كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب

قال شيخنا الفقيه أبو عبد الله بن القاضي المتبحر العالم أبي عبد الله ابن عبد الملك، سألته عن مولده فأنشدني:
يا سايلي عن مولدي ك أذكره ... ولدت يوم سبعة وعشرة
من المحرم افتتاح أربع ... من بعد ستماية مفسرة
وفاتهفي التاسع عشر لرجب عام تسعة وتسعين وستماية، ودفن بمقبرة فاس، وأمر أن يكتب على قبره:
زر غريبا بمقره ... نازحا ماله ول
تركوه موسداً ... بين ترب وجندل
ولتقل عند قبره ... بلسان التدلل
يرحم الله عبده ... مالك بن المرحل
ومن طارئي المقريين والعلماء
منصور بن علي بن عبد الله الزواويصاحبنا، يكنى أبا علي،
حالههذا الرجل طرف في الخير والسلامة، وحسن العهد، والصون والطهارة والعفة، قليل التصنع، مؤثرر للاقتصاد، منقبض عن الناس، مكفوف اللسان واليد، مشتغل بشأنه، عاكف على ما يعنيه، مستقيم الظاهر، ساذج الباطن، منصف في المذاكرة، موجب لحق الخصم، حريص على الإفادة والاستفادة، مثار على تعلم العلم وتعليمه غير أنف عن حمله عمن دونهن جملة من جمل السذاجة والرجولة وحسن المعاملة، صدر من صدور الطلبة، له مشاركة حسنة في كثير من العلوم العقلية والنقلة، واطلاع تقييد، ونظر في الأصول والمنطق وعلم الكلام، ودعوى في الحساب والهندسة والآلات. يكتب الشعر فلا يعدو الإجادة والسداد.
قدم الأندلس في عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، فلقى رحباً، وعرف قدره، فتقدم مقرئا بالمدرسة تحت جراية نبيهة، وحلق للناس متكلماً على الفروع الفقهية والتفسير. وتصدر للفتيا، وحضر بالدار السلطانية مع مثله. جربت وصحبته، فبلوت منه ديناً ونصفة، وحسن عشرة.
محنتهامتحن في هذا العهد الأخير بمطالبة شرعية، لمتوقف صدر عنه لما جمع الفقهاء للنظر في ثبوت عقد على رجل نال من جانب الله والنبوة، وشك في القول بتكفيره، فقال القوم بإشراكه في التفكير ولطخه بالعاب الكبير، إذ كان كثير المشاحة لجماعتهم، فأجلت الحال عن صرفه عن الأندلس في أواخر شعبان عام خمسة وستين وسبعماية.
مشيختهطلبت منه تقييد مشيخته، فكتب مما يدل على جودة القريحة ما نصه: " يتفضل سيدي الأعلى الذي أهتدي بمصباحه، وأعشو إلى غرره وأوضاحه، جامع أشتات العلوم، وفاتق الفهوم، حامل راية البديع، وصاحب آيات التورية فيه والترصيع، نخبة البلغاء، وفخر الجهابذة العلماء، قايد جياد البلاغ من نواصيها، وسايق شوارد الحكم من أقاصيها، أبو عبد الله بن الخطيب، أبقاه الله للقريض، يقطف زهره، ويجتني غرره، وللبديع يطلع قمره، وينظم درره، وللأدب يحوك حلله، ويجمع تفاصيله وجمله، وللمعاني يجوس بجيوش البراعة خلالها، ويفتتح بعوامل اليراعة أقفالها، وللأسجاع يقرط الأسماع بفرايدها، ويحلى النحور بقلايدها، وللنظم يورد جياده أحلى الموارد، ويجليها في مضمار البلاغة من غير معاند، وللنثر يفترع أبكاره، ويودعها أسراره، ولساير العلوم يصوغها في مفرق الآداب تاجاً، ويضعها في أسطر الطروس سراجا، ولا زال ذا القلم الأعلى، وبدر الوزارة الأوضح الأجلى، ببقاء هذه الدولة المولوية والإمامة المحمدية، كعبة لملوك الإسلام، ومقصداً للعلماء الأعلام. ورضي عنهم خلفاً وسلفاً، وبورك لنا فيهم وسطاً وطرفاً، ولا زالت آمالنا بعلايهم منوطة، وفي جاههم العريض مبسوطة، بقول ما نبه عليه، من كتب شيوخى المشاهير إليه، فها أنا أذكر ما تيسر لي من ذلك بالاختصار، إذ لا تفي بذكرهم وحلاهم المجلدات الكبار.

فمنهم، مولاى الوالد علي بن عبد الله لقاه الله، الروح والريحان، وأوسعه الرضا والغفران. قرأت عليه القرآن، وبعض ما يتعلق به من الإعراب والضبط. ثم بعثني إلى شيخنا المجتهد الإمام، علم العلماء، وقطب الفقها، قدوة النظار، وإمام الأمصار، منصور بن أحمد المشدالي رحمه الله وقدس روحه، فوجدته قد بلغ السن به غاية أوجبت جلوسه في داره، إلا أنه يفيد بفوايده بعض زواره. فقرأت من أوائل ابن الحاجب عليه لإشارة والدي بذلك إله، وذلك أول محرم عام سبعة وعشرين وسبعماية. واشتد الحصار ببجاية لسماعنا أن السلطان العبد الوادي ينزل علينا بنفسه، فأمرني بالخروج رحمه الله، فعاقني عايق عن الرجوع إله لأتمم قراءة ابن الحاجب عليه. ثم مات رحمه الله عام أحد وثلاثين وسبعماية، فخص مصابه البلاد وعم، ولف ساير الطلبة وضم، إلا أنه ملأ بجاية وأنظارها بالعلوم النظرية وقساها، وأنظارها بالفهوم النقلية والعقلية، فصار من طلبته، شيخنا المعظم، ومفيدنا المقدم أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي المعروف بالمفسر رحمه الله، بالطريقة الحاجبية، والكتابة الشرعية والأدبية، مع فضل السن وتقرير حسن، إلى معارف تحلاها، ومحاسن اشتمل حلاها. واستمر في ذكر شيوخه على هذه الوتيرة من التزام السجع، وتقرير الحلى، فأجاد، وتجاوز المعتاد، فذكر منهم محمد بن يحيى الباهلي المذكور، وأنه أخذ عنه جمله من العلوم، فافرده بقراءة الإرشاد. والأستاذ أبا علي بن حسن البجلي، وقرأ عليه جملة من الحاصل، وجملة من المعالم الدينية والفقهية، والكتب المنطقية، كالخونجي، والآيات البينات. والقاضي أبا عبد الله محمد بن أبي يوسف، قاضي الجماعة ببجاية، وأبا العباس أحمد بن عمران الساوي اليانيولي. قال ثم ثنيت العنان بتوجهي إلى تلمسان، راغباً في علوم العربية، والفهوم الهندسية والحسابية، فأول من لقيت شيخنا الذي علمت في الدنيا جلالته وإمامته، وعرفت في أقاصي البلاد سيادته وزعامته، وذكر رئيس الكتاب العالم الفاضل أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي، والمحدث البقية أبا العباس بن يربوع، والقاضي أبا إسحق بن أبي يحيى وقرأ شيئاً من مبادئ العربية على الأستاذ أبي عبد الله الرندي. ولقى بالأندلس جلة. فممن قرأ عليه إمام الصنعة العربية شيخنا أبو عبد الله بن الفخار الشيهر بالبيري، ولازمه إلى حين وفاته، وكتب له بالإجازة والإذن له في التحليق بوضع قعوده من المدرسة بعده. وقاضى الجماعة الشريف أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني، نسيج وحده، ولازمه، وأخذ عنه تواليفه، وقرأ عليه تسهيل الفوايد لابن مالك، وقيد عليه وروى عن شيخنا إمام البقية أبي البركات بن الحاج، وعن الخطيب المحدث أبي جعفر الطنجالي. وهو الآن بالحال الموصوفة أعانه الله وأمتع به.
شعرهزرنا معاً والشيخ القاضي المتفنن أبو عبد الله المقري عند قدومه إلى الأندلس رباط العقاب. واستنشدت القاشي. وكتب لي يومئذ بخطه، استنشدني الفقيه الوجيه الكامل ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب، أطال الله بقاه كما أطال ثناه، وحفظ مهجته، كما أحسن بهجته، فأنشدته لنفسي:
لما رأيناك بعد الشيب يا رجل ... لا تستقيم وأمر النفس تمتثل
زدنا يقينا بما كنا نصدقه ... عند المشيب يشب الحرص والأمل
وكان ذلك بمسجد رابطة العقاب، عقب صلاة الظهر من يوم الأحد التاسع والعشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعماية. وكتب الشيخ الأستاذ أبو علي يقول: منصور بن علي الزواوي، في رابطة العقاب في كذا، أجزت صاحبنا الفقيه المعظم، أبا عبد الله بن الخطيب وأولاده الثلاثة عبد الله، ومحمداً، وعلياً، أسعدهم الله، جميع ما يجوز لي وعني روايته، وأنشدته قولي أخاطب بعض أصحابنا:
يحييك عن بعض المنازل صاحب ... صديق غدت تهدى إليك رسايله
مقدمة حفظ الوداد وسيلة ... ولا ود إلا أن تصح وسائله
يسايل عنك الدارين ولم يكن ... تغيب لبعد الدار عنك مسايله
وكتبت له قبل هذا مما أنشدته عند قدومي على غرناطة:
يا من وجدناه لفظا ... حقيقة في المعالي
مقدمات علاكم ... أنتجن كل كمال
وكل نظم قياس ... خلوت منه فخال

وهو من لدن أزعج عن الأندلس، كما تقدم ذكره، مقيم بتلمسان، على ما كان عليه من الإقراء والتدريس.
مسلم بن سعيد التنملي

حاله
كان غير نبيه الأبوة. ظهر في دولة السلطان أمير المسلمين، ثاني الملوك من بني نصر، بمزيد كفاية، فقلده خطة الجفازة، وهي تعميم النظر في المجابي، وضم الأموال، وإيقاع النكير في محل التقصير، ومظان الريب فنمت حاله، وعظم جاهه، ورهبت سطوته، وخيف إيقاعه، وقربت من السلطان وسيلته، فتقدم الخدام، واستوعب أطراف الحظوة، واكتسب العقار، وصاهر في نبيه البيوتات، وأروث عنه أخبارا، تشهد له بالجود علو الهمة، وشرف النفس، إلى أن قضى على هذه الوتيرة.
ذكروا أن شخصاً جلب سلعة نفيسة، مما يطمع في إخفايها، حيدة عن وظيفة المغرم الباهظة، في مثل جنسه، فبينما هو يروم المحاولة، إذ بصر بنبيه المركب والبزة، ينفض في زوايا الفحص عن مثل مضطبنه، فظنه رئيساً من رؤساء الجند، فقصده ورغب منه إجازة خبيئته بباب المدينة، وقرر لتخوفه من ظلم الحافز الكذا مسلم، فأخذها منه وخبأها تحت ثيابه، ووكل به. ولم يذهب المسكين إلا يسيراً، حتى سأل عن الرجل، فأخبر أنه الذي فر عنه. فسقط قي يده. ثم تحامل فألقاه ينظره في داخل السور، فدفع إليه أمانته، وقال سر في حفظ الله، فقد عصمها الله من ذلك الرجل الظالم، فخجل الرجل، وانصرف متعجباً. وأخباره في السراوة، ونجح الوسيلة. كثيرة.
وفاتهتوفي في عام ثمانية وتسعين وستماية، وشهد أميره دفنه، وكان قد أسف ولي العهد بأمور صانعه فيها من باب خدمة والده. فكان يتلمظ لنكبته، ونصب لثاته لأكله. فعاجله الحمام قبل إيقاع نقمته به. ولما تصير إليه الأمر، نبش قبره، وأخرج شلوه، فأحرق بالنار، إغراقاً في شهوة التشفي رحمة الله عليه.
ومن العمال الأثراء
مؤمل مولى باديس بن حبوس
حاله ومحنته
قال ابن الصيرفي، وقد ذكر عبد الله بن بلقين حفيد باديس، واستشارته عن أمره، لما بلغه حركة يوسف بن تاشفين إلى خلعه. وكان في الجملة من أحبابه، رجل من عبيد جده اسمه مؤمل، وله سن، وعنده دهاء وفطنة، ورأى ونظر. وقال في موضع آخر، ولم يكن في وزراء مملكته وأحبار دولته، أصيل الرأي، جزل الكلمة، إلا ابن أبي خيثمة من كتبته، ومؤمل من عبيد جده، وجعفر من فتيانه. رجع، قال: فألطف له مؤمل في القول، وأعلمه برفق، وحسن أدب، أن ذلك غير صواب، وأشار إليه بالخروج إلى أمير المسلمين إذا قرب، والتطارح عليه، فإنه لا تمكنه مدافعته، ولا تطاق حربه، والاستجداء له. أحمد عاقبة وأيمن مغبة. وتابعه على ذلك نظراؤه، من أهل السن والحنكة ودافع في صد رأيه الغلمة والأغمار، فاستشاط غيظاً على مؤمل ومن نحا نحوه، وهم بهم، فخرجوا، وقد سل بهم فرقاً منه. فلما جنهم الليل فروا إلى لوشة، وبها من أبناء عبيد باديس قايدها، فملكوها وثاروا فيها، بدعوة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وبادر مؤمل بالخطاب إلى أمير المسلمين المذكور وقد كان سفر إليه عن سلطانه، فأعجبه عقلاً ونبلاً، فاهتز إليه، وكان أقوى الأسباب على حركته. وبادر حفيد باديس الأمر، فأشخص الجيش لنظر صهره، فتغلب علهم، وسيق مؤمل ومن كان معه شر سوق في الحديد، وأركبوا على دواب هجن، وكشفت رؤوسهم، وأردف وراء كل رجل من يصفعه. وتقدم الأمر في نصب الجذوع وإحضار الرماة. وتلطف جعفر في أمرهم. وقال للأمير عبد الله، إن قتلهم الآن، أطفأت غضبك، وأذهبت ملكك. فاستخرج المال، وأنت من وراء الانتقام، فثقفهم، وأطمعوا في أنفسهم ريثما شغله الأمر، وأنفذ إليه يوسف بن تاشفين في حل اعتقالهم، فلم تسعه مخالفته وأطلقهم. ولما ملك غرناطة على تفيئة تلك الحال، قدم مؤملاً على مستخلصه وجعل بيده مفاتيح قصره، فنال ما شاء من مال وحظوة، واقتنى ما أراد من صامت وذخيرة. ونسبت إليه بغرناطة آثار، منها السقاية بباب الفخارين والحوز المعروف بحوز مؤمل، أدركتها وهي بحالها.
وفاته

قال ابن الصيرفي، وفي ربيع الأول من هذا العام، وهو عام اثنين وتسعين وأربعماية، توفي بغرناطة مؤمل مولى باديس بن جبوس، عبد أمير المسلمين، وجابي مستخلصه وكان له دهاء وصبر، ولم يكن بقارئ ولا كاتب. رزقه الله عند أمير المسلمين، أيام حياته، منزلة لطيفة ودرجة رفيعة. ولما أشرف على المنية، أحضر ما كان عنده من مال المستخلص، وأشهد الحاضرين على دفعه إلى من استوثقه على حمله. ثم أبرأ جميع عماله وكتابه. وأنفذ رجلاً من صنايعه إلى أمير المسلمين بجملة من مال نفسه، يريه أن ذلك جميع ما اكتسبه في دولته، أيام خدمته، وأن بيت المال أولى به، ورغب في ستر أهله وولده. فلما وصل إليه، أظهر الأسف عليه، وأمضى تقديم صنيعته. ثم ذكر ما كشف البحث عنه من محتجنه، وشقاء من خلفه بسببه، وعدد مالاً وذخيرة.
حرف النون الملوك والأمراء
نصر بن عقيل الحزرجي الأنصارينصر بن محمد بن يوسف بن نصر بن أحمد بن محمد بن خميس بن عقيل الحزرجي الأنصاري أمير المسلمين بالأندلس، بعد أبيه وجده وأخيه. يكنى أبا الجيوش وقد تقدم من أولية هؤلاء الملوك ما يغنى عن الإعادة.
حالهمن كتاب طرفة العصر في أخبار الملوك من بني نصر من تصنيفنا. قال: كان فتى يملأ العيون حسناً وتمام صورة، دمث الأخلاق، لين العريكة، عفيفاً، مجبولاً على طلب الهدنة وحب الخير، مغمد السيف، قليل الشر، نافراً للبطر وإراقة الدماء، محبا في العلم وأهله، آخذاً من صناعة التعليل بحظ رغيب، يخط التقاويم الصحيحة، ويصنع الآلات الطريفة بيده، اختص في ذلك الشيخ الإمام أبا عبد الله بن الرقام، وحيد عصره. فجاء واحد دهره ظرفاً وإحكاماً. وكان حسن العهد، كثير الوفاء. حمله الوفاء على اللجاج في وزيره المطلوب بعزله، على الاستهداف للخلع.
تقدم يوم خلع أخيه، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعماية، وسنه ثلاث وعشرون سنة، فكان من تمام الخلق، وجمال الصورة، والتأنق في ملوكي اللباس، آية من آيات الله خالقه. واقتدى برسوم أبيه وأخيه، وأجرى الألقاب والعوايد لأول دوالته، وكانت أيامه كما شاء الله، أيام محس مستمر، شملت المسلمين فيها الأزمة، وأحاط بهم الذعر، وكلب العدو. وسيمر من ذالك ما فيه كفاية. وكان فتى أي فتى، لو ساعده الجد. والأمر لله من قبل ومن بعد.
وزراء دولتهوزر له مقيم أمره ومحكم التدبير على أخيه، أبو بكر عتيق بن محمد ابن المول. وبيت بني مولى بقرطبة، بيت له ذكر وأصالة. ولما تغلب عليها ابن هود، اختفى بها أبوه أياماً عدة. ولما تملكها السلطان الغالب بالله تلك البرهة، خرج إليه وصحبه إلى غرناطة، فاتصلت قرباه بعقده على بنت للرئيس أبي جعفر المعروف بالعجلب ابن عم السلطان. واشتد عضده. ثم تأكدت القربى بعقد مول أخي هذا الوزير على بنت الرئيس ألي الوليد أخت الرئيس ألي سعيد، منجب هؤلاء الملوك الكرام، فقام بأمره، واضطلع بأعباء سلطانه، إلى أن كان من تغلب أهل الدولة عليه، وإخافة سلطانه منه، ما أوجب صرفه إلى المغرب في غرض الرسالة، وأشير عليه في طريقه بإقامته بالمغرب، فكان صرفاً حسناً. وتولى الوزارة محمد بن علي بن عبد الله بن الحاد، المسير لخلعه، واجتثاث أصله وفرعه، وكان خباً داهية، أعلم الناس بأخبار الروم وسرهم وآثارهم. فحدثت بين السلطان وبين أهل حضرته الوحشة بسببه.
قضاتهأقر على خطة القضاء بحضرته قاضي أخيه الشيخ الفقيه أبا جعفر القرشي المنبز بابن فركون، وقد تقدم التعريف به مستوفى بحول الله.
كتابهشيخنا الصدر الوجيه، نسيج وحده أبو الحسن علي بن محمد بن سليمن بن الجياب إلى آخر مدته.
من كان على عهده من الملوك

بالمغرب، السلطان أبو الربيع سليمن بن عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، تصير الأمر إليه بعد وفاة أخيه السلطان أبي ثابت عامر بأحواز طنجة، في صفر عام ثمانية وسبع ماية، وكان مشكوراً، مبخت الولاية. وفي دولته عادت سبتة إلى الإيالة المرينية، ثم توفي بتازى في مستهل رجب من عام عشرة وسبعماية. وتولى الملك بعده عم أبيه السلطان الجليل الكبير، خدن العافية، وولى السلامة، وممهد الدولة أبو سعيد عثمن بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. واستمرت ولايته إلى تام أيام هذا الأمير، وكثيراً من أيام من بعده. وقد تقدم من ذكر السلطان أبي يوسف في اسم من تقدم من الملوك ما فيه كفاية.
وبتلمسان، الأمير أبو حمو موسى بن عثمن بن يغمراسن، سلطان بني عبد الواد، مذلل الصقع، والمثل الساير في الحزم والتيقظ، وصلابة الوجه، زعموا، وإحكام القحة، والإغراب في خبث السيرة. واستمرت ولايته إلى عام ثمانية عشر وسبعماية، إلى أن سطا به ولده، عبد الرحمن أبو تاشفين.
وبتونس، الأمير الخليفة أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن المستنصر محمد بن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص. ثم توفي في ربيع الآخر عام تسع وسبع ماية. فولي الأمر قريبه الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحق بن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص. ونهض إليه من بجاية قريبه السلطان أبو البقاء خالد ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، فالتقيا بأرض تونس، فهزم أبو بكر، ونجا بنفسه، فدخل بستاناً لبعض أهل الخدمة، مختفياً فيه، فسعى به إلى أبي البقاء، فجيء به إليه، فأمر بعض القرابة بقتله صبراً، نفعه الله. وتم الأمر لأبي البقاء في رابع جمادى الأولى منه، إلى أن وفد الشيخ المعظم أبو يحيى زكريا الشهير باللحياني، قافلاً من بلاد المشرق، وهو كبير آل أبي حفص نسباً وقدراً، فأقام بإطرابلس، وأنقذ إلى تونس خاصته، الشيخ الفقيه أبا عبد الله المردوري محارباًلأبي البقاء، وطالباً للأمر. فتم الأمر، وخلع أبو البقاء تاسع جمادى الأولى عام أحد عشر وسبعماية. وتم الأمر للشيخ أبي يحيى، واعتقل أبو البقاء، فلم يزل معتقلاً إلى أن توفي في شوال عام ثلاثة عشر وسبعماية، ودفن بالجبانة المعروفة لهم بالزلاج، فضريحه فيما تعرفنا بإزاء ضريح قتيله المظلوم أبي بكر، لا فاصل بينهما. وعند الله تجتمع الخصوم.
واتصلت أيام الأمير أبي يحيى، إلى أن انقرضت مدة الأمير أبي الجيوش. وقد تضمن الإلماع بذلك الرجز المسمى بقطع السلوك من نظمي. فمن ذلك فيما يختص بملوك المغرب قولي في ذكر السلطان أبي يعقوب:
ثم تقضى معظم الزمان ... مواصلاً حصر بني زيان
حتى أتى أهل تلمسان الفرج ... ونشقوا من جانب اللطف الأرج
لما ترقى درج السعد درج ... فانفض ضيق الحصر عنها وانفرج
وابن ابنه وهو المسمى عامراً ... أصبح بعد ناهياً وآمراً
وكان ليثاً دامي المخالب ... تغلب الأمر بجد غالب
أباح بالسيف نفوساً عدة ... فلم تطل في الملك منه العدة
ومات حتف أنفه واخترما ... ثم سليمان عليها قدما
أبو الربيع دهره ربيع ... يثنى على سيرته الجميع
حتى إذا الملك سليمان قضى ... تصير الملك لعثمن الرضا
فلاح نور السعد فيها وأضا ... وسنى العهد الذي كان مضا
وفيما يختص ببنى زيان، بعد ذكر أبي زيان:
حتى إذا استوفى زمان سعده ... قام أبو حمو بها من بعده
وهو الذي سطا عليه ولده ... حتى انتهى على يديه أمده
وفيما يختص بآل أبي حفص بعد ذكر جملة منهم:
ثم الشهيد الأمير خالد ... هيهات ما في الدهر حي خالد
وزكريا بها بعد ثوا ... ثم نسوا الرحلة عنها والتوا
رحل بالشرق وبالشرق ثوا ... وربما فاز امرؤ بما نوا

ومن ملوك النصارى بقشتاله: هرانده بن شانجه بن ألهنشه بن هراتده بن شانجه. ونازل على عهده الجزيرة الخضراء، ثم أقلع عنها عن ضريبة وشروط، ثم نازل في أخريات أمره حصن القذاق، وأدركه ألم الموت بظاهره، فاحتمل من المحلة إلى جيان، وبقيت المحلة منيخة على الحصن، إلى أن تملك بعد موت الطاغية بأيام ثلاثة، كتموا فيها موته. ولسبب هلاكه حكاية ظريفة، تضمنتها طرفة العصر في تاريخ دولة بني نصر. وقام بعده بأمر النصرانية ولده ألهنشه، واستمرت أيامه إلى عام خمسين وسبعماية.
بعض الأحداث في أيامهنازل على أول أمره طاغية قشتالة، الجزيرة الخضراء في الحادي والعشرين من عام تسعة وسبعماية، وأقام عليها إلى أخريات شعبان من العام المذكور، وأقلع عنها بعد ظهوره على الجبل وفوز قداحه به. ونازل صاحب برجلونة مدينة ألمرية غرة ربيع الأول من هذا العام، وأخذ بمخنقها، وتفرقت الظبا على الخراش، ووقعت على جيش المسلمين الناهد إليه وقيعة كبيرة، واستمرت المطاولة إلى أخريات شعبان، ونفس الله الحصر، وفرج الكرب. وما كاد أهل الأندلس يستنشقون ريح العافية، حتى نشأ نجم الفتنة، ونشأت ريح الخلاف، واستفسد وزير الدولة ضمائر أهلها، واستهدف إلى رعيتها بإيثار النصارى والصاغية إلى العدو، وأظهر الريس ابن عم الأب صاحب مالقة أبو سعيد فرج ابن إسماعيل، صنو الغالب بالله ابن نصر، الامتساك بما كان بيده، والدعاء لنفسه، وقدم ولده الدايل إلى طلب الملك. وثار أهل غرناطة، يوم الخامس والعشرين لرمضان من العام، وأعلن منهم من أعلن بالخلاف ثم خانهم التدبير، وخبطوا العشواء، ونزل الحشم، فلاذ الناس منهم بديارهم، وبرز السلطان إلى باب القلعة، متقدماً بالعفة عن الناس، وفر الحاسرون عن القناع، فلحقوا بالسلطان أبي الوليد بمالقة، فاستنهضوه إلى الحركة، وقصد الحضرة، فأجابهم وتحرك، فأطاعته الحصون بطريقة، واحتل خارج غرناطة صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين لشوال منه، فابتدره الناس من صايح ومشير بثوبه، ومتطارح بنفسه. فدخل البلد من ناحية ربض البيازين، واستقر بالقصبة، كما تقدم في اسمه. وفي ظهر يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر، نزل الحمراء دار المللك، وانفصل السلطان المترجم به، موفى له شرط عقده من انتقاله إلى وادي آش، مستبداً بها، وتعيين مال مخصوص، وغير ذلك. ورحل ليلة الثلاثاء الثالث لذي قعدة من العام. واستمرت الحال، بين حرب ومهادنة، وجرت بسبب ذلك أمور صعبة إلى حين وفاته. رحمه الله.
مولدهولد في رمضان عام ستة وثمانين وست ماية. وكانت سنة ستاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، ودولته الجامعة خمس سنين وشهراً واحداً، ومقامه بوادي أش تسعة أعوم وثلاثة أيام.
وفاتهتوفي رحمه الله، ليلة الأربعاء سادس ذي قعدة من عام اثنين وعشرين وسبعماية بوادي آش، ودفن بجامع القصبة منها، ثم نقل في أوايل ذي الحجة منه إلى الحضرة، فكان وصوله يوم الخميس السادس منه، وبرز إليه السلطان، والجمع الكثير من الناس، ووضع سريره بالمصلى العيدي، وصلى عليه إثر صلاة العصر، ودفن بمقبرة سلفه بالسبيكة، وكان يوماً من الأيام المشهودة، وعلى قبره مكتوب في الرخام:

هذا قبر السلطان المرفع المقدار، الكريم البيت، العظيم النجار سلالة الملوك الأعلام الأخيار، الصريح النسب في صميم الأنصار، الملك الأوحد، الذي له السلف العالي المنار، في الملك المنيع الذمار، رابع ملوك بني نصر، أنصار دين المصطفى المختار، المجاهدين في سبيل الملك الغفار، الباذلين في رضاه كرايم الأموال، ونفايس الأعمار. المعظم المقدس المرحوم، أبي الجيوش نصر ابن السلطان الأعلى الهمام الأسمى، المجاهد الأحمى، الملك العادل، الطاهر الشمايل، ناصر دين الإسلام، ومبيد عبدة الأصنام، المؤيد المنصور، المقدس، المرحوم أمير المسلمين أبي عبد الله بن السلطان الجليل. الملك الشهير، مؤسس قواعد الملك على التقوى والرضوان، وحافظ كلمة الإسلام، وناصر دين الإيمان، الغالب بالله، المنصور بفضل الله، المقدس المرحوم، أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر، تغمده الله برحمته وغفرانه، وبوأه منازل إحسانه، وكتبه في أهل رضوانه. وكان مولده في يوم الاثنين الرابع والعشرين لشهر رمضان المعظم عام ستة وثمانين وستماية. وبويع يوم الجمعة غرة شوال عام ثمانية وسبعماية، وتوفي رحمه الله ليلة يوم الأربعاء السادس لشهر ذي قعدة عام اثنين وعشرين وسبعماية فسبحان الملك الحق المبين، وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. وفي جهة:
يا قبر جاد ثراك صوب غمام ... يهمى عليك برحمة وسلام
بوركت لحداً فيه أي وديعة ... ملك كريم من نجار كرام
ماشيت من حلم ومن خلق رضي ... وزكاه أعراق ومجد سام
فاسعد بنصر رابع الأملاك من ... أبناء نصر ناصر الإسلام
من خزرج الفخر الذين مقامهم ... في نصر خير الخلق خير مقام
يا أيها المولى المؤسس بيته ... في معدن الأحساب والأحلام
ما للمنية والشباب مساعد ... قد أقصدتك بصائبات سهام
عجلت على ذاك الجمال فغادرت ... ربع المحاسن طامس الأعلام
فمحى الردى من حسن وجهك آية ... نحو النهار لسدفة الإظلام
ما كنت إلا بدر تم باهراً ... أخنى الخسوف عليك عند تمام
فعلى ضريح أبي الجيوش تحية ... كالمسك عرفا عند فض ختام
وتغمدته رحمة الله التي ... ترضيه من عدن بدار مقام
؟ومن الأعيان والوزراء
؟

نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري
يكنى أبا الفتح، أصلهم من حصن أريول من عمل مرسية، ولهم في الدولة النصرية مزية خصوا لها بأعظم رتب القيادة واستعمل بعضهم في ولاية السلطان.
؟
حاله
نقلت من خط شيخنا أب يبكر بن شبرين. قال: وفي السادس عشر لذي قعدة منه، يعني عام عشرة وسبعماية، توفي بغرناطة القايد المبارك، أبو الفتح، أحد الولاة والأعيان الذاكرين لله تعإلى، أولى النزاهة والوفاء.
؟
نصر بن إبراهيم بن نصر الفهري
؟نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح بن نصرين إبراهيم بن نصر الفهري يكنى أبا الفتح، حفيد المذكور معه في هذا الباب
؟
حاله
من كتاب طرفة العصر: نسيج وحده في الخير والعفاف، ولين العريكة، ودماثة الأخلاق، إلى بعد الهمة، وجمال الأبهة، وضخامة التجند، واستجادة المركب والعدة، وارتباط العبادة، استعان على ذلك بالنعمة العريضة بين منادية إليه بميراث، ومكتسب من جراء المتغلب على الدولة صهره ابن المحروق معياشة لبنته. ونمت حال هذا الشهم النجد، وشمخت رتبته حتى خطب للوزارة في أخريات أيامه، وعاق عن تمام المراد به، إلحاح السقم على بدنه، وملازمة الضنا لجثمانه، فمضى لسبيله، عزيز الفقد عند الخاصة، ذائع الثنا، نقي العرض، صدراً في الولاة. وعلماً في القواد الحماة.
وفاتهتوفي بغرناطة ليلة الجمعة الثامن والعشرين لجمادى الآخرة عام خمسة وأربعين وسبعماية. وكانت جنازته أخذة نهاية الاحتفال، ركب إليها السلطان، ووقف بإزاء لحده، إلى أن وورى، تنويهاً بقدره، وإشادة ببقاء الحرمة على خلفه. وحمل سريره الجملة من فرسانه وأبناء نعمته.
ومن الكتاب والشعراء
نزهون بنت القليعي

قال ابن الأبار، وهو فيما أحسب أبو بكر محمد بن أحمد بن خلف ابن عبد الملك بن غالب الغساني، غرناطية.
حالهاكانت أديبة شاعرة، سريعة الجواب، صاحبة فكاهة ودعابة. وقد جرى شيء من ذلك في اسم أبي بكر بن قزمان، والمخزومي الأعمى. وأبي بكر بن سعيد.
شعرهادخل الأديب أبو بكر الكتندي الشاعر، وهي تقرأ على المخزومي الأعمى، فلما نظر إليها، قال أجز يا أستاذ: لو كنت تبصر من تكلمه. فأفحم المخزومي زامعاً، فقالت: لغوت أخرس من خلاخله ثم زادت:
إليه البدر يطلع من أزرته ... والغصن يمرح في غلايله
ولاخفاء ببراعة هذه الإجازة، ورفاعة هذا الأدب.
وكتب إليها أبو بكر بن سعيد، وقد بلغه أنها تخالط غيره من الأدباء الأعيان:
يا من له ألف خل ... من عاشق وعشيق
أراك خليت للنا ... س سد ذاك الطريق
فأجابته بقولها:
حللت أبا بكر محلاً منعته ... سواك وهل غير الرفيع له صدري
وإن كان لي كم من حبيب فإنما ... يقدم أهل الحق فضل أبي بكر
وهذه غاية في الحسن بعيدة. ومحاسنها شهيرة، وكانت من غرر المفاخر الغرناطية.
حرف الصاد

من الأعيان والوزراء
ذي الجوشن الضبابي الكلبي
الصميل بن حاتم بن عمر بن جذع بن شمر بن ذي الجوشن الضبابي الكلبي وهو من أشراف عرب الكوفة.
أوليتهقال صاحب الكتاب الخزايني جده أحد قتلة الحسين بن علي، الذي قام برأسه على يزيد بن معاوية. فلما قام المختار ثايراً بالحسين، فرعنه شمر، ولحق بالشام فأقام بها في عز ومنعة. ولما خرج كلثوم بن عياض غازياً إلى المغرب، كان الصميل ممن ضرب عليه البعث في أشراف أهل الشام. ودخل الأندلس فيطالعة بلج بن بشر القشيري، فشرف ببدنه إلى شرف تقدم له. ورد ابن حيان هذا، وقال في كتاب بهجة الأنفس، وروضة الأنس، كان الصميل بن حاتم هذا جده شمر قاتل الحسين رضي الله عنه، من أهل الكوفة، فلما قتله، تمكن منه المختار فقتله، وهدم داره، فارتحل ولده من الكوفة، فرأس بالأندلس، وفاق أقرانه بالنجدة والسخاء.
حالهقال، كان شجاعاً، نجداً، جواد، كريماً، إلا إنه كان رجلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان له في قلب الدول، وتدبير الحروب، أخبار مشهورة.
من أخباره. حكى ابن القوطية، قال، مر الصميل بمعلم يتلو " وتلك الأيام نداولها بين الناس " . فوقف يسمع، ونادى بالمعلم، يا هناه كذا نزلت هذه الآية، فقال نعم، فقال، أرى والله سيشركنا في هذا الأمر، العبيد والأراذل والسفلة.
خبره في الجود : قال، كان أبو الأجرب الشاعر، وقفاً على أمداح الصميل، وهو القايل:
بني لك حاتم بيتاً رفيعا ... رأيناه على عمد طوال
وقد كان ابتنى شمر وعمرو ... بيوتاً غير ضاحية الظلال
فأنت ابن الأكارم من معد ... تعتلج الأباطح والرمال
وقارضه بإجزاله لعطايه، وانتمائه في ثوابه، بأن أغلظ القسم على نفسه، بأن لا يراه، إلا أعطاه ما حضره، فكان أبو الأجرب قد اعتمد اجتنابه في اللقاء، حياء منه، وإبقاء على ماله، فكان لا يزوره إلا في العيدين، قاضياً لحقه. وقد لقيه يوماً مواجهة ببعض الطريق، والصميل راكب، ومعه ابناه فلم يحضره ما يعطيه، فأرجل أحد أبنية، وأعطاه دابته، فضرب في صنعه، وفيه يقول من قصيدة:
دون الصميل شريعة مورودة ... لا يستطيع لها العدو ورودا
فت الورى وجمعت أشتات العلا ... وحويت مجداً لا ينال وجودا
فإذا هلكت فلا تحمل فارس ... سيفا ولا حمل النساء وليدا
وكان صاحب أمره ولاه الأندلس قبل الأمويين، لهم الأسماء، وله معنى الإمرة، وكان مظفر الحروب، سديد الرأي، شهير الموقف، عظيم الصبر. وأوقع باليمانية وقايع كثيرة، منها وقيعة شقندة، ولم يكن بالأندلس مثلها، أثخن فيها القتل باليمانية.
أنفته قال: وكان أبياً للضيم، محامياً عن العشيرة، كلم أبا الخطار الأمير، في رجل من قومه، انتصر به، فأفجمه، ورد عليه، فأمر به، فتمتع ومالت عمامته. فلما خرج قال له بعض من على باب الأمير، يا أبا الجوشن ما بال عمامتك مايلة، فقال إن كان لي قوم فسيقيمونها، وخرج من ليلته، فأفسد ملكه.

وفاؤه وخبر وفائه مشهور، فيما كان من جوابه لرسولي عبد الرحمن ابن معاوية إليه، بما قطع به رجاء الهوادة في أمر أميره، يوسف بن عبد الرحمن الفهري، والتستر مع ذلك عليهما، فلينظر في كتاب المقتبس.
دخوله غرناطةولما صار الأمر إلى عبد الرحمن بن معاوية، صقر بني أمية، وقهر الأمير يوسف الفهري، ووزيره الصميل، إذ عزله الناس، ورجع معه يوسف الفهري والصميل إلى قرطبة. ولم يلبثا أن نكثا، ولحقا فحص غرناطة، ونازلهما الأمير عبد الرحمن بن معاوية في خبر طويل، واستنزلهما عن عهد، وعاد الجميع إلى قرطبة، وكان يوسف والصميل يركبان إلى القصر كل جمعة إلى ا، مضيا لسبيلهما. وكان عبد الرحمن بن معاوية يسترجع. ويقول ما رأيت مثله رجلاً. لقد صحبني من إلبيرة إلى قرطبة، فما مست ركبتي ركبته، ولا خرجت دابته عن دابتي.
ومن الكتاب والشعراء
صفوان بن إدريس التجيبيصفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي من أهل مرسية، يكنى أبا بجر.
حالهكان أديباً، حسيباً جليلاً، أصيلاً، ممتعاً من الظرف، ريان من الأدب، حافظاً، حسن الخط، سريع البديهة، ترف النشأة، على تصاون وعفاف، جميلاً سرياً، سمحاً ذكياً، مليح العشرة، طيب النفس، ممن تساوى حظه في النظم والنثر، على تباين الناس في ذلك.
مشيختهروى عن أبيه وخاله، ابن عم أبيه القاضي أبي القاسم بن إدريس، وأبي بكر بن مغاور، وأبي الحسن بن القايم، وأبي رجال بن غلبون، وأبي عبد الله بن حميد، وأبي العباس بن مضاء، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد الحجري، وابن حوط الله، وأبي الوليد بن رشد. وأجاز له أبو القاسم ابن بشكوال.
من روى عنه: أبو إسحق اليابري، وأبو الربيع بن سالم، وأبو عبد الله ابن أبي البقاء، وأبو عمر بن سالم، ومحمد بن محمد بن عيشون.
تواليفهله تواليف أدبية منها: زاد المسافر، وكتاب الرحلة، وكتاب العجالة سفران يتضمنان من نظمه ونثره، أدباً لا كفاء له. وانفرد من تأبين الحسين رضي الله عنه، وبكاء أهل البيت. بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة.
شعرهثبت من ذلك في العجالة قوله:
جاد الزمان بأنه الجرعاء ... توقان من دمعي وغيث سماء
فالدمع يقضى عندها حق الهوى ... والغيم حق البانة الغيناء
خلت الصدور من القلوب كما خلت ... تلك المقاصر من مهي وظباء
ولقد أقول لصاحبي وإنما ... ذخر الصديق لأمجد الأشياء
يا صاحبي ولا أقل إذا أنا ... ناديت من إن تصغيا لنداء
عوجاً بحار الغيم في سقى الحما ... حتى ترى كيف انسكاب الماء
ونسن في سقي المنازل سنة ... نمضي بها حكماً على الظرفاء
يا منزلاً نشطت إليه عبرتي ... حتى تبسم زهره لبكاء
ما كنت قبل مزار ربعك عالما ... أن المدامع أصدق الأنواء
يا ليت شعري والزمان تنقل ... والدهر ناسخ سدة برخاء
هل نلتقي في روضة موشية ... خفاقة الأغصان والأفياء
وننال فيها من تألفنا ولو ... ما فيه سخمة أعين الرقباء
في حيث أتلعت الغصون سوالفاً ... قد قلدت بلآلي الأنداء
وجرت ثغور الياسمين فقبلت ... عيني عذار الآسة الميساء
والورد في شط الخليج كأنه ... رمد ألم بمقلة زرقاء
وكأن غصن الزهر في خضر الربى ... زهر النجوم تلوح بالخضراء
وكأنما جاء النسيم مبشراً ... للروض يخبره بطول بقاء
فكساه خلعة طيبه ورمى له ... بدراهم الأزهار رمي سخاء
وكأنما احتقر الصنيع فبادرت ... بالعذر عنه نغمة الورقاء
والغصن يرقص في حلى أوراقه ... كالخود في موشية خضراء
وافتر ثغر الأقحوان بما رأى ... طرباً وقهقه منه جري الماء

أفديه من أنس تصرم فانقض ... فكأنه قد كان في الإغفاء
لم يبق منه غير ذكر أو منى ... وكلاهما سبب لطول عناء
أو رقعة من صاحب هي تحفة ... إن الرقاع لتحفة النبهاء
كبطاقة الوسمي إذ حيا بها ... إن الكتاب تحية الظرفاء
وهي طويلة. وقال مراجعاً عن كتاب أيضاً:
ألا سمح الزمان به كتابا ... ذرى بوروده أنسى قبابا
فلا أدري أكان تحت وعد ... دعا بهما لبرئي فاستجابا
وقد ظفرت يدي بالغنم منه ... فليت الدهر سني لي إيابا
فلو لم أستفد شيئاً سواه ... قنعت يمثله علقاً لبابا
إذا أحرزت هذا في اغترابي ... فدعني بمثله علقاً لبابا
رجمت بأنه شيطان همي ... فهل وجهت طرساً أم شهابا
رشقت به رضاب الود عذباً ... يذكرني شمايلك العذابا
وكدت أجر أذيالي نشاطاً ... ولكن خلت قولهم تصابا
فضضت ختامه عنى كأني ... فتحت بفضه للروض بابا
فكدت أبثه في جفن عيني ... لكي أستودع الزهر السحابا
وكنت أصونه في القلب لكن ... خشيت عليه أن يفنى التهابا
ولو أن الليالي سامحتني ... لكنت على كتابكم الجوابا
فأبلى عندكم بالشكر عذرا ... وأجزل من ثنايكم الثوابا
ولكن الليالي قيدتني ... وقيدت غرضي إلا الخطايا
فما تلقاني الأحباب إلا ... سلاماً أو مناما أو كتابا
لأمر ما يقص الدهر رشي ... لأن السهم مهما ريش صابا
وعاذلة تقول ولست أصغي ... ولو أصغيت لم أرفع جوابا
تخوفني الدواهي وهي عندي ... أقل من أن أضيق بها جنابا
إذا طرقت أعد لها قراها ... وقاراً واحتساباً واصطبارا
وما مثلي يخوف بالدواهي ... عرين الليث لا يخشى الذبابا
تعاتبني فلا يرتد طرفي ... وهل تسترقص الريح الهضابا
ولو أن العتاب يفيد شيئاً ... ملأت مسامع الدنيا عتابا
وقد وصيتها بالصمت عني ... فما صمتت ولا قالت صوابا
تعنفني على تركي بلاداً ... عهدت بها القرارة والشبابا
تقول وهل يفل السيف إلا ... إذا ما فارق السيف القرابا
فقلت وهل يضر السيف فل ... إذا قط الجماجم والرقبا
بخوض الهول تكتسب المعالي ... يحل السهل من ركب الصعاب
فليت الغاب يفترس الأناسي ... وليث البيت يفترس الذبابا
ولو كان انقضاض الطير سهلاً ... لكانت كل طائرة عقابا
دعيني والنهار أسير فيه ... أسير عزايم تفرى الصلابا
أغازل من غزالته فتاة ... تبيض فودها هرماً وشبابا
إذا شاءت مواصلتي تجلت ... وإن ملت توارت لي احتجابا
وأسري الليل لا ألوي عنانا ... ولو نيل الأماني لما أصابا
أطارح من كواكبه كماما ... وأزجر من دجنته غرابا
وأركب شهباً غيراً كباعي ... وخضراً مثل خاطري انسيابا
وآخذ من بنات الدهر حقي ... جهاز البيت استلب استلابا
ولست أذيل بالمدح القوافي ... ولا أرضى بخطتها اكتسابا
أأمدح من به أهجو مديحي ... إذا طيبت بالمسك الكلاما
سأخزنها عن الأسماع حتى ... أرد الصمت بينهما حجابا
فلست بمادح ما عشت إلا ... سيوفاً أو جياداً أو صحابا
أبا موسى وإني أخى وداد ... أناجي لو سمعت إذا أجابا
ولكن دون ذلك مهمة لو ... طوته الريح لم ترج الإيابا
أخى بر المودة كل بر ... إذا بر الأشقة الانتسابا

بعثت إليك من نظمى بدر ... شققت عليه من فكري عبابا
عداني الدهر إن يلقاك شخصي ... فأغني الشعر عن شخصي ونابا
وقال في الغرض الذي نظم فيه الرصافي من وصف بلده، وذكر إخوانه ومعاهده، مساجلاً في العروض والروى، عقب رسالة سماها رسالة طراد الجياد في الميدان، وتنازع اللدان والإخوان، في تنفيق مرسية على غيرها من البلدان.
هل رسول البرق يغتنم الأجرا ... فينشر عني ماء غيرته نثراً
معاملة أربو بها غير مذنب ... فأقضيه دمع العين من نقطة بحراً
ليسقني من تدمير قطرا محبباً ... يقر بعين القطر أن تشرب القطرا
ويقرضه ذوب اللجين وإنما ... توفيه عيني من مدامعها تبرا
وما ذاك تقصيراً بها غير أنه ... سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا
خليلي قوما فأحبسا طرق الصبا ... مخافة أن تحمى بزفرتي الحرا
فإن الصبا ريح على كريمة ... بآية ما تسري من الجنة الصغرا
خليلي أعني أرض مرسية المنا ... ولولا توخي الصدق سميتها الكبرا
محلي بل جوى الذي عبقت به ... نواسم آدابي معطرة نشرا
ووكري الذي منه درجت فليتني ... فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا
وما روضة الخضراء قد شلت بها ... مجرتها نهراً وأنجمها زهرا
بأبهج منها والخليج مجرة ... وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا
وقد أسكرت أزهار أغصانها الصبا ... وما كنت أعتد الصبا قبلها خمرا
هنالك بين الغصن والقطر والصبا ... وزهر الربى ولدت آدابي الغرا
إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ... تعلم نظام النثر من ها هنا شعرا
وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى ... تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا
فوايد أسحار هناك اقتبستها ... ولم أر روضاً غيره يقررئ السحرا
كأن هزيز الريح يمدح روضها ... فتملأ فاه من أزاهرها دراً
أيارنقات الحسن هل فيك نظرة ... من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا
فأنظر من هذي لتلك كأنما ... أغير إذ غازلتها أختها الأخرا
هي الكاعب الحسناء تمم حسنها ... وقدت لها أوراقها حللاً خضرا
إذا خطبت أعطت دراهم زهرها ... وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا
وقامت بعرس الأنس قينة أيكة أغاريدها تسترقص الغصن النضرا
فقل في خليج يلبس الحوت درعه ... ولكنه لا يستطيع بها قصرا
إذا ما بدا فيها الهلال رأيته ... كصفحة سيف وسمها قبعة صضرا
وإن لاح فيها البدر شبهت متنه ... بسطر لجين ضم من ذهب عشرا
وفي جرفي روض هناك تجافيا ... لنهر يود الأفق لو زاره فجرا
كأنهما خلا صفاء تعاتبا ... وقد بكيا من رقة ذلك النهرا
وكم لي بالباب الجديد عشية ... من الأنس ما فيه سوى أنه مرا
عشيات كأن الدهر غص بحسنها ... فأجلت سياط البرق أفراسها الشقرا
عليهن أجرى خليل دمعي بوجنتي ... إذا ركبت حمراً ميادينها الصفرا
أعهدي بالغرس المنعم دوحه ... سقتك دموعي إنها مزنة شكرا
فكم فيك من يوم أغر محجل ... تقضت أمانيه مخلدتها ذكرا
على مذنب كالنحر من فرط حسنه ... تود الثريا أن تكون له نحرا
سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى ... نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا
وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم ... لما فارقت عيني وجوههم الزهرا
ولو كنت أقضي حق نفسي ولم أكن ... لما بت أستحلي فراقهم المرا

وما اخترت هذا البعد إلا ضروة ... وهل تستجير العين أن تفقد الشقرا
قضى الله أن ينأى بي الدهر عنهم ... أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا
ووالله لو نلت المنا ما حمدتها ... وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا
أيانس باللذات قلبي ودونهم ... مرام يجد الركب في طيها شهرا
ويصحب هادي الليل راء وحرفة ... وصاداً ونوناً قد تقوس واصفرا
فديتهم بانوا وضنوا بكتبهم ... فلا خبراً منهم لقيت ولا خبرا
ولولا علا هماتهم لعتبتهم ... ولكن عراب الخيل لا تحمل الزجرا
ضربت غبار البيد في مهرق السرى ... بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا
وحققت ذاك الضرب جمعاً وعدة ... وطرحاً وتجميلاً فأخرج لي صفرا
كأن زماني حاسب متعسف ... يطارحني كسراً أما يحسن الجبرا
فكم عارف بي وهو يحسب رتبتي ... فيمدحني سراً ويشتمني جهرا
لذلك ما أعطيت نفسي حقها ... وقلت لسرب الشعر لا تهم الفكرا
فما برحت فكري عذاري قصايدي ... ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا
ولست وإن طاشت سهامي بايس ... فإن مع العذر الذي يتقى يسرا
ومن مقطوعاته:
يا قمرا مطلعه أضلعى ... له سواد القلب منها غسق
وربما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لوتها عن شفق
ملكتني في دولة من صبا ... وصدتني في شرك من حدق
عندي من حبيبك ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق
ومن مقطوعاته أيضاً:
قد كان لي قلب فلما فارقوا ... سوى جناحاً للغرام وطارا
وجرت سحاب بالدموع فأوقدت ... بين الجوانح لوعة وأوارا
ومن العجايب أن فيض مدامعي ... ماء ويقمر في ضلوعي نارا
وشعره الرمل والقطر كثرة، فلنختم له المقطوعات بقوله:
قالوا وقد طال بي مدى خطئ ... ولم أزل في تجرمي ساه
أعددت شيئاً نرجو النجاة به ... فقلت أعددت رحمة الله
نثرهكتب يهني، قاضي الجماعة أبا القاسم بن بقي من رسالة: لأن قدره، دام عمره، وامتثل نهيه الشرعي وأمره، أعلى رتبة، وأكرم محلاً، من أن يتحلى بخطة هي به تتحلى. كيف يهنأ بالقعود لسماع دعوة الباطل، ولمعاناة الإنصاف الممطول من الماطل، والتعب في المعادلة، بين ذوي المجادلة. أما لو علم المتشوقون إلى خطة الأحكام، المستشرقون إلى ما لها من التبسط والاحتكام، ما يجب لها من اللوازم، والشروط الجوازم، كبسط الكنف، ورفع الجنف، والمساواة بين العدو وذي الذنب، والصاحب بالجنب، وتقديم ابن السبيل، على ذي الرحم والقبيل، وإيثار الغريب على القريب، والتوسع في الأخلاق، حتى لمن ليس له من خلاق، إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه، واستعمل لخلقه الفاضل أدناه وأقصاه، لجعلوا خمولهم ما مولهم، وأضربوا عن ظهورهم، فنبذوه وراء ظهورهم، اللهم إلا من أوتى بسطة في العلم، ورسا طوداً في ساحة الحلم، وتساوى ميزانه في الحرب والسلم، وكان كقاضي الجماعة، في المماثلة بين أجناس الناس، فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر، لا المتعسف والزجر، ويتولاها للثواب. لا للغلظة في رد الجواب، ويأخذها لحسن الجزاء، لا لقبح الاستهزاء، ويلتزمها لجزيل الذخر لا للإزراء والسخر. فإذا كان كذلك، وسلك المولي هذا السالك، وكان كقاضي الجماعة ولا مثل له، ونفع الحق به علله، ونقع غلله، فيومئذ تهنأ به خطة القضاء، ويعرف ما لله عليه من اليد البيضاء.
ومحاسنه في النثر أيضاً جمة.

ومن أخباره أنه رحل إلى مراكش متسبباً في جهاز بنت بلغت التزويج، وقصد دار الإمارة مادحاً، فما تيسر له شيء من أمله، ففكر في خيبة قصده، وقال لو كنت تأملت جهة الله، ومدحت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الطاهرين، لبلغت أملي بمحمود عملي. ثم استغفر الله في توجهه الأول، وعلم أن ليس على غير الثاني من معول، فلم يكن إلا أن صوب نحو هذا القصد سهمه، وأمضى فيه عزمه، وإذا به قد وجه عنه، وأدخل على الخليفة، فسأله عن مقصده. فأخبره مفصحاً به فأنفذه وزاده عليه، وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم بأمره بقضاء حاجته. فانفصل موفي الأغراض، واستمر في مدح أهل البيت حتى اشتهر في ذلك.
وفاتهسنة ثمان وتسعين وخمسماية، وسنه دون الأربعين سنة، وصلى عليه أبوه، فإنه كان بمكان من الدين والفضل رحمة الله عليه، وتلقيت من جهات، أنه دخل غرناطة، لما امتدح القايد أبا عبد الله بن صناديد بمدينة جيان، حسبما يظهر من عجالته، من غير تحقيق لذلك.
صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم

ابن علي بن شريف النفري
من أهل رندة، يكنى أبا الطيب.
حالهقال ابن الزبير، شاعر مجيد في المدح والغزل، وغير ذلك. وعنده مشاركة في الحساب والفرايض. نظم في ذلك. وله تواليف أدبية، وقصايد زهدية، وجزء على حديث جبريل عليه السلام، وغير ذلك مما روى عنه. وكان في الجملة معدوداً في أهل الخير، وذوي الفضل والدين. تكر لقائي إياه، وقد أقام بمالقة أشهراً، أيام إقراءي. وكان لا يفارق مجالس إقراءي، وأنشدني كثيراً من شعره.
وقال ابن عبد الملك، كان خاتمة الأدباء بالأندلس، بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيهاً حافظاً، فرضيا، متفنناً في معارف شتى، نبيل المقاصد، متواضعاً، مقتصداً في أحواله. وله مقامات بديعة في أغراض شتى، وكلامه نظما ونثرا، مدون.
مشيختهروى عن آباء الحسن أبيه، والدباج، وابن الفخار الشريشي، وابن قطرال، وأبي الحسن بن زرقون، وأبي القاسم بن الجد.
تواليفهألف جزءا على حديث جبريل، وتصنيفاً في الفرايض وأعمالها، وآخر في العروض، وآخر في صنعة الشعر سماه الوافي في علم القوافي وله كتاب كبير سماه روضة الأنس، ونزهة النفس.
دخوله غرناطةوكان كثير الوفاد على غرناطة، والترد إليها، يسترفد، ملوكها، وينشد أمراءها، والقصيدة التي أولها:
أواصلتي يوماً وهاجرتي ألفاً
أخبرني شيخنا أبو عبد الله اللوشي، أنه نظمها باقتراح السلطان رحمه الله. وقد أوعز إليه ألا يخرج عن بعض بساتين الملك، حتى يكملها في معاضة محمد بن هاني الإلبيري.
شعرهوهو كثير، سهل المأخذ، عذب اللفظ، رايق المعنى، غير مؤثر للجزالة. فمن ذلك قوله رحمه الله في غرض المدح من السلطانيات:
سرى والحب أمر لا يرام ... وقد أغرى به الشوق والغرام
وأغفى أهلها إلا وشاة ... إذا نام الحوادث لا تنام
وما أخفا بين القوم إلا ضناً ... وربما نفع السقام
فنال بها على قدر مناه ... وبين القبض والبسط القوام
وأشهى الوصل ما كان اختلاسا ... وخير الحب ما فيه اختتام
وما أحلى الوصال لو أن شيئاً ... من الدنيا للذته دوام
بكيت من الفراق بغير أرضي ... وقد يبكي الغريب المستهام
أعاذلتي وقد فارقت إلفي ... أمثلى في صبابته يلام
أأفقده فلا أبكي عليه ... يكون أرق من قلبي الحمام
أأنساه فأحبه كصبري ... وهل ينسى لمحبوب ذمام
رويداً إن بعض اللوم لوم ... ومثلي لا ينهنهه الملام
ويوم نوى وضعت الكف فيه ... على قلب يطير به الهيام
ولولا أن سفحت به جفوناً ... تفيض دماً لأحرقها الضرام
وليل بته كالدهر طولاً ... تنكر لي وعرفه التمام
كأن سماه زهر تجلى ... بزهر الزهر والشوق الكمام
كأن البدر تحت الغيم وجه ... عليه من ملاحه لثام

كأن الكوكب الدري كأس ... وقد رق الزجاجة والمدام
كأن سطور أفلاك الدراري ... قسي والرجوم لها سهام
كأن مدار قطب بنات نعش ... ندي والنجوم به ندام
كأن بناته الكبرى جوار ... حوار والسهى فيها غلام
كأن بناته الصغرى جمان ... على لباتها منها نظام
كواكب بت أرعاهن حتى ... كأني عاشق وهي الذمام
إلي أن مزقت كسف الثريا ... جيوب الأفق وانجاب الظلام
فما خلت انصداع الفجر إلا ... قراباً ينتضي مسنه حام
وما شبهت وجه الشمس إلا ... بوجهك أيها الملك الهمام
وإن شبهته بالبدر يوماً ... فللبدر الملاحة والتمام
تهلل منه حسن الدهر حتى ... كأنك في محياه ابتسام
وعرف ما تنكر من معال ... كأنك لاسمها ألف ولام
ومل العين منك جلال مولى ... صنائعه كغرته وسام
إذا ما قيل في يده غمام ... فقد بخست وقد خدع الغمام
وحشو الدرع أروع غالبي ... يراع بذكره الجيش اللهام
إذا ما سل سيف العزم يوما ... على أمر فسلم يا سلام
تناهى مجده كرماً وبأساً ... فما يدري أمحياً أم حمام
نمته للمكارم والمعالي ... سراة من بني نصر كرام
هم الأنصار هم نصروا وآووا ... ولولا المسك ما طاب الختام
وهم قادوا الجيوش لك فتح ... ولولا الجد ما قطع الحسام
وهم منحوا الجزيرة من حماهم ... جواراً لا يذم ولا يضام
فمن حرب تشيب له النواصي ... وسلم تحيته سلام
بسعدك يا محمد عز دين ... وغب السلم نصر مستدام
وكان مرامه صعباً ولكن ... بحمد الله قد سهل المرام
أدام الله أمرك من أمير ... وما للعروة الوثقى انفصام
وروح أنت والجسم المعالي ... ومعنى أنت وللفظ الأنام
إذا ما ضاقت الدنيا بحر ... كفاه لثم كفك والسلام
ومن شعره أيضاً:
أواصلتي يوماً وهاجرتي ألفاً ... وصالك ما أحلى وهجرك ما أجفا
ومن عجب للطيف أن جاء واهتدى ... فعاد عليلاً عاد كالطيف أم أخفا
فيا سايراً لولا التخيل ما سرى ... ويا شاهداً لولا التعلل ما أغفا
ألم فأحياني وولي فراعني ... ولم أرى أجفى منك طبعاً ولا أشفا
بعيني شكواي للغرام وتيهه ... إلى أن تثنى عطفه فانثني عطافا
فعانقته شوقاً وقبلته هوى ... ولا قبلة تكفي ولا لوعة تطفا
ومن نزعاته العجيبة قوله، وقد سبق إلى غرضه غيره:
يا طلعة الشمس إلا إنه قمر ... أما هواك فلا يبقى ولا يذر
كيف التخلص من عينيك لي ومتى ... وفيهما القاتلان الغنج والحور
وكيف يسلى فؤادي عن صبابته ... ولو نهى الناهيان الشيب والكبر
أنت المنا والمنايا فيك قد جمعت ... وعندك الحالتان النفع والضرر
ولي من الشوق ما لا دواء له ... ومنك لي الشافيان القرب والنظر
وفي وصالك ما أبقى به رمقي ... لو ساعد المسعدان الذكر والقدر
وكان طيف خيال منك يقنعني ... لو يذهب المانعان الدمع والسهر
يا نابياً لم يكن إلا ليملكني ... من بعده المهلكان الغم والغير
ما غبت إلا وغاب الجنس أجمعه ... واستوحش المؤنسان السمع والبصر
بما تكن ضلوعي في هواك بمن ... يعنو له الساجدان النجم والشجر
إدرك بقية نفس لست مدركها ... إذا مضى الهاديان العين والأثر

ودل حيرة مهجور بلا سبب ... يبكي له القاسيان الدهر والحجر
وإن أبيت فلي من ليس يسلمني ... إذا نبا المذهبان الورد والصدر
مؤيداً لملك بالآراء يحكمها ... في ضمنها المبهجان اليمن والظفر
من كالأمير أبى عبد الآله إذا ما ... خانت القدمان البيض والسمر
الواهب الخيل آلافا وفارسها ... إذا استوى المهطعان الصر والصبر
والمشبه الليث في بأس وفي خطر ... ونعمت الحليتان البأس والخفر
تأمن الناس في أيامه ومشوا ... كما مشى الصاحبان الشاة والنمر
وزال ما كان من خوف ومن حذر ... فما ير الدايلان الخوف والحذر
رأيت منه الذي كنت أسمعه ... وحبذا الطيبان الخبر والخبر
ما شيت من شيم عليا ومن شيم ... كأنها الرايقان الظل والزهر
ومنا أردت من إحسان ومن كرم ... ينسى به الأجودان البحر والمطر
وغرة يتلألأ من سماحتها ... كأنها النهران الشمس والقمر
إيه فلولا دواع من محبته ... لم يسهل الأصعبان البين والخطر
نأيت عنه اضطرارا ثم عدت له ... كما اقتضى المبرمان الحل والسفر
فإن قضى الله أن يقضي به أملي ... فحسبي المحسبان الظل والثمر
ولست أبعد إذ والحال متسع ... أن يبلغ الغايبان السؤل والوطر
ومن شعره في أغراض متعددة. قال في الليل والسهر:
أطال ليلى الكمد ... فالدهر عندي سرمد
وما أظن أنه لليلة الهجر غد
أقد هنياً إنني ... لا أستطيع أرقد
لواعج ما تنطفي ... وأدمع تضطرد
وكبدي كبد الهوى ... وأين مني الكبد
ولا تسل عن جلدي ... والله مالي جلد
ومن شعره أيضاً في المقطوعات:
وليلة قصر من طولها ... بزورة من رشاً نافر
أستوفر الدهر بها غالطاً ... فأدغم الأول والآخر
وقال من قصيدة مغربة في الإحسان:
وليلة نبهت أجفانها ... والفجر قد فجر نهر النهار
والليل كالمهزوم في يوم الوغا ... والشهب مثل الشهب عند الفرار
كأنما استخفى السهى خيفة ... وطولب النجم بثأر فثار
لذاك ما شابت نواصي الدجى ... وطارح النسر أخاه فطار
وفي الثريا قمر سافر ... عن غرة غير منها الشفار
كأن عنقوداً بها ماثل ... إذ صار كالعرجون عند السرار
كأنها تسبك ديناره ... وكفها تفتل منه سوار
كأنما الظلماء مظلومة ... تحكم الفجر عليها فجار
كأنما الصبح لمشتاقه ... إقبال دنيا بعد ذل افتقار
كأنما الشمس وقد أشرقت ... وجه أبي عبد الآله استنار
وفي وصف البحر والأنهار وما في معنى ذلك:
البحر أعظم مما أنت تحسبه ... من لم ير البحر يوما ما رأى عجبا
طام له حبب طاف على زورق ... مثل السماء إذا ما ملئت شهبا
وقال في وصف نهر:
وأزرق محفوف بزهر كأنه ... نجوم بأكناف المجرة تزهر
يسيل على مثل الجمان مسلسلا ... كما سل عن غمد حسام مجوهر
وقد صافح الأدواح من صفحاته ... حتى حباب بالنسيم مكسر
فما كان في عطف الخليج قلامة ... وما كان في وجه الغدير فمغفر
وفي العقل والتغرب:
ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصونه الحر أسراره
لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره
ومن وصفه الجيش والسلاح:
وكتيبة بالدرعين كثيفة ... جرت ذيول الجحفل الجرار

وروض المنايا بينها القضب التي ... زفت بها الرايات كالأزهار
فيها الكماة بنو الكماة كأنها ... أسد الشرى بين القنا الخطار
متهللين لدى اللقاء كأنهم ... خلقت وجوههم من الأقمار
من كل ليث فوق برق خاطف ... بيمينه قدر من الأقدار
من كل ماض قد تقلد مثله ... فيصب آجالاً على الأعمار
لبسوا القلوب على الدروع وأسرعوا لأكفهم ناراً لأهل النار
وتقدموا ولهم على أعدايهم ... حنق العدا وحمية الأنصار
فارتاع ناقوس بخلع لسابه ... وبكى الصليب لذلة الكفار
ثم انثنوا عنه وعن عباده ... وقد أصبحو خيراً من الأخبار
وفي السيف:
وأبيض صيغ من ماء ومن لهب ... على اعتدال فلم يخمد ولم يسل
ماضي الغرار يهاب العمر صولته ... كأنما هو مطبوع من الأجل
أبهى من الوصل بعد الهجر منظره ... حسناً وأقطع من دين على مال
وأسمر ظن ما كل سابغة فخاض كالأيم يستشفى من النهل
هام الكماة به حباً ولا عجب ... من لوعة بمليح القد معتدل
إذا الطعين تلقاه وأرعفه ... حسبته عاشقاً يبكي على طلل
ومن ذلك قوله في وصف قوس:
تنكبها كحاجبه وسوى ... بأهداف الجفون لها نبالا
فلم أر قبله بدراً منيرا ... تحمل فوق عاتقه هلالا
ومن ذلك وصف قلم:
وأصفر كالصب في رونق ... تظن به الحب ممن نحل
بديع الصفات حديد السبات ... يطول الرماح وإن لم يطل
يعبر عما وراء الضمير ... ويفعل ما فعل الظبا والذبل
ومن ذلك قوله فيما يظهر منها:
تفاخر السيف فيما قيل والقلم ... والفصل بينهما لا شك من فهم
كلاهما شرف الله درهما ... وحبذ الخطتان الحكم والحكم
ومن ذلك قوله في سكين الدواة:
أنا صمصامة الكتابة مالي ... من شبيه في المرهفات الرقاق
فكأني في الحسن يوم وصال ... وكأني في القطع يوم فراق
ومن ذلك قوله في المقص:
ومعتنقين ما اشتهرا بعشق ... وإن وصفا بضم واعتناق
لعمر أبيك ما اعتنقا لمعنى ... سوى معنى القطيعة والفراق
ومن ذلك قوله في الورد:
الورد سلطان كل زهر ... لو إنه دايم الورود
بعد خدود الملاح شيء ... ما أشبه الورد بالخدود
ومن ذلك قوله في الخيري:
وأزرق كمثل السماء ... فيه لمن ينظر سر عجيب
شح مع الصبح بأنفاسه ... كأنما الصبح عليه رقيب
وباح بالليل بأسراره ... لما رأى الليل نهار الأريب
ومن ذلك قوله في الريحان:
وأخضر فستقي اللون غض ... يروق بحسن منظره العيونا
أغار على الترنج وقد حكاه ... وزاد على اسمه ألفاً ونونا
وقال من جملة قصايده المطولات، التي تفنن فيها رحمه الله:
وغانية يغنى عن العود صوتها ... وجارية تسقى وساقية تجري
بحيث يجر النهر ذيل مجرة ... يرف على حافاتها الزهر كالزهر
وقد هزت الأرواح خصر كتايب ... بألوية بيض على أسل سمر
رمى قزح نبلاً إليها فجردت ... سيوف سواقيها على دارع النهر
وهبت صبا نجد فجرت غلايلا ... تجفف دمع الطل عن وجنة الزهر
كأن بصفح الروض وشى صحيفة ... وكالألفات القضب والطرس كالتبر
كأن به الأقحوان خواتما ... مفضضة فيها فصوص من التبر
كأن به النرجس الغض أعيا ... ترقرق في أجفانها أدمع القطر
كأن شذا الخيري زورة عاشق ... يرى أن جنح الليل أكتم للسرر
وقال في وصف الرمان:
لله رمانة قد راق منظرها ... فمثلها ببديع الحسن منعوت
القشر حق لها قد ضم داخله ... والشحم قطن والحب ياقوت

أنظر إلى جذر في اللون مختلف ... البعض من سج والبعض من ذهب
ومن ذلك قوله في الجزر:
إن قلت قصب فقل قصب بلا ... زهر أو قلت شمع فقل شمع بلا لهب
وفي الاغتراب وما يتعلق به مما يقرب من المطولات:
غريب كما يلقى غريب ... فلا وطن لديه ولا حبيب
تذكر أصله فبكى اشتياقا ... وليس غريباً أن يبكي غريب
ومما هاج أشواقي حديث ... جرى فجرى له الدمع السكوب
ذكرت به الشباب فشق قلبي ... ألم تر كيف تنشق القلوب
على زمن الصبا فليبك ومثلي ... فما زمن الصبا إلا عجيب
جهلت شبيبتي حتى تولت ... وقدر الشيء يعرف إذ يغيب
ألا ذكر الآله بكل خير ... بلاداً لا يضيع بها أديب
بلاد ماؤها عذب زلال ... وريح هوائها مسك رطيب
بها قلبى الذي قلبى المعنى ... يكاد من الحنين له يذوب
رزقت الصبر بلين أبي وأمي ... كلانا بعد صاحبه كئيب
ألا فتوخ بعدى من أؤاخي ... ودع ما لا يريب لما يريب
ولا تحكم بأول ما تراه ... فإن الفجر أوله كذوب
إلا إنا خلقنا في زمان ... يشيب بهوله من لا يشيب
وقد لذ الحمام وطاب عندي ... وعيشي لا يلذ ولا يطيب
لحى الله الضرورة فهي بلوى ... تهين الحر والبلوى ضروب
رأيت المال يستر كل عيب ... ولا تخفى مع الفقر العيوب
وفقد المال في التحقيق عندي ... كفقد الروح ذا من ذا قريب
وقد أجهدت نفسي في اجتهاد ... وما أن كل مجتهد مصيب
وقد تجري الأمور على قياس ... ولو تجري لعاش بها اللبيب
كأن العقل للدنيا عدو ... فما يقضي بها أرباً أريب
إذا لم يرزق الإنسان بختاً ... فما حسناته إلا ذنوب
ومن نسيبه قوله في بادرة من حمام:
برزت من الحمام تمسح وجهها ... عن مثل ماء الورد بالعناب
والماء يقطر من ذوائب شعرها ... كالطل يسقط من جناح غراب
فكأنها الشمس المنيرة في الضحى ... طلعت علينا من خلال سحاب
ومن مقطوعاته أيضاً قوله:
ومتيم لو كان صور نفسه ... ما زادها شيئاً سوى الإشفاق
ما كان يرضى بالصدود وإنما ... كثرت عليه مسائل العشاق
وقال:
وافي وقد زانه جمال ... فيه لعشاقه اعتذار
ثلاثة ما لها مثال ... الوجه والخد والعذار
فمن رآه رأى رياضا ... الورد والآس والبهار
ومن ذلك قوله في ذم إخوة السوء:
ليس لإخوة باللسان أخوة ... فإذا تراد أخوتي لا تنفع
لا أنت في الدنيا تفرج كربه ... عني ولا يوم القيامة تشفع
وقال كذلك:
ولقد عرفت الدهر حين خبرته ... وبلوت بالحاجات أهل زمان
فإذا الأخوة باللسان كثيرة ... وإذا الدراهم ميلق الإخوان
من ذلك قوله في الصبر:
الدهر لا يبقى على حاله ... لكنه يقبل أو يدبر
فإن تلقاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لا يصبر
ومن ذلك قوله في الموت:
الموت سر الله في خلقه ... وحكمة دلت على قهره
ما أصعب الموت وما بعده ... لو فكر الإنسان في أمره
أيام طاعات الفتى وحدها ... هي التي تحسب من عمره
لا تلهك الدنيا ولذاتها ... عن نهي مولاك ولا أمره
وأنظر إلى من ملك الأرض هل ... صح له منها سوى قبره
نثرهقال في كتاب روضة الأنس ما نصه:

ويتعلقبهذا الباب، ما خاطبني به الفقيه الكاتب الجليل، أبو بكر البرذعي من أهل بلدنا، أعزه الله: أخبرك بعجاب، إذ لا سر دونك ولا حجاب، بعد أن أتقدم إليك أن لا تجعل باللوم إلى قبل علم ما لدي، فإن الدهر أخدع من كفة الحابل، وقلب الإنسان للآفات قابل. مشيت يوماً إلى سوق الرقيق، لأخذ حق فؤاد عتيق، فرأيت بها جارية عسجدية اللون، حديثة عهد بالصون، متمايلة القد، قايمة النهد، بلحظ قد أوتى من السحر أوفر حظ، وفم كشرطة رشحت بدم، داخله سمطان لولاهما ما عرف النظم، ولا حكم على الدر للعظم، في صدغها لامان، ما خط شكلهما قلم، ولا قص مثلهما حلم. لها جيد تتمناه الغيد، وخصر هو قبضة الكف في الحصرر، وردف يظلمه من يشبه به بالحقف، ويدان خلقا للوشي، وقدمان أهلتا للثم لا للمشي، فتطاولت إليها الأعناق، وبذلت فيها الأعلاق، والمياسير عليها مغرم في القوم، وتسوم أهل السوم، وكل فيها يزيد، ليبلغ ما يريد، إلى أن جاء فتى صادق في حبه، لا يبالي بفساد ماله في صلاح قلبه، قعد المال عداً، ولم يجد غيره من التسليم بداً، فلما فاتتني، تركت الأشواق وأتتني، وانتقضت عزايم صبري فيما أتتني، فالله الله، تدارك أخاك سريعاً، قبل أن تلفيه من الوجد صريعاً، واستنزل خادماً، قبل أن تصبح عليه نادماً، ولن أحتاج أن أصفها إليك مع ما قصصته عليك، وقد أهديتها دراً، فخذها على جهة الفكاهة والدعابة.
ولا تطلع أخا جهل عليها ... فمن لم يدر قدر الشي عابه
فأجبته، نعم نعم، أنعم الله بالك، وسنى آمالك، أنا بحول الله أرتاد لك، من نحو هاتيك، ما يسليك ويؤاتيك، وإلا فبيضاً كاللجين، هل القلب والعين، زهرة غصن في روضة حسن، ذات ذوايب، كأنها الليل على نهار، أو بنفسج في بهار. لها وجه أبهى من الغنا، وأشهى من نيل المنا، فيه حاجبان كأنهما قوس صنعت من السبح، ورصعت بعاج من البلح، على عينين ساحرتين، وبالعقل ساخرتين، بهما تصاب الكبود، وتشق القلوب قبل الجلود، إلى فم كأنه ختام مسك، على نظام سلك، سقاه الحسن رحيقه، فأنبتت دره وعقيقه، وجيد في الحسن وحيد، على صدر كأنه من مرمر، فيه حقتا عاج طوقتا بعنبر، قد خلقتا لعض، في جسم غض، له خصر مدمج، وردفه يتموج، وأطراف كالعنم، رقمت رقم القلم، من اللايي شهدن ابن المؤمل، وقال في مثلها الأول، إن هي تاهت فمثلها تاها، أو هي باهت فمثلها باها، من أين للغصن مثل قامتها، أو أين لبدر مثل مرآها، ما فعلت في العقول صابية. ما فعلت في العقول عيناها، تملكني بالهوى وأملكها، فهأنا عبدها ومولاها، فأيهما لست بذلت فيه الجهد، وأرقيت للمجد والود إن شاء الله تعإلى. وأنا فيما عرض لسيدي، حفظه الله، على مايحب، أعذره ولا أعذله، وأنصره ولا أخذله لكني أقول كما قال بعض الحكماء، لا ينبغي لمن قلبه رقيق، أن يدخل سوق الرقيق، إلا أن يكون قد جمع بين المال والجمال، يتنافس في العالي، ويسترخص بالثمن الغالي، ولا يبالي بما قال الأيمة، إذا وجد من يلايمه، كما قال الشاعر:
ما انتفاع المحب بالمال إذا ... لم يتوصل به لوصل الحبيب
إنما ينبغي بحكم الهوى أن ... ينفق المال في صلاح القلوب
والسلام على سيدي، ما كانت الفكاهة من شأن الوفا، والمداعبة من شيم الظرفا، ورحمة الله وبركاته.
مولده: ولد في محرم سنة إحدى وستماية.
وفاته: توفي في عام أربعة وثمانين وستماية.
نقلت من خط صاحبنا الفقيه المؤرخ، أبي الحسن بن الحسن. قال: أنشدني الشيخ الراوية الأديب القاضي الفاضل أبو الحجاج يوسف بن موسى بن سليمان المنتشافري، قال أنشدني القاضي الفاضل أبو القاسم ابن الوزير أبي الحجاج ابن الحقالة، قال أنشدني الأديب أبو الطيب صالح بن أبي خالد يزيد بن صالح بن شريف الرندي لنفسه، ليكتب على قبره:
خليلي بالود الذي بيننا اجعلا ... إذا مت قبرى عضة للترحم
عني مسلم يدنو فيدعو برحمة ... فإني محتاج لدعوة مسلم
حرف العين

من ترجمة الملوك والأمراء
عبد الله بن إبراهيم بن علي بن محمد التجيبي، الرئيس
أبو محمد بن إشقيلولة
أوليته
قد مر شيء من ذلك في اسم الرئيس أبي إسحق أبيه.
حاله

كان أميراً شهما، مضطلعاً بالقضية، شهير المواقف، أبي النفس، عالي الهمة، انتزى على خاله أمير المسلمين الغالب بالله، وكان أملك لما بيده من مدينة وادي آش ما إليها، معززاً بأخيه الرئيس أبي الحسن مظاهره في الأمر، ومشاركه في السلطان، واستمرت الحال مدة حياة خاله السلطان. ولما صار أمر إلى مخيفه ولي العهد. استشرى الداء، وأعضل الأمر، وعمت الفتنة، وزاحمه السلطان بالمنكب، انفجم، واعتوره بالحيلة، حتى تحيف أطرافه، وكان ما هو معلوم، من إجازة أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق البحر إلى الجهاد. ومال الحال بينه ويبين السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر إلى التقاطع، وتصيرت مالقة إلى الإيالة المغربية، ثم عادت إلى السلطان.
وفي أخريات هذه الأحوال، أحكم السلطان مع طاغية الروم، السلم، وصرف وجهه إلى مطالبة الرئيس أبي محمد، صاحب وادي آش، فالجأه الحال إلى أن صرف الدعوة بوادي آش إلى السلطان بالمغرب ورفع شعاره، فأقعد عنه. ووقعت مراسلات، أجلت عن انتقال الرئيس أبي محمد إلى المغرب، معوضاً عن مدينة وادي آش بقصر كتامة، وذلك في عام تسعة وثمانين وستماية.
وفاتهدخلت قصر كتامة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من ذي قعدة عام خمسة وخمسين وسبعماية في غرض الرسالة، وزرت مقبرة الرؤساء بني إشقيلولة بظاهرها، وفي قبة ضخمة البناء رحيبة الفناء، نسيجة وحدها بذلك البلد، بين منازل البلى، وديار الفناء، وبها قبر الرئيس أبي محمد هذا، عن يسار الداخل، بينه وبين جدار القبلة قبر، وسنامه رخام متوب عليه:
قبر عزيز علينا ... لو أن من فيه يفدا
أسكنت قرة عيني وقطعة القلب لحدا
ما زال حكماً عليه ... وما القضاء تعدا
فللصبر أحسن ثوب ... به العزيز تردا
وعند رأس السنام الرخامي، مهد مائل من الرخام فيه: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليماً. هذا قبر الرييس الجليل، الأعلى الهمام، الأوحد، الأسعد، المبارك، الأسنى، الأسمى، الأحفل، الأكمل، المجاهد، المقدس، المرحوم، أبي عبد الله، ابن الررئيس الجليل، الهمام، الأوحد، الأسعد، المبارك، الأمضى، الأسنى، الأسمى، المعظم، المرفع، المجاهد، الأرضى، المقدس، المرحوم أبي إسحق إبراهيم بن إشقيلولة، رحمه الله وعفا عنه، وأسكنه جنته. ظهر عفا الله عنه، بوادي آش، أمنها الله، قاعدة من قواعد الأندلس، وتسلكن، ونشرت علامات سلطنته، وضربت الطبول. وجاهد منها العدو، قصمه الله، وظهر على خاله سلطان الأندلس، وأقام في سلطنته، نحواً من ثلاث وعشرين سنة. ثم قام بدعوة الملك الأعلى، السلطان المؤيد المنصور، أمير المسلمين، المؤيد بالله أبي يعقوب أيده الله بنصره، وأمده بمعونته ويسره، فتنحى عن الأندلس للمغرب، أنسه الله، في جماد الأولى من عام ستة وثمانين وستماية، فأعطاه أيده الله، قصر عبد الكريم أمنه الله، وأنعم عليه، فأقام به مدة من ثمانية أعوام، وجاز منه إلى الأندلس، أمنها الله، وجاهد بها مرتين، ثم رجع إلى قصر عبد الكريم المذكور، وتوفي، شرف الله روحه الطيبة المجاهدة، عشي يوم السبت العاشر من شهر محرم سنة خمس وتسعين وستماية.
عبد الله بن زيرى بن مناد الصنهاجيعبد الله بن بلقين بن باديس بن حبوس بن ماكسن بن زيرى بن مناد الصنهاجي أمير غرناطة.
أوليته: قد مر من ذلك في اسم جده ما فيه كفاية.
حالهلقبه المظفر بالله، الناصر لدين الله. ولى بعد جده باديس في شوال سنة خمس وستين وأربعمائة، وصحبه سماجه الصنهاجي تسع سنين. قال الغافقي، وكان قد حاز حظاً وافراً من البلاغة والمعرفة، شاعراً، جيد الشعر، مطبوعه، حسن الخط. كانت بغرناطة ربعة مصحف بخطه في نهاية الصنعة والإتقان. ووصفه ابن الصيرفي فقال، كان جباناً مغمد السيف، قلقاً، لا يثبت على الظهر، عزهاة لا أرب له في النساء، هيابة، مفرط الجزع، يخلد إلى الراحات، ويستوزر الأغمار.
خلعه

قال، وفي عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة، تحرك أمير المسلمين، يوسف ابن تاشفين، لخلع رؤساء الأندلس، فأجاز البحر، ويمم قرطبة، وتواترت الأنباء عن حفيد باديس صاحب غرناطة، بما يغيظه ويحقده، حسبما تقدم في اسم مؤمل، مولى باديس. وقدم إلى غرناطة أربع محلات، فنزلت بمقربة منها، ولم تمتد يد إلى شيء يوجد، فسر الناس واستبشروا، وأمنت البادية، وتمايل أهل الحاضرة إلى القوى. وأسرع حفي باديس في المال، وألحق السوقة والحاكة، واستكثر من اللفيف، وألح بالكتب على أذفونش بما يطمعه. وتحقق يوسف بن تاشفين استشراف الحضرة إلى مقدمه، فتحرك. وفي ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من رجب، اجتمع إلى حفيد باديس صنائعه، فخوفوه من عاقبة التربص، وحملوه على الخروج إليه، فركب وركبت أمه وتركا القصر على حاله، ولقي أمير المسلمين، على فرسخين من المدينة، فترجل، وسأله العفو، فعفا عنه، ووقف عليه، وأمره بالركوب، فركب، وأٌبل حتى نزل بالمشايخ من خارج الحضرة. وضطربت المحلات، وأمر مؤملاً بثقافه في القصر، فتولى ذلك، وخرج الجم من أهل المدينة، فبايعوا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فلقيهم، وأنسهم، وسكن جأشهم، فاطمأنوا. وسهل مؤمل إليه دخول الأعيان، فأمر بكتب الصكوك، ورفع أنواع القبالات والخراج، إلا زكاة العين، وصدقة الماشية، وعشر الزرع. واستقصى ما كان بالقصر، فظهر على ما يحول الناظر، ويروع الخاطر، من الأعلاق والذخيرة، ولاحلي، ونفيس الجوهر، وأحجار الياقوت، وقصب المزمرد، وآنية الذهب والفضة، وأطباق البلور المحكم، والجردإذانات، والعراقيات، والثياب الرفيعة، والأنماط، والكل، والستاير، وأوطية الديباج، مما كان في ادخار باديس واكتسايه. وأقبلت دواب الظهر من المنكب بأحمال السبيك والمسبوك، اختلفت أم عبد الله لاستخراج ما أودع بطن الأرض، حتى لم يبق إلا الخرثى والثقل والسقط، ووزع ذلك الأمير على قواده، ولم يستأثر منه بشيء. قال، ورغب إليه مؤمل في دخول القصر، فركب إليه، وكثر استحسانه إياه، وأمر بحفظه، وتفقد أوضاعه وأقنيته. ونقل عبد الله إلى مراكش، وسنه يوم خلع، خمس وثلاثون سنة وسبعة أشهر، فاستقر بها هو وأخوه تميم، وحل اعتقالهما، ورفه عنهما، وأجرى المرتب والمساهمة عليهما. وأحسن عبد الله أداء الطاعة، مع لين الكلمة، فقضيت مآربه، وأسعفت رغباته، وخف على الدولة، واستراح واستريح منه، ورزق الولد في الخمول، فعاش له ابنان وبنت، جمع لهم المال. فلما توفي ترك مالاً جما.
مولدهولد عبد الله سنة سبع وأربعين وأربعماية.
عبد الله بن علي بن محمد التجيبيوالرئيس أبو محمد بن إشقيلولة
حالهكان رئيساً شجاعاً، بهمة، حازماً، أيداً، جلداً. تولى مدينة مالقة، عقب وفاة الرئيس واليها أبي الوليد بن أبي الحجاج بن نصر، صنو أمير المسلمين، الغالب بالله، في أوايل عام خمسة وخمسين وستماية. وكان صهر السلطان على إحدى بناته، وله منه محل كبير، ومكان قريب، وله من ملكه حظ رغيب. واستمرت حاله إلى عام أربعة وستين ستماية، وقد ما بينه وبين ولي العهد، الأمير أبي عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي عبد الله الغالب بالله، إذ وغر له صدره، ولا بنى أخيه الرئيسين أبي محمد وأبي الحسن إبني الرئيس أبي إسحق بن إشقيلولة المتأمرين بوادي آش، فضايقهم أخافهم، بما أداهم إلى الامتناع، والدعاء لأنفسهم، والاستمساك بما بأيديهم، وعمت المسلمين الفتنة المنسوبة إليهم. فانتزى هذا الرئيس بمدينة مالقة، وكان أملك لما بيده، واستعان بالنصري، وشمر عن ساعد الجد، فأباد الكثير من أعيان البلدة، في باب توسم التهم، وتطرق السعايات، واستولى على أموالهم. واستمرت الحال بين حرب أجلت فيها غلبة الأمير مخيفه، ولي العهد، بجيش النصرى، ونازل مالقة أربعين يوماً، وشعث الكثير بظاهرها، وتسمى بعلم الأمير عند أهل مالقة، وما بين سلم ومهادنة، وفي عام ستين وستماية، نازله السلطان الغالب بالله صهره، وأعيا عليه أمر مالقة، لأضطلاع هذا الرئيس بأمره، وضبط من لنظره، واستمساكه بعروة حزمه.

وفي بعض الأيام، ركب السلطان في ثلاثة من مماليكه، متخفياً، كاتماً غرضه، وقعد بباب المدينة. فلما بصر به الرجال القايمون به، هالهم الأمر، وأدهشتهم الهيبة، فأفرجوا له، موقرين لجلاله، آنسين لقلة أتباعه، فدخل، وقصد القصبة، وقد نذر به الرئيس أبو محمد، فبادر إليه راجلاً، متبذلاً، مهرولا، حافيا. ولما دنا منه، ترامى على رجليه يقبلهما، إظهاراً لحق أبوته، وتعظيماً لقدره، ودخل معه إلى بنته وحفدته، فترامى الجميع على أطرافه يلثمونها، ويتعلقون بأذياله وأدرانه، وهو يبكي إظهاراً للشفقة والمودة، وتكلم الجميل. وأقام معهم بياض يومه، ثم انصرف إلى محلته، وأتبعه الرئيس، فأمره بالاستمساك بقصبته وملازمة محل إمرته، وما لبث أن شرع في الارتحال عن ألطاف ومهادات، وتقدير جرايات، وإحكام هدية، وتقرير إمارة، إلى أن توفي السلطان رحمه الله، فعاد الفتنة جزعة، ووإلى ولده أمير المسلمين بعده، الضرب على مالقة، إلى أن هلك الرئيس أبو محمد، واستقر بالأمور ولده المذكور في المحمدين، وكان من الأمر ما ينظره في مكانه من أراد استيفاءه بحول الله.
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد العزفييكنى أبا طالب، الرئيس الفقيه، الكبير الشهير، صاحب الأمر والرياسة والإمارة بستة، نيابة عن أخيه الرئيس الصالح أبي حاتم، بحكم الاستقلال في ذلك، والاستبداد التام، من غير مطالعة لأخيه ولا رجوع إليه في شيء من الأمور، ولا تشوف من أخيه إلى ذلك، لخروجه البتة عنه، وإيثاره العزلة. واشتغاله بنفسه.
حالهقد تقدم من ذكر أوليته ما فيه كفاية. وكان من أهل الجلالة والصيانة، وطهارة النشأة، حافظاً للحديث، ملازماً لتلاوة كتاب الله، عارفاً بالتاريخ، عظيم الهيبة، كبير القدر والصيت، علاي الهمة، شديد البأو، معظما عند الملوك، جميل الشارة، ممتثل الإشارة لديهم، عجيب السكينة والوقار، بعيد المرمى، شديد الانقباض، مطاع السلطان بموضعه، مرهوب الجانب، من غير إيقاع بأحد، ولا هتك حرمة، محافظاً على إقامة الرسوم الحسبية والدينية.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع وغيره.
نكبتهتغلب على بلده أيام إمارته، وثار أهله إليه في السلاح والعدة، ليحيطوا بمن في القصبة. فخرج إليهم، وشكر مساعيهم، وقال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، فانصرفوا، ودخل منزله، ملقياً بيده، ومسلماً لقضاء الله سبحانه في كسره، إلى أن قبض عليه، وعلى ساير بنيه وقومه، عند ارتفاع النهار وانتشار المتغلبين على القصبة، فنقفوا متحرجين من دماء المسلمين، وصرفوا إلى الأندلس، في ضحو يوم الخميس الثاني عشر من ذي قعدة عام خمسة سبعماية، بعد انقضاء خمسة عشر يوماً من تملك بلدهم. فاستقر بغرناطة، تحت ستر واحترام، وجراية فيها كفاف. ثم لما خرجت سبتة عن طاعة أمير المسلمين، انصرف القوم إلى فاس، فتوفي بها وفاته: في شعبان المكرم من عام ثلاثة عشر وسبعماية
عبد الله بن الجبير

بن عثمن بن عيسى بن الجبير اليحصبي
من أهل لوشة، وهو محسوب من الغرناطيين قال الأستاذ، من أعيانها ذوي الشرف والجلالة، قلت ينسب إليه بها معاهد تدل على قدم وأصالة.
حالهقال أبو القاسم الملاحي، كان أديباً بارع الأدب، كاتباً، بليغاً، شاعراً مطبوعاً، لسناً مفوهاً، عارفاً بالنحو والأدب واللغات. وقد مال في عنفوان شبيبته إلى الجندية لشهامته، وعزة نفسه، فكان في عسكر المأمون ابن عباد، واشتمل عليه المأمون، وكان من أظرف الناس، وأملحهم شيبة، وأحسنهم شارة، وأمهم معرفة.
مشيختهأخذ عن أشياخ بلده غرناطة، وأخذ بمالقة عن غانم الأديب وبقرطبة عن ابن سراج.
شعرهوله في إنشاده لدى المأمون مجال رحب، فمن ذلك قوله:
يا هاجرين أضل الله سعيكم ... كم تهجرون محبيكم بلا سبب
ويا مسرين للإخوان غائلة ... ومظهرين وجوه البر والرحب
ما كان ضركم الإخلاص لو طبعت ... تلك النفوس على علياء أو أدب
أشبهتم الدهر لما كان والدكم ... فأنتم شر أبناء لشر أب
عبد الله بن سعيد بن السلماني

عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السلماني
والد المؤلف، رضي الله عنه، يكنى أبا محمد، غرناطي الولادة
والاستيطان، لوشي الأصل، ثم طليطليه، ثم قرطبيه.
أوليتهكان سلفه يعرفون بقرطبة، ببني وزير، وهم بها أهل نباهة، وبيتهم بيت فقه وخيرية ومالية، ونجارهم نجار فرسان يمانية. ولما حدث على الحكم بن هشام الوقيعة الربضية، وكان له الفلج، وبأهل الربض الدبرة، كان أعلام هذا البيت من الجالية أمام الحكم، حسبما امتحن به الكثير من أعلام المشيخة بها، كالفقيه طالوت، ويحيى بن يحيى، وغيرهم، ولحقوا بطليطلة، فاستقروا بها، ونبا بهم وطنهم، ثم حوموا على سكنى الموسطة، وآب إلى قرطبة قبلهم بعد عهد متقادم، ومنهم خلف وعبد الرحمن، وقد مر له ذكر في هذا الكتاب. وولى القضاء بالكورة. ومنهم قوم من قرابتهم تملكوا منتفريد، والحصن المعروف الآن بالمنعة والخصب، وتمدن فيهم، وبنيت به القلعة السامية، ونسب إليه ذلك المجد، فهم يعرفون ببلدنا ببني المنتفريدين. واستقر منهم جدنا الأعلى بلوشة خطيباً وقاضياً بالصقع ومشاوراً وهو المضاف إلى اسمه التسويد بلوشة عرفاً كأنه اسم مركب، فلا يقول أحد منهم في القديم إلا سيدي سعيد. كذا تعرفنا من المشيخة، وإليه النسبة اليوم، وبه يعرف خلفه ببني الخطيب، وكان صالحاً فاضلاً، من أهل العلم والعمل. حدثني الشيخ المسن أبو الحكم المنتفريدي، وقد وقفنى على جدار برج ببعض أملاكنا بها، على الطريق الآتية من غرناطة إلى لوشة، ثم إلى غيرها، كإشبيلية وسواها، فقال كان جدك يسكن بهذا البرج كذا من فصول العام، ويتلو القرآن ليلاً، فلا يتمالك المارون على الطريق، أن يقربوا إصغاء لحسن تلاوته وخشوعاً. وكان ولده عبد الله بعده، على وتيرة حسنة من الخير والنباهة وطيب الطعمة، ثم جده الأقرب سعيد على سننه، مرب عليه بمزيد المعرفة، وحسن الخط. ولما وقع بلوشة بلده، ما هو معروف من ثورة أصهارهم من بني الطنجالي، وكان بينهم ما يكون بين الفحول في الهجمات من التشاجر، فر عنهم خيفة على نفسه، وعلى ذلك فناله اعتقال طويل، عدا به عليه عن تلك الثورة. ثم بان عذره، وبرئت ساحته، واستظهر به السطان، وأقام بغرناطة، مكرماً، مؤثراً، مؤتمناً، وصاهر في أشراف بيوتاتها، فكانت عنده بنت الوزير أبي العلي أضحى بن أضحى الهمداني، وتوفيت تحته، فأنجز له بسببها الحظ في الحمام الأعظم المنسوب إلى جدها اليوم. ثم تزوج بنت القايد أبي جعفر أحمد بن محمد الجعدالة السلمى، أم الأب المترجم به، ولها إلى السطان ثاني ملوك بني نصر وعظيمهم، متات ببنوة الخؤولة من جهة القواد الأصلاء القرطبيين بني دحون، فوضح القصد، وتأكدت الحظوة. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك كله في محله. ثم رسخت لولده أبي، القدم في الخدمة والعناية، حسبما يتقرر في موضعه.
حاله

كان رحمه الله فذاً في حسن الشكل والأبهة، وطلاقة اللسان، ونصاعة الظرف، وحضور الجواب، وطيب المجالسة، وثقوب الفهم، ومشاراً إليه في الحلاوة وعذوبة الفكاهة، واسترسال الانبساط، مغيياً في ميدان الدعابة، جزلاً، مهيباً، صارماً، متجنداً، رايق الخصل ركضاً وثقافة، وعدواً وسباحة وشطرنجاً، حافظاً للمثل واللغة، إخبارياً، مضطلعاً بالتاريخ، ناظماً ناثراً، جميل البزة، فاره المركب، مليح الشيبة. نشأ بغرناطة تحت ترف ونعمة، من جهة أمه وأبيه، وقرأ على أبي إسحق بن زرقال، وأبي الحسن البلوطي، ثم على أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير، ظاهرة عليه مخيلة النجابة والإدراك. ثم أقصر لعدم الحامل على الدؤوب، وانتقل إلى بلد سلفه، متحيفاً الكثير من الأصول في باب البذل وقرى الضيوف، ومداومة الصيد، وإيثار الراحة، معتمداً بالتجلة، مقصود الحلة، مخطوب المداخلة، من أبناء أشرف الدولة، منتجعاً لأولى الكدية. ولما قام بالأمر السلطان، أمير المسلمين أبو الوليد، وأمه بنت السلطان ثاني الملوك من بني نصر، جزم ما تقدم من المتات والوسيلة، استنهضه للإعانة على أمره، وجعل طريقه على بلده، فحطب في حبله، وتمسك بدعوته، واعتمده بنزله وضيافته، وكان أعظم الأسباب في حصول الأمر بيده، ودخوله في حكمه، وانتقل إلى حضرة الملك بانتقاله، فنال ما شاء من اصطناعه، وحظوته، وجرى له هذا الرسم في أيام من خلفه من ولده إلى يوم الوقيعة الكبرى بطريف تاريخ فقده.
وجرى ذكره في كتاب الإكليل بما نصه: إن طال الكلام، وجمحت الأقلام، كنت كما قيل، مادح نفسه يقرئك السلام، وإن أحجمت، فما أسديت في الثناء ولا ألحمت، وأضعت الحقوق، وخفت ومعاذ الله العقوق. هذا، ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره، وجيته بعيون الإحسان وأبكاره، لما قضيت حقه بعد، ولا قلت إلا التي علمت سعد. فقد كان رحمه الله ذمر عزم، ورجل رخاء وأزم، تروق أنوار خلاله الباهرة، وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة، ذكاء يتوقد، وطلاقة يحسد نورها الفرقد، فقدته بكاينة طريف، جبر الله عثارها، وعجل ثارها.
حدث خطيب المسجد الأعظم، وهو ما هو، من وفور العقل، وصحة النقل، قال، مررت بأبيك بعد ما تمت الكسرة، وخذلت تلك الأسرة، وقد كبا بأخيك الطرف، وعرض عليه الحمام للصرف، والشيخ رحمه الله لم تزل قدمه، ولا راعه الموقف وعظمه. ولما أيس من الخلاص وطلابه، صرفني وقال أنا أولى به، فقضى سعيداً شهيداً، لم يستنفره الهول، ولم يثنه ولا رضي عار الفرار عن ابنه.
شعرهقال في الإكليل، وكان له في الأدب فريضة، وفي النادرة العذبة منادح عريضة. تكلمت يوماً بين يديه، في مسائل من الطب، وأنشدته أبياتاً من شعري، وقرأت عليه رقاعاً من إنشائي، فسر وتهلل، وعبر عما أمل، وما برح أن ارتجل قوله رحمة الله عليه:
الطب والشعر والكتابة ... سماتنا في بني النجابة
هن ثلاث مبلغات ... مراتباً بعضها الحجابة
ووقع لي يوماً بخطه على ظهر أبيات، بعثتها إليه، أعرض عليه نمطها:
وردت كما ورد النسيم بسحره ... عن روضة جاد الغمام رباها
فكأنما هاروت أودع سحره ... فيها وآثرها به وحباها
مصقولة الألفاظ بيهر حسنها ... بمثلها افتخر البليغ وباهى
فقررت عيناً عند رؤية حسنها ... إلى أبوك وكنت أنت أباها
ومن شعره قوله:
وقالوا قد نأوا فاصبر ستشفى ... فترياق الهوى بعد الديار
فقلت هبوا بأن الحق هذا ... فقلبي يمموا فيم اصطبار
ومن قوله مما يجري مجرى الحكم والأمثال:
عليك بالصمت فكم ناطق ... كلامه أدى إلى كلمه
إن لسان المرء أهدى إلى ... غرته والله من خصمه
يرى صغير الجرم مستضعفا ... وجرمه أكبر من جرمه
وقال وهو من المستحسن في التجنيس:
أنا بالدهر يا بني خبير ... فإذا شئت علم فتعإلى
كم مليك قد ارتغى منه روضا ... لم يدافع عنه الرحمن ما ارتغى لا
كل شيء تراه يفنى ويبقى ... ربنا الله ذو الجلال تعإلى
أنشدني هاتين المقطوعتين.
مولده

ولد بحضرة غرناطة في جمادى الأولى من عام اثنين وسبعين وستماية.
وفاتهبعد يوم الوقيعة الكبرى على المسلمين بظاهر طريف يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعماية.
من رثاهقلت في رثايه من قصيدة أولها:
سهام المنايا لا تطيش ولا تخطى ... وللدهر كف تسترد الذي تعطى
وإنا وإن كنا على ثبج الدنا ... فلا بد يوماً أن تحل على الشط
وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى ... ومن أسرع السير الحثيث ومن يبط
تساوى على ورد الردى كل وارد ... فلم يغن رب السيف عن ربة القرط
وقال شيخنا أبو زكريا بن هذيل من قصيدة يرثيه بها:
إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري ... إذا قلت أبياتا حساناً من الشعر
ولو كان شعري لم يكن غير ندبة ... وأجريت دمعي لليراع عن الحبر
لما كنت أقضي حق صحبته التي ... توخيتها عوناً على نوب الدهر
رماني عبد الله يوم وداعه ... بداهية دهياء قاصمة الظهر
قطعت رجائي حين صح حديثه ... فإن لم يوف دمعي فقد خانني صبري
وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي ... أبث له همي وأودعه سري
عبد الله بن محمد بن جزيعبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن جزي من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، وقد مر ذكر أبيه شيخنا وأخويه، وتقررت نباهة بيتهم.
حالههذا الفاضل قريع بيت نبيه، وسلف شهير، وأبوة خيرة، وأخوة بليغة، وخؤولة تميزت من السلطان بحظوة. أديب حافظ، قام على فن العربية، مشارك في فنون لسانية سواه، طرف في الإدراك، جيد النظم، مطواع القريحة، باطنه نبل، وظاهره غفلة. قعد للإقراء ببلده غرناطة، معيداً ومستقلاً، ثم تقدم للقضاء بجهات نبيهة، على زمن الحداثة، وهو لهذا العهد مخطوب رتبة، وجار إلى غاية، وعين من أعيان البلدة.
مشيختهأخذ عن والده الأستاذ الشهير أبي القاسم حديث الرحمة بشرطه، وسمع عليه على صغر السن، أبعاضاً من كتب عدة في فنون مختلفة، كبعض صحيح مسلم، وبعض صحيح البخارري، وبعض الجامع للترمذي، وبعض السنن للنسائي، وبعض سنن أبي داود، وبعض موطإ ملك بن أنس وبعض الشفاء لعياض، وبعض الشمايل للترمذي، وبعض الأعلام للنميري، وبعض المشرع السلس في الحديث المسلسل لابن أبي الأحوص، وبعض كتاب التيسير لأبي عمرو الداني، وبعض الهداية للمهدي، وبعض التلخيص للطبري، وبعض كتاب الدلالة في إثبات النبوة والرسالة لأبي عامر بن ربيع، وبعض كتاب حلبة الأسانيد وبغية التلاميذ لابن الكماد، وبعض كتاب وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم من تواليف والده، وبعض القوانين الفقهية، وبعض كتاب الدعوات والأذكار، وبعض كتاب النور المبين في قواعد عقايد الدين من تأليفه، وبعض تقريب الوصول إلى علم الأصول، وبعض كتاب الصلاة، وبعض كتاب الأنوار السنية في الكلمات السنية، وبعض كتاب برنامجه. كل ذلك من تأليف والده، رحمه الله. وأجاز له رواية الكتب المذكورة عنه، مع رواية جميع مروياته وتواليفه وتقييداته، إجازة عامة. ولقنه في صغره، جملة من الأحاديث النبوية والمسائل الفقهية، والمقطوعات الشعرية.

ومنهم قاضي الجماعة أبو البركات بن الحاج، حدثة بألمرية حديث الرحمة بشرطه، وسمع عليه بها وبغرناطة عدة من أبعاض كتب، وأجازه عامة، وأنشده من شعره، وشعر غيره. ومنهم قاضي الجماعة الشريف أبو القاسم لازمه مدة القراءة عليه، واستفاد منه، وتفقه عليه بقراءة غيره في كثير من النصف الثاني من كتاب سيبويه، وفي كثير من النصف الثاني من كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وفي كثير من كتاب التسهيل لابن مالك، وفي القصيدة الخزرجية في العروض، وسمع من لفظه الربع الواحد أو نحوه من تأليفه شرح مقصورة حازم، وتفقه عليه فيه، وأنشده كثيراً من شعره وشعر غيره. ومنهم الأستاذ أبو عبد الله البياني، لازمه مدة القراءة عليه، وتفقه عليه بقراءته في كتاب التسهيل البديع في اختصار التفريع إلا يسيراً منه، وتفقه عليه بقراءة غيره في أبعاض من كتب فقهية وغيرها، ككتاب التهذيب، وكتاب الجواهر الثمينة، وكتاب التفريع، وكتاب الرسالة لابن أبي زيد، وكتاب الأحكام لابن العربي، وكتاب شرح العمدة لابن دقيق العيد، وغير ذلك مما يطول ذكره. ومنهم الأستاذ الأعرف الشهير أبو سعيد بن لب، تفقه عليه بقراءته في جميع النصف الثاني من كتاب الإيضاح للفارس، وفي كثير من النصف الأول من كتاب سيبويه، وتفقه عليه بقراءة غيره في أبعاض من كتب عدة، في فنون مختلفة، كالمدونة والجواهر، وكتاب ابن الحاجب، وكتاب التلقين، وكتاب الجمل، وكتاب التسهيل والتنقيح، والشاطبية، وكتاب العمدة في الحديث وغير ذلك. ومنهم الشيخ المقرى المحدث أبو عبد الله محمد بن بيبش، سمع عليه بقراءة أخيه الكاتب أبي عبد الله محمد، جميع كتاب الموطأ، وكتاب الشفا إلا يسيراً منه، وأجازه روايتهما عنه، ورواية جميع مروياته، إجازة عامة، وأنشده جملة من شعره وشعر غيره. وممن أجازه عامة، رئيس الكتاب أبو الحسن بن الجياب، وقاضي الجماعة أبو عبد الله بن يحيى بن بكر الأشعري، والخطيب أبو علي القرشي، والأستاذ أبو محمد بن سلمون، والحاج الراوية أبو جعفر ابن جابر، والشيخ القاضي أبو جعفر أحمد بن عتيق الشاطبي الأزدي، والقاضي الكاتب البارع أبو بكر بن شبرين، والقاضي الخطيب الأستاذ الراوية أبو بكر بن الشيخ الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، والقاضي الخطيب أبو محمد بن محمد بن الصايع. وممن كتب له بالإجازة من المشايخ، شيخ المشايخ أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن حيان، وقاضي الجماعة بفاس محمد بن محمد بن أحمد المقري، ورئيس الكتاب أبو محمد الخضرمي، وجماعة سوى من ذكر من أهل المشرق والمغرب.
شعرهوشعره نبيل الأغراض، حسن المقاصد، فمن ذلك قوله:
سنى الليلة الغرا وافتك بالبشرى ... وأبدى منها وجه القبول لك البشرا
تهلل وجه الكون من طرب بها ... وأشرقت للدنا بغرتها الغرا
لها المنة العظمى بميلاد أحمد ... لها الرتبة العليا لها العزة الكبرا
طوى سره في صدر الدهر مدة ... فوافى ربيعاً ناشراً ذلك السرا
حوى شهرة الفضل الشهير وفضله ... فأحسن به فضلاً وأعظم به شهرا
لقد كان ليل الكفر في الليل قد جفا ... فأطلع منه في سمة الهدي فجرا
وفي ليلة الميلاد لاحت شواهد قضت ... أندين الكفر قد أبطل الكفرا
لقد أخمدت أنوارها نار فارس ... وأرجف كما ارتج إيوانه كسرى
له معجزات يعجز القلب كنهها ... ويحصر إن رام اللسان لها حصرا
معال يكل الشعر عن نيل وصفها ... وتقصر عن إدراك مصعده الشعرا
به بشر الرسل الكرام ولم تزل ... شمايله تتلى وآياته تترا
ففي الصحف الأولى مناقبه العلى ... وفي الذكر آيات رخص له قدرا
لقد خصه مولاه بالقرب والرضى ... وحسبك ما قد نص في النجم والإسرا
ورد عليه الشمس بعد غروبها ... وشق على رغم العداة له البدرا
وكان له في مايه وطعامه ... لطايف ربانية تبهر الفكرا

غدا الماء من بين الأصابع نابعاً ... وعاد قليل الزاد من يمنه كثرا
وكم نايل أولى وكم سائل حبا ... وكم مشتك أشفى وكم مدنف أبرا
كفى شاهدا أن رد عين قتادة ... فكان لها الفضل المبين على الأخرا
وحن إليه الجذع عند فراقه ... ولا حنت الخنساء إذ فارقت صخرا
وحق له إذ بان عنه حبيبه ... ومن ذاق طعم الوصل لم يحمل الهجرا
خليلي ولادنيا تجدد للفقر ضروبا ... من الأشواق لو تنفع الذكرا
بعيشكما هل لي إلى أرض طيبة ... سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا
مناً للنفس من تلك المعاهد زورة ... أبث بها شكوى وأشكو بها وزرا
وتعفير خدي في عروق ترابها ... ليمحو لي ذنبا ويثبت لي أجرا
تعللني نفسي بإدراكها المنا ... وما أجهدت عيشاً ولا ملكت قفرا
ومن كانت الآمال أقصى اجتهاده ... غدت كفه مما تأمله صفرا
وكم زجرتها واعظات زمانها ... فما سمعت وعظاً ولا قبلت زجرا
وكنت لها عصر الشبيبة عاذراً ... سقاه الحيا ما كان أقصره عصرا
وأما وقد ولت ثلاثون حجة ... فلست أرى للنفس من بعدها عذرا
إذا أنت لم تترك سوى النفس طايعا ... فلا بد بعد الشيب من تركه قسرا
ولم أدخر إلاشفاعة أحمد ... لتخفيف وزر شد ما أوثق الظهرا
لقد عاقت كف الرجاء بحمله ... لعل كسير القلب يقلبه برا
هو المرتضى الداعي إلى منهج الرضا ... هو المصطفى الهادي الميسر لليسرا
هو الحاسر الماحي الضلالة بالهدى ... هو الشافع الواقي إذ شهر الحشرا
بأي كلام يبلغ المرء وصف من ... مكارمه تستغرق النظم والنثرا
خلال إذ الأفكار جاست خلالها ... تكر على الأعقاب خاسئة خسرا
لقد غض طرف النجم باهرها سنى ... وأرغم أنف الروض عاطرها نشرا
سقى ليلة حييت به واكف الحيا ... فنعماؤها ما إن يحيط بها شكرا
لقد خصها سند الإله برحمة ... فعمت بها الدنيا وسكانها طرا
أقمت أمير المسلمين حقوقها ... بأفعال بر أضحكت للهدى ثغرا
لقد سرت فيها إذ أتتك بسره ... أقرت لها عينا وسرت لها صدرا
عرفت بها حق الذي عرفت به ... فأحسنتها شكرا وأوليتها برا
وأصحبتها الإخلاص لله والتقا ... وأعقبها الإحسان والنايل الغمرا
لدي مصنع ملأ العيون محاسناً ... تجسم فيه السحر حتى بدا قصرا
منها بعد أبيات في المدح للسلطان:
روى عن أبي الحجاج غر شمايل ... أعاد لنا دهم الليالي بها غرا
ومن كبني نصر جلالة منصب ... بهم نصر الرحمن دين الهدى نصرا
هم ما هم إن تلقهم في مهمة ... لقيت الجناب السهل والمعقل الوعرا
سلالة أنصار النبي محمد فسل ... أحدا ينبيك عنهم وسل بدرا
ومن شعره في المقطوعات. قال في التورية العروضية:
لقد قطعت قلبي يا خليلي ... بهجر طال منك على العليل
ولكن ما عجيب منك هذا إنه ... التقطيع من شأن الخليل
وقال في التورية النحوية:
لقد كنت موصولاً فأبدل وصلكم ... بهجر وما مثلي على الهجر يصبر
فما بالكم غيرتم حال عبدكم ... وعهدي بالمحبوب ليس يغير
وقال في التورية مداعباً بعض المقرئين للعدد وهو بديع:
يا ناصباً علم الحساب حباله ... لقناص ظبي ساحر الألباب
إن كنت ترجو بالحساب وصاله ... فالبدر يرزقنا بغير حساب
وقال في التورية العروضية:

لقد كمل الود بيننا ... ودمنا على فرح شامل
فإن دخل القطع في وصلنا ... فقد يدخل القطع في الكامل
وقال في تضمين مثل:
ألا اكتمك حب من أحببت ... واصبر فإن الهجر يحدثه الكلام
وإن أبداه دمع أو نحول ... فمن بعد اجتهادي لا تلام
وقال:
وأشنب الثغر له وجنة ... تعدت النحل على وردها
ما ذاك إلى حسد إذ رأت ... رضابه أعذب من شهدها
وقال في التورية بأسماء كتب فقهية جواباً غير معمى:
لك الله من خل حباني برقعة ... حبتني من أبياتها بالنوادر
رسالة رمز في الجمال نهاية ... وخيرة نظم أتحفت بالجواهر
وقال في التورية أيضاً:
إلى الله أشكو عذراً ترددا ... إلي فلما لاح سرى لهم حالوا
لقد خدعوني إذ أروني مودة ... ولكنه لا غرو أن يخدع الآل
وقال يخاطب رجلاً من أصحابه:
أيا حسن إن شتت الدهر شملنا ... فليس لود في الفؤاد شتات
وإن حلت عن عهد الإخاء فلم ... يزل لقلبي على حفظ العهود ثبات
وهبني سرت مني إليك إساءة ... ألم تتقدم قبلها حسنات
وقال في النسيب:
إن كان باب القرب قد سد بيننا ... ولم يبق لي في نيل وصلك مطمع
وأخفرت عهدي دون ذنب جنيته ... وأصبح ودي فيك وهو مضيع
ولم ترث لي عما ألاقي من الأسى ... وصرت أنادي منك من ليس يسمع
وضاقت بي الأحوال عن كل وجهة ... فما أرتجي من رحمة الله أوسع
ومما نظمه في التضمين مخاطباً بعض المنتحلين للشعر قوله:
لقد صرت في غصب القصايد ماهرا ... فما اسم جميع الشعر عندك غيزل
ولم تبق شعرا لامرئ متقدم ... ولم تبق شعرا يا بن بشت لأول
فشعر جرير قد غصبت ورويه ... وشعر ابن مرج الكحل وابن المرحل
وإن دام هذا الأمر أصبحت تدعى ... قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
ومن المقريين والعلماء

عبد الله بن العبدري الكواب
عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مجاهد العبدري الكواب من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد الخطيب، المقرئ
حالهمن الصلة: كان رحمه الله أتقن أهل زمانه في تجويد كتاب الله العزيز، وأبرعهم في ذلك، وأنفعهم للمتعلم، نفع الله به كل من قرأ عليه، وترك بعده جملة يرجع إليهم في ذلك، ويعمل على ما عندهم. وكان مع ذلك نبيه الأغراض، في جميع ما يحتاج إليه في علمه ذاكرا للإختيارات التي تنسب للمقرئين، من يرجح ويعلل، ويختار ويرد، موفقاً في ذلك، صابراً على التعليم، دايباً عليه نهاره وليله، ذاكرا لخلاف السبعة. رحل الناس إليه من كل مكان، خاصتهم وعامهم، وملأ بلده تجويداً وإتقانا، وكان مع هذا فاضلاً ورعاً جليلاً. خطب بجامع غرناطة وأم به مدة طويلة، إلى حين وفاته.
مشيختهأخذ القراءات عن الحاج أبي الحسين بن كوثر، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي عبد الله بن عروس. ورحل إلى بياسة، فأخذ بها القراءات عن أبي بكر ابن حسون، وأخذ مع هؤلاء عن جعفر بن حكم، وأبي جعفر بن عبد الرحيم، وأبي الحسن الصدفي الفاسي، وسمع عليه كثيراً من كتاب سيبويه تفقهاً، وأجاز له كتابة القاضي أبو بكر بن أبي جمرة مع آخرين ممن أخذوا عنه.
من أخذ عنه روى عنه الناس أهل بلده وغيرهم، منهم ابن أبي الأحوص، وأبو عبد الله بن إبراهيم المقرى.
وفاتهتوفي سنة ثلاث وثلاثين وستماية، ودفن بمقبرة باب إلبيرة.
ابن سلمونعبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن سلمون الكناني من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن سلمون
حاله

كان رحمه الله، نسيج وحده، ديناً وفضلاً، وتخلقاً ودمائه، ولين جانب، حسن اللقاء، سليم الباطن، مغرقاً في الخير، عظيم الهشة والقبول، كريم الطوية، عظيم الانقياد، طيب اللهجة، متهالكاً في التماس الصالحين، يتقلب في ذلك بين الخطإ والإصابة، صدراً في أهل الشورى. قرأ ببلده وسمع وأسمع وأقرأ، وكتب الشروط مدة، مأثور العدالة، معروف النزاهة، مثلاً في ذلك، ويقوم على العربية والفقه، خصوصاً باب البيوع، ويتقدم السباق في معرفة القراءات، منقطع القرين في ذلك، أشد الناس خفوفاً في الحوايج، وأسرعهم إلى المشاركة.
مشيختهقرأ على الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير بغرناطة، ولازمه، فانتفع به، دراية ورواية. وقرأ على الخطيب أبي الحسن بن فضيلة، والمكتب أبي الحسن البلوطي، وأبي محمد النفزي، والخطيب أبي جعفر الكحيلي. وبمالقة على الأستاذ أبي محمد الباهلي. وبسبتة على الأستاذ المقري رحلة وقته أبي القاسم بن الطيب، وسمع عله الكثير. وعلى الأستاذ أبي عبد الله الدارج، ولازم مجلس إقرايه، وعلى الشيخ المعمر أبي عبد الله ابن الخطار الكامي، وهو أعلى من لقيه من تلك الحلبة. وأخذ بالإجازة عن العدل أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن النولي، وروايته عاليه. لقي أب الربيع بن سالم، ولقي بسبتة الشريف الراوية أبا علي الحسن بم بن أبي الشرف ربيع، والأديب الكاتب أبا علي الحسين بن عتيق بن الحسين ابن رشيق. وبفاس الفقيه أبا غالب محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغيلي. وقرأ على الخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد. وسمع على ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم. ولقي الأديب المعمر مالك بن المرحل. وأجازه أبو عمران موسى بن الخطيب أبي الحسن الداري برندة. وأجازه من أهل المشرق كثير، منهم عز الدين أحمد بن محمد الحسني بقية الأشراف بالديار المصرية، وجمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري، ونجم الدين أحمد بن حمدان الحراني، وجمال الدين أحمد ابن أبي الفتح الشيباني، وأحمد بن عبد المنعم الصوفي، ومولده عام أحد وستماية، وأحمد بن سلمان بن أحمد المقدسي، وأحمد بن عبد الحميد ابن عبد الهادي، وشمس الدين إبراهيم بن سرور المقدسي، والخطيب بالمسجد الأعظم ببجاية أبو عبد الله بن صالح الكناني، وأبو عبد الله محمد أبي خمسة محمد بن البكري بن أبي بكر، وأبو عبد الله محمد بن علي ابن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري، وابن دقيق العيد تقي الدين، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة، والشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني. وأجازه نحو من المايتين من أهل المشرق والمغرب. ولقي بفاس الشيخة الأديبة الطيبة الشاعرة، سارة بنت أحمد بن عثمان بن الصلاح الحلبية وأجازته، وألبسته خرقة التصوف.
قال: وأنشدتني قصيد أجابت بها الخطيب المحدث، أبا عبد الله ابن رشيد، أولها يعني قصيدة ابن رشيد:
سرى نسيم من حمى سارة ... عاد به كل نسيم عاطرا
وجال أفكار الدنا ذكرها ... فسار فيها مثلا سايرا
دايرة والمجد قطب لها ... دارت عليه فلكاً دايرا
فقالت:
وافي قريض منكم مذ غدا ... لبعض أوصافكم ذاكرا
أطلع من أنفاسه الحجا ... ومن شذاه نفساً عاطرا
أعاد ميت الفكر من خاطري ... من بعد دفن في الثرى ناشرا
يبهر طرفي حسن منظره ... أحبب به نظما غدا باهرا
فقلت لها هالتي حسنه ... أشاعراً أصبح أم ساحرا
أم روضة هذى التي قد نوى ... أم بدر تم قد بدا زاهرا
لله ما أعذب ألفاظه ... وأنور الباطن والظاهرا
يا ابن رشيد بل أبا الرشد ... يا من يزل لطي العلى ناشرا
خذ ما فدتك النفس يا سيدي ... وكن لمن نظمها عاذرا
ما تصل الأنثى بتقصيرها ... لأن تبارى ذكراً ماهرا
لازلت تحيى من رسوم العلا ... ما كان منها دارساً دائرا
تصانيفهالكتاب المسمى بالشافي في تجربة ما وقع من الخلاف بين التيسير والتبصرة والكافي لا نظير له.
مولده

ولد بغرناطة بلده في الثاني والعشرين لذي قعدة من عام تسعة وستين وست ماية.
وفاتهفقد في الوقيعة العظمى بطريف يوم الإثنين السابع لجمادى الأولى من عام أحد وأربعين وسبعماية. حدث بعض الجند أنه رآه يتحامل، وجرح بصدره يثعب دماً، وهو رابط الجأش، فكان آخر العهد به. تقبل الله شهادته.
عبد الله بن سهل الغرناطييكنى أبا محمد، وينبز بالوجه نافخ
حالهمن كتاب ابن حمامة، قال عني بعلم القرآن والنحو والحديث، عناية تامة، وبهذا كنت أسمع الثناء عليه من الأشياخ، في حال طفولتي بغرناطة، ثم شهر بعد ذلك بعلم المنطق، والعلوم الرياضية، وساير العلوم القديمة، وعظم بسببها، وامتد صيته من أجلها، وأجمع المسلمون واليهود والنصارى، أن ليس في زمانه مثله، ولا في كثير ممن تقدمه، وبين هذه الملل الثلاثة من التحاسد ما عرف. وكانت النصارى تقصده من طليطلة، تتعلم منه أيام كان ببياسة، وله مع قسيسهم مجالس في التناظر، حاز فيها قصب السبق. قال، ثم خرج عن بياسة، وسار إلى نظر ابن همشك عند خروج النصارى عن بياسة. وله تواليف. وهو الآن بحاله. قلت، تاريخ هذا القول، عام ثلاثة وخمسين وخمسماية.
عبد الله بن أيوب الأنصارييكنى أبا محمد، ويعرف بابن خروج، من أهل قلعة أيوب.
حالهفقيه حافظ لمذهب مالك. استوطن غرناطة وسكنها.
تواليفهألف في الفقه كتاباً مفيداً سماه المنوطة على مذهب مالك، في ثمانية أسفار أتقن فيها كل الإتقان:
وفاته: توفي بها سنة اثنيتين وستين وخمسماية، وقد قارب المائة.
القرطبيعبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري مالقى، قرطبي الأصل، يكنى أبا محمد، ويعرف بالقرطبي، وقرأ بغرناطة.
حالهكان في وقته ببلده، كامل المعارف، صدرا في المقرئين والمجودين، رئيس المحدثين وإمامهم، واسع المعرفة، مكثراً، ثقة، عدلاً، أمينا، مكين الرواية، رايق الخط، نبيل التقييد والضبط، ناقداً، ذاكراً أسماء رجال الحديث وطبقاتهم وتواريخهم، وما حلوا به من جرح وتعديل، لا يدانيه أحد في ذلك، عزيز النظر، متيقظاً، متوقد الذهن، كريم الخلال، حميد العشرة، دمثاً، متواضعاً، حسن الخلق، محبباً إلى الناس، نزيه النفس، جميل الهيئة، وقوراً، معظماً عند الخاصة والعامة، ديناً، زاهداً، ورعاً، فاضلا، نحوياً ماهراً، ريان من الأدب، قائلاً الجيد من الشعر، مقصدا ومقطعاً، وكان له بجامع مالقة الأعظم، مجلس عام، سوى مجلس تدريسه، يتكلم فيه على الجديث، إسناداً ومتناً، بطريقة عجز عنها الكثير من أكابر أهل زمانه. وتصدر للإقراء ابن عشرين سنة. من أخباره في العلم والذكاء: قالوا قرئ عليه يوماً باب الابتداء بالكلم التي يلفظ بها في إيضاح الفارس، وكان أحسن الناس قياماً عليه فتكلم على المسألة الواقعة في ذلك الباب، المتعلقة بعلم العروض، وكان في الحاضرين من أحسن صناعته، فجاذبه الكلام، وضايقه المباحثه، حتى أحس الأستاذ من نفسه التقصير، إذ لم يكن له قبل كبير نظر في العروض، فكف عن الخوض في المسألة، وانصرف إلى منزله، وعكف ساير اليوم على تصفح علم العروض، حتى فهم أغراضه، وحصل تواليفه وصنف فيه مختصراً نبيلاً، لخص في صدوره ضروبه، وأبدع فيه بنظم مثله، وجاء به من الغد، معجزاً من رآه أو سمع به، فبهت الجاضرون وقضوا العجب من اقتداره وذكائه، ونفوذ فهمه، وسمو همته.
ومن أخباره في الدين: قال أبو أحمد جعفر بن زعرور العاملي المالقي تلميذه الأخص به، بت معه ليلة في دويرته التي كانت له بجبل فاره للإقراء والمطالعة، فقام ساعة كنت فيها يقظانا، وهو ضاحك مسرور، يشد يده كأنه ظفر بشيء نفيس، فسألته فقال، رأيت كأن الناس قد حشروا في العرض على الله، وأتى بالمحدثين، وكنت أرى أبا عبد الله النصيرى يؤتى به، فيوقف بين يدي الله تعإلى، فيعطى براءته، من النار، ثم يؤتى بي، فأوقفت بين يدي ربي، فأعطاني براءتي من النار، فاستيقظت، وأنا أشد عليها يدى ربي، فأعطاني براءتي من النار، فاستيقظت، وأنا أشد عليها يدي اغتباطا بها وفرحا، والحمد لله.
مشيخته

تلا بمالقة على أبيه، وأبي زيد السهيلى، والقاسم بن دحمان، وروى عنهم، وعن أبي الحجاج بن الشيخ، وأبوي عبد الله بن الفخار، وابن نوح، وابن كامل، وابن جابر، وابن بونة. وبالمنكب عن عبد الوهاب الصدفي. وحضر بمالقة مجلس أبي إسحق بن قرقول. وبإشبيلية عن أبي بكر بن الجد، وابن صاف، وأبي جعفر بن مضاء، وأبوي الحسن عبد الرحمن بن مسلمة، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي القاسم بن عبد الرازق، وأبي محمد بن جمهور. وبغرناطة عن أبوي جعفر بن حكم الحصار، وابن شراحيل، وأبي عبد الله بن عروس، وأبوي محمد عبد الحق النوالشي، وعبد المنعم بن الفرس. وبمرسية عن أبي عبد الله بن حميد، وأبي القاسم بن حبيش، وبسبتة عن أبي محمد الحجري. وأجاز له من الأندلس ابن محرز وابن حسون وابن خيرة، والأركشي، وابن حفص وابن سعادة، ويحيى المجريطي، وابن بشكوال، وابن قزمان. ومن أهل المشرق جماعة كبيرة.
شعره وتصانيفهألف في العروض مجموعات نبيلة، وفي قراءة نافع. ولخص أسانيد الموطأ. وله المبدي لخطإ الرندي. ودخل يوماً بمجلس أقرأ به أبو الفضل عياض، وكان أفتى منه، غير أن الشيب جار عليه، وتأخر شيب الأستاذ، فقال يا أستاذ شبنا وما شبتم، قال فأنشده ارتجالاً:
وهل نافع أن أخطأ الشيب مفرقي ... وقد شاب أترابي وشاب لداتي
لئن كان خطب الشيب يوجد حسه ... بتربي فمعناه يقوم بذاتي
ومن شعره في التجنيس:
لعمرك ما الدنيا بسرعة سيرها ... بسكانها إلا طريق مجاز
حقيقتها أن المقام بغيرها ... ولكنهم قد أولعوا بمجاز
ومما يؤثر أيضاً من شعره قوله:
سهرت أعين ونامت عيون ... لأمور تكون أو لا تكون
فاطرد الهم ما استطعت عن ... النفس فحملانك الهموم جنون
إن رباً كفاك بالأمس ما كان ... فسيكفيك في غد ما يكون
مولدهولد أبو محمد قريب ظهر يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة عام ستة وخمسين وخمسماية.
وفاتهسحر ليلة السبت أو سحر يومها، ودفن إثر صلاة العصر من اليوم السابع لربيع الآخر سنة أحد عشر وستماية.
من رثاه رثاه الأديب أبو محمد عبد الله بن حسون البرجي من قصيدة حسنة طويلة:
خليلي هباً ساعداني بعبرة ... وقولاً لمن بالري ويحكم هبوا
نبكي العلى والمجد والعلم والتقي ... فمأتم أحزاني نوائحه الصحب
فقد سلب الدين الحنيفي روحه ... ففي كل سرب من نباهته نهب
وقد طمست أنوار سنة أحمد ... وقد خلت الدنيا وقد ظعن الركب
مضى الكوكب الوقاد والمرهف الذي ... يصحح في نص الحديث فما ينب
تمنى علاه النيران ونوره ... وقالا بزعم أنه لهما ترب
أأسلو وبحر العلم غيضت مباهة ... ومحيى رسوم العلم يحجبه الترب
عزيز على الإسلام أن يودع الثرى ... مسدده الأسرى وعلله الندب
بكى العالم العلوي والسبع حسرة ... أولئكم حزب الله ما فوقهم حزب
على القرطبي الحبر أستاذنا الذي ... على أهل هذا العصر فضله الرب
فقد كان فيما مضى من زمانه ... به تحسن الدنيا ويلتئم الشعب
ويجمع سرب الأنس روض حياتة ... فقد جف ذاك الروض وافترق السرب
فسحقاً لدنيا خادعتنا بمكرها ... إذا عاقدت سلما فقصدها حرب
ركبنا السهل الذلول فقادنا ... إلى كل ما في طيه مركب صعب
وتغفل عنها والردى يستفزنا ... كفى واعظاً بالموت لو كان لي لب
عبد الله بن أحمد بن سماك العامليعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عيسى بن أحمد بن إسماعيل بن سماك العاملي يكنى أبا محمد، مالقي الأصل.
حالهكان فقيهاً أديباً، بارع الأدب، شاعراً مطبوعاً، كثير النادر، حلو الشمايل، أدرك شيوخاً جلة، وولى قضاء غرناطة مدة.
مشيخته

روى عن جده لأمه وابن عم أبيه أبي عمر أحمد بن إسماعيل، وأبي على الغساني، وأبي الحسن علي بن عبيد الرحمن بن سمحون والمرساني الأديب،
شعرهالروض مخضر الربى متجمل ... للناظرين بأجمل الألوان
وكأنما بسطت هناك سوارها ... خود زهت بقلائد العقيان
وكأنما فتقت هناك نوافح ... من مسكة عجنت بعرف البان
والطير يسجع في الغصون كأنما ... تقرأ القيان فيه على العيدان
والماء مطرد يسيل عبابه ... كسلاسل من فضة وجمان
بهجات حسن أكملت فكأنها ... حسن اليقين وبهجة الإيمان
وكتب إلى الكاتب أبي نصر الفتح بن عبيد الله في أثناء رسالة:
تفتحت الكتابة عن نسيم ... نسيم المسك في خلق الكريم
أبا نصر رسمت لها رسوما ... تخال رسومها وضح النجوم
وقد كانت عفت فأثرت منها ... سراجاً لاح في الليل البهيم
فنحت من الصناعة كل باب ... فسارة في طريق مستقيم
فكتاب الزمان ولست منهم ... إذا راموا مرامك في هموم
فما قس بأبدع منك لفظاً ... ولا سحبان مثلك في العلوم
وفاته: في السابع والعشرين من رمضان المعظم سنة أربعين وخمسمائة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
ومن ترجمة القضاةعبد الله بن أحمد بن العافقي عبد الله بن أحمد بن محمد بن سعيد بن أيوب بن الحسن بن منخل بن زيد العافقي من أهل غرناطة وأعيانها، يكنى أبا محمد، وينسب إلى غافق بن الشاهد بن عك بن عدنا، لا إلى حصن غافق.
حالهمن العايد كان رجلاً صحيح المذهب، سليم الصدر، قليل المصانعة، كثير الحركة والهشة، والجدة، ملازم الاجتهاد والعكوف، لا يفتر عن النسخ والتقييد والمطالعة، على حال الكبرة، قديم التعين والأصالة، ولى القضاء عمره بمواضع كثيرة، منها بيرة ورندة ثم مالقة، مضافاً إلى الخطابة بها.
مشيختهحج في حدود سبعة وثمانين وستماية، وروى عن جلة من أهل المشرق، كالإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ أبي محمد عبد المؤمن الدمياطي، وشمس الدين المصنف أبي عبد الله بن عبد السلام. وأجازه من أهل المغرب شيخ الجماعة بالأندلس أبو جعفر بن الزبير، والقاضي ابن أبي الأحوص، والخطيب أبو الحسن بن فضيلة، الأستاذ أبو الحسن ابن الصايغ الإشبيلي، وأبو جعفر الطباع، وغيرهم.
تواليفهألف كتابا سماه بالمنهاج في ترتيب مسائل الفقيه المشاور أبي عبد الله ابن الحاج.
مولدهولد بغرناطة في حدود ستين وستماية.
وفاته: توفي بغرناطة يوم عاشوراء من عام أحد وثلاثين وسبعماية.
عبد الله بن أبي زمنين المريعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن أبي زمنين المري يكنى أبا خالد.
حالهكان فقيهاً جليلاً، وولى القضاء ببعض جهات غرناطة.
مشيختهأخذ الفقيه عن أبي جعفر بن هلال، وأبي محمد بن سماك القاضي. والعربية عن الخضر بن رضوان العبدري. والحديث عن الحافظ أبي بكر ابن غالب بن عبد الرحمن بن عطية، والإمام أبي الحسن علي بن أحمد، والقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض أيام قضائه بغرناطة.
مولدهولد سنة سبع وتسعين وأربعماية.
وفاته: توفي في ذي قعدة سنة أربع وأربعين وخمس ماية.
عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاريعبد الله بن يحيى بن محمد بن أحمد بن زكريا بن عيسى بن محمد بن يحيى بن زكريا الأنصاري يكنى أبا محمد، من أهل غرناطة، شرقي الأصل، مرسيه، من بيوتاته النبيهة، وقد مر ذكر أخيهز
حالهكان على طريقة حسنة من دمائه الأخلاق، وسلامة السجية، والتزام الحشمة، والاشتغال بما يعنى. ولي القضاء دون العشرين سنة، وتصرف فيه عمره بالجهات الأندلسية، فأظهر فيه عدلاً ونزاهة، ولم يختلف عليه اثنان مدة حياته، من أهل المعرفة بالأحكام، والتقدم في عقد الشرط، وصناعة الفرايض، علماً وعملاً، ثاقب الذهن، نافذاً في صنعة العدد.
مشيخته

قرأ على أبيه الفاضي أبي بكر بن زكريا، وله رواية عالية عن أعلام من أهل المشرق والغرب. وقرأ على أبي الحسن بن فضيلة الولي الصالح، والقاضي أبي عبد الله بن هشام الألشي، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والحاج أبي محمد بن جابر، وأبي بكر القللوسي. وقرأ العدد وما أشبهه على الأستاذ التعاليمي أبي عبد الله الرقام، ولازمه، وأجازه طايفة كبيرة. وأخبرني ولده الفاضل أبو بكر، قال: ورد سؤال من تونس مع تاجر وصل في مركب إلى مدينة المنكب أيام قضائه بها، في رجل فرط في إخراج زكاة ماله سنين متعددة، سميت في السؤال مع نسبة قدر المال، وطلب في السؤال، أن يكون عملها بالأربعة الأعداد المتناسبة، إذ عملها بذلك، أصعب من عملها بالجبر والمقابلة، فعملها وأخرجها بالعملين، وعبر عنها بعبارة حسنة، وكتبها في بطاقة بخط جميل، فذكر التاجر أنه لم يبق بتونس فقيه، إلا ونسخ منها نسخة، واستحسنها.
مولدهولد يوم الخميس السابع عشر لجمادى الآخرة عام خمسة وسبعين وستماية.
وفاته: توفي قاضياً ببسطة في التاسع عشر من رمضان عام خمسة وأربعين وسبعماية.
عبد الله بن أبي جمرة الأزديعبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن أبي جمرة الأزدي من أهل مرسيه، نزيل غرناطة، يكنى أبا محمد، وبيته بمرسية من أعلام بيوتاتها، شهير التعين والأصالة، ينكح فيه الأمراء.
حالهكان من أعلام وقته فضلاً وعدالة وصلاحا ووقاراً، طاهر النشأة، عف الطعمة، كثير الحياء، مليح التخلق. نشأ بمرسيه، ثم انتقل إلى غرناطة فتولى القضاء ببيرة وجهاتها، ثم جاز إلى سبتة، وانعقدت بينه وبين رؤسايها المصاهرة في بعض بناته. ثم آب إلى غرناطة عند رجوع إيالة سبتة إلى أميرها، فتقدم خطيبا بها.
مشيختهروى بالإجازة عن الخطيب الحافظ أبي الربيع بن سالم وأمثاله.
وفاتهالغريبة المستحسنة. قال بعض شيوخنا، كنت أسمعه عند سجوده، وتبتله وضراعته إلى الله. يقول اللهم أمتني ميتة حسنة، ويكرر ذلك. فأجاب الله دعاءه، وتوفاه على أتم وجوه التأنيب طهارة وخشوعاً وخضوعاً وتأهباً، وزماناً ومكاناً، عندما صعد أول درج من أدراج المنبر، يوم الجمعة الثالث والعشرين لشوال من عام أحد عشر وسبع ماية، فكان يوماً مشهوداً لا عهد بمثله، مارئى ألآكثر باكياً منه، وأكثر الناس من الثناء عليه.
عبد الله الحارثى الأزديعبد الله بن سليمن بن داود بن عبد الرحمن بن سليمن بن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثى الأزدي يكنى أبا محمد.
حالهمن الصلة: قال القاضي المحدث الجليل العالم، كان فقيهاً جليلاً أصولياً، نحوياً، كاتباً، أديباً، شاعراً، متفنناً في العلوم، ورعاً، ديناً، حافظاً، ثبتاً، فاضلاً. وكان يدرس كتاب سيبويه، ومستصفى أبي حامد، ويميل إلى الاجتهاد في نظره، ويغلب طريقة الظاهرية، مشهوراً بالعقل والفضل، معظماً عند الملوك، معلوم القدر لديهم، يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية، مقدماً في ذلك، بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار. ولملوك الموحدين به اعتناء كبير. وهو كان أستاذ الناصر وإخوته، وكان له عند المنصور والهم، بذلك أكرم أثرة، مع ما كان مشهوراً به من العلم والدين والفل. ولي القضاء بإشبيلية وقرطبة ومرسية وسبتة وسلا وميورقة، فتظاهر بالعدل، وعرف بما أبطن من الدين والفضل، وكان من العلماء العاملين، سنياً، مجانباً لأهل البدع والأهواء، بارع الخط، حسن التقييد.
مشيختهتردد في طلب العلم، فسمع ببلنسية وشاطبة ومرسية وألمرية وقرطبة وإشبيلية ومالقة، وغيرها من البلاد الأندلسية، وتحصل له سماع جم لم يشاركه فيه أحد من أهل المغرب. قرأ القرآن على أبيه، وعلى أبي محمد عبد الصمد الغساني، وأخذ عن ابن حميد كتاب سيبويه تفقهاً. وعن غيره، وسمع عن ابن بشكموال، وقرأ أكثر من ستين تأليفاً بين كبار وصغار، وكمل له على أبي محمد بن عبد الله، بين قراءة وسما نحو من سنة وثلاثين تأليفاً، منها الصحيحان. وأكثر عن ابن حبيش، والسهيلي، وابن الفخار وغيرهم. واستيفاء مشيخته يشق.
شعرهقال الأستاذ، أنشدنيه ابن أبو القاسم، ونقلت من خطة:
أتدري أنك الخطاء حقاً ... وأنك بالذي تدري رهين

وتعتب الإلى فعلوا وقالوا ... وذاك الظن والإفك المبين
مولدهفي محرم سنة ثمان وأربعين وخمسماية.
وفاته: كان آخر عمره قد أعيد إلى مرسية، قصدها من الحضرة، مات بغرناطة سحر يوم الخميس الثاني لربيع الأول اثنتي عشرة وستماية، ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه، يوم السبت التاسع عشر لشعبان من السنة إلى مالقة. فدفن بها.
ابن ربيععبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري من أهل قرطبة، يكنى أبا القاسم ويعرف بابن ربيع.
حالهكان رحمه الله أديبا، كاتباً شاعراً، نحوياً، فقيهاً أصولياً، مشاركاً في علوم، محباً في القراءة، وطياً عند المناطرة، متناصفا، سنياً، أشعري المذهب والنسب، مصمماً على طريقة الأشعرية، ملتزماً لمذهب أهل السنة المالكي، من بقايا الناس وعليتهم، ومن آخر طلبة الأندلس المشاركين الجلة، المصممين على مذهب أهل السنة، المنافرين للمذاهب الفلسفية، والمبتدعة، والزيغ. ولي قضاء مواضع من الأندلس، منها مدينة شريش ورندة ومالقة، وأم وخطب بجامعها. ثم ولي قضاء الجماعة بحضرة غرناطة، وعقد بها مجلسا للإقراء. فانتفع به طلبتها، واستمر على ذلك، وكانت ولايته غرناطة نحواً من سبعة أعوام.
مشيختهأخذ عن أبيه أبي عامر وتفقه به، وعن الخطيب أبي جعفر بن يحيى الحميري، وتلا عليه، وتأدب به، وعن الأستاذ أبي الحسن بن خروف، وروى مع هؤلاء عن القاضي أبي القاسم بن بقي، وأبي محمد بن حوط الله، وأبي عبد الله بن أصبغ وغيرهم، وأجاز له الشيخ المسن أبو الحسن على ابن أحمد بن على الغافقي الشقوري، وله به علو، وبالأستاذ الخطيب المسن أبي جعفر بن يحيى المتقدم.
وفاتهتوفي في الساب عشر لشوال سنة ست وستين وستماية. ولم يخلف بعده مثله، ولا من يقاربه.
عبد الله بن إبراهيم الثقفي العاصميعبد الله بن إبراهيم بن الزبير بن الحسن بن الحسين الثقفي العاصمي من ولد عاصم بن مسلم الداخل في طلعة بلج الملقب بالعريان، أخو الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، شقيقه، يكنى أبا محمد.
حالهكان طبيباً ماهراً، كاتباً شاعراً، ذاكراً للغة، صنع اليدين، متقدماً في أقرانه نباهة وفصاحة، معدوم النظير في الشجاعة والإقدام، يحضر الغزوات، فارساً وراجلاً، ولقي بفحص غرناطة ليلا، نصرانياً يتجسس، فأسره وجره، وأدخله البلد، ولم يلتفت إلى ثمنه، استكتاماً لتلك الفعلة.
مشيختهأخذ القرآن عن الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور، وروى عن أبي يحيى بن عبد الرحيم، وأبي الوليد العطار، وأبي القاسم بن ربيع وأبي الخطار بن خليل، وأخذ عن أبي عمر بن حوط الله بمالقة، وابن أبي ريحانه. وبسبتة على أبي بكر بن مشليون. وأجاز له أبو بكر بن محرز، وأبو الحسن الثاري. وأخذ عن الأستاذ الناقد أبي الحسن علي بن محمد الكناني.
مولدهولد بغرناطة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي قعدة سنة ثلاث وأربعين وستماية.
وفاته: توفي بها سحر أول يوم من ذي قعدة سنة ثلاث وثمانين وستماية.
عبد الله بن موسى

بن عبد الرحمن بن حماد الصنهاجي
يكنى أبا يحيى.
حالهطالب نبيل فاضل، ورع زاهد، مؤثر في الدنيا بما تملكه، تال لكتاب الله في جميع الأوقات.
أخباره في الإيثاروجه له السيد أبو إسحاق ابن الخليفة أبي يعقوب خمسماية دنير ليصلح بها من شأنه. فصرف جميعها على أهل الستر في أقل من شهر. ومر بفتى في إشبيلية، وأعوان القاضي يحملونه إلى السجن، وهو يبكي فسأله، فقال: أنا غريب، وطولبت بخمسين دنيرا، وبيدي عقود، وطولبت بضامن فلم أجده، فقال، له الله، قال نعم، قال، فدفع له خمسين دنيرا، قال أشهد لك بها، فضجر وقال إن الله إذا أعطى عبده شيئاً لم يشهد به عليه، وتركه وانصرف لشأنه، وكانت عنده معرفة وأدب.
مولده: بغرناطة في سنة إحدى وعشرين وخمسماية.
ومن ترجمة الكتاب والشعراء بين أصلي وطارئ
ابن المرابععبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الأزدي من أهل بلش يكنى أبا محمد. ويعرف بابن المرابع
حاله

من نبهاء أدباء البادية، خشن الظاهر، منطو على لوذعية، متوارية في مظهر جفوة، كثير الانطباع عند الخبرة، قادر على النظم والنثر، متوسط الطبقة فيهما، مسترفد بالشعر، سيال القريحة، مرهوب الهجاء، مشهور المكان ببلده، يعيش من الخدم المخزنية، بين خارص وشاهد وجد بذلك وقته، يوسط رقاعته، فتنجح الوسيلة، ويتمشى له بين الرضا والسخط الغرض.
وجرى ذكره في التاج بما نصه: طويل القوادم والخوافي، كلف على كبر سنه بعقايل القوافي، شاب في الأدب وشب، ونشق ريح البيان لما هب، قحاول رفيعه، وجزله، وأجاد جده وأحكم هزله. فإن مدح صدح، وإن وصف أنصف، وإن عصف قصف. وإن أنشأ ودون، وتقلب في أفانين البلاغة وتلون، أفسد ما شاء الله وكون، فهو شيخ الطريقة الأدبية وفتاها، وخطيب حفلها كلما أتاها، لا يتوقف عليه من أغراضها غرض، ولا يضيع لديه منها مفترضِ. ولم نزل بروقه تتألق، ومعانيه بأذيال الإحسان تتعلق. حتى برز في أبطال الكلام وفرسانه، وذعرت القلوب لسطوة لسانه، وألفت إليه الصناعة زمامها، ووقفت عليه أحكامها. وعبر البحر، منتجعاً بسعره، ومنفقاً في سوق الكساد من شعره فأبرق وأرعد، وحذر وتوعد، وبلغ جهد إمكانه، في التعريف بمكانه، فما حرك، ولا هز، وذل في طلب الرقد وقد عز، وما برح أن رجع إلى وطنه الذي اعتاده، رجوع الحديث إلى قتاده.
شعرهقال في التاد، وقد أثبت من نزعاته، وبعض مخترعاته، ما يدل على سعة باعه، ونهضة ذراعه. فمن النسيب قوله:
ما للمحب دواء يذهب الألما ... عنه سوى لمم فيه ارتشاف لما
ولا يرد عليه نوم مقلته ... إلا الدنو إلى من شفه سقما
يا حاكماً والهوى فينا يؤيده ... هواك في بما ترضاه قد حكما
أشغلتني بك شغلاً شاغلا ... فلما تناسى فديتك عني بعد ذاك لما
ملكت روحي فأرفق قد علمت بما ... يلقى ولا حجة تبقى لمن علما
ما غبت عني إلا غاب عن بصري ... بدراً إذا لاح يجلى نوره الظلما
ما لحت لي فدنا طرفي لغيرك يا مولى لحا فيه جفني النوم قد حرما
طوعاً لطيعك لا أعصيك فافض بما ... ترضاه أرضى بما ترضى ولا جرما
إن الهوى يقتضي ذلاً لغيرك لو ... أفادني فيك قرباً يبرد الألما
سلمت من كل عيب يا محمد لا ... كن قلب صبك من عينيك ما سلما
ومن مخاطباته الأدبية. ما كتب به إلى شيخ الصوفية ببلده مع طالع من ولده:
مماليكم قد زاد فيكم مرابع ... من الأفق الكوني باليمن طالع
بأنواركم يهدي إلى سبل الهدى ... ويسموا لما تسمو إليه المطالع
فواسوه منكم بالدعاء فإنه ... مجاب بفضل الله للخلق نافع
أفاض عليه الله من بركاتكم ... وأبقاكم ذو العرش ماجن ساجع
فوقع له الشيخ المخاطب بها. أبو جعفر بن الزيات رحمه الله، بما نصه:
عسى الله يؤتيه من العلم حصة ... تصوب على الألباب منها ينابع
ويجعله طرفاً لكل سجية ... مطهرة للناس فيها منافع
ويلحقه في الصالحات بجده ... فيثنى عليه الكل دان وشاسع
وذو العرش جل إسما عميم نواله ... وخير الورى في نص ما قلت شافع
فما أنت دوني يا أباه مهنأ به ... فالسرور الكل بابنك جامع
وله يستدعى إلى الباكور:
بدار بدار قد آن البدار ... إلى أكواس باكور تدار
تبدت رافلات في مسوح ... له لون الدياجي مستعار
وقد رقمت بياضاً في سواد ... كأن الليل خالطه النهار
وقد نضجت وما طبخت بنار ... وهل يحتاج للباكور نار
ولا تحتاج مضغاً لا وليس ... عجيب لا يشق له غبار
فقل للخلق قل للضرس دعني ... ففي البلع اكتفاء واقتصار
ومما وقع له أثناء مقامات تشهد باقتداره، مقطوعة سهلة وهي:
رعى الله عهداً حوى ما حوى ... لأهل الوداد وأهل الهوى
أرهم أموراً حلا وردها ... وأعطاهم السؤل كيف نوا

ولما حلا الوصل صالوا له ... وراموه ملواً وما روا
وأوردهم سراً سرارهم ... وروداً إلى الكل ذا دوا
وما أمل طال إلا وها ... ولا أمل صال إلا هوا
وقال يرثي ديكاً فقده، ويصف الوجد الذي وجده، ويبكي من عدم إذانه، إلى غير ذلك من مستطرف شأنه:
أوودي به الحتف لما جاءه الأجل ... ديكاً فلا عوض منه ولا بدل
قد كان لي أمل في أن يعيش فلم ... يثبت مع الحتف في بغيالها أمل
فقدته فلعمري إنها عظة ... وبالواعظ تذري دمعها المقل
كأن مطرف وشى فوق ملبسه ... عليه من كل حسن باهر حلل
كأن إكليل كسرى فوق مفرقه ... وتاجه فهو عالي الشكل محتفل
مؤقت لم يكن بطريق ل خطأ ... فيما يرتب من ورد ولا خطل
كأن زرقيل فيما مر علمه ... علم المواقيت فيما رتب الأول
يرحل الليل يحيى بالصراخ فما ... يصده كلل عنه ولا ملل
رأيته قد وهنت منه القوى فهوى للأرض فعلا يريه الشارب الثمل
لو يفتدي بديوك الأرض قل له ... ذاك الفدا ولكن فاجأ الأجل
قالوا الدواء فلم يغن الدوام ولم ... ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا
أملت فيه ثواباً أجر محتسب ... إن قلت ذاك صح القول والعمل
وأمره السلطان أبو عبد الله سادس الملوك النصريين في بعض أسفاره، وقد نظر إلى شلير. وتردى بالثلج وتعمم، وكمل ما أراد من بزته وتمم، أن ينظم أبياتاً في وصفه، فقال بديهة:
وشيخ جليل القدر طال عمره ... وما عنده علم بطول ولا قصر
عليه لباس أبيض باهر السنا ... وليس بثوب أحكمته يد البشر
وطوراً تراه كله كاسياًُ به ... وكسوته فيها لأهل النهي عبر
وطوراً ثراه عارياً ليس يشتكي ... لحر ولا برد من الشمس والقمر
وكم مرت الأيام وهو كما ترى ... على حاله لم يشك ضعفاً ولا كبر
فذاك شلير شيخ غرناطة التي ... لبهجتها في الأرض ذكر قد انتشر
بها ملك سامي المراقي أطاعه ... كبار ملوك الأرض في حالة الصغر
تولاه رب العرش منه بعصمة ... تقيه مدى الأيام من كل ما ضرر
نثرهونثره كثير ما بين مخاطبات وخطب ومقطعات ولعب، وزرديات شأنها عجب. فمن ذلك ما خاطب به الرئيس أبا سعيد بن نصر يستجدي أضحية:

يقول شاكر الأيادي، وذاكر فخر كل نادي، وناشر غرر الغرر لعاكف والبادي، والرايح والغادي، إسمعوا مني حديثاً تلذه الأسماع، ويستطرفه الاستماع. ويشهد بحسه الإجماع. ويجب عليه الاجتماع. وهو من الأحاديث التي لم تتفق إلا لمثلي ولا ذكرت عن أحد قبلي. وذلك يا معشر الألبا، والخلصاء الأحبا. أني دخلت في هذه الأيام داري. في بعض أدواري، لأقضي من أخذ الغذاء أوطاري. على حسب أطواري. فقالت لي ربة البيت، لم جئت. وبما أتيت. قلت جيت لكذا كذا فهات الغدا، فقالت لا غذا لك عندي اليوم. ول أودى بك الصوم. حتى تسل الاستخارة، وتفعل كما فعل زوج الجارة، طيب الله نجاره. وملأ بالأرزاق وجاره. قلت وما فعل قريني. وأرني من العلامة ما أحببت أن تريني. قالت إنه فكر في العيد. ونظر في أسباب التعييد. وفعل في ذلك ولم تنظر إليه نظرة بعين اهتبالك. وعيد الأضحى في اليد. والنظر ف يشراء الأضحية اليوم أوفق من الغد. قلت صدقت، وبالحق نطقت، بارك الله فيك، وشكر جميل تحفيك. فلقد نبهت بعلك لإقامة السنة، ورفعت عنه من الغفلة منة. والآن أسير لأبحث عما ذكرت. وأنظر في إحضار ما إليه أشرت، ويتأتى ذلك إن شاء الله بسعدك. وتنالين فيه من بلوغ الأمر غاية قصدك. والجد ليس من الهزل، والأضحية للمرأة وللرجل الغزل. قالت دعني من الخرافات. وأخبار الزرافات. فإنك حلو اللسان، قليل الإحسان. تخذت الغربة صحبتك إلى ساسان. فتهاونت بالنسا، وأسأت فيمن أسا. وعودت أكل خبزك في غير منديل. وإيقاد الفتيل دون قنديل، وسكنى الخان، و عدم ارتفاع الدخان، فما تقيم موسما، ولا تعرف له ميسما. وأخذت معي في ذلك بطويل وعريض، وكلانا في طرفي نقيض، إلى أن قلت لها إزاركوردائي، فقد تفاقم بك أمر دائي، وما أظنك إلا بعض أعدائي، قالت مالك والإزار، شط بك المزار، لعلك تريد إهانه في الأضحية والأبزار، أخرج عني بيا مقيت، لا عمرت معك ولا بقيت، أو عدمت الذين، وأخذ الورق بالعين. يلزمني صوم سنة، لا أغفيت معك سنة، إلا إن رجعت بمثل ما رجع به زوج جارتي، ورأى لك الربح في تجارتي. فقمت عنها وقد لوت رأسها وولولت، وابتدرت وهرولت، وجالت في العتاب وصولت، وضمت بنتها وولدها، وقامت باللجج، والانتصار بالحجج أودها، فلم يسعني إلا أن عدوت أطوف السكك والشوارع؛ وأبارد لما غدوت بسبيله وأسارع، وأجوب الآفاق، وأسل الرفاق، وأخترق الأسواق، وأقتحم زريبة بعد زريبة، وأختبر منها البعيدة والقريبة، فما استرخصته استنقصته، وما استغليته استعليته، وما وافق غرضي، اعترضني دونه عدم عرضي، حتى انقض ثلثا يومي، وقد عييت بدوراني وهومي، وأنا لم أتحصل من الابتياع على فايدة، ولا عادت علي فيه من قضاء الأرب عايدة، فأومأت الإياب، وأنا أجد من خوفها، ما يجد صغار الغنم من الذئاب، إلى أن مررت بقصاب يقصب في مجزره، قد شد في وسطه مئزره، وقصر أثوابه حتى كشف عن ساقيه، وشمر عن ساعديه حتى أبدى مرفقيه، وبين يديه عنز قد شد يديه في رقبته، وهو يجذبه فيبرك، ويجره فما يتحرك، ويروم سيره فيرجع القهقرى، ويعود إلى ورا، والقصاب يشد على إزاره، خيفة من فراره، وهو يقول: اقتله من جان باغ، وشيطان طاغ، ما أشده وما ألذه، وما أصده، وما أجده، وما أكثره بشحم، وما أطيبه بلحم، الطلاق يلزمه، إن كان عاين تيساً مثله أو أضحية تشبهه قبله، أضحية حفيلة، ومنحة جليلة. هنأ الله من رزقها، وأخلف عليه رزقها. فاقتحمت المزدحم، أنظر مع من نظر، وأختبر فيمن اختبر. وأنا والله لا أعرف في التقليب والتخمين. ولا أفرق بين العجف والسمين، غير أني رأيت صورة دون البغل وفوق الحمار، وهيكلا يخبرك عن صورة العمار، فقلت للقصاب كم طلبك فيه، على أن تمهل الثمن حتى أوفيه، فقال ابغني فيه أجيرا، وكن له الآن من الذبح مجيرا، وخذه بما يرضى، لأول التقضي. قلت استمع الصوت، ولا تخف الفوت. قال ابتعه مني نسيه وخذه هدية، قلت نعم، فشق لي الضمير، وعاكسني فيه بالنقير والقطمير. قال تضمن لي فيه عشرين ديناراً أقبضها منك لانقضاء الحول دنيراً دنيراً. قلت إن هذا لكثير، فاسمح منه بإحاطة اليسير. قال والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا أنقصك من هذا، وما قلت لك سمسمة، اللهم إن شئت السعة في الأجل، فأقضي لك ذلك دون أجل، فجلبني للابتياع منه، الإنساء في الأمد. وغلبني بذلك فلم أفتقر منه لرأى والد ولا ولد، ولا

أحوجت نفسي في ذلك لمشورة أحد، وقلت قد اشتريته منك، فضع البركة، ليصح النجح في الحركة. فقال فقيه، بارك الله فيه، قد بعته لك، فاقبض متاعك، وثبت ابتياعك. وها هو في قبضك، فاشدد وثاقه، وهلم لنعقد عليك الوثاقة. فانحدرت معه لدكان التوثيق، وابتدرت من السعة إلى الضيق، وأوثقني بالشادة تحت عقد وثيق، وحملني من ركوب الدين ولحاق الشين في أوعر طريق. ثم قال لي هذا تيسك فشأنك وإياه، وما أظنك إلا تعصياه، وأت بحمالين أربعة، فإنك لا تقدر أن ترفعه، ولا يتأتى لك أن يتبعك ولا أن تتبعه، ولم يبق لك من الكلفة إلا أن يحصل في محلك، فيكمل سرور أهلك. وانطلقت للحمال، وقلت هلم إلي، وقم الآن بين يدي، حتى انتهينا إلى مجزرة القصاب، والعنز يطلب فلا يصاب، فقلت أين التيس يا أبا أويس. قال إنه قد فر، ولا أعلم حيث استقر. قلت أتضيع علي مالي، لتخيب آمالي، والله لا يحزنك بالعصا كمن عصا، ولا رفعتك إلى الحكام، تجري عليك منهم الأحكام. قال مالي علم به، ولا بمنقلبه، لعله فر لأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، فعليك بالبريح. فاتجهت أنادي بالأسواق، وجيران الزقاق، من ثقف لي تيساً فله البشارة، بعد ما أتى بالأمارة، وإذا برجل قد خرج من دهليز، وله هدير هزيز، وهو يقول من صاحب العنز المشوم، لا عدم به الشوم، إن وقعت عليه عيني، يرتفع الكلام بينه وبيني. قلت أنا صاحبه فما الذي دهاك مني أو بلغك عني. قال إن عنزك حين شرد، خرج مثل الأسد، وأوقع الرهج في البلد، وأضر بكل أحد، ودخل في دهليز الفخارة، فقام فيه وقعد، وكان العمل فيه مطبوخاً ونيا، فلم يترك منه شيا، ومنه كانت معيشتي، وبه استقامت عيشتي، وأنت ضامن مالي، فارتفع معي إلى الوالي، والعنز مع هذا يدور وسط الجمهور، ويكر كرة العفريت المزجور، ويأتي بالكسر على ما بقي في الدهليز من الطواجن والقدور، والخلق قد انحسروا للضجيج، وكثر العياط والعجيج وأنت تعرف عفرطة الباعة، وما يحوون من الوضاعة، وأنا أحاول من أخذه ما أستطيع، وأروم الإطاعة من غير مطيع، والباعة قد أكسبته من الحماقة، ما لم يكن لي به طاقة. ورجل يقول المحتسب، واعرف ما تكتسب، وإلى من تنتسب، فقد كثر عنده بك التشكي، وصاحب الدهليز قبالته يبكي، وقد وجد عنده عليك وجد الشكوى، وأيقن أنك كسرت الدعوى، وأمر بإحضارك، وهو في انتظارك، فشد وسطك، واحفظ إبطك، وإنك تقوم على من فتح باعه للحكم على البقعة، ونصب لأرباب البراهين على أرباب الشواهين، ورفع على طبقة، ليملأ طبقة، ثم أمسكني باليمين، حتى أوصلني للأمين، فقال لي أرسلت التيس للفساد كأنك في نعم الله من الحساد. قلت إنه شرد، ولم أدر حيث ورج، قال ولم لا أخذت ميثاقه، ولم تشدد وثاقه، يا شرطى طرده، واطرح يدك فيه وجرده. قلت أتجردني الساعة، ولست من الباعة، قال لا بد من ذاك أو تضمن ما أفسده هناك. قلت الضمان الضمان، الأمان الأمان. قال قد أمنت إن ضمنت، وعليك الثقاف، حتى يقع الإنصاف، أو ضامن كاف، فابتدر أحد إخواني، بعض جيراني، فأدى عني ما ظهر بالتقدير، وآلت الحال للتكدير. ثم أردت الانصراف بالتيس، لا كان كيانه، ولا كون مكانه، وإذا بالشرطي قد دار حولي، وقال لي كلف فعلي بأداء جعلي، فقد عطلت من أجلك شغلي، فلم يك عندي بما تكسر سورته، ولا بما تطفي جمرته، فاسترهن مئزري في بيته ليأخذ مايته. وتوجهت لداري، وقد تقدمت أخباري، وقدمت بغباري، وتغير صغاري وكباري، والتيس على كاهل الحمال، يرغو كالبعير، ويزأر كالأسد إذا فصلت العير، فقلت للحمال إنزله على مهل، فهلال العيد قد استهل، فحين طرحه في الأسطوان. كر إلى العدوان، وصرخ كالشيطان، وهم أن يقفز الحيطان، وعلا فوق الجدار، وأقام الرهجة في الدار، ولم تبق في الزقاق عجوز إلا وصلت لتراه، وتسل عما اعتراه، وتقول بكم اشتراه، والأولاد قد دارت به، وأرهقهم لهفه، ودخل قلوبهم خوفه، فابتدرت ربة البيت، وقالت كيت وكيت، لا خل ولا زيت، ولا حي ولا ميت، ولا موسم ولا عيد، ولا قريب ولا بعيد، سقت العفريت إلى المنزل، ورجعت بمعزل، ومن قال لك اشتره، ما لم تره، ومن قال لك سقه حتى توثقه، ومتى تفرح زوجتك، والعنز أضحيتك، ومتى تطبخ القدور وولدك منه معذور، وبأي قلب تأكل الشوية، ولم تخلص لك فيه النية واقلة سعدها، وأخلف وعدها، والله لو كان العنز يخرج الكنز، ما عمر لي داراً، ولا قرب لي جواراً

أخرج عني يا لكع، فعل الله بك وصنع، وما حبسك عن الكباش السمان، والضأن الرفيعة الأثمان، يا قليل التحصيل، يا من لا يعرف الخياطة ولا التفصيل، أدلك على كبش سمين، واسع الصدر والجبين، أكحل عجيب، أقرن مثل كبش الخطيب، يعبق من أوداكه كل طيب، يغلب شحمه على لحمه، ويسيل الودك من عظمه، قد علف بالشعير، ودبر عليه أحسن تدبير، لا بالصغير ولا بالكبير، تصلح منه الألوان، ويستطرف شواه في كل أوان، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان، قلت بيني لي قولك. لأتعرف فعلك. وأين توجد هذه الصفة، يا قليلة المعرفة. قالت عند مولانا، وكهفنا ومأوانا الرييس الأعلى، الشهاب الأجلى، القمر الزاهر. الملك الظاهر، الذي أعز المسلمين بنعمته، وأذل المشركين بنقمته. واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية. عني يا لكع، فعل الله بك وصنع، وما حبسك عن الكباش السمان، والضأن الرفيعة الأثمان، يا قليل التحصيل، يا من لا يعرف الخياطة ولا التفصيل، أدلك على كبش سمين، واسع الصدر والجبين، أكحل عجيب، أقرن مثل كبش الخطيب، يعبق من أوداكه كل طيب، يغلب شحمه على لحمه، ويسيل الودك من عظمه، قد علف بالشعير، ودبر عليه أحسن تدبير، لا بالصغير ولا بالكبير، تصلح منه الألوان، ويستطرف شواه في كل أوان، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان، قلت بيني لي قولك. لأتعرف فعلك. وأين توجد هذه الصفة، يا قليلة المعرفة. قالت عند مولانا، وكهفنا ومأوانا الرييس الأعلى، الشهاب الأجلى، القمر الزاهر. الملك الظاهر، الذي أعز المسلمين بنعمته، وأذل المشركين بنقمته. واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية.
وفاتهفي كاينة الطاعون ببلده بلش في أواخر عام خمسين وسبعماية ودفن بها.
عبد الله بن الحجاري الصنهاجيعبد الله بن إبراهيم بن وزمر الحجاري الصنهاجي الأديب المصنف، يكنى أبا محمد.
حاله وأوليتهأبوه أديب مدينة الفرج بوادي الحجارة، المصنف للمأمون بن ذي النون كتاب مغنيطاس الأفكار فيما تحتوي عليه مدينة الفرج من النظم والنثر والأخبار، وكان أبو محمد هذا ماهراً، كاتباً، شاعراً، رحالا. سكن مدينة شلب، بعد استيلاء العدو على بلاده بالثغر. وله في التحول أشعار وأخبار. قدم غرناطة، وقصد عبد الملك بن سعيد صاحب القلعة من بنياتها، واستأذن عليه في زي موحش، واستخف به القاعدون ببابه، إلى أن لاطف بعضهم، وسأله أن يعرف به القايد، فما بلغ عنه، أمر بإدخاله، فأنشده قصيدة مطلعها:
عليك أحالني الذكر الجميل ... فجيت ومن ثنايك لي دليل
أتيت ولم أقدمك من رسول ... لأن القلب كان هو الرسول
منها في وصف زيه البدوي المستقل وما في طيه:
ومثلني بدن فيه خمر ... يخفف بها ومنظره ثقيل
فأكرم نزله، وأحسن إليه، وأقام عنده سنة، حتى ألف بالقلعة كتاب المسهب في غرايب المغرب، وفيه التنبيه على الحلى البلادية والعبادية. وانصرف إلى قصد ابن هود بورطة، بعد أن عذله عن التحول عنه، فقال النفس تواقة، ومالي بالتغرب طاقة، ثم أفكر وقال:
يقولون لي مإذا الملال تقيم في ... محل فعند الأنس تذهب راحلا
فقلت لهم مثل الحمام إذا شدا ... على غصن أمسى بآخر نازلا
نكبتهقال علي بن موسى بن سعيد: ولما قصد الحجارى روطة، وحل لدى أميرها المستنصر بن عماد الدولة بن هود. وتحرك لغزو من قصده من البشكنس، فهزم جيشه، وكان الحجارى أحد من أسر في تلك الوقيعة، فاستقر ببسقاية، وبقي بها مدة، يحرك ابن هود بالأشعار ويحثه على خلاصه من الإسار، فلم يجد عنده ذمامة، ولا تحرك له اهتمامه، فخاطب عبد الملك بن سعيد بقوله:
أصبحت في بسقاية مسلماً ... إلى الأعادي لا أرى مسلماً
مكلفاً ما ليس في طاقتي ... مصفدا منتهرا مرغما
أطلب بالخدمة وا حسرتي ... وحالتي تقضي بأن أخدما
فهل كريم يرتجي للأسير ... يفكه أكرم به منتما
وقوله:
أرييس الزمان أغفلت أمري ... وتلذذت تاركاً لي بأسر
ما كذا يعمل الكرام ولكن ... قد جرى على المعود دهري
فجتهد في فدايه، ولم يمر شهر إلا وقد تخلص من أسره، واستقر لديه. فكان طليق آل سعيد. وفيهم يقول:

وحدنا سعيداً منجباً خير عصبة ... هم في بني أعصارهم كالمواسم
مشنفة أسماعهم بمدايح ... مسورة أيمانهم بالصوارم
فكم لهم في الحرب من فضل ناثر ... وكم لهم في السلم من فضل ناظم
تواليفهتواليف الحجارى بديعة، منها الحديقة في البديع. وهو كتاب مشهور، ومنها المسهب في غرايب المغرب. وافتتح خطبته بقوله: الحمد لله الذي جعل العباد من البلاد بمنزلة الأرواح من الأجساد، والأسياف من الأغماد. وهو في ستة مجلدات.
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد

ابن الخطيب السلماني
يكنى أبا محمد.
أوليته، تنظر في اسم جده.
حالهحسن السكل. جيد الفهم، يغطى منه رماد السكون جمرة حركة، منقبض عن الناس. قليل البشاشة، حسن الخط، وسط النظم. كتب عن الأمراء بالمغرب، وأنشدهم، واقتضى خلعهم وصكوكهم بالإقطاع والإحسان. ثم لما كانت الفتنة، كتب عن سلطان وطنه، معزز الخطة بالقيادة، وأنشدهم.
مشيختهقرأ على قاضي الجماعة، الشيخ الأستاذ الخطيب أبي القاسم الحسني، والأستاذ الخطيب أبي سعيد فرج بن لب التغلبي، واستظهر بعض المبادي في العربية، واستجيز له من أدركه ميلاده من أهل المشرق والمغرب.
شعرهمترفع عن الوسط إلى الإجادة، بما يكفله عذر الحداثة، وقد ثبت في اسم السلطان لهذا العهد، أبي عبد الله بن نصر، أيده الله، ما يدل على جودة قريحته، وذكاء طبعه. ومما دون الذي ثبت له حيث ذكر قوله:
لمن طلل بالرقمتين محيل ... عفت دمنتيه شمأل وقبول
يلوح كباقي الوشم غيره البلى ... وجادت عليه السحب وهي همول
فيا سعد مهلاً بالركاب لعلنا ... نسايل رعاً فالمحب سئول
قف العيس ننظر نظرة تذهب الأسى ويشفى بها بين الضلوع غليل
وعرج على الوادي المقدس بالحمى ... فطاب لديه مربع ومقيل
فيا حبذا تلك الديار وحبذا ... حديث بها للعاشقين طويل
دعوت لها سقيا الحمى عندما سرى ... وميض وعرف للنسيم عليل
وأرسلت دمعي للغمام مساجلاً ... فسال على الخدين منه مسيل
فأصبح ذاك الربع من بعد محله ... رياضاً بها الغصن المروح يميل
لين حال رسم الدار عما عهدته ... فعهد الهوى في القلب ليس يحول
ومما شجاني بعد ما سكن الهوى ... بكاء حمامات لهن هديل
توسدن فرع البان والنجم مايل ... وقد آن من جيش الظلام رحيل
فيا صاحبي دع عنك لومي فإنه ... كلام على سمع المحب ثقيل
تقول اصطباراً عن معاهدك الأني ... وهيهات صبري ما إليه سبيل
فلله عيناً من رآني وللأسا ... غداة استقلت بالخليط حمول
يطاول ليل التم مني مسهد ... وقد بان عني منزل وخليل
فيا ليت شعري هل يعودن ما مضى ... وهل يسمحن الدهر وهو بخيل
نثرهأجابني لما خاطبت الجملة من الكتاب، والسلطان رضي الله عنه، بالمنكب، في رحلة أعملها بما نصه:

ولله من فذة المعاني، حيث مشوق الفؤاد عاني، لما أنارت بها المغاني، غنين عن مطرب الأغاني، يا صاحب الإذعاني، أجب بالله من دعاني، إذا صرت من كثرة الأماني، بالشوق والوجد مثل ماني. وردت سحات سيدي التي أنشأت لغمام الرحمة، عند اشتداد الأزمة رياحاً، وملأت العيون محاسناً، الصدور انشراحاً، وأصبح رحيب قرطاسها، وعميم فضلها ونوالها، وأيناسها لفرسان البلاغة، مغدى ومراحاً. فلم أدر أصحيفة نسخت مسطورة، أم روضة نفحت ممطورة، أطيب من المسك منشقا، وأحسن من السلك متسقا، فملكتها مقادة خاطري، وأودعتها سواد قلبي وناظري، وطلعت علي طلوع الصبح، على عقب السرى، وخلصت خلوص الخيال مع سنة الكرى. فلله ما جلبت من أنس، وأذهبت لطايفة الشيطان من مس، وهاجت من الشوق، الذي شب عمره عن الطوق، والوجد الذي أصبح وارى الزند. فأقسم بباري النسيم، وواهب الحظوظ والقسم، لو أعطيت للنفس مقادتها، وسوغها إرادتها، ما قنعت بنيابة القرطاس والمداد، عن مباشرة الأرواح والأجساد، وإن أعرضت عقبة للشعير، ورأس المزاد وشمخ بأنفه وزاد، وما بين ذلك من علم باذخ، وطود شامخ، قد أذكرت العقاب عقابه، صافحت النجوم هضابه، قد طمح بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه:
ملكت عنان الريح راحته ... فجيادها من تحته تجري
وأما الحمل الهايج، والبحر المتمايج، والطلل المايل، والذنب الشايل، فمساجلة مولاي في ذلك المجال، من المحال، إذ العبد قصاراه ألفاظ مركبة، غير مرتبة:
هو جهد المقل وافاك مني ... إن جهد المقل غير قليل
وأقرأ على مولاي، أبقاه الله، سلاما عميماً، تنسم روضه نسيماً، ورف نظره، وعبق شميماً، والأوفر الأذكى منه عليه معادا، ما سفح السحاب إرعادا، وأبرق الغمام رعدا والحسام أبعادا، ورحمة الله وبركاته. من عبده الشبق لوجهه، عبد الله بن الخطيب، في الخامس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين وسبعماية.
مولده: بحضرة غرناطة، يوم السبت سابع عشر صفر عام ثلاثة وأربعين وسبعماية.
؟

عبد الله بن محمد بن ساره البكري
شنترينى، سكن ألمرية وغرناطة، وتردد مادحاً ومنتجعاً شرقاً ومغرباً ويضرب في كثير من البلاد.
حالهكان ذا حظ صالح من النحو واللغة، وحفظ الأشعار، أديباً ماهراً، شاعراً مجيداً، مطبوع الاختراع والتوليد. تجول في شرق الأندلس وغربها، معلماً للنحو، ومادحاً ولاتها، وكتب عن بعضهم، وتعيش بالوراقة زمانا، وكان حسن الخط، جيد النقل والضبط.
؟
مشيخته
روى عن أبي الحسن بن الأخضر.
من روى عنه: روى عنه أبو بكر بن مسعود، وأبو جعفر بن الباذش، وأبو عثمن بن هرون، وأبو الطاهر التميمي، وأبو العباس بن علي اللص، وأبو العلاء بن الجنان. وأبو محمدبن يوسف القضاعي، وإبراهيم بن محمد السبتي.
؟
شعره
وشعره كثير جيد شهير. منه في حرفة الوراقة قوله:
أما الوراقة فهي أيكة حرفة ... أغصانها وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بإيرة خايط ... يكسو العراة وظهره عريان
وقال في نجم الرحيم، وهو من التشبيه العقيم:
وكوكب أبصرالعفريت مسترقاً ... فانقضى يذكي سريعاً خلفه لهبه
كفارس حل إخصاراً عمامته ... تجرها كلها من خلفه عدبه
وقال منه في المواعظ:
يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد ... نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكر ففيم ترى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى على حال ولا الفلك ... الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
لأرحلن عن الدنيا ولو كرهاً ... فراقها الثاويان البدو والحضر
وقال في موت ابنة له:
ألا يا موت كنت بنا رؤوفا ... فجددت السرور لنا بزورة
حمدنا سعيك المشكور لما ... كفيت مؤنة وسترت عورة
فأنكحنا الضريح بلا صداق ... وجهزنا العروس بغير شورة
وفاتهتوفي عبد الله بن ساره سنة تسع عشرة وخمسمائة.
عبد الله بن محمد الشراطيكنى أبا محمد، من أهل مالقة.
حاله

طالب جليل، ذكي، مدرك، ظريف، كثير الصلف والختروانة والإزراء بمن دونه، حاد النادرة، مرسل عنان الدعابة، شاعر مكثر، يقوم على الأدب والعربية، وله تقدم في الحساب، والبرهان على مسايله. استدعى إلى الكتابة بالباب السلطاني، واختص بولي العهد، ونيط به من العمل، وظيف نبيه، وكاد ينمو عشبه، ويتأشب جاهه، لو أن الليالي أمهلته، فاعتبط لأمد قريب من ظهوره، وكانت بينه وبين الوزير أبي عبد الله بن الحكيم، إحنة، تخلصه الحمام لأجلها، من كف انتقامه.
شعرهوشعره كثير، لكني لم أظفر منه إلا باليسير. نقلت من خط صاحبنا القاضي المؤرخ أبي الحسن بن الحسن، من نظم أبي محمد الشراط، في معنى، كان أدباء عصره، قد كلفوا بالنظم فيه، يظهر من هذه الأبيات في شمعة:
وكنت ألفت قبل اليوم إلفاً ... أنادي مرة فيجيب ألفاً
وكنا مثل وصل العهد وصلا ... وكنا مثل وصف الشهد وصفا
ففرق بيننا صرف الليالي ... وسوغنا كؤس البين صرفا
فصرت غداة يوم البين شمعا ... وسار فصار كالفسل المصفا
فدمعي لا يتم أسى وجسمي ... يغص بنار وجدي ليس يطفا
ثم في المعنى أيضاً:
حالي وحالك أضحت آية عجبا ... إن كنت مغربا أو كنت مغتربا
إذا دنوت فإني مشعر طرباً ... وإن نأيت فإني مشعل لها
كذاك الشمع لا تنفك حالته ... إلا إلى الناس مهما فارق الضربا
ومن ذلك أيضاً:
رحلتم وخلفتم مشوفكم نسيا ... رهين هيام لا يموت ولا يحيا
فضاقت على الأرض واعتاص مذهبي ... وما زلت في قومي ولا ضاقت الدنيا
وما باختيار شتت الدهر بيننا ... وهل يملك الإنسان من أمره شياً
فذا أضلعي لم تخب من أجلكم جوى ... وذا أدمعي لم تأل من بعدكم جريا
كأنني شمع في فؤاد وأدمع ... وقد فارقت من وصلكم ريا
وذكر لي، أن هذا صدر عنه في مجلس أنس مع الوزير أبي عبد الله ابن عيسى بمالقة، بحضرة طايفة من ظرفاء الأدباء.
وفاتهكان حيا سنة سبعمائة، وتوفي بغرناطة، وهي على حاله من الكتابة، رحمه الله.
عبد الله بن يوسف بن رضوان

بن يوسف بن رضوان النجاري
يكنى أبا القاسم، ويعرف باسم جده، من أهل مالقة، وصاحب القلم الأعلى لهذا العهد بالمغرب.
حالههذا الفاضل نسيج وحده، فهماً وانطباعاً، ولوذعية، مع الدين والصون، معم، مخول في الخير، مستول على خصال حميدة، من خط وأدب وحفظ، مشارك في معارف جملة. كتب ببلده عدلاً رضي، وأنشد السلطان عند حلوله ببلده. ورحل عن بلده إلى المغرب، فارتسم في كتابة الإنشاء بالباب السلطاني، ثم بان فضله، ونبه قدره، ولطف محله، وعاد إلى الأندلس، لما جرت على سلطانه الهزيمة بالقيروان، ولم ينتشله الدهر بعدها مع جملة من خواصه. فلما استأثر الله بالسلطان المذكور، موسوم التمحيص، وصير أمره إلى ولده بعده، جنح إليه، ولحق ببابه، مقترن الوفادة، بيمن الطاير، وسعادة النصبة، مظنة الاصطناع، فحصل على الحظوة، وأصبح في الأمد القريب، محلا للبث وجليساً في الخلوة، ومؤتمنا على خطة العلامة، من رجل ناهض بالكل، جلد على العمل، حذر من الذكر، متقلص ذيل الجاه، متهيب، غزير المشاركة، مطفف في حقوق الدول، عند انخفاض الأسعار، جالب لسوق الملك ما ينفق فيها، حار النادرة. مليح التندير، حلو الفكاهة. غزل مع العفة، حافظ للعيون، مقدم في باب التحسين والتنقيح، لم ينشب الملك أن أنس منه بهذه الحال، فشد عليه يد الغبطة. وأنشب فيه فيه براثن الأثرة، ورمى إليه بمقاليد الخدمة، فسما مكانه، وعلا كعبه، ونما عشه. وهو الآن بحاله الموصوفة، من مفاخر قطره. ومناقب وطنه، كثر الله مثله.
مشيخته

قرأ ببلده على المقري أبي محمد بن أيوب، والمقري الصالح أبي عبد الله المهندس، والأستاذ أبي عبد اله بن أبي الجيش، والقاضي أبي جعفر بن عبد الحق، وروى عن الخطيب المحدث أبي جعفر الطنجالي، والقاضي أبي بكر بن منظور. وبغرناطة عن جلة، منهم شيخنا رئيس الكتاب أبو الحسنى، ولازم بالمغرب الرييس أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي، والقاضي أبا إسحق إبراهيم بن أبي يحيى، وأبا العباس بن بربوع السبتي. وبتلمسان عن أبي عبد الله الآبلي، وأبي عبد الله بن النجار وغيرهما. وبتونس عن قاضي الجماعة أبي عبد الله بن السلام. وعن جماعة غيرهم.
شعرهونظمه ونثره متجاريان لهذا العهد في ميدان الإجادة. أما شعره فمتناسب الوضع، سهل المأخذ، ظاهر الرواء، محكم الإمرة للتنقيح. وأما نثره فطريف السجع، كثير الدالة، مطيع لدعوة البديهة، وربما استعمل الكلام المرسل، فجرى يراعه في ميدانه ملئ عنانه.
وجرى ذكره في التاج أيام لم يفهق حرضه، ولا أزهر روضه، ولا تباينت سماؤه ولا أرضه. بما نصه: أديب أحسن ما شا، وفتح قليبه فملأ الدلو وبل الرشا. وعانى على حداثته الشعر والإنشا، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة، ومجد وديانة. ونشأ هذا الفاضل على أتم العفاف والصون. فما مال إلى فساد بعد الكون. وله خط بارع. وفهم إلى الغوامض مسارع. وقد أثبت من كلامه، ونفثات أقلامه، كل محكم العقود، زارياً بنت العنقود. فمن ذلك قصيدة أنشدها للسلطان أمير المسلمين، مهنيا بهلاك الأسطول الحربي بالزقاق الغربي، أجاد أغراضها وسبك المعاني وراضها، وهي قوله:
لعلكما أن ترعيا لي وسايلا ... فبالله عوجا بالركاب وسايلا
بأوطان أوطار قفا ومآربى ... وبالحب خصا بالسلام المنازلا
ألا فانشدا بين القباب من الحما ... فؤاد شد أضحي عن الجسم راحلا
وبثا صباً بات هنالك واشرحا ... لهم من أحاديثي عرضاً وطايلا
رعى الله مثواكم على القرب والنوى ... ولا زال هامي السحب في الربع هاملا
وهل لزمان باللوى سقى اللوى ... مآرب فما ألقى مدى الدهر حايلا
فحظي بعيد الدار منه بقربه ... ويورد فيه من مناه مناهلا
وحملني من صرفه ما يؤدني ... ومكن مني الخطوب شواغلا
عتبت عله فاغتدى لي عاتبا ... وقال اصخ لي لا تكن لي عاذلا
أتعتبني إذ قد أفدتك موقفا ... لدى أعظم الأملاك حلماً ونايلا
مليك جاه الله بالخلق الرضا ... وأعلى له في المكرمات المنازلا
مليك علا فوق السماك فطرفه ... غدا كهلال الأفق يبصرنا علا
إذا ما دجا ليل الخطوب فبشره ... صباح وبدر لا يرى الدهر آفلا
نماه من الأنصار غر أكابر ... لهم شيم ملء الفضاء فضايلا
تلوا سور النعماء في حزبهم كما ... جلوا صور الأيام غراً جلايلا
تسامت لهم في المعلوات مراتب ... يرى زحل دون المراتب زاحلا
عصابة نصر الله طابت أواخرا ... كما قد زكت أصلا وطابت أوايلا
لقد كان ربع المجد من قبل خالياً ... ومن آل نصر عاد يبصر آهلا
إذا يوسف منهم تلوح يمينه ... تقول سحاب الجود والبأس هاطلا
كتايبه في الفتح تكتب أسطرا ... تبين من الأنفال فيها المسايلا
عوامله بالحذف تحكم في العد ... كما حكموا في حذف جزم عواملا
يبدد جمع الكفر رعبا وهيبة ... كما بددت منه اليمين النوافلا
ومنها في وصفه الأسطول واللقاء:
ولما استقامت بالزقاق أساطل ... واستقلت للعود محافلا
رآها عدو الله فانفض جمعه ... وأبصر أمواج البحار أساطلا
ومن دهش ظن السواحل أبحرا ... ومن رعب خال البحار سواحلا
ومن جندكم هبت عليه عواصف ... تدمر أدناها الصلاب الجنادلا

تفرقهم أيدي سبا وتبيدهم ... فقد خلفت فيهم حساما وذابلا
وعهدي بمر الريح للنار موقدا ... فقد أطفأت تلك الحروب المشاعلا
وكان لهم برد العذاب ولم يكن ... سلاماً وما كادوه قد عاد باطلا
حداهم هواهم للإسار وللفنا ... فما أفلتوا من ذا وذاك حبايلا
فهم بين عان في القيود مصفد ... وفان عليه السيف أصبح صايلا
ستهلك ما بالبر منهم جنودكم ... كما أهلكت من كان بالبحر عاجلا
وقال أيضاً يمدحه:
نشرت لواء النصر واليمن والسعد ... وأطلعت وجه اليسر والأمن والرفد
أعدت لنا الدنيا نعيماً ولذة ... ألا للمعالي ما تعيد وما تبد
بنوركم والله يكلأ نوركم ... تبدت لنا سبل السعادة والرشد
تحلى لكم بالملك نحر ولبة ... فراق كذاك الجيد يزدان بالعقد
مآثركم قد سطرتها يد العلا ... على صفحات الفخر أو مفرق الحمد
بمدحكم للقرآن أثنى منزلا ... وقد حزتم مجدا بجدكم سعد
كفاكم فخارا أنه لكم أب ... ومن فخره إن أنت تدعوه بالجد
ثناؤكم هذا أم المسك نافح ... وذكركم أم عاطر العنبر الورد
أجل ذكركم أزكى وأذكى لناشق ... كما أنكم أجلى وأعلا لمشهد
طلعتن على الآفاق نورا وبهجة ... فما أنت إلا البدر في طالع السعد
وفي جملة الأملاك عز ورفعة ... ودم في خلود الملك والنصر والسعد
ولو أثنى فقت سجان وايل ... وأربيت في شعري على الشاعر الكند
لما قمت بالمعشار من بعض مالكم ... من الجود والأفضال والبذل والرفد
وقال في شيخه أبي بكر بن منظور رحمه الله.
جلالك أولى بالعلا المخلد ... وذكرك أعلى الذكر في كل مشهد
لمجدك كان العز يذخر والعلى ... وأنك للأولى بأرفع سؤدد
أبي الله إلا أن تكون مشرفاً ... بمقعد خير العالمين محمد
فهنيت بالفخر السني محله ... وهنيت بالمجد الرفيع المجدد
شهدت بما أوليتني من عوارف ... وخولت من نعمى وأسديت من يد
وما حزت من مجد كريم نجاره ... وما لك من مجد ورفعة محتد
لقد نبأتني بالرواح لعزكم ... مخايل إسعاد تروح وتغتد
تحدثني نفسي وإني لصادق ... بأن سوف تلقى كاملا كل مقصد
دليلي بهذا أنك الماجد الذي ... تسامى علوا فوق كل ممجد
ليفخر أولو الفخر المنيف بأنكم ... لهم علم أعلى به الكل مقتدي
إمام علوم معتلي القدر لم يزل ... رداء المعالي والعوارف يرتد
وقاض إذا الأحكام أشكل أمرها ... جلا لها برأي الحقيقة مرشد
إذا الحق أبدى نوره عند حكمه ... رأيت له حد الحسام المهند
وإن جميع الخلق في الحق عنده ... سواسية ما بين دان وسيد
هنياً لنا بل للقضاء وفضله ... بقاض حليم في القضاء مسدد
أمات به الرحمن كل ضلالة ... وأحيا بما أولاه شرعة أحمد
وكاين تراه لا يزال ملازما ... لأمر بعرف أو لزام بمسجد
وما زال قدماً للحقيقة حاميا ... وللشرعة البيضاء يهدي ويهتدي
ويمنح أفضالا ويولى أيادياً ... وإحسانه للمعتفين بمرصد
يقيد أحراراً بمنطق جوده ... فما إن يني عن مطلق أو مقيد
نعم إن يكن للفضل شخص فإنما ... بشيمته الغراء في الفضل يبتدي
أيا ناثراً أسى المعارف والغنا ... ويا طارقا يطوي السرى كل فدفد
ألا الق عصا التسيار واعش لناره ... تجد خر نار عندها خير موقد
ومن مقطوعاته وقوله:

تبرأت من حولي إليك وأيقنت ... برحماك آمالي فصح يقيني
فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأي ... وحسبي يقيني باليقين يقيني
ومن شعره لهذا العهد منقولا من خطه، قال مما نظمه فلان، يعني نفسه في كتاب الشفا، نفع الله به:
سل بالعلى وسنى المعارف يبهر ... هل زانها إلا الأيمة معشر
وهل للمفاخر غير ما شهدت به ... آي الكتاب وخارتها الأعصر
هم ما هم شرفاً ونيل مراتب ... يوم القيام إذا يهول المحشر
ورثوا الهدى عن خير مبعوث به ... فخراً هديهم للنعيم الأكبر
وعياض الأعلى قداحاً في العلى ... منهم وحوله الفخار الأظهر
بشفايه تشفى الصدور وإنه ... لرشاد نار به الشهاب النير
هو للتوالف روح صورتها وقل ... هو تاج مفرقها البهي الأنور
أفنت محاسنه المدايح مثل ما ... لمعيده بعد الثناء الأعطر
وله اليد البيضاء في تأليفه ... عند الجميع ففضلها لا ينكر
هو مورد الهيم العطاش هفت ... بهم أشواقهم فاعتاض منه المصدر
فبه ننال من الرضى ما نبتغي ... وبكونه فينا نغاث ونمطر
أنظر إليه تميمة من كل ما ... تخشى من الخطب المهول وتحذر
لكأنني بك يا عياض مهنأ ... بالفوز والملأ العلي مبشر
لكأنني بك يا عياض منعما ... بجوار أحمد يعتلي بك مظهر
لكأنني بك يا عياض متوجاً ... تاج الكرامة عند ربك تخبر
لكأنني بك راوياً من حوضه ... إذا لا صدى ترويه إلا الكوثر
فعلى محبته طويت ضمايرا ... وضحت شواهدها بكتبك تؤثر
ها إنهن لشرعة الهادي الرضا ... صدف يصان بهن منها جوهر
فجزاك رب العالمين تحية ... يهب النعيم سريرها والمنبر
وسقى هزيم الودق مضجعك الذي ... ما زال بالرحمي يؤم ويعمر
وقال في محمل الكتب:
أنا الحبر في حمل العلوم وإن تقل ... بأني حلى عن حلاهن تعدل
أقيد ضروب العلم ما دمت قايما ... وإن لم أقم فالعلم عن بمعزل
خدمت بتقوى الله خير خليفه ... فبوأني من قربه خير منزل
أبا سالم لا زال في الدهر سالما ... يسوغ من شرب المنا كل منهل
وكان قد رأى ليلة الاثنين الثانية لجمادى الأولى عام ستين وسبعماية في النوم، كأن الوزير أبا علي بن عمر بن يخلف بن عمران الفدودي، يأمره أن يجيب عن كلام من كتب إليه. فأجاب عنه بأبيات نظمها في النوم، ولم يحفظ منها غير هذين البيتين:
وإني لأجزى بما قد أتاه ... صديقي احتمالا لفعل الحرفاء
بتمكين ود وإثبات عهد ... وإجزال حمد وبذل حياء
ومن نظمه في التورية:
وبخيل لما دعوه لسكني ... منزل بالجنان ضن بذاك
قال لي مخزن بداري فيه ... جل ما لي فلست للدار شاك
لا تعرج على الجنان بسكني ... ولتكن ساكناً بمخزن مالك
ومن ذلك أيضا:
يا رب منشأة عجبت لشأنها ... وقد احتوت في البحر أعجب شان
سكنت بجنبها عصابة شدة ... حلت محل الروح في الجثمان
فتحركت بإرادة مع أنها ... في حسنها ليست من الحيوان
وجرت كما قد شاء سكانها ... فعلمت أن السر في السكان
ومن ذلك أيضاً قوله:
وذي خدع دعوه لاشتغال ... وما عرفوه غثاً من سمين
فأظهر زهده وغنى بمال ... وجيش الحرص منه في كمين
وأقسم لا فعلت بمن خب ... فيا عجباً لخلاف مهين
يقد بسيره ويمين حلف ... ليأكل باليسار وباليمين
شيء من نثرهخاطبته من مدينة سلا بما نصه، حسبما يظهر من غرضه:
مرضت فأيامي لذاك مريضة ... وبرؤك مقرون برئ اعتلالها

فما راع ذاك الذات للضر رائع ... ولا وسمت بالقسم غر خلالها
وينظر باقي الرسالة في خبر التعريف بمؤلف الكتاب فراجعني عن ذلك بما نصه:
متى شيت ألفي من علايك كل ما ... ينيل من الآمال خير منالها
كبر اعتلال من دعايك زارني ... وعادات بر لم ترم عن وصالها
أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطولاً بتأكيد البر، متفضلاً بموجبات الحمد والشكر. وردتني سماة سيدي المشتملة على معهود تشريفه، وفضله الغنى عن تعريفه، متحفياً في السؤال عن شرح الحال، ومعلناً ما تحلى به من كرم الخلال، والشرف العال، والمعظم على ما يسر ذلك الجلال، الوزاري، الرياسي، أجراه الله على أفضل ما عوده، كما أعلى في كل مكرمة يده، ذلك ببركة دعايه الصالح، وحبه المخيم بين الجوانح. والله سبحانه المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، وهو سبحانه المسئول أن يسنى لسيدي قرار الخاطر، على ما يسره في الباطن والظاهر. بمن الله وفضله، والسلام على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته. كتبه المعظم الشاكر، الداعي المحب، ابن رضوان وفقه الله.
ومما خاطبني به، وقد جرت بيني وبين المتغلب على دولتهم، رقاع، فيها سلم وإيقاع ما نصه:

يا سيدي الذي علا مجده قدرا وخطرا، وسما ذكره في الأندية الحافلة ثناء وشكرا، وسما فخره في المراتب الدينية والدنيوية حمداً وأجراً، أبقاك الله جميل السعي، أصيل الرأي، سديد الرمي، رشيد الأمر والنهى، وممدوحاً من بلغاء زمانك، بما يقصر بالنوابغ والعشي، مفتوحاً لك باب القبول، عند الواحد الحق. وصلني كتابك الذي هو للإعجاز آية، وللإحسان غاية، ولشاهد الحسن تبريز، ولثوب الأدب تطريز، وفي النقد إبريز، وقفت منه على ما لا تفي العبارة بعجايبه، ولا يحيد الفضل كله عن مذاهبه، من كل أسلوب طار في الجو إعراباً وإغراباً، وملك من سحر البيان خطاباً، وحمد ثناه مطالاً وحديثاً مطاباً، شأن من قصر عن شأو البلغاء، بعد الإغياء، ووقف دون سباق البديع بعد الإعياء، فلم يشق غباره، ولا اقتفيت إلا بالوهم آثاره، فلله من سيدي إتحاف سر ما شاء، وأحكم الإنشاء، وبر الأكابر والإنشاء، فما شئت من إفصاح وكتابة، وبر ورعاية، وفهم وإفهام، وتخصيص وإبهام، وكبح لطرف النفس وقمع، وخفض في الجواب ورفع، وتحرج وتورع، وترقص وتوسع، وجماع وأصحاب، وعتب وإعتاب، وإدلال على أحباب، وإلى غير ذلك من أنواع الأغراض، والمقاصد السالمة جواهرها من الأعراض، جملة جمعت المحاسن، وأمتعت السامع والمعاين، وحلت من امتناعها مع السهولة الحرم، إلا من زاد الله تلك المعارف ظهوراً، وجعلها في شرع المكارم هدى ونوراً. وأما شكر الجناب الوزاري، أسماه الله، بحكم النيابة عن جلالكم، فقد أبلغت فيه حمدي، وبذلت ما عندي، وودي لكم ودي، ووردي لكم من المخالصة لكم وردي، وكل حالات ذلك الكمال، مجمع على تفضيله، معتمد من الثناء العاطر بإجماله وتفصيله. وأما مؤديه إليكم أخي وسيدي الفقيه المعظم، قاضي الحضرة وخطيبها، أبو الحسن، أدام الله عزته، وحفظ أخوته، فقد قرر من أوصاف كمالاتكم، ما لا تفي بتقريره الأمثلة من أولى العلم بتلك السجايا الغر، والشيم الزهر، وما تحليتم به من التقوى والبر، والعدل والفضل، والصبر والشكر، ولحمل المتاعب في أمور الجهاد، وترك الملاذ والدعة في مرضاة رب العباد، والإعراض عن الفانية، والإقبال على الباقية، فيا لها من صفات خلعت السعادة عليكم مطارفها، وأجزلت عوارفها، وجمعت لكم تالدها وطارفها، زكى الله ثوابها وجدد أثوابها، ووصل بالقبول أسبابها. وذكر لي أيضاً من حسناتكم، المنقبة الكبيرة، والقربة الأثيرة، في إقامة المارستان بالحضرة، والتسبب في إنشاء تلك المكرمة المبتكرة، التي هي من مهمات المسلمين بالمحل الأعلى، ومن ضروريات الدين بالمزية الفضلى، وما ذخره القدر لكم من الأجر، في ذلك السعي المشكور، والعمل المبرور، فسرني لتلك المجادة، إحراز ذلك الفضل العظيم، والفوز بثوابه الكريم، وفخره العميم. ومعلوم، أبقكم الله، ما تقدم من ضياع الغربا ولاضعفا، من المضي فيما سلف هنالك، وقبل ما قدر لهم من المرتفق العظيم وبذلك، حتى أن من حفظ قول عمر رضي الله عنه، والله لو ضاعت نخلة بشاطئ الفرات، لخفت أن يسأل الله عنها عمر. لا شك في أن من تقدم من أهل الأمر هنالكم، لا بد من سؤاله عمن ضاع لعدم القيام بهذا الواجب المغفل. والحمد لله على ما خصكم به من مزية قوله صلى الله عليه وسلم، " إذا أراد الله بخليفة خيراً، جعل ل وزيراً صالحاً، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه " .

وأما كتاب المحبة فقد وقف المعظم على ما وجهتهم منه، وقوفاً ظهر بمزية التأمل، وعلم منه ما ترك للآخر للأول، ولم يشك في أن الفضل للحاكي، وشتان بين الباكي والمتباكي. حقا لقد فاق التأليف جمعاً وترتيباً، وذهب في الطرق الصوفية مذهباً عجيباً. ولقد بهرت معانيه كالعرائس المجلوة حسناً ونضارة، وبرعت بدايعه وروايعه سنى وإنارة، وألفاظاً مختارة، وكؤوسا مدارة، وغيوثاً من البركات مدرارة، أحسن بما أدته تلك الغرر السافرة، والأمثال السايرة، والخمايل الناظرة، واللآلئ المفاخرة، والنجوم الزاهرة. وأما إنه لكتاب تضمن زبدة العلوم، وثمرة الفهوم، وإن موضعه للباب اللباب، وخلاصة الألباب، وفذلكة الحساب، وفتح الملك الوهاب، سنى الله لكم ولنا كماله، وبلغ الجميع منا آماله، وجعل السعي فيه خالصاً لوجهه، وكفيلاً بمعرفته بمنه وكرمه، وهو سبحانه يبقى بركتكم، ويكلأ ذاتكم الكريمة وحوزتكم، بفضله وطوله وقوته والسلام الكريم يخصكم به كثيراً أثيراً، معظم مقداركم، وملتزم إجلالكم وإكباركم، ابن رضوان، وفقه الله، وكتب في الثامن والعشرين لرجب من عام سبعة وستين وسبعمائة.
وهو الآن بحاله الموصوفة، أعانه الله. وله تردد إلى حضرة غرناطة، واجتياز وإلمام.
؟؟

عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الملك
بن سعيد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار ين ياسر غرناطي، قلعي الأصل، سكن مالقة.
حالهقال صاحب الطالع هو المشهور باليربطول. زاد على أخيه بخفة الروح، وطيب النوادر، واختار سكنى مالقة، فما زال بها، يمشي على كواهل ما تعاقب فيها من الدول، ويقلب طرفه، مما نال من ولاياتها، بين الخيل والخول، حتى أن ابن عسكر، قاضى مالقة وعالمها، كان من جملة من مدحه، وتوسل به إلى بلوغ أغراضه عند القوم، وصنف له شجرة الأنساب السعيدية. وكان قبيح المنظر، مع كونه من رياحين الفضل والأدب. فمن الحكايات المتعلقة بذلك، أنه كونه من رياحين الفضل والأدب. فمن الحكايات المتعلقة بذلك، أنه دخل يوماً على الوالي بغرناطة، السيد أبي إبراهيم، وجعل يساره، وكان مختصاً به، واقتضى ذلك أن رد ظهره للشيخ الفقيه الجليل، عميد البلدة، أبي الحسن سهل بن مالك، ثم التفت فرد وجهه إليه، وقال اعتذر لكم بأمر ضروري فقال أبو الحسن، إنما تعتذر لسيدنا، فانقلب المجلس ضحكاً. ومنها أنه خرج إلى سوق الدواب مع ابن يحيى الحضرمي المشهور أيضاً بخفة الروح، وكان مسلطاً على بني سعيد، فبينما هو واقف، إذ النخاس ينادي على فرس، فم يشرب من القادوس، وعين تحصد بالمنجل، فقال له يا قايد أبا محمد، سر بنا من هنا لئلا تؤخذ من يدي، ولا أقدر لك بحيلة، فعلم مقصده، ولم يخفف عليه أن تلك صورته، فقال سل جارتك عنها، فمضى لأمه، وأوقع بينها وبينه، فحلف أن لا يدخل عليها الدار. قال أبو عمران بن سعيد، واتفق أن جزت بدار أم الحضرمي، فرأيته إلى ناحية، وهو كثيب منكسر، فقلت له ما خبرك يا أبا يحيى، فقال لي عن أمه وعن نفسه، النساء يرمين أبناء الزنا صغارا، وهذه العجوز الفاعلة الصانعة، ترميني ابن خمسين سنة، فقلت له وما سبب ذلك، فقال ابن عمك يوسف الجمال، لا أخذ الله له بيد، فما زلت حتى أصلحت بينها وبينه.
ومن نوادر أجوبته المسكتة، أنه كان كثير الخلطة بمراكش لأحد السادة، لا يفارقه، إلى أن ولي ذلك السيد، وتمول، واشتغل بدنياه عنه، فقيل له، نرى السيد فلاناً أصرب عن صحبتك ومنادمتك، فقال، كان يحتاج إلى وقتاً كان يتبخر بي، وأما اليوم فإنه يتبخر بالعود والند والعنبر. وقال له شخص كان يلقب بفسيوات في مجلس خاص، أي فائدة في اليربطول، وفيم ذا يحتاج إليه، فقال له لا تقل هذا، فإنه يقطع رايحة الفسا، فود أنه لم ينطق. وتكلم شخص من المترفين فقال، أمس بعنا الباذنجان التي بدار خالتي، بعشرين مثقالا، فقال لو بعتم الكريز التي فيها لساوي أكثر من ماية.

وأخباره شهيرة، قال أبو الحسن علي بن موسى، وقعت في رسايل الكاتب الجليل، شيخ الكتاب أبي زيد الفازازي، على رسايل في حق أبي محمد اليربطول، ومنه إليه، فمنها في رسالة عن السيد أبي العلاء صاحب قرطبة، إلى أخيه أبي محمد اليربطول، ومنه إليه، فمنها في رسالة عن السيد أبي العلاء صاحب قرطبة، إلى أخيه أبي موسى صاحب مالقة، ويصلكم به إن شاء الله، القايد الأجل الأكرم، الحسيب الأمجد الأنجد، أبو محمد أدام الله كرامته، وكتب سلامته، وهو الأكيد الحرمة، القديم الخدمة، المرعى الماتة والذمة المستحق البر في وجوه كثيرة، ولمعان أثيرة، منها أنه من عقب عمار بن ياسر رضوان الله عليه، وحسبكم هذا مجداً مؤثلاً، وشرفاً موصلاً، ومنها تعين بيته وسلفه، واختصاصهم من النجابة والظهور، بأنوه الإسم وأشرفه، وكونهم بين معتكف على مضجعه، أو مجاهد بمرهفه ومثقفه، ومنها سبقهم إلى هذا الأمر العزيز، وتميزهم بأثرة الشفوف والتمييز، ومنها سبقهم إلى هذا الأمر العزيز، وتميزهم بأثرة الشفوف والتمييز، ومنها الانقطاع إلى أخيكم، ممد مورده ومصدره، وكرم مغيبه ومحضره، وهذه وسايل شتى، وأذمة قل ما تتأتى لغيره.
وفاتهكانت وفاته بمالقة بعد عشرين وستماية، قال الرييس، أبو عمر بن حكم، شاهدته قد وصل إلى السيد أبي محمد البياسي أيام ثورته، وهو بشنتلية مع وفد مالقة بالبيعة سنة ثنتين وعشرين وستماية.
ومن الصوفية والفقراء
ابن أبي المجدعبد الله بن عبد البر بن سليمن بن محمد بن أشعث الرعيني من أهل أرجدونه من كورة ريه، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن أبي المجد.
حالهكان من أعلام الكور سلفاً، وترتباً، وصلاحاً، وإنابة، ونية في الصالحين، متسع الذرع للوارد، كثير الإيثار بما تيسر، مليح التخلق، حسن السمت، طيب النفس، حسن الظن، له حظ من الطلب، من فقه وقراءات وفريضة، وخوض في طريقة الصوفية، وأدب لا بأس به، قطع عمره خطيباً وقاضياً ببلده، ووزيراً، وكتب بالدار السلطانية، في كل ذلك لم يفارق السداد.
مشيختهقرأ على الأستاذ الجليل أبي جعفر بن الزبير. رحل إليه من وطنه عام اثنين وتسعين وستماية، ولازمه وانتفع به، أخذ عنه الكتاب العزيز والعربية، وسمع عليه الكثير من الحديث، وعلى الخطيب الصوفي المحقق أبي الحسن فضل بن محمد بن فضيلة المعافري، وعلى الخطيب المحدث أبي عبد الله محمد بن عمر بن رشيد، وسمع على الشيخ القاضي الراوية أبي محمد النبعي، والوزير المعمر المحدث الحسيب أبي محمد عبد المنعم بن سماك العاملي، والعدل الراوية أبي الحسن بن مستقور. وقرأ بمالقة على الأستاذ أبي بكر بن الفخار، وأجازه من أهل المشرق طائفة.
شعرهمما حدثني ابن أخته صاحبنا أبو عثمن بن سعيد. قال نظم الفقيه القاضي الكاتب أبو بكر بن شبرين ببيت الكتاب مألف الجملة، رحمهم الله، هذين البيتين:
ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منه بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه
فأخذ الأصحاب في تذييل ذلك. فقال الشيخ أبو الحسن بن الجياب رحمه الله:
فمن يعمر الأوقات طراً بذكره ... فليس نصيب في الهدى كنصيبه
ومن كان عنه معرضاً طول دهره ... فكيف يرجيه شفيع ذنوبه
وقال أبو القاسم بن أبي القاسم بن أبي العافية:
أليس الذي جلى دجا الجهل هديه ... بنور أقمنا بعده نهتدي به
ومن لم يكن من دأبه شكر منعم ... فمشهده في الناس مثل مغيبه
وقال أبو بكر بن أرقم:
نبى هدانا من ضلال وحيرة ... إلى مرتقى سامي المحل خصيبه
فهل يذكر الملهوف فضل مجيره ... ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه
وانتهى القول إلى الخطيب أبي محمد بن أبي المجد فقال رحمه الله مذيلاً كذلك:
ومن قال مغروراً حجابك ذكره ... فذلك مغمور طريد عيوبه
وذكر سول الله فرض مؤكد ... وكل محق قايل بوجوبه
وقال يوماً شيخنا أبو الحسن بن الجياب هذين البيتين على عادة الأدباء في اختيار الأذهان:
جاهد النفس جاهدا فإذا ما ... فنيت عنك فهي عين الوجود

وليكن حكمك المسدد فيها ... حكم سعد في قتله لليهود
قال، فأجابه أبو محمد بن أبي المجد:
أيها العارف المعبر ذوقا ... عن معان غزيرة في الوجود
إن حال الفنا عن كل غير ... لمقام المراد غير المريد
كيف لي بالجهاد غير معان ... وعدوه مظاهر بجنود
ولو أني حكمت فيمن ذكرتم ... حكم سعد لكنت جد سعيد
فأراها صبابة بي فتوناً ... وأراني في حبها كيزيد
سوف أسلو بحبكم عن سواها ... ولو أبدت فعل المحب الودود
ليس شيء سوى إلآهك يبقى ... واعتبر صدق ذا بقول لبيد
وفاتهتوفي رحمه الله، ليلة النصف من شعبان المكرم عام تسعة وثلاثين وسبعماية. وكان يجمع الفقراء ويحضر طائفتهم، وتظهر عليه حال، لا يتمالك معها، وربما أوحشت من لا يعرفه بها.
عبد الله بن فارس بن زيانمن بني عبد الوادي، تلمساني يكنى أبا محمد، وينتمي إلى بني زيان من بيت أمرائهم.
كذا نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي أبي الطاهر قاضي الجماعة أبي جعفر بن جعفر بن فركون، وله بأحواله عناية، وله إليه تردد كثير وزيارة. قال ورد الأندلس مع أبيه، وهو طفل صغير، واستقر بقتورية في ديوان غزانها. ولما توفي أبوه، سلك مسلكه برهة، ورفض ذلك، وجعل يتردد بين الولد، وانقطع لشأنه.
حالههذا الرجل غريب النزعة في الانقطاع عن الخلق، ينقطع ببعض جبال بني مشرف، واتخذ فيها كهوفاً وبيوتاً من الشعر أزيد من أربعين عاماً، وهلم جرا، منفردا، لا يداخل أجدا، ولا يلابسه من العرب، ويجعل الحلفاء في عنقه أختلف فيه، فمن ناسب ذلك إلى التلبيس وإلى لوثة تأتيه، وربما أثاب بشيء، ويطلبون دعاه ومكالمته، فربما أفهم، وربما أبهم.
محنتهذكروا أنه ورث عن أخ له ما لا غنياً، وقدم مالقة، وقد سرق تاجر بها ذهباً عينا، فاتهم بها، فجرت عليه محنة كبيرة من الضرب الوجيع، ثم ظهرت براءته، وطلب الحاكم الجاير منه العفو، فعفا عنه، وقال لله عندي حقوق وذنوب، لعل بهذا أكفرها، وصرف عليه المال فأباه، وقال لا حاجة لي به مال سوء، وتركه وانصرف، وكان من أمر انقطاعه ما ذكر.
شيء من أخباره: استفاض عنه بالجهة المذكورة شفاء المرضى، وتفريج الكربات إلى غير ذلك من أخبار لا تحصى كثيرة. وهو إلى هذا العهد بحاله الموصوفة، وهو عام سبعين وسبعماية.
مولده: بتلمسان عام تسعين وستماية. ودخل غرناطة غير ما مرة. قال الفقيه أبو الطاهر منها في عام عشرة وسبعماية.
ابن العسالعبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي يعرف بابن العسال، ويكنى أبا محمد، طليطلي الأصل. سكن غرناطة واستوطنها، الصالح المقصود التربة، المبرور البقعة، المفزع لأهل المدينة عند الشدة.
حالهقال ابن الصيرفي، كان رحمه الله، فذا في وقته، غريب الجود، طرفاً في الخير والزهد والورع، له في كل جو متنفس، يضرب في كل علم بسهم، وله في الوعظ تواليف كبيرة، وأشعاره في الزهد مشهورة، جارية على ألسنة الناس، أكثرها كالأمثال جيدة الرصعة، صحيحة المباني والمعاني. وكان يلحق في الفقه. ويجلس للوعظ. وقال الغافقي، كان فقيهاً جليلاً، زاهداً، متفنناً، فصيحاً لسنا، الأغلب عليه مطبوعا. كان له مجلس، يقرأ عليه فيه الحفظ والتفسير، ويتكلم عليه، ويقص من حفظه أحاديث. وألف في أنواع من العلوم، وكان يغظ الناس بجامع غرناطة، غريباً في وقته، فذا ي دهره، عزيز الوجود.
مشيختهروى عن أبي محمد مكي بن أبي طالب، وأبي عمرو، المقري الداني، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي إسحق إبراهيم بن مسعود الإلبيري الزاهد، وعن أبيه فرج، وعن أبي زيد الحشا القاضي، وعن القاضي أبي الوليد الباجي.
شعرهوشعره كثير، ومن أمثل ما روى منه قوله:
لست وجيهاً لدي إلهي ... في مبدإ الأمر والمعاد
لو كنت وجيهاً لما براني ... في عالم الكون والفساد
وفاته

توفي رحمه الله يوم الاثنين لعشر خلون من رمضان عام سبعة وثمانين وأربعمائة وألحد ضحى يوم الثلاثاء بعده بمقبرة باب إلبيرة بين الجبانتين. ويعرف المكان إلى الآن بمقبرة العسال. وكان له يوم مشهود، وقد نيف على الثمانين رحمه الله، ونفع به.
ومن الملوك والأمراء والأعيان والوزراء
عبد الرحمن بن عبد الله بن معاويةبن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية، أمير المؤمنين الناصر لدين الله الخليفة الممتع، المجدود، المظفر، البعيد الذكر، الشهير الصيت.
حالهكان أبيض، أشهل، حسن الوجه، عظيم الجسم، قصير الساقين. أول من تسمى أمير المؤمنين، ولي الخلافة، فعلا جده، وبعد صيته، وتوطأ ملكه، وكأن خلافته كانت شمسا نافية للظلمات، فبايعه أجداده وأعمامه وأهل بيته، على حداثة السن، وجدة العمر، فجدد الخلافة، وأحيا الدعوة، وزين الملك، ووطد الدولة، وأجرى الله له من السعد، ما يعظم عنه الوصف، ويجل عن الذكر، وهيأ له استنزال الثوار والمنافقين، واجتثاث جراثيمهم.
بنوه: أحد عشر، منهم الحكم الخليفة بعده، والمنذر، وعبد الله، وعبد الجبار.
حجابه: بدر مولاه، وموسى بن حدير.
قضاته: جملة منهم أسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن بقي، ومنذر ابن سعيد البلوطي.
نقش خاتمة: عبد الرحمن بقضاء الله راض.
أمه: أم ولد تسمى مزنة. وبويع له في ربيع الأول من سنة تسع وتسعين ومائتين.
دخوله إلبيرهقال المؤرخ، أول غزوة غزاها بعد أن استحجب بدرا مولاه، وخرج إليها يوم الخميس رابع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثلاثمائة مفوضاً إليه، ومستدعياً نصره، واستيلاف الشاردين، وتأمين الخايفين إلى ناحية كورة جيان، وحصن المنتلون، فاستنزل منه سعيد بن هذيل، وأناب إليه من كان نافراً عن الطاعة، مثل ابن اللبانة وابن مسرة ودحون الأعمى، وانصرف إلى قرطبة، وقد تجول، وأنزل كل من بحصن من حصون كورة جيان. وبسطة وناجرة وإلبيرة وبجانة والبشرة وغيرها بعد أن عرض نفسه عليها. وعلى عهده توفي ابن حفصون. وجرت عليه هزيمة الخندق في سنة سبع وعشرين وثلاثماية، وطال عمره، فملك نيفا وخمسين سنة، ووجد بخطه، أيام السرور التي صفت لي دون كدر يوم كذا ويوم كذا، فعدت، فوجدت أربعة عشر يوماً.
وفاتهفي أول رمضان من سنة خمسين وثلاثمائة.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله

بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن
معاوية
يكنى أبا المطرف، ويلقب بالمرتضى.
حاله وصفته
كان أبيض أشقر أقنى، مخفف البدن، مدور اللحية، خيراً، فاضلاً، من أهل الصلاح والتقى، قام بدولته خيران العامري، بعد أن كثر السؤال عن بني أمية، فلم يجد فيهم أسداً للخلافة منه، بورعه وعفافه، ووقاره، وخاطب في شأنه ملوك الطوائف على عهده، فاستجاب الكل إلى الطاعة، بعد أن جمع الفقهاء والشيوخ، وجعلوها شورى، وانصرفوا يريدون قرطبة، وبدأوا بصنهاجة بالقتال، فكان نزوله بجبل شقشتر على محجة واط.
وفاتهيوم الثلاث خلون من جمادى الأولى سنة تسع وأربعمائة. وكانت الهزيمة على عساكر المرتضى، فتركوا المحلات وهربوا، وفشي فيهم القتل، وظفرت صنهاجة من المتاع والأموال، بما يأخذه الوصف، وقتل المرتضى في تلك الهزيمة، فلم يوقع له على أثر، وقد بلغ سنه نحو أربعين.
عبد الرحمن بن معاويةبن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس يكنى أبا المطرف، وقيل أبا زيد، وقيل أبا سليمن، وهو الداخل إلى الأندلس، والمجدد الخلافة بها لذريته، والملقب بصقر بني أمية.
حاله

قال ابن مفرج، كان الأمير عبد الرحمن بن معاوية، راجح العقل، راسخ العلم، ثابت الفهم، كثير الحزم، فذ العزم، بريئاً من العجز، مستخفا للثقل، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد بإبرامها برأيه. وعلى ذلك فكان شجاعاً، مقداماً، بعيد الغور، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، بليغاً، مفوهاً، شاعراً محسنا، سمحاً، سخياً، طلق اللسان، فاضل البنان، يلبس البياص، ويعتم به ويؤثره. وكان أعطى هيبة من وليه وعدوه لم يعطها واحد من الملوك في زمانه. وقال غيره، وألفى الأمير عبد الحمن الأندلسي ثغراً من أنأي الثغور القاصية، غفلاً من سمة الملك، عاطلاُ من حليه الإمامة، فأرهب أهله بالطاعة السلطانية، وحركهم بالسيرة الملوكية، ورفعهم بالآداب الوسطية، فألبسهم عما قريب المودة، وأقامهم على الطريقة. وبدأ يدون الدواوين، وأقام القوانين، ورفع الأواوين. وفرض الأعطية، وأنفد الأقضية، وعقد الألوية، وجند الأجناد، ورفع العماد، وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، وأخذ للسلطان عدته.
نبذة من أوليتهلما ظهر بنو العباس بالمشرق، ونجا فيمن نجا من بني أمية، معروفاً بصفته عندهم، وخرج بؤم المغرب لأمر كان في نفسه، من ملك الأندلس، اقتضاه حدثان. فسار حتى نزل القيروان، ومعه بدر مولاه، ثم سار حتى لحق بأخواله من نفزة، ثم سار بساحل العدوة، في كنف قوم من زناته، وبعث إلى الأندلس بدراً، فداخل له بها من يوثق به، وأجاز البحر إلى المنكب، وسأل عنها، فقال نكبوا عنها، ونزل بشاط من أحوازها، وقدم إليه أول دعوته، وعقد اللوا، وقصد قرطبة في خبر يطول، حروب مبيرة، وهزم يوسف الفهري، واستولى على قرطبة، فبويع له بها يوم عيد الأضحى من سنة ثمان وثلاثين ومائة، وهو ابن خمس وعشرين سنة.
دخوله إلبيرةقالوا، ولما انهزم الأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري، لحق بإلبيرة فامتنع بحصن غرناطة، وحاصره الأمير عبد الرحمن بن معوية، وأحاط به، فنزل على صلح، وانعقد بينهما عقد، ورهنه يوسف ابنيه أبا زيد وأبا الأسود، وشهد في الأمان وجوه العسكر، منهم أمية بن حمزة الفهري، وحبيب بن عبد الملك المرواني، ومالك بن عبد الله القرشي، ويحيى بن يحيى اليحصبي، ورزق بن النعمان الغسالي، وجدار بن سلامة المذحجي. وعمر بن عبد الحميد العبدري، وثعلبة بن عبيد الجذامي، والحريش ابن حوار السلمي، وعتاب بن علقمة اللخمي، وطالوت بن عمر اليحصبي، والجراح بن حبيب الأسدي، وموسى بن خالد، والحصين بن العقيلي، وعبد الرحمن بن منعم الكلبي، إلى آخر سواهم، بتاريخ يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسع وثلاثين ومائة. نقلت أسماء من شهد، لكونهم مممن دخل البلد، ووجب ذكره، فاجتزأت بذلك، فرارا من الإطالة، إذ هذا الأمر بعيد الأمد، والإحاطة لله.
بلاغته ونثره وشعرهقال الرازي، قام بين يديه رجل من جند قنسرين، يستنجد به، وقال له، يا ابن الخلايف الراشدين والسادات الأكرمين، إليك فررنا، وبك عذت من زمن ظلوم، ودهر غشوم، قلل المال، وذهب الحال، وصير إلي بذاك المنال، فأنت ولي الحمد، وربي المجد، والمرجو للرفد. فقال له ابن معاوية مسرعاً، قد سمعنا مقالتك، فلا تعودن ولا سواك لمثله، من إراقة وجهك، بتصريح المسلة، والإلحاف في الطلبة، وإذا ألم لك خطب أو دهاك أمر، أو أحرقتك حاجة فارفعه إلينا في رقعة لا تعدو ذكياً، تستر عليك خلتك، وتكف شماتة العدو بك، بعد رفعها إلى مالكنا ومالكها، عن وجهه، بإخلاص الدعاء، وحسن النية. وأمر له بجائزة حسنة. وخرج الناس يعجبون من حسن منطقه، وبراعة أدبه.
ومن شعره قوله، وقد نظر إلى نخلة بمنية الرصافة، مفردة، هاجت شجنه إلى تذكر بلاد المشرق:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بنيي وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي ... يسح ويستمرئ السماكين بالوبل
وفاته

توفي بقرطبة يوم الثلاثاء الرابع والعشرين لربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وماية، وهو ابن تسعة وخمسين عاماً، وأربعة أشهر، وكانت مدة ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وأخباره شهيرة.
وجرى ذكره في الرجز المسمى بقطع السلوك، في ذكر هذين من بني أمية، قولي في ذكر الداخل:
وغمر الهول كقطع الليل ... بفتنة الفهري والصميل
وجلت الفتنة في أندلس ... فأصبحت فريسة المفترس
فأسرع السير إليها وابتدر ... وكل شيء بقضاء وقدر
صقر قريش عابد الرحمن ... باني المعالي لبني مروان
جدد عهد الخلفاء فيها ... وأسس الملك لمترفيها
ثم أجاب داعي الحمام ... وخلف الأمر إلى هشام
وقام بالأمر الحفيد الناصر ... والناس محصور بها وحاصر
فأقبل السعد وجاء النصر ... وأشرق الأمن وضاءت القصر
وعادت الأيام في شباب ... وأصبح العدو في تباب
سطى وأعطى وتغاضى ووفا ... وكلما أقدره الله عفا
فعاد من خالف فيها وانتزا ... وحارب الكفار دأبا وغزا
وأوقع الروم به في الخندق ... فانقلب الملك بسعي مخفق
واتصلت من بعد ذا فتوح ... تغدو على مثواه أو تروح
فاغتنموا السلم لهذا الحين ... ووصلت إرسال قسطنطين
وساعد السعد فنال واقتنا ... ثم بني الزهرا فيما قد بنا
حتى إذا ما كملت أيامه ... سبحان من لا ينقضي دوامه
عبد الرحمن بن إبراهيم اللخمي

بن يحيى بن سعيد بن محمد اللخمي
من أهل رندة وأعيانها، يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن الحكيم، وجده يحيى، هو المعروف بابن الحكيم، وقد تقدم ذكر جملة من هذا البيت.
حالهكان رحمه الله عين بلده المشار إليه، كثير الانقباض والعزلة، مجانباً لأهل الدنيا، نشأ على طهارة وعفة، مرضى الحال، معدودا في أهل النزاهة والعدالة، وأفرط في باب الصدقة، بما انقطع عنه أهل الإثراء من المتصدقين، ووقفوا دون شأوه. ومن شهير مايروى من مناقبه في هذا الباب. أنه أعتق بكل عضو من أعضائه رقبة، وفي ذلك يقول بعض أدباء عصره:
أعتق بكل عضو منه رقبة ... واعتد ذلك ذخراً ليوم العقبة
لا أجد منقبة مثل هذه المنقبة
مشيختهروى عن القاضي الجليل أبي الحسن بن قطرال، وعن أبي محمد بن ابن عبد اله بن عبد العظيم الزهري، وأبي البركات بن مودود الفارسي، وأبي الحسن الدباج، سمع من هؤلاء وأجازوا له. وأجاز له أبو أمية ابن سعد السعود بن عفير، وأبو العباس بن مكنون الزاهد، قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، وكان شيخنا القاضي العالم الجليل أبو الخطاب ابن خليل، يطنب في الثناء عليه، ووقفت على ما خاطبه به معربا عن ذلك
شعرهمنقولاً من طرفة العصر من قصيدة يرددها المؤذنون منها:
كم ذا أعلل بالتسويف والأمل ... قلبا تغلب بين الوجد والوجل
وكم أجرد أذيال الصبا مرحاً ... في مسرح اللهو وفي ملعب الغزل
وكم أماطل نفسي بالمتاب ... ولا عزم فيوضح لي عن واضح السبل
ضللت والحق لا تخفى معالمه ... شتان بين طريق الجد والهزل
وفاتهيوم الاثنين التاسع والعشرين لجمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستماية
عبد الرحيم بن إبراهيم بن عبد الرحيم الخزرجييكنى أبا القاسم، ويعرف بابن الفرس، ويلقب بالمهر، من أعيان غرناطة.
حاله

كان فقيهاً جليل القدر، رفيع الذكر، عارفاً بالنحو واللغة والأدب، ماهر الكتابة، رايق الشعر، بديع التوشيح، سريع البديهة، جارياً على أخلاق الملوك في مركبه وملبسه وزيه، قال ابن مسعدة: وطيء من درجات العز والمجد أعلاها، وفرع من الأصالة منتماها. ثم علت همته إلى طلب الرياسة والملك. فارتحل إلى بلاد العدوة، ودعا إلى نفسه، فأجابه إلى ذلك الخلق الكثير. والجم الغفير، ودعوه باسم الخليفة، وحيوه بتحية الملك. ثم خانته الأقدار، والدهر بالإنسان غدار، فأحاطت به جيوش الناصر بن المنصور، وهو في جيش عظيم من البربر، فقطع رأسه، وهزم جيشه، وسيق إلى باب الخليفة، فعلق على باب مراكش، في شبكة حديد، وبقي به مدة من عشرين سنة.
قال أبو جعفر بن الزبير، كان أحد نبهاء وقته، لولا حدة كانت فيه، أدت به إلى ما حدثني به بعض شيوخي من صحبه. قال: خرجنا معه يوماً على باب من أبواب مراكش برسم الفرجة، فلما كان عند الرجوع نظرنا إلى رؤوس معلقة، وتعوذنا بالله من الشر وأهله، وسألناه سبحانه العافية. قال: فأخذ يتعجب منا، وقال: هذا خور طريقة وخساسة همه، والله ما الشرف والهمة إلا في تلك. يعني في طلب الملك، وإن أدى الاجتهاد فيه إلى الموت دونه على تلك الصفة. قال: فما برحت الليالي والأيام، حتى شرع في ذلك، ورام الثورة، وسيق رأسه إلى مراكش، فعلق في جملة تلك الرؤوس، وكتب عليه، أو قيل فيه:
لقد طمح المهر الجموح لغاية ... فقطع أعناق الجياد السوابق
جرى وجرت رجلاه لكن رأسه ... أتى سابقاً والجسم ليس بسابق
وكانت ثورته ببعض جهات درعة من بلاد السوس.
مشيختهأخذ عن صهره القاضي أبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم. وعن غيره من أهل بلده، وتفقه بهم، وبهر في العقليات والعلوم القديمة، وقرأ على القاضي المحدث أب يبكر بن أبي زمنين، وتلا على الأستاذ الخطيب أبي عبد الله بن عروس، والأدب والنحو على الأستاذ الوزير أبي يحيى بن مسعدة. وأجازه الأستاذ الخطيب أبو جعفر العطار. ومن شعره في الثورة:
قولوا لأولاد عبد المؤمن بن علي ... تأهبوا لوقوع الحادث الجلل
قد جاء فارس قحطان وسيدها ... ووارث الملك والغلاب للدول
ومن شعره القصيدة الشهيرة وهي:
الله حسبي لا أريد سواه ... هل في الوجود الحق إلا الله
ذات الإله بها تقوم دولتنا ... هل كان يوجد غيره لولاه
يا من يلوذ بذاته أنت الذي ... لا تطمع الأبصار في مرآه
لا غرو أنا قد رأيناه بها ... فالحق يظهر ذاته وتراه
يا من له وجب الكمال بذاته ... فالكل غاية فوزهم لقياه
أنت الذي لما تعإلى جده ... قصرت خطا الألباب دون حماه
أنت الذي امتلأ الوجود بحمده ... لما غدا ملآن من نعماه
أنت الذي اخترع الوجود بأسره ما بين أعلاه إلى أدناه
أنت الذي خصصتنا بوجودنا ... أنت الذي عرفتنا معناه
أنت الذي لو لم تلح أنواره ... لم تعرف الأضداد والأشباه
لم أفش ما أودعتنية إنه ... ما صان سر الحق من أفشاه
عجز الأنام عن امتداحك إنه ... تتضاءل الأفكار دون مداه
من كان يعلم أنك الحق الذي ... بهر العقول فحسبه وكفاه
لم ينقطع أحد إليك محبة ... إلا وأصبح حامدا عقباه
وهي طويلة......
من أهل غرناطة يكنى أبا ورد ويعرف بابن القصجة عديم رواء الحس، قريب العهد بالنجعة، فارق وطنه وعيصه، واستقبل المغرب الوفادة، وقدم على الأندلس في أخريات دولة الثاني من الملوك النصريين، فمهد جانب البر له، وقرب مجلسه، ورعى وسيلته، وكان على عمل بر، من صوم واعتكاف وجهاد.
نباهته

ووقف بي ولده الشريف أبو زيد عبد الرحيم، على رسالة كتب بها أمير مكة على عهده إلى سلطان الأندلس ثاني الملوك النصريين رحمهم الله، وعبر فيها عن نفسه، من عبد الله المؤيد بالله محمد بن سعد الحرسني، في غرض المواصلة والمودة والمراجعة عن بر صدر عن السلطان رحمه الله من فصولها: ثم أنكم رضي الله عنكم، بالغنم في الإحسان للسيد الشريف أبي القاسم الذي انتسب إلينا، وأويتموه من أجلنا، وأكرمتموه، ورفعتموه احتراماً لبيته الشريف، جعل الله عملكم معه وسيلة بين يدي جدنا عليه السلام وهي طويلة وتحميدها ظريف، من شنشنة أحوال تلك البال بمكة المباركة.
وفاته: توفي شهيداً في الوقيعة بين المسلمين والنصارى بظاهر ألمرية عندما وقع الصريخ لإنجادها، ورفع العدو البرجلوني عنها في السادس والعشرين من شهر ربيع الأول عام عشرة وسبعمائة.
ومن ترجمة المقريين والعلماء والطلبة النجباء من ترجمة الطارئين منهم
عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمدبن أبي الحسن أصبغ بن حسن بن سعدون بن رضوان بن فتوح الخثعمي مالقى يكنى أبا زيد، وأبا القاسم، وأبا الحسين، وهي قليلة، شهر بالسهيلي.
حالهكان مقرياً مجوداً، متحققاً بمعرفة التفسير، غواصاً على المعاني البديعة، ظريف التهدي إلى المقاصد الغريبة، محدثاً واسع الرواية، ضابطاً لما يحدث به، حافظاً متقدما، ذاكراً للأدب والتواريخ والأشعار والأنساب، مبرزاً في الفهم، ذكياً، أديباً بليغاً، شاعراً مجيداً، نحوياً عارفاً بارعاً، يقظاً، يغلب عليه علم العربية والأدب. استدعي آخراً إلى التدريس بمراكش، فانتقل إليها من مالقة، محل إقرائه، ومتبوأ إفادته، فأخذ بها الناس عنه، إلى حين وفاته.
مشيختهتلا بالحرمين على خال أبيه الخطيب أبي الحسن بن عباس، وبالسبع على أبي داود بن يحيى، وعلى أبي علي منصور بن علاء، وأبي العباس بن خلف بن رضي، وروى عن أبي بكر بن طاهر، وابن العربي، وابن قندلة، وأبي الحسن شريح، وابن عيسى، ويونس بن مغيث، وأبي الحسن بن الطراوة، وأكثر عن في علوم اللسان، وأبي عبد الله حفيد مكي، وابن يمن الله، وأبوي القاسم ابن الأبرش، وابن الرماك، وأبوي محمد ابن رشد، والقاسم بن دحمان، وأبوي مروان بن بونة، وأبي عبد الله بن بحر. وناظر في المدونة على ابن هشام. وأجاز له ولم يلقه، أبو العباس عباد بن سرحان، وأبو القاسم بن ورد.
من روى عنهروى عنه أبو إسحق الزوالي، وأبو إسحق الجاني، وأبو أمية بن عفير، وأبو بكر بن دحمان، وابن قنتوال، والمحمدون ابن طلحة، وابن عبد العزيز، وابن علي جويحمات، وأبو جعفر بن عبد المجيد، والحفار وسهل بن مالك، وابن العفاص، وابن أبي العافية، وأبو الحسن السراج، وأبو سليمن بن حوط الله، والسماتي. وابن عياش الأندرشي، وابن عطية، وابن يربوع، وابن رشيد، وابن ناجح، وابن جمهور، وأبو عبد الله بن عياش الكاتب، وابن الجذع، وأبو علي الشلوبين، وسالم بن صالح، وأبو القاسم بن بقي، وأبو القاسم بن الطيلسان، وعبد الرحيم بن الفرس، وابن الملجوم، وأبو الكرم جودى، وأبو محمد بن حوط الله، إلى جملة لا يحصرها الحد.
دخل غرناطة. وكان كثير التأميل والمدح لأبي الحسن بن أضحى قاضيها ورييسها. وله في مدحه أشعار كثيرة، وذكر لي من أرخ في الغرناطيين، وأخبرني بذلك صاحبنا القاضي أبو الحسن بن الحسن كتابة عمن يثق به.
تواليفهمنها كتاب الشريف والإعلام بما أبهم في القرآن من أسماء الأعلام. ومنها شرح آية الوصية، ومنها الروض الآنف والمشرع الروا فيما اشتمل عليه كتاب السيرة واحتوى. وابتدأ إملاءه في محرم سنة تسع وستين وخمسماية، وفرغ منه في جمادى منها. ومنها حلية النبيل في معارضة ما في السبيل. إلى غير ذلك.
شعرهقال أبو عبد الله بن عبد الملك: أنشدني أبو محمد القطان، قال أنشدني أبو علي الرندي، قال أنشدني أبو القاسم السهيلي لنفسه:
أسايل عن جيرانه من لقيته ... وأعرض عن ذكراه والحال تنطق
ومالي إلى جيرانه من صبابة ... ولكن قلبي عن صبوح يوفق
ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي الحسن بن الحسن، من شعر أبي القاسم السهيلي، مذيلاً بيت أبي العافية في قطعة لزومية:

ولما رأيت الدهر تسطو خطوبه ... بكل جليد في الورى وهدان
ولم أر من حرز ألوذ بظله ... ولا من له بالحادثات يدان
فزعت إلى من تملك الدهر كفه ... ومن ليس ذو ملك له بمران
وأعرضت عن ذكر الورى متبرماً ... إلى الرب من قاص هناك ودان
وناديته سراً ليرحم عبرتي ... وقلت رجائي قادني وهدان
ولم أدعه حتى تطاول مفضلاً ... علي بالهام الدعاء وعان
وقلت أرجي عطفه متمثلاً ... ببيت لعبد صايل بردان
تغطيت من دهري بظل جناحه ... فعسى ترى دهري وليس براني
قلت، وما ضره، غفر الله له، لو سلمت أنباته من بردان، ولكن أبت صناعة النحو إلا أن تخرج أعناقها.
ومن شعره قوله:
تواضع إذا كنت تبغي العلا ... وكنت راسياً عند صفو الغضب
فخفض الفتى نفسه رفعة ... له واعتبر برسوب الذهب
وشعره كثير، وكتابته كذلك، وكلاهما من نمط يقصر عن الإجادة.
وقال ملغزا في محمل الكتب، وهو مما استحسن من مقاصده:
حامل للعلوم غير فقيه ... ليس يرجوا أمراً ولا يتقيه
يحمل العلم فاتحاً قدميه ... فإذا التقتا فلا علم فيه
ومن ذلك قوله في المجنبات:
شغف الفؤاد نواعم أبكار ... بردت فؤاد الصب وهي حرار
أذكى من المسك العتيق لنا ... نشقاً وألذ من صباً حين تدار
وكأن من صافى اللجين بطونها ... وكأنما ألوانهن نضار
صفت البواطن والظواهر كلها ... لكن حكت ألوانها الأزهار
عجباً لها وهي النعيم يصوغها ... نار وأين من النعيم النار
ومن شعره وثبت في الصلة:
إذا قلت يوماً سلام عليك ... ففيها شفاء وفيها سقام
شفاً إذ قلتها مقبلاً ... وإن قلتها مدبراً فالحمام
فاعجب لحال اختلافيهما ... وهذا سلام وهذا سلام
مولده: عام سبعة أو ثمانية وخمسماية.
وتوفي في مراكش سحر ليلة الخامس والعشرين من شعبان أحد وثمانين وخمسماية، ودفن لظهره بجبانة الشيوخ خارج مراكش، وكان قد عمى سبعة عشرة عاماً من عمره.
عبد الرحمن بن هانئ اللخمييكنى أبا المطرف، من أهل فرقد من قرى إقليم غرناطة.
حالهكان فقيهاً فاضلاً، وتجول في بلاد المشرق. قال أنشدني إمام الجامع بالبصرة:
بلاء ليس بشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
ينيلك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
ابن القصيبعبد الرحمن بن أحمد بن أحمد بن محمد الأزدي من أهل غرناطة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن القصيب
حالهكان فقيهاً جليلاً، بارع الأدب، عارفاً بالوثيقة، نقادا لها، صاحب رواية ودراية، تقلب ببلاد الأندلس، وأخذ الناس عنه بمرسية وغيرها. ورحل إلى مدينة فاس، وإفريقية، وأخذ بها، وولى القضاء يتقرش من بلاد الجريد.
مشيختهروى عن أبيه القاضي أبي الحسن بن أحمد، وعن عمه أبي مروان، وعن أبوي الحسن ابن دري، وابن الباذش، وأبي الوليد بن رشد، وأبي إسحق بن رشيق الطليطلي نزيل وادي آش، وأبي بكر بن العربي، وأبي الحسن ابن وهب، وأبي محمد عبد الحق بن عطية، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي الحسن يونس بن مغيث، وأبي القاسم بن ورد، وأبي بكر بن مسعود الخشن، وأبي القاسم بن بقي، وأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض، وغيرهم.
تواليفهله تواليف وخطب ورسائل ومقامات، وجمع مناقب من أدركه من أهل عصره، واختصر كتاب الجمل لابن خاقان الإصبهاني، وغير ذلك، وألف برنامجاً يضم رواياته.
من روى عنهروى عنه ابن الملجوم، واستوفى خبره
وفاتهركب البحر قاصداً الحج، فتوفي شهيداً في البحر، قتله الروم بمرسى توسن مع جماعة من المسلمين، صبح يوم الأحد، في العشر الوسط من شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسماية.
ابن الفصالعبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الأنصاري يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الفصال.
حاله

هذا الرجل فاضل عريق في العدالة، ذكي، نبيل، مختصر الجرم، شعلة من شعل الإدراك، مليح المحاورة، عظيم الكفاية، طالب متقن، قرأ على مشيخة بلده، واختص منهم بمولى النعمة على أبناء جنسه، أبي سعيد ابن لب، واستظهر من حفظه كتباً كثيرة، منها كتاب التفريع في الفروع، وارتسم في العدول، وتعاطى لهذا العهد الأدب، فبرز في فنه.
أدبهمما جمع فيه بين نظمه ونثره، وقوله يخاطب الكتاب، ويسحر ببراعته الألباب:
لعل نسيم الريح يسري عليله ... فأهدى صحيح الود طي سقيم
لتحملا عني وأزكى تحية ... لقيته كهف مانع ورقيم
ويذكر ما بين الجوانح من جوى ... وشوق إليهم مقعد ومقيم
يا كتاب المحل السامي، والإمام المتسامي، وواكف الأدب البسامي، أناشدكم بانتظامي في محبتكم وارتسامي، وأقسم بحقكم علي وحبذا إقسامي، ألا ما أمددتم بأذهانكم الثاقبة، وأسعدتم بأفكاركم النيرة الواقية، على إخراج هذا المسمى، وشرح ما أبهمه المعمى، فلعمري لقد أخرق مزاجي، وفرق امتزاجي، وأظلم به وهاجي، وغطى على مرآة ابتهاجي، فأعينوني بقوة ما استطعتم، وأقطعوني من مددكم ما قطعتم، وآتوني بذلك كله إعانة وسداً. وإلا فها هو بين يديكم، ففكوا غلقه، واسردوا خلقه، واجمعوا مضغه المتباينة وعلقه، حتى يستقيم جسداً قايماً بذاته، متصفاً بصفاته المذكورة ولذاته، قايلاً بتسلية أسلوباً مصحفاً كان أو مقلوباً. وإن تأبى عليكم وتمنع، وأدركه الحياء فتستر وتقنع، وضرب على إذان الشهدا، وربط على قلوبهم من الإرشاد له والاهتداء، فابعثوا أحدكم إلى المدينة ليسأل عنه خدينه:
أحاجي ذوي العلم والحلم ممن ... ترى شعلة الفهم من زنده
عن اسم هو الموت مهما دنا ... وإن بات يبكي على فقده
لذيذ وليس بذي طعم ... ويومر بالغسل من بعده
وأطيب ما يجتنيه الفتى ... لدى ربة الحسن أو عبده
مضجعه عشر الثلث في حساب ... المصحف من خده
وإن شيت قل مطعم ذمه ... الرسول وحض على بعده
وقد جاء في الذكر إخراجه ... لقوم نبي على عهده
وتصحيف ضد له آخر ... لقوم نبي على عهده
وتصحيف ضد له آخر ... يبارك للنحل في شهده
وتصحيف مقلوبه ربه ... تردد م قبل في رده
فهاكم معانيه قد بدت ... كنار الكريم على نجده
وكتب للولد أسعده الله، يتوسل إليه، ويروم قضاء حاجته:
أيها السيد العزيز تصدق ... فيالمقام العلي لي بالوسيلة
عند رب الوزارتين أطال الله ... أيامه حساناً جميلة
عله أن يجيرني من زمان ... مسنى الضر من خطاه الثقيلة
واستطالت علي بالنهب جوراً ... من يديه الخفيفة المستطيلة
لم تدع لي بضاعة غير مزجاة ... ونزر أهون به من قليله
وإذا ما وفى لي الكيل يوما ... حشفاً ما يكيله سوء كيله
فشفى بي غليله لا شفى بي ... دون ابنايه الجميع غليله
من لهذا الزمان مذ نال مني ... ليس لي بالزمان والله حيلة
غير أن يشفع الوزير ويدعي ... عبده أو خديمه أو خليله
دمت يا بن الوزير في عزك ... السامي ودامت به الليالي كفيلة

سيدي الذي بعزة جاهه أصول، وبتوسلي بعنايته أبلغ المأمول والسول، وأروم لما أنا أحوم عليه الوصول، ببركة المشفوع إليه والرسول، المرغوب من مجدك السامي الصريح، والمؤمل من ذلك الوجه السني الصبيح، أن تقوم بين نجوى الشفاعة، هذه الرقاعة، وتعين بذاتك الفاضلة النافعة، من لسانك مصقاعة، حتى ينجلي حالي عن بلج، وأتنسم من مهبات القبول طيب الأرج، وتتطلع مستبشرات فرحتي من ثنيات الفرج، فإن سيد الجماعة الأعلى، وملاذ هذه البسيطة وفحلها الأجلي، فسح اله تعإلى في ميدان هذا الوجود بوجوده، وأضفى على هذا القطر ملابس الستر برأيه السديد وسعوده، وبلغه في جميعكم غاية أمله ومقصوده، قلما تضيع عنده شفاعة الأكبر من ولده، أو يخيب لديه من توسل إليه بأزكى قطع كبده، وبحقك ألا ما أمرت هذه الرقعة بالمثول بين يدي ذلك الزكي الذات الطاهر البقعة، وقل لها قبل الحلول بين يدي هذا المولى الكريم، والموئل الرحيم، بعظيم التوقير والتبجيل، اعلمي ياأيتها السايل، أن هذا الرجل هو المؤمل، بعد الله تعإلى في هذا الجيل، والحجة البالغة في تبليغ راجيه أقصى ما يؤملونه بالتعجيل، وخاتمة كلام البلاغة، وتمام الفصاحة، الموقف عليه ذلك كله بالتسجيل، وغرة صفح دين الإسلام المؤيد بالتحجيل. وهذا هو مدبر فلك الخلافة العالية بإيالته، وحافظ بدر سمايها السامية بهالته، فقرى بالمثول بين يديه عيناً، ولقد قضيت على الأيام بذلك ديناً، وإذا قيل ما وسيلة مؤملك، وحاجة متوسلك، فوسيلته تشيعه في أهل ذلك المعنى، وحاجته يتكفل بها مجدكم الصميم ويعنى، وليست تكون بحرمة جاهكم من العرض الأدنى، وتمن فإن للإنسان هنالك ما تمنى، وتولى تكليف مرسلي بحسب ما وسعكم، وأنتم الأعلون، والله معكم. ثم أثن العنان، والله المستعان، وأعيدي السلام، ثم عودي بسلام.
وخاطب قاضي الحضرة، وقد أنكر عليله لباس ثوب أصفر: أبقى الله المثابة العلية، ومثلها أعلى، وقدحها في المعلوات المعلي، ما لها أمرت، لا زالت بركاتها تنثال، ولأمر ما يجب الأمتثال، بتغيير ثوبي الفاقع اللون، وإحالته عن معتاده في الكون، وإلحاقه بالأسود الجون أصبغة حداداً، وأيام سيدي أيام سرور، وبنو الزمان بعدله ضاحك ومسرور، ما هكذا شيمة البرور، بل لو استطعنا أن نزهو له كالميلاد، ونتزيا في أيامه بزي الأعياد، ونرفل من المشروع في محبر وموروس، ونتجلى في حلل العروس، حتى تقر عين سيدي بكتيبة دفاعه، وقيمة نوافله وإشفاعه، ففي علم سيدي الذي به الاهتداء، وبفضله الاقتداء، تفضيل الأصفر الفاقع، حيثما وقع من المواقع، فهو مهما حضر نزهة الحاضرين، وكفاه فاقع لونها تسر الناظرين. ولقد اعتمه جبريل عليه السلام، وبه تطرز المحبرات والأعلام، وإنه لزي الظرفاء، و شارة أهل الرفاء، اللهم إلا إن كان سيدي، دام له البقاء، وساعده الارتقاء، ينهى أهل التبريز، عن مقاربة لون الذهب الإبريز، خيفة أن تميل له منهم ضريبة، فيزنوا بريبة، فنعم إذا ونعمى عين، وسمعاً وطاعة لهذا الأمر الهينن اللين، أتبعك لا زيداً وعمراً، ولا أعصى لك أمراً، ثم لا ألبس بعدها إلا طمراً، وأتجرد لطاعتك تجريداً، وأسلك إليك فقيراً ومزيداً، ولا أتعرض للسخط بلبس شفيف، استنشق هباه، وألبس عباه، وأبرأ من لباس زي ينشئ عتابا، يلقى على لسان مثل هذا كتاباً، وأتوب منه متاباً، ولولا أني الليلة صفر اليدين، ومعتقل الدين، لباكرت به من حانوت صباغ رأس خابية، وقاع مظلمة جابية، وقاع مظلمة جابية، فأصيره حالكاً، ولا ألبسه حتى استفتى فيه مالكاً، ولعلى أجد فأرضى سيدي بالتزيي بشارته، والعمل بمقتضى إشارته، والله تعإلى يبقيه للحسنات، ينبه عليها، ويومي بعمله وحظه إليها، والسلام.
وخاطبني وقد قدم في شهادة المواريث بحضرة غرناطة:
يا منتهى الغايات دامت لنا ... غايتك القصوى بلا فوت
طلبت إحيائي بكم فانتهى ... من قبله حالي إلى الموت
وحق ذلك الجاه جاه العلا ... لامت إلا أن أتى وقت

مولاي الذي أتأذى من جور الزمان بذمام جلاله، وأتعوذ من نقص شهادة المواريث بتمام كماله، شهادة يأباها المعسر والحي، ويود أن لا يوافيه أجله عليها الحي، مناقضة لما العبد بسبيله، غير مربح قطميرها من قليله، فإن ظهر لمولاي إعفاء عبده، فمن عنده، والله تعإلى يمتع الجميع بدوام سعده، والسلام الكريم، يختص بالطاهر من ذاته ومجده، ورحمة اله وبركاته، من عبد إنعامكم ابن الفصال لطف الله به:
قد كنت أسترزق الأحياء ما رزقوا ... شيئاً ولا وفوني بعض أقوات
فكيف حالي لما أن شكوتهم ... رجعت أطلب قوتي عند أموات
والسلام يعود على جناب مولاي ورحمة الله وبركاته: وخاطب أحد أصحابه، وقد استخفى لأمر قرف به، برسالة افتتحا بأبيات على حرف الصاد، أجابه المذكور عن ذلك بما نصه، وفيه إشارة لغلط وقع في الإعراب:
يا شعلة من ذكاء أرسلت شررا ... إلى قريب من الأرجاء بعد قص
وشبهة حملت دعوى السفاح على ... فحل يليق به مضمونها وخص
رحماك بي فلقد جرعتني غصصا ... أثار تعريضها المكتوم من غص
بليتني بنكأة القرح في كبدي ... كمثل مرتجف المجذوم بالبرص
أيها الأخ الذي رقى ومسح، ثم فصح، وغش ونصح، ومزق ثم نصح، وتلاعب بأطراف الكلام المشقق فما أفصح، ما لسحاتك ذات الجيد المنصوص، وتونس على العموم، وتوحش على الخصوص، لا در دره من باب برضاع مفتاحه، وتأنيس حر سبق بالسجن استفتاحه، ومن الذي أنهى إلى أخي خبر ثقافي، ووثيقة تحبيسي وإيقافي، وقد أبى ذلك سعد فرعه باسق، وعز عقده متناسق. ويا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ، بل المثوى والحمد الله جنات وغرف، والمنتهى مجد وشرف، فإن كان وليي مكترثاً فيحق له السرور، أو شامتاً، فلي الظل وله الحرور. أنا لا أزن والحمد لله بها من هناه، ولما أدين بها من عزي ومناه، ولا تمر لي ببال فلست بذي سيف، ولست بنكال نفسي أرق شيمة، وأكرم مشيمة، وعيني أغزر ديمة، لو كان يسئل لسان عن إنسان، أو مجاولته بملعبه خوان، أوقفني إخوان لا بمأزق عدوان، لارتسمت منه بديوان. لا يغنى في حرب عوان، عين هذا الشكل والحمد لله فراره، وعنوان هذا الحد غراره. وأما كوني من جملة الصفرة. وممن أجهز سيدي الفقار على ذي الفقرة، فأقسم لو ضرب القتيل ببعض البقرة، لتعين مقدار تلك الغفرة. اللهم لو كنت مثل سيدي ممن تتضاءل النخلة السحوق لقامته، ويعترف عوج لديه بقماءته ودمامته، مقبل الظعن كالبدور في سحاب الخدور، وخليفة السيد الذي بلغت سراويله تندوة العدو الأيد، لطلت بباع مديد، وساعدني الخلق بساعد شديد، وأنا لي جسم شحت، يحف به بخت، وحسب مثلي أن يعلم في ميدان هوى، تسل فيه سيوف اللحاظ على ذوي الحفاظ، وتشرع سيوف القدود. إلى شكاة الصدود، وتسطو أولو الجفون السود بالأسود، فكيف أخشى تبعة تزل عن صفاتي، وتنافى صفاتي، ولا تطمع أسبابها في التفاتي، ولا تستعمل في حربها قنا ألفاتي. والله يشكر سيدي على اهتباله، ويحل كريم سباله، على ما ظهر لأجلى من شغف باله، إذ رفع ما يتصب، وغير ما لو غيره الحجاج، لكان مع الهيبة يحصب، ونكت بأن نفقت بالحظ سوقي. وظهر لأجله فسوقي ويا حبذا هو من شفيع رفيع، ووسيلة لا يخالفها الرعي، ولا يخيب لها السعي. ولله در القايل.
لله بالإنسان في تعليمه ... بوساطة القلم الكريم عناية
فالخط خط والكتابة لم تزل ... في الدهر عن معنى الكمال كناية
وما أقرب يا سيدي هذه الدعوى لشهامتك. وكبر هامتك:
لو كنت حاضرهم بخندق بلج ... ولحمل ما قد أبرموه فصال
لخصصت بالدعوى التي عموا بها ... ولقيل فصل جلاه الفصال
وتركت فرعون بن موسى عبرة ... تتقدمنه بسيفه الأوصال
فاحمد الله الذي نجاك من حضور وليمتها، ولم تشهد يوم حليمتها.

وأما اعتذارك عما يقال من تفقد الكنز، ومنتطح العنز، فورع في سيدي أتم من أن يتهم بغيبة، ولسانه أعف من أن ينسب إلى ريبة، لما اتصل به من فضل ضريبة، ومقاصد في الخير غريبة، إنما يستخف سيدي أفرط التهم، رمى العوامل بالتهم، فيجري أصح مجرى أختها، ويلبسها ثياب تحتها، بحيث لا إثم يترتب، ولا هو ممن تعتبه، وعلى الرجال فجنايته عذبة الجناء، ومقاصده مستطرفة لفصح أو كنى. أبقاه الله رب نفاضة وجرادة، ولا أخلى مبرده القاطع من برادة، وعوده الخير عادة، ولا أعدمه بركة وسعادة، بفضل الله، والسلام عليه من وليه المستزيد من ورش وليه، لا بل من قلايد حليه. محمد بن فركون القرشي. ورحمة الله وبركاته فراجعه المترجم بما نصه، وقد اتهم أن ذلك من إملايي:
يا ملبس النصح ثوب الغش متهما ... يلوى النصيحة عنه غير منتكص
وجاهلاً باتخاذ الهزل مأدبة ... أشد ما يتوقى محمل الرخص
نصحته فقصاني فانقلبت إلى ... حال يغص بها من جملة الفصص
بالأمس أنكرت آيات القصاص له ... واليوم يسمع فيه سورة القصص
ممن استعرت يا بابلي هذا السحر، ولم تسكن بناصية السحر، ولا أعملت إلى بابل هاروت امتطاء ظهر، ومن أين جيت بقلايد ذلك النحر، أمن البحر، أو مما وراء النهر. ما لمثل هذه الأريحية الفاتقة، استنشقنا مهبك، ولا قبل هذه البارقة الفايقة، استكثرنا غيك. يا أيها الساحر ادع لنا ربك. أأضغاث أحلام ما تريه الأقلام، أم في لحظة تلد الأيام، فرايد الأعلام. لقد عهدت بربعك محسن دعابة، ما فرعت شعابه، أو مصيباً في صبابة، ما قرعت بابه، ولا استرجعت قبل أن أعبر عبابه. اللهم إلا أن تكون تلك الآيات البينات، من بنات يراعتك، لا براعتك ومفترس تلك الزهر، الطالعة كالكواكب الزهر، مختلس يد استطاعتك، لا زراعتك، وإلا فنطرح مصايد التعليم والإنشاء، وننتظر معنى قوله عز وجل، يؤتى الحكمة من يشاء، أو نتوسل في مقام الإلحاح والإلحاف. أن ننقل من غايلة الحسد إلى الإنصاف، وحسبي أن أطلعت بالحديقة الأنيقة، ووقفت من مثلي تلك الطريقة على حقيقة، فألفيت بها بياناً قد وضح تبياناً أو أطلق عناناً، ومحاسن وجدت إحساناً، فتمثلت إنساناً، سرح لساناً، وأجهد بناناً، إلا أن صادح أيكتها يتململ في قيظ، ويكاد يتميز من الغيظ، فيفيض ويغيض، ويهيض وينهض، ثم يهيض، ويأخذ في طويل وعريض، بتسبيب وتعريض، ويتناهض في ذلك بغير مهيض، وفاتن كمايمها تسل عن الصادح، ويتلقف عصا استعجاله ما يفكه المادح، ويحرق بناره زند القادح، ويتلقف عصا استعجاله ما يفكه المادح، ويحرق بناره زند القادح، ويتعاطى من نفسه بالإعجاب، ويكاد ينادي من وراء حجاب، إن هذا لشيء عجاب، إيه بغير تمويه، رجع الحديث الأول، إلى ما عليه المعول، لا در درها من نصيحة غير صحيحة، ووصية مودة صريحة، تعلقت بغير ذي قريحة، فهي استعجلتني بداهية كاتب، واستطالة ظالم عاتب قد سل مرهفه واستنجد مترفه، وجهزها نحو كتيبته تسفر عن تحجيل، بغير تبجيل وسحابة سجل ترمى بسجيل ما كان إلا أن استقلت، ورمتني بدائها وانسلت، وألقت ما فيها وتخلت، فحسبي الله، تغلب على فهمي، ورميت بسهمي، وقتلت بسلاحي، وأسكرت براحي، بريت بريت، مما به دهيت، أنت أبقاك الله لم تدن بها مني منالاً وعزاً، فكيف بها تنسب إلى بعدك وتعزا، نفسي التي هي أرق وأجدر بالمعالي وأحق، وشكلى أخف على القلوب وأدق، وشمايلي أملك فلا تسترق، ولساني هو الذي يسئل فلا يفل، وقدري يعزه ويجل، عما فخرت أنت به من ملعب مايدة، ومجال رقاب متمايدة، فحاشى سيدي أن يقع منه بذلك مفخر، إلا أن يكون يلهو ويسخر، وموج بحره بالطيب والخبيث تزخر، وعين شكلي هي بحمد الله، عين الظرف المشار إليه بالبنان والطرف. وأما تعريض سيدي بصغر القامة، وتكبيره لغير إقامة، فمطرد قول، ومدامة غول، وفريضة نشأ فيها عول، إذ لا مبالاة تجسم كاينا ما كان، أو ما سمعت أن السر في السكان، وإنما الجسد للروح مكان ولم يبق إليه فقد يروح، وقد قال، ويسئلونك عن الروح، والمرء بقلبه ولسانه، لا بمستظهر عيانه، والله در القايل:
لم يرضني أني بجسم هايل ... والروح ما وفت له أغراضه
ولقد رضيت بأن جسمي ناحل ... والروح سابغة به فضفاضة

ولما وقع سيدي بمكتوبي على المرفوع والمنصوب، وظفرت يده بالمغصوب، والباحث المعصوب، لم يقلها زلة عالم. وإني وقد وجدتها منية حالم، فعدد وأعاد، وشدد وأشاد، هلأ عقل ما قال، وعلم أن المقيل سيكون مقال، وزلة العلم لا تقال وأن الحرب سجال. وقبضة غيره هو المتلاعب في الحجال، وبالجملة فلك الفضل يا سيدي، ما اعتنى بمعناك، وارتفع بين مغاني الكرام مغناك، فمدة ركوبك الحمران لا تجاري، ولا يشق أحد لك غبارا. أبقاك الله تحفظ عرى هذا الوداد، ويشمل الجميع بركة ذلك الناد، والسلام عليك من ابن الفصال، ورحمة الله وبركاته.
وجعلا إلى التحيم، وفوضا لنظري التفضيل فكتبت:
بارك عليها بذكر الله من قصص ... واذكر ما أى في سورة القصص
حيث اغتدي السحر يلهو بالعقول ... وقد أحال بين حال كيده وعص
عقايل العقل والسحر الحلال قوت ... من كافل الصون بعد الكون حجروص
وأقبلت تتهادى كالبدور إذا ... بسحر من فلك النذور في حصص
من للبدور وربات الخدور بها ... المثل غير مطيع والمثلان عص
ما قرصة البدر والشمس المنيرة أن ... قيست بمن سوى من جملة القرص
تا لله ما حكمها يوماً بمنتقض ... كلاً ولا بدرها يوماً بمنتقص
إن قافل حكمي فيها بالسواد فقد ... أمنت ما يحذر القاضي من الغصص
أو كنت أرخصت في الترجيح مجتهداً لم يقبل الورع الفتيا مع الرخص
يا مدلج ليل الترجيح قف، فقد خفيت الكواكب، ويا قاضي طرف التحسين والتقبيح، تسامت والحمد لله المناكب، ويا مستوكف خبر الوقيعة من وراء أقتام القيعة، تصالحت المواكب. حصحص الحق فارتفع اللجاج، وتعارضت الأدلة فسقط الاحتجاج، ووضعت الحرب أوزارها فسكن العجاج، وطاب نحل الأقلام بأزهار الأحلام، فطاب المجاج، وقل لفرعون البيان وإن تأله، وبلد العقول وبله، وولي بالغرور ودله. أوسع الكناين نثلا، ودونك أيدا شثلاً، وشحرا حثلا، لا خطما ولا أثلا. إن هذان لساحران إلى قوله، ويذهبا بطريقتكم المثلى، وإن أثرت أدب الحليم مع قصة الكليم، فقل لمجمل جياد التعاليم، وواضع جغرافياً الأقاليم، أندلسا ما علمت بلد الأجم، لا سود العجم، ومداحض السقوط، على شوك قتاد القوط، ولم يذر إن محل ذات العجايب والأسرار، التي تضرب إليها أباط النجاب في غير الإقليم الأول. وهذا الوطن بشهادة القلب الحول. إنما هو رسم دارس، ليس عليه من معول. فهنالك يتكلم الحق فيفصح ويعجم، ويرد المدد على النفوس الجريبة، من مطالع الأضواء فيحدث ويلهم، ويجود خازن الأمداد، على المتوسل بوسيلة الاستعداد، فيقطع ويسهم. وأما إقليمنا الرابع والخامس، بعد أن تكافأت المناظر والملامس، وتناصف الليل الدامس واليوم الشامس، باعتدال ربيعي، ومجرى طبيعي، وذكى بليد، ومعاش وتوليد، وطريف في البداوة وتليد، ليس به برباه ولا هرم، يخدم بها درب محترم، ويشب لقرياته حرم، فيفيد روحانيا يتصرف، ورييساً يتعرض ويتعرف، كلما استنزل صاب، وأعمل الانتصاب، وجلب المآرب، وأذهب الأوصاب، وعلم الجواب، وفهم الصواب. ولو فرضنا هذه المدارك ذوات أمثال، أو مسبوقة بمثال، لتلقينا منشور القضاء بامتثال، لا كنا نخاف أن نميل بعض الميل، فنجني بذلك أبخس الجري وإرضا الذميل، ونجر تنازع الفهري مع الصميل. فمن خير ميز، ومن حكم أزرى به وتهكم، وما سل سيوف الخوارج في الزمن الدارج، إلا التحكيم، حتى جهل الحكيم، وخلع الخطام، ونزع الشكيم، وأضر بالخلق نافع، وذهب الطفل لجراه واليافع، وذم الذمام ورد الشافع، وقطر سيف قطري بمسجد الثقفي وهو محصور، وانتهبت المقاصير والقصور، إلا أن مستأهل الوظيفة الشرعية، عند الضرورة يجبر، والمنتدب للبرمحي عند الله ويجبر، واجعلني على خزائن الأرض، وهو الأوضح والأشهر، فيها به يستظهر. وأنا فإن حكمت على التعجيل، فغير مشهد على نفسي بالتسجيل، إنما هو تلفيق يرضى وتطفيل، يعتب عليه من تصدع بالحق ويمضي إلا أن يغضى، ورأيي فيها المراضاة والاستصلاح، وإلا فالسلاح والركاب الطلاح، والصلح خير، وما استدفع بمثل التسامح ضير. ومن وقف عليه، واعتبر ما لديه، فليعلم أني صدعت وقطعت، والحق أطعت، وإن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، والسلام.

عبد الرحمن بن محمد الحضرمي
بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر ابن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي من ذرية عثمن أخي كريب المذكور في نبهاء، ثوار الأندلس. وينتسب سلفهم إلى وائل بن حجر، وحاله عند القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف.
أوليتهقد ذكر بعض منها. وانتقلسلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعين وشهرة عند الحادثة بها، أو قبل ذلك، واستقر بتونس منهم ثالث المحمد بن الحسن، وتناسلوا على سراوة وحشمة ورسوم حسنة، وتصرف جد المترجم به لملوكها في القيادة.
حالههذا الرجل الفاضل حسن الخلق، جم الفضائل باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصي الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوى الجأش، طامح لقنن الرياسة، خاطب للحظ، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الخط، مغري بالتجلة، جواد الكف، حسن العشرة، مبذول المشاركة، مقيم لرسوم التعين، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخرة من مفاخر التخوم المغربية.
مشيختهقرأ القرآن ببلده على المكتب ابن برال، والعربية على المقرى الزواوي وابن العربي، وتأدب بأبيه، وأخذ عن المحدث أبي عبد الله بن جابر الوادي آش، وحضر مجلس القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام، وروى عن الحافظ عبد الله السطي، والرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، ولازم العالم الشهير أبا عبد الله الآبلى، وانتفع به.
توجهه إلى المغربانصرف عن إفريقية منشئه. بعد أن تعلق بالخدمة السلطانية على الحداثة وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة. وعرف فضله، وخطبه السلطان منفق سوق العلم والأدب أبو عنان فارس بن علي ابن عثمن، واستقدمه، واستحضره بمجلس المذاكرة، فعرف حقه، وأوجب فضله، واستعمله في الكتابة أوائل عام ستة وخمسين، ثم عظم عليه حمل الخاصة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأني، وشفوفه بثقوب الفهم، وجودة الإدراك، فأغروا به السلطان إغراء عضده ما جبل عليه عند ئذ من إغفال التحفظ، مما يريب لديه، فأصابته شدة تخلصه منها أجله؛ كانت مغربة في جفاء ذلك الملك، وهناة جواره، وإحدى العواذل لأولى الهوى في القبول بفضله، واستأثر به الاعتقال باقي أيام دولته على سنن الأشراف من الصبر وعدم الخشوع، وإهمال التوسل، وإبادة المكسوب في سبيل النفقة، والإرضاخ على زمن المحنة، وجار المنزل الخشن، إلى أن أفضى الأمر إلى السعيد ولده، فأعتبه قيم الملك لحينه، وأعاده إلى رسمه. ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم، وكان له به الاتصال، قبل تسوغ المحنة، بما أكد حظوته، فقلده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات، محرر السهام، نبيه الرتبة، إلى آخر أيامه. ولما ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله، مدبر الأمر وله إليه قبل ذلك وسيلة، وفي حليه شركة، وعنده حق رابه تقصيره، عما ارتمى إليه أمله، فساء ما يبينهما إلى أن إلى إلى انفصاله عن الباب المريني.
دخوله غرناطةورد على الأندلس في أوائل شهر ربيع الأول من عام أربعة وستين وسبعماية، واهتز له السلطان، وأركب خاصته لتلقيه، وأكرم وفادته، وخلع عليه، وأجلسه بمجلسه الخاص. ولم يدخر عنه برا ومؤاكله ومطايبة وفكاهة.
وخاطبني لما حل بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرني الآن فأجبته عنها بقولي:
حللت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرحب والسهل
يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشيخ والطفل المهدإ والكهل
لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسى اغتباطي بالشبيبة والأهل

أقسمت بمن حجت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته، الذي زيازته الأمنية السنية، والعارفة الوارفة، واللطيفة المطيفة، بين رجع الشباب يقطر ماء، ويرف نماء، ويغزل عيون الكواكب، فضلاً عن الكواعب، إشارة وإيماء، بحيث لا الوخط يلم بسياج لمته، أو يقدح ذبالة في ظلمته، أو يقوم حواريه في ملته، من الأحابش وأمته، وزمانه روح وراح، ومغدى في النعيم ومراح، وقصف صراح، ورفى وجراح، وانتخاب واقتراح، وصدور ما بها إلا انشراح، ومسرات تردفها أفراح. وبين قدومك خليع الرسن، ممتعاً والحمد لله، باليقظة والوسن، محكماً في نسك الجنيد، أو فتك الحسن، ممتعاً بظرف المعارف، مالئاً أكف الصيارف، ما حيا بأنوار البراهين شبه الزخارف لما اخترت الشباب، وإن شاقني زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحاب دمعي دمنه. فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي، وملكني أزمة آرابي، وغبطني بمائي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصني بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي، وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية، ومنتهى الطية، وملتقى للسعود غير البطية، وتهنى الآمال الوثيرة الوطية، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ريك، متجملة بزيك، عاقلة خطى مهريك، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظان مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، ويسع فضل مجدك في التخلف عن الأصحار، لا بل اللقاء من وراء البحار، والسلام.
ولما استقر بالحضرة، جرت بيني وبينه مكاتبات، أقطعها الظرف جانبه، وأوضح الأدب فيها مذاهبه. فمن ذلك ما خاطبته به، وقد تسرى جارية رومية إسمها هند صبيحة الابتناء بها.
أوصيك بالشيخ أبي بكره ... لا تأمنن في حالة مكره
واجتنب الشك إذا جئته ... جنبك الرحمن من تكره
سيدي، لا زلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، وتركض فوقها ركض الهمالج. اخبرني كيف كانت الحال، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال، وأحكم بمرود المراودة الاكتحال، وارتفع بالسقيا الإمحال، وصح الانتحال، وحصحص الحق وذهب المحال، وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزفت هند منك إلى بشر، فلله من عشية تمتعت من الربيع بفرشي موشية، وابتذلت منها أي وساد وحشية وقد أقبل ظبي الكناس من الديماس، ومطوق الحمام من الحمام، وقد حسنت الوجه الجميل النظرية، وأزيلت عن الفرع الأثيث الأبرية، وصقلت الخدود فهي كأنها الأمرية، وسلط الدلك على الجلود، وأغريت النورة بالشعر المولود، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللمس، ولا تنالها البنان الخمس، والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم، والمسواك يلبي من ثنية التنعيم، والقلب يرمى من الكف الرقيم بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم، فيقول إني سقيم. وقد تفتح ورج الخفر، وحكم لزنجي الظفيرة بالظفر، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر، ورش بماء الطيب، ثم أعلق بباله دخان العود الرطيب. وأقبلت الغادة يهديها اليمن. وتزفها السعادة، فهي تمشي على استحياء، وقد ذاع طيب الريا، وراق حسن المحيا، حتى إذا نزع الخف، وقبلت الأكف، وصحب المزمار وتجاوب الدف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوز اللوا والمنعرج، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزت الأرض وربت، وعوصيت الطباع البشرية فأبت، ولله در القائل:
ومرت فقالت متى نلتقي ... فهش اشتياقاً إليها الخبيث
وكاد بمزق سرباله ... فقلت إليك بساق الحديث
فلما انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة الإسلام، وخاطت خيوط المنام، عيون الأنام، تأتى دنو الجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضة النهد، وقبله الفم والخد، وإرسال اليد من النجد إلى الوهد، وكانت الإمالة القلية قبل المد، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب، ثم إعمال المسير إلى السرير.
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال

هذا بعد منازعة للأطواق يسيرة، يراها الغيد من حسن السيرة، ثم شرع في حل التكة، ونزع الشكة، وتهيئة الأرض الغرار عمل السكة، ثم كان الوحى والاستعجال. وحمى الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطبع العفيف، وتواتر التقبيل، وكان الأخذ الوبيل، وامتاز الأنوك من النبيل، ومنها جائر وعلى الله قصد السبيل، فيا لها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطع حروف يقطع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق. وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانة، وطال الترواغ والتزاور، وشكى التجاور وهنالك تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخسر أو تربح الأموال، فمن عصا تنقلب ثعباناً مبيناً، ونونه تصير تنيناً، وبطل لم يهله المعترك الهائل، والوهم الزائل، ولا حال بينه وبين قرته الحائل، فتعدى فتكة السليك إلى فتكة البراض، وتقلد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض، ثم شق الصف، وقد خضب الكف، بعد أن كاد يصيب البرى بطعنه، ويبوء بمقت الله ولعنته:
طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقع فاستراح البال، وتشوف إلى مذهب الثنوية، من لم يكن للتوحيد بسبال، وكثر السؤال عن البال بما بال، وجعل الجريح يقول، وقد نظر إلى دمه يسيل على قدمه:
أنى له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول حملته في سفكه تعبا
ومن سنان عاد عنانا، وشجاع صار هدانا جباناً، كلما شابته شائبة ريبة، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحية، وماتت الغريزة الحية، وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأسر، ويغلب الحصر، ويجف اللباب، ويظهر العاب، ويخفق الفؤاد، ويكبو الجواد، ويسيل العرق، ويشتد الكرب والأرق، وينشأ في محل الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق. ويقوي اللجاج ويعظم الخرق. فلا تزيد الحال إلا شدة، ولا تعرف تلك الجارحة المؤمنة إلا ردة:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
فكم مغري بطول اللبث، وهو من الخبث، يؤمل الكرة، ليزيل المعرة، ويستنصر الخيال، ويعلم باليد الاحتيال:
إنك لا تشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت
ومعتذر بمرض أصابه، جرعه أو صابه. ووجع طرقه، جلب أرقه، وخطيب أرتج عليه أحياناً، فقال سيحدث الله بعد عسر يسرا، وبعد عي بياناً، اللهم إنا نعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغلقت أقفالها، ولم تسم بالنجيع أعفالها، ومن معرات الأقدار والنكول عن الأبكار، ومن النزول عن البطون والسرر، والجوارح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدر، ولا تجعلنا من يستحي من البكر بالغداة، وتعلم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أو جال، وأعملت روية وارتجال. فمن قائل:
أرفعه طورا على إصبعي ... ورأسه مضطربة أسفله
كالحنش المقتول يلقى على ... عود لكي يطرح في مزبله
أو قايل:
عدمت من أيري قوى حسه ... يا حسرة المرء على نفسه
تراه قد مال على أصله ... كحائط خر على أسه
وقايل:
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برجلي ورأسي دملاً وزكاما
فليتها كانا به وأزيده ... رخاوة أير لا يريد قياما
وقائل:
أقول لأيري وهو يرقب فتكة ... به خبت من أير وغالتك داهية
إذا لم يكن للأير بخت تعذرت ... عليه وجوه ......من كل ناحية
وقايل:
تعفف قوق الخصيتين كأنه ... رشاء إلى جنب الركية ملتف
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضعف
وقايل:
تكرش أيري بعد ما كان أملسا ... وكان غنياً من قواه فأفلسا
وصار جوابي للمها أن مررن بي ... مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى
وقايل:
بنفسي من حييته فاستخف بي ... ولم يخطر الهجران منه على بال
وقابلني بالهزء والنجة بعدما ... حططت به رجلي وجردت سريالي
وما ارتجى من موسر فوق دكة ... عرضت له شيئاً من الحشف البالي

علل لا تزال تبكي، وعلل على الدهر تشكي، وأحاديث تقص وتحكي. فإن كنت أعزك الله من النمط الأول، ولم تقل، وهل عند رسم دارس من معول، فقد جنيت الثمر. واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة، واخرج على قومك في ثياب الزينة، واستبشر بالوفود، وعرف السمع عارفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود، واجن رمان النهود، من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود. وإن كانت الأخرى، فاخف الكمد، وأرض الثمد، وانتظر الأمد، واكذب التوسم، واستعمل التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهن الرشوة، وتقلد المغالطة وارتكب، وجئ على قميصك بدم كذب، واستنجد الرحمن، واستعن على أمورك بالكتمان
لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتفجعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
وانتشق الأرج، وارتقب الفرج. فكم غمام طبق وما همي، وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى، وأملك بعدها عنان نفسك، حتى تمكنك الفرصة، وترفع إليك القصة، ولا تشتره إلى عمل لا تفئ منه بتمام، وخذ عن إمام، ولله در عروة بن حزام.
الله يعلم ما تركتن قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل دونهم ... أقتل ولم يضرر عدوي مشهدي
ففررت منهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
واللبانات تلين وتجمح، والمآرب تدنو وتنزح، وتحرن ثم تسمح، وكم من شجاع خام. ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق، والله عز وجل يجعلها خلة موصولة، وشملاً أكنافه بالخير مشمولة، وبنية أركانها لركاب اليمن مأمولة، حتى يكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتضفو عليه نعمة باريه، ما طورد قنيص، واقتحم عبص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص. والسلام.
تواليفهشرح القصيدة المسماة بالبردة شرحاً بديعاً، دل فيه على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه، وغزارة حفظه. ولخص كثيراً من كتب ابن رشد. وعلق للسلطان أيام نظره في العلوم العقلية، تقييداُ مفيداً في المنطق، ولخص محصل الإمام فخر الدين ابن الخطيب الرازي. وبذلك داعبته أول لقيته بعض منازل الأشراف، في سبيل المبرة بمدينة فاس، فقلت له لي عليك مطالبة، فإنك لخصت محصلي. وألف كتاباً في الحساب. وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه، بشيء لا غاية وراءه في الكمال. وأما نثره وسلطانياته، مرسلها ومسجعها، فخلج بلاغة، ورياض فنون، ومعادن إبداع، يفرغ عنها يراعه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم، في نداوة الحروف، وقرب العهد بجرية المداد، ونفوذ أمر القريحة، واسترسال الطبع. وأما نظمه، فنهض لهذا العهد قدماً في ميدان الشعر. وأغر نقده باعتبار أساليبه، فانثال عليه جوه، وهان عليه صعبه، فأتى منه بكل غريبة، من ذلك قوله يخاطب السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الكريم عام اثنين وستين وسبعمائة بقصيدة طويلة:
أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موفق عبرتي ونحيبي
وأبين يوم البين موقف ساعة ... لوداع مشغوف الفؤاد كثيب
لله عهد الظاعنين وغادروا ... قلبي رهين صبابة ووجيب
غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشرقت بعدهم بماء غروبي
يا ناقعاً بالعتب غلة شوقهم ... رحماك في عذلي وفي تأنيبي
يستعذب الصب الملام وإنني ... ماء الملام لدي غير شريب
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى ... لولا تذكر منزل وحبيب
أهفو إلى الطلال كانت مطلعاً ... للبدر منهم أو كناس ربيب
عبثت بها أيدي البلى وترددت ... في عطفها للدهر آي خطوب
تبلى معاهدها وإن عهودها ... ليجدها وصفي وحسن نسيبي
وإذا الديار تعرضت لمتيم ... هزته ذكراها إلى التشبيب
إيه على الصبر الجميل فإنه ... ألوى بدين فؤادي المنهوب
لم أنسها والدهر يثني صرفه ... ويغض طرفي حاسد ورقيب

والدار مونقة محاسنها بما ... لبست من الأيام كل قشيب
يا سائق الأظعان تعتسف الفلا ... وتواصل الآساد بالتأويب
متهافتاً عن رحل كل مذلل ... نشوان من أين ومس لغوب
تتجاذب النفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صباً وجنوب
إن هام من ظما الصبابة صحبة ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب
في كل شعب منية من دونها ... هجر الأماني أو لقاء شعوب
هلا عطفت صدورهن إلى التي ... فيها لبانة أعين وقلوب
فتؤم من أكناف يثرب مأمنا ... يكفيك ما تخشاه من تثريب
حيث النبوة آيها مجلوة ... تتلو من الآثار كل غريب
سر غريب لم تحجبه الثرى ... ما كان سر الله بالمحجوب
يا سيد الرسل الكرام ضراعة ... تقضى من نفس وتذهب حوبى
عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى ... فيها تعللني بكل كذوب
لا كاللآلئ صرفوا العزائم للتقى ... فاستأثروا منها بخير نصيب
لم يخلصوا لله حتى فرقوا ... في الله بين مضاجع وجنوب
هب لي شفاعتك التي أرجو بها ... صفحاً جميلاً عن قبيح ذنوبي
إن النجاة وإن أتيحت لامرئ ... فبفضل جاهك ليس بالتسبيب
إني دعوتك واثقاً بإجابتي ... يا خير مدعو وخير مجيب
قصرت في مدحي فإن يك طيباً ... فبما لذكرك من أريج الطيب
مإذا عسى يبغي المطيل وقد حوى ... في مدحك القرآن كل مطيب
يا هل تبلغني الليالي زورة ... تدني إلي الفوز بالمرغوب
أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها ... وأحط أوزاري وإصر ذنوبي
فثي فتية هجروا المنى وتعودوا ... إنضاء كل تجيبة ونجيب
يطوى صحائف ليلهم فوق الفلا ... ما شئت من خبب ومن تقريب
إن رنم الحادي بذكرك رددوا ... أنفاس مشتاق إليك طروب
أو غرد الركب الخلي بطيبة ... حنوا لمغناها حنين النيب
ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بني يعقوب
الطاعنون الخيل وهي عوابس ... يغشى مثار النقع كل سبيب
والواهبون المقربات هواتناً ... من كل خوار العنان لعوب
والمانعون الجار حتى عرضهم ... في منتدى الأعداء غير معيب
تخشى بوادرهم ويرجى حملهم ... والعز شيمة مرتجى ومهيب
ومنها بعد كثير:
سائل به طامي العباب وقد سرى ... تزجى بريح العزم ذات هبوب
تهديه شهب أسنة وعزائم ... يصدعن ليل الحادث المرهوب
حتى انجلت ظلم الضلال بسعيه ... وسطا الهدى بفريقها المغلوب
يا ابن الإلى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروك بتاجها المعصوب
جمعوا بحفظ الدين آي مناقب ... فلقد شهدنا منه كل عجيب
كم رهبة أو رغبة لك والعلا ... تقتاد بالترغيب والترهيب
لا زلت مسروراً بأشرف دولة ... يبدو الهدي من أفقها المرقوب
تحيي المعالي غادياً أو رائحاً ... وجديد سعدك ضامن المطلوب
وقال من قصيدة خاطبه بها عند وصول هدية ملك السودان، وفيها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة:
قدحت يد الأشواق من زندي ... وهفت بقلبي زفرة الوجد
ونبذت هلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت بالبعد
ولرب وصل كنت آمله ... فاعتضت منه مؤلم الصد
لا عهد عند الصبر أطلبه ... إن الغرام أضاع من عهدي
يلحي العذول فيما أعنفه ... وأقول ضل فأبتغي رشدي

وأعارض النفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد
يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعللي بضعيف ما تهدى
يا سائق الوجناء معتسفاً ... طي الفلاة لطية الوجد
أرح الركاب ففي الصبا نبأ ... يغنى عن المستنة الجرد
وسل الربوع برامة خبراً ... عن ساكني نجد وعن نجد
ما لي تلام على الهوى خلقي ... وهي التي تأبى سوى الحمد
لأبيت إلا الرشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرشد
نعم الخليقة في هدى وتقى ... وبناء عز شامخ الطود
نجل السراة الغر شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد
ومنها في ذكر خلوصه إليه، ومنا ارتكبه فيه:
لله مني إذ تأوبني ... ذكراه وهو بشاهق فرد
شهم يفل بواتر قضبا ... وجموع أقيال أولي أيد
أوريت زند العزم في طلبي ... وقضيت حق المجد من قصدي
ووردت عن ظمأ مناهله ... فرويت من عز ومن رفد
هي جنة المأوى لمن كلفت ... آماله بمطالب المجد
لو لم أعل بورد كوثرها ... ما قلت هذى جنة الخلد
من مبلغ قومي ودونهم ... قذف النوى وتنوفة البعد
إني أنفت على رجائهم ... وملكت عز جميعهم وحدي
ومنها:
ورقيمة الأعطاف حالية ... موشية بوشائج البرد
وحشية الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالقود
تسمو بجيد بالغ صعداً ... شرف الصروح بغير ما جهد
طالت رؤوس الشامخات به ... ولربما قصرت عن الوهد
قطعت إليك تنائفاً وصلت ... آسادها بالنص والوخد
نحدي على استصعابها ذللاً ... وتبيت طوع القن والقد
بسعودك اللائي ضمن لنا ... طول الحياة بعيشة رغد
جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد
وافوك أنضاء تقلبهم ... أيدي السري بالغور والنجد
كالطيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسل من غمد
يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار ولا جحد
ويرون لحظك من وفادتهم ... فخراً على الأتراك والهند
يا مستعيناً جل في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي
جازاك ربك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم ما يسدي
وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزة أبداً وفي سعد
وقال يخاطب صدر الدولة فيما يظهر من غرض المنظوم:
يا سيد الفضلاء دعوة مشفق ... نادى لشكوى البث خير سميع
مالي وللإقصاء بعد تعلة ... بالقرب كنت لها أجل شفيع
وأرى الليالي رتقت لي صافيا ... منها فأصبح في الأجاج شروعي
ولقد خلصت إليك بالقرب التي ... ليس الزمان لشملها بصدوع
ووثقت منك بأي وعد صادق ... إني المصون وأنت غير مضيع
وسما بنفسي للخليفة طاعة ... دون الأنام هواك قبل نزوع
حتى انتحاني الكاشحون بسعيهم ... فصددتهم عني وكنت منيعي
رغمت نفوسهم بنجح وسائلي ... وتقطعت أنفاسهم بصنيعي
وبغوا بما نقموةا علي خلائقي ... حسداً فراموني بكل شنيع
لا تطمعنهم ببذل في الستي ... قد صنتها عنهم بفضل قنوع
أني أضام وفي يدي القلم الذي ... ما كان طيعه لهم بمطيع
ولي الخصائص ليس تأبى رتبة ... حسبي بعلمك ذاك من تفريعي
قسماً بمجدك وهو خير ألية ... اعتدها لفؤادي المصدوع
إني لتصطحب الهموم بمضجعي ... فتحول ما بيني وبين هجوعي
عطفاً علي بوحدتي عن معشر ... نفث الإباء صدودهم في روعي

أغدو إذا باكرتهم متجلداً ... وأروح أعثر في فضول دموعي
حيران أوجس عند نفسي خيفة ... فتسر في الأوهام كل مروع
أطوي على الزفرات قلباً إده ... حمل الهموم تجول بين ضلوعي
ولقد أقول لصرف دهر رابني ... بحوادث جاءت على تنويع
مهلاً عليك فليس خطبك ضائري ... فلقد لبست له أجن دروع
إني ظفرت بعصمة من أوحد ... بذ الجميع بفضله المجموع
وأنشد السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله بن أمير المسلمين أبا الحجاج، لأول قدومه ليلة الميلاد الكريم، من عام أربعة وستين وسبعمائة:
حي المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها ويظميني
إن الإلى نزحت داري ودارهم ... تحملوا القلب في آثارهم دوني
وقفت أنشد صبراً ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسماً لا يناجيني
أمثل الربع من شوق وألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني
وينهب الوجد مني كل لؤلؤة ... ما زال جفني عليها غير مأمون
سقت جفوني مغاني الربع بعدهم ... فالدمع وقف على أطلاله الجون
قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أن قلبي إلى السلوان يدعوني
أحبابنا هل لعهد الوصل مدكر ... منكم وهل نسمة منكم تحييني
ما لي وللطيف لا يعتاد زائره ... وللنسيم عليلاً لا يداويني
يا أهل نجد وما نجد وساكنها ... حسناً سوى جنة الفردوس والعين
أعندكم أنني ما مر ذكركم ... إلا انثنيت كأن الراح تثنيني
أصبوا إلى البرق من أنسحاء أرضكم ... شوقاً ولولاكم ما كان يصبيني
يا نازحاً والمنى تدنيه من خلدي ... حتى لأحسبه قرباً يناجيني
أسلى هواك فؤادي عن سواك وما ... سواك يوماً بحال عنك يسليني
ترى الليالي أنستك ادكاري يا ... من لم يكن ذكره الأيام تنسيني
ومنها في ذكر التفريط:
أبعد مر الثلاثين التي ذهبت ... أولى الشباب بإحساني وتحسيني
أضعت فيها نفيساً ما وردت به ... إلا سراب غرور ليس يرويني
وا حسرتا من أماني كلها خدع ... تريش غيي ومر الدهر يبريني
ومنها في وصف المشور المبتنى لهذا العهد:
يا مصنعاً شيدت منه السعود حمى ... لا يطرق الدهر مبناه بتوهين
صرح يحار لديه الطرف مفتتنا ... فما يروقك من شكل وتلوين
بعداً لإيوان كسرى إن مشورك السامي لأعظم من تلك الأواوين
ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
ومنها في التعريض بالوزير الذي كان انصرافه من المغرب لأجله:
من مبلغ عني الصحب الإلى جهلوا ... ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني
إني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحييني
وإنني ظاعن لم ألق بعدهم ... دهراً أشاكي ولا خصماً يشاكيني
لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلب الطرف بين الخوف والهون
سقياً ورعياً لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظ غير مغبون
ارتاد منها ملياً لا يماطلني ... وعداً وأرجو كريماً لا يعنيني
وهاك منها قواف طيها حكم ... مثل الأزاهر في طي الرياحين
تلوح إن جليت دراً وإن تليت ... تثنى عليك بأنفاس البساتين
عانيت منها بجهدي كل شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني
يمانع الفكر عنا ما تقسمه ... من حزن بطي الصدر مكنون
لكن بسعدك ذلت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير وتزيين
بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين

وهو الآن قد بدا له في التحول، طوع أمل ثاب له في الأمير أبي عبد الله ابن الأمير أبي زكريا بن حفص، لما عاد إليه ملك بجاية، وطار إليه بجناح شراع، تفيأ ظله، وصك من لدنه رآه مستقراً عنده، يدعم ذلك بدعوى تقصير خفي أحس به، وجعله علة منقلبه، وتجن سار منه في مذهبه وذلك في ...... من عام ثمانية وستين وسبعمائة. ولما بلغ بجاية صدق رأيه، ونجحت مخيلته، فاشتمل عليه أميرها، وولاه الحجابة بها. ولم ينشب أن ظهر عليه ابن عمه الأمير أبو العباس صاحب قسنطينة، وبملك البلدة بد مهلكه، وأجرة المترجم به على رسمه بما طرق إليه الظنة بمداخلته في الواقع. ثم ساء ما بينه وبين الأمير أبي العباس، وانصرف عنه، واستوطن بسكرة، متحولاً إلى جوار رييسها أبي العباس بن مزنى، متعللاً برفده إلى هذا العهد.
وخاطبته برسالة في هذه الأيام، تنظر في اسم المؤلف في آخر الديوان.
مولدهبمدينة تونس بلده، حرسها الله، في شهر رمضان من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة.
عبد الرحمن بن الحاج بن القميي الإلبيري

حاله
كان شاعراً مجيداً، هجا القاضي أبا الحسن بن توبة قاضي غرناطة، ومن نصره من الفقهاء، فضربه القاضي ضرباً وجيعاً، وطيف به على الأسواق بغرناطة، فقال فيه الكاتب أبو إسحاق الإلبيري الزاهد، وكان يومئذ كاتباً للقاضي المذكور، الأبيات الشهيرة:
السوط أبلغ من قول ومن قيل ... ومن نباح سفيه بالأباطيل
من الدار كحر النار أبراه ... يعقل التقاضي أي تعقيل
عبد الرحمن بن يخلفتن
بن أحمد بن تفليت الفازازي
يكنى أبا زيد.
حالهكان حافظاً نظاراً ذكياً ذا حظ وافر من معرفة أصول الفقه وعلم الكلام، وعناية بشأن الرواية، متبذلاً في هيئته ولباسه، قلما يرى راكباً في حضر إلا لضررة، فاضلاً، سنياً، شديد الإنكار والإنحاء على أهل البدع، مبالغاً في التحذير منهم، عامرالإتاء، يطلب العلم شغفاً به، وانطباعاً إليه، وحباً فيه، وحرصاً عليه، آية من آيات الله في سرعة البديهة، وارتجال النظم والنثر وفور ماده، وموالاة استعمال، لا يكاد يقيد، ولا يصرفه عنه، إلا نسخ أومطالعة علم، أو مذاكرة فيه، حي صار له ملكة، لا يتكلف معها الإنشاء، مع الإجادة، وتمكن البراعة. وكان متلبساً بالكتابة عن الولاة والأمراء، ملتزماً بذلك، كارهاً له، حريصاً على الانقطاع عنه، واختص بالسيد أبي إسحق بن المنصور، وبأخيه أبي العلاء، وبملازمتهما استحق الذكر فيمن دخل غرناطة، إذ عد ممن دخلها من الأمراء.
مشيختهروى عن أبيه أبي سعيد، وأبي الحسن جابر بن أحمد، وابن عتيق بن مون، وأبي الحسن بن الصايغ، وأبي زيد السهيلي، وأبي عبد اله التجيبي، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي محمد بن عبيد الله، وأبي المعالي محمود الخراساني، وأبي الوليد بن يزيد بن بقى وغيرهم. وروى عنه ابنه أبو عبد الله، وأبو بكر بن سيد الناس، وابن مهدي، وأبو جعفر بن علي ابن غالب، وأبو العباس بن علي بن مروان، وأبو عمرو بن سالم، وأبو القاسم عبد الرحيم بن سالم، وابنه عبد الوهاب بن عبد الرحمن ابن سالم، وأبو القاسم عبد الكريم بن عمران، وأبو يحيى بن سليمن ابن حوط الله، وأبو محمد بن قاسم الحرار، وأبو الحسن الرعيني، وأبو علي الماقري.
تواليفه ومنظوماته

له المعشرات الزهدية، التي ترجمها بقوله: المعشرات الزهدية، والمذكرات الحقيقية الجدية، ناطقة بألسنة الوجلين المشفقين، شايقة إلى مناهج السالكين المستبقين. نظمها متبركاً بعبادتهم متيمناً بأغراضهم وإشاراتهم، قابضاً عنان الدعوىعن مداناتهم ومجاراتهم، مهتدياً إهداء السنن الخمس، بالأشعة الواضحة من إشاراتهم، مخلداً دون أفقهم العالي، إلى حضضه، جامعاً لحسن أقواله، وقبح أفعاله، بين الشيء ونقضيه. عبد الرحمن. وله المعشرات الحبية، وترجمتها النفحات القلبية، واللفحات الشوقية، منظمة على ألسنة الذاهبين وجداً، الذايبين كمداً وجهداً، الذين غربوا، وبقيت أنوارهم، واحتجبوا وظهرت آثارهم، ونطقوا وصمتت أخبارهم، ووفوا العبودية حقها، ومحضوا المحبة مستحقها، نظم من نسج على منوالهم، ولم يشاركهم إلا في أقوالهم فلان. والقصايد، في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، التي كل قصيدة منها عشرون بيتاً، وترجمتها الوسايل المتقبلة، والآثار المسلمة المقبلة، مودعة في العشرنية النبيوية، والحقايق اللفظية والمعنوية، نظم من اعتقدها من أزكى الأعمال، وأعدها لما يستقبله من مدهش الأهوال، وفرع خاطره لها، على توالي القواطع، وتتابع الأشغال، ورجا بركة خاتم الرسالة، وغاية السؤدد والجلالة، محو ما لسلفه من خطأ في الفعل، وزلل في المقال، والله سبحانه ولي القبول للتوبة، والمنان بتسويغ هذه المنة المطلوبة، فذلك يسير في جنب قدرته، ومعهود رحمته الواسعة ومغفرته.
شعرهوشعره كثير جداً، ونثره مشهور وموجود. فمن شعره في غرض الشكر لله عز وجل، على غيث جاء بعد قحط:
نعم الإله بشره تتقيد ... فالله يشكر في النوال ويحمد
مدت إليه أكفنا محتاجة ... فأنالها من جوده ما نعهد
وأغاثنا بغمايم وكافة ... بالبشر تشرق والبشاير ترعد
حملت إلى ظما البسيطة ريه ... فلها عليه منة لا تجحد
فالجو براق والشعاع مفضض ... والماء فياض الأثير معسجد
والأرض في حلى الأتي كأنما ... نطف الغمام لؤلؤ وزبرجد
والروض مطلول الخمايل باسم ... والقضب لينه الحمايل ميد
تاهت عقول الناس في حركاتها ... ألشكرها أم سكرها تتأود
فيقول أرباب البطالة تنثني ... ويقول أرباب الحقيقة تسجد
وإذا اهتديت إلى الصواب فإنها ... في شكر خالقها تقوم وتقعد
هذا هو الفضل الذي لا ينقضي ... هذا هو الجود الذي لا ينفد
إحضر فؤادك القيام بشكره ... إن كنت تعلم قدر ما تتقلد
والفض يديك من العباد فكلهم ... عجز الحل وأنت جهلا تعقد
وإذا افتقرت إلى سواه فإنما ... الذي بخاطرك المجال الأبعد
نعم الإله كما تشاهد حجة ... والغائبات أجل مما يشهد
فانظر إلى آثار رحمته التي ... لا يمتري فيها ولا يتردد
يا ليت شعري والدليل مبلغ ... من أي وجه يستريب الملحد
من ذا الذي يرتاب إن إلهة ... أحد وألسنة الجماد توحد
كل يصرح حاله ومقاله ... أن ليس إلا الله رب يعبد
ومن شعره أيضاً قوله:
عجباً لمن ترك الحقيقة جانباً ... وغدا لأرباب الصواب مجانبا
وابتاع بالحق المصحح حاضرا ... ما شاء للزور المعلل عسايبا
من بعد ما قد صار أنفذ أسهما ... وأشد عادية وأمضي قاضبا
لا تخدعنك سوابق من سابق ... حتى ترى الإحضار منه عواقبا
فلربما اشتد الخيال وعاقه ... دون الصواب هوى وأصبح غالبا
ولكم إمام قد أضر بفهمه ... كتب تعب من الضلال كتايبا
فانحرف بأفلاطون وأرسطا ... طاليس ودونهما تسلك طريقاً لاحبا
ودع الفلاسفة الذميم جميعهم ... ومقالهم تأتى الأحق الواجبا
يا طالب البرهان في أوضاعهم ... أعزز علي بأن تعمر جانبا

أعرضت عن شط النجاة ملججاً ... في بحر هلك ليس ينجي عاطبا
وصفا الدليل فما نفعت بصفوه ... حتى جعلت له الحبر شايبا
فانظر بعقلك هل ترى متفلسفا ... فيمن ترى إلا دعياً كاذبا
أعيته أعباء الشريعة شدة ... فارتد مسلوبا ويحسب سالبا
والله أسل عصمة وكفاية ... من أن أكون عن المحجة ناكبا
ومن شعره:
إليك مددت الكف في كل شدة ... ومنك وجدت اللطف في كل نايب
وأنت ملاذ والأنام بمعزل ... وهل مستحيل في الرجاء كرآيب
فحقق رجائي فيك يا رب واكفني ... شماتة عدو أو إساءة صاحب
ومن أين أخشى من عدو إساءة ... وسترك ضاف من جميع الجوانب
وكم كربة نجيتني من غمارها ... وكانت شجاً بين الحشا والترايب
فلا قوة عندي ولا لي حبلة ... سوى حسن ظني بالجميل المواهب
فيا منجي المضطر عند دعايه ... أغشني فقد سدت على مذاهب
رجاؤك رأس المال عندي وربحه ... وزهد في المخلوق أسنى المواهب
إذا عجزوا عن نفعهم في نفوسهم ... فتأميلهم بعض الظنون الكواذب
فيا محسناً فيما مضى أنت قادر ... على اللطف في حالي وحسن العواقب
وإني لأرجو منك ما أنت أهله ... وإن كنت حطا في كثير العواقب
وإني لأرجو منك ما أنت أهله ... وإن كنت حطا في كثير المعايب
فصل على المختار من آل هاشم ... إمام الورى عند اشتداد النوايب
وقال في مدعي قراءة الخط دون نظر:
وأدور مياس العواطف أصبحت ... محاسنه في الناس كالنوع في الجنس
يدير على القرطاس أنمل كفه ... فيدرك أخفى الخط في أيسر اللمس
فقال فريق سحر بابل عنده ... وقال فريق ليس هذا من الإنس
فقلت لهم لم تفهموا سر دركه ... على أنه للعقل أجلى من الشمس
ستكفه حب القلوب فأصبحت ... مداركها أجفان أنمله الخمس
وفاته: استقدمه المأمون. على حال وحشة، كانت بينه وبينه، فورد ورود الرضا على مراكش في شعبان سنة سبع وعشرين وستماية. وتوفي في ذي قعدة بعده، ودفن بجبانة الشيوخ مع أخيه عبد الله وقرنايهما، رحم الله جميعهم.
انتهى السفر التاسع بحمد الله
ومن السفر العاشرالعمال الأثرا في هذا الحرف
عبد الرحمن بن أسباطالكاتب المنجب، كاتب أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين.
حالهلحق به بالعدوة، فاتصل بخدمته، وأغراه بالأندلس، إذ ألقى إليه أمورها على صورتها، حتى كان ما فرغ الله عز وجل، من استيلانه على ممالكها، وخلعه لرؤسايها. وكان عبد الرحمن قبل اتصاله به، مقدوراً عليه في رزقه، يتحرف بالنسخ، ولم يكن حسن الخط، ولا معرب اللفظ، إلى أن تسير للكتابة في باب الديوان بألمرية، ورأى خلال ذلك، في نومه، شخصاً يوقظه، ويقول له قم يا صاحب ربع الدنيا، وقص رؤياه على صاحب له بمثواه، فبشره، فطلب من ذلك الحين السمو بنفسه، فأجاز البحر، وتعلق بحاشية الحرة العليا زينب، فاستكتبته. فلما توفيت الحرة، أقره أمير المسلمين كاتباً، فنال ما شاء، مما ترتمي إليه الهمم، جاهاً ومالاً وشهرة. وكان رجلاً حصيفاً، سكوتاً، عاقلاً، مجدي الجاه، حسن الوساطة، شهير المكانة.
توفي فجأة بمدينة سبتة، في عام سبعة وثمانين وأربعمائة. وتقلد الكتابة بعده، أبو بكر بن القصير. ذكره ابن الصيرفي.
عبد الرحمن بن محمد المعافريعبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مالك المعافري وتكر مالك في نسبه
أوليتهقالوا من ولد عقبة بن نعيم الداخل إلى الأندلس، من جند دمشق، نزيل قرية شكنب من إقليم تاجرة الجمل من عمل بلدنا لوشة، غرناطي يكنى أبا محمد.
حاله

كان أبو محمد هذا أحد وزراء الأندلس، كثير الصنايع، جزل المواهب، عظيم المكارم، على سنن عظماء الملوك، وأخلاق السادة الكرام. لم ير بعده مثله في حال الأندلس، ذاكراً للفقه والحجيث، بارعاً في الأدب، شاعراً مجيداً وكاتباً بليغا، حلو الكتابة والشعر، هشاً مع وقار، ليناً على مضاء، عالي الهمة، كثير الخادم والأمل.
من آثاره المائلة إلى اليوم الحمام، بجوفي الجامع الأعظم من غرناطة. بدأ بناه أول يوم من جمادى الأولى سنة تسع وخمسماية. شرع في الزيادة في سقف الجامع من صحنه سنة ست عشرة، وعوض أرجل قسيه، أعمدة الرخام، وجلب الروس والموايد من قرطبة، وفرش صحنه بكذان الصخيرة. ومن مكارمه أنه لما ولي مستخلص غرناطة وإشبيلية، وجهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنايها، وإصلاح خللها، فلما استوفى الغاية فيها، قلده، واستصحب جملة من ماله لمؤنته المختصة به، فلما احتلها سال قاضيها، فكتب إليه جملة من أهلها ممن ضعف حاله وقل تصرفه، من ذوي البيوتات، فاستعملهم أمناء في كل وجه جميل، ووسع أرزاقهم، حتى كمل له ما أراد من عمله. ومن عجز أن يستعمله، وصله من ماله، وصدر عنها وقد أنعش خلقاً كثيراً.
شعرهمن قوله في مجلس أطربه سماعه، وبسطه احتشاد الأنس فيه واجتماعه:
لا تلمني إذا طربت لشجو ... يبعث الأنس فالكريم طروب
ليس شق الجيوب حقاً علينا ... إنما الحق أن تشق القلوب
وقال: وقد قطف غلام من غلمانه نوارة، ومد بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله. فقال أبو نصر:
وبدر بدا والطرف مطلع حسنه ... وفي كفه من رايق النور كوكب
يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب
فقال أبو محمد بن مالك:
ويحسد منه الغصن أي مهفهف ... يجيء على مثل الكتيب ويذهب
نثرهقال أبو نصر، كتبت إليه مودعاً، فكتب إلي مستدعياً، وأخبرني رسوله أنه لما قرأ الكتاب وضعه، وما سوى ولا فكر ولا روى: يا سيدي، جرت الأيام بجمع افتراقك، وكان الله جارك في انطلاقك، فغيرك روع بالظعن، وأوقد للوداع جامح الشجن، فأنت من أبناء هذا الزمن، خليفة الخضر، لا يستقر على وطن، كأنك والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه، موكل بفضاء الأرض تذرعه، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع، أن يعدك من العواري السريعة الارتجاع، فلا يأسف على قلة الثوى وينشد: وفارقت حتى ما أبالي من النوى.
وفاتهاعتل بإشبيلية فانتقل إلى غرناطة، فزادت علته بها، وتوفي رحمه الله بها في غرة شعبان سنة ثمان عشرة وخمسمائة، ودفن إثر صلاة الظهر من يوم الجمعة المذكورة بمقبرة باب إلبيرة، وحضر جنازته الخاصة والعامة.
ومن رثاه: رثاه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال رحمه الله، فقال:
إن كنت تشفق من نزوح نواه ... فهناك مقبرة وذا مثواه
قسم زمانك عبرة أو عبرة ... وأحل تشوقه على ذكراه
وأعدده ما امتدت حياتك غايباً ... أو عاتباً إن لم تزر زرناه
أو نائماً غلبت عليه رقدة ... لمسهد لم تغتمض عيناه
أو كوكباً سرت الركاب بنوره ... فمضى وبلغنا المحل سناه
فمتى تبعد والنفوس تزوره ... ومتى تغيب والقلوب تراه
يا واحداً عدل الجميع وأصلحت ... دنيا الجميع ودينهم دنياه
طالت إذاتك بالحياء كرامة ... والله يكرم عبده بإذاه
لشهادة التوحيد بين لسانه ... وجنانه نور يرى مسراه
ويوجهه سيمى أغر محجل ... مهما بدا لم تلتبس سيماه
وكأنما هو في الحياة سكينة ... لولا اهتزاز في الندى يغشاه
وكأنه لحظ العفاة توجعا ... فتلازمت فوق الفؤاد يداه
أبدي رضي الرحمن عنك ثناؤهم ... إن الثناء علامة لرضاه
يا ذا الذي شفف القلوب به ... وذا لا ترتجيه وذاك لا تخشاه
ما ذاك إلا أنه فرع زكا ... وسع الجميع بظله وحناه

فاليوم أودى كل من أحببته ... ونعى إلى النفس من ينعاه
مإذا يؤمل في دمشق مسهد ... قد كنت ناظره وكن تراه
يعتاد قبرك للبكا أسفاً بما ... قد كان أضحكه الذي أبكاه
يا تربة حل الوزير ضريحها ... سقاك بل صلى عليك الله
وسرى إليك ومنك ذكر ساطع ... كالمسك عاطرة به الأفواه
عبد الرحمن بن عبد الملك الينشتييكنى أبا بكر، أصله من مدينة باغة، ونشأ بلوشة، وهو محسوب من الغرناطيين.
حالهكان شيخاً يبدو على مخيلته النبل والدهاء، مع قصور أدواته. ينتحل النظم والنثر، في أراجيز يتوصل بها إلى غرضه، من التصرف في العمل.
وجرى ذكره في التاج المحلى، وغيره بما نصه: قارض هاج، مداهن مداج، أخبث من نظر من طرف خفي، وأغدر من تلبس بسعار وفي، إلى مكيدة مبثوتة الحبايل، وإغراء يقطع بين الشعوب والقبايل، من شيوخ طريقة العمل، المتقلبين من أحوالها، بين الصحو والثمل، المتعللين برسومها، حين اختلط المرعي والهمل. وهو ناظم أرجاز، ومستعل حقيقة ومجاز. نظم مختصر السيرة، في الألفاظ اليسيرة، ونظم رجزاً في الزجر والفال، نبه به تبك الطريقة بعد الإغفال، فمن نظمه ما خاطبني، به مستدعياً إلى إعذار ولده:
أريد من سيدي الأعلى تكلفه ... على الوصول إلى داري صباح غد
يزيدني شرفاً منه ويبصر لي ... صناعة القاطع الحجام في ولدي
فأجبته:
يا سيدي الأوحد الأسمى ومعتمدي ... وذا الوسيلة من أهل ومن بلد
دعوت في يوم الاثنين الصحاب ضحى ... وفيه ما ليس في بيت ولا أحد
يوم السلام على المولى وخدمته ... فاصفح وإن عثرت رجلي فخذ بيدي
والعذر أوضح من نار على علم ... فعد إن غبت عن لوم وعن فند
يقيت في ظل عيش لا نفاد له ... مصاحبا غير محصور إلى أمد
ومنه أيضاً:
قل لابن سيد والديه لقد علا ... وتجاوز المقدار فيما يفخر
ما ساد والده فيحمد أمره ... إلا صغير العنز حتى يكبر
وصدرت عنه مقطوعات في غير هذا المعنى مما عذب به المجني، منها قوله:
إن الولاية رفعة لكنها ... أبدا إذا حققتها تنتقل
فنظر فضايل من مضى من أهلها ... تجد الفضايل كلها لا تعزل
وقال:
هنيا أبا إسحق دمت موفقاً ... سعيداً قرير العين بالعرس والعرس
فأنت كمثل البدر في الحسن والتي ... تملكتها في الحسن أسنى من الشمس
وقالوا عجيب نور بدرين ظاهر ... فقلت نعم إن ألف الجنس للجنس
وكتب إلي:
إذا ضاق ذرعي بالزمان شكوته ... لمولاي من آل الخطيب فينفرج
هو العدة العظمى هو السيد الذي ... بأوصافه الحسنى المكارم تبتهج
وزير علا ذاتاً وقدرا ومنصبا ... فمن دونه أعلا الكواكب يندرج
وفي بابه نلت الأماني وقادني ... دليل رشادي حيث رافقني الفرج
فلا زال في سعد وعز ونعمة ... تصان به الأموال والأهل والمهج
توفي في الطاعون عام خمسين وسبعماية بغرناطة وفي سائر الأسماء التي بمعني عبد الله وعبد الرحمن، وأولاد الأمراء
عبد الأعلى بن موسى بن نصير

مولى لخم
أوليته
أبوه المنسوب إليه فتح الأندلس، ومحله من الدين والشهرة، وعظم الصيت معروف.
حالهكان عبد الأعلى أميرا على سنن أبيه في الفضل والدين، وهو الذي باشر فتح غرناطة ومالقة، واستحق الذكر لذلك. قال الرازي، وكان موسى بن نصير، قد أخرج ابنه عبد الأعلى فيمن رتبه من الرجال إلى إلبيرة وتدمكير، لفتحها، ومضى إلى إلبيرة ففتحها، وضم بها إلى غرناطة اليهود، مستظهراً بهم على النصر، ثم مضى إلى كورة ريه، ففتحها
عبد الحليم بن عمر
بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو
يكنى أبا محمد، أوليته معروفة.

وفسد ما بين أبيه وبين جده، أمير المسلمين، بما أوجب انتباذه إ، لى سكني مدينة سجلماسة، معززة له ألقاب السلطان بها، مدوخاً ما بأحوازها من أماكن الرياسة، منسوبة إليه بها الآثار، كالسد الكبير الشهير، وقصور الملك. فلما نزل عنها على حكم أخيه أمير ا لمسلمين أبي الحسن، وأمضى قتلته بالفصاد، نشأ ولده، وهم عدة بباب عمهم، يسعهم رفده، ويقودهم ولده، ثم جلاهم إلى الأندلس إبنه السلطان أبو عنان، عندما تصير الأمر إليه، فاستقروا بغرناطة، تحت بر وجراية، قلقاً بمكانهم من جلاهم ومن بعده، لإشارة عيون الترشيح إليهم، مغازلة من كثب، وقعودهم بحيث تعثر فيهم المظنة، إلى أن كان من أمرهم ما هو معروف.
حالههذا الرجل م ن أهل الخير والعفاف والصيانة، ودمث الخلق، وحسن المداراة، يألف أهل الفضل، خاطب للرتبة بكل جهد وحيلة، وسد عنه باب الأطماع. حذر من كان له الأمر بالأندلس من لدن وصوله. كي لا تختلف أحوال هذا الوطن في صرف وجوه أهله إلى غزو عدو الملة، ومحولي القبلة، وإعراضهم عن الإغماض في الفتنة المسلمة، وربما بميت عنهم الحركات والهموم. فثقفوا من فيها عليهم، إلى أن تبرأ ساحتهم ويظن به السكون. فلما دالت الدولة، وكانت للأخابث الكرة، واستقرت بيد الرئيس الغادر الكرة، وكان ما تقدم الإلماع به من عمل السلطان أبي سالم ملك المغرب، على إجازة السلطان ولي ملك الأندلس، المزعج عنها بعلة البغي، ذهب الدايل الأخرق إلى المقارضة، فعندما استقر السلطان أبو عبد الله بجبل الفتح، حاول إجازة الأمير عبد الحليم إلى تلمسان بعد مفاوضة. فكان ذلك في أخريات ذي قعدة، وقد قضى الأمر في السلطان أبي سالم، وانحلت العقدة، وانتكثت المريرة، وولي الناس الرجل المعتوه، وفد إلى تلمسان من لم يرض محله من الإدالة، ولا قويت نفسه على العوض، ولا صابرت غض المخافة، وحرك ذلك من عزمه، وقد أنجده السلطان مستدعيه بما في طوقه. ولما اتصل خبره بالقايم بالأمر بفاس، ومعول التدبير على سلطانه. أعمل النظر فيهم، زعموا بتسليم الأمر، ثم حذر من لحق به من أضداده، فصمم على الحصار، واستراب بالقبيل المريني، وأكثف الحجاب دونهم بما يحرك أنفتهم، فنفروا عنه بواحدة أول عام ثلاثة وستين وسبعماية، واتفق رأيهم على الأمير عبد الحليم، فتوجهت إليه وجهوهم اتفاقا، وانثالوا عليه اضطرارا، ونازل البلد الجديد، دار الملك من مدينة فاس، يوم السبت السادس لشهر المحرم من العام. واضطربت المحلات بظاهره، وخرج إليه أهل المدينة القدمى، فأخذ بيعتهم، وخاطب الجهات، فألقت إليه قواعدها باليد، ووصلت إليه مخاطبتها.
ومن ذلك ما خوطب به من مدينة سلا، وأنا يومئذ بها:
يا إمام الهدى وأي إمام ... أوضح الحق بعد إخفاء رسمه
أنت عبد الحليم نر ... جوفا لمسمى له نصيب من اسمه

وسلك مسلكا حسنا في الناس، وفسح الآمال، وأجمل اللقاء، وتحمل الجفاء، واستفز الخاصة بجميل التأني وأخذ العفو، والتظاهر بإقامة رسوم الديانة، وحارب البلد المحصور في يوم السبت الثالث عشر لشهر الله المحرم المذكور، كانت الملاقاة التي برز فيها وزير الملك ومدير رحاه بمن اشتملت عليه البلدة من الروم والجند الرحل، واستكثر من آلات الظهور وعدد التهويل، فكانت بين الفريقين حرب مرة تولى كبرها الناشبة، فأرسلت على القوم حواصب النبل، غارت لها الخيل، واقشعرت الوجوه، وتقهقرت المواكب. وعندها برز السلطان المعتوه، مصاحبة له نسمة الإقدام، وتهور الشجاعة عند مفارقة الخلال الصحية، وتوالت الشدات، وتكالبت الطايفة المحصورة، فتمرست بأختها. ووقعت الهزيمة ضحوة اليوم المذكور على قبيل بني مرين ومن لف لفهم، فصرفوا الوجوه إلى مدينة تازي، واستقر بها سلطانهم، ودخلت مكناسة في أمرهم، وضاق ذرع فاس للملك بهم، إلى أن وصل الأمير المستدعي، طية الصبر، وأجدى دفع الدين، ودخل البلد في يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر من العام. وكان اللقاء بين جيش السلطان، لنظر الوزير، مطعم الإمهال ومعود الصنع. وبين جيش بني مرين، لنظر الأخ عبد المؤمن ابن السلطان أبي علي. فرحل القوم من مكناسة، وفر عنهم الكثير من الأولياء، وأخذوا العرصة، واستقروا أخيراً ببلد أبيهم سجلماسة، فكانت بين القوم مهادنة. وعلى أثرها تعصب للأخ عبد المؤمن معظم عرب الجهة، وقد برز إليهم في شأن استخلاص الجباية، فرجعوا به إلى سجلماسة. وخرج لمدافعتهم الأمير عبد الحليم، بمن معه من أشياخ قبيله والعرب أولى مظاهر، فكانت بينهم حرب أجلت عن هزيمة الأمير عبد الحليم، واستلحم للسيف جملة من المشاهير. كالشيخ الخاطب في حبله، خدن النكر وقادح زند الفتنة، الداين بالحمل على الدول على التفصيل والجملة، المعتمد بالمغرب بالرأي والمشورة، يحيى بن مسطي وغيره. وأذعن عبد الحليم بعدها للخلع، وخرج عن الأمر لأخيه، وأبقى عليه، وتحرج من قتله. وتعرف لهذا الوقت صرفه عنه إلى الأرض الحجازية على صحراء القبلة، فانتهى أمره إلى هذه الغاية.
دخوله غرناطةقدم على الحضرة مع الجملة من إخوته وبني عمه في ............ جلاهم السلطان أبو عنان، عندما تصير له الأمر، فاستقروا بها، يناهز عبد الحليم منهم بلوغ أشده.
وتوفي ......... ....... وستين وسبعماية
عبد المؤمن بن عمر

بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو
أخو الأمير عبد الحليم يكنى أبا محمد
حالهكان رجلا وقوراً، سكونا، نحيفا، آية الله في جمود الكف، وإيثار المسك، قليل المداخلة للناس، مشتغلا بما يغنيه من خويصة نفسه، موصوفاً ببسالة وإقدام، حسن الهيئة. دخل الأندلس مع أخيه، وعلى رسمه، وتحرك معه، وابن أخ لما، فتولى كثيرا من أمره، ولقي الهول دونه. ولما استقروا بسجلماسة، كان ما تقرر من توبته على أمره، والعمل على خلعه، معتذرا زعموا إليه، موفيا حقه، موجبا تجلته إلى حين انصرافه، ووصل الأندلس خطابه، يعرف بذلك بما نصه في المدرجة.
ولم ينشب أن أحس بحركة جيش السلطان بفاس إليه، فخاطب عميد الهساكره، عامر بن محمد الهنتاتي، وعرض نفسه عليه، فاستدعاه. وبذل له أماناً. ولما تحصل عنده، قبض عليه، وثقفه، وشد عليه يده، وحصل على طلبه دهية، من التوعد بمكانه، واتخاذ اليد عند السلطان بكف عاديته إلى هذا التاريخ.
ومن الأفراد أيضاً في هذا الحرف وهم طارؤون
عبد الحق بن علي
بن عثمن بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق
الأمير المخاف بعد أبيه أمير المسلمين أبي الحسن بمدينة الجزائر، بعد ما توجه إلى المغرب، وجرت عليه الهزيمة من بني زيان.
حاله

كان صبيا ظاهر السكون والأدب، في سن المراهقة، لم ينشب أن نازله جيش عدوه، ومالأه أهل البلد، وأخذ من معه لأنفسهم وله الأمان، فنزل عنها ولحق بالأندلس. قال في كتاب طرفة العصر، وفي ليلة العاشر من شهر ربيع الأول اثنين وخمسين وسبعمائة، اتصل الخبر من جهة الساحل، بنزول الأمير عبد الحق ابن أمير المسلمين أبي الحسن ومن معه، بساحل شلوبانية، مفلتين من دهق الشدة، بما كان من منازلة جيش بني زيان مدينة الجزائر، وقيام أهلها بدعوتهم، لما سيموه من المطاولة، ونهكهم من الفتنة، وامتنع الأمير ومن معه بقصبتها، وأخذوا لأنفسهم عهدا، فنزلوا وركبوا البحر، فرافقتهم السلامة، وشملهم ستر العصمة. ولحين اتصل بالسلطان خبره، بادر إليه بمركبين ثقيلي الحلية، وما يناسب ذلك من بزة، وعجل من خدامه بمن يقوم ببره، وأصحبه إلى منزل كرامته، ولرابع يوم من وصوله، كان قدومه، وبرز له السلطان بروزاً فخما. ونزل له، قارضاً إياه أحسن القرض، بما أسلفه من يد، وأسداه من طول، وأقام ضيفا في جواره، إلى أن استدعاه أخوه ملك المغرب، فانصرف عن رضي منه، ولم ينشب أن هلك مغتالا في جملة أرادهم الترشيح
عبد الواحد بن زكريا بن أحمد اللحيانييكنى أبا ملك. وبيته في الموحدين الملوك بتونس. وأبوه سلطان إفريقية المترقى إليها من رتبة الشياخة الموحدية.
حالهكان رجلا طوالا نحيفا، فاضلا حسيبا، مقيما للرسوم الحسبية، حسن العشرة، معتدل الطريقة، نشأ بالبلاد المشرقية، ثم اتصل بوطنه إفريقية، وتقلد الإمارة بها برهة يسيرة، ثم فر عنها ولحق بالمغرب، وجاز إلى الأندلس، وقدم على سلطانها، فرحب به، وقابله بالبر، ونوه محله، وأطلق جرايته، ثم ارتحل أدراجه إلى العدوة، ووقعت بيني وبينه صحبة، أنشدته عند وداعه:
أبا ملك أنت نجل الملوك ... غيوث الندى وليوث النزال
ومثلك يرتاح للمكرمات ... ومالك بين الورى من مثال
عزيز بأنفسنا أن نرى ... ركابك مؤذنة بارتحال
وقد خبرت منك خلقاً كريماً ... أناف على درجات الكمال
وفازت لديك بساعات أنس ... كما زار في النوم طيف الخيال
فلولا تعللنا أننا نزورك فسوق بساط الجلال
ونبلغ فيك الذي نشتهي ... وذاك على السهل المنال
لما فترت أنفس من أسى ... ولا برحت أدمع في انهمال
تلقتك حيث احتللت السعود وكان لك الله على كل حال
ومن ترجمة الأعيان والوزراء والأماثل والكبرا
عبد الحق بن عثمن

بن محمد بن عبد الحق بن محيو
يكنى أبا إدريس، شيخ الغزاة بالأندلس.
حاله

كان شجاعاً عفيفاً تقيا، وقوراً جلداً، معروف الحق، بعيد الصيت. نازع الأمر قومه بالمغرب، وانتزى بمدينة تازى، على السلطان أبي الربيع، وأخذ بها البيعة لنفسه. ثم ضاق ذرعه، فعبر فيمن معه إلى تلمسان. ولما هلك أبو الربيع، وولي السلطان أبو سعيد، قدم للكتب في شأنه إلى سلطان الأندلس، وقد تعرف عزمه على اللحاق، ولم ينشب أن لحق بألمرية من تلمسان، فثقف بها، قضاء لحق من خاطب في شأنه. ثم بدا للسلطان في أمره، فأوعز لرقبايه في الغفلة عنه، وفر فلحق ببلاد النصرى فأقام بها، إلى أن كانت الوقيعة بالسلطان بغرناطة، بأحواز قرية العطشا على يد طالب الملك أمير المسلمين أبي الوليد، وأسر يومئذ شيخ الغزاة حمو بن عبد الحق، وترجح الرأي في إطلاقه وصرف، إعلانا للتهديد. فنجحت الحيلة، وعزل عن الخطة، واستدعى عبد الحق هذا إليها، فوصل غرناطة، وقدم شيخا على الغزاة. ولما تغلب السلطان أبو الوليد على الأمر، واستوسق له، وكان ممن شمله أمانه، فأقره مرؤساً بالشيخ أبي سعيد عثمن بن أبي العلاء برهة. ثم لحق بأميره المخلوع نصر، المستقر موادعاً بوادي آش، وأوقع بجيش المسلمين مظاهر الطاغية، الوقيعة الشنيعة بقرمونة، وأقام لديه مدة. ثم لحق بأرض النصرى، وأجاز البحر إلى سبتة. مظاهراً لأميرها أبي عمرو يحيى بن أبي طالب العزفي، وقد كشف القناع في منابذة طاعة السلطان، ملك المغرب، وكان أملك لما بيده، وأتيح له ظفر عظيم على الجيش المضيق على سبتة، فبيته وهزمه. وتخلص له ولده، الكاين بمضرب أمير الجيش في بيت من الخشب رهينة، فصرف عليه، فما شئت من ذياع شهرة، وبعد صيت، وكرم أحدوثة. ثم بدا له في التحول إلى تلمسان، فانتقل إليها، وأقام في إيالة ملكها عبد الرحمن بن موسى بن تاشفين إلى آخر عمره.
وفاتهتوفي يوم دخول مدينة تلمسان عنوة، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وثلثين وسبعماية، قتل على باب منزله، يدافع عن نفسه، وعلى ذلك فلم يشهر عنه يومئذ كبير غناء، وكور واستلحم، وحز رأسه. وكان أسوة أميرها في المحيا والممات، رحم الله جميعهم، فانتقل بانتقاله وقتل بمقتله. وكان أيضاً علماً من أعلام الحروب، ومثلا في الأبطال، وليثا من ليوث النزال.
عبد الملك بن علي وعبد الله أخوه

بن هذيل الفزاري وعبد الله أخوه
حالهما
قال ابن مسعدة، أبو محمد وأبو مروان توليا خطة الوزارة في الدولة الحبوسية، ثم توليا القيادة بثغور الأندلس، وقهرا ما جاورهما من العدو، وغلباه، وسقياه كأس المنايا، وجرعاه، ولم يزالا قائمين على ذلك، ظاهرين علمين، إلى أن استشهدا رحمهما الله.
عبد القهار بن مفرج
بن عبد القهار بن هذيل الفزاري
حاله
قال ابن مسعدة، كان بارع الأدب، شاعر، نحويا، لغويا، كاتبا متوقد الذهن، عنده معرفة بالطب، ثم اعتزل الناس، وانقبض، وقصد سكنى البشارات، لينفرد بها، ويخفى نفسه، فرارا من الخدمة، فتهيأ له المراد.
شعرهوكان شاعرا جيد القريحة سريع الخاطر، ومن شعره:
يا صاح لا تعرض لزوجية ... كل البلا من أجلها يعترى
الفقر والذل وطول الأسى ... لست بما أذكره مفترى
ما في فم المرأة شيء سوى ... اشتر لي واشتر لي واشتر
القضاة الفضلاء وأولا الأصليون
عبد الحق بن غالب
بن عطية بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرؤوف بن تمام بن عبد الله بن
تمام بن عطية بن خالد بن عطية بن خالد بن خفاف بن أسلم بن مكتوم المحاربي
أوليتهمن ولد زيد بن محارب بن عطية، نزل جده عطية بن خفاف بقرية قسلة من زاويه غرناطة، فأنسل كثيراً ممن له خطر، وفيه فضل.
حالهكان عبد الحق فقيها، عالما بالتفسير والأحكام والحديث والفقه، والنحو والأدب واللغة، مقيدا حسن التقيد، له نظم ونثر، ولى القضاء بمدينة ألمرية في المحرم سنة تسع وعشرين وخمسماية، وكان غاية في الدهاء والذكاء، والتهمم بالعلم، سرى الهمة في اقتناء الكتب. توخى الحق، وعدل في الحكم، وأعز الخطة.
مشيختهروى عن الحافظ أبيه، وأبوي على الغساني والصدفي، وأبي عبد الله محمد بن فرج مولى الطلاع، وأبي المطرف الشعبي، وأبي الحسين بن البيان، وأبي القاسم بن الحصار المقري، وغيرهم.
تواليفه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10