كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب

خاتمة الحسنين، وبقية الفصحاء اللسنين، ملأ العيون هدياً وسمتاً، وسلك من الوقار طريقة؛ لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، ما شئت من فضل ذات، وبراعة أدوات. إن خط، نزل ابن مقلة عن درجته وإن خط. وإن نظم أو نثر، تبعت البلغاء ذلك الأثر. وإن تكلم أنصت الحفل لاستماعه، وشرع لدرره النفيسة صدق أسماعة. وفد على الأندلس عند كاينة سبتة، وقد طرحت النوى برحاله، وظعن عن ربعه بتوالي إمحاله، ومصرف بلاده، والمستولي على طارفها وتالدها، أبو عبد الله بن الحيكم، قدس الله صداه، وسقى منتداه، فاهتز لقدومه اهتزاز الصارم، وتلقاه تلقي الأكارم، وانهض إلى لقايه آماله، وألقى له قبل الوسادة ماله، ونظمه في سمط الكتاب، وأسلاه عن أعمال الاقتاد، ونزل ذمامه تأكداً في هذه الدولة، وقوفي له الآتية منها على الأول، فتصرف في القضاء بجهاتها، ونادته السيادة هاك وهاتها، فجدد عهد حكامه العدول من سلفه وقضاتها. وله الأدب الذي تحلت بقلايده اللبات والنحور، وقصرت عن جواهره البحور. وسيمر من ذلك في تضاعيف هذا المجموع ما يشهد بسعة ذرعه، ويخبر بكرم عنصره، وطيب نبعه.
مشيختهقرأ على جده لأمه الأستاذ الإمام، أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي، وسمع على الرييس أبي حاتم، وعلى أخيه أبي عبد الله الحسين، وعلى الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، وعلى الشريف أبي علي بن أبي الشرف، وعلى الإمام أبي عبد الله بن حريث. وسمع على العدل أبي فارس عبد العزيز الجزيري. وسمع بحضرة غرناطة على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وعلى العدل أبي الحسن بن مستقور وعلى الوزير أبي محمد بن المؤذن، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد. وبمالقة على الخطيب ولي الله تعالى، أبي عبد الله الطنجالي، وعلى الوزير الصدر أبي عبد الله ابن ربيع، وعلى القاضي العدل أبي عبد الله بن برطال. وبيجاية على الإمام أبي علي ناصر الدين المشذالي، وعلي أبي العباس الإبريني. وبتونس على أبي علي بن علوان، وعلى قاضي الجماعة أبي إسحاق بن عبد الرفيع، وسمع على الخطيب الصوفي ولي الله تعالى، أبي جعفر الزيات، والصوفي أبي عبد الله بن برطال، وعلى الصدر أبي القاسم محمد بن قايد الكلاعي. وأجازه علام كثير من أهل المشرق والمغرب.
؟؟

شعره
وشعره متعدد الأسفار، كثير الأغراض. وفي الإكثار مجلل الإختيار. فمنه قوله:
أخذت بكظم الروح يا ساعة النوى ... وأضرمت في طي الحشى لا عج الجوى
فمن مخبري يا ليت شعري متى اللقا ... وهل تحسن الدنيا وهل يرجع الهوى
سلا كل مشتاق وأكثر وجده ... وعند النوى وجدي وفي ساكن الهوى
ولي نية ما عشت في عهدهم ... إلى يوم ألقاهم وللمرء ما نوى
وقال:
باتوا فمن كان باكياً يبك ... هذي ركاب الشرى بلا شك
فمن ظهور الركاب معملة ... إلى بطون الربى إلى الفلك
تصدع الشمل مثلما انحدرت ... إلى صبوب جواهر السلك
كن بالذي حدثوا على ثقة ... ما في حديث الفراق من إفك
من النوى قبل لم أزل حذراً ... هذا النوى جل من مالك الملك
وقال:
يا أيها المعرض اللاهي ... يسوءني هجرك والله
فيا ليت شعري كم أرى فيك ... لا أقفك عن ويه وعزاه
ويحيى مغيري إلى باخل واه ... من ذا الذي رآه
من يرد الله في فتنة ... يشغله في الدنيا بتياه
يا غصن البان ألا عطفة ... على معني جسمه واه
أو سعني بعدك ذلاً وقدراً ... يثنى عندك ذا جاه
ذكرك لا ينفك عن خاطري ... وأنت عني غافل ساه
يكفيك يا عثمان من جفوني ... لو كان ذنبي ذنب جهجاه
هيهات لا معترض لي على ... حكمك أنت الآمر الناه
قلت جهجاه المشار إليه رجل من غفار قيل إنه تناول عصا الخطبة من يد عثمان رضي الله عنه، فكسرها على ركبته، فوقعت فيها الأكلة فهلك.
وقال:
يا من أعاد صباحي فقده حلكا ... قتلت عبدك لكن لم تخف دركا
مصيبتي ليست كالمصائب لا ... ولا بكائي عليها منث لكل بكا

فمن أطالب في شرع الهوى بدمي ... لحظى ولحظك في قتلي قد اشتركا
وقال، وقد سبقه إليه الرصافي؛ وهو ظريف:
أشكو إلى الله فرط بلبالي ... ولوعة لا تزال تذكى لي
بمهجتي حايك شغلت به ... حلو المعاني طرازه عالي
سألته لثم خاله فأبي ... ومن ذا نخوة وإلال
وقال حالي يصون خالي ... يدني فويحي بالحال والحال
يقربني الآل من مواعده ... وأتقي منه سطوة الآل
لكن على ظلمه وقسوته ... فلست عنه المان بالسالي
وقال أيضاً مضمناً:
لي همة كلما حاولت أمسكها ... على المدلة في أرجاء أرضيها
قالت ألم تكن أرض الله واسعة ... حتى يهاجر عبد مؤمن فيها
وقال مسترجعاً من ذنبه، ومستوحشاً من شيبه:
قد كان عيبي من قبل في غيب ... فمذ بدا شيبي بدا عيبي
لا عذر اليوم ولا حجة ... فضحتني والله يا شيبي
وقال:
أثقلتني الذنوب ويحي وويسي ... ليتني كنت زاهداً كأويس
وجرت بينه وبين السلطان ثالث الأمراء من بين نصر، بعد خلعه من ملكه، وانتثار سلكه، واستقراره بقصبة المنكب، غيباً من قومه، معوضاً بالسهاد من نومه، قد فل الدهر سباته، وتركه يندب ما فاته، والقاضي المترجم به يومئذ، مدبر أحكامها، وعلم أعلامها، ومتولي نقضها، وإيرامها، فارتاح يوماً إلى إيناسه، واجتلاب أدبه والتماسه، وطلب منه أن يعبر عن حاله ببيانه، وينوب في بثه عن لسانه، فكتنب إليه:
قفا نفساً فالخطب فيها يهون ... ولا تعجلا إن الحديث شجون
علمنا الذي قد كان من صرف دهرنا ... وسنا على علم بما سيكون
ذكرنا نعيماً قد تقضى نعيمه ... فأقلقنا شوق له وحنين
وبالأمس كنا كيف شئنا وللدنا ... حراك على أحكامنا وسكون
وإذا بابنا مثوى الفؤاد ونحونا ... تمد رقاب أو تشير عيون
فنغص من ذاك السرور مهنأ ... وكدر من ذاك النعمي معين
ونبا عن الأوطان بين ضرورة ... وقد يقرب الإنسان ثم يبين
أيا معهد الإسعاد حييت معهداً ... وجادك من سكب الغمام هتون
تريد الليالي أن تهين مكاننا ... رويدك إن الخير ليس يهون
فإن تكن الأيام قد لعبت بنا ... ودارت علينا للخطوب فنون
فمن عادة الأيام ذل كرامها ... ولكن سبيل الصابرين مبين
لئن خاننا الدهر الذي كان عبدنا ... فلا عجب إن العبيد تخون
وما غض منا مخبرى غير أنه ... تضاعف إيمان وزاد يقين
وكتب إلى الحكم بن مسعود، وهو شاهد المواريث بهذه الدعابة التي تستخف الوقور، وتلج السمع الموقور:

أطال الله بقاء أخي وسيدي، لأهل الفرايض، يحسن الاحتيال في مداراتهم، وللمنتقلين إلى الدار الآخرة يأمر بالاحتياط في أمواتهم، ودامت أقلامه مشرعة لصرم الأجل المنسأ، معدة لتحليل هذا الصنف المنشأ من الصلصال والحمأ. فمن ميت يغسل وآخر يقبر، ومن أجل يطوى، وكفن ينشر، ومن رمس يفتح، وباب يغلق. ومن عاصب يحبس، ونعش يطلق. فكلما خربت ساحة، نشأت في الحانوت راحة. وكلما قامت في شعب مناحة، اتسعت للرزق مساحة. فيباكر سيدي الحانوت، وقد احتسى مرقته، وسهل عنقفته، فيرى الصعبة بالمناصب شطراً. فيلحظ هذا برفق، وينظر إلى هذا شزراً. ويأمر بشق الجيوب تارة، والبحث عن الأوساط أخرى. ثم يأخذ القلم أخذاً رفيقاً. ويقول وقد خامره السرور، رحم الله فلاناً، لقد كان لنا صديقاً، وربما أدبره بالانزعاج الحثيث، وقال مستريح منه كما جاء في الحديث. وتختلف عند ذلك المراتب، وتتبين الأصدقاء والأجانب، فينصرف هذا، وحظه التهذيب، والنظر الحديد، وينفصل هذا، وبين يديه المنذر الصيت، والنعش الجديد. ثم يغشى دار الميت ويسل عن الكيت والكيت، ويقول علي بما في البيت. أين دعاء الثاغبة والراغية. أين عقود الأملاد بالبادية. وقد كانت لهذا الرجل حالاً في حال. وقد ذكر في الأسماء الخمسة فقيل ذو مال. وعيون الأعوان ترنوا من عل، وأعناقهم تشريب إلى خلف الكلل، وأرجلهم تدب إلى الأسفاط دبيب الصقور إلى الحجل. والموتى قد وجبت منهم الجنوب، وحضر الموروث والمكسوب. وقيد المطعوم والمشروب. وعدت الصحاح. ووزنت الأرطال، وكيلت الأقداح. والشهود يغلظون على الورثة في الشالية ويصونهم بالبتات في النشأة الأولية. والروائح حين تفعم الأرض طيباً، وتهدي الأرواح شذاً يفعل في إزعاجها على الأبدان فعلاً عجيباً. والدلال يقول هذا مفتاح الباب. والسمسار يصيح قام الندا فما نتنظرون بالثبات. والشاهد يصيح فتعلوا صيحته، والمشرف يشرب فتسقط سبحته. والمحتضر يهس ألا حي فلا تسمعون ويباهي لون العباء عليه الجواب رب أرجعون. ما هذا النشيج والضجيج. مت كلا لم أمت. ومن حج له الحجيج. فترتفع له الأصوات، كي لا يفسح فيه الممات. ويبقر بطنه برغمه، ويحفر له بجانب أبيه وبحذا أمه. ثم يشرع في نفسه الفرض، ولو أكفئت السوات على الأرض. ويقال لأهل السهام، أحسنوا، فالإحسان ثالث مراتب الإسلام. وقد نص ابن القاسم على أجرة القاسم. وسوغه أصبغ وسحنون، ولم يختلف فيه مطرف وابن الماجشون. إن قيل إيصال الحقائق إلى أرجايها، حسن فجزاه الإحسان إحسان. وقيل إخرج النسب والكسور كفاية، فللكاهنين حلوان. اللهم غفراً، ونستقيل الله من انبساط يجر غدراً، ونسل الله حمداً يوجب المزيد من نعمايه وشكراً. ولولا أن أغفل عن الخصم، وأثقل رحل الفقيه أبي النجم، لأستغلن المجلس شرحاً، ولكان لنا في بحر المباسطة سبح، ولأفضنا في ذكر الوارث والوراث. وبينا العلة في أقسام الشهود، مع المشتغل بنسبة الذكور مع الأناث. والله يصل عز أخي ومجده، ويهب له قوة تخصه بالفايدة، وجدهن ويزيده بصيرة يتبع بها الحقوق إلى أقصاها، وبصراً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ودام يحصى الخراريب والفلوس والأطمار، ويملأ الطوامر بأقلامه البديعة الصنعة، ويصل الطومار بالطومار والسلام.
والشيء بالشيء يذكر، قلت، ومن أظرف ما وقعت عليه في هذا المعنى. قال بعض كتاب الدولة الحكمية بمنورقة، وقد ولاه خطة المواريث، وكتب إليه راغباً في الإعفاء:
وما نلت من شغل المواريث رقعة سوى شرح نعش كلما مات ميت
وأكتب للأموات صكاً كأنهم ... يخاف عليهم في الجباب التفلت
كأني لعزرائيل صرت ماقضاً ... بما هو يمحو كل يوم وأثبت
وقال، فاستظرفها الرييس أبو عثمان بن حكم وأعفاه.
مولده: في أواخر أربعة وسبعين وستماية.
وفاتهقال في العايد، ومضى لسبيله، شهاباً من شهب هذا الأفق، وبقية من بقايا حلبة السبق، رحمه الله، في ليلة السبت الثاني من شهر شعبان المكرم عام سبعة وأربعين وسبعماية، وتخلف وقراً لم يشتمل على شيء من الكتب، لإيثاره اقتناء النقدين، وعين جراية لمن يتلو كتاب الله على قبره على حد من التعزرة والمحافظة على الإتقان. ودفن بباب إلبيرة في دار اتخذها لذلك.
محمد بن أحمد بن قطبة الدوسيمن أهل غرناطة، يكنى أبا القاسم.

حاله
مجموع خلال بارعة، وأوصاف كاملة، حسن الخط، ذاكر للتاريخ والأخبار، مستول على خصال حميدة من حسن رواء وسلامة صدر، إلى نزاهة الهمة، وإرسال السجية، والبعد عن المصانعة، والتحلي بالوقار والحشمة، شاعر، كاتب. ومناقبه يقصر عنها الكثير من أبناء جنسه، كالفروسية، والتجند، والبسالة، والرماية، والسباحة، والشطرنج، متحمد بحمل القنا، مع البراعة، مديم على المروءة، مواس للمحاويج من معارفه. ارتسم في الديوان فظهر غناؤه، وانتقل إلى الكتابة، معززة بالخطط النبيهة العلمية، وحاله الموصوفة متصلة إلى هذا العهد، وهو معدود من حسنات قطره.
وثبت في التاج المحلى بما نصه: سابق ركض المحلى، أتى من أدواته بالعجايب، وأصبح صدراً في الكتاب، وشهماً في الكتايب. وكان أبوه رحمه الله، بهذه البلدة، قطب أفلاكها، وواسطة أسلاكها، ومؤتمن روسايها وأملاكها، وصدر رجالها، وولي أرباب مجالها، قد نثل ابنه سهامها، فخبر عدالة وبراعة وفهماً، وألقاه بينهم قاضياً شهماً، فظهر منه نجيباً، ودعاه إلى الجهاد سميعاً مجيباً، فصحب السرايا الغريبة المغيرة، وحضر على هذا العهد من الوقايع الصغرة والكبيرة، وعلى مصاحبة البعوث، وجوب السهول والوعوث، فما رفض اليراعة الباتر، ولا ترك الدفاتر للزمان الفاتر.
شعرهوله أدب بارع المقاصد قاعد للإجادة بالمراصد، وقال من الروضيات وما في معناها:
ِدعيني ومطلول الرياض فإنني ... أنادم في بطحايها الآس والوردا
أعلل هذا بخضرة شارب ... وأحكي بهذا في تورده الخدا
وأزهر غض البان رايد نسبة ... ذكرت به لين المعاطف والقدا
وقال:
يومنا يوم سرور فلتقم ... تصدع الهم بكاسات المدام
إنما الدنيا منام فلتكن ... مغرماً فيها بأحلى المنام
وقال:
وبي منك ما لو كان للشرب ماصحاً ... وبالهيم ماروت صداها المناهل
أحبك ما هبت من الروض نسمة ... وما اهتز غصن في الحديقة مايل
فإن شئت أن تهجر وإن شئت فلتقبل فإني لما حملتني اليوم حامل
وقال:
كم قلت للبدر المنير إذ بدا ... هيهات وجه فلانة تحكي لنا
فأجابني بلسان حال واعتنى ... لا الشمس تحكيها فأحكيها أنا
وصرفت وجهي نحو غصن أملد ... قد رام يشبه قدها لما انثنا
فضحكت هزءاً عند هز قوامها ... إذا رام أن يحكى قواماً كالقنا
وكتب إليه في غرض يظهر من الأبيات:
جوانحنا نحو اللقاء جوانح ... ومقدار ما بين الديار قريب
وتمضي الليالي والتزاور معوز ... على الرغم منا وإن ذا لغريب
فديتك عجلها لعيني زيارة ... ولو مثل ما رد اللحاظ مريب
وإن لقائي جل عن ضرب موعد ... لأكرم ما يهدي الأريب أريب
فراجعني بقوله، والتجني شيمة:
لعمرك ما يومي إذا كنت حاضراً ... سوى يوم صب من عداه يغيب
أزور فلا ألفي لديك بشاشة ... فيبعد مني الخطو وهو قريب
فلا ذنب للأيام في البعد بيننا ... فإني لداعي القرب منك مجيب
وإن لقاء جاء من غير موعد ... ليحسن لاكن مرة ويطيب
وإجسانة كثير، وفيما ثبت كفاية ليلا نخرج عن غرض الاختصار.
محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدوسييكنى محمد أبا بكر، أخو الذي قبله.
حاله

تلوه في الفضل والسراوة، وحسن الصورة ونصاعة الطرف مرب عليه بمزيد من البشاشة والتنزل، وبذل التودد، والتبريز في ميدان الانقطاع، متأخر عنه في بعض خلال غير هذا. ذكي الذهن، مليح الكتابة، سهلها، جيد العبارة متأتي اليراع، مطلق اليد، حسن الخط، سريع بديهة المنثور، معم، مخول في التخصص والعدالة. كتب الشروط بين يدي أبيه، ونسخ كثيراً من أمهات الفقه، واستظهر كتباً، من ذلك المقامات الحريرية. وكتب بالدار السلطانية، واختص بالمراجعة عمن بها، والمفاتحة أيام حركات السلطان عنها إلى غيرها. حميد السيرة، حسن الوساطة، نجدي الجاه، مشكور التصرف، خفيف الوطأة. وولي الخطابة العلية. مع الاستمساك بالكتابة. ولم يؤثر عنه الشعر، ولا عول عليه.
محمد بن محمد بن محمد بن قطبة الدوسييكنى أبا بكر، وقد ذكرنا أباه وعمه، ويأتي ذكر جده.
حالهنبيل المقاصد في الفن الأدبي، مشغول به، مفتوح من الله عليه فيه شاعر مطبوع مكثر انقاد له مركب النظم، في سن المراهقة، واشتهر بالإجادة، وأنشد السلطان، وأخذ الصلة، وارتسم لهذا العهد في الكتابة. وشرع في تأليف يشتمل على أدباء عصره.
شعرهومما خاطب به أحد أصحابه:
إذا شمت من نحو الحمى في الدجا برقا ... أبي الدمع إلا أن يسيل ولا يرقى
ومهما تذكرت الزمان الذي مضى ... تقطعت الأحشاء من حر ما ألقى
خليلي لا تجزع لمحل فأدمعي ... تبادر سقياً في الهوى لمن استسقى
وما ضر من أصبحت ملك يمينه ... إذا رق لي يوما وقد حازني رقا
فنيت به عشقا وإن قال حاسد ... أضل الورى من مات في هاجر شقا
تلهب قلبي من تلهب خده ... فيا نعم ذاك الخد فاض بأن أشقى
ومنها:
وكم من صديق كنت أحسب أنه ... إذا كذبت أوهامنا رفع الصدقا
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدوسيابن عم المذكورين قبله، يكنى أبا القاسم.
حالهحسن الصورة، لازم القراءة على شيوخ بلده، ونظم الشعر على الحداثة، وترشح للكتب بالدار السلطانية مع الجماعة، ممن هو في نظمه.
ومن شعره، كتب إلي بما نصه:
أحسب وحده يوم رأسك ربما ... تعطى السلامة في الصراع سلماً
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدوسيأخو الفقيه أبي بكر بن القاسم بن محمد المذكور
حالهشاب حسن فاضل، دمث، متخلق، جميل الصورة، حسن الشكل، أحمر الوجنتين. حفظ كتبا من المبادي النحوية، وكتب خطا حسنا، وارتسم في ديوان الجند مثل والده، وهو الآن بحاله الموصوفة.
شعرهقيد أخوه لي من الشعر الذي زعم أنه من نظمه، قوله:
حلفت بمن ذاد عني الكرى ... وأسهر جفني ليلاً طويلا
وألبس جسمي ثياب النحول ... وعذب بالهجر قلبي العليلا
ما حلت عن وده ساعة ... ولا اعتضت منه سواه بديلا
ابن جزى الكلبيمحمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى ابن عبد الرحمن بن يوسف بن جزى الكلبي، من أهل غرناطة وأعيانها، يكنى أبا عبد الله.
أوليتهتنظر في اسم أبيه في ترجمة المقريين والعلماء.
حالهمن أعلام الشهرة على الفتاوة. وانتشار الذكر على الحداثة. تبريزاً في الأدب، واضطلاعا بمعاناة الشعر، وإتقان الخط، وإيضاحاً للأحاجي والملغزات. نشأ بغرناطة في كنف والده رحمه الله، مقصور التدريب عليه، مشاراً إليه في ثقوب الذهن؛ وسعة الحفظ، ينطوي على نبل لا يظهر أثره على التفاتة، وإدراك، تغطجي شعلته مخيلة غير صادقة، من تغافله. ثم جاش طبعه، وفهق حوضه، وتفجرت ينابيعه، وتوقد إحسانه.

ولما فقد والده، رحمه الله، ارتسم في الكتابة، فبذ جلة الشعراء، إكثارا واقتدارا، ووفور مادة، مجيدا في الأمداح، عجيباً في الأوضاع، صديقاً في النسيب، مطبوعا في المقطوعات، معتدلا في الكتابة، نشيط البنان، جلداً على العمل، سيال المجاز، جموح عنان الدعابة، غزلا، مؤثرا للفكاهة، انتقل إلى المغرب لشفوف خصله، على ما قد قصم الحظوظ. سبحانه من رزقه بهذه البلاد. فاستقر بباب ملكه. مرعى الجناح، أثير الرتبة. مطلق الجراية، مقرر السهام، معتبا وطنه راضيا عن جيرته. ديدن من يستند إلى قديم، ويتحيز إلى أصالة.
تواليفهأخبرني عند لقايه أياي بمدينة فاس في غرض الرسالة، عام خمس وخمسين وسبعماية، أنه شرع في تأليف تاريخ غرناطة، ذاهباً هذا المذهب، الذي انتدبت إليه، ووقفت على أجزاء منه تشهد باضطلاعه، وقيد بخطه من الأجزاء الحديثة والفوايد والأشعار ما يفوت الوصف، ويفوق الحد. وجرى ذكره في التاج بما نصه: شمس في البلاغة بازغة، وحجة على بقاء الفطرة الغريزية في هذه البلاد الغربية بالغة، وفريدة وقت أصاب من فيها نادرة أو نابغة، من جذع ابن علي القادح، وجرى من المعرفة كل بارح، لو تعلقت الغوامض بالثريا لنالها، وقال أنا لها. وربما غلبت الغفلة على ظاهره، وتنطفق أكمامها على أزاهره، حتى إذا قدح في الأدب زنده، تقدم المواكب بنده، إلى خط بارع، يعنو طوال الطويل منه إلى سر وبراعة، كما ترضى المسك والكافور عن طرس وحبر.
شعرهفمن غرامياته وما في معناها قوله:
متى يتلاقى شايق ومشوق ... ويصبح عير الحب وهو طليق
أما أنها أمنية عز نيلها ... ومرمى لعمري في الرجا سحيق
ولكني خدعت قلبي تعلة ... أخاف انصداع القلب فهو رقيق
وقد يرزق الإنسان من بعد يأسه ... وروض الربى بعد الذبول يروق
تباعدت لما زادني القرب لوعة ... لعل فؤادي من جواه يفيق
ورمت شفاء الداء بالداء مثله ... وإني بألا أشتفي لحقيق
وتالله ما للصب في الحب راحة ... على كل حال إنه لمشوق
ويا رب قد ضاقت علي مسالكي ... فها أنا في بحر الغرام غريق
ولا سلوة ترجى ولا صبر ممكن ... وليس إلى وصل الحبيب طريق
ولا الحب عن تعذيب قلبي ينثني ... ولا القلب للتعذيب منه يطيق
شجمن يضق الصدر عن زفراتها ... وشوق نطاق الصبر عنه يضيق
نثرت عقود الدمع ثم نظمتها ... قريضاً فذا در وذاك عقيق
بكيت أسى حتى بكى حاسدي معي ... كأن عذولي عاد وهو صديق
ولو أن عند الناس بعض محبتي ... لما كان يلقى في الأنام مفيق
أيا عين كفى الدمع ما بقى الكرى ... إذا منعوك النوم سوف تذوق
ويا نايماً عن ناظري أما ترى ... لشمسك من بعد الغروب شروق
رويدك رفقاً بالفؤاد فإنه ... عليك وإن عاديته لشفيق
نقضت عهودي ظالما بعد عقدها ... إلا إن عهدي كيف كنت وثيق
كتمتك حبي يعلم الله مدة ... وبين ضلوعي من هواك حريق
فما زلت بي حتى فضحت فإن أكن ... صبرت بعد اليوم لست أطيق
وقال:
ومورد الوجنات معسول اللمى ... فتاك بلحظ العين في عشاقه
الخمر بين لثاته والزهر في ... وجناته والسحر في أحداقه
ينادي غصن البان في أثوابه ... ويلوح بدر التم في أطواقه
من للهلاك بثغره أو خده ... هب أنه يحكيه في إشراقه
ولقد تشبهت الظبا بشبهة ... من خلقه وعجزن عن أخلاقه
نادمته وسناً محياً الشمس قد ... ألقى على الآفاق فضل رواقه
في روضة ضحكت ثغور أقاحها ... وأمال فيها المزن من آماقه
أسقيه كأس سلافة كالمسك في ... نفحاته والشهد عند مذاقه

صفراء لم يدر الفتى أكواسها ... إلا تداعى همه لفراقه
ولقد تلين الصخر من سطواته ... فيعود للمعهود من أشفاقه
وأظل أرشف من سلافة ثغره ... خمراً تداوي القلب من إحراقه
ولربما عطقته عندي نشوة ... فشقى الخيال بضمه وعناقه
أرجو نداه إذا تبسم ضاحكا ... وأخاف منه العتب في إطراقه
أشكو القساوة من هواى وقلبه ... والضعف من جلدي ومن ميثاقه
يا هل لعهد قد مضى من عودة ... أم لا سبيل بحالة للحاقه
يا ليت شعري لو كانت لذلك حيلة ... أو كان يعطى المرء باستحقاقه
فلقد يروق الغصن بعد ذبوله ... ويتم بدر التم بعد محاقه
ومما اشتهر عنه في هذا الغرض:
ذهبت حشاشة قلبي الصدوع ... بين السلام ووقفه التوديع
ما أنصف الأحباب يوم وداعهم ... صباً يحدث نفسه برجوع
أتجد بغيثك يا غمام فإنني ... لم أرض يوم البين قل دموع
من كان يبكي الظاعنين بأدمع ... فأنا الذي أبكيهم بنجيع
إيه وبين الصدر منى والحشا ... شجن طويت على شجاه ضلوع
هات الحديث عن الذين تحملوا ... واقدح بزند الذكر نار ولوع
عندي شجون في التي جنت النوى ... أشكو الغداة وهن في توديع
ليت الذي بيني وبين صبابتي ... بعد الذي بيني وبين هجوع
يا قلب لا تجزع لما فعل النوى ... فالحر ليس لحادث بجزوع
أبعد ما غودرت في أشراكه ... تبغي النزوع ولات حين نزوع
ومهفهف مهما هبت ريح الصبا ... أبدت له عطفاه عطف مطيع
جمع المحاسن وهو منفرد بها ... فاعدب لحسن مفرد مجموع
والشمس لولا إذنه ما آذنت ... خجلا وإجلالاً له مطلوع
ما زلت أسقى خده من أدمعي ... حتى تفتح عن رياض ربيع
إن كان يرنو عن نواظر شادن ... فلرب ضرغام بهن صريع
عجباً لذاك الشعر زاد بفرقه ... حسنا كحسن الشعر بالتصريع
منع الكرى ظلما وقد منع الصفا ... فشقيت بالممنوح والممنوع
جردت ثوب العز عني طائعاً ... أتراه يعطفه على خضوع
لم أنتفع لبسا من الملبوس في ... حبي ولا بعذارى المخلوع
بجماله استشفعت في إجماله ... ليحوز أجر منعم وشفيع
يا خادعي عن سلوتي وتصبري ... لولا الهوى ما كنت بالمخدوع
أوسعتني بعد الوصال تفرقا ... وأثبتني سوءاً لحين صنيع
أسرعت فيما ترتضي فجزيتني ... بطويل هجران إلى سريع
أشرعت رمحا من قوامك دايلاً ... فمنعت من ماء الرضاب شروعي
خذ من حيث تولعي وتولهي ... خبراً صحيحاً ليس بالمصنوع
يرويه خدي مسندا عن أدمعي ... عن مقلتي عن قلبي المصدوع
كم من ليال في هواك قطعتها ... وأنا لذكراهن في تقطيع
لا والذي طبع الكرام على الهوى ... وبر سوا أن الهوى المطبوع
ما عيرتني الحادثات ولم أكن ... بمذيع سر للعهود مضيع
لا خير في الدنيا وساكنها معا ... إن كان قلبي منك غير جميع
وقال في غير ذلك في غرض يظهر من الأبيات:
وقالوا عداك البخت والحزم عندما ... غدوت غريب الدار منزلك الفنت
ألم يعلموا أن اغترابي حرامة ... وأن ارتحالي عن دارهم هو البخت
نعم لست أرضى عن زماني أو أرى ... تهادي السفن المواخر والبخت
لقد سيمت نفسي المقام ببلدة بها العيشة النكراء والمكسب السحت

يذل بها الحر الشريف لعبده ... ويجفوه بين السمت من سنة ست
إذا اصطافها المرء اشتكى من سمومها ... أذى ويرى فيه أداً يبت
ولست كقوم في تعصبهم عتوا ... يقولون بغداد لغرناطة أخت
رغبت بنفسي أن اساكن معشراً ... مقالهم زور وودهم مقت
يدسون في لين الكلام دواهياً ... هي السم بالآل المشود لهالت
فلا در در القوم إلا عصيبة ... إلي بإخلاص المودة قد متوا
وآثرت أقواماً حمدت جوارهم ... مقالهم صدق وودهم بحت
لهم عين عيان الفاحشات إذا بدت ... تعام وعن ما ليس يعينهم صمت
فما ألفوا لهوا ولا عرفوا خنى ... ولا علموا أن الكروم لها بنت
به كل مرتاح إلى الضيف والوغى ... إذا ما أتاه منهما النبأ البغت
وأشعث ذي طمرين أغناه زهده ... فلم يتشوف للذي ضمه التخت
صبور على الإيذاء بغيض على العدا ... معين على ما يتقي جاشه الشت
ولي صاحب مثلي يمان جعلته ... جليسي نهاراً أو ضجيعي إذا بت
وأجرد جرار الأعنة فارح ... كميت وخير الخيل قداحها الكمت
نسامت به الأعراق في آل أعوج ... ولا عوج في الخلق منه ولا أمت
وحسبي لعضات النوائب منجدا عليها الكميت الهند والصارم الصلت
قطعت زماني خبرة وبلوته ... فبالغدر والتخفيف عندي له نعت
ومارست أبناء الزمان مباحثا ... فأصبح حبلي منهم وهو منبث
وذي صلف يمشي الهوينا ترفقا ... على نفسه كيلا يزايلها السمت
إذا غبت فهو المروة القوم عندهم ... له الصدر من ناديهم وله الدست
وإن ضمني يوما وإياه مشهد ... هو المعجم السكيت والعمة الشخت
فحسبي عداتي أن طويت مآربي ... على عزمهم حتى صفا لهم الوقت
وقلت لدنياهم إذا شئت فاغربي ... وكنت متى أعزم فقلبي هو البت
وأغضيت عن زلاتهم غير عاجز ... فماذا الذي يبغونه لهم الكبت
وقال:
لا تعد ضيفك إن ذهبت لصاحب ... تعتده لكن تخير وانتق
أو ما ترى الأشجار مهمار كبت ... إن خولفت أصنافها لم تغلق
ومنه في المقطوعات:
وشادن تيمنى حبه ... حظى منه الدهر هجرانه
ورد الخدين حلو اللمى ... أحمر مضني الطرف وسنانه
لم تنطو الأغصان في الروض بل ... ضلت له نسجد أغصانه
يا أيها الظبي الذي قلبه ... تضرم في القلب نيرانه
هل عطفة ترجى لصب شبح ... ليس يرجى عنك سلوانه
يود أن لو زرته في الكرى ... لو متعت بالنوم أجفانه
قد رام أن يكتب ما نابه ... والحب لا يمكن كتمانه
فأفضيت أسراره واستوى ... إسراره الآن وإعلانه
وقال:
نهار وجه وليل شعر ... بينهما الشوق يستثار
قد طلبا بالهوى فؤادي ... فأين لي عنهما الفرار
وكيف يبغى النجاة شيء ... يطلبه الليل والنهار
وقال في الدوبيت:
زارت ليلا وأطلعت فجرها ... صبحاً فجمعت بين صبح وظلام
لما بصرت بالشمس قالت يا فتى ... جمع الإنسان بين الأختين حرام
وقال في غرض التورية:
أبح لي في رياض المحاسن نظرة ... إلى ورد ذاك الخد أروى به الصدى
وبالله لا تبخل علي بعطفة ... فإني رأيت الروض يوصف بالندا
وقال:
وعاشق صلى ومحرابه ... وجه عزال ظل يهواه
قالوا تعبد فقلت نعم ... تعبداً يفهم معناه
وقال هو مليح جداً:
وصديق شكى بما حملوه ... من قضاء يقضى بطول العناء

قلت فاردد ما حملوك عليهم ... قال من يستطع رد القضاء
لسانان هجيا من خاصماه ... لسان الفتى ولسان القضاء
إذا لم تحز واحداً منهما ... فلست أرى لك أن تنطقا
وقال:
تلك الذؤابة ذبت من شوقي لها ... واللحظ يحميها بأي سلاح
يا قلب فانجح لا إخال ناجياً ... من فتنة الجعدي والسفاح
وإحسانه كثير. ويدل بعض الشيء على كله. ويحجر طل الغيث على وبله.
وفاتهاتصل بنا خبر وفاته بفاس مبطوناً في أوايل ثمانية وخمسين وسبعماية. ثم تحققت أن ذلك في آخر شوال من العام قبله.
ابن الحكيم اللخميمحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم ابن يحيى بن محمد بن الحكيم اللخمي، يكنى أبا القاسم.
حالهمن كتاب عائد الصلة: فرع دوحة الأصالة والخصوصية، والعلم والدين، والمكانة والجلالة، مجلي بيته. ومجدد مآثره براً، ومجاملة، وخيرية. نشأ بأطراف جملته من الفنون، من حساب وفريضة وأدب وقراءة ووثيقة، إلى خط حسن، وأدب تكفله، حتى انقاد له أو كاد. أعبط في وقيعة الطاعون قاضياً ببعض الجهات. وكاتباً للدار السلطانية، فكانت فيه الفجيعة عظيمة.
وجرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: من فروع مجد وجلالة، ورث الفضل لا عن كلالة. أشرف، مجيد، معظم، مخول في العشيؤة، وصل لباب المجد بفرايد الخلال الأثيرة، وأصبح طرفاً في الخير والعفاف، واتصف من العدالة بأحسن اتصاف، وسلك من سنن سلفه، أثر هذا، لا يزال يرشده ويدله، ويسدده فيما يعقده أو يحله، واتسم بميسم الحيا، والحيا خير كله، إلى نزاهة لا ترضي بالدون، ونجابة تتهالك في صون الفنون. وطمح في هذا العهد إلى نمط في البلاغعة رفيع، وجنح إلى مساجلة ما يستحسنه من مخترع وبديع، وصدرت منه طرف تستملح، وتستحلي إذا استحلى. ونحن نورد ما أمكن من آياته، ونجلي بعض غرره وشياته.
شعرهومن مقطوعات آياته:
وهبت فهزت عند ما رأت به ... الطلا مثل الطفل يرضع في المهد
والروض حياه المزن خلعة برقة ... وباتت رباه من حباه على وعد
يحدثنا عن كرمها ما من مزنها ... فتبدي ابتسام الزهر في لثمة الخد
عجبنا لما رأينا من برها ... بدور حباب الكأس تلعب بالنرد
وقال:
شربنا وزبحى الدياجي موقد ... مصابيح من زهر النجوم الطوالع
عقاراً رأته حين أقبل حالكاً ... فجاءت بمصفر من اللون فاقع
عجبت لها ترتاع منه وإنها ... لفي الفرقد قرت لدم المدامع
وقال:
لاح في الدر العقيق فحيا ... أم مزاج أداه صرف المحيا
من بنات الكروم والروم بكرا ... أقبلت ترتدي حياً يهيا
خلتها والحباب يطفو عليها ... شفقاً فوقه نجوم الثريا
قهوة كالعروس في الكأس تجلى ... صاغ من لؤلئها المزج حليا
وقال:
ويوم أنس صقيل الجو ذي نظر ... كأنه من وميض البرق قد خلقا
ما زلت فيه لشمس الطست مصطحباً ... وبالنجوم وبالأكواس مغتبقا
صفراء كالعسجد المسبسوك إن ... شربت تبدي احمراراً على الخدين مؤتلقا
كذلك الشمس في أخرى عشيتها ... إذا توارت أثارت بعدهها شفقا
وقال:
بنفسي حبيب صال عامل قده ... علي ولما ينعطف وهو كالغصن
ويا عدباً منه متى صار ذابلا ... ونضرته تنار عن حوطة اللدن
وأعجب من ذا أن سيف لحاظه ... يمزق أفلاذ الحشى وهو في الجفن
وقال:
يأبى وغير أبي غزال نافر ... بين الجوانح يغتدي ويروح
قمر تلألأ واستنار حبيبه ... غارت به بين الكواكب بوح
لم يرض غير القلب منزلة فهل ... يا ليت شعري بالذراع يلوح
ومما نسب لنفسه وأنشدنيه:
ليل الشاب انجاب أول وهلة ... عن صبح شيب لست عنه براض
إن سرني يوماً سواد خضابه ... فنصوله عن ساق ببياض

هلا اختفى فهو الذي سرق الصبا ... والقطع في السرقات أمر ماض
فعليه ما استطاع الظهور بلمتي ... وعلي أن ألقاه بالمقراض
وفاتهتوفي رحمه الله بغرناطة في السابع عشر شهر ربيع الآخر عام خمسين وسبعمائة، في وقيعة الطاعون، ودفن بباب إلبيرة رحمة الله عليه.
ابن محمد اللوشي اليحصبيمحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن علي ابن محمد اللوشي اليحصبي، يكنى أبا عبد الله ويعرف باللوشي
أوليتهمن لوشة. وقرأ العلم بها، وتعرف بالسلطان الغالب بالله محمد قبل تصير الملك له وتقدم عنده. تضمن ذكره الكتاب المسمى بطرفة العصر في أخبار بني نصر، وتقرر ذلك في حرف الحاء في اسم أبي عمر اللوشي، كاتب الدولة النصرية رحمه الله.
حالهمن كتاب عايد الصلة. كان رحمه الله من أهل الحسب والأصالة، شاعراً، مداحا. نشأ مدللاً في حجور الدولة النصرية، خفيفاً على أبوابها، مفضلاً على مداحها. ثم تجنى بآخره، ولزم طوراً من الخمول في غير تشك، أعرض به عن أرباب الدنيا، وأعرض عنه، واقتصر على تبلغ من علالة مؤمل كان له خارج غرناطة غير مساد من ثلمه، ولا مصلح في خلله، أخذ نفسه بالتقشف، وسوء المسكن، والتهاون بالملبس، حملا عليها في غير أبواب الرياضة، مجانباً أرباب الخطط، وفياً لمن لحقته من السلطان موجدة، تختلف معاملته لمن يعرفه في اليوم مرات، من إعراض عنه، وقبول عليه، ولصوق به، كل ذلك عن سلامة، وتهيب نفس. مليح الدعابة، ذاكرا لفنون من الأناشيد، حسن الجد، متجافياً عن الأعراض.
ودرى ذكره في التاج بما نصه: شاعر مفلق، وشهاب في أفق البلاغة متألق، طبق مفاصل الكلام بحسام لسانه، وقلد نحور الكلام، ما يزري بجواهر الملوك من إحسانه. ونشأ في حجور الدولة النصرية مدللاً بمتاته، متقلباً من العز في أفانينه وأشتاته، إذ لسلفه الذمام الذي صفت منه الحياض والحمام، والوداد الذي قصرت عنه الأنداد، والسابقة التي أزرى بخبرها العيان، وشهدت بها أرجونة وجيان، محيز ثمرة الطيب. وله همة عالية، بعيدة المرمى، كريمة المنتمى، حملته بآخرة على الانقباض والازدراء، والزهد في الازدياد والاستكثار، والاقتصاد والاقتصار، فعطف على انتجاع غلته، والتزام محلته، ومباشرة فلاحة صان بها وجهه، ووفاه الدهر حقه ونجمه، واحتجبت عقايل بيانه لهذا العهد وتقنعت، وراودتها النفس فتمنعت، وله فكاهة، وأنس الزمان، مناجاة القينات، عند البيات، وأعذب من معاطاة الراح في الأقداح.
شعرهقال، وله أدب بلغ في الإجادة الغاية، ورفع للجبين من السنن الراية. ومن مقطوعاته يودع شيخنا الفقيه القاضي أبا البركات بن الحجاج:
رأوني وقد أغرقت في عبراتي ... وأحرقت في ناري لدى زفراتي
فقالوا سلوه تعلموا كنه حاله ... فقلت سلوا عني أبا البركات
فمن قال إني بالرحيل محدث ... روت عنه أجفاني غريب ثبات
ونادى فؤادي ركبه فأجابه ... ترحل وكن في القوم بعض عدات
ومن مقطوعاته البديعة من قصيدة مجازية:
سيخطب قس العزم في منبر السرى ... وهل في الدنا يوم المسير أطيق
وأقطع زند الهجر والقطع حقه ... فما زال طيب العمر عني يسترق
مولده: في حدود ثمانية وسبعين وستماية
وفاتهفي الموفي عشرين من شهر ربيع الثاني من عام اثنين وخمسين وسبعماية
ابن الحكيم اللخميمحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن الحكيم اللخمي يكنى أبا بكر
أوليتهمرت في اسم ذي الوزارتين
حاله

من كتاب عائد الصلة: كان صدر أبناء أصحاب النعم، وبقية أعلام البيوت، ترف نشأة، وعز تربية، وكرم نفس، وطيب مجالسة، وإمتاع محاضرة، وصحة وفاء، وشياع مشاركة في جملة فاضلة، محدثاً تاريخياً، كاتباً بليغاً، حسن الخط، مليح الدعابة، ظريف التوقيع، متقدم الحيلة في باب التحسين والتنقيح. يقرض الشعر، ويفك المعمى، ويقوم على جمل الكتاب العزيز. حفظاً وتجويداً. وإتقاناً، ويسرد نتف التاريخ. وعيون الأخبار، إلى حسن الخلق، وكمال الأبهة، وحلاوة البساطة، واحتمال المنابشة. والمثابرة على حفظ المودة، والاستقالة من الهفوة، والتمسك بالاستعتاب والمذرة. كتب بالدار السلطانية أكثر عمره، وتصدر بعد في قيادة المواضع النبيهة، محارباً ذا قدرة في ذلك. ومع ذلك فشايع المعروف، ذايع المشاركة، قيد الكثير. ودون وصنف، وحمل عن الجلة ممن يشق إحصاؤهم، وكان غرة من غرر هذا القطر، وموكبا من مواكب هذا الأفق، لم يتخلف بعده مثله.
وجرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: ماجد أقام رسم المجد بعد عفايه، فوفى الفضل حق وفايه. بيته في رندة، أشهر في الأصالة من بيت امرئ القيس، وأرسى في بحبوحة الفخر، من قواعد الرضوى وأبي قيس، استولى على الجود البديع البعيد المدا، وحجت إليه من كل فج طلاب الندا، وعشت إلى ضوء ناره، فوجدت على النار التقى والهدى. ولي الوزارة النصرية، التي اعتصر منها طريقاً بتالد، فأحيت مآثرها الخالدة مآثر يحيى بن خالد. ولما أدار عليها الدهر كأس النوايب، وخلص إليها سهمه الصايب بين صحايف الكتب وصفايح الكتايب، تطلعت من خلالها الرايقة لباب الوجود، وبكتها بسيل أجفانها عين الباس والجود، وطلع على أعقاب هذه الفضايل محلى من صفحاتها، وأعاد لو ساعده الدهر من لمحاتها، وارتقى من الكتابة إلى المحل النبية، واستحقها من بعض ميراث أبيه، وبني وشيد، ودن فيها وقيد وشهر في كتب الحديث وروايته، وجني ثمرة رحلة أبيه، وهو في حجر ذؤابته. وأنشأ الفهارس، وأحيي الأثر الدارس، وألف كتابه المسمى بالموارد المستعذبة والمقاصد المنتخبة فسرح الطرف، وروضه طيب الجني والعرف، وله شعر أنيق الحلية، حاز في نمط العلية. وبيني وبين هذا الفاضل وداد صافي الحياض، وفكاهة كقطع الرياض، ودعابة سحبت الدالة أذيالها، وأدارت الثقة والمقة جريالها. وسيمر في هذا الديوان كل رايق الحيا، عاطر الريا.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي جعفر الحريري، والأستاذ أبي الحسن القيجاطي، والأستاذ إسحق بن أبي العاصي. وأخذ عن العلم والرم، من مشايخ المشرق والمغرب. فمنهم الولي الصالح فضل بن فضيلة المعافري، إلى العدد الكثير من أهل الأندلس، كالخطباء الصلحاء أبي عبد الله الطنجالي، وأبي جعفر الزياتي، وأبي عبد الله بن الكماد، وغيرهم من الرنديين والمالقيين والغرناطيين، حسبما تضمنه برنامجه.
؟؟

تواليفه
ألف الكتاب المسمى، الفوائد المتخبة والموارد المستعذبة. وكمل التاريخ المسمى بميزار العمل لابن رشيق. ودون كتاباً في عبارة الرؤيا سماه بشارة القلوب بما تخبره الرؤيا من الغيوب والأخبار المذهبة والإشارة الصوفية، والنكت الأدبية. والهودج في الكتب. والإشارة في ألف إنشاده.
شعره وكتابتهقال في التاريخ ما نصه: وتهادته إلى هذا العهد رتب السيادة، واستعمل في نبيهات القيادة؛ فوجه إلى معقل قرطمة من كورة ريه وهو واليه، وبطاحه في مجرى جياده وصحر عواليه. وقد حللت مالقة صحبة الركب السلطاني في بعض التوجهات، إلى تلك الجهات، في بعض ما أتحف من مقعده، المتصل المستمر، بهدية مشتملة على ضروب من البر. فخاطبته مقيما لسوق الانبساط، وغير حايد عن الوداد والاغتباط، على ما عول عليه من حمل الإفراط، والانتظام في هذا المعنى والانخراط:
ألام على أخذ القليل وإنما ... أعامل أقواماً أقل من الذر
فإن أنا لم آخذه منهم فقدته ... ولا بد من شيء بعين على الدهر

سيدي أطلق الله يدك بما تملك، وفتر عن منحك البخل ليلاً تهلك. كنت قد هومت، وحذرني القلق فتلومت. ولومي كما علمت سيئ الخصال، عزيز الوصال. يمطل ديني، ويعاف طيره ورد عيني. فإذا الباب يدق بحجر، فأنبأني عن ضجر، وجار الجنب يزخذ بالذنب. فقمت مبادراً وجزعت. وإن كان الجزع مني نادراً. واستفهمت من وراء الفلق، عن سبب هذا القلق. فقالت امرأة من سكان البوادي. رابطة الفؤاد يا قوم، رسول خير، وناعق طير، وقرع إذلال لا فرع إدلال. حطوا شعار الحرب والحرب، فقد ظفرتم ببلوغ الأرب، فتأخرت عن الإقدام، وأنهدت إليه، فحن عمر بن أبي ربيعة عمن كان بالدار من الخدام. فأسفرت الوقيعة عن سلام وسلم، ولم يزن أحد منا بكلم. ونظرت إلى رجل قرطبي الطلعة والأخلاق، خاو على الإطلاق. تنهد قبل أن يسلم، وارتمض لام ذهب من الشبيهة وتألم. شنشنة معروفة. وعين تلك الجهات معاذ الله مصروفة. وقد حملته سيادتكم من المبرة ضروباً شتى. وتجاوزت في المسرات غاية حتى. ولم تضع عضواً من جسده، فضلاً عن منكبه ويده، إلا علقته وعاء ثقيلا، وناطت به زنبيلا. واستلقى كالمني إذا ترك المعترك. وعلت حوله تلك الأثقال. وتعاورها الانتقال وكثر بالزقاق القيل والقال. فلما تخلصت إلى الدار، وسترت معرفتها بالجدار، وتناولها الاختبار الفاضح، وبان قصورها الواضح، فتلاشت، بعد ما جاشت، ونظرت إلى قعب من اللبن الممزوق الذي لا يستعمل في البيوت، ولا يباع في السوق، فأذكرتني قول الشاعر:
في تلك المكارم لا قعبان من البن ... شيبت بماء فعاد بعد أبوالا
أما زبده فرفع، وأما جبنه فاقتيت به وانتفع. وأما من بعثه من فضلاء الخدام فدفع، وكأبى به قد ألح وصفع، والتفت إلى قفة فد خيطت، وبعنق ذاك البايس قد نيطت، رمس فيها أفراخ الحمائم، وقلدت بجيده كما يتقلد بالتمائم، وشد حبلها بمخنقه، وألزم منها في العاجل طائره في عنقه، هذا بعد ما ذبحت، وأما حشوها فربحت. ولو سلكتم الطريقة المثلى، لحفظتم جثتها من العفن؛ كما تحفظ جثة القتلى، وأظنكم لم تغفلو هذا الغرض الأدنى، ولا أهملتم هذه الهمم الذي غريزة في المبنى. فإني رميت منها اللهو رمي المختبر، فكلح من مرارة الصبر، ولما أخرجتها من كفن القفة، واستدعيت لمواراتها أهل الصفة، تمثلت تمثل اللبيب بقول أبي تمام حبيب:
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام
ولو أن إحدى الدجاجتين لاحت عليها مخيلة سر. لكانت من بقايا مواطني ديوك بني مر، وبعث بها حلالك حلاله. وأهدى منها اجتهاد من أحسن. ولم يكن بالهدية ما يذكر، ولا كانت مما ينكر، أستغفر الله، فلو لم تكن التحفة، إلا تلك الفكاهة العاطرة والغمامة الماطرة. التي أحسبها الأمل الأقصى، وتجاوزت إلا من التي لا تعد ولا تحصى، للزم الشكر ووجب، وبرز من حر المحج ما تيسر واحتجب. فالمكارم وإن تغيرت أنسابها، وجهل انتسابها. وادعى إرثها واكتسابها، إليكم تنشر يدها، وتسعى لأقدامها، ولبيتكم تميل بهواديها، وبساحتكم يسيب واديها، وعلى أرضكم تسح غواديها. ومثلي أعزكم الله، لا يغضى من قدر تحفكم الحافلة، ولا يقجر من شكرها على فريضة ولا نافلة، ولكنها دعابة معتادة، وفكاهة أصدرتها ودادة. ولا شك أنكم بما جبلتم عليه قديماً وحديثاً، تغتفرون جفائي، الذي سيرتموه سمراً وحديثاً، في جنب وفائي، وتغضون وتتحملون، وبقول الشاعر تتمثلون، وأسمع من الألفاظ اللغوية التي يسر بها سمعي، وإن ضمنت شتمي ووصفي:
بعثت بشيء كالجفاء وإنما ... بعثت بعذري كالمدل إلى غدر
وقلت لنفسي لا تردعي فإنه ... كما قيل شيء قد يعين على الدهر
وما كان قدر الود والمجد مثله ... فخذه على قدر الحوادث أو قدري
وإن كنت لم أحسن صنعي فإنني ... سأحسن في حسن القبول له شكري
وقدرك قدر النيل عندي وإنني ... لدي قدرك العلي أدق من الذر
قنعت وحظي من زماني وودكم ... هباء ومثلي ليس يقنع بالنزر
أتاني كتاب منك باه مبارك ... لقيت به الآمال باهتة الثغر
جلا من بنات الفكر بكراً وزفها ... إلى ناظري تختال في حبر الحبر

فألفاظها كالزهر والزهر يانع ... وقدر المعاني في الأصالة كالزهر
نجوم معان في سماء صحيفة ... ولكنها تسرى النجوم ولا تسري
تضمن من نوع الدعابة ما به ... رجوت الذي قد قيل في نشوة الخمر
رعى الله مسراها الكريم فجل ما ... جلته من البشرى وأبدت من البشر
لعمري لقد أذكرتني دوله الصبا ... وأهديت لي نوع الجلال من السحر
ولما أتت تلك الفكاهة غدوة ... وجدت نشاطاُ سائر اليوم في بشري
ولا سيما إن كان ملحم بردها ... عميد أولى الألباب نادرة العصر
نشرت بها ما قد طويت بساطه ... زماناً وبي طي الأمور مع النشر
ونعم خيل الخير أنت محافظاً ... على سنن الإخلاص في السر والجهر
ودونكها تلهو بها وتديرها ... سحيرية الأنفاس طيبة النشر
فراجعني بقوله: وقد من سيدي الجواب، محتوياً على العجب العجاب، فيالك من فكاهة كوثرية المناهل، عنبرية المسايل، ولو لم يكن إلا وصف القرطبي المستوي الطلعة، الشرطي الصنعة. وأما وصف اللبن وفراخ الحمام، فقد بسطتم في المزاح القول. وامتنعتم في الكلام الفصل. وذلك شيء يعجز عن مساجلتكم فيه فيه أرباب البلاغة والبيان، فكيف بمثلي ممن له القول المهلهل النسيج، الواهي البيان. ولا بد من عرض ذلك على سيدي القطب الكبير الإمام، وأستاذنا علم الأعلام، وكبير أيمة الإسلام. فيحكم بيننا بحكم الفصل. وينصف بما لديه من الحق والعدل. وقد كنت أحيد عن مراجعتكم حيدة الجبان. وأميل عن ذلك ميلة الكودن عن مجارا السمر الهجان. وأعدل عن مساجلة أدبكم الهتان. عدول الأعزل عن مبارزة جيد السنان. إلى أن وثقت بالصفح. وعولت على ما لديكم من الإغضاء والسمح، ووجهت حاملة السر والظروف، كي تتصل الهدايا ولا ينقطع المعروف. وأستقيل من انبساط يجر عذراً. وأسأله سبحانه وتعالى حمداً يوجب المزيد من إنعامه وشكراً. دام سيدي وآماله مساعدة. والكلمة على فضله واحدة.
ومن شعره في النسك واللجأ إلى الله تعالى:
أيا من له الحكم في خلقه ... ومن بكر بي له أشتكي
تول أموري ولا تسلمني ... وإن أنت أسلمتني أهلك
تعاليت من مفضل منعم ... ونزهت من طالب مدرك
ومن ذلك ونقلته من خطه:
تصبر إذا ما أدركتك ملمة ... فصنع إله العالمين عجيب
وما يدرك الإنسان عار بنكبة ... ينكب فيها صاحب وحبيب
ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة ... وعيش كرام الناس ليس يطيب
ويوشك أن تهمى سحايب نعمة ... فيخصب من ربع السرور جديب
إلهك يا هذا مجيب لمن دعا ... وكل الذي عند القريب قريب
مولده: عام خمسة وستين وستماية.
وفاتهمن عائد الصلة. قال، وختم الله عمره بخير العمل من الإنابة والتهدج، والتزام الورد، وإن كان مستصحب الخيرية. وحل ببلد ولا ينهم رندة، فكانت بها تربته في الثالث والعشرين لربيع الآخر عام خمسين وسبعماية.
ابن العابد الأنصاريمحمد بن محمد بن علي بن العابد الأنصاري ولد المذكور بعد، الكاتب بالدار السلطانية.
حالهمن كتاب طرفة العصر وغيره، قال، كان كاتباً مشهوراً، بليغاً، ذا معرفة، بارع الخط، وأحد زمانه في ذلك، وقوراً، معذب اللفظ، منحصاً في وفي نفسه، محارفاً بحرفة الأدب على جلالة قدره. وكتابته نقية، جانحة إلى الاختصار.
شعرهوثيق تقل فيه أرواح المعاني، كشعر أبيه، وتوشيحه فائق. تولي كتابة الإنشاء لثاني الملوك النصريين، واستمر قيامه بها على حجر شديد من السلطان ومحمل، لملازمته المعاقرة وانهماكه في البطالة، واستعمال الخمر، حتى زعموا أنه قاء يوماً بين يديه، فأخره عنها، وقدم الوزير أبا عبد الله بن الحكيم. وفي ذلك يقول:
أمن عادة الإنصاف والعدل أن أجفا ... لأن زعموا أني تحسيتها صرفا
وأقام بقية عمره تحت رفد وبر.
وفاته

توفي في حدود التسعين وستماية. وكان شيخنا ابن الجياب قد آثره بكتبه. وكانت نفيسة أعلاها بخط أبيه رحمه الله.
المري الطغنريمحمد بن مالك المري الطغنري من أهل غرناطة، من ذوي البيتية والحسب فيها. ذكره الأستاذ، في الكتاب المسمى بالصلة، والغافقي، وغيرهما.
حالهأديب نبيل، شاعر، على عهد الأمير عبد الله بن بلقين بن باديس صاحب غرناطة. قال وكان أولا يميل إلى البطالة والراحة. ثم إنه استيقظ من غفلته، وأقلع عن راحته، وأجب في توبته. وكان من أهل الفضل والخير والعلم.
من تواليفه كتابه الشهير في الفلاحة، وهو بديع، سماه زهرة البستان، ونزهة الأذهان، عبرة في الظرف. قال، وجرى له مع سماجة، خليفة عبد الله بن بلقين قصة. إذ فاجأه سماجة مع إخوان له، ولم يشعروا به، فأنشده ابن مالك ارتجالاً، وقد أخذ بلجام دابته:
بينما نحن في المصلى نساق ... وجناح العشي فيه جنوح
إذا أتانا سماجة يتلألأ ... ردى الشمس من تجليه يوح
فطفقنا يقول بعض لبعض ... أغبوق شرابنا أم صبوح
قال، فتكلم الوزير سماجة باللسان البربري مع عبيده، فرجعوا مسرعين، ووقف سماجة مع الوزير ابن مالك، إلى أن أتاه عبيده، بوعاء فيه جملة كبيرة من الدراهم، تنيف على الثلاثمائة دينار. فقال ادفعوها إليه، وانصرف. وأتاهم العبيد مع الدراهم، بطعام وشراب. قال ابن مالك، وذلك أول مال تأثلته.
شعرهومنه:
صب على قلبي هوى لاعج ... ودب في جسمي ضناً دارج
في شادن أحمر مستأنس ... لسان تذكاري به لاهج
قدر نعمان إذا ما مشى ... وما عسى يفعله عالج
فقده من رقة مايس ... وردفه من ثقله مايج
عنوان ما في ثوبه وجهه ... تشابه الداخل والخارج
فلا تقيسوه ببدر الدجى ... ذا معلم الوجه وذا ساذج
وقد نسبها بعض الناس لغيره
وفاتهقال الأستاذ، كان حياً سنة ثمانين وأربعمائة، وأمر أن يكتب على قبره:
يا خليلي عرج على قبري تجد ... من أكلة الترب بين جنبي ضريح
خافت الصوت إن نطقت ولكن ... أي نطق إن اعتبرت فصيح
أبصرت عيني العجايب لكن ... لما فرق الموت بين جسمي وروح
ابن عبد الملك الأوسيامحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عبد الملك الأوسي المدعو بالعقرب، من إقليم الآش
حالهكان حسن النظم والنثر، ذكياً من أهل المعرفة بالعربية والأدب، موصوفاً بجودة القريحة، والنبل والفطنة.
أدبه وشعرهذكره الملاحي، وقال حدثني قاضي الأحكام بغرناطة، أبو القاسم الحسن بن قاسم، الهلالي صاحبنا. قال، كان الأستاذ أبو عبد الله العقرب جارنا، قد وقع بينه وبين زوجه، زهرة بنت صاحب الأحكام أبي الحسن علي بن محمد تنازع؛ فرفعته إلى القاضي بغرناطة، أبي عبد الله بن السماك العاملي، وكنت يومئذ كاتباً له، فرأى القاضي قوته وقدرته على الكلام وضعفها، وإخفاق نظمها، وشفق لحالها. وكان يرى أن النساء ضعاف، وأن الأغلب من الرجال يكون ظالمهن. وكان كثيرا ما يقول في مجلسه: رويدك، رفقاً بالقوارير. وحين رأى، ما صدر عن القاضي من الجمل، فقلت له وأين حلاوة شعرك، والقاضي أديب، يهتز إليه ويرتاح، فطلب مني قرطاساً، وجلس غير بعيد، ثم كتب على البديهة بما نصه:
لله حي يا أميم حواك ... وحمايم فوق الغصون حواك
غنين حتى خلتهن عنيني ... بغنايهن فنحت في مغناك
ذكرتني ما كنت قد أنسيته ... بخطوب هذا الدهر من ذكراك
أشكو الزمان إلى الزمان ومن شكى صرف الزمان إلى الزمان فشاكي
يا ابن السماك المستظل برمحه ... والعزل ترهب ذا السلاح الشاكي
راع الجوار فبيننا في جونا ... حق السرى والسير في الأفلاك
وابسط إلى الخلق المنوب ببسطة ... ظرف الكرام بعفة النساك
وأنا ذاكر إن لم يفت من لم يمت فدارك ثم دارك ثم ذاك

ثم دفعها إلى القاضي، فكتب القاضي بخطه في ظهر الرقعة: لبيك، لبيك. ثم أرسلني أصلح بين العقرب وزوجه، فإن وصل صلحهما إلى خمسين دينارا، فأنا أؤديها عنه من مالي، فجمعت بينهما، وأصلحت بينهما عن تراض منهما، رحمهما الله تعالى.
القيسي العراديمحمد بن علي بن عبد الله بن علي القيسي العرادي من أهل غرناطة
حالهكان فتى حسن السمت، ظاهر السكون، بادي التصون والعفة، دمث الأخلاق، قليل الكلام، كثير الحياء، مليح الخط، ظريفه، بادي النجابة. أبوه وجده من تجار سوق العطر، نبهاء السوق. نظم الشعر، فجاء منه بعجب، استرسالا وسهولة، واقتداراً، ونفوذا في المطولات، فأنفت له من الإغفال، وجذبتنه إلى الدار السلطانية، واشتدت براعته، فكاد يستولي على الأمر. لو لا أن المنية اخترمته شاباً، فثكل منه الشعر، قريع إجادة، وبارع ثنية شهرة، لو انفسح له الأمد.
مولده: في ذي الحجة عام أحد وثلاثين وسبعمائة.
وفاتهتوفي مبطوناً على أيام قريبة من إسراعه بغرناطة، عن سن قريبة من العشرين، في عام خمسة وخمسين وسبعمائة، وأبوه أمين العطارين.
محمد بن علي بن العابد الأنصارييكنى أبا عبد الله، أثله من مدينة فاس.
حالهمن خط القاضي أبي جعفر بن مسعدة، علم كتاب دار الإمارة النصرية الغالبية، الذي بنوره يستصبحون؛ وسراجهم الذي بإشراقه وبهجته، ونهج محدته يهتدون. رفع لواء الحمد، وارتدى بالفهم والعلم والحلم. كان رحمه الله إماماً في الكتابة، والأدب، واللغة، والإعراب، والتاريخ والفرايض والحساب، والبرهان عليه عارفاً بالسجلات والتوثيق أربى على الموثقين من الفحول، المبرزين في حفظ الشعر ونظمه، ونسبته إلى قائله حافظاً مبرزاً. درس الحديث، وحفظ الأحكام لعبد الحق الإشبيلي، ونسخ الدواوين الكبار، وضبط كتب اللغة. وقيد على كتب الحديث، واختصر التفسير للزمخشري، وأزال عنه الاعتزال، لم يفتر قط من قراءة أو درس أو نسخ أو مطالعة، ليه ونهاره. لم يكن في وقته مثله.
مشيختهأخذ بفاس عن أبي العباس أحمد بن قاسم بن البقال الأصولي، وأبي عبد الله بن البيوت المقري، وعن الزاهد أبي الحسن بن أبي الموالي، وغيرهم.
شعرهومنه قوله:
طرقت تتيه على الصباح الأبلج ... حسناء تختل اختيال تبرج
في ليلة قد ألبست بظلامها ... فضفاض برد بالنجوم مدبج
وشعره مدون كثير.
وفاتهتوفي بحضرة غرناطة عام اثنين وستين وسبعمائة في ذي القعدة منه.
الأزدي الإلبيري الغرناطيمحمد بن هاني بن محمد بن سعدون الأزدي الإلبيري الغرناطي من أهل قرية سكون، يكنى أبا القاسم، ويعرف الأندلسي، وكأنها تفرقة بينه وبين الحكمى أبي نواس.
أوليتهقال غير واحد من المؤرخين، هو من ذرية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وقيل من ولد أخيه روح بن حاتم.
حالهكان من فحول الشعراء، وأمثال النظم، وبرهان البلاغة، لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، مع المشاركة في العلوم، والنفوذ في فك المعمى. خرج من الأندلس ابن سبع وعشرين سنة، فلقي جوهراً المعروف بالكاتب مولى المعز بن المنصور العبيدي صاحب المغرب وامتدحه، وكان لئيماً، فأعطاه مائتي درهم، فوجد لذلك، وقال أها هنا كريم يقصد، فقيل بلى، جعفر بن يحيى بن علي بن فلاح بن أبي مروان، وأبو علي بن حمدون، فامتدحهما، ثم اختص بجعفر بن يحيى وأبي علي، فبالغا في إكرامه، وأفاضا عليه من النعم والإحسان ما لم يمر بباله، وسارت أشعاره فيهما، حتى أنشدت للمعز العبيدي، فوجهه جعفر بن علي إليه في جملة طرف وتحف بعث بها إليه، كان أبو القاسم أفضلها عنده، فامتدح المعز لدين الله، وبلغ المعز من إكرامه الغاية. ثم عاد إلى إفريقية، ثم توجه إلى مصر، فتوفي ببرقة. وجرى ذكره في تخليص الذهب من تأليفنا بما نصه: العقاب الكاسرة، والصمصامة الباترة، والشوارد التي تهادتها الآفاق، والغايات التي أعجز عنها السباق.

وصمته: وذكره ابن شرف في مقاماته، قال: وأما ابن هاني محمد، فهو نجدي الكلام، سردى النظام، إلا أنه إذا ظهرت معانيه، في جزالة مبانيه، رمى عن منجنيق لا يؤثر في النفيق. وله غزل معرى، لا عذرى، لا يقنع بالطيف، ولا يصفع بغير السيف وقد قده به الذات، وعظم شأنه فاحتمل الثواب، وكان يقف دولته في أعلى منزلته ناهيك من رجل يستعين على صلاح دنياه، بفساد أخراه، لرداءة دينه، وضعف يقينه. ولو عقل ما ضاقت عليه معاني الشعر، حتى يستعين عليه بالكفر.
شعرهكان أو لما مدح به جعفر بن علي قوله:
أحبب بتياك القباب قبابا ... لا بالحداة ولا الركاب ركابا
فيها قلوب العشقين تخالها ... عنماً بأيدي البيض العنابا
وقال يمدح جعفر بن علي منم القصيدة الشهيرة:
أليتنا إذ أرسلت وارداً وجفاً ... وبانت لنا الجوزاء في أذنها شنقاً
وبات لنا ساق يقوم على الدجى ... بشمعة صبح لا تقط ولا تعطفا
أغن غضيض جفف اللين قده ... وأثقلت الصهباء أجفانه الوطفا
ولم يبق إرعاش المدام له يداً ... ولم يبق إعنات التثني له عطفاً
نزيف قضاه السكر إلا ارتجاجه ... إذا كل عنها الخصر حملها الردفا
يقولون حقف فوقي خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانة والحقفا
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدت لنا الظلماء من جلدها لحفا
فمن كبد تدنى إلى كبد هوى ... ومن شفة توحي إلى شفة رشفا
بعيشك نبه كأسه وجفونه ... فقد نبه الإبريق من بعد ما أغفا
وقد فكت الظلماء بعض قيودنا ... وقد قام جيش الليل للصبح فاصطفا
وولت نجوم للثريا كأنها ... خواتيم تبدو في بنان يد تخفا
ومر على آثارها دبرانها ... كصاحب ردئ كمنت خليه خلفا
وأقبلت الشعرى العبور ملمة ... بمرزمها اليعسوب تجنبه طرفا
وقد قبلتها أختها من ورائها ... لتخرق من ثنيا مجرتها سجفا
تخاف زئير الليث قدم نثرة ... وبربر في الظلماء ينسفا نسفا
كأن معلا قطبها فارس له ... لواءان مر كوزان قد كره الزحفا
كأن السماكين اللذين تظاهرا ... على لبتيه ضامنان له الحتفا
فذا رامح يهوى إليه سنانه ... وذا أعزل قد عض أنمله لهفا
كأن قدامي النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا
كأن أخاه حين دوم طايرا ... أتي دون نصف البدر فاختطف النصفا
كأن رقيب الليل أجدل مرقب ... يقلب تحتن الليل في ريشه طرفا
كأن بني نعش ونعش مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه قشفا
كأن سهاها عاشق بين عود ... فآونة يبدو وآونة يخفا
كأن سهيلا في مطالع أفقه ... مفارق إلق لم يجد بعده إلفا
كأن الهزيع الأبنوسي موهنا ... سرى بالنسيج الخسرواني ملتفاً
كأن ظلام الليل إذ مال ميلة ... صريع مدام بات يشربها صرفا
كأن نجوم الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفا
كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
وقد جاشت الظلماء بيضاً صوراماً ... ومركوزة سمرا وفضفاضة زعفا
وجاءت عتاق الخيل تردي كأنها ... تخط لنا أقلام آذانها صحفا
هنالك تلقى جعفراً خير جعفر ... وقد بدلت يمناه من لينها عنفا
فكاين تراه في الكريهة عاجلا ... عزيمته برقاً وصولته خطفاً
وشعره كثير مدون، ومقامه شهير، وفيما أوردناه كفاية، وهو من إلبيرة الأصلية.
؟وفاته

قالوا، لما توجه إلى مصر، شرب ببرقة وسكر ونام عريانا، وكان البرد شديداً فأفلج، وتوفي في سنة إحدى وستين وثلاثمائة؛ وهو ابن اثنين وأربعين سنة. ولما بلغت المعز وفاته، تأسف عليه وقال، هذا رجل كنا نطمع أن نفاخر به أهل المشرق.
الغساني البرجي الغرناطيمحمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن إبراهيم بن علي الغساني البرجي الغرناطي، يكنى أبا القاسم من أهل غرناطة.
حالهفاضل مجمع على فضله، صالح الأبوة، طاهر النشأة، بادي الصيانة والعفة، طرف في الخير والحشمة، صدر في الأدب. جم المشاركة، ثاقب الذهن، جميل العشرة، ممتع المجالسة، حسن الخط والشعر والكتابة، فذ في الانطباع، صنيع اليدين، يحكم على الكثير من الآلات العلمية، ويجيد تفسير الكتاب، رحل إلى العدة، وتوسل إلى ملكها، مجدد الرسم، ومقام الجلة، وعلم دست الشعر والكتابة أمير المسلمين أبي عنان فارس، فاشتمل عليه، ونوه به، وملأ بالخير يده، فاقتنى جدة وحظوة وشهرة، وذكراً؛ وانقبض مع استرسال الملك، وآثر الراحة، وجهد في التماس الرحلة الحجازية، ونبذ الكل، وسلا الخطة، فأسعفه سلطانه بغرضه، وجعل حبله على غاربه، وأصحبه رسالة إلى النبي الكريم من إنشايه، متصلة بقصيدة من نظمه، وكلاهما تعلن في الخلفاء بعد شأوه، ورسوخ قدم علمه، وعراقة البلاغة، في نسب خصله، حسبما تضمنه الكتاب المسمى بمساجلة البيان. ولما هلك وولي ابنه، قدمه قاضياً بمدينة ملكه، وضاعف التنويه به، فأجرى الخطة، على سبيل من السداد والنزاهة. ثم لما ولي السلطان أبو سالم عمه، أجراه على الرسم المذكور. وهو الآن بحاله الموصوفة، مفخر من مفاخر ذلك الباب السلطاني على تعدد مفاخره يحظى بكل اعتبار.
شعرهثبت في كتاب نفاضة الجراب من تأليفنا، عند ذكر المدعي الكبير بباب ملك المغرب، ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر من أنشد ليلتئذ من الشعراء ما نصه: وتلاه الفقيه الكاتب الحاج القاضي، جملة السذاجة، وكرم الخلق، وطيب النفس، وخدن العافية، وابن الصلاح والعبادة، ونشأة القرآن، المتحيز إلى حزب السلامة، المنقبض عن الغمار، العزوف عن فضول القول والعمل، جامع المحاسن، من عقل رصين، وطلب ممتع، وأدب نقادة، ويد صناع، أبو القاسم ابن أبي زكريا البرجي، فأنشدت له على الرسم المذكور هذه القصيدة الفريدة:
أصغى إلي الوجد لما جد عاتبه ... صب له شغل عمن بعاتبه
لم يعط للصبر من بعد الفراق يدا ... فضل من ظل إرشاداً يخاطبه
لو لا النوى لم يبت حيران مكتئبا ... يغالب الوجد كتماً وهو غالبه
يستودع الليل أسرار الغرام وما ... نمليه أشجانه فالدمع كاتبه
لله عصر بشرقي الحمى سمحت ... بالوصل أوقاته لو عاد ذاهبه
يا جيرة أو دعوا إذ ودعوا حرقا ... يصلى بها من صميم القلب ذائبه
يا هل ترى تجمع الأيام فرقتنا ... كعهدنا أو يرد القلب ساكبه
ويا أهيل ودادي والنوى قذف ... والقرب قد أبهمت دوني مذاهبه
هل ناقض العهد بعد البعد حافظه ... وصادع الشمل يوم الشعب شاعبه
ويا ربوع الجمى لا زلت ناعمة ... يبكي عهودك مضني الجسم شاحبه
يا من لقب مع الأهواء منعطف ... في كل أوب له شوق يجاذبه
يسمو إلى طلب الباقي بهمته ... والنفس بالميل للفاني تطالبه
وفتنة المرء بالمألوف معضلة ... والأنس بالإلف نحو الإلف جاذبة
أبكي لعهد الصبا والشيب يضحك بي ... يا للرجال سبت جدي ملاعبه
ولن ترى كالهوى أشجاه سالفه ... ولا كوعد المنى أحلاه كاذبه
وهمة المرء تغليه وترخصه ... من عز نفساً لقد عزت مطالبه
ما هان كسب المعالي أو تناولها ... بل هان في ذاك ما يلقاه طالبه
ولا سرى الفك السامي لما ظهرت ... آثاره ولما لاحت كواكبه
في ذمة الله ركب للعلا ركبوا ... ظهر السرى فأجابتهم نجائبه

يرمون عرض الفلا بالسير عن غرض ... طي السجل إذا ما جد كاتبه
كأنهم في فؤاد الليل سر هوى ... لولا الضرام لما خفت جوانبه
شدوا على لهب الرمضاء وطأتهم ... فغاص في لجة الظلماء راسبه
وكلفوا الليل من طول السرى شططاً ... فخلفوه وقد شابت ذوائبه
حتى إذا أبصروا الأعلام مائله ... يجانب الحرم المحمى جانبه
بحيث يأمن من مولاه خائفه ... من ذنبه وينال القصد راغبه
فيها وفي طيبة الغراء لي أمل ... يصاحب القلب منه ما يصاحبه
لم أنس لا أنس أياماً بظلمها ... سقى ثراه عميم الغيث ساكبه
شوقي إليها وإن شط المزار بها ... شوق المقيم وقد سارت حبائبه
إن ردها الدهر يومأً بعد ما عبثت ... في الشمل منا يداه لا نعاتبه
معاهد شرفت بالمصطفى فلها ... من فضله شرف تعلو مراتبه
محمد المجتبى الهادي الشفيع إلى ... رب العباد أمين الوحي عاقبه
أوفى الورى ذمماً أسماهم همماً ... أعلاهم كرماً جلت مناقبه
هو المكمل في خلق وفي خلق ... زكت حلاه كما طابت مناسبه
عناية قبل بدء الخلق سابقة ... من أجلها كان آتيه وذاهبه
جاءت تبشرنا الرسل الكرام به ... كالصبح تبدو تباشيراً كواكبه
أخباره سر علم الأولين وسل ... بدير تيماء ما أبداه راهبه
تطابق الكون في الشرى بمولده ... وطبق الأرض أعلاماً تجاوبه
فالجن تهتف إعلاناً هواتفه ... والجن تقذف إحراقاً ثواقبه
ولم تزل عصمة التأييد تكنفه ... حتى انجلى الحق وانزاحت شوائبه
سرى وجنح ظلام الليل منسدل ... والنجم لا يهتدي في الأفق ساربه
يسمو لكل سماء منه منفرد ... عن الأنام وجبرائيل صاحبه
لمنتهى وقف الروح الأمين به ... وامتاز قرباً فلا خلق يقاربه
لقاب قوسين أو أدنى فما علمت ... نفس بمقدار ما أولاه واهبه
أراه أسرار ما قد كان أودعه ... في الخلق والأمر باديه وغائبه
وآب والبدر في بحر الدجى غرق ... والصبح لما يؤب للشرق آيبه
فأشرقت بسناه الأرض واتبعت ... سبل النجاة بما أبدت مذاهبه
وأقبل الرشد والتاحت زواهره ... وأدبر الغير فانجابت غياهبه
وجاء بالذكر آيات مفصلة ... يهدي بها من صراط الله لاحبه
نور من الحكم لا تخبو سواطعه ... بحر من العلم لا تفنى عجائبه
له مقام الرضا المحمود شاهده ... في موقف الحشر إذ نابت نوائبه
والرسل تحت لواء الحمد يقدمها ... محمد أحمد السامي مراتبه
له الشفاعات مقبولاً وسائلها ... إذا دهى الأمر واشتدت مصاعبه
والحوض يروى الصدى من عذي مورده ... لا يشتكي غلة الظمآن شاربه
محامد المصطفى لا ينتهي أبدا ... تعدادها هل يعد القطر حاسبه
فضل تكفل بالدارين يوسعها ... نعمى ورحمى فلا فضل يناسبه
حسبي التوسل منها بالذي سمحت ... به القوافي وجلتها غرائبه
حياه من صلوات الله صوب حساً ... تحدى إلى قبره الزاكي نجائبه
وخلد الله ملك المستعين به ... تحدى إلى قبره الزاكي نجائبه
إمام عدل بتقوى الله مشتمل ... في الأمر والنهي يرضيه يراقبه
مسدد الحكم ميمون نقيبته ... مظفر العزم صدق الرأي صائبه
مشمر للتقى أذيال مجتهد ... جرار أذيال سحب الجود ساحبه

قد أوسعت أمل الراجي مكارمه ... وأحسبت رغبة العافي رغائبه
وفاز بالأمن محبوراً مسالمه ... وباء بالخزي مقهوراً محاربه
كم وافد آمل معهود نائله ... أثنى وأثنت بما أولى حقائبه
ومستجير بعز من مثابته ... عزت مراميه وانقادت مآربه
وجاءه الدهر يسترضيه معتذراً ... مستغفراً من وقوع الذنب تائبه
لولا الخليفة إبراهيم لانبهمت ... طرق المعالي ونال الملك غاصبه
سمت لنيل تراث المجد همته ... والملك ميراث مجد وهو عاصبه
ينميه للعز والعليا أبو حسن ... سمح الخلائق محمود ضرائبه
من آل يعقوب حسب الملك مفتخراً ... بباب عزهم السامي تعاقبه
أطواد حلم رسا بالأرض محتده ... وزاحت منكب الجوزا مناكبه
تحفها من مرين أبحر زخرت ... أمواجها وغمام ثار صائبه
بكل نجم لدي الهيجاء ملتهب ... ينقض وسط سماء النقع ثاقبه
أكفهم في دياجيها مطالعه ... وفي نحور أعاديهم مغاربه
يا خير من خلصت لله نيته ... في الملك أو خطب العلياء خاطبه
جردت والفتنة الشعواء ملبسة ... سيفاً من العزم لا تنبو مضاربه
وخطتها غير هياب ولا وكل ... وقلما أدرك المطلوب هائبه
صبرت نفساً لعقبي الصبر حامدة ... والصبر مذ كان محمود عواقبه
فليهن دين الهدى إذ كنت ناصره ... أمن يواليه أو خوف يجانبه
لا زال ملكك والتأييد يخدمه ... تقضي بخفض مناويه قواضبه
ودمت في نعم تضفوا ملابسها ... في ظل عز علاً تصفو مشاربه
ثم الصلاة على خير البرية ما ... سارت إليه بمشتاق ركائبه
ومن شعره ما قيده لي بخطه صاحب قلم الإنشاء بالحضرة المرينية، الفقيه الرئيس الصدر المتفنن أبو زيد بن خلدون.
صحا القلب عما تعلمين فأقلما ... وعطل من تلك المعاهد أربعا
وأصبح لا يلوى على حد منزل ... ولا يتبع الطرف الخلي المودعا
وأضحى من السلوان في حرز معقل ... بعيد على الأيام أن يتضعضا
يرد الجفان النجل عن شرفاته ... وإن لحظت عن كل أجيد أتلعا
عزيز على داعي الغرام انقياده ... وكان إذا ناداه للوجد أهطعا
أهاب به للشيب أنصح واعظ ... أصاخ له قلباً منيباً ومسمعا
وسافر في أفق التفكر والحجا ... زواهره لا تبرح الدهر طلعا
لعمري لقد انضيت عزمي تطلباً ... وقضيت عمري رقية وتطلعا
وخضت عباب البحر أخضر مزبدا ... ودست أديم الأرض أغبر أسفعا
ومن شعره حسبما قيده المذكور:
نهاه النهي بعد طول التجارب ... ولاح له منهج الرشد لاحب
وخاطبه دهره ناصحاً ... بألسنة الوعظ من كل جانب
فأضحى إلى نصحه واعياً ... وألغى حديث الأماني الكواذب
وأصبح لا تستبيه الغواني ... ولا تزدريه حظوظ المناصب
وإحسانه كثير في النظم والنثر، والقصار والمطولات. واستعمل في السفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة، وهو الآن قاضي مدينة فاس، نسيج وحده، في السلامة والتخصيص، واجتناب فضول القول والعمل، كان الله له.
ابن زمركمحمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد ابن يوسف بن محمد الصريحي، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن زمرك. أصله من شرق الأندلس، وسكن سلفه ربض البيازين من غرناطة، وبه ولد ونشأ، وهو من مفاخره.
حاله

هذا الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، محتص، مقبول، هش، خلوب، عذب الفكاهة، حلو المجالسة حسن التوقيع، خفيف الروح، عظيم الانطباع، شره المذاكرة، فطن بالمعاريض، حاضر الجواب، شعلة من شعل الذكاء، تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة، فكه، غزل، مع حياء وحشمة، جواد بما في يده، مشارك لإخوانه. نشأ عفاً، طاهراً، كلفا بالقراءة، عظيم الدؤوب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ، ظاهر النبل، بعيد مدى الإدراك، جيد الفهم، فاشتهر فضله، وذاع أرجه، وفشا خبره، واضطلع بكثر من الأغراض، وشارك في حملة من الفنون، وأصبح متلقف حكرة البحث، وصارخ الحلقة وسابق الحلبة، ومظنة الكمال. ثم ترقى في درج المعرفة والاضطلاع، وخاض لجة الحفظ، وركض قلم التقييد والتسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس، متكلماً فوق الكرسي المنصوب وبين الحفل المجموع، مستظهرا بالفنون التي بعد فيها شأوه، من العربية والبيان واللغة، وما يقذف به في لج النقل، من الأخبار والتفسير. متشوفاً مع ذلك، إلى السلوك، مصاحباً للصوفية، آخذاً نفسه بارتياض ومجاهدة، ثم عانى الأدب، فكان أملك به، وأعمل الرحلة في طلب العلم والازدياد، وترقى إلى الكتابة، عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب، أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان ابن يعقوب، ثم عن السلطان، وعرف في باب الإجادة. ولما جرت الجادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقر بالمغرب، أنس به، وانقطع إليه، وكر صحبة ركابه، إلى استرجاع حقه، فلطف منه محله، وخصه بكتابة سره. وثابت الحال، ودالت الدولة، وكانت له الطايلة، فأقره على رسمه، معروف الانقطاع والصاغية، كثير الدالة، مضطلعاً بالخطة، خطاً وإنشاء ولسناً ونقداً، فحسن منابه، واشتهر فضله، وظهرت مشاركته، وحسنت وساطته ووسع الناس تخلقه، وأرضى السلطان حمله، وامتد في ميدان النثر والنظم باعه، فصدر عنه من المنظوم في أمدحه، قصائد بعيدة الشأو في مدى الإجادة، حسبما يشهد بذلك، ما تضمنه اسم السلطان أيده الله في أول حرف الميم، في الأغراض المتعددة من القصائد والميلاديات، وغيرها. وهو بحاله الموصوفة إلى الآن. أعانه الله وسدده.
شيوخهقرأ العربية على الأستاذ رحلة الوقت في فنها أبي عبد الله بن الفخار ثم على إمامها القاضي الشريف. إمام الفنون اللسانية، أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد بن لب، واختص بالفقيه الخطيب الصدر المحدث أبي عبد الله بن مرزوق، فأخذ عنه كثيراً من الرواية، ولقي القاضي الحافظ أبا عبد الله المقري عندما قدم رسولا إلى الأندلس وذاكره، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزواوي، وروى عن جملة، منهم القاضي أبو البركات بن الحاج، والمحدث أبو الحسن بن التلمساني، والخطيب أبو عبد الله بن اللوشي، والمقرئ أبو عبد الله بن بيبش. وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس على الشريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلوي التلمساني واختص به اختصاصاً لم يخل فيه من إفادة مران، وحنكة في الصناعة.
شعرهوشعره مترام إلى نمط الإجادة، خفاجي النزعة، كلف بالمعاني البديعة، والألفاظ الصقيلة، غزير المادة. فمنه في غرض النسيب:
رضيت بما تقضي علي وتحكم ... أهان فأقصى أم أصافي فأكرم
إذا كان قلبي في يديك قياده ... فما لي عليك في الهوى أتحكم
على أن روحي في يديك بقاوه ... بوصلك يحيى أو بهجرك يعدم
وأنت إلى المشتاق نار وجنة ... ببعدك يشقى أو بقربك ينعم
ولي كبد تندى إذا ما ذكرتم ... وقلب بنيران الشوق يتضرم
ولو كان ما بي منك بالبرق ما سرى ... ولا استصحب الأنواء تبكي وتبسم
أراعي نجوم الأفق في الليل ما دجى ... وأقرب من عيني للنوم أنجم
وما زلت أخفي الحب عن كل عادل ... وتشفى دموع الصب ما هو يكتم
كساني الهوى ثوب السقام وإنه ... متى صح حب المرء لا شيء يسقم
فيا من له العقل الجميل سجية ... ومن جود يمناه الحيا يتعلم

وعنه يروي الناس كل غريبة ... تخط على صفح الزمان وترسم
إذا أنت لم ترحم خضوعي في الهوى ... فمن ذا الذي حنى علي ويرحم
وحلمك حلم لا يليق بمذنب ... فما بال ذنبي عند حلمك يعظم
ووالله ما في الحي حي ولم ينل ... رضاك وعمته أياد وأنعم
ومن قبل ما طوقتني كل نعمة ... كأني وإياها سوار ومعصم
وفتحت لي باب القبول مع الرضى ... يغض الحي طرفي كأني مجرم
ولو كان لي نفس تخونك في الهوى ... لفارقتها طوعاً وما كنت أندم
وأترك أهلي في رضاك إلى الأسى ... وأسلم نفسي في يديك وأسلم
أما والذي أشقى فؤادي في الهوى ... وإن كان في تلك الشقاوة ينعم
لأنت من قلبي ونزهة خاطري ... ومورد آمالي وإن كنت أحرم
ومن ذلك ما خاطبني به، وهي من أول نظمه، قصيدة مطلعها: " أما وانصداع النور في مطلع الفجر " وهي طويلة. ومن بدائعه التي عقم عن مثلها قياس قيس، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزهد بأويس، ولم يحل مجاريه ومباريه إلا بويح وويس، وقله في إذار الأمير ولد سلطانه المنوه بمكانه، وهي من الكلام الذي عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه، وناسب الحسن بني مديحه ونسيبه:
معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا ... وأن يشغل اللوام بالعذل باليا
دعاني أعط الحب فضل مقادتي ... ويقضي علي والوجد ما كان قاضيا
ودون الذي رام العواذل صبوة ... رمت بي في شعب الغرام المراميا
وقلب إذا ما انبرق أو مض موهناً ... قدحت به زنداً من الشوق وارياً
خليلي إني يوم طارقة النوى ... شقيت بمن لو شاء أنعم باليا
وبالخيف يوم النفر يا أم مالك ... تخلفت قلبي في حبالك عانيا
وذي أشر عذب الثنايا مخصر ... يسقى به ماء النعيم الأقاحيا
أحوم عليه ما دجى الليل ساهرا ... وأصبح دون لورد ظمآن ضاريا
يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي ... إذا البارق النجدي وهنا بداليا
أجيرتنا بالرمل والرمل منزل ... مضى العيش فيه بالشبية حاليا
ولم أر ربعا منه أقضى لبانه ... وأشجى حمامات وأحلى مجانيا
سقت طله الغر الغوادي ونظمت ... من القطر في جيد الغصون لآليا
أبثكم أني على النأي حافظ ... ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا
أناشدكم والحر أوفى بعهده ... ولن يعدم الخير والأحسان جازيا
وورد على السلطان أبي سالم ملك المغرب رحمة الله تعالى عليه وفد الأحابيش بهدية من ملك السودان، ومن جملتها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة، فأمر من يعاني الشعر من الكتاب بالنظم في ذلك الغرض، فقال وهي من بدائعه:
لو لا تألق بارق التذكار ... ما صاب واكف دمعي المدرار
لكنه مهما تعرض خافقاً ... قدحت يد الأشواق زند أواري
وعلى المشوق إذا تذكر معهدا ... أن يغري الأجفان باستعبار
أمذكري غرناطة حلت بها ... أيدي السحاب أزرة النوار
كيف التخلص للحديث وبيننا ... عرض الفلاة وطافح زخار
وغريبة قطعت إليك على الونى ... بيداً تبيد بها هموم الساري
تنسيه طيته التي قد أمها ... والركب فيها مت الأخبار
يقتادها من كل مشتمل الدجى ... وكأنما عيناه جذوة نار
خاضوا بها لجج الفلا فتخلصت ... منها خلوص البدر بعد سرار
سلمت بسعدك من غوائل مثلها ... وكفى بسعدك حامياً لذمار
وأتتك يا ملك الزمان غريبة ... قيد النواظر نزهة الأبصار
موشية الأعطاف رائقة الحلى ... رقمت بدائعها يد الأقدار
راق العيون أديمها فكأنه ... روض تفتح عن شقيق بهار

ما بين مبيض وأصر فاقع ... سال اللجين به خلال نضار
يحكى حدائق نرجس في شاهق ... تنساب فيه أراقم الأنهار
وأنشد السلطان في ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب ما فرغ من البنية الشهيرة ببابه رحمه الله تعالى.
تأمل أطلال الهوى فتألما ... وسيما الجوى والسقم منها تعلما
أخو زفرة هاجت له منه ذكرة ... فأنجد في شعب العزام وأتهما
وأنشد السلطان في وجهة للصيد أعملها، وأطلق أعنة الجياد في ميادين ذلك الطراد وأرسلها قوله:
حياك يا دار الهوى من دار ... نوء السماك بديمة مدرار
وأعاد وجه رباك طلقاً مشرقاً ... متضاحكاً بمباسم النوار
أمذكري دار الصبابة والهوى ... حيث الشباب يرف غصن نصار
عاطيتني عنها الحديث كأنما ... عاطيتني عنها كؤوس عقار
إيه وإن أذكيت نار صبابتي ... وقدحت زند الشوق بالتذكار
يا زاجر الأظعان وهي مشوقة ... أشبهتها في زفرة وأوار
حنت إلى نجد ولست دارها ... وصبت إلى هندية والقار
شاقت به برق الحمى واعتادها ... طيف الكرى بمزارها المزوار
ومن شعره في غير المطولات:
لقد زادني وجداً وأغرى بي الجوى ... ذيال بأذيال الظلام قد التفا
تشير وراء الليل منه بنانة ... مخضبة والليل قد حجب الكفا
تلوح سناناً حين لا تنفح الصبا ... وتبدو سواراً حين تثنى له العصفا
قطعت به ليلا يطارحني الجوى ... فآونة يبدو وآونة يخفى
إذا قلت لا يبدو أشال لسانه ... وإن قلت لا يخبو الصبابة إذ لفا
إلى أن أفاق الصبح من غمرة الدجى ... وأهدى نسيم الروض من طجيبة عرفا
لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي ... وقد شفها من لوعة الحب ما شفا
ومما ثبت له في صدر رسالة:
أرور بقلبي معهد الأنس والهوى ... وأنهب من أيدي النسيم رسائلا
ومهما سألت البرقق يهفو من الحمى ... يبادره دمعي مجيباً وسائلا
يا ليت شعري والأمان ستعلل ... أيرعى لي الحي الكرام الوسائلا
وهل جيرتي الأولى كما قد عهدتهم ... يوالون بالإحسان من جاء سائلا
ومن أبياته الغراميات:
قيادي قد تملكه الغرام ... ووجدي لا يطاق ولا يرام
ودمعي دونه صوب الغوادي ... وشجون فوق ما يشدو الحمام
إذا ما الوجد لم يبرح فؤادي ... على الدنيا وساكنها السلام
وفي غرض يظهر من الأبيات:
ومشتمل بالحسن أحوى مهفهف ... قضى رجع طرفي من محاسنه الوطر
فأبصرت أشباه الرياض محاسناً ... وفي خده جرح بدا من ه لي أثر
فقلت لجلاسي خذوو الحذر إنما ... به وصب من أسهم الغنج والحور
ويا وجنة قد جاورت سيف لحظة ... ومن شأنها تدمى من اللمح بالبصر
تخيل للعينين جرحاً وإنما ... بدا كلف منه على صفحة القمر
ومما يرجع إلى باب الفخر، ولعمري لقد صدق في ذلك:
يا لايمي في الجود والجود شيمتي ... جبلت على آثارها يوم مولدي
ذريني فلو أني أخلد بالغنى ... لكنت ضنيناً بالذي ملكت يدي
ومن مقطوعاته:
لقد علم الله أني امرؤ ... أجرر ثوب العفاف القشيب
فكم غمض الدهر أجفانه ... وفازت قداحي بوصل الحبيب
وقيل رقيبك في غفلة ... فقلت أخاف الإله الرقيب
وفي مدح كتاب الشفا طجلبه الفقيه أبو عبد الله بن مرزوق عندما شرع في شرحه:
ومسرى ركاب للصبا قد ونت به ... نجائب سحب لللتراب نزوعها
تسل سيوف البرق أيدي حداتها ... فتنهل خوفاً من سطاها دموعها
ومنها:
ولا مثل تعريف الشفاء حقوقه ... فقد بان فيه للعقول جميعها

بمرآة حسن قد جلتها يد النهى ... فأوصافه يلتاح فيه بديعها
نجوم اهتداء والمداج يجنها ... وأسرار غيب واليراع تذيعها
لقد حزت فضلا يا أبا الفضل شاملا ... فيجزيك عن نصح البرايا شفيعها
ولله ممن قد تصدى لشرحه ... فلباه من غر المعاني مطيعها
فكم مجمل فصلت منه وحكمة ... إذا كتم الإدماج منه تشيعها
محاسن والإحسان يبدو خلالها ... كما افتر عن زهر البطاح ربيعها
إذا ما أصول المرء طابت أرومة ... فلا عجب أن أشبهتها فروعها
بقيت لأعلام الزمان تنيلها ... هدى ولأحداث الخطوب تروعها
ومما امتزج فيه نثره ونظمه، وظهر فيه أدبه وعلمه، قوله يخاطبني جواباً عن رسالة خاطبت بها الأولاد، وهم مع مولانا أيده الله بالمنكب:
مالي بحمل الهوى يدان ... من بعد ما أعوز التداني
أصبحت أشكو من زمان ... ما بت منه على أمان
ما بال عينيك تسجمان ... والدمع يرفض كالجمان
ناداك والإلف عنك وان ... والبعد من بعده كوان
يا شقة النفس من هوان ... لجج في أبحر الهوان
لم يثن عن هواك ثان ... يا بغية القلوب قد كفان
يا جانحة الأصيل، أين يذهب قرصك المذهب، وقد ضاق بالشوق المذهب. أمست شموس الأنس محجوبة عن عيني، وقد ضرب البعد الحجاب بينها وبيني، وعلى كل حال. من إقامة وارتحال. فما محلك من قلبي محلا بينها. وما كنت لأقنع من وجهك تخيلا وشبيهاً. ومن أين انتظمت لك عقول التشبيه واتسقت، ومن بعض المواقع والشمس لو قطعت. صادك منذور، وأنت تتجمل بثوبي زور، وجيب الظلام على دينارك حتى الصباح مزرور، ووراءك من الغروب غريم لا يرحم، ومطالب تتقلب منه في كفه المطالب. ويا برق الغمام من أي حجاب تبتسم، وبأي صبح ترتسم، وأي غفل من السحاب تسم أليست مباسم الثغور لا تنجد بأفقي ولا تغور. هذا وإن كانت مباسمك مساعدة، والجو ملبس لها من الوجوم شعاراً، فلطالما ضحكت فأبكت الغوادي، وعقت الرايح والغادي. أعوذ بواشم البروق، بنواسم الطفل والشروق، ذوات الزايرات المتعددة الطروق، فهي التي قطعت وهاداً ونجادا، واهتدت بسيف الصباح من السحاب قرابا. ومن البروق نجادا، واهتدت خبر الذين أحبهم مستظرفاً مستجاداً، فعالها ولعلها. والله يصل في أرض الوجود نهلها وعلها، وأن يبل ظعين الشوق بنسيمها البليل، وأن نعوضه من نار الغليل، بنار الخليل، وخير طبيب يداوي الناس وهو عليل. فشكواي إلى الله لا أشكو إلى أحد. هل هو إلا فرد تسطو رياح الأشواق على ذبالته، وعمر الشوق قد شب على الطوق، ووهب الجمع للفرق، ولم يقنع بالمشاهدة بالوصف دون الذوق. وقلب تقسم أحشاؤه الوجد، وقسم باله الغور والنجد. وهموم متى وردت قليب القلب، لم تبرح ولم تعد، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

أستغفر الله يا سيدي الذي يوقد أفكاري حلو لقائه، وأتنسم أرواح القبول من تلقايه. وأسأل الله أن يديم لي آمالي بدوام بقايه. إن بعد مداه، قربت منا يداه، وإن أخطأنا رفده أصبنا نداه. فقمرات آدابه الزهر تجيء إلينا، وسحايب بنانه الغر تصوب دوالينا أو علينا، على شحط هواه، وبعد منتواه. ولا كرسالة سيدي الذي عمت فضايله وخصت، وتلت على أولياء نعمته أنباء الكمال وقصت، وآي قضى كل منها عجبا، ونال من التماح غرتها واجتلاء صفحتها أرباً. فلقد كرمت عنه بالاشتراك في بنوته الكريمة نسباً، ووصلت لي بالعناية منه سبباً. تولى سيدي خيرك من يتولى خير المحسنين، ويجزل شكر المنعمين. أما ما تحدث به من الأغراض البعيدة العذيبة، وأخبر عنه من المعاني الغريدة العجيبة، والأساليب المطيلة، فيعجز عن وصفه، وإحكام رصفه، القلم واللسان، ويعترف لها بالإبداع المستولي على أمد الإحسان البديع وحسان. ولقد أجهدت جياد الأرتجال، في مجال الاستعجال، فما سمحت القريحة إلا بتوقع الآجال، وعادت من الإقدام إلى الكلال. فعلمت أن تلك الرسالة الكريمة، من الحق الواجب على من قرأها وتأملها، أن لا يجري في لجة من ميادينها، ويديم يراع سيدي الإحسان كرينها، لا كن على أن يفسح الرياض للقصى مدى ويقتدي بأخلاق سيدي التي هي نور وهدى. فإنه والله يبقيه، ويقيه مما يتقيه، بعد ما أعاد ي شكوى البين وأبدى، وتظلم من بالبعد واتسعدى، ورفع حكم العتاب عن ذرات النسيم والاقتعاب، ورعى وسيلة ذكرها ف محكم الكتاب. وولي فضله ما تولى، وصرف هواه إلى هوى مولى أن صور السعادة على رأيه، أيده الله تجلى، وثمرة فكره المقدس، أيده الله تتحلى. شكر الله له عن جميع نعمه التي أولى، وحفظ عليه مراتب الكمال التي هو الأحق بها والأولى. وقد طال الكلام، وجمحت الأقلام. ولسيدي وبركتي الفضل، أبقى الله بركته، وأعلى في الدارين درجته، والسلام الكريم يخصكم، من مملوككم ابن زمرك، ورحمة الله وبركاته، في الخمس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين.
وخاطبني كذلك، وهو من الكلام المرسل: أبو معارفي، وولي نعمتي، ومعيد جاهي، ومقوم كمالي، ومورد آمالي، ممن توالى نعمه علي، ويتوفر قسمه لدي؛ وأبوء له بالعجز، عن شكر أياديه. التي أحيت الأمل، وملأت أكف الرغبة، وأنطقت الحدايق، فضلا عن اللسان، وأياديه البيض وإن تعددت، ومننه العميمة، وإن تجددت، تقصر عن إقطاع أسمى شرف المجلس في الروض الممطور بيانه. فماذا أقول، فيمن صار مؤثراً إلي بالتقديم، جالياً ثورة تشريفي، بالانتساب إليه في أحسن التقويم.... وإني ثالث اثنين أتشرف بخدمتها، وأسحب في أذيال نعمتها.
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من تمشى إليه عبيد
اللهم أوزعني شكر هذا المنعم، الذي أثقلت نعمه ظهر الشكر، وأنهضت كمال الحمد، اللهم أدم بجميع حياته، وأمتع بدوام بقايه الإسلام والعباد، وأمسك بيمن آرائه رمق ثغر الجهاد. يا أكرم مسئول، وأعز ناصر. تفضل سيدي، والفضل عادته، بالتعريف بما يقر عين التطلع ويقنع غلة التشوف. ولقد كان المماليك لما مثلنا بين يدي مولانا، أيده الله، لم يقدم عملاً عن السؤال ولا عن الحال، إقامة لرسم الزيارة، وعملاً بالواجب، فإنني أرى الديار بطرفي، فعلى أن أرى الديار بعيني، وعلى ذلك يكون العمل إن شاء الله. وإن سأل سيدي شكر الله احتفاءه، وأبقى اهتمامه، عن حال المماليك، من تعب السفر، وكذ الطريق، فهي بحمد الله دون ما يظن. فقد وصلنا المنكب تحت الحفظ والكلاءة، محرزين شرف المساوقة، لمواكب المولى، يمن الله وجهته، وكتب عصمته، واستقر جميعنا بمحل القصبة، وتاج أهبتها، ومهب رياح أجرايها، تحت النعم الثرة، والأنس الكامل الشامل. قرب الله أمد لقايكم وطلع على ما يسر من تلقايكم. ولما بلغنا هذه الطية، وأنخنا المطية، قمنا بواجب تعريفكم على الفور بالأدوار، ورفعنا مخاطبة المالك على الابتداء، والسلام.
مولده: في الرابع عشر من شوال ثلاث وثلاثين وسبعمائة ومن الطارئين منهم في هذا الباب
ابن أبي خيثمة الجبائيمحمد بن أحمد بن محمد بن أبي خيثمة الجبائي سكن غرناطة يكنى أبا الحسن
حالهكان مبرزاً في علوم اللسان نحواً ولغة وأدباً، متقدما في الكتابة والفصاحة؛ جامعاً فنون الفضائل، على غفلة كانت فيه.
مشيخته

روى عن أبي الحسن بن سهل، وأبي بكر بن سابق، وأبي الحسن بن الباذش، وأبي علي الغساني وغيرهم. وصحب أبا الحسن بن سراج صحبة مواخاة.
تواليفهصنف في شرح غريب البخاري مصنفاً مفيداً.
توفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وخمس ماية.
الإستنجي الحميريمحمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد الإستنجي الحميري من أهل مالقة، وأصله من إستجة، انتقل سلفه إلى مالقة، يكنى أبا عبد الله.
حالهكان من جملة لحملة العلم، والغالب عليه الأدب، وكان من أهل الجلالة، ومن بيت علم ودين. أقرأ ببلده، وقعد بالجامع الكبير منه، يتكلم على صحيح البخاري، وانتقل في آخر عمره إلى غرناطة.
وقال الأستاذ، كان من أبرع أهل زمانه في الأدب نظماً ونثراً.
شعرهمنقولا من خط الوزير الراوية أبي محمد عبد المنعم بن سماك، وقد ذكر أشياخه فقال: الشيخ المتفنن الأديب، البارع، الشاعر المفلق، قرأ على أشياخها، وأقرأ وهو دون العشرين سنة. وكانت بينه وبين الأستاذ المقري الشهير أبي العباس الملقب بالوزعي قرابة، وله قصيدة أولها:
ما للنسيم لدى الأصيل عليلا
ومنها:
حتى النسيم إذا ألم بأرضهم ... خلعوا عليه رقة ونحولا
وكان يقول: كان الأستاذ أبو العباس، يستعيدني هذا البيت، ويقول نعم أنت قريبي، وقدم على غرناطة أظن سنة تسع وثلاثين وستمائة.
محنتهقال الأستاذ جرى له قصة، نقل بعض كلامه فيها، على بعض أحاديث الكتاب من جهة استشهاد أدبي عليه فيها؛ غالب أدبه. فأطلق عنان الكلام، وما أكثر مما يطلق فيما يأنفه، إداركات تلك الأفهام. ولكل مقام مقال. ومن الذي يسلم من قيل وقال. وكان ذلك سبب الانقطاع، ولم يؤت من قصر باع، وانتقل إلى غرناطة، فتوفي في أثر انقطاعه وانتقاله.
شعرهمن ذلك قوله في غرض يظهر من الأبيات:
قضوا في ربي نجد ففي القلب مرساه ... وغنوا إن أبصرتم ثم مغناه
أما هذه نجد أما ذلك الحمى فهل عميت عيناه أم صمت أذناه
دعوه يوفي ذكره باتشامه ... ديون هواه قبل أن بتوفاه
ولا تسألوه سلوة فمن العنا ... رياضة من قد شاب في الحب فوداه
أيحسب من أصلي فؤادي بحبه ... أني أسلو عنه حاشاه حاشاه
متى غدر الصب الكريم وفي له ... وإن أتلف القلب الحزين تلافاه
وإن حجروا معناه وصرحوا به ... فإن معناه أحق بمعناه
ويا سابقاً عيسى الغرام سيوفه ... وكل إذا يخشاه في الحب يخشاه
أرحها ذابت من الوجد والسرى ... ولم يبق إلا عظمها أو بقاياه
ويا صاحبي عج بي على الخيف من منى ... وما التعني لي من بأني ألقاه
وعرج على وادي العقيق لعلني ... أسايل عمن كان بالأمس مأواه
وقل لليالي قد سلقن بعيشه ... وعمر على رغم العذول قطعناه
هل العود أرجوه أم العمر ينقضي ... فأقضي ولا يقضى الذي أتمناه
ومن شرعه أيضاً، قوله، رحمه الله:
سرت من ربي نجد معطرة الريا ... يموت لها قلبي وآونة يحيا
تمسح أعطاف الأراك بليلة ... وتنثر كافوراً على التربة اللميا
ومرتد في حجر الرياض مريضة ... فتحيي بطيب العرف من لم يكن يحيا
وبشرت بأنفاس الأحبة سحرة ... فيسرع دمع العين في إثرها جريا
سقني الله دهراً ذكره بنعيمه ... فكم لجفوني عند ذكراه نم سقيا
ملني محياه الأنيق وحسنه ... ومن خلقي قد كنت لا أحمل النأيا
وبي رشأ من أهل غرناطة غدا ... يجود بتعذيبي ويبخل باللقيا
رماني فأصابني بأول نظرة ... فيا عجباً من علم الرشأ الرميا
وبدد جسمي نوره وكأنه ... أشعة شمس قابلت جسدي ملياً
تصور لي من عالم الحسن خالصاً ... فمن عجب أن كان من عالم الدنيا

وهم بأن يرقى إلى الحور جسمه ... فثقلته كتباً وحملته حليا
إذا ما انثنى أو لاح أوجاح أو رنا ... سبا القصب والأقمار والمسك والضيا
رعى الله دهراً كان ينشر وصله ... برود طواها البين في صدره طيا
مشيختهومما يشتمل على أسماء شيوخه، ويدل على تبحره في الأدب ورسوخه، إجازته أبا الوليد إسماعيل بن تبر الأيادي، وعندها يقال، أتى الوادي.
إن لي عند كل نفحة بستان ... من الورد أو من الياسمينا
نظرة والتفاتة أتمنى ... أن تكوني حللت فيما تلينا
ما هذه الأنوار اللايحة، والنوار الفاتحة، إني لأجد ريح الحكمة، ولا مفند، وأرد مورد النعمة ولا منكد، أمسك دارين ينهب، أم المندل الرطب في الغرام الملهب، أم نفحت أبواب الجنة ففاح نسيمها، وتوضحت أسباب المنة، فلاح وسيمها.
محياك أم نور الصباح تبسما ... ورياك أم نور الأقاح تنسما
فمن شم من ذا نفحة رق شيمة ... ومن شام من ذا لمحة راق مبسما
أجل خلق الإنسان من عجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " لتفهموا أسرار الحكم وتعوا، وإذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا " ، يعني مجالس الذكر، ومأنس النظر والفكر، ومطالع المناظرة، وخواضع المحاضرة، فهذه بتلك، وقد انتظمت الجواهر النبيوية في سلك، ولهان حمى للعطارة وطيس، بين مسك المداد، وكافور القراطيس. فيا أيها المعلم الأوحد، والعالم الذي لا تنكر أمامته ولا تجحد، حومت على علم الملوك، ولزمت بحلم طريق الحكم المسلوك، فلم تعد أمل الحكماء، ولم تعد إلا بعمل العلماء، وقد قال حكيمهم الفاضل وعظيمهم الذي لا مناظر له ولا مفاضل، إذا خدمت الأمراء، فكن بين استلطاف واستعطاف، تجن المعارف والعوارف، دانية القطاف. فتعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وترويهم، وكأنك تروي عنهم، فأجريت الباب، وامتريت من العلم اللباب، ثم لم تبعد، فقد فعل النحويون ذلك في يكرم، ويعد، ويعز، ولا غرو أن تقرأ على من هو دونك. وستتجيز الإجازة عن القوم العظام، يقصدونك. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أمره الله بأن يقرأ على أبي بن كعب، " فهل في حي الخواطر الذكية من حي " ، فقال له رضي الله عنه، الله أمرك أن تقرأ علي، والعناية الربانية، تنادى إلي إلي، وإذا قال لي من أحب مولاي، واستعار لزينته حلاي:
فما على الحبيب من اعتراض ... وللطبيب تصرف في المراض
قد يرحل المرء لمطلوبه ... والسبب المطلوب في الراحل
عجت متواضعاً، فما أبرمت في معاجك، ولا ظلمت في السؤال، نعجته إلى نعاجك، فإنه سر الله، لا يحل فيه الإفشاء، وحكمة الله البالغة، والله يؤتى الكمة من يشاء، وإن لبست من التواضع شعاراً، ولبست عن الترفع تنبيهاً على السر المكتوم وإشعاراً. فهذه الثريا من العجايب إذا ارتفعت في أعلى صعودها، وأسمى راياتها الخافقة وبنودها. نهاية وجودها الحسي عدم، وغاية وصفها الشبهي، أن تشبه بقدم، فإذا همت بالركوع، وشمت في المغرب ريح الوقوع، كان لها من السمو القدح المعلى، وعادت قرطاً تنزين به الآذان وتتحلى.
وفي الشرق كأس وفي مغاربها ... قرط وفي وسط السماء قدم
هذه آثار التواضع متلوة السور، مجلوة الصور، وكان بعضهم إذا أعطى الصدقة، يعطيها ويده تحت يد لسايل، وهكذا تفهم المايل. فإنه لما سمع النبوة تقول، اليد العليا، خير من اليد السفلى، أراد أن يؤثر المقام الأعلى. ولما أعطى أبو بكر، رضي الله عنه. ماله كله، أعطى عمر رضي الله عنه النصف من المال لا احتياطاًً على ماله؛ ولكن ليقف لأبي بكر في مقام القصور عن كماله، تفويضاً وتسليماً، وتنبيهاً لمن كان له قلب وتعليما. ورؤى الدار قطني رحمة الله عليه يحبس أباه بركابه، فلا ينكر عليه، فقيل له في ذلك، فقال رأيته يبادر إلى فضيلة فكرهت مخالفته.
فوق السماء وفوق الزهر ما طلبوا ... وإذا ما أرادوا غاية نزلوا

وإلى هذا وصل الله حفظك، وأجزل من الخيرات حظك، فإنه وصلتني الكراسة المباركة، الدالة على التفنن في العلوم والمشاركة، فبينما أنا أتلو الإجازة، وأريق سدور البيان وإعجازه، ألقي إلي كتاب كريم، إنه من أبي الوليد، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، فحرت، ووقفت كأنني سحرت، وقلت ساحران تظاهرا معاً، وأحدهما قاتلي، فكيف إذا اجتمعا.
فلو كان رمحاً واحداً التقيته ... ولا كنه رمح وثان وثالث
ومن لعبت بشيمته المثاني ... فأحرى أن تطير به المثالث
وطار بي الشوق كل مطار، وقرأت سماء فكرتي سورة الانفطار، وكدت أصعد إلى السماء توقداً، واختلط بالهواء توددا.
كانت جواهرنا أوايل قبل ذان ... فالآن صارت بالتحول ثوان
وجدت وراء الحسن وهي كثيفة ... فوجودهن الآن في الأذهان
ولم يكف أن بهرت بالحسن الخلوب، حتى أمرت أن أنظم على ذاك الأسلوب، وبالحرى لذلك النثر البديع، الحريري أو البديع، ولذلك النظم العجيب، المتنبي أو حبيب، ولذلك التصوف الرقيق، الحارث بن أسد ذي التحقيق. وأما الحديث، فما لك تقطع تلك المسالك، إلا أن العربية ليس لأحد معه فيها دليل، أستغفر الله إلا للخليل، لا كن أصول الدين مجرية، تركت تلك الميادين. هناك الله جمع كل منقبة جليلة، فترى الفضيلة لا ترد فضيلة، فمر الرديف وقد ركب غضنفرا، أو المدعي صفة فضل، وكل الصيد في جوف الفرا، من يزحم البحر بغرق، ومن يطعم الشجر يشرق. وهل يباري التوحيد بعمل، أو يجاري البراق بجمل. ذلك انتهى إلى سدرة المنتهى. وهل انبرى ليطم خده في الثرى. لا تقاس الملايكة بالحدادين، ولا حكماء يونان بالقدادين. أفي طريق الكواكب يسلك، وعلى الفلك الأثير يستملك. أين الغد من الأمس، وظلمة الغسق من وضح الشمس. ولولا ثقتي بغمام فضلك الصيب لتمثلت لنفسي بقول أبي الطيب:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غبارى ثم قال له الحق
فإن رضيت أيها العلم، فما لجرح إذا أرضاكم ألم. تر كيف أجاري أعوج بمغرب أهوج وأجاري ذا العقال بجحش في عقال. ظهر بهذه الظلمة، ذلك الضياء، وبضدها تتبين الأشياء. وما يزكو بياض العاج حتى يضاف إلى سواد الأبنوس. ألفاظ تذوب رقة، وأغراض تملك حب الكريم ودرة الزهر، والزهر بين بنان وبيان، والدر طوع لسان وإحسان.
وقالوا ذاك سحر بأهلي ... فقلت وفي مكان الهاء باء
وأما محاسن أبي الوليد، فيقصر عنها أبو تمام وابن الوليد.
معان لبسن ثياب الجمال ... وهزت لها الغانيات القدودا
كسون عبيداً ثياب عبيد ... وأضحى لبيد لديها بليداً
وكيف أعجب من إجرايك لهذه الجياد، وأياديك من إياد. أو رثت هذه البراعة المساعدة، عن قس بن ساعدة. أجدك أنت الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال، كأني أنظر إليه في سوق عكاظ على جمل أورق، وهو يقول أيها الناس: مطر ونبات، وآباء وأمهات، إلى قوله:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصاير
لما رأيت موارد للموت ... ليس لها مصادر
أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صاير
إيه بغير تمويه. رجع الحديث الأول إلى ما عليه المعول. سألتني إيها السيد الذي يجب إسعافه، أن أرغم أنف القلم حتى يجري رعافه، وأن أكحل جفون الأوراق بمداد الأقلام، وأن أجمع الطروس والأمدة، بين إصباح وإظلام، وأطرز بياض السوسن بخضرة الآس، وأبرز العلم الأبيض تحت راية بين العباس، فقلت مبادراً ممتثلاً، وجلت في ميدان الموافقة متمثلاً:
لبيك لبيك أضعافاً مضاعفة ... إني أجبت ولكن داعي الكرم
أتى من المجد أمر لا مرد له ... أمشي على الرأس فيه لا على القدم
دعاء والله نجاب، ونداء ليس دونه حجاب
كتبت ولو أني أستطيع ... لإجلال قدرك بين البشر
قددت البراعة من أنملى ... وكأن المداد سواد البصر

نعم أجزت سيدي الفقيه الأجل، الخطيب الأكرم، العالم العلم، الأحد الأكمل، الحسيب الأحفل الأطول، أبا الوليد بن الفقيه الأجل، المعظم الموقر، المكرم المبارك الأظهر، المرحوم أبي زكريا يحيى بن سعيد بن قترى الأيادي القنرموني، وبنيه السادات، النجباء المباركين، أبا القاسم أحمد. وأبا إسحق إبراهيم، وأبا الحسين بتزيل. ونعمت الأغصان والشجرة، والأفنان والثمرة، أقر الله بهم أعين المجد، ولا زالوا بدورا في مطالع السعد، ولا برحوا في مكارم، يجنون نوارها، ويجتلون أنوارها، وتفيض عليهم يد العناية الآلهية، نهرها الكوثري ونهارها، جميع ما رويته، قراءة وسماعاً، وإجازة ومناولة من العلوم على اختلافها، وتباين أصنافها، بأي وجه رويته، وعلى أي وصف تقلدته ودريته، وكذلك أجزتهم جميع ما قلته وأقوله. من مسطور ومرسوم، ومنثور ومنظوم، وتصرفت فيه من منقول ومفهوم، وقصايدي المسماة بالروحانيات، ومعشراتي الحبيبات، وما نظمته من الوتريات، وشرحي لشعر أبي الطيب المسمى بظهور الإعجاز بين الصدور والأعجاز، وكتابي المسمى شمس البيان في لمس البنان، والزهرة الفايحة في الزهرة اللايحة، ونفح الكمامات في شرح المقامات، واقتراح المتعلمين في اصطلاح المتكلمين، وكتاب التصور والتصديق في التوطية لعلم التحقيق، ورقم الحلل في نظم الجمل، ومفتاح الإحسان في إصلاح اللسان. وما أنشأته من السلطانيات نظماً ونثراً، وخطابة وشعراً. والله تعالى يجعل أعمالنا خالصة لوجهه بمنه وكرمه، فليقل الفقيه الأجل، وبنوه الأكرمون رضي الله عنهم، أنبأنا وأخبرنا وحدثنا أو ما شاءوا من ألفاظ الرواية، بعد تحري الشروط المرعية، في الإجازات الشرعية، وإن ذهبوا حفظ الله كمالهم، وأراهم في الدارين آمالهم، إلى تسمية من لي من المشايخ قدس الله أرواحهم، وزحزح عن النار أشباحهم: فمنهم الأستاذ الخطيب الكبير، العالم الفاضل الجليل، البقية الصالحة، آخر الأدباء، وخاتمة الفضلاء، أبو جعفر أحمد بن يحيى بن إبراهيم الحميري القرطبي الدار، رضي الله عنه. قرأت عليه بقرطبة، شعر أبي الطيب، قراءة فهم لمعانيه، وأعراب لألفاظه؛ وتحقيق للغته، وتنقير عن بديعه. وكذلك قرأت عليه أكثر شعر أبي تمام. وسمعت عليه كتاب الكامل لأبي العباس المبرد، ومقامات التميمي، كان يرويها عن منشيها، وكانت عنده بخط أبي الطاهر. وتفقهت عليه تبصرة الضمري. وكان على شياخته رحمه الله، ثابت الذهن، مقبل الخاطر، حافظاً المعيا.
يروع ركانة ويذوب ظرفا ... فما تدري أشيخ أم غلام
نأتيه بمقاطع الشعر فيصلحها لنا، ويقف على ما نستحسنه منها، فنجده أثبت منا، ولقد أنشدته يوماً، في فتى مفقود العين اليسرى:
لم تزو إحدى زهرتيه ولا انثنت ... عن نورها وبديع ما تحويه
لكنه قد رام يغلق جفنه ... ليصب بالسهم الذي يرميه
فاستفادهما وحفظهما. ولم يزل رحمه الله، يعيدهما مستحسناً لهما، متى وقع ذكري. وكان يروى عن الأمام المازري بالإجازة، وعن القاضي أبي مروان بن مسرة، وعن الأستاذ عباس، وعن أبي عبد الله بن أبي الخصال.
ومنهم الفقيه الأجل العالم العدل، المحدث الأكمل، المتفنن، الخطيب، القاضي أبو محمد بن حوط الله، سمعت عليه كتباً كثيرة بمالقة، بقراءة الفقيه الأستاذ أبي العباس بن غالب، ولقيته بقرطبة أيضاً، وهو قاضيها. وحدثني عن جدي، وعن جملة شيوخ. وله برنامج كبير. وأخوه القاضي الفاضل، أبو سليمان أيضاً منهم.
ومنهم الفقيه الأجل، العالم العلم، الأوحد. النحوي، الأديب المتقن، أبو علي عمر بن عبد المجيد الأزدي، قرأت عليه القرآن العزيز مفردات، وكتاب الجمل، والإيضاح وسيبويه تفقهاً، وكذلك الأشعار الستة تفقهاً، وما زلت مواظباً له إلى أن توفي رحمه الله. وكان فريد عصره في الذكاء، ولم يكن في حلبة الأستاذ أبي زيد السهيلي أنجب منه على كثرتهم. وقد قال الأستاذ أبو القاسم السهيلي للإمام المنصور رضي الله، هو أقعد لكتاب سيبويه منا. وقال لي يوما، وقد نظر إلى طالب يصغي بكليته إلى ثان، فقلت ماذا، فقال إن حب الشيء يعمي ويصم، فقلت له، ويعيد الصبح ليلاً مدلهم، فاستحسته.

ومنهم الفقيه الأجل، الأديب الأريب الكامل، اللغوي الشهير، أبو علي ابن كسرى الموري، قريبي ومعلمي. وكان من طلبة أبي القاسم السهلي، وممن نبغ صغيراً. وهو الذي أنشد في طفولته السيد أبا أسحق الكبير بإشبيلية:
قسما بحمص وإنه لعظيم ... فهي المقام وأنت إبراهيم
وكان بالحضرة الأستاذ أبو القاسم السهيلي، فقام عند إتمامه القصيدة، فقال لمثل هذا كنت أحسيك الحسا، ولمث هذا كنت أواصل في تعليمك الإصباح والإمساء وقد أنشد هذا لأمير المؤمنين أب يعقوب رضي الله عنه:
أمعشر أهل الأرض بالطول والعرض ... بهذا أنادي في القيامة والعرض
فقد قال الله فيك ما أنت أهله ... فيقضي بحكم الله فيك بلا نقض
فإياك يعني ذو الجلال بقوله ... كذلك مكنا ليوسف في الأرض
ومهم الفقيه الأجل، العالم المحدث، الحافظ الفاضل المؤثر، السيد أبو محمد القرطبي. قرأت عليه القرآن بالروايات مفردات، وتفقهت في الجمل والأشعار، وأجازني جميع ما رواه. وكذلك فعل كل واجد ممن تقدم ذكره. وكان رحمه الله آخر الناس علماً ونزاهة وحسن خلق، وجمال سمت وأبهة ووقار، وإتقان وضبط، وجودة وحفظ.
ومنهم الفقيه الأجل، الحاج الفاضل، الشهيد في كاينة العقاب، المحدث الورع، الزاهد الطاهر، أبو عبد الله بن حسين بن صاحب الصلاة الأنصاري، وعليه كان ابتداي للقراءة، وكان مبارك التعليم. حسن التفهيم، شديد التواضع.
ومنهم الفقيه الأجل الفاضل الورع، المحدث، الحاج الملهم، المجاب الدعوة، الميمون النقيبة الأواب. أبو الحجاج بن الشيخ. رضي الله عنه. وهذا الكتاب على الإطالة مني. ولكن القرطاس فني، والسلام الأتم عليكم، ورحمة الله وبركاته. قال ذلك، وكتبه، العبد المعترف بذنبه، الراجي رحمة ربه. محمد بن عبد الله الحميري ثم الإستجي، في أواسط شعبان المكرم من عام أحد وأربعين وستمائة.
وفاتهمن خط الوزير أبي محمد عبد المنعم بن سماك. قال، قدم غرناطه، أظن سنة تسع وثلاثين وستمائة، وشكى علة البطن مدة ثمانية أشهر بدار أبي رحمه الله، مرضناه الثلاثة الأخوة، إلى أن توفي رحمه الله، ودفن بمدفنه، مغنى الأدب، بروضة الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك.
محمد بن أحمد بن علي الهوارييكنى أبا عبد الله، ويرعف بابن جاب رمن أهل ألمرية.
حالهرجل كفيف البصر، مدل على الشعر، عظيم الكفاية والمنة، على زمانته. رحل إلى المشرق، وتظافر برجل من أصحابنا يعرف بأبي جعفر الإلبيري، صارا روحين في جسد، ووقع الشعر منهما بين لحسي أسد، وشمر للكدية، فكان وظيف الكفيف النظم، ووظيف البصير الكتب، وانقطع الآن خبرهما. وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: محسوب، من طلبتها الجلة، ومعدود فيمن طلع بأفقها من الأهلة، رحل إلى المشرق، وقد أصيب ببصره، واستهان في جنب الاستفادة بمشقة سفره، على بيان عذره، ووضوح ضره.
شعرهوشعره كثير، فمنه قوله:
سلوا مسر ذاك الخال في صفحة الخد ... متى رقموا بالمسك في ناعم الورد
ومن هو غصن القد منها لفتنتي ... وأودعه رمانتي ذلك النهد
ومزمتي القصب اللدان بوصلها ... إلى أن أعزر الحسن من ذلك القد
فتاة تفت القلب مني بمقلة ... له رقة الغزلان في سطوة الأسد
تمنيت أن تهدي إلى نهودها ... فقالت رايت البدر يهداه أو يهد
فقلت وللرمان بد من الجنا فتاهت وقالت باللواحظ لا الأيد
فقلت ليس للقلب عندك حاصل ... وقالت قلوب الناس كلهم عندي
وقلت اجعليني من عبيدك في الهوى ... فقالت كفاني كم لحسني من عبد
إذا شئت أن أرضاك عبداً فمت ... هوى ولا تشكي واصبر على ألم الصد
ألم تر أن النحل يحمل ضرها ... لأجل الذي تجنيه من خالص الشهد
كذلك بذل النفيس سهل لذي النهى ... لما يكسب الإنسان من شرف الحمد
ألست ترى أزجاته طالما أضاع ... كريم المال في طلب المجد
ومن شعره أيضاً قوله:
عرج على بان العذيب وناد ... وأنشد فديتك إن حل فؤادي

وإذا مررت على المنازل بالحما ... فاشرح هنالك لوعتي وسهادي
إيه فديتك يا نسيمة خبري ... أرب الأحبة والحمى والوادى
يا سعد قد بان العذيب وبانه ... فانزل فديتك قد بدا إسعادى
خد في البشارة مهجتي يوما إذا ... بان العذيب ونور حسنه سعادي
قد صح عيدي يوم أبصر حسنها ... وكذا الهلال علامة الأعياد
ومما نقلناه من خبر قيده لصاحبنا الفقيه الأستاذ أبي علي منصور الزواري، ومما أدعاه لنفسه:
علي لكل ذي كرم ذمام ... ولي بمدارك المجد اهتمام
وأحسن ما لدي لقاء حر ... وصحبته معشر بالمجد هام
وإني حين أنسب من أناس ... على قمم النجوم لها مقام
يميل بهم إلى المجد ارتياح ... كما مالت بشارتها المرام
هم لبسوا أديم القيل برداً ... ليسفر من مرادهم الظلام
هم جعلوا متون العيش أرضا ... فمذ عزموا الرحيل فقد أقام
فمن كل البلاد لنا ارتحال ... وفي كل البلاد لنا مقام
وحول موارد العلياء منها ... لنا مع كل ذي شرف زحام
تصيب سهامنا غرض المعالي ... إذا ضلت عن الغوص السهام
وليس لنا من المجد اقتناع ... ولو أن النجوم لنا قيام
ننزه عرضنا عن كل لوم ... فليس يشين سؤددنا ملام
ونبذل لا نقول العام ماذا ... سواء كان خصب أو حطام
إذا ما المحل عم بلاد قوم ... أثبناها فجاد بنا الغمام
وإن حضر الكرام ففي يدينا ... ملاك أمورهم ولنا الكلام
وفينا المستشار بكل علم ... ومنا الليث والبطل الهمام
فميدان الكلام لنا مداه ... وميدان الحروب بنا يقام
كلا الأمرين ليس له بقوم ... سوانا يوم نازلة تمام
يريق دم المداد بكل طرس ... وليس سوى اليراع لنا سهام
ونكتب بالمثقفة العوالي ... بحيص الطرس لبات وهام
إذا عبست وجوه الدهر منا ... إليها فانثنت ولها انتقام
لقد علمت قلوب الروم أنا ... أناس ليس يعوزنا مرام
وليس يضيرنا أنا قليل لعمر أبيك ما كثر الكرام
إذا ما الراية الحمراء هزت ... نعم فهناك للحرب ازدحام
وما أحمرت سدى بل من دماً ... ليس على جوانبها انسجام
تظلل من بني نصر ملوكا ... حلال النوم عندهم حرام
فكم قطعوا الدجى في وصل مجد ... ومكم سهروا إذا ما الناس نام
أبا الحجاج لم تأت الليالي ... بأكرم منك إن عد الكرام
ولا حملت ظهور الخيل أمضى ... وأشجع منه إن هز الحسام
وأني جئت من شرق لغرب ... ورمت بي الزمان كما ترام
وجربت الملوك وكل شخص ... تحدث عن مكارمه الأنام
فلم أر مثلكم يا آل نصر ... جمال الخلق والخلق العظام
ومنها:
لأندلس بكم شرف وذكر ... تود بلوغ أدناه الشآم
سعى صوب الغمام بلاد قوم ... هم في كل مجدبة غمام
إليك بها مهذبة المعاني ... يرينها ابتسام وانتظام
لها لجناب مجدكم انتظام ... طواف وفي أركان إسلام
تجزت وما كادت، وقد وطى الإيطاء صروحكم، وأعيا الإكثار حارثها وسروجها، الله ولي التجاوز بفضله.
ابن الحداد الوادي آش؟محمد بن أحمد بن الحداد الوادي آش يكنى أبا عبد الله.
؟

حاله

شاعر مفلق، وأديب شهير، مشار إليه في التعاليم، منقطع القرين منها، في الموسيقى، مضطلع بفك المعمى. سكن ألمرية، واشتهر بمدح رؤسائها من بني صمادح. وقال ابن بسام، كان أبو عبد الله هذا، شمس ظهيرة، وبحر خبر وسيرة، وديوان تعاليم مشهورة، وضح في طريق المعارف، وضوح الصبح المتهلل، وضرب فيها بقدح ابن مقبل، إلى جلالة مقطع، وأصاله منزع، ترى العلم ينم على أشعاره، ويتبين في منازعه وآثاره.
تواليفهديوان شعر كبير معروف. وله في العروض تصنيف، مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية، والآراء الجليلة.
بعض أخبارهحدث بعض المؤرخين، مما يدل على ظرفه، أنه فقد سكناً عزيزاً عليه، وأحوجت الحال إلى تكلف سلوة، فلما حضر الندماء، وكان قد رصد الخسوف بالقمر، فلما حقق أنه قد ابتدأ، أخذ العود وغنى:
شقيقك غيب في لحده ... وتشرق يا بدر من بعده
فهلا خسفت وكان الخسوف ... حداداً لبست على فقده
وجعل يرددها، ويخاطب البدر، فلم يتم ذلك، إلا واعترضه الخسوف، وعظم من الحاضرين التعجب. قال، وكان مني في صباه بصبية من الروم، نصرانية، ذهبت بلبه وهواه، تسمى نويرة، افتضح بها، وكثر نسيبه.
شعرهقال في الغرض المذكور:
حديثك ما أحلى فزيدي وحدثي ... عن الرشإ الفرد الجمال المثلث
ولا تسأمي ذكراه فالذكر مؤنس ... وإن بعث الأشواق من كل مبعث
وبالله فارقي خبل نفسي بقوله ... وفي عقد وجدي بالإعادة فابعث
أحقاً وقد صرحت ما بي أنه ... تبسم كاللاهي بنا المتعبث
وأقسم بالغنجيل أني شابق ... وناهيك دمعي من محق محنث
ولا بد من قصي على القس قصتي ... عساه مغيث المدنف المتغوث
ولم يأتهم عيسى بدين قساوة ... فيقسو على بني ويلهو بمكرث
وقلبي من حلى التجلد عاطل ... هوى في عزال الواديين المرعث
سيصبح سرى كالصبح مشهراً ... ويمسي حدثيي عرضه المتحدث
ويغري بذكرى بين كأس وروضة ... ويشد وبشعري فوق مثنى ومثلث
ومن شعره في الأمداح الصمادحية:
لعلك بالوادي المقدس شاطئ ... وكالعنبر الهندي ما أنت واطئ
وإني في رياك واجد عرف ريحهم ... فروح الجوى بين الجوانح ناشئ
ولي في السرى من نارهم ومنارهم ... هداة حداة والنجوم طوافئ
لذلك ما حنت ركايبي وحمحمت ... عرابي وأوحي سيرها المتباطئ
فهل هاجها ما هاجني أو لعلها ... إلى الوخد من نيران وجدي لواجئ
رويداً فذا وادي لبيني وإنه ... لورد لباناتي وإني لظامئ
ميادين تهيامي ومسرح ناظري ... فللشوق غايات لها ومبادئ
ولا تحسبوا غيداً حمتها مقاصر ... فتلك قلوب ضمنتها جآجئ
ومنها:
محاملة السلوان مبعث حسنه ... فكل إلى دين الصبابة صابئ
فكيف أرقى كلم طرفك في الحشا ... وليس لتمزيق المهند رافئ
ومالي لا أسمو مراداً وهمة ... وقد كرمت نفسي وطابت ضآضئ
وما أخرتني عن تناه مبادئ ... ولا قصرت بي عن تباه مناشئ
ولكنه الدهر المناقض فعله ... فذو الفضل منحط وذو النقص نامئ
كأن زماني إذ رآني جذيله ... يلابسني منه عدو ممالئ
فداريت إعتابا ودارأت عاتباً ... ولم يغنني أني مدار مدارئ
فألقيت أعباء الزمان وأهله ... فما أنا إلا بالحقائق عابئ
ولازمت سمت الصمت لا عن مذامة ... فلي منطق للسمع والقلب صابئ
ولولا علا الملك ابن معن محمد ... لما برحت أصدافهن اللآلئ
لآلئ إلا أن فكرى غائص ... وعلمي ذوماء ونطقي شاطئ
تجاوز حد الوهم واللخط والمنى ... وأعشى الحجا لألاؤه المتلألئ
تنعكس الأبصار وهي حواسر ... وتنقلب الأفكار وهي خواسئ

وقال من أخرى:
أقبلن في الحبرات يقصرن الخطا ... ويرين حلل الوارشين القطا
سرب الجوى لا الجو عود حسنه ... أن يرتعى حب القلوب ويلقطا
مالت معاطفهن من سكر الصبا ... ميلا يخيف قدودها أن تسقطا
ما أخجل البدر المنير إذا مشى ... يختال والخوط النضير إذا خطا
ومنها في المدح.
يا وافدي شرق البلاد وغربها ... أكرمتما خيل الوفادة فاربطا
ورأيتما ملك البرية فاهنآ ... ووردتما أرض المرية فاحططا
يدمي نحور الدارعين إذا ارتأى ... ويذل عز العالمين إذا سطا
وإحسانه كثير. دخل غرناطة، ومن بنات عملها وطنه رحمه الله.
محمد بن إبراهيم بن خيرةيكنى أبا القاسم. ويعرف بابن المواعين، حرفة أبيه، من أهل قرطبة. واستدعاه السيد أبو سعيد الوالي بغرناطة إليه، فأقام عنده مدة من عامين في جملة من الفضلاء مثله.
حالهقال ابن عبد الملك، كان كاتباً بليغاً، شاعراً مجيداً، إستكتبه أبو حفص ابن عبد المؤمن، وحظي عنده حظوة عظيمة، لصهر كان بينهما بوجه ما، ونال فيه جاهاً عظيما، وثروة واسعة. وكان حسن الخط، رايقه، سلك فيه في ابتدايه مسلك المتقن أبي بكر بن خيرة.
مشيختهروى عن أبي بكر بن عبد العزيز، وابن العربي، وأبي الحسن شريح، ويونس بن مغيث، وأبي عبد الله حفيد مكي، وابن أبي الخصال، وابن بقي.
تواليفهله تصانيف تاريخية وأدبية منها ريحان الآداب، وريعان الشباب لا نظير له. والوشاح المفضل. وكتاب في الأمثال السايرة. وكتاب في الأدب؛ نحا فيه منحى أبي عمر بن عبد البر في بهجة المجالس.
توفي بمراكش سنة أربع وستين وخمسمائة.
ابن باق الأمويمحمد بن إبراهيم بن علي بن باق الأموي مرسي الأصل، غرناطي النشأة، مالقي الإسكان، يكنى أبا عبد الله.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله، كاتباً أديباً ذكيا، لوذعيا، يجيد الخط، ويرسل النادرة، ويقوم على العمل، ويشارك في الفريضة. وبذ السباق في الأدب الهزلي المستعمل بالأندلس. عمر زمانا من عمره، محارفاً للفاقة، يعالج بالأدب الكدية، ثم استقام له الميسم، وأمكنه البخت من امتطاء غاربه، فأنشبت الحظوة فيه أناملها بين كاتب وشاهد ومحاسب ومدير تجر، فأثرى ونما ماله، وعظمت حاله، وعهد عند ما شارف الرحيل، بجملة تناهز الألف من العين، لتصرف في وجوه من البر، فتوهم أنها كانت زكاة امتسك بها.
وجرى ذكره في التاد بما نصه: مدير أكواس البيان المعتق، ولعوب بأطراف الكلام المشقق، انتحل لأول أمره الهزل من أصنافه، فأبرز در معانيه من أصدافه، وجنى ثمرة الإبداع لحين قطافه. ثم تجاوزه إلى المعرب وتخطاه، فأدار كأسه المترع وعاطاه، فأصبح لفنه جامعاً، وفي فلكيه شهاباً لامعاً، وله ذكاء يطير شرره، وإدراك تتبلج غرره، وذهن يكشف الغوامض، ويسبق البارق الوامض، وعلى ذلاقة لسانه، وانفساح أمد إحسانه، فشديد الضنانة يشعره. مغل لسعره.
شعرهأخبرني الكاتب أبو عبد الله بن سلمة، أنه خاطبه بشعر أجابه عنه بقوله، في رويه:
أحرز الخصل من بني سلمة ... كاتب تخدم الظبا قلمه
يحمل الطرس عن أنامله ... إثر الطرس كلما رقه
ويمد البيان بفكرته مرسلاً حيث يممت ديمه
خصني متحفأ بخمس إذا ... بسم الروض فقن مبتسمة
قلت أهدى زهر الربا خضلا ... فإذا كل زهرة كلمة
أقسم الحسن لا يفارقها ... فأبر انتقاؤها قسمه
خط أسطارها ونمقها ... فأتت كالعقود منتظمة
كاسياً من حلاه لي حللاً ... رسمها من بديع ما رسمه
طالباً عند عاطش نهلا ... ولديه الغيوث منسجمة
يبتغي الشعر من أخي بله ... أخرس العي والقصور فمه
أيها الفاضل الذي حمدت ... ألسن المدح والثنا شيمه
لا تكلف أخاك مقثرحا ... نشر عار لديه قد كتمه
وابق في عزة وفي دعة ... صافي العيش وارداً شبمه
ما ثنى الغصن عطفه طرباً ... وشدا الطير فوق نغمه
مشيخته

قرأ على الأستاذ أبي جعفر الزبير، والخطيب أبي عثمن بن عيسى.
توفي بمالقة في اليوم الثامن والعشرين لمحرم عام اثنين وخمسين وستمائة، وأوصى بعد أن حفر قبره، بين شيخيه الخطيبين أبي عبد الله الطنجالي، وأبي عثمن بن عيسى، أن يدفن، وأن يكتب على قبره هذه الأبيات:
ترحم على قبر ابن باق وحيه ... فمن حق ميت الحي تسليم حيه
وقل آمن الرحمن روعة خائف ... لتفريطه في الوجبات وغيه
قد اختار هذا القبر في الأرض راجياً ... من الله تخفيفاً بقرب وليه
فقد يشفع الجار الكريم لجاره ... ويشمل بالمعروف أهل نديه
وإني بفضل الله أوثق واثق ... وحسبي وإن أذنبت حب نبيه
ابن فضيلة المعافريمحمد بن إبراهيم بن سالم بن فضيلة المعافري من أهل ألمرية يدعى بالبيو، ويكنى أبا عبد الله.
حالهمن الإكليل الزاهر، شيخ أخلاقه لينة، ونفسه كما قيل هينة، ينظم الشعر سهلا مساقه، محكما اتساقه، على فاقة ما لها من إفاقة. أنشد السلطان بظاهر بلده قوله:
سرت ريح نجد من ربي أرض بابل ... فهادت إلى مسرى سراها بلابل
وذكرني عرف النسيم الذي سرى ... معاهد أحباب سراة أفاضل
فأصبحت مشغوفاً بذكري منازل ... ألفت فوا شوقي لتلك المنازل
فيا ريح هبي بالبطاح وبالربا ... ومري على أغصان زهر الخمائل
وسيري بجسمي للتي الروح عندها ... فروحي لديها من أجل الوسائل
وقولي لها عني معناك بالهوى ... له شوق معمود وعبرة ثاكل
فيا بأبي هيفاء كالغصن تثنى ... بقد يقد كاد ينقد مايل
فتاة براها الله من فتنة ... فمن رآها ولم يفتن فليس بعاقل
لها منظر كالشمس في رونق الضحا ... ولحظ كحيل ساحر الطرف بابل
بطيب شذاها عطرت كل عاطر ... كما بحلاها زينت كل عاطل
رمتني بسهم من سهام جفونها ... فصادف ذاك السهم مني مقاتل
فظلت غريقاً في بحار من الهوى ... وما الحب إلا لجة دون ساحل
فيا من سبت عقلي وأفنت تجلدي ... صلبني فإن البعد لا شك قاتل
فلي كبد شوقي إليك تفطرت ... وقلب بنيران الجوى في مشاعل
ولي أدمع تحكي ندا كف يوسف ... أمير العلى الأرضيي الجميل الفضايل
إذا مد بالجود الأنامل لم تزل ... بحور الندى تهمى بتلك الأنامل
ومن شعره قوله من قصيدة:
بهرت كشمس في غلالة عسجد ... وكبدر تم في قضيب زبرجد
ثم انثنت كالغصن هزته الصبا ... طرباً فتزرى بالغصون الميد
حوراء بارعة الجمال غريدة تزهى ... فتزري بالقضيب الأملد
إن أدبرت لم تبق عقل مدبر ... أو أقبلت قتلت ولكن لاتد
تواليفهقال شيخنا أبو البركات، ابتلى باختصار كتب الناس، فمن ذلك مختصره المسمى بالدرر المنظومة الموسومة في اشتقاق حروف الهجا المرسومة، وكتاب في حكايات تسمى روضة الجنان، وغير ذلك.
توفي في أواخر رمضان من عام تسعة وأربعين وسبع ماية، ودخل غرناطة غير مرة.
ابن مرج الكحلمحمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم من أهل جزيرة شقر، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن مرج الكحل
حالهكان شاعراً مفلقا غزلا، بارع التوليد، رقيق الغزل. وقال الأستاذ أبو جعفر: كان شاعراً مطبوعاً، حسن الكفاية، ذاكراً للأدب، متصرفاً فيه. قال ابن عبد الملك: وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات، ظهرت فيها إداته. وكان مبتذل اللباس، على هيئة أهل البادية، ويقال إنه كان أمياً.
من أخذ عنهروى عنه أبو جعفر بن عثمان الوراد، وأبو الربيع بن سالم، وأبو عبد الله بن الأبار، وابن عسكر، وابن أبي البقاء، وأبو محمد بن عبد الرحمن بن برطلة، وأبو الحسن الرعيني.

شعره ودخوله غرناطة
قال في عشية بنهر الغنداق، خارج بلدنا لوشة بنت الحضرة، والمحسوب من دخلها فقد دخل إلبيرة، وقد قيل إن هذا النهر ن أواز برجة، وهذا الخلاف داع إلى ذكره.
عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثر
ولنغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتي أحوى المرشف أحور
وعشية قد كنت أرقب وقتها ... سمتحت بها الأيام بعد تعذر
نلنا بها آمالنا في روضة ... تهدي لنا بشقها شميم العنبر
والدهر من ندم يسفه رأيه ... فيما مضى منه بغير تكدر
والورق تشدو والأراكة تنشني ... والشمس ترفل في قميص أصفر
والروض بين مفضض ومذهب ... والزهر بين مدرهم ومدنر
والنهر مرقوم الأباطح والربى ... بمضدل من زهره ومعصفر
وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحة كالجوهر
وكأنه وجهاته محفوفة ... بالآس والنعمان خد معذر
نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر
ما اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك المنظر
ولا خفاء ببراعة هذا النظم. وقال أيضا:
أرات جفونك مثله من منظر ... ظل وشمس مثل خد معذر
وهذا تتميم عجيب لم يسبق إليه. ثم قال منها:
وقرارة كالعشر بين خميلة ... سالت مذانبها بها كالأسطر
فكأنها مشكولة بمضدل ... من يانع الأزهار أو بمعصفر
أمل بلغناه بهضب حديقة ... قد طرزته يد الغمام الممطر
فكأنه والزهر تاج فوقه ... ملك تجلى في بساط أخضر
راق النواظر منه رايق منظر ... يصف النضارة عن جنان الكوثر
كم قاد خاطر خاطر مستوفز ... وكم استفز جماله من مبصر
لو لاح لي فيما تقدم لم أقل ... عرج بمنعرج الكثيب الأعفر
قال أبو الحسن الرعيني، وأنشدني لنفسه:
وعشية كانت قنيصة فتية ... ألفوا من الأدب الصريح شيوخا
فكأنما العنقاء قد نصبوا لها ... من الانحناء إلى الوقوع فخوخاً
شملتهم آدابهم فتجاذبوا ... سر السرور محدتاً ومصيخا
والورق تقرأ سيرة الطرب التي ... ينسيك منها ناسخاً منسوخا
والنهر قد صفحت به نارنجة ... فتيممت من كان فيه منيخا
فتخالهم حلل السماء كواكبا ... قد قارنت بسعودها المريخا
خرق العوائد في السرور نهارهم ... فجعلت أبياتي لهم تاريخا
ومن أبياته في البديهة:
وعندي من مراشفها حديث ... يخبر أن ريقتها مدام
وفي أجفانها السكرى دليل ... وما ذقنا ولا زعم الهمام
تعالى الله ما أجرى دموعي ... إذا عنت لقلتي الخيام
وأشجاني إذا لاحت بروق ... وأطربني إذا غنت حمام
ومن قصيدة.
عذيري من الآمال خابت قصودها ... ونالت جزيل الحظ منها الأخابث
وقالوا ذكرنا بالغنى فأجبتهم ... خمولاً وماذكر مع البخل ماكث
يهون علينا أن يبيد أثاثنا ... وتبقى علينا المكرمات الأثابث
وما ضر أصلا طيبا عدم الغنى ... إذا لم يغيره من الدهر حادث
وله يتشوق إلى أبي عمرو بن أبي غياث:
أبا عمرو متى تقضي الليالي ... بلقياكم وهن قصصن ريش
أبت نفسي هوى إلا شريشاً ... وما بعد الجزيرة من شريش
وله من قصيدة:
طفل المساء وللنسم تضوع ... والأنس ينظم شملنا ويجمع
والزهر يضحك من بكاء غمامة ... ريعت لشيم سيوف برق تلمع
والنهر من طرب يصفق موجه ... والغصن يرقص والحمامة تسجع
فانعم أبا عمران واله بروضة ... حسن المصيف بها وطاب المربع

يا شادن البان الذي دون النقا ... حيث التقى وادي الحمى والأجرع
الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع
إن غاب نور الشمس بتنا نتقي ... بسناك ليل تفرق يتطلع
أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلاً من الظلماء ما يتوقع
فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع
وقال:
ألا يشروا بالصبح مني باكياً ... أضر به الليل الطويل مع البكا
ففي الصبح للصب المتيم راحة إذا الليل أجرى دمعه وإذا شكا
ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي ... فلم يزل الكافور للدم ممسكا
ومن بديع مقطوعاته قوله:
مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا ... فإذا وليت عنه أتبعك
وقال:
دخلتم فأفسدتم قلوباً بملككم ... فأنتم على ما جاء في سورة النمل
وبالعدل والإحسان لم تتخلقوا ... فأتم على ما جاء في سورة النحل
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور: رأيت لابن مرج الكحل مرجاً أحمر قد أجهد نفسه في خدمته فلم ينجب، فقلت:
يا مرج كحل ومن هذي المروج له ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل
يا حمرة الأرض من طيب ومن كرم ... فلا تكن طمعاً في رزقها العجل
فإن من شأنها إخلاف آملها ... فيما تفارقها كيفية الخجل
فقال مجيباً بما نصه:
يا قائلا إذ رأى مرجى وحمرته ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل
هو احمرار دماء الروم سيلها ... بالبيض من مر من آبائي الأول
أحببته إن من فتنت به ... في حمرة الخد أو إخلافه أملي
وفاتهتوفي ببلده يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستماية، ودفن في اليوم بعده.
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاريمن أهل مرسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الجنان
حالهكان محدثاً راوية، ضابطا، كاتباً بليغا، شاعراً بارعا، رايق الخط، دينا فاضلا، خيراً، زكياً. استكتبه بعض أمراء الأندلس، فكان يتبرم من ذلك، ويقلق منه، ثم خلصه الله منه. وكان من أعاجيب الزمان في إفراط القماءة، حتى يظن راثيه إذا استدبره، أنه طفل إبن ثمانية أعوام أو نحوها، متناسب الخلقة؛ لطيف الشمايل، وقورا، خرج من بلده، حين تمكن العدو من بيضته عام أربعين وستماية، فاستقر بأوريولة، إلى أن استدعاه إلى سبتة، الرييس بها، أبو علي بن خلاص، فوفد عليه، فأجل وفادته، وأجزل إفادته، وحزظي عنده حظوة تامة. ثم توجه إلى إفريقية، فاستقر ببجاية. وكانت بينه وبين كتاب عصره مكاتبات، ظهرت فيها براعته.
مشيختهروى ببلده وغيرها عن أبي بكر عزيز بن خطاب، وأبي الحسن بن سهل ابن مالك، وابن قطرال، وأبي الربيع بن سالم، وأبي عيسى بن أبي السداد، وأبي علي الشلوبين، وغيرهم.
من روى عنهروى عنه صهره أبو القاسم بن نبيل، وأبو الحسن محمد بن رزيق.
شعرهقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، وكان له في الزهد، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بدايع، ونظم في المواعظ للمذكرين كثيرا. فمن ذلك قوله في توديع رمضان وليلة القدر:
فضى رمضان وكأن بك قد مضى ... وغاب سناه بعد ما كان أومضا
فيا عهده ما كان أكرم معهدا ... ويا عصره أعزز علي أن انقضا
ألم بنا كالطيف في الصيف زائرا ... فخيم فينا ساعة ثم قوضا
فيا ليت شعري إذ نوى غربة النوى ... أبالسخط عنا قد تولى أم الرضا
قضى الحق فينا بالفضيلة جاهداً ... فأي فتى فينا له الحق قد قضا
وكم من يد بيضاء أسدى لذي تقى ... بتوبته فيه الصحايف بيضا
وكم حسن قد زاده حسناً وسنى ... محاه وبالإحسان والحسن عوضا
فلله من شهر كريم تعرضت ... مكارمه إلا لمن كان أعرضا

نفي بينه وبين شجونك معلما ... وفي إثره أرسل جفونك فيضا
وقف بثنيات الوداع فإنها ... تمحص مشتاقاً إليها وتمحضا
وإن قضيت قبل التفرق وقفة ... فمقضيها من ليلة القدر ما قضا
فيا حسنها من ليلة جل قدرها ... وحض عليها الهاشمي وحرضا
لعل بقايا الشهر وهي كريمة ... تبين سراً للأواخر أغمضا
وقد كان أضفى ورده كي يفيضه ... ولا كن تلاحى من تلاحي فقيضا
وقال اطلبوها تسعدوا بطلابها ... فحرك أرباب القلوب وأنهضا
جزى الله عنا أحمد الجزا على ... كرم أضفاه بردا ًوفضفضا
وصلى عليه من نبي مبارك ... رؤوف رحيم للرسالة مرتضا
له عزة أعلى من الشمس منزلا ... وعزمته أمضى من السيف منتضا
له الذكر يهمى فض مسك ختامه ... تأرج من ريا فضايله الفضا
عليه سلام الله ما انهل ساكب ... وذهب موشي الرياض وفضضا
ومن ذلك قصيدة في الحج:
تذاكر الذكر وتهيج اللواعجا ... فعالجن أشجاناً يكاثرن عالجا
ركاباً سرت بين العذيت وبارق ... نواييج في تلك الشعاب نواعجا
تيممن من وادي الأراك منازلا ... يطرنها إلا في الأراك سجاسجا
لهن من الأشواق حاد فإن ... ونت حداه يرجعن الحنين أهازجا
ألا بأبي تلك الركاب إذا سرت ... هوادي يملأن الفلاة هوادجا
براهم سوامح أو سراهم فأصبحوا ... رسوماً على تلك الرسوم عوالجا
لهم في مني أسنى المنا ولدي الصفا ... يرجون من أهل الصفا المناهجا
سما بهم طوف ببيت طامح ... أراهم قباباً للعلى ومعارجا
فأبدوا من اللوعات ما كان كامنا ... وأذروا دموعاً بل قلوباً مناضجا
ولما دنوا نودوا هنيا وأقبلوا ... إلى الركن من كل الفجاج أدارجا
وقضوا بتقبيل الجدار ولثمه ... حقوقاً تقضى للنفوس حوايجا
إذا اعتنقوا تلك المعالم خلتهم ... أساور في إيمانها وجهالجا
فلله ركب يمموا نحو مكة لقد ... كرموا قصداً وحلوا مناسجا
أناخوا بأرجاء الرجاء وعوسوا ... فأصبح كل ما بز القدح فالجا
فبشروا لهم كم خولوا من كرامة ... فكانت لما قدموه نتايجا
بفتح باب للقبول وللرضا ... ووفدهم أضحى على الباب والجا
تميز أهل السبق لاكن غيرهم ... غعدا همجاً بين الخليقة هامجا
أيلحق جلس للبيوت مداهم ... ولم يلعب في تلك المدارج دارجا
ألا ليت شعري للضرورة هل أرى ... إلى الله والبيت المحجب خارجا
له الله من ذي كربة ليس يرتجى ... لمرتجيها يوما سوى الله فارجا
قد أسهمت شتى المسالك دونه ... فلا نهج يلقى فيه لله ناهجاً
يخوض بحار الذنب ليس يهابها ... ويصعق ذعراً إن يرى البحر هائجا
جبان إذا عن الهدى وإذا الهوى ... يعن له كان الجريء المهارجا
يتيه ضلالا في غيابة همه ... فلا حجر تهديه لرشد ولا حجا
فوا حربا لاح الصباح لمبصر ... وقلبي لم يبصر سوى الليل إذ سجا
لعل شفيعي أن يكون معاجلا ... لداء ذنوب بالشفا معالجا
فينشقني بيت الإله نوافحاً ... ويعبق لي قبر النبي نوافجا
فمالي لإمالتي سوى حب أحمد ... وصلت له من قرب قلبي وشايجا
عليه سلام الله من ذي صبابة ... حليف شجاً يكنى من البعد ناشجا

ولو أنصفت أجفانه حق وجده ... سفكت دما للدموع موازجا
كتابتهوكتابته شهيرة، تضرب بذكره فيها الأمثال، وتطوى عليه الخناصر. قالوا، لما عقد أمير المسلمين؛ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود البيعة لابنه الواثق بالإمارة من بعده، تولى إنشاءها، وجعل الحاء المهلة سجعها مردفا إياها بالألف، نحو صباحا وصلاحا، وما أشبه ذلك، طال مجموعها فناهزت الأربعين. وطاب مسمعها، فأحرزت بغية المستمعين: فكتب إليه بو المطرف بن عميرة، رسالته الشهيرة، يداعبه في ذلك، وهي التي أولها: " تحييك الأقلام تحية كسرى، وتقف دون مداك حسرى " . ومنها في الغرض: " ومالك أمنت تغير الحالات، فشننت غارتك على الحاءات، ونفضت عنها المهارك، وبعث في طلبها السوابق، ولفظتها من الأفواه، وطلبتها بين الشفاه، حتى شهد أهل اللسان، بتزحزحها عن ذلك المكان، وتوارت بالحلوق. ولو تغلغلت إلى العروق، لآثرتها جيادك، واقتنصها قلمك ومدادك " وهي طويلة

فراجعه بقوله: ما هذه التحية الكسروية، وما هذا الرأي، وما هذه الروية، أتنكيت من الأقلام، أم تبكيت من الأعلام، أم كلا الأمرين توجه القصد إليه وهو الحق مصدقا لما بين يديه. وإلا فعهدي بالقلم، يتسامى عن عكسه، ويترامى إلى الغاية البعيدة بنفسه، فمتى لانت أنابيبه للعاجم، ودانت أعاربه بدين الأعاجم. واعجبا لقد استنوق الجمل، واختلف القول والعمل. لأمر ما جدع أنفه قصير، وارتد على عقبه الأعمى أبو بصير. أمي استسقى من سحابه، فلا يسقيني، واستشفى بأسمايه فلا يشفيني، واليوم يحلني محل أنوشروان، ويشكو مني شكوى اليزيدية من بني مروان، ويزعم أني أبطلت سحره، كما أبطل سحر بردوران، ويخفي في نفسه ما الله مبديه، ويستجدي بالأثر ما عند مستجديه. فمن أين جاءت هذه الطريقة المتبعة، والطريفة المبتدعة، أيظن أن معماه لا يفك؛ وأنه لا يتجلى هذا الشك. هل هذا منه إلا إمحاض النية، وإحماض تفنية، ونشوة من خمرة الهزل، ونخوة من ذي ولاية آمن العزل. تالله لولا محله من القسم، وفضله في تعليم النسم، لأسمعته ما ينقطع به صلفه، وأودعنه ما ينصدع به صدفه، وأشدت بشرف المشرقي ومجده، وأشرت إلى تعاليه عن اللعب بجده. ولكن هو القلم الأول، فقوله على أحسن الوجوه يتأول، ومعدود في تهذيبه، كل ما لسانه يهذي به. وما أنسانيه إلا الشيطان أياديه أن أذكرها، وإنما أقول ليت التحية كانت لي فأشكرها، ولا عتب إلا على الحاء، المبرحة بالبرحاء، فهي التي قيمت قيامتي في الأندية، وقامت على قيام المعتدية، ينظلم وهو عين الظالم، ويلين القول، وتحته سم الأراقم، ولعمر البراعة وما نصعتة، واليراعة وما صنعت، ما خامرني هواها؛ ولا كلفت بها دون سواها. ولقد عرضت نفسها على مرارا، فأعرضت عنها أزرواراً، ودفعتها عني بكل وجه، تارة بلطف، وأخرى بنجه، وخفت منها السآمة، وقلت أنكحي أسامة. فرضيت منها بأبي جهم وسوء سلكته، وابن أبي سفيان وصعلكته، وكانت أسرع من أم خارجة للخطبة، وأسمج من استنجاح تلك الخطبة. ولقد كنت أخاف من انتقال الطباع في عترتها، واستنقال الاجتماع من عشرتها، وأرى من الغبن والسفاه أخذها، وترك بنات الأفواه والشفاه إذ هي أيسر مؤنة، وأكثر معونة. فغلطي فيها، أن كانت بمنزل تتوارى صوناً عن الشمس، ومن نسوة خفرات لا ينطقن إلا بالهمس، ووجدتها أطوع من البنان للكف، والعنان للوكف، والمعنى للاسم، والمغني للرسم، والظل للشخص، ولا مستبدل للنص، فما عرفت منها إلا خبرا أرضاه حتى حسبتها من الحافظات للغيب بما حفظ الله؛ فعجبت لها الآن كيف زلت نعلها، ونشرت فنشرت ما استكتمها بعلها، واضطربت في رأيها اضطراب المختار أبي عبيد، وضربت في الأرض تسعى علي بكل مكر وكيد، وزعمت أن حرف الجيم خدعها، والآن أخدعها، وأخبرها أن سيبلغ بخبرها الخابور، وأحضرها لصاحبها كما أحضر بين يدي قيصر سابور، فقد جاءت إفكاً وزورا، وكثرت من أمرها شزورا، وكانت كالقوس أرنت وقد أصمت القنيص والمراودة، قالت ما جزاء، وهي التي قدت القميص، وربما يظن بها الصدق، وظن الغيب ترجيم، ويقال لقد خفضت الحاء، بالمجاورة لهذا الأمر الجسيم، وتنتصر لها أختها التي خيمت بني النرجسة والريحانة، وختمت السورة باسم جعلت ثانية أكرم نبي على الله سبحانه، فإن امتعضت لهذه المتظلمة، تلك التي سبقت بكلمتها بشارة المتكلمة، فأنا ألوذ بعدلها، وأعوذ بفضلها، وأسألها أن تقضي قضاء مثلها، وتعمل بمقتضى: فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها. على أن هذه التي قد أبدت مينها، ونسيت الفضل بيني وبينها، أن قال الحكمان منها كان النشوز، عادت حرورية العجوز، وقالت التحكم في دين الله لا يجوز، فعند ذلك يحصحص الحق، ويعلم من الأولى بالحكم والأحق، ويصيبها ما أصاب أروى، من دعوة سعيدة حين الدعوى، ويا ويحها أن أرادت أن تجني علي فجنت لي، وأناخت لي مركب السعادة، وما ابتغت إلا ختلي، فأتى شرها بالخير، وجاء النفع من طريق ذلك الضير. أتراها علمت بما يثيره اعوجاجها، ويننجلي عنه عجاجها. فقد أفادت عظيم الفوايد، ونظيم الفرايد، ونفس الفخر، ونفيس الذخر، وهي لا تنكر أن كانت من الأسباب، ولا تذكر إلا يوم الملاحاة والسباب. وإنما يستوجب الشكر جسيماً، والثناء الذي يتضوع نسيماً، الذي شرف إذ أهدى أشرف السحاءات، وعرف بما كان من انتحاء تلك الحاء المذمومة في الحاءات، فإنه

وإن ألم بالفكاهة، فما أملي من البداهة، وسمي باسم السابق السكيت، وكان من أمر مداعبته كيت وكيت، وتلاعب بالصفات، تلاعب السيل بالصفاة، والصبا بالبانة، والصبا بالعاشق ذي اللبانة، فقد أغرب بفنونه، وأغرى القلوب بقتونه، ونفث بجفنه الأطراف، وعبث من الكلام المشقق الأطراف، وعلم كيف يلخص البيان، ويخلص العقيان. فمن الحق أن أشكره على أياديه البيض، وأن آخذ لفظه من معناه في طرف النقيض. تالله أيها الإمام الأكبر، والغمام المستمطر، والخبر الذي يشفي سايله، والبحر الذي لا يرى ساحله، ما أنا المراد بهذا المسلك، ومن أين حصل النور لهذا الحلك، وصح أن يقاس، بين الحداد والملك، إنه لتواضع الأعزة. وما يكون للأكارم عند المكارم من العزة، وتحريض الشيخ للتلميذ؛ في إجازة الوضوء بالنبيذ. ولو حضر الذي قضى له بجانب الغربي أمر البلاغة، وارتضى ماله في هذه الصناعة، من حسن السبك لحليتها والصياغة، وأطاعته فيما أطلعته طاعة القوافي الحسان، وأتبعته فيما جمعته لكن بغير إحسان لأذعن كما أذعنت، وظعن عن محل دعوى الإجادة، كما ظعنت. وأنى يضاهي الفرات المعبن بالنغبة، ويباهي بالفلوس من أوتى من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة، وأي حظ للكلالة في النشب، وقد اتصل للورثة عمود النسب، هبهات والله بعد المطلب، وشتان الدر والخشلب، وقد سيم الغلب، ورجع إلى قياجة السلب، وإن كنا ممن تقدم لشدة الظمأ إلى المنهل، وكمن أقدم إلى عين تبوك بعد النهي للعل والنهل. فقد ظهرت بذلك المعجزة عياناً، وملئ ما هناك جناناً، وما تعرضنا بإساءة الأدب واللوم، ولكن علمنا أن آخر الشراب ساقي القوم، وإن أسهبنا فيما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهو فهوانا في الحجاز، فلكم أسهبنا فما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهوانا في الحجاز، فلكم قصيرات الحجال، ولنا قصيرات الخطا في هذا المجال، وإكثارنا في قلة، وجارنا من الفقر في فقر وذلة. ومن لنا بواحدة يشرق شياؤها، ويخفى للنجوم خجلها منها وحياؤها، إن لم تطل فلأنها للفروع كالأصل، وفي الجموع كليلة الوصل. فلو سطع نورها الزاهر، ونورها الذي تطيب منه الأنوار الأزاهر، لسجدت النيران ليوسف ذلك الجمال، ووجدت نفحات رياها في أعاطاف الجنوب والشمال، وأسرعت نحوها النفوس إسراع الحجيج يوم النفر، وسار خبرها وسرى، فصار حديث المقيمين والسفر. وما أظن تلك الساخرة في تدليها، إلا الساحة بتجنيها، إذ كانت ربيبتها، بل ربئتها، هذه التي سبقتني لما سقتني بسينها، ووجدت ريحها، لما فصلت من مصرها غيرها. وحين وصلت، لم يدلني على سابقها إلا عبيرها، وكم رامت أن تستتر عني بليل حبرها ي هذه المغاني. فأغراني بهاؤها، وكل مغرم مغرى ببياض صبح الألفاظ والمعاني. وهل كان ينفعها تلفحها بمرطها وتلفعها، إذ نادتها المودة، فقد عرفناك يا سودة. فأقبلت على شم نثرها، وعرفها ولثم سطرها وحرفها، وقريتها الثناء الحافل، وقراتها فزينت بها المحاضر والمحافل. ورمت أمر الجواب، فغرتني في الخطاب، لكن رسمت هذه الرقعة التي هي لديكم بعجزي واشية، وإليكم مني على استحياء ماشية، وإن رق وجهها فما رقت لها حاشية، فمنوا بقبولها عل علاتها، وانقعوا بماء سماحتكم حر غللها، فإنها وافدة من استقر قلبه عندكم وثوى، وأقر بأنه يلقط في هذه الصناعة ما يلقى للمساكين من النوى. بقيتم، سيدي الأعلى للفضل والإغضاء، ودمتم غرة في جبين السمحة البيضاء، واقتضيتم السعادة المتصلة مدة الاقتضاء، بيمن الله سبحانه. انتهى.وإن ألم بالفكاهة، فما أملي من البداهة، وسمي باسم السابق السكيت، وكان من أمر مداعبته كيت وكيت، وتلاعب بالصفات، تلاعب السيل بالصفاة، والصبا بالبانة، والصبا بالعاشق ذي اللبانة، فقد أغرب بفنونه، وأغرى القلوب بقتونه، ونفث بجفنه الأطراف، وعبث من الكلام المشقق الأطراف، وعلم كيف يلخص البيان، ويخلص العقيان. فمن الحق أن أشكره على أياديه البيض، وأن آخذ لفظه من معناه في طرف النقيض. تالله أيها الإمام الأكبر، والغمام المستمطر، والخبر الذي يشفي سايله، والبحر الذي لا يرى ساحله، ما أنا المراد بهذا المسلك، ومن أين حصل النور لهذا الحلك، وصح أن يقاس، بين الحداد والملك، إنه لتواضع الأعزة. وما يكون للأكارم عند المكارم من العزة، وتحريض الشيخ للتلميذ؛ في إجازة الوضوء بالنبيذ. ولو حضر الذي قضى له بجانب الغربي أمر البلاغة، وارتضى ماله في هذه الصناعة، من حسن السبك لحليتها والصياغة، وأطاعته فيما أطلعته طاعة القوافي الحسان، وأتبعته فيما جمعته لكن بغير إحسان لأذعن كما أذعنت، وظعن عن محل دعوى الإجادة، كما ظعنت. وأنى يضاهي الفرات المعبن بالنغبة، ويباهي بالفلوس من أوتى من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة، وأي حظ للكلالة في النشب، وقد اتصل للورثة عمود النسب، هبهات والله بعد المطلب، وشتان الدر والخشلب، وقد سيم الغلب، ورجع إلى قياجة السلب، وإن كنا ممن تقدم لشدة الظمأ إلى المنهل، وكمن أقدم إلى عين تبوك بعد النهي للعل والنهل. فقد ظهرت بذلك المعجزة عياناً، وملئ ما هناك جناناً، وما تعرضنا بإساءة الأدب واللوم، ولكن علمنا أن آخر الشراب ساقي القوم، وإن أسهبنا فيما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهو فهوانا في الحجاز، فلكم أسهبنا فما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهوانا في الحجاز، فلكم قصيرات الحجال، ولنا قصيرات الخطا في هذا المجال، وإكثارنا في قلة، وجارنا من الفقر في فقر وذلة. ومن لنا بواحدة يشرق شياؤها، ويخفى للنجوم خجلها منها وحياؤها، إن لم تطل فلأنها للفروع كالأصل، وفي الجموع كليلة الوصل. فلو سطع نورها الزاهر، ونورها الذي تطيب منه الأنوار الأزاهر، لسجدت النيران ليوسف ذلك الجمال، ووجدت نفحات رياها في أعاطاف الجنوب والشمال، وأسرعت نحوها النفوس إسراع الحجيج يوم النفر، وسار خبرها وسرى، فصار حديث المقيمين والسفر. وما أظن تلك الساخرة في تدليها، إلا الساحة بتجنيها، إذ كانت ربيبتها، بل ربئتها، هذه التي سبقتني لما سقتني بسينها، ووجدت ريحها، لما فصلت من مصرها غيرها. وحين وصلت، لم يدلني على سابقها إلا عبيرها، وكم رامت أن تستتر عني بليل حبرها ي هذه المغاني. فأغراني بهاؤها، وكل مغرم مغرى ببياض صبح الألفاظ والمعاني. وهل كان ينفعها تلفحها بمرطها وتلفعها، إذ نادتها المودة، فقد عرفناك يا سودة. فأقبلت على شم نثرها، وعرفها ولثم سطرها وحرفها، وقريتها الثناء الحافل، وقراتها فزينت بها المحاضر والمحافل. ورمت أمر الجواب، فغرتني في الخطاب، لكن رسمت هذه الرقعة التي هي لديكم بعجزي واشية، وإليكم مني على استحياء ماشية، وإن رق وجهها فما رقت لها حاشية، فمنوا بقبولها عل علاتها، وانقعوا بماء سماحتكم حر غللها، فإنها وافدة من استقر قلبه عندكم وثوى، وأقر بأنه يلقط في هذه الصناعة ما يلقى للمساكين من النوى. بقيتم، سيدي الأعلى للفضل والإغضاء، ودمتم غرة في جبين السمحة البيضاء، واقتضيتم السعادة المتصلة مدة الاقتضاء، بيمن الله سبحانه. انتهى.

ومحاسنه عديدة، وآماده بعيدة.
دخوله غرناطةدخلها مع المتوكل مخدومه، أو وجده بها.
من روى عنه: روى عن أبي الحسن سهل بن مالك.
وفاتهقال الأستاذ في الصلة: انتقل إلى بجاية فتوفي بها في عشر الخمسين وستمائة.
ابن شلبطور الهاشميمحمد بن محمد بن أحمد بن شلبطور الهاشمي من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله. من وجوه بلده وأعيانه، نشأ نبيه البيت، ساحباً بنفسه وبماله ذيل الحظوة، متحلياً بخصل من خط وأدب. وزيراً، متجنداً، ظريفاً، درباً على ركوب البحر وقيادة الأساطيل. ثم انحط في هواه انحطاطاً، أضاع مروءته، واستهلك عقاره، وهد بيته، وألجأه أخيراً إلى اللحاق بالعدوة فهلك بها.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: مجموع شعر وخط، وذكاء عن درجة الظرفاء، غير منحط إلى مجادة أثيلة البيت، شهيرة الحي والميت. نشأ في حجر الترف والنعمة، محفوفاً بالمالية الجمة، فلما غفل عن ذاته، وترعرع بين لداته، أجرى خيول لذاته، فلم يدع منها ربعاً إلا أقفره، ولا عقاراً إلا عقره، حتى حط بساحلها، واستولى بسعر الإنفاق على جميع مراحلها، إلا أنه خلص بنفس طيبة، وسراوة سماؤها صسبة، وتمتع ما شاء من زير وبم، وتأنس لا يعطى القياد لهم. وفي عفو الله سعة، وليس مع التوكل على الله ضعة.
شعرهمن شعره قوله يمدح السلطان، وأنشدها إياه بالمضارب من وادي الغيران عند قدومه من ألمرية
أثغرك أم سمط من الدر ينظم ... وريقك أم مسك به الراح تختم
ووجهك أم باد من الصبح نير ... وفرعك أم دارج من الليل مظلم
أعلل منك النفس والوجد متلفي ... وهل ينفع التعليل والخطب أعظم
وأقنع من طيف الخليل يزورني ... لو أن جفوني بالمنام تنعم
حملت الهوى حيناً فلما علمته ... سلوت لأني بالمكارم مغرم
ولي في أمير المسلمين محبة ... فؤادي مشغوف بها ومتيم
بلغت المنى لما لثمت يمينه ... فها أنذا في جنة الخلد أنعم
يصوغ قومي الشعر في طيب ذكره ... ويحسن فيه النظم من ليس ينظم
فاستمسك الدين الحنيف زمانه ... وقام منار الحق والشرك مغرم
له نظر في المشكلات مؤيد ... والله مهد إلى الرشد ملهم
ويستغرق طارحاً فيه وابل جوده ... فمن فعله في جوده يتعلم
فلو أن أملاك البسيطة أنصفوا ... لألقوا إليه الأمر طوعاً وسلم
وفي الدين والدنيا وفي البأس والندى ... لكم يا بني نصر مقام معظم
ومنها:
إليك أمير المسلمين اقتضيتها ... حمايل شكر طيرها مترنم
تنم بعرف المسك أنفاسها ... إذا يفوه لراو في الندى بها فم
فباسمك سيرت في المسامع ذكرها ... ويغزي في أقصى البلاد ويشمم
ولو أنني في المدح سبحان وائل ... وأنجدني فيه حبيب ومسلم
لما كنت إلى عن علاك مقصر ... ومن بعض ما نشدت وتولى وتنعم
بقيت ملاذاً للأنام ورحمة ... وساعدك الإسعاد حيث يتمم
ومن شعره مذيلاً على البيت الأخير حسبما نسب إليه:
نامت جفونك يا سؤلي ولم أنم ... ما ذاك إلا لفرط الوجد والألم
أشكو إلى الله ما بي من محبتكم ... فهو العليم بما نلقى من السقم
إن كان سفك دمي أقصلاى مرادكم ... فما غلت نظرة منكم بسفك دم
ومما نسب إليه كذلك:
قف بي وناد بين تلك الطلول ... أين الألى كانوا عليها نزول
أين ليالينا بهم والمنى ... تجنيه عضاً بالرضا والقبول
لا حملوا بعض الذي حملوا ... يوم تولت بالقباب الحمول
إن غبتم يا أهل نجد ففي ... قلبي أنتم وضلوعي حلول
ومما خاطبني به:
تالله ما أورى زناد القلق ... سوى ريح لاح لي بالأبرق

أيقنت بالحين فلولا نفحة ... نجدية منكم تلافت رمق
لكنت أقضي بتلظي زفرة ... وحسرة بين الدموع تلتق
فآه من هول النوى وما جني ... على القلوب موقف التفرق
يا حاكي الغصن انثني متوجا ... بالبدر تحت لمة من غسق
الله في نفس معنى أقصدت ... من لاعج الشوق بما لم تطق
أتى على أكثرها برح الأسى ... دع ما مضى منها وأدرك ما بق
ولو بإلمام خيال في الكرى ... إن ساعد الجفن رقيب الأرق
فرب زور من خيال زائر ... أقر عيني وإن لم يصدق
شفيت من برح الأسى لو أن من ... أصبح رقى في يديه معتق
ففي معاناة الليالي عائق ... عن التصابي وفنون القلق
وفي ضمان ما يعاني المرء من ... نوايب الدهر مشيب المفرق
هذا لعمري مع أني لم أبت ... منها بشكوى روعة أو فرق
فقد أخذت من خطوب غدرها ... بابن الخطيب إلا من مما أتق
فخر الوزارة الذي ما مثله ... بدر علا في مغرب أو مشرق
ومذ أرانيه زماني لم أبل ... من صرفه من مرعد أو مبرق
لا سيما مذ حططت في حما ... جواره الأمنع رحل أينق
أيقنت أني في رجائي لم أخب ... وأن مسعى بغيتي لم يخفق
ندب له في كل حسن آية ... تناسبت في الخلق أو الخلق
في وجهه مسحة بشر إن بدت ... تبهرجت أنوار شمس الأفق
تعتبر الأبصار في لألأتها ... عليه من نور السماح المشرق
كالدهر في استينائه وبطشه ... كالسيف في حد الظبا والرونق
إن بخل الغيث استهلت يده ... بوابل من غيث جود غدق
وإن وشت صفحة طرس انجلا ... ليل دجاها عن سني مؤتلق
بمثلها من حبرات أخجلت ... حواشي الروض خدودج المهرق
ما راق في الآذان أشناف سوى ... ملتقطات لفظه المفترق
تود أجياد الغواني أن يرى ... حليها من در ذاك المنطق
فسل به هل آده الأمر الذي ... حمل في شرخ الشباب المونق
إذا رأى الرأى فلا يخطئه ... يمن اختيار للطرق الأفق
أيه أبا عبد الإله هاكها ... عذراء تحثو في وجوه السبق
خذها إليك بكر فكر يزدري ... لديك بالأعشى لدى المحلق
لا زلت مرهوب الجناب مرتجى ... موصول عز في سعود ترتق
مبلغ الآمال فيما تبتغي ... مؤمن الأغراض فيما تتقي
ناب في القيادة البحرية عن خاله القايد أبي علي الرنداحي، وولي أسطول المنكب برهة. توقي بمراكش في عام خمسة وخمسين وسبعمائة رحمه الله.
ابن مشتمل الأسلميمحمد بن محمد بن جعفر بن مشتمل الأسلمي من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالبلياني.
حالهقال شيخنا أبو البركات، ناب عني في بعض الأعمال بألمرية، وخطب بنحانس من غربيها، ثم خطب بحمة مرشانة، وهو الآن بها، وعقد الشروط قبل بألمرية. عفيف طاهر الذيل، نبيل الأغراض، مهذب الأخلاق، قيم على القراءات، والنحو والأدب، جيد الشعر والكتابة.......... من الضبط، وإجادة العبارة عن المعنى المراد.
تواليفهقال، له رجز في علم الكلام جيد، ورجز آخر في ألفاظ فصيح ثعلب، عري عن الحشو، على تقعير فيه يغتفر لما جمع من اقتصاره، وله تأليف في الوبا سماه بإصلاح النيلة في المسلة الطاعونية.
مشيختهقال، أخذ عني وعن أبيه جملة من الدواوين، وعن غيري من أهل بلده.
شعرهقال، ومما أنشدني من شعره قوله:
هفا بي من بين المغاني عقيقها ... ومن بينه انفضت لعيني عقيقها
ومالت لليد قبابه وأشرقني بالدمع منها شروقها
يهيج أنفاسي غراماً نسيمها ... وتقدح نار الشوق عندي بروقها

ومن دون واديها ظباً خوادل ... حكى لحظها ماضي الشفار رقيقها
فلو برزت الشمس منهن في الضحى ... مخدرة أضحت كمالا تفوقها
نسيم الصبا أن سيرت نحو الحمى ... فقل تحيى الديار النازحات تشوقها
غريب كييب مستهام متيم ... جريح الجفون الساهرات عريقها
فهل عطفة ترجى وهل أمل يرى ... بعودة أيام تقضى أنيقها
سقى وتعلم من أدمع الصب جودها ... من ديم الغيث الملتات ريقها
قال وأنشدني أيضاً، وقال كلفت إجازة هذا البيت الأول من هذه القصيدة، إذ ليس لي:
من عادى ومن ناصرى ومنصفي ... هذا دمعي سفكته بنت المنصف
أو من يخلصني وقد أوهى صحيح ... الجسم مني لحظ طرف مدنف
جفن تحير والهوى يهديه ... لفؤاد كل من الهوى لم يألف
متناعس يهدي السهاد ويصرع ... البطل الكمى بلحظه المتضعف
تبدو وتشدو للعيون وللمسامع ... فهي بين مكحل ومشنف
ملكت بصنعتها عنان عنانها ... وعدت عليه كأن لم تعرف
تغنى إذا غنت بطيب صوتها ... عن أن يزود لحنها بالمعزف
أما تغنت أو تثنت تهتف ... قمري نغمتها وغض المعطف
يأتي على تكرر ما عنت به صدقاً ... بكل غريب أو مستطرف
تهدي للنفوس على اختلاف طباعها ... من نبلها ما تشتهي بتلطف
كنا وجفن الدهر عنا ناعس ... خلف ستر للأمان مسجف
حتى وشي باسر دهر حاسد ... كلف بتنغيص الكريم الأشرف
وخجلنا إن لم أمت يوم النوى ... لهفاً وما إن كنت بعد بمنصف
لكنني مما نحلت وذبت لم ... يرني الحمام فكنت عنه أختف
كم ذا أبيت وليس لي من مسعد ... في حالتي غير الدموع الذرف
يا هل ترى هذا الزمان وصرفه ... هل يسمحان بعودة وتألف
صبراً أبا يعقوبهم فهي النوى ... لولا همت شوقا للقيا يوسف
قال وأنشدني أيضاً لنفسه، والبيت الأخير لغيره:
ما للأحبة في أحكامهم جاروا ... نأوا جميعاً فلا خل ولا جار
كيف البقا وقد بانت قبابهم ... وقد خلت منهم وا أسفي الدار
حداة تمسهم بالقلب قد رحلوا ... يا ليتهم حملوا الجثمان إذ سار
جار الزمان علينا في فراقهم ... من قبل أن تنقضي للصب أوطار
ساروا فحيمت الأشواق بعدهم ... مالي عليها سوى الآماق أنصار
تراك ياربعهم ترجو رجوعهم ... يا ليت لو ساعدت في ذاك أقدار
ودعت منهم شموساً ما مطالعها ... إلا من الوشي أطواق وأزرار
أستودع الله من فاز الفراق بهم ... وخلفوا ودمع العين مدرار
قلت، ولا خفاء بتخلف هذا النمط عن الإجادة، والله يقبض ويبسط، وشافعنا عرض الإكثار.
توفي في آخر أربعة وستين وسبع ماية.
محمد بن محمد بن حزب اللهمن أهل وادي آش، يكنى أبا عبد الله، ويعرف باسم جده.
حالهدمث؛ متخلق، سهل الجانب، كثير الدعابة، خفيف الروح، له خط حسن ووراقة بديعة، وإحكام لبعض العملية، واقتدار على النظم. اتصل بباب السلطان ملك المغرب، وارتسم كاتبا مع الجملة، فارتاش، وحسنت حاله.

وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه: راقم واشي، رقيق الجوانب والحواشي، تزهى بخطه المهارق والطروس، وتتجلى في حلل بدايعه، كما تتجلى العروس، إلى خلق كثير التجمل، ونفس عظيمة التحمل. ودود سهل الجانب، عذب المذانب. لما قضيت الوقيعة بطريف، أقال الله عثارها، وعجل ثارها، قذف به موج ذلك البحر، وتفلت إفلات الهدى المقرب إلى النحر، ورمى به إلى رندة القرار، وقد عرى من أثوابه، كما عرى الغرار، فتعرف للحين بأديبها المفلق، وبارقها المتألق أبي الحجاج المنتشا فرى، فراقه يبشر لقايه، ونهل على الظمأ في سقاته، وكانت بينهما مخاطبات، أنشدنيها بعد إيابه، وأخبرني بما كان من ذهاب زاده، وسلب ثيابه.
وخاطبني من شرح حاله في ارتجاله بما نصه: ولما دخلت رندة الأنيقة البطاح، المحتوية على الأدب والسماح، والعلم والصلاح، أبرز القدر أن لقيت بها شيخنا المعمر رئيس الأدباء، وقدوة الفقهاء، أبا الحجاج المنتشافري، وكنت لم أشاهده قبل هذا العيان، ولا سمح لي بلقاية صرف الزمان، ولم أزل أكلف بمقطوعاته العجيبة، وأولع بضرايبه الغريبة، وتأتى منه مخاطبات تزري بالعقود بهجة، وتطير لها العقود لهجة. نظم كما تنفيس الصبح عن تسنيمه، ونثر كما تأسس الدر بتنظيمه، فأحلني منه محل الروح من الجسد، وشهد لي أني أعز من عليه ورد، ورآني قد ظهرت على مضاضة الاكتياب، لكوني قريب عهد بالإياب، مهزوماً انهزام الأحزاب، خالي الوطاب، نزر الثياب، فقال فيم الجزع، ذهب بحول الله الخوف، وأمن الفزع، فأجبته عجلاً، وقلت أخاطبه مرتجلا.
لا تجزعى نفسي لفقد معاشري ... وذهاب مالي في سبيل القادر
ورندة ها أنت خير بلاده ... وبها أبو حجاج المنتشافري
سيريك حسن فرايد من نظمه ... فتزيل كل كآبة في الخاطر
فأجابني مرتجلا:
سراى يا قلبي المشوق وناظري ... بمزار ذي الشرف السني الطاهر
روض المعارف زهرها الزاهي ... ومن أوصافه أعيت ثنا الشاكر
ولواد آش فخار لم يزل ... من كاين حزب الله نور الناظر
وافي يشرف رندة بقدومه ... فغدت به أفقا لبدر زاهر
من روضة الأدباء أبدي زهرة ... قد أينعت عن فكر حبر ماهر
جمع المآثر بالسناة وبالسنا ... أعظم به من صانع لمآثر
ما زلت أسمع من ثناء مآثراً ... كانت لسامعها معاً والذاكر
حتى رأى بصرى حقائق وصفه ... فتنعمت كالأقمار نواظري
لا زال محبواً بكل مسرة ... تجري له بالحظ حكم مغادر
ثم خاطبه القاضي المنتشافري بعد انصرافه إلى وطنه بقوله:
أبى الدمع بعدك إلا انفجارا ... لدهر ببعدك في الحكم جارا
أذاق اللقاء الحلو لو لم يصل به ... للنوى جرعات مرارا
رعى الله لمح ذاك اللقاء وإن ... يك أشواقنا قد أثاراً
قصاراى شكواي طول النوى ... وفقدي أناة وصل قصاراً
سقت القداح من بعده ... فوادي القريح قد أذكت أوارا
ألا يا صباً هب من أربعي ... إلى واد آش تحيي الديارا
ألا خص من ربعها منزلا ... بأربابه الأكرمين استنارا
وهم إلى حزب الإله الألى ... تساموا فخاراً وطابوا نجاراً
فأجابه بأبيات منها:
تألق برق العلا واستنارا ... فأجج إذ لاح في القلب نارا
وذكرني وقت أنس مضا برندة ... حيث الجلال استشارا
وكانت لنفسي سنا في حماها ... طوالا فأصبحت لديها قصارا
فأجريت دمع العيون اشتياقاً ... ففاضت لأجل فراقي بحارا
وقالت لي النفس من لم يجد ... نصيراً سوى الدمع قل انتصارا
قطعت المنا عندها لمحة ... وودعتها وامتطيت القفارا
وضيعت تلك المنا غفلة ... ووافيت أبغي نابس ديارا
ومنها:
أرقت لذاك السنا ليلة ... وما نومها ذقت إلا غرارا

وجسمي أجل الجسوم التهابا ... وقلبي أشد القلوب انكسارا
إلى أن تجرعت كأس النوى ... وقلت زماني على الشمل جارا
وصبرت نفسي لفقدانها ... هنالك بالرغم ليس اختيارا
وقال من قصيدة:
حللت لبرق لاح من سرحتي نجد ... حنين تهامى تحن إلى نجد
وقلت لعل القلب تبرا كلومه ... ومن ذا يصد النار عن شيمة الوقد
إن شاركتني في المحبة فرقة ... فها أنا في وجدي وفي كلفي وجد
وهو إلى هذا العهد بالحال الموصوفة.
ابن عيسى بن داود الحميريمحمد بن إبراهيم بن عيسى بن داود الحميري من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عيسى
حالهكان أديباً، حسن الخط، جيد النظم، متظرفاً، لوذعياً، مطبوعاً، منحطاً في هواه، جامحاً في ميدان بطالته، معاقراً للنبيذ، على حفظ للرسم، واضطلاع بالخدمة، وإيثار للمروءة، ومعرفة بمقادير الأمور، وتشبث بأذيال الحظوة. كتب للرياسة السعيدية بمالقة، ونظر على ألقاب جبايتها، وانتفع الناس بجاهه وماله، ووقع الثناء على حسن وساطته. ثم سافر عنها، وقد سمت مجادة السلطان في غرض انتقالها إلى العدوة، معوضة بمدينة سلا من مالقة. وكان ما كان من معاجلة الأمر، والقبض على الريس، وقيام ولده بالأمر، فأنتب المذكور بالعدوة، وكانت بها وفاته.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه: علم من أعلام هذا الفن، ومشعشعي راح هذا الدن، بمجموع أدوات، وفارس يراعة، ظريف المنزع، أنيق المرآى والمسمع، اختص بالرياسة، وأدار فلك إمارتها، واتسم باسم كتابتها ووزارتها، ناهضاً بالأعباء، راقياً في درح التقريب والاجتباء، مصانعاً دهره في راح وراحة، آوياً إلى فضل وسماحة، وخصب ساحة، كلما فرغ من شأن خدمته، وانصرف عن رب نعمته، عقد شرباً، وأطفأ من الاهتمام بغير الأيام حرباً، وعكف على صوت يستعيده، وظرف يبديه ويعيده. فلما تقليت بالرياسة الحال، وقوضت منها الرحال، استقر بالمغرب غريباً، يقلب طرفاً مستريبا، ويلحظ الدنيا تبعة عليه وتثريباً، وإن كان لم يعدم من أمرايها حظوة وتقريباً، وما برح يبوح بشجنة، ويرتاح إلى عهود وطنه.
شعره وكتابتهمما كتبه، وبين فيه أدبه قوله:
يا نازحين ولم أفارق منهم ... شوقاً تأجج في الضلوع ضرامه
غيبتم عن ناظري وشخصكم ... حيث استقر من الضلوع مقامه
رمت النوى شملي فشنت نظمه ... والبين رام لا تطيش سهامه
وقد اعتدى فينا وجد مبالغا ... وجرت بمحكم جوره أحكامه
أترى الزمان مؤخراً في مدتي ... حتى أراه قد انقضت أيامه
تحملها يا نسيم تجديه النفحات، وجدية اللفحات، يؤدي عني نغمها إلى الأحبة سلاماً، ويورد عليهم لفحها برداً وسلاماً، ولا تقل كيف تحملني ناراً، وترسل على الأحبة مني إعصارا. كلا إذا أهديتهم تحية إيناسي، وأنسوا من جانب هبوبك نار ضرام أنفاسي، وارتاحوا إلى هبوبك، واهتزوا في كف مسرى جنوبك، وتعللوا بها تعليلا، وأوسعوا آثار مهبك تقبيلا، أرسلها عليهم بليلا، وخاطبهم بلطافة تلطفك تعليلا. ألم تروني كيف جئتكم بما حملني عليلا.
كذاك تركته ملقى بأرض ... له فيها التعلل بالرياح
إذا هبت إليه صبا إليها ... وإن جاءته من كل النواح
تساعده الحمايم حين يبكي ... فما ينفك موصول النياح
يخاطبن مهما طرن شوقاً ... أما فيكن واهية الجناح
ولولا تعلله بالأماني، وتحدث نفسه بزمان التداني، لكان قد قضى نحبه، ولم أبلغكم إلا نعيه أو ندبه، لا كنه يتعلل من الآمال بالوعد الممطول، ويتطارح باقتراحاته على الزمن المجهول، ويحدث نفسه، وقد قنعت من بروق الآمال بالخلب، ووثقت بمواعيد الدهر القلب؛ فيناجيها بوحي ضميره، وإيماء تصويره، كيف أجدك يوم الالتقاء بالأحباب، والتخلص من ربقة الاغتراب، أبائنة الحضور أم بادية الاضطراب. كأني بك وقد استفزك وله السرور، فصرفك عن مشاهدة الحضور، وعاقتك غشاوة الاستعبار للاستبشار، عن اجتلاء محيا ذلك النهار.
يوم يداوي زماناتي من أزماني ... أزبر تنغيص أحياني فأحياني

جعلت لله نذراً صومه أبداً ... أفي به وأوفي شرط إيماني
إذا ارتفعنا وزال البعد وانقطعت ... أشطان دهر قد التفت بأشطاني
أعدده خير أعياد الزمان إذا ... أوطأني السعد فيه ترب أوطاني
أرأيت كيف ارتياحي إلى التذكار، وانقيادي إلى معللات توهمات الأفكار، كأن البعد باستغراقها، قد طويت شقته، وذهبت عني مشقته، وكأني بالتخيل بين تلك الخمايل أتنسم صباها، وأتسنم رباها، وأجتني أزهارها، وأجتلي أوارها، وأجول في خمايلها. وأتنعم ببكرها وأصايلها، وأطوف بمعالمها، وأتنشق أزهار كمايمها، وأصيخ بإذن الشون إلى سجع حمايمها، وقد داخلتني الأفراح، ونالت مني نشوة الارتياح. ودنا السرور لتوسم ذهاب الأتراح. فلما أفقت من غمرات سكري، ووثبت من هفوات فكري، وجددت مرارة ما شابه لبي في استغراق دهري، وكأني من حينئذ عالجت وقفة الفراق، وابتدأت منازعة الأشواق، وكأنما أغمضتني للنوم، وسمح لي بتلك الفكرة الحلم:
ذكر الديار فهاجه تذكاره ... وسرت به من حينه أفكاره
فاحتل منها حيث كان حلوله ... بالوهم فيها واستقر قراره
يا لقرب الآمال من هفواته ... لو أنه قضت بها أوطاره
فإذا جيتها أيها القادم، والأصيل قد خلع عليها برداً مورساً، والربيع قد مد على القيعان منها سندساً، اتخذها فديتك معرساً، واجرر ذيولك فيها تبختراً، وبث فيها من طيب نفحاتك عنبرا، وافتق عليها من نوافح أنفاسك مسكاً أذفراً، واعطف بعاطف بانها، وارقص قضب ريحانها، وصافح صفحات نهرها، ونافح نفحات زهرها. هذه كلها أمارات، وعن أسرار مقاصدي عبارات، هنالك تنتعش بها صبابات، تعالج صبابات، تتعلل بإقبالك، وتعكف على لثم أذيالك؛ وتبدو لك في صفة الفاني المتهالك، لاطفها بلطافة اعتلالك، وترفق بها ترفق أمثالك، فإذا أمالت بهم إلى هواك الأشواق، ولووا إليك الأرؤس والأعناق، وسألوك عن اضطرابي في الآفاق، وتقلبي بين الأشآم والأعراق، فقل لهم عرض له في أسفاره، ما يعرض للبدر في سراره، من سر السرار، وطاق المحاق، وقد تركته وهو يسامر الفرقدين، ويساير النيرين، وينشد إذا راعه البين:
قد نكون وما يخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
لم يفارق وعثاء الأسفار، ولا ألقى من يده عصا التسيار، يتهاداه للغور والنجد. ويتداوله الأرقال والوخد، وقد لفحته الرمضاء، وسيمه الإنضاء. فالجهات تلفظه، والآكام تبهظه، تحمل هومه الرواسم، وتحفى به النواسم.
لا يستقر بأرض حين يبلغها ... ولا له غير حدو العيس إيناس
ثم إذا استوفرا سؤالك عن حالي، وتقلبي بين حالي حلي وترحالي، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وملأت الدموع المحاجر، وابتلت ذيولك بمائها، لا بل تضرجت بدمائها، فحيهم عني تحية منفصل، وودعهم وداع مرتحل. ثم اعطف عليهم ركابك، ومهد لهم جنابك، وقل لهم إذا سألني عن المنازل بعد سكانها، والربوع بعد ظعن أظعانها، بماذا أجيبه، وبماذا يسكن وجيبه، فسيقولون لك هي البلاقع المقفرات التي أصبحت نكرات.
سم صداها وعفى رسمها ... واستعجمت عن منطق السايل

قل لهم كيف الروض وآسه، وعماذا تتأرج أنفاسه، عهدي به والحمام يردد أسجاعه، والذباب يغني به هزجاً، فيحك بذراعه ذراعه، وغصونه تعتنق، وأحشاء جداوله تصطفق، وأسحاره تتنسم، وآصاله تغتبق، كما كانت بقية نضرته، وكما عهدتها أنيقة خضرته، وكيف التفاتة عن أزرق نهره، وتأنقه في تكليل أكليله بيانع زهره. وهل رق نسيم آصاله، وصفت موارد جداوله، وكيف انفساح ساحاته، والتفاف دوحاته، وهل تمتد كما كانت مع العشي فينانة سرحاته. عهدي بها، المديدة الظلال، المزعفرة السربال، فلم تحدق الآن به عيون نرجسه، ولا سد بساط سندسه. وأين منه مجالس لذاتي، ومعاهد غدواتي وروحاتي، إذ أباري في المجون لمن أباري، وأسابق إلى اللذات كل من يجاري. فسيقولون لك ذوت أفنانه، وانقصفت أغصانه، وتكدرت غدرانه، وتغير ريحه وريحانه، وأقفرت معالمه، وأخرست حمايمه، واستحالت به حلل خمايله، وتغيرت وجوه بكره وأصايله. فإن صلصل حنين رعد، فعن لبي لفراقه خفق، وإن تلألأ برق، فعن حر حشاي ائتلق، وإن سحت السحب فمساعدة لجفني، وإن طال بكاؤها فعني، حياها الله منازل لم تثن الريح من أغصانها معطفاً، أعاد الله الشمل فيها إلى محكم نظامه، وجعل الدهر الذي فرقه يتأنق في أحكامه. وهو سبحانه يجبر الصدع، ويعجل الجمع، إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير. إيه بني كيف حال من استودعتهم أمانتك، وألزمتهم صونك وصيانتك، وألبستهم نسبك، ومهدت لهم حسبك، الله في حفظهم، فهو اللائق بفعالك، والمناسب لشرف خلالك، إرع لهم الاغتراب لديك، والانقطاع إليك، فهم أمانة الله تعالى في يديك، وهو سبحانه بحفظهم، ويوالي بلحظك أسباب لحظهم، وإن ذهبتم إلى معرفة الأحوال، فنعم الله ممتدة الظلال، وخيراته ضافية السربال، لولا الشوق الملازم، والوجد الذي سكن الحيازم.
ووقفت من شعره على قصيدة من جملة رسالة، أثبتها وهي:
أللبرق يبدو تسطير الجوانح ... وللورق تشدو وتستهل السوابح
وقلبي للبرق الخفوق مساعد ... ووجدي للورق الثكالى مطارح
إذا البرق أورى في الظلام زنادي ... فللوجد في زند الصبابة قادح
وكم وقفة لي حيث مال بي الهوى ... أغاد بها شكوى الجوى وأراوح
تنازعني منها للشجون فأشتكي ... ويكثر بثي عندها فأسامح
أبت شجوني والحمام يصيخ لي ... ويسعدني فيما تبيح التبارح
وتطرب أغصان الأراك فتنثني ... إلى صفحة النهر الثقيل تصافح
فتبتسم الأزهار منها تعجباً ... فتهدي إليها عرفها وتنافح
كذلك حتى ماد عطف شغفي ... وطرفي أبدى هزة وهو مارح
فلما التظى وجدي ترنم صاهلاً ... فقلت أمثلي يشتكي الوجد نابح
صرفت عدو البيد أرخو عناننه ... وقلت له شمر فإنني سابح
تهيأ لقطع البيد واعتسف السرى ... سيلقاك غيظان بها وممايح
فحمحم لو يستطيع نطقاً لقال له ... بمثلي تلقى هذه وتكافح
وحملتة عزماً تعود مثله ... فقام به مستقبلا من يناطح
ويممت بيداً لم أصاحب لجوها ... سوى جلد لا يتقي منه فاضح
وماضي الغرارين استجدت مضاه ... إذا جردت يوم الجلاد الصفايح
ومندمج صدق الأنابيب نافذ به ... عند كرى في الحروب أفاتح
وسرت فلا ألقى سوى الوحش نافراً ... وقد شردت في الظبا السوانح
تحدق نحوي أعيناً لم يلح لها ... سناً لك أسنى ولا هو لايح
وقد زأرت أسد تقحمت غيلها ... فقلت تعاوت إنها لنوايح
وكم طاف بي للخبر من طايف بها ... فلم أصغ سمعاً نحوها وهو صايح
ويعرض لي وجهاً دميماً منظراً ... شنيعاً له تبدو عليه القبايح
فما راعني منه تلون حاله ... بل أيقظ عزمي فانثنى وهو كالح
فلما اكتست شمس العشي شحوبها ... ومالت إلى أفق الغروب تنازح

تسربلت للإدلاج جنح دجنة ... فها أنذا غرسي إلى القصد جانح
فخضت ظلام الليل والنجم شاخص ... إلي بلخط طرفه لي لامح
يرده شزراً إلي كأنما ... علي له حقد به لا يسامح
وراقب من شكلى السماك نظزيره ... خلا لزمكلى أعزل وهو رامح
يخط وميض البرق لي منه أسطراً ... على صفحة الظلماء فهي لوايح
إذا خطها ما بين عيني لم أزل ... أكلف دمعي نحوها فهو طامح
وما زلت سراً في حشى النبل كامناً ... إلى أن بدا من ناسم الصبح فاتح
وهب نسيم الصبح فانعطفت له ... قدود غصون قد رقتها صوادح
تجاذب ذكري أحاديث لم أزل ... يرددها مني مجد ومازح
وملت إلى التعريس لما انقضى السرى ... أروض له نفسي وعزمي جامح
ومال الكرى بي ميلة سكنت لها على نصب الوعثاء مني الجوارح
كمن أخذت منه الشمول بثارها ... فبات يشقى وهو ريان طافح
وقربت الأحلام لي كل معمل ... فأدنته مني وهو في الحق نازح
أرتني وجوهاً لو بذلت لقربها ... حياتي لمن بالقب منه يسامح
لقل لها عمري وما ملكت يدي ... وحدثت نفسي أن تجرى رابح
وما زلت أشكو بيننا غصص النوى ... وما طوحت بن في الزمان الطوايح
فمنها ثغور للسرور بواسم ... لقربه ومنها للفراق نوايح
تقربها الأحلام مني ودونها ... مهامه فيها للهجير لوافح
وبحر طمت أمواجه وشآبيب ... وقفر به للسالكين جوامح
قضيت حقوق الشوق في زورة ... للكرى فإن زيارات الشجون فوادح
وعدت إلى شكوى البلاء ولم أزل ... أرددها والعذر مني واضح
وما بلغت عني مشافهة الكرى ... تبلغها عني الرياح اللوافح
وحسبك قلب في أسار اشتياقة ... وقد أسلمته في يديه الجوانح
وفاتهقال شيخنا أبو بكر بن شبرين، توفي بسجلماسة في صفر عام ستة عشر وسبعماية.
ابن مقاتلمحمد بن محمد بن عبد الله بن مقاتل من أهل مالقة، يكنى أبا بكر.
حالهمن كتاب الإكليل: نابغة مالقية، وخلق وبقية، ومغربي الوطن أخلاقه مشرقية. أزمع الرحيل إلى المشرق، مع اخضرار العود، وسواد المفرق، فلما توسطت السفينة اللجج، وقارعت الثبج، مال عليها البحر، فسقاها كأس الحمام، وأولدها قبل التمام، وكان فيمن اشتملت عليه أعوادها، وانضم على نوره سوادها، جملة من الطلبة والأدباء، وأبناء السراة الحسباء، أصبح كل منهم مطيعاً لداعي الردى وسميعاً، وأحيوا فرادى وماتوا جميعاً، فأجروا الدموع حزناً، وأرسلوا العبرات عليهم مزنا. وكان البحر لما طمس سبل خلاصهم وسدها، وأحال هضبة سفينتهم وهدها، غار على نفوسهم النفيسة واستردها. والفقيه أبو بكر، مع إكثاره، وانقياد نظامه، ونثاره، لم أظفر من أدبه إلا بالقاليل التافه، بعد وداعه وانصرافه.
فمن ذلك قوله وقد أبصر فتى عاثراً:
ومهفهف هافي المعاطف أحور ... فضحت أشعة نوره الأقمارا
زلت له قدم فأصبح عاثراً ... بين الأنام لعا لذاك عثارا
لو كنت أعلم ما يكون فرشت في ... ذاك المكان الخد والأشفارا
وقال متغزلا:
أيا لبنى الرفاء تنضى ظباؤهم ... جفون ظباهم والفؤاد كليم
لقد قطع الأحشاء منهم مهفهف ... له التبر خد واللجين أديم
يسدد إذ يرمى قسى جواجب ... وأسهمها من مقلتيه تسوم
وتسقمني عيناه وهي سقيمة ... ومن عجب سقم جناه سقيم
ويذبل جسمي في هواه صبابة ... وفي وصله للعاشقين نعيم
توفي في حدود أخريات عام تسعة وثلاثين وسبعماية غريقاً بأحواز الغبطة من ساحل ألمرية.
ابن صفوان القيسيمحمد بن أحمد بن أحمد بن صفوان القيسي

ولد الشيخ أبي الطاهر، من أهل مالقة.
من كتاب الإكليل: نبل فطن، متحرك ذهن، كان أبوه رحمه الله، يتبرم بجداله، ويخشى مواقع رشق نباله، ويشيم بارق الاعتراض في سؤاله، فيشفق من اختلال خلاله، إذ طريقه إنما هي أذواق لا تشرح، وأسرار لا تفضح. وكان ممن اخترم، وجد حبل أمله وصرم، فأفل عقب أبيه، وكان له أدب يخوض فيه.
فمن ذلك، وقد أبصر فتى وسيما على ريحانه:
بدر تجلى على غصن من الآسى ... يبري ويسقم فهو الممرض الآسى
عادى المنازل إلا القلب منزلة ... فماله وجميع الناس من ناس
وقال:
يا عالما بالسر والجهر ... وملجأى في العسر واليسر
جد لي بما أملته منك ... يا مولاي واجبر بالرضا كسري
وفاته: في عام خمسة وسبعماية.
ابن محمد البلويمحمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد البلوي من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بنسبه، وقد مر ذكر أبيه ي العمال.
حالههذا الرجل من أبناء النعم، وذوي البيوتات، كثير السكون والحياء، آل به ذلك أخيراً للولوثة، لم يستفق منها لطف الله به. حسن الخط، مطبوع الأدب، سيال الطبع، معينه. وناب عن بعض القضاة، وهو الآن رهين ما ذكر، يتمنى أهله وفاته، والله ولي المعافاة، بفضله.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: من أولى الخلال البارعة والخصال، خطا رايقا، ونظما بمثله لايقاً، ودعابة يسترها بحبهم، وسكوتاً فيطيه إدراك وتفهم. عني بالرواية والنقيد، ومال في النظم إلى بعض التوليد، وله أصالة ثبتت في السرو عروقها، وتألقت في سما المجادة بروقها، وتصرف بين النيابة في الأحكام الشرعية، وبين الشهادات العملية المرعية.
شعرهومن شعره فيما خاطبني به، مهنئاً في إعذار أولادي أسعدهم الله، افتتح ذلك بأن قال.
قال، يعتذر عن خدمة الأعذار، ويصل المدح والثنا على بعد الدار، وذلك بتارخ الوسط من شعبان في عام تسعة وأربعين وسبعمائة:
لا عذر لي عن خدمة الإعذار ... وإن نأى وطني وشط مزاري
أو عاقني عنه الزمان وصرفه ... نقض الأمان عادة الأعصار
قد كنت أرغب أن أفوت بخدمتي ... وأخطر حلى عند باب الدار
باب المسرة بالضبع وأهله ... متشمراً فيه بفضل إزار
من شاء أن يلقى الزمان وأهله ... ويرى جلا الإشعاع في الأفكار
فليأت حي ابن الخطيب ملبيا ... فيفوز بالإعظام والإكبار
كم ضم من جيد كرام فضلهم ... يسمو ويعلو في ذوي الأقدار
إذ حيث ناديه فقف عني ... وقل نلت المنى بتلطف ووقار
يا من له الشرف القديم ومن ... له الحب الصميم العد يوم فحار
يهنيك ما قد نلت من أمل به ... في الفرقدين النيرين يسار
نجلاك قطبا كل تجر باذخ ... أملان مرجوان في الاعتبار
عبد الإله وصنوه قمر العلا ... فرعان من أصل زكا وبحار
ناهيك من قمرين في أفق العلا ... ينميهما نور من الأنوار
زاكي الأرومة مغرق في مجده ... جم الفضايل طيب الأخبار
رقت طبايعه وراق جماله ... فكأنما خلقا من الأزهار
وجلت شمايل حسنه فكأنما ... خلعت عليه رقة الأسحار
فإذا تكلم قلت ظل ساقط ... أو وقع در من نحور جوار
أو فت مسك الحبر في قرطاسه ... بالروض غب الواكف المدرار
تتسم الأقلام بين بنانه ... فيريك نظم الدر في الأسطار
فتخال من تلك البنان كأنما ... نهلت تفتح ناضر النور
تلقاه فياض الندى متهللا ... يلقاك بالبشر والاستبشار
بحر البلاغة قسها وأيادها ... سحبانها خبر من الأخبار
إن ناظر العلماء فهو أمامهم ... شرف المعارف واحد النظار
أربى على العلماء بالصيت الذي ... قد كان في الآفاق كل مطار

ما ضره إن لم يجئ متقدماً ... السبق يعرف آخر المضمار
إن كان أخره الزمان لحكمة ... ظهرت وما خفيت كضوء نهار
الشمس تحجب وهي أعظم تبر ... وترى من الآفاق إثر درار
يا ابن الخطيب خطبتها لعلاكم ... بكراص تزف لكم من الأفكار
جاءتك من خجل على قدم الحيا ... قد طيبت بثنايك المعطار
وأنت تؤدي بعض حق واجب ... عن نازح الإمكان والأفكار
مدت يد التطفيل نحو علاكم ... فتوحشت من جودكم بنضار
فابذل لها في النقد صفحك إنها ... شكوى التقصير في الأشعار
لا زلت في دعة وعز دايم ... ومسرة تترى مع الأعصار
ومن السلطانيات قوله من قصيدة نسيبها:
تبسم ثغر الدهر في القضب الملد ... فأذكى الحيا خجلة وجنة الورد
ونبه وقع الطل ألحاظ نرجس ... فمال الوسنان وعاد إلى الشهد
ونم سبر الروض في مسكة الدجا ... نسيم شذا الخير كالمسك والند
وغطى ظلام الليل حمرة أفقه ... كما دار مسود العذار على الخد
وياتت قلوب الشهب تخفق رقة ... لما حل بالمشتاق من لوعة الوجد
وأهمى عليه الغيم أجفان مشفق ... بذكره فاستمطر الدمع للخد
ومنها:
كأني لم أقف في الحي وفقة عاشق ... غداة افترقنا والنوى رندها يعد
وناديت حادي العسيس عرج ... لعلي أبثك وجدي إن تمر على نجد
فقال اتيد يا صاح مالك ملجأ ... سوى الملك المنصور في الرفق والرفد
ومما خاطبني به قوله:
عللوني ولو بوعد محال ... وحلوني ولو بطيف خيال
واعلموا أنني أسير هواكم ... لست أنفك إلا عن عقال
فدموعي من بينكم في انسكاب ... وفؤادي من سحركم في اشتغال
يا أهيل الحمى كفاني غرامي ... حسبي بما قد جر....... ال
من مجيري من لحظ ريم ظلوم ... حلل الهجر بعد طيب الوصال
ناعس الطرف أسمر الجفن مني ... طال منه الجوى بطول الليال
بابلي اللحاظ أصمى فؤاده ... ورماه من غنجه بنبال
وكما الجسم من هواه نحولا ... قصده في النوى بذاك النحال
ما ابتدا في الوصال يوماً بعطف ... مذ روى في الغرام باب اشتغال
ليس لي منه في الهوى من محبر ... غير تاج العلا وقطب الكمال
علم الدين عزه وسناه ذرؤه ... المجد بدر أفق الجلال
هو غيث الندا وبحر العطايا ... هو شمس الهدى فريد المعال
إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا ... صفحة الطرس حليت باللآل
أو دجا الخطب فيهو فيه شهاب ... راية الصبح في ظلل الضلال
أوينا العضب فهو في الأمن ماض ... صادق العزم ضيق المجال
لست تلقى مثاله في زمان ... جل في الدهر يا أخى عن مثال
قد نأى حبي له عن دياري ... لا لجدوى ولا لنيل نوال
لكن اشتقت أن أرى منه وجهاً ... نوره فاضح لنور الهلال
وكما همت فيه ألثم كفا قد ... أتت بالنوال قبل السؤال
سألها ابن الخطيب هذراً أجابت ... تلثم النعل قبل شسع النعال
وتوفي حق الوزارة عمن هو ... ملك لها على كل حال
محمد بن محمد بن الشديدمن أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله.
حالهذكر في الإكليل بما نصه: شاعر مجيد، حوك الكلام، ولا يقصر فيه عن درجة الأعلام. رحل إلى الحجاز لأول أمره، فطال بالبلاد المشرقية ثواؤه. وعميت أنباؤه، وعلى هذا العهد وقفت له على قصيدة بخطه غرضها نبيل، ومرعاها غير وبيل، تدل على نفس ونفس، وإضاءة قبس. وهي:
لنا في كل مكرمة مقام ... ومن فوق النجوم لنا مقام

روينا من مياه المجد لما ... وردناها وقد كثر الزحام
ومنها:
فنحن هم وقل لي من سوانا ... لنا التقديم قدماً والكلام
لنا الأيدي الطوال بكل ضرب ... يهز به لدى الروع الحسام
ونحن اللابسون لكل درع ... يصيب الشمس منهن انثلام
بأندلس لنا أيام حرب ... مواقفهن في الدنيا عظام
ثوى منها قلوب الروم خوفاً ... يخوف منه في المهد الغلام
حمينا جانب الدين احتسابا ... فها هو لا يهان ولا يضام
وتحت الراية الحمراء منا ... كتايب لا تطلق ولا ترام
بنو نصر وما أدراك ماهم ... أسود الحرب والقوم الكرام
لهم في حربهم فتكات عمرو ... فللأعمار عندهم انصرام
يقول عداتهم مهما ألموا ... أتونا ما من الموت اعتصام
إذا شرعوا الأسنة يوم حرب ... فحقق أن ذاك هو الحمام
كأن رماحهم فيها نجوم ... إذا ما أشبه الليل الغمام
أناس تخلف الأيام ميتاً ... بحي منهم فلهم دوام
رأينا من أبي الحجاج شخصاً ... على تلك الصفات له قيام
موقى العرض محمود السجايا ... كريم الكف مقدام همام
يجول بذهنه في كل شيء ... فيدركه وإن عز المرام
قويم الرأي في نوب الليالي ... إذا ما الرأي فارقه القوام
له في كل معضلة مضاء ... مضاء الكف ساعده الحسام
رؤوف قادر يغضي ويعفو ... وإن عظم اجتناء واجترام
تطوف ببيت سؤدده القوافي ... كما قد طاف بالبيت الأنام
وتسجد في مقام علاه شكرا ... ونعم الركن ذلك والمقام
أفارسها إذا ما الحرب أخنت ... على أبطالها ودنا الحمام
وممطرها إذا ما السحب كفت ... وكف أخي الندى أبداً غمام
لك الذكر الجميل بكل قطر ... لك الشرف الأصيل المستدام
لقد جينا البلاد فحيث سرنا ... رأينا أن ملكك لا يرام
فضلت ملوكها شرقاً وغرباً ... وبت لملكها يقظاً ونام
فأنت لكل معلوة مدار ... وأنت لكل مكرمة إمام
جعلت بلاد أندلس إذا ما ... ذكرت تغار مصر والشآم
مكان أنت فيه مكان عز ... وأوطان حللت بها كرام
وهبتك من بنات الفكر بكرا ... لها من حسن لقياك ابتسام
فنزه طرف مجدك في حلاها ... فللمجد الأصيل بها اهتمام
ابن أبي الخصال الغافقيمحمد بن مسعود بن خالصة بن فرج بن مجاهد ابن أبي الخصال الغافقي، الإمام البليغ، المحدث الحجة، يكنى أبا عبد الله. أصله من فر غليط من شقورة، من كورة جيان، وسكن قرطبة وغرناطة.
حالهقال ابن الزبير عند ذكره: ذو الوزارتين، أبو عبد الله بن أبي الخصال، كان من أهل المعارف الجمة، والإتقان لصناعة الحديث، والمعرفة برجاله، والتقييد لغريبه، وإتقان ضبطه، والمعرفة بالعربية واللغة والأدب، والنسب والتاريخ، متقدماً في ذلك كله. وأما الكتابة والنظم؛ فهو إمامهما المتفق عليه، والمتحاكم فيهما إليه.
لوما ذكره أبو القاسم الملاحي بنحو ذلك قال: لم يكن في عصره مثله، مع دين وفضل وورع.

قال أبو عمرو بن الإمام الإستنجي في سمط الجمان، لما ذكره: البحر الذي لا يماتح ولا يشاطر، والغيث الذي لا يساجل ولا يقاطر، والروض الذي لا يفاوح ولا يعاطر، والطود الذي لا يزاحم ولا يخاطر، الذي جمع أشتات المحاسن، على ماء غير ملح ولا آسن؛ وكثرت فواضله، فأمنت المماثل والمحاسن، الذي قصرت البلاغة على محتده، وألقيت أزمة الفصاحة في يده، وتشرفت الخطابة والكتابة باعتزائهما إليه، فنثفل كنانتها، وأرسل كماينها، وأوضح أسرارها ودفاينها، فحسب الماهر التحرير، والجهبذ العلامة البصير إذا أبدع في كلامه، وأينع في روض الإجادة نثاره ونظامه، وطالت قنى الخطية الذبل أقلامه، أن يستنير بأنواره، ويقتضي بعض مناهجه وآثاره وينثر على أثوابه مسك غباره، وليعلم كيف يتفاضل الخبر والإنشاء، ويتلو إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشأ.
وعضة العقور أبو نصر في قلائده. حيث قال، هو وإن كان خامل المنشأ نازله، لم ينزله المجد مناله، ولا فرع للعلاء هضابا، ولا ارتشف للسنا رضابا، فقد تميز بنفسه، وتحيز من أبناء جنسه، وظهر بذاته، وفخر بأدواته.
مشيختهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، في الصلة، روى عن الغساني، والصدفي وأبي الحسن بن الباذش، وأبي عمران بن تليد، وأبي بحر الأسدي، وأبي عبد الله النفزي، وجماعة غيرهم.
تواليفهقال الأستاذ، وأما كتبه وشعره وتواليفه الأدبية، فكل ذلك مشهور، متداول بأيدي الناس، وقل من يعلم بعده، أن يجتمع له مثله، رحمه الله.
من روى عنهروى عنه ابن بشكوال، وابن حبيش، وابن مضاء وغيرهم، وكل ذلك ذكره في رحاله، وهو أعرف بتقدمه في احتفاله.
شعرهوله شعر كثير. فمن إخوانياته ما خاطب به أبا إسحق بن خفاجة:
هب النسيم هبوب ذي إشفاق ... يذهبن الهوى بجناحه الخفاق
وكأنما صبح الغصون بنشوة ... باحت لها سراير العشاق
وإذا تلاعبت الرياح ببانه ... لعب الغرام بمهجة المشتاق
مه يا نسيم فقد كبرت عن الصبا ... لم يبق من تلك الصبابة باق
إن كنت ذاك فلست ذاك ولا ... أنا قد أذنتك مفارقي بفراق
ولقد عهدت سراك من عدد الهوى ... والموت في نظري وفي استنشاق
أيام لو عن السلو لخاطرى ... قربته هدياً إلى أشواق
الهوى إلفي والبطالة مركبي ... والأمن ظلي والشباب رواق
في حيث قسمت المدامة قسمة ... ضيزى لأن السكر من أخلاق
لا ذنب للصهباء أني غاضب ... ولذاك قام السكر باستحقاق
ولقد صددت الكأس فانقبضت ... بها من بعدما انبسطت يمين الساق
وتركت في وسط الندامى خلة ... هامت بها الوسطى من الأعلاق
فاستسرفوني مذكرين وعندهم ... أني أدين اللهو دين نفاق
وحبابها نفث الحباب وربما ... سدكت يد الملسوع منه براق
وكأنه لما توقر من فوقها ... نور تجسم من ندى الأحداق
لو بارح نفح النوى في روضة ... فأثارها وسرى عن الأحداق
ولقد جلوا والله يدرأ كيدهم ... فتأنة الأوصاف والأعراق
أغوى بها إبليس قدماً أدماً ... وهي السر يرتمي في هواها الباق
تالله أصرف نحوها وجد الرضا ... لو شعشعت برضا أبي إسحاق
ومن نسيبه:
وليل عنبرية الأفق ... رويت فيها السرور من طرق
وكست حران فاقتدحت بها ... نارا من الراح بردت حرق
وافت بها عاطلا وقد لبست ... غلالة فصلت من الحدق
فأجابها الدهر من بنيه دجا ... لقيته كالإصباح في نسق
قامت لنا في المقام أوجههم ... وراحهم بالنجوم والشفق
وأطلع البدر من ذرى غصن ... تهفو عليه القلوب كالورق
من عبد شمس بدا سناه ... وهل ذاك النور إلا لذاك الأفق
مد بحمراء من مدامته ... بيضاء كف مسكية العبق

فخلتها وردة منعمة ... تحمل من سوسن على طبق
نشرت في الراح حين نشرتها ... ما غادرت مقلتاه من رمتي
وقال:
يا حبذا ليله لنا سلفت ... أغرت بنفسي الهوى وما عرفت
دارت بظلمائها المدام فكم ... نرجسة من بنفسج قطفت
وقال في مغن زار، بعده أغب وشط المزار.
وافي وقد عظمت علي ذنوبه ... في غيبة قبحت بها آثاره
فمحا إساءته لنا إحسانه ... واستغفرت لذنوبه أوتاره
وقال يعتذر عن استبطاء مكاتبة:
ألم تعلموا والقلب رهن لديكم ... يخبركم عني بمضجره بعدي
فلو قلبتني الحادثات مكانكم ... لأنهبتها وفرى واو دلاتها خدي
ألم تعلموا أني وأهلي وواحد ... فدا ولا أرضى بتفدية وحدي
ومن قوله في غرض المدح يخاطب تاشفين بن علي ويذكر الوقعة بكركي، يقول فيها:
الله أعطاك فتحاً غير مشترك ... ورد عزمك عن فوت إلى درك
أرسل عنان جواد أنت راكبه ... واضمم يديك ودعه في يد الملك
حتى يصير إلى الحسني على ثقة ... يهدي سبيلك هاد غير مؤتعك
قد كان بعدك للأعداء مملكة ... حتى استدرت عليهم كورة الفلك
سارت بك الجردا وطار القضا بها ... والحين قد قيد الأعداء في شرك
فما تركت كميا غير منعفر ... ولا تركت نجيعاً غير منسفك
ناموا وما نام موتور عل حنق ... أسدى إذا فرصة من السلك
فصبحتهم جنود الله باطشة ... والصبح من عبرات الفجر في مسك
من كل مبتدر كالنجم منكدر ... تفيض أنفسهم غيظاً من المسك
فطاعنوكم بأرماح وما طعنت ... وضاربوكم بأسياف ولم تحك
تعجل النحر فيهم قبل موسمه ... وقدم الهدى منهم كل ذي نسك
فالطير عاكفة والوحش واقفة ... فد أثقلتها لحوم القوم عن حرك
عدت على كل عاد منهم أسر ... بعثه في حنجر رحب وفي حنك
كلي هينئاً مريئاً واشكري ملكاً ... قرنك أسيافه في كل معترك
فلو تنضدت الهامات إذ نشرت ... بالقاع للغيظان بالنبك
أبرح وطالب بباقي الدهر ماضيه ... فيوم بدر أقامه الفيئ في فدك
وكم مضى لك من يوم بنت له ... في ماقط برماح الحظ مشتبك
بالنقع مرتكم بالموت ملتيم ... بالبيض مشتمل بالشمر محتبك
فحص القباب إلى فحص الصعاب ... إلى أريولة مداسات إلى السكك
وكم على حبر محمود وجارته ... للروم من مرتكل غير مترك
وفيت للصغر حتى قيل قد غدروا ... سموت تطلب نصر الله بالدرك
فأسلمتهم إلى الإسلام غدوتهم ... وأذهب السيف ما بالدن من حنك
يا أيها الملك السامي بهمته ... إلى رضي الله لا تعدم رضى الملك
ما زلت تسمعه بشرى وتطلعه ... أخرى كدر على الأجياد منسلك
بيضت وجه أمير المؤمنين بها ... والأرض من ظلمة الإلحاد في حلك
فاستشعر النصر واهتزت منابره ... بذكر أروع للكفار محتنك
فأخلدك ولمن والاك طاعته ... خلود بر بتقوى الله ممتسك
وافيت والغيث زاخر قد بكا طرباً ... لما ظفرت وكم بلله من الضحك
وتمم الله ما أنشأت من حسن ... بكل منسبك منه ومنتمك
وعن قريب تباهى الأرض من زهير سماها بها غضة الحبك
فعد وقد واعتمد وأحمد وسد وأبد ... وقل وصل واستطل واستول وانتهك
وحسبك الله فرداً لا نظير له ... تغنيك نصرته عن كل مشترك
ومن قوله في غرض الرثاء، يرثي الفقيد أبا الحسن بن مغيث:
الدهر ليس على حر بمؤتمن ... وأي علق تخطته يد الزمن

يأتي العفا على الدنيا وساكنها ... كأن أدبر لم يسكن إلى سكن
يا باكيا فرقة الأحباب عن شحط ... هلا بكيت فراق الروح للبدن
نور تقيد في طين إلى أجل ... وانحاز عنواً وخلى الطين في الكفن
كالطير في شرك يسمو إلى درك ... حتى تخلص من سقم ومن درن
إن لم يكن في رضي الله التقا وهما ... فيا لها صفقة بتت على دغن
يا شد ما افترقا من بعد ما اعتنقا ... أظنها محرقة كانت على دخن
ورب سار إلى وجه يسر به ... وافي وقد نبت المرعى على الدمن
أتى إلى الله لا سمع ولا بصر ... يدعو إلى الرشد أو يهدي إلى السنن
في كل يوم فراق لا بقاء له ... من صاحب كرم أو سيد قمن
أعيا أبا حسن فقد الذين مضوا ... فمن لنا بالذي أعيا أبا حسن
كأن البقية في قوم قد انقرضوا ... فهاج ما شاء ذاك القرن من شجن
يعد فداً وفي أثوابه رمز من ... كل ذي خلق عمرو وذي فطن
وإن من أوجدتنا كل مفتقد ... حياته لعزيز الفقد والظعن
من للملوك إذا خفت حلومها ... بما يقاوم ذاك الطيش من سكن
ومنها:
يا يونس لا تسر أصبحنا لوحشتنا ... نشكو اغتراباً وما بنا عن الوطن
ويا مطاعا مطيعاً لا عناد له ... في كل أمر على الإسلام مؤتمن
كم خطت كارتجاج البحر مبهمة ... فرجتها بحسام سل من لسن
طود المهابة في الجلا وإن جذبت ... عنانة خلوة هزت ذرى وتر
أكرم به سبباً تلقى الرسول به ... لخمس واردة في الفرض والسنن
ناهيك من منهج سم القصور به ... هوى فمن قدر عال إلى فدن
من كل وادي التقى يسقى الغمام به ... فيستهل شروق الضرع باللبن
تجملت بك في أحسابها مضر ... وأصل مجدك في جرثومة اليمن
من دولة حولها الأنصار حاشدة ... في طامح شامخ الأركان والقنن
من الذين هم رووا وهم نصروا ... من عيسة الدين لا من جذوة الفتن
إن يبد مطلع منهم ومستمع ... فارغب بنفسك عن لحظ وعن أذن
ما بعد منطقه وشي ولا زهر ... ولا لأعلاق ذاك الدر من ثمن
أقول وفينا فضل سودده ... استغفر الله ملء السر والعلن
محمد ومغيث نعم ذا عوضاً ... هما سلالة ذاك العارض الهتن
تقيلا هديه في كل صالحة ... نصر السوابق عن طبع وعن مرن
ما حل حبوته إلا وقد عقدا حباً ... بما اختار من أيد ومن منن
غر الأحبة عند حسن عهدهما ... وإن يونس في الأثواب والجنن
علماً وحلماً وترحيباً وتكرمة ... للزايرين وإغضاء على زكن
يا وافد الغيث أوسع قبره نزلا ... وروماً حول ذاك الديم من ثكن
وطبق الأرض وبلا في شفاعته ... فنعم رايد ذاك الريف واليمن
وأنت يا أرض كوني مرة بأبي ... مثوى كريم ليوم البعث مرتهن
وإن تردت بترب فيك أعظمه ... فكم لها في جنان الخلد من ردن
ومن شعره قوله مخمساً كتب بها، وقد أقام بمراكش يتشوق إلى قرطبة:
بدت لهم بالغور والشمل جامع ... بروق بأعلام العذيب لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع ... ورب غرام لم تنله المسامع
أذاع بها من فيضها التصويب.
ألا في سبيل الشوق قلب مؤثل ... بركب إذا شاء والبروق تحمل
هو الموت إلا إنني أتحمل ... إذا قلت هذا منهل عز منهل
وراية برق نحوها القلب يجنب.

أبى الله إما كل بعد فثابت ... وإما دنو الدار منهم ففايت
ولا يلفت البين المصمم لافت ... ويا رب حي البارق المتهافت
غراب بتفريق الأحبة ينعب.
خذوا بدمي ذاك الوسيق المضرجا ... وروضاً بغيض العاشقين تأرج
عفى الله عنه قاتلاً ما تحرجا ... تمشي الردى في نشره وتدرجا
وفي كل شيء للمنية مذهب.
سقى الله عهداً قد تقلص ظله ... حيا قطره يحيي الربا مستهله
وعى به شخصاً كريماً أجله ... يصح فؤادي تارة ويعله
ويلمه بالذكر طوراً ويشعب
رماني على قرب بشرخ ذكائه ... فأعشت جفوني نظرة من ذكايه
وغصت بأدنى شعبة من سمايه ... شعابي وجا البحر في غلوئه
فكل قرب ردع خديه يركب
ألم يأته أني ركنت قعوداً ... وأجمعت عن وفز الكلام قعودا
ولم أعتصر للذكر بعدك عودا ... وأزهقني هذا الزمان صعودا
فربع الذي بين الجوانح سبسب.
على تلك من حال دعوت سميعا ... وذكرت روضاً بالعقاب مريعا
وتملأ الشعب المذحجي جميعاً ... وسرباً بأكناف الرصافة ريعا
وأحدق عين بالحمام تقلب
ولم أنس ممشانا إلى القصر ذي النخل ... بحيث تجافي الطود عن دمث سهل
وأشرف لا عن عظم قدر ولا فضل ... ولكنه للملك قام على رجل
يقيه تباريح الشمال ويحجب.
وبيضاء للبيض البهاليل تعتريه ... وتعتز بالبان جلالا وتنتزي
سوى أنها بعد الصنيع المطرز ... كساها البلى والثكل أثواب معوز
يبكي وتبكي للزايرين وتندب.
وكم لك بالزهراء من متردد ... ووقفة متسق المجامع مقصد
يسكن من خفق الجوانح باليد ... ويهتك حجب الناصر بن محمد
ولا هيبة تخشبي هنالك وترهب.
لنعم مقام الخاشع المتنسك ... وكانت في محل العبشمين المملك
متى يورد النفس العزيزة يسفك ... وإن يسم نحو الأبلق الفرد يملك
وأي مرام رامه يتصعب
قصور كان الماء يعشق مبناها ... فطوراً يرى تاجاً بمفرق أعلاها
وطوراً يرى خلخال أسوق سفلاها ... إذا زل وهناً عن ذوايب يهواها
يقول هوى بدراً أو انقض كوكب
أتاها على رغم الجبال الشواهق ... وكل منيف للنجوم مراهق
وكم دفعت في الصدر منه بعانق ... فأودع في أحشائها والمفارق
حساباً بأنفاس الرياح يذرب
هي الخود من قرن إلى قدم حسناً ... تناصف أقصاها جمالا مع الأدنى
ودرح كالأفلاك مبني على مبنى ... توافقن في الإتقان واختلف المعنى
وأسباب هذا الحسن قد تتشعب
فأين الشموس الكالفات بها ليلاً ... وأين الغصون المائسات بها ميلا
وأين الظبا السابحات بها ذيلا ... وأين الثرى رجلا وأين الحصا خيلا
فوا عجبا لو أن من يتعجب
كم احتضنت فيها القيان المزاهرا ... وكم فاوحت فيها الرياض المجامرا
وكم ساهرت فيها الكواكب سامرا ... وكم قد أجاب الطير فيها المزامرا
عظيم من الدنيا شعاع مطنب
كأن لم يكن يقضي بها النهي والأمر ... ويجبي إلى خزائنها البر والبحر
ويسفر مخفوراً بذمتها الفخر ... ويصبح مختوماً بطينتها الدهر
وأيامه تعزي إليها وتنسب
ومالك عن ذات القسي النواضج ... وناصحة تعزى قديماً لناصح
وذي أثر على الدهر واضح ... يخبر عهد هنالك صالح
ويعمر ذكر الذاهبين ويخرب
تلاقى عليه فيض نهر وجدول ... تصعد من سفل وأقبل من عل
فهذا جنوبى وذلك شمأل ... وما اتفقا إلا على خير منزل
وإلا فإن الفضل منه مجرب
كأنهما في الطيب كانا تنافرا ... فسارا إلى وصل القضاء وسافرا

ولما تلاقى السابقان تناظرا ... فقال ولي الحق مهلاً تظافرا
فكلكما عذب المجاجة طيب
ألم يعلما أن اللجاج هو المقت ... وأر الذي لا يقبل النصف منبت
وما منكما إلا له عندنا وقت ... فلما استبان الحق واتجه السمت
تقشع من نور المودة غيهب.
وإن لها بالعامرية لمظهرا ... ومستشرفاً يلهي العيون ومنظراً
وروضنا على شطي خضارة أخضرا ... وجو سق ملك قد علا وتجبرا
له ترة عند الكواكب تطلب
غيره في عنفوان الموارد ... وأثبته في ملتقى كل وارد
وأبرزه للأريحي المجاهد ... وكل فتى عن حرمة الدين زايد
حفيظته في صدره تتلهب
تقدم عن قصر الخلافة فرسخا ... وأصحر بالأرض الفضاء ليصرخا
فحالته أرض الشرك فيها منوخا ... كذلك من جاس الديار ودوخا
فردعته في القلب تسرى وترهب
أوليك قوم قد مضوا وتصدعوا ... قضوا ما قضوا من أمرهم ثم ودعوا
فهل لهم ركز يحس ويسمع ... تأمل فهذا ظاهر الأرض بلقع
إلفا أنهم في بطنها حيث غيب.
ألست ترى أن المقام على شفا ... وأن بياض الصبح ليس بذي خفا
وكم رسم دار للأجنة قد عفا ... وكأن حديثاً للوفود معرفاً
فأصبح وحش المنتدى يتجنب
ولله في الدارات ذات المصانع ... أخلاء صدق كالنجوم الطوالع
أشيع بينهم كل أبيض ناصع ... وأرجع حتى لست يوماً براجع
فيا ليتني في قسمتي أتهيب
أقرطبة لم يثنني عنك سلوان ... ولا بمثل إخواني بمغناك إخوان
وإني إذا لم أسق ماءك ظمآن ... ولكن عداني عنك أمر له شان
وموطني آثار تعد وتكتب
لك الحق والفضل الذي ليس يدفع ... وأنت لشمس الدين والعلم مطلع
ولولاك كان العلم يطوى ويرفع ... وكل التقى والهدى والخير أجمع
إليك تناهى والحسود معذب
ألم تك خصت باختيار الخلايف ... ودانت لهم فيها ملوك الطوايف
وعض ثقاف الملك كل مخالف ... بكل حسام مرهف الحد راعف
به تحقن الآجال طوراً وتسكب
إلى ملكها انقاد الملوك وسلموا ... وكتبتها ندا الوفود ويمموا
وفيها استفادوا شرحهم وتعلموا ... وعاذوا بها من دهر وتحرموا
فنكب عنهم صرفه المتحسب
علوت فما في الحسن فوقك مرتقا ... هواؤك مختار وتربك منتقا
وجسرك للدنيا وللدنيا وللدين ملتقى ... وبيتك مربوع القواعد بالتقا
إلى فضله لأكباب تنضي وتضرب
تولى خيار التابعين بقاءه ... وخطوا بأطراف العوالي فناءه
ومدوا طويلا صيته وثناء ... فلا زال مخلوع عليه سناه
ولا زال سعي الكايدين يخيب
وبالغ فيه كل أروع أصيد ... طويل المعالي والمكارم واليد
وشادوا وجادوا سيداً بعد سيد ... فبادوا جميعاً عن صنيع مخلد
يقوم عليه الثناء ويخطب
مصابيحه مثل النجوم الشوابك ... تمزق أثواب النجوم الحوالك
وتحفظه من كل لاه وسالك ... أجاد تنقض انقضاض النيازك
فإبشارهم بالطبطبية تنهب
أجدك لم تشهد بها ليلة القدر ... وقد جاش بر الناس منه إلى بحر
وقد أسرجت فيه جبال من الزهر ... فلو أن ذلك النور يقبس من فجر
لأوشك نور الفجر يفني ونضب
كأن للثرياوات أطواد من نرجس ... ذوايبه تهفو بأدنى تنفس
وطيب دخان الند من كل معطس ... وأنفاسه في كل جسم ملبس
وأذياله فوق الكواكب تسحب
إلى أن تبدت راية الفجر تزحف ... وقد قضى الذي لا يسوف
تولوا وأزهار المصابيح تقطف ... وأبصارها صوناً تغض وتطرف
كما تنصل الأرماح ثم تركب

سلام على غيابها وحضورها ... سلام على أوطانها وقصورها
سلام على صحرايها وقبورها ... ولا زال سور الله من دون سورها
فحسن دفاع الله أحمى وأرهب
وفي ظهوها المعشون كل مرفع ... وفي بطنها الممشوق كل مشفع
متى تأته شكوى الظلامة ترفع ... وكل بعيد المستغاث مدفع
من الله في تلك المواطن يقرب
وكم كربة ملئ الجوانح والقلب ... طرقت وقد نام المواسون من صحب
بروعتها قبر الولى لي رهب ... وناديت في الترب المقدس يا رب
فأبت بما يهوى الفؤاد ويرغب
فيا صحبي حان قبلك مصرعي ... وكنت على عهد الوفا والرضا معي
فحط بضاحي ذلك السرى مضجعي ... وذرني فجار القوم غير مروع
فضدهم للجار أهل ومرحب
رعى الله من يرعى العهود علىالنوى ... ويظهر بالقول المحبر ما نوى
ولبيته من مستحكم الود والهوى ... يرى كل واد غير واديه مجتوى
وأهدي سبيله الذي يتجنب
كتابتهوكتابة ذي الوزارتين رحمه الله، كالشمس شهرة، والبحر والقطر كثرة؛ ونحن نثبت له شيئاً من ذلك ليلاً يخلو هذا الكتاب من شيء من بيانه. كتب يرجع الوزير أبا بكر بن عبد العزيز، من رسالة، كتب بها إليه مع حاج يضرب القرعة: أطال الله بقاء وليي، وإمامي، الذي له إكباري وإعظامي، وفي سلكه اتسامى وانتظامي، وإلى ملكه انتسابي واعتزايي، وبوده افتخاري وانتزايي، للفضايل مجيباً ومبدياً، وللمحامد مشتملا ومرتدياً، وبالغرايب متحفاً ومهدياً، ولا زال الرخاء وأزل، وجد من المصافاة وهزل، وسحت من المراعاة وزل. وصل كتابه صحبة عراف اليمامة، وفخر نجد وتهامه، يقرظه ويزكيه، ويصفه بالخب يفسره ويجليه، والخفي يظهره ويبديه، ولعله رائد، لابن أبي صايد، أو هاد للمسيح الدجال قايد. أشهد شهادة إنصاف؛ أن عنده لعضباً صاف، ولو كان هناك ناظر صادق طاف، ولله خطايا الألطاف، لقلت هو باد غير خاف، من بين كل ناعل وحاف. وسأخبرك أيدك الله، بما اتفق، وكيف طار ونعق، وتوسد الكرامة، وارتفق، طرق له وصفك ونعتك، وثقفه بريك ونحتك، ورفعه للعيون جدك وبختك، وامتدت نحوه النواظر، واستشرفه الغايب والحاضر، وتسابق إليه النابه والخامل، وازدحم عليه العاطل والعامل. هذا يلتمس مزيداً، وذاك يبتغي حظاً جديداً، وهذا يطلب تقليداً، وذلك يسل إلى مغاليقه إقليداً. فكلما حزب، وغل وجلب، حلب واستدر، وتلقاه وإن ساءه الغيب بما سر. وكنت واتغت جملة من الأعيان، ووافقت ثلة من جلة الإخوان، على تمشية أمره، وتوشية ذكره؛ فلما صدقت تلك الفرقة، واستوت بهم تلك الفرقة، أحضرناه للسبار، وأقعدناه للنقد والاختيار، وأردنا أن نقف على جلايا تلك الأخبار، فأحضرنا طحناً ونطعاً، وسرينا عنه من الوحشة قطعاً، وقلنا له خذ هفوك، ولا توردنا إلا صفوك، ولا تصانعنا في الكريهة التي نراها، والحادثة تستفظع ذكراها؛ فما عندنا جهل، وما منا إلا محتنك كهل، لا يتكاده حزن، ولا يستخفه سهل، فسكن جايش فوره، وضرب بلحيته على زوره، ثم صدفينا النظر وصوب، واستهل صارخاً وثوب وتحرج من الكذب وتحوب، وقال لست للعشرة خابطاً، ولا للطرف غامضاً، ولا عن الصدق إذا صدع حايداً، ولا للغدر ممن وقع منه ذايداً، ولا بمعجزات النبوة لاعباً، ولا لصريح الجد مداعياً، ولا تطيبني مسألة ولا حلوان، ولا تستفزني نضايد كثيرة ولا ألوان. وإنما هو رسم وخط، ورفع وحط، ونحس وسعد، ونقد ووعد، ويوم وغد.

فققلنا له الآن صحت الوفادة وأينعت الإرادة. ثم نظر إلينا نظر المستقل واجتذب النطع اجتذاب المدل، ونثل الطجن وهاله، وأداره حتى استدار هاله، ثم قال يا أيها الملأ هذا المبتدأ، فأيكم يبدأ. فرمقني القوم بأبصارهم، وفغروا وكبروا، وليتهم عند ذلك صفروا. فقلت يا قوم قد عضضت على ناجذي حلماً، وقتلت شأني كله علماً، وعقدت بيني وبين غد سلماً، فكيف أستكشف عما أعرف، وأسبقهم عما لا يستبهم. على الرحمن توكلت، وعلى الشيطان تركلت، ومن كسبي أكلت، وفي مبرك السلامة بركت، وجسيمات الأمور تركتني وتركت، والنفس المطمئنة رجوت، ولعلني قد نجوت، وأصبت فيما نحوت. فلحظتني عند هذه المقالة عينه، وطواني صدقه ومينه. ثم صار القوم دوني أنيجية، وأعد له كل تورية وتعمية. فقال قايل منهم، نعالوا نشترك في ضمير، ونرمه بهذا الطاغية ابن رذمير ففي كل قلب منه ندب كبير، والسؤال عنه دين وأدب، فإن أصابه استرحنا من النصب والشخوص، وحرنا من العموم إلى الخصوص، وإن أخطأه فهو لما سواه أخطأ، ولما يدعيه ويريده منه أبطأ. فقالوا نعم ما عرضت، وأحسن بما رويت وفرضت. فلما رأيناه يثقل التعريض، ويحكم التقرير والتعويض، قلنا له حقق ضميرك كل التحقيق، وضع مسبحتك في الدقيق. فابتدر ما أمر وحسر عن ذراعه وشمر، ومرت أصبعه في خطه مر الذر المتهالك، ووقعت وقع القطر المتدارك، لا تمس الطحن إلا تحليلا، وغمزاً كالوهم قليلا فطوراً يستقيم سبيلا، وتارة يستدير إكليلا، وآونة يأتي بالسماء ونجومها قبيلا. فكان هنالك لنعش من بنات، وللثريا من إخوات، وطير قابضاتن، وصافات وأسراب ناشرات خافقات. فلما استوفى عدده، وبلغ أمده، وختم طرائقه وقدده، وأعطى الأصول وفروعها، وتدبر تفاريقها وجموعها. فجمع وتقبض، وفتر ثم انتفض، وصعد ذهنه وتسافه، وأخذ الطحن فسافه، وزفر وشهق، وعشر ونهق، وألصق بظهره حشاه، وكتم الربو ثم أفشاه، وقال هذا الذي كنت أخشاه، عميتم الأثر، وكتمتم حقيقة الخبر، وعثرتم خاطي فيما عثر، ونثرتم نظام الحدس فما انتثر.
سألتم عن روح شارد، وشيطان مارد، وصادر مع اللحظات وارد. لا وطن داراً. ولا يأوي قراراً ولا يطعم النوم إلا غراراً. نعم أمره عندي مستقر. هو زنديق مستتر، وشهاب من شهب الكفر مستمر. ثم رجع البصر واختصر. وعاد إلى الحساب يتقراه، والصواب يتحراه. وتتبع أديم الطحن ففراه، وقال أعوذ بالله من شر ما أراه. إلى كم أرى في غلاء وبلاء؛ كأني لست ذا أمرار وأحلاء، تالله لو كانت قرعة رفعة وعلا؛ ما غاب عني اللحياني ذو السبلة، ولواجهنا البياض ذو الغرة المستقلة، مواجهة حسان لجبله. النحس على هذا الروح قد رتب؛ وكتب عليه من الشقاء ما كتب، وأخرج النصرة الداخلة من العتب. ثم أشار إلى الحمرة، وكأنما وضع يده على جمرة، وقال كوسج نعي، وسناط الوجه شقي، وثقاف وطريق، وجماعة وتفريق، وقبض خارج، ومنكوس مارج. ثم وضع عمامته، ولولب هامته، وأمال وجهه فجراً طلقاً، ثم عرضه مجناً مطرقاً، وعقد أنامله عضا، وأدمى صدره دعاً ورضاً، وقطع بصره لمحاً وغضاً، وتكفأ وتقلع وأدلع لسانه فاندلع. فقلنا شر تأبطه، أو شيطان يتخبطه، أو قرين يستنزله ويختله أو رؤى في الذرة والغارب يفتله. ثم تجاحظ وتحاذر، وتضاءل وتنازر، وقال، والذي أحيا عزر، وأخرج إبراهيم من آزر، وملك عنان الريح وأذعن له كل شيء بالسجود والتسبيح، إنه لمن عباد المسيح. هيهات هيهات، لا أضعضع بظن، ولا يقعقع لي بشن، ولا أنازع من هذه الفنون في فن. قد ركبت أثباج البحار، وقطعت نياط المفاوز والقفار. وشافهني الحرم والبيت، وصافحني الحجر الكميت، وأحرمت ولبيت، وطفت ووفيت، ورزت المصطفى صلى الله عليه وسلم وتحفيت. ثم ملت على عدن، وانحدرت عن اليمن، واستسقيت كل راعدة، وأتيت كل قاعدة؛ ورأيت صاحب الجمل قس بن ساعدة، وردت عكاظ، وصدقت الحفاظ، وقدت العصية بنسع، ومسحت الشامات بأخمس وتسع، ووقفت حيث وقف الحكمان، وشهدت زحف التركمان، وكيف تصاوات القروم، وغلبت الروم، وهزم المدبر المقبل، واكتسحت الجحا الإبل. فقلنا لله أنت، لقد جليت عن نفسك، وأربى يومك على أمسك، ولقد صدق مطريك، ووفت صحيفة تزكيك، وما كانت فراستنا لتخيب فيك.

فماذا تستقري من اللوح، وترى في ذلك الروح، بعيشك ألاما أمتعتنا بالإفشاء والبوح. فرجع في البحث أدراجه، وطالع كواكبه وأبراجه، وظل على مادة الطحن، يرقم ويرمق، ويفتق ويرتق. ثم جعل يبتسم، وقال أحلف بالله وأقسم، لقد استقاما النسم، وإنه لكما أرسم وأسم، وإني لا أجده إلا لاغباً مبهوراً، ومنكوداً مقهوراً. ولن يلبث إلا شهوراً، قد أفل طالع جده، وفل حده وأتى عليه نقي خده، وصي لم يملك أبوه وملك جده، فقلنا صرحت وأوضحت، وشهرت هذا المستور وفصحت وإن ساعدك قدر، وكان لك عن هذا الورود صدر، فحظك مبتدر؛ وخطك صاف لا يشوبه كدر. فقال هذا أمر قد آن أو كان، وسيأتيكم الخبر الآن. فانفصلنا وأصغينا الآذان، وجعلنا نتلقى الركبا، فلم يرعنا إلا النعمى الناجمة، والبشرى الهاجمة بما بان، فأدهنا في شأنه، ولم يكن يعاوده خوف طغيانه، فإذا الخبر لم يخط صماخه، وكأنما كان عوداً وافي مناخه، أو طايراً أم أفراخه. فلم ينشب أن أقبل يصمد نحونا أي صمد، ويتعرضنا على عمد، تعرض الجوزاء للنجوم؛ وينقض انقضاض نيازك النجوم، وقال ألم يأن أن تدينوا لي بالإكبار، وتعلموا أني من الجهابذة الكبار، فقلنا منك الإسجاح، فقد ملكت ومنك ولك النجاح، أية سلكت. فأطرق زهواً، وأعرض عنا لهواً، وقال اعلموا أن القرعة لو طوت أسرارها، ومنعتني أخبارها، لمزقت صدراها، وذروت غبارها، ولكان لي عنها أوسع منتدح، وأنجد زناد يقدح، أين أنتم عن رصدي الأحلاك، وعلمي بالأفلاك، أنا في مرج الموج، وأوج الأوج، والمتفرد بعلم الفرد والزوج، ومسترط السرطان، ومستدير الدبران، وبايع المشتري بالميزان، والقابض بيوم الحساب والعمل، على روق الثور وذنب الحمل، أعقد نصل العقرب، وأقيد الأبعد والأقرب، لصيد أوابدها بالدقايق الدرج، حتى اضطر سارحها إلى الحرج، وأصبحها في أضيق منعرج، أنا استذكرت بالأنبار فرحة الإقبال وترحة الإدبار، وطالعت إقليدس، فاستنبطته، وصارعت المجسطي فجسطنته، وارتمطت إلى الأرتماطيق، وأطقت الألوطيق، ولحظت التحليل بحل ما عقده، وانتضيته ما مطل به الجهابذة، فنفذه. وعاينت زحل، حين استقل على بعيره ورحل، وضايقته في ساحته، وحصرته في مساحته، وحضرت قرانه، وشهدت تقدمه ومرانه، وشاهدته شفراً بشفر، وناجاني برقاً يعد في الكفر، وتخريبه لملك الصفر، وتغريقه لبلاد اللطينة وإنجاز الوعد في فتح قسنطينة. أنا عقدت رشا الدلو، وذروت غبار الحوت للغلو. أنا اقتدحت سقط الجوزهر، فلاح بعد خفايه وظهر. أنا استشرت الهلال من مكامن سرره، وأخذت عليه ثنايا سفره، وقددت قلامته من ظفره، ودللت طير الصاير على شجره، فجنيت المر من ثمره، أنا طرقت الزهرة في خدرها، صافحتها من الفكرة بيد لم تدرها. أنا أذكيت على ذكاء فظلت تلتهب. وأحرزتها من الوهم شطنا، أجذبها به فتنجذب. أنا أنعي للمعتبرين حياتها، فيشبهون الحسنة، ويتحرون أوقاتها، حتى تنتشر بعد الطي حياتها، وتستقيل من العثار آياتها.

أنا انتضيت للشباب شرخاً، واضرمت للمريخ عقاراً ومرخاً، حتى أتغانى بملاحم حروبه، وحوادث طلوعه وغروبه، وتلمظه إلى النجيع، وولوغه في مهجة البطل السجيع. أنا أبري من اللمم، وأشفي من الصمم، وأنقل العطس إلى الشمم فقلنا أما الأولى، فقد سلمنا لك جميعها، وأما هذه الثلاثة فلن تستطيعها. قال فلم تعجزون ولا تستخزون. فقلنا من كان له علاج فبنفسه يبدأ، ونغب بغيره. ولسنا نريدك، ولكن تهتز يدك. قال أما من بينهم روى. وأقي في روعه ما ألقى في روعي، فمثله كالصارم، حسنه في فرنده، لا غمده، وجماله في حده لا في خده، والمرء كما قيل بأصغريه، لا بمنخريه، والشأن في الحيزوم، لا في الخيشوم، وفي الذكرين، لا في الأنثيين، وبعد فهو كلام ظاهره إجمال، وباطنه احتمال، وسأنبئكم بغزارة سيله، وفجر ليله. أما الأفطس فيدلي الضغنة، وتيزوج في آل جفنه. فإن الله أتم، جاء الولد أتم، وإن نام عرق خاله، بقي الولد بحاله. وأما الأصم، فيخرج عن الغلام، وبلا قال، ويطلب في بني السميعة بركة الإسمية والفال، فإن الله أراد، ظفر بالمراد، وجاء ابنه أسمع من قراد. فأحس من بعض الحاضرين تمريضاً، وعاين طرفاً غضيضاً، فتعكر وتشذر، وطوف وحذر، وقال صاحب الشريعة، سماهم بني السميعة، قوموا يا بني اللكيعة، فقد قطعتم رزقي، وآذيتم طرقي، وأذللتم ضربي وطرقي، وسددتم طوقي، وأخذتم على أفقي غربي وشرقي، ذروني للتي هي للبلية تجني، ثم الوجد يعني، لو شرب نواديه إثر تجني. ثم نجا بعزمته سميلاً، وأرسل بنات نعش ذيلا، وقد أفاد بما استصحب من ميامنك ليلاً كذبني أيدك الله عند نواه ولم يطلعني طلع ما نواه؛ وما ذاك إلا لمطمع لواه، ومغنم هواه فرفعت لي بعد وداعه نجوه، ورمتني بشخصه فجوة فقلت ما أراك إلا غائل، أوثت عنك الحبائل. فسراك سرى قين، وحديثك مين، ألم تعبر دجيلا، ويممت سهيلا. فقال طربت إلى الأصفية الصغار، وشاقني الشوق بين الطواغيت والأصفار. فقلت له هلم إلى خط نعيده، وحظ نستفيد. فقال لولا أن تقولوا الساعة متى، وتطالبوني بإجياء الموتي، لما أجمعت إلى الغرب غروباً، ولأريتكم من الحذق ضروباً. ثم قال إن لي بالحضرة أفراخاً، وأما استصرخت عليها استصراخاً، وانسلخت منها انسلاخاً، وأعيا على أمره، فلم أعلم له ظعناً ولا مناخاً. فلبثت كذلك أياماً، قد اعتم علي أمره اعتياماً، ولم أعرف له إنجاداً ولا اهتماماً، فإذا به وقد اضمرت عنه بأساً، ولم أطمع فيه رأساً، قد أشب لي شباباً، ولمعت صلعته شهاباً، تكتنفه صرة، وبيمناه قوصرة. وتوود يسراه جرة. فقلت له قاتلك الله. ما أشد فقدانك، إلا فقدتك، وما أذكر وجداتك إلا وجدتك أين أفراخك، والأم التي جذبها استصراخك. فقال الصعلوك، لو أعلم مذاهبه، تحرم مناهبه، وتحدم مراهبه. ذرني وعلاجي، أحاجي وأداجي، وأعاين وأناجي، وأتقلب في بركة دعاء الباجي. فقلت له مالك وللميت، ورحم الله من سميت. قال، لما أذن الله فالتأمت الشيمة، وتمزقت عني المشيمة، هممت بالسرق ولففت في الخرق، وفارقت من الضيق منتداه، وأفلتتني يداه؛ فحنكني السعد بتمر المدينة، وسقاني من ماء البلدة الأمينة، وعوذني بدعوات متينة، فها أنا كما ترى أتهادى واجتذب وأستحلي وأستعذب. فقلنا لعمرك إنه لفضل عميم، لولا الصميم، وإنها لمنقبة؛ لولا العقبة وأثرة ملتمسة، لولا العطسة. فقال دعنا من زخاريفك، وأغضض من عنان تصاريفك. البازل لا يكون إلا ذميما، والليث لا يوجد إلا شميما ثم قام وحمل، وابتدر وارتجل:
عيشنا كله خدع ... فاترك اللوم عنك ودع
أنا كالليث والليوث لأرسانها ترع
ولها الأوجه السيمة ... من يلقها يرع
أي حسن لمازن ... بيد الدل يخترع
أنا كالسيف حده ... لا يبالي بما وقع
إنما الحسن للمهاة وللظبي يا لكع
فقلت تباُ لك ساير اليوم، إنك لتريش وتبري، وتقد وتفري، وتحاسن وتقابح، وتارش وتنابح، وتحب وتتأمل، وتحسن وتغلغل وتشاعر وتراجز، وتناطح وتناجز. وأنت على هذا كله مصر، ما جزاؤك إلا ريح فيها صر، فما هو إلا أن غفلت عنه لمحة طرف، أو نفحة عرف، ثم التفت، وإذا به قد أفلس، وكأنما كان رقاً خلس، ولم أدر أقام أو جلس.

ومحاسنه القطر الذي لا يعد، والأمر الذي يأخذه الحد. وكفى بهذه الرسالة دليلا على جلالة مقداره، وتدفق بحاره وفخازه، لما اشتملت عليه من بلاغة وبيان، وبساط حال أنت على خبره بعيان، وعلوم ذات افتنان، خلد الله عليه الرحمة، وضاعف له المنة والنعمة.
مولده: بأوايل ربيع الثاني عام خمس وستين وأربع ماية.
وفاتهمن خط الحافظ المحدث أبي القاسم بن بشكوال رحمه الله. كان ممن أصيب أيام الهرج بقرطبة، فعظم المصاب به، الشيخ الأجل، ذو الوزارتين، السيد الكامل الشهير الأثير، الأديب اللغوي السري الكاتب البليغ، معجزة زمانه وسابق أقرانه، ذو المحاسن الجمة، الجليلة الباهرة، والأدوات الرفيعة الزكية، الطاهرة الكاملة، المجمع على تناهي نباهته، وحمد خصاله وفصاحته؛ من لا يشق غباره، ولا تلحق آثاره، معجزة زمانه في صناعة النثر النظم، أبو عبد الله بن أبي الخصال رحمه الله تعالى ورضي عنه ونضر وجهه. ألفى مقتولا قرب باب داره بالمدينة، وقد سلب ما كان عليه، بعد نهب داره، واستيصال حاله، وذهاب ماله. وذلك يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة من سنة أربعين وخمسماية. فاحتمل إلى الربض الشرقي بحومة الدرب، فغسل هنالك وكفن، ودفن بمقبرة ابن عباس عصر يوم الأحد بعده، ونعى إلى الناس وهم مشغولون بما كانوا بسبيله من الفتنة. فكثر التفجع لفقده، والتأسف على مصاب مثله، وأجمعوا على أنه كان آخر رجال الأندلس علما ًوحلما، وفهماً ومعرفة. وذكاء وحكمة ويقظة، وجلالة ونباهة، وتفنناً في العلوم. وكان له رحمه الله اهتمام بها، وتقدم في معرفتها وإتقانها. وكان رحمه الله، صاحب لغة وتاريخ وحديث، وخبر وسير، ومعرفة برجال الحديث، مضطلعا بها، ومعرفة بوقائع العرب وأيام الناس، وبالنثر والنظم. وكان جزل القول، عذب اللفظ، حلو الكلام عذب الفكاهة فصيح اللسان، بارع الخط حسنه ومتقنه. كان في ذلك كله واحد عصره. ونسيج وحده، يسلم إليه في ذلك كله، مع جمال منظره، وحسن خلقه، وكرم فعاله، ومشاركته لإخوانه. وكان مع ذلك كله جميل التواضع، حسن المعاشرة لأهل العلم مسارعاً لمهماتهم، نهاضاً بتكاليفهم، حافظاً لعهدهم، مكرماً لنبهائهم، واسع الصدر، حسن المجالسة والمحادثة، كثير المذاكرة، جم الإفادة. له تصانيف جليلة نبيهة، ظهر فيها علمه وفهمه، أخذها الناس عنه مع ساير ما كان يحمله ويتقنه، عن أشياخه الذين أخذ عنهم، وسمع منهم، وقرأ عليهم.
وقال غيره: قتل بدرب الفرعوني بقرب رحبه أبان، بداخل مدينة قرطبة، قرب باب عبد الجبار يوم دخلها النصارى مع أميرهم ملك طليطلة، يوم قيام ابن حمدين، واقتتاله مع يحيى بن علي بن غانية المسوفي الملثم المرابطي يوم الأحد لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة عام أربعين وخمسمائة. قتله بربر المصامدة رجالة أهل دولة اللثام لحسن ملبسه، ولم يعرفوه، وقتلوا معه ابن أخته عبد الله بن عبد العزيز بن مسعود، وكان أنكحه إبنته، فقتلا معا. وكان محمد خيرة الشيوخ، وعبد الله خيرة الأحداث، رحمهما الله تعالى.
محمد بن مفضل بن مهيب اللخمييكنى أبا بكر من أهل شلب من العليا.
حاله

قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، كان منقبضاً عن الناس، أديباً، شاعرا، خمس عشرينيات الفازازي، رحمه الله تعالى. وذكره صاحب الذيل. وقال لي شيخنا أبو البركات، وهو جده، أبو أبيه، ما معناه: كان شريفاً عالي الهمة، عظيم الوقار، ألوفا، صموتا، نحيف الجسم، آدم اللون، خفيف العارض، مقطب الوجه، دايم العبوس، شامخ الأنف، إلا أنه كان رجلا عالما راسخا؛ عظيم النزاهة، حافظا للمروءة، شهير الذكر، خطيباً مصقعاً، مهيباً كشهرته، قديم الرياسة، يعضد حديثه قديمه. واستقر بألمرية، لما تغلب العدو على بلد سلفه. ولما توفي شيخ المشايخ، أبو إسحق بن الحجاج. تنافس الناس من البلدين، وغيرهم، في خطبة إبنته. قال شيخنا أبو البركات؛ ومن خصه نقلت، وكان ابن مهيب واحداً منهم في الإلحاح بالخطبة، متقدماً في حلبتهم، بجيوش الأشعار. ورام غلبته ذوو اليسار، من حيث كان بحمراء جيش الإعسار، فأذلهم بالمقابلة في عقر الدار، فلم يرجعوا من الغنيمة إلا بالفرار. قلت، وجلب في هذا المعنى شعراً كثيراً، ناسب الغرض. ونال من المتغلب على ألمرية، على عهده، حظوة، فاستظهر به تارة على معقل مرشانة وتارة على الرسالة إلى الحضرة الحفصية بتونس. ولما آب من سفره إليها، سعى به لديه بما أوجب أن يحجر عليه التصرف، وسجنه بمنزله. فلما قصد ألمرية الغالب بالله، مستخلصا إياها من يد الرييس أبي عبد الله بن الرميمي ونزل بمدينتها، وحاصر قصبتها، وقع اختيار الحاصر والمحصور على تعيين ابن مهيب، بمحاولة الأمر، وعقد الصلح، رضي بدينه وأمانته، فعقد الصلح بينهما على أن يسلم ابن الرميمي القصبة، ويعان على ركوب البحر بماله وأهله وولده، فتأتى ذلك واكتسب عند الغالب بالله، ما شاء من عزة وتجلة.
وقفني شيخنا أبو البركات على ظهير سلطاني، صدر عن الأمير الغالب بالله، يدل على جلالة قدره نصه:

هذا ظهير كريم، أظهر العناية الحافلة لمستوحيها ومستحقها، وأجراه من الرعاية الكاملة على الحب طرقها. أمر بإحكام أحكامه، والتزام العمل بفصوله وأقسامه، الأمير عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، نصر الله أعلامه، وأدام لإقامة قسط العدل أيامه، لوليه العلي المكانة، وصفيه المليء بأثرتي المعرفة والديانة، الحري بما اختصه، أيده الله، من الحفظ لمرتبته السامية والصيانة. للشيخ الفقيه، الجليل، العالم، الأوحد، العلم، الأتقى، الأزهر، الفاضل، الخطيب الأرفع، المحدث الثقة، الراوية، الصالح، السني، الحافظ، الحافل، الماجد، السري، الطاهر، المكرم، المبرور، الكامل، أبي بكر بن الشيخ الوزير الأجل، الفقيه، الحسيب، الأصيل، الأمجد، المكرم، المبرور، الأفضل، المرحوم، أبي عمرو ابن مهيب، أدام الله عزة جانبه، ووصل بالعلم والعمل أرتقاء مراتبه، أقام به الشواهد على اعتقاده، أنه أخلص أوليائه وداً، وأفضلهم قصداً، وأكرمهم عهداً، حين ظهرت له. أيده الله، آثار آرايه الأصيلة، وبانت في الصلاح والإصلاح، ميامن مناقبه الجميلة، ووجب له من العناية والمزيات، أتم ما توجبه معارفه، وتقتضيه مجادته وزهادته، التي لا يفند في وصفها واصف. وأعلن، بأنه دام عزه، أحق من حفظت عليه، مرتبة صدور العلماء الراسخين في العلم، وأبقيت مزية ما تميز به من التقى والورع الكافلي والحلم، وبرع بصلة العناية بجانبه، لما أهلته إليه معرفته من نف المتعلمين، وإرشاد من يسترشده في مسايل الدين من المسلمين، وأفصح بأنه أولى مخصوص بالتجلة والتوقي، وأجدر منصوص على أن قدره لديه معتمد بالتكريم والتكبير. وأمر، أعلى الله أمره، أن يستمر له، ولزوجه الحرة الأصيلة الزكية، التقية الصالحة، المصونة المكرمة المبرورة، عائشة بنت الشيخ الفقيه الجليل العالم الصالح السني، الزاهد الفاضل، المرحوم المقدس. الأرضي، أبي إسحق بن الحاج، ما اطردت به العادة لهما قديماً وحديثاً، وتضمنه الظهيران الكريمان. المؤرخ أحدهما بالعشر الأواخر لشوال عام خمسة وثلاثين وستماية، من صرف النظر في أعشارهما وزكواتهما إليهما، لضعا ذلك في أحق الوجوه، ويؤديا فيه حق لله تعالى، ما مثلهما علماً وديناً من يؤديه، موكولاً ذلك لله، إلى ما لديهما، من نشر الأمانة، مصروفاً إلى نظرهما الجاري، مع العلم والديانة، وتجديد أحكام ما بأيديهما من الظهاير والأوامر القديمة والحديثة، المتضمنة تسويغ الأملاك، على اختلافها، وتباين أجناسها وأوصافها، لهما ولأعقاب أعقابهما، على التأبيد والتخليد، والمحاشاة من اللوازم، والمعلوز وللغارم، وأن يطرد لشركائهما، وعمرة أملاكهما، ووكلايهما، وحواشيهما، ومن اتصل بهما، جميل العناية، وحفيل الرعاية، وموصول الحماية، الاستمرار الذي يطرد العمل به مدى الأيام، وتتوالى التمشية له، من غير انصرام على الدوام، موفي بذلك، ما يحق لجانب الفقيه العالم، الأوحد الأسنى، أب يبكر، أدام الله عزته، من حظوظ الإجلال، منتهي فيه، إلى أبعد آماد العنايات الشريفة، الفسيحة المجال، مقضي على حق ما انفرد به من العلم، واتصف به من الديانة، اللذين أضفيا عليه ملابس البهاء والجلال. فمن وقف على هذا الظهير الكريم من الولاة والعمال، وساير ولاة الأشغال، وليتلقه بغاية الائتمار والامتثال، إن شاء الله. وكتب في الثاني عشر من ذي الحجة عام ثلاثة وأربعين وستمائة.
مشيختهأخذ عن أبي العباس أحمد بن منذر الإشبيلي، تلا عليه بإشبيلية، وعلى عباس ابن عطية أبي عمرو. وروى عن أبي محمد عبد الكبير الإشبيلي، وصحب أبا الحسن بن زرقون وتفقه عليه. وانتقل إلى ألمرية. فصحب أبا إسحق البليفيقي وأخذ عنه، وتزوج ابنته. وأجاز له أبو عبد الله بن هشام الشواش وغيره. ثم انتقل آخر عمره إلى سبتة.
شعرهنقلت من خط شيخنا أبي البركات قوله في غرض الوصية:
الليل النوى هل من سبيل إلى فجر ... ويا قلب كم تأسى ويا دمع كم تجري
أبى القلب إلا أن يهيم بحبكم ... وأن تبرحوا إلا القليل عن الفكر
رحلت عنكم لا بقلبي وإنما ... تركت لديكم حين ودعتكم سري
أعود بدهر الوصل من حين هجركم ... ورب وصال مستعاد من الهجر

للعباب نفسي لست أنفق قربكم ... لزهدي فيكم بل حرصت على البر
تقطع أكباد عليكم صبابة ... فاصبر إن الخير أجمع في الصبر
ويا لقلب من لا يصلح الصبر عنهم ... وإن كان خيرا فهو عنهم من الشر
فلولاهم ما كنت أحسب ساعة ... فقدتكم فيها عياناً من العمر
ألا يا أخي فاسمع وصاتي فإنها ... لبتك لعمري من أخ سالم الصدر
يحبك في ذات الإله ويبتغي ... بحبك عند الله مدخر الأجر
لا إنما التوفيق كنت من أهله ... مراعاة حق الله في السر والجهر
بتوجيده في ذاته وصفاته ... وأفعاله أيضاً وفي الندى والأمر
فثابر على القرار والأثر الذي الذي ... يصح عن المختار والسادة الغر
وعد لك الخيرات عما سواها ... وكن بها مستمسكا أبد الدهر
إذا يسلك الشيطان فجاً سوى الذي ... سلكت ولا يلفى سبيلا إلى مكر
وفرق الأجناس حاشى تقيهم ... فقد ظهر الإفساد في البر والبحر
ولا تنسني واذكر أخاك بدعوة ... فإنك منه يا أخي لعلى ذكر
قال شيخنا أبو البركات، ومن شعره، ومن خطه نقلت:
للصالحين إلى الصلاح طريق ... رحبت بهم وعدت عليك تضيق
صرفوا النفوس من الهوى عن صوبها ... فغدت إلى طلب النجاة تتوق
منها بعد أبيات:
يا قرة العين استمع من ناصح ... في صدره قلب عليك شفيق
أنت الشقيق ولادة ولذلك لي ... روح لروحك في الخلوص شقيق
لا تخد عنك ترهات أحدثت ... وخز عبلات للجهول تروق
واعكف على القرآن دهرك واجتمع ... فالشغل عنك لغيره تفريق
واهجر بني الدنيا فإن بهجرهم ... يتضاعف الإيمان والتصديق
والحق بقوم قد عنوا بتجارة ... نفقت لهم يوم القيامة سوق
واحفظ لسانك عن إذاية مسلم ... فسبابه قال الرسول فسوق
لا تبك هم الرزق فهو مقدر ... والعبد طول حياته مرزوق
ولترض بالرحمن رباً حاكماً ... ودع الفضول فمنه ضل فريق
حلوا عقال عقولهم وتحكموا ... إن التحكم بالعقول مروق
ولقد أتتك نصيحتي ولشمسها ... في أفق حبك يا حبيب شروق
فكن القريب مكانه من نفعها ... فمكان سدتها إليك سحيق
واصطد بباري العزم أطيار الرضا ... فأخوك غاية بازه التحقيق
ولتجعل التسبيح شأنك إنه ... في الصعب من شأنه التصفيق
واقنع بعلم الوحي علماً ثم لا ... يذهب بك التشقيق والتوفيق
لا ترض فيه بالدنية ولتمت ... عطشاً إذا لم تسق منه رحيق
ما كل علم يهتدى بحصوله ... منه الركيك نعم ومنه رقيق
كمدارك الأصوات منها طيب ... تسلو النفوس به ومنه نهيق
وعليكم مني تحية من له ... قلب إليكم أجمعه مشوق
وقال، ألفيت بخطه ما نصه، وكان بعض السفهاء قد كتب إلي بيتين من شعروهما:
إليك أبا بكر رفعت وسيلتي ... ومثلك من تلقى إليه الوسائل
غرقت ببحر الذل يوما وليس لي ... بأرضكم إلا اهتمامك ساحل
وأساء المحاولة في دفعها، فصرفته، ولم أقف عليهما، فضرب عليهما، وكتب في ظهرهما:
حللت أبا بكر بموطن عزة ... فأنسيت ما قد كنت فيه من الذل
وأصلك من كبر وكن متكبراً ... وكيف يطيب الفرع من ذلك الأصل
وكتبت إليه صحبة دراهم وجهت بها إليه:
جفوت وما زال الجفا سجية ... لمثلك ما إن زال تبلى بها مثل

وما قلت في أصلي فكذبة فاجر ... رأى الفرع محموداً فعاب على الأصل
وبالإفك ما عثرت لا بحقيقة ... فما الكبر من شأني ولا كنت في ذل
وما زلت والله الحميد مكرماً ... وفي نائبات الدهر للعقد والحل
ولو كنت من يتقى الله لم تكن ... تمد متى تسخط وعند الرضا تحل
أما قلت أني ساحل لك عندما ... غرقت ببحر الذل في زمن المحل
وكيف نسخت المدح بالذم قبل أن ... تبث لي الشكوى وتدلي بما تدل
ولكن لؤم الطبع يحمل أهله ... على الصعب من سب الكرام أو النيل
إن كان بعض الكبر نقصا فإنه ... عليك من الأوغاد يحسب في الفصل
وما الذل إلا ما أتى بك نحونا ... فقيراً من التقوى سليباً من العقل
ومطلوبك الدنيا فخذها خسيسة ... توافي خسيس النفس والقول والفعل
وما الجود إلا ما أصبت مكانه ... ومهما فقدت الأصل لا عار في البخل
ومثلك من يجفي ويقلب خاسئاً ... فلست لإسداء الصنيعة بالأهل
ولكنني عودت نفسي عادة من البذل لم أعدل بها قط عن نذل
فخذها لحاك الله غير مبارك ... لسعيك فيها يا بن خانية النعل
ومثلي من يوذي فيحتمل الأذى ... ولكنه قد يدر الجهل بالجهل
وقد قال من لا شك في قوله ... من الحكما القتل أذهب للقتل
فإن زدتنا زدنا وإن كنت نادماً ... قبلناك أخذاً في أمورك بالعدل
ففي كل شيء لست عنك مقصرا ... بما شئت من قطع وما شئت من وصل
قال الشيخ، قول الهاجي، وأصلك من كبر، معناه التعريض يكون سلف أبي بكر بن مهيب، علوا في أنفسهم وتكبروا، فثاروا بسبب ذلك بطبيرة وجهاتها، ثار منهم عبد الرحمن جد أبي بكر، ثم حسن، ثم عامر أخوه، وإلى هذا أشار أبو بكر بن مهيب بقوله في بعض شعره:
إن لم أكن ملكا فكنت ريساً
وأنشد في الصلة الزبيرية قوله رحمه الله:
أملي من الدنيا المباحة كسرة ... أبقى بها رمقي ودار نابية
قد أضرب الزمان عن سكانها ... فكأنها في القفر دار خالية
ومن شعره في المقطوعات:
ترحل صبري والولوع مقيم ... وصح اشتياقي والسلو سقيم
فيا ليت شعري هل أفوز بعطف ... من زينت خدي ورداً عليه أقوم
ويا جنة قد حيل بينها ... بقلبي من شوقتي إليك جحيم
دخوله غرناطةقال الشيخ، دخل غرناطة مرتين، أخبرني بذلك الشيخ القاضي أبو الحسن ابن عبيدة، وهو بصير بأخباره، إذ هو من أصحاب سلفه، وممن رافق جده في الكتب عن بعض الأمراء مدة، وفي الخطابة بألمرية أخرى.
توفي بسبتة أو لليلة من جمادة الآخرة عام خمسة وأربعين وستماية.
ابن خطاب الغافقيمحمد بن عبد الله بن داود بن خطاب الغافقي
حالهمن صلة ابن الزبير: كان كاتباً بارعاً، شاعراً مجيداً، له مشاركة في أصول الفقه وعلم الكلام، وغير ذلك، مع نباهة وحسن فهم، ذو فضل وتعقل وحسن سمت. وورد على غرناطة، واستعمل في الكتابة السلطانية مدة، وكان معلوم القدر، معظما عند الكافة. ثم إنه رجع إلى مرسية، وقد ساءت أحوالها، فأقام بها مدة، ثم انفصل عنه، وقد اشتدت أحوالها، واستقر بالعدوة بعد مكابدة.

قلت، أخبرني شيخنا أبو الحسن الجياب رحمه الله، قال، كان شكس الأخلاق، متقاطباً، زاهياً بنفسه؛ ابتدأ يوماً كتاباً مصدراً مخطبته، فقال فيه يصف صاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عفوة العفوة، وتركه لأمر عرض له، فنظر إليه الفقيه عمر اللوشي، وهو كاتب المقام السلطاني، فظن لقصوره أنه وهم، وأراد الصفوة فأصلحه، فلما عاد ونظر إليه مزقه، وكسر الآلة، وقال لا أقيم بموضع بلغ فيه الجهل إلى هذا القدر، وبتسور به الإصلاح، على قلم يطمع بعد في مقامه. وانصرف، واستقر بتلمسان، كاتباً عن سلطانها أبي يحييى يغمراسن بن ريان. وزعموا أن المستنصر أبا عبد الله بن الأمير أبي زكريا، استقدمه على عادته في استدعاء الكتاب المشاهير والعلماء وبعث إليه ألف دينار من الذهب العين، فاعتذر ورد عليه المال، وكانت، أشق ما مر على المستنصر، وظهر له علو شأنه، وبعد همته.
مشيختهروى عن القاضيين أبي عيسى بن أبي السداد، وأبي بكر محرز، وعن الأستاذ أبي بكر محمد بن محمد المعروف بالقرشي، وقرأ وسمع على هؤلاء ببلده، وأجاز له كتابة أبو الربيع بن سالم وغيره.
شعرهمن ذلك قوله:
أقنع بما أوتيته تنل الغنا ... وإذا دهتك ملمة فتصبر
واعلم بأن الرزق مقسوم فلو ... رمنا زيادة ذرة لم نقدر
والله أرحم بالعباد فلا تسل ... أحداً تعش عيش الكرام وتؤجر
وإذا سخطت لبؤس حالك مرة ... ورأيت نفسك قد غوت فلتبصر
وانظر إلى من كان دونك تذكر ... لعظيم نعمته عليك وتشكر
ومما قاله في صباه:
يا دعوة شاك ما قد ... دهاه من لحاظ رشاك
ظبي تصدى للقلوب يصيدها ... من ناظريه في سلاح شاك
ورمى وإن قالوا رنا عن ... فاتر ساج عليه سيم النساك
قد كنت أحذر بطشه لو أنني ... أبصرت منه مخايل الفتاك
أو ما عليه ولا عليه حاكم ... يحمي ثغورك أو يحوط حماك
أو ما لجارك ذمة مرعية ... أبذا يظل دم الغريب طلاك
إني استتمت إلى ظلالك ضلة ... فإذا ظباءك ماضيات ظباك
ما لي أخاطب بانة ما أن تعي ... قولا ولا ترثي لدمعة باك
أكريمة الحيين هل لمتيم ... رحمي لديك فأرتجي رحماك
أصبتني بعد المشيب وليس من ... عذر لمن لم يصبه ثراك
ولا ما جذبت عنائي لوعة ... والله يشهد أنني لولاك
لما دعا داعي هواك أجبته ... من لا يجيب إذا دعت عيناك
أصليتني نار الصدود وإنني ... راض بأن أصلى ولا أسلاك
وأبحت ما منع التشرع من دمي ... بالله من أفتاك قتل فتاك
وتركت قلبي طايراً متخبطا ... شباك ختلك أو بطعن سباك
ومنعت أجفاني لذيذ منامها ... كي لا يتيح لي الكرى لقياك
ولقد عجبت وأنت جد بخيلة ... أن أعرت الشمس بعض حلاك
إني لأيأس من وصلك تارة ... لكن أعلل مطمعي بعلاك
أسماك أنك قد خفضت مكانتي ... هلا خلعت علي من سيماك
إني معناك المتيم فليكن ... حظي لديك مناسباً مغناك
تثني معاطفك الصبا خوطية ... وكذا الصبا فصباك مثل حماك
أبعدتني منها بطعنة رامح ... ألذاك سمتك الورى بسمك
أأموت من عطش وثغرك مورد ... فيه الحياة استودعتها فاك
هلا تني عن حلوة فلعله ... وضعت أداة النفي في اسم لماك
وقال يجيب أبا عبد الله بن خميس رحمه الله، عن قصيدة بعث بها إليه أولها:
رد في حدايق مايها مرتاد ... قد لذ مورود وطاب مراد
زرق الأسنة دون زرق حمامها ... وظباً كما رنت العيون حداد
هذه الأبيات:
نعم المراد لمن غدى يرتاد ... مرعى يرف نباته ومهاد
سالت على العافي جداوله ... كما صالت على العادي بدا ناد

فشددت رحل مصيتي منه ... إلى حيث السيادة تبتنى وتشاد
وركبت ناجية مبارية الصبا ... خضراً فوق خضارة تعتاد
يغتادها سكانها قلب على ... من كان من سكانها استبداد
عجباً لهم أحلامهم عادية ... تمضي عليهم حكمها أعواد
خبر تلمساناً بأنني جيتها ... لما دعاني نحوها الرواد
وعاقتها سمعاً ولم أر حسنها ... لما دعاني نحوها الرواد
وعاقتها سمعاً ولم أر حسنها ... إلا أناساً حدثوا فأجاد
ولرب حسن لا ثواه ناظر ... وبراه لا يخفى عليه فؤاد
ودخلتها فدخلت منها جنة ... سكانها لا تخفى ولا حياد
ورأيت فضلا باهرا ومكارما ... وعلا تغاضر دونها التعداد
أهل الرواية والدراية والندا ... في نورهم أبدا لنا استمداد
فهم إذا سيلوا بحار معارف ... ولدى السكينة والنهى أطواد
درجاتها ينحط عنها غيرهم ... ومن الورى قتر ومنه وهاد
فأجلهم وأحلهم من مهجتي ... بمكانة ما فوقها مزداد
وأود حين أخط أطيب ذكرهم ... لو أن أسود مقلتي مداد
وقال يخاطبه وقد وقف على بعض قصيدة:
رقت حواشي طبعك ابن خميس ... فهفا قريضك بن وهاج رسيسى
ولمثله يصبو الحليم ويمترى ... ما للشروق به وسير العيس
لك في البلاغة والبلاغة بعض ما تحويه من أثر محل رييسى
نظم ونثر لا تباري فيهما ... تمهدت ذاك وذا بعلم الطوس
وقال عند وفاته وربما نسبت لغيره:
رب أنت الحليم فاغفر ذنوبي ... ليس يغفو عن الذنوب سواكا
رب ثبت عند السؤال لساني ... وأقمني على طريق هداكا
رب كن إذا وقفت ذليلا ناكس الرأي استحي أن أراكا
رب من لي والنار قد قربت لي ... وأنا قد أبحت عهد حماكا
رب مالي من عدة لمآلى ... غير أني أعددت صدق رجاكا
رب أقررت أني عبد سوء ... حلمك الجم غره فعصاكا
رب أنت الجواد بالخير دوماً ... لم تزل راحماً فهب لي رضاكا
رب إن لم أكن لفضلك أهلاً ... باجترايي فأنت أهل لذاكا
نثرهومن نثره ما خاطب به صديقين له بمرسية من مدينة إشبيلية:

كتبت، كتب الله لكما فوزاً بالحسنى، وأجناكما من ثمرات إحسانه أكثر ما يجنى. من إشبيلية، وحالي بحمد الله حسنة، ونفسي بحب قربكما مرتهنة، وعلى بما لديكما من السراوة التي جبلتما على فطرتها، وامتزتما في الاجتلاء بغرتها، علم لا يدخله الشك، ونسبتي إلى ودكما الذي لبسته معلماً وتقلدته محرماً، لا يعبر عن معناها إلا بما لا يزال، ولا ينفك. فلنثن عنان القلم عن مداده، ونأخذ في حديث سواه. وصلنا إشبيلية ضحوة يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر، ولقينا الإفانت على ميلين، وفزنا بما ظهر من بشره واعتنايه بقرار الخاطر، وقرة العين، ونزلنا في الأخبية خارج البلد، موضعا يعرف بالقنب، قد تفجر عيونا، وجمع ماؤه وهواؤه من المحاسن فنونا، وعرض علينا النزول في الديار داخل المدينة، فرأينا المقام فيه، أحد الأسباب المسعدة على حفظ الصحة المعينة، ورغبنا عن المدينة لحرها الوهاج، وغبارها العجاج، ومايها الأجاج. ولما ثاب من النشاط البارح، واستقل من المطي الرازح، طفت في خارجها وداخلها، ووقفت على مباينها المشيدة ومنازلها، ورأيت انسياب أراقشها؛ وتقصيت آثار طريانتها وبراقشها فشاهدت من المباني العتيقة، والمنارة الأنيقة، ما يملا أعين النظار، وينفسح فيه مجال الاعتبار. على أين ما رأيتها إلا بعد ما استولى عليها الخسف. وبان عنها الظرف، ونبا عنها الطرف، فلا ترى من مغانيها إلا طللا دارسا، والتلمح من بدايعها إلا محياً عابسا، لكن الرائي إذا قدر وضعها الأول، وركب وهمه من مباينها ما تحلل، وتخيل في ذهنه حسنها وتمثل، تصور حسناً يدعو إلى المجون، ويسلى عن الشجون لولا أنها عرضت لأشمط راهب. لما دان إلا بدن، ولا تقرب بغير قارب وحسبي أن أصفها بما يقيها من القبول، وأقول إنها في البلاد بمنزلة الربيع من الفصول، ولولا أن خاطري مقسم وفكري حده مثلم، لقضيت من الإطناب وطراً، ولم أدع من معاهدها عيناً إلا وصفتها ولا أثراً.
توفي بتلمسان يوم عاشوراء سنة ست وثمانين وستماية.
ابن الصايغمحمد بن عبد الله بن محمد بن لب الأمي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الصايغ، بالصاد المهملة، والغين المعجمة، من أهل ألمرية.
حالهمن خط شيخنا أبي البركات في الكتاب المؤتم على أنباء أبناء الزمن. كان سهلا، سلس القياد، لذيذ العشرة، دمث الأخلاق، ميالا إلى الدعة، نفورا عن النصب، يركن إلى فضل نباهة وذكا، يحاسب بها عند التحصيل والدراسة، والدؤوب على الطلب، من رجل يجري من الألحان على مضمار لطيف، ولم يكن له صوت رخيم، يساوق إنطباعه في التلحين، يخبر ذلك بالأوتار. وحاول من ذلك بيده مع أصحابه، ما لاذ به الظرفاء منهم. واستعمل بدار الأشراف بألمرية، فأحكم تلك الطريقة في أقرب زمان، وجاء زمامه يروق من ذلك العمل شأنه. ثم نهضت به همته إلى أرفع من ذلك، فسار إلى غرناطة، وقرأ بها العربية وغيرها، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة، ثم رحل إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة، فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هواها علة..... كان يشكوها، وأخذ في إقراء العربية بها، وعرف بها إلى أن صار يدعي بأبي عبد الله النوي. قال شيخنا المذكور، ورأى في صغره فارة أنثى، فقال هذه قرينة، فلقب بذلك، وصار هذا اللقب أغلب من إسمه ومعرفته.
وجرى ذكره في التاج بما نصه: لج معرفة لا يغيض، وصاحب فنون يأخذ فيها ويفيض. نشأ ببلده مسثمراً عن ساعد اجتهاده، وشارك في قنن العلم ووهاده، حتى أينع روضه، وفهق حوضه. ثم أخذ في إراحة ذاته، وشام بإرقة لذاته، ثم سار في البطالة سير الجموح، وواصل الغبوق بالصبوح، حتى قضى وطره، وسيم بطره، وركب الفلك، وخاض اللجج الحلك، واستقر بمصر على النعمة العريضة، على شك في قضائه الحجة العريضة، وهو بمدرستها الصالحية، نبيه المكانة، معدود في أهل العلم والديانة.
مشيختهقرأ بألمرية على المكثب أبي عبد الله الميرقي، وأخذ عن شيخ الجماعة أبي الحسن بن أبي العيش، وقرأ بالحضرة على الخطيب أبي الحسن القيجاطي وغيره. وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيان، وانتفع به وبجاهه.
شعرهقال شيخنا أبو البركات، وكان أخذ من قرض جيد الشعر بالحظ الوافر. فمن شعره ما نقله إلينا الحاج الحافظ المكثب أبو جعفر بن غصن، حسبما قيده عنه بمصر.

بعد المزار ولوعته أشواق ... حكما بفيض مدامع الأماق
وخفوق نجي النسيم إذا سرى ... أذكى لهيب فؤادي الخفاق
أمعللي ن التواصل في غد ... من ذا الذي لغد فدينك باق
إن الليالي سبق قد أقبلت ... وإذا تولت لم تنل بلحاق
فصفح تمدونه على الحمى سقى الحما ... صوب الغمام الواكف الرقراق
فيه لذي القلب السليم وداده ... قلب سليم يا له من راق
قلب غداة فراقهم فارقته ... لا كان في الأيام يوم فراق
يا سارياً والليل ساج عاكف ... يفتري للعلا بنجايب ونياق
عرج على مثوى النبي محمد ... خير البرية ذي المنخل البراق
ورسول رب العالمين ومن له ... حفظ العهود وصحة الميثاق
الظاهر الآيات قام دليلها ... والطاهر الأخلاق والأعراق
بدر الهدى البادي آياته ... وجبينه كالشمس في الإشراق
الشافع المقبول من عم الورى ... بالجود والإرفاد والإرفاق
والصادق المأمون أكرم مرسل ... سارت رسالته إلى الآفاق
أعلى الكرام نداً وأبسطهم يداً ... قبضت عنان المجد باستحقاق
وأشد خلق الله إقداما إذا ... حمي الوطيس وشمرت عن ساق
أمضاهم والخيل تعثر في القنا ... وتجول سبحاً في الدم المهراق
من صير الأديان ديناً واحدا ... من بعد إشراق مضى ونفاق
وأجحلنا من حرمة الإسلام في ... ظل ظليل وارف الأوراق
لو أن للبدر المنير كماله ... ما ناله كسف ونكس محاق
لو أن للبحرين جود يمينه ... أمن السفين غوايل الإغراق
لو أن للآباء رحمة قلبه ... ذابت نفوسهم من الإشفاق
ذو العلم والخفي المنجلي ... والجاه والشرف القديم الباق
آياته شهب وغر بنانه ... سحب النوال تدر بالأرزاق
فاحت فيوح الأرض وهو غياثها ... وربت ربي الإيمان وهو الشاق
ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة ... وهدى وتأديب بحسن سياق
وخصال مجد أفردت بالخصل في ... مرسى الفخار وغاية السباق
ذو المعجزات الغر والآى التي ... كم آية فقدت وهن بواق
ثنت المعارض خيراً لما حكت ... فلق الصباح وكان ذا إفلاق
يقظ الفؤاد سرى وقد هجع ... الورى لمقام صدق فوق ظهر براق
وسما وأملاك السما تحفه ... حتى تجاوزهن سبع طباق
منها:
يا ذا الذي اتصل الرجا بحبله ... وانبت من هذا للورى بطلاق
حبي إليك وسيلتي وذخيرتي ... إني من الأعمال ذو إملاق
وإليك أعملت الرواحل ضمراً ... تختال بين الوخد والأعناق
يحدو بهن من النحيب مردد ... وتقودهن أزمة الأشواق
غرض إليه فوقنا أسهماً ... وهي القسى برين كالأفواق
وأنختها بفنايك الرحب الذي ... وسع الورى بالنايل الدقاق
وقوي مؤملك الشفاعة في غد ... وكفى بها هبة من الرزاق
وعليك يا خير الأنام تحية ... تحيي النفوس بنشرها الفتاق
تتأرج الأرجاء من لفحاتها ... أرج الندى بمدحك المصداق
منها:
قسماً بطيب تراب طيبة إنه ... مسك الأنوف وأثمد الأحداق
وأثبار مسجده الذي برحابه ... لمعامل الرحمن أي نفاق
لا جود فيه بأدمع أسلاكها ... منظومة بترايب وتراق
أغدو بتقبيل على حصبايه ... وعلى كرام جدره بعناق

وعليك ذا النورين تسليم له ... نور يلوح بصفحه المهراق
كفواً لنبي وكفوا على جنة ... خيرت له بشهادة وصداق
وعلى أب السبطين من سبق الألى ... سبقوا إلى الإسلام أي سباق
الطاهر الصهر ابن عم المصطفى ... شرف على التعميم والإطلاق
مبدي القضا من وراء حجابها ... ومقتح الأحكام عن إغلاق
يغزو العداة بغلظة فيعيدهم ... بصوارم تفري القفار رقاق
راياته لا شيء من عقيانها ... بمطار يوم وغي ولا بمطاق
وعلى كرام سنة عثرت بهم ... عند النظام ليالي النساق
ما بين أروع ما جد نيرانه ... جنح الظلام تشب للطراق
وأخي حروب صده رشف القنا ... عما قدود مثلهن رقاق
ما غردت شجواً مطوقة وما ... شقت كمام روض عن أطواق
وعلى القرابة والصحابة كلهم ... والتابعين لهم ليوم تلاق
ولما سني الله في الروم الوقعة المبيرة والوقيعة الشهيرة، التي أجلت عن قتل مليكهم معركتها، وانتهت للفتح معركتها وحركتها، وعمت الإسلام بإتعاس فل الكفر بركتها، قدم مع الوفود من أهل بلده، وهنأ أمير المسلمين بفتحه ذلك، وطلوع ولده، فقال:
أمليك أم بدر الدجا الوضاح ... وحسامه أم بارق لماح
أعلى المسالك ما بنته يد التقى ... وعمادها الأعلام والأرماح
وأحق من يدعي خليفة ربه ... ملك خلافته هدى ونجاح
كأمير أندلس وناصرها الذي ... أفنى العداة حسامه السفاح
أسمى الملوك أبو الوليد المرتضى ... وأعز من شرفت به الأمداح
هو دوحة الملك العلي فروعها ... وبراحتيه ترزق الأدواج
وبمحو رسم عداته بلباته ... نطق الكتاب وخطت الألواح
بدر الكمال لو أن بدرا مثله ... لم يبد خشية نوره الإصباح
بحر النوال لو أن بدرا مثله ... لارتاع خشية فيضه الملاح
ولمثله قاد الجياد عدوه ... فخبا له قدح وخاب قداح
أهواه شيطان الهوى في لجة ... إن الهوى بأليفه طماح
طمع الشقي أضله وأذله ... كل المطامع للغبي فصاح
فأبادهم وملوكهم فتح بدا ... وبسعد جدك ربنا فتاح
وقواصل تبري بهن مفاصل ... وصفاح يفري بهن صفاح
لم تفن كلهم سيوف الهند بل ... لسيوف جودك في النفوس جراح
ما زال حي عداك يحسد ميتهم ... ويحث فوتاً عاجلا فيراح
فاقتل كبيرهم واحي صغيرهم ... واسب النسا فيما عليك جناح
تستبيح ما حاط العداة وما حموا ... وحماك يا منصور ليس يباح
يامة الكفران تفنيداً وهل ... لجفون أعمى ينجلي مصباح
وجوان يرتشف الندى فنديمه غربانه ووساده الصفاح
وكذلك المطران جاد رسومه ... قطر المنايا الصارم الطفاح
أروس أم تبيض النعام بمرجنا ... أصنافكم هذي أم الأشباح
ما للمطامير اشتكت من ضيقها ... بالمال والأسرى وهن فساح
جارت بكم أبطالنا فكأنكم ... كشح وجيش المسلمين وشاح
تبا لرومي يهيم براحة ... أيرام عن خيل الإله براح
قصت قوادمكم فما إقدامكم ... ولليل جنح الكفر تغيض جناح
هذا فلا تستعجلوا ببلادكم ... سترون كيف يكون الاستفتاح
قد انثنت بطحاؤنا بحطامكم ... ونباتها الريحان والتفاح
تالله ما كنتم بأول عسكر ... أمل النجاح وحينه يجتاح
القس غركم ليهلك نسلكم ... بسيوفنا إن إفكه لصراح
كم ذا يسخركم ويسخر منكم ... غدراً ومكراً إنه لوقاح
منها:

وفوارس نشوا لهب فراس ... طلبوا انتشاو الدما للراح
أربوا على الأسد الهزبر بسالة ... مع أنهم غر الوجوه صباح
خاضوا بحار الحرب يطمو بحرها ... ووطيسها حامي الصلى لفاح
ما هم ببذل نفوسهم ونفيسهم ... عن النوال والنزال سجاح
وإذا هم ذكروا بناد فانتشق ... مسكا تضوع عرفه النفاح
فغدا وراح النصر يقدم جمعهم ... ويحفهم حيث اعتدوا أو راح
سناك مولانا بسعد مقيل ... خلصاء قد عمتهم له أفراح
وبنجلك البدر الذي آفاقه ... ملك وهمالته هدى وصلاح
بدر البدور فلا بدار عليه ... وبذا نارت أربع وبطاح
فلكم عدو أفل بزوغه ... خسفت به الأوجال والأتراح
وهنا ونالك بالأمير تجدد ... كل بحبك نفسه ترتاح
قد جاء بعد العسر يسر شامل ... قد جاء بعد الشدة الإنجاح
فالحمد لله الذي قد خصنا ... ولنا بحمدك بعده إفصاح
وعلى المقام المولوي تحية ... كالزهر إذ تهدى شذاه رياح
ما خط مدحك في الطروس محبر ... ومحيي دجاجر الأصيل صباح
وقال يرثي الخطيب ببلده، الشهير الفاضل، أبا الحسن بن شعيب رحمه الله.
بوادي لقد حملت ما ليس لقواه ... فراق ولي شرق الأرض تقواه
بليت بذا التفريق فاصبر فربما ... بلغت بحسن الصبر ما تمناه
شجا كل نفس فقد أنفس جوهر ... تعد ولاتحصى كرام سجاياه
بكى كلنا حزناً عليه كما بكى ... لفرقته محرابه ومصلاه
فلله خطب جليل لقد رمى ... أجل خطيب بالجلالة مصماه
فلولاكم يغلب تأسينا الأسى ... ولم يشمل الشمل التفجع لولاه
فلم يبق إلا من جفا جفنه الكرى ... ومن جانبت وصل المضاجع جنباه
وفاة لمري وفي فوفي أجره ... وأصفى بإصفاه الإله وصافاه
أبي الحسن العدل الرضا المحسن الذي أتته بأضعاف الزيادة حسناه
خطيب جلا فصل الخطاب بيانه ... وأعدل قاض فاضل في قضاياه
وجسم الهدى الرحب السبيل وروحه ... ولفظ العلى الفخ الأصيل ومعناه
مطيع رفيع خاضع متواضع كريم ... حليم طاهر القلب أواه
متى يمشي هوناً ليس إلا لمسجد ... تميد خجلا أرض بها حط نعلاه
تكلمه عرف وذكر وحكمة ... تلذ بها الأسماع ما كان أحلاه
كذا صمته خوف وفكر وخشية ... فما زال يخشى الله والكل يخشاه
يصوم وقد طال النهار مهجراً ... وتبحر بالليل للتغمض عيناه
فكم دارس أحياه من أربع التقا ... وكم غاسق من حندس الليل أحياه
فيا طيبا أصلاً وذكراً وترية ... ومنه استفاد الطيب أطيب رياه
وفي حشرقة تحن ومرتجاً وباطنا ... وأمن سني شمس الضحى من محياه
محياً يروي الناظرين تهللاً ... فتعرفه في الصاحلين بسيماه
بحبك هامت كل نفس منيبة ... كذا من أحب الله حببه الله
فما أنعم الأرض التي بك قدست ... وآثر ذياك الضريح وأنداه
بشراك إنا قد شغلنا بحزننا ... ورضوان بشراه بذلك بشراه
عزاً لأهليه الأهلة أنهم ... لهم يعتري من بعده العز والجاه
نال شعيب في الزمان بدوره ... ولم تكن الشمس المنيرة إلاه
أعزي أولى الإيمان كلا بفقده ... نعم أسنيه بحبه مأواه
سقى الله وسمى الحيا ذلك الثرى ... وغاداه صوب الغاديات ومياه
كما قد سقاه ليلة الدفن ربه ... من الغيث وكاف السحاب وأسخاه
ترضوا عن القاضي الإمام خطيبكم ... فقد رضي الحمن عنه وأرضاه

وصلوا على هادي الأنام نبيكم ... صلاة بها يمحو المسيء خطاياه
عليك سلام الله ما الروض فاح ... إن سرت سحراً ريح الصبا بخزاماه
توفي رحمه الله في رمضان تحقيقاً من سنة خمس على شك وسبع ماية، أخبرني بذلك من يوثق به.
محمد بن عبد الله بن الحاج البضيعةمن أهل مالقة، وتردد كثيراً على الحضرة، مسترفداً ومنشداً، وفي غير ذلك من الأغراض يكنى أبا عبد الله.
حاله وشعرهمن الإكليل: شاعر اتخذ النظم بضاعة، وما ترك السعي في مذاهبه ساعة، أجرى في الملا، لا في الخلا، وجعل ذكره دلوه في الدلا، وركض في حبلة النجبا النجايب، ورمى في الخواطي بسهم صايب، فخرج بهرجه ونفق، وارتفد بسببه وارتفق. وهو الآن قد سالمته السنون، وكأنما أمن المنون، من رجل مكفوف الأذى، حسن الحالة إلا إذا، هذا قلت، ثبت هذا والمذكور حي، وقد مات رحمه الله.
ومن شعره:
رجاي في المولى العظيم عظيم ... غنيت به حيث الغنى بمديم
وحسبي الرجا فيمن عليه معولي ... حديث حديث لم يزل وخديم
وما عرفت نفسي سوى باب فضله ... على ثقة أن الكريم كريم
فإن قيل عني مذنب قلي سيد كفيل بغفران الذنوب رحيم
وما اعتصم المملوك إلا بحبله ... فجانبه نعمى لنا ونعيم
رضاه سبيل للنجاة وحبه ... طريق لجنات النعيم قديم
وأنشد يوماً الأمير ثالث الأمراء من بين نصر يهنيه بالملك ويعزيه:
على من تنشر اليوم البنود ... وتحت لواء من ترى الجنود
وقال على هذا الكذا، الذي بين يديك فخجل، وعظم استظراف الحاضرين لذلك.
توفي في كذا وسبعمائة.
محمد بن عبد الله بن فطيسيكنى أبا عبد الله من أهل مالقة. وقال الأستاذ من بيت فطيس الألبيريين.
حالهقال، طبيب ماهر، وأديب شاعر؛ كان في أيام بني حسون، يخف عليهم، وله فيهم أمدح كثيرة. يذكر أنه دخل يوماً على القاضي أبي مروان بن حسون، بعد انقطاع عن زيارته، فعتبه القاضي، فاعتذر، ثم أنشد:
يا حاملاً من علاه تاجاً ... ومن سنا وجهه سراجا
لو كان رودي عديل ودي ... لكنت من بابك الرتاجا
إ، لم يعرج عليك شخصي ... نفسي وروحي عليك عاجا
وذكره ابن عسكر في كتابه.
ابن الحكيم اللخميمحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمد بن فتوح ابن محمد بن أيوب ابن محمد بن الحكيم اللخمي ذو الوزارتين، يكنى أبا عبد الله رندي النشأة، إشبيلي الأصل، يرجع بيته، وبيت بين حجاج، وبيت بين عباد، إلى خرثومة واحدة، وانتقل سلفه إلى رندة في دولة بني عباد، ويحيى جد والده هو المعروف بالحكيم لطلبه. وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن نصر، إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق فيها العلامة أبا عبد الله بن رشيد الفهري، فألحقه السلطان بكتابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء، إلى أن توفي هذا السلطان، وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله المخلوع، فقلده الوزارة والكتابة، وأشرك معه في الوزارة، أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الداني. فلما توفي أبو سلطان، أفرده السلطان بالوزارة، ولقبه ذا الوزارتين، وصار صاحب أمره، إلى أن توفي بحضرة غرناطة قتيلا، نفعه الله تعالى. غدوة يوم الفطر، مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه، وخلافة أخيه أمير المسلمين، أبي الجيوش، مكانه.
حاله

كان رحمه الله تعالى علماً في الفضيلة والسراوة، ومكارم الأخلاق، كريم النفس، واسع الإيثار، متين الحرمة، عالي الهمة، كاتباً بليغاً، أديباً، شاعراً، حسن الخط، يكتب خطوطاً على أنواع، كلها جميلة الانطباع، خطيباً، فصيح القلم، زاكي الشيم، مؤثراً لأهل العلم والأدب، براًً بأهل الفضل والحسب، نفقت بمدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للفضائل آفاق. ومن عائد الصلة: كان رحمه الله فريد دهره سماحة، وبشاشة، ولوذعية، وانطباعاً، رقيق الحاشية، نافذ العزمة، مهتزاً للمديح، طلقاً لأمل، كهفاً لغريب، برمكي المائدة، مهلبي الحلوى، ريان من الأدب، مضطلعاً بالرواية، مستكثراً من الفائدة. يقوم على المسائل الفقهية، ويتقدم الناس في باب التحسين والتقبيح، ورفع راية الحديث والتحديث، نفق بضاعة الطلب، وأحيا معالم الأدب، وأكرم العلم والعلماء، ولم تشغله الساسة عن النظر، ولا عاقه تدبير الملك، عن المالعة والسماع، والإفراط في اقتناء الكتب، حتى ضاقت قصوره عن خزائنها، وأثرت أنديته من ذخائرها. قام له الدهر على رجل، وأخدمه صدور البيوتات، وأعلام الرياسات، وخوطب من البلاد النازحة، وأمل من الآفاق النائية.
رحلته ونباهتهرحل إلى الحجاز الشريف من بلده، على فتاء سنة، أول عام ثلاث وثمانين وستمائة، فحج وزار، وتجول في بلاد المشرق، منتجعاً عوالي الرواية في مظانها، ومنقراً عنها عند مسني شيوخها، وقيد الأناشيد الغريبة، والأبيات المرقصة، وأقام بمكة شرفها الله، من شهر رمضان إلى انقضاء الموسم، فأخذ بها عن جماعة يأتي ذكرهم في مشيخته. وانصرف إلى المدينة المشرفة، ثم قفل مع الركب الشامي إلى دمشق، ثم كر إلى المغرب، لا يمر بمجلس علم أو تعلم إلا روى أو روى. واحتل رندة حرسها الله أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة، وأقام بها عيناً في قرابته، وعلماً في أهله، معظماً عندهم، إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب، الوقيعة البرمكية. وورد رندة في أثر ذلك، في شهر جمادة الآخرة من عام ستة وثمانين وستماية فتعرض إليه، ومدحه، وهنأه بقصيدة طويلة، من أوليات شعره، أولها:
ل إلى رج عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال
فلما أنشدها إياه، أعجب به، وبحسن خطه ونصاعة ظرفه، فأثنى عليه، واستدعاه إلى الوقادة على حضرته، فوفد إليها في آخر العام المذكور، فأثبته في خواص دولته، وأحظاه لديه إلى أن رقاه إلى كتابة الإنشاء ببابه. واستمرت حاله، معظم القدر، مخصوصاً بالمزية، إلى أن توفي السلطان، ثاني الملوك من بني نصر، وتقلد الملك بعده، ولي عهده أبو عبد الله، فزاد في إحظائه وتقريبه، وجمع له بين الكتابة والوزارة، ولقبه بذي الوزارتين؛ وأعطاه العلامة، وقلده الأمر، فبعد الصيت وطاب الذكر، إلى أن كان من الأمر ما يأتي به الذكر قريباً إنشاء الله تعالى.
مشيختهقرا برندة على الشيخ النحوي أبي الحسن علي بن يوسف العبدري السفاح، القرآن العظيم بالروايات السبع. والعربية وغير ذلك. وعلى الخطيب بها أبي القاسم ابن الأيسر، وأخذ عن والده جميع مروياته. واستجاز له في صغره أعلام ذلك الزمان، وأخذ في رحلته عن الجلة من الجملة الذين يضيق عن أمثالهم الحصر.
فمنهم أبو اليمن جار الله بن عساكر، لقيه بالحرم الشريف، وانتفع به، واستكثر من الرواية عنه. ومنهم الشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني المعروف بابن هبة الله الحراني. ومنهم الشيخ الشريف أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي بن الإمام الجزائري، جزائر المغرب، نزيل بغداد. ومنهم الشيخ أبو الصفا خليل بن أبي بكر بن محمد المرادي الحنبلي، لقيه بالقاهرة. ومنهم الشيخ رضي الدين القسطميني أبو بكر. ومنهم الشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام الديار المصرية في الحديث ومؤرخها وحافظها. ومنهم عبد المنعم بن محمد بن يوسف بن أحمد الخيمي شهاب الدين أبو عبد الله نزيل مشهد الحسين بن علي، قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها:
يا مطلباً ليس لي في غريه أرب ... إليك آل النقصي وانتهى الطلب
ومنها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه:
يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك السبب

ومنهم عبد المولى يحيى بن حماد البعلبكي، مولده سنة إحدى عشرة وستمائة. ومنهم محمد بن بكر بن خلف بن أبي القاسم الصفار. ومنهم الشيخ أبو الفضل الأديب جمال الدين بن أبي الخير بن علي بن عبد الله بن رواحة. ومنهم محمد بن يحيى بن عبد الله القرشي جمال الدين أبو صادق، ومن تخريجه الأربعون المروية بالأسانيد المصرية. وسمع الحلبيات من ابن عماد الحراني، والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة، ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. ومنهم الشيخ محمد بن عباس الأشعري تقي الدين الحافظ أبو القاسم. ومنهم الشيخ محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن عبد المجيد الأنماطي. ومنهم أبو البدر بن عبد الله ابن أبي الزبير الكاتب المصري. ومنهم الشيخ عبد الرحيم بن عبد المنعم بن خلف التدميري. ومن رؤساء شيوخه؛ الشيخ محيي الدين أبو الفضل. ومنهم زينب بنت الإمام الفضل، وسمعت من أبيها. ومنهم محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد الخراساني، أبو عبد الله موقر الدين، وألبسه خرقة التصوف. ومنهم الشيخ محمد بن يحيى بن هبيرة الشيياني شرف الدين. ومنهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن عيسى بن عيسى بن يوسف بن إبراهيم بن إسماعيل السلفي. ومنهم الشيخ علي بن عبد الكريم بن عبد الله الدمشقي، أبو الحسن، ولد سنة سبع وتسعين وخمسماية. ومنهم الشيخ غازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الجلاوي. ومنهم الشيخ نور الدين علي بن محمد أبي البركات الأنصاري المقرئ بحرم الخليل، سمع من أبي الحسن علي بن شجاع. ومنهم يوسف بن داود بن عيسى بن أيوب الحنفي.
ومنهم الملك الأوحد يعقوب بن الملك الناصر صلاح الدين، وداود بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. ومنهم عبد المنعم بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر القرشي الزهري خطيب القدس. ومنهم الشيخ عبد الحفيظ ابن بدران ويدعى علي الدين من أهل بانياس، سمع من ابن صيصري. ومنهم الشيخ علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم المقدسي. ومنهم الشيخ محمد بن محمد بن سالم ابن يوسف بن اسلم القرشي، جمال الدين. ومنهم عبد الواسع بن عبد الكافي شمس الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن أحمد الزجاجي البغدادي الغمام تقي الدين. ومنهم عبد الجميل بن أحمد ين الزجاج. ومنهم فاطمة بنت إبراهيم بن محمد بن محمود بن جوهر البعلبكي، الشيخة الكاتبة الخيرة أم الخير. ومنهم الشيخ يوسف ابن أبي ناصر السفاوي. ومنهم الشيخ عبد السلام بن محمد بن مزروع أبو محمد عفيف الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن عثمان، بن محمد الشافعي البخاري شمس الدين. ومنهم الشيخ عبد الله بن خير بن أبي مجمد بن خلف القرشي. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الباقي بن علي الصواف شرف الدين. ومنهم الشيخ علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن زريق الكاتب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ سليمان بن علي بن عبد الله الكاتب التلمساني عفيف الدين الصوفي الأديب نزيل دمشق، ومولده بتلمسان. ومنهم الشيخ محمد بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد الميموني البستي القسطلاني قطب الدين، الغمام المفتي شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة المعزية ومنهم الشيخ عبد الكريم بن علي بن جعفر القرشي جمال الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الظاهر جمال الدين. ومنهم محمد بن محمد بن إبراهيم النجاشي. ومنهم الشيخ عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي بكر الطبري إمام الروضة النبوية ثم الصخرة القدسية. ومنهم الشيخ فخر الدين عثمان بن أبي محمد بن إسماعيل بن جندرة. ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن أنسكرت فخر الدين. ومنهم الشيخ ثابت بن علي بن عبد العزيز بن قاسم بن عبد الرازق، سمع على ابن المغير البغدادي. ومنهم الشيخ أمين الدين أبو الهامات جبريل بن إسماعيل بن سيد الأهل الغساني. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الله الأندلسي الأصل شرف الدين، سمع من علم الدين الشيخوني وغيره. ومنهم الشيخ محمد بن محمد الشامي الشافعي الدمشقي إمام مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يدعى شمس الدين، سمع من الزبيدي. ومنهم الشيخ يحيى بن الخضر بن حاتم الأنصاري، يعرف بابن عز الدولة.

وأجاز له جماعة، منهم ابن عماد الحراني، ومنهم ابن يحيى بن محمد بن محمد الهمداني كمال الدين، وسمع من ابن الزجاج وابن رواح الحميري. ومنهم الشيخ عبد الملك أبو المعالي بن مفضل الواسطي، عرف بابن الجوزي سمع على جماعة، منهم شعيب الزعفراني، ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن ياسر بن شاكر الحاكمي. ومنهم الإمام مفتي المسلمين رضي الله عنه. ومنهم أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن خليل العسقلاني المكي. ومنهم الخطيب أبو عبد الله محمد بن صالح بن أحمد بن محمد بن رحيمة الكناني خطيب بجاية. ومنهم قاضي القضاة ببلاد إفريقية أبو العباس ابن الغماز البلتسي، لقيه بتونس. ومنهم الفقيه العلامة الوزير أبو القاسم محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف ين جزي الكلبي. ومنهم الشيخ أبو محمد عبد اله بن يوسف الخلابي. ومنهم الشيخ المغربي أبو محمد الحجاج ابن يوسف بن إبراهيم بن عتاب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ المغربي أبو محمد الحجاج ابن يوسف ين إبراهيم بن عتاب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ الفقيه أبو بكر بن محمد ابن إبراهيم بن محمد بن يربوع السبتي. ومنهم الإمام قدوة النحاة أبو الحسين عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عبد الله بن أبي الربيع القرشي. ومنهم الإمام أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد ابن عبد الحق الزواوي المشدالي من أهل بجاية. ومنهم الخطيب القاضي أبو عمرو إسحق بن أبي إسحق بن عبد الوهاب الرندي. إلى طائفة كبيرة من أهل المشرق والمغرب.
محنتهأغلى به الأمير ولي العهد، بسبب أمور اختلف فيها، منها أبيات في هجو الدولة النصرية، الله أعلم بصحة نسبتها إليه، فأوقع به وناله بين يديه نكال كبير أفلت منه برفق، واختفى مدة في المآذن المقفلة والأماكن الخفية، حتى أصحى له جو سخطه، وقضى الله برد أمره إليه، وستيلايه على ما وراء بابه.
من روى عنهأخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحق بن أبي العاصي، وتدبج معه رفيقه عبد الله بن رشيد وغير واحد. وكان ممدوحاً، وممن مدحه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي، والرئيس أبو الحسن بن الجياب، وناهيك بهما. ومن بديع مدح ابن الجياب له، قصيدة راثية رائقة، يهنيه فيها بعيد الفطر منها في أولها:
يا قادماً عمت الدنيا بشائره ... أهلا بمقدمك الميمون طائره
ومرحباً بك من عيد تحف به ... من السعادة أجناد تظاهره
قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل ... أبدي بك البشر باديه وحاضره
الأرض قد لبست أثواب سندسها ... والروض قد بسمت منه أزهره
حاكت يد الغيث في ساحاته حللا ... لما سقاها دراكاً منك باكره
فلاح فيها من الأنوار باهرها ... وفاح فيها من النوار عاطره
وقام فيها خطيب الطير مرتجلا ... والزهر قد رصعت منه منابره
موشي ثوب طواه الدهر آونة ... فها هو اليوم للأبصار ناشره
فالغصن من نشوة يثني معاطفه ... والطير من طرب تشدو مزاهره
وللكمام انشقاق عن أزاهرها ... كما بدت لك من خل ضمائره
لله يومك ما أذكى فضائله ... قامت لدين الهوى فيه شعائره
فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ... وكم جمال بدا للناس ظاهر
فافخر بحق على الأيام قاطبة ... فما لفضلك من ند يظاهره
فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ... قيست بفخر أولي العليا مفاخره
يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ... تضاءل الشمس مهما لاح زاهره
مجد صميم على عرش السماك سما ... طالت مبانيه واستعلت مظاهره
وزارة الدين والعلم الذي رفعت ... أعلامه والندى الفياض زاخره
وليس هذا ببدع من مكارمه ... ساوت أواثله فيه أواخره
يلقى الأمور بصدر مه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره
راعى أمور بصدر منه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره
راعي أمور الرعايا معملاً نظراً ... كمثل علياه معدوماً نظائره

والملك سير في تدبيره حكماً ... تنال ما عجزت عنه عما كره
سياسة الحكم لا بطش يكدرها ... فهو المهيب وما تخشى بوادره
لا يصدر الملك إلا عن إشارته ... فالرشد لا تتعداه مصائره
تجري الأمور على أقصى إرداته ... كأنما دهره فيه يشاوره
وكم مقام له في كل مكرمة ... أنست موارده فيها مصادره
ففضلها طبق الآفاق أجمعها ... كأنه مثل قد سار سائره
فليس يجحده إلا أخو حسد ... يرى الصباح فيعشي منه ناظره
لا ملك أكبر من ملك يدبره ... لا ملك أسعد من ملك يؤازره
يا عز أمر به أشتدت مضاربه ... يا حسن ملك به ازدانت محاضره
تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا ... ويشهد الدهر آتيه وعابره
بشرى لآمله الموصول مأمله ... تعساً لحاسده المقطوع دابره
فالعلم قد أشرقت نوراً مطالعه ... والجود قد أسبلت سحاً مواطره
والناس في بشر والملك في ظفر ... عال على كل عالي القدر قاهره
والأرض قد ملئت أمناً جوانبها ... بيمن من خلصت فيها سرائره
وإلى أياديه من مثنى وواحدة ... تساجل البحر إن فاضت زواخره
فكل يوم تلقانا عوارفه ... كساه أمواله الطولي دفاتره
فمن يؤدي لما أولاه من نعم ... شكراً ولو أن سحبانا يظاهره
يا أيها العبد بادر لثم راحته ... فلثمها خير مأمول تبادره
وافخر بأن لقيت ابن الحكيم على ... عصر يباريك أو دهر تفاخره
ولي الصيام وقد عظمت حرمته ... فأجره لك وافيه ووافره
وأقبل العيد فاستقبل به جذلاً ... واهنأ به قادماً عمت بشائره
ومن مدح الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي له قوله:
تراءى سحيرا والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل
وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه خجول
بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب السماء تجول
فمزق ساجي الليل منه شرارة ... وخرق ستر الغيم منه نصول
تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام همول
ومالت غصون البان نشوي كأنها ... يدار عليها من صباه شمول
وغنت على تلك الغصون حمائم ... لهن حفيف فوقها وهديل
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعاً لا يزال يشوقني ... إليه رسوم دونها وطلول
وجاد رياه كلما ذر شارق ... من الودق هتان أجش هطول
ومالي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول
وعاذلة باتت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل
ذريني أسعى للتي تكسب العلا ... سناء وتبقى الذكر وهو جميل
فأما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلا فحد المشرفي نحيل
وفوق أنابيب البراعة صفوة ... تزين وفي قد القناة ذبول
ولولا السرى لم يحتل البدر كاملا ... ولا بات منه للسعود نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول
ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل
وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا نجوم قبيل
من القوم أما في الندى فإنهم ... هضاب وأما في الندى فسيول
حووا شرف العلياء إرثا ومكسباً ... وطابت فروع منهم وأصول

وما جونة هطالة ذات هيدب ... مرتها شمول مرجف وقبول
لها رجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت شقاشقها عند الهياج فحول
بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت للسنين محول
ولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... يتم عليها أذخر وجليل
وقد أذكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول
وفي مقل النور للطل عبرة ... ترددها أجفانها وتحيل
بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول
حويت أبا عبد الإله مناقباً ... تفوت يدي من رامها وتطول
فغرناطة مصر وأنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل
فداك رجال حاولوا درك العلا ... ببخل وهل نال العلاء بخيل
تخيرك المولى وزيراً وناصحاً ... فكان له مما أراد حصول
وألقي مقاليد الأمور مفوضا ... إليك فلم يعدل يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعاي منك أشوس باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل
تهيم به العلياء حتى كأنها ... بثينة في الحب وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاؤها ... حسام لما نالت ظباه فلول
سرى ذكره في الخافقين فأصبحت إليه قلوب العالمين تميل
وأغدي قريضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أيا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء الثجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل
تسددني سهماً لكل ثنية ... ضوامر أشباها لقسي نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي هوجل وهجول
فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان دحول
وتهوي العلا حظي وتغري بضده ... لذاك اعترته رقة ونحول
وتأبي لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي أن الزمان مديل
فكل خضوع في جنابك عزة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول
شعرهوبضاعته في الشعر مزجاة، وإن كان أعلم الناس بنقده، وأشدهم تيقظاً لمواقعه الحسنة وأضدادها. فمن ذلك قوله، ورفعه إلى السلطان ببلده رندة، وهو إذا ذاك فتى يملأ العين أبهة، ويستميل القلوب لباقة، وهي، ومن خطه نقلت:
هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال
حالة يسرى بها الوهم إلى ... أنها تثبت براءاً باعتلال
وليالي ما تبقى بعدها ... غير أشواقي إلى تلك الليال
إذا مجال الوصل فيها مسرحي ... ونعيمي آمر فيها ووال
ولحالات التراضي جوله ... مزجت بين قبول واقتبال
فبوادي الخيف خفي مسعد ... وبأكناف مني أسني نوال
لست أنسى الأنس فيها أبداً ... لا ولا بالعذل في ذاك أبال
وغزال قد بدا لي وجهه ... فرأيت البدر في حال الكمال
ما أمال التيه من أعطافه ... لم يكن إلا على فضل اعتدال
خص بالحسن فما أنت ترى ... بعده للناس حظاً في الجمال
من تسلى عن هواه فأنا ... بسواه عن هواه غير سال
فلئن أتعبني حبي له ... فكم نلت به أنعم حال
إذ لآلئ حيده من قبلي ... ووشاحاه يميني وشمال
خلف النوم لي السهد به ... وترامى الشخص لا طيف الخيال
فيداوي بلماه ظمئي ... مزجك الصبهاء بالماء لزلال
أو أشادت ثنا الملك الأوحد الأسمى الهمام المتعال

ملك إن قلت فيه ملكاً ... لم تكن إلا محقاً في المقال
أيد الإسلام بالعدل فما ... أن ترى رسماً لأصحاب الضلال
ذو أياد شملت كل الورى ... ومعال يا لها خير معال
همة هامت بأحوال التقى ... وصفات بالجلالات حوال
وقف النفس على إجهادها ... بين صوم وصلاة ونوال
ومنها في ذكر القوم الموقع بهم:
وفريق من عتاة عاندوا ... أمره فاستوجبوا سوء نكال
غرهم طول التجافي عنهم ... مع شيطان لهم كان موال
فلقد كانت بهم رندة أو ... أهلها في سوء تدبير وحال
ما يعود اليوم إلا بادروا ... برواة ونكيرات ثقال
طوقوا النعمى فلما أنكروا ... طوقوا العدل بذي البيض العوال
ما طل الدهر بهم غريمه ... فهو الآن وفي بعد المطال
ولقد كنت غريم الدهر إذ ... شدني جورهم شد عقال
ولكم نافرته مجتهداً عندما ... ضاق بهم صدر احتمال
أعقبوا جزاء ما قد أسلفوا ... في الدنا ويعقبوه في المآل
وهي طويلة ومنها:
أيها المولى الذي نعماؤه ... أعجزت عن شكرها كنه المقال
ها أنا أنشدكم مهنئاً من ... بديع النظم بالسحر الحلال
فأنا العبد الذي حبكم ... لم يزل والله في قلبي وبال
أورقت روضة آمالي لكم ... وتولاها الكبير المتعال
واقتنيت الجاه من خدمتكم ... فهو ما أدخره من كنز مال
ومنها:
يا أمير المسلمين هذه ... خدمة تنبئ عن أصدق حال
هي بنت ساعة أو ليلة ... سهلت الحب في ذاك الجلال
ما عليها إذ أجادت مدحها ... من بعيد الفهم يلغيها وقال
فهي في تأدية الشكر لكم ... أبداً بين احتفاء واحتفال
وكتب رحمه الله يخاطب أهله من مدينة تونس:
حي حي بالله يا ريح نجد ... وتحمل عظيم شوقي ووجدي
وإذا ما بثثت حالي فبلغ ... من سلامي لهم على قدر ودي
ما تناسيتهم وهل في مغيبي ... هم نسوني على تطاول بعدي
بي شوق إليهم ليس يعزى ... لجميل ولا لسكان نجد
يا نسيم الصبا إذا جئت قوماً ... ملئت أرضهم بشيح ورند
فتلطف عند المرور عليهم ... وحقوقاً لهم على فأد
قل لهم قد غدوت من وجدهم ... في حال شوق لكل رند وزند
وإن استفسروا حديثي فإني ... باعتناء الإله بلغت قصدي
فله الحمد إذ حباني بلطف ... عنده قل كل شكر وحمد
قال شيخنا أبو بكر ولده، وجدت بخطه رحمة الله عليه، رسالة خاطب بها أخاه أبا إسحق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها.
ذكر اللوى شوقاً إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من تذكاره
وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناتنه بشراره
لو كنت تبصر خطه في خده ... لقرأت سر الوجد من أسطاره
يا عاذليه اقصروا فلربما ... أفضى عتابكم إلى إضراره
إن لم تعينوه على برجانه ... لا تنكروا بالله خلع عذاره
ما كان اكتمه لأسرار الهوى ... لو أن جند الصبر من أنصاره
بخل اللوى بالساكنيه وطيفهم ... وحديثه ونسيمه ومزاره
يا برق خذ دمعي وعرج باللوى ... فأسفحه في باناته وعراره
وإذا لقيت بها الذي بإخائه ... ألقى خطوب الدهر أو بجواره
فاقر السلام عليه قدر محبتي ... فيه وترفيعي إلى مقداره
وألمم بسائر أخوتي وقرابتي ... من لم أكن لجوارهم بالكاره
ما منه إلا أخ أو سيد ... أبداً أرى دأبي على إكباره

فاثبت لذاك الحي أن أخاهم ... في حفظ عهدهم على استبصاره
ما منزل اللذات في أوطانه ... كلا ولا السلوان من أوطاره
وقال رحمه الله في غرض كلفه سلطانه القول فيه:
ألا واصل مواصلة العقار ... ودع عنك التخلق بالوقار
وقم واخلع عذارك في غزال ... يحق لمثله خلع العذار
قضيب مائس من فوق دعص ... تعمم بالدجى فوق النهار
ولاح بخده ألف ولام ... فصار معرفاً بين الدراري
رماني قاسم والسين صاد ... بأشفار تنوب عن الشفار
وقد قسمت محاسن وجنتيه ... على صدين من ماء ونار
فذاك الماء من دمعي عليه ... وتلك النار من فرط اسعار
عدبت له أقام بربع قلبي ... على ما شب فيه من الأوار
ألفت الحب حتى صار طبعاً ... فما أحتاج فيه إلى ادكار
فمالي عن مذاهبه ذهاب ... وهذا فيه أشعاري شعار
وقال العلامة ابن رشيد في ملئ العببة، لما قدمنا المدينة سنة 684 للهجرة كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم الحكيم، وكان أرمد، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها، نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتساباً لتلك الآثار، وإعظاماً لمن حل في تلك الديار، فأحس بالشفاء، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله:
ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاماً أثرن لنا الحبا
وبالترب مها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأساً نخاف ولا كربا
وحين تبدى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أديلت لنا قربا
نزلنا من الأكوار نمشي كرامة ... لمن حل فيها أن نلم به ركبا
نسح سجال الدمع في عرصاتها ... ونلثم من حب لواطئه التربا
وإن بقائي دونه لخسارة ... ولو أن كفي تملأ الشرق والغربا
فيا عجباً ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا
وزلات مثلي لا تعد كثيرة ... وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا
ومن شعره قوله:
ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره
لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره
وقوله رحمه الله:
إني لأعسر أحياناً فيلحقني ... يسر من الله أن العسر قد زالا
يقول خير الورى في سنة ثبتت ... أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا
وهو من أحسن ما قاله رحمه الله.
ومن شعره قوله:
فقدت حياتي بالفراق ومن غدا ... بحال نوى عمن يحب فقد فقد
ومن أجل بعدي من ديار ألفتها ... جحيم فؤادي قد تلظى وقد وقد
وحكى أن ذا الوزارتين المترجم، لما اجتمع مع الفقيه الكاتب ابن أبي مدين. أنشده ابن أبي مدين:
عشقتكمو بالسمع نبل لقاكم ... وسمع الفتى يهوي لعمر كطرفه
وحببني ذكر الجليس إليكمو ... فلما التقينا كنتم فوق وصفه
فأنشده ذو الوزارتين ابن الحكيم قوله:
ما زلت أسمع عن علياك كل سني ... أبهى من الشمس أو أجلى من القمر
حتى رأى بصرى فوق الذي سمعت ... أذنى فوفق بين السمع والبصر
ومن نظمه مما يكتب على قوس:
أنا عدة للدين في يد من غدا ... لله منتصراً على أعدائه
أحكي الهلال وأسهمي في رجمها ... لمن اعتدى تحكي رجوم سمائه
قد جاء في القرآن أني عدة ... إذ نص خير الخلق محكم آياته
وإذا العدو أصابه سهمي فقد ... سبق القضاء بهلكه وفنائه

ومن توقيعه ما نقلته من خط ولده أبي بكر في كتابه المسمى بالموارد المستعذية، وكان بمدينة وادي آش الفقيه الكذا أبو عبد الله محمد بن غالب الطريفي، فكتب يوماً إلى الشيخ خاصة والدي وخلاصته أبي جعفر ابن داود قصيدة طويلة على روى السين يشتكي فيها من جور مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم بن حسان منها:
فيا صفى أبي العباس كيف ترى ... وأنت كيس من فيها من أكياس
ولوه إن كان ممن ترتضون به ... فقد دنا الفتح للأشراف في فاس
ومنها يستطر ذكر ذي الوزارتين رحمه الله:
للشرق فضل منه أشرقت شهب ... من نورهم اقبسونا كل مقباس
فوقع عليها رحمة الله تعالى عليه ورضوانه:
إن أفرطت بابن حسان غواثله ... فالأمر يكسوه ثوب الذل والياس
وإن تزل به في جوره قدم ... كان الجزاء له ضرباً على الراس
فقد أقامني المولى بنعمته ... لبث أحكامه بالعدل في الناس
كتابتهوهي مرتفعة عن نمط شعره. فمن ذلك رسالة كتبها عن سلطانه في فتح مدينة قيجاطة: من الأمير فلان، أيده الله ونصره، ووفقه لما يحب، حتى يكون ممن قام بفرض الجهاد ونشره. إلى ابننا الذي تمنحه الحب والرضى، ونسأل الله أن يهبه الخلال التي تستحسن، والشيم التي ترتضى، الولد الأنجب، الأرضى، الأنجد، الأرشد، الأسعد، محمد، والى الله تعالى إسعاده، وتولى بالتوفيق والإرشاد سداده، وأطلع عليه من أنباء الفتوح المبشرة بالنصر الممنوح، ما يكمل من بغيته في نصر دين الإسلام ويسني مراده.

أما بعد حمد الله، الذي جعل الجهاد في سبيله أفضل الأعمال، الذي يقربه إلى رضاه، وندب إليه بما وعد من الثواب عليه، فقال يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، تنبيهاً على محل الثقة، بأن الفئة القليلة من أوليائه، تغلب الفئة الكثيرة من أعدائه، وتدارك دين الإسلام بإنجاز وعده في قوله، ولينصرن الله من ينصره، على رغم أنف من ظن أنه خاذله، تعالى الله عن خذلان جنده. والصلاة والسلام على نبيه ورسوله ومجتباه، لهداية الخلق لسلوك سبيل الحق، والعمل بمقتضاه. قال تعالى فيما أنزل: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " ، تحريضاً على أن يمحوا ظلام ضلالهم بنور هداه. صلى الله عليه وسلم؛ وعلى آله الأبرار، وأصحابه الأشداء على الكفار، الذين جردوا في نصرة دينه صوارم العزم، وأمضوا ظباه، وفتحوا ما زوى له من مشارق الأرض ومغاربها، حتى عم الإسلام حد المعمور ومنتهاه. فإنا كتبنا لكم. كتب الله لكم من سماع البشائر ما يعود بتحويل الأحوال، وأطلع عليكم من أنباء الفتوح ما يلوح بآفاق الآمال، مبشرا باليمن والإقبال. من قيجاطة، وبركان ثقتنا بالله وحده، تظهر لنا ورد مشرع الفتح فترج عذب نطافه، والحمد لله الذي هدانا لأن نتقلد نجادها، ونمتطي جوادها، ونستوري زنادها، ونستفتح بها مغالق المآرب، ولطائف المطالب حتى دخلت الملة الحنيفية في هذه الجزيرة الأندلسية، أغوارها وأنجادها. وقد تقرر عند الخاص والعام من أهل الإسلام، واشتهر في جميع الأقطار اشتهار الصبح في سواد الظلام، أنا ما قصرنا في الاستنصار والاستنفار ولا قصرنا عن الاعتضاد لكل من أملنا معونته والاستظهار، ولا اكتفينا بمطولات الرسائل وبنات الأفكار، حتى اقتحمنا بنفوسنا لجج البحار، وسمحنا بالطارف من أموالنا والتلاد، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد، واشترينا بما أنعم الله به علينا، ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد، فلم يكن بين تلبية المدعو وزهده، وبين قبوله ورده، إلا كما يحسو الطائر ماء الثماد، ويأبى الله أن يكل نصر هذه الجزيرة إلى سواه، وأن يجعل فيها سبباً إلا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه. ولما أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مثاويه، وبقي المسلمون يتوقعون حادثاً ساءت ظنونهم لمباديه؛ ألقينا إلى الثقة بالله تعالى وحده يد الاستسلام، وشمرنا عن ساعد الجد والاجتهاد في جهاد عبدة الأصنام، وأخذنا بمقتضى قوله العالى، وأنفقوا في سبيل الله أخذ الاعتزام، فأمدنا الله تعالى بتوالي البشائر، ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قواد العساكر، ونقلنا على أيدي قوادنا ورجالنا من السبايا والغنائم، ما عد ذكره في الآفاق كالمثل السائر، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر. وحين أبدت لنا العناية الربانية وجوه الفتوح سافرة المحيا. وانتشقنا نسيم النصر الممنوح عبق الريا، استخرنا الله تعالى في الغزو بأنفسنا، ونعم المستخار، وكتبنا إلى من قرب من عمالنا بالحض على الجهاد والاستنفار. وحين وافى من خف للجهاد من الأجناد والمطجوعين، وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتميعن، خرجنا بهم، ونصر الله تعالى أهدى دليل، وعناية الله بهذه الفئة المفردة من المسلمين، تقضي بتقريب البعيد من آمالنا، وتكثير القليل. ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادة الرضا والقبول، وأن يرشدنا إلى طريق يفضي إلى بلوغ الأمنية والمأمول، إلى أن حللنا عشية يوم الأحد ثاني يوم خروجنا بمقربة حصن اللقوة، فأدرنا به. التدبير، واستشرنا من أوليائنا من تحققنا نصحه فيما يشير، فاقتضى الرأي المقترن بالرشاد، المؤذن بالإسعاد، قصد قيجاطة لما رجى من تيسير فتحها، وأملا في إضاءة فجر الأماني لديها، وبيان صبحها، فسرنا نوها في جيش، يجر على المجرة ذيل النقع المثار، ويضيق عن كثرته واسع الأقطار، ويقر عين الإسلام، بما اشتمل عليه من الحماة والأنصار تطير بهم نياتهم بأجنحة العزم إلى قبض أرواح الكفار. فلما وصلنا إلى وادي يانه على مقربة منها، نزلنا به نريح الجياد، ونكمل التأهب للقتال الاستعداد، وبات المسلمون ليلتهم يسألون الله تعالى بأن يمنحهم الإعانة بتأييده والإمداد. وحين فجر الفجر وأنار النهار، وقدحتن به الأصباح زند الأنوار، ركبنا إليها والعساكر قد انتظمت عقودها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10