كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب

وبتونس الأمير إبراهيم بن الأمير أبي بكر بن الأمير أبي حفص بن الأمير أبي بكر ين أبي حفص بن إبراهيم بن أبي زكريا يحيى بن عبد الواجد، لنظر الشيخ رأس الدولة، وبقية الفضلاء، الشهير الذكر، الشائع الفضل، المعروف السياسة، أبي محمد عبد الله بن أحمد بن تأفراقين. تحت مضايقة من عرب الوطن.
ومن ملوك النصارى بقشتالة، بطره بن ألهنشة بن هراندة بن شانجه بن ألفنش بن هراندة، إلى الأربعين، وهو كما اجتمع وجهه، تولى الملك على أخريات أيام أبيه في محرم عام أحد وخمسين وسبعمائة. وعقد معه سلم على بلاد المسلمين. ثم استمر ذلك بعد وفاته في دولة ولداه المترجم به، وغمرت الروم. وألقت العصا، وأغضت القضاء، وأجالت على الكثير من الكبار الردى، بما كان من إخافته ساير إخواته لأبيه، من خاصته، العجلة الغالبة على هواه، فنبذوه على سوء بعد قتلهم أمهم، وانتزوا عليه بأقطار غرسهم فيها أبوهم قبل موته بمرعية أمهم. وسلك لأول أمره سيرة أبيه في عدوله عن عهوده بمكابيه لمنصبه، إلى اختصاص عجلة، أنف بحراه كبار قومه، من أجل ضياع بذره وانقراض عقبه، فمال الخوارج عليه، ودبروا القبض عليه، وتحصل في أنشوطة، يقضي أمره بها إلى مطاولة عقله أو عاجل خلع، لولا أنه أفلت وتخلص من شراراها. فاضطره ذلك إلى صلة السلم، وهو الآن بالحالة الموصوفة.
الأحداث في أيامه لم يحدث في أيامه حدث إلا العافية المسحة والهدنة المتصلة، والأفراح المتجددة، والأمنة المستحكمة، والسلم المنعقدة. وفي آخر جمادى عام ست وخمسين وسبعمائة لحق بجبل الفتح فشمم شعبته، وأبر متبوته، كان على ثغره العزيز على المسلمين، من لدن افتتاحه، الموسوم الخطة، المخصوص بمزية تشييده، عيسى بن الحسن بن أبي منديل، بقية الشيوخ أولي الأصالة والدهاء، والتزيي بزي الخير، والمثل الساير في الانسلاخ من آية السعادة، والإغراق في سوء العقبى. والله غالب على أمره، فكان أملك بمصامه، وقر عينه بلقاء ولده، والتمتع منه بجواد عتيق. ملي من خلال السياسة، أرداه سوء الحظ، وشؤم النصبة، وأظلم ما بينه وبين سلطانه، مسوغه برداء العافية على تفه صغر، وملبسه رداء العفة على قدح الأمور، أبدى منها الخوف على ولده، وعرض ديسم عزمه، على ذوبان الجبل، فاتحطوا في هواه، وغروه بكاذب عصبة، فأظهر الامتناع سادس ذي قعدة من العام المذكور، واتصلت الأخبار، وساءت الظنون، وضاقت الصدور، ونكست الرؤوس لتوقع الفاقرة، بانسداد باب الصريخ. وانبتات سبب النصرة. وانبعاث طمع العدو واتحطت الأطماع في استرجاعه واستقالته، لمكان حصانته، وسمو الذروة، ووفور العدة، ووجود الطعمة، وأخذه بتلاشي الفرصة. ثم ردفت الأخبار بخروج جيشه صحبة ولده إلى منازلة أشتبونة، وإخفاق أمله فيها. وامتساك أهلها بالدعوة، وانتصافهم من الطائفة العادية؛ فبودر إليها من مالقة بالعدد. وخوطب السلطان من ملك المغرب أيده الله بالجلية، فتحققت المنابذة، واستقرت الظنون. وفي الخامس والعشرين من شهر ذي قعدة، ثار به أهل الجبل وتبرأ منه أشياعه، وخذلوه بالفرار، فأخذت شعابه ونقابه، فكر راجعاً أدراجه إلى القاعدة الكبيرة. وقد أعجله الأمر، وحملته الطمأنينة على إغفال الاستعداد بها. وكوثر فألقى به، وقد لحق به بعض الأساطيل بسبتة. لداعي تسور توطي على إمارته، فقيد هو وأبنه، وخيض بهما البحر للحين: ولم ينتطح فيها عنزان، رحمه الله، سنام فئة ألقت بركها، وأناخت بكلكلها، وقد قدر أنها واقعة، ليس لها من دون الله كاشفة، فقد كان من بالجبل برموا على إيالة ذينك المرتسمين.
وألقوا أجوارها، وأعطوهما الصفقة، بما أطمعهما في الثورة، ولكل أجل كتاب. واحتمل إلى الباب السلطاني بمدينة فاس، وبرز الناس إلى مباشرة إيصالهما مجلوبين في منصة الشهرة، مرفوعين في هضبة المثلة. ثم أمضى السلطان فيهما حكم الفساد، بعد أيام الحرابة، فقتل أشيخ بخارج باب السمارين من البلد الجديد. بأيدي قرابته، فكان كما قال الأول:
أضحت رماح بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق

وقطهن رجل الولد ويده. بعد طول عمل وسوء تناول، ولم ينشب أن استنفذه حمامه فأضحى عبرة في سرعة انقلاب حالهما من الأمور الحميدة، حسن طلعة، وذياع حمد، وفضل شهرة. واستفاضة خيرية، ونباهة بيت، وأصالة عز، إلى ضد هذه الخلال، وقانا الله مصارع السوء، ولا سلب عنا جلباب الستر والعافية.
وسد السلطان ثغر الجبل بآخر من ولده اسمه السعيد، وكنيته أبو بكر، فلحق به في العشر الأول من المحرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، ورتب له بطانته، وقدر له أمره، وسوغه رزقاً رغداً، وعيشاً خفضاً. وبادر السلطان المترجم له، إلى توجيه رسوله؛ قاضياً حقه، مقرر السرور بجواره، وأتبع ذلك ما يليق من الحال من بر ومهاداة ونزل، وتعقبت بعد أيام المكافآت، فاستحكم الود، وتحسنت الألفة إلى هذا العهد. والله ولي توفيقهم ومسني الخير والخيرة على أيديهم.
الحادثة التي جرت عليه

واستمرت أيامه كأحسن أيام الدول، خفض عيش، وتوالى خصب، وشياع أمن، إلا أن شيخ الدولة القايد أبا النعيم رحمه الله، أضاع الحزم. وإذا أراد الله إنفاذ قضايه وقدره، سلب ذوي العقول عقولهم، بما كان من أمنه جانب القصر الملزم دار سكناه، من علية فيها أخو السلطان، بتهاونه يحيل أمه المداخلة في تحويل الأمر إليه، جملة من الأشرار، دار أمرهم على زوج ابنتها اللائيس محمد بن إسماعيل بن فرج من القرابة الأخلاف، وإبراهيم بن أبي الفتح. والدليل الموروري. وأمدته بالمال، فداخل القوم جملة من فرسان القيود، وعمرة السجون، وقلاميد الأسوار. وكانت تتردد إليه في سبيل زيارة بنتها الساكنة في عصمة هذا الخبيث، المنزوع العصمة، خارج القلعة حتى تم يوم الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من العام، اجتمعوا وقد خفى أمرهم، وقد تألفوا عددا يناهز الماية بالقوس الداخل من وادي هداره إلى البلد، لصق الجناح الصاعد منه إلى الحمراء، وكان بسورها ثلم، لم يتم ما شرعوا فيه من إصلاحه؛ فنصبوا سلماً أعد لذلك، وصعدوا منه. ولما استوفوا، قصدوا الباب المضاع المسلحة، للثقة بما قبل؛ فلما تجاوزوه أعلنوا بالصياح، واستغلظوا بالتهويل. وراعوا الناس بالاستكثار من مشاعل الخلفاء، فقصدت طايفة منهم دار الشيخ القايد أبي النعيم؛ فاقتحمته غلاباً وكسرت أبوابه؛ وقتلته في مضجعه، وبين أهله وولده، وأنتهبت ما وجدت به. وقصدت الأخرى دار الأمير، الذي قامت بدعوته، فاستنجزته واستولت على الأمر. وكان السلطان متحولاً بأهله إلى سكني جنة العريف خارج القلعة، فلما طرقه النبأ، وقرعت سمعه الطبول سدده الله؛ وساند أمره في حال الحيرة، إلى امتطاء جواد كان مرتبطاً عنده في ثياب تبذله ومصاحباً لأفراد من ناسه؛ وطار على وجهه، فلحق بوادي آش قبل سبوق نكبته، وطرق مكانه بأثر ذلك، فلم يلف فيه، واتبع فاعيا المتبع. ومن الغد، استقام الأمر لأولي الثورة، واستكملوا لصاحبهم أمر البيعة، وخاطبوا البلاد فألقت إلى صاحبهم أمر البيعة، وخاطبوا البلاد فألقت إلى صاحبهم بالأزمة، وأرسلوا إلى ملك النصارى في عقد الصلح. وشرعوا في منازلة وادي أش، بعد أنثبت أهلها مع المعتصم بها، فلازمته المحلات وولي عليه التضييق. وخيف فوات البدر ونفاد القوة، فشرع السلطان في النظر نفسه، وخاطب السلطان أبا سالم ملك المغرب في شأن القدوم عليه، فتلقاه بالقبول وبعث من يمهد الحيث في شأنه، فتم ذلك ثاني يوم عيد النحر من العام. وكنت عند الحادثة على السلطان، ساكناً بجننتي المنسوبة إلي من الحضرة، منتقلاً إليها بجملتي، عادة المترفين، إذ ذاك من مثلي، فتخطائى الحتف، ونالتني النكبة، فاستأصلت النعمة العريضة، والجدة الشهيرة، فما ابتقت طارفاً ولا تليداً، ولا ذرت قديماً ولا حديثاً، والحمد لله مخفف الحساب، وموقظ أولي الألباب، ولطف الله بأن تعطف السلطان بالمغرب إلى شفاعة بي بخطه، وجعل أمري من فصول قصده. ففكت عني أصابع الأعداء، واستخلصت من أنيابهم، ولحقت بالسلطان بوادي آش. فذهب البأس، واجتمع الشمل. وكان رحيل الجميع ثاني عيد النحر المذكور، فكان النزول بفحص ألفنت، ثم الانتقال إلى لوشة، ثم إلى أنتقيه، ثم إلى ذكوان، ثم إلى مربلة يضم أهل كل محل من هذه مأتماً للحسرة، ومناحة للفرقة. وكان ركوب البحر صحوة الرابع والعشرين من الشهر، والاستقرار بمدينة سبتة، وكفى بالسلامة غنما، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
وكان الرحيل إلى باب السلطان، تحت بر لا تسعه العبارة، ولقاؤنا إياه بظاهر البلد الجديد لإلمام ألم عاقه عن الإصحار والتغني على البعد، يوم الخميس السادس لمحرم من عام أحد وستين بعده. في مركب هايل، واحتفال رايع رايق، فعورض فيه النزول عن الصهوات، والبر اللايق بمناصب الملوك، والوصول إلى الدار السلطانية، والطعام الجامع للطبقات وشيوخ القبيل. وقمت يومئذ فوق رأس السلطان وبين يدي مؤمله، فأنشدته مغرياً بنصره، كالوسيلة بقولي:
سلا هل لديها من مخبرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونم به الزهر

فهاج الامتعاض، وسالت العبرات، وكان يوماً مشهوداً، وموقفاً مشهوراً، طال به الحديث، وعمرت به النوادي، وتوزعتنا النزايل على الأمل، شكر الله ذلك وكتبه لأهله، يوم الافتقار إلى رحمته. واستمرت الأيام، ودالت الدولة للرئيس بالأندلس، والسلطان تغلبه المواعيد، وتونسه الآمال، والأسباب تتوفر، والبواعث تتأكد. وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، واستقرت بي الدار بمدينة سلا، مرابطاًن مستمتعاً بالغيبة، تحت نعمة كبيرة، وإعفاء من التكليف.
وفي اليوم السابع لشوال من عام التاريخ، قعد السلطان بقبة العرض بظاهر جنة المصارة لتشييعه، بعد اتخاذ ما يصلح لذلك؛ من آلة وحلية، وقد برز الخلق، لمشاهدة ذلك الموقف المسيل للدموع، الباعث للرقة. المتبع بالدعوات، لما قذف الله في القلوب من الرحمة، وصحبه به في التغرب من العناية، فلم تنب عنه عين، ولا حمل له موكب، ولا تقلصت عنه هيبة، ولا فارقته حشمة، كان الله له في الدنيا الآخرة. وأجاز، واضطربت الأحوال. بما كان من هلاك معينه السلطان أبي سالم، وغدر الخبيث المؤتمن على قلعته به، عمر بن عبد الله بن علي، صعر الله حزبه، وخلد خزيه، وسقط في يده، إلا أنه ثبتت في رندة من إيالة الأندلس، الراجعة إلى إيالة المغرب، قدمه، فتعلل بها، وارتاش بسببها، إلى أن فتح الله عليه، وسدد عزمه، وأراه لما ضعفت الحيل صنعه، فتحرك إلى بر مالقة، وقد فغر عليها العدو فمه، ثم أقبل على مالقة، مستميتاً دونها، فسهل الله الصعب، وأنجح القصد، واستولى عليها، وأنثالت عليه لحيتها البلاد، وبدا الريس المتوثب على الحضرة، بعد أن استوعب الذخيرة والعدة، في جملة ضخمة ممن خاف على نفسه، لو وفى بذمة الغادر وعهده، واستقر بنادي صاحب قشتالة، فأخذه بجريرته، وحكم الحيلة في جنايته وغدره، وألحق به من شاركه في التسور من شيعته، ووجه إلى السلطان بؤوسهم تبع رأسه. وحث السلطان أسعده الله خطاه إلى الحضرة، يتلقاه الناس، مستبشرين، وتتزاحم عليه أفواجهم مستقبلين مستغفرين، وأحق الله الحق بكلماته، وقطع دابر الكافرين.
وكان دخول السلطان دار ملكه، وعوده إلى أريكة سلطانه، وحلوله بمجلس أبيه وجده، زوال يوم السبت الموفي عشرين لجمادى الثانية من عام ثلاثة وستين وسبعمائة، وجعلنا الله من هم الدنيا على حذر، وألهمنا لما يخلص عنده من قول وعمل. وتخلف الأمير وولده بكره، أسعده الله، بمدينة فاس فيمن معه من جملة، وخلفه من حاشية. ولد المستولي على ملك المغرب في إمساكه إلى أن يسترجع رندة في معارضة هدفه. ثم إن الله جمع لأبيه بجمع شمله، وتمم المقاصد بما عمه من سعده. وكان وصولي إليه معه، في محمل اليمن والعافية، وعلى كسر التيسير من الله والعناية يوم السبت الموفي عشرين شعبان عام ثلاثة وستين وسبعمائة.
ترتيب الدولة الثانية السعيدة الدور إلى بيعة الكورهنأ المسلمين ببركتها الوافرة، ومزاياها المتكاثرة. السلطان أيده الله قد مر ذكره، ويسر الله من ذلك ما تيسر.
وزراؤه

اقتضى حزمه إغفال هذا الرسم جملة، مع ضرورته في السياسة، وعظم الدخول، حذراً من انبعاث المكروه له من قبله، وإن كان قدم بهذا اللقب في طريق منصرفه إلى الأندلس، وإياماً من مقامه برندة، فنحله عن كره، علي بن يوسف بن كماشة، من عتاق خدامه وخدام أبيه، مستصحباً إياه، مسدول التجمل على باطن نفرة، مختوم الجرم، على شوكه، في حطبه في حبل المتغلب، وإقراضه السيئة من الحسنة، والمنزل الخشن، إلى الإنفاق منه على الخلال الذميمة، ترأسها خاصة الشوم، علاوة على حمل الشيخ الغريب الأخبار، والطمع في أرزاق الدور، والاسترابة بمودة الأب، وضيق العطن، وقصر الباب، وعي اللسان، ومشهور الجبن. ولما وقع القبض، وساء الظن، بعثه من رندة إلى الباب المريني ليخلى منه جنده، ويجس مرض الأيام، بعد أن نقل من الخطة كعبه، فتيسر بعد منصرفه الأمر، وتسني الفتح. وحمله الجشع الفاضح، والهوى المتبع، على التشطط لنفسه، والكدح لخويصته بما أقطعه الجفوة، وعسر عليه العودة على السلطان بولده، إلى أن بلغ الخبر برجوع أمره، ودخول البلاد في طاعته. فألقى ما تعين إليه، وأهوى به الطمع البالغ في عرش الدولة، ويرتاش في ريق انتقامها. وتحرك وراية الإخفاق خافقة على رأسه، قطب مخلصه، وجوجوة عوده، من شيخ تدور بين فتكه رحى جعجعة، وتثور بين أضلاعه حية مكيدة، وينعق فوق مساعيه غراب شوم وطيرة، وحدث حرفاؤه صرفاً من مداخلة سلطان قشتالة، أيام هذه المجاورة، فبلغ أمنيته من ضرب وعد، واقتنا عهد، واتخاذ مدد، وترصيد دار قرار، موهماً نفسه البقاء والتعمير والتملي، وانفساح المدة والأمر، وقيادة الدجن عند تحول الموطن لملة الكفر، يسمح لذلك لنقصان عقله، وقلة حيائه وضعف غيرته. وطوى المراحل، وقيض حمى تزلزل لها فكاه، أضلها الحسرة، وانتزاء الخبائث. وتلقاه بمالقة، إيعاز السلطان بالإقامة بها، لما يتصل به من سوء تصريفه، ثم أطلع شافع الحياء في استقامة وطنه طوق عتبه، وصرفه إلى منزله، ناظراً في علاج مرضه. ثم لما أفاق وقفه دون حده، ولم يسند إليه شيئاً من أموره، فشرع في ديدنه من الفساد عليه، وقرس سلطان قشتالة، شاكياً إليه بثه، وأضجر لسكني باديته بالثغر، فراب السلطان أمره، وأهمه شأنه، فتقبض عليه وعلى ولده، وصرفا في جملة من دائرة السوء ممن ثقلت وطأته، فغربوا إلى تونس، أوايل شهر رمضان من عام ثلاثة وستين. ثم لما قفل من الحج، واستقر ببجاية يريد المفرب، حن إلى جوار النصانية، التي ريم سلفه العبودية إليها، فعبر البحر إلى برجلونه، ينفض عناء طريق الحج على الصلبان، ويقفو على آثار تقبيل الحجر الأسود، تقبيل أيدي الكفار. ثم قصد باب المغرب رسولاً عن طاغية برجلونه في سبيل فساد على المسلمين، فلم ينجح فيه قصده، فتقاعد لما خسر فيه ضمائه، وصرف وكره إلى الاتصال بصاحب قشتالة، وعن علي كتب إليه بخطه، يتنفق عنده ويغريه المسلمين، فتقبض عليه، وسجن بفاس مع أرباب الجرائم. وعلى ذلك استقر حاله إلى اليوم، وأبرأ إلى الله من التجاوز في أمره. ومن يضلل الله فما له من هاد.

ولما وفدت على السلطان بولده، وقرت عيني بلقايه، تحت سداده وعزه، وفوق أريكة ملكه، وأديت ما يجب من حقه؛ عرضت عليه غرضي، ونفضت له خزانة سري، وكاشفته ضميري بما عقدت مع الله عهدي، وصرفت إلى التشريق وجهي، فعلقت بي لركومه علوق الكرامة، ولاطفني بما عاملت البر بين الدعر والضنانة، ويضرب الآماد وخرج لي عن الضرورة، وأراني أن مؤازرته أبر القرب، وراكنني إلى عهد بخطه، فسح فيه لعامين أمد الثواء، واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة، وأشهد م حضر من العلية، ثم رمى إلى بعد ذلك بمقاليد رأيه، وحكم عقلي في اختيار عقله، وغطى جفائي بحلمه، وحثا في وجوه شهواته تراب زجري، ووقف القبول على وعظي، وصرف هواه في التحول ثانياً وقصدى، واعترف بقبول نصحي، فاستعنت بالله، وعاملت وجهه فيه. وصادقني مقارضة الحق بالجهاد، ورمى إلي بدنياه، وحكمني فيما ملكته يداه، وغلبني على أمره لهذا العهد، والله غلب على أمره. فأكمل المقام ببابه إلى هذا التاريخ مدة أجرى الله فيها، من يمن النقيبة، واطراد السداد، وطرد الهوى، ورفض الزور، واستشعار الجد، ونصح الدين، وسد الثغور، وصون الجباية، وإنصاف المرتزقة، ومحاولة العدو، وقرع الأسماع بلسان الصدق، وإيقاظ العيون من نوم الغفلة، وقدح زناد الرجولة، ما هو معلوم، يعضد دعواه، ولله المنة، سجية السذاجة، ورفع التسمت، وتكور المنسأه، وتفويت العقار في سبيل القربة، والزهد في الزبرج، وبث حبال الآمال، والتعزيز بالله عن الغنيمة، وجعل الثوب غطاء الليل، ومقعد المطالعة فراش النوم، والشغل لمصلحة الإسلام، لريم الأنفاس، فأثمر هذا الكرخ، وأثبج هذا المسعى مناقب الدولة، بلغت أعنان، وآثاراً خالدة، ما بقيت الخضراء على الغبراء، وأخباراً تنقل وتروى، إن عائدها الحاسد، فضحه الصباح المنير، وكاثره القطر المنثال، وأعياه السيل المتدافع: فما يختص من ذلك بالسلطان، فخامة الرتبة، ونباهة الألقاب، وتجمل الرياش، وتربع الشريعة، وارتفاع التشادر ببابه، والمنافسة الاغتباط منه، بمجالس التنبيه والمذاكرة، وبدر الدموع في حال الرقة، والإشادة باحتقار الدنيا بين الخاصة، وتعيين الصدقات في الأوقات العديدة، والقعود لمباشرة المظالم ستة عشر يوماً في كل شهر من شهور الأهلة، يصل إليه فيها اليتيم والأرملة، فيفرح الضعيف، وينظر حضور الزمن، ويتغمد هفوة الجاهل، ويتأثر لشكوى المصاب، ويعاقب الوزعة على الأغلاط، إلى إحسان الملكة في الأسري، والأغراب في باب الحلم، والإعياء في ترك الحظ، والتبري من سجية الانتقام، والكلف بإرباط الخيل، واقتناء أنواع السلاح، ومباشرة الجهاد، والوقار في الهيعات، وإرسال سجية الإيمان، وكساد سوق المكيدة، والتصامم عن السعاية؛ هذا مع الشباب الغض، والفاحم الجعد، وتعدد حبائل الشيطان في مسالك العمر، ومطاردة قانص اللذات في ظل السلم، ومغازلة عيوم الشهوات من ثنايا الملوك. وأيم الله الذي له تستخلص الحقوق، وتيسر الستور، وتستوثق العهود ولا تطمئن القلوب إلا يه؛ ما كاذبته، ولا راضيت في الهوادة طوله، ولا سامحته في نقيض هذه الخلال. ولقد كنت أعجب من نفاق أسواق الذكري لديه، وانتظام أقسية النصح عنده، وإيقاع نبات الرشد فيه نصيحة، وأقول بارك الله فيها من سجية، وهنأ المسلمين بها من نفس زكية. وسيأتي بيان هذه النتائج، وتفسير مجمل هذه الفضايل بحول من لا حول إلا به سبحانه. والحال متصلة على عهده الوثير من إعانته بالوسوع، والخروج له عن هذه العهدة، والتسليم له في البقية، إرهاقاً لسيف جهاده، وجلاء لمرآة نصحه وتسوية إيزان عدله، وإهابة لمحمد رشده، شد العقدة، عقدة وغيرة على حرمة ماله وعرضه، ورعاية للسان العلم المنبئ عن شأنه، ونيابة عنه في معقل ملكه، ومستودع ماله وذخيرته، ومحافظة على سره وعلانيته لحرمه وولده، وعمراناً للجوانح بتفضيله وحبه، معاملة أخلص الله قصدها لوجهه، وأمحضها من أجله، ترفعه عن جراية رحل هلالها، وإقطاع تنجع قدرته، أو فصلة تعبث البنان بنشيرها، وخطة تشد إليه على منشورها. والله يرجح ميزاني عنده، ويحظى وسبلتي لديه، ويحرك مكافأة سعيي في خواطر حجه، وينبه لتبليغ أملي من حج بيت الله، وزيارة رسول الله، بمنه وكرمه، فما على استحثاث الأجل من قرار، ولا بعد الشيب من إعذار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أولاده كمل له في هذا الوقت من الولد أربعة، ثلاثتهم ذكور، يوسف بكره، وأراه يتلوه سعد، ثم نصرن غلمة روقة، قد أفرغهم الله في قالب الكمال، إذا رايتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، فسح الله لهم أمد السعادة، وجعل مساعيهم جانحة إلى حسني العقبى، سالكاً بهم سبيل الاهتداء بفضل الله ورحمته.
قضاته قدم لأول قدومه. الفقيه القاضي، الحسيبن الخير، أبا جعفر بن أحمد بن جزي، شاكراً بلاءه بمالقة، إذ كان قد ألقاه قاضياً بها للمتغلب، فلم يأل جهداً في الإجلاب على من اعتصم بقصبتها، والتحريض على استنزالهم، فاتخذ زلفة لديه، فأجرى الأحكام، وتوخى السداد. ثم قدم إليها الفقيه القاضي الحسيبن أبا الحسن علي بن عبد الله بن الحسن، عين الأعيان ببلده مالقة، والمخصوص برسم التجلة، والقيام بوظيفة العقد والحل بها في الدولة الأولى، وأصالة البيت، والانقطاع إليه، ومصاحبة ركابه في طلب الملك، ومتسور المشاق من أجله، وأولى الناس باستدار خلف دولته، فسدد وقارب، وحمل الكل، وأحسن فصاحة الخطبة والخطة، وأكرم المشيخة وأرضى، واستشعر النزاهة، ولم يقف في حسن التأني عند غاية، واشتمل معها لفق الخطابة، فأبرز وأعلم، تسمياً وحفظاً وجهورية، فاتفق في ذلك على رجاحته، واستصحب نظره على الأحباس. فلم يقف في النصح عند غاية، أعانه الله.
كتابه أسند الكتابة إلى الفقيه المدرك، المبرز في كثير من الخلال، ملازمه أيضاً في طلب الملك. ومطاردة قنص الحظ أبي عبد الله بن زمرك، ويأتي التعريف بجميعهم.
شيخ عزاته متولي ذلك في الدولة الأولى، الشيخ أبو زكريا يحية بن عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق، قدمه إليها معتباً إياه، طاوياً بساط العدو بالجملة، قدموها بابنه عثمان على الخاصة يومئذ، لما ظهرته في الوجهة، وسعيه في عودة الدولة. واستمرت الحال إلى اليوم الثالث عشر لشهر رمضان من عام أربعة وستين وسبعمائة، وكان القبض على جملتهم، وأجلى هذا البيت من سفرة السياسة مدة، مجتزياً فيه بنظره على رسمه في الوزاة من قبيله. ثم قدم إليها موعده بها القديم الخدمة، وسالف الأدمة، لما لجأ إلى وادي آش مفلتاً من وبقة الحادثة، الشيخ أبا الحسن علي بن بدر الدين بن موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق. حلف السداد أيامه، والمقاربة والفضل والدمائة، المخصوص على اختصار بيمن النقيبة، واستمرت أيامه إلى نقبة القفول عن غزوة جيان أخريات محرم من عام تسعة وستين، وتوفي رحمه الله حتف أنفه، فاحتفل لمواراته، وإقرابه من تأبيه، واستغفاره، وتوفي رحمه الله حتف أنفه، فاحتفل لمواراته، وإقرابه من تأبيه، واستفغاره، والاعتراف بصدق موالاته، وتفجيعه لفقده، وما أعرب به من وفاء نجده، وقدم لها عهداً طرف اختياره، الأمين، الشهم، والبهمة، خدن الشهرة، والمشار إليه بالبسالة، وفرع الملك والأصالة، عبد الرحمن بن الأمير أبي الحسن علي بن السلطان أبي علي عمر بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، إذ كان قد لحق به، بعد ظهور أتيح له بوطنه من المغرب، استقر مبايعاً بعمالة سجلماستة وما إليها، وطن جده، وميراث سلفه، ففسح له جانب قبوله، وأحله من قربه محل مثله، وأنزله بين ثغر الأغتاط ونحره، ثم استظهر به على هذا الأمر، فأحسن الاختيار. وأعز الخطة، وهو القايم عليه لهذا العهد، وإلى الله أسباب توفيقه.
ظرف السلطان وحسن توقيعه لا بد في هذا الباب من تقدمه، وكثرة وقوعه، بحيث لا يعد نادره، وقليل الشيء يدل على كثيره. مر بي يوماً ومعي ولده، يرم اتخاذ حنق القرآن، فقلت له أيدك الله، الأمير يريد كذا، ولا بد له من ذلك، وأنا وكيله عليك في هذا، فقال حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا خفاء ببراعة هذا التوقيع. وغرابة مقاصده. ومجالسه على الأيام معمورة بهذا ومثله.
الملوك على عهده

بالمغرب السلطان الجليل إبراهيم بن السلطان أبي الحسن، بن السلطان أبي سعيد بن السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. تولى ملك المغرب حسبما تقدم في اسمه، وألقى إليه بالمقاليد، واستوسقت له الطاعة، وبحسب ما بث الله من إشرباب الخلق إليه، وتعطشهم. إلى لقاية، ورغبتهم في إنهاضه إلى ملك أبيه، كان انقلابهم إلى ضد هذه الخلال، شرقاً بأيامه وإحصاء لسقطاته، وولعاً باغتيابه وتربصاً لمكروه به، إذ أخفقت فيه الأمال، واستولت الأيدي من خدامه على ملكه. وقيض الله لإبادة أمره، وتغير حالة وهد ركنه، الخائن الغادر نسمة السوء وقذار ناقة الملك، وصاعقة الوطن وحرد السيد عمر بن عبد الله بن علي مؤتمنة على البلد الجديد، دار ملكه ومستودع ماله وذخيرته، فسد الباب دونه. وجهر يخلعانه. وفض في اتباع الناعق المشئوم سور ماله، وأقام الدعوة باسم أخيه أبي عمر، ذي اللوثة، الميئوس من إفاقته، وذلك صحوة اليوم الثامن عشر لشوال من عام اثنين وستين وسبعمائة. وبادر السلطان أبو سالم البيعة من متحول سكناه بقصر البلد القديم، وصابر الأمر عامة اليوم. ولما جن الليل، فر لوجهة، وأسلم وزراءه، وخاصته، وقيدت خطاه الخيرية، فأوى إلى بعض البيوت، وبه تلاحق متبعه، فقيد إلى مصرعه السوء بظاهر بلده، وحز رأسه، وأوتى به إلى الغادر. وكان ما بين انفصال السلطان عنه مودعاً إلى الأندلس بإعانته، ومطوق فضل تلقيه وقوله وحسن كفالته، ثمانية أشهر ويوم واحد. واستمرت دعوة أخيه المموه به إلى الرابع والعشرين من صفر من عام ثلاثة وستين وسبعمائة، واستدعى من باب قشتالة الأمير محمد أبو زيان بن الأمير أبي زيد بن عبد الرحمن بن السلطان المعظم أبي الحسن. وقد استقر نازعاً إليه أيام عمه السلطان أبي سالم، وقع عليه اختيار هذا الوزير الغادر، إذ وافق شن تغلبه طبق ضعفه، وأعمل الحيلة في استجلابه، فوصل حسب غرضه، وأجريت الأمور باسمه، وأعيد أخوه المعتوه إلى مكانه، واستمرت أيام هذا الأمير مغلوباً عليه، مغري بالشراب على فيه وبين الصحب إلى أن ساءت حاله، وامتلأت بالموجدة على الوزير نفسه، فعاجله بحتفه، وباشر اغتياله، وأوعز إلى خدامه بخنقه، وطرحه بحاله في بعض سواقي قصره، متبعاً ببعض أواني خمره وهم بذلك قابله، ترديه سكراً، وهويه طفوحاً. ووقف عليه بالعدول عند استخراجه، وندب الناس إلى مواراته، وبايع يومه ذلك أبا فارس عبد العزيز وارث ملك أبيه السلطان أبي الحسن، المنفرد به، وخاطب الجهات بدعوته، وهو صبي ظاهر النبل والإدراك، مشهور الصون، وأعمل الحيلة لأول أمره، على هذا الوزير مخيف أريكو ملكه، ومظنة البدا في أمره، فطوقه الحمام واستأصل ما زراه من مال وذخيرة، شكر الله على الدولة صنيعه وفي ذلك يقول:
لقد كان كالحجاج في فتكاته ... تحاذره الرآء دوماً وتخشاه
تغدأً به عبد العزيز مبادراً ... وعاجله من قبل أن يتعشاه
وكان بعده وليه الحق ونصيره لا إله إلا هو. وهو اليوم ملك المغرب، مزاحماً بابن أخيه، السلطان أبي سالم، المعقود البيعة بمراكش وما إليها، جمع الله شتات الإسلام، ورفع عن البلاد والعباد مضرة الفتنة.
وبتلمسان السلطان أبو حمو موسى بن الأمير أبي يعقوب يوسف بن عبد الرحمن ابن يحيى بن يغمراسن بن زيان. حسبما كان في الدولة الأولى، متفقها منه على خلال الكرم والحزم مضطلعاً بأمره والقيام على ما بيده.
وبتونس، الأمير أبو سالم إبراهيم بن الأمير أبي يحيى بن أبي حفص، حسبما تقدم ذكره.
ومن ملوك النصارى

فبقشتالة سلطانها المتقدم الذكر في الدولة الأولى، بطره بن السلطان ألهنشة نب هراندة بن شانجه بن ألهنشة بن هراندة، متأكدة بينهما السلم الجمة، والهدنة المبرمة، بما سلف من مظاهرته إياه، والحرص على ما استحاله من المغرب في أطوله، وبعثه إليه برأس عدوه المتوثب على ملكه، ورؤوس أشياعه، الظالمين الغدرة، وأتباعه الفجرة، مستمرة أيامه إلى وسط شعبان عام سبعة وستين، صارفاً وجهه إلى محاربة صاحب برجلونة، مستولياً على كثير من قواعده الشهيرة، وقلاعه المنيعة، لما أسلفه به من إجازته أخيه أندريق المدعو بالقند، ومظاهرته حتى ساءت أحواله وأحوال عدوه، وأوهنت الحركات قوى جيشه، وأضعف الاحتشاد عمرة أرضه، واشرأبت القلوب إلى الانحراف عن دعوته، ومالت النفوس إلى أخيه، وقامت البلاد بدعوته، وتلاحقت الوجوه بجهته، ورام التمسك بإشبيلية دار ملكه، فثار أهلها به في عام سبعة وستين. فخرج فاراً عنها به والسلاح يهش إليه، وبعد أن استظهر بخويصته، وأحمل ما قدر عليه من ذخيرة، ورفع من له من ولد وحرمة، رأى سخنة العين من انتهاب قصوره، وتشعيث منازله، وعياث الأيدي في خزائنه، وأسمعه الناس من محض التأنيب وأعراض الشتمات، ما لا مزيد عليه، ولاذ بصاحب برتغال، فنأى عنه جانبه لما يجنيه أبواه من مخالفة رأي الأمة فيه، فقصد بلاد غليسية، وتلاحق أخوه أندريق بحضرة إشبيلية، فاستوى على الملك وطاعت لأمره البلاد، وعاجله المسلمون لأول أمره، فاستولوا على كثير من الثغور والحمد لله.

ولما توسد له الأمر تحول لاستئصال شأفة المخلوع، فأجلى عن غليسية في البحر، واستقر ببلد بيونة، مما وراء دروب قشتالة، وانتبذ عن الخطة القشتالية وأمر نفسه، ولجأ إلى ابن صاحب الأنتكيرة، وهو المعروف ببرقسين أبي الأمير، وبين أول أرضه وبين قشتالة؛ ثمانية أيام، فقبله ولد السلطان المذكور، الساكن بأول ما تلقاه من تلك الأرض، وسفر بينه وبين أبيه. فأنكر الأب استئذانه إياه، والمراجعة في نصره، جمية له؛ وامتعاضاً للواقع. وحال هذه الأمة غريبة في الحماية المزدودة بالوفاء والرقة، والاستهانة بالنفوس في سبيل الحمد، وبين يدي العشايق، عادة العرب الأول. وأخبارهم في القتال غريبة، من الاسترجال والزحف على الأقدام، أميرهم ومأمورهم، والجئو في الأرض، أو دفن ببعض الأرض في التراب، والاستظهار في حال المحاربة ببعض الألحان المهيجة، ورماتهم قسيهم غريبة جافية، وكلهم في دروع، والإحجام عندهم، والتقهقر مقدار الشبر ذنب عظيم. وعار شنيع، ورماتهم يثبتون للخيل في الطراد، وحالهم في باب التحلي بالجواهر، وكثرة آلات الفضة، غريب. وبعد انقضاء سبعة عشر يوماً كان رجوعه ورجوع البرنس المذكور معه مصاحباً بأمراء كثيرين من خترانه وقرابته، وبعد أن أسلفوه مالاً كثيراً، واختص من ه صاحب الأنتكيرة، بمائتي ألف دينار من الذهب إلى ما اختص به غيره، وارتهنوا فيه ولده وذخيرته. وكان ينفق على نفسه وجيشه بحسب دينار واحد من الذهب للفارس في ثلاثة أيام، وكان تأليف الجيوش في بنبلونة في أزيد من ثلاثين ألفاً، وعسر عليهم المجاز على فحص أحدونيه، لبلاد تمسك لطاعة القند أخيه؛ فصالح القوم صاحب نباره على الإفراج لهم، ونزلت المحلات في فحص نبارة، ما بين حدود أرض نبارة وقشتالة، ونزل المتصير إليه أمر قشتالة، القند بإزايها في جموع لم تنظم لمثله، إلا أنه لشهامته واغتراره، أجاز خندقاً كان بين يديه، وعبر جسراً نشب فيه عند الجولة. وكان اللقاء بين الفريقين يوم السبت سادس إبريل العجمي، وبموافقة شعبان من عام ثمانية وستين. وكان هذا الجموع الإفرنجي الآتي من الأرض الكبيرة في صفوف ثلاثة، مرتبة بعضها خلف بعض، ليس فيهم فارس واحد، وإنما هم رجالة، سواء أميرهم ومأمورهم، في أيديهم عصي جافية في غلظ المعاصم؛ يشرعونها أمامهم، بعد إثبات زجاجها فيما خلفهم من الأرض، يستقبلون منها وجوه عدوهم، ونحور خيله، ويجعلونها دعايم وتكآت لبناء مصافهم، فلم تقلقهم المحلات، وبين أيديهم من الرماح الناشبة الدارعة، ما لا يحصيهم إلا الله عز وجل. وسايرهم السلطان، مستدعي نصرهم راجلاً أميالاً برأيهم؛ إلى أن أعيا بعد ميلين منها فأركبوه بغلة حملوه بينهم عليها، إلى موقف اللقاء والقند. وكان على مقدمة القوم الدك أخو البرنس، والبرنس مع السلطان مستجيره في القلب، والقند المعروف بقندار مانيان، وكثير من الأمراء؛ ردا وسيفه دونهم، ومن خلف الجميع الخيل بجنبها ساستهم وغلمانهم وخدامهم، ووراءها دواب الظهر وأبغالهم، وفي أثنا هذه العبية من البنود وآلات الحرب والطرب والأبواق ما يطول ذكره. وكان في مقدمة القند المستأثر بملك قشتالة؛ أخوه شانجه في رجل قشتالة، قد ملأ السهل والجبل، ومن خلفهم أولو الخيل الجافية القبيلية، المسبغة الدروع، من رأس إلى حافر، فينحو ألف وخمسماية، وفي القلب أخوه الآخر دنطية في جمهور الزعماء والفرسان والدرق، وهو الأكثر من رجال الجيش اليوم، ومن رائهم السلطان أندريق في لفيف من الناس. ولما حمل بعضهم على بعض أقدم رماة الفرنج، ثقة بدروعهم، فعظم أثرهم فيمن بإزايهم من رماة عدوهم ورجالهم، لكونهم كشفاء، فكشفوا إياهم. وحملت خيل قشالة الدارعة، فزحزحت كر المصاف الإفرانجي، واتصل الحرب بالبرنس، وهو مطل عليهم في ربوة، فصاح بهم بحيث أسمع، وتناول شيئاً من التراب فاستفه، وكسر ثلاث عصيي، وفعل من معه مثل فعله، وهي عادتهم عند الغضب، وعلامة الإقدام الذي لا نكوص بعده. ووجه إلى أخيه في المقدمة، يقول له، إن وجدت نفسك ضعفاً، فاذكر أنك ولد صاحب الأنتكيرة. وحمل الكل حملة رجل واحد، فلم تجد الخيل الدارعة سبيلاً، وقامت في نحورها تلك الأسنة، فولوا منهزمين.

ولما رأى القند هزيمة أخيه، تقدم بنفسه بمن معه من مدد الأمة الرغونية، وهو ينادي، يا أهل قشتالة، يا موالي، إياكم والعار. هأنذا، فلم يثبت أمره، وتراجع فله. فعند ذلك فر في أربعة من أولى ثقته، واستولى القتل والأسر على خاصته، وتردى المنهزمون في الوادي خلفهم. فكان ذلك أعون الأسباب على هلكهم، فأناف عدد من هلك في هذه الوقيعة، حسبما اشتهر، خمسين ألفاً. وامتلأت أيدي هذه الأمة من الأسلحة والأموال والأمتعة والأسرى الذين يفادونهم بمال عظيم، واتصل القند المنهزم بأرض رغون، ثم تجم من البلاد الفرنسية. ودخل أخوه بهذه أمة أوايل البلاد معترفاً بحميد سعيهم، وعزيز نصرهم، وقد رابه استيلاؤهم، وأوجسه تغلبهم، وساءه في الأرض الرعادة عيائهم فاستأذنهم في اللحوق بقواعد أرضه، وقبض الأموال التي تجبى منها نفقاتهم، وقبض منها ديونهم قبله، وحث السير، فوصل طليطلة، لا يصدق بالنجاة، وخاطب السلطان المترجم به، وقدر وده، وحذره سورة هذه الأمة التي فاض بحرها وأعيا أمرها، وأنهى إليه شرها، وشره إلى استيصال المسلمين. وحد له مواعدها التي جعلت لذلك. ووصل إشبيلية، وانثالت البلاد عليه، وعادت الإيالة إلى حكمه، ثم شرع في جعل الضرايب، وفرض الأموال، وأخاف الناس بالطلب والتبعات فعاد نفورهم عنه جزعاً. وامتنعوا من الغرم، وطردوا العمال، وأحس بالشر، فتحصن بإشبيلية، وجهاتها على نفسه، وطال على الأمة الواصلة في سبيل نصره الأمر. فرجعت إلى بلادها، ووقيت نفرة الفرسان، وأولى الأتباع، وأظهروا الخلاف، وكشفت ديان وجهها في خلعانه، والرجوع إلى دعوة أخيه المتصرف، فتحرك إليها السلطان المترجم به، بعد أن احتشد المسلمين، فكان من دخولها عنوة، واستباحة المسلمين إياها وتخريبها، ما هو مذكور في موضعه. ثم ألحقت بها مدينة أبدة، الذاهبة في مخالفة مذاهبها والحمد لله. وخالفت عليه قرطبة، واستقر بها من الكبار جملة، كاتبوا أخاه، واستعجلوا، فتعرف في هذه الأيام، أنه قد بلغ أرض برغش، ونار الفتنة بينهم، ويد الإسلام لهذا العهد، والمنية لله، وحده غالبة.
وإنما مددنا القونل في ذكر هذه الأحوال الرومية، لغرابة تاريخها، ولستشعر الحذر، ويؤخذ من الأمة المذكورة وغيرها، والله ولي نصر المؤمنين بفضله. وبأرض رغون سلطانها الكاين على الدولة الأولى.
؟بعض مناقب الدولة لهذا العهد وأولا ما يرجع إلى مناقب الحلم والكظم من مآزق الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس.
فمن ذلك أن السلطان لما جرت الحادثة، وعظه التمحيص، وألجأ إلى وادي آش لا يملك إلا نفسه في خبر طويل، بادر إلى مخاطبة ثقته بقصبة ألمرية، قلعة الملك، ومظنة الامتناع، ومهاد السلامة، ومخزن الجباية والعدة، وقد أصبح محل استقراره، بينها، وبين المنتزى سداً، وبيعة أهلها لم ينسخ الشرع منها حكماً يناشده الله في رمقه، ويتملقه في رعي ذمته، والوفاء له، وإبراء غربته، وتمسكه من أمانته، فرد عليه أسوأ الرد. وسجن رسوله في المطبق، وخرج منها لعدوه، وناصح بعد في البغي عليه. فلما رد الله الأمر، وجبر الحق، أعتب وأجرى عليه الرزق. ولما ثار في الدولة الثانية الدليل البركي، هاتفاً بالدعوة لبعض القرابة، وأكذبه الله، وعقه الشيطان بعد نشر راية الخلاف، وجعل للدولة، علو اليد، وحسن العاقبة، وتمكن من المذكور، أبقى عليه، وغلب حكم المصلحة العامة في استحيائه، وهو من مغربات الحلم المبني على أساس الدين، وابتغاء وجه الله.
ولما أجلى عن الترشيح من القرابة، بعد تقرب التهمة، وغمس الأيدي في المعصية، صرفوا إلى المغرب صرف العافية، وأجرى على من تخلفوه عوايد الأرزاق، ومرافق المواسم، ووعد ضعفاءهم بالإرفاد، وتجوفى عما يرجع للجميع من عقار ورباع، وأسعفت آمالهم في لحاق ذويهم من أهل وولد.

ومما يرجع إلى عوايد الرفق، ومرافق العدل من مأزق في جهاد النفس، وقوف وكيل الدولة، مع من يجاور مستخلص السلطان من العامرين ومما ولي الفلاحة، وقد ادعوا أضراراً، يجره الحوار بين يدي القاضي بالحضرة، حتى بعد منقطع الحق، على ما يخص السلطان من الأصول التي جرها الميراث عن كريم السلف. ولا كقضية التاجر المعروف بالحاج اللباس، من أهل مدينة وادي آش، وقد تحصلت في داره، من قبل التاجر المذكور جارية من بنات الروم، في سبيل تفوت الذمم، ومستهلك المتولات، وترقت إلى تربية ولده، وأصبحت بعض الآظار لأمرايه واتصل بها كلفه، وزاد هيمانه، وغشي مدافن الصاحين من أجلها، وأنهيت إليه خبره وبثه. وقررت عنده شجوه، وألمعت بما ينقل في هذا الباب عن الملوك قبله، فبادر إلى إخراجها من القصر بنفسه، وانتزاعها من أيدي الفبطة، انتزاع القهر، بحاله في جميل الزي، فمكنت منها يد عاشقها الذاهل، وقد خفت نفسه، وسكن حسه، وكاد لقاؤه إياها أن يقضي عليه. ونظاير هذا الباب متعددة.
ومن مواقف الصدق والإحسان من خارق جهاد النفس. بناء المارستان الأعظم حسنة هذه التخوم القصوى. ومزية المدينة الفضلى. لم يهتد إليه غيره من الفتح الأول، مع توفر الضرورة، وظهور الحاجة، فأغرى به همة الدين، ونفس التقوى، فأبرزه موقف الأخدان، ورحلة الأندلس، وفذلكة الحسنات، فخامة بيت، وتعدد مساكن، ورحب ساحة، ودرور مياه، وصحة هواء، وتعدد خزاين ومتوضآت، وانطلاق جراية وحسن ترتيب، أبر على مارستان مصر، بالساحة العريضة، والأهوية الطيبة، وتدفق المياه من فورات المرمل، وأسود الصخر، وتموج البحر، وانسدال الأشجار. إلى موافقته إياي، وتسويغه ما اخترعتنه بإذنه، وأجريته بطيب نفسه، من اتخاذ المدرسة والزاوية، وتعيين التربة، مغيراً في ذلك كله على مقاصد الملوك، نقشاً عليه، بطيب اسمه في المزيد، وتخليد في الجدرات للذكر، وصوناً للمدافن غير المعتادة، في قلب بلده بالمقاصر والأصونة، وترتيل التلاوة، آناء الليل، وأطراف النهار. وكل ذلك إنما ينسب إلى صدقاته، وعلو همته، ويشهد بما ينبه الحس إلى المنقبة العظمى، في هذا الباب، من إمداد جبل الفتح، مع كونه في إيالة غيره، وخارج عن ملكة حكمه، وما كان من إعانته، وسد ثغره، فانهار إليه على خطر السرى، والظهر البعيد المسعى، ما ملأ الأهواء، وقطع طمع العداة، أنفقت عليه الأموال؛ ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، بودر بذلك، بين يدي التفاؤل، بنزول العدو إياه، فكان الكرى على إيصال الطعام إليه، بحساب درهم واحد وربع درهم للرطل من الطعام، منفعة فذة، وحسنة كبرى، وبدعاً من بدع الفتوى.
وفي موقف الاستعداد لعدو الإسلام، من خارق جهاد النفس، إطلاق البنى، للمدة القريبة، والزمان الضيق، باثنين وعشرين ثغراً من البلاد المجاورة للعدو، والمشتركة الحدود، مع أراضيه، المترامية النيران لقرب جوابه، منها ثغر أرجدونة، المستولي عليه الخراب. وأنفق في تجديد قبضته. واتخاذ جبه. ما يناهز عشرين ألفاً من الذهب، فهو اليوم شجي العدو، ومعتصم المسلمين. وحصن أشر، وما كان من تحصين جبله بالأسوار والأبراج، على بعد أقطاره. واتخاذ جباب الماء به، واحتفار السانية الهايلة برضه، وترك بها من الآثار ما يشهد بالقوة لله، والعناية بالإسلام. ثم ختم ذلك بنديد حصن الحمراء، رأس الحضرة، ومعقل الإسلام، ومفزع الملك، ومعقد الأيدي. وصوان المال والذخيرة، بعد أن صار قاعاً صفصفاً. وخراباً بلقعاً، فهو اليوم عروس يحلى المهضب، ويغازل الشهب، سكن لمكانه الإرجاف، وذوت نجوم الأطماع، ونقل إليه مال الجباية، المتفضل لهذا العهد، بحسب التدبير، ونفد الخراج، وصون الألقاب، وقمع الخزانة بما لم يتقدم به عهد، من ثمانين سنة، والحمد لله. وتجديد أساطيل الإيلام، وإزاحة علل جيوش المرج، وعساكر البحر، فهي لهذا العهد، ملس الأديم، شارعة الشبا، منقضة جفاتها إلى مساواة الأعداء، راكبة ظهور المحاسن، قلقة الموافق، قدماً إلى الجهاد، قد تعدد إعزاؤها، وجاست البحر سوابحها، وتعرفت بركتها والحمد لله، وأنصاب جيش الجهاد، استغرق الشهور المستقبلة، لرود الصفراء والبيضاء الأهلة إلى أكف أهلها، على الدوام، بعد أن كانت يتحيفها المطل، وينقصها المطال، والحمد لله.

وفي مواقف الجهاد الحسي، وبيع النفوس من الله، وهو ثمرة الجهاد الأول، ما لا يحتاج عليه إلى دليل، من الجوف إلى حصن أشر، قبل الثغر، والجارح المطل على الإسلام، والعزم على افتتاحه. وقد غاب الناس من مساورته، وأعيى عليهم فتحه، فلزمه السلطان بنفسه، بياض يوم القيظ، محرضاً، للمقاتلة، مواسياً لهم، خالطاً نفسه بالمستنفرة، يصابر لهيب النار، ووقع السلاح، وتعميم الدخان، مفدياً للكلمات، محرضاً لذوي الجراح، مباشراً الصلاة على الشهداء إلى أن فتحه الله على يده، بعزمه وصبره، فباشر رم سوره بيده، وتحصين عورته بنفسه، ينقل إليه الصخر، وينال الطين، ويخالط الفعلة، لقرب محل الطاغية، وتوقع المفاجأة. ثم كان هذا العمل قانوناً مطرداً في غيره، وديدناً في سواه، حسبما نذكر في باب الجهاد.
وفي باب النصيحة للمسلمين من مآزق الجهاد الأكبر، ما صدر في هذه الدولة، من مخاطبة الكافة، بلسان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، صدعت بذلك الخطباء من فوق أعواد المنابر، وأسمعت آذان المحافل، ما لم يتقدم به عهد في الزمان الغابر.
نص الكتاب ولما صحت الأخبار بخروج الأمة الإفرنسية إلى استئصال هذه البقيعة، والله متم نوره، ولم كره الكافرون، صدر من مخاطبة الجمهنور في باب التحريض بما نصه: من أمير المسلمين عبد الله محمد، بن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج بن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد نصر، أيده الله ونصره، وأوى أمره، وخلد مآثره. إلى أوليائنا الذين نوقظ من الغفلة أحلامهم، وندعوهم لما يطهر من الارتياب إيمانهم، ويخلص لله أسرارهم وإعلانهم، يرثي لعدم إحسانهم، وخيبة قياسهم، ويغار من استيلاء الغفلات على أنواعهم وأجناسهم، ونسأل الله لهم ولنا إقالة العثرات، وتخفيض الشدائد المعتورات، وكف أكف العوادي المبتدرات. إلى أهل فلانة، دافع الله عن فئتهم الغريبة، وعرفهم في الذراري، والحرم، عوارف اللطائف القريبة وتداركهم بالصنايع العجيبة، سلام عليكم أجمعين، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي لا نشرك به أحداً، ولا نجد من دونه ملتحداً، مبتلى قلوب المؤمنين أيها أقوى جلداً، وأبهد في الصبر مداً، ليزيد الذين اهتدوا هذى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي أنقذ من الردى، وتكفل بالشفاعة لم غداً ضارباً هام العدا، ومجاهداً من اتخذ مع الله ولدا، والرضى عن آله الذين كانوا لسماء ملته عمداً، فلم ترعهم الكتايب الوافرة، وكانوا لهم أقل عدداً، ولا هالتهم أمم الكفر، وإن كانت أظهر جمعاً، وأكثر عدداً صلاة لا تنقطع أبداً، ورضى، لا يبلغ مداً. فإنا كتبنا إليكم، كتبكم الله فيمن امتلأ قلبه غضباً لأعدايه وحمية، ورمى بفكره غرض السداد، فلم يخط منه هدفاً ولا رمية. وقد اتصل بنا الخبر، الذي يوجب نصح الإسلام، ورعى الجوار والذمام، وما جعل الله للمأموم على الإمام، فوجب علينا إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة، وجمع أهوايكم المفترقة، وتهيئكم إلى مصادمة الشدايد المرعدة المبرقة، وهو أن كبير النصرانية، الذي أليه ينقادون، وفي مرضاته يصادقون ويعدون، وعند رؤية صليبه يبكون ويسجون، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضماً وقضماً. وأوسعتهم هضماً فلم تبق لهم عصباً ولا عظماً، ونثرت ما كان نظماً، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق، ويرفع ما طرق، ويرفى ما مزق الشتات وخرق، فرمى الإسلام بأمة عددها كالقطر المغثال، والجراد الذي تضرب به الأمثال، وعاهدهم وقد حضر التمثال، وأمرهم وشأنهم الامتثال، أن يدمنوا لمن ارتضاه الطاعة، ويجمعوا من ملته الجماعة، ويطلع الكل على هذه الفئة القليلة الغريبة، لغتة كقيام الساعة وأقطعهم، قطع الله بهم، العباد والبلاد. والطارف والتلاد، وسوغهم الحريم المستضعف والأولاد، وبالله نستدفع مالا نطيقه. ومنه نسأل عادة الفرج، فما سدت لديه طريقه، إلا أنا رأينا غفلة الناس مع تصميمهم مؤذنة بالبوار. وأشفقنا للذين من وراء البحار، وقد أصبح معظمهم في لهوات الكفار، وأردنا أن نهزهم بالموعظة التي تكحل البصاير بميل الاستبصار. وتلهمكم الاستنصار بالله، عند عدم الانتصار، فإن جبر الله الخواطر بالضراعة إليه، والانكسار ونسخ الإعسار بالإيسار، وأنجد اليمين بانتهاء اليسار، وإلا فقد تعين في الدنيا والآخرة حظ الخسار فإن من ظهر عليه عدو دينه، وهو عن الله مصروف، وبالباطل مشغوف، وبغير العرف معروف. وعلى الحطام المسلوب ملهوف، فقد تله الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ومن نفذ فيه قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود، وآجر بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود، ووطن النفس عن الشهوات الموبقة في دار الخلود، العايدة بالحياة الدايمة والوجود، أو الظهور على عدوه المحشود إليه صبرا على المقام المحمود وبيعاً تكون املائكة فيه من الشهود، حتى تعيث يد الله في ذلك البناء المهدوم، بقوة الله المحمود، والسواد الأعظم الممدود، كان على أمر ربه بالحياء المردود " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فتربصوا إنا معكم متربصون " . فالله الله في الهمم، فقد خبت ريحها. والله الله في العقايد. فقد خفت مصابيحها. والله الله في الرحولة فقد فل حدها. والله الله في الغيرة. فقد نعس حدها. والله الله في الدين، فقد طمع العدو في تحويله. والله الله في الحريم. فقد مد إلى استرقاقه يد تأميله. والله الله في المساكن التي زحف لسكناها والله الله في الملة التي يردي إطفاء نورها وسناها وقد كمل فضلها وتناهى. والله الله في القرآن العظيم. والله الله في الجيران. والله الله في الطارف والتالد، والله الله في الوطن الذي توارثه الولد عن والوالد. اليوم تستأسد النفوس المهينة. اليوم يستنزل الصبر والسكينة. اليوم تحتتج الهمم أن ترعى هذه النفوس الكريمة الذمم، اليوم يسلك سبيل العزم والحزم والشدة والشمم اليوم يرجع إلى الله تعالى المصرون اليوم يقيق من نومه الغافلون والمغترون. قبل أن يتفاقم الهول، ويحق القول، ويسد الباب، ويحيق العذاب، ويسترق بالكفر والرقاب. فالنساء تقي بأنفسهن أولادهن الصغار. والطيور ترفرف لتحمي الأوكار، إذا أحست العياث بأفراخها والأضرار. تمر الأيام عليكم مر السحاب وذهاب الليالي لكم ذهاب. فلا خبر يفضي إلى العين، ولا حديث في الله تعالى يسمع بين اثنين، ولا كد إلا

لزينة يحلى بها نحر وجيد، ولا سعي إلى في متاع لا يغني في الشدائد ولا يفيد. وبالأمس ندبتم إلى التماس رحمي أو رضى مسخر السحاب، واستقالة أكاشف العذاب، وسؤال مرسل الديمة، ومحيي البشر والبهيمة، وقد أمسكت عنكم رحمة السماء؛ واغبرت جوانبكم المخضرة احتياجاً إلى إيالة الماء، وفي السماء رزقكم وما توعدون. وإليها الأكف تمدون، وأبوابها بالدعاء تقصدون، فلم يصرح منكم عدد معتبر، ولا ظهر للإنابة ولا للصدقة خبر، وتنوقوون عن إعادة الرغبة إلى الغنى الحميد، والولي الذي إن شا يذهبكم ويأت بخلق جديد. وأيم الله لو كان لهوا لارتقبت الساعات وضاقت المتسعات. وتزاحمت على جماله وغصت الجماعات. أتعززاً على الله وهو القوي العزيز، وتلبيساً على الله، وهو الذي يميز الخبيث من الطيب، والشبه من الإبريز، أمنابذة والنواصي بيده، أغروراً في الشدايد بالأمل والرجوع بعد إليه. من يرجى في الشدايد والأزمات، من يوجد في المحيا والممات، أفي الله شك يختلج القلوب، أم غير الله يدفع المكروه، وييسر المطلوب. تفضلون على اللجأ إليه في الشدايد، بواسم الجهل، وثرة الأهل وطايفة منكم قد بررت إلى استسقاء رحمته، تمد إليه الأيدي والرقاب. وتستكشف بالخضوع لعزته العقاب، وتستعجل إلى مواعد إجابته الارتقاب، وكأنكم أنتم، عن كرمه قد استغنيتم، أو على الامتناع من الرجوع إليه بنيتم. أما تعلمون كيف كان نبيكم صلوات الله وسلامه عليه من التبلغ باليسير، والاستعداد إلى دار الرحيل الحق والمسير، ومداومة الجوع، وهجر الهجوع، والعمل على الإياب إلى الله والرجوع. دخلت عليه فاطمة رضي الله عنها، وبيدها كسرة شعير، فقال ما هذه يا فاطمة، فقالت يا رسول الله، خبزت قرصة، وأحببت أن تأكل منها، فقال يا فاطمة، أما أنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث. وكان صلى الله عليه وسلم، يستغفر في اليوم سبعين مرة، يلتمس رحماه، ويقوم وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، حتى تورمت قدماه، وكان شأنه الجهاد، ودأبه الجد والاجتهاد ومواقف صبره تعرفها الربى والوهاد. فإذا لم تقتدوا به فبمن تقتدون. وإذا لم تهتدوا بهدية فبمن تهتدون، وإذا لم ترضوه باتباعكم، فكيف تعتزون إليه وتنتسبون، وإذا لم ترغبوا في الاتصاف بصفاته غضباً لله تعالى وجهاداً، وتقللاً من العرض الأدنى وسهاداً ففيم ترغبون، فابتروا حبال الآمال، فكل آت قريب، واعتبروا بمثلات ما دهم من تقدم من أهل البلاد والقواعد، فذهولكم عنها غريب، وتفكروا في منابرها التي كان يعلوها واعظ أو خطيب، ومطيل ومطيب، ومساجدها المتعددة الصفوف، والجماعات المعمورة بأنواع الطاعات، وكيف أخذ الله فيها بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور بما أغمضوا عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله عقبى جميعهم، وذهبت النقمات بعاصيهم، ومن داهن في أمره من مطيعهم، وأصبحت مساجدهم مناصب للصلبان، واستبدلت مآذنهم بالنواقيس من الأذان. هذا والناس ناس، والزمان زمان. فما هذه الغفلة عن من إليه الرجعى وإليه المصير وإلى متى التساهل في حقوقه، وهو السميع البصير، وحتى متى مد الأمل في الزمن القصير وإلى متى نسيان اللجأ إلى الولي النصير. قد تداعت الصلبان مجلبة عليكم، وتحركت الطواغيت من كل جهة إليكم. أفيخذلكم الشيطان وكتاب الله قائم فيكم، وألسنة الآيات تناديكم، لم تمح سطورها، ولا احتجب نورها، وأنتم بقايا من افتحها من عدد قليل، وصابر فيها كل خطب جليل، فوالله لو تمحض الإيمان ورضي الرحمن، ما ظهر التثليث في هذه الجزيرة على التوحيد، ولا عدم الإسلام فيها عزم التأييد. ولكن شمل الداء، وصم النداء، وعميت الأبصار، فكيف الاهتداء، والباب مفتوح، والفضل ممنوح، فتعالوا نستغفر الله جميعاً، فهو الغفور الرحيم، ونستقبل مقيل العثرات، فهو الرؤوف الحليم، ونصرف الوجوه إلى الاعتراف بما قدمت أيدينا، فقبول المعاذير من شأن الكريم. سدت الأبواب، وضعفت الأسباب، وانقطعت الآمال إلا منك يا كريم يا فتاح، يا وهاب. يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين. ولا تهنوا ولا تحزنوا، وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. يا أيها الذين آمنوا، اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون. أعدوا الخيل وارتبطوها

وروضوا النفوس على الشهادة واغبطوها، فمن خاف الموت رضيي بالدنية، ولا بد على كل حال من المنية، والحياة مع الذل ليست من شيم أهل العقول والنفوس السنية، واقتنوا السلاح والعدة، وتعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدايكم، واستميتوا من دون أبنايكم. وكونوا كالبنيان المرصوص لحملات العدو النازل بفنايكم، وحطوا بالتعويل على الله وحجة بلادكم. واشتروا من الله جل جلاله أبيناءكم.وضوا النفوس على الشهادة واغبطوها، فمن خاف الموت رضيي بالدنية، ولا بد على كل حال من المنية، والحياة مع الذل ليست من شيم أهل العقول والنفوس السنية، واقتنوا السلاح والعدة، وتعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدايكم، واستميتوا من دون أبنايكم. وكونوا كالبنيان المرصوص لحملات العدو النازل بفنايكم، وحطوا بالتعويل على الله وحجة بلادكم. واشتروا من الله جل جلاله أبيناءكم.

ذكروا أن امرأة احتمل السبع ولدها. وشكت إلى بعض الصالحين، فأشار عليها بالصدقة فتصدقت، برغيف، فأطلق السبع ولدها. وسمعت النداء يا هذه لقمة بلقمة، وإنا لما استودعناه لحافظون. أهجروا الشهوات، واستدركوا الباقيات من قبل الفوات، وأفضلوا لمساكينكم من الأقوات، واخشعوا لما أنزل الله تعالى من الآيات، وخذوا نفوسكم بالصبر على الأزمات، والمواساة في المهمات، وأيقظوا جفونكم من السنات، واعلموا أنكم رضع ثدي كلمة التوحيد، وجيران البلد الغريب، والدين الوحيد، وحزب التمحيص، ونفر المرام العويص، فتفقدوا معاملتكم مع الله تعالى، فمهما رأيتم الصدق غالباً. والقلب للمولى الكريم مراقباً، وشهاب اليقين ثاقباً، فثقوا بعناية الله التي لا يغلبكم معها غالب؛ ولا ينالكم من أجلها عدو مطالب، وأنكم في الستر الكثيف. وعصمة الخبير اللطيف. ومهما رأيتم الخواطر متبددة، والظنون بالله مترددة، والجهات التي تخاف، وترجى متعددة، والغفلة عن الله ملابسها متجددة. وعادة دواعي الخذلان دايمة، وأسواق الشهوات قايمة. واعلموا أن الله منفذ فيكم وعده ووعيده في الأمم الغافلين، وأنكم قد ظلمتم أنفسكم. ولا عدوان إلا على الظالمين. والتوبة ترد الشارد، والله يحب التوابين، ويحب المتطهرين. وهو القائل: " إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين " . وما أقرب صلاح الأحوال، إذا صلحت العزايم، وتوالت على حزب الشيطان الهزايم، وخملت الدنيا الدنية في العيون، وصدقت فيها عند الله الظنون: " يا أيها الناس إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور " . وتوبوا سراعاً إلى طهارة القلوب، وإزالة الشوب، واقصدوا أبواب الشدايد، ويسد طريق العوايد، فلا تمطلوا بالتوبة أزمانكم، ولا تأمنوا مكر الله، فتغشوا إيمانكم، ولا تعلقوا منابكم بالصرائر. فهو علام السراير، وإنما عليا معاشر الأولياء أن ننصحكم، وإن كنا أولى بالنصيحة. ونعتمدكم بالموعظة الصريحة، الصادرة علم الله عن صدق القريحة. وإن شاركناكم في الغفلة، فقد ناديناكم إلى الاسترجاع والاستغفار، وإنما لكم الدنيا نفس مبدولة في جهاد الكفار. وتقدم إلى ربكم العزيز الغفار، وقتدم لديكم إلى موافق الصبر. التي لا ترضى، بتوفيق الله الفرار، واجتهاد فيما يعود بالحسنى وعقبى الدار، والاختيار لله ولي الاختيار. ومصرف الأقدر وها نحن نسرع في الخروج إلى مجافعه هذا العدو. ونفدى بنفوسنا البلاد والعباد. والحريم المستضعف والأولاد. ونصلى من دونهم نار الجلاد، ونستوهب منكم الدعاء إلى من وعد بإجابته. وتقبل من صرف إليه وجه إنابته. اللهم كنم لنا في هذا الانقطاع نصيراً، وعلى أعدائك ظهيراً، ومن انتقام عبدة الأصنام مجيراً، اللهم قومن ضعفت حيلته، فأنت القوي المعين، وانصر من لا نصير له إلا أنت، إياك نعبد، وإياك نستعين. اللهم ثبت أقدامنا وانصرنا عند تزلزل الأقدام، ولا تسلمنا عند لقاء عدو الإسلام، فقد ألقينا إليك يد الاستلام، اللهم دافع بملايكتك المسومين، عمن ضيقت أرجاؤه، وانقطع إلا منك رجاؤه. اللهم هيئ لضعفائنا، وكلنا ضعيف فقير إليك. ذليل بين يديك حقير، رحمة تروي بالأزمة وتشبع، وقوة تطرد وتستنبع، يا غلاب الغلاب، يا هازم الأحزاب. يا كريم العوايد، يا مفرج الشدايد، ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعلنا ممن تيقظ فتيقظ، وذكر فتذكر، ومن قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم. وقد وردت علينا المخاطبات من قبل إخواننا المسلمين، الذين عرفنا في القديم والحديث اجتهادهم، وشكرنا في ذات الله تعالى جهادهم، بني مرين، أولى الامتعاض الله والحمية، والمخصوصين بين القبائل الكريمة بهذه المزية، بعزمهم على الامتعاض لحق الجوار، والمصارخة التي تليق بالأحرار والنفرة لانتهاك ذمار بيتهم المختار، وحركة سلطانهم محل أخينا بمن له من الأولياء والأنصار، إلى الإعانة على هؤلاء الكفار، ومدافعة أحزاب الشيطان وأهل النار، فاسألوا الله تعالى إعانتهم على هذا المقصد الكريم الآثار، والسعي الضمين للعز والأجر والفخار، والسلام الكريم يخصكم أيها الأولياء ورحمة اله وبركاته. في

الثاني عشر من شهر رمضان المعظم من عام سبع وستين وسبعمائة. عرفنا الله خيره. صح هذا. فكان دفاع الله أقوى، وعصمته أكفى. والحمد لله على عوايده الحسني.ي عشر من شهر رمضان المعظم من عام سبع وستين وسبعمائة. عرفنا الله خيره. صح هذا. فكان دفاع الله أقوى، وعصمته أكفى. والحمد لله على عوايده الحسني.
ومن الغيرة على الدين، وتغير أحوال الملحدين، من مآزق جهاد النفس، ما وقع به العمل من إخماد البدع. وإذهاب الآراء المضلة، والاشتداد على أهل الزيغ الزندقة. وقد أضاقت أرباب هذه الأضاليل الشريعة، وسدت مضرهم في الكافة، فيسلط عليهم الحكام. واستدعيت الشهادات. وأخذهم التشريد، فهل تحس منهم أحداً، أو تسمع لهم ركزاً.
وقيد في ذلك عني مقالات أخرى. منها رسالة الغيرة على أهل الحيرة، ورسالة حمل الجمهور على السنن المشهور. ورسالة أنشدت على أهل الرد. فارتفع الخوض، وكسدت تلك الأسواق الخبيثة. وصم منها الصدا، ووضح نار الهدى، والحمد لله، ولو تتبعت مناقب الهدا، لأخرج ذلك عن الغرض.
الأحداث وفي غرة ذي الحجة كانت الثورة الشنعاء، المجحفة بالدولة، وقد كان السلطان أنذر بطائفة، تداخل بعضه القرابة، فعاجله بالقبض عليه، وهو في محل ولايته، فصفد وأحمل إلى قصبة ألمرية، وخاف أرباب المكيدة افتضاح الأمر، فتعجلوا إبراز الكامن، وإظهار الخبث، وتولى ذلك جملة من بني غرون ذنابي بيت الإدبار، وقد عابهم من بني مطرون، يدور أمرهم على الدليل البركي، فأكذب الله دعوتهم، بعد أن أركبوا الشيخ علياً بن نصر، ونصبوه تلقاء القلعة بباب البنود، ودعوا الناس إلى بيعته. وأخذ السلطان حذره وناصبهم القتال، وأشاع العطا، واستركب الجيش، وعمر الأسوار، فأخفق القصد، وفر الدليل البركي، وتقبض على الرئيس المذكور، وجعل الله العاقبة الحسنة للسلطان.

وكان مما أمليته يومئذ بين يدي السلطان من الكلام المرسل ما هو نصه بعد الصدر: وإلى هذا فمما أفادته القطر السليمة، والحلم والقضا بالشريعة، والنقل الشرعي والسنن المرعى، أن مغلوب، ومزاحم الله مهزوم، ومكابر البرهان بالجهل موسوم، ومرتع الغي مهجور، وسيف العدوان مفلول، وحظ الشيطان موكوس، وحزب السلطان منصور. ولا خفاء بنعمة الله علينا، التي اطردها في المواطن العديدة؛ والهضبات البعيدة. والشبهات غير المبينة، والظلمات الكثيفة، معلن بوفور الحظ من رحمته، وإبراز القداح في مجال كرامته، والاختصاص بسيما اختياره، فجعل العصمة ليلة الحادث علينا من دون مضجع أماناً، ونهج لنا سبيل النجاة بين يدي كسبه علينا، وسخر لنا ظهري الطريف والطريق، بعد أن فرق لنا بحر الليل، وأوضح لنا خفي المسلك، وعبد لنا عاصي الحزم، ودمث غمر الشعراء، وأوطأنا صهوة المنعة، وضرب وجوه الشرذمة المتبعة، بعد أن ركضوا قنيب البراذن البادئة، من خزاين إهداينا، المتجملة بحلى ركبنا؛ وتحملوا السلاح والرياش المختار من أثير صلاتنا، وأبهروا الأنفاس التي طال ما رفعها إيناسنا وأبلغها الريق تأميننا، وصببوا العرق الذي أفضله طعامنا، شرهين إلى دمنا، المحظور بالكتاب والسنة، المحوط بسياج البيعة، المحصن عنهم بتقديم النعمة، وحرمة الأب ومتعدد الأذمة، فجعل الله بيننا وبينهم حاجزاً، وسد ليأجوجهم من المردة مانعاً، وانقلبوا يعضون الأنامل الغضة من سريط جفاننا، ويقلبون الأكف التي أجدبها الدهر، ترفيعاً من المهن المترتبة في خدمتنا، قد حالهم صغار القدر، وذل الخيبة، وكبح الله جماعتهم عن التنفق بتلك الوسيلة. واحتللنا قصبة وادي آش، لا تملك إلا أنفساً، لم يشبها غش الملة، ولا كياد الأمة، ولا دنسها والحمد لله عار الفاحشة، ولا وسمها الشوم في الولاية، ولا أحبط عمل نجابتها دخل اعقيدة، ولا مرض السريرة، مذ سلمنا المقادة لمن عطف علينا القلوب، وصير إلينا ملك أبينا من غير حول ولا حيلة، نرى أنها أملك لحرمتنا، وأعلم بما كنا، وأرحم بنا. فتشبثت بها القدم، وحميت لنا من أهلها، ورعاهم الله الهمم، وصدقت في الذب عنا العزايم، وحاصرنا جيش العدو، وأولياء الشياطين، وظهر الباطل، فيان الظفر والاسقتبال، وظهرت الفية القليلة، والله مع الصابرين، فغلبوا هناك وانقلبوا صاغرين. ومع ما لنا من الضيق، وأهمنا من الأمر، فلم نطلق به غارة، ولا شرهنا إلى تغيير نعمة، ولا سرحنا عنا اكتساح على هجمة، ولا شعنا لبساً في بيت ولا حلة، وأمسكنا الأرماق بيسير الحلال الذي اشتملته خزايننا من أعشار وزكوات، وحظوظ من زراعات، وارتقبنا الفرج ممن محص بالشدة، والإقالة ممن نبه من الغفلة، وألهم الإقلاع والتوبة. ثم وفقنا سبحانه، وألهمنا من أمرنا رشداً، وسلك بنا طريقاً في بحر الفتنة يبساً، فدناه بحقن الدماء، وتأمين الأرجاء، وشكرنا على البلاء، كشكرنا إياه على الآلاء. وخرجنا عن الأندلس، ولقد كاد، لولا عصمته، بأن نذهب مذاهب الزوراء، ونستأصل الشأفة، ونستأصل العرصة، سبحانه ما أكمل صنعه، وأجمل علينا ستره، إلى أن جزنا البحر، ولحقنا بجوار سلطان المغرب، لم تنب عنا عين، ولا شمخ علينا أنف، ولا حمل علينا بركب، ولا هتفت حولنا غاشية، ولا نزع عنا للتقوى والعفاف ستر، بل كان الناس يوجبون لنا الحق الذي أغفله الأوغاد من أبناء دولتنا، والضفادع ببركة نعمتنا، حتى إذا الناس عافوا الصيحة، وتملوا الحسرة، وسيموا الخسار والخيبة، وسامهم الطغام الذين لا يرجون لله وقاراً، ولا يألون لشعايره المعظمة احتقاراً، كلاب الأطماع، وعبدة الطاغوت، ومدبرو حجون الجهل، ومياسيس أسواق البعد عن الرب، وعرايس محرم الزينة، ودود القز، وثغار النهم. الأعزة على المؤمنين بالباطل. الأذلة في أنفسهم بالحق، ممن لا يحسن المحاولة، ولا يلازم الصهوة، ولا يحمل السلاح، ولا ينزه مجتمع الحشمة عن الفحشاء، ولا يطعم المسكين، ولا يشعر بوجود الله، جارا من شقيهم المحرم، على مضعوف ملتف في الحرم المحصور، محتف بلطف المهد، معلل بالخداع، مسلوب الجرأة بأيدي انتهازهم، شؤم على الإسلام، ومعرة في وجه الدين، أخذ الله منهم حق الشريعة، وأنصف أيمة الملة فلم ينشبوا أن تهارشوا، فعض بعضهم، واستأصلهم البغي، وألحم للسيف، وتفنن القتل، فمن بين مجدل، يواري بأحلاس الدواب الوبرة، وغريق

يزف به إلى سوء الميتة، وأستينت حرمة الله، واستضيم الدين، واستبيحت المحرمات، واستبصعت الفروج في غير الرشدة، وسات في عدو الدين الحيلة، فتحركنا عن اتفاق من أرباب الفتيا، وعزم من أولى الحرية، وتحريض من أولى الحفيظة الهمة، وتداحير من الشوكة، وتحريك من وراء البحر من الأمة، فكان ما قد علمتم من تسكين الثايرة وإشكا العديم، وإصمات الصارخ، وشعب الثأي، ومعالجة البلوى، وتدارك القطر، وقد أشفى، وكشف الضر والبأسا أما الحبوة فالتمسها، وجل الرب، واستشاط عليها جو السماء. وأما مرافق البحر ومرافده. فسدت طرقها أساطيل الأعداء. وأما الحمية فبددها فساد السيرة، وغمط الحق، وتفضيل الأذى. وأما المال فاصطلم السفه بيضاءه وصفراءه، وكبس خزاينه حتى وقع الإدقاع والإعدام، وأقوى العامر، وأفتقرت المجابي والمغابن، واغتربت جفون السيوف من حلاها. وجردتموه الآلة إلى أعلاها، والدغل المستبطن الفاضح، ويمحض الحين، وأسلمت للدواء العرصة، وتخربت الثغور من غير مدافعة، واكتسحت الجهات فلم يترك بها نافخ، ووقع القول، وحق البهت، وخذل الناصر، وتبرأتن الأواصر، فحاكمنا العدو إلى النصفة. ولم نقره على الدنية، وبايناه أحوج ما كنا إلى كدحه، وأطمع ما أصبحنا في مظاهرته على الكفار مثله، اعتزازاً بالله، وثقة به، ولجأ إليه وتوكلاً عليه، سبحانه ما أبهر قدرته، وأسرع نصرته، وأودى أمره، وأشد قهره. وركبنا بحر الخطر، بجيش من التجربة وتهدنا قدماً، لا تهاب الهول ولا تراقبه، وأطللنا على أحوازريه في الجمع القليل، إلا من مدد الصبر المفرد، إلا من مظاهرة الله الغفل، إلا من زينة الحق المظلل جناح عقابه يجتاح الروح، تسد جياده بصهيل العز، المطالعة غرره بطليعة النصر. فلما أحس بنا المؤمنون المطهرون بساحتهم انتزوا من عقال الإيالة الظالمة، والدعوة الفاجرة، وتبرأوا من الشرذمة الغاوية. والطايفة المناصبة لله المحارية، وأقبلوا ثنيات وأفراداً، وزرافات ووجداناً. ينظرون بعيون لم ترو من غيبتنا، من محيا رحمة، ولا اكتحلت بمنظر رأفة، ووجوه عليها قسوة الخسلف، وإبشار عليها بوس الجهد، يتعلقون بأذيالنا تعلق الغريق، يئنون من الجوع والخوف أنين المرضى، ويجهشون بالبكاء، ويعلنون لله ولنا بالشكوى، فعرفناهم الشأمان من الأعداء، وأول عارفه جعلونا عليهم، وصرفنا وجه التأمين والتأنيس، وجميل الود إليهم، وخارطناهم الإجهاش والرقعة، ووثبنا لهم من الذلة، واستولينا على دار الملك ببلدهم، فأنزلنا منها أخابيث كان الأشقياء مخلفوهم بها، من أخلاف لا يزال تضأ إبشارهم الحدود، وتأنف من استكفايهم اليهود، وانثالت علينا البلاد، وشكمر الطاغية ذيله عن الجهات، وراجع الإسلام رمق الحياة، وحثثنا السير إلى دار الملك، وقد فرعتها الشقي الغاصب، بشوكة بغيه، التي أمدته في الغي، وأجرته على حرمة الله، وقصد دار قشتالة، بكل ما صانت الحقاق من ذخيرة، وحجبت الأمهاء من خرزة ثمينة يتوعدون المسلمين بإدالة الكفر من الإيمان، واقياد جيوش الصلبان، وشد الحيازم إلى تبديل الأرض غير الأرض، وسوم الدين، وطمس معالم الحق، كياداً لرسول الله في أمته، ومناصبة له في حنيفيته، وتبديلاً لنعمة الله كفراً، ولمعروف الحق نكراً، أصبح له الناس على مثل الرضف، يرتقبون إطلال الكريهة، وسقوط الظلة، وعودة الكرة، وعقبى المعرة، والله من ورائهم محيط، وبما يعلمون محيط، ولدعاء المستضعفين من المؤمنين مجيب، ومنهم وإن قعدوا في أقصى الأرض قريب. ولم نقزف به إلى سوء الميتة، وأستينت حرمة الله، واستضيم الدين، واستبيحت المحرمات، واستبصعت الفروج في غير الرشدة، وسات في عدو الدين الحيلة، فتحركنا عن اتفاق من أرباب الفتيا، وعزم من أولى الحرية، وتحريض من أولى الحفيظة الهمة، وتداحير من الشوكة، وتحريك من وراء البحر من الأمة، فكان ما قد علمتم من تسكين الثايرة وإشكا العديم، وإصمات الصارخ، وشعب الثأي، ومعالجة البلوى، وتدارك القطر، وقد أشفى، وكشف الضر والبأسا أما الحبوة فالتمسها، وجل الرب، واستشاط عليها جو السماء. وأما مرافق البحر ومرافده. فسدت طرقها أساطيل الأعداء. وأما الحمية فبددها فساد السيرة، وغمط الحق، وتفضيل الأذى. وأما المال فاصطلم السفه بيضاءه وصفراءه، وكبس خزاينه حتى وقع الإدقاع والإعدام، وأقوى العامر، وأفتقرت المجابي والمغابن، واغتربت جفون السيوف من حلاها. وجردتموه الآلة إلى أعلاها، والدغل المستبطن الفاضح، ويمحض الحين، وأسلمت للدواء العرصة، وتخربت الثغور من غير مدافعة، واكتسحت الجهات فلم يترك بها نافخ، ووقع القول، وحق البهت، وخذل الناصر، وتبرأتن الأواصر، فحاكمنا العدو إلى النصفة. ولم نقره على الدنية، وبايناه أحوج ما كنا إلى كدحه، وأطمع ما أصبحنا في مظاهرته على الكفار مثله، اعتزازاً بالله، وثقة به، ولجأ إليه وتوكلاً عليه، سبحانه ما أبهر قدرته، وأسرع نصرته، وأودى أمره، وأشد قهره. وركبنا بحر الخطر، بجيش من التجربة وتهدنا قدماً، لا تهاب الهول ولا تراقبه، وأطللنا على أحوازريه في الجمع القليل، إلا من مدد الصبر المفرد، إلا من مظاهرة الله الغفل، إلا من زينة الحق المظلل جناح عقابه يجتاح الروح، تسد جياده بصهيل العز، المطالعة غرره بطليعة النصر. فلما أحس بنا المؤمنون المطهرون بساحتهم انتزوا من عقال الإيالة الظالمة، والدعوة الفاجرة، وتبرأوا من الشرذمة الغاوية. والطايفة المناصبة لله المحارية، وأقبلوا ثنيات وأفراداً، وزرافات ووجداناً. ينظرون بعيون لم ترو من غيبتنا، من محيا رحمة، ولا اكتحلت بمنظر رأفة، ووجوه عليها قسوة الخسلف، وإبشار عليها بوس الجهد، يتعلقون بأذيالنا تعلق الغريق، يئنون من الجوع والخوف أنين المرضى، ويجهشون بالبكاء، ويعلنون لله ولنا بالشكوى، فعرفناهم الشأمان من الأعداء، وأول عارفه جعلونا عليهم، وصرفنا وجه التأمين والتأنيس، وجميل الود إليهم، وخارطناهم الإجهاش والرقعة، ووثبنا لهم من الذلة، واستولينا على دار الملك ببلدهم، فأنزلنا منها أخابيث كان الأشقياء مخلفوهم بها، من أخلاف لا يزال تضأ إبشارهم الحدود، وتأنف من استكفايهم اليهود، وانثالت علينا البلاد، وشكمر الطاغية ذيله عن الجهات، وراجع الإسلام رمق الحياة، وحثثنا السير إلى دار الملك، وقد فرعتها الشقي الغاصب، بشوكة بغيه، التي أمدته في الغي، وأجرته على حرمة الله، وقصد دار قشتالة، بكل ما صانت الحقاق من ذخيرة، وحجبت الأمهاء من خرزة ثمينة يتوعدون المسلمين بإدالة الكفر من الإيمان، واقياد جيوش الصلبان، وشد الحيازم إلى تبديل الأرض غير الأرض، وسوم الدين، وطمس معالم الحق، كياداً لرسول الله في أمته، ومناصبة له في حنيفيته، وتبديلاً لنعمة الله كفراً، ولمعروف الحق نكراً، أصبح له الناس على مثل الرضف، يرتقبون إطلال الكريهة، وسقوط الظلة، وعودة الكرة، وعقبى المعرة، والله من ورائهم محيط، وبما يعلمون محيط، ولدعاء المستضعفين من المؤمنين مجيب، ومنهم وإن قعدوا في أقصى الأرض قريب. ولم نق

م مذ حللنا بدار الملك شيئاً على مراسلة صاحب قشتالة في أمره، نناشده العهد، ونطري له الوفاء، ونناجزه إلى الحق، ونقوده إلى حسن التلطف، إلى الذي نشاء من الأمن، فحسم الداء، واجتث الأعداء، وناصح الإسلام وهو أعدا عدوه، وحزم الدين، وهو المعطل من أدوايه، وصارت صغرى عناية الله بنا، التي كانت العظمى، واندرجت أولاها في الأخرى، وأتت ركايب اليمن واليمين، تترى، ورأى المؤمنون أن الله لم يخلق هذا الصقع سدى ولا هباء عبثاً، وأن له فينا خبيثة غيب، وسر عناية، ويبلغنا إياها، ويطوقنا طوقها، لا مانع لعطايه، ولا معدد لآلايه، له الحمد ملئ أرضه وسمايه.

فمن اضطردت له هذه العجايب، فحملته عوايق الاستقامة مزية جيوب التقوى، كيف لا يتمنى، ويدين لله بمناصحته، ويحذر عناد الله بمخالفته، ويخشى عاقبة أمره، إنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فقلمنا أظفار الطالبة وأغضينا عن البقية وسوغنا من كشف وجهه في حربنا نعمة الإبقاء وأقطعنا رحم من قطع طاعتنا جانب الصفح، وأدررنا لكثير ممن شح عنا ولو بالكلمة الطيبة جورية الرزق، ووهنا ما وجب لنا من الحق، ودنا له بكظم الغيظ؛ وعمرنا الرتب بأربابها، وجردنا الألقاب بعد خرابها، وقبضتا الجباية محملة كتد العادة، مقودة بزمام الرفق. ممسوحاً عطفها بكف الطواعية. فبللنا صدأ الجيش الممطول بالأماني، المعلل بالكذب، المستخدم في الذب عن مجاثم الفحشاء، ومراقد العهر، ودارينا الأعداء، وحسمنا الداء، وظهر أمر الله وهم كارهون. إلا أن تلك الشرذمة الخبيثة، أبقت جراثيم نفاق، ركبها انحجار الغدر، وبذر بها حصيد الشر، وأخلطوا الحقايب اللعنة ممن ساء ظنه، وخبث فكره، وظن أن العقاب لا يفلته، والحق لا يذره، والسياسة لا تحفزه، فدبت عقاربهم، وتدارت طوافاتهم، وتأبت فسادهم، فدبروا أمراً تبره الله تتبيراً، وأوسعه خزياً وبيلا، وجفلوا يرتادون من أذيال القرابة، من استخلصه الشيطان وأصحبه الخذلان، من لا يصلح لشيء من الوظائف، ولا يستقل ببعض الكلف، فحركوا منهم زاهق زمانه، من شر الدواب الذين لا يسمعون، فأجرهم رسنه، وتوقف وقفة العين بين الورد والصدر. بخلال ما أطلعنا الله طلع نيته، فعاجلناه بالقبض، واستودعناه مصفداً ببعض الأطباق البعيدة، والأجباب العميقة، فخرج أمرهم، وخافوا أن نحترش السعايات، صباب مكرهم، وتتبع نفاقهم، فأقدموا إقدام العير على الأسد، استعجالاً للحين، ورجعاً لحكم الخيار، وإقداماً على التي هي أشد، تولي كبرها، وكشف وجهه في معصيتها الخبيث البركي حلف التهور والخرق، المموه بالبسالة وهو الكذوب النكوث الفلول، تحملنا هفوته، وتغمدنا بالعفو قديماً وحديثاً زلته، وأعرضنا فيه عن النصيحة، وأبقينا له حكم الولاية، وأنسنا من نفرته، وتعاففنا عن غرته، وسوغنا الجرايم التي سبقت، والجراير التي سلفت، من إفساد العهد وأسر المسلمين، والافتيات على الشرع، والصدوع بدعوى الجاهلية، فلم يفده، إلا بطراً، ولم يزده إلا مكراً، والخير في غير أهله يستحيل شراً، والنفع ينقلب ضراً. والتفت عليه طايفة من الخلايق بنو غرون قرعاء الجبل والمشأمة. وأذناب بيت الإدبار، ونفاية الشرار، عرك جرأتهم مكان صهرهم البائس، ابن بطرون، الضعيف المنة السقيط الهمة، الخامل التفصيل والجملة، وغيرهم ممن يأذن الله بضلال كيدهم وتخييب سعيهم، فاقتحموا البلد صبيحة يهتفون بالناس أن قد طرق حكامهم، وأن العدو قد دهمهم، ملتفتين يرون أنهم في أذيالهم، وأن رماحهم تنهشهم وتنوشهم، وسرعانهم ترهقهم، كأنهم سقطوا من السماء، أو ثاروا من بين الحصباء. ثم جالوا في أزقة البلد يقذفون في الصفاح نار الحباحب ركضاً فوق الصخر المرصوف، وخوضاً في الماء غير المرهوف، ثم قصدوا دار الشيخ البايس علي بن أحمد بن نصر، نفاية البيت، ودردى القوم، ممسوخ الشكل، قبيح اللتغ ظاهر الكدر، لإدمان المعاقرة، مزنون بالمعاقرة والربت على الكبرة ساقط الهمة. عديم الدين والحشمة، منتمت في البخل والهلع، إلى أقصى درجات الخسة، مثل في الكذب والنميمة، معيب المثانة. لا يرق بوله، واليجف سلسه، فاستخرجوه مبايعاً في الخلافة، منصوباً بأعلى كرسي الإمامة، مدعوماً بالأيدي لكونه قلقاً لا يثبت على الصهوة مختاراً لحماية البيضة. والعدل في الأمة، مغتما للذب عن الحنيفية السمحة، وصعدوا به إلى ربوة بإزاء قلعتنا، منتترا باب البنود، مستندا إلى الربض. مطلاً على دار الملك، قد أقام له رسم الوزارة ابن مطرون الكاري، الكسح الدروب برسم المسومة، الحرد، المهين الحجة، فحل طاحوثة الغدر، وقدر السوق والخيانة، واليهودي الشكل والنحل، وقرعتن حوله طبول الأعراس، إشادة بخمول أمره، واستهجان آلته، ونشرت عليه راية فال رأيها، وخلب سعيها ودارت به زعنفة من طغام من لا يملي ولا يزيد المكا والصغير من حيله، وأنبث في سكك البلد مناديه، وهتف أوليا باطله باسمه وكنيته. وانتجزوا مواعيد الشيطان فأخلفت، ودعوا سماسير الغرور فصمت، وقدحوا زناد الفتنة فصلدت وما

أوارت. ولحين شعرنا بالحادثة، ونظرنا إلى مرج الناس، واتصل بنا ريح الخلاف، وجهير الخلعان، استعنا بالله وتوكلنا عليه، وفوضنا أمرنا إلى خير الناصرين، وقلنا ربنا افتح بيننا وبين قومن ا بالحق، وأنت خير الفاتحين، واستركبنا الجند وأذعنا خبر العطاء، وأطلقنا بريح الجهاد، ونفير الجلاد، وملأنا الأكف بالسلاح، وعمرنا الأبارج بالرجال، وقرعنا طبول الملك، ونشرنا ألوية الحق؛ واستظهرنا بخالصة الأمراء أولياء الدعوة، وخاطبنا فقيه الربض، نخبر مخبره؛ ونسبر غوره، فالفيناه متوارياً في وكره، مرعيا على دينه، مشفقاً من الإخطار برمه، مشيراً بكمه. وتفقدنا البلد، فلم نرتب بأحد من أهله. فلما كملت البيعة، وفخمت الجملة، أنهدنا الجيش، ولي أمرنا، الذي اتخذناه ظهيراً؛ واستنبطناه مشيراً، والتزمناه جليساً وصهيراً. ولم ندخر عنه محلا أثيراً، الشيخ الأجل، أبا سعيد عثمان بن الشيخ أبي زكريا يحيى بن عمر بن رحو، ممهد الرعب بقدومه، والسعد في خدمتنا بخدمه، في جيش كثيف الحملة، سابغ العدة، مزاح العلة، وافر الناشية، أخذ بباب الربض وشعابه، ولف عليه أطنابه، وشرع إليه أمله. ولم يكن إلا كلاً ولا حتى داسه بالسنابك، وتخلفه مجر العوالي، ومجرى السوابق، وهو الحمى الذي لا يتوعد، والمجد الذي لا يغرب، فلولا تظاهر مشيخته بشعار السلم؛ واستظلاله بظلال العافية، لحث الفاقرة، ووقعت به الرزية. وفر الأعداء لأول وهلة، وأسلموا شقيهم أذل من تد في قاع، وسلحفة في أعلى يفاع، فتقبض عليه، وأخذت الخيل أعقاب الغدرة أشياعه، وقيد إلينا يرسف في قيد المهزم، ثعبان مكيدة، وشكية ضلال مظنة فضيحة، وأضحوكة سمر. فتضرع بين أيدينا، وأخذته الملامة، وعلاه الخزي، وثل إلى المطبق، حتى نستدعي حكم الله في جرمه، ونقتضي الفتيا في جريرته، ونختار في أقسام ما عرضه الوحي من قتلته. وهدأت الثايرة، والحمد لله من يومها، واجتثت شجرة الخلاف من أصلها، فالحمد لله الذي أتم نوره ولو كره الكافرون " إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون " . وماذا رأيهم منا، أصغر الله منقلهم، وأخزى مردهم، وأستأصل فلكهم،. أولا يتبنى أمر وارثه. ثم عوده إلينا طواعية، ثم رفعنا وطأة العدو وحربه، ومددنا ظلال الأمن دفعة، وأنفأنا رمتي الثغور، حين لم يجدوا حيلة إلا ما عرفوا من أمنه، وبلوا من حيطته وتسوغاً من هدنه، وانسحبت فوق آمالهم وحريمهم من عفة. وأظهر الله علينا من نعمة. ربنا أنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم ألبسنا سريرتنا، وعاملنا بدخلتنا فيهم، وإن كنا أردنا لجماعتهم شراً، وفي دينهم إغماضاً، وعن العدل فيهم عدولاً، فعاملنا بحسب ما تبلوه من عقيدنا، وتستكشفه من خبيئتنا، وإن كنت تعلم صحة مناصحتنا لسوادهم؛ واستنفادنا الجهد في إتاحة عافيتهم، ورعى صلاحهم، وتكيف آمالهم، فصل لنا عادة صنعك فيهم، ومسلنا طاعتهم، واهدبنا جماعتهم، وارفع بنظرنا إطاعتهم، يا أرحم الراحمين.رت. ولحين شعرنا بالحادثة، ونظرنا إلى مرج الناس، واتصل بنا ريح الخلاف، وجهير الخلعان، استعنا بالله وتوكلنا عليه، وفوضنا أمرنا إلى خير الناصرين، وقلنا ربنا افتح بيننا وبين قومن ا بالحق، وأنت خير الفاتحين، واستركبنا الجند وأذعنا خبر العطاء، وأطلقنا بريح الجهاد، ونفير الجلاد، وملأنا الأكف بالسلاح، وعمرنا الأبارج بالرجال، وقرعنا طبول الملك، ونشرنا ألوية الحق؛ واستظهرنا بخالصة الأمراء أولياء الدعوة، وخاطبنا فقيه الربض، نخبر مخبره؛ ونسبر غوره، فالفيناه متوارياً في وكره، مرعيا على دينه، مشفقاً من الإخطار برمه، مشيراً بكمه. وتفقدنا البلد، فلم نرتب بأحد من أهله. فلما كملت البيعة، وفخمت الجملة، أنهدنا الجيش، ولي أمرنا، الذي اتخذناه ظهيراً؛ واستنبطناه مشيراً، والتزمناه جليساً وصهيراً. ولم ندخر عنه محلا أثيراً، الشيخ الأجل، أبا سعيد عثمان بن الشيخ أبي زكريا يحيى بن عمر بن رحو، ممهد الرعب بقدومه، والسعد في خدمتنا بخدمه، في جيش كثيف الحملة، سابغ العدة، مزاح العلة، وافر الناشية، أخذ بباب الربض وشعابه، ولف عليه أطنابه، وشرع إليه أمله. ولم يكن إلا كلاً ولا حتى داسه بالسنابك، وتخلفه مجر العوالي، ومجرى السوابق، وهو الحمى الذي لا يتوعد، والمجد الذي لا يغرب، فلولا تظاهر مشيخته بشعار السلم؛ واستظلاله بظلال العافية، لحث الفاقرة، ووقعت به الرزية. وفر الأعداء لأول وهلة، وأسلموا شقيهم أذل من تد في قاع، وسلحفة في أعلى يفاع، فتقبض عليه، وأخذت الخيل أعقاب الغدرة أشياعه، وقيد إلينا يرسف في قيد المهزم، ثعبان مكيدة، وشكية ضلال مظنة فضيحة، وأضحوكة سمر. فتضرع بين أيدينا، وأخذته الملامة، وعلاه الخزي، وثل إلى المطبق، حتى نستدعي حكم الله في جرمه، ونقتضي الفتيا في جريرته، ونختار في أقسام ما عرضه الوحي من قتلته. وهدأت الثايرة، والحمد لله من يومها، واجتثت شجرة الخلاف من أصلها، فالحمد لله الذي أتم نوره ولو كره الكافرون " إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون " . وماذا رأيهم منا، أصغر الله منقلهم، وأخزى مردهم، وأستأصل فلكهم،. أولا يتبنى أمر وارثه. ثم عوده إلينا طواعية، ثم رفعنا وطأة العدو وحربه، ومددنا ظلال الأمن دفعة، وأنفأنا رمتي الثغور، حين لم يجدوا حيلة إلا ما عرفوا من أمنه، وبلوا من حيطته وتسوغاً من هدنه، وانسحبت فوق آمالهم وحريمهم من عفة. وأظهر الله علينا من نعمة. ربنا أنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم ألبسنا سريرتنا، وعاملنا بدخلتنا فيهم، وإن كنا أردنا لجماعتهم شراً، وفي دينهم إغماضاً، وعن العدل فيهم عدولاً، فعاملنا بحسب ما تبلوه من عقيدنا، وتستكشفه من خبيئتنا، وإن كنت تعلم صحة مناصحتنا لسوادهم؛ واستنفادنا الجهد في إتاحة عافيتهم، ورعى صلاحهم، وتكيف آمالهم، فصل لنا عادة صنعك فيهم، ومسلنا طاعتهم، واهدبنا جماعتهم، وارفع بنظرنا إطاعتهم، يا أرحم الراحمين.

ولما أسفر صبح هذا الصنع عن حسن العفو، وأستقر على التي هي أزكى، وظهر لنا لا تخاف بالله دركا ولا تخشى، وأن سبيل الحق أنجى ومحجته أحجى، خاطبناكم تجلو نعم الله قبلنا عليكم، ونشيد بتقوى الله بناديكم، وعنايته لدينا ولديكم، ونهدي طرف صنعه الجميل قبلنا إليكم ليكسبكم اعتباراً، فزجوا الله وقارا، وتزيدوا يقيناً واستبصاراً، وتصفوا العين من اختار لكنم اختيارا. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم. كتب في كذا. والسلام عليكم ورحمت الله وبركاته. صح هذا
الجهاد في شعبان

من عام سبعة وستين وسبعمائة
اقتضى نظر الحزم، ورأى الاجتهاد للإسلام، إطلاق الغارات على بلد الكفرة من جميع جهات المسلمين، فعظم الأثر، وشهر الذكر، واكتسحت الماشية، وألحم السيف. وكان ثغر برغة، الفايزة به يد الكفرة، لهذا السنين القريبة، قد أهم القلوب، وشغل النفوس، وأضاق الصدور، لانبتات مدينة رندة، بحيث لا يخلص الطيف، ولا تبلغ الرسالة من الطير وغيرها إلى ناحية العدو. فوقع العمل على قصده، واستعانة الله عليه، واستنفر لمنازلته أهل الجهات الغربية من مالقة ورندة، وما بينهما، ويسر الله في فتحه، بعد قتال شديد، وحرب عظيمة، وجهاد شهير، واستولى المسلمون عليه، فامتلأت أيديهم أثاثاً وسلاحاً ورياشاً وآلة، وطهرت للحين مساجده، وزينت بكلمة الله مشاهده وأنست بالمؤمنين معاهده ورتبت فيه الحماة والرماة، والفرسان الكماة، واتصلت بفتحة الأيدي، وارتفعت العوايق، وأوضحت بين المسلمين وأخوانهم السبل، والحمد لله. وتوجهت بفتحه الرسايل، وعظمت المنن الجلايل، وفر العدو لهذا العهد عن حصن السهلة، من حصون الحفرة اللويشية، وسد الطريق الماثلة، وذلك كله في العشر الأوسط لشعبان من هذا العام. ثم أجلب المسلمون في يرندة في أخرياته وقصدوا باغة وجيرة فاستنزلوا أهلها، وافتتحوها، فعظمت النعمة، واطرد الفتح، واتسعت الجهة.
وكانت مما خوطبت به الجهة المرينية من إملائي:

المقام الذي نبشره بالفتح ونحييه، ونعيد له خبر المسرة بعد أن نبديه؛ ونسأل الله أن يضع لنا البركة فيه. ونشرك مساهمته فيما نهصره من أغصان الزهور ونجنيه ونعلم أن عزة الإسلام وأهله أسنى أمانيه، وإعانتهم أهم ما يعنيه. مقام محل أخينا الذي نعظم قدره، ونلتزم بره، ونعلم سره في مساهمة المسلمين وجهره؛ السلطان الكذا، الذي أبقاه الله في عمل الجهاد ونيته؛ متكلفة بنشر كلمة الله طويته، متممة من ظهور الدين الحنيف أمنيته، معظم جلاله، ومجزل ثنايه، ومؤمل عادة احتفاله بهذا الوطن الجهادي واعتنايه، أيد الله أمره، وأعز نصره. سلام كريم عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله، واصل سبب الفتوح، ومحزل مواهب النصر الممنوح. ومؤيد الفية القليلة بالملايكة والروح، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيه، الآتي بنور الهدى بين الوضوح، الداعي من قبوله ورضوانه إلى المنهل المورود والباب المفتوح، الرضا عن آله وأصحابه، أسود السروج، وجماة السروج، والمقتفين نهجه في جهاد عدو الله بالعين القارة والصدر المشروح، والدعاء لمقامكم العلي بالعز الرفيع الصروح فإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم سبوغ المواهب، ووضوح المذاهب وعزة الجانب، وظفرة الكتايب، من حمراء غرناطة حرسها الله، ونعم الله واكفة السحايب، كفيلة بنيل الرغايب، والله يصل لنا ولكم عوارف اللطايف، ويجعل الشهيد دليلاً على الغايب. وإلى هذا وصل الله إزازكم، وحرس أحوازكم وعمر بالحقيقة من أمراد مجازنا ومجازكم. فإنا بادرنا تعريفكم بما فتح الله علينا من الثفر العزيز على الإسلام، العايد رزؤه الفادح على عبادة الأصنام، ركاب الغارات، وممكن حياة المضرات، ومخيف الطريق السابلة؛ والمسارح الآهلة، حصن برغة ويسر الله في استرجاعه مع شهرة امتناعه، وتطهر من دنس الكفار وأنيرت مئذنته بكلمة الشهادة الساطعة الأنوار، وعجلنا ذلك على حين وضعت الحرب فيه أوزارها، ووفت الأوتار أوبارها، فسار الكتاب إليكم، وأجير الأجر لم يجف عرقه، وعذر الاستعجال لأحبة طرقه. ولما عدنا إلى حضرتنا، بعد ما حصناه وعمرناه، وأجزلنا نظر الحزم له وفرقناه. لم تكد البنود لمسرة فتحه أن تعاد إلى أماكن صوتها، مرتقبة عادة الله ف يعونها، حتى طرقت الأنباء السارة بتوالي الصنع وانفراده بتشفيع أفراده، وذلك أن أهل رندة حرسها الله، نافسوا جيرانهم من أهل مالقة، كان الله لجميعهم، وتولى شكر صنيعهم، فيما كان من امتيازهم بحصن برغة، الجار المصاقب لها، فحميت هممهم السنية، وهانت في الله موارد المنية، وتضافر العمل والنية، وظهر نجح المقاصد الدينية في إتاحة الفتح الهنية، فوجهوا نحو حصن وحبر، وهو الداين صحر المدينة ونحرها. والعدو الذي لا يفتر عن ضرها، والحية الذكر التي هي مروان أمرها؛ ففتحوه بعون الله وقوته، وتهنوا بعده سلوك الطريق، وإشاعة الريق، ومراصد الحرس. ومجلوا الجرس، وأنصفوا، وانصرفوا إلى حصن باغة، من مشاهد تلك الحفرة، فناشبوه القتال، وأذاقوه الوبال، وفوقوا إليه النبال، ففتحة الله فتحاً هيناً. لم تفت فيه للمسلمين نفس ولا تطرق لنصر التيسير لبس، فقابلنا بها لشكر هذه النعم المتوالية، والمنن المتقدمة والتالية. و أعدنا الأعلام إلى مراكزها المشرفة المراقب، والطبول إلى قرعها عملاً من الإشارة بالواجب، وشكرنا الله على اتصال المواهب، ووضوح المذاهب، وخاطبنا مقامكم الذي ترى الصنايع متواترة بنيته الصالحة وقصده، ويعتد في الحرب والسلم بمجده، علماً بأن هذه المسرات، نصيبكم منها النصيب الأوفى؛ وارتياحكم أي لمثلها لا يخفى، ونحن نرقب ما تنجلي عنه هذه النكايات، التي تفتت كبد العدو تناليها، وتروع أحوازه وما يليها، ولا بد له من امتعاض يروم به صرع المعرة، ويأبى الله أن ذلك يأتي بالكرة، والله يجعلها محركان لحتفه المرقوب، وحينه المجلوب، ويحقق حق القلوب، في نصرة المطلوب، عرفنا كم بما تريدون عملاً بواجب بركم، ومعرفة بقدركم، وما يتزايد نعرفكم به، ويتصل سبب التأكيد والتعجيل بسببه والسلام.
الغزاة إلى حصن أشر

وفي أوائل شهر رمضان بعده. أعمل السلطان الحركة السعيدة إلى حصن أشر، وهو قفل الثغر الذي فضه الطاغية، وسورها الذي فرغه الكفر. وجارحه المحلق على البلاد. والمتحكم لو لا فضل الله في الأموال والأولاد، فتأذن الله برد مغتصبه، والشفا من وصبه، وأحاط به وناصبه الحرب، ففتحة الله على يده عنوة. على سمو ذروته، وبعد صيته وشهرته، واختيار الطاغية في حاميته بعد حرب لم يسمع بمثله، فاز بمزية الحمد فيها السلطان، لمباشرته إياها بنفسه، وحمل كلها فوق كاهله، واتقاد ما خمد من الحمية بتحريضه. ثم لما كان بعد الفتح من استخلاص القصبة وسد ثلمها بيده، ومصابرة جمو القيظ عامة يومه، فجاز ذكراً جميلاً وحل من القلوب محلا أثيراً، ورحل منها، بعد أن أسكن بها من الفرسان رابطة متخيرة، ومن الرماة جملة، وتخلف سلاحاً وعدة، فكان الفتح على المسلمين. في هذا المعقل العزيز عليهم جليلاً، والمن من الله جزيلا، والصنع كثيراً. في هذا المعقل العزيز عليه جليلاً، والمن من الله جزيلا، والصنع كثيراً، وصدرت الخاطبة للمغرب بذلك، على الأسلوب المرسل الخلي من السجع الغني.
الغزاة المعملة إلى أطريرة في شهر شعبان من عام ثمانية وستين وسبعمائة، كانت الحركة إلى مدينة أطريرة بنت إشبيلية. وبلدة تلك الناحية الآمنة. مهاد الهدنة البعيدة عن الصرمة، حرك إليها بعد المدى،وآثرها بمحض الردى، من بين بلاد العدا، ما أسلف به أهلها المسلمين، من قتل أسراهم في العام قبله. فنازلها السلطان أول رمضان، وناشبها الحرب واستباح المدينة وربضها عنوة. ولجأ أهلها إلى قصبتها المنيعة، ذات الأبراج المشيدة، وأخذ القتال بمخنقهم، وأعان الزحام على استنزالهم، فاستتنزلوا على حكم المسلمين، فيما يناهز خمسة، بما لم يتقدمه عهد؛ ولا اكتحلت به في هذه المدة عين. ولا تلقته عنها أذن، وامتلأت أيدي المسلمين، بما لم يعالمه إلى الله، من شتى الغنايم، وأنواع الفوايد، واقتسم الناس السبي رنعاً على الأكفال والظهور، وتقديرا بقدر الرجال، وحملا فوق الظهور للفرسان، وعمرانا للسروج والأعضاد بالصبية، وبرز الناس إلى ملاقاة السلطان. في هول من العز شهير من الفخر، وبعيد من الصيت، قرت له أعينهم، وقعد لبيعتهم أياماً تباعاً، وملأبهم البلاد هدايا وتحفاً والحمد لله وصدرت المخاطبة بذلك إلى السلطان بالمغرب بما نصه من الكلام المرسل من إنشائي.
الغزاة إلى فتح جيان وفي آخر محرم من عام تسعة وستين وسبعمائة، كانت الحركة الكبرى إلى مدينة جيان، إحدى دور الملك، ومدن المعمود، وكرسية الإمارة، ولوان المدن الشهيرة، افتتحها الله عنوة، ونقل المسلمون ما اشتملت عليه من النعم والأقوات والأموال والأنعام والأثواب والدواب والسلاح، ومكنهم من قتل المقاتلة، وسبي الذرية، وتخريب الديار، ومحو الآثار، واستنساف النعم، وقطع الأشجار. وهذا الفتح خارق. تعالى أن يحيط به النظم والنثر، فذكره أطير، وفخره أشهر، وصدرت في ذلك المخاطبة من إملائي إلى ملك المغرب. وأصاب الخلق عقب القفول في هذه الغزاة. مرض وافد، فشا في الناس كافة، وكانت عاقبته السلامة، وتدارك الله بلطفه، فلم يتسع المجال لإنشاد الشعراء، ومواقف الإطراء، إلى شغل عن ذلك.
الغزاة إلى مدينة أبدة وفي أو لربيع الأول من هذا العام، كان الغزو إلى مدينة أبدة، واحتل بظاهرها جيش المسلمين، وأبلى السلطان في قتالها، وقد أخذت بعج جارتها جيان أقصى أهبة. واستعدت بما في الوسع والقوة، وكانت الحرب بها مشهورة. وافتتحها للمسلمون فانتهبوها، وأعفوا مساكنها العظيمة البناء، وكنايسها العجيبة المرأى، وألصفوا أسوارها بالثرى، ورأوا من سعة ساحتها، وبعد أقطارها، وضخامة بناها، ما يكذب الخبر فيه المرأى، ويبلد الأفكار، ويحير النهي. ولله الحمد على آلايه التي لا تحصى. وقفل المسلمون عنها، وقد أخربوها، بحيث لا تعمر رباعها، ولا تأتلف حجورها وجموعها. وصدرت المخاطبة بذلك إلى صاحب المغرب من إنشائي بما نصه:

وإلى هذا العهد جرت الحادثة على ملك قشتالة، بطره بن أدفونش بن هراندة بن شانجه، وهو الذي تهيأ به الكثير من الصنع للمسلمين، بمزاحمة أخيه أندريق في الملك وتضييقه عليه، وحياز سبعة من كبار أصحابه، وأهل ملته إليه، وافتقار بطره المذكور إلى إعانة المسلمين، وإجلابهم على من آثر طاعته ضده، فانهزم بظاهر حصن منتيل، ومعه عدد من فرسان المسلمين، ولجأ إلى الحصن على غير أهبة ولا استعداد، فأخذ أخوه الذي هزمه بمخنقه، وأدار على الحصن البنا، وفر جيش المحصور، فاجتمع فله بأحواز أبدة، وراسلوا المسلمين في مظاهرتهم على استنقاذهم، فتوجهت الفتيا بوجوب ذلك. ووقع الاستنفار والاحتشاد حرصاً على تخليثه، لسبب بقاؤه بقاء الفتنة تستأصل الكفر، ونشغل بعض العدو ببعضه.

وفي أثناء هذه المحاولة تباطن الحاين المحصور بمن معه، وبعد عليه الخلاص من ورطته، ومساهمة المسلمين إياه في محنته؛ وانقطعت عنه الأنباء بفرج من كربته، فداخل بعض أمراء أخيه وظهراه، ممن يباشر حصاره، وكان قومساً شهيراً من المدد الذي ظاهره، من أهل إفرنسية، ووعده بكل ما يطمع من مال ومهد، وتوفية عهد. فأظهر له القبول وأضمر الخديعة. ولما نزل إليه سجنه ومن لحق به من الأدلاء وأولى الحرة بالأرض وأمسكه، وقد طير الخبر إلى أخيه، فأقبل في شرذمة من خواصه وخدامه، فهجم عليه وقتله، وأوس العفو من كان محصوراً معه، وطير إلى البلاد برأسه، وأوغر التبن في جثته، ولبس ثياب الحزن من أجله، وإن كان معترفاً بالصواب في قتله، وخاطب البلاد التي كانت على مثل الجمر من طاعة، الجاهر بمظاهرة المسلمين، وما جر ذلك من افتتاح بلادهم، وتخريب كنايسهم، والإتيان على نعمهم، فأجابته ضربة، وانفقت على طاعته، فلم يختلف عليه منها اثنان، إلا ما كان من مدينة قرمونة. واجتمعت كلمة النصارى، ووقع ارتفاع شتاتهم، وصرفوا وجوههم إلى المسلمين، وشاع استدعاؤهم جميع من بأرض الشرق من العدو والثقيل ببرجلونة، وعدو الأشبونة، والعدو الثقيل الوطأة بإفرانسية. وقد كان الله جل جلاله، ألهم أهل البصاير النظر في العواقب، والفكر فيما بعد اليوم أعمل. ووقع لي إذن السلطان، المخلى بيني وبين النصائح، في مخاطبة سلطان النصارى المنكوب لهذا العهد، فأشرت عليه بالاحتراز من قومه، والتفطن لمكايد من يحطب في حبل أخيه، وأريته اتخاذ معقل بحرز ولده وذخيرته، ويكون له به الخيار على دهره، واستظهرت له على ذلك بالحكايات المتداولة، والتواريخ المعروفة، لتتصل الفتنة بأرضهم، فقبل الإشارة وشكر النصيحة، واختار لذلك مدينة قرموتة، المختصة بالجوار المكتب، من دار ملكهم إشبيلية، فشيد هضابها، وحصن أسوارها، وملأها بالمخازن طعاماً وعدة، واشتكثر من الآلات، واستظهر عليها بالثقات، ونقفل إليها المال والذخيرة، وسجن بها رهان أكابر إشبيلية، وأسرى المسلمين، وبالغ في ذلك، فيما الغاية وراءه ولا مطمع، ولا ينصرف إلى مصرعه الذي دعاه القدر إليه، حتى تركها عدة خلقه، وأودع بها ولده وأهله، ولجأ إليها بعض من خدامه من لا يقبل مهدنة ضده، ولا يقر أمان عدوه، والتقوا على صغير من ولده كالنحل على شهده، ولجأوا إلى المسلمين، فبغض عليهم الكرة والفتح بقاء هذا الشجي، المعترض في حلقه، وأهمه تغيير أمره، وجعجع به المسلمون لأجله. وأظهروا لمن انحاز بقرمونة. الامتساك بعهده، فعظم الخرق، وأظهر الله نجح الحيلة. وصدق بها المخيلة، وتفتر الأمر. وخمدت نار ذلك الإرجاف. واشتغل الطاغية بقرمونة، بخلال ما خوطب به صاحب الأرض الكبيرة، فطمعه في المظاهرة. وتحطب له ملك قشتالة، وعقد السلم مع صاحب برطغال والأشبونة، ونشأت الفتن بأرضهم. وخرجت عليهم الخوارج، فأوجب إزعاجه إلى تلك الجهة. وإقرار ما بالبلاد المجاورة للمسلمين من الفرسان والحماة تقاتل وتدافع عن أحوازها وجعل الخصص موجهة قرمونة وانصرف إلى سد الفتوق التي عليه بلطف الحيلة. ببواطن أرضه وأحشاء عمالته، وصار في ملكه أشغل من ذات النحيين. فساغ الريق. وأمكن العذر، وانتهز الغرة، واستؤنفت الحركة، فكانت إلى حصن منتيل والحويز، ففتحهما الله في رمضان من عام سبعين وسبعمائة، ثم إلى ثغر روطة. ففتحه الله عن جهد كبير، واتصل به حصن زمرة. فأمن الإسلام عادية العدو بتلك الناحية، وكبس أهل رندة. بإيعاز من السلطان إليها، وإلى من بالجبل جبل الفتح، حصن برج الحكيم والقشتور، فيسر الله فتحهما في رمضان أيضاً.
ثم كانت الحركة إلى الجزيرة الخضراء، باب الأندلس، وبكر الفتح الأول، فكانت الحركة إليها شهر ذي الحجة من العام المذكور. ووقع تحريض الناس بين يدي قصدها في المساجد بما نصه:

معاشر المسلمين المجاهدين. وأولي الكفاية عن ذوي الأعذار من القاعدين. أعلى الله بعلو أيديكم كلمة الدين. وجعلكم في سوى الأجر والفخر من الزاهدين، إعلموا رحمكم الله أن الإعلام بالأندلس ساكن دار، والجزيرة الخضراء بابه، ومبعد مغار، والجزيرة الخضراء ركابه، فمن جهتها اتصلت في القديم والحديث أسبابه، ونصرته على أعدايه وأعداء الله أحبابه، ولم يشك العدو الكافر الذي استباحها، وطمس بظلمة الكفر صباحها، على أثر اغتصابها، واسوداد الوجوه المؤمنة لمصابها، وتبديل محاربها، وعلوق أصله الخبيث في طيب تراثها، أن صريع الدين الحنيف بهذا الوطن الشريف. لا ينتعش ولا يقوم، بعد أن فرى الحلقوم. وأن الباقي رمق يذهب وقد سد إلى التدارك المذهب. لو لا أن الله دفع الفاقرة ووقاها. وحفظ المسكنة واستبقاها، وإن كان الجبل عصمه الله نعم البقية. وبمكانه حفت التقية، فحسبك من مصراع باب فجع بثانيه، ومضايق جوار حيل بينه وبين أمانيه. والآن يا عباد الله قد أمكنكم الانتهاز، فلا تضيعوا الفرصة، وفتر المنخنق فلا تسوغه غصة، واعمروا البواطن بحمية الأحرار، وتعاهدوا مع الله معاهد الأولياء الأبرار. وانظروا للعون من الذراري والأبكار، والنشأة الصغار، زغب الحواصل في الأكوار، والدين المنتشر بهذه الأقطار، واعملوا للعواقب، تحمدوا عملكم، واخلصوا لله الضماير، يبلغكم من فضله أملكم، فما عذر من سلم في باب وكره. وماذا ينتظر من أذعن لكيد عدوه ومكروه. من هذه الفرضة، دخل الإسلام تروع أسوده. ومن هذه الجهة طلع الفتح الأول تخفق بنوده، ومنها تقتحم الطير الغريب، إذا رامت الجواز وفوده، فيبصر بها صفات والدليل يقوده. الباب المسدود يا عباد الله فافتحوه، وجه النصر تجلى يا عباد الله فالمحوه، الداء العضال يا عباد الله فاستأصلوه، حبل الله يا رجال الله قد انقطع فصلوه. في مثلها ترخص النفوس الغالية، في مثلها تختبر الهمم العالية، في مثلها تشهر العقايد الوثيقة، وتدس الأحباس العريقة، فنضر الله وجه من نظر إلى قلبه، وقد امتلأته حمية الدين، وأصبح لأن تكون كلمة الله هي العليا متهلل الجبين.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسرار الكتاب الذي أنزلته، وعناية النبي العربي الذي أوفدت من خصوص الرحمات وأجزلت، وبكل نبي ركع لوجهك الكريم وسجد، وبكل ولي سده من إمدادك كما وجد. ألا ما رددت علينا ضالتنا الشاردة، وهنأتنا بفتحها من نعمك الواردة، يا مسهل المآرب العسرة، يا جابر القلوب المنكسرة، يا ولي الأمة الغريبة، يا منزل اللطايف القريبة، اجعل لنا ملايكة نصرك مدداً، وانجز لنا من تمام نورك الحق موعداً. ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
فوقع الانفعال، وانتشرت الحمية، وجهزت الأساطيل. وكانت منازلتها يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر المذكور، وعاطاها المسلمون الحرب، فدخلت البنية وهي المدينة الملاصقة لها عنوة، قتل بها من الفرسان الدارعة عدة، وصرفت الغنايم إلى المدينة الكبرى. فرأوا من أمر الله ما لا طاقة لهم به، وخذلهم الله جل جلاله، على منعة الأسوار وبعد مهاوي الأغنوار، وكثرة العهد والعدد. وطلبوا الأمان لأنفسهم. وكان خروجهم عنها يوم الاثنين الخامس والعشرين من الشهر المذكور، السعيد على المسلمين، في العيد والسرور، برد الدين. ولله الحمد على آلايه، وتوالي نعمه وإرغام أعدايه.
وفي وسط ربيع الأول من عام أحد و سبعين وسبعمائة، أعمل الحركة إلى أحواز إشبيلية دار الملك، ومحل الشوكة الحادة، وبها نايب سلطان النصارى، في الجمع الخشن من أنجاد فرسانهم، وقد عظم التضييق ببلدة قرمونة، المنفردة بالانتزاء على ملك النصارى، والانحياز إلى خدمة المسلمين، فنازل المسلمون مدينة أشونة، ودخلوا جفنها عنوة، واعتصم أهلها بالقصبة، فتعاصت، واستعجل الإقلاع منها لعدم الماء المروى والمحلات، فكان الانتقال قدماً إلى مدينة مرشانة وقد أحدقوا بها. وبها العدة والعديد من الفرسان الصناديد ففتحها الله سبحانه، إلا القصبة، واستولى المسلمون فيها، وفي جارتها. من الدواب والآلات على ما لا يأخذه الحصر. وقتل الكثير من مقاتلتها. وعم جميعها العدم والإحراق، ورفعت ظهور دواب المسلمين التوسعة، انحطاط الأسعار، وأودب الغلاء في أرض الكفار، وقفل والحمد لله في عز وظهور. وفرح وسرور.

مولده السعيد النشيبة
الميمون الطلوع والجييةالمقترن بالعافية، منقولاً من تهليل نشأته المباركة. وحرز طفولته السعيدة، في نحو ثلث ليلة الاثنين والعشرين من جمادى الآخرة عام تسعة وثلاثين وسبعمائة. قلت، ووافقه من التاريخ الأعجمي رابع ينير من عام لف وثلاثمائة وسبعة وسبعين لتاريخ الأعجمي رابع ينير من عام ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين لتاريخ الصفر. واقتضت صناعة التعديل بحسب قيمودا وبطليموس، أن يكون الطالع ببرج القمر، لاستيلائه على مواضع الاستقبال المتقدم للولادة، ويكون التخمين على ربع ساعة وعشر ساعة، وثلث عشر الساعة السادسة من ليلة الاثنين المذكورة. والطالع من برج السنبلة، خمس عشرة درجة وثمان وأربعون دقيقة من درجة. كان الله له في الدنيا والآخرة. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
محمد بن يوسف الخزرجي الأنصاريمحمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر بن قيس الخزرجي الأنصاري من ولد سعد بن عبادة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن سليمان ابن حارثة بن خليفة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة ابن عمر بن يعرب بن يشجب بن قحطان بن هميسع بن يمن بن نبت بن إسماعيل ابن إبراهيم، صلى الله عليه وعلى محمد الكريم. أمير المسلمين بالأندلس ودايلها وخدمة انصريين بها، يكنى أبا عبد الله ويلقب بالغالب بالله.
أوليتهوقد اشتهر عند كثير ممن عني بالأخبار أن هذا البيت النصري من ذرية سعد بن عبادة سيد الخزرج. وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصنف الناس في اتصال نسبهم بقيس بن سعد بن عبادة غير ما تصنيف وأقوى ما ذكر، قول الرازي: دخل الأندلس من ذرية سعد بن عبادة رجلان، نزل أحدهما أرض تاكرونا ونزل الآخر قرية من قرى سقرسطونة تعرف بقرية الخزرج، ونشأ بأحواز أرجونة من كنبانية قرطبة، أطيب البلاد مدرة، وأوفرها غلة، وهو بلده، وبلد جده، في ظل نعمة، وعلاج فلاحة، وبين يدي نجدة وشهرة، بحيث اقتضى ذلك، أن يفيض شريان الرياسة، وانطوت أفكاره على نيل الإمارة ورآه مرتادو أكفاء الدول أهلاً، فقدحوا رغبته، وأثاروا طمعه.
حدث شيخنا الكاتب الشاعر محمد بن محمد بن عبد الله اللوشي اليحصبي، وقد أخبرني أنه كان يوجد بمدينة جيان رجل من أهل المالية، وكان له فرس أنثى من عتاق الخيل. على عادة أولى المالية، وكان له من أهل الثغور، من ارتباط الخيل، والتنافس في إعداد القوة. وشهرت هذه الفرس، في تلك الناحية، وبعث الطاغية ملك الروم في ابتياعها، فعلقت بها كف هذا الرجل، وآهر بها نفسه، وازداد غبطة بها لديه، ورأى في النوم قايلاً يقول له، سر إلى أرجونة، بفرسك وابحث عن رجل اسمه كذا، وصفته كذا، فاعطه إياها، فإنه سيملط جياناً وسواها، ينتفع بها عقبلك، وأرجي الأمر، فعرض عليه ثانية، وحث في ذلك في الثالثة، فسأل ثقة له خبيراً بتلك الناحية وأهلها، فقال له المخبر وكان يعرف بابن يعيش، فوصفه له، فتوجه الفقيه إلى أرجونة، ونزل بها، وتسومع به، وأقبل السلطان وأظهاره وتكلموا في شأنه. فذكر غرضه فيه، وأظهر العجز عن الثمن، وسأل منه تأخير بعضه، فأسعفه. واشترى منه الفرس، بمال له خطر. فلما كمل له القصد. طلب منه الخلوة به في المسجد من الحصن، وخرج له عن الأمر، وأعطاه بيعته، وصرف عليه الثمن. واستكتمه السلطان خيفة على نفسه وانصرف إلى بلده.
قال: وفي العام بعده، دعا إلى نفسه بأرجونة، وتملك مدينة جيان. واختلف في السيب الذي دعاه إلى ذلك، فقيل إن بعض العمال، أساء معاملته في حق مخزني، وقيل غير ذلك.
حاله

هذا الرجل كان آية من آيات الله في الذاجة والسلامة والجمهورية، جندياً، ثغرياً شهماً، أيداً، عظيم التجلد، رافضاً للدعة والراحة، مؤثراً للتقشف، والاجتراء باليسير، متبلغاً بالقليل، بعيداً عن التصنع، جافي السلاح، شديد العزم، مرهوب الإقدام، عظيم التشمير، مقرياً لضيفه، مصطنعاً لأهل بيته، فظاً في طلب حظهم، محمياً لقرابته وأقرائه وجيرانه. مباشراً للحروب بنفسه، تتعالى الحكاة في سلاحه، وزينة دبوره. يخصف النعل، ويلبس الخشن، ويؤثر البداوة، ويستشعر الجد في أموره. سعد بيوم الجمعة، وكان فيه الصدقة الجارية على ضعفاء الحضرة، ومنايهم إلى اليوم. وتملك مدينة إشبيلية في أخريات ربيع الأول من عام ظهوره، وهو عام تسعة وعشرين وستماية نحواً من ثلاثين يوماً. وملك قرطبة في العشر الأول لرجب من العام المذكور، وكلاهما عاد إلى ملك ابن هود. ولما تم له القصد من تملك البيضة، والحصول على العمال، مباشراً للحسابات بنفسه، فتوفر ماله، وغصت بالصامت خزاينه، وعقد السلم الكبير، وتهنأ أمره، وأمكنه الاستعداد، فأنعم الأهواء. وملأ بطن الجبل المتصل بالقلعة حبوباً مختلفة. وخزاين درة ومالاً وسلاحاً وارية ظهراً، وكراعاً. فوجد فايدة استعداده، ولجأ إلى ما ادخره من عتاده.
سيرتهتظاهر لأول أمره بطاعة الملوك بالعدوة وإفريقية، يخطب لهم زماناً يسيراً. وتوصل بسبب ذلك إلى إمداد منهم وإعانة. ولقبل ما افتتح أمره بالدعاء للمستنصر العباسي ببغداد، حاذياً حذو سميه ابن هود، للهج العامة في وقته. بتقلد تلك الدعوة، إلى أن نزع عن ذلك كله.
وكان يعقد للناس مجلساً عاماً، يومين في كل أسبوع، فترفع إليه الظلامات، ويشافه طالب الحاجات، وتنشده الشعراء. وتدخل إليه الوفود، ويشافه أرباب النصايح في مجلس اختص به أهل الحضرة، وقضاة الجماعة، وأولى الرتب النبيهة في الخدمة، بقراءة أحاديث من الصحيحين، ويختم بأعشار من القرآن، ثم ينتقل إلى مجلس خاص، ينظر فيه في أموره فصرف كل قصد إلى من يليق به ذلك، ويؤاكل بالعشيات خاصته من القرابة؛ ومن يليهم من نبهاء القواد.
أولادهأعقب ثلاثة من الذكور، محمداً ولي عهده، وأمير المسلمين على أُره؛ والأميرين أبا سعيد فرج، وأبا الحجاج يوسف، توفيا على حياته؛ حسبما يتقرر بعد إن شاء الله.
وزراء دولتهوزر له جماعة، الوزير أبو مروان عبد الملك بن يوسف بن صناديد زعيم قاعدة جبان؛ وهو الذي مكنه من ناصية جيان المذكورة. واستوزر علي ابن إبراهيم الشيباني من وجوه حضرته، وذوي النسب من الفضلاء أولي الدماثة والوقار. واستوزر الرييس أبا عبد الله بن الرييس أبي عبد الله الرميمي. واستوز الوزير أبا يحيى ابن الكاتب من أهل حضرته. وغيرهم ممن تبلغ به الشهرة مبلغاً فيهم.
كتابهكتب له من الجلة جماعة، كالكاتب المحدث الشهير أبي الحسن علي بن محمد ابن محمد بن سعيد اليحصبي اللوشي، ولما توفي كتب عنه ولده أبو بكر بن محمد. هؤلاء مشاهير كتابه، ومن المرءوسين أعلام كأبي بكر بن خطاب وغيره.
قضاتهولي له قضاء الجماعة، القاضي العالم الشهير، أبنو عامر يحيى بن عبد الرحمن ابن ربيع الأشعري، من جلة أهل الأندلس في كبر البيت، وجلالة المنصب، وغزارة العلم. ثم ولي بعده الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الجليل ابن غالب الأنصاري الخرزجي، ثم ولي بعده الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن عبد السلام التميمي. وهذا الرجل من أهل الدين والأصالة، وآخر قضاة العدل. ثم ولي بعده الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن عياض بن موسى اليحصبي، ثم ولي بعده الفقيه القاضي الحسيب أبنو عبد الله بن أضحى، وبيته شهير، ولم تطل مدته. وولي بعده آخر قضاته أبو بكر محمد بن فتح بن علي الإشبيلي الملقب بالأشبرون.
الملوك على عهده

بمراكش المأمون إدريس، مأمومن الموحدين، مزاحماً بأبي زكريا يحيى ابن الناصر ابن المنصور بن عبد المؤمن بالجبل. ولما توفي المأمون ولي الرشيد، أبو محمد عبد الواحد في سنة ثلاثين وستماية، وولي بعده أبو حفص عمر بن إسحاق المرتضى، إلى أن قتله إدريس الواثق أبو دبوس في عام خمسة وستين. وولي بعده يسيراً بنو عامر بن علي بمراكش، وتعاقب منهم على عهده جلة؛ كالأمير عثمان وابنه حمو، وأخيه أبي يحيى بن عبد الحق. واستمر الملك في أسن أملاكهم، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيو إلى آخر أيامه.
وبتلمسان، شبيهه يغمراسن بن زيان أول ملوكهم، وتقدمه أخوه أكبر منه برهة. ويغمراسن أول من أثل الملك، وحاز الذكر، واستحق الشهرة.
وبتونس، الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص. وخاطبه السلطان المترجم به، والتمس رفده، وقد حصل على إعانته، وولي بعد موته ولده المستنصر أبو عبد الله، ودامت أيامه إلى أول أيام ولد السلطان المترجم له عام أربعة وسبعين.
وبقشتالة هراندة بن ألهنشة بن شانجه الإنبرطور. وهراندة هذا هو الذي ملك قرطبة وإشبيلة، ولما هلك ولي بعده ألفنش ولده ثلاثاً وثلاثين سنة، واستمر ملكه مدة ولايته. وصدرا من دولة ولده بعده.
ويرغون جايمش ابن بطره ابن ألفونش قمط برجلونه. وجايمش هذا هو الذي ملك بلنسية، وصيرها دار ملكه من يد أبي جميل زيان ابن مردنيش.
لمع من أخبارهقام ابن أبي خالد بدعوته بغرناطة، كما ذكر في اسمه، ودعاه وهو بجيان. فبادر إليها في أخريات رمضان من عام خمس وثلاثين وستمائة، بعد أن بعث إليه الملأ من أهلها ببيعتهم مع رجلين من مشيختهم، أبي بكر الكاتب، وأبي جعفر التيزولي.
قال ابن عذارى في تاريخه، أقبل ومازيه بفاخر، ونزل عشي اليوم الذي وصفل بخارج غرناطة، على أن يدخلها من الغد، ثم بدا له فدخلها عند غروب الشمس، نظراً للحزم.
وحدث أبو محمد البسطي قال: عاينته يوم دخوله وعليه شاشية ملف مضلعة أكتافها مخرقة، وعندما نزل بباب جامع القصبة، كان مؤذن المغرب في الحيعلة، وإمامه يومئذ أبو المجد المرادي قد غاب، فدفع الشيخ السلطان إلى المحراب، وصلى بهم، على هيئته تلك، بفاتحة الكتاب. وإذا جاء نصر الله والفتح. والثانية بقل هو الله أحد، ثم وصل قصر باديس، والشمع بين يديه.
وفي سنة ثلاث وأربعين وستماية، صالح طاغية الروم، وعقد معه السلم، الذي طاحت في شروطه جيان. وكان واقع بالعدو الراتب تجاه حضرته، المختص بحصن بليلش على بريد من الحضرة. وكان الفتح عظيماً. ثم حالفه الصنع بما يضيق المجال عن استيعابه. وفي حدود اثنين وستين وستمائة صالح طاغية الروم، وعقد معه السلم، وعقد البيعة لولي عهده، واستدعى القبائل للجهاد.
مولدهفي عام خمسة وتسعين وخمسمائة بأرجونة، عام الأرك.
وفاتهفي منتصف جمادة الثانية من عام واحد وسبعين وستمائة، ورد عليه وقد سن. جملة من كتاب الزعايم، يقودون جيشاً من أتباعهم، فبرز إلى لقايهم بظاهر حضرته، ولما كر أيباً إلى قصره، سقط ببعض طريقه، وخامره خصر، وهو راكب، وأردفه بعض مماليكه، واسمه صابر الكبير، وكانت وفاته ليلة الجمعة التاسع والعشرين لجمادى الثانية المذكورة، ودفن بالمقبرة الجامعة العتيقة بسنام السبيكة، وعلى قبره اليوم منقوش:

" هذا قبر السلطان الأعلى، عز الإسلام، جمال الأنام، فخر الليالي والأيام، غياث الأمة، غيث الرحمة، قطب الملة، نور الشريعة، حامي السنة، سيف الحق، كافل الخلق، أسد الهيجاء، حمام الأعداء، قوام الأمور، ضابط الثغور، كاسر الجيوش، قامع الطغاة، قاهر الكفرة والبغاة، أمير المؤمنين، علم المهتدين، قدوة المتقين، عصمة الدين، شرف الملوك والسلاطين، الغالب بالله، المجاهد في سبيل الله، أمير المسلمين، أبو عبد الله محمد بن يوسف ين نصر الأنصاري، رفعه الله إلى أعلى عليين، وألحقه بالذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، ولد رضي الله عنه، وأتاه رحمة من لدنه عام أحد وتسعين وخمسمائة، وبويع له يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان عام خمسة وثلاثين وستماية، وكانت وفاته يوم الجمعة بعد صلاة العصر التاسع والعشرين لجمادى الآخرة عام أحد وسبعين وستماية، فسبحان من لا يفنى سلطانه، ولا يبيد ملكه، ولا ينقضي زمانه، لا آله إلا هو الرحمن الرحيم " .
ومن جهة أخرى:
هذا محل العلى والمجد والكرم ... قبر الإمام الهمام الطاهر العلم
لله ما ضم هذا اللحد من شرف ... ومن شيم علوية الشيم
بالجود والباس ما تحوي صفايحه ... لا بأس عنترة ولا ندى هرم
مغنى الكرامة والرضوان يعهده ... فخر الملوك الكريم الذات والشيم
مقامه في كلا يومي ندى ووغى ... كالغيث في مجد وكالليث في أجم
مآثر تليت آثارها سوراً ... تقر بالحق فيها جملة الأمم
كأنه لم يسر في محفل لجب ... تضيق عنه بلاد العرب والعجم
ولم يباد العدا منه ببادرة ... بفتر منها الهدى عن ثغر مبتسم
ولم يجهز لهم خيلاً مضمرة ... لا تشرب الماء إلا من قليب دم
ولم يقم حكم عدل في سياسته ... تأوى رعيته منه إلى حرم
من كان يجهل ما أولاه من نعم ... وما حواه لدين الله من حرم
فتلك آثره في كل مكرمة ... أبدى وأوضح من نار على علم
لا زال تهمي على قبر تضمنه ... سحايب الرحمة الوكافة الديم
محمد بن عبد الله بن عبد الملك المعافريمحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد ابن أبي الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، المنصور بن أبي عامر معظم الظفر، وخدن السعد، وملقي عصيي الجد، وجو رياح الشهرة، وديوان فنون السياسة، وحجاج الدولة العبشمية، في النخوم المغربية، المزي بالظرف وكمال السجية، والجهاد العظيم، العريق في بحبوحة بلاد الكفار، رحمه الله تعالى.
أوليتهدخل جده عبد الملك الأندلس مع طارق مولى موسى بن نصير في أول الداخلين من المغرب، وكان له في فتحها أثر جميلا. وإلى ذلك أشار مادحه محمد بن حسان:
وكل عدو أنت تهزم عرشه ... وكل فتوح عنك يفتح بابها
برأيك عبد المليك الذي له ... حلا فتح قرطبة وانتهابها
ونزل عبد الملك الجزيرة الخضراء لأول الفتح، فساد أهلها، وكثر عقبه بها، وتكررت فيهم النباهة، وجاوروا الخلفاء بقرطبة. وكان والد محمد هذا، من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان. سمع الحديث، وأدى الفريضة، ومات منصرفاً عن الحج بإطرابلس.
حالهكان هذا الرجل بكر الدهر، وفايدة الأيام، وبيضة العمر، وفرد الخلق في اضطراد السعد، وتملد العاجل من الحظ، حازماً، داهية، مشتملاً على أقطار السؤدد، هوياً إلى الأقاصي، وطموحاً، سوساً حمياً، مصطنعاً للرجال، جالباً للأشراف، مستميلاً للقلوب، مطبقاً المفاصل، مزيحاً للعلل، مستبصراً في الاستبداد، خاطباً جميل الذكر، عظيم الصبر، رحيب الذرع، طموح الطرف، جشع السيف، مهادي جياد العقاب والمثوبة، مهيباً، جزلاً، منكسف اللون، مصفر الكيف، آية الله جل جلاله في النصر على الأعداء ومصاحبة الظفر، وتوالى الصنع.
نباهته

قال المؤرخ، سلك سبيل القضاء في أوليته، مقتفياً آثار عمومته وخؤولته، يطلب الحديث في حداثته، وكتب منه كثيراً ولقي الجلة من رجاله، ثم صحب الخليفة الحكم متحزباً في زمرته، وولي له الأعمال من القضاء والإمامة، ثم استكفاه، فعدل عن سبيله، وصار في أهل الخدمة. ثم اختصه بخدمة أم ولده هشام، فزاد بخاصته لولي العهد، عزاً ومكانة من الدولة فاحتاج الناس إليه. وغشوا بابه، وبلغ الغاية من أصحاب السلطان معه، إسعاف، وكرم لقاء، وسهولة حجاب، وحسن أخلاق. فاستطار ذكره، وعمر بابه، وساعده الجد. ولما صار أمر المسلمين إليه، فبلغ التي لا فوقعها عزاً وشهرة.
الثناء عليهقال: وفي الدولة العامرية، وأعين محمد على أمره، مع قوة سعده، بخصال مؤلفة لم تجتمع لمن قبله، منها الجود، والوقار، والجد والهيبة، والعدل والأمن، وحب العمارة، وتثمير المال، والضبط للرعية، وأخذهم بترك الجدل والخلاف والتشغب، من غير وهن في جينه، وصحة الباطن، وشرح كل فضل، وجلب كل ما يوجب عن المنصور فيه.
غزواته وظهوره على أعدايهواصل رحمه الله الغزو بنفسه، فيما يناهز خمسين غزوة، وفتح فيها البلاد، وخضد شوكة الكفر، وأذل الطواغيت وفض مصاف الكفار، وبلغ الأعماق، وضرب على العدو الضرايب، إلى أن تلقاه عظيم الروم بنفسه وأتحفه بإبنته في سبيل الرغبة في صهره، فكانت أحظى عقايله، وأبرت في الدين والفضل على ساير أزواجه، وعقد اثني عشر بروزاً إلى تلقي ملوك الروم القادمين عليه مصطهرين بإلحاح سيفه منكبين على لثم سريره.
شعرهومما يؤثر من شعره:
رميت بنفسي هول كل عظيمة ... وخاطرت والحر الكريم يخاطر
وما صاحبي إلا جنان مشيع ... وأسمر خطى وأبيض باتر
ومن شيمتي أني على طالب ... أجود بمال لا تقيه المعاذر
وإني لزجاء الجيوش إلى الوغى ... أسود تلاقيها أسود خوادر
فسدت بنفسي أهل كل سيادة ... وكاثرت حتى لم أجد من أكاثر
وما شدت بنيانا ولكن زيادة ... على ما بني عبد المليك وعامر
رفعنا العلى بالعوالي سياسة ... وأورثناها في القديم معافر
وبلغ في ملكه أقطار المغرب، إلى حدود القبلة، وبمدينة فاس، إثر ولده المقلد فتح تلك الأقطار، ونهد أوليك الملوك الكبار.
دخوله غرناطةقال صاحب الديوان في الدولة العامرية، وقد مر ذكر المصور، قومس الغرنجة بمدينة برشلونة: وهذه الأمة أكثر النصرانية جمعاً، وأوسعها، وأوفرها من الاستعداد، وما أوطئ من الممالك والبلاد، وفتح من القواعد، وهزم من الجيوش. وقفل المنصور عنها، وهو أطمع الناس في استسيصالها؛ ثم خصهم بصايفة سنة خمس وسبعين، وهي الثالثة عشر لغزواته؛ وقد احتفل لذلك، واستبلغ في النفير. واستوفى أتم الأبهة، وأكمل العدة، فجعل طريقه على شرقي الأندلس، لاستكمال ما هنالك من الأطعمة، فسلك طريق إلبيرة، إلى بسطة، إلى تدمير؛ وهزم في هذه الغزوات بريل ملك فرنجة ونازل مدينة برجلونة؛ فدخلها عنوة يوم الاثنين النصف من صفر، سنة أربع وسبعين أو خمس بعدها.
قلت وفي دخول المنصور بجيشه بلد إلبيرة: ما يحقق دعوى من ادعى دخول المعتمدين من أهل الأندلس لذلك العهد، إذ كان يصحب المنصور في هذه الغزوة، من الشعراء المرتزقين بديوانه من يذكر؛ فضلاً عن ساير الأصناف على تدارة هذه الصنف من الخدام، بالنسبة للبحر الزاخر من غيرهم.

والذي صح أنه حضر ذلك، أبو عبد الله محمد بن حسين الطبني. أبو القاسم حسين بن الوليد، المعروف بابن العريف. أبو الوضاح بن شهيد. عبد الرحمن بن أحمد. أبو العلا صاعد بن الحسن اللغوي. أبو بكر زيادة الله بن علي بن حسن اليمني. عمر بن المنجم البغدادي. أبو الحسن علي بن محمد القرشي العباسي. عبد العزيز بن الخطيب المحرود. أبو عمر يوسف بن هارون الزيادي. موسى بن أبي طالب. مروان بن عبد الحكم بن عبد الرحمن. يحيى بن هذيل بن عبد الملك بن هذيال المكفوف. سعد بن محمد القاضي. ابن عمرون القرشي المرواني. علي النقاش البغدادي. أبو بكر يحيى بن أمية بن وهب. محمد بن إسماعيل الزبيدي صاحب المختصر في اللغة. أحمد بن دراح القسطلي متنبي الأندلس. أبو الفرج منيل بن منيل الأشجعي. محمد بن الحسن القرشي من أهل المشرق. أبو عبيدة حسان بن مالك بن هاني. طاهر بن محمد المعروف بالمهند. محمد بن مطرف بن شخيص سعيد بن عبد الله الشنتريني، وليد بن مسلمة المرادي، أغلب بن سعيد. أبو الفضل أحمد بن عبد الوهاب. أحمد بن أبي غالب الرصافي. محمد بن مسعود البلخي، عبادة بن محمد بن ماء السماء. عبد الرحمن بن أبي الفهد الإلبيري. أبو الحسن بن المضيئ البجلي الكاتب. عبد الملك بن سهل. الوزير عبد الملك بن إدريس الجزيري. قاسم بن محمد الجياني.
قال المؤرخ، هؤلاء من حفظته منهم. وهم أكثر من أن يحصوا، فعلى هذا يتبنى القياس في ضخامة هذا الملك، وانفساح هذا العز.
وفاتهتوفي رحمه الله منصرفاً من غزاته المسماه بقنالش والريد، وقد دوخ أقطار قشتالة، ليلة الاثنين سبع وعشرين لرمضان عام اثنين وتسعين وثلاثمائة، وقد عهد أن يدفن ببلد وفاته، بعد وصية شهيرة صدرت عنه، إلى المظفر ولده، فدفن بمدينة سالم، التي بناها في نحر العدو من وادي الحجارة، وبقصرها. وقبره معروف إلى اليوم. وكان قد اتخذ له من غبار ثيابه الذي علاها في الجهاد. وعاء كبير بحديه رحمه الله. وكتب على قبره هذا الشعر:
آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه
تا لله لا يأتي الزمان بمثله ... أبداً ولا يحمى الثغور سواه
محمد بن عطاف بن نعيممحمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ابن قريش ابن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم، لخمي النسب
أوليتهدخل الأندلس جده عطاف مع بلج بن بشر القشيري، من أشراف الطالعة البلجية، وهم من عرب حمص من أرض الشأم، وموضعه بها يعرف بالعريش في آخر الجفار بين مصر والشأم. ونزل عطاف بقرية تعرف بيومين من إقليم طشانة على ضفة النهر الأعظم من أرض إشبيلية. ولما هلك قريش، ورث السيادة إسماعيل بن قريش، وهو القاضي المشهور بالفضل والدهاء، وسكنى أبا الوليد. ولي الشرطة الوسطى لهشام بن الحكم، وخصة الإمامة إلى صلاة الجمعة. ثم خلفه أبو القاسم المنفرد برياسة إشبيلية، المتحف فيها بخطط الوزارتين والقضاء والمظالم. وعز جاهه، وكثرت حاشيته، وتعددت غلمانه، وأذعنت له عداته. ثم خلفه الأمير المعتضد ولده، وكان خيراً حازماً، سديد الرأي، مصنوعاً له في الأعداء، فلما توفي، تصير الأمر إلى ولده المترجم به، المكنى أبا القاسم إلى حين خلعه.
حالهقالوا كلهم، كان المعتمد، رحمه الله، فارساً شجاعاً. بطلاً مقداماً، شاعراً ماضياً، مشكور السيرة في رعيته. وقال أبو نصر في قلائده وكان المعتمد على الله ملكاً قمع العدا، وجمع بين البأس والندا. وطلع على الدنيا بدر هدى. لم يتعطل يوماً كفه، ولا بنانه، آونة يراعه. وآوثة سنانه. وكانت أيامه مواسم، وثغوره بواسم. لقبه أولاً الظافر. ثم تلقب بالمعتمد. كلفاً بجاريته اعتماد، لما ملكها. لتتفق حروف لقبه بحروف اسمها. لشدة ولوعه بها.
وزراؤهابن زيدون. وابن عمار. وغيرهم.
أولاده المملكون

عبيد الله، يكنى أبا الحسن، وهو الرشيد، وهو الذي لم يوافق أباه على استصراخ المرابطين، وعرض بزوال الملك عنهم، فقال: أحب إلى أن أكون راعي إبل بالعدوة من أن ألقى الله، وقد حولت الأندلس دار كفر وكان قد ولاه عهده، وبويع له بإشبيلية، وهو المحمول معه إلى العدوة. ثم الفتح، وهو الملقب بالمأمون، كان قد بويع له بقرطبة، وهو المقتول بها، المحمل رأسه إلى محلة العدو المرابطين. المحاصرة لأبيه بإشبيلية. ثم يزيد الراضي، وكان قد ولاه رندة، فقتل لما ملكها المقونيون، ثم عبد الله. ويكنى أبا بكر. هؤلاء الأربعة من جاريته اعتماد السيدة الكبرى. والمدعوة بالرميكية منسوبة إلى مولاها رميك بن حجاج الذي ابتاعها منه المعتمد.
ملمتهلما تكالب أدفونش بن فردلاند على الأندلس بعد أخذه مدينة طليطلة ضيق بالمعتمد، وأجحف في الجزية، التي كان يتقي بها على المسلمين عاديته، وعلى ذلك أقسم أخذها وتجني عليه، وطمع في البلاد، فحكى بعض الإخباريين أنه وجه إليه رسله في آخر أمره لقبض تلك الضريبة، مع قوم من رؤساء النصارى، ونزلوا خارج باب إشبيلية، فوجه إليهم المال، مع بعض الوزراء، فدخلوا على اليهودي المذكور في خبايه، وأخرجوا المال، فقال لهم، لا أخذت منه هذا العيار ولا أخذت منه إلا ذهباً مشجراً، ولا يؤخذ منه في هذا العام إلى أجفان البلاد ونقل كلامه إلى المعتمد، فبادر بالقبض عليه وعلى النصارى، ونكل بهم، وقتل اليهودي بعد أن بذل في نفسه زنة جسمه ذهباً، فلم يقبل منه، واحتبس النصارى، وراسله الطاغية في إطلاقهم، فأبى غلا أن يخلي منه حصن الحدود، فكان ذلك. واستصرخ اللمتونيين، وأجاز البحر بنفسه وأقسم الطاغية بإيمائه المفلطة ألا يرفع عنه يده. وهاجت حفيظة المعتمد، واجتهد في جواز المرابطين، وكان مما هو معلوم من الإيقاع بالطاغية في وقعة الزلاقة فإنه الذي أثلى نارها بنفسه، فعظم بلاؤه، وشهر بلاؤه، وشهر صبره، وأصابته الجراح في وجهه ويده، رحمه الله. وفي ذلك يقول أبو بكر بن عبادة المري:
وقالوا كفه جرحت فقلنا ... أعاديه تواقعها الجراح
وما لمرتد الجراحة ما رأيتم ... فتوهنها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل البأس منها ... ففيها من مجاريه انسياح
وقد صحت وسحت بالأماني ... وفاض الجود منها والسماح
رأى منه أبو يعقوب فيها ... عقاباً لا يهاض له جناح
فقال له لك القدح المعلى ... إذا ضربت بمشهدك القداح
ولما اتصلت به الصيحة؛ بين يدي دخول المدينة، ركب في أفراد من عبيده؛ وعليه قميص يشف عن بدنه، والسيف منتضي بيده، ويممم باب الفرج، فقدم الداخلين فردهم على أعقابهم؛ وقتل فارساً منهم؛ فانزعجوا أمامه؛ وخلفوا الباب؛ فأمر بإغلاقه؛ وسكنت الحل؛ وعاد إلى قصره. وفي ذلك يقول:
إن يسلب القوم العدا ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تلم القلب الضلوع
قد رمت يوم نزالهم ... ألا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القميص عن الحشاشيئ دفوع
أجل تأخر لم يكن ... بهوادي ذنى والخضوع
ما سرت قط إلى القتال ... وكان من ملي الرجوع
شيم الأولى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
جودهوأخبار جوده شهير، ومما يؤثر من ذلك، على استصحاب حال العز، ووفور ذات اليد، وأدوات الملك؛ غيب، والشاهد المقبول بقاء السدية ومصاحبة الخلق الملكية؛ مع الغقتار والإيسار؛ وتقلب الأطوار، وتعرض له الحصرى القرموني الضرير بخارج طنجة؛ وهو يجتاز عليها في السواحل من قهر واعتقال؛ بأشعار ظاهرة المقت، غير لايقة بالوقت؛ ولم يكن بيده زعموا غير ثلاثين ديناراً كانت بخفه، معدة لضرورة وأزمة، وأطبع عليها دمه، وأدرج قطعة شعر طيها اعتذار عن نزرها، راغباً في قبول أمرها، فلم يراجعه الحصري بشيء عن ذلك، فكتب إليه:
قل لمن جمع العلم ... وما أحصى صوابه
كان في الصرة شعر ... فانتظرنا جواره
قد أتيناك فهلأ ... جلب الشعر جوابه
حلمه

رفع إليه صدر دولته شعر، أغرى فيه، بأبي الوليد بن زيدون، وهو شهير، وتخير له موقع وترصد حين، وانتظر به مؤجره، وهو:
يا أيها الملك الأعز الأعظم ... أقطع وريدي كل باغ يسلم
واتحسم بسيفك كل منافق ... يبدي الجميل وضد ذلك يكتم
لا تتركن للناس موضع شبهة ... وأحزم فمثلك في العظائم يحزم
قد قال شاعر كندة فيما مضى ... قولاً على مر الليالي يعلم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
فوقع على الرقعة:
كذبت منا كم صرحوا أو جمجموا ... الدين أمتن والسجية أكرم
خنتم ورمتم أن أخون وإنما ... حلولتم أن يستخف بلملم
وأردتم تضييق صدر لم يضق ... والسمر في صدر النحور تحطم
وزحفتم بمحالكم لمجرب ... ما زال يثبت للمحال فيهزم
أتى رجوتم غدر من جربتم ... منه الوفاء وظلم من لا يظلم
أنا ذا كم لا السعي يثمر غرسه ... عندي ولا مبني الصنيعة يهدم
كفوا وإلا فارقبوا لي بطشة ... يبقى السفيه بمثلها يتحلم
توقيعه ونثره في البديهةكتب مع الحمايم إلى ولده الرشيد عق ب الفراغ من وقعة الزلاقة.
يا بني، ومن أبقاه الله وسلمه، ووقاه الأسواء وعصمه. وأسبغ عليه آلاءه وأنعمه كتبته، وقد أعز الله الدين، وأظهر المسلمين، وفتح لهم على يدي مستدعيات الفتح المبين، بما يسره الله في أمسه وسناه، وقدره سبحانه وقضاه، من هزيمة أدفونش ابن فردلند لعنه الله وأصلاه، وإن كان طاح للجحيم، ولا أعدمه وإن كان أهل العيش الذميم، كما قنعه الخزي العظيم. وأتى القتل على أكثر رجاله وجماته، واتصل النهب ساير اليوم، والليلة المتصلة به، جميع محلاته، وجمع من رؤوسهم بين يدي، من مشهوري رجالهم، ومذ كوري أبطالهم، ولم يختر منهم إلا من شهر وقرب، وامتلأت الأيدي مما سلب ونهب. والذي لا مرية فيه، أن الناجي منهم قليلش، والمفلت من سيوف الجزع والبعد قتيل، ولم يصبني بفضل الله إلا جرح أشو، وحسن الحال عندنا والله وزكى، ولا يشغل بذلك بال، ولا يتوهم غير الحال التي أشرت إليها حال، والأدفونش بن فرذلاند، إن لم يصبح تحت السيوف فسيموت لا محالة كمداً، وإن كان لم تعلقه أسراد الحمام فغداً، فإن برأسه طمرة ولحام. فإذا ورد كتابي هذا، فمر بجمع الخاص والعم، من أهل إشبيلية، وجيرانها الأقرببن، وأصفيائنا المحبين، في المسجد الجامع، أعزهم الله. وليقرأ عليهم فيه، ليأخذوا من المسرة بأنصبايهم، ويضيفوا شكراً لله إلى صالح دعايهم والحمد لله على ما صنع حق حمده جل المزيد لأمر حين، إلا من عنده. والسلام.
تلطفه وظرفهقال أبو بكر الداني: سألني في بعض الأيام عند قدومي عليه بأغمات، قاضياً حق نعمته، مستكثراً من زيارته، مستمتعاً برايق أدبه، على حال محنته، عن كتبي، فأعلمته بذهابيها في نهب حضرته. وكنت قد جلبت في سفرتي تلك، الأشعار الستة، بشرح الأستاذ أبي الحجاج الشنتمري الأعلم، وكانت مستعارة، فكتمتها عنه. ووشي إليه أحد الأصحاب. فخجل بكرمه وحسن شيمته، من الأخذ معي في ذكر ما كتمته، فاستطرد إلى ذلك بغرض نبيل، ونحا فيه نحواً، يعرب عن الشرف الأصيل، وأملى علي في جملة ما كان يمليه:
وكواكب لم أدر قبل وجوهها ... أن البدور تدور في الأزرار
نادمتها في جنح ليل دامس ... فأعرنه مثلاً من الأنوار
في وسط روضة نرجس كعيونها ... ما أشبه النوار بالنوا
فإذا وصفنا الحديث حسبتني ... ألهو بملتقط الدر نثار
فإذا اكتحلت برق ثغر باسم ... سكبت جفوني أغزر الأمطار
حذر الملام وخيفة من جفوة ... تذر الصدور على شفير هار
ترك الجواري الآنسات مذاهبي ... وسولها ظفر بريشة الأشعار
فلم أمالك عند ذلك ضحكاً، وعلمت أن الأمر قد سرى إليه، فأعلمته قصتها، فبسط العذر بفضله. وتأول الأمر وقسم الأشعار على ثلاثة من بنيه. ذوي خط رائع، ونقل حسن. وأدب بارع. أخذوا في نسخها. وصرفوا الأصل لأجل قريب.

محنته
ولم يلبث أمير الملمتونيين بعد جوازه إلى الأندلس، وظهوره على طايفة الروم، أن فسد ما بينه وبين رؤساء الطوائف بالأندلس، وعزم على خلعهم. فأجاز من سبتة العساكر، وضرب الأمداد. وأخذ المعتمد بالعزم يحصن حصونه، وأودع المعاقل عدته، وقسم على مظان الامتناع ولده، وصمدت الجموع صمدة بنيه، ونازل الأمير سير إشبيلية، دار المعتمد، وحضرة ملكه، ونازل الأمير محمد بن الحاج قرطبة، وبها المأمون، ونزل جرور من قواده رندة، وبها الراضي ابن المعتمد. واستمر الأمر، واتصلت المحاصرة، ووقعت أمور يضيق الكتاب عن استقصايها. فدخلت قرطبة في جمادى الآخرة عام أربع وثمانين وأربعمائة، وقتل الراضي، وجلب رأسه فطيف به بمرأى من أبيه. وكان دخول إشبيلية على المعتمد، دخول القهر والغلبة، يوم الأحد لعشر بقين من رجب. وشملت الغارة. واقتحمت الدور، وخرج ابن عباد في شكته. وابنه مالك في أمته معيماً فقتل مالك الملقب بفخر الدولة ورهقت الخيل، وكثر، فدخل القصر ملقياً بيده. ولما جن الليل، وجه ابنه الأكبر الرشيد إلى الأمير، فحجب عنه، ووكل بعض خدمه به، وعاد إلى المعتمد فأخبره بالإعراض عنه، فأيقن بالهلكة، وودع أهله وعلا البكاء، وكثر الصراخ، وخرج هو وابنه، فأنزلا في خباء حصين، ورقبا بالحرس، وأخرج الحرم من قصره، وضم ما اشتمل عليه، وأمر بالكتب إلى ولده برندة ففعل. ولما نزل، واستوصلت ذخيرته، سلا، وأجيز المعتمد البحر. ومن معه إلى طنجة. فاستقر بها في شعبان من العام. وفي هول البحر عليه في هذا الحال، يقول رحمه الله:
لم أنس والموت يدنيني ويقصيني ... والموت كأن المني يأتيني
أبصرت هولاً لو أن الدهر أبصره ... لما خوفا لأمر ليس بالدون
قد كنت ضاناً بنفس لا أجود بها ... فبعتها باضطرار بيع مغبون
كم ليلة بت مطوياً على حرق ... في عسر من عيون الدبر في العين
فتلك أحسن أم ظلت به ... في ظل عزة سلطان وتمكين
ولم يكن والذي تعنو الوجوه له ... عرضى مهاناً ولا مالي بمخزون
وكم خلوت من الهيجا بمعترك ... والحرب ترفل في أثوابها الجون
يا رب إن لم تدع حالاً أسر به ... فهب لعبدك أجراً غير ممنون
وجرى على بناته شيء يوم خروجهن، وأضطرتهن الضيعة إلى معيشتهن من غزل أيديهن، وجرت عليه محن طال لها شجنه وأقعده قيده. إلى أن نقل إلى أغمات وريكة، وحل عنه الاعتقال، وأجرى عليه رزقه، تبلغ به لمدة من أعوام أربعة، واستنقذه حمامه، رحمة الله عليه.
وصوله إلى غرناطةقال ابن الصيرفي وقد أجرى ذكر تملك يوسف بن تاشفين غرناطة، وخلع أميرها عبد الله بن بلقين حفيد باديس، يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من رجب عام ثلاثة وثمانين: ولحق ابن عباد وحليفة ابن مسلمة بخيل ورجل ورماة وعدد، وحل ذلك من ابن عباد تضمناً لمسرة أمير المسلمين، وتحققاً موالاته، فدخلا عليه، وهنياه، وقد تحكمت في نفس ابن عباد الطماعية في إسلام غرناطة إلى ابنه، بعد استصفاء نعمة صاحبها، عوضاً عن الجزيرة الخضراء، وكان قد أشخصه معه، فعرض بغرضه، فأعرض أمير المسلمين عن الجميع إعراضاً، كانت منية كل منهما التخلص من يده، والرجوع إلى بلده. فأعمل ابن عباد الحيلة. فكتب، يزعم أنه وردت عليه تحثه من إشبيلية في اللحاق، أثناء مهمة طرقت بتحرك العدو، واستأذن بها في الصدور، فأخذ له ولحليفه ابن مسلمة، فانتهزا الفرصة، وابتدرا الرجعة. ولحق كل بموضعه يظن أنه ملك رياسة أمره.
مولدهولد المعتمد على الله بمدينة باجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وولي سنة إحدى وستين. وخلع سنة أربع وثمانين.
وفاتهكانت وفاة المعتمد على الله بأعمات في ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، بعد أن تقدمت وفاته وفاة الحرة اعتماد. وجزع عليها جزعاً، أقرب سرعة لحاقه بها. ولما أحس بالمنية رثى نفسه بهذه الأبيات وأمر أن تكتب على قبره:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي ... حقاً ظفرت بأسلاء ابن عباد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت ... بالخصب أن أجدبوا بالري لصادي

بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا ... بالموت أحمر بالضرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم ... بالبدر في ظلم بالصدر في النادي
نعم هو الحق فاجأني على قدر ... من السماء ووافاني لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه ... أن الجبال تهادي فوق أعواد
كفاك فارفق بما استودعت من كرم ... رواك كل قطوب البرق رعاد
يبكي أخاه الذي غيبت وابله ... تحت الصفيح بدمع رائح غادي
حتى يجودك دمع الضل منهمراً ... من أعين الزهر لم تبخل بإسعاد
فا تزل صلوات الله نازلة ... على دفينك لا تحصى بتعداد
بعض ما رثي بهقال ابن الصيرفي، وخالف في وفاة المعتمد. فقال: كانت في ذي حجة. فلما انفصل الناس من صلاة العيد. حف بقبره ملأ، يتوجعون ويترحمون عليه، وأقبل ابن عبد الصمد، فوقف على قبره وأنشد:
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد
ثم خر يبكي ويقبل القبر ويعفر وجهه في التراب، فبكى ذلك الملأ حتى أخضلوا ملابسهم، وارتفع نشيجهم فلله در ابن عبد الصمد، وملاذ ذلك البلد.
محمد بن مردنيش الجذاميمحمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش الجذامي قال بعضهم ينتمي في تجيب الأمير أبو عبد الله.
أوليتهمعروفة، وعلى يد أبيه جرت الوقيعة الكبرى بظاهر إفراغة. على ابن رذمير الطاغية، فجلت الشهرة، وعظمت الأثرة، قال بعضهم، تولى أبوه سعد قيادة إفراغة وما إليها. وضبطها. ونازلها ابن رذمير. فشهر غناؤه بها في دفاعه. وصبره على حصاره، إلى أن هزمه الله عز وجل، على يدي ابن غانيه. وظهر بعد ذلك فحسن بلاؤه. وبعد صيته. ورأس ابنه محمد، ونفق في القته. وكان بين هوبين ابن عياض المتأمر بمرسية صهر، ولاه لأجله بليسة. فلما توفي ابن عياض، بادرها ابن سعد، وبلغه أثناء طريقه، غدر العدو بحصن جلالن فكر وقاد له وفتحه. وعاد فملك بلنسية، وقد ارتفع له صيت شهير، ثم دخلت مرسية في أمره، واستقام له الشرق. وعظمت حاله.
حالهقال ابن حمامة، ساد من صغره بشجاعته ونجابته، وصيت أبيه، فمال بذلك إلى القيادة. وسنه أحجى وعشرون سنة، ثم ارتقى إلى الملك الراسخ، والسلطان الشامخ، بباهر شجاعته وشهامته. فسما قدره. وعظم أمره. وفشي في كل أمة ذكره.
قال غيره، كان بعيد الغور، قوي الساعد أصيل الرأي. شديد العزم، بعيد العفو، مؤثرأ للانتقام، مرهوب العتوبة.
قوال في مختصر ثورة المريدين كان عظيم القوة في جسمه، ذا أيد في عظمته. جزارة في لحمه، وكان له فروسية، وشجاعة، وشهامة، ورياسة.
بطالته وجودهقال وكان له يومان في كل جمعة. الاثنين والخميس، يشرب مع ندمايه فيهما، ويجود على قواده، وخاصته وأجناده، ويذبح البقر فيهما، ويفرق لحومها على الأجناد، ويحضر القيان بمزاميرهن وأعوادهن، ويتخلل ذلك لهو كثير، حتى ملك القلوب من الجند، وعاملوه بعاية النصح، وربما وهب المال في مجالس أنسه. ذكر أنه ستدعى يوماً ابن الأزرق أحد قواده، فشرب معه ومع القرابة، في مجلس قد كسان بأحمر الوشي والوطئ والآنية من الفضة وغيرها، وتمادى في لهو وشراب عامة اليوم. فلما كمل نهاره معهم، وهبهم الآنية. وكل ما كان في المجلس من الوشي أو غير ذلك.
ما نقم عليه ووصم بهقالوا: كان عظيم الانهماك في ميدان البطالة، واتخذ جملة من الجواري. فصار يراقد منهن جملة تحت لحاف واحج. وانهمك في حب القيان، والزمر والرقص. قالوا: وكان له فتى اسمه حسن، ذو رقبة سمينة، وقفاً عريض، فإذا شرب، كان يرزه، ويعطيه بعد ذلك عطاء جزيلاً. وفي ذلك يقول كاتبه المعروف بالسالمي، وكان يحضر شرابه. ويخمر.
أدر كؤوس المدام والرز ... فقد ظفرنا بدولة العز
نعم ما لكف من قفا حسن ... فإنها في ليانة الخز

وصاحب إن طلبت أخدعه ... فلم يكن في بذله بمعتز
انحنى على أخذاعي فاطربني ... وهز عطفي أيما هز
وأجزل صلة السالمي حين أنشدها إياه، واشتهرت هذه الأبيات بالشرق، واستظرفها الناس. فرد مرسية دار مجونه، وبلغ في زمانه ألفا وأربعين. وآثر زي النصارى من الملابس، والسلاح، واللجم، والسروج. وكلف بلسانهم بتكلم مباهتة، وألجأه الخروج عن الجماعة. والانفراد بنفسه إلى الاحتماء بالنصارى، ومصانعتهم، والاستعانة بطواغيتهم. فصالح صاحب برشلونة لأول أمره على ضرية. وصالح ملك قشتالة على أخرى. فكان يبذل لهم في السنة خمسي ألف مثقال. وابتنى لجيشه من النصارى منازل معلومات وحانات للخمور، وأجحف برعيته، لأرزاق من استعان به منهم، فعظمت في بلاده المغارم وثقلت، واتخذ حوانيت بيع الأدم والمرافق، تخنتنق بجانبه، وجعل على الأغنام وعروض البقر، مؤناً غريبة. وأما رسوم الأعراس والملاهي فكانت قبالاتها غريبة. حدث بعض المز رخين عن الثقة، قال كنت بجيان مع الوزير أبي جعفر الوقشي، فوصل إليه رجل من أهل مرسية، كان يعرفه، فسأله الوزير عن أحوال ابن مردنيش وعن سيره فقال الرجل، أخبرك بما رأيته من جور عماله وظلمهم. وذلك أن أحد الرعية بشاطبة واسمه محمد بن عبد الرحمن، كان له بنظر شاطبة، ضويعة يعيش بها، وكان لازمها أكثر من فايدها، فأعطى لازمها حتى افتقر، وفر إلى مرسية. وكان أمر ابن مردنيش، أنه من فر من الرعية أمام الغزو، أخذ ماله للمخزن. قال الرجل الشاطبي، فلما وصلت إلى مرسية فاراً عن وطني، وخدمت الناس في البنيان، فاجتمع لي مثقالان سعديان، فبينما أنا أمشي في السوق. وإذا بقوم من أهل بلدي شاطبة، ومن قرابتي، فسألتهم عن أولادي وزوجتي، فقالوا إنهم باقية بيد أولادك، فقلت لهم عسى تبيتوا عندي الليلة، فاشتريت لحماً وشراباً، وضربنا دفاً. فلما كان عند الصباح، وإذا بنقر عنيف بالباب. فقلت من أنت؟ فقال أنا الطرقون الذي بيده قبالة اللهو، وهي متفقة بيدي، وأنتم ضربتم البارحة الدف فأعطنا حق العرس الذي عملت. فقلت له والله ما كانت لي عرس. فأخذت وسجنت. حتى افتديت بمثقال واحد من الذي خدمت به. وجئت إلى الدار. فقيل لي أن فلاناً وصل من شاطبة الساعة. فمشيت لأسأله عن أولادي. فقال تركتهم في السجن. وأخذت الضويعة من أيديهم في رسم الجبالى، فرجعت إلى الدار. إلى قرابتي. وعرفتهم بالذي طرأ علي. وبكيت طول ليلتي، وبكوا معي. فلما كان من الغد. وإذا بناقر بالباب. فخرجت فقال أنا رجل صاحب المواريث. أعلمنا أنكم بكيتم البارحة. وأنه قد مات لكم ميت من قرابتكم غني. وأخذتم كل ما ترك. فقلت والله ما بكيت إلا نفسي، فكذبني وحملني إلى السجن، فدفعت المثقال الثاني، ورجعت إلى الدار وقلت أخرج إلى الوادي، إلى باب القنطرة، أغسل ثيابي من درن السجن، وأفر إلى العدوة فقلب لإمرأة تغسل الثياب، إغسلي مما علي. وجردتها. ودفعت لي زناراً ألبسه. فبينا أنا كذلك. وإذا بالخصى قائد ابن مردنيش يسوق ستين رجلاً من أهل الجبل، لابس الزنانير. فرآني على شكلهم، فأمر بحملي إلى السخرة والخدمة بحصن مسقوط عشرة أيام. فلبثت أخدم وأحضر مدة عشرة أيام، وأنا أبكي واشتكي للقايد المذكور، حتى أشفق علي وسرحني. فرجعت أريد مرسية، فقيل لي عند باب البلد، كيف أسمك فقلت محمد بن عبد الرحمن، فأخذني الشرطي، وحملت إلى القابض بباب القنطرة. فقالوا هذا من كتبته من أرباب الحالي بكذا وكذا دينار. فقلت والله ما أنا إلا من شاطبة. وإنما إسمي وافق ذلك الاسم، ووصفت له ما جرى علي، فأشفق وضحك مني؛ وأمر بتسريحي فسرت على وجهي إلى هنا.
بعض الأحداث في أيامه

ونبذ من أخباره

استولى على بلاد الشرق، مرسية وبلنسية وشاطبة ودانية، ثم اتسع نطاق ملكه، فولي جيان وأبدة وبياسة، وبسطة ووادي آش، وملك قرمونة، ونازل قرطبة وإشبيلية، وكاد يستولي علة جميع بلاد الأندلس. فولي صهره ابن همشك، وقد مر في باب إبراهيم، مدينة جيان وأبدة وبياسة، وضيق منها على قرطبة، واستولى على إستجة، ودخل غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسماية وثار عليه يوسف بن هلال من أصهاره بحصن مطرنيش وما إليه. ثم تفاسد ما بينه وبين صهره الآخر ابن همشك. فكان سبب إدبار أمره، واستولى العدو في مدة ابن سعد على مدينة طرطوشة عام ثلاثة وأربعين وخمسماية، وعلى حصن إقليج. وحصن شرانية.
دخوله غرناطة ولما دخل ابن همشك مدينة غرناطة، وامتنعت عليه قصبتها، وهزم الجيش المصرخ لمن حصر بها من الموحدين بمرج الرقاد وثاب أثناء ذلك أمر الموحدين. فتجهز لنصرهم السيد أبو يعقوب. وأجار البحر. واجتمعوا بالسيد أبي سعيد بمالقة. استمد ابن همشك صهره الأسعد أبا عبد الله محمد بن سعد، فخرج بنفسه في العسكر الكبير من أهل الشرق والنصارى. فوصل إلى غرناطة، واضطربت محلته بالربوة السامية المتصلة برابض البيازين. وتعرف إلى اليوم بكدية مردنيش وتلاحق جيش الموحدين بأحواز غرناطة. فأبينوا جيش عدوهم، فكانت عليه الدبر، وفر ابن مردنيش فلحق بجيان، واتصلت عليه الغلبة من لدن منتصف عام ستين فلم يكن له بعده ظهور.
وفاته وظهر عليه أمر الموحدين، فاستخلصوا معظم ما بيده، وأوقعوا بجنده الوقايع العظيمة. وحصر بمدينة مرسة، واتصل حصاره، فمات أثناء الحصار في عشر رجب من عام سبعة وستين وخمسماية وله ثمانية وأربعون عاماً، ووصل أمره أبو القمر هلال، وألقى باليدين إلى الموحدين، فنزل على عهد ورسوم حسيما يأتي في موضعه.
محمد بن يوسف بن هود الجذامي

أمير المسلمين
بالأندلس، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب السلطانية بالمتوكل على الله.
أوليتهمن ولد المستعين بن هود. وأوليتهم معروفة، ودولتهم مشهورة، وأمراؤهم مذكورون. خرج من مرسية تاسع رجب عام خمسة وعشرين وستماية إلى الصخور من جهاتها في نفر يسير من الجنود معه وكان الناس يستشعرون ذلك. ويرتقبون ظهور مسمى باسمه واسم أبيه، وينددون. بإخمرته وسلطانه. وجرى عليه بسبب ذلك امتحان في زمن الموحدين مرات، إذ كان بعض الهاتفين بالأمور الكاينة، والقضايا المستقبلة، يقول لهم، يقوم عليكم قايم من صنف الجند، اسمه محمد بن يوسف. فقتلوا بسبب ذلك شخصاً من أهل جيان. ويقال إن شخصاً ممن ينتحل ذلك، لقي ابن هود، فأمعن النظر إليه، ثم قال له أنت سلطان الأندلس، فانظر لنفسك، وأنا أدلك على من يقيم ملكك، فاذهب إلى المقدم الغشتي فهو القايم بأمرك. وكان الغشتي رجلاً صعلوكاً يقطع الطريق، وتحت يده جماعة من أنجاد الرجال، وسباع الشرار، قد اشتهر أمرهم، فنهض إلى المقدم، وعرض عليه الأمر، وقال نسستفتح بمغاورة إلى أرض العدو، على اسمك وعلى سعدك، ففعلوا، فجلبوا كثيراً من الغنايم والأسرى، وانضاف إلى ابن هود طوايف مثل هؤلاء، وبايعوه بالصخيرات كما ذكر، من ظاهر مرسية، وتحرك إليه السيد أبو العباس بعسكر مرسية، فأوقع به وشرده، ثم ثاب إليه ناسه، وعدل إلى الدعاء للعباسيين، فتبعه اللفيف، ووصل تقليد الخليفة المستنصر بالله ببغداد، فاستنصر الناس في دعوته، وشاع ذكره، وملك القواعد، وجيش الجيوش، وقهر الأعداء، ووفي للغشتي بوعده، فولاه أسطول إشبيلية، ثم أشطول سبتة، مضافاً إلى أمرها، وما يرجع إليه، فصار به أهلها بعد وخلعوه، وفر أمامهم في البحر، وخفي أثره إلى أن تحقق استقراره أسيراً في البحر بغرب الأندلس، ودام زماناً، ثم تخلص في سن الشيخوخة، ومات برباط آسفي.
حالهكان شجاعاً، ثبتاً، كريماً حيياً، فاضلاً، وفياً، متوكلاً عليه، سليم الصدر، قليل المبالاة، فاستعلى لذلك عليه ولاته بالقواعد، كأبي عبد الله بن الرميمي بألمرية، وأبي عبد الله بن زنون بمالقة، وأبي يحيى عتبة بن يحيى الجزولي بغرناطة. وكان مجدوداً، لم ينهض له جيش. ولا وفق لرأي، لغلبة الخفة عليه، واستعجاله الحركات، ونشاطه إلى اللقاء، من غير كمال استعداد.
بعض الأحداث في أيامه

جرت عليه هزائم منها هزيمة السلطان الغالب بالله إياه مرتين، إحداهما بظاهر إشبيلية، وركب البحر فنجا بنفسه. ثم هزمه بإلبيرة من أحواز غرناطة، زعموا ذلك في سنة أربع وثلاثين وستماية أو نحوها.
وفي سنة خمس وثلاثين كان اللقاء بينه وبين المأمون إدريس أمير الموحدين بإشبيلية، فهزمه المأمون أقبح هزيمة، واستولى على محلته، ولاذ منه بمدينة مرسية.
ثم شغل المأمون الأمر، وأهمته الفتنة الواقعة بمراكش، فصرف وجهه إليها وثاب الأمر للمتوكل، فدخلت في طاعته ألمرية، ثم غرناطة، ثم مالقة. وفي سبع وعشرين وستماية، تحرك بفضل شهامته بجيوش عظيمة، لإصراخ مدينة ماردة، وقد نازلها العدو وحاصر، ولقي الطاغية بظاهرها، فلم يتأن زعموا، حتى دفع بنفسه العدو، ودخل في مصافه. ثم لما كر إلى ساقته، وجد الناس منهزمين لما غاب عنهم، فاستولت عليه هزيمة شنيعة. واستولى العدو على ماردة بعد ذلك.
وفتح عليه في أمور منها تملكه إشبيلية سنة تسع وعشرين وستماية، وولي عليها أخاه الأمير أبا النجاة سالماً الملقب بعماد الدولة. في سنة إحدى وثلاثين. رجعت قرطبة إلى طاعته، واستوسق أمره. وتملك غرناطة ومالقة عام خمسة وعشرين وستمائة، ودانت له البلاد. وفي العشر الأول من شوال. دخل في طاعته الريسان أبو زكريا، وأبو عبد الله، إبنا الرئيس أبي سلطان عزيز بن أبي الحجاج بن سعد. وخرجا عن طاعة الأمير أبي جميل، وأخذا البيعة لابن هود على ما في أيديهما. وفي سنة ست وعشرين وستمائة، تملك الجزيرة الخضراء عنوة، يوم الجمعة التاسع لشعبان من العام. وفي العشر الوسط من شوال ورد عليه الخبر ليلاً بقصد العدو وجهة مدينة وادي آش. فأسرى ليله مسرجاً بقية يومه، ولحق بالعدو على ثمانين ميلاً، فأتى على آخرهم ولم ينج منه أحد.
أخوتهالرئيس أبو النجاة سالم، وعلامته وثقت بالله، ولقبه عماد الدولة، والأمير أبو الحسن عضد الدولة، وأسره العدو في غارة، وافتكه بمال كثير، والأمير أبو إسحاق شرف الدولة. وكلهم يكتب عنه، من الأمير فلان.
ولدهأبو بكر الملقب بالواثق بالله، أخذ له البيعة على أهل الأندلس. في كذا، وولي بعده ولي عهده، واستقل بملك مرسية. ثم لم ينشب أن هلك..
دخوله غرناطةدخل غرناطة مرات عديدة، إحداها في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقد وردت عليه الراية والتقليد من الخليفة العباسي ببغداد. وبمصلى غرناطة، قرئ على الناس كتابه، وهو قايم، وزيه السواد، ورايته السوداء بين يديه، وكان يوم استسقاء، فلم يستتم على الناس قراءة الكتاب يومئذ، إلا وقد جادت السماء بالمطر، وكان يوماً مشهوداً، وصنعاً غريباً، وأمر بعد انصرافه، أن يكتب عنه بتلك الألقاب التي تضمنها الكتاب المذكور إلى البلاد.
وفاتهاختلف الناس في سبب وفاته، فذكر أنه قد عاهد زوجه ألا يتخذ عليها امرأة طول عمره، فلما تصير إليه الأمر، أعجبته رومية حصلت له بسبب السبي من أبناء زعمائهم، من أجمل الناس، فسترها عند ابن الرميمي خليفته، فزعموا أن الن الرميمي علق بها. ولما ظهر حملها خاف افتضاح القصة، فدبر عليه الحيلة، فلما حل بظاهر ألمرية، عرض عليه الدخول إليها، فاغتاله ليلاً، بأن أقعد له أربعة رجال، قضوا عليه خنقاً بالوسايد. ومن الغد داعي أنه مات فجأة، ووقف عليه العدول، والله أعلم بحقيقة الأمر سبحانه. وكانت وفاته ليلة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة عام خمسة وثلاثين وستماية. وفي إرجاف الناس بولاية ابن هود، والأمر قبل وقوعه، يقول الشاعر:
همام به زاد الزمان طلاقة ... ولذت لنا فيه الأماني موردا
فقل لبني العباس ها هي دولة ... أغار بها الحق المبين وأنجدا
فإن الذي قد جاء في الكتب وصفه ... بتمهيد هذي الأرض قد جاء فاهتدا
فإن بشرتنا بابن هود محمد ... فقد أظهر الله ابن هود محمدا
محمد بن أحمد الغافقيمحمد بن أحمد بن زيد بن أحمد بن زيد بن الحسن بن أيوب ابن حامد بن زيد بم منخل الغافقي يكنى أبا بكر من أهل غرناطة. وسكن وادي آش
أوليته

أصل هذا البيت من إشبيلية، وذكره الرازي في الاستيعاب، فقال، وبإشبيلية بيت زيد الغافقي، وهم هناك جماعة كبيرة، فرسان ولهم شرف قديم، وقد تصرفوا في الخدمة. بلديون، ثم انتقلوا إلى طليطلة، ثم قرطبة، ثم غرناطة. وذكر الملأحي في كتابه، الحسن بن أيوب بن حامد بن زيد ابن الحسن هو المقتول يوم قيام بني خالد، بدعوة السلطان أبي عبد الله الغالب بالله بن مصر، وكان عامل المتوكل على الله بن هود بها، وعمن جمع له بين الدين والفضل والمالية.
حاله ونباهته وحنته ووفاتهكان هذا الرجل عيناً من أعيان الأندلس، وصدراً من صدورها. نشأ عفاً متصاوناً عزوفاً، وطلاوة نزيهاً أبياً كريم الخؤولة، طيب الطعمة، حر الأصالة، نبيه الصهر. ثم استعمل في الوزارة ببلده، ثم قدم على من به من الفرسان، فأوردهم الموارد الصفية بإقدامه، واستباح من العدو الفرصة، وأكسبهم الذكر والشهرة، وأنفق في سبيل الله، إلى غضاضة الإيمان، وصحة العقد، وحسن الشيعة، والاسترسال في ذكر التواريخ، والأشعار الجاهلية، والأمثال، والتمسك بأسباب الدين، وسحب أذيال الطهارة، وهجر الخبايث، وإيثار الجد، والانحطاط في هوى الجماعة.
مشيختهقرأ بغرناطة على شيخ الجماعة أبي عبد الله بن الفخار، وببلده على الأستاذ أبي عبد الله الطرسوني، وبه انتفاعه، وكان جهوري الصوت، متفاضلاً، قليل التهيب في الحفل. ولما حدث بالسلطان أبي عبد الله من كياد دولته، وتلاحق بوادي آش مفلتاً، قام بأمره، وضبط البلد على دعوته، ولم المداهنة في أمره، وجعل حيل عدوه دبر أذنه، إلى أن خرج عنها إلى العدوة، فكان زمان طريقه مفدياً له بنفسه، حتى لحق بمأمنه، فتركها مغربة.
خبر في وفاته ومعرجهوكانت الحمد لله على محمده، واستأثر به الداخل، فشد عليه يد اغتباطه، وأغرى به عقد ضنانته، وخلطه بنفسه، ثم أغرى به لمكانته من الشهامة والرياسة، فتقبض عليه، وعلى ولده، لباب بني وقته، وغرة أبناء جنسه، فأودعهما مطبق أرباب الجرايم، وهم باغتيالهما، ثم نقلهما إلى مدينة المنكب ليلة المتصف لمحرم من عام اثنين وستين وسبعمائة في جملة من النبهاء، مأخوذين بمثل تلك الجريرة ثم صرف الجميع في البحر إلى بجاية، في العشر الأول لربيع الأول مصفدين. ولما حلوا بها، أقاموا تحت بر وتجلة؛ ثم ركبوا البحر إلى تونس، فقطع بهم أسطول العدو بأحواز تكرنت، ووقعت بينه وبين المسلمين حرب، فكرم مقام المترجم يومئذ، وحسن بلاؤه. قال المخبر، عهدي به، وقد سل سيفاً، وهو يضرب بالعدو ويقول، اللهم اكتبها لي شهادة. واستولى العدو على من كان معه من المسلمين، ومنهم ولده؛ وكتب افتك الجميع ببلد العناب، وانصرف ابنه إلى الحج، وآب لهذا العهد بخلال حميدة كريمة. من سكون وفضل ودين وحياء، وتلاوة، إلى ما كان يجده من الركض، ويعانية من فروسية، فمضى على هذا السبيل من الشهادة، نفعه الله، في ليلة الجمعة الثامن لرجب من عام اثنين وستين وسبعمائة.
شعرهأنشدني قاضي الجماعة أبو الحسن بن الحسن له:
يا أيها المرتجى لطف خالقه ... وفضله في صلاح الحال والمال
لو كنت توقن حقاً لطف قدرته ... فاشمخ بأنفك عن قيل وقال
فإن لله لطفاً عز خالقنا ... عن أن يقاس بتشبيه وتمثال
وكل أمر وإن أعياك ظاهره ... فالصنع في ذاك لا يجري على بال
محمد بن أحمد بن محمد الأشعريمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن المحروق، الوكيل بالدار السلطانية، القهرمان بها، المستوزر آخر عمره، سداد من عون.
حاله وأوليته وظهوره

كان رحمه الله من أهل العفاف والتصاون، جانحاً إلى الخير، محباً في أهل الإصلاح، مغضوض الطرف عن الحرم، عفيفاً عن الدماء، متسمسكاً بالعدالة، من أهل الخصوصية، كتب الشروط، وبرز في عدول الحضرة، وكان له خط حسن، ومشاركة في الطلب، وخصوصاً في الفرايض، وحظه تافه من الأدب، امتدح الأمراء، فترقى إلى الكتابة مرؤوساً مع الجملة. وعند الإيقاع بالوزير ابن الحكيم، تعين لحصر ما استرفع من منتهب ماله، وتحصل بالدار السلطانية من آثاثه وخرثيه، فحزم واضطلع بما كان داعية ترقيه إلى الوكالة، فساعده الوقت، وطلع له جاه كبير، تملك أموالاً غريضة، وأرضاً واسعة، فجمع الدنيا بحزمه ومثابرته على تنمية داخله وترقى إلى سماء الوزارة في الدولة السادسة من الدول النصرية، بتدبير شيخ الغزاة، وزعيم الطايفة عثمان بن أبي العلاء، فوصله إلى إدوار دنياه، والله قد خبأ له المكروه في المحبوب، وتأذن الله سبحانه بنفاد أجله على يده، فستولى وحجب السلطان. ثم وقعت بينه وبين مرشحه، الوحشة الشهيرة، عام سبع وعشرين وسبعمائة، مارساً لمكان الفتنة، صلة فارط في حجب السلطان، وأجلى جمهور ما كان ببابه، ومنع من الدخول إليه، فاضطربت حاله، وأعمل التدبير عليه، فهجم عليه بدار الحرة الكبيرة جدة السلطان، وكان يعارضها في الأمور، ويجعلها تكأة الغرضه، فتيان من أحداث المماليك، المستبقين مع محجوبه، تناولاه سطاً بالخناجر، ورمى نفسه في صهريج الدار، وما زالا يتعاورانه من كل جانب حتى فارق الحياة رحمه الله تعالى.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وكانت له فيه فراسة صادقة.
محمد بن فتح بن علي الأنصارييكنى أبا بكر ويشهر بالأشبرون. قاضي الجماعة.
حالهكان طرفاً في الدهاء والتخلق والمعرفة بمقاطع الحقوق، ومغامز الريب، وعلل الشهادات، فذاً في الجزالة، والصرامة، مقداماً، بصيراً بالأمور، حسن السيرة، عذب الفكاهة، ظاهر الحظوة، علي الرتبة، خرج من إشبيلية عند تغلب العدو عليها، وولي القضاء بمالقة وبسطة. ثم ولي الحسبة بغرناطة، ثم جمعت له إليها الشرطة، ثم قدم قاضياً، واستمرت ولايته نحواً من ثلاثين سنة.
محمد بن الزيات الكلاعيمحمد بن أحمد بن علي بن حسن بن علي بن الزيات الكلاعي ولد الشيخ الخطيب أبي جعفر بن الزيات، من أهل بلش يكنى أبا بكر.
حالهمن عائد الصلة من تأليفنا. كان رحمه الله شبيهاً بأبيه، في هديه، وحسن سمته ووقاره، إلا أنه كان حافظاً للرتبة. مقيماً للأبهة، مستدعياً بأبيه ونفسه للتجلة، بقية من أبناء المشايخ، ظرفاً وأدباً ومروءة وحشمة، إلى خط بديع قيد البصر، ورواية علاية، ومشاركة في فنون، وقراءة، وفقه، وعربية، وأدب وفريضة، ومعرفة بالوثاق والأحكام. تولى القضاء ببلده، وخلف أباه على الخطابة والإمامة، فأقام الرسم، واستعمل في السفارة، فسد مسد مثله، وأقرأ ببلده، فانتفع به.
مشيختهقرأ على الأستاذ الخطيب أبي محمد بن أبي السداد الباهلي. وبغرناطة، على شيخ الجماعة الأستاذ أبي جعفر بن الزبير. ومن أعلام مشيخته، جده للأم خال أبيه، الحكيم العارف أبو جعفر ابن الخطيب أبي الحسن بن الحسن المذحجي الحمى، والخطيب الرباني أبو الحسن فضل بن فضيلة، والوزير أبو عبد الله ابن رشيد.
محمد بن علي بن الحاجمحمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن الحاج يكنى أبا بعد الله، ويعرف بابن الحاج.
أوليته وحاله

كان أبوه نجاراً من مدجنى مدينة إشبيلية من العارفين بالحيل الهندسية، بصيراً باتخاذ الآلات الحربية الجافية، والعمل بها، وانتقل إلى مدينة فاس على عهد أبي يوسف المنصور بن عبد الحق، واتخذ له الدولاب، المنفسخ القطر البعيد المدى، ملين المركز والمحيط، المتعدد الأكواب، الخفي الحركة، حسبما هو اليوم مائل بالبلد الجديد، دار الملك بمدينة فاس، أحد الآثار التي تحدو إلى مشاهدتها الركاب، وبناء دار الملك بمدينة فاس، أحد الآثار التي تحدو إلى مشاهدتها الركاب، وبناء دار الصنعة بسلا. وانتقل بعد مهلك أبيه إلى باب السلطان ثاني الملوك من بني نصر، ومت إليه بوسيلة، أدنت محله، وأسنت جراياته، إلى أن تولى وزارة ولده أمير المسلمين، أبي الجيوش نصر، واضطلع بتدبيره. ونقم الناس عليه إيثاره لمقالات الروم، وانحطاطه في مهوى لهم، والتشبيه بهم في الأكل والحديث، وكثير من الأحوال والهيئات والاستحسان؛ وتطريز المجالس بأمثالهم وحكمهم، سمة وسمت منه عقلاً، لنشأته بين ظهرانيهم، وسبقت إلى قوى عقله المكتسب في بيوتهم، فلم بفارقه بحال، وإن كان آية في الدهاء، والنظر في رجل بعيد الغور، عميق الفكر، قايم على الدمنة، منطو على الرضف، لين الجانب، مبذول البشر، وحيد زمانه في المعرفة بلسان الروم وسيرهم، محكم الأوضاع في أدب الخدمة، ذرب بالتصرف في أبواب الملوك.
وكان من ثورة العامة بسلطانه ما تقدم، وجهروا بإسلامه إليهم، وقد ولوه بسبب الثورة، وطوقوه كياد الأزمة. فضن به السلطان ضنانة، أعربت عن وفايه، وصان مهجتة، واستمر الأمر إلى أن خلع الملك عن الملك. وكان نزول الوزير المذكور تحت خفارة شيخ الغزاة، وكبير الطايفة، عثمان بن أبي العلي، فانتقل محفوظ الجملة، محوط الوفر، ولم ينشب إلى أن لجأ إلى العدوة، واتصل بالأمير أبي علي عمر بن السلطان الكبير أبي سعيد، فحركه. زعموا، على محادة أبيه، وحمله على الانتزاء، فكان ما هو معلوم من دعاية إلى نفسه، ومنازعة أبيه، ولقايه إياه بالمقرمدة وفل جيشه، وفي أثناؤه هلك المترجم به.
وفاتهتوفي بفاس الجديد في العشر الأول من شعبان عام أربع عشرة وسبعماية.
محمد بن أرقم النميريمحمد بن رضوان بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أرقم النميري من أهل وادي آش، يكنى أبا يحيى.
حالهكان صدراً شهيراً، عالماً علما، حسيباً، أصيلاً، جم التحصيل، قوي الإدراك، مضطلعاً بالعربية واللغة، إماماً في ذلك، مشاركاً في علوم من حساب وهيئة وهندسة. قال الشيخ: كان في هذا كله أبرع من لقيته، إلى سراوة وفضل وتواضع ودين، جارياً في ذلك على سنن سلفه. وعلو محتده. جالسته. رحمه الله، كثيراً عند علية من أدركته بغرناطة، لإقامته بها وتكرر لقائي إياه بها وبغيرها، فرأيت أصيلاً جليلاً، قد جمع علماً وفضلاً، وحسن خلق، وكان حسن التقييد، لخطه رونق يمتاز به، ويبعد عن غيره، ولي القضاء ببلجه، ثم ولي بعد مدة ببرشانة فحمدت سيرته.
مشيختهأخذ القراءات السبع عن أبي كرم جودى بن عبد الرحمن، وقرأ عليه الغريب واللغة، ولازمه في ذلك، وأجاز له إجازة عامة. وأخذ من غيره ببلده، وصحب بغرناطة جملة من العلماء بها، أيام اختلافه إليها، وإقامته بها.
تواليفهألف كتاباً سماه الاحتفال في استيفاء ما للخيل من الأحوال، وهو كتاب ضخم وفقت عليه من قبله وأفدته. واختصر الغريب المصنف، وله تقاييد منثور ومنظوم في علم النجوم، ورسالة في الإسطرلاب الخطى والعمل به. وشجرة في أنساب العرب.
وفاتهتوفي ليلة السبت السابع عشر لشهر ربيع الآخر عام سبع وخمسين وسبعماية.
محمد بن محمد أبو عيشونمحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابن محمد بن خلف بن محمد بن سليمان بن سوار بن أحمد بن حزب الله بن عامر بن سعد الخير بن عياش، المكنى بأبي عيشون بن حمود، الداخل إلى الأندلس صحبة موسى بن نصير، ابن عنبسة بن حارثة بن العباس بن المرداس، يكنى أبا البركات، بلفيقي الأصل، مروى النشأة والولادة والسلف، يعرف بابن الحاج، وشهر الآن في غير بلده بالبلفيقي، وفي بلده بالمعرفة القديمة.
أوليته

قد تقدم اتصال نسبه بحارثة بن العباس بن مرادس، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد خطبايه وشعرايه، رييس في الإسلام، ورييس في الجاهلية. وكان لسلفه، وخصوصاً لإبراهيم من الشهرة بولاية الله؛ وإيجاب الحق من خلقه ما هو مشهور، حسبما تنطق به الفهارس، يعضد هذا المجد من جهة الأمومة، كأبي بكر بن صهيب، وابن عمه أبي إسحاق، وغيرهم، الكثير ممن صنف في رجال الأندلس، كأبي عبد المجيد المالقي، وابن الأبار، وابن طلحة، وابن فرتون، وابن صاحب الصلاة، وابن الزبير، وابن عبد الملك، فلينظر هناك.
حالهنشأة ببلده ألمرية عمود العفة، فضفاض جلباب الصيانة، غضيض طرف الحياء، نائي جنب السلام، حليف الانقباض والازورار، آوياً إلى خالص النشب وبحت الطعمة، لا يرى إلا في منزل من سأله، وفي حلق الأسانيد، أو في مسجد من المساجد خارج المدينة المعدة للتعبد، لا يجيئ سوقاً، ولا مجمعاً، ولا وليمة، ولا مجلس حاكم أو وال، ولا يلابس أمراً من الأمور التي جرت عادته أن يلابسها بوجه من الوجوه. ثم ترامى إلى رحلة، فجاس خلال القطر الغربي إلى بجاية، نافضاً إياه من العلماء والصلحاء والأدباء والآثار بتقييده، وأخذه قيام ذكر، وإغفال شهرة. ثم صرف عنانه إلى الأندلس، فتصرف في الإقراء، والقضاء، والخطابة. وهو الآن نسيج وحده في أصالة عريقة، وسجية على السلامة مفطورة فما شيت من صدر سليم، وعقد وثيق، وغور قريب، ونصح مبذول، وتصنع مرفوض ونفس ساذجة، وباطن مساو للظاهر، ودمعة سريعة، وهزل يثمر تجلة. وانبساط يفيد حسن نية، إلى حسن العهد، وفضل المشاركة، ورقة الحاشية، وصلابة العود، وصدق العزيمة، وقوة الحامية، وبلاغة الموعظة، وجلة الوقت. وفايدة العصر، تفنناً وإمتاعاً، فارس المنابر غير الهيابة، ولا الجزوع، طيب النغمة بالقرآن، مجهشاً في مجال الرقة، كثير الشفقة لصالح العامة، متأسفاً لضياع الأوقات، مدمعاً على الفيئة، مجماً، محولاً في رياسة الدين والدنيا. هذا ما يسامح فيه الإيجاز، ويتجافى عنه الاختصار، ويكفى فيه الإلماع والإشارة، أبقى الله شيخنا أبا البركات.
مشيخته ولايتهتقدم قاضياً بقنالش، في جمادى الثانية عام خمسة عشر وسبع مائة ثم ولي مربلة، وإستبونة ثم كانت رحلته إلى بجاية. ثم عاد فقعد بمجلس الإقراء من مالقة للكلام على صحيح مسلم، متفقاً على اضطلاعه بذلك. ثم رحل إلى فاس. ثم آب إلى الأندلس، واستقر ببلده ألمرية، فقعد بمسجدها الجامع للإقراء ثم قام قاضياً ببرجة ودلاية، والبنيول وفنيانة، ثم نقل عنها إلى بيرة، ثم غربي ألمرية. ثم قدم قاضياً بمالقة، ثم قدم بغربها مضافاً إلى الخطابة، ثم أعيد إلى قضاء ألمرية، بعد وفاة القاضي أبي محمد بن الصايغ. ومن كتاب طرفة العصر من تأليفنا في خبر ولايته ما نصه: فتقلد الحكم في الثالث والعشرين لشعبان من عام سبع وأربعين وسبعمائة، ثالث يوم وصوله مستدعي، وانتابه الطلبة، ووجوه الحضرة والدولة، مهنئين بمثواه من دار الصيانة، ومحل التجلة، إحدى دور الملوك بالحمراء، فطفقوا بغشونه بها زرافات ووجداناً في إتاحة الخير، وإلهام السداد، وتسويغ الموهبة. وكان وصوله، والأفق قد اغبر، والأرض قد اقشعرت لانصرام حظ من أيام الشتاء الموافق لشهر ولايته، لم يسح فيه الغمام بقطرة، ولا لمعت السماء بنزعة، حتى أضرت الأنفس الشح، وحسر العسر عن ساقه، وتوقفت البذور، فساعده الجد بنزول الرحمة عند نزوله من مرقاة المنبر، مجابة دعوة استسقايه، ظاهرة بركة خشوعه، ولذلك ما أنشدته في تلك الحال:
ظمئت إلى السقيا الأباطح والربا ... حتى دعونا العام عاما مجدباً
والغيث مسدول الحجاب وإنما ... علم الغمام قدومكم فتأدبا

وتولى النظر في الأحكام فأجال قداحها، مضطلعاً بأصالة النظر، وإرجاء المشبهات، وسلك في الخطابة طريقة مثلى، يفرغ في قوالب البيان أغراضها، ويصرف على الأحكام الكواين والبساطات أساليبها. من المحاكاة، باختلاف القبض والبسط، والوعد والوعيد، حظوظها على مقبض العدل. وسبب الصواب يقوم على كثير مما يصدع به، من ذلك شاهد البديهة. ودليل الاستيعاب، قال شيخنا أبو البركات: ثم صرفت عنها للسبب المتقدم. وبقيت مقيماً بها، لما اشتهر من وقوع الوباء بألمرية، ثم أعدت إلى القضاء والخطابة بألمرية، وكتب بذلك في أوايل رجب عام تسعة وأربعين. وبقيت على ذلك إلى أن صرفت بسبب ما ذكر. ثم أعدت إليها في أواخر رجب سنة ست وخمسين، عسى أن سكون الانقطاع لله سبحانه. فأنا الآن أتمثل بما قاله أبو مطرف بن عميرة رحمه الله:
قد نسبنا إلى الكتابة يوماً ... ثم جاءت خطة القضاء تليها
وبكل لم نطق للمجد إلا ... منزلاً نابياً وعيشاً كريها
نسبة بدلت فلم تتغير ... مثل ما يزعم المهندس فيها
بدل من لفظ الكتابة إلى الخطابة. وأغرب ما رأيت ما أحكى لك، وأنت أعلم ببعض ذلك، أن أفضل ما صدر عني في ذلك، الخطة من العمل الذي أخلصت لله فيه، ورجوت منه المثوبة عليه، وفيه مع ذلك مفتخر لمن أراد أن يفتخر غير ملفت للدنيا، فعليه عولت سبحانه. انتهى كلامه.
تصانيفهكتب إلي بخطه ما نصه، وهو فصل من فصول: وأما تواليفي فأكثرها، أو كلها عير متممة في مبيضات. منها كتاب قد يكبو الجواد في أربعين غلطة عن أربعين من النقاد، وهو نوع نمن تصحيق الحفاظ لدار قطني، منها سلوة الخاطر فيما أشكل من نسبة النسب الرتب إلى الذاكر. ومنها كتاب قدر جم في نظم الجمل. ومنها كتاب خطر فبطر، ونظر فحظر، على تنيهات على وثائق ابن فتوح، ومنها كتاب الإفصاح فيمن عرف بالأندلس بالصلاح. ومها حركة الدخولية في المسألة المالقية. ومنها خطرة المجلس في كلمة وقعت في شعر استنصر به أهل الأندلس جزء صغير. ومنها تاريخ ألمرية غير تام. ومنها ديوان شعره المسمى بالعذب والأجاج في شعر أبي البركات ابن الحاج. ومختصرة سماه القاضي الشريف اللؤلؤ والمرجان اللذان من العذاب والأجاج يستخرجان. ومنها عرايس بنات الخواطر المجلوة على منصات المنابر يحتوي على فصول الخطب التي أنشئت بطول بني والخطابة. ومنها المؤتمن على أنباء أبناء الزمن. ومنها تأليف في أسماء الكتب، والتعريف بمؤلفيها، على حروف المعجم. ومنها ما اتفق لأبي البركات فيما يشبه الكرامات ومنها كتاب ما رأيت وما رؤى لي من المقامات. ومنها كتاب المرجع بالدرك على من أنكر وقوع المشترك ومنها مشبهات اصطلاح العلوم. ومنها ما كثر وروده في مجلس القضاء. ومنها الغلسيات، وهو ما صدر عني من الكلام على صحيح مسلم أيام التكلم عليه في التغليس. ومنها الفصول والأبواب، في ذكر من أخذ عني من الشيوخ والأتباع والأصحاب.

ثم قال: وقد ذهب شرخ الشباب ونشاطه، وتقطعت أوصاله، ورحل رباطه، وأصبحت النفس تنظر لهذا كله بعين الإمهال والإغفال، وقلة المبالاة التي لا يصل أحد بها إلى منال. وهذه الأعمال لا ينشط إليها إلا المحركات التي هي مفقودة عندي، أحدها طلبة مجتمعون متعطشون إلى ما عندي متشوفون غاية التشوف، وأين هذه بألمرية. الثاني، طلب رياسة على هذا، متى يرأس أحد بهذا اليوم، وعلى تقدير أن برأسي به وهو محال في عادة هذا الوقت، فالتشوف لهذه الرياسة مفقود عندي. الثالث، سلطان يملأ يد من يظهر مثل هذا، على يده غبطة، وما تم هذا. الرابع، نية خالصة لوجه الله تعالى في الإفادة، وهذا أيضاً مفقود عندي، ولا يد من الإنصاف. الخامس، قصد بقاء الذكر، وهذا خيال ضعيف بعيد عني. السادس، الشفقة على شيء ابتدى، وسعى في تحصيل مباديه، أن يضيع على قطع ما سوى هذا الإشفاق، وهذا السادس، هو الذي في نفسي منه شيء، وبه أنا أقيد أسماء من لقيت، وما أخذت، ويكون إن شاء الله إبراز إذا الصحف نشرت. وأكثر زماني يذهب في كيفية الخروج عما أنا فيه، فإذا ينظر إلى العاقل في هذا الوقت بعين البصيرة، لا يسعه إلا الشفقة علي. والرحمة لي. فإنه يرى رجلاً مطرقاً أكثر نهاره، ينظر إلى مآله، فلا ينشط إلى إصلاحه، وهو سابع ولا يلبس بالعبادة وهو في زمانها المقارب للفوت، ولا ينهض إلى إقامة حق كما ينبغي لعدمك المعين، ولا يجنح إلى شيء من راحات الدنيا، ويشاهد من علوم الباطل الذي لا طاقة له على رفعه ما يضيق صدر الحر يقضى نصف النهار، محتلاً في مكان غير حسن، تارة يفكر، وتارة يكتب ما هو على يقين منه أنه كذا لا ينتفع به، ونصف النهار يقعد للناس، تارة يرى ما يكره، وتارة يسمع مايكره، لا صديق يذكره بأمر الآخرة، ولا صديق يسليه بأمر الدنيا، يكفيني من هذه الغزارة. اللهم إليك المشتكى يا من بيده الخلف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
شعرهمن مطولاته في النزعة الغربية التي انفرد بها، منقولاً من ديوانه. قال: ومما نظمته بسبتة في ذي الحجة من عام خمسة وعشين وسبعمائة، في وصف حالي، وأخذها عني الأستاذ بسبتة، أبو عبد الله بن هانئ، والأديب البارع أبو القاسم الحسيني، وأبو القاسم بن حزب الله، وسواهم. ولما انفصلت من سبتة إلى بلاد الريف زدت عليها إبياتاً في أولها وكثر ذلك بوادي لو من بلاد الريف وهي:
تأسفت لا كن حين عز التأسف ... وكفكت دمعاً حين لا عين تذرف
ورام سكوناً وهو في رجل طاير ... ونادى بأنس والمنازل تعنف
أراقب قلبي مرة بعد مرة ... فالفيه ذياك الذي أنا أعرف
سقيم ولا كن لا يحس بدايه ... سوى من له في مأزق الموت موقف
وجاذب قلباً ليس يأوى لمألف ... وعالج نفساً داؤها يتضاعف
وأعجب ما فيه استواء صفاته ... إذ الهم يشقيه أو السر ينزف
إذا حلت الضراء لم ينفعل لها ... وإن حلت السراء لم يتكيف
مذاهبه لم تبد غاية أمره ... فؤاد لعمري لا يرى منه أطرف
فما أنا من قوم قصارى همومهم ... بنوهم وأهلهم وثوب وأرغف
ولا لي بالإسراف فكر محدث ... سيغدو جبيبي أو سيشعر مطرف
ولا أنا ممن لهوه جل شأنه ... بروض أنيق أو غزال مهفهف
ولا أنا ممن أنسه غاية المنى ... بصوت رخيم أو نديم وفرقف
ولا أنا ممن تزدهيه مصانع ... ويسبيه بستان وليهيه مخرف
ولا أنا ممن همه جمعها فإن ... تراءت يثب بسعي لها وهو مرجف
على أن دهري لم تدع لي صروفه ... من المال إلا مسحة أو مجلف
ولا أنا ممن هذه الدار همه ... وقد غره منها جمال وزخرف
ولا أنا ممن للسؤال قد انبرى ... ولا أنا ممن صان عنه التعطف
ولا أنا ممن نجح اله سعيهم ... فهمتهم فيها مصلى ومصحف
فلا في هوى أضحى إلى اللهو قايداً ... ولا في تقي أمس إلى الله يزلف

أحارب دهري في نقيض طباعه ... وحربك من يقضى عليك تعجرف
وأنظره شزراً بأصلف ناظر ... فيعرض عني وهو أزهى وأصلف
وأضبطه ضبط المحدث صحفه ... فيخرج في التوقيع أنت المصحف
ويأخذ مني كل ما عز نيله ... ويبدو بجهلي منه في الأخذ محتف
أدور له في كل وجه لعلني ... سأتبته وهو الذي ظل يحذف
ولما يئسنا منه تهنا ضرورة ... فلم تبق لي فيها عليه تشوف
تكلفت قطع الأرض أطلب سلوة ... لنفسي فما أجدى بتلك التكلف
وخاطرت بالنفس العزيزة مقدماً ... إذا ما تخطى النصل قصد مرهف
وصرفت نفسي في شئون كثيرة ... لحظة فلم يظفر بذاك التصرف
وخضت فلأنواع المعارف أبحراً ... ففي الحين ما استجرتها وهي تترف
ولم أحل من تلك المعاني بطايل ... وإن كان أهلوها أطالوا وأسرفوا
وقد مر من عمري الألذ وها أنا ... على ما مضى من عهده أتلهف
وإني على ما قد بقي منه إن بقي ... لحرمة ما قد ضاع لي أتخوف
أعد ليالي العمر والفرض صومها ... وحسبك من فرض المحال تعف
على أنها إن سلمت جدليه ... تعارض آمالاً عليها ينيف
تحدثني الآمال وهي كدينها ... تبدل في تحديثها وتحرف
بأني في الدنيا سأقضي مآربي ... وبعد يحق الزهد لي والتقشف
ورب أخلاء شكوت إليهم ... ولكن لفهم الحال إذ ذاك لم يف
فبعضهم يزوي علي وبعضهم ... يغض وبعض يرثي ثم يصدف
وبعضهم يومي إلي تعجباً ... وبتعض بما قد رأيته يتوقف
وبعضهم يلقى جوابه على ... مقتضى العقل الذي عنه يتوقف
يسيء استماعاً ثم يعد إجابة ... على غير ما تحذوه يحذو ويخصف
ولا هو يبدي لي على تعقلا ... ولا هو يرثي لي ولا هو يعنف
وما أمرنا إلا سواء وإنما ... عرفنا وكل منهم ليس يعرف
فلو قد فرغنا من على نفوسنا ... وحطوا الدنية من عليل وأنصف
أما لهم من علة أرمت بهم ... ولم يعرفوا أغوارها وهي تتلف
وخضنا لهم في الكتب عن كنه أمرهم ... ومثلي عن تلك الحقائق يكشف
وصنفت في الآفات كل غريبة ... فجاء كما يهوى الغريب المصنف
وليس عجيباً من تركب جهلهم ... فإن يحجبوا عن مثل ذاك وصرف
إذا جاءنا بالسخف من نزو عقله ... إذا ما مثلناه أزهى وأسخف
فما جاءنا إلا بأمر مناسب ... أينهض عن كف الجبان المثقف
ولا كن عجيب الأمر علمي وغفلتي ... فديتكم أي المحاسن أكشف
إلا أنها الأقدار يظهر سرها ... إذا ما وفي المقدور فالرأي يخلف
أيا رب إن اللب طاش بما جرى ... به قلم الأقدار والقلب يرجف
وإنا لندعوهم ونخشى وإنما ... على رسمك الشرعي من لك يعكف
أقول وفي أثناء ما أنا قايل ... رأيت المنايا وهي لي تتخطف
وإني مع الساعات كيف تقلبت ... لأسهمها إن فوقت متهدف
وما جر ذا التسويف إلا شبيتي ... تخيل لي طول المدى فأسوف
إذا جاء يوم قلت هو الذي يلي ... ووقتك في الدنيا جليس مخفف
أقدم رجلاً عند تأخير أختها ... إذا لاح شمس فالنفس تكف
كأني لداني المراقد منهم ... ولم أودعهم والخض ريان ينسف
وهبني أعيش هل إذا شاب مفرقي ... وولي شبابي هل يباح التشوف
وكيف ويستدعى الطريق رياضة ... وتلك على عصر الشباب توظف

متى يقبل التقويم غير عطوفة ... وبي بعد حساً فالنار تنسف
ولو لم يكن إلا ظهورة سره ... إذا ما دنا التدليس هان التنطف
أمولي الأسارى أنت ألى بعذرهم ... وأنت على المملوك أحق وأعطف
قذفنا بلج البحر والقيد آخذ ... بأرجلنا والريح بالموج تعصف
وفي الكون من سر الوجود عجايب ... أطل عليها العارفون وأشرف
وكعت عليهم نكثة فتأخروا ... وددت بأن القوم بالكل أسعف
فليس لنا إلا أن نحط رقابنا ... بأبواب الاستسلام والله يلطف
فهذا سبيل ليس للعبد غرها ... وإلا فماذا يستطيع المكلف
وقال: وضمتها محاورة بينه وبين نفسه، وقيدتها عنه زوال يوم الثلاثاء التاسع والعشرين لمحرم خمس وخمسين وسبعمائة، برابكة العقاب، متعبد الشيخ ولي الله أبي إسحاق الإلبيري، رحمه الله، فمنها:
يأبى شجون حديثي الإفصاح ... إذ لا تقوم بشرحه الألواح
قالت صفية إذ مررت بها ... أفلا تنزل ساعة ترتاح
فأجبتها لولا الرقيب لكان لي ... ما تبتغى بعد الغدو رواح
قالت وهل في الحي حي غيرنا ... فاسمح فديتك فالسماح رياح
فأجبتها إن الرقيب هو الذي ... بيديه منا هذه الأرواح
وهو الشهيد على موارد عبده ... سيان ما الإخفاء والإفصاح
قالت وأين يكون وجود الله إذ ... تخشى ومنه هذه الأفراح
فافرح بإذن الله جل جلاله ... واشطح فنشوان الهوى شطاح
وانهج على ذمم الرجال ولا تخف ... فالحكم رحب والنوال مباح
وانزل على حكم السرور ولا تبل ... فالوقت صاف ما عليك جناح
واخلع عذارك في الخلاعة يا أخي ... باسم الذي دارت به الأقداح
وانظر إلى هذا النهار فسنه ... ضحكت ونور جبينه وضاح
أنواره ضحكت وأترع كأسه ... فقد استوى ريحانه والراح
وانظر إلى الجنيا بنظرة رحمة ... فجفاؤها بوفائها ينزاح
فأجبتها لو كنت تعلم ما الذي ... يبدو لتاركها وما يلتاح
ما كان معنى غامض من أجله ... قد ساح قوم في الجبال وتاح
حتى لقد سكروا من الأمر الذي ... هاموا به عند العيان وساح
فاترك صفيك قارعاً باب الرضى ... والله جل جلاله الفتاح
يا حي حي على الفلاح وخلني ... فجماعتي حثوا المطي وراح
وقيدت من خطه في جملة ما كتب إلي ما نصه: ومما نظمته بغرناطة، وبعضه ببرجة، وهو مما يعجبني، وأظنه كتبه لك، وهو غريب المنزع، وإنه لكما قال:
خذها على رعم الفقيه سلافة ... تجلى بها الأقمار في شمس الضحى
أبدي أطباء القلوب لأهلها ... منها شراباً للنفوس مبرحا
وإذا امرؤ قال في نشوانها ... قل أنت بالإخلاص فيمن قد صحا
يا قوتة دارت على أربابها ... فاهتزت الأقدام منها واللحا
مزجت فغار الشيخ من إظهارها ... فاشتد يبتدر الحجاب ملوحا
لا تعترض أبداً على مسترفد ... قد غار من أسرارها أن يفضحا
وكذاك لا تعتب على مستهتر ... لم يدر ما الإيضاح لما أوضحا
سكران يعثر في ذيول لسانه ... كفراً ويحسب أنه قد سبحا
كم الهوى حرب بعض وبعض ... ضاق ذرعاً بالغرام فبرحا
لا تخشين على العدالة هاتفاً ... ثغر ارتياح العاشقين فجرحا
الحب خمر العارفين وقد ضفت ... حتماً على من ذاقها أن يشطحا
فاشطح على هذا الوجود وأهله ... عجباً فليس براجح من رجحا
كبر عليهم أنهم موتى على ... غير الشهادة ما أغر وأقبحا
واهزأ بهم فمتى يقل نصحاؤهم ... أهج فقل حتى ألاقي مفلحا

وإذا أريبهم استخف فقل له ... بالله يا يحيى بن يحيى دع جحا
أبني سليم قد نجا مجنونكم ... مجنون ليلى العارفين به قد محا
هل يستوي من لم يبح بحبيبه ... مع من بذكر حبيبه قد أفصحا
فافرح وطب وأبهج وقل ما شئت ما أملح الفقراء يا ما أملحا
ومن مقطوعاته التي هي آيات العجايب، وطرر حلل البدايع في شتى الأغراض والمقاصد، قوله يعتذر لبعض الطلبة، وقد استدبره ببعض حلق العلم بسبتة:
إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها
لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها
ومنها قوله في غرض التورية، وهو بديع في معناه:
يلومونني بعد العذار على الهوى ... ومثلي في وجدي له لا يفند
يقولون لي أمسك عنه قد ذهب الصبا ... وكيف يرى الإمساك والخيط أسود
ومنها قوله في المجبنات، وهو من الغريب البديع:
ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن والمصفر يؤذن بالخوف
لها هيئة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف
ومنها قوله في النصح، ولها حكاية تقتضي ذلك:
لا تبذلن نصيحة إلا لمن ... تلقى لبذل النصح منه قبولا
فالنصح إن وجد القبول فضيلة ... ويكون إن عدم القبول فضولا
ومنها في الحكم:
ما رأيت الهموم تدخل إلا ... من دروب العيون والآذان
غض طرفاً وسد سمعاً ومهما ... تلق هماً فلا تثق بضمان
ومنها قوله، وهو من المعاني المبتكرات:
حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك ما رقا
ولذاك قد صبغت بلون أزرق ... أو ما ترى ثوب المآتم أزرقا
ومنها قوله في المعاني الغربية، قال: ومما نظمته في عام أربعة وأربعين في التفكر في المعاني، مغلق العينين:
أبحث فيما أنا حصلته ... عند انغماض العين في جفنها
أحسبنى كالشاة مجترة ... تمضغ ما يخرج من بطنها
وقال: ومما نظمته بين أندرش وبرجة عام أربعة وأربعين، وأنا راكب مسافر، وهو مما يعجبني، إذ ليس كل ما يصدر عني يعجبني. قلت وبحق أن يعجبه:
تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان فتقبل
عجبت لخصم لج في طلباته ... يصالح عنها بالمحال فيفصل
قال ومما نظمته في السنة المذكورة من ذم النساء:
ما رأيت النساء يصلحن إلا ... للذي يصلح الكنيف من أجله
فعلى هذه الشريطة صالحهن لا تعد بأمرئ عن محله
قال: ومما نظمته في السنة المذكورة:
قد هجرت النساء دهراً فلم أبلغ آذاني صفاتهن الذميمة
ما عسى أن يقال في هجو من قد ... خصه المصطفى بأقبح شيمة
أو يبقى لنا قصر العقل والدين إذا عدت المثالب قيمة
وقال: وما نظمته في تاريخ لا أذكره الآن، هذان البيتان، ولم أر معناهما لمن مضى. ولو رحل رجل إلى خراسان، ولم يأت إلا بهما، كان ممن لم يخفق مسعاه، ولا أجدب مرعاه، ينفتح بهما للقلب باب من الراحة فسيح، إذا أجهده ما يكابد من المضاضة، ونقض العهود، واختلاف الوعود. وهذه المحنة من شر ما ابتلى به بنو آدم، شنشنة نعرفها من أمرهم. ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي:
رعى الله إخوان الخيانة إنهم ... كفونا مؤونات البقا على العهد
فلو قد وفوا كنا أسارى عقوقهم ... نراوح بين النسئة والنقد
وقال يداعبني، وعلى سبيل الكناية يخاطبني، ولقد لقيت، رجلاً ببلاد الهند يعرف بأبي البركات ابن الحاج، وكان برد في بستان كان له، فقلت أهجوه عام أربعة وأربعين وسبعمائة:
قالوا أبو البركات جم ماؤه ... فغدا أبو البركات لا أبا البركات
قلنا لأن يكنى بموجوداته ... أولى من أن يكنى بمعدومات
ومما نظمته عام خمس وأربعين وسبعمائة:
قد كنت معذوراً بعلمي وما ... أبث من وعظي بين البشر
من حيث قد أملت إصلاحهم ... بالوعظ والعلم فخان النظر

فلم أجد أوعظ للناس من ... أصوات وعاظ جلود البقر
ومما نظمته بمرسى تلهى، من بلد هنين، عام ثلاثة وخمسين، وقد أصابني هوس في البحر وخاطبت به بعض الأصحاب:
رأسي به هوس جديد لا الذي ... تدريه من هوس قديم فيه
قد حل ما أبديه من هذا كما ... قد حل من ذاك الذي أخفيه
ومن الملح قوله، قال: وبت بحمام الخندق من داخل ألمرية ليلة الجمعة الثامن من شهر محرم عام اثنين وثلاثين منفرداً، فطفى المصباح، وبقيت مفكراً، فخطر ببالي ما يقول الناس من تخيل الجن في الأرحاء والحمامات، وعدم إقدام كافة الناس إلا ما شذ عند دخولها منفردين بالليل، لا سيما في الظلام، واستشعرت قوة في نفسي عند ذلك، أعراض وأوهام، فقلت مرتجلاً، رافعاً بذلك صوتي:
زعم الذين عقولهم قدرها ... إن عرضت للبيع غير ثمين
أن الرحا معمورة بالجن والحمام عندهم كذا بيقين
إن كان ما قالوه حقاً فاحضروا ... للحرب هذا اليوم من صفين
فلئن حضرتم فاعلموا بحقيقة ... بأني مصارع قيس المجنون
قال: ودخلت رياضاً يوماً، فوجدت كساء منشوراً للشمس لم أعرفه من حوايجي، ولا من حوايج حارسة البستان، فسألتها فقالت، هو لجارتي فقلت:
من منصفي من جارتي جارت على ... مالي كأني كنت من أعدائها
عمدت إلى الشمس التي انتشرت على ... أرضي وأمت فيه بيس كسائها
لولا غيوم يوم تيبس الكسا ... سرت لحجب السحب جل ضياءا
لقضيت منهم الخسار لأنني ... أصبحت مزوراً على بخلائها
قلت، وصرت إلى مغنى بحمة بدانة وسار معي كلب كان يحرس رياضي اسمه قطمير، وهو فيما يذكر كلب أهل الكهف، في بعض الأقوال، فتبعني من ألمرية إلى الحمة، ثم من الحمة إلى ألمرية، فقلت:
رحلت وقطمير كلبي رفيقي ... يونس قلبي بطول الطريق
فلما أنخت أناخ حذائي ... يلاحظني لحظ خل شفيق
ويرعى أذمة رفقي كما ... يتغنى الصيديق الصدوق
على حين قومي بني آدم ... بلؤمهم لم يوفوا حقوق
ولا فرق بين الأباعد منهم ... وبين أخ مستحب شفيق
أو ابن متى تلقاه تلقه ... هوى اشتياق بقلب خفوق
فما منهم من ولي حميم ... ولا ذي إخاء صحيح حقيق
وناهيك ممن يفضل كلباً ... عليهم فيا وليهم من رفيق
ألا من يرق لشيخ غريب ... أبى البركات الفتى البلفيق
وقال: ومما نظمته بتاريخ لا أذكره هذان البيتان:
وأين الخير من زماني وأهله ... على أنني للشر أول سابق
لحا الله دهراً قد تقدمت أهله ... فتلك لعمر الله إحدى البوايق
ومن النزعات الشاذة الأغراض:
لا بارك الله في الزهاد إنهم ... لم يتركوا عرض الدنيا لفضلهم
بل أثقلتهم تكاليف الحياة فلم ... يصايروها فملوا ثقل حملهم
وعظم الناس منهم تركها فغدوا ... من غبطة الترك في حرص لأجلهم
نعم أسلم أن القوم إذ زهدوا ... زاداً وأعلى الناس طراً فضل تركهم
من حيث قد أحرز والترجيح دونهم ... لا شيء أبين من ترجيح فضلهم
فالمال والجود والراحات غاية ما ... يحكى لنا الزهد في ذاعن أجلهم
والزاهدون براحات القلوب مع الأبدان سروا وعزوا بعد ذلهم
فكل ما فرقوا قد حصلوا غرضاً ... منه وزادوا ثناء الناس كلهم
قال: ومما نظمته عام أربعين في ذم الخمر من جهة الدنيا، لا من جهة الدين، إذ ليس بغريب:
لقد ذم بعض الخمر قوم لأنها ... تكر على دين الفتى بفساد
وقد سلموا قول الذي قال إنها ... تحل من الدنيا بأعظم ناد
وتذهب بالمال العظيم فلن ترى ... لمدمنها من طارف وتلاد
فيمسي كريماً سيداً ثم يغتدي ... سفيهاً حليف الغي بعد رشاد

وقالوا تسلى وهو عارية لها ... وإلا فلم يأتوا لذاك بشاد
وصلة ونور وحسناء طفلة ... ومرأى به للطريف سير جواد
وهل يدانوي من مرارتها التي ... أواخرها مقرونة بمهاد
ولو أشرب الإنسان مهلاً بهذه ... لأصبح مسروراً بأطيب زاد
ومن حسن حال الشاربين يقينها ... بالرغم من برق وساد
ومن حسن ذا المحروم أن مدامه ... إذا غلبت تكسوه ثوب رقاد
فيختلف الندمان طراً لروحه ... ويحدوهم نحو المروءة حادي
ومن حسنه بين الورى ضرب ظهره ... فيمسي بلا حرب رهين جلاد
مجانين في الأوهام قد ضل سعيهم ... يخففون بيعاً بحسن غواد
ومن نظمه في الإنحاء على نفسه، واستبعاد وجوه المطالب في جنسه، مما نظمته يوم عرفة عام خمسين وأنا منزو في غار ببعض جبال ألمرية:
زعموا أن في الجبال قوماً ... صالحين قالوا من الأبدال
وادعوا أن كل من ساح فيها ... فسيلقاهم على كل حال
فاخترقنا تلك الجبال مراراً ... بنعال طوراً ودون نعال
ما رأينا فيها سوى الأفاعي ... وشبا عقرب كمثل النبال
وسباعاً يخترون بالليل عدواً ... لا تسلني عنهم بتلك الفيال
ولو كنا لدى العدوة الأخرى ... رأينا نواجذ الريبال
وإذا أظلم الدجى جاء إبليس إلينا يزور طيف الخيال
هو كان الأنيس فيها ولولا ... ه أصيبت عقولنا بالخبال
خل عنك المحال يا من تعني ... ليس تلقى الرجال غير الرجال
قال: ومن المنازع الغريبة ذم الأصحاب ومدح الأعداء، فمن ذلك قولي:
جزى الله بالخير أعداءنا ... فموردهم أنسى المصدر
هم حملونا على العرف كرهاً ... وهم صرفونا عن المنكر
وهم أقعدونا بمجلس حكم ... وهم بوؤونا ذرى المنبر
وهم صيرونا أئمة علم ودين وحسبك من مفخر
عدوي بأول فدى مأثم ... وإن جيت بالإثم لم يعذر
وأنت ترى تمحيص من يعدل بين المسيء وبين البر
ولا زود الله أصحابنا بزاد تقى ولا خير
هم جرؤونا على كل إثم ... وما كنت لو لاهم بالمخبر
وعدوا من إكبار آثامنا ... فكانوا أضر من الفاتر
أعارني القوم ثوب التقى ... وإني مما أعاروني بري
إذا خدعوني ولم ينصحوا ... وإني بالنصح منهم حر
فمن كان يكذب حال الرضى ... يصدق في غضب يفتر
بلى سوف تلقى لدى الحالتين ... يحكم النفس هوى الفر
فيا رب أبق علينا عقولنا ... نبيع بها وبها نشتر
قال: وما رأيت هذا المعنى قط لأحد، ثم رأيت بعد ذلك لبعضهم ما معناه:
عداتي لهم فضل على ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
فوقع حافري على ساق هذا. قال: وما نظمته، متخيلاً أني سابق معناه:
خلنا ليلة من كف دهر ... ضنين بالليالي الطيبات
سلكنا للهوى والعقل فيها ... مسالك قد جلين عن الشتات
قضينا بعض حق النفس فيها ... وحق الله مرعى الثبات
فلم نر قبله في الدهر وقتاً ... بدت حسناته في السيئات
ثم رأيت بعد ذلك على هذا.
لا وليال على المصلى ... تسرق في نسكها الذنوب
فوقعت ساقي على حافر هذا المحروم، إلا أني جردت ذلك في المعنى، وأوضحته، وجلوته على كرسي التقعيد والتنجيد، فلولا التاريخ لعاد سارق البرق.
نثرهوأما نثره فنمط مرتفع عن معتاد عصره، استنفاراً وبلاغة، واسترسالاً وحلاوة، قلما يعرج على السجع، أو يأمر على التكليف، وهو كثير بحيث لا يتعين عيونه، ولكن نلمع منه نبذة، ونجلب منه يسيراً. كتب إلي عند إيابي من الرسالة إلى ملك المغرب، متمثلاً ببيتين لمن قبله، صدر بهما:

يا أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي
إيأسى التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب
بل محلك، أمثل من التمثيل بالشمس، فلو كان طلوعك على هذه الأقطار شمساً، لأصبح جلها لك عباد. ولو كان نزولك مطراً لتكيفت الصخور تراباً دمثاً. ولولا معرفتنا معشر إخوان الصفا، بأقرار أنفسنا، لحكمنا بأن قلوبنا تمايم لأصدقائنا، ولكن سبقت عيو السعادة، بالكلات فلو تصادف بالرضى محلاً، لأن تحصيل الحاصل محال، لا زلت محروساً، بعين الذي لا تأخذه سنة ولا نوم مكنوفة ببركة الذي يرومه رايم والسلام.
وكتب إلي عندما تقلدت من رياسة الإنشاء ما تقلدت: تخصكم يا محل الإبن الأرضى ولادة، والأخ الصادق إخلاصاً ووداً، خصكم الله من السعادة بأعلاها مرقى، وأفضلها عقبى، وأحمدها غنى، وأكرمها مسعى، تحية اللهفان إلى أيام لقائك، المسلى عنها بتأميل العود إليها، المزجى أوقاته بترداد الفكر فيها، محمد بن الحاج، أبقاه الله، عن شوق، والذي لا إله إلا هو، لم أجد قط مثله إلى ولي حميم. والله على ما نقول وكيل، معرفاً أنني بعلاقمه، وتصليني عن كسره مجامعه، لما اعتني به من توقلكم بالرتبة، التي ما زال أحباؤكم بها ممطولي بره. على أنك لم تزد بذلك رتبة على ما كنت باعتبار الأهلية، والمكانة العلية، إلا عند الأطفال والأغفال، والمحلقين من النساء والرجال، لا كن أفزعتنا هذه المخاطبة المحظية في قالب الجمهور، ولم نسر فيها، على الأصح، لا كن على الجمهور. ولو كانت مصارف الوجود بيدي، والفتك من الوجود، منازل أسمايه منازل، وأوطأتك أفلاكه مراكب، وأوردتك كوثره مشرباً، وأحللتك أرفعه معقلاً، وأقبستك بدره مصباحاً، وأهدتك أسراره تحفاً. وقد تبلغ المقاصد مبالغ لا تنتهي أقاصيها الأعمال، فنحن وما نضمره لتلك الجملة الجليلة الفاضلة، مما الله رقيب عليه، ومحيط بدقايقه. ولو كانت لهذا العبد الغافل، المأسور في قيد نفسه، المحزون على انتهاب الأيام، رأس عمره في غير شيء، دعوة يساعدها الوجد حتى يغلب على ظنه، أن العليم بذات الصدور، ولاها من قبوله بارقة، لخصك بها، والله شهيد على ما تكنه الأفئدة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والفضل جم، والمحاسن عديدة، فلنقصر اضطراراً، ولنكف امتثالاً للرسم، وانقياداً، أمتع الله به.
محمد بن عبد الله بن منظور القيسيمن أهل مالقة يكنى أبا بكر
أوليتهأصله من إشبيلية، من البيت المشهور بالتعيين والتقدم، والأصالة، تشهد بذلك جملة أوضاع، منها الروض المحظور ي أوصاف بني منظور. وغيره.
حالهمن كتاب عائد الصلة. كان جم التواضع والتخلق، كثير البر، مفرط الهشة، مبذول البشر، عظيم المشاركة، سريع اللسان إلى الثناء، مسترسلاً في باب الإطراء، درباً على الحكم، كثير الحنكة، قديم العالة، بصيراً بالشروط، ولي القضاء بجهات كثيرة، وتقدم بمالقة، بلده فشكرت سيرته، وحمدت مدارته، وكان سريع العبرة، كثير الخشية، حسن الاعتقاد، معروف الإيثار والصدفة، شايع الإقراء لمن ألم بصقعه، واجتاز على محل ولايته، جارياً على سنن سلفه، ينظم وينثر، فلا يقصر.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي محمد بن أبي السداد الباهلي، ولازمه وانتفع به، وسمع على غيره من الأعلام، كالخطيب الولي أبي عبد الله الطنجالي، والعدل الرواية المسن أبي عبد الله بن الأديب، والمسن أبي الحكم مالك بن المرحل، وعلى الشيخ الصوفي أبي عبد الله محمد بن أحمد الأقشري الفاس، ولبس عنه خرقة التصوف، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد، وعن الشيخ القاضي أبي المجد بن خميس بالجزيرة الخضراء، وعلى الخطيب الزاهد أبي عبد الله السلال. وكتب إليه بالإجازة، أبو عبد الله بن الزبير، والفقيه أبو الحسن ابن عقيل الرندي، والوزير المعمر أبو عمر الطنجي، وأبو الحكم بن منظور ابن عم أبيه، والأستاذ أبو عبد الله بن الكماد. نقلت ذلك من خطه.
تواليفه

أخبرني أنه ألف نفحات المسوك، وعيون التبر المسبوك في أشعار الخلفاء والوزراء والملوك. وكتاب السحب الواكفة والظلال الوارفة، في الرد على ما تضمنه المضنون به على غير أهله من اعتقاد الفلاسفة. وكتاب الصيب الهتان الواكف بغايات الإحسان المشتمل على أدعية مستخرجة من الأحاديث الصحيحة النبوية وسور القرآن. وكتاب البرهان والدليل في خواص سور التنزيل، وما في قراءتها في النوم من بديع التأويل. وكتاب يشتمل على أربعين حديثاً في الرقايق. موصولة الأسانيد، وكتاب تحفة الأبرار في مسألة النبوة والرساة، وما اشتملت عليه من الأسرار. وكتاب الفعل المبرور. والسعي المشكور، فيما وصل إليه، أو تحصل لديه من نوازل القاضي أبي عمر بن منظور.
شعرهومن شعره قوله:
ما للعطاس ولا للفال من أثر ... فثق فدينك بالرحمن واصطبر
وسلم الأمر فالأحكام ماضية ... تجري على السن المربوط بالقدر
محمد بن هارون الغسانيمحمد بن علي بن الخضر بن هارون الغساني من أهل مالقة يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عسكر
حالهمن كتاب الذيل والتكملة. كان مغرباً مجوداً، نحوياً متوقد الذهن، متفنناً في جملة معارف. ذا حظ صالح من رواية الحديث، تاريخاً، حافظاً، فهيماً، مشاوراً، دؤوباً في الفتوى، متيناً في الدين، تام المروءة، سنياً فاضلاً، معظماً عند الخاصة والعامة، حسن الخلق، جميل العشرة، رحيب الصدر، مسارعاً إلى قضاء الحوايج، شديد الإجمال، محسنا إلى من أساء إليه، نفاعاً بجاهه، سمحاً بذات يده، متقدماً في عقد الوثائق، بصيراً بمعانيها، سريع البديهة في النظم والنثر، مع البلاغة، والإحسان في الفنين.
ولي قضاء مالقة نايباً عن القاضي أبي عبد الله بن الحسن مدة، ثم ولي مستبداً بتقديم الأمير أب يعبد الله بن نصر، يوم السبت لليلتين بقيتا من رمضان عام خمس وثلاثين. وأشفق من ذلك وامتنع منه وخاطبه مستقفياً، وذكر أنه لا يصلح للقيام بما قلده من تلك الخطة تورعاً منه فلم يسعفه. فتقلدها، وسار فيها أحسن سيرة، وأظهر الحقوق التي كان الباطل قد غمرها، ونفذ الأحكام.
وكان ماضي العزيمة، مقداماً، مهيباً، جزلاً في قضائه، لا تأخذه في الله لومة لأئم، واستمر على ذلك بقية عمره.
مشيختهروى عن أبي إسحاق الزوالي، وأبي بكر بن عتيق بن منزول، وأبي جعفر الجيان، وأبي حسن الشقوري، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي زكريا الإصبهاني مقيم غرناطة.
من روى عنهروى عنه أبو بكر بن خميس ابن أخته، وأبو العون، وأبو عبد الله ابن بكر الإلبيري. وحدث عنه بالإجازة، أبو عبد الله الأبار، وأبو القاسم ابن عمران، وكتب بالإجازة للعراقيين من أهل بغداد الذين استدعوها من أهل الأندلس، حسبما تقدم في رسم أبي بكر بن هشام، وضمنها نظماً ونثراً اعترف له بالإجادة فيهما.
تصانيفهصنف كتباً كثيرة، أجاد فيها وأفاد. منها المشرع الروي في الزيادة على المروى. ومنها أربعون حديثاً التزم فيها موافقة اسم شيخه، اسم الصابي، وما أراه سبق إلى ذلك، وهو شاهد بكثرة شيوخه، وسعة روايته، ومنها نزهة الناظر في مناقب عمار بن ياسر. ومنها الخبر المختصر، في السلوى عن ذهاب البصر، ألفه لأبي محمد بن أبي الأحوص الضرير الواعظ. ومنها رسالة في ادخار الصبر، وافتخار القصر والفقر، ومنها الإكمال والإتمام في صلة الإعلام بمجالس الأعلام من أهل مالقة الكرام وله اسم آخر، وهو مطلع الأنوار ونزهة الأبصار، فيما احتوت عليه مالقة من الرؤساء والأعلام والأخيار، وتقيد من المناقب والآثار. واختر منه المنية عن إتمامه فتولى إتمامه ابن أخته أبو بكر محمد بن خميس المذكور، وقد نقلت منه في هذا الكتاب.
شعرهومن شعره، وقد نعيت إليه نفسه قبل أن تغرب من سماء معارفه شمسه:
ولما انقضى إحدى وخمسون حجة ... كأني منها بعد كرب أحلم
ترقيت أعلاها لأنظر فوقها ... مدى الحتف مني على منه أسلم
إذا هو قد أدنت إليه كأنما ... ترقيت في نحوة وهو سلم
وقال في أحدب:
وأحدب تحسب في ظهره ... جابه في نهر عايمة
مثلث الخلقة لاكنه ... في ظهره زواية قايمة

ومن أمثال نظمه قوله، وقد استدعيت منه إجازة:
أجبتك لأني لما رمته أهل ... ولا كن ما أجبت محتمل سهل
وما العلم إلا بحر طال مدانه ... ومالي محم في الورود ولا نهل
فكيف أراني أهل ذاك وقد أتى ... على المحيتان البطالة والجهل
وأسأل ربي العفو عني فإنه ... لما يرتجيه العبد من فضل أهل
مولده: تخميناً في نحو أربع وثمانين وخمسماية.
وفاته: ظهر يوم الأربعاء لأبرع خلون من جمادى الآخرة، عام ستة وثلاثين وستماية.
محمد بن يحيى الأشعري المالقيمحمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن سعد الأشعري المالقي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بكر، من ذرية بلج بن يحيى بن خالد بن عبد الرحمن بن يزيد بن أبي بردة. واسمه عامر بن أبي عامر بن أبي موسى. واسمه عبد الله بن قيس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن حزم في جملة من دخل الأندلس من العرب.
حالهمن عائد الصلة. كان من صدور العلماء، وأعلام الفضلاء، سذاجة ونزاهة ومعرفة وتفنناً. الأشعري المالقي فسيح الدرس، أصيل انظر، واضح المذهب، مؤثراً للإنصاف، عارفاً بالأحكام والقراءات، مبرزاً في الحديث، تاريخاً وإسناداً، وتعديلاً وتجريحاً، حافظاً للأنساب والأسماء والكنى، قايماً على العربية، مشاركاً في الأصول والفروع، واللغة والعروض والفرايض والحساب مخفوض الجناح، حسن التخلق، عطوفاً على الطلبة، محباً في العلم والعلماء، مجلاً لأهله، مطرح التصنع، عديم المبالاة بالملبس، بادي الظاهر، عزيز النفس، نافذ الحكم، صوالة. معروف بنصرة من أزر إليه. تقدم للشياخة ببلده مالقة، ناظراً في أمور العقد والحل، ومصالح الكافة. ثم ولي القضاء بها، فأعز الخطة، وترك الهوادة، وإنفاد الحق ملازماً للقراءة والإقراء، محافظاً للأوقات، حريصاً على الإفادة.
ثم ولي القضاء والخطابة بغرناطة في العشر الأول لمحرم سبعة وثلاثين وسبعماية، فقام بالوظايف، وصدع بالحق، وجرح الشهود فزيف منهم ما ينيف على السبعين عدداً، واستهدف بذلك إلى معادة ومناضلة، خاض تبجهاً، وصادم تيارها، غير مبال بالمغبة، ولا حافل بالتبعة، فناله لذلك من المشقة، والكيد العظيم، ما نال مثله. حتى كان يمشي إلى الصلاة ليلاً في مسلة. لا يطمئن على حاله. جرت في هذا الباب حكايات إلى أن استمرت الحال على ما أراده الله. وعزم عليه الأمير في بعض من الخطة، ليرده إلى العدالة، فلم يجد في قناته مغمزاً، ولا في عوده معجماً، وتصدر لبث العلم بالحضرة، يقري فنوناً منه جمة، فنفع وخرج، ودرس العربية والفقه والأصول، وأقرأ القرآن، وعلم الفرايض والحساب، وعقد مجالس الحديث، شرحاً وسماعاً، على سبيل من انشراح الصدر، وحسن التجمل. وخفض الجناح.
وذكره القاضي المؤرخ أبو الحسن بن الحسن، فقال، وأما شيخنا، وقريبنا مصاهرة، أبو عبد الله بن أبي بكر، فصاحب عزم ومضاء، وحكم صادع وقضاء. كان له رحمه الله، مع كل قولة، وصولة، وعلى كل رابع لا يعرف ذرة، فأحرق قلوب الحسدة والصب، وأعز الخطة، بما أزال عنها من الشوائب، وذهب وفضض كواكب الحق بمعارفه، ونفذ في المشكلات، وثبت في المذهلات، واحتج وبكت، وتفقه ونكت.
توقيعهقال: وحدثنا صاحبنا، أبو جعفر الشقوري، قال كنت قاعداً في مجلس حكمه، فرفعت إليه امرأة رقعة، مضمونها أنها محبة في مطلقها، وتبتغي من يستشفع لها في رجها، فتناول الرقعة، ووقع في ظهرها للحين من غير مهلة: الحمد لله، من وقف على ما بالمقلوب، فليصغ لسماعه إصاغة مغيث، وليشفع للمرأة عند زوجها، تأسياً بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبربرة في مغيث. والله يسلم لنا العقل والدين، ويسلك بنا مسالك المهتدين. والسلام يعتمد على من وقف على هذه الأحرف من كاتبها، ورحمة الله. قال صاحبنا، فقال لي بعض الأصحاب، هلا كان هو الشفيع لها. فقلت الصحيح أن الحاكم لا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه على النصوص.
شعرهولم يسمع له شعر إلا بيتين في وصف قوس عربي النسب في شعر من لا شعر له، وهما:
هام الفؤاد في بنت النبع والنشم ... زوراً تزري بعطف البان والصنم
قوام قامتها تمام معطفها ... من يلق مقتلها تصميه أو تصم

مشيخته
قرأ على الأستاذ المتفنن الخطيب أبي محمد بن أبي السداد الباهلي القرآن العظيم جمعاً وإفراداً، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث، ولازمه، وتأدب به. وعلى الشيخ الراوية الصالح أبي عبد الله محمد بن عياش الخزرجي القرطبي، قرأ عليه كثيراً من كتب الحديث، منها كتاب صحيح مسلم، وسمع عليه جميعه إلا دولة واحدة. ومن أشياخه القاضي أبو القاسم قاسم بن أحمد بن حسن بن السكوت. والفقيه المشاور، الصدر الكبير، أبو عبد الله بن ربيع، والخطيب القدوة الولي أبو عبد الله بن أحمد الطنجالي، والشيخ القاضي أبو الحسن ابن الأستاذ العلامة أبي الحجاج بن مصامد، والأستاذ خاتمة المقريين أبو جعفر بن الزبير، والخطيب المحدث أبو عبد الله بن رشيد. والخطيب الولي الصالح أبو الحسن بن فضيلة، والأستاذ أبو الحسن بن اللباد المشرفي. والشيخ الأستاذ أبو عبد الله بن الكماد السطي اللبليسي. وأجازه من أهل سبتة شيخ الشرفا أبو علي بن أبي تلنقة تخر بم ربيع، والعدل الراوية أبو فارس عبد العزيز بن الهواري، وأبو إسحاق التلمساني، والحاج العدل الراوية أبو عبد الله بن الحصار، والأستاذ المقري ابن أبي القاسم بن عبد الرحيم القيسي، والأستاذ أبو بكر ابن عبيدة، والشيخ المعمر أبو عبد الله بن أبي القاسم بن عبيد الله الأنصاري. ومن أهل إفريقية الأديب المعمر أبو عبد الله محمد بن هارون، وأبو العباس أحمد ابن محمد الأشعري المالقي نزيل تونس ومحمد بن سيد الناس اليعمري، وعثمان بن عبد القوي البلوى. ومن أهل مصر النسابة شرف الدين عبد المؤمن ابن خلف الدمياطي. والمحدث الراوية أبو المعالي أحمد بن إسحاق، وجماعة غيرهم من المصريين والشاميين والحجازيين.
مولدهفي أواخر ذي حجة من عام أربعة وسبعين وستماية.
وفاتهفقد في مصاب المسلمين يوم الناجزة بطريف شهيداً محرضاً، زعموا أن بغلة كان عليها كبت به، وأفاق رابط الجأش، مجتمع القوى. وأشار عليه بعض المنهزمين بالركوب فلم يكن عند قوة عليه. وقال انصرف هذا يوم الفرج، إشارة إلى قوله تعالى في الشهداء " فرحين بما آتاهم الله من فضله " ، وذلك ضحى يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة.
محمد بن حيون بن القاسممحمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد ابن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد بن ناصر بن حيون بن القاسم بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنه.
حسبما نقل من خطه:
أوليتهمعروفة كان وليته مثله.
حالههذا الفضل جملة من جمل الكمال، غريب في الوقار والحصافة، وبلوغ المدى، واستولى على الأمم حلماً وأناة، وبعداً عن الريب، وتمسكاً بعرى النزاهة، واستمساكاً مع الاسترسال، وانقباضاً مع المداخلة، معتدل الطريقة، حسن المداراة، مالكاً أزمة الهوى، شديد الشفقة، كثير المواساة، مغار حبل الصبر، جميل العشرة، كثيف ستر الحيا، قوي النفس، رابط الجأش، رقيق الحاشية، ممتع المجالسة، متوقد الذهن، أصيل الإدراك، بارعاً بأعمال المشيخة، إلى جلال المنتمى، وكرم المنصب، ونزاهة النفس، وملاحة الشيبة، وحمل راية البلاغة، والإعلام في ميادين البيان، رحلة الوقت في التبريز بعلوم اللسان، حلية الخصل والفضل في ميدانها، غريبة غريزة الحفظ. مقنعة الشاهد. مستبحرة النظر، أصيلة التوجيه، برية عن النوك والغفلة، مرهفة باللغة والغريب، والخبر والتاريخ والبيان. وصناعة البديع. وميزان العروض، وعلم القافية وتقدماً في الفقه، ودرساً له، وبراعة في الأحكام، وإتقان التدريس، والصبر، والدؤوب عليه، بارع التصنيف، حاضر الذهن، فصيح اللسان مفخرة من مفاخر أهل بيته.
ولايته

قدم على الحضرة في دولة الخامس من ملوك بني نصر، كما استجمع شبابه، يفهق علماً باللسان، ومعرفة بمواقع البيان، وينطق بالعذب الزلال من الشعر، فسهل له كنف البر، ونظم في قلادة كتاب الإنشاء، وهو إذ ذاك ثمينة الخزرات، محكمة الرصف فشاع فضله، وذاع رجله. ثم تقدم، فثقل من طور الحكم، إلى أن قلد الكتابة والقضاء والخطابة بالحاضرة، بعد ولاية غيرها التي أعقبها ولاية مالقة في الرابع من شهر ربيع الآخر عام سبع وثلاثين وسبعماية. فاضطلع بالأحكام. وطبق مفصل الفضل ماضي الصريمة، حي الإجهار، نافذ الأمر. عظيم الهيبة، قليل الناقد، مطعم التوفيق، يصدع في مواقف الخطب بكل بليغ من القول. مما يريق ديباجته، ويشف صقاله، وتبرأ من خلال الخطباء جوانبه وأطرافه. واستعمل في السفارة للعدو ناجح المسعى، ميمون النقيبة. جزيل الحياء والكرامة. إلى أن عزل عن القضاء في شعبان من عام سبعة وأربعين وسبعة ماية. من غير زلة تخفض، ولا هنة تؤثر، فتحيز إلى التحليق لتدريس العلم، وتفرغ لإقراء العربية والفقه ولم ينشب أميره المنطوي على الهاجس، المغري بمثله، أن قدمه قاضياً بوادي آش، بنت حضرته، معززة بسندها الكبير الخطة. فانتقل إليه بجملته، وكانت بينه وبين شيخنا أبي الحسن بن الجياب صداقة صادقة، ومودة مستحكمة، فجرت بينهما أثناء هذه النقلة. بدايع. منها قوله. يوش عنه خطة القضاء التي اخترعها، ويوليها خطة الملامة:
لا مرحباً بالناشز الفارك ... إن جهلت رفعة مقدارك
لو أنها قد أوتيت رشدها ... ما برحت تعشو إلى نارك
أقسمت بالنور المبين الذي ... منه بدت مشكاة أنوارك
ومظهر الحكم الحكيم الذي ... يتلو عليه طيب أخبارك
ما لقيت منك كفواً لها ... ولا أوت أكرم من دارك
ثم أعيد إلى القضاء بالحضرة، فوليها، واستمرت حاله وولايته على متقدم سمته من الفضل والنزاهة والمراجعة فيما يأنف فيه من الخروج عن الجادة، إلى أن هلك السلطان مستقضية مأموماً به، مقتدياً بسجدته، يوم عيد الفطر، خمسة وخمسين وسبعماية، وولي الأمر ولده الأسعد، فجد ولايته، وأكد تجلته، ورفع رتبته. واستدعى مجالسته.
مشيختهقرأ ببلده سبتة على أبيه الشريف المطاهر، نسيج وحده في القيام. وعلى أبي عبد الله بن هاني وبه جل انتفاعه؛ وعليه جل استفادته. وأخذ عن الإمام شيخ المشيخة أبي إسحاق الغافقي. وروى عن الخطيب أبي عبد الله الغماري، والخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد، والقاضي أبي عبد الله القرطبي، والققيه الصالح أبي عبد الله بن حريث، وأخذ عن الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط وغيره.
محنتهدارت عليه يوم مهلك السلطان المذكور رحى الوقيعة، فعركته بالثقال، وتخلص من شرارها هولاً، لتطارح الأمير المتوثب أمام ألمرية عليه. خاتماً في السجدة ودرس الحماة إياه عند الدجلة، من غير التفات لمحل الوطأة. ولا افتقاد لمحل صلاة تلك الأمة، فغشيه من الأرجل، ورجل الربى كثيرة.
والتف عليه مرسل طيلسانه. ساداً مجرى النفس إلى قلبه. فعالج الحمام وقتاً. إلى أن نفس الله عنه فاستقل من الرداى، وانتبذ من مطرح ذلك الوغى، وبودر بالفصاد، وقد أشفى، فكانت عثرة لقيت لماً ومتاعاً، فسمح له المدى آخر من يوثق به من محل البث. ومودعات السر من حظيات الملك، أن السلطان عرض عليه قبل وفاته في عالم الحلم، كونه في محراب مسجده، مع قاضيه المترجم به، وقد أقدم عليه كلب أصابه بثوبه، ولطخ ثوبه بدمه، فأهمته رؤياه، وطرقت به الظنون مطارقها، وهم بعزل القاضي، انقياداً لبواعث الفكر، وسداً لأبواب التوقيعات. وقد تأذن الله بإرجاء العزم وتصديق الحلم، وإمضاء الحكم، جل وجهه، وعزت قدرته. فكان من الأمر ما تقرر في محله.
تصانيفهوتصانيفه بارعة، منها، رفع الحجب المستورة في محاسن المقصورة، شرح فيها مقصورة الأديب أبي الحسن حازم بما تنقطع الأطماع فيه. ومنها رياضة الأبي في قصيدة الخزرجي، أبدع في ذلك بما يدل على الإطلاع وسداد الفهم، وقيد على كتاب التسهيل لأبي عبد الله بن مالك تقييداً جليلاً، وشرحاً بديعاًن قارب التمام. وشرع في تقييد على الخبر المسمى، بدرر السمط في خبر السبط. ومحاسنه جمة، وأغراضه بديعة.
شعره

وإما الشعر فله فيه القدح والمعلى، والحظ الأوفى، والدرجة العليا، طبقة وقته، ودرجة عصره. وحجة زمانه، كلامه متكافي في اللفظ والمعنى، صريح الدلالة، كريم الخيم، متحصد الحبل، خالص السبك، وأنا أثبت منه جزماً، خصني به، سماه جهد المقل، اشتمل من حر الكلام، على ما لا كفاء له.
الحمد لله تردده أخرى الليالي، فهو المسئول أن يعصمنا من الزلل، زلل القول. وزلل الأعمال. والصلاة على سيدنا محمد خاتم الإرسال. هذه أوراق ضمنتها جملة من بنات فكري، وقطعاً مما يجيش به في بعض الأحيان صدري، ولو حزمت لأضربت عن كتبها كل الإضراب، ولزمت في دفنها وإخفايها دين الأعراب، لاكني آثرت على المحو الإثبات، وتمثلت بقولهم إن خير ما أوتيته العرب الأبيات. وإذا هي عضت علي ذلك المجد، وسألها كيف نجت من الوأد فقد أوتيتها من حرمكم إلى ظل ظليل، وأحللتها من بنايكم، معرساً ومقيل، وأهديتها علماً بأن كرمكم، بالإغضاء عن عيوبها جد كفيل، فاغتنم قلة التهدية مني، إن جهد المقل غير قليل، فحسبها شرفاً أن تبوأت في جنابك كنفاً، وكفاها مجداً وفخراً. أن عقدت بينها وبين فكرك عقداً وجواراً، ومما قلت في حرف الهمزة.
مولدهبسبتة في السادس لشهر ربيع الأول من عام سبعة وتسعين وستماية.
وفاتهتوفي قاضياً بغرناطة في أوايل شعبان من عام ستين وسبعماية
محمد بن عبد الملك الفشتاليمحمد بن أحمد بن عبد الملك الفشتالي قاضي الجماعة ببيضة الإسلام فاس، يكنى أبا عبد الله.
حالههذا الرجل له أبوة صالحة، وأصالة زاكية، قديم الطلب، ظاهر التخصص، مفرط في الوقار نابه البزة والركبة، كثير التهمة، يوهم به الفار، وصدر الصبور في الوثيقة والأدب، فاضل النفس، ممحوض النصح، جميل العشرة لإخونه، مجرى الصداقة نصحاً، ومشاركة، وتنفيقاً، على سجية الأشراف وسنن الحسباء، مديد الباع في فن الأدب، شاعر مجيد، كاتب بليغ، عارف بالتحسين والتقبيح، من أدركه، أدرك علماً من أعلام المشيخة. قدمه السلطان الكبير العالم أبو عنان فارس، قاضياً بحضرته، واختصه، واشتمل عليه، فاتصل بعده سعده، وعرف حقه. وتردد إلى الأندلس في سبيل الرسالة عنه، فذاع فضله، وعلم قدره، ولما كان الإزعاج من الأندلس نحو النبوة التي أصابت الدولة، بلوت من فضله ونصحه وتأنيسه، ما أكد الغبطة، وأوجب الثناء، وخاطبته بما نصه:
من ذا يعد فضائل الفشتالي ... والدهر كاتب آيها والتالي
علم إذا التمسوا الفنون بعلمه ... مرعى المشيح ونجعة المكتال
نال الذي لا فوقها من رفعة ... ما أملتها حيلة المحتال
وقضى قياس تراثه عن جده ... إن المقدم فيه عين التالي

قاضي الجماعة، بماذا أثنى على خلالك المرتضاة، أبقديمك الموجب لتقديمك، أم بحديثك الداعي لتكحل حديثك، وكلاهما غاية بعد مرماها، وتحامى المنصور حماها، والضالع لا يسام سبقاً، والمنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقة. وما الظن بأصالة تعترف بها الآثار وتشهد، وأبوة صالحة؛ كانت في غير ذات الحق تزهد، وفي نيل الاتصال به تجهد، ومعارف تقرر قواعد الحق وتمهد، وتهزم الشبه إذا تشهد. وقد علم الله أن جوارك لم يبق للدهر على جوار، ولاحت من غصني ورقاً ولا نوارا. هذا وقد زأر على أسد وحمل ثوراً. فقد أصبحت في ظل الدولة التي وقف على سيدي اختيارها، وأظهر خلوص إبريزه معياها، تحت كنف وعز مؤتنف، وجوار أبي جلف، وعلى ثقة من الله بحسن خلف. وما منع من انتساب ما لديه من الفضائل إلا رحلة، لم يبرك بعد حملها، ولا قر عملها، وأوحال حال بيني وبين مسور البلد القديم مهلها. ولولا ذلك لاغتبطت الزايد، واقتنيت الفوايد، والله يطيل بقاه، حتى تتأكد القربة، التي تنسى بها الغربة، وتعظم الوسيلة، التي لا تذر معها الفضيلة، وأما ما أشار به من تقييد القصيدة التي نفق سوقها استحسانه، وأنس باستظرافها إحسانه، فقد أعمل وما أمهل، والقصور باد إذا تأمل، والإغضاء أولى ما أمل، فإنما هي فكرة، قد أخمدت نارها الأيام، وغيرت آثارها الليام. وقد كان الحق إجلال مطالعة سيدي من خللها، وتنزيه رجله عن تقبيل مرتجلها. لا كن أمره ممتثل، وأتى من المجد أمراً لا مرد له مثل. والسلام على سيدي من معظم قدره، وملتزم بره، ابن الخطيب، ورحمة الله.
فكتب إلي مراجعاً، وهو الملئ بالإحسان:
وافت يجر الزهو فضلة بردها ... حسناء قد أضحت نسيجة وحدها
له أي قصيدة أهديت لو ... يهتدي المعارض نحو غاية قصدها
لابن الخطيب بها محاسن جمة ... قارعت عنه الخطوب ففلت من حدها
سر البلاغة عنه أودع حافظاً ... قد صانه حتى فشى من عندها
في غير عقد نفثته بسحرها ... فلذا أتى سلساً منظم عقدها
لم أدر ما فيها وقمت معاوناً ... من طرسها أو معلماً من بردها
حتى دفعت بها لأبعد غاية ... باعاً تقصر في البلوغ بحدها
حدان من نظم ونثر إن من ... يلقاهما منها بذلة عبدها
أولى يداً بيضا موليها فما ... لي مزية أن أقوم بحمدها
ورفضت تكذيب المنى متشيعاً ... لعلي مرآها يصادق وعدها
فبذلت شعري رافعاً من برها ... وهززت عطفي رافلاً من بردها
خذها أعز الله جنابك، وأدال للأنس على الوحشة اغترابك، كغبة الطائر المتجعد، ونهبة الثاير المستوفز، ومقة اللحظ، قليلة اللفظ، قد جمعت من سوامها وانفحامها، بين نظم قيد، وصلود زند، وتوعت، فعلى إقدامها وانحجامها إلى قاصر ومعتد، وليتني إذا جادت سحابة ذلك الخاطر الماطر الودق، وإنجاب العاني عن مزنة فكرتي، بتقاضي الجواب، انجياب الطوق، وأيقنت أني قد سد علي باب القول وأرتحج، وقلت هذه السالفة الكلية فصدت لها الداعة من تكلم الإمرة ولم أفه إذ أعوزت المرة بالحلوة، لاكني قلت، وجد المكثر كجهد المقل، والواجب قد يقل الامتثال فيه بالأقل. فبعثت بها على علاتها، وأبلغتها عذرها. في أن كتبت عن شوقها بلغاتها، وهي لا تعدم من سيدي في إغضاء كريم، وإرضاء سليم. والله عز وجل يصل بالتأنيس الحبل، ويجمع الشمل. والسلام الكريم يخص تلك السيادة ورحمة الله وبركاته. من محمد بن أحمد الفشتالي.
وهو الآن قاض بفاس المذكورة، محمود السيرة أبقاه وأمتع به.
محمد بن محمد بن داود القرشيمحمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي بكر بن علي بن داود القرشي المقرى، يكنى أبا عبد الله، قاضي الجماعة يقاس وتلمسان.
أوليته

نقلت من خطه. قال، وكان الذي اتخذها من سلفنا قراراً بعد أ، كانت لمن قبله مراراً، عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقرى، صاحب أبي مدين، الذي دعا له ولذريته، بما ظهر فيهم من قبول وتبين. وهو أبي الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحية بن عبد الرحمن، وكان هذا الشيخ عروي الصلاة، حتى أنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات، ولا استشعر منه شعور. ويقال إن هذا الحضور مما أدركه من مقامات شيخه أبي مدين. ثم اشتهرت ذريته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة، فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار. واتخذوا طبل الرحيل، وراية التقدم عند المسير. وكان ولد يحيى، الذي كان أحدهم أبو بكر، خمسة رجال. فعقدوا الشركة بينهم فيما ملكوه، وفيما يملكونه على السواء بينهم والاعتدال، وكان أبو بكر ومحمد، وهما أرومتا نسبي من جميع جهات الأم والأب بتلمسان، وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي. وهما شقيقاهم الصغيران، بأي والاتن فاتخذوا هذه الأقطار والحوايط والديار، فتزوجوا النساء. واستولدوا الإماء. وكان التملساني يبعث إلى الصحراوي بما يرسم له من السلع. ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر، والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر الرجحان والخسران، ويكاتبهما بأحوال التجار، وأخبار البلدان، حتى اتسعت أموالهم، وارتفعت في الفخامة أحوالهم، ولما افتتح التكرور كورة أي والاتن وأعمالها، أصيبت أموالهم، فيما أصيب من أموالها، بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرجال، ونصب دون ماله القتال، ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه، ومكنه من التجارة بجميع بلاده، وخاطبه بالصديق الأحب، والخلاصة الأقرب، ثم صار يكاتب من بتلمسان، يستقضي منهم مآربه، فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة، وعندي من كتبه وكتب الملوك بالمغرب، ما ينبئ عن ذلك. فلما استوثقوا من الملوك، تذللت لهم الأرض للسلوك، فخرجت أموالهم عن الحد، وكادت تفوق الحصر والعد، لأن بلاد الصحراء، قبل أن يدخلها أهل مصر كانت تجلب لها من المغرب ما لا بال له من السلع، فيعاوض عنه بما له بال من الثمن. ثم قال أبو مدين: الدينا ضم جنب أبي حمو، وشمل ثوبهاه. كان يقول لو لا الشناعة لم أزل في بلادي تاجراً من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السلع، ويأتون بالتبر الذي كل أمر الدنيا له تبع، ومن سواهم يحمل منها الذهب، ويأتي إليها بما يضمحل عن قريب ويذهب، إلى ما يغير من العوايد، ويجر السفهاء إلى الفساد.
ولما هلك هؤلاء الأشياخ، جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم، وصادفوا توالي الفتن، ولم يسلموا من جور السلطان، فلم تزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمان فها أنا ذا لم أدرك في ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فصوله عيشاً، وأصوله حرمة. ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب، وأسباب كثيرة تعين على الطلب، فتفرغت بحول الله عز وجل للقراءة، فاستوعبت أهل البلد لقاء، وأخذت عن بعضهم عرضاً وإلقاء، سواء المقيم القاطن والوارد والظاعن.
حاله

هذا الرجل مشار إليه بالعدوة المغربية اجتهاداً، ودؤوباً، وحفظاً وعناية، واطلاعاً، ونقلاً ونزاهة، سليم الصدر، قريب الغور، صادق القول، مسلوب التصنع، كثير الهشة، مفرط الخفة، ظاهر السذاجة، ذاهب أقصى مذاهب التخلق، محافظ على العمل، مثابر على الانقطاع، حريص على العبادة، مضايق في العقد والتوجه، يكابد من تحصيل النية بالوجه واليدين مشقة، ثم يغافض الوقت فيها، ويوقعها دفعة متبعاً إياها زعقة التكبير، برجفة، ينبو عنها سمع من لم يكن تأنس بها عادة، بما هو دليلي على حسن المعاملة، وإرسال السجية، قديم النعمة، متصل الخيرية، مكب على النظر والدرس والقراءة، معلوم الصيانة والعدالة، منصف في المذاكرة، حاسر الذراع عند المباحثة، راحب عن الصدر في وطيس المناقشة، غير مختار للقرن، ولا ضان بالفايدة، كثر الالتفاف، متقلب الحدقة، جبير بالحجة، بعيد عن المراء والمباهتة، قايل بفضل من الطلبة، يقوم أتم القيام على العربية والفقه والتفسير، ويحفظ الحديث، ويتهجر بحفظ الأخبار والتاريخ والآداب، ويشارك مشاركة فاضة في الأصلين والجدل والمنطق، ويكتب ويشعر مصيباً في ذلك غرض الإجادة، ويتكلم في طريقة الصوفية كلام أرباب المقال، ويعتني بالتدوين فيها. شرق وحج، ولقي جلة، واضطبن رحلة مفيدة، ثم آب إلى بلده، فأقرأ به، وانقطع إلى خجمة العلم. فلما ولي ملك الغرب السلطان، محالف الصنع ونشيدة الملك، وأثير الله من بين القرابة والإخوة أمير المسلمين أبو عنان فارس، اجتذبه وخلطه بنفسه، واشتمل عليه، وولاه قضاء الجماعة بمدينة فاس، فاستقل بذلك أعظم الاستقلال، وأنفذ الحكم، وألان الكلمة، وآثر التسديد، وحمل الكل، وخفض الجناح، فحسنت عنه القالة، وأحبته الخاصة والعامة. حضرت بعض مجالسه للحكم، فرأيت من صبره على اللدد، وتأتيه للحجج ورفقه بالخصوم، ما قضيت منه العجب.
دخوله غرناطةثم لما أخر عن القضاء، استعمل بعد لأي في الرسالة، فوصل الأندلس، أوايل جمادى الثانية من عام ست وخمسين وسبعمائة. فلما قضى عرض الرسالة، وأبرم عقد وجهته، واحتل مالقة في متصرفه، بدا له في نبذ الكلفة، واضطراح وظيفة الخدمة، وحل التقيد، إلى ملازمة الإمرة، فتقاعد، وشهر غرضه، وبت في الانتقال، وطمع من كان صحبته، وأقبل على شأنه، فخلى بينه وبين همه. وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربه. وطار الخبر إلى مرسله، فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة، والعدول عنها، بقصد التخلي والعبادة، وأنكر ما نحله غاية الإنكار، من إبطال عمل الرسالة، والانقباض قبل الخروج عن العهدة، فوغر صدره على صاحب الأمر، ولم يبعد حمله على الظنة والمواطأة على النفرة، وتجهزت جملة من الخدام المجلين في مآزق الشبهة؛ المضطلعين بإقامة الحجة، مولين خطة الملام مخيرين بين سحايب عاد من الإسلام مظنة إغلاق النعمة، وإيقاع المثلة، والإساءة بسبب القطيعة والمنابذة. وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمم بمسجدها، وجار بالإنقطاع إلى الله، وتوعد من يجيره، بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه فأهم أمره، وشغلت القلوب آيدته، وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضت له رفع التبعة، وتركه إلى تلك الوجهة.
ولما تحصل ما تيسر من ذلك، انصرف محفوفاً بعالمي القطر، قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المترجم به قبله، والشيخ الخطيب أبي البركات بن الحاج، مستهلين لوروده، مشافهين للشفاعة في غرضه، فأقشعت الغمة، وتنفست الكربة. وجرى أثناء هذا من المراسلة والمراجعة، ما تضمنه الكتاب المسمى بكناسة الدكان بعد انتقال السكان المجموع بسلا ما صورته:

المقام الذي يحب الشفاعة، ويرعى الوسيلة، وينجز العدة، ويتمم الفضيلة، ويضفي مجده المنن الجزيلة، ويعيى حمده الممادح العريضة الطويلة. مقام محل والدنا الذي كرم مجده، ووضح سعده، وصح في الله تعالى عقده، وخلص في الأعمال الصالحة قصده؛ وأعجز الألسنة حمده، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها، وشفاعة يكرم مسعاها، وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطبع الكريم إذا دعاها، معظم سلطانه الكبير، وممجد مقامه الشهير، المتشيع لأبوته الرفيعة، قولاً باللسان، واعتقاداً بالضمير، المعتمد منه بعد الله على الملجأ الأحمى، والولي النصير، فلان. سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، وأبوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله، الذي جعل الخلق الحميدة دليلاً على عنايته بمن حلاه حلاها، وميز بها النفوس النفيسة، التي اختصها بكرامته وتولاها، حمداً يكون كفواً للنعم التي أولاها، وأعادها ووالاها، والصلاة والسلامة على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، المترقي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها، الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها وأجلاها، مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها. والرضا عن آله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لما ابتلاها، وعسل ذكرهم في الأفواه فيما أعذب أوصافهم على الألسن وأحلاها. والدعاء لمقام أبوتكم، حرس الله تعالى علاها، بالسعادة التي يقول الفتح أنا طلاع الثنايا وابن جلاها، والصنائع التي تخترق المفاوز بركائبها المبشرات فتفلى فلاها. فإنا كتبنا إليكم، كتب الله تعالى لكم عزة مشيدة البناء، وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء، وقلدكم قلائد مكارم الأخلاق، ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء. من حمراء غرناطة حرسها الله، والود باهر السناء، مجد على الأناء، والتشيع رحب الدسيعة والفناء.

وإلى هذا، وصل الله تعالى سعدكم، وحرس مجدكم، فإننا خاطبنا مقامكم الكريم، في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقرى، خار الله تعالى لنا وله، وبلغ الجميع من فضله العميم أمله، جواباً عما صدر من مثابتكم فيه، من الإشارة المتمثلة، والمآرب المعملة، والقضايا غير المهملة، نصادركمن بالشفاعة التي مثلها بأبوابكم لا يرد، وظمآها عن منهل قبولكم لا تجلى ولا تصد، حسبما سنة الأب الكريم والجد، والقبيل الذي وضح منه في المكارم، الرسم والحد. ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيلة، وتبلج صيح الزهاد والفضيلة، وجود النفس الشحيحة بالعرض الأدنى البخيلة، وظهر تخليه عن هذه الدار، واختلاطه باللفيف والغمار، وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد، ومداومة الاستغفار، وكنا لما تعرفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره، والفضل الذي أبرزه للعيان وأظهره، أمرنا أن يعتنى بأحواله، ويعان على فراغ باله، ويجري عليه سيب من ديوان الأعشار الشرعية وصريح ماله، وقلنا أما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله، ففر من مالقة على ما تعرفنا لهذا السبب، وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب، وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدة لكني المتسمين بالخبر، والمحترفين ببضاعة الطلب، بحيث لم يتعرف وروده ووصوله إلا ممن لا يؤبه بتعريفه، ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلة تصريفه. ثم تلاحق إرسالكم الجلة، فوجبت حينئذ الشفاعة، وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة، وقررنا ما تحققناه من أمره، وانقباضه عن زيد الخلق وعمره، واستقباله الوجهة التي من ولي وجهه شطرها فقد آثر أثيراً، ومن ابتاعها بمتاع الدنيا، فقد نال فضلاً كبيراً، وخيراً كثيراً، وسألنا منكم أن تبيحوه ذلك الغرض الذي رماه بعزمه، وقصر عليه أقصى همه. فما أخلق مقامكم أن يفوز منه طالب الدنيا، فقد نال فضلاً كبيراً، وخيراً كثيراً، وسألنا منكم أن تبيحوه ذلك الغرض الذي رماه بعزمه، وقصر عليه أقصى همه. فما أخلق مقامكم أن يفوز منه طالب الدنيا بسهمه، ويحصل منه طالب الآخرة على حظه الباقي وقسمه، ويتوسل الزاهد بزهده والعالم بعلمه، ويعول البريء على فضله، ويثق المذنب بحلمه، فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان، وهو أرب من آراب، وفائدة من جراب، ووجه من وجوه إعراب، فرأينا أن المطل بعد جفاء، والإعادة ليس يثقلها خفاء، ولمجدكم يما ضمنا عنه وفاء، وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله، وأن يكون الانتقال عن رضاً منه من صفة حاله، وأن يقتضي له ثمرة المقصد، ويبلغ طية الإسعاف في الطريق إن قصد، إذ كان الأمان لمثله ممن تعلق بجناب الله. من مثلكم حاصلاً، والدين المتين بين نفسه وبين المخافة فاصلاً، وطالبنا كيمياء السعادة بإعانتكم واصلاً. ولما مدت اليد في تسويغ حالة هذيكم عليها أبداً يحرض، وعلمكم يصرح بمزيتها ولا يعرض، فكملوا أبقاكم الله ما لم تسعنا فيه مشاحة الكتاب، وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة، فهو أصح حديث في الباب، ووفوا غرضنا من مجدكم، وخلوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب، وقصد غافر الذنب وقابل التوب بإخلاص المتاب، والتشمير ليوم العرض وموقف الحساب، وأظهروا عليه عناية الجناب، والذي تعلق به، أعلق الله به يدكم من جناب، ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من لدنكم غير مكملة الآراب. وقد بعثنا من ينوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب، ويقتضى خلاصها بالرغبة لا بالغلاب، وهما فلان وفلان، ولولا الأعذار لكان في هذا الغرض إعمال الراب بسبق إعلام الكتاب، وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفر الثناء الجميل، ويربي على التأميل، ويكتب على الود الصريح العقد وثيقة التسجيل. وهو سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل، وإنالة الرفد الجزيل، والسلام الكريم يخص مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته. في الحادي والعشرين لجمادة الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة والله ينفع بقصده، وييسر علينا الرجعة إلى وجهه وفضله.
مشيخته

قال: فممن أخذت عنه، واستفدت منه علماها يعنى تلمسان الشامخان، وعالماها الراسخان، أبو زيد عبد الرحمن، وأبو موسى عيسى إبنا محمد بن عبد الله بن الإمام، وحافظها ومدرسها ومفتيها أبو موسى عمران بن موسى بن يوسف المشذالي، صهر شيخ المتأخرين، أبي علي ناصر الدين على إبنته، ومشكاة الأنوار التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكيم الكناني السلوى رحمه الله. ومهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور، والشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسن البروني، وأبو عمران موسى بومن المصمودي الشهير بالبخاري. قال سمعت البروني يقول: كان الشيخ أبو عمران يدرس البخاري، ورفيق له يدرس صحيح مسلم، وكانا يعرفان بالبخاري ومسلم، فشهدا عند قاضي، فطلب المشهود عليه بالإذار فيهما، فقال له أبو عمران أتمكنه من الإعذار في الصحيحين، البخارس ومسلم، فضحك القاضي، وأصلح بين الخصمين. ثم قال، ومن شيوخي الصلحاء الذين لقيت بها، خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخباط، أدرك أبا إسحاق الطيار. ومنهم أبو عبد الله بن محمد الكرموني، وكان بصيراً بتفسير الرؤيا، فمن عجايب شأنه، أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف ابن عيد الحق مع من كان فيه، من أهل تلمسان أيام محاصرته لها، فرأى أبا جمعة على التلالسي الجرايحي منهم، كأنه قايم على ساقيه دايرة، وجميع أقداحها وأقواسها نصب في نقير في وسطها، فجاء ليشرب، فاغترف الماء، فإذا فيه فرث ودم، فأرسله، واغترف فإذا هو كذلك، ثلاثاً أو أكثر، ثم عدل إلى خاصة ماء، فجاءها وشرب منها. ثم استيقظ، وهو النهار، فأخبره، فقال إن صدقت الرؤيا، فنحن عن قليل خارجون من هذا السجن. قال كيف، قال الساقية الزمان، والنقير السلطان، وأنت جرايحي، تدخل يدك في جوفه فينالها الغرث والدم، وهذا ما لا يحتاج معه إلى دليل، فأخرج، فوجد السلطان مطعوناً بخنجر، فأدخل يده في جوفه، فناله الفرث والدم، فخاط جراحته وخرج، فرأى خاصة ماء، فغسل يده وشرب. ولم يلبث السلطان أن توفي، وسرحوا من كان في سجنه، ومن أشياخه الإمام نسيج وحده، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن أحمد الآبلى التلمساني، وهو رحلة الوقت في القيام على الفنون العقلية، وإدراكه وصحة نظره.
حدث قال: قدم على مدينة فاس، شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، عرف بن المسفر. رسولا من صاحب بجاية. وزاره الطلبة، فكان مما حدثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين، يستشكلون كلاماً وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتب فخر الدين، واستشكله الشيخ معهم. وهذا نصه: ثبت في بعض العلوم العقلية، أن المركب مثل البسيط في الجنس، والبسيط مثل المركب في الفصل، وأن الجنس أقوى من الفصل. فأخبروا بذلك الشيخ الآبلي لما رجعوا إليه، فتأمله ثم قال، هذا كلام مصحف، وأصله أن المركب قبل البسيط في الحس، و البسيط قبل المركب في العقل، وإن الحس أقوى من العقل، فأخبروا ابن المسفر، فلج: فقال لهم الشيخ، التمسوا النسخ، فوجدوا في لفظ بعضها كما قال الشيخ.
رحلتهرحل إلى بجاية مشرقاً، فلقي بها جلة، منهم الفقيه أبن عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، ابن المسفر. ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد بن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزواوي، فقيه ابن فقيه. ومنهم أبو علي حسن بن حسن إمام المعقولات بعد ناصر الدين. وبتونس قاضي الجماعة وفقيهها أبو عبد الله بن عبد السلام، وحضر دروسه، وقاضى المناكح أبو محمد بن محمد بن عبد الرحمن التوزري المعروف بخليل، وإمام المقام أبا العباس رضي الدين الشافعي، وغير واحد من الزايرين والمجاورين وأهل البلد. ثم دخل الشام، فلقي بدمشق، شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب ابن تيمية، وصدر الدين الغماري المالكي، وأبا القاسم بن محمد اليماني الشافعي وغيرهم. وببيت القدس أبا عبدالله بن مثبت، والقاضي شمس الدين ابن سالم، والفقيه أبا عبد الله بن عثمان، وغيرهم.
تصانيفهألف كتاباً يشتمل على أزيد من مائة مسألة فقهية، ضمنها كل أصيل من الرأي والمباحثة. ودون في التصوف، إقامة المريد، ورحلة المتبتل، وكتاب الحقايق والرقايق، وغير ذلك.
شعره

نقلت من ذلك قوله. هذه لمحة العارض لتكملة ألفية ابن الفارض، سلب الدهر من فرايدها مائة وسبعة وسبعين، فاستعنت على رجها بحول الله المعين.
من فصل الإقبال
رفضت السوى وهو الطهارة عندما ... تلفعت في مرط الهوى وهو زينتي
وجئت الحمى وهو المصلى ميمماً ... بوجهه قلبي وجهها وهو قبلتي
وقمت وما استفتحت إلا بذكرها ... وأحرمت إحراماً لغير تجلة
فديني إن لاحت ركوع وإن دنت ... سجود وإن لاهت قيام بحسرة
على أننا في القرب والبعد واحد ... تألفنا بالوصل عين التشتت
وكم من هجير خضت ظمآن طاوياً ... إليها وديجور طويت برحلة
وفيها لقيت الموت أخمر والعدا ... مزرقة أسنان الرماح وحدة
وبيني وبين العذل فيها منازل ... تنسيك أيام الفجار ومؤنة
ولما اقتسمنا خطتينا فحامل ... فجار بلا أجر وحامل برة
خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته ... فعاد ختام الأمر أصل القضية
وكم لي على حكم الهوى من تجلد ... دليل على أن الهوى من سجيتي
يقول سميري والأسا سالم الأسى ... ولا توضع الأوزار إال لمحنة
لو أن مجوساً بت موقد نارها ... لما ظل إلا منهلاً ذا شريعة
ولو كنت بحراً لم يكن فيه نضحة ... لعين إذا نار الغرام استحرت
فلا رجم من نقيب المعاول آمن ... ولا هدم إلاك شيد بقوة
فمم تقول الاسفطسات منك أو ... علام مزاج ركبت أو طبيعة
فإن قام لم يثبت له منك قاعد ... وإلا فأنت الدهر صاحب قعدة
فما أنت يا هذا الهوى ماء أو هوا ... أم النار أم دساس عرق الأمومة
وإني على صبري كما أنت واصف ... وحالي أٌوى القائمين بحجة
أقل الضنى إن عج من جسمي الضنى ... وما شاكله معشار بعض شكيتي
وأيسر شقي أنني ما ذكرتها ... ولم أنسها إلا احترقت بلوعة
وأخفى الجوى قرع الصواعق منك في ... جواي وأخفى الوجد صبر المودة
وأسهل ما ألقى من العذل أنني ... أحب أفلى ذكرها وفضيحتي
وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها ... بالأمس وسل حر الجفون الغزيرة
وأوجز أمري إن دهري كله ... كما شاءت الحسناء يوم الهزيمة
أروح وما يلقى التأسف راحتي ... وأغدو وما يعدو التفج خطتي
وكالبيض بيض الدهر ولاسمر سوده ... مساءتها في طي طيب المسرة
وشأن الهوى ما قد عرفت ولا تسل ... وحسبك أن لم يخبر الحب رؤيتي
سقام بلا برء ضلال بلا هدى ... أوام بلا ري دم لا بقيمة
ولا عتب فالأيام ليس لها رضاً ... وإن ترض منها الصبر فهو بغيتي
ألا أيها اللوام عني قوضوا ... ركاب ملامي فهو أول محنتي
ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى ... وخلو سبيلي ما استطعتم ولوعتي
فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت ... ولكن رأت ذاك الجمال فجنت
تجلى وأرجاء الرجاء حولك ... ورشدي غاو والعمايات عمت
فلم يستبن حتى كأني كاشف ... وراجعت أبصاري له وبصيرتي
ومن فصل الاتصال
وكم موقف لي في الهوى خضت دونه ... عباب الردى بين الظبا والأسنة
فجاوزت في حدي مجاهدتي له ... مشاهدتي لما سمت بي همتي
وحل جمالي في الجلال فلا أرى ... سوى صورة التنزيه في كل صورة
وغبت عن الأغيار في تيه حالتي ... فل أنتبه حتى امتحي اسمي وكنيتي

وكاتبت ناسوتي بأمارة الهوى ... وعدت إلى اللاهوت بالطمئنة
وعلم يقيني صار عيناً حقيقة ... ولم يبق دوني حاجب غير هيبتي
وبدلت بالتلوين تمكين عزة ... ومن كل أحوالي مقامات رفعة
وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي ... مع المحو والإثبات عند تثبتي
وكم جلت في سم الخياط وضاق بي ... لبسطى وقبضي بسطوجه البسيطة
وما اخترت إلا دن بقراط زاهدا ... وفي ملكوت النفس أكبر عبرة
وفقري مع الصبر اصطفيت على الغنى ... مع الشكر إذ لم يحظ فيه مثوبتي
وأكتم جبي ما كنى عنه أهله ... وأكنى إذا هم صرحوا بالخيبة
وإني في جنسي ومنه لواحد ... كنوع ففصل النوع علة حصتي
تسببت في دعوى التوكل ذاهباً ... إلى أن أجدى حيلتي ترك حيلتي
وآخر حرف صار مني أولا ... مريداً وحرف في مقام العبودة
تعرفت يوم الوقف منزل قومها ... فبت بجمع سدد خرق التشتت
فأصبحت أقضي النفس منها منى الهوى ... وأقضي على قلبي برعي الرعية
فبايعتها بالنفس داراً سكنتها ... وبالقلب منه منزلاً فيه حلت
فخلص الاستحقاق نفسي من الهوى ... وأوجب الاسترقاق تسليم شفعة
فيا نفس لا ترجع تقطع بيننا ... ويا قلب لا تجزع ظفرت بوحدة
ومن فصل الإدلال
تبدت لعيني من جمالك لمحة ... أبادت فؤادي من سناها بلفعة
ومرت بسمعي من حديثك ملحة ... تبدت لها فيك القران وقرت
ملامي أبن عذري استبن وجدي استعن ... سماعي أعن حالي أبن قائلي أصمت
فمن شاهدي سخط ومن قاتلي رضا ... وتلوين أحوالي وتمكين رتبتي
مرامي إشارات مراعي تعكر ... مراقي نهايات مراسي تثبت
وفي موقفي والدار أوقوت رسومها ... تقرب أشواقي تبعد حسرتي
معاني إمارات مغاني تذكر ... مباني بدايات مثاني تلفت
وبث غرام والحبيب بحضرة ... ورد سلام والرقيب بغفلة
ومطلع بدر في قضيب على نقا ... فويق محل عاطل دون دجية
ومكمن من سحر بابلي له بما ... حوت أضلعي فعل القنا السمهرية
ومنبت مسك من شقيق ابن منذر ... على سوسن غض بجنة وجنة
ووصف اللآلى في اليواقيت كلما ... تعل بصرف الراح في كل سحرة
سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه ... ونكهته يخبرك عن علم خبرة
ورمان كافور عليه طوابع ... من الند لم تحمل به بنت مزنة
ولطف هواء بين خفق وبانة ... ورقة ماء في قوارير فضلة
لقد عز عنك الصبر حتى كأنه ... سراقة لحظ منك للمتلفت
وأنت وإن لم تبق مني صبابة ... منى النفس لم تقصد سواك بوجهة
وكل فصيح منك يسري لمسمعي ... وكل مليح منك يبدو لمقلتي
تهون على النفس فيك وإنها ... لتكرم أن تغش سواك بنظرة
فإن تنظريني بالرضا تشف علتي ... وإن تظفريني باللقا تطف غلتي
وإن تذكريني والحياة بقيدها ... عدلت لأمتي منيتي بمنيتي
وإن تذكريني بعد ما أسكن الثرى ... تجلت دجاه عند ذاك وولت
صليني وإلا جددى الوعد تدركي ... صبابة نفس أيقنت بتفلت
فما أم بوها لك بتنوفة ... أقيم لها خلف الحلاب قدرت
فلما رأته لا ينازع خلفها ... إذا هي لم ترسل عليه وضنت
بكت كلما راحت عليه وأنها ... إذا ذكرته آخر الليل حنت

بأكثر مني لوعة غير أنني ... رأيت وقار الصبر أحسن حلية
فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها ... أطامن أحشائي على ما أجنت
أهون ما ألقاه إلا من القلى ... هوى ونوى نيل الرضا منك بغيتي
أخوض الصلى أطفي العلا والعلو لا ... أصل السلا أرعى الخلى بين عبرتي
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... لقد أصلت الأحشا نيران لوعة
وقاتل مغناها وموقف شجوها ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت
فغنت غناء أعجمياً فهيجت ... غرامي من ذكري عهود تولت
فأرسلت الأجفان سحباً وأوقدت ... جواي الذي كانت ضلوعي أكنت
نظرت بصحراء البريقين نظرة ... وصلت بها قلبي قصل وصلت
فيا لهما قلباً شجياً ونظرة ... حجاكية لوجن طرف لجنت
ووا عجباً للقلب كيف اعترافه ... وكيف بدت أسراره خلف سترة
وللعين لما سوئلت كيف أخبرت ... وللنفس لما وطنت كيف دلت
وكنا سلكنا في صعود من الهوى ... يسامى بأعلام العلا كل رتبة
إلى مستوى ما فوقه مستوى ... فلما توافينا ثبث وزلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... على نحر قربان لدي قبر شيبة
مؤكدة بالنذر أيام عهده ... فلما تواثقنا اشتددت وحلت
ومن فصل الاحتفال
أزور اعتماراً أرضها بتنسك ... وأقصد حجا بها بتحلة
وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت ... له نشأتي الأولى على كل فطرة
ولولا خفاء الرمز ألوان ولم ... تجدها لشملي مسلكاً بتشنت
ولو لم يحدد عهدنا عقد خلة ... قضيت ولم يقض المنى صدق توبة
بعثت إلى قلبي بشيراً بما رأت ... على قدم عيناي من فكفت
فلم يعد أن شام البشارة شام ما ... جفا الشام من نور الصفات الكريمة
فيا لك من نور لو أن التفاتة ... تعارض منه بالنفوس النفيسة
تحدث أنفاس الصبا أن طيبها ... بما حملته من حراقة حرقة
وتنبئ آثال الربيع عن الربا ... وأشجاره إن قد تجلت فجلت
وتخبر أصوات البلابل أنها ... تغنت بترجيعي على كل أيكة
فهذا جمالي منك في بعد حسرتي ... فكيف به إن قربتني بخلة
تبدي وما زال الحجاب ولادنا ... وغاب ولم يفقده شاهد حضرتي
له كل غير في تجلية مظهر ... ولا غير إلا ما محت كف غيرة
تجلى دليل واحتجاب تنزه ... وإثبات عرفان ومحو تثبت
فما شئت من شيء وآليت أنه ... هو شيء لم تحمد فجار أليتي
وفي كل خلق منه كل عجيبة ... وفي كل خلق منه كل لطيفة
وفي كل خاف منه مكمن حكمة ... وفي كل باد منه مظهر جلوة
أراه يقلب القلب واللغز كامناً ... وفي الزجر والفال الصحيح الأدلة
وفي طي أوفاق الحساب وسر ما ... يتم من الأعداد فابدأ بستة
وفي نفثات السحر في العقد التي ... تطوزع لها كل الطباع الأبية
صور شكلاً مثل شكل ويعتلى ... عليه بأوهام النفوس الخبيثة
وفي كل تصحيف وعضو بذاته اختلاج وفي التقويم مجلى لرؤية
وفي خضرة الكمون تزجة شرابه ... مواعيد عرقوب على أثر صفرة
وفي شجر قد خوفت قطع أصلها ... فيان بها حمل لأقرب مدة
وفي النخل في تلقيحة واعتبر بما ... أتى فيه عن خير البرية واسكت
وفي الطابع السبتي في الأحرف التي ... يبين منها النظم كل خفية
وفي صنعة الطلسم والكيمياء والكنوز وتغوير المياه المعينة

وفي حرز أقسام المؤدب محرز ... وحزب أصيل الشاذلي وبكرة
وفي سيمياء الحاتمي ومذهب ابن سبعين إذ يعزى إلى شر بدعة
وفي المثل الأولى وفي النحل الألى ... بها أوهموا لم اتساموا بسنة
وفي كل ما في الكون من عجب وما ... حوى الكون إلا ناطقاً بعجيبة
فلا سر إلا وهنو فيه سريرة ... ولا جهر إلا وهو فيه كحلية
سل الذكر عن إنصاف أصناف ما ابتنى ... عليه الكلام من حروف سليمة
وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما ... أتت فيه أمضى عدها وتثبت
فلا بد من رمز الكنوز لذي الحجا ... ولا ظلم إلا ظلم صاحب حكمة
ولولا سلام ساق للأمن خيفتي ... لعاجل مس البرد خوفي لميتيي
ولو لم تؤانسني عنا قبل لم ولم ... قضى العتب مني بغية بعد وحشتي
ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها ... كما هونت بالصبر كل بلية
ومن فصل الاعتقال
سرت بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي ... وسارت ولم تثن العنان بعطفة
وذلك لما أطلع الشمس في الدجى ... محياً إبنة الحيين في خير ليلة
يمانية لو أنجدت حين أنجدت ... لا أبصرت عيناك حياً كميت
لأصحمة في نصحها قدم نبي ... لكل نجاشي بها حصن ذمة
ألمت فحطت رحلها ثم لم يكن ... سوى وقفة التوديع حتى استقلت
فلو سمحت لي بالتفات وحل من ... مهاوي الهوى والهون جد تفلتي
ولكنها همت بنا فتذكرت ... قضاء قضاة الحسن قدما فصدت
أجلت خيالاً إنني لا أجله ... ولم أنتسب منه لغير تعلة
على أنني كلي وبعضي حقيقه ... وباطل أوصافي وحق حقيقتي
وجنسي وفصلي والعوارض كلها ... ونوعي وشخصي والهواء وصورتي
وجسمي ونفسي والحشا وغرامه ... وعقلي وروحانيتي القدسية
وفي كل لفظ عنه ميل لمسمعي ... وفي كل معني منه معنى للوعتي
ودهري به عيد ليوم عروبة ... وأمري أمرى والورى تحت قبضتي
ووقتي شهود في فناء شهدته ... ولات وقت لي إلا مشاهد غيبة
أراه معي حساً ووهماً وأنه ... مناط الثريا من مدارك رؤيتي
وأسمعه من غير نطق كأنه ... مناط الثريا من مدارك رؤيتي
وأسمعه من غير نطق كأنه ... يلقن سمعي ما توسوس مهجتي
ملأت بأنوار المحبة باطني ... كأنك نور في سرار سريرتي
وجليت بالإجلال أرجاء ظاهري ... كأنك في أفقي كواكب زينة
فأنت الذي أخفيه عنج تستري ... وأنت الذي أبديه في حين شهرتي
فته أحتمل واقطع أصل وأعل استفل ... ومر أمتثل وأملل أمل وارم أثبت
فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد ... لعتبي فيه الدهر موقع نكنة
ونفسي تنبو عن سواك نفاسة ... فلا تنتمي إلا إليك بمنة
تعلقت الآمال منك بفوق ما ... أرى دونه ما لا ينال بحيلة
وحامت حواليها وما وافقت حمى ... سحائب كيس أمطرت ماء عبرتي
فلو فاتني منك الرضى ولحقتني ... بعفو بكيت الدهر فوت فضيلة
ولو كنت في أهل اليمين منعماً ... بكيت على ما كان من سبقية
وكم من مقام قمت عنك مسائلاً ... أرى كل حي كل حي وميت
أتيت بفاراب أبا نصرها فلم ... أجد عنده علماً يبرد غلتي
فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى ... وفي ابن طفيل الحتناث مطيتي
لقد ضاع لولا أن تداركني حمى ... من الله سعى بينهم طول مدتي

فقيض لي نهجاً إلى الحق سالكاً ... وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي
فحصنت أنظار الجند جنيدها ... بترك فلى من رغبة ريح رهبة
وكسرت عن رجل ابن أدهم أدهماً ... وأنقذته من أس رحب الأسرة
وعدت على حلاج سكرى بصلبه ... وألقيت بلعام التفاني بهوة
فقولي مشكور ورأيي ناجح ... وفعلي محمود بكل محلة
رضيت بعرفاني فأعليت للعلا ... وأجلسني بعد الرضا فيه جلتي
فعشت ولا ضيراً أخاف ولا قلى ... وصرت حبيباً في ديار أحبتي
فها أنا ذا أمسي وأصبح بينهم ... مبلغ نفسي منهم ما تمنت
وأنشدني قوله في حال قبض وقيدتها عنه:
إليك بسطت الكف أستنزل الفضلا ... ومنك قبضت الطرف أستشعر الذلا
وها أنا ذا قد قدمت يقمني الرجا ... ويحجمني الخوف الذي خامر العقلا
أقدم رجلا إن يضيء برق مطمع ... وتظلم أرجائي فلا أنقل الرجلا
ولي عثرات لست آمل أن هوت ... بنفسي ألا أستقل وأن أصلى
فإن تدركني رحمة أنتعش بها ... وإن تكن الشأخرى فأولى بي الأولى
قال: ومما نظمته من الشعر:
وجد تسعره الضلو ... ع وما تبرده المدامع
هم تحركه الصبا ... بة والمهابة لا تطاوع
أملي إذا وصل الرجا ... أسبابه فالموت قاطع
بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشاق صانع
قال ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء:
نحن إن نسأل بناس معشر ... أهل ماء فجرته الهمم
عرب من بيضهم أرزاقهم ... ومن السمر الطوال الخيم
عرضت أحسابهم أرواحهم ... دون نيل العرض وهي الكرم
أورثونا المجد حتى أننا ... نرتضي الموت ولا نزدحم
ما لنا في الناس من ذنب سوى ... أننا نلوى إذا ما اقتحموا
قال: وما قلته مذيلاً به قول القاضي أبي بكر بن العربي:
أما والمسجد الأقصى وما يتلى به نصا
لقد رقصت بنات الشو ... ق بين جوانحي رقصا
قولي:
فأقلع بي إليه هوى ... جناحا عزمه قصا
أقل القلب واستعدى ... على الجثمان فاستعصى
فقمت أجول بينهما ... فلا أدنى ولا أقصى
قال: ومما قلته في التورية بشأن راوي المدونة:
لا تعجبن لظبي قد دها أسداً ... فقد دها أسداً من قبل سحنون
قال: ومما قلته من الشعر:
أنبت عوداً بنعماء بدأت بها ... فضلاً وألبستها بعد اللحى الورقا
فظل مستشعراً مستدثرا أرجا ... ريان ذا بهجة يستوقف الحدقا
فلا تشنه بمكروه الجني فلكم ... عودته من الجميل من لدن خلقا
وأنف القذى عنه وأثر الدهر منبته ... وغذه برجاء واسقه غدقا
واحفظه من حادثات الدهر أجمعها ... ما جاء منها على ضوء وما طرقاً

ومما قيدت عنه أيام مجالسته ومقامه بغرناطة، وقد أجرى ذكر أبي زيد ابن الإمام، أنه شهد مجلساً بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن ابن أبي حمو، ذكر فيه أبو زيد المذكور، أن ابن القاسم مقيد بالنظر بأصول مالك، ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشذالي، وادعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه أو يبلغه عنه لما ليس من قوله، وأتى من ذلك بنظائر كثيرة. قال فلو تقيد بمذهبه، لم يخالفه لغيره. فاستظهر أبو زيج بنص لشرف الدين بن التلمساني، ومثل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم، بالنظر إلى مذهب مالك، والمزني إلى الشافعي. فقال أبو موسى عمران، هذا مثال، والمثال لا يلزم صحته، فصاح به أبو زيد ابن الإمام وقال لأبي عبد الله بن أبي عمر تكلم فقال لا أعرف ما قال هذا الفقيه، والذي أذكره من كلام أهل العلم أنه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثل به، فقال أبو موسى للسلطان، هذا كلام أصولي محقق، فقلت لهما يومئذ، وأنا حديث السن، ما أنصفهما الرجل، فإن المثل كما يؤخذ على عجهة التحقيق، كذلك يؤخذ على جهة التقريب، ومن ثم جاء منا قال هذا الشيخ، أعني ابن أبي عمران، وكيف لا وهذا سيبويه يقول، وهذا مثال ولا يتكلم به، فإذا صح أن المثال قد يكون تقريباً، فلا يلزم صحة المثال، ولا فساد الممثل لفساده فهذان القولان من أثل واحد.
وقال: شهدت مجلساً آخر عند هذا السلطان، قرئ فيه على أبي زيد ابن الإمام حديث: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، من صحيح مسلم. فقال له الأستاذ أبو إسحاق بن حكم السلوى هذا الملقن محتضر حقيقة، ميت مجازاً فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم، والأصل الحقيقة، فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه. وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض التنقيح، فقلت زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في الحال، مجازاً في الاستقبال. مختلفاً فيه في الماضي. إذا كان محكوماً به. وأما إذا كان متعلق الحكم كما هنا، فهو حقيقة مطلقاً إجماعاً، وعلى هذا التقرير، لا مجاز ولا سؤال. ولا يقال إنه احتج على ذلك بما فيه نظر، لأنا نقول إنه نقل الإجماع. وهو أحد الأربعة، التي لا يطالب عنها بالدليل، كما ذكر أيضاً، بل نقول إنه أساء حيث احتج في موضع الوفاق، كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطهارة ونحوها. بل هذا أشنع لكونه مما علم كونه من الدين ضرورة. ثم إنا لو سلمنا نفي الإجماع، فلنا أن نقول إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة، لأن تلقينه قبل ذلك، إن لم يدهش، فقد يوحش، فهو تنبيه على وقت التلقين، أي لقنوا من تحكمون بأنه ميت. أو يقال إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام. ألا ترى اختلافهم فيه، هل هو أخذ من حضور الملايكة أو حضور الأجل، أو حضور الجلاس. ولا شك أن هذه حالة خفية يحتاج في نصها إلى دليل الحكمة أو إلى وصف ظاهر يضبطها. وهو ما ذكرناه، أو من حضور الموت، وهو أيضاً مما لا يعرف بنفسه. بل بالعلامات. فلما وجب اعتبارا. وجب كون تلك التسمية إشارة إليها. والله أعلم.
وقال: وكان أبو زيد يقول فيما جاء من الأحاديث، ما معنى قول ابن أبي زيد. وإذا سلم الإمام، فلا يلبث بعد سلامه ولينصرف، وذلك بعد أن ينتظر من يسلم من خلفه لئلا يمر بين يدي أحد، وقد ارتفع عنه حكمه، فيكون كالداخل مع المسبوق جمعاً بين الأدلة.
وقلت، وهذا من ملح الفقية. وقال كان أبو زيد يعنى الإمام، يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها، فيقول، والمفارقات، ولعله في هذا كما قال أبو عمرو بن العلاء للأصمعي لما قرأ عليه:
وغررتني وزعمت أنك لابن في الصيف تأمر
فقال:
وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تأمر
فقال، أنت في تصحيفك أشهر من الحطيئة، أو كما يحكى عن الشافعي أنه لما صلى في رمضان بالخليفة، لم يكن يومئذ يحفظ القرآن، فكان ينظر في المصحف، وقرأ الآية " صنعة الله أصيب بها من أساء. إنما المشركون نجس. وعدها إياه، تقية لكم خير لكم. هذا أن دعوا للرحمن ولدا. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " .

وقال، ذكر أبو زيد بن الإمام في مجلسه يوماً، أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشريطتين: " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " فإنهما يستلزمان بحكم الإنتاج " ولو علم الله فيهم خيراً لتولوا وهم معرضون " وهو محال. ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين، فقال ابن حكم؛ قال الخونجي، والإهمال بإطلاق لفظه، لو وأن في المتصلة، فهاتان القضيتان على هذا مهملتان، والمهملة في قوة الجزيئة، ولا قياس على جزئيتين. فلما اجتمعت ببجاية بأبي علي حسين بن حسين، أخبرته بهذا، وبما أجاب به الزمخشري وغيره، مما يرجع إلى انتفاء أمر تكرار الوسط. فقال لي الجوابان في المعنى سواء، لأن القياس على الجزئيتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرار الوسط. وأخبرت بذلك شيخنا أبا عبد الله الآبلي، فقال إنما يقوم القياس على الوسط، ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين ولا سالبتين، إلى ساير ما يشترط. فقلت ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلاً لمجمل ما ينبئى عله الوسط وغيره، وإلا فلا مانع لما قاله ابن الشروط تفصيلاً لمجمل ما ينبئى عليه الوسط وغيره، وإلا فلا مانع لما قاله ابن حسين. قال الآبلي؛ وأجبت بجواب السلوى، ثم رجعت إلى ما قاله الناس، لوجوب كون مهملات القرآن كلية، لأن الشرطية لا تنتج جزئية. فقلت هذا فيما يساق منها للحجة مثل " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " . أما في مثل هذا فلا قلت. وكان يلزم السؤال الأول لو لم يكن للمتولى سبب تأخر، حسبما تبين في مسألة، لو لم يطع الله، فلينظر ذلك في اسم شيخنا أبي بكر يحيى بن هذيل رحمه الله.
وقال، لما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن بن فرحون، نزيل طيبة، على تربتها السلام سأل ابن حكم عن معنى هذين البيتين:
رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلنا بالرقمتين
كلانا ناظر قمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني
ففكر ثم قال لعل هذا الرجل كان ينظر إليها، وهي تنظر إلى قمر السماء، فهي تنظر إلى القمر حقيقة، وهو لفرط الاستحسان يرى أنها الحقيقة. فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة. وأيضاً وهو ينظر إلى قمر مجازاً، وهو لإفراطه استحسانها يرى أن قمر السماء هو المجاز، فقد رأت بعينه لأنها ناظرة المجاز. قلت، ومن هذا يعلم وجه الفاء في قوله تعالى " فاذكروني أذكركم " والفاء فأذكرتني بمثابة قولك أذكرتني، فتأمله، فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ كل الفهم، ينشده وأذكرتني. فالفاء في البيت الأول، منبهة على الثاني، وهذا النحو يسمى الإيذان في علم البيان وقال، سألني ابن حكم عن نسب هذا المجيب في هذا البيت:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب فأجاب ما قتل المحب حرام.
ففكرت ثم قفلت له، أراه تميمياً لإلغائه " ما " النافية. فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ. وسأل ابن فرحون ابن حكم يوماً، هل تجد في التنزيل ست فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت:
رأى فحب فرام الوصل فامتنعت ... فسام صبراً فأعيا نيله فقضى
ففكر ابن حكم، ثم قال نعم قوله عز وجل " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فاصبحت كالصريم، فتنادوا إلى آخرها " فمنع لهم بناء الآخرة لقراءة الواو. فقلت له امنع ولا تسند، فيقال إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف، وإن كان السند لا يسمع الكلام عليه. وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد، سواء بهذا الشرط وبدونه، كقول نوح عليه السلام فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم وشركاءكم. وكقول امرئ القيس غشيت ديار الحي بالبكرات، البيتين لا يقال قوله، فالحب سابع، لأنا نقول إنه عطف على عاقل المجرد منها، ولعل حكمة الستة أنها أول الأعداد التامة، كما قيل في حكمة خلق السموات والأرض فيها. وشأن اللسان عجيب.
وقال، سمعت ابن حكم يقول، كتب بعض أدباء فاس إلى صاحب له:
إبعث إلي بشيئ ... مدار فاس عليه
وليس عندك شيء ... مما أشير إليه

فبعث إليه ببطة من مرى شرب يشير بذلك إلى الرياء وحدث أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم دعى إلى وليمة، وكان كثير البلغم، فوضع بين يديه صهره أبو العباس بن الأشقر غضارا من اللوز المطبوخ بالمرى، لمناسبته لمزاجه، فخاف أن يكون قد عرض له بالرياء. وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس، فقدم له القاضي غضار المقروض، فاستحسن الحاضرون فطنته.
وقال عند ذكر شيخه أبي محمد عبد الله بن عبد الواحد المجاصي دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله السطى في أيام عيد، فقدم لنا طعاماً، فقلت لو أكلت معنا، فرجونا بذلك ما يرفع من حديث. " من أكل مع مغفور له، غفر له " فتبسم، وقال لي، دخلت على سيدي أبي عبد الله الفاسي بالأسكندرية، فقدم لنا طعاماً، فسألته عن هذا الحديث، فقال وقع في نفسي شيء، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عنه، فقال لم أقله، وأرجو أن يكون كذلك، وصافحته بمصافحته الشيخ أبا عبد الله زيان، بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي، بمصافحة أبا العباس أحمد الملثم، بمصافحته المعمر، بمصافحته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث عن شيخه أبي محمد الدلاصي، أنهن كان للملك العادل مملوك اسمه محمد، فكان يخصه لدينه وعقله، بالنداء باسمه، وإنما كان ينعق بمماليكه يا ساقي، يا طباخ، يا مزين. فناداه ذات يوم، يا فراش، فظن أن ذلك لموجدة عليه. فلم ير اثر ذلك، وتصورت له به خلوة، فسأله عن مخالفته لعادته، فقال له لا عليك، كنت يومئذ جنباً، فكرهت أن أذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على تلك الحالة. وقال أنشدني المجاصي، قال أنشدني الإمام نجم الدين الواسطي، قال أنشدني شرف الدين الدمياطي، قال أنشدني تاج الدين الآمدي، مؤلف الحاصل، قال أنشدني الإمام فخر الدين لنفسه:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ودبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا مسرعين وزالوا
وكم من رجال قد رأينا ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال
وقال، وقد مر من ذكر الشريف القاضي أبي علي حسين بن يوسف بن يحيى الحسني في عداد شيوخه وقال حدثني أبو العباس الرندي، عن القاضي أبي العباس ابن الغماز. قال لما قدم القاضي أبو العباس بن الغماز من بلنسية، نزل بجاية، فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع، فجاء عبد الحق يوماً، وعليه برنس أبيض، وقد حسنت شارته، كملت هيئته، فلما نظر إليه ابن الغماز أنشده:
ليس البرنس الفقيه فباهى ... ورأى أنه المليح فتاها
لو زليخا رأته حين تبدي ... لتمنته أن يكون فتاه
وقال أيضاً إن ابن الغماز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزيتونة، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلوه. وجاء حفيد له صغير، فأخبره أنه أهله، فردهم معه؛ فأراهم إياه، فقال ما أشبه الليلة بالبارحة، وقد وقع لنا مثل هذا مع ابي الربيع بن سالم، فأنشدنا فيه:
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وأرخى حجاب الغيم دون محياه
فلما تصدى لارتقاب شقيقه ... تبدى له دون الأنام فحياه
وجرى في ذكر أبي عبد الله بن النجار، الشيخ التعالمي من أهل تلمسان، فقال ذكرت يوماً قول ابن الحاجب فيما يحرم من النساء بالقرابة، وهي أصول وفصول، أول أصوله، وأول فصل من كل أصل وإن علا، فقال إن تركب لفظ التسمية العرفية من الطرفين حلت وإلا حرمت، فتأملته. فوجدته كما قال، لأن أقسام هذا الضابط أربعة، التركيب من الطرفين، كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت. والتركيب من قبل الرجل، كإبنة الأخ والعم مقابله كابن الأخت والخالة.
وذكر الشيخ الرئيس أبا محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي. وقال. كان ينكر إضافة الحول إلى الله عز وجل، فلا يجيز أن يقال بحول الله وقوته، قال، لأنه لم يرد إطلاقه، والمعنى يقتضي امتناعه لأن الحول كالحيلة، أو قريب منها.

وحكى عن شيخه أبي زيد عبد الرحمن الصنهاجي، عن القاضي أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدكالي، أنه اختصم عنده رجلان في شاة. ادعى أحدهما أنه أودعها الآخر، وادعى الآخر أنها ضاعت منه فأوجب اليمين على المودع أنها ضاعت من غير تضييع، فقال كيف أضيع. وقد شغلتني، حراستها عن الصلاة، حتى خرج وقتها، فحكم عليه بالغرم، فقيل له في ذلك، فقال تأولت قول عمر ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وحكى عن الشيخ الفقيه رحلة الوقت أبي عبد الله الآبلي. حكاية في باب الضرب، وقوة الإدراك، قال، كنت يوماً مع القاسم بن محمد الصنهاجي، فوردت عله طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها:
خيرات ما تحويه مبذولة ... ومطلبي تصحيف مقلوبها
فقال لي ما مطليه، فقلت نارنج، ودخل عليه وأنا عنده بتلمسان الشيخ الطبيب أبو عبد الله الدباغ المالقي، فأخبرنا أن أديباً استجدى وزيراً بهذا الشطر: " ثم حبيب قلما ينصف " فأخذته وكتبته، ثم قلبته وصحفته فإذا به قصبتا ملف شحمى.
وقال، قال شيخنا الآبلي، لما نزلت تازة مع أبي الحسن بن بري، وأبي عبد الله الترجالي، فاحتجت إلى النوم، وكرهت قطعهما إلى الكلام، فاستكشفت منها عن معنى هذا البيت للمعري:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
فجعلا يفكران في، فنمت حتى أصبحا ولم يجاه، وسألوني عنه، فقلت معناه أقول لعبد الله لما، وهي سقاؤنا، ونحن بوادي عبد شمس، شم لنا برقا.
قلت، وفيه نظر، وإن استقصينا مثل هذا، خرجنا عن الغرض.
مولدهنقلت من خطه، كان مولدي بتلمسان، أيام أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيان. وقد وفقت على تاريخ ذلك، ورأيت الصفح عنه، لأن أبا الحسن بن موسى، سأل أبا الطاهر السلفي عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت أبا الفتح بن زيان بن مسعدة عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت محمد بن علي بن محمد اللبان عن سنه فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت حمزة بن يوسف السهمي عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت أبا إسماعيل الترمذي عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت الشافعي عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت مالك بن أنس عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، ليس من المروءة إخبار الرجل عن سنه.
وفاتهتوفي بمدينة فاس في أخريات محرم من عام تسعة وخمسين وسبعمائة وأراه توفي في ذي حجة من العام قبله. ونقل إلى تربة سلفه بمدينة تلمسان حرسها الله.
محمد بن عياض بن موسى اليحصبيمحمد بن عياض بن محمد بن عياض بن موسى اليحصبي من أهل سبتة، حفيد القاضي الإمام أبي الفضل عياض، يكنى أبا عبد الله.
حالهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير. كان من عدول القضاة. وجلة سراتهم. وأهل النزاهة فيهم. شديد التحري في الأحكام، والاحتياط، صابراً على الضعيف فيهم والملهوف، شديد الوطأة على أهل الجاه وذوي السطوة فاضلاً وقوراً، حسن السمت، يعرفه كلامه أبداً، ويزينه ذلك لكثرة وقاره، محباً في العلم وأهله، مقرباً لأصاغر الطلبة، ومكرماً لهم، ومعتنياً بهم، معملا جهده في الدفع عنهم، لما عسى أن يسوءهم. ليحبب إليهم العلم وأهله، ما رأينا بعده في هذا مثله. سكن مالقة مع أبيه، عند انتقال أبيه إليها، إلى أن مات أبوه سنة خمس وخمسين وستماية.
حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب، وجرى ذكر إعرابه لفظ من حديثه عن شيوخه، قال دخلت على القاضي المذكور، فسأل أحدنا عن أبيه، فقال ابن فلان؛ وذكر معرفة مشتركة بين تجار فاس. فقال أيهما الذي ينحت في الخشب، والذي يعمل في السلاح، فما فطن لقصده لسذاجته وحدثني عن ذكر جزالته. أنها كانت تقع له مع السلطان مستقضية، مع كونه مرهوباً، شديد السطوة، وقايع تنبي عن تصميمه، وبعده عن الهوادة. منها أن السلطان أمر بإطلاق محبوس، كان قد سجنه فأنفذ بين يدي السلطان الأمر للسجان بحبسه، وتوعده إن أطلقه. ومنها إذاعة ثبوت العيد، في أخريات يوم، كان قد أمل السلطان البروز إلى العيد في صباحه، فنزل عن القلعة ينادي، عبد الله يا ميمون، إخبر الناس عن عيدهم اليوم، وأمثال ذلك.
مشيخته

قرأ بسبتة، وأسنديها، فأخذ عن أبي الصبر أيوب بن عبد الله الفهري وغيره، ورحل إلى الجزيرة الخضراء. فأخذ بها كتاب سيبويه وغيره تفقيهاً على النحوي الجليل أبي القاسم عبد الرحمن، ابن القاسم القاضي المتقنن. وأخذ بها أيضاً كتاب إيضاح الفارسي عن الأستاذ أبي الحجاج بن مغرور، وأخذ بإشبيلية وغيرها عن آخرين. وقرأ على القاضي أبي القاسم بن بقي بن نافحة. وأجاز له. وكتب له من أهل المشرق جماعة كثيرة، منهم أبو جعفر محمد ابن أحمد بن نصر بن أبي الفتح الصيدلاني، وأجاز له بإصبهان، وهو سبط حسن ابن مندة، أجاز له في شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. وتحمل عن أبي علي الحداد، شيخ السلفى الحافظ عن محمود الصيرفي ونظايرهما، وجماعة من إصبهان كثيرة كتبوا له بالغجازة. وكتب له من غيرها من البلاد نيف وثمانون رجلا، منهم أحد وستون رجلاً كتبوا له مع الشيخ المحدث أبي العباس المغربي، والقاضي أبي عبد الله الأزدي، وقد نصح على جميعهم في برنامجيهما، واستوفى أبو العباس الغربي نصوصو الإسترعات، وفيها اسم القاضي أبو عبد الله بن عياض.
؟ومن روى عنه قال الأستاذ أبو جعفر رحمه الله، أجاز لي مرتين اثنين. وقال حدثني أبو عبد الله مشافهة بالإذن، أنبأنا أبو الطاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي كتابة من دمشق، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الرازي المعروف بابن الحطاب بالحاء المهملة، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الوهاب البغدادي بالقسطاط، أخبرنا موسى ابن محمد بن عرفة السمسار ببغداد، قال أبو عمرو بن أحمد بن الفضل النفزي، أخبرنا إسماعيل بن موسى، أخبرنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " يأتي على الناس زمان، الصابر منهم على دينه، كالقابض على الجمر " .
هذا الإسناد قريب يعز مثله في القرب لأمثالنا، ممن مولده بعد الستمائة، وإسماعيل بن موسى من شيوخ الترمذي، قد خرج عنه الحديث المذكور، لم يقع له في مصنفه ثلاثي غيره.
؟؟

مولده
بسبتة سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
وفاتهتوفي بغرناطة يوم الخميس الثامن والعشرين لجمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستماية.
محمد بن موسى بن عياض اليحصبيمحمد بن عياض بن موسى بن عياض بن عمر ابن موسى بن عياض اليحصبي، من أهل سبتة ولد الإمام أبي الفضل، يكنى أبا عبد الله.
حالهكان فقيهاً جليلاً، أديباً، كاملاً. دخل الأندلس، وقرأ على ابن بشكوال كتاب الصلة، وولي قضاء غرناطة، قال ابن الزبير، وقفت على جزء ألفه في شيء من أخبار أبيه، وحاله في أخذه وعلمه، وما يرجع إلى هذا، أوقفني عليه حفدته بمالقة.
وفاتهتوفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
محمد بن أحمد بن جبير الكنانيمحمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن سعيد ابن جبير بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان بن عبد السلام بن جبير الكناني، الواصل إلى الأندلس.
أوليتهدخل جده عبد السلام بن جبير في طالعة بلج بن بشر بن عياض القشيري في محرم ثلاث وعشرين ومائة. وكان نزوره بكوؤة شدونة. وهو من ولد ضمرة ابن كنانة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. بلنسي الأصل، ثم غرناطي الاستيطان. شرقن وغرب، وعاد إلى غرناطة.
حالهكان أديباً بارعاً، شاعراً مجيداً، سنياً فاضلاً، نزيه المهمة، سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة في الخط. كتب بسبتة عن أبي سعيد عثمان ابن عبد المؤمن، وبغرناطة عن غيره من ذوي قرابته، وله فيهم أمداح كثيرة. ثم نزع عن ذلك، وتوجه إلى المشرق، وجرت بينه وبين طايفة من أدباء عصره، مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته. ونظمه فايق، ونثره بديع. وكلامه المرسل، سهل حسن، وأغراضه جليلة، ومحاسنه ضخمة، وذكره شهير، ورحلته نسيجة وحدها، طارت كل مطار، رحمه الله.
رحلته

قال من عنى بخبره، رحل ثلاثاً من الأندلس إلى المشرق، وحج في كل واحدة منها. فصل عن غرناطة أول ساعة من يوم الخميس لثمان خلون من شوال، ثمان وسبعين وخمسماية، صحبة أبي جعفر بن حسان، ثم عاد إلى وطنه غرناطة لثمان بقين من محرم واحد وثمانين، ولقى بها أعلاماً يأتي التعريف بهم في مشيخته، وصنف الرحلة المشهورة، وذكر مناقله فيها وما شاهده من عجايب البلدان، وغرايب المشاهد، وبدايع الصنايع، وهو كتاب مؤنس ممتع، مثير سواكن النفوس إلى الرفادة على تلك المعالم المكرمة والمشاهد العظيمة ولما شاع الخبر المبهج بفتح بيت المقدس على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي، قوي عزمه على عمل الرحلة الثانية، فتحرك إليها من غرناطة، يوم الخميس لتسع خلون من ربيع الأول من سنة خمس وثمانين وخمسماية، ثم آب إلى غرناطة يوم الخميس لثلاث عشر خلت من شعبان سبع وثمانين. وسكن غرناطة، ثم مالقة، ثم سبتة، ثم فاس، منقطعاً إلى إسماع الحديث والتصوف، وتروية ما عنده. وفضله بديع، وورعه يتحقق، وأعماله الصالحة تزكو. ثم رحل الثالثة من سبتة، بعد موت زوجته عهاتكة أم المجد بنت الوزير أبي جعفر الوقشي، وكان كلفاً بها، فعظم وجده عليها، فوصل مكة، وجاور بها طويلاً، ثم بيت المقدس، ثم تجول بمصر والإسكندرية، فأقام يحدث، ويؤخذ عنه إلى أن لحقي بربه.
مشيختهروى بالأندلس عن أبيه، وأبي الحسن بن محمد بن أبي العيش، وأبي عبد الله بن أحمد بن عروس، وابن الأصيلي. وأخذ العربية عن أبي الحجاج بن يسعون. وبسبتة عن أبي عبد الله بن عيسى التميمي السبتي. وأجاز له أبو الوليد ابن سبكة، وإبراهيم بن إسحاق بن عبد الله الغساني التونسي، وأبو حفص عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي الميانجي، نزيلاً مكة، وأبو جعفر أحمد بن علي القرطبي الفنكي، وأبو الحجاج يوسف بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد البغدادي، وصدر الدين أبو محمد عبد اللطيف الحجري رييس الشافعية بإصبهان. وببغداد العالم الحافظ المتبحر نادرة الفلك أبو الفرج، وكناه أبو الفضل ابن الجوزي. وحضر بعض مجالسه الوعظية وقال فيه فشاهدنا رجلاً ليس بعمرو ولا زيد، وفي جوف الفراكل الصيد. وبدمشق أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي بن عبد الله بن عباس السلمي الجواري، وأبو سعيد عبد الله بن محمد ابن أبي عصرون، وأبو الطاهر بركات الخشوعي، وسمع عليه، وعماد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني من أئمة الكتاب، وأخذ عنه بعض كلامه، وغيره، وأبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الأخضر بن علي بن عساكر، وسمع عليه، وأبو الوليد إسماعيل بن علي بن إبراهيم والحسين بن هبة الله بن محفوظ بن نصر الرقبعي، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن أبي سعيد الصوفي، وأجازوا له، وبحران الصوفي العارف أبو البركات حيان بن عبد العزيز، وابنه الحاذي حذوه.
من أخذ عنهقال ابن عبد الملك، أخذ عنه أبو إسحاق بن مهيب، وابن الواعظ، وأبو تمام ابن إسماعيل، وأبو الحسن بن نصر بن فاتح بن عبد الله البجائي، وأبو الحسن بن علي الشادي، وأبو سليمان بن حوط الله، وأبو زكريا، وأبو بكر يحيى بن محمد بن أبي الغصن، وأبو عبد الله بن حسن بن مجير. وأبو العباس بن عبد المؤمن البناني، وأبو محمد بن حسن اللواتي وابن تامتيت، وابن محمد الموروري، وأبو عمر بن سالم، وعثمان بن سفيان بن أشقر التميمي التونسي.
وممن أخذ عنه بالإسكندرية، رشيد الدين أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله، وبمصر رشيد الدين بن العطار. وفخر القضاة بن الجياب، وابنه جمال القضاة.
تصانيفهمنها نظمه، قال ابن عبد الملك: وقفت منه على مجلد متوسط يكون على قدر ديوان أبي تمام حبيب بن أوس، ومنه جزء سماه نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح في مراثي زوجه أم المجد. ومنه جزء سماه نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان. وله ترسيل بديع، وحكم مستجادة، وكتاب رحلته. وكان أبو الحسن الشادي، يقول إنها ليست من تصانيفه، وإنما قيد معاني ما تضمنته، فتولى ترتيبها، وتنضيد معانيها بعض الآخذين عنه، على ما تلقاه منه. والله أعلم.
شعرهمن ذلك القصيدة الشهيرة التي نظمها، وقد شارف المدينة المكرمة طيبة، على ساكنها من الله أفضل الصلوات، وأزكى التسليم:

أقول وآنست بالليل نارا ... لعل سراج الهدى قد أنارا
وإلا فما بال أفق الدجى ... كأن سنا البرق فيه استطارا
ونحن من الليل في حندس ... فما باله قد تجلى نهارا
وهذا النسيم شذا المسك قد ... أعير أم المسك منه استعارا
وكانت رواحلنا تشتكي ... وجاها فقد سابقتنا ابتدارا
وكنا شكونا عناء السرى ... فعدنا نباري سراع المهارا
أظن النفوس قد استشعرت ... بلوغ هوى تخذته شعارا
بشاير صبح السرى آدنت ... بأن الحبيب تدانى مزارا
جرى ذكر طيبة ما بيننا ... فلا قلب في الركب إلا وطارا
حنيناً إلى أحمد المصطفى ... وشوقاً يهيج الضلوع استعارا
ولاح لنا أحد مشرقاً ... بنور من الشهداء استعارا
فمن أجل ذلك ظل الدجى ... يحل عقود النجوم انتثارا
ومن طرب الركب حث الخطا ... إليها ونادى البدار البدارا
ولما حللنا فناء الرسول ... نزلنا بأكرم مجد جوارا
وحين دنونا لفرض السلام ... قصرنا الخطا ولزمنا الوقارا
فما نرسل اللحظ إلا اختلاساً ... ولا نرجع الطرف إلا انكسارا
ولا نظهر الوجد إلا اكتتاماً ... ولا نلفظ القول إلا سرارا
سوى أننا لم نطق أعيناً ... بأدمعها غلبتنا انفجارا
وقفنا بروضة دار السلام ... نعيد السلام عليها مرارا
ولولا مهابته في النفوس لثمنا الثرى والتزمنا الجدارا
قضينا بزورته حجنا ... وبالعمرتين ختمنا اعتماراً
إليك إليك نبي الهدى ... ركبت البحار وجبت القفارا
وفارقت أهلي ولا منة ... ورب كلام يجر اعتذارا
وكيف نمن على من به ... نؤمل للسيئات اغتفاراً
دعائي إليك هوى كامن ... أثار من الشوق ما قد أثارا
فناديتك لبيك داعي الهوى ... وما كنت عنك أطيق اصطباراً
ووطنت نفسي بحكم الهوى ... علي وقلت رضيت اختيارا
أخوض الدجى وأروض السرى ... ولا أطعم النوم إلا غرارا
ولو كنت لا أستطيع السبيل ... لطرت ولو لم أصادف مطارا
وأجدر من نال منك الرضى ... محب ثراك على البعد زارا
عسى لحظة منك لي في غد ... تمهد لي في الجنان القرارا
فما ضل من بمسراك اهتدى ... ولا ذل من بذراك استجارا
وفي غبطة من ممن الله عليه لحج بيته، وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم يقول:
هنيئاً لمن حدج بيت الهدى ... وحط عن النفس أوزارها
وإن السعادة مضمونة ... لمن حج طيبة أو زارها
وفي مثل ذلك يقول:
إذا بلغ المرء أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أمله
وإن زار قبر نبي الهدى ... فقد أكمل الله ما أمله
وفي تفضيل المشرق:
لا يستوي شرق البلاد وغربها ... الشرق حاز الفضل باستحقاق
أنظر إلى جمال الشمس عند طلوعها زهراء تعجب بهجة الإشراق
وانظر إليها عند الغروب كثيبة ... صفراء تعقب ظلمة الآفاق
وكفى بيوم طلوعها من غربها ... أن تؤذن الدنيا بعزم فراق
وقال في الوصايا:
عليك بكتمان المصايب واصطبر ... عليها فما أبقى الزمان شفيقا
كفاك بالشكوى إلى الناس أنها ... تسر عدواً أو تسيء صديقا
وقال؛
وصانع المعروف فلتة عاقل ... إن لم تضعها في محل عاقل
كالنفس في شهواتها إن لم تكن ... وقفاً لها عادت بضر عاجل
نثره

من حكمه قوله: إن شرف الإنسان، فشرف وإحسان. وإن فاق فتفضل وإفاق. ينبغي أن يحفظ الإنسان لسانه. كما يحفظ الجفن إنسانه. فرب كلمة تقال، يحدث عثرة لا تقال. كم كست فلتات الألسنة الحداد، من ورائها ملابس حداد. نحن في زمن لا يحظى فيه بنفاق إلا من عامل بنفاق. شغل الناس عن طريق الآخرة بزخارف الأغراض. فلجوا في الصدود عنها والإعراض. وآثروا دنيا هي أضغاث أحلام، وكم هفت في حبها من أحلام، أطالوا فيها آمالهم، وقصروا أعمالهم. ما بالهم، لم يتفرغ لغيرها بالهم، ما لهم في غير ميدانها استباق، ولا بسوى هواها اشتياق. تلله لو كسشفت الأسرار، لما كان هذا الإصرار، ولسهرت العيون، وتفجرت من شئونها الجفون، فلو أن عين البصيرة من سنتها هابة، لرأت جميع ما في الدنيا ريحاً هابة ولكن استولى العمى على البصاير ولا يعلم الإنسان ما إليه صاير، أسأل الله هداية سبيله، ورحمة تورد نسيم الفردوس وسلسبيله، إنه الحنان المنان لا رب سواه.
ومنها: فلتات الهبات، أشبه شيء بفلتات الشهوات. منها نافع لا يعقب ندماً، ومنها ضار يبقى في النفس ألماً. فضرر الهبة وقوعها عند من لا يعتقد لحقها أداء، وربما أثرت عنده اعتداء. وضرر الشهوة أن لا توافق ابتداء، فتصير لمتبعها داء، مثلها كمثل السكر يلتذ صاحبه بحلاوة جناه، فإذا صحا يعرف قدر ما جناه. عكس هذه القضية هي الحالة المرضية.
مولدهببلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسماية وقيل بشاطبة سنة أربعين وخمسماية.
وفاتهتوفي بالإسكندرية ليلة الأربعاء التاسع والعشرين لشعبان أربع عشرة وستماية
ابن شبرينمحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن شبرين، يكنى أبا بكر، شيخنا الفقيه القاضي المؤرخ الكاتب البارع رحمة الله عليه
أوليتهأصله من إشبيلية، من حصن شلب من كورة باجة، من غربي صقعها، يعرفون فيها ببني شبرين، معرفة قديمة. ولي جده القضاء بإشبيلية، وكان من كبار أهل العلم تشهد بذلك الصلاة. وانتقل أبوه منها عند تغلب العدو عليها عام ستة وأربعين وستماية، فاحتل رندة ثم غرناطة، ثم انتقل إلى سكنى سبتة، وبها ولد شيخنا أبو بكر، وانتقل عند الحادثة إلى غرناطة، فارتسم بالكتابة السلطانية، وولي القضاء بعدة جهات، وتأثل مالاً وشهرة، حتى جرى مجرى الأعيان من أهلها.
حالهكان فريد دهره، ونسيج وحده في حسن المست والرواء، وكما الظرف وجمال الشارة، وبراعة الخط، وطيب المجالسة، خاصياً، وقوراً، تام الخلق، عظيم الأبهة، عذب التلاوة لكتاب الله، من أهل الدين والفضل والعدالة، تاريخاً، مقيداً، طلعة اختيار أصحابه محققاً لما ينقله، فكها مع وقاره، غزلاً، لوذعياً، على شأن الكتابة، جميل العشرة، أشد الناس على الشعر، ثم على المحافظة، ما يحفظه من الأبيات من غير اعتيام ولا تنقيح، يناغي الملكين في إثباتها، مقررة التواريخ، حتى عظم حجم ديوانه، تغردت أشعاره بما أبر على المكثرين مليح الكتابة، سهلها، صانعاً، سابقاً في ميدانها، راجحاً كفة المنثور. وكانت له رحلة إلى تونس، اتسع بها نطاق روايته. وتقلب بين الكتابة والقضاء، منحوس الحظ في الاستعمال، مضيقاً فيه، وإن كان وافر الجد، موسعاً عليه.
وجرى ذكره في كتاب التاج المحلى بما نصه:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10