ... واخشع لمن تلقاه من أبدالها
والبس بما أوليتها من نعم ... حلل الثناء وجر من أذيالها
خذها أبا الفضل بن يحيى تحفة ... جاءتك لم ينسج على منوالها
ما جال في مضمارها شعر ولا ... سمحت قريحة شاعر بمثالها
واتل أبا البركات من بركاتها ... وادفع محال شكوكه بمحالها
هذه أمتع الله ببقايك، وأسعد بلقايك. وأراها بما تؤمله من شريف اعتنايك، وترجوه من جميل احتفايك، ما تعرف به من احتذايك، وتعترف له ببركة اعتفايك، كريمة الأحياء، وعقيلة الأموات والأحياء، بنت الأذواء والأقيال، ومقصورة الأسرة والحجال؛ بل أسيره الأساوير والأحجال. على أنها حليفة جاورت سيف بن ذي يزن في رأس غمدان، وجاوزت مسلمة بن مخلد يوم جابية الجولان، وذلقت لسان ابن أخته حسان، فتضاءلت لرقة حده جسوم بني عبد المدان، وقربه ما شيم من غمده قيد ابن الغطنابة بين يدي النعمان، قربت ببني جفنة مزار جلق، وسعرت لبني تميم نار محلق؛ ومرت على معتاد غالب، فما أنست ناره، وطافت ببيت عبد الله بن دارم، فلم ترض جواره، ولو حلت بفناية، واستحلت ما أحل لها من مبذول حبائه، لاغتفر لها ما جنته ببطن أواره، ولحلت لها حبوتاً مجاشع وزرارة، مزقت على مزيقيا حللاً، وأذهبت يوم حليمة مثلا، وأركبت عنزاً شر يومها يجدع جملا، وناطت بأذن مارية قرطها، وجرت على أثر الكندي مرطها، وقفها بين الدخول فحومل فوقفت، وأنفها يوم دارة جلجل فأنفت منه ومنا ألفت، عقر ناقته وانتهس عبيطها، ودخل خدر عنيزة وأمال غبيطها. وأغرت أبا قابوس بزياد، واسرجت للزبيدي فرس أبي داود، ونافرت بحاتم طي كعب إياد، وساورت للمساور بمثل جوده الساير. ولئن بلت الجعفري لبيدا، فلقد استعبدت الأسدي عبيداً، وقطعت به في أثر سليماه الأسدية بيداً، أرته المنية على حربة هندها الملحوب، وما حال قريضه دون جريضه، وأقفر من أهله ملحوب، وما زالت تخبط في شعاب الأنساب، فترشد، وتنشد ضالتها اليمانية، فتنشد:
إن كنت من سيف بن ذي يزن ... فانزل بسيف البحر من عدن
وذر الشآم وما بناه به الرومي من قصر ومن فدن

تعلف سيل العرم، وترد غسان، وتمهد لها أهضام تبالة، فتقول مرعي ولا كالسعدان، تساجل عن سميحة بابن خرام، وتناضل بسمير يوم خزام، وتنسي قاتل ستة آلاف، وكاسي بيت الله الحرام ثلاثة الأفواف، فلو ساجلت بنبعها أبا كرب، وأرته ضراعة خدها الترب، لساجلت به أخضر الجلدة في بيت العرب، ما جداً يملا الدلو إلى عقد الكرب، بل لو حطت بفناء بيتها الحجري رحلها، وساجلت بفناء حدها ذي رعين، لاستوفت سجلها. كم عاذت بسيفها اليزني، فأدركت ذحلها، ولاذت بركنها اليمني فأجزل محلها. ولو استسقت بأوديتها، لأذهبت محلها. كافحت عن دينها الحنيفي، فما كهم حسامها، ونافحت عن نبيها الأمي، فأيدت بروح القدس سهامها. سدت باب الدرب دون بني الأصفر، وشدت لموته ثوب موت أحمر، وما شغلها كسر تاج كسرى عن قرع هامة قيصر. ولقد حلت من سنام نسبها اليعربي باسمك ذروة، وتعلقت من ذمام نبيها العربي بأوثق عروة. تفرد صاحب تيماء بأبلقه الفرد فعز، وتمرد رب دومة الجندل لما كان من مارد في حرز، فما ظنك، أعزك الله، بمن حل من قدسي عقله، بمعقل قدس، يطار إليه فلا يطار، وراد من فردوس أدبه، في جنة لا يضام رايدها ولا يضار. زها بمجاورة الملك فازدهى رؤساء الممالك، وشغف بمجاورة الملك، فاشتغل عن مطالعة المسالك، أيشق غباره، وعلى جبين المرزم مثاره، أو ينتهك ذماره، وقلب الأسد بيته، ودار أخيه أسامة زاره. ولما قضت من أنديتها العربية أوطارها، واستوفت على أشرف منازعها الأدبية أطوارها، وعطرت بنوافح أنفاسها الذكية آثارها، وأطلعت في ظلم أنفاسها الدجوجية كواكبها النيرة وأقمارها، عطفت على معقلتها الشاذليلة فحلت عقالها، وأمر لها فراق الوطن. فلما استمر لها حلالها، استودعت بطنان تبالة آلها، وتركت أهضامها المخصبة وحلالها. أطلت على دارات العرب فحيت أطلالها، ودعت لزيارة أختها اليونانية، أذواء حمير وأقيالها. أطمعتها بلمعية ألمعيتها الأعجمية، ومثلها يطمع، وجاء بها من قدماء الحكماء كل أوحدي الأحوذية، فباتت تخب إليه وتوضع، باحثة عن مركز دارتهم الفيثاغورية؛ آخذة في إصلاح هيئتهم الإنكساغورية، مؤثرة لما تدل عليه دقائق حقائق بقايا علوم مقايسهم البراهانية، وتشير إليه رموز كنوز وصايا علماء نواميسهم الكلدانية، من مأثور تأثير لاهوتية قواهم السيماوية، راغبة فيما يفاض على مادتها الجسمانية، ويطرأ على عاقليتها الهيولانية، من علويات آثار مواهبها الربانية، موافقة لمثلهم المفارقة أفضل موافقة، موافقة لما وافق من شوارد آرايهم الموفقة أحسن موافقة. وتحت هذه الأستار محذرات أسرار أضر بها الإسرار، وطالما نكر معارفها الإنكار، ونقلت من صدور أولئك الصدور، إلى بطون هذه الأوراق، في ظهور فوق دفاتر فلسفيات معاني علومهم الرقاق. وفي تلك المغاني، أبكار معاني، سكن الجوانح والصدور، بدل الأرايك والخدور، ولحن في دياجي ظلم هذه الأحاجي، كأقمار في أطمار، بهرن وما ظهرن، وسطعن وما لمعن، فعشقن وما رمقن، واستملحن وما ملحن. أدرن خمور أجفانهن على ما خوريات ألحانهن، فهيجت البلابل نغم هذه البلابل، واستفرغته الأكياس، مترعات تلك الأكواس. ما سحر بابل، كخمر بابل، ولا منتقى أغانيهن الأوايل، كحمايمكم الهوادل، إن وصلت هديلها بحفيف، وصلن ثقيلهن بخفيف. إيه أيها الشمري المشمعل، دعنا من حديثك المضمحل، سر بنا أيها الفارس الندس، من حظيرة النفس، إلى حضرة القدس، صرح بإطلاق الجمال، وجل من عالميتك الملكوتية في أفسح مجال، تمش بين مقاصر قصورها، ومعاصر خمورها، رخي البال، مرخي السربال، فما ينسج لك على منوال، نادم عليها من شغف دن سقراط، إن استحسنت لها حسان، فما يصلح لك، صالح بن علاط. بت صريع محياها، فقد أوصت بمعالجة عقير معاقرة عقارها بقراط، لا تخش صاحب شرطتها، فلا شرط له عليك ولا اشتراط، مالك غير مبديك الأول، من قال امتثل الأمر، وما عليك من أمر وال. على رسلك ما هذا العجل، لا خطأ تتوقعه ولا خطل، أمكره أنت في هذه الكريهة، أم بطل. لو علم أنك ضبارية هذا الخميس، وخبعثة ذلك الخميس، لما عاني اليم رسيس، شوقاً إليك محمد بن خميس، على أن لا غالب اليوم لأني غالب، ولا طالب يدرك شأو هذا الطالب، فقه بلا تفهيق، وحذق في تحذلق. أقسم أبا الفضل بمالك على أبي البركات من الفضل، ذلك العراقي الأرومة، لا هذا الفارس الجرثومة، وإن يك

ذلك، إسرايلي الأصل، وهذا إسمعيلي الجنس، علوي الفضل. فلتلك الذات، شرف تلك الأدوات. قدم لي غالبنا المذكور، من بأسه الغر لأرفع، وأسمى من مقعد، وقوطيهم المشهور، من إغرناطة الحمراء، ومن متبوأ أبي أميتهم المرحوم، من جنات جزيرتهم الخضراء، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة، وألوك. أرأيت في عمرك، مثل هذا الصعلوك، لا والله ما على ظهر هذه الغبراء، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا. فأي شيء هذا المنزع إيش، لا حال لنا معك ولا عيش، من يضحك على هذا الطيش. ما هذا الخبل، أخمار بك أم ثمل، إرجع إلى ما كنت بصدده، وقيت الزلل، خذ في الجد فما يليق بك الهزل. رق عن ذلك فحك لنا منه أرق غزل، ماذا أقول، وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول. أفحمتني والله عن مكالمتكم هذه المحن، ومنعتني من طلب مسالمتكم، ما لكم علي في دنياكم هذه من الإحن. إن تكلمت كلمت، وإذا استعجمت عجمت. أما لهذه العلة آس، أم على هذه الفيلة مواس؛ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي. إما يلين لضعفي أما يرق قلب زمانكم القاسي. ما هذه الدمن يا بني حضروات الدمن، أظهرتم المحن، فقلب لكم ظهر المجن. إن مر بكم الولي حمقتموه، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسقتموه، وإذا نجم فيكم الحكيم، غصصتم به، فكفرتموه وزندقتموه، كونوا فوضى، فما لكم اليوم مسراً سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة، حيث شئتم، فقد أهملكم الرعاة. ضيعتم النص والشرائع، وأظهرتم في بدعكم العجايب والبدايع. نفقتم النفاق، وأقمتم سوق الفسوق على ساق. استصغرتم الكباير، وأبحتم الصغاير. أين غنيكم الشاكر، يتفقد فقيركم الصابر، أين عالمكم الماهر، يرشد متعلمكم الحاير. مات العلم بموت العلماء، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء. جرد لنا شريعتك يا أفضل الشارعين. أتم فيها موعظتك يا أفصح التابعين. لا والله ما يوقظكم من هذا الوسن، وعظ الحسن، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن، إلا سيف معلمه أبي الحسن والسلام.ذلك، إسرايلي الأصل، وهذا إسمعيلي الجنس، علوي الفضل. فلتلك الذات، شرف تلك الأدوات. قدم لي غالبنا المذكور، من بأسه الغر لأرفع، وأسمى من مقعد، وقوطيهم المشهور، من إغرناطة الحمراء، ومن متبوأ أبي أميتهم المرحوم، من جنات جزيرتهم الخضراء، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة، وألوك. أرأيت في عمرك، مثل هذا الصعلوك، لا والله ما على ظهر هذه الغبراء، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا. فأي شيء هذا المنزع إيش، لا حال لنا معك ولا عيش، من يضحك على هذا الطيش. ما هذا الخبل، أخمار بك أم ثمل، إرجع إلى ما كنت بصدده، وقيت الزلل، خذ في الجد فما يليق بك الهزل. رق عن ذلك فحك لنا منه أرق غزل، ماذا أقول، وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول. أفحمتني والله عن مكالمتكم هذه المحن، ومنعتني من طلب مسالمتكم، ما لكم علي في دنياكم هذه من الإحن. إن تكلمت كلمت، وإذا استعجمت عجمت. أما لهذه العلة آس، أم على هذه الفيلة مواس؛ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي. إما يلين لضعفي أما يرق قلب زمانكم القاسي. ما هذه الدمن يا بني حضروات الدمن، أظهرتم المحن، فقلب لكم ظهر المجن. إن مر بكم الولي حمقتموه، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسقتموه، وإذا نجم فيكم الحكيم، غصصتم به، فكفرتموه وزندقتموه، كونوا فوضى، فما لكم اليوم مسراً سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة، حيث شئتم، فقد أهملكم الرعاة. ضيعتم النص والشرائع، وأظهرتم في بدعكم العجايب والبدايع. نفقتم النفاق، وأقمتم سوق الفسوق على ساق. استصغرتم الكباير، وأبحتم الصغاير. أين غنيكم الشاكر، يتفقد فقيركم الصابر، أين عالمكم الماهر، يرشد متعلمكم الحاير. مات العلم بموت العلماء، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء. جرد لنا شريعتك يا أفضل الشارعين. أتم فيها موعظتك يا أفصح التابعين. لا والله ما يوقظكم من هذا الوسن، وعظ الحسن، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن، إلا سيف معلمه أبي الحسن والسلام.

قدم غرناطة في أواخر عام ثلاثة وسبعماية. وتوفي في يوم مقتل صاحبه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم، فر من دهليز جاره فيمن كان بها من الأعلام، بعد أن نهبت ثيابه، حسبما جرى على غيره من الحاضرين، وهو يقول، هكذا تقوم الساعة بغتة. ولقيه بعض قرابة السلطان، ممن كان الوزير قد وتره، فشرع الرمح إليه، فتوسل إليه برسول الله، فلم يقبل منه، وطعنه، فقتله يوم عيد الفطر عام ثمانية وسبعماية، وآخر العهد به، مطرحاً بالعراء، خارج باب الفخارين، لا يعلم قبره، لمكان الهرج في تلك الأيام. نسل الله جميل ستره. وساء بأثر قتله إياه حال ذلك الرجل وفسد فكره، وشرد نومه وأصابته علة ردية، فكان يثب المرة بعد الأخرى، يقول ابن خميس يقتلني، حتى مات لأيام من مقتل المذكور.
ابن إبراهيم الملكشيمحمد بن عمر بن علي بن إبراهيم الملكشي يكنى أبا عبد الله.
حالهكان فاضلا، متخلقاً، أديباً، شاعراً، صوفياً، جميل العشرة، حسن الخلق كريم العهد، طيب النفس. كتب عن الأمراء بإفريقية، ونال حظوة، ثم شرق وحج، ولقي جلة، ووصل الأندلس عام ثمانية عشر وسبعماية، فلقي بغرناطة حفاية، وانسحبت بها عليه جراية، ثم انصرف إلى وطنه، وناله به اعتقال، ثم تخلص من النكبة، وأقام به، يزجي وقته إلى آخر عمره.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر: كاتب الخلافة، ومشعشع الأدب المزري بالسلافة، كان يرحمه الله، بطل مجال، ورب روية وارتجال، قدم على هذا البلاد، وقد نبا به وطنه، وضاق ببعض الحوادث عطنه، فتلوم بها تلوم النسيم بين الخمايل، وحل بها محل الطيف من الوشاح الجايل، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة، ومبرة يانعة. ثم آثر قطره، فولي وجهه شطره، واستقبله دهره بالإنابة، وقدله خطة الكتابة، واستقامت حاله، وحطت رحاله، وله شعر أنيق، وتصوف وتحقيق، ورحلته إلى الحجاز، سببها في الخبر وثيق، ونسبتها في الصالحات عريق.
شعرهنقلت من خط الوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين، مما قيد عنه، وكان خبيراً بحاله:
رضي نلت من كل ما يهوى ... فلا توقفني موقف الذل والشكوى
وصفحاُ عن الجاني المسيء لنفسه ... كفاه الذي يلقاه من شدة البلوى
بما بيننا من خلوة معنوية أرق من النجوى وأحلى من السلوى
قفي أتشكى لوعة البين ساعة ... ولا يك هذا آخر العهد بالنجوى
قفي ساعة في عرصة الدار وانظري إلى عاشق لا يستفيق من البلوى
وكم قد سألت الريح شوقاً إليكم ... فما حن مسراها إلي ولا ألوى
فيا ريح حتى أنت ممن يغار بي ... ويا نجد حتى أنت تهوي الذي أهوى
خلقت ولي قلب جليد على النوى ... ولاكن على فقد الأحبة لا يقوى
وحدث بعض من عني بأخباره أيام مقامه بمالقة واستقراره؛ أنه لقي ليلة بباب الملعب في أبوابها ظبية من ظبيات الأنس، وفتنة من فتن هذا الجنس، فخطب وصالها، واتقى بفؤاده نصالها، حتى همت بالانقياد، وانعطفت انعطاف الغصن المياد، فأبقى على نفسه، وأمسك، وأنف من خلع العذار، بعد ما تنسك، وقال:
لم أنس وقفتنا بباب الملعب ... بين الرجا واليأس من متجنب
وعدت فكنت مراقباً لحديثها ... يا ذل وقفة خايف مترقب
وتذللت فذللت بعد تعزز ... يأتي الغرام بكل أمر معجب
بدوية أبدي الجمال بوجهها ... ما شيت من خد شريق مذهب
تدنو وتبعد نفرة وتجنباً ... فتكاد تحسبها مهاة الرباب
ورنت بلحظ فاتر لك فاتن ... أنضى وأمضى من حسام المضرب
وأرتك بابل سحرها بجفونها ... فسبت وحق لمثها أن تستب
وتضاحكت فحكت بنير ثغرها ... لمعات نور ضياء برق خلب
بمنظم في عقد سمطى جوهر ... عن شبه ثور الأقحوان الأشنب
وتمايلت كالغصن أخضله الندى ... ريان من ماء الشبيبة مخصب
تثنيه أرياح الصبابة والصبا ... فتراه بين مشرق ومغرب
أبت الروادف أن تميل بميله ... فرست وجال كأنه في لولب
منسوجاً بهلال وجه لاح في ... خلل السجوف لحاجب ومحجب

يا من رأى فيها محباً مغرماً ... لم ينقلب إلا بقلب قلب
ما زال مذ ولي يحاول حيلة ... تدنية من نيل المنى والمطلب
فأجال نار الفكر حتى أوقدت ... في القلب نار تشوق وتلهب
فتلاقت الأرواح قبل جسومها ... وكذا البسيط يكون قبل مركب
ومن مقطوعاته البديعة، مما سمع منه بغرناطة، حرسها الله، أيام مقامه بها قوله:
أرى لك يا قلبي بقلبي محبة ... بعثت بها سرى إليك رسولا
فقابله بالبشر واقبل عشية ... فقد هب مسكي للنسيم عليلا
ولا تعتذر بالقطر أو بلل الندى ... فأحسن ما يأتي النسيم بليلا
ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي جعفر الرعيني، مما أملاه علي بمنزله بغرناطة. قال وحضرت في عام ثلاثة عشر وسبعماية، يوم إحرام الكعبة العلية، وذلك في شهر ذي القعدة على اصطلاحهم في ذلك، وصفته أن يتزين سدنة البيت من شيبة بأحسن زي، ويعمدوا إلى كرسي، يصل فيه صاعده، إلى ثلث الكسوة، ويقطعها من هنالك، ويبقى الثلثان إلى المويم، وهو يوم مشهود عند سكان الحرم، يحتفل له، ويقوم المنشدون أدراج الكعبة ينشدون. فقلت في ذلك:
ألم ترها قد شمرت تطلب الجدا ... وتخبر أن الأمر قد بلغ الحدا
فجد كما جدت إليها وشمر عن الساعد الأقوى تنل عندها سعدا
طوت بردها طي السجل كناية ... لأمر خفي سره طوت البردا
وأندت محياها فحيا جماله ... وقبل على صون المقلة ذلك الخدا
فكم سترت سود البرود جمالها ... وغطته لاكن عن سنها الرمدا
وكم خال ذاك الخال عما مقصر ... عن العلم بالأنساب لا يعرف الحدا
لقد سفرت عن وجهها الكعبة التي ... لها المسني في حسنها المبدا
وقالت ألا أين مكللي، قصدوا إلى جمالي فقد أبدي الحجاب الذي أبدا
فلبت لها العاشق من كل جانب ... يومونها يستقربون لها البعدا
فمن ندف أشفى على تلف ومن ... محب على قرب يهيم بها وجدا
ومن ساهر على النجوم ولم يذق بعينيه طعم النور أو يبلغ القصدا
بسائل عن بدر وبدر تجاهه ... كذلك اشتراك اللفظ قد ينغص الخدا
ومن مستهام لا يقر قراره ... كأن به من حر أشواقه وقدا
يقلب قلباً بين جنبيه موريا ... أوار الأسى فيه فتحسبه زندا
إذا ما حدى حادي الركاب ركابه ... كأن قلوب الراكبين له نجدا
أحاد بها إن أنت جئت بها مني ... ونلت المنى والأمن فانزل ورد وردا
ولا خوف هذا الخيف والتربة التي ... سرت قد عين المصطفى عدا
وفي عرفات فاعترف وانصرف إلى ... مشاعر فيها يرحم المالك العبدا
وإن كنت من أوفى العبيد جرايما ... فحسن نبيل العقد من ربك العقدا
لين صدقت فيك الوعيد جرايم ... فعفواً لجميل الصفح يصدقك الوعدا
وعد مفضياً للبيت طف واستلم وقم ... بها للمقام الرحب واسجد وكن عبدا
ورد في الثنا والحمد والشكر واجتهد ... فمن عرف الإحسان زادته حمدا
وعج نحو فرض الحب وأقض حقوقه ... وزر قبر من أولاك من هديه رشدا
قال، وكنت في زمن الحداثة، أفضل الأصيل على السحر، وأقول فيه رقة المودع ورقة المعتذر. فلما كان أوان الأسفار، واتصلت ليالي السير، إلى أوقات الأسحار، وأيت أفق الشرق أشرق، ووجدت القايل يفضل السحر أصدق، فابتدأت راكباً، فلما جيت لذكر الجناب العلي النبوي، أتممت ماشياً، وأنا في رملة بين مصر وعقبة إيله، وقلت:
ما أحسن الأفق الشرقي إسفارا ... فكم هذا في دجى الإدلاج أسفارا
إذا بدا سارت الأظعان هادية ... له وصارت به الظلماء أنوارا
يجلو غياهب ليل طالما سدلت ... على المحبين في الظلماء أستار
ونم من ه نسيم ثم ذا بعد على ... أحاديث كانت ثم أسرارا

سرت سحيرا فبرت سر ذي سحر ... أهدت له ريح من يهواه معطارا
سرت ببانات أكناف اللوى ... فغدت كأن دارين قد أصبحت دارا
طابت بطيبة أرواح معطرة ... بها فأصبح أفق الشوق عطارا
كأنما فلق الغصباح حين بدا ... خدر بهجة حسن الشمس قد وارا
حقي بدت وتبدت حسن صورتها ... فعممته الأرض أنجاداً وأغوارا
كأنه دعوة المختار حين بدت ... دانت لها الخلق إعلاناً وإصرارا
من نوره كل نور أنت تبصره ... ونوره زاد الأبصار إبصارا
هدا به الله أقواماً به سعداء ... لولاه كانوا مع الكفر كفارا
هو الشفيع الذي قالت شفاعته ... للموبقين ألا لا تدخلوا النارا
هو العفو عن الجاني وإن عظمت ... من المسيء ذنوب كان غفارا
هو الكريم الذي ما رد سائله ... يوما ولو كرر التسآل تكرارا
هو الحبيب الذي ألقى محبته ... في كل قلب فقلبي نحوه طارا
أحبه كل مخلوق وهام به ... حتى الجمادات أحجاراً وأشجاراً
وانشق بدر الدجا من نور غرته ... وانهلت السحب من كفيه أنهارا
ومن مقطوعاته، قال، ومما نظمته في ليل السرى، وتخيل طيف الكرى، أقصيد قصدته أي معنى أردته، أشغل عنه ما بي منه:
منع الهجر من سليمي هجوعا ... فانثنى طبعها يريد الرجوعا
بعثته ليلا يعلل قلباً ... مستهاماً بها محباً ولوعا
لم يجد غير طرف جفن قريح ... شاخصا نحوها يذر الدموعا
وكتب إلى صديقه شيخنا أبي بكر بن شبرين من بجاية، وهو معتقل بقصبتها، وقد امتحنه بذلك أبو عبد الله بن سيد الناس:
شرح حالي لمن يريد سؤالي ... إنني في اعتقال مولي الموال
مطلق الحمد والثناء عليه ... وهو للعطف والجميل موال
لا أرى للولاة في احتكاما ... وولي مال على كل وال
أرتجى بالمصاب تكفير ذنبي ... حسبما جاء في اصحاح العوال
لا تدوم الدنا ولا الخير فيها ... وكذا الشر ذا وذا للزوال
فاغتنم ساعة الوصال وكم ... من محنة وهي منحة من نوال
فإذا غبت عنك فاحضر ... تجدها للجواب المفيد عن السؤال
فهي نور للنهار والنور منها ... وهي الأنس في الليالي الطوال
فاستدمها تدم ولا تضج منها ... وأدرها على اليمين ووال
فإن الكأس مجراها على اليمين، ومسراها لفي الصبح المبين، تغنى عن الإصباح والمصباح، وتدنى لهم معنى النور المشرق في الوجوه الصباح، وتجرى في الأشباح، فتسرى في الأرواح. وهذه الرسالة طويلة، فيها كل بديع من نظم ونثر.
فأجابه رحمه الله:
أرغمن هذه القيود الثقال ... رب ود مصيره للتغال
طال صبري على الجديدين حتى ... كدت مما لقيت أن يشفقا ل
إن بعض الرضا لديه فسيح ... أي مدد به وأي ابتقال
حاش لله أن أكون لشيء ... شاده الصانع القديم بغال
إن عندي من الثناء عليه ... لأماني لم يملهن القال
يا إماء الذي بودي لو ... أمكن نصي إليه أوار قال
أرج دنياك وأرج مولاح واعلم ... أن راجي سواه غير مقال
وابتغاء الثواب من ربك اعمل ... فهو يجزي الأعمال بالمثقال
واغتنم غيبة الرقيب ففيها ... لقلوب الرجال أي صقال
وأحل في الوجود فكر غني ... عن ضروب الإنعام والأحقال
وإذا الوقت ضاق وسعه ... بالصبر ولا تنس من شهير المقال
ربما تكره النفوس من الأمر ... له فرحة كحل العقال

لا غرو أن وقع توان، أو تلوم دهر ذو ألوان، فالأمر بين الكاف والنون، ومن صبر، لم يبوء بصفقة المغبون. وللسعداء تخصيص، ومع التقريب تمحيص، وما عن القضاء محيص، والمتصرف في ماله غير معتوب، وقديم الحقيقة إلى الحيف ليس بمنسوب. وقد ورد خطاب عمادي أطاب الله محضره، وسدد إلى المرامي العلية نظره، ناطقاً بلسان التفويض، سارحا من الرضا في الفضاء العريض، لايذاً بالانقياد والتسليم، قايماً على أسكفة باب الأدب، لمثابة حكم الحكيم.
ومنها: والوقايع عافاكم الله وعاظ ونحن هجود. وفي الحي إيقاظ، وما كل المعاني تؤديها الألفاظ. وهذا الفناء الذي نشأ عن الوقت، هو إن شاء الله عين البقيا. وإذا أحب الله عبداً حماه الدنيا، وما هي إلا فتون، وجنون فنون، وحديث كله مجون. وقد يجمع الله الشتيتين، ولن يغلب عسر يسرين ولا بأس، ويا خطب لا مساس وأبعد الله اليأس، وإنما يوفي الأجر الصابرون، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وهي طويله بديعة.
أسمع بحضرة غرناطة لما قدم عليها، وارتسم في جملة الكتاب بها، وحدث عن رضي الدين أبي أحمد إبراهيم الطهري، بسماعه من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي، وبسماعه من أبي الوقت طراد. وعن الإمام سراج الدين أبي حفص عمر بن طراد المعري القاضي بالحرم الشريف، وعن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الحميد الهمداني، وعن الإمام بهاء الدين الخميري عن أبي الطاهر السلفي، وعن جماعة غيرهم. وكان وروده على الأندلس في أوايل عام خمسة عشر وسبعماية، وحضر بها غزوات، ولقي من كان بها من الأعلام. ثم انصرف عنها في أوايل عام ثمانية عشر، وأحل بسبتة، فأكرم رييسها أبو عمر يحيى بن أبي طالب العزفي قدومه، وأنزله بدار جليلة، كان بها علو مطل على البحر، لم يتمكن من مفتاحه، لأمر اقتضى ذلك، فكتب إليه:
يا صاحب البلد المليح المشرق ... ما مثله في مغرب أو مشرق
ومنها:
وخفضت عيشي فيه فارفع ... منزلي حتى أرى الدنيا بطرف مطرق
وتجول في البلاد، ولقي من بها، واتصل بالأمير أبي علي بسجلماسة. ومدحه بقصيدة حفظ منها:
فيا يوسفى الحسن والصفح والرضا ... تصدق على الدنيا بسلطانك العدل
ثم اتصل بوطنه.
وفاتهنقلت من خط شيخنا أبي بكر المذكور: وفي عام أربعين وسبعماية، توفي بتونس صاحبنا الحاج الفاضل المتصوف، الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي المليكثي الشهير بابن عمر، صدر في الطلبة والكتاب، شهير ذو تواضع وإيثار، وقبول حسن، رحمه الله.
ابن راجح الحسنيمحمد بن علي بن الحسن بن راجح الحسني من أهل تونس يكنى أبا عبد الله.
حالههذا الرجال الفاضل، صاحب رواء وأبهة، نظيف البزة، فاره المركب، صدوف عن الملة، مقيم للرسم، مطفف في مكيال الإطراء، جموح في إيجاب الحقوق، مترام إلى أقصى آماد التوغل، سخي اللسان بالثناء ثرثاره، فكه مطبوع، حسن الخلق، عذب الفكاهة، مخصوص حيث حل من الملوك والأمراء بالأثرة، وممن دونهم بالمداخلة والصحبة، ينظم الشعر، ويحاضر بالأبيات، ويتقدم في باب التحسين والتقبيح، ويقوم على تاريخ بلده، ويثابر على لقاء أهل المعرفة، والأخذ عن أولى الرواية. قدم على الأندلس في إحدى جمادين، عام خمسين وسبعماية، مفلتاً من الوقيعة بالسلطان أبي الحسن بالجهات الشرقية، بأيدي بني زيان وأحلافهم، فمهد له سلطانها، رحمه الله، كنف بره، وأواه إلى سعة رعيه، وتأكدت بيني وبينه صحبة.
شعرهكتبت إليه لأول قدومه بما نصه؛ أحذو حذو أبيات، ذكر أن شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها:
أمن جانب الغربي نفحة بارح ... سرت منه أرواح الجوى في الجوانح
قدحت بها زند الغرام وإنما ... تجافيت في دين السلو لقادح
وما هي إلا نسمة حاجرية ... رمى الشوق منها كل قلب بقادح
رجحنا لها من غير شك كأنها ... شمايل أخلاق الشريف ابن راجح
فتى هاشم سبقاً إلى كل علية ... وصبراً معار الحبل في كل فادح
أصيل العلاجم السيادة ذكره ... طراز نضار في برود المدايح
وفرقان مجد يصدع الشك نوره ... حبا الله منه كل صدر بشارح

وفارس ميدان البيان إذا انتضى ... صحايفه أنست مضاء الصفايح
رقيق كما راقتك نغمة هاجع ... وجزل كما راعتك صولة جارح
إذا ما احتبى مستحفزاً في بلاغة ... وخيض خضم القول منه بسايح
وقد شرعت في مجممع الحفل نحوه ... أسنة حرب للعيون اللوامح
فما ضعضعت منه لصولة صادح ... ولا ذهبت منه بحكمة ناصح
تذكرت قساً قديماً في عطاظه ... وقد غص بالشم الأنوف الجحاجح
ليهنك شمس الدين ما حزت من علا خواتمها موصولة بالفواتح
رعى الله ركباً أطلع الصبح مسفراً ... لمرآك من فوق الربى والأباطح
ومنها:
أقول لقومي عندما حط كورها ... وساعدها السعدان وسط المسارح
ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها ... بمعرض سوء فهي ناقة صالح
إذا ما أردنا القول فيها فمن لنا ... بطوع القوافي وانبعاث القرايح
بقيت مني نفس وتحفة رايد ... ومورد ظمآن وكعبة مادح
ولا زلت تلقى الرحب والبر حيثما ... أرحت السرى من كل غاد ورايح
فأجابني بما نصه:
أمن مطلع لأنوار لمحة لامح ... تعار لمفقود عن الحي نازح
وهل بالمني من مورد الوصل يرتوي ... غليل عليل للتواصل جانح
فيا فيض عين الدمع مالك والحمى ... ورند الحمى والشيح شيح المشايح
مرابع آرامى ومورد ناقتي ... فسقياً لها سقياً لناقة صالح
سقى الله ذاك الحي ودقاً فإنه ... حمى لمحات العين عن لمح سامح
وأبدى لنا حور الخيام تزف في ... حلى الحسن والحسني وحلى الملايح
ترى حي تلك الحور للحور مهيع ... يدل وهل حسم لداء التبارح
ويا دوحة الرويحان هل لي عودة ... لعقر عقار الأنس بين الأباطح
وهل أنت إلا طلة حاتمية ... تغص نواديها بغاد ورايح
أقام بها الفخر ابن الخطيب منابراً ... لترتيل آيات للندى والمنايح
وشفع بالإنجيل حمد مديحه ... وأوتر بالتوراة شفع المدايح
وفرق بالفرقان كل فريقة ... نأت عن رشاد فيه معنى النصايح
وهل هو إلا للبرية مرشد ... لكل هدى هاد لأرجح راجح
فبشراك شمس الدين سادبك الورى وأورى الهدى للرشد أوضح واضح
متى قلت لم تترك مقالا لقايل ... فإن لم تقل لم يغن حمد لمادح
فمن حام بالحي الذي أنت أهله ... وعام ببحر من عطايك طافح
يحق له أن يشفع الحمد بالثنا ... ويغدو بذاك البحر أسبح سابح
ويا فوز ملك دمت صدر صدوره ... وبشى له قد راح أربح رابح
بآرايك التي تدل على الهدى ... وتبدي لمن خصصت سيل المناجح
ملكت خصال السبق في كل غاية وملكت من ملكت يا بان الجحاجح
مطامح آمال لأشرف همة ... أقل مراميها أجل المطامح
فدونكها يا مهدي المدح مدحة ... أجبت بها عن مدح أشرف مادح
يهنيك بالعام الذي عم حمده ... مواهب هاتيك البحار الطوافح
فخذها سمى الفخر يا خير مسبل ... على الخلق أغضا ستور التسامح
ودم خاطب العليا لها خير خاطب ... وأتوق تواق وأطمح طامح
وتلقاني بمالقة عند قدومي من الرسالة إلى المغرب، في محرم عام ستة وخمسين وسبعماية، ونظم لي هذه الأبيات، ولا حول ولا قوة إلا بالله:
قدومك ذا أبدي لذي الراية الحمرا ... ثغور الرضا تعبر عن شنب البشرا
وأينع فجر الرشد من فلق الهدى ... وكونه نهرا وفجره فجرا
ونصبح في أحيان المن نستلم ... مواطنكم شفعاً وآثاركم وترا
ونخطب ما يا ابن الخطيب تشا ... من كرايم ذاك الحي إذ نهز الشعرا

فقابلت بالإقبال والبر والرضا ... وأقريت من يقرا وأقررت من قرا
فأبنا قدس الحمد حضرة قدسنا ... وأقدامنا تملا وأمداحكم تقرا
هنيا لنا نلنا ونلنا ولم نزل ... ننال ولاكن هذه المنة الكبرا
رأينا وزير الملد والملك واللوى ... وحزب اللوى كل يشد به أزرا
سجدنا وكبرنا وقلنا رسولنا ... أتى بالذي يرضى بشرى لنا بشرا
ويهني الورى هذا الإياب فإن في ... نتايجه للدهر ما يسهر الدهرا
أرانا سنا ذا اليوم أجمل منظر ... وجلى لنا من وجهك الشمس والبدرا
أما والذي أوليت من نعمة غدت ... تعلمنا للمنعم الحمد والشكرا
لأنت لسان الدين للدين حجة ... تؤيده سراً وتعضده جهرا
بقيت لنا كتفاً منيعاً مشرفاً ... ودمت له عضداً ودمت له نصرا
ودمنا بكم في كل أمن ومنة ... ندير المنا خمرا أو نصلى العدا جمرا
ومن أمثل ما مدح به السلطان لأول قدومه بالنسبة إلى غير ذلك من شعره:
أما والعيون النجل ترمق عن سحر ... وورد رياض الخد والكأس والخمر
وريحانه والراح والطل والطلا ... ونرجسه والزهر والنور والنهر
ونور جبين الشمس في رونق الضحا ... وهالة بدر التم منتصف الشهر
لقد قلدت آراء يوسف ملكه ... قلايد نصر لن تبيد مع الدهر
وقد أيده الإسلام منه بناصر ... نصير وخير النصر نصر بني نصر
هم القوم أنصار النبي محمد وحزبه وعصبة الأعلام في اليسر والعسر
وحسبك من قوم حموا سيد الورى ... وقاموا بنصر الحق في السر والجهر
سقى شرعة الإسلام ودق سيوفهم ... رحيق الأماني طيب العرف والنشر
فأصبح روض الرشد يعبق طيبه ... ودوح الهدى بالزهر أزهاره تزرى
فيا سايلي عنه وعن سطواته إذا ... لاح محفوفاً براياته الحمر
وجز مع الأقدام جيشاً عرمرما ... وشرد بالتأييد شرذمة الكفر
لخليلة تنبيك عما وراءها ... ولا غرو فالإفصاح يعرف بالعجز
فيا فوز من أدناه بالغنم والغنا ... ويا ويل من أقصاه للقفر والفقر
يميناً بما اختارت يداك وأحرزت ... من الملك والتأييد والنهي والأمر
لقد أصعدت مجدى مدائحك التي ... ومجدك والعليا مدحت بها شعر
وحق لمثلي يشع الحمد بالثنا ... ويتلو معانيه مع الشفع والوتر
فاحنى ثمار الأنس من روضة المنا ... وأقطف زهير الحمد من شجر الشكر
وأشرب ماء الفوز عذباً ختامه ... رحيق براح السمح في أكوس البشر
ولا برحت أمداحكم تعدز النهى ... وإلا فكم تنجني ن العسر لليسر
ولا زالت الأقدار تخدم رأيكم ... وراياتكم ما دام نجم للسر يسر
وكتب إلي في غرض يظهر منه نص المراجعة، وحسبنا الله:
أما والذي لي في حلاك من الحمد ... وما لك ملاكى علي من الرفد
لقد أشعرتني النفس أنك معرض ... عن المسرف اللايي لفطرك يستجد
فإن زلة بدت لك جهرة فصفحا ... فما والله إذ كنت عن عمد
فراجعته بقولي:
أجلك عن عتب يغض من الود ... وأكرم وجه العذر منك عن الرد
ولاكنني أهدي إليك نصيحتي ... وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد
إذا مقول الإنسان جاوز حده ... تحولت الأغراض منه إلى الضد
فأصبح منه الجد هزلاً مذمماً ... وأصبح منه الهزل في معرض الجد
فما استطعت فيضاً للعنان فإنه ... أحق السجايا بالعلا والمجد
توفي يوم الخميس الثالث لشعبان عام خمسة وستين وسبعماية، وقد ناهز السبعين سنة، ودفن بروضتنا بباب إلبيرة، وأعفي شارب الشعر من نابي مقصه. وغير هذه الدعوى قرارها تجاوز القضية.

محمد بن علي بن عمر العبدري
من أهل تونس، شاطبي الأصل، يكنى أبا عبد الله، صاحبنا.
حالهكان فاضلا منأبناء النعم، وأخلاف العافية، ولي أبوه الحجابة بتونس عن سلطانها برهة، ثم عدا عليه الدهر، واضطر ولده هذا إلى اللحاق بالمشرق، فاتصل به سكناه وحج، وآب إلى هذه البلاد. ظريف النزعة حلو الضريبة، كثير الانطباع، يكتب ويشعر، ويكلف بالأدب، ثم انصرف إلى وطنه. وخاطبني إلى هذا العهد، يعرفني بتقلده خطة العلامة، والحمد لله.
وجرى ذكره في كتاب الإكليل بما نصه: غذي نعمة هامية، وقريع رتبة سامية، صرفت إلى سلفه الوجوه، ولم يبق بإفريقية إلا من يخافه ويرجوه، وبلغ هو مدة ذلك الشرف، الغاية من الترف. ثم قلب الدهر له ظهر المجن، واشتد به الخمار عند فراغ الدن، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق، بعد خطوب سيرة، وشدة كبيرة، فامتزج بسكانه وقطانه، ونال من اللذات ما لم ينله في أوطانه؛ واكتسب الشمايل العذاب، وكان كابن الجهم، بعث إلى الرصافة، ليرق فذاب، ثم حوم على وطنه تحويم الطائر، وألم بهذه المدينة إلمام الخيال الزاير، فاغتنمت صفقة وده، لحين وروده، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده، فحصلت منه على درة تقتنى، وحديقة الجنى.
شعرهأنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببره:
لكل أناس مذهب وسجية ... ومذهب أولاد النظام المكارم
إذا كنت فيهم ثاوياً كنت سيداً ... وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم
أولئك صحبي لا عدمت حياتهم ... ولا عدموا السعد الذي هو دايم
أغنى بذكراهم وطيب حديثهم ... كما غردت فوق الغصون الحمايم
ومن شعره يتشوق إلى تلك الديار، ويتعلل بالتذكار، قوله:
أحبتنا بمصر لو رأيتم ... بكائي عند أطراف النهار
لكنتم تشفقون لفرط وجدي ... وما ألقاه من بعد المزار
ومن شعره:
تغني حمام الأيك يوماً بذكرهم ... فأطرب حتى كدت من ذكرهم أفنا
فقلت حمام الأيك لا تبك جيرة ... ناءوا وانقضت وصلهم عنا
فقال ولم يردد جواباً لسايل ... ألا ليتنا كنا جميعاً بذا ألحقنا
ومن جيد شعره الذي أجهد فيه قريحته، قوله يمدح السلطان المعظم أبا الحسن في ميلاد عام سبعة وأربعين وسبعماية:
تقر ملوك الأرض أنك مولاها ... وأن الدنا وقف عليك قضاياها
ومنها:
طلعت بأفق الأرض شمساً منيرة ... أنار على كل البلاد محياها
حكيت لنا للفاروق حتى كأننا ... بعين لا تكذب رؤياها
وسرت على آثاره خير سيرة ... قطعنا بأن الله ربك يرضاها
إذا ذكرت سير الملوك بمحفل ... ونادى بها النادي وحسن دنياها
فجودك رواها وملكك زانها ... وعدلك زاها وذكرك حلاها
ومنها بعد كثير:
ومنكم ذوو التيجان والهمم التي ... أناف على أعلى السماكين أدناها
إذا غاب منهم مالك قام مالك ... مجدد للبيت المقدس علياها
بناها على التقوى وأسس بيتها ... أبو يوسف الزاكي وسير مبناها
وأورثها عثمن خير خليفة ... وأحلم من ساس الأنام وأنداها
وقام علي بعده خير مالك ... وخير إمام في الورى راقب الله
علي بن عمر بن يعقوب ذو العلا ... مذيق الأعادي حيثما سار بلواها
أدام الله وأعطى الخلافة وقتها ... ونور أحلاك الخطوب وجلاها
ووصلني كتاب منه مؤرخ في التاسع عشر من شهر شعبان المكرم من عام أربعة وستين وسبعماية جدد عهدي من شعره بما نصه:
رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا ... ففاضت لروعات الفراق عيون
فيا أدمعي منهلة إثر بينهم ... كأن جفوني بالدمع عيون
فيا معهداً قد بنت عنه مكلفا ... بديلي منه أنة وحنين
سقتك غوادي المزن كرعشية ... ودادك محلول النطاق هتون
فإن تكن الأيام لم تقض بيننا ... بوصل فما يقضى فسوف يكون

يعز علينا أن نفارق ربعكم ... وأنا على أيدي الخطوب نهون
ولو بلغتني العير عنكم رسالة ... وساعد دهر باللقاء ضنيين
لكنا على ما تعلمون من الهوى ... ولاكن لأحداث الزمان فنون
الجزء الثالث

محمد بن أحمد العزفي
محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي من أهل سبتة، أبو القاسم بن أبي زكريا بن أبي طالب
حالهمن أهل الظرف والبراعة، والطبع المعين، والذكاء، ربيس سبتة، " وابن رؤساها " ، وانتقل إلى غرناطة عند خلعه، وانصرافه عن بلده. أقام بها. تحت رعيٍ حسن الروا، مالفاً للظرفاء، واشتهر بها أدبه، ونظر في الطب، ودون فيه، وبرع في بالتوشيح. ثم انتقل إلى العدوة، انتقال غبطة وأثرة، فاستعمل بها في " خطط نبيهة " ، وكتب عن ملوكها وهو الآن بالحالة الموصوفة.
وجرى ذكره في " الأكليل " بما نصه: فرع تأود من الرياسة في دوحة. وتردد بين غدوة في المجد وروحة، نشأ والرياسة العزفية، تعله وتنهله. والدهر يسير أمله الأقصى ويسهله. حتى اتسقت أسباب سعده، وانتهت إليه رياسة سلفه من بعده. فألقت إليه رحالها وحطت، ومتعته بقربها بعدما شطت. ثم كلح له الدهر بعد ما تبسم، وعاد زعزعاً نسيمه الذي كان يتنسم، وعاق هلاله عن تمه، ما كان من تغلب ابن عمه، واستقر بهذه البلاد، نائى الدار بحكم الأقدار، وإن كان نبيه المكان والمقدار، وجرت عليه جراية واسعة، ورعاية متتابعة، وله أدب كالروض باكرته الغمايم، والزهر تفتحت عنه الكمايم، رفع منه راية خافقة، وأقام له سوقاً نافقة. وعلى تدفق أنهاره، وكثرة نظمه واشتهاره، فلم أظفر منه إلا باليسير التافه بعد انصرافه.
شعرهقال:
أفديك ياريح الصبا ... عوجى على تلك الربا
واحد النامي سحرا ... ترسل غماماً صبا
على ربى غرناطة ... لكى تقضي ما ربا
ثم أبلغى يا ربح عن صب سلاماً طيباً
ومن منظومة أيضاً في بعض القضاة الفاسيين، وهو من البديع، وورى فيه ببابين من أبواب المدينة:
وليت بفاس أمور القضا ... فأحدثت فيه أموراً شنيعة
فتحت لنفسك باب الفتوح ... علقت للناس باب الشريعة
فبادر مولى الورى فارس ... بعزلك عنها قبيل الذريعة
وقال:
دع عنك قول عواذل ووشاة ... وأدر كؤوسك يا أخا اللذات
واخلع عذارك لاهياً في شربها ... واقطع زمانك بين هاك وهات
خذها إليك بكف ساقٍ أغيد ... لين المعاطف فاتر الحركات
قد قام من ألحاظه إنسانها ... مثبتا في فترة اللحظات
يسقيكها حمراء يسطع ذورها ... في بالكاس كالمصباح في المثكات
رقت وراقت في الزجاجة منظراً ... لما عدت تجلى على الرحات
ر تمزجنها في بالأبارق إنها ... تبدو محاسنها لدى الكاسات
عجباً لها كالشمس تعزب في ... فم لاكن مطالعها من الوجنات
نلنا بها ما نشتهيه من المنا ... في جنة تزهى على الجنات
رفت عليها كل طل سجسج ... من كل غض يانع الثمرات
ما بين خضر حدايق وخمايل ... وجداول تفضى إلى دوحات
سرى النسيم بها يصافح زهره ... فيهب وهو مورج النفحات
وشدا لنا فيها مغن شادن ... حاز المدا سبقاً إلى الغايات
طربت له القضب اللدن وبادرت ... رجعا له تختال في بالحبرات
مرت عليه ركعاً لا كنها ... جعلت تحيتها لدى الركعات
قصرت صلاة الخوف منه فقربت ... فربانها وحفته بالزهرات
والعود مثناه يطابق زيها ... في ردانات على رنات
إن جس مثلثه بأن بفنة ... في اليم من ثقيلة النغمات
فكان ما غنت عليه الورق من ... ألحانها ألقاه للقينات
عكفت على ألحانها تشأ ولنا ... خلف الستاير باختلاف لغات

فكأنها عجم تورات بالحجاب ... ووددت سوراً من التورات
نطقت بأفصح نغمه في شدوها ... تتلو علينا هذه الآيات
ومما أنشده ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا لم أطلق نحو نجد وصولاً ... بعثت الفؤاد إليها رسولاً
وكم حل قلبي رهيناً بها ... غداة نوى الركب فيها النزولا
محل بها في الحلال إلى ضحى ... أصبح القوم فيها حلولا
وكم بت فيها غداة النوى ... أسح من العين دمعاً همولا
على شمس حسن سما ناظري ... إليها وعنى توارت أقولا
وقفت بوادي الغضا ساعة ... لعى أندب فيها الطلولا
وفي البان من أيكه ساجع ... يرجع بالقضب منها الهديلا
بعمق الهوى يا حمام الحمى ... ترفق بقلى المعنى قليلا
فقد هجت تالله أشواقه ... بذكرك إلفا ثاني أو خليلا
ألم تدر أن ادكارى الهوى ... يديب ويغنى الفؤاد العليلا
رعى الله تلك المطايا التي ... إلى الحج وخداً سرت أو ذميلا
ويا عجبا كيف خفت بهم ... وحملت القلب حملاً ثقيلاً
وود عنى الصبر إذ ودعوا ... فما أن وحدت إليه سبيلا
وآثرت يا ويح نفسي المقام ... وآثر أهل الوداد الرحيلا
وجادوا رجا الرضا بالنفوس ... وكنت بنفسي ضنيناً بخيلاً
ندمت على السير إذا فأتى ... ولازمت حزنى دهرا طويلا
وفاز المخفون إذا يمموا ... منازل آثارها لن تزولا
وحجوا وزاروا إلى الهدى ... محمداً الهاشمي الرسولا
وفازوا بإدراك ما أملوا ... ونالوا لديه الرضا والقبولا
ولو كنت في عزمهم مثلهم ... إذا لانصرفت إليه عجولا
ولا كنني أثقلتنى الذنوب ... وما كنت للثقل منها حمولاً
ركبت مطية جهل الصبا ... وكانت أو أن التضابى ذلولا
ومالت بي النفس نحو الهوى ... وقد وجدتني غراً جهولاً
فطربى لمن حل في طيبةً ... وعرس بالسفح منها الحمولا
ونال المنى في منى عندما ... نوى بالمنازل منها نزولا
وأصفى الضماير نحو الصفا ... يؤمل للوصل فيه الوصولا
وجاء إلى البيت مستبشراً ... ليطهر بالأمن فيه دخولا
وطاف ولبى بذاك الحما ... ونال من الحجر قصداً وسولا
بلاد بها حل خير الورى ... فطوبى لمن مال فيها الحلولا
نبى كريم سما رفعة وقدراً جليلاً ومجداً أصيلا
وكان لأمته رحمة بفض الشفاعة فيهم كفيلا
وكان رؤوفاً رحيماً لهم ... عطوفاً شفيعاً عليهم وصولاً
له يفزعون إذا ما رأوا ... لدى الحشر خسفاً وأمراً مهولا
وإن جاء في ذنبهم شافعاً ... بدى الرحب من ربه والقبولا
له معجزات إذا عددت تفوت النهى وتكل العقولا
ولن يبلغ القول معشارها ... وإن كان الوصف فيها مطيلا
وقس البيان وسحبانه يرى ... ذهنه في مداها كليلا
تخبره الله في خلقه فكان الخطير لديه المثيلا
ولم ير في الناس نداله ول ... ا في الخلايق منه بديلا
وأبقى له الحكم في أرضه ... فكان الأمين عليها الوكيلا
وكل ظلام وطلم بها على الفور لما أتى قد أزيلا
وكانت كنار لظى فتنة فعادت من المن ظلاً ظليلاً
وقد زان حسن الدجا جيله ... إذا ذكر الدهر جيلاً فجيلاً
وأيامه غررر قد بدت بوجه ... الدنا والليالي حجولاً
رسول كريم إذا جيته ... ويممت مغناه تلقى القولا
بمولده في زمان الربيع ... ربيع أنانا يجر الذيولا

فأهلا به الآن من زاير ... أنانا بفضل يفوق الفضولا
وقام الإمام به المرتضى ... فنال ثواباً وأجراً جزيلا
هو السمتعين أبو سالم مليك ... ترفع قدراً جليلاً
وحاز من الصيت ذكراً أثيراً ... ومن كرم الخيم مجداً أثيلا
سليل على غمام الندى ... ألا أيد الله ذالك السليلا
فتى أوسع الناس من جوده ... عطاً جزيلاً وبراً حفيلاً
حلاه الوقار ولاقيه إذا ... ارتاح للجود يلفى عجولاً
وقد شاع عنه جميل الثنا ... وعم البسيطة عرضاً وطولا
وما من بالوعد إلا وفى ... فلم يك بالوعد يوماً مطولا
ولا في علاه مغالٍ لمن ... يكثر في الملك قالاً وقيلا
تفرد بالفضل في عصره ... وكان بعرف الأيادي كفيلا
أطاعت له حين وافى البلاد ... رضى عندما حل فيها حلولا
وجا لطاعته أهلها سراعاً ... يرومون فيها الدخولا
فيه قدر الموإلى بها ... وأكسف فيها المعادى خمولاً
ومهد بالأمن أفكارها وأمن بالعدل فيها السبيلا
وكف أكف التعدي بها ... فلا يظلم الناس فيها فتيلا
وعصر الكروب الذي قد مضى ... زمان المسرات منه أديلا
أنانا إلى الغرب في شوكةٍ ... بها عاد جمع الأعادي قليلاً
وفوق رؤوس الطغاة انتضى ... حساماً ليسمع فيها صليلاً
وجرد من عزمه مرهفاً ... لحسم أمور المناوى صقيلا
وكل كفور معادلة ... سيأخذه الله أخذاً وبيلا
أعز الخلايق لما ولى ... ونوه من كان منهم ذليلا
وراعى لمن جاءه داخلاً حماه من القاصدين الدخيلا
فكان بأفعاله قصده إلى ... منهج الفضل قصداً جميلا
وصح انتعاش المعالي به ... وقد كان شخص المالي عليلاً
وشيد مبنى العلا بالندى ... ووثقه خشية أن يميلا
ينيل ويعطى جزيل العطا ... فما زال أخرى الليالي منيلا
ودام مدى الدهر في رفعة ... تثير من الحاسدين الغليلا
ولا برح السعد في بابه ... يوم به مربعاً أو مقيلا
محمد المكودىمن أهل فاس يكنى أبا عبد الله
حالهمن " الإكليل " : شاعر لا يتعاطى ميدانه، مرعى بيان ورف عضله، وأينع سعدانه، يدعو الكلام فيهطع لداعيه، ويسعى في اجتلاب المعاني فتنجح مساعيه. غير أنه أفرط في الانهماك، وهوى إلى السمكة من أوج السماك. وقدم على هذه البلاد مفلتاً من رهق تلمسان حين الحصار، صفر اليمين، واليسار من اليسار، ملئ هوى أنحى على طريفه وتلاده، وأخرجه من بلاده. ولما " جدبه " البين، وحل هذه البلاد " بحال تقبحها العين " والسيف بهزته، لا بحسن بزتة، دعوته إلى مجلس، أعاره البدر هالته، وخلع عليه الأصيل غلا لته، وروض تفتح كمامه، وهما عليه غمامه، وكاس أنس تدور، فتتلقى نجومها البدور. فلما ذهبت المؤانسة بخجله، وتذكر هواه، ويوم نواه، حتى خفنا حلول أجله، جذبنا للمؤانسة زمامه، واستقينا منها غمامه، فأمتع وأحسب، ونظر ونسب، وتلكم في المسائل، وحضر بطرف الأبيات، وعيون الرسايل، حتى نشر الصباح رايته، واطلع النهار آيته.
ومما أنشدنا ونسب لنفسه:
غرامي فيك جل عن القياس ... وقد أسقيتنيه بكل كاس
ولا أنسى هواك ولو جفاني ... عليك أقاربي طرا وناس
ولا أدرى لنفسي من كمال سوى ... أنى لعهدك غير ناس
وقال في غرض معروف:
بعثت بخمرٍ فيه ماء وإنما ... بعثت بما فيه رايحة الخمر
فقل عليه الشكر إذا قل سكرنا ... فنحن بلا سكر وأنت بلا شكر
ومما خاطبني به:
رحماك بي فلقد خلدت في خلدي ... هوى أكابد منه حرة الكبد
حللت عقد سلوى في فؤادي ... إذ حللت منه محل الروح في جسد

مرآك بدري وذكراك التذاذ فمي ... ودين حبك أضماري ومعتقدي
ومن جمالك نور لاح في بصري ... ومن ودادك روح حل في خلدي
لا تحسبن فؤادي عنك مصطبر ... فقبل حبك كان الصبر طوع يدي
وهاك جسمي قد أودى النحول به ... فلو طلبت وجوداً منه لم تجد
بما بطرفك من غنج ومن حور ... وما بثغرك من در ومن برد
فقال لي قد جعلت القلب لي وطناً ... وقد قضيت على الأجفان بالسهد
وكيف تطلب عدلاً والهوى حكم ... وحكمه قط لم يعدل على أحد
من لي بأغيد لا يرثى إلى شجن ... وليس يعرف ما يلقاه ذو كمد
ما كانت من قبل إذ عانى لصولته ... أخال أن الرشا يسطو على الأسد
إن جاد بالوعد لم تصدق مواعده ... فإن قنعت بزور الوعد لم يعد
شكوته علتي منه فقال الأمر للطبيب فما برء الضنا بيدي
فقلت إن شئت برني أو شفا ألمى ... فبار تشاف لماك الكوثري جد
وإن بخذت فلى مولى يجود على ... ضعفى ويبرى ما أضنيت من جد
وخرج إلى المدح فأطال
المقرئون والعلماء

محمد بن أحمد بن جزي الكلبي
محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي يكنى أبا القاسم من أهل غرناطة وذوي الأصالة والنباهة فيها، شيخنا رحمة الله عليه
أوليتهأصل سلفه من ولمة من حصون البراجلة، نزل بها أولهم عند الفتح صحبة قريبهم أبى الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وعند خلع دعوة المرابطين، وكانت لجدهم بجيان رياسة وانفراد بالتدبير.
حالهكان رحمه الله، على طريقة مثلى من العكوف على العلم. والاقتصاد على الاقتيات من حر النشب، والاشتغال بالنظر، والتقييد والتدوين فقيها حافظاً، قايماً على التدريس، مشاركاً في فنون " من " العربية، والفقه، والأصول، والقراءات، والحديث، والأدب، حفظه للتفسير مستوعباً للأقوال، جماعة للكتب، ملوكى الخزانة. حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن. تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنة، فاتفق على فضله، وجرى على سننن أصالته.
مشيختهقرأ على الإستاذ أبى جعفر بن الزبير، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث والقرآن. وروى أبي الحسن بن مستقور. وقرأ القرآن على الأستاذ المقرى الراوية المكثر أبي عبد الله بن الكماد، ولازم الخطيب أبا عبد الله بن رشيد، وسمع على الشيخ الوزير أبى محمد عبد الله بن أحمد أبن المؤذن، وعلى الراوية المسن أبى الوليد الحضرمي. يروي عن سهل بن مالك وطبقته. وروى عن الشيخ الراوية أبى زكريا البرشاني، وعن الراوية الخطيب أبى عبد الله محمد بن محمد بن علي الأنصاري، والقاضي أبى المجد بن أبى على بن أبى الأحوض، والقاضي أبى عبد الله بن برطال، والشيخ الوزير ابن أبى عامر بن ربيع، والخطيب الولى أبى عبد الله الطنجالي، والأستاذ النظار المتفنن أبى القاسم قاسم بن عبد الله بن الشاط. وألف الكثير في فنون شتى.
تواليفهمنها كتاب " وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم " وكتاب " الأنوار السنية في الكلمات السنية " وكتاب " الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار " وكتاب " القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية " " والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية " وكتاب " تقريب الوصول إلى لعم الأصول " وكتاب " النور المبين في قواعد عقايد الدين " وكتاب " المختصر البارع في قراءة نافع " وكتاب " أصول القراء الستة غير نافع " وكتاب " الفوايد العامة في لحن العامة " ، إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات وغير ذلك. وله فهرسة كبيرة. اشتملت على جملة من أهل المشرق والمغرب.
شعرهقال في الأبيات الغينية ذاهباً مذهب الجماعة كأبي العلاء المعري. والرييس أبي المظفر، وأبي الطاهر السلفى، وأبي بالحجاج بن الشيخ، وأبي الربيع بن سالم، وأبي علي بن أبي الأحوص، وغيرهم، كلهم نظم في ذلك:
لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي للجنان بلاغ

وفي مثل هذا فلينافس أولو النهى ... وحسبي من الدنيا الغرور بلاغ
فما الفوز إلا في نعيم مؤيد ... به العيش رغد والشراب يساع
وقال في الجناب النبوى:
أروم امتداح المصطفى وبردنى ... فصورى عن إدراك تلك المناقب
ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر ... ومن لي بإحصا الحصا والكواكب
ولم أن إعضائى غدت ألسنا إذا ... لم بلغت في المدح بعض مآرب
ولو أن كل العالمين تألفوا على ... مدحه لم يبلغوا بعض واجب
فأمسكت عنه هيبة وتأدباً ... وخوفاً وإعظاماً لأرفع جانب
ورب سكوت كان فيه بلاغه ... ورب كلام فيه عتب لعاتب
وقال رحمه الله مثفقاً من ذنبه:
يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثرت ... فما أطيق لها حصراً ولا عدداً
وليس لي بعذاب النار من قبل ... ولا أطيق لها صبراً ولا جلداً
فانظر إلهي إلى ضعفى ومسكنتي ... لا تذيقني حر الجحيم غدا
وقال في مذهب الفخر:
وكم من صفحة كالشمس تبدو ... قيسلى حسن قلب الحزين
غضضت الطرف عن نظرى إليها ... محافظة على عرضى وديني
وفاتهفقد وهو يشخد الناس ويحرضهم، ويثبت بصايرهم، يوم الكاينة بطريف، ضحويوم الإثنين السابع لجمادى االإلى عام أحد وأربعين وسبعماية، تقبل الله شهادته. عقبه ظاهر بين القضاء والكتابة.
ابن شقرال اللخمىمحمد بن أحمد بن فتوح بن شقرال اللخمى شرقي الأصل من سكان غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالطرسونى
حالهنقلت من خط شيخنا أبي البركات بن الحاج، أمتع الله به كنى نفسه أبا عبد الرحمن، ودعى بها وقتاً، وكوتب بها. وكان له ابن سماه عبد الرحيم، فقلنا له سمه عبد الرحمن، ليعضد لك الكنية التي اخترت، فأبى. كان هذا الرجل قيماً على النحو والقراءات واللغة، مجيداً في ذلك، محكماً لما يأخذ فيه منه، وكانت لديه مشاركة في الأصلين والمنطق، طمح إليهما بفض نباهته وذكايه، وشعوره بمراتب العلوم، دون شيخ أرشده إلى ذلك. يجمع إلى ماذكر خطا بارعاً، وظرفاً وفكاهة، وسخا نفس، وجميل مشاركة لأصحابه. بأقصى مايستطيع. وكان صناع اليدين يرسم بالذهب، ويسفر ويحكم عمل التراكيب الطيبة. وعلى الجملة فالرجل من أجل نبلاء عصره، الذين قل أمثالهم.
مشيختهأخذ القراءات عن الشيخ الأستاذ " أبي الحسن " ابن أبي بالعيش، وبه تفقه ببلده المراية. وقرأ على الأستاذ أبي بجعفر بن الزبير، والخطيب أبي جعفر بن الزيات، والراوية أبي بالحسن بن مستقور، والولى أبي عبد الله الطمجالي، وصهره الخطيب أبي تمام غالب بن حسن بن سيدبونه، والخطيب أبي الحسن القيجاطي، والخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد وغيرهم.
شعرهمن شعره قوله:
إذا قذفت بي حيثما شاءت النوى ... ففي كل شعب لي إليك طريق
وإن أنا لم أبصر محياك باسماً ... فإنسان عيني في الدموع غريق
فإن لم تصل كفى بكفك وافياً ... " فأسمال أحبابى لدى فتوق "
محنتهأحظاه وزير الدولة أبو عبد الله ابن المحروق، واختصه، ورتب له بالحمراء جراية، وقلد نظره خزانة الكتب السلطانية. ثم فسد ما بينهما، فاتهمه ببراءات كانت تطرح بمذامه بمسجد البيازين، وترصد ما فيها، فزعم أنه هو الذي طرحها بمحراب المسجد، فقبض عليه واعتقل ثم جلاه إلى إفريقية.
وفاتهولما بلغته بإفريقية وفاة مخيفة، كر راجعاً إلى الأندلس، فتوفي في طريقه ببونه، من بلاد العناب أو بأحوازها في أواخر عام ثلاثين، أو أقرب من الأواخر وسبعماية.
محمد بن جابر بن يحيى بن محمد بن ذي النون التغلبي ويعرف بابن الرمالية، من أهل غرناطة، ويعرف خلفه الآن، ببني مرزبة، ولهم أصالة وقدم وجدة.
حالهفقيه، نبيه، نبيل، ذكي، عنده معرفة بالفقه والأدب والعربية، حسن المشاركة والمحاضرة، حاضر الذهن، ذاكر لما قرأه.
مشيخته

روى عن الإمام أبي بكر بن العربي. قال أبو القاسم الملاحي، وحدثني سنة أربع وسماية، قال حدثني الإمام أبو بكر بن العربي رضي الله عنه، قال حدثني محمد بن عبد الملك السبتي، قال خرجت مع أبي الفضل الجزيري مشيعين لقافلة الحاج من بغداد، ومودعين لها من الغد، وحين أصبحنا أثيرت الجمال، وفرض الناس الرحال، ونحن بموضع يعرف بجب عميرة، إذا بفتى شاحب اللون، حسن الوجه، يشيع الرواحل، راحلة بعد أخرى، فنيت، ومشى الحاج، وهو يقول في أثناء تردده ونظره أليها:
أحجاج بيت الله في أي هودج ... وفي أي بيت من بيوتكم حبى
أأبقى رهين القلب في أرض غربة ... وحاديكم يحدو فؤادي مع الركب
قول أسفاً لم أقض منكم لبانتي ... ولم أتمتع بالسلام وبالقرب
وفرق بيني بالرحيل وبينكم ... فها أنذا أقضي على إثركم نحبي
يقولون هذا آخر العهد منكم ... فقلت وهذا آخر العهد من قلب
قال، فلما كمل الحج المشى. وانقطع رجاؤه، وجعل يخطو هايماً، وهو ينشد، ثم رمى بنفسه إلى الأرض وقال:
خل دمع العين ينهمل ... بأن من تهواه وارتحل
أي دمع صاله كلف ... فهو يوم البين ينهمل
قال، ثم مال على الأرض، قبادرنا إليه فوجدناه ميتاً، فحفرنا له لحداً، وغسلناه كفناه في رداء وصلينا عليه. ودفناه.
وفاة المترجم به سنة خمسين وستماية
محمد بن محمد بن يبش العبدريمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بيبش
حالهكان خيراً، منقبضاً، عفا، متصاوناً، مشتغلاً بما يعنيه. مضطلعاً بالعربية، عاكفا عمره على تحقيق اللغة، مشاركاً في الطب. متعيشاً من التجارة في الكتب. أثرى منها، وحسنت حاله. وانتقل إلى سكنى سبتة، إلى أن حططت بها رسولاً في عام اثنتين وخمسين وسبعماية. فستدعيته ونقلته إلى بلده، فقعد للاقراء به إلى أن توفي.
وجرى ذكره في بعض الموضوعات الأدبية بما نصه: معلم مدرب، مسهل مقرب، له في صنعة العربية باع مديد، وفي هدفها سهم سديد، ومشاركة في الأدب، لايفارقها تسديد، خاصى المنازع، مختصرها، مرتب الأحوال، مقررها، تميز لأول وقته بالتجارة في الكتب، فسلطت عليها منه أرضة آكلة، وسهم أصاب من رميتها شاكلة، أترب بسببها وأثرى، وأغنى جهة، وأفقر أخرى، وانتقل لهذا العهد الأخير إلى سكنى غرناطة مسقط رأسه، ومنبت غرسه، وجرت عليه جراية من أحباسها، ووقع عليه قبول من ناسها، وبها تلاحق به الحمام، فكان من ترابها البداية وإليه التمام. وله شعر لم يقصر فيه عن المدا، وأدب توشح بالإجادة وارتدى.
مشيختهقرأ على شيخ الجماعة ببلده أبي جعفر بن الزبير، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد، والوزير أبي محمد بن المؤذن المرادي، والأستاذ عبد الله بن الكماد، وسمع على الوزير المسن أبي محمد عبد المنعم بن سماك. وقرأ بسبتة على الأستاذ أبي إسحاق الغافق.
شعرهأنشدني بدار الصناعة السلطانية من سبتة تاسع جمادى الأولى من عام اثنين وخمسين المذكور، عند توجهي في غرض الرسالة إلى السلطان ملك المغرب، قوله يجيب عن الأبيات المشهورة، التي أكثر فيها الناس وهي:
يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثان
لأي معنى كسرت قلبي ... وما ألتقى فيه ساكنان
تحلتني طايعاً فؤاداً ... فصار إذ حزته مكان
لاغرو إذا كان لي مضافاً ... اني على الكسر فيه بان
وقال يخاطب أبا العباس عميد سبتة، أعزه الله، وهي مما أنشدنيه في التاريخ المذكور، وقد أهدى إليه أقلاماً:
أنا ملك الغر التي سيب جودها ... يفيض كفيض المزن بالصيب القطر
أتتنى منها تحفة مثل عدها إذا ... انتضيت كانتكمرهفة السمر
هي الصفر لاكن تعلم البيض انها ... محكمة فيها على النفع والضر
مهذبة الأوصال ممشوقة كما ... تصاع سهام الرمى من خالص التبر
فقبلتها عشراً ومثلث أنى ... ظفرت بلثم في أناملك العشر
وأنشدني في التاريخ المذكور في ترتيب حروف الصحاح قوله:
أساجعة بالواديين تبوئى ... ثماراً جنتها حاليات خواضب

دعى ذكر روض زاره سقى شربه ... صباح ضحى " طير طما " عصايب
غرام فؤادي قاذف كل ليلة ... متى مانأى وهنا هواه يراقب
ومن مطولاته ما رفعه على يدي السلطان وهو قوله:
ديار خطها مجد قديم ... وشاد بناءها شرف صميم
وحل جنابها الأعلى علاً ... يقصر عنه رضوى أو شميم
سقى نجداً بها وهضاب نجد ... عماد ثرة وحياً تميم
ولا عدمت رباه رباب مزن ... يغادى روضهن ويستديم
فيصبح زهرها يحكى شذاه ... فتيت المسك يذكيه النسيم
وتنشره الصبا فتريك دراً ... نشيراً خانه عقد نظيم
وظلت في طلال الأيك تشدو ... مطرقة لها صوت رخيم
ترجع في الغصون فنون شجع ... بألحان لها يصبو الحليم
أهم بملتقى السوادى تجد ... وليس سواه في واد أهيم
وكنت صرفت عنه النفس كرها ... وما برحت على نجد تحوم
له بيت سما فوق الثريا ... وعز لايخيمولايريم
تبوأ من بني نصر علاها ... وأنصار للنبي له أروم
أفاض على الوررى نيلاً وعدلاً ... سواء فيه مثرٍ أوعديم
ملاذ للملوك إذا ألمت ... صروف الدهر أو خطب جسيم
تؤمله فتامن في ذراه ... وتدنو من علاه فيستقيم
ويبدو في ندى الملك بدراً ... تحف به الملوك وهم نجوم
يوجه يوسفى الحسن طلق ... يضى بنوره الليل البهيم
وتلقاه للعافة له ابتسام ... ومنه للعدى أخذ للييم
فيا شرف الملوك لك انقطاعي ... وإني في محلكم خديم
وآمالي أملت لمليك حتى ... وردن على نداك وهن هيم
فللظماورودك خير ورد ... نمير ماؤه عذب جيم
ولا أضحى وفي معناك ظل ... ظليل حين تحندم السموم
ركبت البحر نحوك والمطايا ... تسير لها ذميل أو رسيم
وإن علاك إن عطفت بلحظ ... على فذلك العز المقيم
فوا أسفى على عمر تقضي ... بدارٍ ليس لي فيه حميم
سوى ثمر للفؤاد ذهبت عنه ... وبين جوانحي منه كلوم
ودون لقابها عرض الفيافي ... ونجد موجه طود عظيم
لعل الله ينعم باجتماع ... وينظم شلنا اليسر الرحيم
بقيت بغبطة وقرارعن ... يملك سعده أبداًيدوم
كما دامت حلى الأنصار تتلى ... يشيد بذكرها الذكر الحكيم
عليك تحية عطر شذاها ... تعرف الروض جادته الغيوم
مولده بغرناطة في رجب ثمانين وستماية. وتوفي عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، ودفن بباب البيرة، وتبعه من الناس ثناء حسن، رحمه الله.
محمد بن محمد النمري الضريرمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بنسبه
حالهمن عايد الصلة: كان حافظاً للقرآن، طيب النغمة به، طرفاً في ذلك من أهل المشاركة في العلم، واعظاً بليغاً، أستإذا يقوم على العربية قيام تحقيق، ويستحضر الشواهد من كتاب الله، وخطب العرب وأشعارها، بعيد العرين في ذلك، آخذاً في الأدب، حفظة للأناشيد والمطولات، بقية حسنة ممتعة.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبى عبد الله بن الفخار الأركثى وبه تأدب، ولازمه كثيراً، فانتفع به.
شعرهمما صدر به رسالة لزوجه وهو نازح عنها ببعض البلاد. فقال:
سلام كرشف الطل في مييم الورد ... وسيل نسيم الريح بالقضب الملد
سلام كما ارتاح المشوق مبشراً ... برويا من يهواه من دون مما وعد
سلام كما يرضى المحب حبيبه من ... الجد في الإخلاص والصدق في الوعد
سلام وتكريم وبر ورحمة ... بقدر مزيد الشوق أو منتهى الود
على ظبية في الأنس مرتعها الحشا ... فتدوى إليه لا لشيح ولا ررند

ومن أطلع البدر التمام جبينهايرى ... تحت ليلٍ من دجا الشعر مسود
وثغر أقاحٍزانه سمط لؤلؤ ... يجب به المررجان في أحكم النضد
يجول به سلسال راحٍ معتق ... حمته ظبا الألحاظ صوناً عن الورد
فلله عينا من رأى بدر أسعد ... وروضة أزهار علت غصن القد
وبشرى لصب فاز منها بلمحة ... من القرب بشراه بمستكمل السعد
وأضحى هواها كامناً بين أضلعي ... كمزن خفي النار في باطن الزند
وراحت فراح الروح إثر رحلها ... وودعت صبرى حين ودعها كبد
وصارت لي الأيام تبدو ليالياً ... وقد كان ليل الوصل صبحاً بها يبد
فساعاتها كالدهر طولاً وطالما ... حكى الدهر ساعات بها قصراً عندي
ومنها:
ترى قلبها هل هام مني بمثل ما ... بقلبي من الحب الملازم والوجد
وهل ترعى ذمتي ومودتي كما ... أنا أرعاها على القرب والبعد
إليك خطابي والحديث لغايب ... كنيت بلفظي عن مغيبك بالعمد
عليك سلامي إني متشوق ... للقياك لي أو من جوابك بالرد
توفي ببغرناطة تحت جراية من أمرايها، لاختصاصه بقراءة القرآن على قبورهم، في التاسع عشر من شعبان عام ستة وثلاثين وسبعماية.
محمد بن عبد الولى الرعينيمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالعواد
حالهمن " عايد الصلة " : الشيخ المكتب، والأستاذ الصالح، سابق الميدان وعلم أعلام القرآن، في إتقان تجويده، والمعرفة بطرق روايته، والاضطلاع بفنونه، لايشق غباره، ولايتعاطى طلقه، ولا تأتي الأيام بمثله. تستقصر بين يديه مدارك الأعلام، وتظهر سقطات الأيمة. مهتدياً إلى مكان الحجج على المسايل. مصروف عنان الأشغال إليه، مستنداً إلى نغمةٍ رخيمة، وإتقان غير متكلف، وحفظ غزير، وطلب إلى التصدر للإفراد، فأبى لشدة انقباضه. فنبهت بالباب السلطاني على وجوب نصيه للناس، فكان " ذلك " في شهر شعبان من عام وفاته، فانتفع به. وكان أدأب الناس على سنة، والزمهم لميقات ورد. يجعل جيرانه حركته إلى ذلك ليلاً. ميقاتاً لايختلف ولا يكذب، في ترحيل الليل. " شديد الطرب " مليح الترتيب، لاتمر به ساعة ضياعاً، إلا وقد عمرها بشأن ديني، أو ديناوي، ضروى مما يسوغه الورع، يلازم المكتب، ناصح التعليم، مسوياً بين أبناء النعم، وحلفاء الحاجة، شامخ الأنف على أهل الدنيا، تغص السكك عند ترنمه بالقرآن، مساوقاً لتلاوة التجويد، ومباشراً أيام الأخمسة والأثانين، العمل في مويل كان له، على طريقة القدماء من الإخشيشان عند المهن ونقل آلة الخدمة، غير مفارق للظرف والخصوصية. ويقرأ أيام الجمعات، كتب الوعظ والرقايق على أهله، فيصغى إليه الجيران، عداة لاتختلف. وكان له لكل عمل ثوب، ولكل مهنة زي، ما رأيت أحسن ترتيباً منه. وهو أستاذي وجاري الألصق، لم أتعلم الكتاب العزيز إلا في مكتبه. رحمة الله عليه.
مشيختهقرأ على بقية المقريين الأستاذ أبى جعر بن الزبير، ولازمه وانتفع به، وعلى الأستاذ أبى جعفر الجزيري الضري، وأخذ عن الخطيب المحدث أبى عبد الله بن رشيد.
مولده: في حدود عام ثمانين وستماية.
وفاته. توفي رحمة لله عليه في الموفى ثلاثين لذي قعدة من عام خمسين وسبعماية.
محمد بن علي بن أحمد الخولانيبكنى أبا عبد الله أصله من مجلقر ويعرف بابن الفخار وبالبيرى، شيخنا رحمه الله
حاله

من " عايد الصلة " : أستاذ الجماعة، وعلم الصناعة، وسيبويه العصر، وآخر الطبقة من أهل هذا الفن، كان رحمه الله فاضلاً، تقياً منقبضاً. عاكفاً على العلم، ملازماً للتدريس، إمام الأيمة من غير مدافع، مبرزاً أمام أعلام البصريين من النحاة، منتشر الذكر، بعيد الصيت عظيم الشهرة، مستجر الحفظ، يتفجر بالعربية تفجر البحر، ويسترسل استرسال القطر، قد الطت دمه ولحمه، لايشكل عليه منها مشكل، ولا يعوزه توجيه، ولاتشذ عنه حجة. جدد بالأندلس ما كان قد درس من لسان العرب، من لدن وفاة أبي على الشلوبين، مقيم السوق على عهده. وكانت له مشاركة في غير صناعة العربية من قراءات وفقه، وعروض، وتفسير. وتقدم خطيباً بالجامع الأعظم، وقعد للتدريس بالمدرسة النصرية، وقل في الأندلس من لم يأخذ عنه من لطلبة. واستعمل في السفارة إلى العدوة، مع مثله من الفقهاء فكانت له حيث حل الشهرة وعليه الازدحام والغاشبة، وخرج، ودرب، وأقرأ، وأجاز، لايأخذ على ذلك " أجراً " وخصوصاً فيما " دون " البداية، إلا الجراية المعروفة، مقتصداً في أحواله، وقوراً، مفرط الطول، نحيفاً، سريع الخطو، قليل الالتفات والتعريج، متوسط الزي، متبذلاً في معالجة مايتملكه بخارج البلد، قليل الدهاء والتصنع، غريب النزعة، جامعاً بين الحرص والقناعة.
مشيختهقرأ بسبتة على الشيخ الإمام أبي إسحق الغافقى، ولامه كثيراً، وأخذ عنه، وأكثر عليه. وقرأ على الإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث، والمقرررى الشريف الفاضل أبي العباس الحسنى، والشيخ الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط. وأخذ عن الخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد. والقاضي أبي عبد الله بن القرطبي وغيرهم. وهو أستاذي، قرأت عليه القرآن، وكتابي الجمل والإيضاح، وحضرت عليه دولاً من الكتاب، ولازمته مدة، وعاشرته، وتوجه صحبتي في الرسالة إلى المغرب.
توفي بغرناطة ليلة الإثنين الثاني عشر من رجب عام أربعة وخمسين وسبعماية، وكانت جنازته حالفة. وخمدت قرايح الآخذين عنه، ممن يدلى دلو أدب. فيأتي بماء أو حماة، على كثرتهم، تقصيراً عن الحق، وقدحاً في نسب الوفاء، إلا ما كان من بعض من تأخر أخذه عنه. وهو محمد بن عبد الله اللوشي، فإنه قال: وعين هذه الأبيات قراها:
ويوم نعى الناعي شهاب المحامد ... تغيرت الدنيا لمصرع واحد
فلا عذر للعينين إن لم تسايحا ... بدمع يحكاكي الوبل يشفى لواحد
مضى من بني الفخار أفضل ماجد ... جميل المساعي للعلا جد شاهد
طواه الردى ماكل حي يهابه ... وما ورده عاراً بشين لوارد
لقد غيبت منه المكارم في بالثرى ... غداة نوى وانسد باب الفوايد
فياحاملي أعواده ما علمتم بسؤدده الجم الكريم المحاند
وياحفرة خطت له اليوم مضجعاً ... سقتك الغوادي الصادقات الرواعد
إلا ياحمام الأيك ساعدني بالبكا ... على لم الدنيا وزين المشاهد
على أني لو استطعت الفدا فديته ... بأنفس آل من طريف وتالد
محمد ماللنعمى لموتك غضة ... توقف ولا ماء الحياة ببارد
وكيف وباب العلم بعدك مغلق ... ومورده المتروك بين الموارد
أأستاذنا كنت الرجا لآمل ... فأصبحت مهجور الفنا لقاصد
فلا تبعدن شيخ المعارف والحجا ... ليس الذي تحت التراب بباعد
لتبك العلوم بعدك شجوها ... وبقفر لها ربع العلا والمعاهد
ليبك عليك الجود والدين والتقا ... وحسب البكا أن صرت ملحود لاحد
أولاي من للمشكلات يبينها ... فيجلى عمى كل القلوب الشواهد
ومن ذا يحل المقفلات صعابها ... ومن ذا الذي يهدي السبيل لحايد
فياراحلا عنا فزعنا لفقده ... لقد أونست منك القبور بوافد
وبالكوكبا غال النهار ضياءه ... وشيكاً وهل هذا الزمان بخالد
سأبكيك ما لاحت بروق لشايم ... وأرعاك ما كان الغمام بعابد
عليك سلام الله ما دامت الصبا ... يغصنٍ في الأراكة مايد

" قلت: العجب من الشيخ ابن الخطيب. كيف قال، وخمدت قرايح الآخذين عنه، وهو من أجل من أخذ عنه، حسبما قرره آنفاً، بل أخص من ذلك، المعاشرة والسفارة للعدوة. وهو مع ذلك أقدرهم على هذا الشأن، وأسخاهم قريحة في هذا الميدان، وإن أتى غيره بماء أوحمأة، أتى هو بالبحر الذي لاساحل له. ولعمري لو قام هو بما يجب من ذلك، لزال القدح في نسب وفاء الغيرر، فعين مانسبه من التقصير عن الحق في ذلك، متوجه عليه، ولاحق له، ولايبعد عنده أن يكون وقع بينهما ما أوجب إعراضه مما يقع في الأزمان، ولاسيما بين أهل هذا الشأن، فيكون ذلك سبباً في إعراض الغير مشياً في غرضه، ومساعدة له. والله أعلم بحقيقة ذلك كله "
محمد بن محمد البلنسىمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله
حالهطالب هش، حسن اللقاء عفيف النشأة، مكب على العلم، حريص على استفادته، مع زمانةٍ أصابت يمنى يديه، نفعه الله. قيد بأختها وانتسخ، قايم على العربية والبيان، ذاكر الكثير من المسائل، حافظ متقن، على نزعه عربية، من التجاذع في المثى، وقلة الالتفات إلا بجملة، وجهورية الصوت، متحل بسذاجة، حسن الإلقاء والتقرير، مت للمتغلب على الدولة بضن، أفاده جاها واستعمالاً في خطة السوق، ثم اصطناعاً في الرسالة إلى ملك المغرب، جر عليه آخر النكبة، وقاد المحنة، فأرصد له السلطان أبو عبد الله في أخرياتها، رجالاً بعثهم من رندة، فأسروه في طريقه، وقدموا به سليباً، قدوم الشهرة والمثلة، موقناً بالفتل. ثم عطف عليه حنيناً إلى حسن تلاوته في محبسه ليلاً، فانتاشه لذلك من هفوة بعيدة ونكبة مبيرة. ولما عاد لمكله، أعاده للإقراء.
مشيختهجل انتفاعه بشيخ الجماعة أبي عبد الله الفخار، لازمه وانتفع به، وأعاد دول تدريسه، وقرأ على غيره. وألف كتاباً في تفسير القرآن، متعدد الأسفار، واستدرك على السهيلي في أعلام القرآن كتاباً نبيلاً، رفعه على يدي للسلطان. وهو من فضلاء جنسه، أعانه الله وسدده.
ابن عبد الرحمن بن بقىمحمد بن سعد بن محمد بن لب بن حسن ابن حسن بن عبد الرحمن بن بقى، يكنى أبا عبد الله، ويعرف باسم جده
أوليتهكان القاضي العدل أبو عبد الله بن هشام، قاضي الجماعة بالأندلس يجل سلفه، وبنسبة إلى بقي بن مخلد، قاضي بالخلافة بقرطبة. وابن هشام ممن يحتج به.
حالههذا الرجل فاضل، حسن الخلق، جميل العشرة، كريم الصحبة، مبذول المشاركة، معروف الذكاء والعفة، مبسوط الكنف، مع الانقباض، فكه مع الحشمة، تسع الطوائف أكناف خلفه، ويعم المتضادين رحب ذرعه. طالب محصل. حصيف العقل، حسن المشاركة في فنون، من فقه وقراءات ونحو وغير ذلك. تلكم للناس بجامع الربض ثم بمسجد البكلاي المجاور للزاوية والتربة اللتين أقمتهما بأخشارش من داخل الحضرة، وحلق به لتعليم العلم، فأنثال عليه المتعلم والمستفيد والسامع، لاجادة بيانه، وحسن تفهيمه.
مشيختهقرأ القرآن بجرف نافع، على أبيه، وعلى الشيخ الخطيب المكتب أبي عبد الله بن عامور. وقرأ العربية على إمام الجماعة الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار، وجود عليه القرآن، بالقراءات السبع، وقرأ على الأستاذ أبي سعيد بن لب
شعرهأنشدني من ذلك قوله بعد الانصراف من مواراة جنازة:
كم أرى مدمن لهو ودعه ... لست أخلى ساعة من تبعه
كاكن لي عذر لدى عهد الصبا ... وأنا آمل في العمر سعه
أو ما يوقظنا من كلنا ... أنفاً لقبره قد شيعه
سيما وقد بدا في مفرقي ... ماإخال الموت قد جاء معه
فدعوني ساعة أبكي على ... عمر أمسيت ممن ضيعه
ومن شعره في النوم، وهو كثير مايطرفه:
أباد البين أجناد التلاقي ... وحالت بيننا خيل الفراق
فجودوا وارحموا وارثوا ورقوا ... على من جفنه سكب المآقي
ومن ذلك ما أنشد في النوم على لسان رجل من أصحابه:
ياصاحبي قفا المطايا ... واشفقاً فالعبيد عبده
إذا انتهى وانقضى زمان ... هل يرسل الله من يرده
مولدهفي الثاني عشر لصفر من عام اثنين وعشرين وسبعماية.
الطرازمحمد بن علي بن يوسف الأنصاري

من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالطراز
حالهمن صلة ابن الزبير: كان رحمه الله مقرياً جليلاً، ومحدثاً حافلاً، به ختم بالمغرب هذا الباب البتية. وكان ضابطاً متقتناً، ومقيداً حافلاً، بارع الخط، حسن الوراقة، عارفاً بالأسانيد والطرق والرجال، وطبقاتهم، مقرباً عارفاً بالأسانيد والقراءات، ماهراً في صناعة التجويد، مشاركاً في بعلم العربية والفقه والأصول وغير ذلك، كاتباً نبيلاً، مجموعاً فاضلاً متخلقاً، ثقة فيما روى، عدلاً ممن يرجع إليه فيما قيد وضبط، ولإتقانه وحذقه. كتب بخطه كثيراً، وترك أمهات حديثية، اعتمدها الناس بعده، وعولوا عليها. وتجرد آخر عمره، إلى كتاب " مشارق الأنوار " تأليف القاضي أبي الفضل عياض، وكان قد تركه في مبيضة، في أنهى درجات النسخ والإدماج والإشكال، وإهمال الحروف حتى اخترمت منفعتها، حتى استوفى ما نقل منه المؤلف، وجمع عليها أصولاً حافلة، وأمهات جامعة، من الأغربة وكتب اللغة، فتخلص الكتاب على أتم وجه وأحسنه، وكمل من غير أن يسقط منه حرف ولا كلمة. والكتاب في ذاته لم يؤلف مثله.
مشيختهروى عن القاضي ابن الطباع، وعن أبي عبد الله بن صاحب الأحكام والمتكلم، وأبي محمد بن عبد الصمد بن أبي رجا وأبي القاسم الملاحى، وأبي محمد الكواب وغيرهم، " أخذ عن هؤلاء كلهم ببلده " ، وبقرطبة عن جماعة، وبمالقة كذلك، وبسبتة. وبإشبيلية عن أبي بالحسن بن زرقون، وابن عبد النور. وبفاس وبمرسية عن جماعة.
قلت: هذه الترجمعة في الأصل المختصر منه هذا طويله، واختصرتها لطولها.
توفي ببغرناطة ثالث شوال عام خمسة وأربعين وستماية، وكانت جنازته من أحفل جنازة، إذ كان الله قد وضع له ودا في قلوب المؤمنين.
ابن حيان النفزيمحمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفزي من أهل غرناطة، يكنى أبا حيان، ويلقب من الألقاب المشرقية بأثير الدين
حالهكان نسيج وحده في ثقوب الذهن، وصحة الإدراك " والحفظ " والاضطلاع بعلم العربية، والفسير وطريق الرواية، إمام النحاة في زمانه غير مدافع، نشأ ببلده غرناطة، مشاراً إليه في التبريز بميدان الإدراك، وتغيير يالسوابق في مضمار التحصيل. ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق، واستقر السوابق في مضمار التحصيل. ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق، واستقر بمصر، فنال ما شاء من عز وشهرة، وتأثلٍ وبروحظوة، وأضحى لمن حل بساحته من المغاربة، ملجاً وعدة. وكان شديد البسط، مهيباً، جهورياً، مع الدعابة والغزل، وطرح السمت، شاعراً مكثراً، مليح الحديث، لايمل وإن أطال، وأسن جداً، وانتفع به. قال بعض أصحابنا، دخلت عليه، وهو يتوضاً، وقد استقر على إحدى رجليه لغسل الأخرى، كما تفعل البرك والأوز، فقال لو كنت اليوم جار شلير ما تركني لهذا العمل في هذا السن.
مشيختهقرأ ببلده على الأستاذ حايز الرياسة أبي جعفر بن الزبير ولازمه، وانتسب إليه، وانتفع به، وشاد له بالمشرق ذكراً كبيراً. ويقال إنه نادى في الناس عندما بلغه نعية، وصلى عليه بالقاهرة، وله إليه. مخاطبات أدبية اختصرتها، وعلى الأستاذ الخطيب أبي جعفر علي بن محمد الرعيني الطباع، والخطيب الصالح ولي الله أبي الحسن فضل بن محمد بن علي ابن ابراهيم بن فضيلة المافري. وروى عن القاضي المحدث أبي على الحسين ابن عبد العزيز بن أبي ألأحواض الفهرى، والمكتب أبي بسهل اليسر بن عبد الله ابن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، والأستاذ أبي الحسن بن الصابيغ، والأديب الكاتب أبي محمد عبد الله بن هرون الطائي بتونس، وعلى المسند صفى الدين أبي محمد عبد الوهاب بن حسن بن إسماعيل بن مظفر بن الفرات الحسنى بالأسكندرية، والمسند الأصولي وجيه الدين أبي عبد الله محمد ابن عبد الرحمن بن أحمد بن عمران الأنصاري بالثغر، والمحدث نجيب الدين أبي عبد الله محمد ىبن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني بالقاهرة، وغيرهم ممن يشق إحصارهم. كالإمام بهاء الدين محمد بن ابراهيم ابن محمد بن أبي نصر بن النحاس الشافعي. قرأ عليه جميع كتاب سيبويه في سنة ثمان وثمانين وستماية، وقال له عند ختمه، لم يقرأه على أحد غيره.
تواليفه

وتواليفه كثيرة، منها شرحه كتاب " تسهيل الفوايد لابن مالك: وهو بديع، وقد وقفت على بعبضه بغرناطة في عام سبعة وخمسين وسبعماية. وكتابه في تفسير الكتاب العزيز، وهو المسمى " بالبحر المحيد " تسمية زعموا موافقة للغرض. وألف كتاباً في نحو اللسان التركى، حدثنا عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا، كالحاج أبي يزيد خالد بن عيسى، والمقرى الخطيب أبي جعفر الشقورى، والشريف أبي عبد الله بن راجح، وشيخنا الخطيب أبي عبد بن مرزوق. وقال حدثنا الأستاذ العلامة المتفنن أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير، سماعاً من لفظه، وكتباً من خطه بغرناطة، عن الكاتب أبي بإسحق بن عامر الهمداني الطوسى بفتح الطاء، حدثنا أبو عبد الله بن محمد العنسى القرطبي، وهو آخر من حدث عنه، أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد الحافظ الجياني، ناحكم بن محمد، نا أبو بكر بن المهندس، نا عبد الله ابن محمد، نا طالوت بن عياد بن بصال بن جعفرن سمعت أبا إمامة الباهلي بقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكفلوا لي بيت أهل لكن في الجنة، إذا حدث أحدكم بلا كذب، وإذا ايتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف. غضوا أيساركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم. وقال، أنشدنا الخطيب أبو جعفر الطباع. قال أنشدنا ابن خلفون. قال أنشدنا أبو عبد الله محمد بن سعيد. قال أنشدنا أبو عمران موسى ابن أبي تليد لنفسه:
حالي مع الدهر في تقلبه ... كطاير ضم رجله التسرك
فهمه في خلاص مهجته ... يروم تخليصها فيشتبك
ومن ملحه: قال قدم علينا الشيخ المحدث أبو العلاء محمد بن أبي بكر البخاري الفرضى بالقاهرة في طلب الحديث. وكان رجلاً حسناً طيب الأخلاق، لطيف المزاج، فكنا نسايره في طلب الحديث، فإذا رأى صورة حسنة، قال هذا حديث على شرط البخاري، فنظمت هذه الأبيات:
بدا كهلال العيد وقت طلوعه ... وماس كغصن الخيزران المنعم
غزال رخيم الدل وافي مواصلا ... موافقة منه على رغم لوم
مليح غريب الحسن أصبح معلماً ... بخمرة خد بالمحاسن معلم
وقالوا على شرط البخاري قد أتى ... فقلنا على شرط البخاري ومسلم
فقال مولاي أنا البخاري فمن مسلم ... فقلت له أنت البخاري وأنا مسلم
محنتهحملته حدة الشبيبة على " التعريض للأستاذ " أبي جعفر الطباع، وقد وقعت بينه وبين أستاذه ابن الزبير الوحشة فنال منه، وتصدى للتأليف في الرد عليه، وتكذيب روايته، فرفع أمره إلى السلطان، فامتعض له، ونفذ الأمر بتنكيله، فاختفى، ثم أجاز البحر مختفياً، ولحق بالمشرق يلتفت خلفه.
شعرهوشعره كثير بحيث يتصف بالإجادة وضدها. فمن مطولاته رحمه الله قوله:
لا تعذلاه فما ذو الحب معذول ... العقل مختبل والقلب متبول
هزت له أسمراً من خوط قامتها ... فما انثنى للصب إلا وهو مقتول
جميلة فصل الحسن البيع لها ... فكم لها جمل منه وتفصيل
فالنحر ذو غنجٍ والعرف ذو أرج ... والخصر مختطف والعنق مجدول
هيفاء ينبس في الخصر الوشاح لها ... ردماً تخرس في الساق الخلاخيل
من اللواتي غذاهن النعيم فما ... يشقين آباؤها الصيد البهاليل
نزر الكلام غميات الجواب إذا ... سلن بعد الصحا حصر مكاسيل
من حليها ومناها مونس وهدى ... فليس يلحقها ذعر وتضليل
حلت بمنعقد الزوراء زارة ... شوسا غياري فعقد الصبر محلول
فمد عن ذكر ليلى إن ذكرها ... على التنالي لتعذيب وتعليل
أتاك منك نذير فأنذرن به ... وبادر التوب إن التوب مقبول
وأمل العفر واسلك مهمها ... قدفا إلى رضى الله إن العفو مأمول
إن الجهاد وحج البيت مختتما ... بزورة المصطفى للعفو تأميل
فشق حيزوم هذا الليل ممتطياً ... أخا خرام به قد يبلغ السؤل

أقب أعوج يعزي للوجيه له ... وجه أغر وفي الرجلين تحجيل
جفر حوافره معر قوايمه ... ضمر أياطله وللذيل عثكوك
إذا توجه أصغى وهو ملتفت ... ساعر اعتقا فيهن تأليل
إن تعارض به هوجا هاج له ... جرى يرى البرق عنه وهو مخذول
يحمى حوزة الإسلام ملتقياً ... كتايبا غص منها العرض والطول
كتايباً قد عموا عن كل واضحةٍ ... من الكتاب وغرتهم أباطيل
في رماقط ضرب الموت الزوام به ... سرادقاً فعليهم منه تخييل
هيجا يشرف فيها المشرفي على ... هام العدو ويصحب النقع تظليل
تدير كاس شعوب في شعوبهم ... فكلهم منهل بالموت معلول
إذا قضيت غزاة فالتفت عملا ... للحج فالحج للإسلام تكميل
وأصل بسر يابن أندلس والط ... رف أدهم بالأشطان مغلول
يلاطم الريح منه أبيض نفق له ... من السحب المزبد اكليل
يعلو حضارة منه شامخ جلل ... سام طفا وهو بالنكباء محمول
كأنما هو في طخيا لجتة أيم ... يعرو أديم السيل شمليسل
مازالت الموج تعليه وتخفضه ... حتى بدا من منار الثغر قنديل
وكبر الناس أعلاه الرنيم ... وكلهم طرفه بالشهد مكحول
وصافحوا البيد بعد اليم وابتدروا ... سبلاً بها لجناب الله توصيل
على نجايب تتلوه أجنابها خيل ... بها الخير معقود ومعقول
في موكب تزحف الأرض الفضاء به ... أضحت وموحشها بالناس مأمول
يطارد الوحش منه فيلق لجب ... حتى لقد ذعرت في بيدها الغول
سيوفهم طرب نحو الحجاز فهم ... ذوو ارتياح على أكوارها ميل
شعث رؤسهم يبس شفاهم ... خوص عيونهم غرب مهازيل
حتى إذا لاح من بيت الإله لهم ... نور إذا هم على الغبرا أراحيل
يعفرون وجوهاً طالما سمت ... باكين حتى أديم الأرض مبلول
حفوا بكعبة مولاهم فكعبهم ... عالٍ بها لهم طوف وتقبيل
وبالصفا وقتهم صافٍ بسعيهم ... وفي منى لمناهم كان تنويل
تعرفوا عرفات واقفين بها ... لهم إلى الله تكبير وتهليل
لما قضينا من الغراء منسكنا ... ثرنا وكل بنار الشوق مشمول
شدنا إلى الشد قميات التي سكنت أبدانهن وأفناهن تنقيل
إلى الرسول تزجي كل تعلمة ... أجل من نجوة تزجى المراسيل
من أنزلت فيه آيات مطهرة ... وأورثت فيه تورته وإنجيل
وعطرت من شذاه كل ناحية ... كأنما المسك في الأرجاء محلول
سر من العالم العلوي ضمنه ... جسم من الجوهر الأرضي محمول
نور تمثل في أبصارنا بشراً ... على الملايك من سيماه تمثيل
لقد تسامى وجبريل مصاميه ... إلى مقام راخى فيه جبريل
أوحى إليه الذي أوحاه من كثب ... فالقلب واع بسر الله مشغول
يتلو كتاباً من الرحمن جاء به ... مطهراً ظاهر منه وتأويل
جارٍ على منهج الأعراب أعجزهم ... باقٍ مع الدهر لاياتيه تبديل
بلاغه عندها كع البليغ فلم ... ينطق وفي هديه صاحت أضاليل
ومنها:
وطولبوا أن يجيبوا حين رابهم ... بسورةٍ مثله فاستعجز القيل
لاذو بذوبان خطى وبتر ظبا ... يوم الوغا واعتراهم منه تنكيل
فمونف في جبال الوهد منحدر ... وموثق في حبال الغد مكبول

مازال بالعضب هتاكاً سوابغهم ... حتى انثنى العصب مهم وهو مفلول
وقد تحطم في نحر العدا قصد ... أصم الوشج وخانتها العواميل
من لايعدله القرآن كان له ... من الصفاد وبيض البتر تعديل
وكم له معجزا غير القرآن أتى ... فيه من الحق منقول ومعقول
فللرسول انشقاق البدر نشهده ... كما لموسى انفلاق البحر منقول
ونبع ماء فرات من أنامله كالعين ثرت فجا الهتان ماء النيل
رووا الخميس وهم زهاء سبع ... مي مع الركاب فمشروب محمول
ومى عين بكف جاء يحملها ... قتادة وله شكوى وتعويل
فكانت أحسن عينيه ولا عجب ... مست أناميل فيها اليمن مجعول
والجذع حن إليه حين فارقه ... حنين ولهى لها للروم مثكول
وأشيع الكثر من قل الطعام ولم ... يكن ليعوزه بالكثر تقليل
وفي جراب لي هن عجايب كم ... يمتار منه فمبذول ومأكول
وفي ارتواء لي ذر بزمزم مايكفى تبدن منه وهو مهزول
والعنكبوت بباب الغار قد نسجت ... حتى كأن رداءً منه مسدول
وفرخت في حماه الورق ساجعة ... تبكي وما دمعها في الخد مطول
هذا وكم معجزات للرسول أتت ... لها من الله أمداد وتأصيل
غدت من الكثر أعداد النجوم فما ... يحصى لها عدداً كتب ولاقيل
قد انقضت معجزات الرسل منذ قضوا نحباً وأعجم منها ذلك الجيل
ومعجزات رسول الله باقية ... محفوظة مالها في الدهر تحويل
تكفل الله هذا الذكر يحفظه ... وهل يضيع الذي بالله مكفول
هدى المفاخر لايحظى الملوك بها ... الملك منقطع والوحي موصول
ومن مطولاته في غرض يظهر منها:
هو العلم لاكالعلم شىء تراوده ... لقد فاز باغيه وأجح قاصده
وما فضل الإنسان إلابعلمه ... وماامتاز إلا ثاقب الذهن واقده
وقد قصرت أعمارنا وعلومنا ... يطول علينا حصرها ونكابده
وفي كلها خير ولكن أصلها ... هو النحو فاحذر من جهول يعانده
به يعرف القرآن والسنة التي هما ... أصل دين الله ذو أنت عابده
وناهيك من علم على مشيد ... مبانيه أعزز بالذي هو شايده
لقد حاز في الدنيا فخاراً وسودداً ... أبو الأسود الديلي فللجر سانده
هو استنبط العلم الذي جل قدره ... وطار به للعرب ذكر نعاوده
وساد عطا نجله ابن هرمز ... ويحيى ونصر ثم ميمون ماهده
وعنبسة قد كان أبرع صحبه ... فقد قلدت جيد المعالي قلايده
ومازال هذا العلم تنميه سادة ... جهابذة تبلى به وتعاضده
إلى أن أتى الدهر العقيم بواحد ... من الأزد تنميه إليه فرايده
إمام الورى ذاك الخليل بن أحمد ... أقرله بالسبق في العلم حاسده
وبالبصرة الغرا قد لاح فجره ... فنارت أدانيه وضاءت أباعده
ياذكى الورى ذهناً وأصدق لهجة ... إذا ظن أمراً قلت ماهو شاهده
وما أن يروى بل جميع علومه ... بداية أعيت كل حبرٍ تجالده
هو الواضع الثاني الذي فاق أولا ... ولاثالث في الناس تصمى قواصده
فقد كان ربانى أهل زمانه ... صوم قوم راكع الليل ساجده
يقيم منه دهره في مثوبة ... وثوقاً بأن الله حقاً مواعده
فعام إلى حج وعام لغزوة ... فيعرفه البيت العتيق ووافده
ولم يثنه يوماً عن العلم والتقى ... كواعب حسن تنثنى ونواهده
وأكثر سكناه بقفر بحيث لا ... تناغيه إلا عفره وأوابده
وما قوته إلا شعير يسيغه ... بماء قراح ليس تغشى موارده

عزوباً عن الدنيا وعن زهراتها ... وشوقاً إلى المولى وما هو واعده
ولما رأى من سيبويه نجابة ... وأيقن أن الحين أدناه باعده
تخيره إذ كان وارث علمه ... ولا طفه حتى كأن هو والده
وعلمه شيئاً فشيئاً علومه ... إلى أن بدت سيماه واشتد ساعده
فإذ ذاك وافاه من الله وعده ... وراح وحيد العصر اذ جاء واحده
أتى سيبويه ناشراً لعلومه ... فلولاه أضحى للنحو عطلاً شواهده
وأبدى كتاباً كان فخراً وجوده ... لحطان إذ كعب بن عمرو محاتده
وجمع فيه ما تفرق في الورى ... فطارفه يعزى إليه وتالده
بععرو بن عثمان بن قنبر الرضا ... أطاعت عواصيه وتابت شوارده
عليك قرآن النحو نحو ابن قنبر ... فآياته مشهودة وشواهده
كتاب أبي بشر فلا تلك قارياً ... سواه فكل ذاهب الحسن فاقده
هم خلج بالعمل مدت فعندما ... تناءت غدت تزهي وليست تشاهده
ولا تعد عما حازه إنه الفرا ... وفي جوفه كل الذي أنت صائده
إذا كنت يوماً محكماً في كتابه ... فإنك فينا نابه القدر ماجده
ولست تبالي إن فككت رموزه ... أعضك دهر أم عرتك ثرايده
هو العضب إن تلق الهياج شهرته ... وإن لاتصب حرباً فإنك غامده
تلقاه كل بالقبول وبالرضى ... فذور الفهم من تبدو إليه مقاصده
ولم يعترض فيه سوى ابن طراوة ... وكان طرياً لم تقادم معاهده
وجسره طعن الميرد قبله ... وإن الثمالي بارد الذهن خامده
هما ماهما صارامدى الدهر ضحكة ... يزيف ماقالا وتبدو مفاسده
تكون صحيح العقل حتى إذا ترى ... تبارى أبا بشرٍ، إذا أنت فاسده
يقول امرؤ قد خامر الكبر رأسه ... وقد ظن أن النحو سهل مقاصده
ولم يشتغل إلا بنزر مسايل من ... الفقه وفي أوراقه هو راصده
وقد نال بين الناس جاهاً ورتبه ... وألهاك عن نيل المعالي ولا بده
وما ذاق للآداب طعماً ولم ... يبت يعنى بمنظوم ونثر يجاوده
فينكح أبكار المعاني ويبتغي لها ... الكفو من لفظ بها هو عاقده
رأى سيبويه فيه بعض نكادة ... وعجمة لفظ لا تحل معاقده
فقلت أتيت ما أنت أهل لفهمه ... وما أنت إلا غايض الفكر راكده
لعمرك ماذو لحية وتسمت ... وإطراق رأس والجهات تساعده
فيمشي على الأرض الهوينا كأنما ... إلى الملإ الأعلى تناهت مراصده
وإبهامك الجهال أنك عالم ... وأنك فرد في الوجود وزاهده
بأجلب للنحو الذي أنت هاجر ... من الدرس بالليل الذي أنت هاجده
أصاح تجنب من غوى مخذل ... وخذ في طريق النحو أنك راشده
لك الخير فادأب ساهراً في علومه " فلم تشم " إلا ساهر الطرف ساهده
ولا ترج في الدنيا ثواباً فإنما ... لدى الله حقاً أنت لاشك واجده
ذوو النحو في الدنيا قليل حظوظهم ... وذو الجهل فيها وافر الحظ زايده
لهم أسوة فيها على لغدٍ مضى ... ولم يلق في الدنيا صديقاً يساعده
مضى بعده عنها الخليل فلم ... ينل كفافاً ولم يعدم حسوداً يناكده
ولاقي أبا بشرٍ سفيهها ... غداة تمالت في ضلال يمادده
أتى نحو هارون يناظر شيخه ... فنفحة حتى تبدت مناكده
فأطرق شيئاً ثم أبدى دوابه ... بحق ولا كن أنكر الحق جاحده
وكاد على عمراً إذا صار حاكماً ... وقد ما على كان عمرو يكايده

سقاه بكأس لم يفق من خمارها ... وأورده الأمر الذي هو وارده
ولابن زياد شركة في مراده ولابن رشيد بشرك للقلب رابده
هما جرعا إلى على وقنبر ... أفاويق سم لم تنجد أساوده
أبكى على عمرو ولا عمر مثله ... إذا مشكل أعيا وأعوز ناقده
قضى نحبه شرخ الشبيبة لم يرع ... بشيب ولم تعلق بذام معاقده
لقد كان للناس اعتناء بعلمه ... بشرقٍ وغربٍ تستنار فوايده
والآن فلا شخص على الأرض قارئ ... كتاب أبي بشرٍ ولا هو رايده
سوى معثر بالغرب فيهم تلفت ... إليه وشوق ليس يخبو مواقد
وما زال منا أهل أندلس له ... جهابذ تبدى فضله وتناجده
وإني في مصر على ضعف ناصري ... لناصره ما دمت حياً وعاضده
أثار أثير الغرب للنحو كامناً ... وعالجه حتى تبدت قواعده
وأحيا أبو حيان ميت علومه ... فأصبح علم النحو ينفق كاسده
إذا مغربي حط بالثغر رحله ... تيقن أن النحو أخفاه لاحده
منينا بقوم صدروا في مجالس ... لإقراء علم ضل عنهم مراشده
لقد أخر التصدير عن مستحقه ... وقدم غمر خامد الذهن جامده
وسوف يلاقي من سعى في جلوسهم ... عقبى ما أكنت عقايده
علا عقله فيهم هواه فما ذرى ... بأن هوى الإنسان للنار قايده
أقمنا بمصر عشرين حجة يشاهدنا ... ذو أمرهم ونشاهده
فلما ننل منهم مدى الدهر طايلا ... ولما نجد فيهم صديقاً نوادده
لنا سلوة فيمن سردنا حديثهم ... وقد يتسلى بالذي قال سارده
أخي إن تصل يوماً وبلغت سالماً ... لغرناطة فانفذ لما أنا عاهده
وقبل ثرى أرض بها حل ملكنا ... وسلطاننا الشهم الجميل عوايده
مبيد العدا قتلاً وقد عمر شرهم ... ومحي الندى فضلاً وقد رم هامده
أفاض على الإسلام جوداً ونجدةً ... فعز مواليه وذل معانده
وعم بها إخواننا بتحية ... وخص بها الأستاذ لاعاش كايده
جزى الله عنا شيخنا وإمامنا ... وأستاذنا الحبر الذي عم فايده
لقد أطلعت جيان أوحد عصره ... فللغرب فخر أعجز الشرق خالده
مؤرخة نحوية وإمامة محدثة ... جلت وصحت مسانده
جاه عظيم من ثقيف وإنما به ... استوثقت منه العرى ومساعده
وما أنسى لاأنسى سهادى ببابه ... بسبق وغيري نايم الليل راقده
فيجلو بنور العلم ظلمة جهلنا ... ويفتح علماً مغلقاتٍ رصايده
وإني وإن شطت بنا غربة النوى ... لشاكر له في كل وقت وحامده
بغرناطة روحي وفي مصر جثتي ... ترى هل يثنى الفرد من هو فارده
أبا جعفر خذها قوافى من فتى ... تتيه على غر القوافي قصايده
يسير بلا إذن إلى الأذن حسنها ... فيرتاح سماع لها ومناشده
غريبة شكل كم حوت من غرايب ... مجيدة أصل أنتجتها أما جده
فلولاك يامولاى ما فاه مقولي ... بمصر ولا حبرت ما أنا قاصده
لهذبتني حتى أحوك مفوقاً ... من النظم لايبلى مدى الدهر آبده
وأذكيت فكري بعد ما كان خامداً ... وقيد شعري بعد ما ند شارده
جعلت ختاماً فيه ذكرك إنه ... هو المسك بل أعلى وإن عز ناشده
ومما دون المطولات قوله رحمه الله:
تفردت لما أن جمعت بذات ... وأسكنت لما أن بدت حركات
فلم أر في الأكوان غيراً لأنني ... أزحت عن الأغيار روح حيات
وقدستها عن رتبة لو تعينت ... لها دائماً دامت لها حسرات

فها أنا قد أصعدتها عن حضيضها ... إلى رتبة تقضى لها بثبات
تشاهد معنى روضة أذهب العنا ... وأيقظنى للحق بعد سنات
أقامت زماناً في حجاب فعندما ... تزحزح عنها رامت الخلوات
لنقضي بها مافات من طيب أنسنا بها وننال الجمع بعد شتات ومن النسيب قوله:
كتم اللسان ومدمعى قد باحا ... وثوى الأسى عندي وأسى راحا
إني أحب طي ما نشر الهوى ... نشراً وما زال الهوى إفصاحاً
ومهجتي من لا أصرح باسمه ... ومن الإشارة ما يكون صراحاً
ريم أروم حنوه وجنوحه ... ويروم عني جفوة وجماحاً
أبدى لنا من شعره وجبينه ... ضدين ذا ليلاً وذاك صباحاً
عجباً له يأسو الجسوم بطبه ... ولكم بأرواحٍ أثار جراحاً
فبلقطه برء الأخيذ ولحظه ... أخذ البرى فما بطيق براحاً
ناديته في ليلة لا ثالث إلا ... أخوه البدر عارف لاحا
يا حسنها من ليلة لو أنها دامت ... ومدت لتوصال جناحاً
وقال:
نور بخدك أم توقد نار ... وضنى بجفناك أم فتور عقار
وشذاً بريقك أم تأرج مسكة ... وسنى بثغرك أم شعاع درار
جمعت معاني الحسن فيك فقد ... غدت قيد القلوب وفتنة الأبصار
متصاون خفير إذا ناطقته ... أغضى حياً في سكون وقار
في وجهه زهرات لفظ تجتلي ... من نرجس مع وردة وبهار
خاف اقتطاف الورد من جنباتها ... فأدار من أسر سياج عذار
وتسللت نمل العذار بخده ... ليردن شهدة ريقه المعطار
وبخده ورد حمتها وردها ... فوقفن بين الورد والإصدار
كم ذا أوارى في هواه مجتى ... ولقد وشى بي فيه فرط أوار
ومن نظمه من المقطوعات في شتى الأغراض قوله رحمه الله:
أزحت نفسي من الإيناس بالناس ... لما غنيت عن الأكياس بالياس
وصرت في البيت وحدي لا أرى أحداً ... بنات فكري وكتبر هن جلاس
وقال:
وزهدني في جمعي المال إنه إذا ... ما انتهى عند الفتى فارق العمرا
فلا روحه يوماً أراح من العنا ... ولم يكتسب حمداً ولم يدخر أجراً
وقال:
سعت حية من شعره نحو صدغه ... وما انفصلت من خده إن ذا عجب
وأعجب من ذا أن سلسال ريقه ... برود ولاكن شب في قلبي اللهب
وقال:
سعت حية من شعره نحو صدغه ... وما انفصلت من خده إن ذا عجب
وأعجب من أن سلسا يقه ... برود ولا كن شب في قلبي اللهب
وقال:
راض حبيبي عارض قد بدا ... يا حسنه من عارض رابض
وظن قوم أن قلبي سلا ... والأصل لا يعتد بالعارض
وقال:
سال في الخد للحبيب عذار ... وهو لاشك سايل مرحوم
وسألت التثامه فتجنى ... فأنا اليوم سايل محروم
وقال:
جننت بها سوداء لون وناظر ... ويا طالما كان الجنون بسوداء
وجدت بها برد النعيم وإن ... فؤادي منها في جحيم ولأواء
وقال:
جننت بها سوداء لون وناظر ... ويا طالما كان الجنون بسوداء
وجدت بها برد النعيم وإن ... فؤادي منها في جحيم ولأواء
وقال في فتى يسمى مظلوم:
وما كنت أدري أن مالك مهجتي ... يتسمى بمظلوم وظلم جفاوه
إلى أن دعاني للصبا فأجبته ... ومن يك مظلوماً أجيب دعاؤه
وقال:
جن غيري بعارض فترجى ... أهله أن يفيق عما قريب
وفؤادي بعارضين مصاب ... فهو داء أعي دواء الطبيب
وقال:
شكى الخصر منه ما يلاقي بردفه ... وأضعف غصن البان جر كثيب
إذا كان منه البعض يظلم بعضه ... فما حال شط المزار غريب
وقال:

وذو شفةٍ لميا زينت بشامة ... من المسك في رشافها يذهب النسك
ظميت إليها ريقةً كوثرية ... بمثل لقايي ثغرها ينظم السلك
تعل بمعسول كأن رضابه ... مدام من الفرد وسر خاتمه مسك
وقال:
أجل شفيعٍ ليس يمكن رده ... دراهم بيض للجروح مراهم
تصير صعب الأمر أسهل ماترى ... ويقضي لباناتٍ للفتى وهو نايم
وقال:
نعيد ود قريب ضل ... كبير عتب قليل عتباً
كالشمس ظرفاً كالمسك عرفاً ... كالخشف طرفاً كالصخر قلباً
وقال:
عداتي لهم فضل على ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن رتى فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
مولده: ولد بغرناطة عام اثنين وخمسين وستماية.
وفاته: أخبرني الحاج الخطيب الفاضل أبو جعفر الشقوري رحمه الله.
قال، توفي عام خمسة وأربعين وسبع ماية بمصر، ودفن بالقرافة. وكانت جنازته حافلة.
ومن الطاريين عليها في هذا الحرف
ابن الكماد اليكيمحمد بن أحمد بن داود بن موسى بن مالك اللخمي اليكي من أهل بلش يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن الكماد
حالهمن " عايد الصلة " : كان من جلة صدور " الفقهاء " الفضلاء زهدا وقناعة وانقباضاً، إلى دماثة الخلق، ولين الجانب " وحسن اللقاء " والسذاجة المموهة بالغفلة، والعمل على التقشف والعزلة، قديم السماع والرحلة، إماما مشهوراً في القراءات، يرحل إليه، ويعول عليه، إتقاناً ومعرفة منها بالأصول، كثير المحافظة والضبط، محدثاً ثبتاً، بليلغ التحرز، شديد الثقة، فقيهاً متصرفاً في المسايل، أعرف الناس بعقد الشروط، ذا حظ من العربية واللغة والأدب. رحل إلى اللعدوة، وتجول في بلاد الأندلس، فأخذ عن كثير من الأعلام، وروي وقيد وصنف وأفاد، وتصدر للإقراء بغرناطة وبلش وعيرهما، وتخرج بين يديه جملة وافرة من العلماء والطلبة، وانتفعوا به.
مشيختهقرأ ببلده مرسية على الأستاذ أبى الحسن على بن محمد بن لب بن أحمد ابن أبي بكر الرقوطي، والمقرى أبى الحسن بن خلف الرشاطي، والمحدث الجليل أبى محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب الغافقي المرسى. وممن أجازه الفقيه أبو عثمان سعيد بن عمرو البطرني، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص، لقيه ببلش مالقة وبسطة، فروى عنه الكثير، والأستاذ أبو القاسم بن الأصهر الحارثي لقيه بألمرية. ولقي بغرناطة الأستاذ أبا جعفر الطباع، والوزير الراوية أبا القاسم محمد بن يحيى بن عبد الرحمن ابن جزى الكلبي، روى عنه وأجازه. وكتب له بالإجازة جماعة كبيرة من أهل المشرق والمغرب، حسبما تضمنه برنامجه.
تواليفهاختصر كتاب " المقنع " في القراءات اختصاراً بديعاً وسماه كتاب " الممتع في تهذيب المقنع " وغير ذلك.
شعرهمن ذلك وقد وقف على أبيات ابي القاسم بن الصقر في فضل الحديث:
لقد حاز أصحاب الحديث وأهله ... شأواً وتوتيراً ومجداً مخلداً
وصحت لهم بين الأنام مزيه ... أبانت لهم عزاً مجداً وسودداً
بدعوة خبر الخلق أفضل مرسل ... محمد المبعوث بالنور والهدا
بدعوة خبر الخلق أفضل مرسل ... محمد المبعوث بالنور والهدا
فهم دونوا علم الحديث وأتقنوا ... ونصوا بتبيين صحيحاً ومسندا
وجاءوا بأخبار الرسول وصحبه ... على وجهها لفظاً ورسماً مقيدا
وهم نقلوا الآثار والسنن التي ... من أصبح ذا لفظاً ورسماً مقيداً
وهم نقلوا الآثار والسنن التي ... من أصبح ذا أخذ بها فقد اهتدا
وما قصروا فيها بفقهٍ ولا ونوا ... بل التزموا حداً وحزماً مؤكداً
وهم أوضحوا من بعدهم باجتهادهم ... وبيينهم سبل الهدى لمن اقتدا
جزاهم إله العرش عنا بنصحهم ... بأحسن ماجازي نصيحاً ومرشداً
ونسله سبحانه نه هديهم ... وسعياً إلى التقوى سبيلاً ومقصداً
ومن شعره رحمه الله قوله:

عليك بالصبر وكن راضياً ... بما قضاه الله تلقى النجاح
واسلك طريق المجد والهج به ... فهو الذي يرضاه أهل الصلاح
وقد ألف شيخنا أبو البركات بن الحاج، جزءاً سماه " شعر من لا شعر له " ، فيه من شعر هذا يالرجل الفاضل ومثله كثير
مولدهقبل الأربعين وستماية. وتوفي ثاني شهر الله المحرم عام اثنى عشر وسبعماية
ابن حفيد الأمينمحمد بن أحمد بن علي الغساني من أهل مالقه، يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن حفيد الأمين
حالهكان من أهل العلم والفضل والدين المتين، والدؤوب على تدريس كتب الفقه. استظهر كتاب " الجواهر " لابن شاس، واضطلع بها، فكان مجلسه من مجالس الحفاظ، حفاظ المذهب، وانتفع به الناس، وكان معظماً فيهم، متبركاً به، على سنن الصالحين، من الزهد، والانقباض، وعدم المبالاة بالملبس والمطعم. وقال صاحبنا الفقيه أبو الحسن النباهي في تذييله لتاريخ مالقة: كان رجلا ساذجاً، مخشوشناً، سنى المنازع، شديد الإنكار على أهل البدع. جلس للتحليق العام بالمسجد الجامع، وأقرأ به الفقه والعربية والفرايض.
مشيختهقال، منهم أبو علي بن أبي الأخوص، وأبو جعفر بن الزبيز، وأبو محمد بن أبي السداد، والقاضي أبو القاسم ابن السكوت. قال، وأنشد للزاهد أبى اسحق بن قشوم، قوله:
يروقك يوم العيد حسن ملابس ... ونعمة أجسام ولين قدود
أجل لحظات الفكر منك فلا ترى ... سوى خرق تبلي وطعمة دود
وأنشد لأبي عمرو الزاهد:
تختبر الدنير في ميذاق ... والدرهم الزايف إذ يبهم
والمرء إن رمت اختباراً له ... ميذاقه الدنير والدرهم
من عف عن هذا وهذا مما ... فهو التقى الورع المسلم
تواليفهله تقييد حسن في الفرايض، وجزء في تفضيل التين على التمر، وكلام على نوازل الفقه.
وتوفي في الكائنة العظمى بطريف.
محمد بن أحمد بن علي بن قاسم المذحجيمن هل ملتماس، يكنى أبا عبد الله
حالهمن العايد: كان رحمه الله من بلده وأعيانهم، أستاذا متفنناً مقرياً لكتاب الله، كاتباً بليغاً، شديد العناية بالكتب، كثير المغالاة في قيمها وأثمانها، حتى صارله من أعلاقها وذخايرها، ماعجز عن تحصيله كثير من أهل بلده. كتب بخطه، وقيد كثيراً من كتب العلم. وكان مقرباً مجوداً، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالعربية، ثقة ضابطاً، مبرزاً في العدالة، حريصاً على العلم استفادة ثم إفادة، لا يأنف من حمله عن أقرانه، وانتفع به هل بلده، والغرباء أكثر.
مشيختهأخذ عن طايفة من أهل العلم. منهم الشيخان الرحلتان، أبو عبد الله ابن الكماد، وأبو جعفر بن الزيات عظيماً بلده، والخطيب ولي الله أبو عبد الله الطنجالي، والقاضي أبو عبد الله بن بكر. وروى عن الشيخ الوزير أبي عبد الله بن ربيع، وابنه الراوية أبي عامر، والخطيب الصالح أبي إسحق بن أبي العاصي. وروى عن الشيخ الراوية الرحال أبي عبد الله ابن عامر الوادي أشى وغيرهم، ودخل غرناطة.
مولده ولد ببلش عام ثمانية وثمانين وستماية وفاته: توفي ببلش عاشر شهر شعبان من عام أربعة وثلاثين وسبعماية.
محمد بن أحمد بن علي الغسانيمن أهل مالقة، يكنى أبا الحكم، ويعرف بابن حفيد الأمين
حالهمن العايد: كان هذا الشيخ من أهل العلم والدين المتين، والجرى على سنن الفقهاء والتقدمين، عقد الشروط بمالقة مدة طويلة، في العدول المبرزين، وجلس للتحليق في المسجد الأعظم من مالقة، بعد فقد أخيه أبى القاسم، وخطب بمسجد مالقة الأعظم. ثم أخر عن الخطبة لمشاحنة وقعت بينه وبين بعض الولاة، أثمرت في إحنته. ولم يزل على ما كان عليه من الاجتهاد في العبادة، والتقييد للعلم، والاشتغال به، والعناية بأهله، إلى أن توفي على خير عمل.
مشيختهقرأ على الأستاذ الخطيب أبى محمد الباهلي، وروى عن جلة من الشيوخ مثل صهره الخطيب الوالي أبي عبد الله الطنجالي، وشاركه في أكثر شيوخه، والأديب الحاج الصالح أبي القاسم القبتوري وغيرهم مولده: ولد بمالقة عام ثلاثة وسبعين وستماية

وفاته: توفي بمالقة يوم الأربعاء الثامن عشر لذي حجة من عام تسعة وأربعين وسبعماية. ودخل غرناطة غير ما مرة مع الوفود من أهل بلده، وفي أغراضه الخاصة.
محمد بن أحمد الرقوطي المرسييكنى أبا بكر
حالهكان طرفاً في المعرفة بالفنون القديمة، المنطق والهندسة والعدد والموسيقا الطب، فيلوسفاً، طبيباً ماهراً، آية الله في المعرفة بالألسن. يقرى الأمم بألسنتهم، فنونهم التي يرغبون في تعلمها، شديد الباو، مترفعاً. متعاطياً. عرف طاغية الروم حقه، لما تغلب على مرسية، فبنى له مدرسة يقرى فيها المسلمين والنصارى واليهود، ولم يزل معظماً عنده. ومما يحكى من ملحه معه، أنه قال له يوماً، وقد أدنى منزلته، وأشاد بفضله، لو تنصرت وحصلت الكمال، كان عندي لك كذا وكذا، وكنت كذا، فأجابه بما أقنعه. ولما خرج من عنده، قال لأصحابه، أنا الآن أعبد واحداً، وقد عجزت عما يجب له، فيكف يحالي لو كنت أعبد ثلاثة كما أراد مني وطلبه سلطان المسلمين، ثاني الملوك من بني نصر، واستقدمه، وتلمذ له، وأسكنه في أعدل البقع من حضرته. وكان الطلبة يغشون منزله المعروف له، وهو بيدى الآن، فتعلم عليه الطب والتعاليم وغيرها، إذا كان لا يجاري في ذلك. وكان قوى العارضة، مضطلعاً بالجدل، وكان السلطان يجمع بينه وبين منتابي حضرته، ممن يقدم منتحلا صناعة أو علماً، فيظهر عليهم، لتمكنه ودالته، حسبما يانى في إسم أبي الحسن الأبدي، وأبي القاسم بن خلصون إن شاء الله. وكان يركب إلى باب السلطان، عظيم التودة، معار البغلة، رايق البزة، رفيق المشي، إلى أن توفي بها. سمح الله له.
ابن الدباغ الإشبيليمحمد بن ابراهيم بن المفرج الأوسي المعروف بابن الدباغ الإشبيلي.
كان واحد عصره في حفظ مذهب مالك، وفي عقد الوثائق، ومعرفة عللها، عارفاً بالنحو واللفة والأدب والكتابة والشعر والتاريخ. وكان كثير البشاشة، عظيم انقباض، طيب النفس، جميل المعاشرة، كثير المشاركة، شديد الواضع، صبوراً على المطالعة، سهل الألفاظ في تعليمه وإقرايه. أقرأ بجامع غرناطة لأكابر علمايها، الفقه وأصوله، وأقرأ به الفروع والعقايد للعامة مدة. وأقرأ بجامع باب الفخارين، وبمسجد ابن عزرة وغيره.
مشيختهقرأ على والده الأستاذ أبي إسحق ابراهيم، وعلى الأستاذ أبي الحسن الدباج، وعلى القاضي أبي الوليد محمد بن الحاج التجيبي القرطبي، وعلى القاضي أبي عبد الله بن عياض
وفاتهتوفي برندة يوم الجمعة أول يوم من شوال عند انصراف الناس من صلاة الجمعة من عام ثمانية وستين وستماية
ابن الرقاممحمد بن إبراهيم بن محمد الأوسي ابن أهل مرسية، نزيل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الرقام الشيخ الأستاذ المتفنن.
حالهكان نسيج وحده، وفريد دهره، علماً بالحساب والهندسة والطب والهيئة، وغير ذلك مديد الباع. أصيل المعرفة. مضطلعاً، متجراً لايشق غبارة. أقرأ التعاليم والطب والأصول بغرناطة لما استقدمه السلطان ثاني الملوك من بني نصر من مدينة بجاية، فانتفع الناس به، وأوضح المشكلات، وسيل من الأقطار النازحة في الأوهام العارضة، ودون في هذه الفنون كلها، ولخص، ولم يفتر من تقييد وشرح وتلخيص وتدوين.
تواليفهوتواليفه كثيرة، منها كتابة الكبير على طريقة كتاب " الشفا " والزيج القويم الغريب المرصد، والبنية رسايله على جداول ابن إسحق، وعدل مناخ الأهلة، وعليه كان العمل. وقيد أبكار الأفكار في الأصول، ولخص المباحث، كتاب الحيوان والخواص. ومقالاته كثيرة جداً، ودواوينه عديدة.
وفاته: توفي عن سن عالية بغرناطة في الحادي والعشرين لصفر من عام خمسة عشر وسبع ماية
محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميدابن مأمون الأنصاري ونسبه أبو محمد القرطبي، أمويا من صريحهم، بلنس الأصل يكنى أبا عبد الله
حالهكان صدراً في متقنى القرآن العظيم، وأيمة تجويده، مبرزاً في النحو، إماماً معتمداً عليه، بارع الأدب، وافر الحظ من البلاغة، والتصرف البديع في الكتابة، طيب الإمتاع بما يورده من الفنون، كريم الأخلاق، حسن السمت، كثير البشر، وقوراً، ديناً، عارفاً، ورعاً، وافر الحظ من رواية الحديث.
مشيخته

روى عن أبي إسحق بن صالح، وأبي بكر بن أبي ركب، وأبي جعفر ابن ثعبان، وأبي الحجاج القفال، وأبي الحسن شريح، وأبي محمد عبد الحق ابن عطية، وأبي الحسن بن ثابت، وأبي الحسن بن هذيل، وتلا عليه بالسبع، وأبو عبد الله بن عبد الرحمن المذحجي الغرناظي، وابن فرح القيسي، و أبي القاسم خلف بن فرتون. ولم يذكر أنهم أجازوا له. وكتب له أبو بكر عبد العزيز بن سدير، وابن العزفي، وابن قندلة، فأبو الحسن طارق بن موسى، وابن موهب، ويونس بن مغيث، وأبو جعفر بن أيوب، وأبو الحكم عبد الرحمن بن غشيان، وأبو عبد الله الجياني المعروف بالبغدادي. وذكر أبو عبد الله بن يربوع أن له راوية عن أبي الحسن بن الطراوة.
من روى عنهروى عنه أبو بحر صفوان بن إدريس، وأبو بكر بن عتيق الأزدى وابن قترال، وأبو جعفر الجيار، والذهبي، وابن عميرة الشيهد، وأبو الحسن بن عزمون، وابن عبد الرزق، وأبو الحسن عبيد الله بن عاصم الداري، وأبو الربيع بن سالم، وأبو زكريا الجعفري، وأبو سليمان ابن حوط الله، وأبو عبد الله الأندرشي، وابن الحسين بن محبر، وابن ابراهيم الريسى، وابن صلتان، وابن عبد الحق التلمسني، وابن يربوع، وأبو العباس العزفي، وأبو عثمن سعد الحفار، وأبو علي عمر بن جميع، وأبو عمران بن إسحق، وأبو القاسم الطيب بن هرقال، وعبد الرحيم ابن إبراهيم بن قريش الملاحي، وأبو محمد بن دلف بن اليسر، وأبو الوليد ابن الحجاج.
تواليفهله شرح على " إيضاح الفارسي " ، وآخر على جمل الزجاجي " مولده: ببلنسية سنة ثلاث عشرة وخمسماية وفاته: توفي بمرسية إثر صدوره عن غرناطة عشى يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسماية
محمد بن حكم بن أحمد بن باق الجذاميمن أهل سرقسطة. سكن غرناطة ثم فاس، يكنى أبا جعفر
حالهكان مقرباً مجوداً محققاً بعلم الكلام وأصول الفقه، محصلاً لهما، متقدماً في النحو، حافظاً للغة، حاضر الذكر لأقوال تلك العلوم، جيد النظر، متوقد الذهن، ذكي القلب. فصيح اللسان. ولي أحكام فاس وأفتى فيها، ودرس بها العربية، كتاب سيبويه وغير ذلك.
مشيختهروى عن أبي الأصبغ بن سهل، وأبوى الحسن الحضرمي، وابن سابق، وأبي جعفر بن جراح، وأبي طالب السرقسطي، الأديبين، وأبوي عبد الله ابن نصر، وابن يحيى بن هشام المحدث، وأبيالعباس الدلاءي، وأبي عبيد الله البكري، وأبي عمر أحمد بن مروان القيرواني، وأبي محمد ابن قورش، وأبي مروان بن سراج. وأجاز له أبو الوليد الباجي رحمه الله.
من روى عنهروى عنه أبو إسحق بن قرقول، وأبو الحسن صالح بن خلف، وأبو عبد الله بن حسن السبتي، وأبو الحسن الأبدي، وتوفي قبله، وابن خلف بن الأيسر، والنميري، وأبو العباس بن عبد الرحمن ابن الصقر، وأبو علي حسن بن الجزار، وأبو الفضل بن هرون الأزدي، وأبو محمد عبد الحق بن بونه، وقاسم بن دحمان، وأبو مروان بن الصقيل الوقشى.
تواليفهشرح " إيضاح الفارسي " ، وكان قيماً على كتابة، وصنف في الجدل مصنفين، كبيراً وصغيراً. وله عقيدة جيدة.
وفاته: توفي بفاس، وقيل بتلمسان سنة ثلاث وثلاثين وخمس ماية محمد بن حسن بن محمد بن عبد الله بن خلف بن يوسف ابن خلف الأنصاري من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحاج، وبابن صاحب الصلاة.
حالهكان مقرياً صدراً في أيمة التجويد، محدثاً متقناً ضابطاً، نبيل الخط والتقييد، ديناً، فاضلا. وصنف في الحديث، وخطب بجامع بلده. وأم في الفريضة زماناً، واستمرت حاله كذلك، من نشر العلم وبثه إلى أن كرمه الله بالشهادة في وقيعة العقاب.
دخوله غرناطة، راوياً عن ابن الفرس، وابن عروس، وغرهما
مشيختهروى بالأندلس عن الحجاج ابن الشيخ، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي خالد يزيد بن رفاعة، وأكثر عنه، وأبوى عبد الله بن عروس، ابن الفخار، وأبي محمد بن حوط الله، وعبد الحق بن بونه، وعبد الصمد ابن يعيش، وعبد المنعم بن الفرس، وأجازوا له. وتلا القرآن على أبي عبد الله الإستجي. وروى الحديث عن أبي جعفر الحصار. وحج في نحو سنة ثمانين وخمسماية. وأخذ عن جماعة من أهل المشرق، كأبي الطاهر الخشوعي وغيره.
وفاته: توفي شهيداً محرضاً صابرا يوم الاثنين منتصف صفر عام تسعة وستماية.
ابن قرال

محمد بن محمد بن أحمد بن على الأنصاري يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن قرال، من أهل مالقة
حالهطالب عفيف مجتهد خير. قرأ بغرناطة، وقام على فن العربية قياماً بالغاً، وشارك في غيره، وانتسخ الكثير من الدواوين بخط بالغ أقصى مبالغ الإجادة والحسن، وانتقل إلى مالقة فأقرأ بها العربية، واقتدى بصهره الصالح أبي عبد الله القطان، فكان من أهل الصلاح والفضل. وتوفي في محرم عام خمسين وسبعماية.
القللوسمحمد بن محمد بن إدريس بن مالك بن عبد الواحد ابن عبد الملك ابن محمد بن سعيد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله القضاعي من أهل إسطبونة، يكنى أبا بكر، ويعرف بالقللوس.
حالهكان رحمه الله إماماً في العربية والعروض والقوافي، موصوفاً بذلك، منسوباً إليه، يحفظ الكثير من كتاب سيبويه، ولايفارقه بياض يومه، شديد التعصب له، مع خفة وطيش يحمله على التوغل في ذلك. حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب رحمه الله، قال، وقف أبو بكر القللوس يوماً على القاضي أبي عمرو بن الرندون، وكان شديد الوقار، مهيباً، وتكلم في مسألة من العربية، نقلها عن سيبويه، فقال القاضي أبو عمرو. أخطأ سيبويه. فأصاب أبا بكر القللوس قلق كاد يلبط به الأرض، ولم يقدر على جوابه بما يشفى به صدره لمكان رتبته، قال، فكان يدور بالمسجد، والدموع تنحدر على وجهه، وهو يقول أخطأ من خطاه، يكررها والقاضي أبو عمرو يتغافل عنه، ويزرى عليه. وكان مع ذلك. مشاركاً في فنون، من فقه وقراءات. وفرايض، من أعلام الحفاظ للغة، حجة في العروض والقوافي، يخطط بالقافي عند ذكره في الكتب. وله في ذلك العروض والقوافي، يخطط بالقافي عند ذكره في الكتب. وله في ذلك تواليف بديعة. وولى الخطابة ببلده مدة، وقعد للتدريس به، وانثال عليه الناس وأخذوا عنه. ونسخ بيده الكثير وقيد، وكان بقطره علماً من أعلام الفضل والإيثار والمشاركة.
تواليفهنظم رجزاً شهيراً في الفرايض علماً وعملاً، ونظم في العروض والقوافي وألف كتاب " الدرة المكنونة في محاسن إسطبونة " ، وألف تأليفاً حسناً في ترحيل يالشمس، وسوسطات الفجر، ومعرفة الأوقات، ونظم أرجوزة في شرح ملاحن ابن دريد، وأرجوزة في شرح كتاب " الفصيح " . ورفع للوزير ابن الحكيم كتاباً في الخواص وصنعة الأمدة والتطبع الشاب. غريباً في معناه.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي الحسن بن أبي الربيع، ولازمه، وأخذ عنه. وعن أبي القاسم بن الحصار الضرير السبتي، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزبير بغرناطة وغيرهم.
شعرهمن شعره قوله من قصيدة يمدح ابن الحكيم:
علاه رياض أورقت بمحامد ... تنور بالجدوى وتثمر بالأمل
تسح عليها من نداه غمامة ... تروى ثرى المعروف بالعل والنيل
وهل هو إلا الشمس نفساً ورفعة ... فيغرب بالجدوى ويبعد بالأمل
تعم أياديه البرية كلها فدان ... وقاصٍ جود كفيه قد شمل
وهي طويلة. ونقلت من خط صاحبنا أبي الحسن النباهي. قال يمدح أبا عبد الله الرنداحي:
أطلع بأفق الراح كاس الراح ... وصل الزمان مساءه بصباح
خذها على رغم العذول مدامة ... تنفى الهموم وتأت بالأفراح
والأرض قد لبست برود أزاهر ... وتمنطقت من نهرها بوشاح
والجو إذ يبكي بدمع غمامة ... ضحك الربيع له بثغر أقاح
والروض مرقوم بوشى أزاهر ... والطير يفصح أيما إفصاح
والغصن من طرب يميل كأنما ... سقيت بكف الريح كأس الراح
والورد منتظم على أغصانه ... يبدو فتحسبه خدود ملاح
وكأن عرف الريح من زهر الربى ... عرف امتداح القايد الرنداح
وفاتهببلده عصر يوم الجمعة الثامن عشر لرجب الفردسنة سبع وسبعماية
ابن أبي الجيشمحمد بن محمد بن محارب الصريحي من أهل مالقة. يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن أبي الجيش
حاله وأوليتهأصل سلفه من حصن يسر من عمل مرسية، من بيت حسب وأصالة، ولخؤولته بالجهة التاكرونية ثورة

وقفلت فيه في عايد الصلة: كان من صدور المقريين، وأعلام المتصدرين تفنناً واضطلاعاً، وإدراكاً، ونظراً. إماماً في الفرايض والحساب قايماً على العربية، مشاركاً في الفقه والأصول، وكثير من العلوم العقلية. قعد للإقراء بمالفة، وخطب بجامع الربض.
مشيختهقرأ على الأستاذ القاضي المتفنن أبي عبد الله بن بكر، ولازمه. ثم ساء مابينهما في مسألة وقعت بمالقة، وهي تجويز الخلف في وعد الله، شنع فيها على شيخنا المذكور، ونسبه إلى أن قال، وعد الله ليس بلازم الصدق، بل يجوز فيه الخلف، إذ الأشياء في حقه متساوية، وكتب في ذلك أسئلة للعلماء بالمغرب، فقاطعه وهجره. ولما ولى القاضي أبو عبد الله بن بكر القضاء، خافه، فوجه عنه إثر ولايته، فلم يشك في الشر، فلما دخل عليه، رحب به، وأظهر له القبول عليه، والعفو عنه، واستانف مودته، فكانت تعد في مآثر يالقاضي رحمه الله ورحل المذكور إلى سبتة، فقرأ بها على الأستاذ أبي إسحق الغافقي، ومن عاصره، ثم عاد إلى مالقة، فالتزم التدريس بها إلى حين وفاته.
دخوله غرناطةدخل غرناطة مرات، متعلماًن وطالب حاج. ودعى إلى الإقراء بمدارستها النصرية، عام تسعة وأربعين وسبع ماية، فقدم على الباب السلطاني، واعتذر بما قبل فيه عذره. وكان قد شرع في تقييد مفيد على كتاب التسهيل لابن مالك. في غاية النبل والاستيفاء والحصر والتوجيه، عاقته المنية عن إتمامه.
وفاته: توفي بمالقة في كاينة الطاعون الأعظم في أخريات ربيع الآخر من عام خمسين وسبعماية، بعد أن تصدق بمال كثير، وعهد بريع مجد لطلبة العلم، وحبس عليهم كتبه.
ابن لبمحمد بن محمد بن لبي الكناني من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن لب
حالهكان ذاكراً للعلوم القديمة. معتنياً بها. عاكفاً عليها، متقدماً في علمها على أهل وقته، لم يكن يشاركه أحد في معرفتها، من الرياضيات والطبيعيات والإلآلهيات، ذاكراً لمذاهب القدماء، ومآخذهم في ذلك حافظاً جداً، ذاكراً لمذاهب المتكلمين، من الأشعرية وغيرهم، إلا أنه يوثر ماغلب عليه من مآخذ خصومهم، وكان نفوذه في فهمه، دون نفوذه في حفظه، فكان معتمده على حفظه في إيراده ومناظرته، وكان ذاكراً مع ذلك لأصول الفقه وفروعه، عجباً في ذلك، إذا وردت مسألة، أورد ماللناس فيها من المذاهب. وعزم عليه آخر عمره، فقعد بجامع مالقة، يتكلم على الموطا، وما كان من قبل تهيأ لذلك، إلا أنه ستر عليه حفظه، وتعظم أهل بلده له. قال ابن الزبير، وكانت فيه لوثة، واخشيشان، وكان له أرب في التطواف، وخصوصاً بأرض النصارى، يتكلم مع الأساقفة في الدين، فيظهر عليهم، وكانت أموره غريبة، من امتزاج اليقظة بالغفلة، وخلط السذاجة بالدعابة. يحكى عنه أنه كانت له شجرة تين بداره بمالقة، فباع ما عليها من أحد أهل السوق، فلما هم بجمعها، ذهب ليمهد للتين بالورق في الوعاء، فمنعه من ذلك، وقال له إنما اشتريت التين، ولم تدخل الورق في البيع، فتعب ذلك المشترى ما شاء الله، وجلب ورقاً من غيرها، حتى انقضى الأمر، وعزم على معاملته في السنة الثانية، فأول مااشترط الورق، فرغ من الغلة، دعاه فقال له، احمل ورقك، فإنه يوذيني، فأصابه من المشقة في جمعه من أطراف الغصون مالم يكن يحستب، ولم تات السنة الثالثة، إلا وللرجل فقيه، اشترط مقدار الكفاية من الورق، فسامحه ورفق به.
دخل غرناطة وغيرها، وأخباره عجيبة. قال أبو جعفر بن الزبير: عرض لي بمالقة مسايل، يرجع بعضها إلى الطريقة البيانية، والمآخذ الأدبية، وضحت ضرورة إلى الأخذ معه فيها، وفي آيات من الكتاب العزيز، فاستدعيته إلى منزلي، وكان فيه تخلق، وحسن ملاقاة. مع خفته الطبيعية وتشتت منازعه، فأجاب، وأخذت معه في ذلك، فألفيته صايماً عن ذلك جملة.
وصمتهقال، وكان القاضي الجليل، أبو القاسم بن ربيع، وأخوه أبو الحسن ينافرانه على الإطلاق، ويحذران منه، وهو كان الظاهر من حاله. قال، واستدعاني في مرض اشتد به، قبل خروجي من مالقة على انفراد، فتنصل لي مما كان يذن به، وأكثر البكاء، حتى رثيت له.
وفاته: توفي بمالقة، ووصى قبل موته بوصايا من ماله. في صدقات وأشباهها، وحبس داره وطايفة من كتبه على الجامع الكبير بمالقة.
محمد بن محمد البدويالخطيب بالربض من بلش، يكنى أبا عبد الله.

حاله
من العايد: كان رحمه الله حسن التلاوة لكتاب الله، ذا قدمٍ في الفقه، له معرفة بالأصلين، شاعراً مجيداً، بصيراً، بليغاً في خطبته، حسن الوعظ، سريع الدمعة. حج ولقى جلة. وأقرأ ببلش زماناً، وانتفع به، ولقى شدايد، أثلها الحسد.
مشيختهقرأ العلم على الشيخين المقريين، الحجتين، أبي جعفر بن الزيات، وأبي عبد الله بن الكماد، وقرأ العربية والأصلين، على الأستاذ أبي عمرو ابن منظور، ولازمه وانتفع به، وقرأ الفقه على الشيخ القاضي أبي عبد الله ابن عبد السلام بمدينة تونس.
شعرهمن شعره قوله في غرض النسيب:
خال على خدك أم عنبر ... ولؤلؤ ثغرك أم جوهر
أوريت نار الوجد طي الحشا ... فصارت النار به تسعر
لو جدت لي منك برشف اللما ... لقلت خمر عسل سكر
دعني في الحب أذب حسرة ... سفك دم العاشق لا ينكر
وقال:
عيناي تفهم من عينيك أسرارا ... وورد خدك يذكي في الحشا نارا
ملكت قلب محب فيك مكتيب ... قد أثر الدمع في خديه آثارا
رضاب ثغرك يروي حر غلته ... يا ليت نفسي تقضي منه أوطارا
أنعم بطيف منك ألمحه ... مإذا عليك بطيف منك لو زارا
نفسي فداؤك من ظبي به كلف ... يصبو له القلب مضطراً ومختارا
وقال:
أيها الظبي ترفق ... بكييب قد هلك
ألذنب تتجنى ... أم لشيء يوصلك
إن روحي لك ملك ... وكذا قلبي لك
إنما أنت هلال ... فلك القلب فلك
ومن مجموع نظمه ونثره ما خاطبني به، وقد طلبت من أدبه لبعض ما صدر عني من المجموعات: يا سيدي أبقاك الله بهجة للأعيان الفضلاء، وحجة لأعلام العلاء، ولا زلت تسير فوق النسر، وتجري في الفضايل على كرم النجر. ذكر لي فلان أنكم أردتم أن يرد على كمالكم، بعض الهذيان، الصادر عن معظم جلالكم، فأكبرت ذلك، ورأيتني لست هنالك، وعجبت أن ينظم مع الدر السبج، أو يضارع العمش الدعج، بيد أن لنظم الدر صناع، والحديث قد يذاع، ولا يضاع، وحين اعتذرت له فلم يعذرني، وانتظرته فلم ينظرني، بعد أن استعفيته فأبى، واستنهضت جواد الإجابة فكبى، وسلك غير طريقي، ولم يبلغني ريقي، وفيت الغرض، وقضيت من إجابته الحق المفترض، ورددت عن تعذاله النصيح، وأثبت هنا ما معناه صحيح، ولفظه غير فصيح:
بريت من حولي ومن قوتي ... بحول من لا حول إلا له
وثقت بالخالق فهو الذي ... يدبر العبد وأفعاله
وقلت بالحرم عند الملتزم من المنظوم في مثل ذلك:
أمولاي بالباب ذو فاقة ... وهذا يحط خطايا الأمم
فجد لي بعفوك عن زلتي ... يجود الكريم بقدر الكرم
ومما أعددته للوفادة على خير من عقدت عليه ألوية السيادة:
حمدت إليك مع الصباح سراها ... وأتتك تطلب من نداك قراها
وسرت إليك مع النسيم يمينها ... شوقاً في السرى يسراها
ولولا العجر لوصلت، والعذر لأطلت، لكن ثنيت عناني لثنايك، لحسن اعتنايك، وقلت معتذراً من الصورة لمجدكم، وتالياً سورة حمدكم:
المجد تخبر عن صدق مآثره ... وناظم المجد في العلياء ناثره
والجود إن جد جد المرء ينجده ... وقلما ثم في الأيام ذاكره
من نال ما نلت من مجد ومن شرف ... فليس في الناس شخص يناظره
يا سيداً طاب في العلياء محتده ... ماجداً رسخت فيه أواصره
سريت في الفضل مستناً على ... سنن في الفضل مآربه حقاً وسامره
ورثته عن كبير أوحد علم ... كذاك يحمله أيضاً أكابره
مبارك الوجه وضاح الجبين له ... نور ينير أغر النور باهره
موفق بكفيل من عنايته مرفع ... العذر سامي الذكر طاهره
رعيت في الفضل حق الفضل مجتهداً مفهوم مجدك هذا الحكم ظاهره
علوت كالشمس إشراقاً ومنزلة ... فأنت كالغيث يحيى الأرض ماطره

ينم بالفضل منك الفضل مشتهرا ... كما ينم بزهر الروض عاطره
دم وابق للمجد كهفاً والعلا وزراً ... فإنما المجد شخص أنت ناظره
مؤملاً منك خيراً أنت صانعه ... وصانع الخير عند الله شاكره
وما وليت وما أوليت من حسن ... فللناس والعالم العلوي ذاكره
بقيت تكسب من والاك مكرمة ... وناصراً أبداً من قل ناصره
عذراً لك الفضل عما جيت من خطإ ... أن يخط مثلي يوماً أنت عاذره
ثم السلام على علياك من رجل ... تهدى الذي يخفى ضمايره
دخوله غرناطة: دخلها غير ما مرة، ولقيته بها لتقضي بعض أغراض بباب السلطان، مما يليق بمثله.
مولده: . . . . . . . . .
وفاته: توفي ببلش في أخريات عام خمسين وسبعماية.
ابن عبد الله العبدريمحمد بن عبد الله بن ميمون بن إدريس بن محمد ابن عبد الله العبدري قرطبي، استوطن مدينة مراكش، يكنى أبا بكر.
حالهكان عالماً بالقراءات، ذاكراً للتفسير، حافظاً للفقه واللغات والأدب، شاعراً محسناً، كاتباً بليغاً، مبرزاً في النحو، جميل العشرة، حسن الخلق، متواضعاً، فكه المحاضرة، مليح المداعبة. وصنف في غير ما فن من العلم وكلامه كثير مدون، نظماً ونثراً.
مشيختهروى عن أبي بكر بن العربي، وأبي الحسن شريح، وعبد الرحمن ابن بقي، وابن الباذش، ويونس بن مغيث، وأبي عبد الله بن الحاج، وأبي محمد بن عتاب، وأبي الوليد بن رشد، ولازمه عشرين سنة. قرأ عليهم وسمع، وأجازوا له، وسمع أبا بحر الأسدي، وأبوي بكر عياش ابن عبد الملك، وابن أبي ركب، وأبا جعفر بن سانجة، وأبا الحسن عبد الجليل، وأبا عبد الله بن خلف الأيسري، وابن المناصف، وابن أخت غانم، ولم يذكر أنهم أجازوا له، وروى أيضاً عن أبوي عبد الله مكي، وابن المعمر، وأبي الوليد بن طريف.
من روى عنه: روى عنه أبو البقاء بعيش بن القديم، وأبو الحسن ابن مؤمن، وأبو زكريا المرجيعي، وأبو يحيى أبو بكر الضرير واختص به.
تواليفهمن مصنفاته مشاحذ الأفكار في مآخذ النظار وشرحاه الكبير والصغير على جمل الزجاجي، وشرح أبيات الإيضاح العضدي، ومقامات الحريري، وشرح معشراته الغزلية، ومكفراته الزهدية، إلى غير ذلك، وهما مما أبان عن وفور علمه، وغزارة مادته، واتساع معارفه، وحسن تصرفه.
دخل غرناطة راوياً عن الحسن بن الباذش ومثله.
محنتهكان يحضر مجلس عبد المؤمن مع أكابر من يحضره من العلماء، فيشف على أكثرهم بما كان لديه من التحقيق بالمعارف، إلى أن أنشد أبا محمد عبد المؤمن أبياتاً كان نظمها في أبي القاسم عبد المنعم بن محمد ابن تست وهي:
أبا قاسم والهوى جنة ... وها أنا من مسها لم أفق
تقحمت جامح نار الضلوع ... كما خضت بحر دموع الحدق
أكنت الخليل أكنت الكليم ... أمنت الحريق أمنت الغرق
فهجره عبد المؤمن، ومنعه من الحضور بمجلسه، وصرف بنيه عن القراءة عليه، وسرى ذلك في أكثر من كان يقرأ عليه، ويتردد إليه. على أنه كان في الطبقة العليا من الطهارة والعفاف.
شعرهقال في أبي القاسم المذكور، وكان أزرق، وقد دخل عليه ومعه أبو عبد الله محمد بن أحمد الشاطبي، وأبو عثمان سعيد بن قوسرة. فقال ابن قوسرة:
عابوه بالزرق الذي يجفونه ... والماء أزرق والعينان كذلك
فقال أبو عبد الله الشاطبي:
الماء يهدي للنفوس حياتها ... والرمح يشرع للمنون مسالكا
فقال أبو بكر بن ميمون المترجم به:
وكذلك في أجفانه سبب الردى ... ولاكن أرى طيب الحياة هنالكا
ومما استفاض من شعره قوله في زمن الصبا عفا الله عنه:
لا تكثرت بفراق أوطان الصبا ... فعسى تنال بغيرهن سعودا
والدر ينظم عند فقد بحاره ... بجميل أجياد الحسان عقودا
ومن مشهور شعره:
توسلت يا ربي بأني مؤمن ... وما قلت أني سامع ومطيع
أيصلى بحر النار عاص موحد ... وأنت كريم والرسول شفيع
وقال في مرضه:
أيرتجى العيش من عليه ... دلائل للردى جلية

أولها مخبر بثان ... ذاك أمان وذا منية
وفاته: توفي بمراكش يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة سبع وستين وخمسماية، ودفن بمقبرة تاغزوت داخل مراكش، وقد قارب السبعين سنة.
محمد بن أرقم النميريمحمد بن عبد الله بن عبد العظيم بن أرقم النميري من أهل وادي آش، يكنى أبا عامر.
حالهكان أحد شيوخ بلده وطلبته، مشاركاً في فنون، من فقه وأدب وعربية، وهي أغلب الفنون عليه، مطرح السمت، مخشوشن الزي، قليل المبالاة بنفسه، مختصراً في كافة شيونه، مليح الدعابة، شديد الحمل، كثير التواضع، وبيته معمور بالعلماء أولي الأصالة والتعين تصدر ببلده للفتيا والتدريس والإسماع.
مشيختهقرأ على الأستاذ القاضي أبي خالد بن أرقم، والأستاذ أبي العباس ابن عبد النور. وروى عن أبيه مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الوزير العالم أبي عبد الله بن ربيع، والقاضي أبي جعفر بن مسعدة، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وولي الله الحسن بن فضيلة.
ورحل إلى العدوة، فأخذ بسبتة عن الأستاذ أبي بكر بن عبيدة، والإمام الزاهد أبي عبد الله بن حريث، وأبي عبد الله بن الخضار، وأبي القاسم بن الشاط، وغيرهم.
شعرهوهو من الجزء المسمى بشعر من لا شعر له والحمد لله. فمن ذلك قوله يمدح أبا زكريا العزفي بسبتة، ويذكر ظفره بالأسطول من قصيدة أولها:
أما الوصال فإنه كالعيد ... عذر المتيم واضح في الغد
وفاته: توفي ببلده عام أربعين وسبعماية. ودخل غرناطة، راوياً ومتعلماً، وغير ذلك.
محمد بن الجد الفهريمحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فرج بن الجد الفهري الحافظ الجليل يكنى أبا بكر، جليل إشبيلية، وزعيم وقته في الحفظ. لبلي الأصل، إشبيلي، استدعاه السيد أبو سعيد والي غرناطة، فأقام بها عنده، في جملة من الفضلاء مثله سنين. ذكر ذلك صاحب كتاب ثورة المريدين.
حالهكان في حفظ الفقه بحراً يغرف من محيط. يقال إنه ما طالع شيئاً من الكتب فنسيه، إلى الجلالة والأصالة، وبعد الصيت، واشتهار المحل. وكان مع هذا يتكلم عند الملوك، ويخطب بين يديها، ويأتي بعجاب، وفي كتاب الإعلام شيء من خبره، قال ابن الزبير.
مشيختهروى عن أبي الحسن بن الأخضر، أخذ عنه كتاب سيبويه وغيره ذلك، وعن أبي محمد بن عتاب، وسمع عليه بعض الموطأ، وعن أبي بحر الأسدي، وأبي الوليد بن طريف، وأبي القاسم بن منظور القاضي، وسمع عليه صحيح البخاري كله، وشريح بن محمد، وأبي الوليد بن رشد، وناوله كتاب البيان والتحصيل. وكتاب المقدمات. لقي هؤلاء كلهم، وأجازوا له عامة. وأخذ أيضاً عن مالك بن وهيب.
من حدث عنهأبو الحسن بن زرقون، وأبو محمد القرطبي الحافظ، وإبنا حوط الله، وغيرهم. وعليه من ختمت به المائة السادسة كأبي محمد بن جمهور، وأبي العباس بن خليل وإخوته الثلاثة أبي محمد عبد الله، وأبي زيد عبد الرحمن، وأبي محمد عبد الحق. قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: حدثني عنه ابن خليل وأبو القاسم الجياني، وأبو الحسن بن السراج.
مولده: بلبلة في ربيع الأول سنة ست وثمانين وخمسماية. ذكره ابن الملجوم، وأبو الربيع بن سالم، وابن فرتون.
ابن أحمد بن الفخار الجذاميمحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد ابن أحمد بن الفخار الجذامي يكنى أبا بكر، أركشي المولد المنشأ، مالقي الاستيطان، شريشي التدرب والقراءة.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله خيراً صالحاً، شديد الانقباض، مغرقاً في باب الورع، سليم الباطن، كثير العكوف على العلم والملازمة، قليل الرياء والتصنع. خرج من بلده أركش عند استيلاء العدو على قصبتها، وكان يصفها، وينشد فيها من شعر أستاذه الأديب أبي الحسن الكرماني:
أكرم بأركش دارا ... تاهت على البدر قدرا
يخاطب المجد عنها ... لقلب تدنى شكرا

واستوطن مدينة شريش، وقرأ بها، وروى بها عن علمائها، واقرأ بها. ولما استولى العدو عليها لحق بالجزيرة الخضراء، فدرس بها، ثم عبر البحر إلى سبتة. فقرأ بها وروى. ثم كر إلى الأندلس، فقصد غرناطة، وأخذ عن أهلها. ثم استوطن مالقة، وتصدر للإقراء بها، مفيد التعليم، متفننه، من فقه وعربية وقراءات وأدب وحديث، عظيم الصبر، مستغرق الوقت، يدرس من لدن صلاة الصبح إلى الزوال. ثم يسند ظهره إلى طاق المسجد بعد ذلك، فيقرى، وتأتيه النساء من خلفه للفتيا، فيفتيهن عل حال سؤالا تهن إلى نصف ما بين العصر والعشاء الأولى. ثم يأتي المسجد الأعظم بعد الغروب، فيقعد للفتيا إلى العشاء الآخرة، من غير أن يقبل من أحد شيئاً. ومن أخذ منه بعد تحكيم الورع، أثابه بمثله. ما رئي في وقته أورع منه. وكان يتخذ رومية مملوكة، لا يشتمل منزله على سواها، فإذا أنس منها الضجر للحصر وتمادى الحجاب، أعتقها، وأصحبها إلى أرضها. ونشأت بينه وبين فقهاء بلده خصومة في أمور عدوها عليه، مما ارتكبها لاجتهاده في مناط الفتوى، وعقد لهم أمير المسلمين بالأندلس، مجلساً، أجلى عن ظهوره فيه، وبقاء رسمه، فكانت محنة، وخلصه الله منها. وبلغ من تعظيم الناس إياه، وانحياشهم إليه مبلغاً لم ينله مثله، وانتفع بتعليمه، واستفيد منه الأدب، على نسكه وسذاجته.
مشيختهقرأ ببلده شريش على المكتب الحاج أبي محمد عبد الله بن أبي بكر ابن داود القيسي، وعلى الأستاذ أبي بكر محمد بن الرباح، وعلى الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن حكيم السكوني الكرماني. أخذ عنه العربية والأدب، وعلى الحافظ أبي الحسن علي بن عيسى المعروف بابن متيوان، وعلى الأصولي الكاتب أبي الحسن هلال بن أبي سنان الأزدي المراكشي، وعلى الخطيب أبي العرب إسمعيل بن إبراهيم الأنصاري، وعلى الفقيه أبي عبد الله الجنيدي المعروف بالغراق؛ وعلى الفقيه العددي أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف المعروف بابن الكاتب المكناسي. وقرأ بالجزيرة الخضراء على الخطيب الصالح أبي محمد الركبي، وروى عنه، وقرأ بها على الخطيب أبي عبيد الله بن خميس، وعلى الأصولي أبي أمية. وقرأ بسبتة على الأستاذ الفرضي إمام النحاة أبي الحسن بن أبي الربيع، وعلى أبي يعقوب المحبساني، وعلى المحدث أبي عمرو عثمان بن عبد الله العبدري، وعلى الفقيه المالكي الحافظ أبي الحسن المتيوي، والأصولي أبي الحسن البصري، والفقيه المعمر الراوية أبي عبد الله محمد الأزدي، والمحدث الحافظ أبي محمد بن الكماد، وعلى الأستاذ العروضي الكفيف أبي الحسن بن الخضار التلمساني. ولقي بغرناطة قاضي الجماعة أبا القاسم ابن أبي عامر بن ربيع، والأستاذ أبا جعفر الطباع، وأبا الوليد إسمعيل ابن عيسى بن أبي الوليد الأزدي، والأستاذ أبا الحسن بن الصايغ. ولقي بمالقة الخطيب الصالح أبا محمد عبد العظيم بن الشيخ، والراوية أبا عبد الله محمد بن علي بن الحسن الجذامي السهيلي. وسمع على الراوية أبي عمرو ابن حوط الله، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن عباس القرطبي.
تواليفهكان رحمه الله مغري بالتأليف، فألف نحو الثلاثين تأليفاً في فنون مختلفة، منها كتاب تحبير نظم الجمان في تفسير أم القرآن، و " انتفاع الطلبة النبهاء في اجتماع السبعة القراء " . و " الأحاديث الأربعون بما ينتفع به القارئون والسامعون " ، وكتاب " منظوم الدرر في شرح كتاب المختصر " و " كتاب نصح المقالة في شرح الرسالة " ، وكتاب " الجواب المختصر المروم في تحريم سكنى المسلمين ببلاد الروم " ، وكتاب " استواء النهج في تحريم اللعب بالشطرنج " ، وكتاب " جواب البيان على مصارمة أهل الزمان " ، وكتاب تفضيل صلاة الصبح للجماعة في آخر الوقت المختار على صلاة الصبح للمنفرد في أول وقتها بالابتجدار " ، وكتاب " إرشاد السالك في بيان إسناد زياد عن مالك " ، وكتاب " الجوابات المجتمعة عن السؤالات المنوعة " ، وكتاب " إملا فوايد الدول في ابتداء مقاصد الجمل " وكتاب " منهج الضوابط المقسمة في شرح قوانين المقدمة " ، وكتاب " التكملة والتبرية في إعراب البسملة والتصلية " ، وكتاب " سح مزنة الانتخاب في شرح خطبة الكتاب " . ومنها اللايح المعتمد عليه في الرد على من رفع الخبر بلا إلى سيبويه، وغير ذلك من مجيد ومقصر.
شعره

وشعره كثير، غريب النزعة، دال على السذاجة، وعدم الاسترابة والشعور، والغفلة المعربة عن السلامة، من ارتكاب الحوشى، واقتحام الضرار، واسعمال الألفاظ المشتركة التي تتشبث بها أطراف الملاحين والمعاريض، ولع كثير من أهل زمانه بالرد عليه، والتملح بما يصدر عنه، منهم القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك.
ومن منتخب شعره قوله:
أنظر إلى ورد الرياض كأنه ... ديباج خد في بنان زبرجد
قد فتحته نضارة فبدا له ... في القلب رونق صفرةٍ كالعسجد
حكت الجوانب خدحب ناعم ... والقلب يحكى خد صب مكمد
حدث الفقيه العدل أبو جعفر أحمد بن مفضل المالقى، قال، قال لي يوماً الشيخ الأستاذ أبو بكر بن الفخار، خرجت ذات يوم وأنا شاب من حلقة الأستاذ بشريش، أعادها الله للإسلام، في جملة من الطلبة، وكان يقابل باب المسجد حانوت سراج، وإذا فتى وسيم في الحانوت يرقم جلداً كان في يده، فقالوا لي لاتجاوز هذا الباب، حتى تصنع لنا شعراً في هذا الفتى. فقلت:
ورب معذر للحب داع ... يروق بهاء منظره البهيج
وشى في وجنتيه وشياً ... كوشى يديه في أدم السروج
مولدهبحصن أركش بلده، وكان لا خبر به، في ما بين الثلاثين والأربعين وست ماية.
وفاتهتوفي بمالقة في عام ثلاثة وعشرين وسبعماية، وكانت جنازته بمالقة مشهورة
ابن العربيمحمد بن علي بن عمر بن يحيى بن العربي الغساني من أهل الحمة من عمل المرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن العربي وينتمي في بني أسود من أعيانها.
حالهمن العايد: كان رحمه الله من أهل العلم والدين والفضل، طلق الوجه، حسن السير، كثير الحياء، كأنك إذا كلمته تخاطب البكر العذراء، لا تلقاه إلا مبتسماً، في حسن سمت، وفضل هوىً، وجميل وقار، كثير الخشوع، وخصوصاً عند الدهول في الصلاة، تلوح عليه بذلك، عند تلاوته سيمى الحضور، وحلاوة الإقبال. وكان له تحقق بضبط القراءات، والقيام عليها، وعناية بعلم العربية، مع مشاركة في غير ذلك من الفنون السنية، والعلوم الدينية. انتصب للإقراء والتدريس بالحمة المذكورة، فقرب النجعة على أهل الحصون والقرى الشرقية، فصار مجتمعاً لأرباب الطلب من أهل تلك الجهات ومرتفقاتهم. وكان رجلاً صالحاً، مبارك النية، حسن التعليم، نفع الله به من هنالك، وتخرج على يديه جمع وافر من الطلبة، عمرت بهم ساير الحصون. وكان له منزل رحب للقاصدين، ومنتدى عذب للواردين. تجول في آخرة بالأندلس والعدوة، وأخذ عمن لقى بها من العلماء، وأقام مدة بسبتة، مكباً على قراءة القرآن والعربية. وبعد عوده من تجواله لزم التصدر للإقراء بحيث ذكر، وقد كانت الحواضر فقيرة لمثله، غير آنه آثر الوطن، واختار الاقتصارد.
؟

مشيخته
أخذ يألمرية عن شيخها أبى الحسن بن أبى العيش، وبغرناطة عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والعدل أبي الحسن بن مستقور. وببلش عن الأستاذ أبي عبد الله بن الكماد، والخطيب أبي جعفر بن الزيات. وبمالقة عن الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار، والشيخ أبي عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري. وبالجزيرة عن خطيبها أبي العباس بن خميس. وبسبتة عن الأستاذ أبي إسحق العافقي، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد، والإمام الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن حريث، والقاضي أبي عبد الله القرطبي، والزاهد أبي عبد الله بن معلى، الشيخ الخطيب أبي عبد الله العغماري. وبمكناسة عن القاضي وارياش. وبفاس من الحاج الخطيب أبي الربيع سليمان بن مفتاح اللجاي، والأستاذ أبي الحسن بن سليمان، والأستاذ أبي عبد الله بن أجروم الصنهاجي، والحاج أبي القاسم بن رجا ابن محمد بن علي وغيرهم، وكل من ذكر أجازله عامة، ألا قاضي مكناسة أبي عبد الله محمد بن علي الكلبي الشهير بوارياش.
مولده: في أول عام اثنين وثمانين وستماية وفاته: توفي بالحمة ليلة الإثنين الثامن عشر لشهر محرم عام ثمانية وأربعين وسبعماية.
اليتيممحمد بن علي بن محمد العبدري من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف باليتيم
حاله

كان رحمه الله أحد الظرفاء من أهل بلده، مليح الشكل، حسن الشيبة، لوذعياً في وقار، رشيق النظم والنثر، غزلا مع الصون، كثير الدعابة من غير إفحاش، غزير الأدب، حسن الصوت، رايق الخطبن بديع الوراقة، معسول الألفاظ، ممتع المجالسة، طيب العشرة. أدب الصبيان مدة، وعقد الشروط أخرى، وكان يقرأ كتب الحيدث والتفسير والرقايق للعامة بالمسجد الأعظم، بأعذب نغمة، وأمثل طريقة، مذ أزيد من ثلاثين سنة، لم يخل منها وقتاً إلا ليلتين، إحداهما بسبب امتساكناب به في نزهة برياض بعض الطلبة. لم يخلف مثله بعده. وخطب بقصبه مالقة، ومال أخيراً إلى نظر الطب، فكان الناس يميلون اليه، وينتفعون به لسياغ مشاركته، وعموم انقياده، وبره، وعمله على التودد والتجمل.
وجرى ذكره في " التاج المحلى " بما نصه: مجموع أدوات حسان، من خط ونغمة ولسان، أوراقه روض تضوع نسماته، وبشره صبح تتألق قسماته، ولايخفى سماته. يقرطس أغراض الدعابة ويصميها، ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها، فكلما صدرت في عصره قصيدة هازلة، أو أبيات منحطة عن الإجادة نازلة، خمس أبياتها وذيلها، وصرف معانيها وسهلها، وتركها سمر الندمان، وأضحوكة الزمان. وهو الآن خطيب المسجد الأعلى من مالقة، متحل بوقار وسكينة، حال من أهلها بمكانةٍ مكينة، لسهولة جانبه، واتضاح مقاصده في الخير ومذاهبه. ، واشتغل لأول أمره بالتعليم والتكتيب، وبلغ الغاية في الوقار والترتيب، وللشباب لم ينصل خضابه، ولا شلت للمشيب عضابه، ونفسه بالمحاسن كلفة، وشأنه كله هوى ومحبة، ولذلك ماخاطبه به بعض أودايه، وكلاهما رمى أهله بدايه، حسبما يأتي خلال هذا المقول وفي أثنايه بحول الله.
شعرهكتبت إليه أسأل منه ماأثبت في كتاب " التاج " من شعره، فكتب إلى:
أما العرام فلم أخلل بمذهبه ... فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه
يامعرضاً عن فؤادٍ لم يزل كلفاً ... بحبه ذا حذار من تجنبه
قطعت عنه الذي عودته فغدا ... وحظه من رضاه برق خلبه
أيام وصلك مبذول وبرك بي ... مجدد قد صفا لي عذب مشربه
وسمع ودك عن إفك العواذل في ... شغلٍ وبدر الدجى ناسٍ لمغربه
ألأنت تمنعني نيل الرضا كرماً ... ولا فؤادي بوانٍ ف يتطلبه
لله عرفك ماأذكى تنسمه ... لو كنت تمنحني استشاق طيبه
أنت الحبيب الذي لم أتخذ بدلاً ... منه وحاش لقلبي من تقلبه
يا ابن الخطيب الذي قد فقت كل سناً ... أزال عن ناظري إظلام غيهبه
محمد الحسن في خلقٍ وفي خلق ... كملت باسمك معنى الحسن فازه به
نأيت أو غبت مالي عن هواك غنى ... لانيقص البدر حسناً في بتغيبه
سيان حال التداني والبعاد وهل ... لمبصر البدر نيل في ترقبه
يامن أحسن ظنى في رضاه وما ... ينفك يبدى قبيحاً من تغضبه
إن كان ذنبي الهوى فالقلب مني ... لايصغى لسمع ملامٍ من مؤنبه
فأجبته بهذه الرسالة، وهي ظريفة في معناها:

" ياسيدي، الذي إذا رفعت راية ثنايه تلقيتها باليدين، وإذا قسمت سهام وداده على ذوي اعتقاده، كنت صاحب الفريضة والدين، دام بقاؤك لطرفةٍ تبديها، وغريبةٍ تردفها، بأخرى تليها، وعقيلة بيان تحليها ونفس أخذ الحزن بكظمها، وكلف الدهر بشت نظمها، تونسها وتسليها، لم أزل أعزك الله، أشد على بدايعها بد الضنين، وأقتنى درر كلامك، ونفثات أقلامك، اقتناء الدر الثمين، والأيام بلقياك تعد ولا تسعد، وفي هذه الأيام انثالت على سماؤك بعد قحط، وتوالت على آلاوك على شحط، وزارتني من عقايل بيانك كل فاتنة الطرف، عاطرة العرف، رافلةٍ في حلل البيان والظرف، لو ضربت بيوتها بالحجار، لأقرت لنا العرب العاربة بالإعجاز، ماشيت من رصف المبنى، ومطاوعة اللفظ لغرض المعنى، وطيب الأسلوب، والتشبث بالقلوب. غير أن سيدى أفرط في التنزل، وخلط المخاطبة بالتغزل، وراجع الالتفات، ورام استدراك مافات. يرحم الله شاعر المعرة، فلقد أجاد في قوله، وأمكر مناجاةً للشوق، بعد انصرام حوله فقال:
أبعد حولٍ تناجي للشوق ناجية ... هلا ونحن على عشر من العشر
وقد تجاوزت في الأمل، وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصمد، فأقسم بألفات القدود، وهمزات الجفون السود، وحاملى الأرواح مع الألواح، بالغدو والرواح، لولا بعد مزارك، ماأمنت غايلة ماتحت إزارك ثم إني حققت الغرض، وبحثت عن المشكل الذي عرض، فقلت للخواطر انتقال، ولكل مقام مقال، وتختلف الحوايج باختلاف الأوقات، ثم رفع اللبس خبر الثقات.
ومنها: وتعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل ماله، وإن لاحظ الملاحظ ماقال الجاحظ، فاعتراض لا يرد، وقياس لا يضطرد، جبذا والله عيش أهل التاديب، فلا بالضنك ولا بالجديب، معاهدة الإحسان.
ومشاهدة الصور الحسان، يميناً إن المعلمين لسادة المسلمين، وإني لأنظر منهم، كلما خطرت على المكاتب، أمراً فوق المراتب، من كل مسيطرالدرة، متقطب الأسرة، متنمر للوارد تنمر الهرة، يغدو إلى مكتبه، والأمير ف يموكبه، حتى إذا استقل في فرشه، واستولى على عرشه، وترنم بتلاوة قانونه وورشه، أطهر للخلق احتقاراً، وأندى بالجبال وقاراً، ورفعت إليه الخصوم، ووقف بين يديه الظالم والظلوم، فتقول كسرى في إيوانه، والرشيد في زمانه، والحجاج بين أعوانه. وإذا استولى على البدر السرار، وتبين للشهر القرار، وتحرك إلى الخوج، تحرك القرد إلى الفرج. أستغفر الله مما يشق على سيدي سماعه، وتشمئز من ذكراه طباعه، شيم اللسان، خلط الإساءة بالإحسان، والغفلة من صفات الإنسان.
فأي عيش هذا العيش، وكيف حال أمير هذا الجيش، طاعة معروقة، ووجوه إليه مصروفة، فإن أشار بالإنصات، تتحقق الفصات، فكأنما طمس الأفواه، ولام بين الشفاه. وإنه أمر بالإفصاح، وتلاوة الألواح، علا الضجيج والعجيج، وحف به كما حف بالبيت الحجيج. وكم بين ذلك من رشوة تدمن، وغمزة لاتحس، ووعد يستنجز، وحاجةٍ تستعجل وتحفز. هنا الله سيدي ماخوله، وأنساه بطيب آخره أوله. وقد بعثت بدعابتي هذه مع إجلال قدره، والثقة بسعة صدره، فليتلقها بيمينه، ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه، ويفرغ لمراجعتها وقتاً من أوقاته، بمقتضى دينه، وفضل يقينه، والسلام.
ومن شعره ما كتب به إلى:
آيات حسنك حج للقال ... في الحب قايمة على العذال
يا من سبا طوعاً عقول ذوي النهى ... ببلاغةٍ قد أيدت بجمال
يستعبد الأبصار والأسماع ما ... يجلو ويتلو من سنى مقال
وعليك أهواء النفوس بأسرها ... وقفت فطيرك لا يمر ببال
رفعت لريه في البلاغة راية ... لما احتللت بها وحيد كمال
وغدت تباهي منك بالبدر الذي ... تعنو البدور لنوره المتلال
مإذا ترى يا ابن الخطيب لخاطب ... وداً ينافس فيك كل مقال
جذبته نحو هواك غر محاسن ... مشفوعة أفرادها بمعال
وشمايل رقت لرقة طبعها ... فزلالها يزري بكل زلال
وحلى آداب بمثل نفيسها ... تزهو الحلا ويحل قدر الحال

يستخدم الياقوت عند نظامها ... فمقصر من قاسها بلال
سبق الأخير الأولين بفضلها ... فغدا المقدم تابعاً للتال
شغفي بذكر من عقايلها إذا ... تبدو تصان من الحجا بحجال
فابعث بها نلت المنا ممهورة ... طيب الثنا لنقدها والكال
لا زلت شمساً في الفضايل يهتدي ... بسناك في الأفعال والأقوال
ثم السلام عليك يترى ما تلت ... بكر الزمان رواف الآصال
ومن الدعابة، وقد وقعت إليها الإشارة من قبل، ما كتب به إليه صديقه الملاطف أبو علي بن عبد السلام:
أبا عبد الله نداء خل وفي ... جاء يمنحك النصيحة
إلى كم تألف الشبان غياً ... وخذلانا أما تخشى الفضيحة
فأجابه رحمه الله:
فديتك صاحب السمة المليحة ... ومن طابت أرومته الصريحة
ونم قلبي وضعت له محلاً ... فما عنه يحل بأن أزيحه
نأيت فدمع عيني في انسكاب ... وأكباد لفرقتكم قريحة
وطرفي لا يتاح له رقاد ... وهل نوم لأجفان جريحة
وزاد تشوقي أبيات شعر ... أتت منكم بألفاظ فصيحة
ولم تقصد بها جداً ولاكن ... قصدت بها مداعبة قبيحة
فقلت أتألف الشبان غيا ... وخذلانا أما تخشى الفضيحة
وفيهم حرفتي وقوام عيشي ... وأحوالي بخلطتهم نجيحة
وأمري فيهم أمر مطاع ... وأوجههم مصابيح صبيحة
وتعلم أنني رجل حصور ... وتعرف ذاك معرفة صحيحة
قال في التاج: ولما اشتهر المشيب بعارضه ولمته، وخفر الدهر لعمود صباه وإذمته، أقلع واسترجع، وتألم لما فرط وتوجع، وهو الآن من جلة الخطباء، طاهر العرض والثوب، خالص من الشوب، باد عليه قبول قابل التوب.
وفاته رحمه الله: في آخر صفر من عام خمسين وسبعماية في وقيعة الطاعون العام، ودخل غرناطة.
ومن الغرباء في هذا الباب
محمد بن مرزوق العجيسيمحمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي من أهل تلمسان، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين
حالههذا الرجل من طرف دهره ظرفاً وخصوصية ولطافة، مليح التوسل حسن اللقاء، مبذول البشر، كثير التودد، نظيف البزة، لطيف التأتي، خير البيت، طلق الوجه، خلوب اللسان، طيب الحديث، مقدر الألفاظ، عارف بالأبواب، درب على صحبة الملوك والأشراف، متقاض لإيثار السلاطين والأمراء، يسحرهم بخلابة لفظه، ويفتلهم في الذروة والغارب بتنزله، ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه، ويصنع غاشيتهم بتلطفه، ممزوج الدعابة بالوقار، والفكاهة بالنسك، والحشمة بالبسط، عظيم المشاركة لأهل وده، والتعصب لإخوانه، إلف مألوف، كثير الأتباع والعلق، مسخر الرقاع في سبيل الوساطة، مجدي الجاه، غاص المنزل بالطلبة، منقاد الدعوة، بارع الخط، أنيقه، عذب التلاوة، متسع الرواية، مشارك في فنون، من أصول وفروع وتفسير، يكتب ويشعر ويقيد ويؤلف، فلا يعدو السداد في ذلك، فارس منبر غير جزوع ولا هيابة. رحل إلى المشرق في كنف حشمة نم جناب والده رحمه الله، فحج وجاور، ولقي الجلة، ثم فارقة، وقد عرف بالمشرق حقه، وصرف وجهه إلى المغرب، فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره، اشتمالاً خلطه بنفسه، وجعله مفضي سره، وإمام جمعته وخطيب منبره، وأمين رسالته، فقدم في غرضها على الأندلس في أواخر عام ثمانية وأربعين وسبعماية، واجذبه سلطانها رحمه الله، وأجراه على تلك الوتيرة، فقلده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته. وفي أخريات عام أربعة وخمسين بعده أطرف عنه حفن بره، في أسلوب طماح ودالة، وسبيل هوى وقحة، فاغتنم العبرة، وانتهز الفرصة، وأنفذ في الرحيل العزمة، وانصرف عزيز الرحلة، مغبوط المنقلب، في أوايل شعبان عام أربعة وخمسين وسبعماية، فاستقر بباب ملك المغرب، أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محل تجلة، وبساط قرب، مشترك الجاه، مجدي التوسط، ناجع الشفاعة، والله يتولاه ويزيده من فضله.
مشيخته

من كتابه المسمى عجالة المتسوفز المستجاز في ذكر من سمع من المشايخ دون من أجاز، من أئمة المغرب والشام والحجاز. فممن لقيه بالمدينة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام، الإمام العلامة عز الدين محمد أبو الحسن ابن علي بن إسمعيل الواسطي صاحب خطتي الإمامة والخطابة بالمسجد النبوي الكريم، وأفرد جزءاً في مناقبه. ومنهم الشيخ الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السعدي العبادي، تحمل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره. والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم ونائب الإمامة والخطابة به، ومنشد الأمداح النبوية هنالك. وبمكة شرفها الله، الشيخ المعمر الثقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى بن عبد الله الحجي المكي. ولا شيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي. والشيخ مقري الحرم برهان الدين إبراهيم بن مسعود بن إبراهيم الآبلي المصري. والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجة، انتهت إليه الرياسة العلمية والخطط الشرعية بالحرم. والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني قاضي القضاة بمصر. وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي. والتقي السعدي، وقاضي القضاة القزويني، والشرف أقضى القضاة الإخميمي، وكثيرون غيرهم. وسمع من عدد عديد آخر من أعلام القضاة والحفاظ والعلماء بتونس، وبجابة، والزاب، وتلمسان.
محنتهاقتضى الخوض الواقع بين يدي تاميل الأمير أبي الحسن رحمه الله، وتوقع عودة الأمر إليه، وقد ألقاه اليم بالساحل بمدينة الجزاير، أن قبض عليه بتلمسان، أمراؤها المتوثبون عليها في هذه الفترة، من بني زيان، إرضاء لقبيلهم، المتهم بمداخلته، وقد رحل عنهم دسيساً من أميرهم عثمن بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن، فصرف مأخوذاً عليه طريقه، منتهباً رحله، منتهكة حرمته، وأسكن قرارة مطبق عميق القعر، مقفل المسلك، حريز القفل، ثاني اثنين. ولأيام قتل ثانيه ذبحاً بمقربة من شفى تلك الركية، وانقطع لشدة لاثقاف أثره، أيقن الناس بفوات الأمر فيه. ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه، في خبر ينظر بطرقه إلى الكرامة، فنجا ولا تسل كيف، وخلصه الله خلاصاً جميلاً، وقدم على الأندلس، والله ينفعه بمحنته.
شعره وما وقع من المكاتبة بيني وبينهركب مع السلطان خارج الحمراء، أيام ضربت اللوز قبابها البيض، وزينت الفحص العريض، والروض الأريض، فارتجل في ذلك:
أنظر إلى النوار في أغصانه ... يحكى النجوم إذا تبدت في الحلك
حياً أمير المسلمين وقال قد ... عميت بصيرة من بغيرك مثلك
يا يوسفاً حزت الجمال بأسره ... فمحاسن الأيام تومي هيت لك
أنت الذي صعدت به أوصافه ... فيقال فيه ذا مليك أو ملك
ولما قدمت على مدينة فاس في غرض الرسالة، خاطبني بمنزل الشاطبي على مرحلة منها بما نصه:
يا قادماً وافي بكل نجاج ... أبشر بما تلقاه من أفراح
هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها ... تنل المنى وتفز بكل سماح
مغني الإمام أبي عنان يممن ... تظفر ببحر في العلى طفاح
من قاس جود أبي عنان ذي الندى ... بسواه قاس البحر بالضحضاح
ملك يفيض على العفاة نواله ... قبل السوال وقبل بسطة راح
فلجود كعب وابن سعدي في الندى ... ذكر محاه من نداه ماح
ما أن رأيت ولا سمعت بمثله ... من أريحي للندى مرتاح
بسط الأمان على الأنام فأصبحوا ... قد ألحفوا منه بظل جناح
وهمي على العافين سيب نواله ... حتى حكى سح الغمام الساح
فنواله وجلاله وفعاله فاقت ... وأعيت ألسن المداح
وبه الدنا أضحت تروق وأصبحت كل المنى تنقاد بعد جماح
من كان ذا ترح فرؤية وجهه ... متلافة الأحزان والأتراح
فانهض أبا عبد الإله تفز بما ... تبغيه من أمل ونيل نجاح
لا زلت ترتشف الأماني راحة ... من راحة المولى بكل صباح

والحمد لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى حمداً يؤم به جميعنا المقصد الأسنى، فيبلغ الأمد الأقصى، فطالما كان معظم سيدي للأسى في خبال، وللأسف بين اشتغال بال، واشتغال بلبال، ولقدومكم على هذا المقام العلي في ارتقاب، ولمواعدكم بذلك في تحقق وقوعه من غير شك ولا ارتياب، فها أنت تجتلي، من هذا المقام العلي، لتشيعك وجوه المسرات صباحاً، وتتلقى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحاً بحول الله. ولسيدي الفضل في قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه، فهو من بعض ما لدي المحب من إحسان مولاي وإنعامه. ولعمري لقد كان وافداً على سيدي في مستقره مع غيره. فالحمد لله الذي يسر في إيصاله على أفضل أحواله.
فراجعته بقولي:
راحت تذكرني كؤوس الراح ... والقرب يخفض للجنوح جناح
وسرت تدل على القبول كأنما ... دل النسيم على انبلاج صباح
حسناء قد غنيت بحسن صفاتها ... عن دملج وقلادة ووشاح
أمست تحض على اللياذ بمن جرت ... بسعوده الأقلام في الأفراح
بخليفة الله المؤيد فارس ... شمس المعالي الأزهر الوضاح
ما شيت من همم ومن سيم غدت ... كالزهر أو كالزهر في الأدواح
فضل الملوك فليس يدرك شأوه ... أني يقاس الغمر بالضحضاح
أسنى بني عباسهم بلوانه المنصور أو بحسامه السفاح
وغدت مغاني الملك لما حلها ... تزهي ببدر هدى وبحر سماح
وحياة من أهداك تحفة قادم ... في العرف منها راحة الأرواح
ما زلت أجعل ذكره وثناءه ... روحي وريحاني الأريج وراح
ولقد تمازج حبه بجوارحي ... كتمازج الأجسام بالأرواح
ولو أنني أبصرت يوماً في يدي ... أمري لطرت إليه دون جناح
فالأن ساعدني الزمان وأيقنت ... من قربه نفسي بفوز قداح
إيه أبا عبد الإلآه وإنه ... لنداء ود في علاك صراح
أما إذا استنجدتني من بعد ما ... ركدت لما خبت الخطوب رياح
فأليكها مهزولة وأنا امرؤ ... قررت عجزي وأطرحت سلاح

سيدي: أبقاك الله لعهد تحفظه، وولي بعين الولاء تلحظه. وصلتني رقعتك التي ابتدعت، وبالحق من مدح المولى الخليفة صدعت، وألفتني وقد سطت بي الأوحال، حتى كادت تتلف الرحال، والحاجة إلى الغذاء، قد شمرت كشح البطين، وثانية العجماوين قد توقع فوات وقتها، وإن كانت صلاتها صلاة الطين، والفكر قد غاض معينه، وضعف وعلى الله جزاء المولى الذي يعينه، فعزتني بكتيبة بيان أسدها هصور، وعلمها منصور، وألفاظها ليس فيها قصور، ومعانيها عليها الحسن مقصور، واعتراف مثلي بالعجز في المضايق حول ومنة، وقول لا أدري للعالم فكيف لغيره جنة. لا كنها بشرتني بما يقل لمهديه بذل النفوس وإن جلت، وأطلعتني من اسراء على وجه تحسده الشمس إذا تجلت، بما أعلمت به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيده الله، في عبده، وصدق المخيلة في كرم مجده. وهذا هو الجود المحض، والفضل الذي شكره هو الفرض. وتلك الخلافة المولوية تتصف بصفة من يبدأ بالنوال، من قبل الضراعة والسؤال، من غير اعتبار للأسباب، ولا مجازاة للأعمال. نسأل الله أن يبقى منها على الإسلام أوفي الظلال، ويبلغها من فضله أقصى الآمال. ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهدية، والتحفة الودية، وقبلتها امتثالاً، واستجليت منها عتقاً وجمالاً. وسيدي في الوقت أنسب إلى اتخاذ ذلك الجنس، وأقدر على الاستكثار من إناث اليهم والإنس. وأنا ضعيف القدرة، غير مستطيع لذلك إلا في الندرة، فلو رأى سيدي، ورأيه سداد، وقصده فضل ووداد، أن ينقل القضية إلى باب العارية من باب الهبة مع وجوب الحقوق المترتبة، لبسط خاطري وجمعه، وعمل في رفع المؤنة على شاكلة ونجره، وسيدي في الإسعاف على الله أجره، وهذا أمر عرض، وفرض فرض، وعلى نظره المعول، واعتماد إغضائه هو المعقول الأول. والسلام على سيدي من معظم قدره، وملتزم بره، ابن الخطيب، في ليلة الأحد السابع والعشرين لذي قعدة سنة خمسة وخمسين وسبعماية، والسماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان، وظن أنه طوفان، واللحاق في غد بالباب المولوي، مؤمل بحول الله.
ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه، ما أنشد عنه، وبين يديه، في ليلة الميلاد المعظم، من عام ثلاثة وستين وسبعماية بمدينة فاس المحروسة:
أيا نسيم السحر ... بالله بلغ خبر
إن أنت يوماً بالحمى ... جررت فضل المثزر
ثم حثثت الخطو من ... فوق الكثيب الأعفر
مستقرياً في عشبه ... خفى وطئ المطر
تروى عن الضحاك في الروض حديث الزهر
مخلق الأذيال ... بالعبير أو بالعنبر
وصف لجيران الحمى ... وجدي بهم وسهري
وحقهم ما غيرت ... ودي صروف الغير
لله عهد فيه قضيت حميد الأثر
أيامه هي التي أحسبها من عمري
ويا لليل فيه ما ... عيب بغير القصر
العمر فينان ووجه الدهر طلق الغرر
والشمل بالأحباب منظوم كنظم الدرر
صفو من العيش بلا ... شائبة من كدر
ما بين أهل تقطف ... الأنس حنى الثمر
وبين آمال تبيح القرب صافي الغدر
يا شجرات الحي حياك الحيا من شجر
إذا أجال الشوق في ... تلك المغاني فكري
خرجت من خدي حديث الدمع فوق الطرر
وقلت يا خد ارو من ... دمعي صحاح الجوهري
عهدي بحادي الركب ... كالورقاء عند السحر
والعيس تجتاب الفلا ... واليعملات تنبرى
تخبط بالأخفاف مظلوم البرا وهو بري
قد عطفت عن ميد ... والتفت عن حور
قسي سير ما سوى العزم لها من وتر
حتى إذا الأعلام حلست لحفي البشر
واسبتشر النازح بالقرب ونيل الوطر
وعين الميقات للسفر نجاح السفر
والناس بين محرم ... بالحج أو معتمر
لبيك لبيك إله الخلق باري الصور
ولاحت الكعبة بيت الله ذات الأثر
مقام إبراهيم والمأمن عند الذعر
واغتنم القوم طواف القادم المبتدر
وأعقبوا ركعتي السعي استلام الحجر
وعرفوا في عرفات ... كل عرف أذفر
ثم أفاض الناس سعياً في غد للمشعر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10