كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا

بسم الله الرحمن الرحيم.
مقدمة
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
الحمد لله الذي دل على معرفته بإتقان صنعته، وبديع لطائف حكمته، وبما أودعه نفوس المميزين من أعلام ربوبيته، واستحق على كل مكلف الخنوع لعظمته، والخشوع لعزته، والشكر والإشادة بما أسبغ من نعمته، ونشر من رحمته، وجعل قلوب أوليائه تسرح في ميادين محاسن ما ابتدعه، وعقولهم ترتاح لما من عليهم من استنباط المعرفة بما اخترعه، فأغناهم بالتنعم بما بسط لهم من المباحات، عما زجرهم عنه من المحظورات، فصار ما تدركه العقول من لطيف ما أنشأه، وشريف الغرض فيما ابتدأه، وغريب أفعاله في تدبير عباده، وتصريفهم، وتقدير منافعهم ومصالحهم، أقواتاً لها تربى على أقوات أجسادها التي هي أوعية تشتمل عليها، وأشهد أن لا إله إلا الله، وليّ النعم كلها دون من سواه، وأنه لا فلاح إلا لمن هداه، ولا صلاح إلا لمن عصمه من إتباع هواه، وأن محمداً عبده الذي ارتضاه، ونبيه الذي اختاره واجتباه، ورسوله الذي ائتمنه واصطفاه، ورفعه وأعلاه، وخصه بختم النبوة وحباه، وأبانه بأعلى منازل الفضل على كل آدمي عداه، ونسأله أن يصلي عليه وعلى آله ويسلم أزكى تسلم وصلاة، ويكرمه أتم تكريم وأنباه، ويجعلنا من الآوين إلى ظله وذراه، والداعين إلى نوره وهداه، ويعصمنا من الخروج عن طاعته، والولوج في معصيته، ويوفقنا لإيثار عبادته، ومجانبة عصيانه ومخالفته، وهو لي الإنعام بذلك، والتيسير له، والمعونة عليه من رحمته.
أما بعد، فإنني منذ مدة مضت، وسنةَ خلت، فكرت في أشياء من عجائب خلق الله وحكمه، وأياديه ونعمه، ومثلاته ونقمه، وقد اكتنفتني هموم وأحزان، ولوعات وأشجان، وفنون شتى من حوادث الزمان، وما قد فشا في الناس من التظالم التحاسد، والتقاطع والتباعد، وأن ما هو أولى بهم من الأنس للمجانسة، قد فارقوه إلى الاستيحاش للمنافسة، وحصلت على الاستئناس بالوحدة والخلوة، ثم تطلعت إلى جليس طمعاً في أنس وسلوة، فأعوزني ذو لب عاقل، واتفق لي كل غبي جاهل، فلاح لي أن أنشئ كتاباً أضمنه أنواعاً من الجد الذي يستفاد ويعتمد عليه، ومن الهزل في أثنائه ما يسر استماعه ويستراح إليه، فإن اختلاف الأنواع يسهل النظر فيها، وينشط الوقوف عليها، ويوفر الاستمتاع بها، وأن أضمنه علوماً غزيرة وآداباً كثيرة، وأجعله مجالس موزعة على الأيام والليالي، ولم اشترط فيها مبلغاً من العدد محصوراً ولا قدراً من المجالس محظوراً، ثم إن طوارق الزمان وموانعه، وأحداثه وفجائعه، وعوائقه وقواطعه، وأهواله وفظائعه، حالت بين وبين ما آثرته، ونفسي على هذه متعلقة به، ومؤثرة له ومنازعة إليه، إلى حيث انتهينا، ثم إنني حملت نفسي في هذا الوقت على الشروع فيه، الاشتغال به، وسهل الأمر علي فيه أن بعض أصحابنا يكتبه عني إملاء في الوقت بعد الوقت.

وقد صنف في نحو هذا الكتاب جماعة من أهل العلم والأدب كتباً على أنحاء مختلفة، فمنهم من جعل جملة كتابه جامعة لكتب مكتتبة، ومنهم من جعله أبواباً مبوبة، وأفرد أبوابه بفصول مميزة، ومعان خاصة غير ممتزجة، وسمى بعض هؤلاء ما ألفه الجواهر وبعضهم زاد المسافر وبعضهم الزهرة وبعضهم أنس الوحدة، في أشباه لهذه السمات عدة، وعمل أبو العباس محمد بن يزيد النحوي كتابه الذي سماه الكامل، وضمنه أخباراً وقصصاً لا إسناد لكثير منها، وأودعه من اشتقاق اللغة وشرحها وبيان أسرارها وفقهها ما يأتي مثله به لسعة علمه وقوة فهمه، ولطيف فكرته، وصفاء قريحته، ومن جلي النحو والإعراب وغامضها ما يقل وجود من يسد فيه مسده، إلا أن كتابه هذا مقصر عما وسمه به، واختاره من ترجمته، وغير لائق به ما آثره من تسميته، فحطه بهذا عن منزلة - لولا ما صنعه - كانت حاصلة له، فسبحان الله ما أبين انتفاء هذا الكتاب عن نسبه، وأشد منافاته للقبه! وأنشأ الصولي كتاباً سماها الأنواع مبوباً أبواباً شتى غير مستوفاة، وأتى فيه بأشياء مستحسنة على ما ضم إليه من أمور مستهجنة، وصنف أيضاً كتاباً كأبي قماش سماه النوادر، وهجاه بعض الشعراء بما كرهت حكايته، وإن كان حين وقف عليه فيما بلغني استغرب ضحكاً، غير أن الجميل أجمل، والتسلم من أعراض الناس أمثل، وصنف قوماً كتباً في هذا الباب تشتمل على فقر من الآداب والفوائد منثورة غير مبوبة، ومخلوطة غير مقيدة، بفصول متميزة ولا أبواب متحيزة.
وقد سميت كتابي الجليس الصالح الكافي، والأنيس الناصح الشافي وأودعته كثيراً من فنون العلوم والآداب، على غير حصر بفصول وأبواب، وضمنته كثيراً من محاسن الكلام وجواهره، وملحه ونوادره، وذكرت فيه أصولاً من العلم أتبعتها شرح ما يتشعب منها، ويتصل بها بحسب ما يحضر في الحال، مما يؤمن معه الملال، ومن وقف على ما أتيت به من هذا، علم أن كتابنا أحق بأن يوصف بالكمال والاستيفاء، والتمام والاستقصاء، وصدق وسمه بالجليس والأنيس، فإن الكتاب إذا حوى ما وصفناه من الحكمة وأنواع الفائدة، كان لمقتنيه والناظر فيه بمنزلة جليس كامل وأنيس فاضل، وصاحب أمين عاقل، وقد قيل في الكتاب ما معناه أنه حاضر نفعه، مأمون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينفض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شراً، ولا يفشي عليك سراً، ولا ينم عليك، ولا يسعى بنميمة إليك، ولذلك قال بعضهم:
نعم الصاحب والجليس كتاب ... تهلو به إن خانك الأصحاب
لا مفشياً عند القطيعة سره ... وتنال منه حكمة وصواب
وقال آخر:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم طرف حكمة ... ولا نتقي منهم لساناً ولا يداً
في أبيات.
وذكر عن عبد الله بن المبارك أنه سئل: أما تستوحش من مقامك منفرداً بهيت؟ فقال: كيف يستوحش من يجالس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وقد كان بعض من كان له في الدنيا صيت ومكانة، عاتبني على ملازمتي المنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي ما عودته من الإلمام به وغشيان حضرته، وقال لي: أما تستوحش الوحدة ونحو هذا من المقالة، فقلت له: أنا في منزلي إذا خلوت من جليس يقصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، في أحسن أنس وأجمله، وأعلاه وأنبله، لأنني أنظر في آثار الملائكة والأنبياء، والأئمة والعلماء، وخواص الأعلام الحكماء، وإلى غيرهم من الخلفاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، والكتاب والبلغاء، والرجاز والشعراء، وكأنني مجالس لهم، ومستأنس بهم، وغير ناء عن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فيما انتهى إلي من حكمهم وآرائهم.

وقد تجشمت إملاء هذا الكتاب على ما خلفته ورائي من طول السنين، حصلت فيه من عشر التسعين، مع ترادف الهموم وتكاثف الغموم، ومشاهدة ما أزال مرتمضاً به، وممتعضاً منه لفساد الزمان وانتكاسه، وعجيب تقلبه وانعكاسه، واختلاطه وارتكاسه، ووضعه الأعلام الرفعاء، ورفعه الطغام الوضعاء، فقد أحل الأراذل محل الأفاضل، وأعطى السفيه الأخرق حظ النبيه العاقل، وصرف نصيب العالم إلى الجاهل، وصير الناقص مكان الوافر الكامل، والراجح الفاضل، وقدم على العلم المبرز الغفل الخامل، ولقد قلت في بعض ما دفعت إليه، وامتحنت به، حين منعت النصف، وحملت على الخسف، حتى انقدت للعنف، وأصبحت عند الغلبة والعسف:
علام أعوم في الشبه ... وأمري غير مشتبه
أرى الأيام معتبراً ... على ما بي من الوله
بلحظ غير ذي سنة ... وحظ غير منتبه
أروح وأغتدي غبناً ... أكثر من أقل به
وقلت في نحو هذا المعنى:
أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشراب من السراب
أريد من الزمان النذل بذلاَ ... وأرياً من جنى سلع وصاب
أرجي أن ألاقي لاشتياقي ... سراة الناس في زمن الكلاب
في كثير من نحو هذا من النثر والقريض، وذم الزمان السوء بالصريح والتعريض، وأرجو أن يغير الله ما أصبحنا منه ممتعضين، وأمسينا معه مرتمضين، ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوب الأماثل من العلماء المبرزين، فقد بلغ منهم ما يرون من تقديم الأراذل الضلال، والأداني الجهال، حتى صدروا في مجالس علم الدين، وقدموا في محافل ولاة أمور المسلمين، وصيروا قضاة وحكاماً ورؤساء وأعلاماً، دون ذوي الأقدار، وأولي الشرف والأخطار، وكثير ممن يشار إليهم منهم لا يفهم من كتاب الله آية، وإن تعاطي تلاوتها لحن فيها، وأتى بخلاف ما أنزل الله منها، ولا كتبوا سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا دورها، وإن تكلفوا ذكرها أحالوها، وآتو بها على غير وجهها، ولا عرفوا شيئاً من أبواب العربية وتصريفها، ولا لهم حظ من الفلسفة وأجزائها، ومع هذه فقد اتفق لبعضهم من فريق قد شدا من العلم طرفاً، ونال منه حظاً، عدد يعظمونه ويغلون في تعظيمه وتقديمه على أنفسهم، وإن كان أسوأ حالاً وأخفض عقلاً منهم، كما عبد الأصنام من هو أعلى منزلة منها بالحياة والقدرة، والعلم والمعرفة، والبطش والقوة، والتصرف والحيلة، وأقدم هؤلاء الأغمار على الشهادة بالزور لمن وصفنا جهله وسقوطه، بإضافتهم إليه من العلم بما هو أجهل الناس به، وأبعدهم من معرفته لميلهم إلى بعض ضلالاته، وأنسهم بكثير من خساراته، وإن كانت بخلاف ما يعذرون فيها من موافقته، فقد صاروا سخرياً مسخوراً منهم، وسخريا مسخرين لتقليد من وصفنا صفته، واستمر هذا الفريق المغرور على إتباع حزب الشيطان الذين اغتروا بهم، وبذلوا المناصرة لهم وممالأتهم ومضافرتهم وإعزازهم، ومظاهرتهم وتأييدهم ومؤازرتهم، واستفزهم ما يزخرفونه لهم من كلامهم، وإن كان مسترذلاً، ومخطأً ملحناً، عند من أعلاه الله من أفاضل العلماء عليهم، وأبانهم بالعلم والتفقه في الدين منهم، إذ أكثر ما يأتون به من الهجر الذي يسميه قوم الهاذور، وبمنزلة من قال فيه بعض الشعراء:
هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذو لب نثر
واستنزلهم من عبارتهم ما هو من نوع هجر باعة القميحة السفوفيين، وتنميق هذه أصحاب الفاكهة والرياحين، وهذيان أهل الحكاية والمخيلين، فلما وصفنا جنحنا إلى الصبر، واستصحبنا، الخمول رجاء إنعام الله بالإعانة والنصر، وذكرت - في وقتي هذا عند إثباتي ما أثبته من حال ذوي النقص الذي يتقلبون في دولة، وإن كانوا من باطلهم في بولة، على أنها سحابة صيف عن قليل تقشع - خبراً حدثنا به محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا محمد بن عثمان بن مهدي الأبلي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن السايح، قال: حدثنا حماد بن محمد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن شعيب بن سابور، قال: سمعت الأوزاعي ينشد هذه الأبيات:
إذا كان الخطاء أقل ضراً ... وأنجحَ بالأمور من الصوابِ
وكان النِّوك مَحْموداً مذالاً ... وكان الدهر يرجع بانقلابِ

وعطِّلت المكارمُ والمعالي ... وأُغلقَ دون ذلك كلُّ بابِ
ويوعد كل ذي حَسَب ودينٍ ... وقُرِّب كل مهتوك الحجابِ
فما أحدٌ أضنَّ بما لديه ... من المتحرج المحْضِ اللُّباب
وأنشد شيخنا أبو جعفر الطبري رحمه الله هذه الأبيات، وفيما أنشده بيت آخر وهو:
وولّى بعضهم خَرْجاً وحربا ... وولِّي بعضهم فصلَ الخطابِ
وحذف من الجملة بيتاً.
وأنا منه هذه الرسالة إلى هذا الموضع، ومبتدئ بما قصدت إيداعه هذه الكتاب وتضمينه إياه.
؟

المجلس الأول
حديث من كذب علي متعمدا
ً
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي في يوم الاثنين لثلاث ليل خلون من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني حسان بن عطية، قال: حدثني أبو كبشة: أن عبد الله بن عمر حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من الناي.
التعليق على الحديث
قال القاضي أبو الفرج: قوله عليه السلام: " بلغوا عني ولو آية " أمر لأمته بتبليغ ما أتاهم به من وحي ربهم، ويسر الأمر عليهم فيما يبلغونه، ويلقونه، إلى ما بعدهم ويؤدونه، ليتصل نقل القرآن عنه إلى آخر أمته، ويلزم حجته جميع من انتهى إليه ممن يأتي بعده، فقد أتاه الوحي بما أتاه من قوله، " أوحي إلي هذا القرآن لأنذرنكم به ومن بلغ " ونظير ما أمر به من التبليغ قوله في خبر آخر: " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " وقوله: ولو آية، فإنه أتى على وجه التقليل ليسارع كل امرئ في تبليغ ما وقع من الآي إليه، فيتصل بتبليغ الجميع أو بعضه نقله، ويتكامل باجتماعه واستكمال أداؤه.
الآية وما فيها من اللغة والنحو
فأما الآية ففيها من طريق علم اللغة ثلاثة أوجه، ومن جهة صناعة النحو والإعراب ثلاثة أضرب، فأحد الوجوه فيها من قبل اللغة أنها العلامة الفاصلة، والوجه الثاني أنها لأعجوبة الحاصلة، والوجه الثالث إنها المثلة الفاصلة، وهذه الأوجه الثلاثة إذا ردت إلى أصولها متقاربة راجعة في المعنى إلى طريقة واحدة، وجملة آحادها متناسبة، فإذا قيل: اجعل لكذا وكذا آية، فالمعنى علامة فاصلة تدل على الشيء بحضورها، وتفقد دلالتها بغيبتها، ألا ترى إلى قول الله جل ثناؤه: " قال رب اجعل لي آية، قال آتيك ألا تكلم الناس " إلى آخر القصة فإنما سأل السائل ربه أن يجعل له علامة لما وعده وبشره به، في ما جانس هذه مما تضمنه كتاب الله عز ذكره، قال الشاعر:
ألا بلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما
وقال آخر:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا
ومثل هذا في الشعر وسائر الكلام كثير.
ولما كان ذكر الآية يعني الأعجوبة فمنه ما ذكره الله عز ذكره في مواضع من كتابه عند ذكره ما أحله من النقمة بأعدائه: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " بمعنى العجب مما حل بهم عندما كان من تكذيبهم رسل ربهم.
وأما العبارة بالآية عن العقوبات المنكلة فكثيرة في كلام الخاصة من أهل اللسان العربي كقولهم: قد جعل فلان آية، إذا جل به فظيع من المكروه ألا ترى أنهم يقولون لمن نزل به شيء من هذا به، أو حصل على صفة مذمومة يعير بها ويسب ويوصم بها: فلان آية منزلة، فأما العقد الجامع لهذه الأوجه الثلاثة الذي يردها إلى جملة واحدة، فهو أن العلامة إنما قيل لها لدلالتها وفضلها وإبانتها، ووقع الفصل في القرآن بها حتى تميزت بعض ألفاظه من غيرها، فصارت كل قطعة من ذلك جملة عل حالها.
وأما معنى الأعجوبة فإنما يقع في التعجب من المستغرب الذي يقل وقوعه، فينفصل من الكثير الوجود الذي يختلط فيها بعضه ببعض، ولا يكون فيه من الاختصاص ما في الموجود الذي قدمنا ذكره.

وأما النكال الحال بمن حل به فإنه يقال له آية، من حيث مسار أمره أعجوبة يعتبر ويتعظ بها، وكان معنى خاصاً قوبل به أمر خاص بما أتاه من وقعت المجازاة به، فكل واحد من هذه الأوجه الثلاثة مجانس لصاحبه في أنه أمارة وعلامة وأعجوبة لاختصاصها بما فيه حجة باهرة، ودلالة قاهرة، ومثلة ونقمة لما فيه من التميز والعجب وفظيع التنكيل، بأهل الزيغ والتبديل.
وأما الأضرب الثلاثة من قبل النحو وتصريف الإعراب، فإن النحويين من الكوفيين والبصريين اختلفوا في الآية ما وزنها من الفعل، فقال الكسائي: هي في الأصل فاعلة وأصلها آيية، وكان ينبغي أن تدغم الياء الأولى في الثانية لاجتماعهما متحركتين فتصير آية مثل دابة التي أصلها دابية، فاستثقلوا التشديد فقالوا: آية.
وقال نحويو البصرة: وزنها في الأصل فعلة وأصلها أيية، فصارت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال الفراء: وزنها من الفعل فعلة وأصلها آية، فاستثقلوا التشديد فأتبعوه ما قبله فصارت الياء الأولى ألفاً كما قالوا: ديوان ودينار والأصل فيها دوان ودنار، والدليل على ذلك أنهم يقولون في جمعها دواوين ودنانير، ولا يقولون دياوين وديانير، ويجمع الآية آيات على جمع السلامة، وآياً على أنها من القبيل الذي سبق جمعه واحده فصار بين توحيده وجمعه الهاء التي في واحده. وقد زعم قوم أن معنى الآية: الجماعة، وهذا قول رابع لأنه خطأ، والبيان عنه أصل اشتقاق الآية بما بين الخليل وسيبويه والأخفش فيه من الاختلاف في تقدير مدته وتصريفه، واستيعاب بابه يأتي في كتابنا المسمى البيان الموجز، عن علوم القرآن المعجز إن شاء الله عز وجل.
وقوله عليه السلام: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فإن الحرج اصله في كلام العرب: الضيق، ومنه قيل للطائفة من الشجر الملتف المتضايق: حرجة، وكان مقاتل بن سليمان يتأول ما جاء في القرآن من ذكر الحرج أنه الشك، وهذه يرجع إلى ما وصفناه من معنى الضيق، لأن الشاك يضيق صدره، ويخالف العالم بالشيء المثلج صدره بما علمه في راحة اليقين، واتساع الصدر وانفساحه وتعريه من ازدحام الظنون واعتراض الشكوك التي تضيقه، وقد زعم بعض أهل الاشتقاق أن الذي يتخذه الركب من العيدان والخشب لرحالهم يقال لها حرجوج، لتضايقه واشتباكه ويجمع حراج، كما قال ذو الرمة:
فسيرا فقد طال الوقوف ومله ... قلائص أمثال الحراجيج ضمر
ومنه قليل للشيء المحظور المضيق بالتحريم والمنع: حرج وقرأ بعض المتقدمين: " هذه أنعام وحرث حرج " مكان القراءة الجمهور حجر وحجر وهي كلها لغات معروفة في الحجر بمعنى الحرام لغتان الضم والكسر، وقد قرئ بهما جميعاً، وقوله: حرث حجر أي حرام، وقوله: " ويقولون حجراً محجوراً " قال أهل التأويل: معناه حراماً محرماً، قال الشاعر:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وقال آخر:
قالت وفيها حمقة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر
أي استعاذة تحرم عليكم ما أخافه من مكروهكم، والحجر أيضاً: العقل، والحجي، ومنه قول الله عز وجل: " هل في ذلك قسم لذي حجر " أي عقل يمنعه من السفه والخرق، ومنه حجر الحاكم على السفيه، هو من التضييق والمنع والتحريم، والمصدر منه مفتوح، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي بال في المسجد ثم سمعه يقول: " اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً - " لقد تحجرت واسعاً " أي ضيقت ما وسعه الله عز ذكره وحظرت ما فسح فيه.
والحجر ديار ثمود، وحجر الكعبة مكسوران، وحجر اسم الرجل مضموم الحاء ساكن الجيم، كما قال عبيد بن الأبرص:
هلا على حجر بن أم ... قطام تبكي لا علينا
وهرٌّ تصيد قلوبَ الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حُجر
كما قال طرفة:
أيها الفتيان في مجلسنا ... جرِّدوا منها وارداً وشقرْ
والكلام شقر بالإسكان مثل حمر وصفر، وحجر اليمامة مفتوح قال الشاعر:
فلولا الريح أسمع من بحجرٍ ... صليلُ البيضِ تقرعُ بالذِّكورِ
وحجر الإنسان فيه لغتان: الفتح والكسر.
ومثل حرجٌ وحجر، صاعقة وصاقعة، وجذبته جذباً وجبذتهُ جبذاً، في نظائر لما وصفنا كثيرة، وأما حاجز فموضع معروف، قال الأعشى:

شاقك من قتله أطلالها ... فالشطُّ فالقفُّ إلى حاجِرِ
وخص بني إسرائيل بهذا لما مضت فيهم من الأعاجيب، كما خص البحر بما فيه من العجائب، وأرخص في التحدث عنهم مع اتقاء الحرج بالكذب فيه، وقوله: ولا حرج، يتجه فيه تأويلان، إحداهما: أن يكون خبراً محضاً في معناه ولفظه، كأنه لما ذكر بني إسرائيل وكانت فيهم أعاجيب وكان كثيرٌ من الناس ينبو سمعُه عنها، فيكون هذا مقطعه لمن عنده علم منها أن يحدث الناس بها، فربما أدى هذا إلى دروس الحكمة، وانقطاع مواد الفائدة، وانسداد طريق إعمال الفكرة، وإغلاق أبواب الاتعاظ والعبرة، وكأنه قال: ليس في تحدثكم بما علمتموه من ذلك حرج.
والتأويل الثاني: أن يكون المعنى في هذا: النهي فكأنه قال: ولا تحرجوا بأن تتحدثوا بما قد تبين لكم الكذب فيه محققين له أو غارين أحداً به، فهذا اللفظ على هذا الوجه لفظه لفظ الخبر وفائدته النهي من جهة المعنى، ولفظ النهي لا يأتي إلا متعلقاً بفعل مستقبل، فإذا قيل: ولا تحرجوا فهو صريح اللفظ بالنهي، فإذا قيل: ولا حرج جاز أن يكون خبراً محضاً معنى ولفظاً، وجاز أن يكون لفظه لفظ الخبر في بنيته، ومعناه النهي لقصد المخاطب وإرادته، دون صورة اللفظ وصيغته، ونصب الحرج في هذا الموضع هو الوجه على ما يقتضيه المعنى الذي يسميه البصريون النفي ويسميه الكوفيون التبرئة، وهو على قول الخليل مبني يضارع المعرب، وعلى قول سيبويه معرب يضارع المبني، ولو رفع ونُوِّن لكان وجهاً قد عرف واستعمل كما قال الشاعر:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيسٍ لا براحْ
وقولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله، للعرب فيه خمسة مذاهب: لا حول ولا قوةَ إلا بالله، ولا حولَ ولا قوةً، ولا حولَ ولا قوةٌ، ولا حولٌ ولا قوةٌ، ولا حولٌ ولا قوّة.
وقال الله تعالى: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " هذه قراءة شبيه ونافع وعاصم وحمزة والكسائي في آخرين، وقرئ: فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ، وهي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي، وقرئ : فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدال " وهي قراءة مجاهد وابن كثير وأبي عمرو وعدد غيرهم، وقد قرأ بعضهم ولا جدال مثل دراك ومناع، رويت هذه القراءة عن عبد الله بن أبي إسحاق، واختلف في علل إعراب هذه القراءات، وفي علة فرق في الإعراب بين بعضهما وبعض اختلاف يطول شرحه، وليس هذا موضع ذكره، ونحن مستقصو القول فيه عند انتهائنا إليه من كتابنا المسمى البيان الموجز في علم القرآن المعجز وفي كتابنا في القراءات، وكتابنا في عللها وتفصيل وجوهها.
وقوله: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " قد أتت الرواية بهذا اللفظ وما يقاربه من جهات كثيرة، وقيل: إنه على عمومه، وجاء في بعض هذه الأخبار: من كذب علي متعمداً ليضل به الناس، وروى أنه ورد عند قصة خاصة في رجل ادعى عند قوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم إليه ليزوجوه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماقي، قال: حدثنا علي بن منير، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: أتى رجل إلى قوم في جانب المدينة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في كذا وكذا، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " كذب عدو الله " ثم أرسل رجلاً فقال: " إن أنت وجدته حياً فاقتله، وإن وجدته ميتاً فحرّقه " ، فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ معقده من النار "

حدثنا الحسن بن محمد بن شعبة الأنصاري، قال: حدثنا إسماعيل بن حيان الواسطي، قال: حدثنا زكريا بن عدي، قال: حدثنا عدي بن مسهر، عن صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ معقده من النار " كان حي من المدينة على ميل أو ميلين فأتاهم رجل عليه حلة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم نسائكم وأموالكم بما أرى، وكان قد خطب امرأة منهم فأبوا أن يزوجوه، قال: فأرسلوا رسولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك أمرت هذه أن يحكم في نسائنا وأموالنا بما يرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كذب عدو الله " ثم قال لرجل: اذهب فإن وجدته حياً فاضرب عنقه، وإن وجدته قد مات فأحرق بالنار، وما أراك تجده حياً، قال: فجاء فوجدته قد لدغته حية أو أفعى فمات، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ معقده من النار " حدثنا محمد بن هارون أبو حامد الحضرمي، قال: حدثنا السري بن مزيد الخراساني، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الفزاري، قال: حدثنا داود بن الزبرقان، قال: أخبرني عطاء بن السائب، عن عبد الله بن الزبير، أنه قال يوماً لأصحابه: أتدرون ما تأويل هذا الحديث: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ معقده من النار " ؟ قال: رجل عشق امرأة فأتى أهلها مساء، فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثني إليكم أن أتضيف في أي بيوتكم شئت، قال: فكان ينتظر بيتوته إلى المساء، قال: فأتى رجل منهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً أتانا يزعم أنك أخبرته أن يبيت في أي بيوتنا شاء، فقال: كذب، يا فلان انطلق معه فإن أمكنك الله منه فأضرب عنقه وأحرقه بالنار، ولا أراك إلا قد نعيته، فلما خرج الرسول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدعوه، فلما جاء قال: إني قد كنت أمرتك أن تضرب عنقه وأن تحرقه بالنار، فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه ولا تحرقه بالنار، فإن لا يعذب بالنار إلا رب النار ولا أراك إلا قد كفيته، فجاءت السماء فصبت فخرج ليتوضأ فلسعته أفعى، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: هو في النار، وقوله فليتبوأ أي فليوطن نفسه ويعلم أنه تبوأ معقده من النار أي تكون لنار مبوأ له،كما قال الله: " بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق " أي جعلناها منزلاً لهم، قال ابن هرمة:
وبوئت في صميم معشرها ... فتمَّ في قومها مُبوَّؤُهَا
وقال بعض بكر بن وائل يخاطب الفرزدق:
لقد بوَّأتك الدّار بكر بن وائل ... وقرّت لك الأحشاءُ إذ أنت محرم
وقول الله تعالى: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبَوِّئّنَهم من الجنة غرفاً " من هذا الباب، وكذلك قرأ جمهور أهل الحجاز والشام والبصرة والكوفة، وقرأ عدد من الكوفيين منهم حمزة والكسائي: لنثوينهم من الثواء، كما قال الحارث بن حلزة:
آذنَنْتَنا ببينها أسْمَاءُ ... ربّ ثاوٍ يملُّ منه الثُّواءُ
وفي تصريف الفعل من هذا لغتان يقال: ثوى يثوي وأثوى يثوي، ويروي بيت الأعشى على وجهين:
أثوى وقصر ليلةٌ ليزودا ... فَحَنى وأخلفَ من قُتَيْلةَ موعِدا
ويروي أثوى على الوجه الرباعي، ويروي أثوى بلفظ الاستفهام على أنه ثلاثي، ولو قيل ثوى من غير تقديم على أن يكون الجزء الأول من البيت مخروماً لكان ذلك صواباً.

ذكر بعض نوادر الأخبار
مجنون بني سعد
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري إملاءً من حديثه سنة ست وعشرين وثلثمائة، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا محمد بن سعيد بن صالح اليشكري، قال: حدثنا محمد بن محب المازني، قال: حدثني أبي، قال: لما قدم سليمان بن علي البصرة والياً عليها قيل له: إن بالمربد رجلاً من بني سعد، مجنوناً سريع الجواب لا يتكلم إلا بالشعر، فأرسل إليه سليمان بن علي قهرمانه، فقال له: أجب الأمير، فامتنع فجره وزبره، وخرق ثوبه، وكان المجنون يستقي على ناقة له فاستاق القهرمان الناقة وأتى بها سليمان بن علي، فلما وقف بين يديه قال له سليمان، حياك الله يا أخا بني سعد، فقال:
حيّاك رب الناس من أمير ... يا فاضل الأصل عظيم الخيرِ

إني أتاني الفاسِقُ الجلْوازُ ... والقلب قد طار به اهتزازُ
فقال سليمان: إنما بعثنا إليك لنشتري ناقتك، فقال:
ما قال شيئاً في شراء الناقه ... وقد أتى بالجهل والحماقة
فقال: ما أتى؟ فقال:
خرّق سربالي وشقّ بردتي ... وكان وجهي في الملا وزيني
فقال: أفتعزم على الناقة؟ فقال:
أبيعها بعد ما أوكس ... والبيعُ في بعض الأوان أكيس
قال: كم شراؤها عليك؟ فقال:
شراءها عشرٌ ببطن مكهْ ... من الدنانير القيام السُّكهْ
ولا أبيع الدهر أو أزادُ ... إنّي لريحٍ في الورى معتاد
قال: فبكم تبيعها؟ فقال:
خذها بعشرٍ وبخمسٍ وازنهْ ... فإنه ناقة صدق مازنه
قال: فحطنا، فقال:
تبارك الله العليُّ العالي ... تسألني الحطّ وأنت الوالي
قال: فنأخذها منك ولا نعطيك شيئاً، فقال:
فأين ربي ذو الجلال الأفضل ... إن أنتَ لم تخش الإله فافعل
قال: فكم أزنُ لك فيها؟ فقال:
والله ما ينعشني ما تعطي ... ولا يداني الفقر مني حطّي
خذه بما أحببت يا بن عباسِ ... يا بن الكرام من قريش الرّاسِ
فأمر له سليمان بألف درهم وعشرة أثواب، فقال:
إن رمتني نحوك الفجاج ... أبو عيال معدم محتاج
طاوي المعى ضيق المعيشِ ... فأنبتَ الله لديك ريشي
شرّفتني منك بألف فاخرة ... شرّفك الله بها في الآخرة
وكسوةٍ طاهرةٍ حسان ... كساك ربي حلل الجنانِ

التعليق على الخبر
فقال سليمان: من يقول إن هذا مجنون؟ ما كلمت قط أعرابياً أعقل منه.
قول الإعرابي: ضيق المعيش، المعيش جمع معيشة، كما قال رؤبة:
أشكو إليك شدة المعيش ... ومرِّ أعوامٍ نتفن ريشي
ويكون المعيش الموضع والمعاش المصدر، مثل المضرب والمضرب والمقر والمقر.
قال القاضي أبو الفرج: قد أنهينا هذا المجلس إلى هنا لئلا يستطال، إذ قد تقدمته خطبةٌ ورسالة، والله المستعان.
المجلس الثاني
حديث جريج
حدثنا عبد الله بن سليمان أبي داود بن الأشعث السجستاني إملاء من حفظه، في يوم الثلاثاء لأربع بقين من شعبان سنة ست عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد، قال: أخبرني أي، قال: حدثني عبد الله بن شوذب، قال: حدثني مطر، قال: ولا أعلم سنده إلا عن الحسن بن أبي هريرة رفعه، قال: كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج، وكان صاحب صومعة قال: فاشتاقت أمه إليه فأتته حتى قامت عند صومعته، فنادته: أي جريج! أي جريج! وهو قائم يصلي، ف فلما سمع النداء فعرف الصوت أمسك عن القراءة، فقال: أي رب! صلاتي أو أمي، ثم قال: ربي أعظم علي حقاً من أمي، قال: فمضى في صلاته، ثم نادته الثانية ففعل أيضاَ مثلها، وقالت الثالثة، ففعل أيضاً مثلها ولم يشرف عليها، فقالت: اللهم كما لم يرني وجهه فابتله بنظر المومسات في وجهه، فحملت امرأة من أهل القرية من فاحشة فولدت، فقيل لها: ممن هذا؟ قالت: صاحب الصومعة، فرفع ذلك إلى الملك، فقال: هذا صاحب صومعة، وهو يفعل مثل هذا؟ فأمر أهل القرية فأخذوا الفئوس والمساحي، حتى أتوه فنادوه وهو في صلاته فلم يكلمهم، قال: فقالوا: ضعوا الفئوس في الصومعة فضربوا حتى كادت أن تميل، قال: فأشرف عليهم، فقال: ماذا تريدون؟ مالي ولكم؟ فقالوا: أنت في الصومعة وأنت تحبل النساء؟ فقال: أنا؟ فنزل فصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم جاء إلى الصبي ولما يتكلم فضرب قفاه وقال: من أبوك؟ قال: صهيب صاحب الضأن، وكان صهيب رجلاً يرعى الغنم يأوي إلى الصومعة، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده، لو دعت الله أن يفتنه عن دينه لأفتنه عن دينه " . وقد روى خبر جريج عن طريق آخر، وذكر فيه أن الصومعة هدمت وأنه قيل له: نبنيها لك لبنة من فضة ولبنة من ذهب، فقال: بل ردوها كما كانت.
التعليق على الخبر

قوله في الخبر: المومسات هو جمع مومسة وهي البغي الفاجرة، فإن قال قائل: كيف دعت أمه عليه واستجيب لها فيه؟ وهو لم يقصد عقوقها، ولم يترك أجابتها تهاوناً بها، ولا استخفافاً بحقها، وإنما آثر مرضاة الله على أمرها، وإتمام صلاته التي ابتدأها، إما مؤدياً الفرض فيها، وإما متطوعاً بفعلها، قيل له: جائز أن يكون الكلام في شريعتهم كان جائزاً في صلاته كما كان في أول الإسلام ثم نسخ ما أبيح منه بحظره، والنهي عنه، على ما وردت الأخبار به، وجاء أن عبد الله بن مسعود أخبر أنه كان يسلم بعضهم على بعض في الصلاة فيرد عليه، وأنه ذكر أنه حين قدم من أرض الحبشة سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فلم يرد عليه، وأنه قال: فأخذني ما قرب وما بعد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من صلاته: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، سلمت عليك فلم ترد، فقال: إن الله يحدث من أمره ما شاء، وأنه مم أحدث " ألا تكلموا في الصلاة " وأن يكون جريج رأى وإن كانت إجابته في أمه جائزة في صلاته أو غير قاطعة لها - بأن المضي على الصلاة أولى من إجابتها، وجائزة أن يكون القوم قد فرض عليهم إجابة أمهاتهم في الصلاة إذا دعونهم وإن كانوا في صلاتهم، فترك ذلك جريج لتفريط منه وفي فعله أو العلم به، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو نادني أحد أبوي وأنا في الصلاة فقال يا محمد لأجبته " ، وهذا محتمل أن يكون على بعض الوجوه المخصوصة أو المنسوخة، وجائز أن يكون أراد لأجبته بالتسبيح ليعلم أني قد سمعته أو في هذه الحال بالتصفيق، وقال: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبعض من ناداه وهو يصلي فلم يجبه فقال: ما منعك أن تجيبني؟ فقال: إني كنت أصلي فقال: ألم تسمع قول الله عز وجل: " استجيبوا لله ولرسوله إذا دعاكم " وروى أن إبراهيم النخعي سئل عمن شمت رجلاً في الصلاة، فقال: إنه لم يقل إلا معروفاً، والقول في هذا النحو مستقصى فيما ألفناه من كتبنا في الفقه.

حروف المقاربة
وقوله في هذا الخبر: حتى كادت أن تميل.. الظاهر في كلام العرب أن يقولوا كادت تميل من غير أن يأتوا بأن، وكاد هذه من حروف المقاربة، فقال: كاد فلان يهلك وكاد يفعل كذا، قال الله عز وجل: " تكاد السموات يتفطرن منه " وقال: " فذبحوها وما كادوا يفعلون " ، وقال: " كانوا يكونون عليه لبدا " في نظائر لهذا كثيرة، وقد تقول العرب: كاد أن يفعل، كما قال الشاعر:
كادت النفس أن تفيض عليه ... إذ ثوى حشو ريطة وبرود
وقال الراجز:
قد كاد من طول البلى أن يمصحا
فكأنه أدخلها في باب عسى كما أدخل عسى عليها القائل من الشعراء:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريبُ
وقال آخر:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر ... بمنهمرٍ جون الرّباب سكوبِ
وقال آخر:
عسى فرجٌ يأتي به الله إنه ... له كل يومٍ في خليقته أمْرُ
ومثل هذا لعل، الباب فيها لعلى القوم، قال الله: " لعلكم تفلحون " ، وقال: " لعله يتذكر أو يخشى " ، وقد تدخل على باب عسى لاشتراكها في باب الترجي والمقاربة والتوقع، وذلك قول الشاعر:
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوماً أن تجاب وترزقا
وقال آخر:
ترفق أيها القمر المنير ... لعلك أن ترى حجراً يسير
وقال آخر:
لعلي إن مالت بي الريح ميلةً ... على ابن أبي ذبان أن يتندّما
وقد تأتي كاد بمعنى الإرادة لاشتراكهما في معنى المقاربة، كقولك: كاد الحائط أن يميل، وضربه حتى كاد أن يموت، أي أراد أن يميل وأن يموت، وقال الشاعر في هذا المعنى:
كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من وصل الحبيبة ما مضى
وقد قيل في قول الله: " إن الساعة آتية أكاد أخفيها " أن معناه أكاد أقيمها، فحذف. ثم ابتدأ فقال: أخفيها وأن الكلام انتهى إلى أكاد، وأنه وقف تام، وأخفيها ابتدأ كأنه قال: أخفيها لتجزى، لتجزى إخبار بصلة الفعل الذي هو الإخفاء.

وقرأ بعض القراء: أكاد أخفيها بفتح الهمزة بمعنى أظهرها، يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته، وروى النبي صلى الله عليه وسلم أنه: " لعن المختفي والمختفية " يعني النباش والنباشة، سميا بذلك لإظهارهما ما ستر بالمواراة والإخفاء والدفن، ورويت هذه القراءة عن سعيد بن جبير وغيره، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
داب شهرين ثم شهراً دبيكا ... باركين يخفيان غميرا
وقال آخر:
فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وقال امرؤ القيس:
خفاهن من أنفاقهن كأنّما ... خفاهن ودقٌ من عشيٍّ مجلبُ
وخفيت وأخفيت جميعاً يرجعان إلى أصل واحد، خفيت أي أزلت الإخفاء وأخفيت أي فعلت الإخفاء، ونحن نبين ما في هذه الكلمة من القرآن والمعاني ووجوه التفسير وطريق الإعراب والتأويل في مواضعه من كتبنا في القرآن إن شاء الله.
وأما قول جريج للصبي: من أبوك؟ فقد يسأل السائل فيقول: كيف من قال من أبوك والعاهر ليس بأب لمن أتت به البغي من مائة في حكم الشريعة؟ قيل: في هذا وجهان من التأويل أحدهما: أنه جائز أن يكون في شريعة هؤلاء القوم إلحاق ولد العاهر به إذا حملت أمه به منه.
والوجه الآخر: أن يكون جريج قال هذه على وجه التمثيل أو كنى به تنزيهاً لألفاظه على جهة التشبيه، فقد تضاف الأبوة لفظاً من طريق التجاوز والاستعارة إلى من ليست له ولادة ولا نسب بينه وبين من ينسب إليه ولا قرابة، فيقال: فلان أبو الأرامل واليتامى إذا كفلهم وبرهم ووصلهم، وقام بتدبير أمورهم وكنفهم كفعل الآباء الوالدين لمن ولدوا من البنين.
وقد روى في بعض قراءات من رويت عنه القراءة من المتقدمين " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم " وعبر عن الأزواج بأنهن للمؤمنين أمهات توكيداً لحرمتهن ودلالة على تأبيد تحريم نكاحهن على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك استقصاء هذه الباب وما يناسبه ويتصل به طول.
وقوله: " ولما يتكلم " هذه لم الجازمة دخلت عليها ما وقيل: إنها تأتي لنفي حضور شيء منتظر متوقع وقيل: بل هي على طريق لم وإن ضمت إليها ما كما هي في: إن تقم أقم، وإما تقم أقم، ولهذا النحو موضع هو أولى به.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو دعت الله أن يفتنه عن دينه لأفتنه عن دينه " فالذي أحفظ عن ابن أبي داود أنه قال في هذا الحديث هكذا أن يفتنه، وقال لأفتنه، وفي تصريف الفعل من الفتنة على تشعب معانيها واختلاف وجوهها لغتان: يقال: فتنة يفتنه على وزن فعل يفعل وهذه أعلى اللغتين وأفصحهما، وبها جاء كتاب الله تعالى في جميع القرآن، من ذلك: " لا يفتننكم الشيطان " ، وقوله " على خوف من فرعون وملأهم أن يفتنهم " وقوله: " وظن داوود أنما فتناه " بمعنى امتحناه، وأضاف هذه إليه جل ذكره، وقد قرئ أنما فتناه بالتخفيف على توجيه الفعل إلى الملكين، وقال تعالى: " ولكنكم فتنتم أنفسكم " وقال: " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " .
واللغة الثانية في هذه الكلمة هي أقلهما في كلام العرب وهي: أفتنه يفتنه على أفعل يفعل.
فإن كان ما روى لنا في هذا الحديث على اللفظ الذي وصفنا محفوظاً عند رواته ومن أداه إلينا فإنه مما جمع فيه بين اللغتين.

الجمع بين اللغتين
والجمع بين اللغتين كثير في كلام العرب، وقد جاء منه في كتاب الله عز ذكره على تجاوز واتصال، وتراح وانفصال، فمن المتصل قوله: " فمهل الكافرين أمهلهم " ، ومن المنفصل قوله في السورة التي يذكر فيها الأنفال: " ومن يشاقق الله ورسوله " على إظهار التضعيف، وفي سورة الحشر " ومن يشاق إلى الله " بالإدغام، ومثله " فليملل وليه " على لغة من يقول: أمللت الكتاب فأنا أمله، وقوله: " فهي تملي عليه " ، من أمليته أمليه، وقال الشاعر في الجمع بين اللغتين:
لئن فتنتني لهي بالأمس افتنت ... سعيداً فأضحي قد قلى كل مسلم
ومن الجمع بين اللغتين قول لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... عميراً والقبائل من هلال
وقال آخر:
يا بن رفيع هل لها من مغبق ... هل أن ساقيها سقاك المسقي
وقرن بعضهم بين المعنيين في اللغتين فقال: سقيته أي ناولته ماء لشفته، وأسقيته إذا جعلت له شرباً دائماً، ويقال اسقيته إذا دعوت له بالسقيا.

كما قال ذو الرومة:
وقفت على ريع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
ويقال: سقيته فشرب، وأسقيته جعلت له ماء وسقيا.
قال الخليل: سقيته مثل كسوته واسقيته مثل ألبسته، ولاستقصاء الكلام في هذا وفي هاتين اللغتين وهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، وفي ما اختلف نسخ كتاب سيبويه فيه من التفسير والتمييز له، وفي اختلاف القراءة بما أتى منه في مواضيع من القرآن متفق اللفظ أو مختلفة في مواضع مختلفة كقوله: " نسقيكم مما في بطونها " بالفتح في الموضعين على أنه من سقى يسقي بالضم من لغة من قال: اسقي يسقي، وفي تفريق من فرق بين القراءة في هذين الموضعين وبينها في قوله: " ونسقيه مما خلقنا أنعاماً " وجمع من جمع في الفتح والضم طول يتجاوز حد ما قصدناه بكتابنا هذا وبيانه في مواضع من كتبنا في علوم القرآن.

معنى الفتنة
وللفتنة وجوه منها الصرف عن الشيء ومنه هذه الكلمة، وأفتنته مثل حزنته، ومذهب سيبويه أن من قال: فتنته أراد جعلت فيه فتنة، ومن قال: أفتنته أي جعلته فاتناً، يقال وفتن الرجل فهو فاتن، وقال سيبويه: وزعم الخليل أنك حيث قلت فتنته وحزنته لم ترد أن تقول جعلته داخلاً، ولكنك أردت أن تقول جعلت فيه حزناً وفتنة، فقلت فتنة كما قلت كحلته جعلت فيه كحلاً، ودهنته جعلت فيه دهناً، وقال الجرمي: سمعت أبا زيد يقول: حزنني الأمر حزناً وحزناً وأنا حزين ومحزون، وهذا مثل: جريح ومجروح وقتيل ومقتول، وقال سيبويه: كلهم يقول: أحزنني الأمر فإذا صار إلى يفعل ففيها لغتان، يقول قوم: يحزنني على غير قياس، ويقول قوم: يحزنني على قياس، وأما القراء فلم يزد في هذا على أن ذكر في حزن يحزن وأحزن يحزن لغتين.
وقد اختلفت القراءة في اللفظ بهذه الكلمة في القرآن، فكان أبو جعفر المدني يقرأ لا يحزنك الدين ، وإنه ليحزنك، وأيها الرسول لا يحزنك الدين، وإني ليحزنني أن تذهبوا به، ويستمر على هذا في القرآن كله إلا في قوله: ولا يحزنهم الفزع الأكبر، فإنه يضم الياء فيه، وأما نافع فعلى عكس هذا المذهب لأنه ضم ما فتحه أبو جعفر في هذا الباب وفتح ما ضمه، وكان ابن محيصن يضم ذلك كله، وكان الجمهور من القراء بعده يفتحون الجميع وفي استقصاء هذه المعنى وذكر ما يتصل له لتفريق من فرق بين بعضه وبين بعض، والاحتجاج فيما اختلف المقرئون فيه مواضع جمة من كتبنا في علوم القرآن، نأتي على البيان عنه إن شاء الله عز وجل.
من نزلت فيه هذه الآية
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان بن عينة، عن أبي سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " قال: هو رجل كان في بني إسرائيل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ما يدعو به، وكان له امرأة له منها ولد وكان سمجة دميمة، قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله لها، فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل أجمل منها رغبت عن زوجها وأرادت غيره، فلما رغبت عنه دعا الله أن يجعلها كلبة نباحة، وذهبت عنه دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كان عليها أولاً، فدعا الله فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات الثلاث فسميت البسوس وقيل: أشأم من البسوس.
قال أبو الفرج: المشهور عند أهل السير والأخبار أن البسوس التي يقال من أجلها أشأم من البسوس، الناقة التي جرى فيما جرى من أمرها حرب داحس والغبراء، والمعروف من قول جمهور أهل التأويل أن قوله: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " عنى به بلعم بن باعوراء الذي دعا للجبارين على موسى وبني إسرائيل، وقال بعضهم: نزلت في أمية بن أبي الصلت، ولكل واحد من هذين الذي سميناهما حديث طويل وقد جاء الخبر الذي وصفنا ما حكينا والله أعلم.
وفي هذا الخبر، قال: وكانت سمجة بكسر الميم مثل بطرة، وحكى سيبويه عن العرب: رجل سمج بتسكين الميم مثل سمح، وقال: فقالوا: سميح كقبيح، قال: ولم يقولوا سمح وإن كانت العامة قد أولعت به.

وقول الراوي في هذا الخبر: يعيرنا الناس بها، الفصيح من كلام العرب: عيرت فلاناً كذا، وأما عيرته بكذا فلغة مقصرة عن الأولى في الاشتهار والفصاحة، وإن كانت هي الجارية على ألسنة العامة، ومن اللغة الأولى قول النابغة:
وعيرتني بنو ذبيان رهبتهُ ... وهل عليَّ بأن أخشاك من عَارِ
وقال المتلمس:
يعيرني أميِّ رجالٌ ولا أرى ... أخاً كرمٍ إلا بأن يتكرما
وقال المقنع الكندي في اللغة الأخرى:
يعرني بالدين قومي وإنما ... تدانيت في أشياء تكسبهم مجدا

أقوال حكيمة عن بعض العلماء والأعراب
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه، قال: سمعت أعرابياً يقول: فوت الحاجة خيرٌ من طلبها من غير أهلها، قال الأصمعي: وسمعت آخر يقول: حمل المنن أثقل من الصبر على العدم.
قال: وسمعت آخر يقول: النزاهة أشرف من سرور الفائدة، قال: وبلغني أن ابن عباس يقول: كما يتوخى بالوديعة أهل الثقة والأمانة فكذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر.
قال القاضي أبو الفرج: في هذا المعنى وما يضاهيه وما يخالفه أخبار وكلام لعلنا نأتي به فيما يستقبل من كتابنا هذه إن شاء الله.
وأنشدنا ابن دريد، قال أنشدنا أبو حاتم
رأيت الدهر بالأحرار يكبو ... ويرفع راية القوم اللئام
كأنَّ الدهر موتورٌ حقودٌ ... فيطلبُ وتره عند الكرام
قال: وأنشدنا أبو حاتم أيضاً:
أظن الدهر أقسم ثم برَّا ... بأن لا يكسب الأموال حرَّا
لقد قعد الزّمان بكلِّ حرٍّ ... ونقض من قواه ما استمرا
المجلس الثالث
هذا في سبيل الله
حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد إملاءً في يوم الأحد لست بقين من شعبان سنة ست عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا محمد بن زياد بن الربيع الزيادي، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، فقال: " هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً يميناً وشمالاً ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه " ثم قرأ " وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " .
قال القاضي أبو الفرج: وهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم والتمثيل من أبين الأقوال البليغة وأفصحها، وأرصن الأمثال البليغة المضروبة الصحيحة وأوضحها، وذلك أنه خط خطاً جعله مثل الصراط في استقامته إذ لا زيغ فيه ولا ميل، ثم خط خطوطاً يمنة وشأمة آخذه في غير سمته وجهته، تفرق بمن سلكها واتبعها عن السبيل التي هي سبيل الهدى، والنجاة من مرديات الهوى، وبهذا جاء وحي الله وتنزيله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال: جل ذكره: " شرع لكم من الدين ما وصي به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " فدل هذا على مثل ما دلت عليه الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه فقال تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء " وقال: " فتقطعوا أمرهم بينهم زمراً كل حزب، بما لديهم فرحون " في كثير مما يضاهي هذا المعنى، والسبيل الطريق. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر حين خط الخط " هذا سبيل الله " يحتمل أن يكون إشارة إلى الخط فذكر، إذ الخط مذكر، وجائز أن تكون الإشارة فيه إلى السبيل فذكره إذ العرب تذكر السبيل وتؤنثه، وقد جاء التنزيل باللغتين، على أن منه من يذكر الطريق ومنهم من يؤنثه وكذلك الصراط، قال عز وجل في التذكير: " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً " وذكر أنها في قراءة أبي بن كعب لا يتخذها ويتخذها بالتأنيث وقال في التأنيث: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر " ، وقال: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة " والتذكير والتأنيث كثيرٌ موجود في الكتاب والسنة كقول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا أنه سبيل آتٍ وحتم مقضي " وفي أشعار العرب وسائر كلامها، والتأنيث أكثر، وأنشد أبو عبيدة:
فلا تجزع فكل فتى أناسٍ ... سيصبح سالكاً تلك السبيلا

وأما قول الله " ولتستبين سبيل المجرمين " فقد أتت القراءة فيه بالوجهين معاً، أعني التذكير والتأنيث، فكان من قرأ بالتأنيث الحسن ومجاهد وعبد الله بن كثير وعبد الله بن عامر وأبو عمرو بن العلاء وأبو المنذر سلام بن المنذر، ويعقوب الحضرمي وقرأ ذلك بالتذكير الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي، وقرأ ذلك أبو جعفر المدني وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وشيبة ونافع " ولتستبين سبيل المجرمين " أي لتتبينها يا أيها النبي وتستوضحها، والتاء في هذه القراءة للمخاطبة ولا دلالة فيها على تذكير ولا تأنيث، والسبيل منصوبة بالفعل، وقد اختلفت القراءة أيضاً في كسر " وأن هذا صراطي مستقيماً " وفتحها وتخفيفها وتشديدها وفتح الياء من صراطي وإسكانها، فقرأ بكل وجه من هذه الوجوه أئمة من قراء الأئمة، فمن قرأ وأن هذا بالفتح والتشديد في أن وصراطي بإسكان الياء أبو جعفر وأبن هرمز الأعرج وشيبة ونافع وعاصم وأبو عمرو، وممن قرأ بكسر إن وتشديدها وتسكين ياء صراطي عبد الله الأعمش، وطلحة بن مصرف والكسائي على الابتداء، وممن قرأ بفتح الهمزة وتخفيفها وفتح ياء صراطي عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وعبد الله بن عامر وقرأ أبو المنذر سلام: وأن بالفتح والتشديد وصراطي بفتح الياء، وقرأ وأن بالفتح والإسكان لياء الصراطي يعقوب الحضرمي. قال القاضي أبو الفرج وبهذه القراءة أقرأ، وهين وسائر ما قدمنا ذكره من القراءات في هذه الآية صواب عندنا صحيح معناه لدينا، وقد تقرأ به وتراه مستقيماً حسناً في معناه ولفظه، وترى مختاري القراءة به مصيبين، ولسبيل الحق متبعين، وبالله ذي الطول والقوة والحول نستعين.

عزل الحجاج بن يوسف عن الحرمين

حدثنا محمد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عمران بن عد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال: لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين، بعد قتل عبد الله بن الزبير استحضر إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقربه في المنزلة فلم يزل على حاله عنده، حتى خرج إلى عبد الملك زائراً له فخرج معه فعادله لا يترك في بره وإجلاله وتعظيمه شيئاً، فلما حضر باب عبد الملك حضر به معه، فدخل على عبد الملك فلم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال: قدمت عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع له والله فيها نظيراً في كمال المروءة والأدب والديانة، ومن الستر وحسن المذهب والطاعة والنصيحة، مع القرابة ووجوب الحق: إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقد أحضرته بابك لتسهل عليه إذنك وتلقاه ببشرك وتفعل ما تفعل بمثله ممن كانت مذاهبه مثل مذاهبه، فقال عبد الملك: ذكرتنا حقاً واجباً ورحماً قريباً، يا غلام ائذن لإبراهيم بن طلحة، فلما دخل عليه قربه حتى أجلسه على فرشه، ثم قال له: يا ابن طلحة! إن أبا محمد أذكرنا ما لم نزل نعرفك به من الفضل والأدب وحسن المذهب، مع قرابة الرحم ووجوب الحق، فلا تدعن حاجة في خاص أمرك ولا عامته إلا ذكرتها، قال: يا أمير المؤمنين ! إن أولى الأمور أن تفتتح بها حوائج وترجى بها الزلف ما كان لله عز وجل رضا، ولحق نبيه صلى الله عليه وسلم أداء، ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وإن عندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها ولا يكون البوح بها إلا وأنا خال، فأخلني ترد عليك نصيحتي، قال: دون أبي محمد؟ قال: نعم، قال: قم يا حجاج، فلما جاوز الستر قال: قل يا بن طلحة نصيحتك، قال: الله أمير المؤمنين أمير المؤمنين، قال: الله، قال: إنك عمدت إلى الحجاج مع تغطرسه وتعترسه، وتعجرفه وبعده عن الحق وركونه إلى الباطل، فوليته الحرمين، وفيهما من فيهما، وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار، والموالي المنتسبة الأخيار، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء الصحابة، يسومهم الخسف، ويقودهم بالعسف، ويحكم فيهم بغير السنة، ويطؤهم بطغام أهل الشام، ورعاع لا روية لهم في إقامة حق، ولا إزاحة باطل، ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله ينجيك، وفيما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصك إذا جاثاك للخصومة في أمته، أما والله لا تنجو إلا بحجة تقيمن لك النجاة، فابق على نفسك أو دع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته " فاستوى عبد الملك جالساً وكان متكئاً، فقال: كذبت - لعمرو الله - ومنت ولؤمت فيما جئت به، قد ظن بك الحجاج ما لم يجد فيك، وربما ظن الخير بغير أهله، قم فأنت الكاذب المائن الحاسد، قال: فقمت والله ما أبصر طريقاً، فلما خلفت الستر لحقني لاحق من قبله، فقال للحاجب: احبس هذا، أدخل أبا محمد للحجاج، فلبثت ملياً لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الآذن فقال: قم يا ابن طلحة فادخل، فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وأنا داخل وهو خارج فاعتنقني وقبل ما بين عيني، ثم قال: إذا جزى الله المتحابين بفضل تواصلهم فجازاك الله أفضل ما جزى به أخاً، فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك، ولأعلين كعبك، ولأتبعن الرجال غبار قدمك، قال: فقلت: يهزأ بي، فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أجلسني مجلسي الأول، ثم قال: يا ابن طلحة لعل أحد من الناس شاركك في نصيحتك؛ قال: قلت: لا والله، ولا أعلم أحداً كان أظهر عندي معروفاً ولا أوضح يداً من الحجاج،ولو كنت محابياً أحداً بديني لكان هو، ولكن آثرت الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه والمسلمين، فقال: قد علمت أنك آثرت الله عز وجل، ولو أردت الدنيا لكان لك بالحجاج أمل، وقد أزلت الحجاج عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما، وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استصغاراً لهما، ووليته العراقين لما هنا من الأمور التي لا يرحضها إلا مثله، وأعلمته أنك استدعيتني إلى التولية له عليهما استزادة له ليلزمه من ذمامك ما يؤدي به عني إليك أجر نصيحتك، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته مع تقريظه إياك ويدك عنده، قال: فخرجت على هذه الجملة.

قال أبو بكر بن أبي الأزهر: يرحضها يعني يغسلها، قال القاضي أبو الفرج: الرحض: الغسل، ومنه سميت الأخلية المراحيض، وجاء في خبر عن عائشة رضي الله عنها، ذكرت فيه الخروج إلى الأقضية للحاجة وذلك قبل أن يتخذ الناس المراحيض، ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وقد سئل عن الطبخ في قدور المشركين " أرحضوها بالماء: ومن ذلك الرحضاء في الحمى وذلك حين يعرق صاحبها، كما قيل فيها الثؤباء من التثاؤب، والمطواء من التمطي، والعرواء إذا أعرت، من قولهم عر يعرو، وقيل لها رحضاء إما لأن العرق مؤذن بانصرافها فكأنه أماطها وغسلها، وإما لأن المحموم إذا عرق شبه بالمغتسل بالماء، وقول عبد الملك لإبراهيم بن طلحة في هذا الخبر: أعلمت الحجاج في موضعين، كلام غير خارج على طريق الصحة والتحقيق، وذلك لأن الإعلام هو إلقاء الشيء الصحيح الذي يقع بمثله العلم للملقى إليه، فأما ما لا حقيقة له فلا يقال أعلمت أحداً به، ولو كان أخبرته مكان أعلمته لكان الكلام مستقيماً، لأن المعلم لا يكون إلا محقاً، والمخبر قد يكون محقاً ومبطلاً، ألا ترى أن رجلاً لو قال لعبيده: من أعلمني منكم بقدوم زيد فهو حر، فقال له قائل منهم: قد قدم زيد وهو كاذب، لم يعتق، ولو كان قال: من أخبرني مكان من أعلمني لعتق هذا المخبر، وكذلك لو أخبره مخبر بهذا منهم بعد أن يقوم العلم له لم يعتق، لاستحالة إعلام من قد علم، ولو أخبره لعتق لصحة إخبار المخبر بما كان قد أخبر به.

عمر رضي الله عنه يتمثل بشعر
حدثنا محمد بن الحسين بن دريد، قال أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف إلى باب عمر بن الخطاب فسمعه وهو يتمثل في بيته:
وكيف مقامي بالمدينة بعدما ... قضى وطراً منها جميل بن معمر
قال القاضي أبو الفرج: ويروي كيف ثوائي بالمدينة، ثم قال: يا يرفأ! من بالباب؟ قال: عبد الرحمن بن عوف، قال: أدخله، فلما دخل قال: أسمعت؟ قال: نعم قال: إنا إذا خلونا في منازلنا قلنا ما يقول الناس. قال القاضي أبو الفرج: هذا جميل بن معمر الجمحي من مسلمة الفتح، قتل على عهد عمر، وليس بجميل بن عبد الله بن معمر العذري الشاعر.
كلمات مأثورة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا حريز بن أحمد بن داؤد، قال سمعت العباس بن المأمون قال: سمعت أمير المؤمنين المأمون يقول: قال لي علي بن موسى الرضا: ثلاثة توكل بها ثلاثة، تحامل الأيام على ذوي الأدوات الكاملة، واستيلاء الحرمان على المقدم في صنعته، ومعادة العوام لأهل المعرفة.
من زهد رجال الحديث
حدثنا محمد بن قاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن بن مسروق الكندي الكوفي، قال: حدثنا محمد ابن المنذر الكندي - قال: وكان جاراً لعبد الله بن إدريس قال: حج الرشيد ومعه الأمين والمأمون فدخل الكوفة فقال لأبي يوسف: قل للمحدثين يأتونا يحدثونا، فلم يتخلف عنه من شيوخ الكوفة إلا اثنان عبد الله بن إدريس وعيسى بن يونس، فركب الأمين والمأمون على عبد الله بن إدريس فحدثهما بمائة حديث، فقال المأمون لعبد الله: يا عم! أتأذن لي أن أعيدها عليك ومن حفظي؟ قال: افعل، فأعادها كما سمعها فكان ابن إدريس من أهل الحفظ يقول: لو لا أنني أخشى أن ينفلت مني القرآن ما رويت العلم، يعجب عبد الله من حفظ المأمون، وقال المأمون: يا عم! إلى جنب مسجدك دارٌ إن أذنت لنا اشتريناها ووسعنا بها المسجد، فقال: ما بي إلى هذا حاجة قد أجزأ من كان قبلي وهو يجزئني، فنظر إلى قرح في ذراع الشيخ فقال: إن معنا متطبين وأدوية، أتأذن لي أن يجيئك من يعالجك؟ قال: لا، قد ظهر بي مثل هذا وبرأ، فأمر له بمال وجائزة فأبى أن يقبلها وصار إلى عيسى بن يونس فحدثهما، فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها فظن أنه استقلها، فأمر له بعشرين ألفاً، فقال عيسى: لا ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ملأت لي هذا المسجد ذهباً إلى السقف، فانصرفا من عنده.
من الشعر الحكيم
حدثنا القاسم بن داود بن سليمان أبو ذر القراطيسي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
إذا لم تتسامح بالأمور تعقدت ... عليك فسامح وامزج العسر باليسر

فلم أر أوقى للبلاء من التقى ... ولم أر للمكروه أشفى من الصبر

المجلس الرابع
إن من الشعر حكما
ً
حدثنا أحمد بن إسحق بن بهلول إملاءً في يوم الاثنين لخمس ليال بقين من شعبان سنة ست عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن أبي شيبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر حكماً، وإن أصدق بيت تكلمت به العرب قول الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل "
مذهب للمؤلف في الصغير
قال القاضي أبو الفرج: هذا البيت الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قائله من الشعراء هو للبيد بن ربيعة، افتتح به كلمة فقال في أولها:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائلُ
وبعده:
وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ... دويْهيةٌ تصفرُّ منها الأنامل
وقد روى أن عثمان رضوان الله عليه، لما سمع قوله: وكل نعيم لا محالة زائل، قال كذب، نعيم أهل الجنة لا يزول، وهذا القول من عثمان يدل على أن مذهب القوم في العموم هو جارٍ في لغتهم على الشمول عند تجرده واستغراق الجنس بإطلاق لفظه.
وأما قول لبيد في البيت الآخر: دويهية على التصغير، فمن الناس من يقول هو تصغير معناه التكبير، وجعله مثبتو الأضداد في اللغة من الأضداد، وقال بعضهم: بل هو على تصغيره، وإنما أريد به أنه إذا كان الصغير منه يبلغ هذه المبلغ، ويؤثر هذه الأثر فكبيره أعظم وأبلغ، ولي في هذا مذهب استخرجته بنظري، وما علمت أحداً سبقني إليه ولا تقدمني فيه، ولكن الله الذي يؤتي الحكمة من يشاء نبهني عليه، وهو أن الاسم المصغر في ذاته وقلة أجزائه فالحجيرة الصغيرة التي ليس حجرة كبيرة، وأما المتعلق بشيء يسير فكقولك: أتيتك قبيل العصر أو بعيد الفجر، فتبين أن المتقدم من الزمان في قولك قبيل يسير قليل، والمتأخر منه في قولك بعيد قصير ليس بطويل، ونحو هذا قديديمة وريئة في قدام ووراء يجري الأمر فيه من جهة الأمكنة مجراه فيما قدمناه من باب الأزمنة كما قال الشاعر:
قديديمةُ التّجريبِ والحْلمِ أنني ... أرى غفلاتِ العيشِ قَبلَ التّجارِبِ
فظن من قال إن التصغير في هذا الباب تكبير لما رأى أن القصد من قائلة الإشعار بأمر عظيم وخطب كبير جسيم، ولو تأمل هذا الظان الأمر في هذا لبان له أن الصغير على صغره، فإنه نتج كبيراً وأدى إليه عظيماً في نفعه أو ضرره، وكل واحد من الأمرين على حقيقته في نفسه، وخصوصيته في جنسه، فالدويهية هنا صغيرة جرت أمراً كبيراً، كما قال:
ربَّ كبيرٍ هَاجهُ صغيرٌ ... وفي البُحُور تغرقُ النُّحورُ
وقول القائل من المحدثين:
لا تحقرنَّ سبيباً ... كم جَرَّ أمراً سُبَيْبُ
وكان بعض من يتعاطى الأدب، ويدأب في طلب المعاني واستنباط لطيفها سمع مني معنى ما ذكرته في هذا الفصل، بعد أن طعن على من قدمت له الحكاية عنه في هذا الباب، وقال: كيف يكون الصغير كبيراً؟ وإذا جاز هذه جاز منه أن يصح قول من قال: الداء هو الدواء السقم هو الشفاء، وهذا مما عبرت عن معناه بلفظي دون لفظ المتكلم به، لأنني لم أصمد لحفظه، ولأنه كان غير بليغ في نفسه ولا مستقيم في ترتيبه، فجليت معناه بلفظ لم آل في إيضاحه وتهذيبه.

وقال هذا القائل: إن الذي أجتبيته في هذا غير مخالف للقول الثاني الذي قدمت حكايته عن قائله، فكان من جوابي لهذا القائل أن قلت له: إن الفرق بين قولي وقول من رغبت عن قوله وتسبقني إلى موافقته، أن هذا الذي حكيت قوله، يزعم أن الصغير المذكور إذا جر إلى ضرر فكبيره أبلغ في الضرر منه، وأنا ذهبت إلى أن هذا التصغير يؤثر تأثيراً كبيراً من حيث كان جنسه يؤثر نفعاً أو ضراً بكيفيته دون كميته، وضربت لهذا المخاطب مثلاً قربت هذا الفصل عينه حين بعد عنه إدراكه، إذ كان الفرق بين هذين القولين لطيفاً جداً، وكان بينهما من بعض الوجوه تناسب وشبه تقارب. فقلت له: لما كان من الأشياء ما يكون عند قليل أجزائه منفعة جسيمة أو مضرة عظيمة، كالدرياق والسم بولغ في العبارة عن المنافع بها لاشتهار هذا المعنى، كقول الحباب بن المنذر: " أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب " ، وفي الأخبار عن الجنس الضار قول لبيد: دويهية تصفر منها الأنامل، وجملة الفصل بين قولي وقول من خالفته وتوهمت أني وافقته أنه عني بالكمية وعنيت بالكيفية، وقد يكون من الأشياء ما يؤثر قليلة، وينتفي تأثيره عن كبيره، كالجروراء من الحيات والصرد والقرقس والبعوض من الجنس الواحد، وكنوع من الحيات ذوات الأجسام اللطيفة وعظيم ضررها، وقصور الحية الكبيرة المسماة الحفاث في ذلك عنها وإن كانت أعظم خلقاً وأشنع منظراً، وقد قال أهل العلم بصناعة الطب: إن السقمونيا ينتفع بتناول مقدار فيه يسير ذكروه، ويقاربه في النفع والضر ما قاربه من الأجزاء في المبلغ والقدر، وأنه إذا بلغ من الكثرة مقداراً متفاوتاً لم يضرر كبير ضرر، ولم يظهر في أخذه ما يظهر بتناول قليلة من الأثر في نفع ولا ضرر، ولقد حدثني بعض متفقهي القضاة إن قوماً دسوا كثيراً من السقمونيا في بعض المطاعم الحلوة لرجل كانوا يعاشرونه، وكان معروفاً بكثرة الأكل، وأنه أكل جميعه وانصرف عنهم، فندموا على ما كان منهم، وأشفقوا على هذه الرجل، وعلموا على الفحص عن أمره واستعلام خبره، فجاءهم يتأوه ويقول لهم: أي شيء أطعمتموني فقد عرض لي قولنج برح بي. وأما قول هذا المخاطب لي: كيف يكون الداء دواء والسقم شفاء؟ فإن هذا قد يوجد معنى ويستعمل لفظاً، وقد ظهر لعامة الناس وخاصتهم أن الداء المسمى خمار العارض عن الشراب المسكر يشفي منه شرب شيء مما تولد الخمار عنه، كما قال الشاعر:
وصرعة مخمورٍ رفعت بقرقفٍ ... وقد صرعتَني قبل ذلك قرقفُ
فقام يداوي صرعتي متعطفاً ... وكنت عليه قبلها أتعطف
يموتُ ويحيا تارةً بعد تارة ... وتُتلفنا هذي المدام وتخلف
إذا ما تسلقنا من الكأس سلوة ... تقاضى الكرى منها الذي نتسلف
وقال آخر:
تداويت من ليلي بليلي من الهوى ... كما يَتَدَاوى شاربُ الخمرِ بالخَمْرِ
وقال أبو نواس:
دع عنك لومي فإن اللومِ إغراءُ ... وداوني بالتي كانتْ هي الداء
أخذه من قول الأعشى:
وكأسٍ شربتُ على لَذّةٍ ... وأخرى تداويتُ منها بها
لكي يعلمَ الناسُ أني امرؤٌ ... أتيتُ المعيشة من بابها
وقال جرير:
يرمين من خلَلِ السُّتور بأعينٍ ... فيها السِّقام وبُرْءُ كلِّ سقيمِ
وكنت في الحداثة أنشأت كلمة مسمطة على نحو قصيدة مدرك الشيباني في عمرو النصراني فكان مما ذكرته في كلمتي هذه عند صفة عين إنسان نَعته ونسبت الكلمة به:
سُقم أوى أحسن عين تطرفُ ... تقوي به والقلوب تُضْعِفُ
كالسم في الأفعى تَقِي وتحتفُ ... تحيا به وبالنفوس تتلف
ثم قلت:
دواء من أقصده بسُقمه ... تكراره نحو مرامي سهمهِ
كالأفعوان يشتفي من سُمِّهِ ... بشُرب درياقِ كربهِ لَحْمِهِ
وقلت أيضاً من كلمته:
وشفائي بسقم مقلة ظبيٍ ... قدّ قلبي منه بأحسن قَدِّ
سُقمها لي شفاءُ دائِي إذا ... جادت وداءٌ إذا تصدَّتْ لصدِّ
وأنا استغفر الله من مساكنة ما يشغل عن عبادته، ومما يضارع ما وصفنا في هذا الفصل من وجه، قول ابن الرومي:
عيني لعينك تُبْصِرُ مقتلُ ... لكنّ عينكَ سهم حتفٍ مُرْسَلُ

ومن العجائِبِ أن مَعْنىً واحداً ... هو منك سهمٌ وهو مِنِّي مقتل
وليس بمنكر أن يكون الشيء يدوي شيئاً ويداوي غيره، وينتفع به في بعض ويستضر في بعض.
وهذا أفشى وأكثر وأبين وأظهر من أن نحتاج إلى الإطناب في شرحه وضرب الأمثال له، وقد حكى مما يدخل في هذا الباب أن بعض المترفين أسف إلى طريقة المتصوفة، واستشرف لصحبتهم والاختلاط بهم وملابستهم، فشاور في هذا بعض مشيختهم فرده عما تشوف إليه من هذا وحذره من التعرض له. فأبت نفسه إلا إجابة ما جذبته الدواعي إليه وعطفته الخواطر عليه، فمال إلى فريق من هذه الطائفة فعلق بهم واتصل بجلتهم، ثم صحب جماعة منهم متوجهاً إلى الحج فعجز في بعض الطريق عن مسايرتهم وقصر عن اللحاق بهم فمضوا وتخلف عنهم، واستند إلى بعض الأميال إرادة الاستراحة من الإعياء من الكلال، فمر به الشيخ الذي شاوره فيما حصل فيه قبل أن يتسنمه فنهاه عنه، وحذره منه، فقال هذا الشيخ مخاطباً له يقول:
إن الذين بخيرٍ كنت تذكرُهُمْ ... قَضَوا عليك وعنهم كنتُ أنهاكا
فقال له: فما أصنع الآن؟ فقال له:
لا تطلبن حياةً عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا
واستقصاء هذا الباب وما يضاهيه ويتشعب منه يطول، ولا يليق بهذا المجلس الزيادة عليه، وقد يتجه في التصغير أن يكون أتى به تنبيهاً على أنه قد يأتي صغيراً ثم ينمى فيصير كبيراًن أو أن يضامه غيره فيصير قليله كثيراً، كما قيل:
رب كبير هاجه صغير
وكما قيل:
ولا تحقرن سبيباً ... كم جر أمراً سُبيب
وقيل: رب محنةٍ حدثت عن لحظة، ورب حرب جنيت من لفظة.
وقد قالوا: القليل إلى القليل كثير، والذود غل الذود إبل وقد يملأ القطر الإناء فيفعم والشر تحقره وقد ينمى، وقد يفنى الجزء بعد الجزء الجملة، والشيء يتبع بعضه بعضاً، وقد يؤدي انقطاع الحبة من السلك إلى انقطاع سائر ما فيه، ونزع الحجر من سور أو جدار يؤدي إلى تهافت باقيه، وقد قالوا: العصا من العصية، وفسره بعضهم أن الفرد ينبت وينشأ ليناً صغيراً، ثم ينمى فيستطيل ويغلظ ويشتد ويصلب.
وقيل: بل المعنى إن العصا نتجت من أمها العصية، والعصا هي الدابة التي أشار إليها قصير على جذيمة بركوبها عند ظهور علامة ذكرها، إذ كانت على حد من الإحضار والسرعة والإهذاب، والجودة تفضل به ما هو من جنسها، وقد يكون الكثير من القليل، والجمار من الفسيل والفنيق من الفصيل.
؟

المحارب الشجاع
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو معاذ خلف بن أحمد المؤدب، عن أبي إسحق الزيادي، قال: حدثني رجل من العرب قال: كان بيننا وبين قوم حرب فلقونا فهزمناهم فإذا فتى منهم قد صبر فجعل لا يحمل على ناحية من معسكرنا إلا كشفها وهزمها، ثم احتويناه بأرماحنا فأشفقنا عليه فعرضنا عليه الأمان. فقال:
أذل الحياة وذل الممات ... وكلاً أراه طعاماً وبيلاً
فإن كان لا بد من واحد ... فسيري إلى الموت سيراً جميلاً
ثم حملنا عليه فقتلناه فإذا هي امرأة.
حسن الظن بالله
حدثنا أبو القاسم بن داود أبو ذر القراطيسي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: حدثني الحسن بن عبد الرحمن: أن وزير الملك نفاه الملك لموجده وجدها عليه فاغتم لذلك غماً شديداً فبينما هو ذات ليلة في بيت له إذ أنشده رجل كان معه:
أحسن الظن بربّ عَوَّدّكْ ... حسناً بالأمس وسَوّى أَوَدَكْ
إن ربّاً كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غَدَك
تعليق على خبر
هكذا في الخبر إذ أنشده فبينا هو، وكان الأصمعي ينكر الإتيان باذ في هذا الباب ويستخطئ القائل: بينا أنا جالس إذ أقبل فلان ويرى أن الكلام صحيح: بينا أنا جالس أقبل فلان، وكان سيبويه وغيره من أهل العلم بالعربية يرون ذلك جائزاً، وقد جاء في الكلام والأخبار كثيراً، وإذ من حروف المفاجأة الدالة عليها.
الجليس الصالح

حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: حدثنا أبو العباس المنصوري، عن القثمي، عن مبارك الطبري، قال: سمعت أبا عبيد الله، يقول سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله لا تجلس مجلساً إلا ومعك فيه رجل من أهل العلم يحدثك، فإن محمد بن مسلم بن شهاب قال: إن الحديث ذكر يحبه الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم، قال المنصور: صدق أخو بني زهرة.
وقال آخر:
إن المشيب وما بدا في عارضي ... صَرَفَ الغواني فانصرفتُ كريما
وسخوتُ إلا عن جليسٍ صالحِ ... حسنِ الحديث يزيدني تعليما
قال القاضي:
ولقد سئمتُ مآربي ... فكأن طيِّبُها خبيثُ
إلا الحديث فإنّه ... مثل اسمه أبداً حديث
وحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي الأزهري: قال: دخلت إلى سر من رأى فقيل إن بها رجلاً يكنى أبا الفضل ويعرف بالعباس بن أبي العبيس بن حمدون النديم، له أدب ومعه ظرف وهو محتاج إلى مثلك يعاشره، فاكتب إليه أبياتاً فكتبت إليه:
أبا الفضل يا من ليس تحصى فضائله ... ومن ماله في الخلق خلق يعادله
أتقبل خلاًّ جاء يتبعُ شوقه ... إليك على علم بأنك قابله
يرحل عنك الهم عند حلوله ... ويُلهيك بالآداب حين تساجله
يكسر طمح العين من لحظاته ... ويغمض منه الجفن حين تخاتله
ويشرب ما تسقيه غير مماكس ... إلى أن يرى والرأس تهتز مائله
فحينئذ تثنى إلى الباب رجله ... وإن لم يكن بالباب ما هو حامله
فكتب إلي في جوابها من ساعته:
أتانا مقال أوجب الشكر حامله ... ودل على فضل الذي هو قائله
ومكن ودَّاً قبل تمكين رؤيةٍ ... ومن قبل ما لاحت بذاك مخايِله
سنقبل ما أهداه من صفو بره ... ونبذل منه فوق ما هو باذله
ونقصد أسبابَ التهاجر بيننا ... فنقطعها مذمومةً ونواصله
فإن دام دمنا لم نرد بدلاً به ... وإن زال عن عهد فلسنا نزايله
وتحت هذه الأبيات: تفضل - جعلت فداك - بالمصير إلينا من ساعتك، فصرت إليه فوجدته فوق الوصف، فلم نزل نتعاشر طول مقامي هناك إلى أن انحدرت.

من أين لك هذه الجبة
؟
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني حسين الخليع، قال: كنا في حلقة فجاءنا أبو نواس وعليه جبة خز، فقلنا له: من أين لك هذه الجبة؟ فكتمنا، فترجمنا خبرها حتى وقع لنا أنها من جهة مؤنس بن عمران بن جميع، فانسللت من الحلقة وصرت إلى مؤنس فوجدت عليه جبة خز جديد، فقلت له: كيف أصبحت يا أبا عمران؟ فقال: بخير، صبحك الله بخير، فقلت:
إن لي حاجة فرأيك فيها ... أنا فيها وأنت لي سيان
فقال: اذكرها على بركة الله، فقلت:
جبة من جبابك الخز كيما ... لا يراني الشتاء حيث يراني
فقال: بسم الله خذها، وخلعها فلبستها ورجعت إلى الحلقة، فقال لي أبو نواس من أين لك هذه الجبة؟قلت: من حيث جبتك.
يستعيذ بالله من السبع
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني أحمد بن إسماعيل الخصيب، قال: كان جميل بن محمد بن جميل إذا أراد الركوب في كل غداة يقول: اللهم إني أعوذ بك من السبع، فقيل له: أنت تركب إلى الكرخ، فأي سبع في الكرخ، فقال: لو أردت ذلك لقلت: السبع، ولكني أستعيذ من سبع خصال، فأقول: اللهم إني أعوذ بك من السبع وأضمرها، وهي اللهم إني أعوذ بك من السعي الخائب، والبربخ العائب، والحائط المائل، والميزاب السائل، ومشحمات الروايا، والمطايا التي تحمل البلايا، والتهور في البلاليع والركايا.
قال القاضي: قد تخفف العرب السبع فتقول السبع كما يقول عجز وعجز وقد قرئ وما أكل السبع، بتسكين الباء وجاءت هذه القراءة في بعض الروايات عن عاصم بن أبي النجود، وقوله في هذا الخبر الميزاب هو الذي تخطئ في اللفظ العامة فتقول مزراب، والميزاب مأخوذ من قولهم وزب الماء يزب إذا سال أو جرى، وأما المزراب فهو السفينة.
المجلس الخامس
صنائع المعروف تقي مصارع السوء

حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائفي سنة أربع عشرة وثلثمائة قال: حدثنا محمد بن العباس التنيسي، قال: حدثنا عمر بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن الأصبغ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب "

التعليق على الحديث
قال القاضي: وفي هذا الخبر من التنبيه على فضل اصطناع المعروف، وصدقة السر التي يراد الله عز وجل بها، ويطمئن المتصدق بها إلى الإيمان باطلاع عليها وإخلاصها من الرياء المبطل لثوابها ما يبعث كل ذي لب نصح لنفسه وأراد السعادة لها، والنجاة من هول عظيم المكروه بها، على الرغبة فيه والمسابقة إليه، فأعظم بالنعمة على من دفعه الله عز وجل لطاعته، ووقاه شح نفسه " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " وقد ورد في هذا المعنى من الترغيب في البر والحض على ما فعل ما عاد بجزيل الأجر وجميل الذكر، ما يطول شرحه ويتعب جمعه، مسنداً ومقطوعاً، ومرسلاً وموصولاً، ونحن نأتي بطرف منه كاف لمن تشوف إليه، وشاف لمن أراد لنفسه الصلاح به فمما جاء في هذا المعنى ما حدثنا إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني جدي محمد بن إبراهيم الإمام وكان يجلس لولده وولد ولده في كل يوم خميس فيعظهم ويحذرهم، فقال: أرسل إلي أمير المؤمنين المنصور بكرةً واستعجلني الرسول، فظننت ذلك لأمر حدث فركبت إذ سمعت وقع الحافر، فقلت للغلام: انظر من هذا؟ فقال: هذا أخوك عبد الوهاب، فرفقت في السير فلحقني فسلمت عليه وسلم علي فقال: أتاك رسول هذا؟ قلت: نعم، فهل أتاك؟ قال: نعم، فقلت: ففيم ذاك ترى؟ قال: تجده اشتهى خلاً وزيتاً سوداً الغداة فأحب أن نأكل معه، فقلت: ما أرى ذاك، وما أظن هذا إلا لأمر قال: فانتهينا إليه فدخلنا فإذا الربيع واقف عند الستر، وإذا المهدي ولي العهد في الدهليز جالس، وإذا عبد الصمد بن علي وداود بن علي وإسماعيل بن علي وسليمان بن علي وجعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن حسن بن حسن والعباس بن محمد فقال الربيع: اجلسوا مع بني عمكم، قال: فجلسنا ثم دخل الربيع وخرج، فقال المهدي: ادخل أصلحك الله، ثم خرج فقال: ادخلوا جميعاً، فدخلنا فسلمنا وأخذنا مجالسنا، فقال للربيع: هات دوياً يكتبون فيه، فوضع بين يدي كل منا داوة وورقاً، ثم التفت إلى عبد الصمد بن علي، فقال: يا عم حدث ولدك وإخوتك وبني أخيك بحديث البر والصلة، فقال عبد الصمد: حدثني أبي، عن جدي عبد الله بن العباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن البر والصلة ليطولان الأعمار ويعمران الديار ويثريان الأموال وإن كان القوم فجارا " ثم قال: يا عم الحديث الآخر، فقال عبد الصمد بن علي: حدثني أبي، عن جدي عبد الله بن العباس، فقال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب "

فقال المنصور: يا عم الحديث الآخر، فقال عبد الصمد، حدثني أبي، عن جدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه كان في بني إسرائيل ملكان أخوان على مدينتين وكان أحدهما باراً برحمه عادلاً مع رعيته، وكان الآخر عاقاً برحمه جائراً على رعيته، وكان في عصريهما بنيٌ فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي أنه قد بقي من عمر هذا البار ثلاث سنين، وبقي من عمر العاق ثلاثون سنة، فأخبر ذلك النبي رعية هذا ورعية ذلك فأحزن ذلك رعية العادل، وأحزن ذلك رعية الجائر، فقال: ففرقوا بين الأطفال من الأمهات وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلى الصحراء يدعون الله عز وجل أن يمتعهم بالعادل ويزيل عنهم الجائر فأقاموا ثلاثاً، فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: " أخبر عبادي أني قد رحمتهم وأجبت دعاءهم، فجعلت ما بقي من عمر هذا البار لذلك الجائر، وما بقي من عمر الجائر لهذا البار، قال: فرجعوا إلى بيوتهم ومات العاق لتمام ثلاث سنين وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير " ، ثم التفت المنصور إلى جعفر بن محمد، فقال: يا أبا عبد الله، حدث إخوتك وبني عمك بحديث أمير المؤمنين علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في البر، فقال جعفر بن محمد: حدثني أبين عن جدي، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من ملك يصل ذا قرابته ويعدل على رعيته إلا شد الله ملكه، وأجزل له ثوابه وأكرم مآبه وخفف حسابه " .

حديث الحية
حدثنا الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، قال: حدثنا علي بن حرب الطائي، قال: حدثني جعفر الطائي قرابة القحاطبة من أهل جزيرة مهروبان، قال: حدثنا أبان بن عبد الجبار، قال: كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدثنا إذ التفت إلى شيخ جنبه فقال: يا أبا عبد الله! حدثنا حديث الحية.
فقال الشيخ: حدثني محمد بن عتبة، قال: خرج حميري بن عبد الله إلى مقصد له، فلما أقفرت به الأرض انسابت حية بين قوائم دابته فقامت على ذنبها، وقالت: آوني آواك الله في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، فقال لها: ومم آويك؟ قالت: من عدو لي قد غشيني يريد أن يقطعني إرباً إرباً، قال لها: وأين آويك ؟ قالت: في جوفك إن أردت المعروف، قال لها: من أنت؟ قالت: من أهل قول لا إله إلا الله، قال لها: فهاك جوفي، فصيرها في جوفه، قال: فإذا هو بفتى قد أقبل ومعه صمصامة له وقد وضعها على عاتقه، فقال له: أيها الشيخ أين الحية التي استظلت بكنفك وأناخت بفنائك؟ قال: ما رأيت شيئاً، قال: عظمت كلمةً خرجت من فيك، قال: ما جاء منك أعظم، تراني أقول ما رأيت شيئاً، وتقول لي مثل هذا؟ فولى الفتى مدبراً فلما توارى قالت الحية: يا عبد الله انظر هل يراه بصرك أو يأخذه طرفك؟ قال: ما أرى شيئاً، قالت: اختر مني إحدى منزلتين إما أنكث قلبك نكثة فأجعله رميماً أو أرث كبدك رثاً فأخرجه من أسفلك قطعاً، قال لها: والله ما كافأتني يرحمك الله، قالت له: فما اصطناعك بالمعروف إلى من لا يعرف ما هو، لو لا جهلك، وقد عرفت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك قبل، وقد علمت أنه ليس عندي مال أعطيكه ولا دابة أحملك عليها، قال: أردت المعروف، قال: فالتفت فإذا بفيء جبل قال: فإن كان لا بد ففي هذا الجبل، ثم نزل يمشي فإذا هو في الجبل بفتى قاعد كأن وجهه القمر ليلة البدر، فقال له الفتى: يا شيخ مالي أراك مستبسلاً للموت آيساً من الحياة؟ فقال: من عدو في جوفي آويته من عدوه فلما صار في جوفي وقص عليه القصة، فقال له الفتى أتاك الغوث، ثم ضرب بيده إلى ردنه فأخرج منه شيئاً أطعمه إياه فاختلجت وجنتاه، ثم أطعمه ثانية فوجدته تمخضاً في بطنه، ثم أطعمه الثالثة فرمى بالحية من أسفله قطعاً، فقال له حميري: من أنت رحمك الله، فما أحد علي أعظم منة منك؟ قال له: أو ما تعرفني أنا المعروف وأنه اضطربت ملائكة سماءٍ سماءٍ من خذلان الحية إياك فأوحى الله عز وجل إلى أن يا معروف أغث عبدي، وقل له: أردت شيئاً لوجهي فآتيتك ثواب الصالحين، وأعقبتك عقبى المحسنين ونجيتك من عدوك.
الجار إذا أراد شين جاره

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد: قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: أمير أخبرنا عمارة بن عقيل، قال: " كان الرجل فيما مضى إذا أراد شين جاره أو صاحبه طلب حاجته إلى غيره "

نادرة بين الحجاج وخارجي
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: حدثنا محمد بن عيسى الأنصاري، عن عبيد الله بن محمد التيمي، قال: أتي الحجاج برجل متهم برأي الخوارج، فقال له الحجاج: أخارجي أنت؟ قال: لا والذي أنت بين يديه غدا أذل مني بين يديك اليوم ما أنا بخارجي، فقال الحجاج: إني يومئذ لذليل. وأطلقه.
مال من يأخذ
؟
حدثنا أحمد بن العباس العسكري: قال: حدثني محمد بن عبد الله بن صبيح، قال: ولى الحجاج رجلاً من الأعراب بعض المياه، فكسر عليه بعض خراجه فأحضره ثم قال له: يا عدو الله! أخذت مال الله، قال: فمال من آخذ؟ أنا والله مع الشيطان منذ أربعين سنة أن يعطيني حبة ما أعطاني.
لو كانت الجنة بيده
حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني: قال: أخبرنا المنذر بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن علي، قال: حدثنا سليم ابن جعفر الهاشمي، عن الرضا رضي الله عنه، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال علي بن الحسين: إن لأستحيي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله عز وجل له بالجنة وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل.
جزاء الإحسان
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن زكريا بن دينار الغلابي، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، قال: حدثني الهيثم بن عدي، عن عوانة، قال: أتى الحجاج بأسارى من أصحاب قطري من الخوارج فقتلهم إلا واحداً، كانت له عنده يد وكان قريباً لقطري، فأحسن إليه وخلى سبيله، فصار إلى قطري فقال له قطري: عاود قتال عدو الله الحجاج، فقال هيهات، غل يداً مطلقها واسترق رقبةً معتقها، ثم قال:
أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته
إني إذاً لأخو الدناءة والذي ... طمت على إحسانه جهلاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته
أأقول جار علي لا، إني إذاً ... لأحق من جارت عليه ولاته
وتحدث الأقوام أن صنائعاً ... غرست لديّ فحنظلت نخلاته
هذا وما ظني بحينٍ أنني ... فكيم لمطرقُ مشهدٍ وعلاته
كرم أبي أيوب المورياني
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن إسماعيل بن هيثم، قال: قال ابن شبرمة: زوجت ابني على ألفي درهم فلم اقدر عليها ففكرت فيمن أقصده فوقع في قلبي أبو أيوب المورياني فدخلت عليه فشرحت له خبري فقال: فلك ألفان، فلما نهضت لأقوم، قال: فالمهر ألفان فأين الجهاز؟ فلك ألفان للجهاز، فذهبت لأقوم فقال: المهر والجهاز فأين الخادم؟ فلك ألفان للخادم، فذهبت لأقوم، قال: فالشيخ لا يصيب شيئاً قال: فلك ألفان فلم أزل أقوم ويقعدني حتى انصرفت من عنده بخمسين ألفاً.
مثل يضربه الأعمش
حدثنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، ويزداد بن عبد الله بن يزداد المروزي واللفظ له، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: سئل الأعمش عن حديث فامتنع منه، فلم يزالوا به حتى استخرجوه منه، فلما حدث له ضرب مثلاً، فقال: جاء قفاف، إلى صيرفي بدارهم يزينه إياها، فلما ذهب يزنها وجدها تنقص سبعين، فقال:
عجبت عجيبة من ذئب سوء ... أصاب فريسة من ليث غاب
فقف بكفه سبعين منها ... تنقاها من السود الصلاب
فإن أخدع فقد نخدع وتؤخذ ... عتيق الطير من جو السحاب
تعليق نحوي

قال القاضي أبو الفرج: أسكن في هذا البيت فقد تخدع والعرب إنما تسكن هذا ونحوه في كلامها إذا دخل عليه جازم، ومتى لم يدخل عليه جازم يجزمه ولا ناصب ينصبه فتسكينه إذا وصل بكلام بعده خارج عن الفصيح المعروف في كلام العرب، وينبغي أن يكون هذا مرفوعاً على أصله، ولما لم يمكن هذا الشاعر تحريكه لئلا ينكسر وزن البيت الذي قاله أسكنه، وأقرب ما يعتذر له به أنه عمل على السكوت عليه ونيته الرفع فيه، وقد روى مثل هذا الوجه المستقبح في أبيات روتها العلماء، من ذلك قول الشاعر:
أقول شييهات بما قال عالمٌ ... بهن ومن أشبه أباه فما ظلم
فهذا مما يستحق تحريكه بالفتح بناء لا إعراب، فيقال: ومن أشبه أباه، وما بهذا الشاعر ضرورة إلى ما أتاه لنه لو قال: ومن يشبه أباه فجزم بحرف الشرط إذ هو من باب الجزاء لكان مصيباً محسناً، وقال آخر:
شكونا إليه خراب السواد ... فحرم علينا لحوم البقر
فهذا حمل نفسه على هذا الوجه للضرورة، ولو كان قال: فحرم فينا لكان مصيباً.
وقد ذكر سيبويه في كتابه من هذا الباب طرفاً، وروى بيت امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
فأنكر هذا بعض أصحابه وقيل: إن الرواية الصحيحة فيه فاليوم فاشرب، أو فاليوم أسقي، وروى قول الفرزدق:
وقد بدا هنك من المئرز
قال من أنكر هذا: إنما هو: وقد بدا ذاك، وقد روى عن أبي عمرو أنه قرأ بهذه اللغة في مواضع من القرآن منها " فتوبوا إلى بارئكم " ويأمركم، وأنلزمكموها، فمن الرواة عنه من رواه بالسكون خالصاً وأجاز فيه وفي نظائره مثل هذا، كما قال الشاعر:
سوف أزحلقك غداً أو بعد غد
وروى أن هذا أتى مخففاً لكثرة الحركات فيه، فاحتج بعض أصحابه بأن الحروف التي أسكنها مخصوصة بجواز حذف الحركة بمعنى يخصها دون غيرها، وليس هذا موضع الاشتغال به، وأنكر بعض رواة أبي عمرو هذا، وذكر أنه كان مختلس الحركة فيظن من لا يعلم أنه أسكن، وهذا مذهب سيبويه في تأويل هذه القراءة وأما قول الشاعر في الخبر الذي ذكرناه عن الأعمش: فقد تخدع وتؤخذ، فإن قائله لو ضم تخدع وجزم وتؤخذ لكان قد أتى بوجه معروف من كلام العرب، وقد قرأ جمهور القراء في القرآن ما منزلته في الإعراب منزلته، وذلك أن يرد الفعل الثاني على موضع الفاء الداخلة على الفعل الأول، وذلك قول الله عز وجل: " فأصدق وأكن من الصالحين " فكره من قرأ ذلك مخالفة رسم المصحف إذ لا واو فيه، وله في العربية وجه مفهوم، ومن ذلك قول أبو داؤد الأيادي:
فأبلوني بليتكم لعلي ... أصالحكم فأستدرج نويّا
وكان أبو عمرو يختار أن يقرأ وأكون بإثبات الواو، وكان الأوجه عنده في العربية، وزعم أن الواو حذفت منه في الخط كما حذفت من كلمن، وليس الأمر عندنا على ما ذكر في هذا ففي الكلمتين فرق ظاهر، يقتضي الإثبات حيث أثبتت، والحذف حيث حذفت، وليس هذا موضع ذكره، وسيأتي في موضعه من كتبنا المؤلفة في علوم تنزيل القرآن وتأويله إن شاء الله.

المجلس السادس
خبأت هذا لك
حدثنا الحسين بن محمد بن عفير الأنصاري، قال: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني، قال: حدثنا حاتم بن وردان، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية، فقال لي أبي مخرمة: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله أن يعطينا منها شيئاً، قال: فأتيناه فسمع كلام أبي على الباب قال: فخرج إلينا وفي يده قباء وهو يري أبي محاسنه ويقول: خبأت هذا لك.
التعليق على الحديث
قال القاضي: في هذا الخبر لعله أن يعطينا وهي لغة لبعض العرب، والأسير كلامها، لعله يعطينا بغير أن، وقد ذكرنا هذا الباب فيما مضى من مجالسنا هذه وشرحنا وجهه وأحضرنا صوراً من شواهد الشعر فيه، والقباء ممدود، وجمعه أقبية وهو من ملابس الأعاجم في الأغلب، واشتقاقه من الجمع والضم فقيل له قباء لما فيه من الاجتماع، وإما بجمعه جسم لابسه وضمه إياه عند لبسه ومنه قول سحيم عبد نبي الحسحاس:
فإن تهزئي مني فيا رب ليلةٍ ... تركتك فيها كالقباء المفرج

وقراء أهل المدينة ونحاتهم يعبرون عن المعرب والمبني الذي يسميه قراء العراق ون - اتهم مرفوعاً ومضموماً بأنه مقبوء، فيشيرون بعبارتهم إلى الضم الذي من باب الجمع، وقد شرحنا هذه الجملة شرحاً واسعاً في كتابنا الذي شرحنا فيه مختصر أبي عمر الجرمي في النحو.
وقد تسمي العرب القباء اليملق وتجمعه يلامق، كما قالت هند بن عتبة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
ونلبس اليلامق
وقال ذو الرمة:
تجلو البوارق عن مجرمزٍ لهقٍ ... كأنه متقبي يلمق عزب
وذكر الأصمعي أنه فارسي معرب، وأنه في الأصل على كلام الأعاجم يلمه، كما قالت العرب شبرق وفالوذق، وقالت العجم: شبره وفالوذه، وقال الأصمعي: مثل هذا ف قول العرب استبرق، فإنه في كلام العجم استبره، وقال عدد من أهل العلم منهم أبو عبيدة: إن من زعم في القرآن شيئاً بغير العربية فقد أخطأ وأعظم على الله الفرية، لأن الله تعالى قال: " بلسان عربي مبين " ، وفي القرآن عدد من الكلم نسبه بعض أهل التأويل إلى لغة بعض أمم العجم، وأنكر هذا بعضهم، وذهب إلى اتفاق لغتين فيه أو لغات كثير منهم، وهذا مما بياننا مستقصى فيه في كتابنا المسمى كتاب البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز، وفي كتاب شيخنا أبي جعفر رضي الله عنه، الذي سماه جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
وفي خبر المسور هذا، البيان البين عن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه بألطافه وصلاته، ويشاركهم فيما يسديه الله إليه من رزق ويفيئه عليه من فضله، وأنهم كانوا يسألونه عن حاجتهم، ويرغبون إليه في بذل الرفد لهم، وإضافة الأموال عليهم، لبسطه إياهم وخفض جناحه لهم، ولظهور جوده وسعة خلقه عندهم صلى الله عليه وسلم.

الشعراء على باب عمر بن عبد العزيز
حدثنا محمد بن قاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الجوهري، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، قال: أخبرنا الهيثم بن عدي، عن عوانة بن الحك، قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، الرحيل، إذ مر بهم رجاء بن حيوة. وكان من خطباء أهل الشام فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً، ثم مر بهم عدي بن أرطأة، فقال له جرير:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرةً ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
قال: فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين! الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي! ما لي وللشعر، قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح فأعطى، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوت حسنة، فقال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئاً؟ قال: نعم، وأنشد:
رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمراً مدنساً ... وأطفأت بالبرهان ناراً تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمداً ... وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه ... وكان قديماً ركنه قد تهدما
تعالى علواً فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
قال ويحك يا عدي! من بالباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: أليس هو الذي يقول:
ثم نبهتها فهبت كعاباً ... طفلة ما تبين رجع الكلامِ
ساعة ثم إنها بعد قالت ... ويلتا قد عجلت يا ابن الكرامِ
أعلى غير موعدٍ جئت تسري ... تتخطى إلي روس النيامِ
ما تجشمت ما يزين من الأم ... رِ ولا جئت طارقاً لخصامِ

فلو كان عدو الله إذ فجر كتم نفسه، لا يدخل علي والله أبداً، فمن بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب، يعني الفرزدق، قال: أوليس هو الذي يقول:
هما دلتاني من ثمانين قامةً ... كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسرُهُ
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي يرجى أم قتيل نحاذره
لا يطأ والله بساطي، فمن سواه بالباب منهم؟ قال: الأخطل، قال: أدي! هو الذي يقول:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولسب بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنساً بكور ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بقائم كالعير يدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي وه وكافر أبداً، فهل بالباب سوى من كرت؟ قال: نعم الأحوص، قال: أليس هو الذي يقول:
الله بيني وبين سيدها ... يفر مني بها وأتبعه
غرب عنه، فما هو بدون من ذكرت، فمن هاهنا أيضاً؟ قال: جميل بن معمر قال: يا عدي هو الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن تمت ... يوافق في موتي ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغبٍ ... إذا قيل قد سوي عليها صفيحها
فلو كان عدو الله تمنى لقائها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحاً، والله لا يدخل علي أبداً، هل سوى من ذكرت أحد؟ قال: جرير بن عطية، قال: أما إنه الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلامِ
فإن كان لا بد فهو، قال فأذن لجرير، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلافة في الإمام العادلِ
وسع الخلائق عدله ووفاؤه ... حتى ارعوى وأقام ميل المائلِ
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجلِ
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقولن إلا حقاً، فأنشأ جرير يقول:
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني ما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملةٍ ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدّك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعة ملهوفٍ كأن به ... خبلاً من الجن أو مساً من النشرِ
خليفة الله ماذا تأمرون بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرقني ... قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا بادٍ على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجةٍ هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمرِ
فقال: يا جرير! ما أرى لك هاهنا حقاً، فقال: بلى يا أمير المؤمنين، أنا ابن سبيل ومنقطع بي، فأعطاه من صلب ماله مائة درهم، وقد ذكر أنه قال له: ويحك يا جرير! لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية، قال: فأخذها وقال: والله لهي أحب مما اكتسبته إلي، قال: ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني لراض، وأنشأ يقول:
رأيت رقي الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وقد كتبنا هذا الخبر من طرق أخرى، والقصص فيها مختلفة في مواضع، على تقارب جملتها ولعلنا نأتي بها فيما يستقبل من مجالس كتابنا هذا إن شاء الله.

المؤنث المعنوي
وفي هذا الخبر موضع ذكر فيه المؤنث، وهو قوله: وأطفأت بالبرهان ناراً تضرما، ويريد تضرمت وفيه قبح في العربية، والوجه الذي يعتل به فيه على ضعفه أنه مما تأنيثه لفظي غير معنوي حقيقي، وقد أتى مثله في الشعر فمنه قول الشاعر:

فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
فذكر فعل الأرض وهي أنثى، ولو قال: أبقلت أبقالها لأنث ولم يذكر، إلا أنه كان تاركاً للهمزة، كما قال الأعشى:
عدي لغيبتي أشهراً ... إني لدى خير المقاول
وقال الأعشى:
وإن تعهديني ولي لمةٌ ... فإن الحوادث أودى بها
قال بعضهم: أراد الحدثان، وقال بعضهم: ذكر إذ لم يكن التأنيث فيه حقيقياً، ولو قال: اودت بها لصح الإعراب واستقام الوزن، إلا أنه يكون قد أتى ببيت غير مردف في كلمة جميع أبياتها مردفة، وهذا عيب عند أهل العلم بصناعة القوافي، وقد تأول قوم من أهل العلم بالعربية قراءة من قرأ " كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً " بفتح الطاء على الجمع، أنه بمنزلة قول أبي ذؤيب:
لو أن مدحة حي منشر أحدا ... أحيا أباك لنا طول التماديحِ
ومثله:
إذ هي أحوى من الربعي، حاجبهُ ... والعين بالإثمد الحاري مكحول
والصواب عندنا من القول في وجه قراءة من قرأ قطعاً بالتحريك أن نصبه مظلماً على الحال والمعنى من الليل في حال إظلامه أي شدة ظلمته، والكوفيون من النحويين يقولون: هو منصوب على قطع النكرة من المعرفة، والمعنى من الليل المظلم، وفيه موضعان شذ لفظهما عن الوجه الأصح الأعرف في مقاييس العربية في الإعراب والبناء، أحدهما قول جميل:
وأن أمت يوافق في الموتى
برفع يوافق وكان سبيله بجزمه على ما تقتضيه العربية في باب الشرط والجزاء، وقد أتى مثله مما رد إلى أصله في الرفع ولم ينقل بالجزاء إلى الجزم في أبيات من الشعر منها:
يا أقرع بن حابسٍ يا أقرعُ
إنك إن يصرع أخوك تُصرعُ
وقد حمل قوم هذا على التقديم والتأخير، كأنه قال: إنك تصرع إن يصرع أخوك، ومثل هذا في بيت جميل أن يجري على أن معناه: ويوافق في الموتى وضريحي ضريحها إن أمت،وذهب آخرون في هذا إلى إرادة الفاء كأنه أراد فتصرع ويوافق.

اقطع عني لسانه
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: أتى شاعر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: " يا بلال اقطع عني لسانه " ، قال: فأعطاه أربعين درهماً وحلة، فذهب وهو يقول: قطعت والله لساني.
أعطيك بما مدحت الله
حدثنا يزداد، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: وحدثني الحزامي، عن عبد الله بن وهب المصري، قال حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: بلغنا أن أبا بكر الصديق رضوان الله عليه أتى بشاعر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في المسجد، فقال: ينشد يا رسول الله؟ قال: لا خير في الشعر، فقال: بلى يا رسول الله، فقال: فاخرجوا بنا إلى المقاعد، فأنشده مدحة لله ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطيه يا بلال الناقة السوداء " ، ثم قال: " أعطيكها لما مدحت الله فأما مدحتي فلا أعطيك شيئاً " .
إلى أي شيء أفضي بهم الزهد
حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال: أخبرنا أبي، عن أبي أحمد بن أبي الجوار، قال: سمعت مضاء العابد يقول لسباع العابد: يا أبا محمد! إلى أي شيء أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنْس به.
من الشعر الحكيم
أنشدنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أنشدنا أبو حاتم، قال: أنشدنا أبو عبيدة، قال: كان الشعبي ينشد:
أرى أناساً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدونِ
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدينِ
المجلس السابع
الروح والفرج في الرضا واليقين

حدثنا الحسن بن محمد بن شعبة الأنصاري، حدثنا علي بن محمد السدي، قال: حدثنا أبي: محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: حدثني عمرو بن قيس الملائي، عن عطية عن سعد العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كره كاره، إن الله بحكمته وجلالته جعل الروح والفرج في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط " .

التعليق على الحديث
قال القاضي أبو الفرج: في هذا الخبر تنبيه لذوي التمييز وحسن التفكر، والتحذير من إرضاء المخلوق الموسوم بالنقص والفقر، على الخالق المالك للنفع والضر، فقد قال الله عز وجل: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم " .
وقال تعالى جده: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هون مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، وهذا ظاهر في عقول ذوي الفطن السليمة، كثير في الكتاب والسنة، يطول إحصاؤه ويتعب استقصاؤه، وقد أكثر الشعراء والبلغاء في ذكر هذا المعنى وأسهبوا، وجمعه شاق جداً على متعاطيه، والقدر الذي أتينا به كاف فيه. وقد حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن جعفر بن سهل الختلي، قال: أخبرنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، قال: أخبرني رجل، قال: أنشدني صديق لي:
لعمرك ما كل التعطل ضائراً ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم لذة الدعه
إذا ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى ... ألا كل ضيق في عواقبه سعه
ولي في هذا المعنى أبيات قلتها قديماً، هي:
مالك العالمين ضامن رزقي ... فلماذا أملك الخلق رقي
قد قضى لي بما علي وماليخالقي جل ذكره قبل خلقي
صاحب البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حسن رفقي
وكما لا يرد رزقي عجزي ... فكذا لا يجر رزقي حذقي
ما حجازية وتميمية
قوله في الأبيات التي قدمنا إنشادها: ما كان التعطل ضائراً، أنشدناه نصباً على لغة أهل الحجاز، وهم يشبهونها بليس ما كانت على اصل ترتيبها، وأكثر ما تأتي بإدخال الباء عليها، كقولك: ما زيد بقائم، وبهذه اللغة جاء القرآن، قال الله تعالى: " ما هذا بشراً " وجلي أن من لم ينظر في المصحف من بني تميم يقرأونها بشر على لغتهم، ذكر هذا سيبويه وغيره، وروى عن بعض القراء " ما هذا بشري " أي ما هو بمشتري، قال الله عز وجل: " ما هن أمهاتهم " فنصب جمهور القراء على اللغة الحجازية إلا أن التاء كسرت إذ ليست أصلية، وروى المفضل عن عاصم " ما هن أمهاتهم " على اللغة التميمية، ومنها قول الشاعر:
ويزعم حسلٌ أه فرع قومه ... وما أنتفرع يا حسيل ولا أصل
وأنشد الفراء:
لشتان ما ينوي وينوي بنو أبي ... جميعاً فما هذان مستويان
تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى ... وكل امرئٍ والموت يلتقيان
وقال ذو الرمة:
أما نحن رؤو دارها بعد هذه ... بدا الدهر إلا أن نمر بها سفرا
ابن أبي عيينة يعزل والي البصرة
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال:حدثني أبي، قال: حدثنا أبو عكرمة عامر بن عمران بن زياد، قال: كان إسماعيل بن جعفر بن سليمان والي البصرة، فأساء مجاورة محمد بن أبي عيينة فتباعد ما بينهما وقبح، وكان إسماعيل ينتقصه، فخرج محمد بن أبي عيينة إلى طاهر ابن الحسين يشكو إسماعيل بن جعفر ويطلب عزله عن البصرة، فصحب طاهر بن الحسين في بعض أسفاره فأدخل عليه ورفع حوائجه إليه وقال:
من أوحشته البلاد لم يقم ... فيها، ومن آنسته لم يَرِمِ
ومن يبت والهموم قادحةٌ ... في صدره بالسهاد لم ينمِ
ومن يرى النقص في مواطنه ... يزل عن النقص موطئ القدم
والقرب ممن ينأى بحاجته ... صدع على الشعب غير ملتئم

ورب أمر يعيا اللبيب به ... يحار منه في حيرة الظُّلُم
صبرٌ عليه كظم على مضضٍ ... وتركه من مراتع الندمِ
يا ذا اليمينين لم أزرك ولم ... آتك من خلةٍ ولا عدمِ
إني من الله في مراح غنىً ... ومغتدىً واسعٌ وفي نعمِ
زارتك منى همة منازعةٌ ... إلى العلا من مراتب الهممِ
وإنني للكبير محتملٌ ... في القدر من منصبي ومن شيمي
وقد تعلقت منك بالذمم ال ... كبرى التي لا تخيب في الذمم
فإن أنل همتي فأنت لها ... في الحق حق الإخاء والرحم
وإن يعق عائقٌ فلست على ... جميلِ رأي عندي بمتهمِ
في قدر الله ما أحمله ... تعويق أمري واللوح والقلمِ
لم تضق السبل والفجاج على ... حر كريم بالصب معتصم
ماضٍ كحد السنان في طرف ال ... عامل أوحد مصلت خذمِ
إذا ابتلاه الزمان كشفه ... عن ثوب حريه وعن كرم
ما ساء ظني إلا لواحدة ... في الصدر محصورة عن الكلمِ
ليهن قوم جزت المدى بهم ... ولم تقصر بهم ولم تلمِ
ما تنبت الأرض كل زهرتها ... ولا تعم السماء بالديم
وليست كل الدلاء راجعةً ... بالنصف أو ملئها إلى الوذم
ترجع بالحمأة القليلة أحياناً ... ورنق الصبابة الأمم
ما بي نقص عن كل منزلةٍ ... شريفةٍ والأمور بالقسمِ
فأجابه طاهر بن الحسين:
من تستضفه الهموم لم ينم ... غلا كنوم المريض ذي السقم
ولا يزل قلبه يكابد ما ... يولد الهم فيه من ألم
فدع أبا جعفر بعتب ما ... ليس التجني عنه بمنصرم
وقد سمعت الذي هتفت به ... وما بأذني عنك من صمم
وقد علمنا أن ليس تصحبنا ... لخلةٍ فيك لا ولا عدم
إلا لحق وحرمة وعلى ... مثلك رعى الحقوق والذمم
أنت امرؤ ما تزال عن كرم ... إلا إلى مثله من الكرم
وأنت من أسرة جحاجحة ... سادوا بحسن الفعال والشيم
فما ترم من جسيم منزلة ... فالحكم فيها إليك فاحتكم
إن كنت مستسقياً سماحتنا ... منا تجدك السماء بالديم
أو ترمِ في بحرنا بلدوك لا ... نعدمك ملأها إلى الوذم
إنا أناس لنا صنائعنا ... في العرب معروفة وفي العجم
مغتنمو كسب كل محمدة ... والكسب للحمد خير مغتنم
فاحتكم عليه عزل إسماعيل بن جعفر عن البصرة، فعزله عنها، وأمر لابن أبي عيينة بمائة ألف درهم عوناً له على سفره، وقال ابن أبي عيينة في عزل إسماعيل:
لا تعدم العزل يا أبا حسن ... ولا هزالاً في دولة السمن
ولا انتقالاً من دار عافية ... إلا إلى ديار البلاء والفتن
أنا الذي إذا كفرت نعمته ... أذبت ما في جنبيك من عكن

تعليق لغوي
حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثني أبي: قال: أخبرني الطوسي، عن أبي عبيد، قال: السيوز التي بين آذان الدلو والعراقي هي الوذم، يقال فيها: أوذمت الدلو إذا شددتها، والخشبتان اللتان تعترضان على الدلو كالصليب هما العرقوتان يقال: عرقيت الدلو عرقاة إذا شددتهما عليه.
نجابة الفتح بن خاقان
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: أخبرنا محمد بن القاسم، قال: دخل المعتصم يوماً إلى خاقان غرطوج يعوده، فرأى ابنه الفتح وهو صبي لم يثغر، فمازحه فقال: أيهما أحسن داري أو داركم؟ فقال له الفتح: يا سيدي دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم: لا أبرح والله أو ينثر عليه مائة ألف درهم، ففعل ذلك.
رضا المتجني

سمعت عبد الرحمن بن عثمان الشهوري، يقول: سمعت ابن اتيكين صاحب الشرطة ببغداد، يقول: سمعت ابن المثنى يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: سمعت المعافى بن عمران يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: رضا المتجني غاية لا تدرك.
حدثنا أحمد بن كامل قال: سمعت ناشب المتوكلية تغني لإبراهيم ابن المهدي:أ
أنت امرؤ متجن ... وليس بالغضبان
هبني أسأتُ فألاً ... مننت بالغفرانِ
ونحو هذا تما أنشدناه عن إسحاق الموصلي:
فهبني أغفلت الجميل من الأم ... ر وساعدتُ أهل الغدر فيك على الغدرِ
ولم يك لي عذرٌ فتعذرني به ... أما لي نصيب في التجاوز والغفر؟
ونحوه بعض المحدثين يقول:
هبيني يا معذبتي أسأتُ ... وبالهجران قبلكم بدأتُ
فأين الفضل منك فدتكِ نفسي ... علي إذا أسأت كما أسأتُ

شعر الشاعر بمنزلة ولده
حدثنا أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي جحظة، قال: حدثني خالد الكاتب، قال: قال لي علي بن الجهم: هب لي بيتك:
ليت ما أصبح من ... رقة خديك بقلبك
قال: فقلت له: هل رأيت أحداً يهب ولده؟
عدو همة ابن أبي داؤد
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو مالك حريز بن أحمد بن أبي داؤد، قال: قال الواثق يوماً لأبي تضجراً بكثرة حوائجه:
يا أحمد! قد اختلت بيوت الأموال بطلباتك للائذين بك والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين! نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجلها مكتوبة لك، ومالي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بحلو المدح فيك، فقال: يا أبا عبد الله! والله لا منعناك ما يزيد في عشقك، ويقوي من همتك فينا ولنا.
الخليفة المنصور يخلع ثيابه على شاعر
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الحسن بن خضر، عن أبيه، قال: دخل رجل على المنصور فقال:
أقول له حين واجهته: ... عليك السلام أبا جعفرِ
قال المنصور: وعليك السلام. فقال:
فأنت المهذب من هاشمٍ ... وفي الفرع منها الذي يذكرُ
فقال المنصور: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
فهذه ثيابي وقد أُخلقت ... وقد عضني زمن منكرُ
فألقى إليه المنصور ثيابه، وقال: هذه بدلها.
المجلس الثامن
حديث خرافة
حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري، قال: حدثنا أبو الأزهر، قال: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا أبو عقيل، قال: حدثنا مجالد بن سعيد،عن عامر، عن مسروق، أن عائشة رضي الله عنها، قالت: حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة نساءه حديثاً، فقالت إحداهن: يا رسول الله! هذا حديث خرافة، قال: " أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلاً من عُذرة، أسرته الجن فمكث فيهم دهراً ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة " .
رواية أخرى للحديث
حدثنا عبد الغافر بن سلامة بن أحمد بن أزهر الحضرمي الحمصي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عرعرة، قال: حدثنا عاصم بن علي، وحدثنا محمد بن عمر بن حفص الدربندي، قال: حدثنا عثمان بن معاوية البصري، عن عبد الله بن عثمان صاحب شعبة، عن ثابت، عن أنس، قال: اجتمع على النبي صلى الله عليه وسلم نساءه يوماً فجعل يقول الكلمة كما يقول الرجل عند أهله، قال: فقالت إحداهن: كأن هذا حديث خرافة، فقال: تدرين ما حديث خراف؟ وذكر الحديث.
التعليق على الخبر

قال القاضي: عوام الناس يرون أن قول القائل: هذه خرافة، إنما معناه أنها حديث لا حقيقة له، وأنه مما يجري في السمر للتأنس به، وينتظم من الأعاجيب وطرف الأخبار ما يرتاح إليه ويتمتع أهل الأندية بالإضافة فيه، ويقطعون أوقات ندامهم بتداوله، وأنه أو معظمه لا أصل له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم اصدق في كل ما يخبر عنه وأعلم بحقيقة الأمر فيه، وأولى من رجع إلى قوله وأخذ به، والغي ما خالفه، فأما ما وصفنا من مذهب العامة فيه، فإن الحديث مضاف إلى الجنس الذي هو جزء منه، وبعض من جملته ومميز له من كل حديث ليس بحديث خرافة، كقولهم هذا ثوب خز وخاتم فضة وباب حديد، واشتقاقه على هذا القول من قولهم: اخترف فلان من بستانه هذه الثمرة، وقولهم: هذه خرفة فلان، يشار به إلى شيء من الفاكهة، ومنه سمي الربيع الأول من السنة خريفاً لأن جل الفواكه تخترف فيه، وجاء في الخبر: أن عائد المريض في مخرفة الجنة إشارة إلى ما يرجى له من النعيم وثواب الملك الكريم. فقال أصحاب هذا المذهب: إن المجتمعين على هذه الأحاديث المعجبة الملذة المطرفة بمنزلة المجتمعين على ما يخترف من الفاكهة التي ينالون من قبلها المتعة السارة لهم الفائضة عليهم، ويتوهم هؤلاء أن مختلف الباطل ومفتعل الكذب بمنزلة من أتى شيئاً أو اخترفه في أنه قد ظفر بما يلهيه ويمتعه، وإن كان على ما وصفا في أصله، ويقولون لما لا يحققون صحته من الأخبار: هذه خرافة، وهذا حديث خرافة، وقال بعض مجان الشعراء عجز بيت له حكايته:
حديث خرافة يا أم عمرو
وقال رضي الله عنه منهم في آخر بيت قاله:
قالت ودعني من أحاديث خرفةٍ
وقال أبو العتاهية:
إذا أخلوا فأنت حديثي ... وذلك كالحديث من الخرافة
وأرى أن قولهم للإنسان إذا أفند وتغير وأهتر وهجر: قد خرف، من هذا الباب وأنه قيل له ذلك: إما لأنه يتعلق بما تخيله له وساوسه فيظهر من لفظه ما ينبئ عن اختلاله ويعجب سامعوه منه بضحك من خروجه عن الاعتدال والصحة، ويأتي بألفاظ خارجة عن سنن الحكمة، وإما لأن سامعيه يطربون تعجباً بما يبديه ويستخرجون منه ما ينشطون ويرتاحون عنده، فكأنهم يجتنون ثمرة أو يخترفون فاكهة، ومن ها هنا قيل: فكهت من كذا أي عجبت، كما قال الشاعر:
ولقد فكهت من الذين تقاتلوا ... ويم الخميس بلا سلاح ظاهرِ
ومن هذا الأصل قيل للمزاح: فكاهة، لما فيه من مسرة أهله والاستمتاع به، قال الشاعر:
حزق إذا ما القوم أبدوا فكاهةً ... تفكراً آإياه يعنون أم قردا
وقال بعض أهل العلم: الغيبة فاكهة القراء.
وقال الفضيل بن عياض أنه قال: لكل شيء ديباج، وديباج القراء ترك الغيبة.
ومن كلام العرب السائر: لا تمازح صبياً ولا تفاكهن أمة، يريد: ولا تمازحن، وخالف بين اللفظين مع اتفاق المعنى لأنه أحسن كما قال الشاعر:
وقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذابً ومينا
والمين: الكذب، وقال آخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هندُ ... وهند التي من دونها الناي والبعدُ
ومن الخريف والاختراف على ما قدمنا ذكره: لفلان موضع كذا خرفة، أي مقام في الخريف، ويقال: زمان صائف وشات ورابع وقائظ، من الصيف والشتاء والربيع والقيظ، ولم يقولوا مثل هذا في الخريف، ويقال في النسب: خرفي وربعي، كما قال:
إن بني صبيةٌ صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون
ومنه الربع في الماشية، قال الشاعر:
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خرفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جلق بيعا
في قبابٍ وسط دسكرةٍ ... حولها الزيتون قد ينعا

ويروى: خرفة على ما فسرنا، ويروى: خلفة من الاختلاف إلى المكان، وقول الله جل ذكره: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " ، وقد اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه أن ما فات في أحدهما قضى في الآخر، كالصلاة تفوت ليلاً فتقضي نهاراً وتفوت نهاراً فتقضي ليلاً، وقال آخرون: المعنى أنه جعلهما مختلفين في ألوانهما هذا أسود وهذا أبيض، وقال آخرون: إن كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا،وقيل:إنه لو لم يجعل كذلك لالتبس على الناس أمر دينهم في أوقات صومهم وصتهم، وقيل:إن الخلفة مصدر ولذلك وجدت، وهي خبر عن الليل والنهار، وقول زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفةً ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثمِ
يعني تذهب منها طائفة وتحدث مكانها أخرى، وجائز أن يكون أراد الألوان والهيئات، وجائز أن يكون أراد أنها تذهب كذا وتجيء كذا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان من أفكه الناس، بمعنى أنه كان يمزح، وقد روى عنه عليه السلام، أنه قال: " إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً " .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله عز وجل لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه " .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن احمد بن عيسى أبو بكر البزاز العسكري، قال: حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا يزيد بن أبي الزرقاء، عن أبي لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس.
وحدثنا محمد بن حمدان بن بغداد الصيدناني، قال: حدثني يوسف ابن الضحاك، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مزّاحاً،وكان يقول: " إن الله عز وجل لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه " .
قال القاضي أبو الفرج: إنما ذكرنا ما ذكرناه من باب المزاح ها هنا بحسب ما اقتضاه ما تقدم من كلامنا لاتصاله ومناسبته إياه، ولذكر ما جاء في المزاح من الاستحسان والرخصة والنهي والكراهية موضع غير هذا.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير القاضي، قال: أخبرني أبي عبد الله بن نصر بن بجير، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن عباد بن موسى قال: أخبرني أبو بكر الهذلي، قال: قال لي الشعبي: ألا أحدثك حديثاً تحفظه في مجلس واحد إن كنت حافظاً كما حفظته أنا، لما أُتي بي الحجاج وأنا مقيد وخرج إلي يزيد بن أبي مسلم، فقال: إنا لله وما بين دفتيك من العلم يا شعبي، وليس بيوم شفاعة، إذا دخلت على الأمير فبؤ له بالشرك والنفاق على نفسك فبالحري أن تنجو. فلما كنت قريباً من الإيوان خرج محمد بن الحجاج، فقال: إنا لله وما بين دفتيك من العلم يا شعبي، وليس بيوم شفاعة، إذا دخلت على الأمير فبؤ له بالشرك والنفاق فبالحري أن تنجو، فملا قمت بين يديه قال: هي يا شعبي، أكرمتك وأدنيتك وقربت مجلسك ثم خرجت علينا؟ قلت: أصلح الله الأمير، أحزن بنا المنزل وأجدب الجناب وضاق المسلك، واكتحلنا السهر، واستحلسنا الخوف، ووقعنا في

خزية لم نكن بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، قال: صدق والله، ما بروا حين خرجوا ولا قووا حين فجروا، أطلقوا عنه. ثم قال: تعهدني وكن مني قريباً، فأرسل إلي يوماً نصف النهار وليس عنده أحد، فقال: ما تقول في أم وجد وأخت؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: من؟ قلت: علي وابن مسعود وابن عباس وعثمان وزيد بن ثابت، قال: فما بال علي؟ قلت: جعلها ستة فأعطى الأخت النصف ثلاثة، وأعطى الأم الثلث سهمين، وأعطى الجد السدس سهماً، قال: فما قال ابن مسعود؟ قلت: جعلها أيضاً ستة، وكان لا يفضل أماً على جد، فأعطى الأخت النصف ثلاثة، وأعطى الأم ثلث ما بقي، وأعطى الأم الثلث وأعطى الأخت الثلث وأعطى الجد الثلث وأعطى الجد الثلثين، قال: فما قال: قال عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثاً فأعطى الأم الثلث وأعطى الأخت الثلث وأعطى الجد الثلث، قال: فما قال زيد؟ قلت: جعلها من تسعة فأعطى الأم الثلاثة وأعطى الأخت سهمين وأعطى الجد أربعة، جعلها منها بمنزلة الأخ، قال: يا غلام أمضها على ما قال أمير المؤمنين عثمان، قال: إذ دخل الحاجب فقال: إن بالباب رسلاً، قال: أدخلهم، فدخلوا وسيوفهم على عواتقهم وعمائمهم في أوساطهم وكتبهم بأيمانهم، قال: ائذن، فدخل رجل من بني سليم يقال له سيابة بن عاصم، قال: من أين؟ قال: من الشام، قال: كيف أمير المؤمنين؟ كيف هو في بدنه.
كيف هو في حاشيته، كيف كيف؟ قال: خير، قال: كان وراءك من غيث؟ قال: نعم أصابتني فيما بيني وبين أمير المؤمنين ثلاث سحائب، قال: فانعت كيف لي كيف كان وقع المطر وكيف كان أثره وتباشيره؟ قال: أصابتني سحابة بحوران فوقع قطر صغار وقطر كبار، فكان الصغار لحمة الكبار، ووقع سبطاً متداركاً وهو السح الذي سمعت به، فواد سائل وواد نازح، وأرض مقبلة وأرض مدبرة، وأصابتني سحابة بسوان فأندت الدياث وأسالت الغرار وأدحضت التلاع وصدعت عن الكمأة أماكنها، وأصابتني سحابة بالقريتين، فأفاءت الأرض بعد الري، ، وامتلأت الإخاذ وأفعمت الأودية، وجئتك في مثل مجر الضبع، قال: ائذن، فدخل رجل من بني أسد، قال: هل كان وراءك غيث؟ قال: لا، كثرت الأعصار واغبرت البلاد وأكل ما أشرف من الجنبة، واستيقنا أنه عام سنة، قال: بئس المخبر أنت، قال: أخبرتك بما كان، قال: ائذن، قال: فدخل رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، قال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: سمعت الرواد يدعون إلى ريادتها، وسمعت قائلاً يقول: هل أظعنكم إلى محطة تطفأ فيها النيران وتشكى فيها النساء، وتتنافس فيها المعزى، قال: فوالله ما درى الحجاج ما أراد. قال: ويحك إنما تحدث أهل الشام فأفهمهم، قال: أما تطفأ النيران فأخصب الناس فلا توقد نار يختبز بها، فكان السمن والزبد واللبن، وأما تشكي النساء فإن المرأة تظل تريق بهمها وتمحض لبنها فتبيت ولها أنين من عضديها كأنهما ليسا منها، وأما تنافس المعزى فإنها ترى من أنواع الشجر وألوان الثمار ونور النبات ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها، فتبيت وقد امتلأت كروشها، لها من الكظة جرة، وتبقى الجرة حتى يستنزل بها الدرة، قال: ائذن فدخل رجل من الحمراء من الموالي، وكان من أشد أهل زمانه، قال: من أين؟ قال: من خراسان، قال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم، ولكن لا أحسن أن أقول كما قال هؤلاء، قال: فما تحسن أنت؟ قال: أصابتني سحابة بحلوان فلم أزل أطأ في أثرها حتى دخلت على الأمير، قال: إن كنت أقصرهم في المطر قصة، إنك لأطولهم بالسيف خطوة

عود إلى خبر الشعبي مع الحجاج
وحدثني أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو عبد الله الصوفي، قال: حدثنا سليمان بن عمر الأقطع الرقي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا عباد بن موسى رجل من أهل واسط عن أبي بكر الهذلي، عن الشعبي، قال: أتى بي الحجاج موثقاً فلما انتهينا إلى باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون يا شعبي لما بين دفتيك من العلم، وذكر الحديث.
وروى لنا خبر الحجاج مع الشعبي على نحو ما أتينا به في هذا الجزء من غير طريق ، وبعض رواياته يختلف ألفاظها ويزيد بعضها على بعض، وأنا أذكر ها هنا طريقاً حضرني وقرب مني.

حدثنا محمد بن جعفر بن سليمان النهرواني، وحمزة بن الحسين بن عمر أبو عيسى السمسار، قالا: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا يوسف بن بهلول التميمي، قال: حدثنا جابر بن نوح الحماني، قال: حدثني مجالد، عن الشعبي، قال: لما قدم الحجاج الكوفة قال لابن أبي مسلم: اعرض على العرفاء، فعرضهم عليه فرأى فيهم وحشاً من وحش الناس، قال: ويحك: هؤلاء خلفاء الغزاة في عيالهم؟ قال: نعم، قال: اطرحهم واغد علي بالقبائل، فغدا عليه بالقبائل على راياتها، فجعلوا يعرضون عليه فإذا وقعت عينه على رجل دعاه، فدعا بالشعبيين فمرت به السن الأولى فلم يدع منهم أحداً، ومرت به السن الثانية فدعاني، فقال: من أنت؟ فأخبرته؟ فقال: اجلس، فجلست، فقال: قرأت؟ قلت: نعم، قال: رويت الشعر؟ قلت: قد نظرت في معانيه، قال: نظرت في الحساب؟ قلت: نعم، فقال: لابن أبي مسلم: إنا لنحتاج إليه في بعض الدواوين، قال: رويت مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم قال: حدثني بحديث بدر، قال: فابتدأت له من رؤيا عاتكة حتى أذن المؤذن للظهر، ثم دخل وقال: لا تبرح، فخرج فصلى الظهر وأتممتها له، فجعلني عريفاً على الشعبيين ومنكباً على جميع همدان وفرض لي في الشرف، فلم أزل عنده بأحسن منزلة حتى كان عبد الرحمن بن الأشعث، فأتاني قراء أهل الكوفة فقالوا: يا أبا عمرو! إنك زعيم القراء، فلم يزالوا لي حتى خرجت معهم فقمت بين الصفين أذكر الحجاج وأعيبه بأشياء قد علمتها، قال: فبلغني أنه قال: ألا تعجبون من هذا الشعبي الذي جاءني وليس في الشرف من قومه، فألحقته بالشرف، وجعلته عريفاً على الشعبيين ومنكباً على همدان، ثم خرج مع عبد الرحمن يحرض علي، أما إنه لئن أمكن الله منه لأجعلن الدنيا أضيف عليه من مسك جمل، قال: فما لبثنا أن هزمنا فجئت إلى بيتي فدخلته وأغلقت علي بابي، فمكثت تسعى أشهر الدنيا علي أضيق من مسك جمل، فندب الناس لخراسان، فقام قتيبة بن مسلم، فقال: أنا لها، فعقد له خراسان وعلى ما غلب عليه منها وأمن له كل خائف، فنادى مناديه: إنه من لحق بعسكر قتيبة فهو آمن، فجاءني شيءٌ لم يجيئني شيء هو أسر منه، فبعث بمولى لي إلى الكناسة، فاشترى لي حماراً وزودني، ثم خرجت فكنت في العسكر، فلم أزل معه حتى أتينا فرغانة، فجلس ذات يوم وقد برق، فنظرت إليه فعرفت ما يريد، فقلت: أيها الأمير! عندي علم ما تريد؟ قال: ومن أنت؟ قال: قلت: أعيذك ألا تسل عن ذاك، قال: أجل، فعرف أني ممن يخفي نفسه، فدعا بكتاب فقال: أكتب نسخة، قلت: لست محتاجاً إلى ذلك، فجعلت أمل عليه وهو ينظر إلي حتى فرغت من كتاب الفتح، قال: فحملني على بغلة وأرسل إلي بسرق من حرير، وكنت عنده في أحسن منزلة، فإني ليلة أتعشى معه إذ أنا برسول من الحجاج بكتاب فيه: إذ نظرت في كتابي هذا فإن صاحب كتابك عامر الشعبي، فإن فاتك قطعت يديك على رجلك وعزلتك، قال: فالتفت إلي فقال: ما عرفتك قبل الساعة فامض حيث شئت من الأرض، فوالله لأحلفن له بكل يمين، قال: قلت: أيها الأمير إن مثلي لا يخفى، قال: فقال: أنت أعلم، قال: فبعثني إليه مع قوم وأوصاهم بي، وقال: إذا نظرتم إلى خضراء واسط فاجعلوا في رجليه قيداً ثم أدخلوا به على الحجاج، قال: فلما دنوت من واسط استقبلني ابن أبي مسلم فقال: يا أبا عمرو! إني لأضن بك على القتل، إذا دخلت على الحجاج فلما رآني قال: لا مرحباً بك ولا أهلاً يا شعبي الخبيث، جئتني ولست في الشرف من قومك ولا عريفاً ولا منكباً، فألحقتك بالشرف وجعلتك عريفاً على الشعبيين ومنكباً على جميع همدان، ثم خرجت مع عبد الرحمن تحرض علي؟ قال: وأنا ساكت لا أجيبه، قال: فقال لي: تكلم، قال: قلت: أصلح الله الأمير، كل ما ذكرت من فضلك فهو على ما ذكرت، وكل ما ذكرت من خروجي مع عبد الرحمن فهو كما ذكرت، ولكنا قد اكتحلنا بعدك بالسهر وتحلسنا الخوف، ولم نكن مع ذلك برره أتقياء ولا فجرة أقوياء، وإن حقنت لي دمي واستقبلت بي التوبة؟ قال: قد حقنت دمك واستقبلت بك التوبة، قال: فقال ابن أبي مسلم: الشعبي كان أعلم مني حيث لم يقبل مني الذي قلت له.

حدثنا محمد بن جعفر، وحمزة بن الحسين، قالا: حدثنا أحمد بن منصور قال: سمعت الأصمعي، يقول: حدثني عثمان الشحام، قال: لما أتى الحجاج بالشعبي عاتبه، فقال له الشعبي: أصلح الله الأمير، أجدب بنا الجناب، وأحزن بنا المنزل، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وأصابتنا خزية لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، قال: لله درك يا شعبي.
قال القاضي: والذي ذكر في هذا الخبر على ما في الرواية التي بدأنا بها ذكر الفريضة التي سأل الحجاج الشعبي عنها فأجابهن وذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيها على خمسة أقوال فهذا على ما ذكره، وهذه فريضة من فرائض الجد معروفة يسميها الفرضيون الخرقاء، وأصول الصحابة فيها مختلفة، فمنهم من ينزل الجد بمنزلة الأب الأدنى فلا يورث الإخوة والأخوات معه، ومنهم من يعطي الأخوات من الأب والأم أو الأب فرائضهن ويورث الجد بعد ما يستحقه، وهذا مذهب علي وعبد الله، إلا أن عبد الله لا يفضل أماً على جد، وقد روى عنه أن هذه المسألة من مربعاته، ومنهم من ينزل الجد مع الأخوات من الأب والأم أو من الأب بمنزلة الأخ في المقاسمة، وبينهم في القدر الذي تنتهي إليه المقاسمة ويفرض للجد فريضة، خلاف ليس هذه موضعه، وروى منع الإخوة والأخوات الميراث مع الجد عن أبي بكر وعائشة وابن عباس وابن الزبير فيعدد كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار والمسلمين، وإلى هذا نذهب، وبيانه مشروح فيما ألفناه من كتبنا في فرائض المواريث.
لو حدثت أحداً لحدثتك
وحدثني أحمد بن كامل، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن القاسم المعروف بأبي العيناء، قال: أتيت عبد الله بن داود الخريبي فقال لي: قد حفظت القرآن، قال: فاقرأ: " واتل عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه " ، قال: فقرأت العشر حتى أنفدته، قال: اذهب فتعلم الفرائض، قال: فلت: قد حفظت الصلب والجد والكبر، قال: فأيما أقرب إليك، ابن أخيك أو عمك؟ قال: قلت: ابن أخي، قال: ولم؟ قال: قلت: لأن ابن أخي من أبي، وعمي من جدي، قال: اذهب الآن فتعلم العربية، قال: قلت: قد علمتها قبل ذين، قال: فلم قال عمر بن الخطاب حين طعن: يا لله للمسلمين، لم فتح تلك اللام وكسر هذه؟ قال: قلت: فتح تلك للدعاء ومسر هذه للاستنصار قال: لو حدثت أحداً لحدثتك.
قال القاضي: قلت لابن كامل أمل هذا الحديث: ما أنصفه لما أوقع به هذه المحنة، وأسرع بما لم ينكره من الإجابة، بمنعهما التمس من الفائدة، فضحك.
قال القاضي: هذا العشر الذي استقرأه الخريبي أبا العيناء يعرف بالصهيبي ويمتحن به من يتعاطى الحفظ من القراء، وله حديث نذكره فيما يأتي من مجالسناً هذه إن شاء الله، وأما اللام في الموضعين من هذين فإن أئمة النحويين من الكوفيين والبصريين رووها مفتوحة في الموضعين، وإذا قيل: يا للقوم، فهو استغاثة تفتح فيه لام المدعو، وإذا قيل: للماء فالكسر لازم لام المدعو له أو إليه، كأنه قال: أدعوكم للماء، وقال الشاعر:
يالَ بكرٍ انشروا لي كليباً ... يالَ بكرٍ أين أين الفرار؟
وقال الأعشى:
يالَ قيس لما لقينا العاما
أي أدعوكم لهذا، وشرح واستقصاء فروعه وعلله يطول، وله موضع غير هذا.

وصية الحجاج بأهل البصرة
حدثنا الحسين بن أحمد الكلبي: قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عائشة: قال: حدثني أبي: قال: أراد الحجاج الخروج من البصرة إلى مكة فخطب الناس، فقال: يا أهل البصرة إني أريد الخروج إلى مكة وقد استخلفت عليكم محمداً ابني وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى في الأنصار أن يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم ألا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف، ألا وإنكم قائلون: لا أحسن الله له الصحابة، إني معجلٌ لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
المجلس التاسع
مؤرق وفضيلة كتمان السر

حدثنا محمد بم مخلد بن حفص العطار، قال: حدثنا حاتم بن أبي الليث الجوهري، قال: حدثنا علي بن مهران الداري، قال: حدثنا أبو زهر عبد الرحمن بن مغربي، قال: حدثنا المفضل بن فضالة، عن بكر بن عبد الله، وثمامة بن عبد الله بن أنس، قالا: حدثنا أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كان فيمن سلف من الأمم رجل يقال له مؤرق وكان متعبداً، فبينما هو قائم في صلاته إذ ذكر النساء فاشتهاهن وانتشر حتى قطع صلاته، فغضب فأخذ قوسه فقطع وترها فعقده بمذاكيره وشده إلى عقبيه، ثم مد رجله فانتزعها، ثم أخذ طمرية ونعليه حتى أتى أرضاً لا أنيس بها ولا وحش، فاتخذ عريشاً ثم قال يصلي، فجعل كلما اصبح انصدعت له الأرض، فخرج خارجة منها ومعه إناء فيه طعام فيأكل حتى يشبع، ثم يدخل وتلتئم عليه الأرض، فإذا أمسى فعل مثل ذلك، ومر ناسٌ منه فأتاه رجلان من القوم فمرا تحت الليل فسألاه عن قصدهما فسمت لهما بيديه، فقال: هذه قصد كما حيث تريدان، فسارا غير بعيد، فقال أحدهما لصاحبه: ما يسكن هذا الرجل ها هنا؟ أرض لا أنيس بها ولا وحش، ولو رجعنا إليه حتى نعلم علمه، فرجعا فقالوا له: يا عبد الله ما يقيمك بهذا المكان، بأرض لا أنيس فيها ولا وحش؟ فقال: امضيا لشأنكما ودعاني، فألحا عليه قال: فإني مخبركما على أن من كتم على منكما أكرمه الله في الدنيا والآخرة، ومن أظهر منكما أهانه الله تعالى في الدنيا والآخرة، قالا: نعم قال: أنزلا فلما أصبحا خرج من الأرض الذي كان يخرج من الطعام ومثلاه معه فأكلوا حتى شبعوا ثم دخل فخرج عليهم شراب فيه إناء مثل الذي كان يخرج في كلي يوم ومثلاه معه، فشربوا حتى رووا ثم دخل فالتأمت الأرض، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: ما يعجلنا؟ هذا طعام وشرابٌ وقد علمنا سمتنا من الأرض، امكث إلى العشاء فمكثا فخرج إليهما في العشاء من الطعام والشراب مثل الذي خرج أول النهار، فقال أحدهما لصاحبه: امكث حتى نصبح، فمكثا فلما أصبحا خرج إليهما مثل ذلك، ثم ركبا فانطلقا، فأما أحدهما فلزم باب الملك حتى كان من خاصته، وأما الآخر فأقبل على تجارته وعمله، وكان ذلك الملك لا يكذب أحدٌ في زمانه من أهل مملكته كذبة تعرف إلا صلبه، فبينما هو ليلة في السمر فحدثوا ما رأوا من العجائب أنشأ ذلك الرجل يحدث، فقال: لأحدثنك أيها لملك بحديث ما سمعت بأعجب منه قط، فحدثه بحديث الرجل الذي رأى من أمره، قال الملك: ما سمعت بكذب قط أعظم من هذا، والله لتأتيني على ما قلت ببينة وإلا صلبتك، فقال: بينتي فلان، فقال: رضاً ائتوني به، فلما أتاه، قال الملك: إن هذا حدثني أنكما مررتما برجل كان من أمره كذا وكذا، قال له الرجل: أيها الملك: أو لست تعلم أن هذا كذب، وهذا مما لا يكون، ولو أني حدثتك بهذا لكان عليك من الحق أن تصلبني، قال: صدقت وبررت، فأدخل الذي كتم في خاصته وسمره وأمر بالآخر فصلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فأما الذي كتم عليه فقد أكرمه الله في الدنيا وهو مكرمه في الآخرة " ثم نظر بكر بن عبد الله المزني إلى ثمامة بن عبد الله بن أنس فقال: يا أبا المثنى: أسمعت جدك أنساً يحدث هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

بدء أمر الخضر عليه السلام

حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا حسين بن علي بن مهران، قال: حدثنا عامر بن فرات، عن أسباط، عن السدي، قال: كان ملك وكان له ابن يقال له الخضر، وإلياس أخوه - أو كما قال - فقال إلياس للملك: إنك قد كبرت وابنك الخضر ليس يدخل في ملكك، فلو زوجته ليكون ولده ملكاً بعدك؟ فقال: يا بني تزوج، فقال: لا أريد، قال: لا بد لك، قال: فزوجني، فزوجه امرأة بكراً، فقال لها الخضر: إنه لا حاجة لي في النساء فإن شئت عبدت الله عز وجل معي فأنت في طعام الملك ونفقته، وإن شئت طلقتك، قالت: بل أعبد الله معك، قال: فلا تظهري سري فإنك إن حفظت سري حفظك الله، وإن أظهرت عليه أهلك أهلكك الله، فكانت معه سنة لم تلد، فدعاها الملك فقال: أنت شابة وابني شاب فأين الولد وأنت من نساء ولد؟ فقالت: إنما الولد بأمر الله تعالى، فدعا الخضر فقال: أين الولد يا بني، فقال: الولد بأمر الله تعالى، فقيل للملك: لعل هذه المرأة عقيم لا تلد، فزوجه امرأة قد ولدت، فقال للخضر: طلق هذه، قال: لا تفرق بيني وبينها فقد اغتبطت بها، فقال: لا بد، فطلقها، ثم زوجه ثيباً، قد ولدت، فقال لها الخضر كما قال للأولى، فقالت: بل أكون معك، فلما كان الحول دعاها فقال: إنك ثيب قد ولدت قبل ابني فأين ولدك، فقالت: هل يكون الولد إلا من بعل؟ وبعلي منشغل بالعبادة ولا حاجة له في النساء فغضب الملك وقال: اطلبوه، فهرب فطلبه ثلاثة فأصابته اثنان منهم فطلب إليهما أن يطلقاه فأبيا، وجاء الثالث فقال: لا تذهبا به فلعله يضربه وهو ولده فأطلقاه، ثم جاءا إلى الملك فأخبره الاثنان أنهما أخذاه وأن الثالث أخذه منهما، فحبس الثالث، ثم فكر الملك فدعا الاثنين فقال: أنتما خوفتما ابني حتى هرب، فذهب فأمر بهما فقتلا، ودعا بالمرأة فقال لها: أنت هربت ابني وأفشيت سره، ولو كتمت عليه لأقام عندي، فقتلها وأطلق المرأة الأولى والرجل، فذهبت فاتخذت عريشاً على باب المدينة وكانت تحتطب وتبيعه وتتقوت بثمنه، فخرج رجل من المدينة فقير الحال فقال: باسم الله، فقالت المرأة: وأنت تعرف الله؟ قال: أنا صاحب الخضر، قالت: وأنا امرأة الخضر، فتزوجها وولدت له، وكانت ماشطة ابنة فرعون، فقال أسباط، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنها بينما هي تمشط ابنة فرعون سقط المشط من يدها، فقالت: سبحان ربي، فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا ربي ورب أبيك، قالت: أخبر أبي؟ قالت: نعم، فأخبرته، فدعا بها، وقال: ارجعي، فأبت فدعا بنقرة من نحاس فاخذ بعض من ولدها فرمى به في النقرة وهي تغلي، ثم قال: ترجعين؟ قالت: لا، فأخذ الولد الآخر حتى ألقى الأولاد أجمعين، ثم قال لها: ترجعين؟ قالت: لا، فأمر بها، قالت: إن لي حاجة، فقال: وما هي؟ قالت: إذا ألقيتني في النقرة تأمر بالنقرة أن تحمل ثم تطفأ في بيتي بباب المدينة وتنحي النقرة وتهدم البيت علينا حتى تكون قبورنا، فقال: نعم إن لك علينا حقاً، قال: ففعل بها ذلك، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مررت ليلة أسري بي فشممت رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا ريح ماشطة ابنة فرعون وولدها "

التعليق على الخبر
قال القاضي: في هذين الخبرين عظة ومعتبر، وتنبيه لمن عقل ومزدجر، وفيما اقتضى فيها ما دعا ذوي النهي إلى الصدق وحفظ الأمانة، وحذر من ركوب الغدر والخيانة، وفي خزن السر وحياطته، وصونه وحراسته ما لا يحيل على الألباء وفور فضيلته، كما لا يذهب عليهم ما في إفشائه وإضاعته، من سقوط القدر، وقبيح الذكر، وما يكسب صاحبه من حطه عن منزلة من يشرف ويعتمد عليه، ويؤتمن ويركن في جلائل الخطوب إليه، والناس في هذين الخلقين المتناقضين معافى مكرم، ومبتلي مذمم، وقد قال بعض من افتخر بالخلق الكريم منها:
وأطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنقِ
وقال بعض من خالف هذه صفته، وسلك خلاف محجته:
ولا أكتمُ الأسرارَ لكن أذيعها ... ولا أدعُ الأسرار تغلِي على قلبي
وما أتى من هاتين الخليقتين المتضادتين من منثور الأخبار ومنظوم الأشعار ما يتعب إحصاؤه، ويمل استقصاؤه، ولعلنا نضمن في مجالس كتابنا هذا منه ما يستفيده الناظر فيه، إذا أتى ما يجره ويقتضيه، إن شاء الله.

وذكرت من النوع الذي تضاد فيه فريقان فيما وصف به كل واحد منهما نفسه، شيئاً أحببت أن أثبته فيما ها هنا، وإن كان بابه أوسع من أن يستوعى، وأكثر من أن يستغرق ويستوفي، وهو ما روى لنا أن منفوسة بنت زيد الفوارس لما أهديت إلى قيس بن عاصم قربت إليه إهداء، فقال لها: أين أكيلي؟ فلم تدر ما يقول لها، فأنشأ يقول:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا بنة ذي البردين والفرس الوردْ
إذا ما صنعتِ الزّاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لستُ أكلهُ وحدِي
أخاً طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف ملامات الأحاديثِ من بعدي
وإني لعبد الضيف ما غير ذلة ... وما في إلا ذاك من شيم العبدِ
فسمعه جار له وكان مبخلاً، فقال:
لبيني وبين المرء قيس بن عاصم ... بما قال بون في الفعال بعيد
وإنا لنجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يغرى بنا فيعود

عقبى الحسنى

حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الحسين بن قتبي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أحكم الأعمى، عن أبي خالد بن محمد ، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، أن رجلاً من بني إسرائيل خرج في بعض حوائجه، وكانت له امرأة فأوصى بها أخاه، وسأله يتعهدها ويقوم بحوائجها وما تريد، فكان يأتيها فيسألها عن بعض حوائجها وما تريد، إلى أن رآها فوقعت في نفسه، فراودها فأبت عليه، فقال لها: والله لئن لم تفعلي لأهلكنك، قالت: لا والله ما أنا بفاعلة ولا أنا متابعتك على ما تريد فعله فافعل ما أنت فاعل، فسكت عنها إلى أن قدم أخوه فتلقاه وسأله وحادثه إلى أن جرى ذكرها، فقال: يا أخي علمت أنها راودتني عن نفسي وفعلت وفعلت؟ فقال: أخوه أي شيء تقول؟ قال: هو والله ما قتل لك، فلما قدم الرجل لم تكن له همة إلا أن حملها ولم يسألها عن شيء تصديقاً لأخيه، فأنزلها ليلاً وضربها بسيفه حتى ظن أنه قتلها ثم مضى، وإن المرأى بقي بها رمق، فقامت تدب إلى أن انتهت إلى أصل دير راهب فسمع أنينها فأشرف عليها من ديره، فلما رآها نزل ودعا غلاماً له أسود فاحتملاها فأدخلاها الدير، فلم يزل الراهب يعالجها حتى برأت، وكان له ابن صغير قد ماتت أمه، فقال الراهب: إن شئت أن تذهبي فاذهبي، وإن شئت أن تقيمي فأقيمي، فقالت: بل أقيم فأخدمك أبداً، فدفع إليها ابنه وكانت تربيه إلى أن وقعت في نفس العبد الأسود فراودها، وقال: والله لئن لم تتابعيني لأهلكنك، قالت: ما أنا بمتابعتك فافعل ما أنت فاعل، فلما كان الليل جاء إلى الصبي وهو نائم بين يديها فذبحه، فلما فعل لك مضى إلى الراهب فقال له: أما علمت ما كان من أمر هذه الخبيثة وما فعلت بابنك؟ وترى هذه فعل بها ما فعل إلا من أمر عظيم قد أتته، قال الراهب: ويحك وما فعلت بابني؟ قال: ذبحته. فجاء الراهب فوجد ابنه متشحطاً في دمه، فقال لها: ما هذا؟ قالت: لا علم لي غير أن غلامك كان من أمره وكان، فقصت عليه القصة، فقال الراهب: قد شككتني في أمرك، ولست أحب مقامك معي، فهذه خمسون ديناراً فخذيها وامضي حيث شئت تكون لك قوة، فأخذتها ومضت حيث انتهت إلى قرية، فإذا رجل قدم ليصلب والناس مجتمعون والوالي، فقالت للوالي - وقد يرفع الرجل على الخشبة - هل لك أن تأخذ مني خمسين ديناراً وتخلي سبيل هذا الرجل؟ قال: هات. فحلت كمها فدفعت إليه الخمسين ديناراً فخلى سبيل الرجل، فقال لها الرجل: ما صنع أحد بأحد ما صنعت لي أنت، ولست بمفارقك، أخدُمك حتى يفرق الموت بيننا. فمضى معها حتى انتهيا إلى ساحل البحر والناس يعبرون في السفن فدخل وأدخلها وكان لها هيئة وجمال، فلما رآها أهل السفينة قالوا: من هذه المرأة منك؟ قال: مملوكة لي، وقد وقعت في نفس رجل منهم لما رآها، فقال له الرجل: أتبيعها؟ قال: إني لأكره بيعها، ولو أردت ذلك ثم علمت للقيتُ منها أذى لأنها تحبني، وقد أخذت على ألا أبيعها أبداً، قال الرجل: بعها وخذ مالك واخرج ولا تعلمها، فباعه إياها بمال كثير فدفعه إليه وأشهد عليه أهل السفينة وهي مع النسا، وقرب إليه قارباً فرجع فيه وهي لا تعلم ومضوا في البحر، فلما علم الذي اشتراها أنه قد تباعد ولا تقدر عليه قام يكلمها ويعلمها أنه قد اشترها، قالت: اتق الله فإني امرأة حرة، قال: دعي هذا عنك فقد مضى صاحبك فلا تقدرين عليه، فلا تزوجي بما لا تنتفعين به، وأقبل أهل السفينة عليها وقالوا: يا عدوة الله! قد اشتراك الرجل ونحن نشهد، قالت: ويحكم! خافوا الله فإني والله امرأة حرة وما ملكني أحد قد، قالوا: قم إليها حتى تفعل بها كذا وكذا، فإنك إذا فعلت ذلك سكنت، فقام إليها فلما خافت على نفسها دعت الله عز وجل عليهم فإذا السفينة قد انقلبت بهم، فلم ينج منهم غيرها على ظهر السفينة، وكان للملك ذلك اليوم عيد على ساحل البحر من الجانب الآخر، وهو واقف وأهل مملكته فلما رأى ذلك بعث من دخل عليهم في السفن فلم يقدر على غيرها، فأخرجت إليه، فساءلها عن أمرها ودعاها إلى التزويج فأبت، وقال: إن لي قصة وليس يجوز لي التزويج، فصيرها في دار فكان إذا ورد عليه الأمر الذي يهوله أتاها فشاورها، فتشير عليه فيرى في مشورتها البركة، إلى أن حضر الملك فجمع أهل مملكته، فقال: كيف كنت لكم؟ قالوا: كالأب الرحيم فجزاك الله

خيراً، فقال: كيف رأيتم أول أمري من آخره قالوا: كنت في آخر أمرك أحزم، قال: فإن جميع ما رأيتم من ذلك كان بمشورة هذه المرأة، وقد رأيت لكم رأياً، قالوا: وما هو أيها الملك؟ قال: أملكها عليكم من بعدي، قالوا: فرأيك، فملكها عليهم ومات الملك، وإنها أمرت بحشر الناس إليها ليبايعوها، فحشر الناس وجلست تنظر، فمر بها زوجها وأخوه، فقالت: اعزلوا هذين ثم مر بها المصلوب الذي باعها، فقالت: اعزلوا هذا، ثم مر بها الراهب وغلامه، فقالت: اعزلوا هذين، ثم صرفت الناس ودعت بهم فقالت لزوجها: تعرفني؟ قال: لا والله، إلا أني أعلم أنك الملكة، قالت: أنا فلانة امرأتك، وإن أخاك فعل بي وفعل وخبرته الخبر، وإن الله تعالى يعلم أنه لم يصل إلي رجل منذ فارقتك، ثم دعت بأخيه فقتل، ثم دعت بالراهب فأجازته، وقالت: ارفع غلي ما كانت لك من حاجة، وحدثته بقصة الغلام وما صنع بابنه، ثم أمرت بالغلام فقُتل، ثم دعت بالمصلوب وأمرت به أن يقتل ويصلب، ففعل ذلك بهن ومكثت في ملكها ما أراد الله أن تمكث ثم ماتت.، فقال: كيف رأيتم أول أمري من آخره قالوا: كنت في آخر أمرك أحزم، قال: فإن جميع ما رأيتم من ذلك كان بمشورة هذه المرأة، وقد رأيت لكم رأياً، قالوا: وما هو أيها الملك؟ قال: أملكها عليكم من بعدي، قالوا: فرأيك، فملكها عليهم ومات الملك، وإنها أمرت بحشر الناس إليها ليبايعوها، فحشر الناس وجلست تنظر، فمر بها زوجها وأخوه، فقالت: اعزلوا هذين ثم مر بها المصلوب الذي باعها، فقالت: اعزلوا هذا، ثم مر بها الراهب وغلامه، فقالت: اعزلوا هذين، ثم صرفت الناس ودعت بهم فقالت لزوجها: تعرفني؟ قال: لا والله، إلا أني أعلم أنك الملكة، قالت: أنا فلانة امرأتك، وإن أخاك فعل بي وفعل وخبرته الخبر، وإن الله تعالى يعلم أنه لم يصل إلي رجل منذ فارقتك، ثم دعت بأخيه فقتل، ثم دعت بالراهب فأجازته، وقالت: ارفع غلي ما كانت لك من حاجة، وحدثته بقصة الغلام وما صنع بابنه، ثم أمرت بالغلام فقُتل، ثم دعت بالمصلوب وأمرت به أن يقتل ويصلب، ففعل ذلك بهن ومكثت في ملكها ما أراد الله أن تمكث ثم ماتت.

التعليق على الخبر
قال القاضي: وإن مما تقدمت روايتنا إياه في هذا المجلس من التنبيه ما يبعث الألباء على تأمل عاقبة أعمالهم، وما تؤثره نياتهم ومقاصدهم في أفعالهم، وحسن عقبى الحسنى وسوء مغبة السوءى. نسأل الله عز وجل أن يهب لنا بصيرة مؤدية لنا إلى السلامة والغنيمة في الدنيا والآخرة، فلم ينل أحد خيراً إلا بتوفيقه وإحسانه، ولم يحلل به سوء في دنياه إلا بامتحانه، ولا في دينه إلا بخذلانه.
الوشاية منزلة بين الخيانة والإثم
حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: أخبرني أبو الحسن المدائني، قال: وشى واش بعبد الله بن همام السلولي إلى زياد أنه هجاك فقال زياد: أجمع بينك وبينه؟ قال: نعم، قال: فبعث زياد إلى ابن همام فجيء به فأدخل الرجل بيتاً، ثم قال زياد: يا ابن همام! بلغني أنك هجوتني، قال: كلا أصلحك الله ما فعلت، ولا أنت لذلك بأهل، قال: فإن هذا أخبرني - وأخرج الرجل - فأطرق ابن همام هنيهة، ثم أقبل على الرجل فقال:
وأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت، وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلةٍ بين الخيانة والإثم
فأعجب زياداً جوابه، وأقصى الساعي ولم يقبل منه.
هذا سوار ساقه الله إليك

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: قال أبو العباس محمد بن إسحاق بن أبي العنبس، عن إسحاق بن يحيى بن معاذ، قال: حدثني سوار صاحب رحبة سوار، قال: انصرفت يوماً من دار المهدي، فلما دخلت منزلي عوت بالغداء فجاشت نفسي وأمرت به فرد، ثم دعوت بالنرد ودعوت جارية لي ألاعبها فلم تطب نفسي لذلك، فدخلت للقائلة فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة لي شهباء فأسرجت فركبتها، فلما خرجتُ استقبلني وكيل لي ومعه مال فقتل: ما هذا؟ فقال: ألفا درهم جبيتها من مستغلك الجديد، قلت: أمسكها معك واتبعني، قال: وخليت رأس البغلة حتى عبرت الجسر ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار فطوفت، فلما صرت في شارع باب الأنبار انتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم، فوقفت وقد عطشنا، فقال للخادم، أعندك ما تسقيني؟ قال: نعم، وقام فأخرج قلة نظيفة حيرية طيبة الرائحة عليها منديل، فناولني فشربت، وحضر وقت العصر فدخلت مسجداً على الباب فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي إذ أنا بأعمى يتلمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد، قلت: وما حاجتك؟ فجاء حتى قعد إلي فقال: شممت منك رائحة الطيب فظننت أنك من أهل النعيم، فأردت أن ألقي عليك شيئاً، فقلت: قل، قال: أترى باب هذا القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان وخرجت معه، فزالت عنا النعم التي كنا فيها، فقدمت فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئاً يصلني به وأصير إلى سوار، فإنه كان صديقاً لأبي، قلت: ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان، قال: فإذا أصدق الناس كان لي فقلت له: يا هذا فإن الله عز وجل قد أتاك بسوار ومنعه النوم والطعام حتى جاء به فأقعده بين يديك، ثم دعوت الوكيل وأخذت الدراهم منه ودفعتها إليه، وقتل له: إذا كان غد فصر إلى المنزل، ثم مضيت فقتل: ما أحدث أمير المهدي بشيء هو أطرف من هذا، فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت إليه فحدثته فأعجبه فأمر لي بألفي دينار، فأحضرت، فقال: ادفعها إليه. قال: فنهضت، فقال لي: أعليك دين؟ قلت: نعم، قال كم؟ قلت: خمسون ألف دينار. فأمسك وجعل يحدثني ساعة، ثم قال: امض إلى منزلك، فصرت إلى منزل فإذا خادم معه خمسون ألف دينار فقال: يقول لك أمير المؤمنين اقض بهما دينك. قال: فقبضتها، فلما كان من الغد أبطأ علي المكفوف وجاء رسول المهدي يدعوني فجئته، فقال: فكرت في أمرك وقتل: يقضي دينه ثم يحتاج إلى الحيلة والقرض، وقد أمرتُ لك بخمسين ألف دينار أخرى، قال: فقبضتها وانصرفت فأتاني المكفوف فدفعت إليه الألفي دينار، وقتل قد رزق الله تعالى بكرمه بك خيراً كثيراً، وأعطيته من مالي ألفي دينار.

أبيات في التوديع
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: كنا عنده عشية - يعني أبا العباس أحمد بن يحيى - وذلك في سنة ثلاث وثمانين في شوال، فجاءه أبو الحسن الأسدي يودعه في خروجه إلى مكة، فقال له: لو كنا نحسن صنعنا عند وداعك ما صنع غيرنا، فقال: وما هو؟ قال: قال أبو سعيد عبد الله ابن شبيب: أتيت هشام بن إبراهيم الأنصاري لأودعه في خرجة خرجها إلى المدينة، فقال: لا أودعك حتى أغنيك، فغنى:
وأنا بكيت على الفرا ... ق فهل بكيتَ كما بكيتُ
ولطمتُ خدي خالياً ... ومرسته حتى اشتفيتُ
وعواذلي ينهينني ... عمن هويتُ فما انتهيتُ
قال أبو العباس بعقب هذا شيئاً لم أفهمه إلا أنه تكلم في أنا بكيت أراد أنا بكيت بغير وقوف على الألف. قال: قال أبو سعيد: فجئت إلى الزبير لأودعه فحدثته بحديث هشام، فقال: وأنا لا أودعك حتى أغني:
أزِف البين المبين ... وجلا الشك اليقين
لم أكن لا كنتُ أدري ... أن ذا البين يكونْ
علموني كيف أشتا ... ق إذا خف القطينْ
حنّت العيس فأبكي ... من العيس الحنين
حذف ألف أنا في الوصل
قال القاضي: الكلام المشهور: أنا فعلت بغير ألف في الوصل، فإذا وقف المتكلم قال: أنا، فأثبت الألف، وإثباتها في الوصل لغة قد قرئ بها في مواضع من القرآن، وممن قرأ كذلك نافع فيمن وافقه من أهل المدينة، ومن هذه اللغة، قول الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميداً قد تذريت السناما

نصب حميداً على المدح والافتخار، وقد قرأ بعض المتقدمين " ونحن عصبة " نصباً على هذا النحو من الاختصاص والافتخار.

أبيات لسوار يغني بها
حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بابن الشرابي، قال: حدثنا الحسين بن قصر، قال: حدثنا الجرمي، قال: دخلتُ حماماً في درب الثلج، فإذا فيه سوار بن عبد الله القاضي في البيت الداخل قد استلقى وعليه المئزر، فجلست بقربه فساكتني ساعة ثم قال: قد أحشمتني يا رجل، فإما أن تخرج أو أخرج فقلت: جئت أسألك عن مسألة، فقال: ليس هذا موضع المسائل، فقلت: إنها من مسائل الحمام، فضحك وقال: هاتها، فقلت: من الفتى الذي يقول:
سلبتِ عظامي لحمها فتركتها ... عَواريَ مما نالها تتكسرُ
وأخليتها من مخها فتركتها ... قوارير في أجوافها الريح تصفرُ
إذا سمعتْ ذكرَ الفراق تراعدت ... مفاصلها خوفاً لما تتنظرُ
خذي يدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... بلى جسدي لكنني أتستر
فقال سوار: أنا والله قلتها. قلت: فإنه يغني بها ويجود، فقال: لو شهد عندي الذي يغني بها لجزت شهادته.
قوله: أحشمتني لغة، وحشمتني أكثر في العربية، قال الشاعر:
لعمرك إن قرص أبي خبيب ... بطيء النضج محشوم الأكيلِ
ومن مأثور الحكم
حدثنا محمد بن مزيد الخزاعي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني علي بن محمد المدائني، قال: قال ملك من ملوك الأعاجم لحكيم من حكمائهم: أي الملوك أحزم؟ قال: من ملك جده هزله، وقهر رأيه هواه، وعبر فعله عن ضميره، ولم يخدعه رضاهُ عن خطئه، ولا غضبه عن كيده.
قال القاضي: هذا من أفصح لفظ وأحسنه، وأوضح معنى وأبينه، وأنشدنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: أنشدني أبي لبعض الأعراب:
ألا يا حمام الشعب شعب مؤنسٍ ... سقيت الغوادي من حمام ومن شعب
سقيت الغوادي رب خودٍ خريدة ... أصاخت لخفضٍ من غنائك أو نصبِ
فإن يرتحلْ صحبي بجثمان أعظُمي ... يقم قلبي المحزون في منزل الركبِ
المجلس العاشر
رجل أحب قومه
حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر بن أبي شيبة البزاز، في المحرم سنة سبع عشرة وثلثمائة قال حدثنا ابن حسان، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، قال: قيل: يا رسول الله! رجل أحب قوماً ولما يعمل مثل عملهم، قال: " هو منهم " قال: فما فرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فرحهم بهذا الحديث.
التعليق على الحديث
قال القاضي أبو الفج: أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء عنه في هذا الحديث أن من تولى قوماً وأحبهم، وكان راضياً بما أتوه من أفعالهم فهو منهم، في استحقاقه الثناء والمدح، والتولي لمشاركته إياهم في اعتقاد ما يعتقدونه وفي استحسان ما يستحسنونه، وكذلك الأمر في من تولى قوماً على اعتقاد فاسد وفعل قبيح في أنه ملحق في الذم بهم، وجار في سقوط المنزلة مجراهم.

وجاء في الخبر أن من حضر الفتنة فأنكرها فهو بمنزلة ن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضي بها كان بمنزلة من شهدها، وقد قال الله جل جلاله " يا أيها الذين آمنا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعضٍ، ومن يتولّهُم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين " ، وقال جل اسمه: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض " ، وقال: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " وما أتى به في هذا المعنى من الكتاب والسنة كثير جداً، وقد نعى الله عز وجل على من كان منهم على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم من كفرة أهل الكتاب ما كان من قبل أسلافهم ومن تقادم عهده من آبائهم أنبياءهم، لرضاهم بذلك ودينونتهم به، وتوليهم من تولى دونهم فعله، وإن لم يدركوه ولم يباشروا ما تقدم منه، ولم تزل العرب تفتخر بما أتاه الماضون من آبائهم، وتتمادح وتتعاير به، وينسبونه في ألفاظهم إلى أنفسهم في أشعارهم وخطبهم لهذا المعنى، وهذا مذكور على استقصاء بشواهده في كتابنا المسمى البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز، وإذا كان الأمر في هذا الفصل على ما وصفنا، فتبين أن الراضي بالفعل والمؤتى له والدال عليه مشارك لفاعله فيما بكسبه من حمد أو ذم، أو أجرٍ أو إثم، ولذلك أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين من تولى الحج من غيره وبين من أوصى به، وبين من نفذه في الأجر، وبين آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده في الوزر، وبين العاصر والمعتصر، والبائع والمشتري، والحامل والمحمول إليه والساقي والشارب في اللعنة التي أوقعها في الخمر، وقال صلى الله عليه وسلم: " من كتم على غال فهو مثله " وجاء في الكاتم على السارق سرقته أنه يشركه في عارها وإثمها، وهذا الباب أكثر من أن يحصى، ولم يزل ذوو النهي وأولو البصائر والحجى يبعثون على إتيان المحاسن وفعل المكارم ويحضون عليها، فيحسن الذكر لهم والثناء عليهم، ويتوفر من جميل الأحدوثة عنهم ما يرى كثيراً على من باشر الفعل بنفسه، وبذل في العرف خاصة ماله، ولله در القائل:
وإذا امرؤٌ أهدى إليك صنيعهً ... من جاهه فكأنها من ماله
وقد حدثنا أبو النضر أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن سعيد بن الحارث العقيلي، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن راهويه الكاتب، قال: كتب إلي سهل بن صالح الحلواني أن الحسن بن سهل كتب لرجل شفاعة، فقال الرجل يدعو له ويشكره فقال له الحسن، على ما تشكرنا ونحن نرى كتب الشفاعات زكاةُ مروءاتنا، وأنشد:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد وإن لم تستطع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
هكذا أمل علينا أبو النضر هذا الخبر من حفظه، فقال فيه: فقام إليه يدعو له ويشكره، وقال: على ما تشكرنا؟ والفصيح من كلام العرب فشكر له، تقول العرب: شكرت النعمة وشكرت للمنعم، قال الله تعالى " واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون " ، وقال: " قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي " وقال تعالى ذكره: " واشكروا لي ولا تكفرون " ، وقال: " أن أشكر لي ولوالديك " وقد جاء: شكرتُ فلاناً في لغةٍ قليلة، من ذلك قول الشاعر:
هم جمعوا نعمى وبؤسي عليكمُ ... فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل
وقال أبو نخيلة السعدي:
شكرتك إن الشكر حبلٌ من التقى ... وما كل من أوليته نعمةً يقضي
قال القاضي: ولنا في هذا المعنى، والكلام على فقهه، وبيان أصل ما يتفرع منه رسالة مفردة مستقصاة، يعز المتصورون لها، ويقل القائمون بها، ونحمد الله على ظاهر نعمه وباطنها.
وأما قوله في هذا الخبر: على ما تشكرنا، فقد بينا في مجلس من مجالسنا هذه أن الفصيح من كلام العرب حذف الألف فيما يأتي في هذا الباب على لفظ الاستفهام، كقولك: فيم أنت، ولم فعلت؟ وعلام تذهب؟ وعم تسأل؟ وذكرنا ما تستشهد به على هذا، وبعض ما أتى على اللغة الأخرى الآتية بإثبات الألف بشواهده بما كرهنا إعادته، ومن هذا الباب أيضاً: حتام كذا، كما قال الكميت:
فتلك ولاةُ السوء قد طال عهدهم ... فحتام حتام العناء المطولُ
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا محرز الكاتب، قال: قال الحسن بن سهل: كتب الشفاعات زكاة الجاه.

امرأتك أكرمكم

حدثنا بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو عكرمة الضبي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا أبو عبد الله الواقدي القاضي، قال: جاءتني جارتي يوم عرفة، فقالت لي: ما عندنا من آلة العيد شيء، فمضيت إلى صديق لي من التجار فعرفته حاجتي إلى القرض، فأخرج إلي كيساً مختوماً فيه ألف ومائتا درهم، فانصرفت به إلى المنزل، فما استقررت جالساً حتى استأذن علي رج من بني هاشم، فذكر تخلف غلته واختلال حاله وحاجته إلى القرض، فدخلت إلى امرأتي فعجبتها من ذلك، فقالت: فما عزمك؟ قلت: أشاطره الكيس، فقالت: والله ما أنصفت، لقيت رجلاً سوقة فأعطاك شيئاً، وجاءك رجل له من رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم فتعطيه نصف ما أعطاك السوقة، فأخرجت الكيس بخاتمه فدفعته إليه، ومضى صديقي التاجر يلتمس منه القرض فأخرج إليه الكيس بخاتمه، فلما رآه عرفه فجاءني به، ثم وافاني رسول يحيى بن خالد يقول: إن الوزير شُغل عنك بحاجاتِ أمير المؤمنين وهو يطلبك، فركبتُ إليه وحدثته حديث الكيس وانتقاله، فقال: يا غلام! هات الدنانير، فجاء بعشرة آلاف دينار، فقال: خذ أنت ألفين، وأعط الهاشمي ألفين، وصديقك التاجر ألفين، وامرأتك أربعة آلاف دينار، فإنها أكرمكم.
قال القاضي: أملى علينا أبو بكر بن الأنباري هذا الخبر في إثر خبر الواقدي مع يحيى بن خالد، وهو يضارع هذا الخبر في الجملة ويناسبه، وأنا ذاكره، إن شاء الله.

خبر الواقدي مع يحيى بن خالد
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عامر ابن عمران بن زياد، أبو عكرمة الضبي، قال: حدثنا محمد بن يحيى العنبري، عن أبي عبد الله الواقدي، قال: كنت حناطاً بالمدينة أضارب بمائة ألف درهم من مال الناس قبلي، فلزمني وضائع فشخصت إلى بغداد وقصدت يحيى بن خالد البرمكي، فجلست في دهليز وآنست الخدم والحاشية، وعرفتهم حاجتي إلى الوصول إليه، فقال لي بعضهم: إذا وضع الطعام لم يحجب عنه أحد، فحينئذ أدخل فأجلسك معه على المائدة، ففعل بي ذلك، وسألني يحيى عن خبري فشرحته له، فلما غسلنا أيدينا دنوت منه أقبل رأسه فاشمأز مني، فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه إذ قد لحقني خادم بكيس فيه ألف دينار، فقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذا على أمرك، فأخذت وعدت في اليوم التالي فأجلست معه على المائدة، فسألني عما سألني في اليوم الماضي، كأنه لم يرني، فلما غسلنا أيدينا دنوت لأقبل رأسه فاشمأز من ذلك، فلما صرت إلى موضع الركوب لحقني الخادم بمثل ذلك الكيس ومثل تلك الرسالة، فأخذته وانصرفت، وفعل بي في اليوم الثالث مثل ذلك، فلما كان اليوم الرابع وغسلنا أيدينا دنوت لأقبل رأسه فلم يشمأز من ذلك، وقال: إنما امتنعت من هذا فيما مضى لأنه لم يكن وصل إليك من معروفنا ما يحتمل هذا، ثم قال: يا غلام! سلم إليه الدار الفلانية، يا غلام! افرشه الفرش الفلاني، ثم قال: ادفعوا إليه مائة ألف درهم توجه في قضاء دينك واحمل عيالك إلى حضرتنا، فقتل: إن رأي الوزير أن يأذن لي في الشخوص لأسلم إلى غرمائي حقوقهم فأنا بهم أعرف، وأدم بعيالي فأنا بهم أرفق. فقال: فلا تتأخر عنا، وأمر لي بجائزة أخرى للشخوص، فقدمت المدينة فقضيت ديني وقدمت بعيالي، ولم أزل في ناحيته ومنقطعاً إليه.
قال القاضي: وقد روينا في هذا المعنى من أبواب المكارم ما يعود من محمود مغبتها وحسن عاقبتها، وجميل الأحدوثة عن أهلها ويأتي بالثناء عليهم، وإن تصرمت أزمانهم ففقدت أعيانهم، وقد جاء في تأويل قوله عز وجل: " واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين " أنه الثناء الحسن، وقد قال حاتم:
أماوي إن المال غاد ورائحٌ ... ويبقى من المال، الأحاديث والذكرُ
وقال آخر:
ثمن الإحسان شكرُ ... ويدُ المعروف ذخرُ
وثناء الحي بعد المو ... ت للميت عمرُ
ولعمري إن الزمان الذي يثنى فيه على الميت بعد موته أحسن عمريه وأطولهما وأشرفهما وأفضلهما، ومما قيل في هذا المعنى:
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشورُ
تعليق لغوي

قوله: فكأنه من نشرها منشور، فيه وجهان: أحدهما فكأنه من حياة ذكره والثناء عليه حي غي ميت، يقال: لفلان ذكر حي إذا كان بادياً غير خامل، وقد مات ذكر فلان إذا انقطع، قال أبو نخيلة:
فأحييت لي ذكرى وما كنت خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
والوجه الثاني: أن يكون عني بنشرها رائحتها الطيبة، كما قال الشاعر:
سقيت دماً إن لم أرعك بضرةٍ ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وقال المرقش الأكبر:
النشر مسكٌ والوجوه دنانيرٌ ... وأطراف الأكف عنم
وقال امرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمامِ ... ونشر الخزامى وريح القطرْ
ويروي القطر، القطر: العود الذي يتبخر به، وقيل للمجموعة التي توضع فيها لتتبخر به: مقطرة، اشتقاقاً منه، قال المرقش الأصغر:
في كل ممشى لها مقطرة ... فيها كباء معد وحميم
الكباء ممدود: العود وقيل: ما يتبخر به، والكبا مقصور المزبلة، وقوله: منشور فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معناه النشر المقابل للطي، كما قال الشاعر:
طوى الموت ما بيني وبين محمدٍ ... وليس لما تطوي المنية ناشرُ
فجعل موته بمنزلة ثوب أو غيره طوي ما كان منه ظاهراً وخفي، وقد قال الشاعر:
فإن أظهروا خيراً فجاء بمثله ... وإن هم طووا عنك الحديث فلا تسل
وقال بعض المحدثين:
فإن يك هذا منك جداً فإنني ... مداوي الذي بيني وبينك بالهجرِ
ومنصرف عنك انصراف ابن حرةٍ ... طوى وده والطي أبقى على النشرِ
قال أبو العتاهية - وقد روى لنا عمن تقدم بزمان طويل:
طوتك خطوب دهرك بعد نشرٍ ... كذاك خطوبه نشراً وطياً
ويقال للحديث إذا اشتهر واستفاض وتفرق: انتشر.
والوجه الثاني: أن يكون معنى منشور: محياً، وفي هذا الوجه لغتان يقال: أنشر الله الميت إنشاراً فنشر هو نشوراً، وهذه أعلى اللغتين، وأكثرهما وأفصحهما وأظهرهما وبها جاء التنزيل، قال الله تعالى ذكره: " ثم إذا شاء أنشر " ، يقال من هذه اللغة: أنشره الله وهو منشره، ونشر الميت فهو ناشر، قال الأعشى:
لو أسندت ميتاً إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابرِ
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشرِ
وقال الله أصدق القائلين: " أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون " واللغة الثانية: نشر الميت فهو منشور، وهو أقل اللغتين، وكثير من أهل العلم لا يعرفها وقد حكيت لنا، وممن حكاها أبو بكر بن دريد، وقال الله عز وجل: " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " ، فأتت فيها ثلاث قراءات، ننشرها بضم النون والراء بمعنى نحييها، كما قال عز ذكره: " قال من يحي العظام وهي رميم " وننشرها بالراء أيضاً بفتح النون، وفي هذه القراءة وجهان من التأويل، أحدهما النشر الذي هو خلاف الطي، والآخر حمله على لغة من يقول: نر الله الميت فنشر، مثل جبر الله فجبر، كما قال العجاج: قد جبر الدين الإله فجبر ومثله: فغرتُ فاه ففغر إذا فتحته فانفتح، ومثله: شحا فاه وشحا فوه.
والقراءة الثالثة: ننشزها بالزاي بضم النون أي نرفع بعضها إلى بعض واستقصاء الكلام في معاني هذه القراءات وتسمية القراء بها وبيان ما يختار منها يطول، وهو مرسوم فيما ألفناه من كتبنا في القراءات وعلوم القرآن على الشرح والبيان.
ومما جاء في حسن الثناء ما أنشدناه عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: أنشدنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: أنشدني أبو جعفر القرشي:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باقِ
ولو أنني خيرت كل فضيلة ... ما اخترتُ غير محاسن الأخلاق
وقد روينا في بذل العطاء وما ينتج من حسن الثناء ما لم نر إطالة هذه المجلس به، لأنا بنينا كتابنا هذا على تضمينه أنواعاً منثورة، وغير جارية على أبواب مجموعة محصورة، لئلا تتفاوت مجالس الكتاب في الطول والقصر، ونحن نأتي من هذا الباب فيما نستقبله من هذه المجالس ما يتفق ويحضر أولاً أولاً، إن شاء الله.
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو العباس المبرد، قال: أخبرنا التوزي، عن أبي عبيدة، قال: لما بلغ حاتم طييء قول المتلمس:

قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفسادِ
وحفظُ المال خيرٌ من فناهُ ... وعسف في البلاد بغير زاد
قال: ما له قطع الله لسانه حمل الناس على البخل، فهلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيدُ
فلا تلتمس مالاً بعيش مقتر ... لك غد رزق يعود جديدُ
ألم تر أن المال غادٍ ورائحُ ... وأن الذي يعطيك غير بعيدُ
ولقد أحسن حاتم في قوله: وأن الذي يعطيك غير بعيد ولو كان مسلماً لرجي له بما أتى من هذا ما يغتبطه في معاده، وقد أتى كتاب الله عز وجل في هذا المعنى بما يعجز المخلوقون عن مساواته، قال الله تعالى ذكره: " واسألوا الله من فضله " ، وقال جل ثناؤه: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان " .
العباس بن الأحنف يؤتى به ليلاً لإجازة بيت
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو محمد بن أبي سعد، قال: حدثنا عبد الله بن الربيع، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: صنع الرشيد ذات ليلة بيتاً واضطرب عليه الثاني، فقال: علي بالعباس بن الأحنف، فأتي به في جوف على حال من الذعر عظيمة، فقال له الرشيد: لا ترع، قال: وكيف لا يكون ذلك؟ وقد طرقت في منزلي في مثل هذا الوقت فلم أخرج من منزلي إلا والراعبة فيه، وأهلي لا يشكون في قتلي، فقال: إنما أحضرتُك لبيت قلته صعب علي أن أشفعه بمثله، قال: ما هو؟ قال:
جنانٌ قد رأيناها ... فلم نر مثلها بشراً
فقال العباس:
يزيدك وجهها حسناً ... إذا ما زدته نظراً
إذا ما الليل جن علي ... ك بالإظلام واعتكرا
ودج فلم تر قمرا ... فأبرزها ترى قمرا
فقال الرشيد: أقل ما يجب علينا أن ندفع إليك دينك إذ نزل بك هذا الروع بعيالك منا. فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه.

في صلة هذا الخبر
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا الغلابي، قال: سئل ابن عائشة عن أشعر المحدثين، قال: الذي يقول:
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمراً
قال أبو بكر الصولي: فأخذ هذا المعنى أحمد بن يحيى بن العراق الكوفي فقال:
بدا وكأنما قمرٌ ... على أزراره طلعا
بحت المسك من ... عرق الجبين بنانه ولعا
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال حدثنا أحمد بن إسماعيل، قال: حدثني محمد بن يزيد المبرد، قال: صرت إلى مجلس ابن عائشة وفيه الجاحظ والجماز، فسأله عيسى بن إسماعيل تينة: من اشعر المولدين؟ فقال: الذي يقول:
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمراً
يزيدك وجهه حسناً ... إذا ما زدته نظراً
بعين خالط التفتي ... ر من أجفانها الحورا
ووجه سامري إذ تصوب ماؤه قطرا
يعني العباس بن الأحنف.
في وجهه شافع
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا علي بن يحيى، قال: كنت واقفاً بين يدي المعتضد وهو مقطب، فأقبل بدرٌ فلما رآه من بعيد تبسم وأنشد:
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيث ما شفعا
ثم قال لي: لمن هذا؟ قلت: يقوله الحكم بن قنبر المازني البصري، قال: أنشدني باقي شعره، فأنشدته:
لهفي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعه وجعا
كأنما الشمسُ من أعطافه لمعتْ ... حسناً إلى البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالذي يهوى وإن عظمت ... منه الإساءة معذور بما صنعا
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيهٌ حيث ما شفعا
قال الصولي: وأخذ هذا المعنى أحمد بن يحيى العراق الكوفي فقال:
بدا فكأنما قمرٌ
وأنشد البيتين، ثم قال الصولي: حدثني أبو عبد الله حرمي الكاتب، قال: حدثني أحمد بن يحيى العراق، قال: خرجت من بغداد أريد الكوفة واكتريت حماراً فتألمت من ركوبه، وكان مع المكاري عدة من الحمير للكراء غيره، ففكرت في أن اسأله إبداله لي بغيره فابتدأ يغني:
بدا وكأنما قمر ... على أزراره طلعا

فقلت: أعلمه أن الشعر لي حتى يهل عليه إبداله حماري، فقلت: لمن هو؟ فقال: لمن أمه ألف مؤاجرة، جروالك جر، فخفت والله أن أزداد فيزيدني، ومر بي من الحمار شدة.

القول في معنى في وجهه شافع
قال القاضي: يتجه في قوله: في وجهه شافع يمحو إساءته من القلوب، أن يكون المعنى: يمحو من القلوب الإساءة فيزيلها منها، ويجوز أن يكون المعنى: في وجهه شافع من القلوب وجيه، ويكون في الكلام تقديم وتأخير، ويكون من القلوب من صلة شافع، ويشهد لهذا أنه قد روى هذا البيت من طريق آخر:
في وجهه شافع يمحو أساءته ... مشفع ووجيه حيث ما شفعا
فعلى هذا: من القلوب صفة لشافع كمشفع، والتقديم والتأخير إذا دلت جملة الكلام على معناه وعلى موضع كل شيء منه، كثير في اللغة مشهور في العربية. قال الله عز وجل: " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً " .
وقال الشاعر:
إذا شاب الغراب لقيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب
الأصمعي يعادي ابن الأحنف
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: قال لي أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الثمالي: كان الأصمعي يعادي عباس بن الأحنف، فقال عباس يوماً وهو بين يدي الرشيد والأصمعي بالحضرة:
إذا أحببت أن تع ... مل شيئاً يعجبُ الناسا
فصور ها هنا فوزا ... وصور ثم عباسا
ودع بينهما فتراً ... فإن زدت فلا باسا
فإن لم يدنوا حتى ... ترى رأسيهما راسا
فكذبها بما قاست ... وكذبه بما قاسا
فقال الرشيد: ما رأيت معنى أحسن من هذا. فقال الأصمعي: قد سبقه إلى هذا المعنى رجلٌ من العرب ورجل من النبط، فقال: ما قال العربي؟ قال: كان رجل يقال له عمر يحب جارية يقال لها قمر، فقال:
إذا أحببت أن تب ... صر شيئاً يعجب البشرا
فصور ها هنا قمراً ... وصور ها هنا عُمرا
فإن لم يدنوا حتى ... ترى بشريهما بشرا
فكذبها بما ذكرت ... وكذبه بما ذكرا
قال الرشيد: فما قال النبطي؟ قال: كان رجل يقال له زورا يحب جارية يقال لها فلقا، فقال:
إذا أحببت أن تع ... مل شيئاً يعجب الخلقا
وتسمع صوت معشو ... قين لاقي في الهوى ربقا
فصور ها هنا زورا ... وصور ها هنا فلقا
فإن لم يدنوا حتى ... ترى خلقيهما خلقا
فكذبها بما لاقت ... وكذبه بما يلقى
تعليق نحوي
قال القاضي: هكذا رواه لنا الكوكبي. فصور ها هنا فوزاً بالصرف، وترك الصرف أعلى، وكان الزجاج لا يجيز صرف شيء من الأسماء المؤنثة إلا في ضرورة الشعر، وكان جميع من تقدم من النحاة يجيز في مثل هند ودعد، وما كان وسطه من أسماء المؤنث ساكناً ويختارون ترك الصرف في غير الشعر.
وقوله: حتى ترى رأسيهما رأساً، ثنى الرأس في اللفظ، والفصيح فيه وفيما كان في الجسد منه واحد أن يؤتى به على لفظ الجميع في تثنيته وجمع، قال الله تعالى: " فقد صغت قلوبكما " واللغة الأخرى معروفة ويبين ذلك قول أبي ذؤيب:
فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ ... كنوافذ العبط التي لا ترقعِ
ويروي العبط وهو جمع عبيط، يقال: اعتبط الرجل إذا هلك شاباً، واعتبط البعير إذا نُحر فتياً، قال أمية بن أبي الصلت:
من لم يمت عبطةً يمت هرماً ... للموت كأسٌ والمرء ذائقها
والدم العبيط: الطري، ويروي كنوافذ العطب وهو جمع عطبة، وهي القطعة من القطن، مثل غرفة وغرف وحجرة وحجر.
أنشدنا ابن دريد، قال: أنشدني أبو حاتم، عن أبي عبيدة:
لي صاحبٌ ليس يخلو ... لسانه عن جراحي
يجيد تمزيق عرضي ... على طريق المزاحِ
المجلس الحادي عشر
نعم الإبل الثلاثون
حدثنا بدر بن الهيثم الحضرمي الكوفي، قال: حدثنا محمد بن عمر بن الوليد قال: حدثنا أبو أسامة عن محمد يعني ابن شريك، قال: سمعت عطاء يقول: قال أبو هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم الإبل الثلاثون، ينحر سمينها ويحمل على نجيبها " .
التعليق على الحديث

قال القاضي: قد نبه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر على أن هذا العدد من الإبل قصدٌ من المال، وأشار بمدحه فيه إلى من نحر السمين منها وحمل على النجيب، فدل على فضل من نحر المال لسبل المعروف ووجوه البر، وأومأ إلى الترغيب في قري الضيف وإنفاق أعلى الظهر وبث المكارم العائدة بالأجر وجميل الذكر، ولم يزل الألباءُ يؤثرون بذل النوال وإفاضة الإفضال، تزوداً ليوم العرض، وصيانة للعرض، ورغبة في إحراز الذكر، وحسن القالة وجميل الذكر، على تشعب الأمور الباعثة لهم على كريم السخاء وشريف العطايا.

فمن جود معن بن زائدة
حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك اليباني، قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، قال: حدثنا قعنب، قال: قال سعيد بن سلم: لما ولي المنصور معن بن زائدة أذربيجان قصده قوم من أهل الكوفة، فلما صاروا ببابه استأذنوا عليه فدخل الآذن فقال: أصلح الله الأمير بالباب وفد من أهل العراق، قال: من أي العراق؟ قال: من الكوفة، قال: ائذن لهم، فدخلوا عليه فنظر إليهم معن في هيئة زرية، فوثب على أريكته وأنشأ يقول:
إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ... مرمتها فالدهر بالناس قُلّبُ
فأحسنُ ثوبيكَ الذي هو لابسٌ ... وأفْره مُهريك الذي هو يركب
وبادر بمعروفٍ إذا كنت قادراً ... زوال اقتدارٍ أو غنى عنك يُعقِبُ
قال: فوثب إليه رجل من القوم، وقال: أصلح الله الأمير، ألا أنشدك أحسن من هذا؟ قال: لمن؟ قال: لابن عمك ابن هرمة، قال: هات، فأنشأ يقول:
وللنفس تاراتٌ تحل بها العرى ... وتسخو عن المال النفوس الشحائح
إذا المرءُ لمن ينفعك حياً فنفعه ... أقلُّ إذا ضُمّت عليه الصفائحُ
لأية حالٍ يمنعُ المرء ماله ... غدا فغدا والموت غاد ورائح
قال معن: أحسن والله وإن كان الشعر لغيرك، يا غلام! أعطهم أربعة آلاف يستعينوا بها على أمورهم إلى أن يتهيأ لنا فيهم ما نريد، فقال الغلام: يا سيدي! أجعلها دنانير أم دراهم، فقال معن: والله لا تكون همتك أرفع من همتي، صفّرها لهم.
ومن سخاء يزيد بن المهلب
حدثنا إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع، قال: حدثنا أحمد بن أبي الحارث، قال: حدثنا المدائني، قال: جاء رجل إلى يزيد بن المهلب فامتدحه، فأحمد عقله وفصاحته فجعله أحد ندمائه، وكان ينصرف في كل يوم من عطيته بمائة دينار، فلما أراد الرحيل والانصراف إلى أهله أمر له بثلاثة آلاف دينار، ثم قال: إن - والله - ما أستقلها تكبراً ولا أستكثرها امتناناً، ولا أستزيدك بها ثناءً ولا أقطع لك بها رجاءً.
ليلى الأخيلية ووفودها على الحجاج
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، عن أبي الحسن المدائني، عمن حدثه، عن مولى لعنبسة ابن سعيد بن العاص، قال: كنت أدخل مع عنبسة إذا دخل على الحجاج، فدخل يوماً ودخلت إليهما وليس عند الحجاج أحد غير عنبسة، فقعدت فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئاً فجاءني، ثم جاء بطبق آخر فأتاني الخادم منه بشيء، ثم جيء بطبق آخر حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يؤتون بشيء إلا جاءني منه بشيء حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهم، ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: أدخلها. فدخلت، فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصاب الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه فنظرت إليها فإذا امرأة قد أسنت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى! ما أتاني بك؟ قالت: إخلاف النجوم وقلة الغيوم وكلب البرد وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد، فقال لها: صفي لنا الفجاج، فقاتل: مغبرة والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذو العيال مختل، والمال القُلّ، والناس مُسنتون، رحمة الله يرجون، وأصابتنا سنون مجحفة مبلطة، لم تدع لنا هبعاً ولا ربعاً، ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال ومزقت الرجال وأهلكت العيال، ثم قالت: قد قلت في الأمير قولاً، قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحجاج لا يفلل سلاحك إنما ال ... منايا بكف الله حيث يراها

أحجاج لا تعطي العداة مناهم ... ولا الله يعطي للعداة مناها
ذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث قال حشاها
إذا سمع الحجاج رز كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها
أعد لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها
فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجف ثراها
قال: فلما قالت هذا البيت، قال الحجاج: قاتلها الله! ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد، فقال: والله إني لأعد للأمر عسى ألا يكون أبداً، ثم التفت غليها، فقال: حسبك، فقالت: قد قلت أكثر من هذا، قال: حسبك ويحك حسبك، ثم اقل: يا غلام! اذهب بها إلى فلان فقل له: اقطع لسانها، فقال له: يقول لك الأمير: اقطع لسانها، قال: فأمر بإحضار الحجام، والتفتت إليه وقالت: ثكلتك أمك، أما سمعة ما قال، إنما أمرك أن تقطع لساني بالبر والصلة فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضباً وهم بقطع لسانه، وقال: ارددها، فلما دخلت عليه، قالت: كاد - وأمانة الله - أيها الأمير يقطع مقولي، ثم أنشأت تقول:
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمدُ
حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور في الدجى يقدُ
ثم أقبل الحجاج على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أننا لم نر امرأة قط أفصح لساناً ولا أحسن محاضرة، ولا أصبح وجهاً ولا أرصن شعراً منها، فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها، فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير، هو الذي يقول:
وهل تبكين ليلى إذا مت قبلها ... وقامت على قبري النساء النوائحُ
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها ... وجاد لها دمع من العين سافحُ
وأغبط من ليلى، بمالاً أنالهُ ... بلى كل ما قرت به العين صالح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي وفوقي تربة وصفائحُ
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدىً من جانب القبر صائحُ
فقال لها: زيدينا يا ليلى من شعره، فقال: نعم، هو الذي يقول:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرُها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... ولا زلت في خضراء دان نضيرها
وأشرف بالقوز اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
يقول رجال لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شف النفوس يضيرها
بلى قد يضير العين أن تكثر البك ... ى يمنع منها نومها وسرورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجرٌ ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقال الحجاج: يا ليلى! ما الذي رابه من سفورك؟ قالت: أيها الأمير! كان يلم بي كثيراً فأرسل إلي يوماً: أني آتيك، ففطن الحي فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت فعلم أن ذلك لشر، فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك! فهل رأيت منه شيئاً تكرهينه؟ قال: لا، والله الذي أسأله أن يصلحك، غير أنه قال لي مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيلُ
لنا صاحب لا نبتغي أن نخونه ... وأنتَ لأخرى صاحب وخليلُ
فلا والله الذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئاً قد فرق الموت بيني وبينه، قال: ثم مه، قالت: ثم إنه لم يلبث أن خرج في غزاةٍ له فأوصى ابن عمه: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلةً ... من الدهر لا يسري إلي خيالها
فخرج وأنا أقول:
وعنه عفا ربي وأحسن حالهُ ... فغز علينا حاجةً لا ينالُها

قال: ثم مه، قالت: ثم لم يلبث أن مات فأتى نعيه، قال: فأنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدته:
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر
ليبك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شئون العبرة المتحادر
فلما فرغت من القصيدة، قال محصن الفقعسي، وكان من جلساء الحجاج: من الذي يقول هذه هذا فيه، فوالله إني لأظنها كاذبة، فنظرت إليه ثم قالت: والله أيها الأمير إن هذا القائل لي لو رأى توبة لسَرَّه ألا يكون في داره عذراء وهي حامل منه، فقال له الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عنه غنياً، ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطي، قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن، قال: لك عشرون قالت زد فمثلك زاده فأجمل، قال: لك أربعون، قالت: زد فمثلك زاد فأفضل، قال: لك ستون قالت: زد فمثلك زاد فأكمل، قال: لك ثمانون، قالت: زد فمثلك زاد فتمم، قال: لك مائة، واعلمي يا ليلى أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جوداً وأمجد مجداً وأورى زنداً من أن تجعلها غنماً، قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة ناقة برعاتها، فأمر لها بها، ثم قال: لك حاجة بعدها، قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قيد، قال: قد فعلت، وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك فخرج هارباً عائذاً بعبد الملك بن مروان فاتبعته فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فماتت بقومس ويقال بحلوان.

ذكر السبب في وفاتها
وقد ذكر في وفاتها أمر عجيب يخالف ما فيه هذه الرواية، وأنا بعون الله ذاكر ما حضرني منه ومتبعه البيان عما يشكل من غريب هذا الخبر إن شاء الله.
فمما رويناه من وفاة ليلى الأخيلية ما حدثناه محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال: حدثنا حسين بن فهم، قال: حدثني حسين بن فهم، قال: حدثني محمد بن يحيى الأزدي، عن القتبي قال: قال توبة بن الحمير:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي وفوقي جندل وصفائحُ
لسلمتُ تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... بلى كل ما قرت به العين صالح
قال: فلما قتل توبة وأتى بعد مقتله دهر، اجتاز زوج ليلى الأخيلية وهي معه على قبر توبة، فقال لها: يا ليلى! هذا قبر توبة الذي يقول:
لسلمتُ تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدىً من جانب القبر صائحُ
ناديه حتى يجيبك كما زعم، قالت: اذهب عنك، فأبى وألح وحلف عليها أن تناديه، قال: فاستعبرت ثم نادت: يا توبة، قال: ويزقو ثعلب كان إلى جانب القبر فخرج يصيح ويفوت ناقة ليلى، فسقطت عنها فارتاعت لذلك واحتملها زوجها فذهب بها فكان ذلك سبب موتها، عاشت أياماً ثم ماتت.
خبر ثان في ذلك
ومن ذلك ما حدثناه محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو العباس الأزدي قال: خرج زوج ليلى الأخيلية بليلى، فمرا على قبر توبة بن الحمير، فقال لها: يا ليلى هذا الذي يقول فيك:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي وفوقي تربة وصفائحُ
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فقال: أنت طالقٌ إن لم تسلمي عليه حتى أنظر ما يرد عليك، فقالت: وما دعاك إلى عظام قد رمت، قال: هو ما سمعت، فدنت منه، فقالت: السلام عليك يا توبة فتى الفتيان وسيد الشبان، قال: وكانت قطاة قد عششت في جانب القبر، فلما سمعت الصوت نفرت وخرجت تقول: قطا قطا، فلما سمعت ناقةُ ليلى الصوت نفرت بليلى فسقطت فاندقت عنقها، فدفنت إلى جانبه.
خبر آخر عجيب في ذلك
ومن أعجب ما روى لنا في هذه القصة، ما حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا عمر بن محمد بن الحكم النسائي، قال: حدثني إبراهيم بن زيد النيسابوري: أن ليلى الأخيلية بعد موت توبة تزوجت، ثم إن زوجها بعد ذلك مر بقبر توبة وليلى معه، فقال لها: يا ليلى تعرفين هذا القبر؟ فقالت لا، قال: هذا قبر توبة فسلمي عليه، فقالت: امض لشأنك فما تريد من توبة وقد بليتُ عظامه، قال: أريد تكذيبه، أليس هو الذي يقول:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فوالله لا برحت أو تسلمي عليه، فقالت: السلام عليك يا توبة ورحمك الله وبارك لك فيما صرت إليه، فإذا طائر قد خرج من القبر حتى ضرب صدرها فشهقت شهقة فماتت فدفنت إلى جانب قبره فنبتت على قبره شجرة وعلى قبرها شجرة فطالتا فالتفتا.

التعليق على الخبر بأكمله
قال القاضي: قول ليلى الأخيلية في هذا الخبر الذي قدمنا روايته: أصابتنا سنون مجحفة مبلطة، فمجحفة التي قد جهدتم وأصارتهم إلى اختلال أحوالهم، والنقص البين في وفرهم وأموالهم، قال الشاعر:
لو قد نزلت بهم تريد قراهمُ ... منعوك من جهد ومن إجحافِ
والمبلطة على نحو هذا المعنى، وهي التي فرقت جماعتهم، وشتتت شملهم، وفرقتهم للقحط الذي لا مقام معه، والجدب الذي لا صبر عليه، وقد حدثنا المظفر بن يحيى قال: حدثنا احمد بن محمد بن بشر المرثدي، قال: أخبرني أبو إسحاق طلحة بن عبد الله الطلحي قال: أخبرني أحمد بن إبراهيم، قال: أخبرني القرمطي الوالبي: الإبلاط غاية الجهد والحاجة، قد أبلط الرجل، والسنة المبلطة التي قد أكلت كل شيء فلم تدع شيئاً.
وقولها: لم تدع لنا هبعاً ولا ربعاً: الربع من الإبل التي تأتي في أول النتاج والهبع التي تأتي في آخره، قال الشاعر:
ولا وجد ثكلى كما وجدت ... ولا أم أضلها ربعُ
وقال الأعشى:
تلوي بعذق خضاب كلما خطرت ... عن فرج معقومة لم تتبع ربعا
ويقال له ربيع، قال الشاعر:
إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون
وقال آخر:
إذ هي أحوى من الربعي، حاجبه ... والعين بالإثمد الحاري مكحولُ
وروى أن دراهم أصحاب الكهف كانت كأخفاف الربع ويروي أن يونس عليه السلام لما جعل النبوة تفسخ تحتها كما يتفسخ الربع تحت الحمل الثقيل.
وقولها: ولا عافطة، تريد الواحدة من الضأن، ولا نافطة، الواحدة من المعز، يقال: نفطت العنز وعفطت الضائنة، وهما منهما كالامتخاط والاستنثار من الناس، فكأنها قالت: لم تدع لنا عنزاً ولا ضأناً، ومثل هذا قولهم: ماله سبد ولا لبد، يريدون شاة ولا ناقة، وقد يقال للصوف: لبد، والسبد: الشعر، ونظير هذا قوله: لم تبق له ثاغية ولا راغية أي شاة ولا بعير، فالثغاء صوت الغنم والرغاء صوت الإبل، ومن الرغاء قول الشاعر:
رغا فوقهم سقب السماء فداحصٌ ... بشكته لم يستلب فسليب
يعني سقب ناقة صالح، ومثله قول الشاعر:
فلما رأى الرحمن أن ليس فيهم ... رشيد ولا ناهٍ أخاه عن الغدرِ
وصب عليه تغلب ابنة وائلٍ ... فكأن عليهم مثل راغية البكرِ
ومن السبد قول الشاعر:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبدُ
وفي الطير طائر يقال له السبد لوفور ريشه.
وقولها: فما ولد الأبكار والعون مثله، العون: جمع عوان وهي التي بين الكبيرة والصغيرة، قال الله تعالى ذكره في صفة بقرة بني إسرائيل " إنها بقرة لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك " ، ويقال: حرب عوان إذا لم تكن مبتدأة، وحاجة عوان إذا لم تكن بكر الحاج، قال الشعار:
قعوداً لدى الأبواب طالبُ حاجةٍ ... عوانٍ من الحاجات أو حاجة بكر
ومما نستحسنه لبعض المحدثين في معاتبة بعض ذوي الخيانة من الإخوان:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما انقضى صرت حرباً عواناً
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
ونظير هذا قول الشاعر الآخر:
أيا مولاي صرت قذىً لعيني ... وستراً بين جفني والمنام
وكنتَ من الحوادث لي ملاذاً ... فصرت مع الحوادث في نظام
وكنت من المصائب لي عزاءً ... فصرت من المصيبات العظام
وقال آخر:
هب الزمان زماني ... الشان في الخُلان
يا من رماني لما ... رأى الزمان رماني
ومن ذخرتُ لنفسي ... فعاد ذخر الزمانِ
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثانِ
لما أخذتُ أماناً ... إلا من الإخوانِ
وقال ابن الرومي:

تخذتكم ظهراً وعوناً لتدفعوا ... نبال العدا عني فصرتم نصالها
وقد كنت أرجو منكم خير صاحبً ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي ... فكونوا كفافاً لا عليها ولا لها
قفوا موقف المعذور عني بمعزلٍ ... وخلوا نبالي والعدا ونبالها
ومما يضارع هذا النوع بعض المضارعة قول ابن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحابِ
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
وأعجبه هذا المعنى فقال:
عدوك من صديقك مستفادٌ ... فلا تكثرن من الصديق
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من المسوغ في الحلوق
وهذا باب إن استقصيناه طال جداً وتجاوزنا به حد المجلس الواحد من مجالس كتابنا هذا، ولم يبن هذا الكتاب على استيفاء أبواب أنواعه، وإنما جعلناه موشحاً ممتزجاً، بمنزلة الحدائق المشتملة على أنواع مختلفة، يقع الأنس بمشاهدتها، والالتذاذ بجناها، والانتفاع بثمرها.
وقول توبة: وأشرف بالقوزِ اليفاع، القوز: الواحد من أقواز الرمل وهو ما علا واشرف منه، وكذلك اليفاع ما ارتفع، وقال: أيفع الغلام فهو يافع إذا ارتفع، وهو من نوادر أبواب العربية، لأنه جاء على أفعل فهو فاعل، وله أخوات معدودة منها: أورف الظل فهو وارف، وأورس الرمث فهو وارس، وقد قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصبٍ ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
بمعنى منصب، كما قال في كلمة أخرى:
تعنّاك همٌّ من أميمة منصبُ
وقوله: أرى نار ليلى أو يراني بصيرها، أي يراني المبصر بها، والعرب تقول: ليل نائم وسر كاتم أي منوم ومكتوم، قال جرير:
لقد لُمْتِنَا يا أم غيلان في السُّرى ... ونِمتِ، وما ليلُ المطي بنائم
ومثل هذا كثير.

أعطنا حقنا الذي في هذا المصحف
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل، قال: حدثنا أحمد بن سعيد بن مسلم الباهلي، عن أبيه، قال: حدثني من حضر مجلس السفاح وهو أحشد ما كان ببني هاشم والشيعة ووجوه الناس، فدخل عبد الله بن حسن بن حسن ومعه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين! أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، فأشفق الناس أن يعجل السفاح بشيء إليه فلا يريدون ذلك في شيخ بني هاشم في وقته، أو يعيا بجوابه فيكون ذلك نقصاً وعاراً عليه، قال: فأقبل عليه غير مغضب ولا منزعج، فقال: إن جدك علياً رضي الله عنه وكان خيراً مني وأعدل، ولي هذا الأمر فأعطى جدك الحسن والحسين رضي الله عنهما وكانا خيراً منك شيئاً، وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتُك، وإن كنت زدتُك فما هذا جزائي منك، قال: فما رد عبد الله جواباً، وانصرف الناس يتعجبون من جوابه له.
حكمة علي محبرة
حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو العباس بن مسروق قال: رأيت على محبرة مكتوباً:
تمكن في الفؤاد فما أبالي ... أطال الهجر أم منح الوصالا
المجلس الثاني عشر
امرؤ القيس يحمل لواء الشعر إلى النار
حدثنا أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير القاضي، قال: حدثنا سليمان ابن سيف، قال: حدثنا حيان أبو عبد الله جار أبي عاصم، قال: حدثني هشام بن محمد بن السائب، قال: حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل إليه وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله! لقد أحيانا الله عز وجل ببيتين من شعر امرئ القيس، قال: وكيف ذال؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثاً لا نقدر عليه، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر ليموت كل رجل منا في ظل شجر، فينما نحن بآخر رمق غذ راكب يوضع على بعير معتم، فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:
لما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارجٍ ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي

قال الراكب من يقول هذا الشعر؟ وقد رأى ما بنا من الجهد، قال: قلنا: امرؤ القيس بن حجر، قال: ما كذب وإن هذا لضارجٌ أو ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحون من خمسين ذراعاً، فحبونا إليه على الركب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار " .

رواية أخرى للخبر
حدثنا أحمد بن علي بن السكين البلدي، قال: حدثني أبو داود سليمان بن سيف الحراني، قال: حدثنا حيان بن هلال أبو عبد الله البصري جار أبي عاصم قال حدثنا محمد بن عبد الله بن السائب، قال: حدثنا فروة بن عفيف أو قال: عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه قوم من الأعراب حفاة عراة، فقالوا: يا رسول الله لقد أنجانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس بن حجر، قال: وكيف ذاك؟ قالوا: يا رسول الله! أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أضللناه ثلاثاً لا نقدر عليه، فبينا نحن كذلك عمد كلُّ رجل منا إلى ظل شجرة أو سمرة ليموت تحتها، فإذا راكب على بعير له يوضع، فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:
لما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
قال: فقال الراكب: يا عبد الله! من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس بن حجر، قال: والله ما كذب وإن عنده الآن لضارجاً عليه العرمض يفيء عليه الظل، قال: فنظرنا فإذا ليس بينا وبينه إلا قدر عشرين ذراعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذاك رجل مذكور في الدنيا، منسي في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار " .
قال القاضي: قوله في هذا الخبر والشعر: وأن البياض من فرائصها دامي (الفرائص) جمع فريصة وهي الموضع الذي يترعد من الدابة، قال النابغة الذبياني:
شك الفريصة بالمدري فأنفذها ... شك المبيطر إذ يشفي من العضدِ
ومن ها هنا أخذ قولهم: فلان ترعد فرائصه إذا وصف بشدة الخوف، ومن ذاك الخبر المروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ورأى رجلين ترعد فرائصهما.
وأما قوله: تيممت العين، فمعناه قصدت وتعمدت، يقال: يممت كذا وكذا إذا قصدته، ومن ذلك قول الله عز وجل: " فتيمموا صعيداً طيباً " يعني اقصدوا، وذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود. فأقول: والمعنى واحد، أممت وتيممت مثل عمدت وتعمدت، ويقال: أممت، قال الله عز وجل " ولا آمّين البيت الحرام " يعني قاصدين وعامدين، وقال عز ذكره: " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، وقرأ مسلم بن جندب: ولا تيمموا أي توجهوا، ومن هذا الباب قول الشاعر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد ... يممت صدر بعيري غيره بلداً
ويروي: أممت، قال الأعشى:
تيممتُ قيساً وكم دونه ... من الأرض من مهمة ذي شزن
وقال آخر:
تيممتُ همدان الذين همُ همُ ... إذا ناب خطبٌ جنتي وسهامي
وقال خفّاف بن ندبة:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت مالكا
ومن هذا قولهم: أمر أمم أي قصد، قال الأعشى:
أتانا عن بني الأحرا ... ر عنه قولٌ لم يكن أمما
وقال ابن قيس الرقيات:
كوفيةٌ نازحٌ محلتها ... لا أممٌ دارها ولا صقبُ
الأمم: القصد، والصقب: القرب، ومنه: الجار أحق بصقبه، وقال الشاعر:
ولو نار ليلى بالعذيب بدت لنا ... لحبت إلينا دار من لا يصاقبُ
وقال الأعشى:
فما انس ملْ الأشياءِ لا أنس قولها ... لعل النوى بعد التفرق تصقبُ
وهذا باب يكثر ويتسع جداً، وفيما ذكرنا منه ها هنا بل في بعضه كفاية.
ومعنى قوله: يفيء عليها الظل، معنى يفيء: يرجعن يقال فاء الظل أي رجع قبل الزوال، ولا يقال له حينئذ فيءٌ، وإنما يقال له فيء بعد الزوال لرجوعه، وكلا الوجهين ظل، قال حميد بن ثور الهلالي:
فلا الظل من برد الضحى نستطيعهُ ... ولا الفيء من برد العشي نذوقُ

ومن هذا سمي ما رد الله على المؤمنين من مال المشركين فيئاً، وقال الله عز وجل: " وما أفاء الله على رسوله منهم " ، وقال: " وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " ، وقال تقدس اسمه: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " ، وقال: " فإن فاءوا " أي رجعوا إلى غشيان من آلوا من نسائهم، وهذا الباب أيضاً واسع بين.
وقول امرئ القيس: عرمضها طامي، العرمض: الطحلب الذي يكون في الماء ويقال له عرمض وعلفق ونَوْر، وقوله: طامي، يعني أنه عال يقال: طما الوادي إذا امتلأ وعلا ماؤه، قال الأعشى:
ما جُعل الجد الظنون الذي ... جنب صوب اللجب الماطِرِ
مثل النواتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر

من مصارع العشاق
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن مرزبان، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الطائف، قال: حدثنا يوسف بن محمد الصيمري، قال: حدثنا محمد بن مسعدة الأخفش، قال: حدثنا أبو محظورة الوراق، قال: حدثنا أبو مالك الراوية قال: سمعت الفرزدق يقول: أبق غلامان لرجل من بني نهشل يقال له الخضر. فحدثني الخضر قال: خرجت أبغيهما وقصدت ناحية اليمامة على ناقة لي عيساء كوماء، قال: ابن الأنباري: العيساء: البيضاء، والكوماء: العظيمة السنام - فنشأت سحابة فرعدت وبرقت وحلت عزاليها، فملت إلى بعض ديار بني حنيفة وقصدت داراً وطلبت القرى، فقيل لي: ادخل فأنخت ناقتي ودخلتُ وجلست تحت ظلة من جريد - قال ابن الأنباري: الجريد ما جُرد من النخل - وفي الدار جويرية سويداء فدخلت جاريةٌ كأنها سبيكة فضة، وكأن عينيها كوكبان، فقال: لمن هذه الناقة؟ قالت السويداء: لضيفكم هذا، فسلمت علي وقالت: ممن الرجل؟ قلت: من بني حنظلة، قالت: من أيهم؟ قالت: من بني دارم، قال: من أيهم؟ قلت من بني نهشل، قال: وأنت من الذي يقول فيهم الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطولُ
بيتاً بناه لنا المليكُ وما بنى ... ملك السماء فإنه لا يُنقلُ
بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشلُ
فأعجبني ذلك من قولها: فقالت: إلا أن ابن الخطفي نقض عليه، فقال:
أخزي الذي سمك السماء مجاشعاً ... وبنى بناءك بالحضيض الأسفل
بيتاً يحمم قينكم بغنائه ... دنساً مقاعده خبيث المدخل
فخجلت واستحييت، ثم قلت لها: أيم أنت أم ذات بعل؟ فقالت:
إذا رقد النيام فإن عمراً ... تؤرقه الهموم إلى الصباحِ
تقطع قلبه الذكرى وقلبي ... فما هو بالخلي ولا بصاحِ
سقى الله اليمامة دار قومٍ ... بها عمرو تحن إلى الرواحِ
فقلت لها: من عمرو هذا؟ فقالت:
سألت ولو علمت كففت عنهُ ... ومن لك بالجواب سوى الخبيرِ
فإن تك سائلاً عنه فعمرو ... مع القمر المضيء المستنيرِ
ثم قالت: أين تؤم؟ قلت: اليمامة، فتنفست الصعداء، ثم قالت:
تذكرني بلاداً حل أهلي ... بها أهل المودة والكرامه
ألا فسقي الإله أجش صوبٍ ... يسح بدرهِ بلد اليمامه
وحيّ بالسلام أبا نُجيدٍ ... وأهلٍ للتحية والسّلامه
ثم قالت:
يخيل لي أيا عمرو بن كعبٍ ... بأنك قد حُملت على سريرِ
فإن يك هكذا يا عمرو إني ... مبكرةٌ عليك إلى القبورِ
ثم شهقت شهقة فماتت فألف عنها فصل لي: هي من ولد محرق ابن النعمان بن المنذر وعمرو بن كعب هوى لها باليمامة فركبت ناقتي فصرت إلى اليمامة. فسألت عن عمرو بن كعب، فخبرت أنه مات في ذلك الوقت الذي قالت فيه الجارية ما قالت.
أعطه لكل بيت ألف دينار

حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد بن سعيد، أبو علي الكلبي، قال: حدثني إبراهيم بن محمد الدجاجي، قال: حدثني عمرو بن سعيد بن سلم الباهلي، قال: كنت في حرس المأمون بحلوان حين قفل من خراسان أو حين قفل من العراق، - أبو علي يشك - قال القاضي: والصواب قفل من خراسان أو قفل إلى العراق، والقفول الرجوع لا ابتداء السفر، والمأمون رجع من خراسان إلى العراق، بعد قتل الأمين واستتباب الخلافة له، قال: فخرج لينظر إلى العسكر في بعض الليل، فعرفته ولم يعرفني فأغفلته، فجاء من ورائي حتى وضع يده على كتفي، فقال لي: من أنت: قال: عمرو عمرك الله، ابن سعيد أسعدك الله، ابن سلم سلمك الله، فقال: أنت الذي كنت تكلؤنا في هذه الليلة؟ فقلت: الله يكلؤك يا أمير المؤمنين، فأنشأ المأمون يقول:
إن أخاك الحق من يسعى معك
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك
فرّق من جميعه ليجمعك
ثم قال: يا غلام! أعطه لكل بيت ألف دينار، فوددت أن تكون الأبيات طالت علي فأجد الغنى، فقلت: يا أمير المؤمنين وأزيدك بيتاً من عندي، فقال: هات، فقلت:
وإن غدوت ظالماً غدا معك
فقال: أعطه لهذا ألف دينار، فما برحت من موقفي حتى أخذت خمسة آلاف دينار.

التعليق على الخبر
قال القاضي: فإن قال قائل: كيف أعطى المأمون عن قوله:
فإن غدوت ظالماً غدا معك
ولم وافقه على تصويب مساعدة وممالأته، قيل: إنه لم يظهر في قول هذا القائل ما يوجب مظافرة الظالم في عمله، وقوله: غدا معك، يتجه فيه أن يكون معناه غدا معك ليكفك عن الظلم، بالوعظ لك والرق بك والاستعطاف على ما تسول لك نفسك ظلمه، فيصرفك عن الظلم، ويثنيك عن معرة الإثم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " فقيل له: يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟، قال: " تحجبه عن الظلم فذلك نصرك إياه " .
الأمر لا حيلة له
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو عجلان، قال: سمعت الفضل بن مروان يقول: كان ابن المقفع يقول: إذا نزل بك أمر مهم فانظر فإن كان مما له حيلة فلا تجزع.
ضعف قلبي عن الرد
حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال: حدثنا حسين بن فهم، قال: قال ابن الموصلي، حدثني أبي، قال: أتيت يحيى بن خالد بن برمك فشكون إليه ضيقة، فقال: ويحك! ما أصنع بك، ليس عندنا في هذا الوقت شيء، ولكن ها هنا أمر أدلك عليه فكن فيه رجلاً، فقد جاءني خليفة صاحب مصر يسألني أن استهدي صاحبه شيئاً، وقد أبيت عليه ذلك فألح علي، وقد بلغني أنك أعطيت في جاريتك فلانة ألف دينار، فهو ذا أستهديه إياها وأخبره أنها قد أعجبتني، فإياك أن تنقصها عن ثلاثين ألف دينار، وانظر كيف تكون؟ قال: فوالله ما شعرت إلا بالرجل قد وافاني فساومني الجارية، فقلت: لا أنقصها من ثلاثين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى بذل لي عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها، فبعتها وقبضت المال العشرين ألفاً، ثم صرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: كيف صنعت في بيعك الجارية، فأخبرته وقلت: والله ما ملكت نفسي أن أجبت إلى العشرين حين سمعتها، فقال: إنك لخسيس، وهذا خليفة صاحب فارس قد جاءني في مثل هذا، فخذ جاريتك فإذا ساومك فها فلا تنقصها عن خمسين ألف دينار، فإنه لا بد أن يشتريها منك بذاك، قال: فجاءني الرجل فاستمت عليه خمسين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى أعطاني ثلاثين ألف دينار، فضعف قلبي عن ردها ولم أصدق بها وأوجبتها له، ثم صرت إلى يحيى بن خالد فقال: بكم بعت الجارية؟ فقتل: بثلاثين ألف دينار، فقال: ويحك! ألم تؤدِّبُك الأولى عن الثانية؟ قال: قلت: ضعفت والله عن رد شيء لم أطمع فيه، قال: فقال: هذه جاريتك فخذها إليك، قال: فقلت: جارية أفدتُ بها خمسين ألف دينار ثم أملكها! أشهدك أنها حرة وأني قد تزوجتها.
نصيحة أعرابي
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن عمه الأصمعي، قال: رأيت أعرابياً يعظ آخر ويحذره، وقال: إن فلاناً وإن ضحك لك فإنه يضحك منك، وإن أظهر الشفقة عليك إن عقاربه تسري إليك، فإن لم تجعله عدواً لك في علانيتك، فلا تجعله صديقاً لك في سريرتك.
قريش أسخى أم أمية

حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا سليم بن حرب، قال: حدثنا أبو هلال الرباضي، عن حميد بن هلال، قال: تفاخر رجلان رجل من قريش ورجل من بني أمية، فقال هذا: قومي أسخى من قومك، وقال هذا: لا، قومي أسخى من قومك، فقال: سل في قومك حتى أسل في قومي، فافترقا على ذلك، فسأل الأموي عشرة من قومه فأعطوه مائة ألف عشرة آلاف عشرة آلاف، قال: وجاء الهاشمي إلى عبيد الله بن عباس فسأله فأعطاه مائة ألف، ثم أتى الحسن بن علي فسأله فقال له: هل أتيت أحداً قبلي؟ قال: نعم، عبيد الله بن عباس فأعطاني مائة ألف، فأعطاه الحسن مائة ألف وثلاثين ألفاً، ثم أتى الحسين بن علي فسأله، فقال: هل سألت أحداً قبل أن تأتيني، قال: نعم، أخاك الحسن فأعطاني مائة ألف وثلاثين ألفاً.
فقال: لو أتيتني قبل أن تأتيه أعطيتك أكثر من ذلك، ولكن لم أكن لأزيد على سيدي، فأعطاه مائة ألف وثلاثين ألفاً، قال: فجاء الأموي بمائة ألف وثلاثين ألفاً، قال: فجاء الأموي بمائة ألف من عشرة، وجاء الهاشمي بثلثمائة وستين ألفاً من ثلاثة، فقال الأموي: سألت عشرة من قومي فأعطوني مائة ألف، وقال الهاشمي سألت ثلاثة من قومي فأعطوني ثلثمائة ألف وستين ألفاً، قال: ففخر الهاشمي الأموي فرجع الأموي إلى قومه فأخبرهم الخبر، فرد عليهم المال فقبلوه، ورجع الهاشمي إلى قومه فأخبرهم الخبر فرد عليهم المال فأبوا أن يقبلونه، وقالوا: لم نكن لنرتجع شيئاً قد أعطيناه.

سمى الله المستهزئ جاهلا
ً
حدثنا يعقوب بن محمد بن صالح الكريري، قال: حدثني عبد الجليل ابن الحسين، قال: كان مما عرف عن أحمد بن المعذل وهو صبي له ذؤابة في مجلس أبي عاصم، ومر لأبي عاصم حديثٌ فيه فقه، فقال أحمد: إنه مما ألقح إلينا عن مالك بن أنس في هذا الخبر، فسمع أبو عاصم، فقال: لا زرعك الله، فخجل أحمد، فلما كان المجلس الثاني مر لأبي عاصم حديث فيه فقه، فقال: أين أنت يا منقوص؟ أنس ألقح إليكم عن مالك، قال: فخجل أحمد ثم وثب، فقال: يا أبا عاصم! إن اله خلقك جداً فلا تهزلن، فإن الله عز وجل سمى المستهزئ في كتابه جاهلاً فقال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا: أتتخذنا هزوا؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " قال: فخجل أبو عاصم وكان لا يحدث حتى يحضر أحمد فيقعده إلى جنبه.
أخبار أصحاب الغلمان
النوبختي وزرزر المغني
حدثنا عبيد الله بن محمد الكاتب، قال: كان علي بن العباس النوبختي مع جماعة من أهله على سطح دار أبي سهل النوبختي في ليلة من ليالي الصيف يشربون ومعهم إبراهيم بن القاسم بن زرزر المغني، وكان إذ ذاك أمرد حسن الوجه، وكان في السماء غيم ينجاب مرة ويتصل أخرى، فانجاب الغيم عن القمر فانبسط فقال علي بن العباس، واقبل على إبراهيم:
لم يطلع البدر إلا من تشوقه ... إليك حتى يوفي وجهك النظرا
ولم يتمم البيت حتى استتر القمر، فقال:
ولا تغيب إلا عند خجلته ... لما رآك تولى عنك فاستترا
المعتز ويونس بن بغا
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عباد، قال: حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك، قال: شرب المعتز ويونس بن بغا بن يديه يسقيه والجلساء والمغنون حضور قد أعد الخلع والجوائز، إذ دخل بغا فقال: يا سيدي! والدة عبدك يونس في الموت وهي تحب أن تراه، فأذن له فخرج، وفتر المعتز لبعده ونعس، فقام الجلساء وتفرق المغنون إلى أن صليت المغرب وعاد المعتز إلى مجلسه، ودخل يونس وبين يديه الشموع فلما رآه المعتز دعا برطل فشربه وسقى يونس رطلاً، وغنى المغنون وعاد المجلس أحسن ما كان، فقال المعتز:
تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرحْ
فإن جئت عذبتني ... فإنك لا تسمحْ
فأصبحت ما بين دَيْ ... ن ولي كبد تجرح
على ذاك يا سيدي ... دنوك لي أصلح

ثم قال: غنوا فيه فجعلوا يفكرون، وقال المعتز لابن القصار الطنبوري: ويلك ألحان الطنبور أملح وأخف فغن لنا، فغنى فيه لحناً، فقال: دنانير الخريطة، وهي مائة دينار فيها مائتان مكتوب على كل دينار منها ضرب هذا الدينار الحسني لخريطة أمير المؤمنين، ثم دعا بالخلع والجوائز لسائر الناس، فكان ذلك المجلس من أحسن المجالس.

وناسك يقتله الوجد
حدثنا جعفر بن محمد بن النصير بن القاسم الخواص، قال: حدثنا أبو العباس بن مسروق، قال: حدثني فضل اليزيدي، عن إسحاق بن إبراهيم بن المهدي عن عمر الهلالي، قال: شهدت أبا يحيى التيمي، يقول: كان يختلف معنا رجل من النساك يقال له أبو الحسن إلى مسعر بن كدام، وكان يختلف معه فتىً حسن الوجه يفتن الناس إذا رأوه، فأكثر الناس القول فيه وفي صحبته إياه، فمنعه أهله أن يصحبه وأن يكلمه، فذهل عقله حتى خشي عليه التلف، فبلغ ذلك مسعراً، فقال: قولوا له: ألا يقربني ولا يأتي مجلسي، فإني له كاره، فلقيته فأخبرته ذلك، فتنفس الصعداء وأنشأ يقول:
يا من بدائع حسن صورته ... تثني إليه أعنة الحدقِ
لي منك ما للناس كلهم ... نظر وتسليم على الطرق
لكنهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق
قال: ثم صرخ صرخة وشخص بصره نحو السماء، وسقط فحركته فإذا هو ميت.
لو أمر الله العباد بالجزع
حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثني مهدي بن سابق، قال: قال يحيى بن خالد: لو أمر الله تعالى العباد بالجزع دون الصبر لكان قد كلفهم أشد المعنيين على القلوب، وقال الشاعر:
بكى جزعاً لفقدان الحبيب ... وأسبل دمع ملهوف كئيب
وكان الصبر أجمل لو تعزى ... وأشفى للصدور من النحيبِ
فلو جعل الإله الحزن فرضاً ... لكان الصبر من جل الخطوبِ
لكان الحزن فيه غير شك ... أشد المعنيين على القلوب
الأمين يتوجع لإصابة خادمه كوثر
حدثنا الصولي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد، قال: حدثني محمد بن عمر، قام كوثر خادم الأمين ليرى الحرب، فأصابته رجمةٌ في وجهه فجلس يبكي فوجه محمد من جاء به، وجعل يمسح الدمع عن وجهه، ثم قال:
ضربوا قرة عيني ... ولأجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي ... من أناسٍ أحرقوه
فأراد زيادة في الأبيات، فقال للفضل بن الربيع: من هاهنا من الشعراء؟ فقال: الساعة رأيت عبد الله بن أيوب التيمي. فقال: علي به، فلما دخل أنشده البيتين وقال: قل عليهما، فقال:
ما لمن أهوى شبيه ... فيه الدنيا تتيه
وصله حلو ولكن ... هجره مر كريه
من رأى الناس له الفض ... ل عليهم حسدوه
مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملكِ أخوه
فقال: قد أحسنت، هذا والله خير مما أردت، بحياتي عليك يا عباسي إلا نظرت فإن كان جاء على الظهر ملأت أحمال ظهره دراهم، وإن كان جاء في زورق ملأته له، فأوقر له ثلاثة أبغل دراهم.
المأمون يعاتبه بسبب هذا البيت فيلجأ إلى الفضل بن سهل
قال الصولي: فحدثنا الحسن بن علي العنزي، قال: حدثني محمد بن إدريس، قال: لما قتل الأمين خرج أبو محمد التيمي إلى المأمون فامتدحه، فلم يأذن له فصار إلى الفضل بن سهل ولجأ إليه وامتدحه، فأوصله إلى المأمون، فلما سلم عليه، قال له: يا تيمي:
مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه؟
فقال أبو محمد التيمي:
نصر المأمون عبد الله لما ظلموه
نقض العهد الذي كان قديماً أكدوه
لم يعامله أخوه الذي أوصى أبوه
ثم أنشده قصيدة امتدحه بها أولها:
جزعت ابن تيم أن علاك مشيبُ ... وبان الشبابُ والشباب حبيبُ
فلما فرغ منها قال المأمون: قد وهبتك لله ولأخي أبي العباس، يعني الفضل بن سهل، وأمرت لك بعشرة آلاف درهم.
خمسة آلاف في تفسير كلمة

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن الأصمعي، قال: دخلتُ على الرشيد هرون ومجلسه حافل، قال: يا أصمعي! ما أغفلك عنا وأجفاك لحضرتنا! قلت: والله يا أمير المؤمنين ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، قال: فأمرني بالجلوس فجلست حتى خلا المجلس فجلست وسكت عني حتى تفرق الناس إلا أقلهم، فنهضت للقيام فأشار إلي أن أجلس، فجلست ولم يبق غيري وغيره ومن بين يديه من الغلمان، فقال لي: يا أبا سعيد: ما ألاقتني؟ قلت: أمسكتني يا أمير المؤمنين:
كفاك كف ما تليق درهماً ... جواداً وأخرى تعط بالسيف الدما
أي ما تمسك درهماً، فقال: أحسنت وهكذا فكن وفرنا في الملاء وعلمنا في الخلاء، وأمر لي بخمسة آلاف دينار.

أبيات غزلية
أنشدنا الصولي، قال أنشدنا المبرد:
أنت إلفُ العُيُو ... ن فاكتحلي أو تمرهي
لست عنكم ولو قتل ... ت بدا الدهر أنتهي
قادني نحوك الشقا ... ء كذا كنت أشتهي
المجلس الثالث عشر
حديث الغار
حدثنا محمد بن نوح بن عبد الله المعروف بالجنديسابوري، إملاء في يوم السبت لليلتين خلتا من المحرم سنة عشرين وثلثمائة، قال: حدثنا علي بن حرب الجنديسابوري قال: حدثنا عثمان بن أبي مقسم، عن نافع، أن ابن عمر أخبره أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: " أن ثلاثة نفر انطلقوا يتماشون فأصابهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فوقعت عليهم صخرة، فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله أن يفرج عنا فرجة نرى منها السماء، فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان وكان لي امرأة وصبوة، وكنت أرعى عليهما فإذا مشيت حلبت لهما في إنائهما ثم سقيتهما، وأني جئت ذات ليلة وقد دنا السحر وقد ناما، وكنت قد حلبت لهما في إنائهما فقمت على رؤوسهما والصبوان يتضاغون عند رجلي أكره أن أوقظهما وأكره أن أسقي الصبوان قبلهما، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك من مخافتك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: فأفرجت منها فرجة رأوا منها السماء.
قال: وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم وأني راودتها عن نفسها فأبت علي حتى أتيتها بمائة دينار، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تكسر الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركته لها، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك مخافتك، فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، فأفرجت فرجة أخرى فرأوا منها السماء.
قال: وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيراً يعمل لي في فرق من زيت، فلما عمل أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى هذا الفرق الزيت فخذه، فرغبت عنه نفسه، فعدت إليه، فجمعته فبعت منه حتى كان بقراً ورعاتها، فأتاني فقال: يا عبد الله اتق الله وأعطني أجرتي، فقلت: املك هذه البقرات ورعاتها. فاستاقها، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك مخافتك فافرج عنا الحجر، فأفرج عنهم الحجر، فخرجوا يتماشون إلى أهاليهم " .
التعليق على الحديث
قال القاضي: حديث الغار هذا معروف عند أهل العلم، وقد ورد الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه، وكتبناه من طرق شتى عن الشيوخ، وأتينا بهذا لأنه حضرنا في هذا الوقت دون غيره.
وفيه ما يدعو إلى فعل الخير واصطناع المعروف والإشفاق من الظلم، والحذر من وخيم مغبته وسوء عاقبته، وفيه بيان أن أكثر فعل البر عدة لصاحبه، وذخر يورثه النجاة من المخوفات، ويعطيه الإغاثة عند اللزبات.
وقد حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائقي، قال: حدثنا محمد ابن العباس بن النصير التنيسي، قال: حدثنا عمر بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن الأصبغ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة " .
كثير من أصحاب الحديث لا يضبط اللغة

وروى لنا الجنديسابوري هذا الخبر، فقال فيه: الصبوة والصبوان كأن اللافظ اعتبر فيه لفظ الصبوة. وقولهم: صبا يصبو، والسائر في كلام العرب الصبية في جمع صبي والصبيان، وأصحاب الحديث لا يضبط كثير منهم مثل ذلك فيحيله ولا يضبطه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وكلامه جار على أوضح الإعراب، وأعلى مراتب الصواب.

إعراب المفعول له
وقول من حكى عنه في هذا الخبر: إنما فعلت ذلك مخافتك، المعنى به لمخافتك ومن مخافتك ولأجل مخافتك، وهذا الذي ينتصب عند النحاة لأنه مفعول له، يقال: دنوت ابتغاء الخير، ونأيت حذار الشر، قال الله عز وجل: " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " أي لحذر الموت، أو من حذره، وقد قيل إن المعنى، أنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر الموت، وأن حذر الموت منصوب لأنه مفعول ثان، فقولك: جعلت مالك في بيتك عدة لزمانك، وسلاحك في رحلك جنة من عدوك، ومن هذا النحو، قول الشاعر:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن ذنب اللئيم تكرما
غار آخر ينطبق على تسعة إخوة
حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن جعفر الختلي: قال: حدثنا عبد الله - يعني ابن عمرو البلخي - قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله الختلي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني أبو عمرو العمري، قال: أخبرني حسين بن حسن بن سلمة بن مزينة العاري، عن أبيه: أن امرأة من بني عامر كان لها بنون عشرة، فخرج تسعة منهم في بعض حاجتهم، فأصابتهم السماء فابتدروا كهفاً فتحدرت صخرة فردمت عليهم باب الكهف، فمكثوا فيه لا يقدرون على الخروج منه حتى ماتوا عن آخرهم، فلما طال ذلك على أمهم، قالت لابنها العاشر: انطلق فاقف آثار إخوتك فما أراني إلا وقد رزئتهم، قال: يقول ابنها: كيف ذاك يا أمه؟ قالت: يا بني إني والله أجد كبدي تحترق احتراقاً، كلما قلت قد سكن عاد تلهباً، فانطلق هل تحس لهم أثراً، أو تعلم لهم خبراً، قال: فخرج الفتى يقفو آثار إخوته حتى انتهى إلى ذلك الكهف فاطلع فيه فإذا إخوته موتى مجدلين، فرجع يريد أمه باكياً، فلما أتاها قالت: ما وراءك يا قيس؟ قال: خير يا أمه، قالت: علي ذلك يا بني، قال:
لا تأسفن على شيء فجعت به ... إن المنايا خلال الوعث والجدد
ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا ... أصبحت منهم كقرن الأغضب الفرد
وكل أم وإن سرت بما ولدت ... يوماً ستثكل ما ربت من الولدِ
قالت: فنحبت العجوز نحيباً شديداً، ثم قالت:
بني لا صبر لي فيما فجعت به ... عن تسعة مثلهم غراء لم تلدِ
زُهرٌ جحاجحةٌ بيض خضارمة ... وفي الهزاهز والروعات كالأسْدِ
الأعضب وما قيل فيه من اللغة والفقه
قال القاضي: الأعضب القرن: المكسور، وقيل إنه المكسور نصفه، وقيل: ثلثه، وبين الفقهاء خلاف في جواز الأضحية بالمعضوب القرن، وفي القدر المانع من تجويز الضحية به كاختلاف أهل اللغة، ويقال لذي الزمانة والكسر من الناس: المعضوب، ومن هذا الباب قول لبيد بن ربيعة يرثي أربد أخاه:
يا اربد الخير الكرام جدوده ... خليتني أمشير كقرنٍ أعضُبِ
شعر لا يستنكر إنشاده في المسجد
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، قال: قدم أعرابي من اليمن فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حلقة فيها الحسن بن علي رضي الله عنه، فقال: هل فيكم من ينشد، فقيل له: إنك لجاهل، أتستنشد ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأنشدن ما لا ينكره، ثم إن أحب قال، وإن أحب سكت، ثم أنشأ يقول:
رُبَّ أمور قد بريت لحاها ... وقومت من أصلابها ثم رشتها
أقيم بدار الصدق ما لم أُهن بها ... وإن خفت من دار هوانا تركتها
وأصبح خالي المال حتى تخالني ... بخيلاً وإن حق عراني أهنتها
ولست بولاج البيوت لفاقة ... ولكن إذا استغنيت عنها ولجتها
إذا قصرت أيدي الرجال عن العلا ... مددت يدي باعاً إليها فنلتها
ومكرمة كانت سجية والدي ... فعلميها والدي فعلمتها

وقد علمت أعلام قومي أنني ... إذا نال أظفاري صديقاً قلمتها
رجاء غدٍ أن يعطف الود بيننا ... ومظلمة منهم بجنبي عركتها
وإني سألقى الله لم أرم حرةً ... ولم تأتمني سر قوم فخنتها
ولا باغياً خمراً وأسماع قينة ... ولا قائلاً في الشعر أني شربتها
ولا غائراً ما لم تغرني حليلتي ... متى ما أغر إن لم تغرني ظلمتها
فقال الحسن رضي الله عنه: ما رأيت كاليوم شعراً أرصن، وأمر له بصلة لم يقبلها، وانصرف.
؟أكله كُلّه حدثنا محمد بن إبراهيم بن عرفة المهلبي، قال: حدثني أبو عتبة البصري، قال: قدم عمارة بن عقيل البصرة، فأتاه الناس يكتبون عنه، فقال لرجل حضره: أنشدني بعض ما قاله الفرزدق لجدي، وبعض ما قال جدي للفرزدق، فأنشده قول الفرزدق:
حلقت برب مكة والمصلى ... وأعناق الهدي مقلداتِ
لقد قلّدت جلف بني كليبٍ ... قلائد في السوالف باقياتِ
قلائد ليس من ذهبٍ ولكن ... قلائد من جهنم منضجاتِ
حتى أتى عليها فجعل يتلظّى، ثم قال: هات ما قاله له أبي فأنشده:
تعللنا أمامة بالعدات ... وما يشفي القلوب الصادياتِ
ولولا حبها وإله موسى ... لودعت الصبا والغانيات
إذا رضيت رضيت وتعتريني ... إذا غضبت كهيضات السبات
وما صبري عن الذلفاء إلا ... كصبر الحوت عن ماء الفرات
ثم قال: ماذا؟ قد قطع الفرزدق عرضه وهو في أمامة؟ حتى إذا بلغ إلى قوله:
رجوتم يا بني وقبان موتي ... وأرجو أن تطول لكم حياتي
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم ... وعن بازٍ يصك حبارياتِ
إذا طرب الحمام حمام نجدٍ ... نعى جار الأقارع والحتات
فقام يحجل طرباً، وقال: أكله كله.

أبشر بطول سلامة يا مربع
قال أبو عبد الله بن عرفة: وقد تمثل بهذا البيت الحسن بن قحطبة حين هم أبو جعفر المنصور بالبيعة للمهدي أبي عبد الله، فدخل عليه الحسن بن قحطبة فقال: يا أمير المؤمنين! ما تنتظر بالفتى المقبل المبارك، جدد له البيعة فما أحد ممتنع وراء هذا الستر، ومن أبى فهذا سيفي، وبلغ الخبر عيسى بن موسى، فقال: والله لئن ظفرت به لأشرب البارد، وبلغ الحسن بن قحطبة الخبر والمنصور فدخل الحسن ابن قحطبة على المنصور وعنده عيسى بن موسى، فتمثل المنصور بقول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع
مربع رجل من بني جعفر بن كلاب، كان يروي شعر جرير فنذر الفرزدق دمه، فقال جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربعُ
إن الفرزدق قد تبين لؤمه ... حيث التقى حششاؤه والأخدعُ
فلما خلع المنصور عيسى بن موسى مر في موكب، فقال إنسان: من هذا؟ فسمعه مخنث، فقال: هذا الذي أراد أن يكون غداً فصار بعد غد، وقد روينا في خبر آخر: أن عيسى بن موسى قال لمخنث يتهدده: أما تعرفني؟ فقال: بلى، أنت الذي كنت غداً فصرت بعد غد.
وقول جرير: حيث التقى حششاءه، الحشاشاوان: هما العظمان الناشزان وراء الأذنين، والواحد حششاء وهما لغتان إحداهما هذه مثل فعلاء، والأخرى حشاء علي فعلاء مثل قسطاس وفسطاط من الصحيح، وكذلك قوياء وليس في الأسماء على هذا الوزن غيرهما.
وأما فعلى فقد حكى الفراء ويعقوب وغيرهما فيه ثلاثة أحرف، وحكى غيرهما فيه رابعاً وخامساً وسادساً، فأما الأحرف الثلاثة فأدمى اسم مكان، وأربى من أسماء الداهية، كما قال الشارع:
هي الأربى جاءت بأم حبو كرى
وشعبى اسم بلدة، قال جرير:
أعبداً حل في شعبى غريباً ... ألؤماً لا أبا لك واغترابا
وأما الحروف الأخر فحكاهن فيما روى لنا أبو عمر الشيباني وابن الأعرابي.
حدثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا ثعلب، قال: جاءت حروف لم يأت بها يعقوب ولا الفراء، أتى بها أبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي، وهي: جمدى اسم موضع وجسقى اسم بلد، وجبنى اسم جبل.
دع لله إحداهما تنل الأخرى

حدثنا علي بن محمد بن الجهم، أبو طالب الكاتب، قال: حدثنا العباس بن الفضل الربعي، قال: وحدثني علي بن محمد بن خلف العطار، قال: حدثني الحسن بن الحسين الأشقر، قال: كنت أطوف مع عبد الله بن حسن بن حسن فإذا نحن بامرأة حسناء تطوف، قال: فقال لها عبد الله بن حسن بن حسن:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني ... فكيف لي بهوى اللذات والدينِ
فقالت: يا ابن رسول اله دع لله إحداهما تنل الأخرى، فقال: هل من زوج؟ قالت: كان فدُعي، قال: منذ كم؟ قالت: منذ سنة، فقال: الحمد لله على تمام النعمة، قال: هل لك في التزويج؟ قالت: والله ما كان ذاك رأيي، ولكن لك فنعم، فتزوجها.

عبد الله بن طاهر يجيز العتابي ثلاث مرات
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثني أبو هفان، قال: حدثني أبي، قال: دخل العتابي على عبد الله بن طاهر فأنشده:
حسن ظني وحسن ما عوّد ال ... له سوائي بك الغداة أتى بي
أي شيءٍ يكون أحسن من حس ... نِ يقين حدا إليك ركابي
فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه مرة أخرى فأنشده:
جودك يكفينيك في حاجتي ... ورؤيتي تكفيك مني السؤالِ
كيف أخشى الفقر ما عشت لي ... وإنما كفاك لي بيت مالِ
فأجازه أيضاً، ثم دخل عليه اليوم الثالث فأنشده:
أكسني ما يبيد أصلحك الل ... ه فإني أكسوك ما لا يبيدُ
فأجازه وكساه وحمله.
قصة أبيات من الشعر لعبد الله بن طاهر
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، أبو عبد الله الكاتب، قال: أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن هشام، قال: كنا عند أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر يوماً، ودخل محمد بن عيسى الكاتب، فقال أبو العباس: أعطوه قدحاً، فأبى واعتذر، فقيل عذره وجلس وغنينا وشربنا، ثم تغنى كنيز دبّة صوتاً فالتفت أبو العباس ونظر إلى قدحٍ فيه أربعة أرطالٍ في يد محمد بن عيسى فقال: ما هذا يا أبا جعفر؟ فقال: أعز الله الأمير، لي ولهذا الشعر حديث، كنت مع أبي العباس عبد الله بن طاهر جالساً فشكا إلي وجده وعشقه لإنسان فقال:
أعياني الشادن الربيبُ
فقلت: داره، فقال:
أكتبُ أشكو فلا يجيبُ
فقلت: داوه، فقال:
فكيف أرجو دواءَ دائي ... وإنما دائي الطبيبُ
ثم افترقا فلم أسمع أحداً يذكره حتى سمعت هذا يغني به الساعة.
أبيات ثلاثة لأبي نواس تساوي شعر أبي العتاهية كله
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن مطهر الكوفي، قال: قال أبو العتاهية، قال: قلت عشرين ألف بيت في الزهد وودت أن لي مكانها الأبيات الثلاثة التي لأبي نواس:
يا نواسي توقر ... وتعزى وتصبر
إن يكن ساءك دهرٌ ... فلما سرك أكثر
يا كثير الذنب عفو ال ... له من ذنبك أكبر
قال الحسن بن عبد الرحمن، قال أبو مسلم الكاتب: هذه الأبيات مكتوبة على قبر أبي نواس، فزادني أبي فيها بغير هذا الإسناد:
أعظم الأشياء في أص ... غر عفو الله يصغُر
ليس للإنسان إلا ... ما قضى الله وقدر
ليس للمخلوق تدبي ... ر بل الله المدبر
ريبة الرشيد في النمري
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عون بن محمد، أن سعيد ابن سلم قال: حضرت النمري ينشد الرشيد شعراً فمر فيه وصفٌ لسيوفه:
ليست كأسيافِ الحسينِ ولا ... بني حسنٍ ولا آل الزبير الكلل
هرونُ في الخلفاء مثل محمد ... في الأنبياء مفضل لمفضل
فقال له الرشيد: ما يولعك بذكر قوم لا ينالهم ذم إلا شاطرتهم إياه، قد رابني منك هذا وفيك، لا تعد له، وإنما نفارقهم في الملك ثم لا افتراق في شيء بعده.
شعر يعزل قاضياً عن القضاء
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا مسبح بن حاتم، قال: أخبرني يعقوب بن إسرائيل، قال: أخبرني محمد بن علي بن أمية، قال: كنا بحضرة المأمون بدمشق فغنى علويه:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ... أتاك به الواشون حقاً كما قالوا
ولكنهم لما رأوك سريعةً ... إلي تواصوا بالنميمة واحتالوا
فقد صرت أذناً للوشاة سميعةً ... ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
فقال المأمون لعلويه: لمن هذا الشعر؟ قال: للقاضي، قال: أي قاض؟ قال: قاضي دمشق، فأقبل على أخيه المعتصم، فقال له: يا أبا إسحاق اعزله، قال: قد عزلته، قال: فليحضر الساعة، فأحضر شيخ خضيب ربعة من الرجال، فقال له المأمون من تكون؟ فنسب نفسه، فقال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله، قال: يا علويه أنشده الشعر فأنشده، فقال: هذا شعرك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وعبيده أحرار وماله في سبيل الله إن كان قال شعراً غلا منذ ثلاثين سنة وإلا في زهد أو معاتبة صديق، قال: يا أبا إسحاق اعزله، فما كنت لأولي الحكم بين المسلمين من يبدأ في هزله وجده بالبراءة من الإسلام، ثم قال: اسقوه، فأتي بقدح فيه شراب فأخذه بيده وهي ترعد، ثم قال: يا أمير المؤمنين! الله الله ما ذقته قط، قال: أفحرام هو؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال المأمون: أولى لك بها، أي نجوت. ثم قال لعلويه: لا تقل برئت من الإسلام، ولكن قل:
حرمتُ منائي منك إن كان ذا الذي أتاك به الواشون حقاً كما قالوا
قال محمد بن الحسن المقري: هذا القاضي هو عمر بن أبي بكر الموصلي، روى عنه الزبير بن بكار وإبراهيم بن المنذر.

تعليق نحوي مد المقصور وقصر الممدود
قال القاضي: مد المأمون المنى في هذا وهو مقصور، وكان نحاة البصرة من متقدميهم ومتأخريهم لا يجيزون ذاك في شعر ولا نثر، إلا الأخفش فإنه كان يجيزه في الشعر، وهو مذهب متقدمي نحاة الكوفيين، وكان الفراء يجيزه في بعض الوجوه ويأباه في بعضها، فأما قصر الممدود في الشعر فجائز عند جميع النحويين، ولو جعل مكان هذا: حرمت رجائي أو شفائي أو ما أشبهها لكان وجهاً صحيحاً لا ينكر ولا يختلف في جوازه.
عمر رضي الله عنه يعزل والياً بسبب شعره
ونظير عزل هذا القاضي عن عمله لما أنكره إمامهُ من القول السيئ في شعره، الخبر الوارد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عزله النعمان ابن عدي بن نضلة، وذلك ما حدثناه علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب، قال: حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: أنبئت أن عدي بن نضلة بن عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب ممن هاجر إلى أرض الحبشة ومات بها، وكان معه ابنه النعمان بن عدي وهو الذي استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ميسان، فقال أبياتاً من الشعر فعزله، فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاجٍ وحنتم
إذا شئت عادتني دهاقين قريةٍ ... ورقاصة تجدو على كل منسمِ
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقين بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءهُ ... تنادُمُنا بالجوسق المتهدم
فلما بلغت عمر الأبيات، قال: أجل والله إن ذلك ليسوءني، فمن لقيه منكم فليخبره أني قد عزلته، فقدم علي عمر فاعتذر، حلف ما صنع مما قال شيئاً، ولكني كنت امرأً شاعراً وجدت فضلاً من قول كما يقول الناس، فقال عمر: والله لا تعمل لي عملاً ما بقيت وقد قلت ما قلت.
تعليق لغوي وبلاغي
قال القاضي: قوله تجذو على أطراف أصابع رجليها: أي تقوم، يقال منه: جذا يجذو على أصابع رجليه، وجثا يجثو على ركبتيه.
وسمى الرجل منسماً استعارة وهو في الأصل للبعير، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة لتستثفر، وهو في الأصل للدواب ذات الحافر، وكما قال: " من حفظ ما بين فقميه وما بين رجليه دخل الجنة " يريد الفم والفرج، وأصل الفقم للحية، ومن المنسم قول زهير:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسمِ
والذي يسمى من الإنسان الظفر يقال له من ذوات الخف المنسم.
من الشعر العفيف

حدثنا يعقوب بن محمد بن صالح الكريري، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل القيسي، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب المدني، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أنشدنا عبد الله بن مصعب لخيرة بنت أبي ضيغم البلوية:
وبتنا خلاف الحي لا نحن منهمُ ... ولا نحن والأعداء مختلطانِ
وبتنا يقينا بارد الطلِّ والندى ... من الليل برداً يمنة عطران
نذوذ بذكر الله عنا من الخنا ... إذا كان قلبانا بنا يردانِ
ونصدر عن ري العفاف وربما ... نقعنا غليل الصدر بالرشفان

أبيات تمثل بها ابن الزبير منصرفه يوم الجمل
حدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن صالح بن شيخ، قال: حدثنا الرياشي، قال: حدثنا محمد بن الحكم الجبلي، قال: حدثنا محمد بن حلحلة القرشي، عن أبي ريحانة، قال: لما انصرف الزبير يوم الجمل تمثل:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا
فقلت لكأسٍ ألجميها فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا
كأن بليتها وبلدة نحرها ... من النبل كراث الصريم المنزعا
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا
قال الرياشي: الليتان صفحتا العنق من الناقة، وهما تحت القرط من المرأة، قال القاضي: من الليت قول الشاعر:
وفرع يصير الجيد وحفٍ كأنه ... على الليت قِنوانِ الكروم الدوالحُ
وقال آخر:
إذا هي قامت تقشعر شواتها ... ويبرق بين الليت منها إلى الصقل
قال الرياشي في قوله وبلدة نحرها: البلدة من الإنسان اللبة، ومن البعير الكركرة، وكراث الصريم: نبت له ثلاثة عروق ينبت في الرمل فإذا أخرجه كان أسفله كأنه قذذ السهم، فشبه النبل بذاك، والصريم: الرمل، وأنشد الرياشي:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدةٍ ... قليلٌ بها الأصوات إلا بُغامُها
يقال لصوت البعير بغام، قال الشاعر:
حَسِبْتَ بُغام راحلتي عناقاً ... وما هي ويب غيرك بالعناقِ
المجلس الرابع عشر
الصاحب مسئول عن صاحبه
حدثنا محمد بن هرون، أبو حامد الحضرمي، قال: حدثنا زيد بن سعيد، قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، قال: حدثنا مروان بن سالم، عن يحيى بن الحكم، عن عبد الله، قال: صحب النبي صلى الله عليه وسلم صاحباً فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة فقطع غصنين، أحدهما أعوج والآخر مستقيم، فدفع إلى صاحبه المستقيم وأمسك الأعوج، فقال الرجل: يا رسول الله! أنت أحق بهذا، فقال: " كلا، ما من صاحب يصحب صاحباً إلا وهو مسئول عنه يوم القيامة ولو ساعةً من نهار " .
حدثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي، قال: حدثنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عمر بن يونس بن القاسم اليمامي، قال: حدثنا عمر بن يونس، قال: حدثنا أبي، عن حموة بن عبد الله بن عمر، قال: كان ابن عمر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل غيضة ومعه صاحب له، فأخذ منها مسواكين أراكا، أحدهما مستقيم والآخر معوج، فأعطى صاحبه المستقيم وحبس المعوج، فقال: يا رسول الله! أنت أحق بالمستقيم مني، قال: " كلا، إنه ليس من صاحبٍ يصاحب صاحباً ولو ساعة من نهار إلا سأله الله عز وجل يوم القيامة عن مصاحبته إياه، فأحببت ألا أستأثر عليك بشيء " .
العبرة من الحديث
قال القاضي: تأملوا - رحمكم الله - ما في هذا الخبر من ذكر ما أتى به من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريفة العلية، وعشرته لمن صاحبه الكريمة الرضية، والإفضال والإيثار، وعزوفه عن الاستبداد والاستئثار، ومن أولى بذلك ممن القرآن العظيم أدبه، ومُنزل الوحي الحكيم مُؤدبه، وقد روى أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن.

قال القاضي: وأعظم بقول الله عز وجل " وإنك لعلى خلق عظيم " نبلاً ومجداً وفضلاً وجدّاً، وقد جاء في الأثر أنه كان أحيا من عذراء في خدرها، وأنه كان أشد الناس فيما كان من أمر الله عز وجل، فيرضى أحسن الرضا حين التواضع، ويعطي أجزل العطاء عند السماحة والاسترفاد، ويغضب لله عز وجل أشد الغضب عند ظهور الغي والعناد، والعبث والفساد، وكان في أمر ربه ونصرة دينه كالحسام الباتر، والضرغام الخادر، فأكرم بنفسه السمحة الزكية الشريفة الأبية، وسجاياه السهلة الرضية، وعطاياه الفاضلة السنية، اللهم لفك الحمد على توفيقك إيانا لتصديقه، وهدايتك لنا به، اللهم فأسعدنا بإتباع أوامره، والوقوف عند زواجره، والاستمرار على سنته، والسعادة بشفاعته.
جدُّ أعشى همدان وصاحبه
حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، عن أبيه، عن عوانة بن الحكم، قال: حدثنا شيخان من همدان قالا: كان نظام بن جشم بن عمر بن مالك بن عبد الجن الهمداني، وهو جد أعشى همدان، واسم الأعشى عبد الرحمن بن الحارث بن نظام، مؤاخياً لأشوع بن أبي مرثد الهمداني وكانا مغوارين فاتكين قرضوبين جوداين - قال ابن دريد: القرضوب: الذي يأخذ كل ما لاح له - لا يليقان شيئاً، قال القاضي: يقال للصوص: قراضبة، ويقال للفقير قرضوب، قال الشاعر:
قوم إذا صرحت كحل فدارهم ... كهف الضعيف ومأوى كل قرضوبِ
رجع الحديث: لا يليقان شيئاً، فخرجا يريدان الغارة على مهرة ابن حيدان، وكان يختلسان الصرمة ثم يشلانها مجاهرة، فإن أدركا رمياً فلم يسقط لهما سهم، قال ابن الكلبي: قال أبي، قال عوانة: سمعت من أثقب به من رجال همدان يخبر أن السرب من القطا كان يمر بهما طائراً فيقولان: أيها تريدون؟ فيومأ إلى الواحدة منها فيرميانها فلا يخطئان، وكذلك الظباء، وبين بلاد همدان وبلاد مهرة مفازة منكرة، لا تسلكها الخيل وتسوخ فيها أخفاف الإبل فتصب فيها أودية مهرة وأودية الحوف، وهي سبخة ملحة نشاشة، لا تنبت عوداً ليس العكرش، قال: ففوزا أياماً وشول ماؤهما وخافا الهلاك، فأبصرا يوماً مع ذرور الشمس طيراً تحوم على غمضٍ من الأرض، فقال أحدهما لصاحبه: ألا ترى ما أراه، فقال: بلى والله إنها لتحوم على لحم أو ماء، وأيها كان فهو ملكٌ أو وشل فقصدا الجهة حتى هبطا غائطاً ذا خبراوات ونقعان، فأناخا وشربا وسقيا وعضدا لراحلتيهما، واستظلا ببعض تلك الشهر، فبينا كذلك إذ مر بهما أُمعوز، وهو جماعة من الظباء، فرمياه فصرعا ظبيين وأورقا وأوريا واشتويا وقعدا يرقبان الليل ليستدلا بالنجوم، فإذا سواد مقبل فأخمرا راحلتيهما، قال ابن دريد: أي وارياها تحت الشجر، قال القاضي: وهو الخمر، قال الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا ... فقد جاوزتما خمر الطريقِ
وطلعا دوحة فتغيبا في شعابها فإذا صرمة زهر كالصوار يحدوها عبد أسود وهو يقول:
روحي إلى خير أبي المعارك ... لمبركٍ من أرحب المبارك
فإن بيت أضيافه هنالك ... فابشري بوقع عضبٍ باتك
يبتر منك أسوق البوائك
فما غاب الأول عن أعيننا حتى بدت صرمة أخرى يحدوها عبد أسود، وهو يقول:
روحي إلى مبركك الدماثر ... إلى فتى كهبان والمهاجرِ
وعصمة المعتر والمهاجر ... والليث في اليوم العماس الخادر
قال ابن دريد: العماس الشديد -
فإن منيتِ بمضاف زائر ... فأيقني بوقع عضبٍ باتِر
ثم اعتراقٍ بشفارٍ جازر ... مخطرفٍ للجلة البهازر
فلما غاب الراعيان عن أعيننا خرجنا نقتفي آثار الإبل، حتى قربنا من الحلة فأنخنا فلما هدأت الرجل خرجنا مصلتين حتى انتهينا إلى المبرك فاستثرنا من إطراره صرمة فشللناها ليلتنا، حتى إذا انحسر خدرُ الليل وذر الشروق إذا شبح يهوى إلينا هوي العقاب، فما ارتد الطرف حتى أثبتناه نظراً، فإذا رجل على ناقة كأنها ظبي صرع، قال القاضي: الصرع الذي بين الكبير والصغير، قال الأعشى يصف وعلاً:
قد يترك الدهر في خلقاء راسيةٍ ... وهياً وينزل منها الأعصم الصرعا
فأية بالصرمة فانكفأت راجعة، فأقبلنا نصورها أي نعطفها ونمليها كما قال الشاعر:

وفرعٍ يصير الجيد وحفٍ كأنه ... على الليت قِنوانُ الكروم الدوالحُ
وقال الشاعر:
وجاءت خلعةٌ دهسٌ صفايا ... يصور عنوقها أحوى زنيم
ويقال أيضاً: صار يصير كما قال الشاعر: وفرع يصير... البيت وقد قرئ: فصرهن إليك وقصرهن.. والمعنى الميل، وقيل: القطع، وبيان هذا في كتبنا في علوم القرآن مستقصاة.
رجع الحديث، وهي سرع إلى تأييهه، فلما دنا منا قال: خليا عنها لا أم لكما، فقلنا: ولا نعمى عين، وبوأنا له سهمين فأقحم من راحلته كالوعل المذعور، وانتضى سيفه وثنى رأسه في درقته، فوالله ما أرسلنا سهمينا حتى خالطنا، فضرب عرقوبي ناقة صاحبي فغادرها نكوس، وأهوى للأخرى فبتر عرقوبها وهو يقول:
علام أسقي رسلها وأمنحُ ... وأُشبع الضيف بها وأجرحُ
إن لم أقاتل دونها وأضرحُ ... عنها إذا خام الكمي الشحشحُ
ثم قال: استأسرا، فتذامرنا وإن أنفسنا لتنازعا إلى ما قال، فكررنا عليه بأسيافنا فوثب وثبات الفهد، فوقف حجرة وفوت النبل ثم كر راجعاً، فضرب درقة صاحبي فاقتدها، فلما رأينا ذلك استسلمنا وقلنا عياذاً بك يا بن الكرام، فقال: بمعاذ عذتما، وسألنا عن أنسابنا فأخبرناه، فقال: ارتدفا على راحلتي واصرفا وجهتها شطر مطلع الشمس تبلغكما الحي، فخبت بنا الناقة تهوي لا تملكنا من أمرنا شيئاً حتى وردت بنا الحي، فكلا ولا إذ أقبل ضاحكاً كأنه لم تمسسه مشقة، وقد مشى مسيرة ليلة للراكب المجد، فقال: دونكما الصرمة التي اطردتماها وناقتين من سر إبلي برحليهما وحملنا وسرّحنا، فقال: اسمعا ما أقول لكما، فقال:
أقول لخاربي همدان لما ... أثارا صِرمة حمرا وعيسا
ألم تعلما أن لن تفوتا ... وأن لن تعجزا الليث الهموسا
فظن عاجز أن تسلباني ... ومن ذا يسلب الليث الفريسا
ومن دون الذي أملتماه ... ضراب يقطر البطل البليسا
إذا أنا لم أذد عن مدفآتٍ ... فيحدو بيدها الحزن الشريسا
فمم أجنب الأضياف ذمي ... إذا النكباء أوجفت البئيسا
ومما أحسب الجمم اللواتي ... يظل لها الرجال إلي شوسا
ومما أنعش العفى إذا ما ... تراءى وجه دهرهم عبوسا
أهيبا خاربي همدان منها ... بزهر تطرد الفقر الضروسا
وأوبا سالمين بها ولمّا ... أثر لكما النآد المرمريسا
قال ابن دريد: يريد الداهية، قال القاضي: أحسب الجمم معناه أنيلهم ما يكفهم يقال: احسبني الطعام وغيره يحسبني أن كفاني، وقولهم حسبك معناه كافيك، وقيل في قوله تعالى: " عطاءً حساباً " معناه عطاء كافياً يحسبهم أي يكفيهم وقوله: الجمم جمع جمة وهم القوم يسألون في الدية، وقوله: شوساً جمع أشوس وهو الذي ينظر نظراً شديداً، قال الشاعر:
خلا أن العتاق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس
وقوله: ومما أنعش العفى، معنى أنعش أرفع، وقولهم: نعشك الله أي رفعك إما بسد خلتك أو بإقالة عثرتك وما أشبههما، ومنه قيل لسرير الميت نعش لأنه يرفع عليه، وقوله: العفّى جمع عاف وهو السائل للحاجة وطالبها، يقال: عفا فلان فلاناً يعفوه إذا سأله ورغب إليه في حاجته، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم أُحُد " لولا أن يحزن ذلك نساءنا لتركنا حمزة بالعراء تأكله عافية الطير " يقال: عافٍ وجماعة عافية مثل كاف وجماعة كافية، ويقال للعافي: معتف، وهو مفعل منه قال الشاعر:
ترى حولهن المعتفين كأنهم ... على صنمٍ في الجاهلية عكّفُ
جمع العافي أيضاً عفاة، مثل كاف وكفاة وساق وسقاة وقاض وقضاة في أشباه لهذا كثيرة جداً، ومن هذا قول الأعشى:
تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن
وجمع العافي في الشعر الذي بلغ في هذا الخبر عُفى على وزن فُعّل مثل غاز وغزىً هاد وهدى، قال الله عز وجل: " أو كانوا غزىً " ومثله في الصحيح راكع وركع وساجد وسجد، قال الراجز يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
وقال الله تعالى: " الركع السجود " .

خبر مقتل أبي مسلم صاحب الدولة
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال: حدثنا أبو العباس المنصوري، قال: لما قتل أمير المؤمنين المنصور أبا مسلم، قال: رحمك الله أبا مسلم، بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا ووفينا لك، وإنا بايعناك على ألا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه فخرجت علينا فقتلناك.
ولما أمر المنصور بقتله وقد دس له رجالاً من خاصته، وقال لهم: إذا سمعتم تصفيقي فاضربوه، فضربه شبيب بن داج ثم ضربه القواد، فدخل عيسى بن موسى وقد كان كلم المنصور في أمره، فلما رآه قتيلاً استرجع، فقال له المنصور: احمد الله تعالى أنك هجمت على نعمة ولم تهجم على مصيبة، فقال أبو دلامة:
أبا مسلم ما غير الله نعمةً ... على عبده حتى يغيرها العبدُ
أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الوردُ
خبر للمؤلف مع بعض الرؤساء في شأن أبيات لأبي تمام
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: أخبرني أحمد بن الحسين بن هشام قال: أنشدني أبو تمام:
يقولون هل يبكي الفتى لخريدةٍ ... متى ما أراد اعتاض عشراً مكانها
وهل يستعيض المرء من خمسِ كفه ... ولو بدلت حر اللجين بنانها
وكيف على نار الليالي معرسي ... إذا كان شيب العارضين دخانها
قال القاضي: كان بعض رؤساء الزمان أنشد بعض هذه الأبيات، فاستحسنها جداً، وقال - ونحن بحضرته جماعة - : أتعرفون لهذه الأبيات أولاً؟ فقلت له: هذه كلمة لأبي تمام مشهورة أولها:
ألم ترني خليت نفسي وشأنها ... فلم أحفل الدنيا ولا حدثانها
لقد خوفتني الحادثات صروفها ... ولو آمنتني ما قبلتُ أمانها
وأنشدته منها:
يقولون هل يبكي الفتى لخريدة ... إذا ما أراد اعتاض عشراً مكانها
وهل يستعيض المرء من خمس كفه ... ولو صاغ من حر اللجين بنانها
فطرب عند الانتهاء إلى هذا وجعل يردده ويتعايا فه إلى أن حفظه، وقال: هذا ألذ من كل شراب وغناء.
الحسين يرفض تزويج زينب من يزيد

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: أخبرني أبي، عن أبي الفضل العباس بن ميمون، قال: حدثني سليمان بن داود المقري الشاذ كوني، قال: أخبرني محمد بن عمر بن واقد السلمي، عن عبد الله بن جعفر المدني، عن أم بكر بنت المسور بن مخرمة، قال: سمعت أبي يقول: كتب معاوية إلى مروان وهو على المدينة أن يزوج ابنه يزيد بن معاوية زينب بنت عبد الله بن جعفر، وأمها أم كلثوم بنت علي وأم أم كلثوم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقضي عن عبد الله بن جعفر دينه، وكان دينه خمسين ألف دينار، ويعطيه عشرين ألف دينار، ويصدقها أربع مائة دينار ويكرمها بعشرة آلاف دينار. فبعث مروان بن الحكم إلى عبد الله بن جعفر فأجابه، واستثنى عليه رضى الحسين بن علي رضي الله عنه، وقال: لن أقطع أمراً دونه مع أني لست أولى بها منه وهو خالٌ، والخال والد، قال: وكان الحسين رضي الله عنه بينبع، فقال له مروان: ما انتظارك إياه بشيء، فلو حزمت؟ فأبى وتركه، فلم يلبثوا إلا خمس ليال حتى قدم الحسين رضي الله عنه، فأتاه عبد الله بن جعفر، فقال: كان من الحديث ما تسمع وأنت خالها ووالدها، وليس لي معك أمر فأمرها بيدك، فأشهد عليه الحسين جماعة بذلك، ثم خرج الحسين رضي الله عنه فدخل على زينب، فقال: يا بنت أختي إنه قد كان من أمر أبيك أمر، وقد ولاني أمرك وإني لا آلوك حسن النظر إن شاء الله، فإنه ليس يخرج منا غريبةً فأمرك بيدي، قال: نعم بأبي أنت وأمي، فقال الحسين رضي الله عنه: اللهم إنك تعمل أني لم أرد إلا الخير، فقيض لهذه الجارية رضاك من بني هاشم، ثم خرج حتى لقي القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب، فأخذ بيده فأتى المسجد، وقد اجتمعت بنو هاشم وبنو أمية وأشراف قريش وهيأوا من أمورهم ما يصلحهم، فتكلم مروان فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن يزيد بن أمير المؤمنين يريد القرابة لطفاً والحق عطفاً، ويريد أن يتلافى ما كان صلاح هذين الحيين مع ما يحب من أثره عليهم، ومع المعاد الذي لا غناء به عنه مع رضا أمير المؤمنين، وقد كان من أمر عبد الله بن جعفر في ابنته ما قد حسن فيه رأيه، وولى أمرها خالها الحسين ابن علي رضي الله عنهما، وليس عند الحسين خلاف لأمير المؤمنين إن شاء الله. فتكلم الحسين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الإسلام يرفع الخسيسة ويتم النقيصة ويذهب الملامة، فلا لوم على امرئ مسلم إلا في مأثم، وإن القرابة التي عظم الله حقها وأمر برعايتها، وسأل الأجر في المودة عليها والمحافظة في كتاب الله عز وجل قرابتنا أهل البيت، وقد بدا لي أن أزوج هذه الجارية من هو أقرب إليها نسباً وألطف سبباً، وهو هذا الغلام، يعني القاسم بن محمد بن جعفر، ولم أرد صرفها عن كثرة مال نازعتها نفسها ولا أبوها إليه، ولا أجعل لامرئ في أمرها متكلماً، وقد جعلت مهرها كذا وكذا، فلما في ذلك سعة إن شاء الله. فغضب مروان، وقال: أغدراً يا بني هاشم؟ ثم أقبل على عبد الله بن جعفر، فقال: ما هذه بأبادي أمير المؤمنين عندك، وما غبت عما تسمع، فقال عبد الله: قد أخبرتك الخبر حيث أرسلت إلي وأعلمتك أني لا أقطع أمراً دونه، فقال الحسين: على رسلك أقبل علي، فأول الغدر منكم وفيكم، انتظر رويداً حتى أقول، نشدتكم الله أيها النفر ثم أنت يا مسور بن مخرمة، أتعلم أن حسن بن علي خطب عائشة بنت عثمان حتى إذا كنا بمثل هذا المجلس من الإشفاء على الفراغ، وقد ولتك يا مروان أمرها، قلت: إنه قد بدا لي أن أزوجها عبد الله بن الزبير، هل كان ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ يعني المسور، قال: اللهم نعم، فقال مروان: قد كان ذلك وأنا أجيبك وإن كنت لم تسألني، قال الحسين: فأنت موضع الغدر.

عمرو بن حريث يتزوج ابنة عدي بن حاتم على حكمه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8