كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا

تعليق على ما جاء في الخبرين السابقين
قال القاضي: قد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الطريق في ذكر عنترة محبته رؤية عنترة وأنه قال: لو أدركته نفعته؛ وقول الشاعر إلى ضخمة الأذنين والكف شهبرة الشهبرة: العجوز المولية، ويقال شهورة وينشد في هذا:
أم الحليس لعجوز شهوره
وجاء في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن حارثة لا تتزوج خمساً، فذكر فيهن الشهبرة. ويقال أيضاً عجوز شهربة وأنشدوا في هذا:
أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة
وقوله: وما كان عن كف القبالي أهدره يقال أهدر دم فلان إذا طل ولم يثأر به وأسقط القصاص والعقل عنه. وقول الشاعر في الشعر الثاني: لا يفلتن العبد عنتر عنتراً فيه إغراء به، كأنه قال عليك عنترة أو اقتل عنترة، كما تقول: الطريق الطريق فأضمر الفعل، ومثله قولك لمن رأيته يضرب رجلاً أو يتهيأ لضربه: رأسه؛ وهذا باب واسع معروف في العربية يضمر الفعل فيه اكتفاءً بما حضر أو ظهر من الأحوال والأشياء الدالة على العامل المنوي والمتروك. وأما قول العبسي " تفقت عينه " فإنه ترك الهمز في هذه الكلمة وهو أصل فيها، قال الشاعر:
تفقأ فوقه قلع السواري ... وجن الخازباز به جنونا
وقد يترك الهمز كثيراً وخاصة في الشعر كقول الشاعر:
وكنت أبا ستةٍ كالبدور ... أفقي بهم أعين الحاسدينا
بيت شريف في امرأة خفرة
حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي، قال حدثنا مهدي بن سابقٍ، قال حدثني الهيثم بن عدي قال: كنا جلوساً عند صالح بن حسان فقال: أنشدوا بيتاً شريفاً في امرأةٍ خفرة، قلنا قول حاتم الطائي:
يضيء لها البيت الظليم خصاصه ... إذا هي يوماً حاولت أن تبسما
فقال: أريد أحسن من هذا البيت. قلنا قول الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا بيت ذي الرمة:
تنوء بأولاها فلأياً قيامها ... وتمشي الهوينا من قريب فتبهر
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: ما عندنا شيء، قال بيت أبي قيس ابن الأسلت:
ويكرمنها جاراتها فيزرنها ... وتعتل عن إتيانهن فتعذر
أحسن بيت في وصف الثريا
ثم قال: أتدرون أحسن بيتٍ وصفت به الثريا؟ قلنا بيت ابن الزبير:
وقد لاح في الجو الثريا كأنه ... به راية بيضاء تخفق للطعن
فقال: أريد أحسن من هذا، قلنا: بيت امرئ القيس:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
قال: أريد أحسن من هذا، قلنا: بيت ابن الطثرية:
إذا ما الثريا في السماء كأنها ... جمان وهي من سلكه فتسرعا
قال: أريد أحسن من هذا؛ قلنا قول ذي الرمة:
وردتاعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق
يدف على آثارها دبرانها ... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق
بعشرين من صغرى النجوم كأنها ... وإياه في الجرباء لو كان ينطق
قلاص حداها راكب متعمم ... هجائن قد كادت عليه تفرق
قال: أريد أحسن من هذا؛ قلنا: ما عندنا شيءن قال بيت أبي قيس ابن الأسلت:
وقد لاح في الجو الثريا لمن رأى ... كعنقود ملاحيةٍ حين نورا
تعليقات للقاضي على ما تقدم
قال القاضي: قول حاتم: البيت الظليم أراد: المظلم، ومفعل قد ينصرف إلى فعيل، ومن ذلك عذاب أليم أي مؤلم، قال الله تبارك وتعالى: " والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم " يونس:4 ومن هذا قول الشاعر:
ونرفع من صدور شمردلاتٍ ... يصك وجوهها وهج أليم
ومنه سميع بمعنى مسمع، قال الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
أراد المسمع. وقد يقال سميع بمعنى سامع، ويأتي على فعيل للمبالغة مثل راحم ورحيم، وحافظ وحفيظ، وعالم وعليم، وقادر وقدير، وناصر ونصير، في نظائر لهاذا كثيرة جداً. وقول ذي الرمة فلأياً قيامها أي بطيء؛ وقال زهير:
وقفت بهامن بعد عشرين حجة ... فلأياً عرفت الدار بعد توهم

وقول أبي قيس: " وكيرمنها جاراتها " هكذا روي لنا على لغة من يأتي بعلامة الجمع مع تقدم الفعل وفراغه من الضمير، كما قال الشاعر:
ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
الأفصح ويكرمها وقد مضى في بعض ما تقدم من مجالسنا هذه قول لنا في هذا المعنى وتفريق بين علامة التثنية والجمع في العلاقة، وبين علامة التأنيث، ويستغنى به عن إعادته في هذا الموضع. وقول أبي قيس بن الأسلت " كعنقود ملاحية " روي لنا في هذا الخبر ملاحية بتشديد اللام، ولغة العرب الفصيحة السائرة ملاحية يقولون عنب ملاحي، ورواة الحديث والأخبار الذين لا علم لهم بكلام العرب يغلطون في هذا كثيراً وفي ما أشبهه، وأرى أن الذي أوقعهم في هذا أنهم لما رأوا هذا البيت رأوا ظهور الزحاف فيه إذا روي مخففاً على الوجه الصحيح وسلامته من ذلك إذا شدد، ثم لم يعلموا جواز الزحاف واطراده وظهور استعماله وأن أكثر الشعر مزاحف، وما لا زحاف فيه قليل نزر جداً؛ وهذا البيت من الطويل والزحاف فيه ذهاب ياء مفاعيلن ورده إلى مفاعلن، ويسمى هذا النوع من الزحاف قبضاً لذهاب خامس حروف الجزء، ويسمى الجزء الذي لحقه هذا الزحاف مقبوضاً، وقد يسقطون نون مفاعيلن على معاقبة القبض فيه وهو ذهاب الياء ولا يجتمعان في السقوط، ويسمى هذا الزحاف الكف لذهاب السابع من حروف جزئه، ويسمى الجزء مكفوفاً.

المجلس التاسع والستون
حديث في الخطيئة
أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء، قال حدثنا أبو مروان القاضي عبد الملك بن محمد المديني بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال حدثنا أبو بشر الأنصاري، قال حدثنا أحمد بن يحيى، قال حدثنا يزيد بن مهران الأسدي، قال حدثنا أبو بكر ابن عياش عن مغيرة بن زيادٍ عن عدي بن عدي عن العرس، وهو ابن عميرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عملت الخطيئة في أرض فمن أنكرها كان كمن غاب عنها، ومن رضيها كان كمن شهدها.
تعليق الجريري على الحديث
قال القاضي: قد ثبت بدليل العقل والسمع أن الراضي بفعل المحسن شريك في إحسانه، والراضي بفعل المسيء شريك في إساءته، من جهة المدح والذم، والأجر والاثم. وقد ذم الله تعالى في كتابه من كان من اليهود في عصر نبيه صلى الله عليه وسلم باضافته قتل أنبيائهم إليهم، وان كان المباشر لذلك من تقدم من آبائهم لرضاهم به وموافقتهم إياهم في دينونتهم بما ضلوا فيه وكفروا بفعله وعصوا بارتكابه.
حسن سياسة ملك
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن المدائني قال: بلغ بعض ملوك الطوائف حسن سياسة ملكٍ، قال: فكتب إليه يسأله أن يفيده علم الذي بلغ به ذلك، فكتب إليه: لم أهزل في أمر ولانهي، ولا وعدٍ ولا وعيدٍ، واستكفيت أهل الكفاية، وأثبت على الغناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبةً لم يشنها مقت، ووداً لم يشبه كذب، وعممت بالقوت ومنعت الفضل.
قول لبعض الحكماء
حدثنا أبو النصر العقيلي قال حدثني أبو الحسن بن راهويه الكاتب قال: بلغني أن بعض الحكماء قال: إن الله تبارك وتعالى جعل خزائن نعمته عرضةً لمؤمليه، وجعل مفايتحها صدق نيةٍ راجيه.
دفتر لابن دريد
قال القاضي رحمه الله: أخبرني بعض أصحابنا أنه قرأ على دفترٍ لابن دريد بخطه: حسبي من خزائن عطاياه مفتوحة لمؤمليه، ومن جعل مفاتيحها صحة الطمع فيه. قال: وقرأت على هذا الدفتر أيضاً:
أفوض ما تضيق به الصدور ... إلى من لاتغالبه الأمور
محاورة بين ابن عباس ومعاوية

حدثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمدٍ الكلبي عن أبيه قال: لم يكن أحد من بني هاشم أكثر غشياناً لمعاوية من عبد الله بن عباس، فوفد إليه مرةً وعنده وفود العرب فأقعده على يمينه ثم أقبل عليه فقال: نشدتك الله يا ابن عباسٍ أن لو وليتمونا أتيتم إلينا ما أتينا إليكم من الترحيب والتقريب وعطائكم الجزيل وإكرامكم عن القليل، وصبرتم على ما صبرنا عليه منكم؟ إني لا آتي إليكم معروفاً إلا صغر تموه: أعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذونها متكارهين عليها، تقولون: قد نقص حقنا وليس هذا تأميلنا، فأي أملٍ بعد ألف ألفٍ أعطيها الرجل منكم ثم أكون أسر بإعطائها منه بأخذها؟ والله لقد انخدعت لكم في مالي، وذللت لكم في عرضي، أرى انخداعي تكرماً، وذلي حلماً، ولو وليتمونا رضينا منكم بالإنصاف ثم لا نسألكم أموالكم، لعلمنا بحالنا وحالكم، ويكون أبغض الأموال إلينا أحبها إليكم لأن أبغضها إلينا أحبها إليكم، قل يا ابن عباسٍ. فقال ابن عباس: لو ولينا منكم مثل الذي وليتم منا اخترنا المواساة ثم لم يعش الحي بشتم الميت، ولم ننبش الميت بعداوة الحي، ولأعطينا كل ذي حق حقه. فأما إعطاؤكم الرجل منا ألف ألف فلستم بأجود منا أكفاً، ولا أسخى منا أنفساً، ولا أصون لأعراض المروءة وأهداف الكرم؛ ونحن والله أعطى في الحق منكم على الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى. فأما رضاكم منا بالكفاف فلو رضيتم به منا لم نرض لأنفسنا بذلك والكفاف رضى من لاحق له، فلو رضيتم به منا اليوم ما قتلتمونا عليه أمس، فلا تستعجلونا حتى تسألونا، ولا تلفظونا حتى تذوقونا. فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ:
وقال ابن حربٍ قولة أمويةً ... يريد بما قد قال تفتيش هاشم
أجب يا ابن عباس تراكم لو آنكم ... ملكتم رقاب الأقربين الأكارم
أتيتم إلينا ما أتينا إليكم ... من الكف عنكم واجتباء الدراهم
فقال ابن عباس مقالاً أمضه ... ولم يك عن رد الجواب بنائم
نعم لو وليناكم عدلنا عليكم ... ولم تشتكوا منا انتهاك المحارم
ولم نعتمد للحي والميت غمة ... تحدثها الركبان أهل المواسم
ولم نعطكم إلا الحقوق التي لكم ... وليس الذي يعطي الحقوق بظالم
وما ألف ألفٍ تستميل ابن جعفرٍ ... بها يا ابن حربٍ عند حز الحلاقم
فأصبح يرمي من رماكم ببغضه ... عدو المعادي سالماً للمسالم
فأعظم بما أعطاك من نصح جيبه ... ومن أمن غيبٍ ليس فيه بنادم

رسالة من خالد القسري إلى أبان البجلي
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح قال حدثنا محمد بن عمران عن أبيه قال: كتب خالد بن عبد الله القسري إلى أبان بن الوليد البجلي وكان قد ولاه المبارك: أما بعد فإن بالرعية من الحاجة إلى ولاتها مثل الذي بالولاة من الحاجة إلى رعيتها، وإنما هم من الوالي بمنزلة جسده من رأسه، وهو منهم بمنزلة رأسه من جسده فأحسن إلى رعيتك بالرفق بهم، وإلى نفسك بالاحسان إليها، ولا يكونون هم إلى صلاحهم أسرع منك إليه، ولا عن فسادهم أدفع منك عنه، ولا يحملك فضل القدرة على شدة السطوة بمن قل ذنبه ورجوت مراجعته، ولا تطلب منهم إلا مثل الذي تبذل لهم، واتق الله تعالى في العدل عليهم والاحسان إليهم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. اصرم فيما علمت، واكتب إلينا فيما جهلت يأتك أمرنا في ذلك إن شاء الله، والسلام.
أبو الأسود يوصي حارثة أن يستغل ولايته
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثني العتبي قال: كان حارثة بن بدر الغداني صديقاً لزياد بن أبيه وكان أبو الأسود الدؤلي مؤاخياً لحارثة بن بدرٍ، فقلد زياد حارثة بن بدر سرق، فكتب إليه أبو الأسود:
أحار بن بدرٍ قد وليت إمارةً ... فكن جرذاً فيها تعق وتسرق
وباه تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق

ولا تحقرن يا حار شيئاً أصبته ... فحظك من ملك العراقين سرق
فإني رأيت الناس إما مكذب ... يقول بما يهوى وإما مصدق
يقولون أقوالاً بظن وشبهةٍ ... فإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
فكتب إليه حارثة بن بدرٍ: لم يعم علينا الرأي يا أبا الأسود، وختم كتابه بهذا الشعر:
جزاك مليك الناس خير جزائه ... فقد قلت معروفاً وأوصيت كافيا
أمرت بحزمٍ لو أمرت بغيره ... لألفيتني فيه لأمرك عاصياً
ستلقى امرءاً يصفيك بالود مثله ... ويوليك حفظ الغيب إن كنت نائبا
وأقرب ما عندي المواساة مسمحاً ... إذا لم يجد قوم صديقاً مكافيا

تفسير الترخيم وشرح السماحة
قال القاضي: رخم أبو الأسود حارثة في شعره، فحذف الهاء والثاء، وبعض النحويين لا يجيز هذا، ويقول يا حارث في ترخيم حارثة فتحذف الهاء خاصة فيقول: أحارث وأحارث على لغتين للعرب فيه، أفصحهما إقرار حركة الحرف في الترخيم على ما كانت عليه، وهو الوجه المختار، والأخرى صمه على حكم النداء المفرد والقضاء على ما بقي بعد حذف الطرف للترخيم بأنه اسم قد قام بنفسه وكفى من غيره، ولا نجيز هذا الترخيم على هذين الوجيهن إلا في ترخيم حارث، وقد احتج بشعر أبي الأسود وغيره في إجازة هذا الترخيم من أجازه. وقوله: وأقرب ما عندي المواساة مسمحاً يقال من السماحة والسماح، سمعح فلان بماله ومعروفه وسامح وتسمح وتسامح، ويقال أسمح فلان فهو مسمح إذا انقاد وأصحب ولان جانبه وقارب غير مستصعب، قال تميم بن أبي بن مقبل العجلاني:
هل القلب عن دهماء سالٍ فمسمح ... فتاركه منها الخيال المبرح
رواية أخرى عن
تولية حارثة ووصية أبي الأسود
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه قال حدثنا خالد بن سعيدٍ عن أبيه قال: لما ولى زياد حارثة بن بدرٍ الغداني سرق خرج معه المشيعون، فقال له أبو الأسود الدؤلي مسيراً إليه: أحار بن بدرٍ وذكر الشعر وجواب حارثة عنه، والألفاظ فيه وفي خبر ابن الأنباري متقاربة المعاني، وفي هذا الخبر زيادة بيت يلي قول أبي الأسود: يقولون أقوالاً بظنٍ وشبهةٍ.
وهو:
ولا تعجزن فالعجز أوطأ مركب ... وما كان من يدعى إلى الرزق يرزق
سماه معروفاً وكناه أبا الحسن
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا ابن عائشة قال: سمى رجل ولداً له معروفاً وكناه بأبي الحسن، فلما شب قال له: يا بني إنما سميتك معروفاً وكنيتك بأبي الحسن لأحبب إليك ما سميتك به وكنيتك به. قال الصولي: فحدثت بهذا الحديث وكيعاً فقال لي: يقال إن قائل هذا أبو معروف الكرخي لمعروف.
نباذة عن معروف الكرخي
قال القاضي: العروف من كنية معروفٍ الكرخي أبو محفوظ، واسم أبيه الفيرزان، وكان من المعروفين بالصلاح في دينه مشهوراً بالاجتهاد في العبادة والورع والزهادة، فكان الناس في زمانه وبعد مضيه لسبيله يتحدثون أنه مستجاب الدعوة، وله أخبار مستحسنة جمعها الناس تشتمل على أخلاقه وسيرته، وقد رويت لنا عنه أخبار مسندة وموقوفة. وحدثت عن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل أنه قال، قلت لأبي: هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ فقال لي: يا بني كان معه رأس العلم، خشية الله تبارك وتعالى.
قال القاضي: ولعمري إن خشية الله تعالى وتقواه رأس العلم. وإنما يكتسب العلم ليؤدي إلى خشية الله تعالى ومراقبته، والسعي إلى ما يعود بثوابه والأمن من عقابه، وقد قال مجاهد: إنما الفقيه من يخشى الله عز وجل لأنه قال عز ذكره: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فاطر: 28 وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، وأفقههم في دينه، وأخشاهم له، وأحفظهم لحدوده. وقد جاء في الأثر: إن رأس الحكمة خشية الله تعالى وان حب الدنيا رأس كل خطيئة. نسأل الله الكريم إصلاحنا له حتى نؤثر رضاه على هوانا، ولا نشتغل عن الاستعداد لمعادنا إليه بغرور دنيانا، إنه سميع الدعاء لطيف لما يشاء.
حمدويه صاحب الزنادقة والطويل الزنديق

حدثنا محمد بن عبد الواحد أبو عمر الزاهد قال أخبرني أبو بكر الملطي قال أخبرني من رأى حمدويه الزنديق النائب، تائب الزنادقة، قال: فأخبرني أن الخليفة رأى في منامه كأن الكعبة قد مالت، وكأنه أقامها هو وآخر يعرف صورته إذا رآه في اليقظة، فاستوت الكعبة، قال: فطلبوني فقيل لي يا حمدويه ما نشك فيك أنك أنت صاحب الخليفة، قال: فأدخلت عليه فقال: نعم هذا هو، قال: فخلع علي وحملني، ثم أمر صاحب الشرطة أن يقبل مني كل شيء أقوله، وقال له: مر أصحاب الأرباع والأعوان بالطاعة له، قال: نعم، ثم قال لي انظر كل زنديق فارفعه إلي، قال: وأمر لي بسجن حتى أحبس فيه الزنادقة، فقال لي ابن مسروق الصوفي: هي التي يقال لها دار مفلح قال حمدويه: فالتقطت منهم جماعةً، فمن أقر وتاب خلاه السلطان ومن جحد حبسه، قال، فمررت ذات يومٍ على مسجد الطويل وهو يقول في أذانه: أشهد أن محمداً رسول الله، قال حمدويه: فقلت زنديق والله الذي لا إله إلا هو، قال: فبعثت إلى صاحب الربع فركب، فقلت: اقبض على ذا، فرفعه إلى السلطان، قال: وكان مقرئاً قد علم ألوفاً من الناس، قال: فتسامع أهل الكرخ، قال: فاجتمعوا وهم ثلاثون ألفاً فدخلوا على السلطان الأعظم فقالوا له: ليس حمدويه نبياً ولا صحابياً ولا تابيعاً حتى يصدق في كل شيءٍ يقوله، ونحن وجوه الرعي نحلف للسلطان بالله الذي لا إله إلا هو لقد أبطل حمدويه، قال: وابتدأ قوم فحلفوا بالطلاق وأيمان البيعة أن حمدويه كذب على أستاذنا، قال: وخرجوا وقد وعدهم أن يتوقف في قتله ثلاثة أيام، فإن خرج حمدويه بعذرٍ بين قتل حمدويه وخلى المقري، قال: فخلا بي من بعد ما خرج الناس فقال لي: يا حمدويه، قد بلغك الخبر ورأيت الأمة قد أقبلت إلي وزعموا أنه أستاذهم وقد حلفوا بالطلاق، وقد أجلته ثلاثة أيام فإذا كان اليوم الرابع فإما قتلته وإما أقتلك، فقلت: قد رضيت بالله رباً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً وقد رضيت بالله كافياً ومعيناً وأنا أقمت معك الكعبة لاهم، قال: وخرجت فأخذني المقيم المقعد ولا أجد أحداً إلا وهو يثني عليه بالصيام والقيام والأذان والإمامة، قال: فدخلت في اليوم الثالث إلى سجني، قال: وكان من الزنادقة في حبسي غلام عاقل نظيف، قال فقال لي: مالي أراك مهتماً؟ قال قلت: دعني ليس هذه الساعة من ساعاتك، قال: لعل فرجك عندي، قال قلت له: ويحك الطويل المقرى، قال قل لي: وقعت عليه، قال قلت: ويحك فرج عني، قال فقال لي: ففرج عني حتى أفرج عنك، قال فقلت: وما صدقت عليك فيه؟ قال فقال لي: والله ما كذبت علي ولا على غيري، قال قلت: تب حتى أخليك، قال فقال لي: قد تبت، قال فقلت: فحدثني بحدثني بحديث هذا الرجل وأنا أخرجك معي الساعة من الحبس لأني مطاع عند السلطان، قال فقال لي:

هذا أستاذي الكبير في الزندقة، وليس في الدنيا زنديق داعية إلا من قبل هذا الذي يقال له الطويل، قال قلت: صدقت، ولكن السلطان لا يجعلك أنت حجةً على رجل له ثلاثون ألف ناصر، قال فقال لي: اعرض عليه ثلاثة أشياء، فإنك لو قطعت الزنديق ما فعلها، قال قلت: ما هي؟ قال: في إصبعه خاتم يختم بها، عليه مكتوب: أنا زنديق فإذا وافى خاتمه بعض الزنادقة قضى حاجة الرجل ولو كان فيها فقده وتلفه، قال قلت: فإن خرج منها؟ قال فقال لي: ادفع إليه ديكاً نبطياً قلطياً أصفر المنقار دقيق الساقين أبح الصوت حتى يذبحه، قال قلت: فإن خرج منها؟ قال: بقيت واحدة لا يفعلها زنديق أبداً، فإن فعلها فقد سلم وهلكت أنت، وإن لم يفعلها وليس يفعلها أبداً فقد نجوت أنت وهلك هو، واعلم أني قد آمنت بالله وصدقت النبي والمرسلين، وآمنت بكل كتاب نزل وكل نبيٍ مرسل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، من صدقه نجا، ومن كذبه هلك؛ قال حمدويه: فأخذت يده وأخرجته حتى أديته إلى منزله، ووهبت له دنانير وقلت له: أنا آتيك بالخبر في غدٍ إن شاء الله تعالى فهات العلامة الثالثة، قال: فأخرج إلي من جيبه خرقة حريرٍ فيها صورة سمجة جداً: حاجباها غليظان وأنفها مفلطح وفمها كأنه مشافر، قال لي: قل له فليبزق على هذه الصورة، قال حمدويه فقلت: وما هذه الصورة؟ قال: هذه صورة ماني، قال حمدويه: فبت بليلةٍ كليلة الحبلى إذا أخذها الطلق، قال: ثم غدوت إلى السلطان، قال: فجلس على سريره سرير الخلافة قال: وغدا الكرخيون فامتلأ الصحن، ثم قلت: يا سيدي إن رأيت أن تحضر خصمي، قال: فقوي قلب السلطان لقوة كلامي، قال فقال: الطويل الطويل، قال: فأتي به، قال: فتشرف الناس، وحضرت القضاة والعدول والمحدثون والفقهاء، قال فقال لي الطويل: هات ما عندك يا كذاب، قال قلت خاتمك، قال: هذا خاتمي، قال فقلت لبعض العدول: اقرأ ما عليه، فقرأ ذلك أنا ونديق، قال فقال الطويل: يا أمير المؤمنين هذا العدل أبكم من هذا الكذاب، واعلم أن لي صديقاً في ذلك الجانب يكنى أبا زيد فنقشت على خاتمي أبا زيد ثق وجعلتها علامة بيني وبينه لقضاء حوائجي، وهو باقٍ، قال: فنظر إلي الخليفة فقلت: علامة أخرى يا أمير المؤمنين، فأخرجت الديك وقلت: فليذبح هذا، قال فقال الخليفة له: اذبح هذا، قال فقال له الطويل: والله يا أمير المؤمنين ما ذبحت شيئاً قط بيدي، وما أمتنع من ذبحه إلا من ارتعاشٍ في يدي، قال فنظر إلي الخليفة فقلت: علامة أخرى يا أمير المؤمنين، فأخرجت الديك وقلت: فليذبح هذا، قال فقال الخليفة له: اذبح هذا، قال فقال له الطويل: والله يا أمير المؤمنين ما ذبحت شيئاً قط بيدي، وما أمتنع من ذبحه إلا من ارتعاشٍ في يدي، قال فنظر إلي الخليفة وقال: يمكن ما قال، فهات غيرها، قال: فأخرجت الصورة قال فقلت له يا أمير المؤمنين: مره فليبزق على هذه الصورة، قال فقال له: ابصق على هذه الصورة، قال فقال: هاتها، قال: فدفعتها إليه، قال فقال: بأبي هذه الصورة، وأمي هذه الصورة، ثم قبلها وسجد لها ووضعها على عينيه وبكى، قال حمدويه: فلو طار إنسان فرحاً لطرت أنا تلك الساعة، قال فدعا الخليفة بصاحب الشرطة فقال: خذه واضرب عنقه في باب الطاق في رحبة الجسر، قال: وقام السلطان، وانصرف القوم والعامة تصيح بهم: رحم الله معاوية، رحم الله معاوية.

حدثنا أبو عمرو قال أخبرني أبو بكر الملطي قال أخبرني أبو عبد الله بن أبي عوف البزوري قال أخبرني رويم المقري قال: كنت ذات يوم سلمت من صلاتي وقعدت لآخذ على بعض غلماني، قال: فجاءتن جاريتي فقالت: يا مولاي إن أردت أن تنظر إلى الطويل المقري فإن الناس قد انجفلوا وقالوا إنه تضرب عنقه الساعة في باب الطاق في رحبة الجسر لأنه قد صحت زندقته، قال فقلت لغلامي: أسرج الحمار، قال: فركبت، قال: فلما رآني الناس قالوا لصاحب الشرطة هذا أستاذ القراء، قال: فأوسعوا لي قال: فجئت فرأيت رأسه قد شد وقد مد رقبته، قال فقلت للسياف: اصبر لي حبة حتى أكلمه، قال فصاح به السلطان: اقض حاجة الشيخ، قال: فتقدمت إلى الطويل فقلت: يا طويل، إنما كان بلغنا عنك أنك تشتم أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما فخرجت زنديقاً؟! قال فقال لي: يا مبلغم أي شيء كان بين وبين أبي بكر وعمر؟ إنما أردت صاحبهما وإني لم أجد من يعينني على صاحبهما، قال فقلت للسياف: اضرب رقبة عدو الله وعدو رسوله صلى الله عليه وسلم، قال فرمى برأسه وانصرفت وكبر الناس.

فضل في تاريخ الزندقة
قال القاضي رحمه الله: قد كانت الزندقة فشت في عهد المهدي، وانتشر الدائنون بها، فوفقه الله تعالى للفحص عن أهلها والسعي في محوها وتعفية آثارها، وعني بالنظر في هذا، وقتل جماعةً منهم وأسلم آخرون خوفاً من الفناء وآخرون لما أقيمت حجة الإسلام ووضحت أعلامه لهم، ونصب للتنقير عنهم والجد في طلبهم حمدويه الذي ذكرناه في هذا الخبر. وكان منهم ذوو عددٍ يحامون عن جهالتهم يذبون عن ضلالتهم،وجرت بين بعض من بقي منهم مناظرات وبين بعض متكلمي أهل الإسلام بحضرة الرشيد والمأمون وكان في من يجادل منهم يزدان بخت ويزدا نفروخ وغيرهما، ولهم أخبار عدة، ولعلنا نأتي بما يتفق خروجه لنا من أخبارهم وأخبار ماني اللعين صاحبهم الضال المضل لهم.
بعض أخبار الخناقين
ومن عجيب ما بلغنا من أخبارهم ما حدثناه الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو العباس الهروي أحمد بن محمد قال أخبرني سهل بن صالح الأصبهاني الكاتب قال: أخذ النخشبي بالبصرة رجلاً يخنق الناس ولا يسلبهم ثيابهم فقال له: ويلك ولم تفعل هذا؟ إذا كنت لا ترغب في ثياب الرجل وماله فلم تقتله؟ فقال له: ويلك أما أول ذلك فإني ألحق المخلوق بالخالق، والثانية أن هذه الأرواح محتبسة في هذه الأجساد فأخلصها تلحق بالهيولى والصفا، قال: فلم لا تخلص نفسك أنت؟ قال: أخلص مائة نفسٍ أحب إلي من أن أخلص نفساً واحدة، على أن نفسي لا بد لها من مخلص، ونفسي نفس طاهرة وأنفس هؤلاء قذرة، وأيضاً يخف عنا السفل ولا يزاحمونا في الأمور، ويطيب الهواء وتتسع الديار وينقطع الغبار. وبعد فكل من كان من أهل الخير ألحقته بالخير الذي له في الآخرة، وأيضاً إن كان الإنسان في هذه الدنيا في ضيق أرحته منه، وإن كان فاسد الكيموس أرحته، وإن كان سفلة أرحت الكرام من معاشرته، فأمر بضرب عنقه.
قال القاضي رحمه الله: في هذا الخبر السفل وسفلة على كلام العامة، والصواب: فلان من السفلة.
أبو شاكر الديصاني
وقد حكي لنا عن أبي شاكر الديصاني والديصانية ضرب من الثنوية أنه اشترى كارة دقيق وحملها على رأس رجل شيخ، فلما صار إلى داره سأل الحمال عن سنه ورأى ضعف جسمه، فأخبره بسنٍ عاليةٍ، وسأله عن عياله ومعيشته فذكر له سوء حاله وكثرة عياله، فقال: لقد رحمتك ورققت لك، وأريد أن أذبحك وأميط الشقاء عنك، فأضجعه فذبحه. ونحن نعوذ بالله من الخذلان ونسأله أن يوفقنا لما وفق له أولياءه من أهل الايمان. وقد كان من المهدي ما يجازيه الله تعالى بحسن نيته فيه ويجزل مثوبته عليه.
المجلس السبعون
سفيان يدلس في الحديث

أخبرنا المعافى حدثنا محمد بن مخلدٍ بن حفص العطار قال حدثنا عبد الله بن عمر بن حبيبٍ أبو رفاعة قال حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يبيت مالاً ولا يقيله. قال رجل يا أبا محمدٍ سماعاً من عمرو؟ قال: ابن جريج عن عمرو بن دينار قال: سماعاً من ابن جريج؟ قال: ويحك لم تفسده؟ قال: سماعاً من انب جريج؛ قال: أبو عاصم النبيل عن ابن جريج، قال: سماعاً من أبي عاصم؟ قال: ويحك لم أفسدته؟ قال: سماعاً من أبي عاصم؟ قال: حدثنيه علي بن المديني عن أبي عاصم.
وحدثنا الليث بن محمد بن الليث المروزي قال: سمعت ابن ناجية يقول سمعت عبد الله بن هاشم يقول حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، قلت له: سماعاً من عمرو بن دينار؟ قال: ويحك لا تفسده، حتى كررت عليه ثلاث مرات، قال: حدثني ابن جريج عن عمرو بن دينار.
قال القاضي رحمه الله: وهذا مما دلسه سفيان بن عيينة. وقد ذكرنا في بعض ما تقدم من مجالسنا هذه بعض ما وقع إلينا فيه من الأخبار تدليس، وذكرنا أن خبر المدلس مقبول غير مردودٍ إذا كان عدلاً ولم يكن في ما يخبر به ما يوجب توهينه، وأن الشافعي ومن وافقه كانوا لا يرون خبر المدلس حجة إلا أن يوقل حدثنا أو أخبرنا أو سمعت؛ وقد حدثنا الليث بن محمد بن الليث المروزي قال سمعت عبد الرزاق بن محمد المعدل الفارسي قال سمعت محمد بن عيسى بن زيد الطرسوسي يقول، سمعت أبا حفص الفلاس يقول، سمعت ابن عيينة يقول: نخطى ونصحف وندلس ولا نكذب.

أبو النشناش النهشلي
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان أبو النشناش النهشلي من ولد مخربة بن أبير بن نهشل وأم أبي جهل والحارث ابني هشام أسماء بنت مخربة وكان أبو النشناش يصيب الطريق، فطلب فخاف وأنشأ يقول:
وسائلةٍ أين ارتحالي وسائلٍ ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه
ودويةٍ تيهاء يخشى بها الردى ... سرت بأبي النشناش فيها ركائبه
ليدرك ثأراً أو ليكسب مغنماً ... جزيلاً وهذا الدهر جم عجائبه
إذا المرء لم يسرح سواماً ولم يرح ... سواماً ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من قعوده ... عديماً ومن مولى تدب عقاربه
ولم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق صاحبه
فمت معدماً أو عش كريماً فإنني ... أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه
ودع عنك مولى السوء والدهر إنه ... ستكفيه أيام له ونوائبه
تلقى عدواً مرة فيرده ... إليك وتلقاه وقد لان جانبه
فأنشد عبد الملك هذه القصيدة فلما سمع قوله: ولا كسواد الليل أخفق صاحبه قال: لص ورب الكعبة، وأمر بطلبه فطلب فأعجز.
شرح لبعض ما جاء في الأبيات
قال القاضي رحمه الله: قوله يسرح سواماً يعني الغدو بالماشية إلى المسرح إلى الرعي. ولم يرح يعني الرواح إذا أراحت من المرعى قال الله تعالى وذكر إنعامه على خلقه بما سخره لهم من الأنعام ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون النحل: 6 وقوله: فإنني أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه فأتى بالموت ثانياً بالاظهار في الموضع الذي بابه الاضمار لتقدم اسمه ظاهراً، لإقامة وزن الشعر، ولو أتى به في منثور الكلام لكان أظهر، ونحو هذا أن تقول: فإنني أرى الموت لا ينجو منه هاربه، وقد أتى مثل هذا كثير في الشعر، من ذلك قول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال آخر:
إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها ... سواقط من حرٍ وقد كان أظهرا

وقد قال الله تعالى ذكره " ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله المصير " النور: 42 فحمله قوم على أنه جاء على هذا لأن الاظهار فيه والاضمار واحد، وليس الأمر على ما ذهبوا إليه، وإنما أتى الاظهار هاهنا لتعظيم القصة، ولما في إعادة ذكر الموت بالاسم الظاهر من التخويف والحض على الاعتبار والمراعاة والإذكار، وقد قال الله جل وعز في موضع آخر: " ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله " هود: 123 فأعاد على الاسم الظاهر اسماً مضمراً على أصل الباب وظاهره؛ ومن قال لقيت زيداً فأكرمت زيداً لم يقل لقيت زيداً فأكرمت أبا عبد الله، وهي كنية زيد، لأنه مشكل لا دلالة له فيه تنفي اللبس عنه.

المعرفة تنفع عند الكلب العقور
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن بن يزداد المروزي الكاتب قال حدثنا أبو موسى عيسى بن إسماعيل البصري المعروف بتينة قال حدثني التوزي عن سفيان بن عيينة قال: عرض المغيرة بن شعبة بالكوفة فوجدهم أربعة آلاف، فمر به شاب من الجند فقال: يا غلام زد هذا في عطائه كذا وكذا، قال: فقام شاب كان إلى جانبه فقال: أصلحك الله هذا ابن عمي لحا ليس له علي فضيلة في نسبٍ ولا نجدةٍ فألحقني به، قال: لا، قال فمر من يحط من عطائي ليظن من حضر أن بك علي موجدة، قال: لا، إن أبا هذا كانت بيني وبينه مودة وكان صديقاً لي وإن المعرفة تنفع عند الجمل الصؤول والكلب العقور فكيف بالرجل ذي المروءة والحسب؟
؟؟
الربيع بن خثيم وصديقه العابد
حدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب قال حدثنا أحمد بن يحيى السوسي قال حدثنا علي بن عاصم عن أبي الأصبغ قال: كان رجل من همدان في الكوفة يذكر بعبادةٍ، فلزم بيته وترك الناس، وكان لا يخرج من بيته إلا لصلاةٍ مكتوبة أو حقٍ يلزمه لا يجد منه بداً، وكان صديقاً للربيع بن خثيم، والذي بينهما حسن، لا يأتيان أحداً إلا أحدهما لصاحبه، قال: وكان الهمداني لا ينام من الليل إلا قليلاًن فنام ساعته التي كان ينام فيها، فأتاه آت في منامه فمغثه شديداً وقال له: إيت الربيع بن خثيم فقل له: إنك من أهل النار، ثم تنحى عنه فانتبه الهمداني فتعاظمه ذلك وقال: الربيع بن خثيم؟! قال:فلم يأته وأبطأ عنه، قال ثم أتاه في الليلة الأخرى وهو نائم فمغثه مغثاً شديداً فقال: ألم أقل لك أن تأتي الربيع بن خثيم تقول له إنك من أهل النار؟ لئن لم تفعل لأفعلن بك ولأفعلن بك ولأفعلن، ثم تنحى عنه فانتبه الهمداني وقد تعاظمه ذلك، وقال: الربيع بن خثيم؟! قال: فلم يأته وأبطأ عن الربيع قال: فلما كانت الليلة الثالثة أتاه فمغثه مغثاً شديداً فقال: لئن لم تفعل لأفعلن بك ولأفعلن، وتنحى عنه فانتبه الهمداني وقد تعاظمه ذلك، فلما أصبح ورأى الربيع بن خثيم أنه قد أبطأ عنه أتاه فدخل عليه فسلم عليه فرآه متثاقلاً عنه، فقال: يا أخي مالك؟ قال: خير، قال: الربيع: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أخي، إنما هذا الشيطان، فأعيذك بالله ونفسي من الشيطان، وتفل الربيع عن يساره ثلاث تفلاتٍ وتعوذ بالله من الشيطان، ثم رجع إلى منزله، فلما كانت الليلة المقبلة قام الهمداني في ساعته التي كان ينام فيها وقد قوي بعض القوة مما سمع من الربيع، فإذا هو قد أتاه آتٍ في منامه بيده ساجور كلبٍ أسود، في وجه الكلب ثلاث جراحاتٍ، قال له: أتدري من أنا؟ قال: لا، قال: فهل تدري من هذا الكلب؟ قال: لا، قال: هذا الشيطان الذي دخل بينك وبين أخيك الربيع بن خثيم، وقد وكلت بكما وبهذا إلى أن تموتا لا ينفلت من هذا الساجور، تدري ما هذه الجراحات التي بوجه الكلب؟ قال: لا، قال هي بزقات الربيع بن خثيم عن يساره، قال: فانتبه الهمداني، فلما أصبح غدا على الربيع فأخبره بما رأى فحمد الله وقال: قد أخبرتك أنه من عمل الشيطان.
معنى المغث
قال القاضي رحمه الله: قوله فمغثه مغثاً شديداً أي ناله بمكروه من الجذب والمعصر وما أشبهه، ويقال بين القوم مغث إذا كان بينهم شر ومكروه من الأمر، قال حسان بن ثابت في صفة الخمر:
نوليها الملامة إن ألمت ... إذا ما كان مغث أو لحاء
يحب علياً لثلاث

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور قال حدثنا العتبي عن أبيه عن أبي بكر الدمشقي أن معاوية بن أبي سفيان قال لخالد بن المعمر السدوسي: إن لتحب علياً حباً مفرطاً، قال: أحبه والله لحلمه إذا غضب،وعدله إذا حكم، ووفائه إذا وعد.
قال القاضي رحمه الله: هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام، ولقد فاز من أحبه واهتدى من اقتدى به وسلك سبيله.

سليمان يقرع يزيد بن أبي مسلم
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال أخبرني أحمد بن الحارث قال قال المدائني: دخل يزيد بن أبي مسلمٍ كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك، وكان مصفراً، فقال له سليمان: على رجل أجرك رسنك وسلطك على المسلمين لعنة الله، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتني والأمر عني مدبر ولو رأيتني والأمر علي مقبل لا ستعظمت مني ما استصغرت اليوم، قال: فأين الحجاج؟ قال: يجيء يوم القيامة بين أبيك وأخيك فاجعله حيث شئت.
المأمون يغرم يحيى بن خاقان
حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا يعقوب بن بنان قال قال أبو العباس انب الفرات حدثني دينار بن يزيد بن عبد الله قال حدثني أبي عن يحيى بن خاقان قال: كنت كاتب الحسن بن سهل، فقدم المأمون مدينة السلام فقال لي: يا يحيى خلوت بالسواد ولعبت في أموالي واحتجنتها واقتطعتها، قال فقلت: يا أمير المؤمنين إنما أنا كاتب لرجلٍ، والمناظرة في الأموال والأعمال مع صاحبي لامعي، قال: ما أطلب غيرك، ولا أعرف سواك، فصالحني على مائة ألف ألف، قال: فضحكت، فقال: يا يحيى أجد وتهزل؟، قلت: يا أمير المؤمنين إنما ضحكت تعجباً، وبالله ما أملك إلا سبعماة ألف درهم، فكيف أصالحك على مائة ألف ألف؟ قال دع عنك وأعطني خمسين ألف ألف، قال: فما زلت أجاذبه ويجاذبني إلى أن بلغ إلى اثني عشر ألف ألف، فلما بلغ إليها قال: نفيت من الرشيد إن نقصتك شيئاً منها، فقلت: السمع والطاعة، قال: أقم لي ضميناً إن لم تف طالبته بها، قلت: صاحبي يا أمير المؤمنين يضمنني، قال: أتراني إن دافعت بالاداء أطالب الحسن بن سهل بما عليك؟ هذا ما لا يكون، قال فقلت: عبد الله بن طاهر، فقال: عبد الله سبيله سبيل صاحبك، قلت: فحميد، قال: وهذه سبيله، فقلت: أتضمنه يا فرج؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: إني والله أحرجه بالإلحاح عليه في المطالبة حتى يهرب أو يستتر ثم آخذك بالمال فتؤديه لأنك ملي به، فقال فرج: صاحبي ثقة وهو لا يخفرني إن شاء الله. قال يحيى: فكتبت إلى الحسن بن سهل وعبد الله بن طاهر وحميد ودينار بن عبد الله وغسان ورجال المأمون أسألهم إعانتي في هذا المال، قال: فحملوه إلي كله عن آخره، حمل كل إنسان منهم على قدره، قال يحيى: وكتبت رقعة إلى المأمن أعرفه أن المال قد حضر وأسأله أن يأمر بقبضه. قال: فأحضرني، فلما وقعت عينه علي قال لي: يا خائن الحمد لله الذي بين خيانتك وأظهر لي كذبك، ألم تذكر انك لا تملك إلا سبعمائة ألف درهم، فكيف تهيأ لك أن حملت في عشرة أيام اثني عشر ألف ألف؟ قال قلت: حملتها يا أمير المؤمنين من هذه المجريدة، ودفعت إليه الجريدة بأسماء من حمل المال ومبلغ ما حمل كل واحدٍ منهم، قال: فقرأ الجريدة ثم أطرق ملياً ورفع رأسه فقال: لا يكون أصحابنا أجود منا بهذا المال، قد وهبناه لك وأبرأنا ضمينك، قال يحيى: فانصرفت ورددت المال إلى أصحابه فأبوا أن يقبلوه وقالوا: قد وهبناه لك فاصنع به ما أحببت، قال فحلفت أن لا أقبل منه درهماً واحداً، وقلت لهم: أخذته في وقت حاجتي إليه، ورددته عند استغنائي عنه، وقبولي إياه في هذا الوقت ضرب من التغنم، فرددته عليهم.
في قدر وجهان
قال القاضي رحمه الله: حمل كل إنسان منهم على قدره يجوز أن يكون فيه إسكان الدال وفتحها، وهما لغتان يرجعان إلى معنى واحد، وقد قرأت القرأة " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " البقرة: 236 بالتحريك والإسكان وقد أنشد أهل العلم بالعربية هذا البيت:
وما صب رجلي في حديد مجاشع ... مع القدر إلا حاجة لي أريدها
بمعنى مع القدر.
أبو حرملة الحجام راوية للشعر

حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن ميمون الكاتب قال حدثني جدي أبو الفضل ميمون بن هارون قال: أراد سليمان بن وهب أن يأخذ من شعره في وقتٍ من الأوقات، فطلب أبا حرملة فلم يجده، ووجد غلام أبي حرملة، فأخذ من شعره، فقبل أن يفرغ جاء أبو حرملة فقال له سليمان: قم يا غلام، أعط القوس باريها، فقال له أبو حرملة: تعرف يا سيدي أول هذا البيت قال: ما أعرف فيه غير هذا، فقال أبو حرملة أنشد ابن الأعرابي:
يا ابري القوس برياً ليس يحكمه ... لا تفسد القوس أعط القوس باريها
حدثنا عبد الله بن محمود الكاتب قال حدثنا أبو علي أسباط خليفة محمد بن يحيى قال، قال لي أبو حرملة: حذفت عبيد الله بن سليمان فلما فرغت قال: أعط القوس باريها، فقلت: أتعرف صدر هذا البيت؟ قال: لا، فأنشدته إياه، فضرب يده إلى الدواة وكتبه، وهو:
يا باري القوس برياً ليس يحكمه ... أفسدت قوسك أعط القوس باريها

تعليقات نحوية ولغوية
قال القاضي في الرواية الأولى: تعرف من غير حرف استفهام في الكلام أو في ما عطف به عليها، وهذا عند بعض المحققين من النحاة خطأ، وقد أجازه كثير منهم، وأنشدوا فيه أبياتاً منها قول عمر بن عبيد الله بن أبي ربيع سامحه الله:
ثم قالوا تحبها قلت بهراً ... عدد الرمل والحصى والتراب
وقالوا أراد: أتحبها، وأنكر هذا من قدمنا الحكاية عنه، وقال: هو خبر وليس باستفهام وغير جائز الاشراك بين الخبر والاستخبار، لما فيه من فساد الكلام في القياس، ودخول الاشكال والالتباس، وقد عاب كثير من أهل المعرفة بالعربية على امرئ القيس إيتانه بمثل هذا في بيت من شعره يقول فيه:
أصاح ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
فقال: ترى والمعنى أترى؛ فأما قوله:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك لو تنتظر
فإنه جائز لأن قوله: أم تبتكر قد دل على المعنى، ومثله كثير، من ذلك قول الشاعر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
وأما قول الشاعر في البيت الذي أنشده أبو حرملو: أعط القوس باريها فإنه أنشدوناه باريها بتسكين الياء التي هي مدة، وهي الرواية الجارية على ألسنة خاصة الناس وعامتهم، وحقيقة الاعراب فيها هاهنا أن تنصب في الفعل، وقد تسكن في الشعر تخفيفاً كما قال الراجز: كأن أيديهن بالقاع القرق وقال الأعشى:
فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا
وربما أسكنوها وحذفوها في النصب كما قال الشاعر:
فلو أن واشٍ بالميمامة بيته ... وداري بأعلى حضر موت اهتدى ليا
فإذا روي هذا البيت على هذا كان من البسيط الثاني وبيته في العروض:
قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب
عروضه فعلن وضربه فعل، وعروضه في مصرعه فعلن إلحاقاً له بضربه؛ وإن رواه راوٍ على أصله في تحقيق الإعراب فتح الياء فقال باريها وكان إذاً من الضرب الأول من البسيط، وبيته في العروض:
يا حار لا أرمين منكم بداهيةٍ ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
وإذا روي هكذا استقام إعرابه ووزنه، واستوى عروضه وضربه فكانا معاً فعلن في إطلاقه وتصريفه، إذ ليس بينهما في المطلق اختلاف في الزيادة والنقصان فيغير العروض ليلحق الضرب به.
قولة لابن مسمع تضمنت معناها أبيات للبحتري
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا ابن عائشة قال قال مالك بن مسمع للأحنف: يا أبا بحرٍ ما أنتفع بالشاهد إذا غبت، ولا أفتقد غائباً إذ شهدت.
قال القاضي: لكأن البحتري ألم بهذا المعنى:
رحلت فلم نفرح بأوبة آيب ... وأبت فمل نجزع لغيبة غائب
قدمت فأقدمت النهى عمل الرضى ... إلى كل غضبان على الدهر عاتب
فعادت بك الأيام زهراً كأنما ... جلا الدهر منها عن خدود الكواعب
خطبة للمنصور في يوم عرفة

حدثنا محمد بن العباس العسكري قال حدثني أحمد بن يونس بن زهير ابن المسيب قال حدثت عن إسماعيل الفهري قال: سمعت المنصور في يوم عرفة، على منبر عرفة يقول في خطبته: أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسومكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه بمشيئته أقسمه بارادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله تعالى عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لاعطائكم وقسم أرزاقكم يسر لي، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني، فارغبوا إلى الله تعالى أيها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " المائدة:3 أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والاحسان إليكم، ويفتحني لاعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم فإنه سميع مجيب.

جعفر بن محمد يعلم نصر بن كثير والثوري
ما يقولونه في الحج
حدثنا محمد بن جعفر بن أحمد بن يزيد الطبري قال حدثنا أبو أحمد جعفر بن محمد الجوهري قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا نصر بن كثير قال: دخلت على جعفر بن محمد عليهما السلام أنا وسفيان الثوري منذ ستين سنة أو سبعين سنة فقلت له: إني أريد البيت الحرام فعلمني شيئاً أدعو به، قال: إذا بلغت البيت الحرام فضع يدك على حائط البيت ثم قل: يا سابق الفوت، ويا سامع الصوت، ويا كاسي العظام لحماً بعد الموت، ثم ادع بعده با شئت؛ فقال له سفيان شيئاً لم أفهمه، فقال عليه السلام: يا سفيان أو يا أبا عبد الله، إذا جاءك ما تحب فأكثر من الحمد لله وإذا جاءك ما تكره فأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار.
دعاء جعفر يردده الجريري ويكتبه الطبري
قال القاضي: كنت منذ سنين كثيرة دعوت الله عز وجل وقلت يا سابق الفوت، وقلت في وقتٍ آخر: يا سابق كل فوتٍ، وكان عندي أنه شيء خطر لي ولم أكن ذاكراً لهذه الرواية ولا عالماً بها في الوقت، فاستحسنت هذه الدعوة ثم وجدتها عندي في ما سمعته وكتبته ورويته. وحكى لي بعض بني الفرات عن رجلٍ منهم، أو من غيرهم، أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري رحمه الله قبل موته وتوفي بعد ساعة أو أقل منها، فذكر له هذا الدعاء عن جعفر بن محمد عليهما السلام فاستدعى محبرةً وصحيفةً فكتبها، فقيل له أفي هذه الحال؟ فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى يموت.
المجلس الحادي والسبعون
حيونا نحييكم
أخبرنا المعافى حدثنا أحمد بن عبد الله صاحب أبي صخرة قال حدثنا مصعب بن عبد الله يعني الواسطي قال حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا يزيد بن عبد الملك قال أخبرني يزيد بن خصيفة عن أبيه عن السائب ين يزيد قال: لقي النبي صلى الله عليه وسلم جواري يتغنين يقلن: حيونا نحييكم فوقف النبي صلى الله عليه وسلم بهن ثم دعاهن فقال: لا تقلن هكذا، قلن: حيانا الله وحياكم، فقال رجل: يا رسول الله ترخص للناس في هذا؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح، أشيدوا بالنكاح.
أي غناء فيه رخصة
قال القاضي: وقد ذكرنا في غير موضع من كتبنا غناء النصب وماجاء فيه من الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأئمة بعده من الصحابة رضوان الله عليهم وحظر ما فيه ترجيع وتمطيط، وأن ذلك منهي عنه في تلاوة القرآن وغيرها، وذكرنا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الضرب في النكاح بالدف، وأنه قال: أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف. ورخص في هذا في عرسات المسلمين ومواطن مسارهم، وأنه في النكاح سنة لا ينبغي تركها. وقوله: أشيدوا بالنكاح معناه أظهروه وأعلنوه.وقد ذهب مالك في من وافقه من أهل المدينة إلى أن نكاح السر باطل؛ وحضرني بعد إثباتي هذا الخبر خبر إسماعيل بن جامع مع الرشيد فرأيت أن أرسمه هاهنا إذ هو مما يستحسنه ويصغي إلى استماعه ذوو الفضل من الأدباء، وينشك للوقوف عليه أولو الحجى من الرؤساء.
خبر ابن جامع في مجلس الرشيد

حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا يعقوب بن نعيم الكاتب، قال حدثني محمد بن ضوء التيمي قال مسعت إسماعيل بن جامع السهمي يقول: ضمني الدهر ضماً شديداً بمكة، فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً لا أملك إلا ثلاثة دراهم، فخرجت وهي في كمي، فإذا بجاريةٍ حميراء على رقبتها جرة تريد الركي، تمشي بين يدي وتترنم بصوتٍ شجيٍ تقول فيه:
شكونا إلى أحبانبا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
وذلك أن النوم يغشى عيونهم ... سراعاً وما يغشى لنا النوم أعينا
إذ ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فو الله ما دار لي منه حرف واحد فقلت لها: يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم صوتك أم جرمك، فإن شئت أعدتيه علي، فقالت: حباً وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى جدارٍ كان بالقرب منها ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على ركبتها وحطت الجرة فوضعتها على ساقها واندفتعت تغني بأحسن صوت، فو الله ما دار لي منه حرف واحد، فقلت لها: لقد أحسنت وتفضلت فلو شئت أعذتيه مرةً أخرى، فقطبت وكلحت وقالت: ما أعجب هذا، أحدكم يجيء إلى الجارية عليها ضريبة فيقول لها: أعيدي مرةً بعد أخرىن فضربت يدي إلى الثلاثة الدراهم فدفعتها إليها وقلت لها: أقيمي بهذا وجهك اليوم إلى أن نلتقي، فأخذتهاشبه المتكرهة ثم قالت: الآن تريد أن تأخذ عني صوتاً أحسبك تأخذ عليه ألف دينارٍ، وألف دينارٍ وألف دينارٍ، ث3م انبعثت تغني وأعملت فكري في غنائها فدار لي الصوت وفهمته، وانصرفت به مسروراً إلى منزلي المكاري على باب المحول، فدخلت لا أدري أين أتوجه ولا من أقصد، وانتهى بي الناس إلى الجسر، فعبرت في من عبر حتى انتهوا بي إلى شارع الميدان عند دار الفضل بن الربيع، فرأيت هناك مسجداً مرتفعاً فقلت: هذا مسجد قوم سراةٍ، وحضرت المغرب فصعدت المسجد فما لبثت أن جاء المؤذن فأذن وأقام وصليت، وانصرف الناس وأقمت مكاني إلى أن رجع المؤذن فأذن وأقام، وصليت وانصرف الناس وأقمت مكاني إلى أن رجع المؤذن فأذن وأقام، وصليت مع الناس على تعبٍ وجوع، وانصرف الناس وبقي رجل يصلي ملياً وخلفه جماعة من الخدم والفحولة ينتظرونه، فلما فرغ من صلاته انصرف إلي ببدنه كله فقال: أحسبك غريباً، قلت: أجل، قال: متى كنت بهذه المدينة؟ قلت: آنفاً دخلتها، وليس لي بها معرفة، وليست صناعتي من الصنائع التي يمت بها إلى أهل الخير، قال: وما صناعتك؟ قلت: الغناء، فوثب مبادراً ووكل بي رجلاً، فقلت للموكل بي: من هذا؟ قال: أوما تعرفه؟ هذا سلام الأبرش قال: وإذا رسول قد جاء في طلبي ثم مشينا حتى انتهى بي إلى قصرٍ من قصور الخلافة وجعل يجاوز بي مقصورةً بعد مقصورةٍ إلى أن دخلنا مقصورةً في آخر الدهليز، فدعا لي بالطعام، فأتيت بمائدةٍ عليها من كل شيء، فأقبلت على أكلي حتى تراجعت إلي نفسي، وسمعت ركضاً في الدهليز، فإذا إنسان يقول: أين الرجل، أين الرجل؟ فقيل: ها هو ذا، فقال يدعى له بغسول وطيب وخلعةٍ، فغلفت وخلع علي وأخذ الرجل بيدي فحملني على دابةٍ وأتى بن منزل الخليفة فاستدللت على ذلك بالحرس والتكبير والنيران، فما زال يدخلني من دار إلى دار إلى أن دخلت إلى دارٍ قوراء وإذا فيها أسرة مضاف بعضها إلى بعض، فلما انتهيت إلى الأسرة أمرني بالصعود فصعدت، وإذا رجل جالس على يمينه ثلاث جوارٍ في حجورهن العيدان، وإذا في حجر الرجل عود فسلمت فرحب بي وأمرني بالجلوس فجلست، وإذا مجالس خالية قد كان فيها قوم فقاموا عنها، فما لبثت أن خرج خادم من وراء الستر فقال للرجل: تغنه، فاندفع يغني بصوتٍ لي يقول فيه:
لم تمش ميلاً ولم تركب على جملٍ ... ولم تر الشمس إلا دونها الكلل
تمشي الهوينا كأن الشوك يحبسها ... مشي اليعافير في جيئاتها الوجل
فو الله ما أحسن الغناء، ولقد غنى بغير إصابةٍ وأوتارٍ متنافرة ودساتين مختلفةٍ، ثم عاد ذلك الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل فقال لها: تغني فانبعثت تغني بصوت لي كانت فيه أحسن حالاً من الرجل تقول فيه:
يا دار أضحت خلاءً لا أنيس بها ... إلا الظباء وإلا الناشط الفرد

أين الذين إذا ما زرتهم جذلوا ... وطار عن قلبي التشواق والكمد
ثم عاد الخادم إلى الجارية الثاني فقال لها: تغني فانبعث تغني بصوت حكم الوادي تقول فيه:
فو الله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جد وشك البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ... ففي دون ما لاقيت يغلب صاحبه
ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة فقال لها: تغني فغنت بصوت لحنين تقول فيه:
مررنا على قيسيةٍ عامريةٍ ... لها بشر صافي الأديم هجان
فقالت وألقت جانب السجف دونها ... من آية حي أو من الرجلان
فقلت لها أما تميم فأسرتي ... هديت وأما صاحبي فيماني
رفيقان ضم السفر بيني وبينه ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
قال فعاد الخادم إلى الرجل فقال له: تغنه، فغنى بصوتٍ لي شبه فيه، والشعر لعمر بن أبي ربيعة الغناء للغريض يقول فيه:
أمس بأسماء هذا القلب معمودا ... إذا أقول صحا يعتاده عيدا
كأن أحور من غزلان شيهمةٍ ... أعارها شبها خديه والجيدا
قامت تراءى وقد جد الرحيل بنا ... لتنكأ القرح من قلبٍ قد اصطلدا
بمشرق كشعاع الشمس بهجته ... ومسبكر على لباتها سودا
ثم عاج الخادم إلى الجارية التي تليه فقال لها: تغني، فغنت بصوتٍ لحكم الوادي يقول فيه:
تعيرنا أنا قيل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنا لقوم ما نرى القتل سبةً ... إذا كرهته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وتغنت الجارية الثانية عند قول الخادم لها تغني:
وددتك لما كان ودك خالصاً ... وأعرضت لما صار نهباً مقسما
ولن يلبث الحوض الوثيق بناءه ... إذاكثر الوراد أن يتهدما
وتغنت الثالثة بشعر الخنساء بنت عمرو بن الحارث في أخيها صخر:
وما كر إلا كان أول طاعن ... ولا أبصرته العين إلا اقشعرت
فيدرك ثأراً ثم لم يخطه الغنى ... فمثل أخي يوماً به العين قرت
وإن طلبوا وتراً بدا بتراتهم ... ويضربهم شزراً إذا الخيل ولت
فلست أرزا بعده برزيةٍ ... فأذكره إلا سلت وتجلت
وكان غناء الرجل في الدور الثالث:
لحا الله صعلوكاً يبيت وهمه ... من الدهر أن يلقى لبوساً ومطعما
ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ... تنبه مسلوب الفؤاد مورما
ولكن صعلوكاً يساور همه ... ويمشي على الهيجاء ليثاً مصمما
فذلك إن يلق المنية تلقه ... كريماً وإن يستغن يوماً فربما
وكان غناء الجارية في الدور الثالث بشعر لحاتم يقول فيه:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع ... رفيقك بمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
وكان غناءالجارية الثانية في الدور بشعر عمرو بن معدي كرب:
ألم تر لما ضمني البلد القفر ... سمعت نداءً يصدع القلب يا عمرو
أغثنا فإنا معشر مذحجية ... نزار على وفرٍ وليس لنا وفر
وكان غناء الثالثة بشعرٍ لعمر بن أبي ربيعة والغناء فيه للغريض:
فلما تلاقينا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما رأينني ... وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
فلما تواضعنا الأحاديث قلن لي ... أخفت علينا أن نغر ونخدعا

قال فقلت في نفسي: أي شيء أنتظر؟ يجيء الخادم الساعة يطالبني بمثل ما طالب به أصحابي، فقلت للرجل: بأبي أنت خذ العود إليك وشد وتر كذا وارفع الطبقة وغير وتر كذا وحط دستان كذا، فعلم ما أريد فوزنه، فلم ألبث أن خرج الخادم فقال لي تغنه، عافاك الله، فانبعثت أغني بصوت الرجل الأول على غير ما غنى به فإذا بنحوٍ من خمسين أو ستين خادماً يحضرون حتى استندوا إلى الأسرة ثم قالوا: ويحك لمن هذا الغناء؟ قلت: لي، فانصرفوا عني بتلك السرعة، فخرج إلي الخادم فقال: كذبت هذا الغناء لابن جامع، فسكت، ودار الدور فلما انتهى إلي خرج الخادم فقال تغنه، فقلت للجارية التي تلي الرجل: خذي العود فانبعثت أغني صوتها، فخرجت الجماعة من الخدم فقالوا: ويحك لمن هذا؟ فقلت: لي، فمضوا ورجع الخادم فقال لي: كذبت، هذا لابن جامع. فأمسكت عنه ودار الدور، فلما بلغ إلي خرج الخادم فقال: تغنه، فقلت في نفسي، وقد شربت وقويت منتي: ما أنتظر؟ فاندفعت أغني بصوتٍ لا يعرف إلا بي:
عوجي علي فسلمي جبر ... فيم الوقوف وأنتم سفر
مانلتقي إلا ثلاث منى ... جتى يفرق بيننا النفر

قال: فتزلزلت والله عليهم الدار، وخرج الخادم فقال: ويحك، لمن هذا؟ فقلت: لي، قال: فرجعوا فقالوا: هذا لابن جامع، فقلت: أنا إسماعيل ابن جامع، قال: فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر، فلما صعدا السرير وثبت على قدمي، فابتدأني أمير المؤمنين فقال: أبن جامع؟ فقلت: ابن جامع جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، قال: ويحك متى كنت في هذه المدينة؟ قلت: آنفا دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين قال: اجلس ويحك يا ابن جامع، وجلس أمير المؤمين وجعفر بن يحيى في بعض تلك المجالس الفرغ وقال لي: يا ابن جامع، أبشر وابسط أملك، فدعوت له دعواتٍ ثم قال: عن يا ابن جامع، قال: فخطر بقلبي صوت الجارية المدينية، فقلت للرجل: أصلح عودك وارفع طبقته، قال: فعلم ما أريد فوزن العود وزناً، وتعهدته حتى استقامت الأوتار وأخذت الدساتين مواضعها، وانبعثت أغني بصوتٍ الجارية الحميراء، فنظر أمير المؤمنين إلى جعفر بن يحيى فقال له: أسمعت كذا قط؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما سمعت ولا خرق سمعي مثله قط، ولا ظننت أن الله عز وجل خلق على وجه الأرض مثل ما أسمع، قال فرفع الرشيد رأسه إلى خادم بالقرب منه فقال له: كيس فيه ألف دينارٍ قال: فمضى الخادم فلم يلبث أن عاد بكيسٍ فيه ألف دينارٍ، فصيرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين، فقال لي: يا ابن جامع رد على أمير المؤمنين هذا الصوت، فرددته وتزيدت في غنائي وأعانني على ذلك استواء الأوتار، قال: فنظر جعفر إلى أمير المؤمنين فقال: يا سيدي أما تسمعه كيف يتزايد في الغناء؟ هذا خلاف الذي سمعنا أولاً، على أن الأمر فيه واحد، قال: فرفع الرشيد رأسه إلى الخادم فقال: كيس فيه الف دينار، فمضى الخادم وجاء بكيس فيه ألف دينار فرمى به إلي فصيرته تحت فخذي، ثم قال لي أمير المؤمنين: تغن ما حضرك، فأقبلت أقصد إلى الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري فأغنيه، فلم أمزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل، فقال: يا إسماعيل قد أتعبناك في هذه الليلة لسروري بغنائك، فتعيد علي الصوت الذي تغنيت به أولاً يعني صوت الجارية فغنيته إياه، فرفع رأسه إلى الخادم فقال: كيس فيه ألف دينار، وذكرت قول الجارية: إني أحسبك تأخذ عليه ألف دينار وألف دينار وألف دينارٍ، فكان مني شبه التبسم، ولحظني من بين الشمع فقال لي: مم تبسمت؟ قال: فجثوت على ركبتي ثم قلت: يا أمير المؤمنين الصدق منجاة، فقال لي بانتهار: قل، فحدثته حديث الجارية فقال: صدقت قد يكون هذا وأعجب منه؛ ثم قال لي: انصرف مودعاً، فقمت لا أدري إلى أين انفذ ذلك الوقت، فما هو إلا أن نزلت من الأسرة حتى وثب إلي غفيران من الفراشين، فأخذ أحدهما بيدي المينى والأخر باليسرى ومضيا بي لا أدري أين يتوجهان بي، حتى وقفا بي على باب داري هذه، فإذا أمير المؤمنين قد أمر سلاماً فابتاع لي هذه الدار وحول أهلها، وحشيت بالفرش والوصائف والوصفاء والطعام والشراب، ودفع إلي أحدهما إضبارة مفاتيح وقال لي: ادخل بارك الله لك فيها، وهذا مفتاح بيت كذا، وهذا مفتاح بيت مالك، وهذا مفتاح سبرة الجواري، وهذا مفتاح بيت فرشك وآنتيك، وأوقفني على ما أردت، فأصبحت وأنا من مياسير أهل بغداد، ودخلتها وأنا أفقر أهلها، والحمد لله رب العالمين.

تعليقات على بعض ما جاء في هذا الخبر
قال القاضي رحمه الله: قول الشاعر في هذا الخبر اليعافير اليعافير جمع يعفور وهي التي يضرب لونها إلى الحمرة من الوحش، وهي المعفرة، ويقال للتراب أعفر كما قال أبو كبير الهذلي:
يا لهف نفسي كان جدة خالدٍ ... وبياض وجهك للتراب الأعفر
وقال الشاعر:
وبلدةٍ ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
والعيس: البيض. وقوله في الشعر الذي يليه وإلا الناشط الفرد الناشط: الثور الوحشي قال الشاعر:
واستقبلت ظعنهم لما احزأل بهم ... مع الضحى ناشط من داعيات دد
وقول عمر بن أبي ربيعة: وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا الباغي هاهنا طالب ضالةٍ وناشدها؛ أكل يعني أن ركابه كلت من سيره عليها وقوله: أوضعا يعيني أنه أسرع بها قال الله تعالى: " ولأضعوا خلالكم " التوبة:47 ومن الإيضاع قول دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع

الخبب والإيضاع ضربان من السير السريع. وقول الرشيد لابن جامع: أبن جامع وجه الكلام فيه فتح الهمزة، وذلك أن الألف في ابن جامعٍ ألف وصل وإنما جيء بها في الخبر لسكون الباء وأنه لا يبدأ بساكن فإذا دخلت عليها الهمزة للاستفهام سقطت كما قال ابن قيس الرقيات:
فقالت أبن قيسٍ ذا ... وبعض الشيب يعجبها
قال الله عز وجل: " أفترى على الله كذباً " سبأ: 8 وقال عز ذكره: " أصطفى البنات على البنين " الصافات: 153 وقد روي لنا بيت ذي الرمة على وجهين:
أستحدث الركب من أشياعهم خبراً ... أم راجع القلب من أطرابه طرب
بالوصل والقطع على ما بينا اكتفاء بدلالة قوله: أم راجع القلب من أطرابه طرب، كما قال امرؤ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك لو تنتظر
وقول ابن جامع: إلى أن عسعس الليل يقال عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذ ولى، وقيل هو من الأضداد، وقال الله جل ذكره: " والليل إذا عسعس " التكوير: 17 قيل فيه القولان اللذان ذكرنا، وقال الشاعر:
عسعس حتى لو يشاء ادنى ... كان له من ضوئه مقتبس
قيل في قوله: أدنى قولان أحدهما أنه افتعل من الدنو، وأصله ادتنا، وقيل بل هو اذدنا وأصله أن يقطع فيقال: لو يشاء اذدنا، ولكنه ترك الهمز في الشعر لإقامة وزنه، وقد جاء مثله في الشعر كقول الطرماح بن حكيم:
ألا أيها الليل الطويل ألا أصبح ... سريعاً وما الإصباح فيك بأصلح
وأصله ألا أصبح لأنه رباعي من أصبح يصبح، فعلى هذا الوجه أكثر ما روي في هذا البيت، وقد رواه بعضهم ألا أيها الليل الذي طال أصبح فأتى به على أصله.

وفادة جرير على الحجاج
حدثنا أبو النضر العقيلي قال أخبرني الزبير قال حدثني محمد بن أيوب اليربوعي عن أبي الذيال السلولي قال حدثني جرير قال: وفدت على الحجاج بن يوسف في سفرةٍ تسمى سفرة الأربعين، فأعطاني أربعين راحلة ورعاءها وحشو حقائبها القطائف والأكسية، كسوةً لعيالي، وأوقرها حنطة ثم خرجت فلما شددت على راحلتي كورها وأنا أريد المضي جائني خادم فقال: أجب الأمير، فرجعت معه، فدخلت على الحجاج، فإذا هو قاعد على كرسي، وإذا جارية قائمة تعممه بعمامة فقلت: السلام عليك أيها الأمير فقال: هات قل في هذه، فقلت: بأبي وأمي تمنعني هيبة الأمير وإجلاله، وأفحمت فما أدري ما أقول، فقال: بل هات قل فيها، فقلت: بأبي وأمي فما اسمها؟ قال: أمامة، فلما أمامة فتح علي فقلت:
ودع أمامة حان منك رحيل ... إن الوداع لمن تحب قليل
تلك القلوب صوادياً تيمتها ... وأرى الشفاء وما إليه سبيل
فقال: بل إليه سبيل، خذ بيدها فجبذبتها فتعلقت بالعمامة وجبذتها حتى رأيت عنق الحجاج قد صغت ومالت مما جبذتها، وتعلق بالعمامة، قال: ويخطر ببالي بيت من شعر فقلت:
إن كان طبكم الدلال فإنه ... حسن دلالك يا أميم جميل
فقال الحجاج: إنه والله ما بها دلال ولكن بها بغض وجهك وهو أهل ذلك، خذها بيدها جرها، فلما سمعت ذلك منه خلت العمامة. وخرجت بها فكنيتها أم حكيم وجعلتها تقوم على ودي لي وعمالي وتعطيهم نفقاتهم بقريةٍ يقال لها الغنية من قرى الوشم حتى نفد الودي. قال طلحة: فأخبرني الزبير قال، قال محمد بن أيوب: وسمعت حجناء بن نوح يقول: كانت والله مباركةً.
شروح وتعليقات
قال القاضي رحمه الله: قول جرير جبذتها وأجبذها بمعنى جذبتها وأجذبها، تقول جبذته أجبذه جبذاً، وجذبته أجذبه جذباً، ومثله تبيغ به الدم وتبغى، وما أيطبه وما أطيبه، ومثله كثير. وأما الودي فإنه الفسيل كما قال الشاعر:
نحن بغرس الودي أعلمنا ... منا بركب الجياد في الغلس
وقول جرير: إن كان طبكم الدلال يعني الخلق والطبع، كما قال الشاعر.
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا وطعمة آخرينا
يجوز فيه طبكم الدلال، وطبكم الدلال لأنهما معرفتان كما قال الفرزدق:
فقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلا عضها بالأباهم
ويروى فما كان نصرها إلا عضها، وقال آخر:
لقد علم الأقوام ما كان داؤها ... بثهلان إلا الخزي ممن يقودها
ويروى داءها إلا الخزي، وقال آخر:

إن يكن طبك الدلال فهلا ... ذاك في الدهر والسنين الخوالي

المجلس الثاني والسبعون
وفاة أبي ذر
حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري قال حدثنا أحمد بن إسحاق بن بهلول قال حدثنا الحسن بن محمدٍ الزعفراني قال حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر عن أبيه عن أم ذر قالت: لما حضرت أبا ذرٍ الوفاة بكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: ومالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يد لي بدفنك وليس عندي ثوب يسعني كفناً لي ولا لك؟ قال: فلا تبكي وأبشري فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفرٍ أنا فيهم: ليموتن منكم رجل بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قريةٍ وجماعة، وأنا الذي أموت بفلاةٍ، والله ما كذبت ولا كذبت، فأبصري إلى الطريق، قالت قلت: أنى وقد ذهب الحاج وانقطع الطريق؟ قال: اذهبي فتبصري، قالت: فكنت أذهب إلى كثيبٍ فأتبصر عليه وأرجع إليه فأمرضه، فبينا أنا كذلك إذا أنا برجالٍ على رحالهم كأنهم الرخم، فألحت بثوبي، فأقبلوا إلي حتى وفقوا علي فقالوا: مالك يا أمة الله؟ فقلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه، قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذرٍ، قالوا: صاحب رسلو الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت قلت: نعم، قالت: ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه، ودخلوا عليه فرحب بهم وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن منكم رجل بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابة من المسلمين، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قريةٍ أو جماعة، وأنا الذي أموت بالفلاة، أتسمعون؟ إنه لو كان عندي ثوب لي يسعني كفناً لي أو لا مرأتي لم أكفن إلا في ثوبٍ لي أولها، أنتم تسمعون؟ إني أنشدكم الله أن يكفنني أحد منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً، وليس من القوم أحد إلا وقد قارب بعض ما قال إلا فتىً من الأنصار، فقال: يا عم أنا أكفنك لم أصب مما ذكرت شيئاً، أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي حاكتهما لي، فكفنه الأنصاري في النفر الذين شهدوه منهم حجر بن الأدبر ومالك الأشتر في نفرٍ كلهم يمان.
للخبر دلالة على نبوة الرسول قال القاضي رحمه الله: في هذا الخبر أكبر دليلٍ على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوت رسالته لإخباره من الغيب بما وجد على ما وصفه، وهذا مما لم يعلمه إلا بوحي من الله عز وجل ألقاه إليه صلى الله عليه وسلم، وفيه ما ينبى عن فضل النفر الذين ولوا أمرة، و " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم " المائدة: 54.
يشكو والي السماوة إلى عبد الملك
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا أبو عثمان المازني عن التوزي عن أبي عبيدة قال: ولى عبد الملك بن مروان صدقات كلبٍ رجلاً من بني أمية، وكانت الروم قد نزعته،وكان أشقر غضاً، فدخل أعرابي جلف جافٍ على عبد الملك في جفة الناس، فلما مثل بين يديه قال يا إنسان إنك مدبر مربوب، قال: أجل فما تشاءء؟ قال: قد احتجبت بهذه المدرة ووليت خطابنا أصهب غضاً كالقرعوش طمطمانياً أطوماً كأن وجهه جهوة قردٍ قد قشر بصرها، وكأن فاه سرم أتانٍ، قد قاشها عير فهي ترمز، إن كشرت بسر، وإن خاطبت نهر، وإن تألفت زبر، فلا الكلام مدفوع، ولا القول مسموع، ولا الحق متبوع، ولا الجور مردوع، ولنا ولك مقام فيه ينص الخصام، وترجف الأقدام، وينتصف المظلوم، وينعش المهضوم؛ ها إن ملكك هناك زائل، وعزك حائل، وناصرك خاذل، والحاكم عليك عادل؛ فاكبأن عبد الملك وتضاءلت أقطاره وترادت عبراته في صدره، ثم قال: لله أبوك، أي ظلم نالك منا حتى أجاءك إلى هذا المقال؟ قال: ساعيك في السماوة، نهاره لهو، ومقاله لغو، وغضبه سطو، يجمع المباقط ويحتجن المشائط ويستنجد العمارط، فأمر عبد الملك بصرف العامل.
تفسير ألفاظ وردت في الخبر السابق
قال القاضي رحمه الله: الغضا الغتم، وقال ابن دريدٍ القرعوش ولد البختية وهو لا ينجب ولا ينفع، والطمطاني: الأعجم، والأطوم: الذي لا يفهم ولا يفهم. وإنما أخذ من جلد الأطوم وهي دابة من دواب البحر صلبة الجلد، وقال قوم: هي السلحفاة.

قال القاضي: في السلحفاة لغتان سلحفاة وسلحفية. وقوله: جهوة قرد: يريد دبره وما والاه، وكذلك هو لك ذي أربع، وربما استعمل في الناس. وقوله: قشر بصرها فالبصر قشر أعلى كل شيء. وقوله: قاشها أي نزا عليها، والترمز التحرك، والمشائط: الواحد مشياط وهو الذي يسرع إليه السمن، والمباقط المتفرقة، يقال بقط هذا أي فرقه، والعمارط الواحد عمروط وهو الذي لا يرى شيئاً إلا اختلسه وهو اللص، والوأي: الوعد، والترمز: التحرك؛ روي عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال: كان رجل من بني تميم خليعاً يقال له عمير بن مالك فمرض فحضر نساء الحي يعدنه، فأطلن الجلوس فقال:
لقل غناء عن عمير بن مالكٍ ... ترمز أستاه النساء العوائد
فقمن وقلن: لا شفاه الله. وقوله: فاكبأن عبد الملك أي تداخل بعضه في بعض، قال الشاعر.
فلم يكبئنوا إذ رأوني وأقبلت ... علي وجوه كالسيوف تهلل
وقوله: تضاءلت أي تصاغرت، والأقطار: النواحي، وقوله: أجاءك أي اضطرك وأصله من المجيء تقول جاء زيد وأجاءه غيره مثل صار وأصار إليه غيره. ومنه " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " مريم: 23 كأنه جاء بها إليه. قال القاضي: وفي تفسير ابن دريد غريب هذا الخبر في موضع آخر: المباقط أي المتفرق من الماشية، وهو مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لأكيدر لا تعد فاردتكم، ولا ترد قاصيتكم، والمشائط: واحدتها مشياط وهي الناقة السريعة السمن، يريد أنه يأخذ المشائط في الصدقة، وهذا مما نهي عنه أيضاً من قوله صلى الله عليه وسلم: لا تأخذوا حزرات أنفس الناس، يريد خيار أموالهم، والعمروط: اللص يقال لص ولص.

ابن الزيات يتفجع على دابة أخذها المعتصم
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو علي محرز الكاتب قال حدثني سهل بن عبد الكريم قال: كان لمحمد بن عبد الملك دابة أشهب أحم لم ير مثله في الفراهة والوطاء والحسن، فذكر المعتصم يوماً الدواب فقال: أشتهي دابةً في نهاية الوطاء تصلح للسرايا، فقال له أحمد بن خالد خيلويه قد عرفته لك يا أمير المؤمنين على أن لا يعلم صاحبه أني ذكرته لك، قال: لك ستر ذلك، قال: عند كاتبك محمد بن عبد الملك دابة لم ير مثله، فوجه المعتصم فأخذه من محمد، فقال فيه:
قالوا جزعت فقلت إن مصيبتي ... جلت رزيتها وضاق المذهب
كيف العزاء وقد مضى لسبيله ... عنا فودعنا الأحم الأشهب
دب الوشاة فباعدوك وربما ... بعد الفتى وهو الحميم الأقرب
لله يوم غدوت عني ظاعناً ... وسلبت قربك أي علق أسلب
نفسي مقسمة أقام فريقها ... وغدا لطيتها فريق يجنب
الآن إذ كملت أداتك كلها ... ودعا العيون إليك زي معجب
واختير من خير الحدائد خيرها ... لك خالصاً ومن الحي الأغرب
وغدوت طنان اللجام كأنما ... في كل عضو منك صنج يضرب
وكأن سرجك فوق متن غمامةٍ ... وكأنما تحت الغمامة كوكب
ورأى علي بك الصديق مهابة ... وغدا العدو وصدره يتلهب
أنساك لا برحت إذاً منسيةً ... نفسي ولا زالت بمثلك تنكب
أضمرت عنك اليأس حين رأيتني ... وقوى حبالك من قواي تقضب
ورجعت حين رجعت منك بحسرةٍ ... لله ما صنع الأصم الأشيب
فليعلمن ألا تزال عداوة ... مني مريضة وثأر يطلب
يا صاحبي بمثل ذا من أمره ... صحب الفتى في دهره من يصحب
إن تسعدا فصنيعة مشكورة ... أو تخذلا فعداوة لا تذهب
عوجا نقضي حاجة وتبحثا ... بث الحديث فإنه لك أعجب
لا تشعراه بنا فليس لذي هوى ... شكوى الحزازة عنده مشتعتب
تفسير ألفاظ
يعني بالأصم: أحمد بن خالد خيلوبه.
قال القاضي: الأحم يصف عينه بالسواد. وقوله: لا يرأب يعني لا يشعب ويقال لما يرقع به القدح أو غيره من الأواني رؤبة، ويقال للذي يصلح الفاسد ويرقع الصدع هو يرأب الثأى. ومن ذلك قول الطرماح ابن حكيم:
هل المجد إلا السؤدد المحض والتقى ... ورأب الثأى والصبر عند المواطن

ومن الثأى قول ذي الرمة:
وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مشلشل ضيعته بينها الكتب

المؤلف ينتقد ابن الزيات على موقفه
قال القاضي: هذا الذي أتى به الخبر في هذه القصة عن محمد بن عبد الملك من خلائفه المستعجبة الكاشفة لما كا فيه من الآداب المستخشنة، وما الذي بلغ من قدر دابةٍ ولو أنه الوجيه ولاحق، أو العصا دابة قصير بن سعد، حتى يضن بها عن المعتصم، وهو الخليفة المبرز في فضله وسروه وجوده وشرفه وشرف خلائقه وجميل طرائقه، وقد استكتبه وموله، وشرفه وخوله، أو ما كان قمناً أن يبتدئ بقود الدابة إليه عند وقوفه على نزاعه إليه ورغبته فيها ويغتبط بقبوله إياها ويرى ذلك من المآثر التي يغبط بها ويفتخر بحيازتها، وقد سبق القول السائر بالمثل المتوارث الغابر: أي الرجال المهذب.
أم قيس ترجو ليلى أن تزوره
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثنا زكريا بن موسى قال حدثنا شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال: لما اختلط عقل قيس المجنون وامتنع من الطعام والشراب مضت أمه إلى ليلى فقالت لها: يا هذه، قد لحق ابني بسببك ما قد علمت فلو صرت معي إليه رجوت أن يثوب لبه ويرجع عقله إذا عاينك، فقالت لها: أما نهاراً فلا أقدر على ذلك لأني لا آمن الحي على نفسي، ولكن أمضي معك ليلاً، فلما كان الليل صارت إليه فقالت له: يا قيس إن أمك تزعم أن عقلك زال بسببي، وأن الذي لحقك أنا أصله، ففتح عينيه فنظر إليها وأنشأ يقول:
قالت جننت على ذكري فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
أعرابي معه نصيحة يدخل على الرشيد
حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: بينا أنا جالس مع الرشيد على المائدة إذ دخل الحاجب فأعلمه أن بالباب أعرابياً معه نصيحة، فأمر بإحضاره، فلما دخل أمره بالجلوس على المائدة ففعل، وكان معه صباحة وفصاحة، فلما تم الغداء ورفعت الموائد وجاء الغسل غسل يده، ثم أمر بالشراب فأحضر، فقال: يا أمير المؤمنين ما حالتي في اللباس، فاستحسن هارون ذلك من فعله وأمر بثياب حسنةٍ فطرحت عليه، وقال له: يا أعرابي من أين؟ قال: من الكوفة قال: أعرابي أم مولى؟ قال: بل عربين قال: فما الذي قصد بك إلينا وما نصيحتك؟ قال: قصد بي إليك قلة المال وكثرة العيال، وأما نصيحتي فإني علمت أني لا أصل إليك إلا بها، قال: فأخذ إسحاق العود فغنى صوتاً يشتهيه الرشيد ويطرب عليه وهو:
ليس لي شافع إلي؟ ... ك سوى الدمع يشفع
عشت بعدي ومت قب؟ ... لك هل فيك مطمع
قسم الحب خمسة ... صار لي منه أربع
فإلى الله أشتكي ... كبداً لي تقطع
فقال الرشيد كالمازح: كيف ترى هذا يا أعرابي؟ قال: بئس والله ما غنى، فغضب من ذلكهارون وصعب عليه، قال إسحاق: وسقط في يدي، فقال هارون: ويكل يا أعرابي، وهل يكون شيء أحسن من هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قولي حيث أقول:
لا وحبيك لا أصا ... فح بالدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا ... ح وإنكان موجعا
كبدي في هواك أس؟ ... قم من أن تقطعا
لم تدع سورة الهوى ... للبلى في مطما
قال: فاستملح هارون ذلك منه وأمر إسحاق أن يغنيه به شهراً لا يقطعه عنه، وأمر للأعرابي بعشرة آلاف درهمٍ وصرفه.
؟الفضل بن يحيى يودع أصحابه حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن يحيى قال: لما خرج الفضل بن يحيى إلى خراسان ودع أصحابه ثم قال:
لما دنا البين بين الحي واقتسموا ... حبل النوى فهو في أيديهم قطع
جادت بأدمعها سلمى وأعجلني ... وشك الفراق فما أبقي ولا أدع
يا قلب ويحك لا سلمى بذي سلمٍ ... ولا الزمان الذي قد مر مرتجع
أكلما مر ركب لا يلا ئمهم ... ولا يبالون أن يشتاق من فحعوا
علقتني بهوى فيهم فقد جعلت ... من الفراق حصاة القلب تنصدع
قال القاضي: هذه أبيات حسنة. وقوله: واقتسموا حبل النوى من أحسن القول وأظرفه.

؟أبيات اللمصعب تعجب الرشيد حدثنا يزداد بن عبد الرحمن المروزي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبي قال: كان هارون أمير المؤمنين يستنشدني كثيراً قول أبي عبد الله بن مصعب ويعجبه:
وإني وإن قصرت عن غير بغضةٍ ... مراعٍ لأسباب المودة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصرم ما أرى ... فآبى وتثنيني عليك الحفائظ
وأنتظر العتبى وأغضي على القذى ... ألا ين طوراً مرةً وأغالظ
وأنتظر الإقبال بالود منكم ... وأصبر حتى أوجعتني المغايظ
جربت ما يسلي المحب على الهوى ... فأقصرت والتجريب للمرء واعظ
قال القاضي: ولعمري إن هذه الأبيات لمن مستحسن الشعر في معناها، وإعجاب الرشيد بها مما ينبى عن خلوص أدبه وصفاء قريحته.
؟أبيات لإبراهيم بن المهدي في جارية كانت تخدمه حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد الشرابي قال حدثنا أبو العباس المرثدي قال حدثنا طلحة بن عبيد الله الطلحي قال أنشدني يعقوب بن عباد الزبيري لإبراهيم بن المهدي، وقد أخدمته بعض العباسيات في حال استخفائه عندها جارية وقالت لها: أنت له، فإن مد يده إليك فلا تمتنعي ولم يعلم بهبتها له، وكانت مليحةً، فجمشها يوماً بأن قبل يدها وقال:
يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه
والذي أكرمت خدي؟ ... ه فقبلت يديه
؟بأبي وجهك ما أك؟ ... ثر حسادي عليه
أنا ضيف وجزاء ال؟ضيف إحسان إليه
؟

بيتان لابن عرفة
قال القاضي: ومما يضارع بعض ما تضمنته هذه الأبيات من جهة ما أنشدناه إبراهمي بن محمد بن عرفة لنفسه:
يا دائم الهجر والصدود ... ما فوق بلواي من مزيد
أصبحت عبداً ولست ترعى ... وصية الله في العبيد
بيتان لمحمد بن داود
وأنشدني أبو النضر العقيلي عن محمد بن داود:
ترى من كوى قلبي بنار فراقه ... وصير حظي من مودته بعدا
تفكر يوماً في أو قال مرةً ... تركنا له عبداً أسأنا به جدا
إسماعيل الديلمي اشتهى حلوى
حدثنا محمد بن مخلدٍ بن حفص العطار قال حدثنا حامد بن محمد بن الحكم بن عبد الرحمن أبو محمدٍ قال حدثنا كردان قال قال لي إسماعي الديلمي: اشتهيت حلوى وأبلغت شهوته إلي، فخرجت من المسجد بالليل لأبول فإذا جنبتي الطريق أخاوين حلوى، فنوديت يا إسماعيل هذا الذي اشتهيت وإن تركه خير لك، فتركته؛ قال ابن مخلد: وقد كتبت أنا عن كردان وكان يكون في قنطرة بني زريق، وقد رأيت إسماعيل الديلمي فكان ما شئت من رجل، رأيته عند أبي جعفر بن إشكاب.
قال القاضي: إسماعيل الديلمي هذا من خيار المسلمين، والناس يزورون قبره، وقبره وراء قبر معروف الكرخي، بينهما قبور يسيرة، وهو بينه وبين المسجد المعروف بمسجد الخضر وقد زرته مراراً. وحدثني بعض شيوخنا من أهل العلم أنه كان حافظاً للحديث كثير السماع وأنه كان يذاكر بسبعين ألف حديث.
خوان وأخونة
قال القاضي: قوله: أخاوين حلوى يقال لما يجعل عليه الطعام قبل جعله خوان فإذا جعل الطعام عليه فهو مائدة، فإذا رفع الطعام عنه عاد إلى تسميته خواناً. وزعم بعضهم أن المائدة إنما تسمى بهذا الاسم إذا خف ما عليها من الطعام لأنها حينئذٍ تميد. وزعم الفراء أنه بمنزلة المهدي يرجع إذا كان فارغاً إلى اسمه الأول فيقال: طبق وقناع ومثله عنده الكأس تسمى كأساً إذا كان فيها الشراب، فإذا أخذت منه رجعت إلى اسمها؛ وقال بعض أهل اللغة: الخوان بالكسر كلام العرب، وهو خوان بالضم باللسان الفارسي. وروي لنا عن الفراء الكسر والضم في الخوان من كلام العرب، وجمعه أخاوين مثل سوار وأساوير ويجمع السوار أيضاً أسورة وأساورة، والهاء في أساورة عوض من الياء في أساوير. وذكر نحو هذا سيبويه في زنديق وزنادقة وفرزان وفرازنة.
وقال الأخفش اسوار وأسورة في قوله تعالى: " فلولا ألقي عليه أسورة " الزخرف: 53 لأنه جمع أسوار وأسورة وقال بعضهم أساورة فجعله جمعاً للأسورة وأراد أساوير، والله أعلم، فجعل الهاء عوضاً من الياء التي في أساوير.

قال القاضي: وقد قال الله جل ذكره: " وحلوا أساور من فضةٍ الأنسان: 21 وقال تعالى: " يحلون فيها من أساور من ذهب " الكهف: 31 فأتى الجمع هاهنا على أساور. وحكى ثعلب أن الفراء قال: أسورة جماعة سوار للذي في اليد يضم ويكسر بلا ألف وجمعه أسورة، ويجوز أن يكون أساورة جمع أسورة كما قيل في الأسقية أساق، والأسوار والإسوار الرامي. وقد قيل في سوار اليد إنه يجوز فيه إسوار وأسوار، فيجوز على هذه اللغة أن تكون أساورة جمعه. وقال الفراء في كتابه في المعاني: من قرأ أساورة جعل واحدها أسواراً، ومن قرأ سورة فواحدها سوار وقد تكون الاساورة جمع أسورة، كما يقال في جمع الأسقية النحويين: في واحد أساور لغتان: ضم السين وكسرها، وهو على القياس، لأن جمع فعال وفعال أفعلة، فأما أسوار بمعنى سوار فليس بصحيح في القياس، فإن كانت لغة فهي شاذة، ولا يكون جمعه أسورة لأن أفعالاً لا يجمع على أفعلة وإنما الأسوار على أفعال فارسية معربة، وهواسم الفارس بالفارسية وليس باسم الرامي كما زعم الفراء. وجمعه أساوير وأساور بياءٍ وبلا ياء، وأساورة بالهاء عوضاً عن الياء. وليست أساورة مثل أساق لأن أساقي لا هاء فيها فهي مثل أساور.
قال القاضي: وهذا القول أشبه القولين عندي بالصواب.

الجلس الثالث والسبعون
حديث إن أمتك مفتتنة بعدك
حدثنا عبد بن سليمان بن الأشعث السجستاني قال حدثنا كثير بن عبيد قال حدثنا محمد بن حمير عن مسلمة بن علي عن عمر بن ذر عن أبي قلابة عن أبي مسلم الخولاني عن أبي عبيدة بن الجراح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتاني جبريل عليه السلام آنفاً فقال لك إنا لله وإنا إليه راجعون، قلت: أجل إنا لله وإنا إليه راجعون، فمم ذاك يا جبريل:؟ قال: إن أمتك مفتتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير، فقلت: فتنة كفرٍ أو فتنة ضلالة؟ قال: كل سيكون، قلت: من أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله تعالى؟ قال: بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل أمرائهم وقرائهم، يمنع الأمراء الحقوق ويسأل الناس حقوقهم فلا يعطونها، فيقتتلون ويفتتنون، فيتبع القراء هوى الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، قلت: فبم يسلم من سلم منهم؟ قال: بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه.
الجريري يستغيث بالله من الظلم والظلمة
قال القاضي: قد رأينا ما قدم نبينا صلى الله عليه وسلم الإخبار به وشاهدناه وظهر لنا ما أنبأنا به وعايناه ومنعنا الذي لنا فصبرنا، وليت ما نعنا حثنا والمستبد به اقتصر على ما أتاه ولم يتجاوزه إلى اغتصاب التالد والطريف من أموالنا بالخبط والعسف والتعذيب والعنف، ولم يتخطه إلى تكليفنا ما لا نقدر عليه ولا نصل إليه، فإلى الله المشتكى والملتجا، وهو المستغاث المرتجى، بعدله نستجير من جور من غلبنا على أقواتنا فشبع بها وأجاعنا، وحفظ بها نفسه وأضاعنا، فإنه قاصم العتاة المترفين، وعاصم العناة المستضعفين، وما هو بغافل عما يعمل الظالمون. وقد " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من باده والعاقبة للمتقين، قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " الأعراف: 128129 اللهم وإنا أصبحنا مستغيثني بك فصبرنا على بلائك ووفقنا لشكر آلائك وألهمنا تقواك حتى تكون العاقبة لنا واستنقذنا من عدوك وعدونا إنك رؤوف رحيم جواد كريم. فأما ممالأة قراء السوء أشكالهم من أمرائهم فقد ظللنا منه في أمر عظيم وخطب جسيم، وصار من يعتزي إلى تلاوة القرآن ويدعى له علم شرائع الإيمان ممن ليس عنده مما ينسب إليه إلا ادعاؤه وقد تموه له بجده وامتحان العباد به ما يظن أنه حاصل له وإن كان صفراً منه، ومنهم من قد جعل الزخرفة والغلط والهجر له صفة معرضه الذي يدلس به نفسه، ويوهم الجهال أن وراء ما يظهره ما يضاهي ما اغتروا به، ومنهم من قد اتفق له من بعض المترفين وجهلة المتعلمين قبول له وصبابة نحوه، واطراح الدين شامل لهذه الفرق المتقدمة المفتتن بها، والله نسأل إدالة أوليائه وإزالة أعدائه.
الجمانة الكنانية تقع في حب حممة

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عمي الحسين بن دريد عن أبيه قال حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي وعن أبي مسكني عن عبد الرحمن بن مغراء أبي زهير الدوسي قالوا: كان حممة بن رافع بن الحارث الدوسي من أجمل العرب وكانت له جمة يقال لها الرطبة كان يغسلها بالماء ثم يعقصها وقد احتقن فيها الماء، فإذا مضى لها يومان حلها ثم يعصرها فيملأ جلساءه، فحج على فرسٍ له، فنظرت إليه الجمانة الكنانية وهي خناس، وكانت عند رجل من بني كنانة يقال له ابن الحمارس فوقع بقلبها، فقالت له: من أنت؟ فو الله ما أدري أوجهك أحسن أم شعرك أم فرسك، ما أنت بالنجي الثلب، ولا التهامي الترب، فاصدقني، قال: أنا امرؤ من الأزد من دوس، ومنزلي ببروق، قالت: فأنت أحب الناس إلي، وقد وقعت في نفسي فاحملني معك، فأردفها خلفه ومضى إلى بلده، فلما أوردها أرضه قال: قد علمت هربك معي كيف كان؛ والله لا تهربين بعدي إلى رجل أبداً، فقطع عرقوبيها، فولدت له عمرو بن حممة، وكان سيداص، وولد عمرو بن حممة الطفيل بن عمرو ذا النور، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وخرج زوجها ابن الحمارس في طلبها فلم يقدر عليها فرجع وهو يقول:
إلا حي الخناس على قلاها ... وإن شحطت وإن بعدت نواها
تبدلت الطبيخ وأرض دوسٍ ... بهجمة فارس حمرٍ ذراها
وقد خبرتها جاعت وذلت ... وأن الحر من طود شواها
وقد خبرتها نحلت ركياً ... وأثواراً معرقة شواها
وقد أنبئتها ولدت غلاماً ... فلا شب الغلام ولا هناها
فلما أنشد عمر بن الخطاب هذا الشعر قال: قد والله شب الغلام وقد هناها.
قال القاضي: قولها: " ما أنت بالنجدي الثالب ولا التهامي الترب من التراب جميعاً، والأثلب من أسماء التراب، يقال: بفيه الأثلب والإثلب، وقوله: " لا هناها " من قولهم كل هنياً مرياً، وأصله الهمز، يقال: هنأني الطعام وقد يترك همزه وتركه في الشعر كثير لتصحيح الوزن كما قال:
فارعي فزارة لا هناك المرتع

ألسنة السمك يقدمها إبراهيم بن المهدي للرشيد
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده قال: استزار إبراهيم بن المهدي الرشيد بالرقة فزاره، وإن الرشيد كان لا يأكل الطعام الحار قبل البارد، وأنه لما وضعت البوارد على المائدة رأى فيما قرب منه جام قريس السمك، فاستصفر طباخي القطع، وإنما هذه ألسنة السمك، فقال: يشبه أن يكون في هذا الجام مائة لسان، فقال له مراقب خادم إبراهيم وكان يتولى قهرمة إبراهيم: فيه يا أمير المؤمنين أكثر من مائة لسان، فاستحلفه على مبلغ ثمن السمك فأخبره أنه ألف درهم، فرفع هارون يده علن الطعام وحلف أن لا يطعم شيئاً دون أن يحضر مراقب ألف دينار، فأمر أن يصدق بها، وقال لإبراهيم: أرجو أن تكون هذه كفارةً لسرفك في إنفاقك على جام سمك ألف درهم، ثم أخذ ألجام بيده ودفعه إلى بعض خدمه وقال: اخرج به من دار أخي ثم انظر إلى أول سائل تراه فادفعه إليه، قال إبراهيم: وكان شراء الجام علي مائتين وسبعين ديناراً، فغمزت خدمي أن يخرجوا مع الجام فيبتاعونه ممن يدفع إليه، وكأن الرشيد فهم ذلك مني، فهتف بالخادم فقال: إذا دفعت الجام إلى السائل فقل له: يقول لك أمير المؤمنين احذر أن تبيع الجام بأقل من مائتي دينار فإنه خير منها، ففعل خادمه ما أمره به، فو الله ما أمكن خادمي يخلص الجام إلا بمائتي دينار.
السرف والإسراف
قال القاضي: إن طعم اللسان من السمك أشبه الطعوم بطعم لحم الخنزير، وقل الرشيد: كفارة لسرفك فإن السرف في كلام العرب التجاوز للشيء، حكي عن العرب مررت بكم فسرفتكم، وقال الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف
فأما الزيادة في الإنفاق وغيره فهو الإسراف، وهو ضد التقتير، يقال: أسرف يسرف إسرافاً، قال الله تعالى ذكره: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " الفرقان: 67 وقال: " فلا يسرف في القتل " الاسراء:33 وقال: " ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً " النساء:6 وقال: " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " الأنعام:141 وقال: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " وهذا كثير جداً.

خطبة زياد البتراء
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني محمد بن أبي يعقوب الدينوري قال حدثنا عبيد بن محمد الفيرياب قال حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا عبد الملك بن عمير قال: شهدت زياد بن أبي سفيان وقد صعد المنبر فسلم تسليماً خفياً، وانحرف انحرافاً بطياً، وخطب خطبة بتيراء، قال ابن الفيريابي والبتيراء التي لا يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن أمير المؤمنين قد قال ما سمعتم، وشهد الشهود بما قد علمتم، وإنما كنت امرءاً حفظ الله مني ما ضيع الناس، ووصل مني ما قطعوا، ألا إنا قد سسنا وساسنا السائسون، وجربنا وجربنا المجربون، وولينا وولينا الوالون، وإنا وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف، وايم الله إن لي فيكم صرعى فليحذر كل رجلٍ منكم أن يكون من صرعاي، والله لآخذن البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حتى تلين لي قناتكم، وحتى يقول القائل منكم: انج سعد فقد قتل سعيد، فرب فرح بإمارتي لن تنفعه، ورب كارهٍ لها لن تضره. وقد كانت بيني وبين أقوامٍ منكم دمن وأحقاد، وقد جعلت ذلك خلف ظهري وتحت قدمي، فلو بلغني عن أحدكم أن البغض لي قتله، ما كشفت له قناعاً ولا هتكت له ستراً حتى يبدي صفيحته، فإذا أبداها لم أقله عثر تهز ألا ولا كذبه أكبر شاهداً عليها من كذبه أميرٍ على منبر، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، وإذا وعدتكم خيراً أو شراً فلم أف لكم به فلا طاعة لي في رقابكم، ألا وأي رجل منكم ممن كان مكتبه خراسان فأجله سنتان، ثم هو أمير نفسه، وأيما رجل منكم كان مكتبه دون خراسان فأجله ستة أشهر، ثم هو أمير نفسه، وأيما امرأة احتاجت فإننا نعطيها عطاء زوجها ثم نقاصه به، وأيما عقال فقد تموه من مقامي هذا إلى خراسان فأنا له ضامن.
فقام إليه نعيم بن الأهتم المنقري فقال: أشهد لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال: كذبت أيها الرجلن ذاك نبي الله داود عليه السلام، ، ثم قام إليه الأحنف بن قيس فقال: أيها الرجل، إنما الجواد بشده، والسيف بحده، والمرء بجده، وقد بلغك جدك ما ترى، وإنما الشكر بعد العطاء، والثناء بعد البلاء، ولسنا نثني عليك حتى نبتليك، فقال: صدقت، ثم قام أبو بلال مرداس بن أدية فقال: أيها الرجل قد سمعت قولك: والله لآخذن البريء بالسقيم المطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر ولعمري لقد خالفت ما حكم الله في كتابه إذ يقول: " ولا تزر وازة وزر أخرى " الأنعام:16 فقال: إيها عني، فو الله ما أجد السبيل إلى ما تريد أنت وأصحابك حتى أخوض الباطل خوضاً، ثم نزل فقام إليه مرداس بن أدية وهو يقول؛
يا طالب الخير مهر الجور معترض ... طول التهجد أو فتك بجبار
لا كنت إن لم أصم عن كل غانيةٍ ... حتى يكون بريق الحور إفطاري
فقال له رجل: أصحابك يا أبا بلال شباب، فقال: شباب متكهلون في شبابهم، ثم قال:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم سجود
فشرى وانجفل الناس معه، وكان قد ضيق الكوفة على زياد.
قال القاضي: قد روي لنا هذا الشعر في بعض أخبار الفوائد على غير هذه القافية وهو:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
تفسير ما ورد في البتراء
رغم تكرر ورودها
قال القاضي: كتبت هذا الخبر هاهنا وأنا أريد كتب غيره خطأ مني، لأني قد رسمته في بعض ما تقدم من مجالس هذا الكتاب، وأنا أذكر هاهنا من تفسيره ما يخرج به من كتبه عن أن يكون لاقى عناء بتكرارٍ لا فائدة فيه.

قال القاضي: قول زياد: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا ما ذكره قد سبق إلى معناه ولفظه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر منيلي شيئاً من أمور المسلمين فقال: يكون قوياً في غير عنف، ليناً في غير ضعف، وفي ضعف لغتان: الضم والفتح، وقد قرأت القرأة بهما في القرآن، وزعم بعض علماء اللغة أن وجه الكلام فيه أن يضم حيث يكون إعراب الكلمة فيه غير النصب، ويفتح مع النصب، واستقصاء الكلام في هذا في موضعه من الكتب المؤلفة في علوم القرآن. وقوله: قد كانت بيني وبين قوم منكم دمن وأحقاد الدمن: الأحقاد واحدها: دمنة، يقال في نفسه دمنة وحسيكة وغمر وسخيمة وضغن وكتيفة، ويجمع كتائف كقول الشاعر:
أخوك الذي لا يملك الحس نفسه ... وتهتز عند المحفظات الكتائف
وفيه غل، في أسماء كثيرة. وقوله: انج سعد فقد قتل سعيد كان ابناً ضبة بن أد خرجا في بغاء إبلٍ لهما، فرجع سعد ولم يرجع سعيد، فكان أبوهما إذا أقبل أحدهما يقول: أسعد أم سعيد، فأرسلها مثلاً.

أخ يعشق زوجة أخيه وهما من بني كنة
حدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار قال حدثنا إبراهيم بن راشد بن سليمان الأدمي قال حدثنا عبد الله بن عثمان الثقفي قال حدثنا المفضل بن فضالة مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: كان في الجاهلية أخوان من حي يدعون بني كنة، أحدهما متزوج والآخر عزب، فقضي أن المتزوج خرج في بعض ما يخرج الناس فيه، وبقي الآخر مع امرأة أخيه، فخرجت ذات يومٍ حاسرةً فإذا أحسن الناس وجهاً وأحسن الناس ثغراً، فلما علمت أن قد رآها ولولت وصاحت وقالت بمعصمها فغطت وجهها قال القاضي: المعصم موضع السوار فزاده ذلك فتنةً، فحمل الشوق على بدنه حتى لم يبق إلا رأسه وعيناه تدوران في رأسه، وقدم الأخ فقال: يا أخي ما الذي أرى بك؟ فاعتل عليه فقال: الشوثة قال: الشوصة يسميها العرب اللوي وذات الجنب فقال له ابن عم له: لا تكذبنه، ابعث إلى الحارث بن كلدة فإنه من أطب العرب، فجيء به فلمس عروقه فإذا ساكنها ساكن وضاربها ضارب، فقال: ما بأخيك إلا العشق، فقال: سبحان الله تقول هذا لرجل ميت، قال: هو ذاك، عندكم شيء منشراب:؟ فجيء به ودعا بمسعطٍ فصب فيه وحل صرةً من صراره فذر فيه ثم سقاه، ثم سقاه الثانية ثم سقاه الثالثة، فانتشى يغني سكراً فقال:
تهيد ما تهيج ويذكر ... أيها القلب الحزين ما يكوننه
ألما بي على الأبيا ... ت من خيفٍ أزرهنه
غزالاً ما رأيت الي؟ ... وم في دور بني كنه
غزال أحور العين ... وفي منطقه غنه
قال القاضي: البيت الأول من هذه الأبيات مضطرب، وأرى بعض من رواه كسره وأخل بنيانه ونظمه لأنه لم يكن له علم بوزن الشعر فقال الرجل: هذه دور بني كنة فليت شعري من؟ فقال الحارث: ليس فيه مستمتع غير هذا اليوم، ولكن أغدو عليكم من الغد ففعل كفعله بالأمس، فانتشى يغني سكراً واسم امرأة أخيه ريا فقال:
أيها الجيرة اسلموا ... كي تحيوا وتكرموا
خرجت مزنة من البح؟ ... ر ريا تحمحم
هي ما كنتي وتز ... عم أني لها حمو
فقال الرجل لمن حضره: أشهدكم أنها طالق ثلاثاً ليرجع إلى أخي فؤاده، فإن المرأة توجد والأخ لا يوجد، فجاء الناس يسعون ويقولون: هنيئاً لك يا أبا فلان، فإن فلاناً قد نزل لك عن فلانة، فقال لمن حضر: أشهدكم أنها علي مثل أمي إن تزوجتها، قال عبد الله بن عثمان، قال المفضل قال ابن سيرين قال عبيدة السلماني: ما أدري أي الرجلين أكرم: الأول أم الآخر.
؟
خبر الأخوين من بني كنة برواية أخرى

قال القاضي: قد روي هذا الخبر من غير هذه الطريق وفي بعض ألفاظه اختلاف، فرأيت تكرار جملته لتكمل الفائدة، ولا يفوت منه شيء، وما يتكرر من اقتصاصه لا ضرر فيه: حدثنا أبي رضي الله عنه قال، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سهل الرازي قال حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني عمي محمد بن سعيد، قال حدثنا عبد الملك بن عيمر قال: كان أخوان من ثقيف من بني كنة بينهما من التبار والتحاب شيء لا يعلمه إلا الله، كل واحدٍ منهما أخوه عند رأسه، وإن الأكبر خرج إلى سفر وله امرأة، فأوصى أخاه بحاجة أهله، فبينا المقيم في دار الظاعن إذ مرت امرأة أخيه، وكانت من أجمل البشر، تجوز من بيتٍ إلى بيت، فرآها فأى شيئاً مختلفاً، فلما رأته ولولت ووضعت يدها على رأسها ودخلت بيتاً، فوقع حبها في قلبه، فجعل يذوب وينحل جسمه وتغير لونه، وقدم أخوه وقال: يا أخي مالي أراك هكذا؟ وما وجعك:؟ قال: ما بي وجع، فدعا الأطباء فلم يقع أحد على دائه، حتى أتى الحارث بن كلدة وكان طبيباً فقال: أرى عينين صحيحتين وما أدري ما هذا الوجع، وما أظنه إلا عاشقاً، فقال أخوه: سبحان الله، أسألك عن وجع أخي وأنت تستهزئ بي؟! قال: ما فعلت، وسأسقيه شراباً عندي، فإن كان عاشقاً فسيستبين لكم، فأتي بشراب فجعل يسقيه قليلاً قليلاً كما يزق الفرخ، فلما أخذ الشراب منه تهيج فتكلم فقال:
ألما بي على الأبيا ... ت بالخيف أزرهنه
عزالاً ما رأيت الي؟ ... وم في دور بني كنه
أسيل الخد مربوب ... وفي منطقه غنه
فقال: أنت أطب العرب، فمن؟ قال: سأعيد الشراب فلعله يسمي فأعاد له بالشراب فقال:
أيها الجيرة اسلموا ... واربعوا كي تكلموا
وتقضى لبانة ... وتحيوا فتغنموا
خرجت مزنة من البح؟ ... ر ريا تحمحم
هي ما كنتي وتز ... عم أني لها حمو
قال: فطلق أخوه امرأته، فقال له المريض: علي كذا وكذا إن تزوجتها أبداً فماتا ولم يتزوجا.
؟مودة ابن المهاجر للعباسيين حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عمرو بن تركي القاضي أبو الفضل قال حدثنا الوليد بن هشام القحذمي قال: لما قتل أبو العباس سليمان بن هشام دخل عليه إبراهيم بن المهاجر البجلي فأنشده:
إن بني العباس إن كنت سائلاً ... هم قتلوا من كان أعتى وأظلما
هم ضربوا رأس النفاق بسيفهم ... وهم ملأوا ثوبيه من دمه دما
فمن لم يدن منا بحبك ربه ... فليس يلاقيه إذا مات مسلماً
فقال أبو العباس: ما أدل ظاهر ابن المهاجر على باطنه في ودنا، إن ذلك ليبين في عينيه أكثر ممايبين في لسانه.
؟يسأل شريكاً الطنبور أطيب أم العود
حدثنا الحسن بن علي بن زكريا العدوي قال أخبرنا الحسن بن علي بن راشد قال: جاء رجل إلى شريك بن عبد الله فقال: أيها القاضي أيما أطيب الطنبور أم العود؟ فقال: أحسبك بايعت يا عدو الله، فحلف أنه لم يبايع، وأنه مستفهم، فقال له: كم على الطنبور من وتر؟ قال: اثنان، قال: وعلى العود؟ قال: أربعة، فقال: فكلما كثر هذا كان أطيب.

قولة لأبي يوسف يرويها ابن حنبل
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد قال أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أبي قال: سمعت أبا يوسف القاضي يقول: إن للعيون خبايا بالغدوات ما ليس لها بالعشيات، فقلت له: يا أبت، أليس ذكرت أنك لا تروي عن أبي يوسف؟ فقال: هذه حكمة يأخذها العبد عن كل من وجدها عنده.
المجلس الرابع والسبعون
حديث وجبت
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمرو بن زرارة قال: حدثنا عيسى يعني ابن يونس عن موسى يعني ابن عبيدة قال: أخبرني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجنازة فأثني عليها خيراً فقال: وجبت، ثم أتي بجنازة فأثني عليها بعض الثناء فقال: وجبت، فقال ناس: ما وجبت؟ فقال: إن الملائكة شهداء الله في السماء وأنتم شهداء الله في الأرض، وما شهدتم عليه من شيء وجب، ثم تلا هذه الآية: " وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " التوبة:105.
؟تعليق للقاضي

قال القاضي: فما أولى بالمرء المؤمن الناصح لنفسه الراجي لربه، الخائف من غضبه أن يتقي الله ويهذب سريرته، ويخلص من الرياء والفساد عمله، حتى يجعل الله تعالى المقة بعد وفاته في قلوب عباده، فيثني مؤمنهم عليه، غير مسفٍ إلى ثنائهم وتزكيتهم في حياته، فقد قال جل ثناءه: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " مريم: 96 ومن فارق الدنيا على الطريق التي وصفنا أظهر الله حسناته، وأجراها على أفواه عباده، وستر ما خفي على الناس من مساوئ عمله، أصحبنا الله وإياكم جميل ستره في دنيانا، وبعد قبضه إيانا، إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
؟صبر أعرابية يفوق صبر الرجال حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: كان بحمى ضرية عجوز من بني أبي بكر بن كلاب يتحدث قومها عن سروها وعقلها، فأخبرني من حضرها وقد مات ابن لها وقد كان واحدها، وقد طالت علته فأحسنت تمريضه، فلما فاظ قعدت بفنائها وحضرها قومها فأقبلت على شيخ منهم فقالت: يا فلان أو يا أبا فلان ما أحق من ألبس العافية وأسبغت عليه النعمة فاعتدلت به الفطرة أن لا يعجز عن التويق لفنسه قبل حل عقدته، والحلول بعقوته، والحيال بينه وبين نفسه، ثم أنشأت تقول:
هو ابني وأنسي أجره لي وعزني ... على نفسه رب إليه ولاؤها
فإن احتسب أو جر وإن أبكه أكن ... كباكيةٍ لم يغن شيئاً بكاؤها
فقال الشيخ: إنا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء فلا يأس رجل في مصيبته، ولقد كرم صبرك وما أشبهت النساء، فأقبلت عليه بوجهها وقالت: إنه ما خير امرؤ بين جزع و صبر إلا وجد بينهما نهجين بعيدي التفاوت في حاليتهما، أما الصبر فحسن العلانية محمود العاقبة، وأما الجزع فغير معوضٍ عوضاً مع مأثمه، ولو كانا في صورة رجلين لكان الصبر أولاهما بالغلبة بحسن الصورة وكرم الطبيعة في عاجله في الدين وآجله في الثواب، وكفى بما وعد الله فيه لمن ألهمه الله إياه.

تفسير بعض الألفاظ
قال القاضي: في هذا الخبر أن هذه المرأة قالت: والحيال بينه وبين نفسه ولا يعرف الحيال في هذا الموضع وإنما يقال: حالت الناقة أو الشاة حيالاً إذا لم تلقح وهي حائل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبي أوطاس: لا تقربوا حاملاً حتى تضع ولا حائلاً حتى تحيض.
ومن الحيال قول الشاعر:
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال
وقال الفراء: ومن كلام العرب: حائل حولٍ، إذا تتابع الحيال عليها ثلاثة أعوام.
وأما الحول بين الشيء وغيره من قول الله تعالى: " وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " الأنفال:24 وقوله: " وحال بينهما الموج هود: 43 وقوله: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " سبأ: 54 وهذا معنى اللفظة الواردة في هذا الخبر فإنه يقال فيه: حلت بين الرجلين حولاً وحؤولاً.
وقوله: والحلول بعقوته يقال: ساحة الدار وباحتها وقاعتها وعقوتها كما قال الشاعر:
فمن بعقوته كمن بنجوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
الأحوص يسرق شعر ابن أبي دباكل
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمرو بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال: خرجت أنا والأحوص الأنصاري مع عبد الله بن حسن للحج، فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن حسن: لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل الخزاعي فأنشدنا من شعره، فأرسل إليه فجاءنا فأنشدنا قصيدته:
يا بيت خنساء الذي أتجنب ... ذهب الزمان وحبها لا يذهب
أصبحت أمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأجنب
مالي أحن إذا جمالك قربت ... وأصد عنك وأنت مني أقرب
لله درك هل لديك معول ... لمتيمٍ أم هل لودك مطلب
فلقد رأيتك قبل ذاك وإنني ... لمتيم بهواك لو يتجنب
وأرى السمية باسمكم فيزيدني ... شوقاً إليك جنابك المتسبب
وأرى العدو يودكم فأوده ... إذ كان ينسب منك أو يتنسب
وأخالق الواشين فيك تجملاً ... وهم علي ذوو ضغائن ذرب

ثم اتخذتم علي وليجة ... حتى غضبت ومثل ذلك يغضب
وانصرف. فلما كان القابل حج أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان فمر بالمدينة، فدخل عليه الأحوص واستصحبه فأصحبه، فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده: تقدم بالأحوص الشام فتعير به، فبعث إلى الأحوص فقال له: يا خال إني نظرت فيما سألتني من الاستصحاب فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين بلا إذن، ولكني أستأذنه لك فإن أذن كتبت إليك بالمسير إلي؛ فقال الأحوص: لا والله ما بك ما ذكرت، ولكني سبعت عندك، ثم خرج فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز بصلةٍ واستوهبه عرض أبي بكر فوهبه له ثم قال:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل
ثم قال فيها يعرض بأبي بكر بن عبد العزيز:
ووعدتني في حاجتي فصدقتني ... ووفيت إذ كذبوا الحديث وبدلوا
حتى إذا رفع الحديث مطامعي ... يأساً وأخلفني الذين أؤمل
زايلت ما صنعوا إليك برحلةًٍ ... عجلاً وعندك عنهم متحول
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فقال له عمر بن عبد العزيز: ما أراك أعفيتني مما استعفيتك منه.

إنه أبو ثابت وابنه أثبت منه
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال: حدثني أحمد بن عمر بن عمران بن إسماعيل بن عبد العزيز بن أبي ثابت بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال حدثني عمي عمر بن عمران قال: انتظرت قريش عمران بن عبد العزيز يوم قدم المهدي المدينة فقالت قريش: لا ندخل حتى يدخل أبو ثابت فدخل أبو ثابت فتكلم، فلما فرغ من كلامه قال الناس: الأمير، يعنون المهدين وكان ولي عهد، فقال عمران: انبي عمر يتكلم بعدي، قال: فتكلم عمر بن عمران فأبلغ قال: فخرج الحاجب فقال: أنا أشهد أنه أبو ثابت، وابنه أثبت منه، قال: فأنشد المهدي هذه القصيدة من قول عمر:
غشيت لهندٍ بالعقيق ربوعاً ... فاذريت في دار الحبيب دموعا
وليس بها إلا أثافٍ كأنها ... حمائم ظلت في الديار وقوعا
فيا سائلي ما الحب صادفت عالماً ... بصيراً بما عنه سألت سميعاً
فإني وجدت الحب كالنار حره ... وحلواً ومراً بعد ذاك فظيعاً
فمن مسرع يأتي الإمام بمنطقي ... ويبلغني منه الجواب سريعاً
لطفت أمير المؤمنين لهاشمٍ ... وكنت لها بعد المحول ربيعاً
فأديت حق الله في بر والدٍ ... فلا تك للباقي هديت مضيعا
رفعنا وأنتم بالحبيب محمدٍ ... وكان على الخلق النبي رفيعاً
فأعمامه كنتم وكان ابن أختنا ... فجاءت به طلق اليدين قريعا
فلن يقبل الرحمن براً لوالدٍ ... إذا لم يبر الوالدين جميعاً
فقد أمر الرحمن بالبر فيهما ... فكن فيهما يا ابن الكرام مطيعاً
قال: فألحق بني زهرة في العطاء ببني هاشم يومئذ.
أحمد بن حنبل يكتب شعر أبي نواس
حدثنا محمد بن العباس بن الوليد قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعلب يقول: دخلت على أحمد بن حنبل فرأيت رجلاً تهمه نفسه لا يحب أن يكثر عليه كأن النيران قد سعرت بين يديه، فما زلت أرفق به، وتوسلت بالشيبانية إليه فقلت: أنا من مواليك يا أبا عبد الله، وذكرت له عبد الله بن الفرج، قال أبو العباس: وعبد الله بن الفرج هذا من صالحي أهل البلد فقرم إلى حديثي وانبسط إلي وقال: في أي شيءٍ نظرت؟ فقلت: في علم اللغة والشعر، فقال: مررت بالبصرة وجماعة يكتبون الشعر عن رجل، فقيل لي هذا أبو نواس، فتخللت الناس ورآني، فلما جلست أمل علينا:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ... ذنوب على آثارهن ذنوب

فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب
ثم أطرق، فعلمت أنه قد مل، فسلمت وانصرفت.
قال محمد بن العباس: فحدث أبي بهذا عبد الله بن المعتز وأنا حاضر أسمع فأنشده الأبيات، فقال لنا عبد الله: هذه الأبيات لأبي نواس من زهدياته.
قال محمد بن العباس: فنظرت فيما حدثنا به الناس عن أبي عبد الله هل رأى أبا نواس فوجدت فيما حدثنا عبد الله بطريق خراسان وهو قاضي الناحية قال: سمعت أبي يقول: كنت في البصرة في مجلس ابن علية فالتفت فإذا بداعابةٍ وضحك، وإذا بأبي نواس يكتب عنه من زهدياته.
قال القاضي: وقد رويت لنا هذه الأبيات عن بعض من تقدم أبا نواس من الشعراء، واستشهد ببعضها طائفة من النحويين في موضع من فصول النحو، وقد ذكرنا من هذا طرفاً في موضع غير هذا فلم أر لإعادته في هذا الموضع وجهاً.

وفادة عبد الله بن جعفر على معاوية
حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن صالح التميمي قال: حدثني عمر بن عبد الوهاب الرياحي قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص عن خالد بن سعيد عن سعيد بن عمرو قال: وفد عبد الله جعفر على معاوية بن أبي سفيان فأنزله في داره فقالت له ابنة قرظة امرأته: إن جارك هذا يسمع الغناء، قال: فإذا كان ذلك فأعلميني فأعلمته فاطلع عليه فإذا جارية له تغنيه وهي تقول:
إنك والله لذو ملةٍ ... يطرفك الأدنى عن الأبعد
وهو يقول: يا صدقكاه. قال: ثم قال اسقيني قالت: ما أسقيك؟ قال: ماء وعسلاً، قال: فانصرف معاوية وهو يقول: ما أرى بأساً. فلما كان بعد ذلك قالت له: إن جارك هذا لا يدعنا ننام الليل من قراءة القرآن، قال: هكذا قومي رهبان بالليل ملوك بالنهار.
بان المبارك يقسم لاخوانه
حدثنا محمد بن داود سليمان النيسابوري قال: سمعت الحسن بن سفيان يقول: قال حبان عن ابن المبارك إنه قسم يوماً لاخوانه ومن حضره من أصحابنا ألف درهم ثم قال:
لا خير في المال وكنازه ... بل لجواد الكف وهابه
يفعل أحياناً بزاواره ... ما يفعل الخمر بشرابه
قال القاضي: ذكر ابن المبارك الخمر والمعروف تأنيثها، أراد الشراب.
قول شريح في الجراد
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحيم قال: أخبرنا وكيع عن الأعمش قال: أخبرنا عامر قال: سئل شريح القاضي عن الجراد قال: قبح الله الجرادة فيها خلقة سبعة جبابرة: رأسها رأس فرس وعنقها عنق ثور وصدرها صدر أسد وجناحها جناح نسر ورجلاها رجلا جمل وذنبها ذنب حية وبطنها بطن عقوب.
أفتنت سعيدا
ً
حدثنا محمد بن مخلد قال: حدثني أحمد بن محمد بن بكر بن خالد قال حدثنا أبو العباس داود بن رشيد قال حدثنا أبو نميلة عن عمرو بن زائدة قال: حدثني امرأة من بني أسد قالت: زففنا عروساً في الحي فمررنا بسعيد بن جبير والمغنية تقول:
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت ... سعيداً فأضحى قد قلى كل مسلمٍ
وألقى مفاتيح المساجد واشترى ... وصال الغواني بالكتاب المنمنم
قال ابن مخلد؛ فقال سعيد: كذب.
التآخي بين صعب بن جثامة وعوف بن مالك

حدثنا أحمد بن العلاء الحرمي قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني ابن عائشة قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن صعب بن جثامة وعوف بن مالك كانا متواخيين فقال صعب لعوف: أي أخي أينا مات قبل صاحبه فليتراءى له قال: أيكون ذاك؟ قال: نعم، فمات صعب، قال: فرأى عوف فيما يرى النائم كأنه أتاه قال: فقلت: أي أخي ما فعل بكم؟ قال: غفر لنا بعد المشائب قال: ورأيت لمعة سواد في عنقه فقلت: أي أخي ما هذا؟ قال: عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي فهي في قرني فأعطوها إياه، واعلم أي أخي أنه لم يحدث في أهلي حدث بعدي إلا وقد لحق بي أجره حتى هرة لنا ماتت لنا منذ أيام، واعلم أن بنتي تموت إلى ستة أيام فاستوصوا بها معروفاً، قال: فلما استيقظت قلت إن في هذا لمعلماً، فلما أصبحت أتيت أهله فقالوا: مرحباً مرحباً بعوف أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم، لم تقربنا منذ مات صعب، قال: فاعتللت بما يتعلل به الناس، قال: فنظرت إلى القرن فأنزلته، وانتثلت ما فيه فندرت الصرة التي فيها الدنانير، فبعثت إلى اليهودي فجاء فقلت له: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: يرحم الله صعباً كان من خيار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هي له، قلت لتخبرني قال: نعم، أسلفته عشرة دنانير، فنبذتها إليه، قال: هي والله بأعيانها قال: قلت هذه واحدة، قال، قلت: فهل حدث فيكم حدث بعد موته؟ قالوا: نعم حدث فينا كذا، قلت: اذكروا، قال: نعم هرة ماتت لنا منذ أيام، قال: قلت هاتان اثنتان، قال: قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب، قال: فأتي بها فمستها فإذا هي محمومة، فقلت: استوصوا بها خيراً، فماتت لستة أيام.

تفسير ما يتطلب توضيحا
ً
قال القاضي: قوله: بعد المشائب يتجه فيه وجهان من التأويل أحدهما: أنه من قولهم شاب الشيء إذا خالطه ومازحه فكأنه عنى أنه لقي مع أنه نجا وفاز أموراً فظيعة راعته حيت عاينها يومئذ، وهو يوم الفزع الأكبر، نسأل الله العظيم خيره والسلامة فيه، ونعوذ به من شره. والوجه الثاني أنه من الشيب والمشيب، وقد وصفه الله تعالى بأنه يجعل الولدان شيباً.
وأما القرن فإنه الكنانة أو القنديل، فإذا اجتمعت الكنانة النبل من السلاح فهو قرن كما قال الشاعر:
يا ابن هشام أهلك الناس اللبن ... فكلهم بمشي بسيفٍ وقرن
ما هو إلا شيء جرى على لساني
حدثنا محمد بن مزيد البوشنجي قال: حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن معافى بن نعيم: أن والياً كان على اليمامة ولاه بلال بن جرير بعض أعماله، فجلس يوماً يحكم والخصوم جلوس إذ تمثل أحدثم:
وابن المراغة حابس أعياره ... مرمى القصية ما يذقن بلالا
ولا يشعر أنه من ذلك بسبيل، قال فقال: أين هذا الراوية:؟ قال: ها أنا ذا أصلحك الله، قال: ادن أنت وخصمك، فدنوا قال: هلم أعد البيت، فغمزه إنسان، فقال: أصلحك الله، والله ما هو إلا شيء جرى على لساني وما أردت بذلك مكروهاً، فقال: هو أشهر من ذلك، هلم، فاحتجا.
كتابة على قبر
حدثنا أبي رضي الله عنه قال، حدثنا أبو أحمد الختلي قال، حدثنا عمر يعني ابن محمد بن عبد الحكم النسائي، حدثني أحمد بن بشير بن سليمان الشيباني قال: سمعت أحمد بن عبد الله الدينوري يقول: قرأت على قبر:
أخ طال ما سرني ذكره ... فقد صرت أشجى لدى ذكره
وقد كنت أغدو إلى قصره ... فقد صرت أغدو إلى قبره
وقد كنت دهري ضنيناً به ... عن الناس لو مد في عمره
وكنت إذا جئت في جاجةٍ ... فأمري يجوز على أمره
فصار علي إلى ربه ... وكان علي فتى دهره
أتم وأكمل ما لم يزل ... وأنبل من كان في عصره
أتته المنية مغتالة ... رويداً تخلل من ستره
فلم تغن أجناده حوله ... ولا المسرعون إلى نصره
أشد البرية وجداً به ... أجد البرية في طمره
فأصبح يهدى إلى منزل ... تنوق ناعيه في حفره
تغلق بالترب أبوابه ... إلى يوم يؤذن في حشره
وخلى القصور التي شادها ... وحل من القبر في قعره
وبدل بالعرش بسط الثرى ... وريح ثرى الأرض من عطره

أخو سفرةٍ ماله أوبه ... غريب وإن كان في مصره
فلست مشيعه غادياً ... أميراً يسير إلى ثغره
ولا متلقٍ له قافلاً ... بقتل عدوٍ ولا أسره
فلا يبعدن أخي هالكاً ... فكل سيمضي على إثره

توجيهات نحوية
قال القاضي: قوله ولا متلقٍ له بالجر، وقد عطفه على قوله: فلست مشيعه وهو منصوب لأن قوله: فلست مشيعه بمعنى: فلست بمشيعه، ومن هذا قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ماضى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
وقد استشهد النحاة في هذا الوجه بقول امرئ القيس:
فظل طهاة اللحم من بين منضجٍ ... صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل
وقالوا: قد عطف على قوله: صفيف شواء ، وحمل هذا بعضهم على أنه معطوف على قوله: شواء وتأول هذا بعضهم على الجوار كما حكي هذا جحر ضبٍ خربٍ، وهذا باب يتسع القول فيه، ولنا فيه كلام كثير مشروح في مواضع من كتبنا في القرآن والفقه والنحو.
شعر لسابق البربري
حدثنا عبد لاله بن محمد بن جعفر الأزدي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا حماد بن الوليد الحنظلي قال: سمعت عمر بن ذر يذكر أنه بلغه عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتةً بعدما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتهً ... فراراً ولا منه بحيلته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحدٍ فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغني لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
فلم يزل عمر يضطرب ويبكي حتى غشي عليه، قال: فقمنا فانصرفنا عنه.
ولكن تفيض النفس عند امتلائها
أنشدنا محمد بن يحيى الصولي قال: أنشدنا المبرد:
ولي حاجة قد راث عني نجاحها ... وجودك أجدى وافدٍ في اقتضائها
ومال شفيع غير نفسك إنني ات؟ ... كلت من الدنيا على حسن رائها
عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الراغبين بمائها
شكوت وما الشكوى لنفسي عادةً ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
؟كن باذلاً للخير أنشدنا عمر بن الحسن الشيباني، قال: أنشدنا أبو بكر القرشي قال: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
إذا ما الليالي أقبلت بإساءةٍ ... رجونا بأن تأتي بحسن صنيع
وذلك فعل الله بالناس كلهم ... فكن باذلاً للخير غير منوع
؟
المجلس الخامس والسبعون
طير الجنة
حدثنا جعفر بن محمد بن عبدويه المروزي البرائي قال حدثنا الزعفراني قال حدثنا أبو معاوية الضرير قال حدثنا عبيد الله بن الوليد عن عطينة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة طيراً فيه سبعون ألف ريشةٍ فيجيء حتى يقع على صحفة الرجل من أهل الجنة، فينتفض فيخرج من تحت كل ريشةٍ لون أبيض من الثلج وألين من الزبد وأحلى من العسل ليس فيها لون يشبه صاحبه، ثم يطير فيذهب.
تعليق القاضي على الحديث
قال القاضي: قد أنبأ هذا الخبر عن عظيم قدرة الله تعالى ذكره وجسيم نعمته وعجيب رزقه، وعما أعده لأوليائه في جنته مما لم تتصوره نفوسهم، ولم تبلغه أمانيهم، فهنيئاً لهم ما أنعم به عليهم ربهم، وإياه نسأل أن يدخلنا جنته ولا يحرمنا رحمته، فإنه لا يتعاظمه خير يجود به، ولا يتسصعب عليه شر يصرفه، بيده الخير كله، وهو على كل شيء قدرير.
إعجاب الأخطل بأبيات للقطامي
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سأل عمرو بن سعيد القرشي الأخطل: أيسرك أن لك شعراً بشعرك؟ قال: لا والله ما يسرني أن لي بمقولي مقولاً من مقاول العرب، غير أن رجلاً من قومي قد قال أبياتاً حسدته عليها، وإيم الله إنه لمغدف القناع، ضيق الذراع، قليل السماع، قال: ومن هو؟ قال: القطامي، قال: وما هذه الأبيات؟ قال: قوله:

يمشي رهواً فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تنكل
من كل سامية العينين تحسبها ... مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل
حتى وردن ركيات الغوير وقد ... كاد الملاء من الكتان يشتعل
يمشين معترضاتٍ والحصى رمض ... والريح ساكرة والظل معتدل
والعيش لا عيش إلا ما تقربه ... عيني ولا حال إلا سوف ينتقل
إن تصبحي من أبي عثمان منجحة ... فقد يهون على المستنجح العمل
والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل

تعليق للقاضي وتفسيرات
قال القاضي: لعمري إن هذه الأبيات لمن رصين الشعر وبليغه، وكلمة القطامي التي هذه الأبيات منها من أجود شعره، وأولها:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطول
ويروى الطيل.
وقد ذكر بعضهم أن أجود ما أتى من أشعار العرب على هذه العروض وهذا الروي هذه الكلمة وكلمة الأعشى التي أولها:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
وقول الأخطل: إنه لمغدف القناع المغدف: المغطى فكأنه نسبه إلى الخمول وقصوره عن الشرف وأن يكون بارزاً مبدياً صفحته مجداً وافتخاراً، كما قال سحيم بن وثيل الرياحي:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العماخمة تعرفوني
ويقال أعدفت المرأة قناعها كما قال عنترة:
إن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستئم
وأما قول القطامي: يمشين رهواً فإنه أراد أنهن يمشين في سكونٍ وتؤدة، وقد قيل في قول الله تعالى: " وأترك البحر رهواً " الدخان: 24 أي ساكناً وقيل طريقاً يبساً. وحكي أن بعض العرب قال في فالج من الإبل: رهو بين سنامين. وقال بعض أهل المعرفة: لو كان القطامي قال هذا البيت في صفة النساء لكان قد أحسن. ومن الزهو قول الشاعر:
كأنما أهل حجرٍ ينظرون متى ... يرونني خارجاً طير بباديد
طير رأت بازياً نضح الدماء به ... وأمه خرجت رهواً إلى عيد
وقل عمرو بن كلثوم:
نصبنا مثل رهوة ذات حدٍ ... محافظة وكنا السابقينا
ويروى: نصبنا مثل رهوة وادحر.
قيل هي الخيل، وقوله: والريح ساكرة يعني ساكنةً، وإذا كانت ساكنةً فهي فعل الأشياء المفقودة المعدومة، يقال سكر الشيء إذا سكن، وقيل للسكر الذي هو منسكر الأودية والأنهار سكر، لأنه سكن إذا انسد وعدمت سورته، ومنه السكر من الشراب وغيره، قيل فيه ذلك لاحتباس ما كان منطلقاً من السكران وصحة رأيه وصواب منطقه، وقيل سكر الحر إذا سكنت فورته وهدأ احتدامه وشدته، كما قال الراجز:
جاء الشتاء واجثأل القبر
واستخفت الأفعى وكانت تظهر
وجعلت عين الحرور تسكر
وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين " لقالوا إنما سكرت أبصارنا " الحجر: 15 بمعنى سدت وصعب النظر بإسكانها عن الحركة التي تدرك المبصرات بها. وقرأ جمهور القرأة سكرت بالتشديد للتكرار إذ كانت الأبصار جماعة، وقرأ بعضهم سكرت بالتخفيف لدلالة هذه القراءة على المعنى، ومثله فتحت أبوابها وفتحت في نظائر لهذا كثيرة، وهي مشروحة فيما تضمنته الكتب في علوم القرآن من كلامنا وكلام من تقدمنا، وبالتخفيف قرأ ابن كثير في من وافقه من المكيين. وقوله:
إن تصبحي من أبي عثمان منجحةً ... فقد يهون على المستنجح العمل
من الكلام الحسن في الإنباء عن أن من أنجح سعيه وأدرك ما أمه هان عليه ما كان أنصبه وعناه وأتعبه في قصد مطلوبه، ومثله قول سابق البربري:
إذا ما نال ذو طلبٍ نجاحاً ... بأمرٍ لم يجد ألم الطلاب
ونظائر هذا المعنى كثيرة يتعب إحصاؤها ويمل استقصاؤها.
قصة خيالية عن احتيال معاوية
لتطليق زوج ابن عامر ليتزوج هو منها وما نجم عن ذلك

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا ابن عائشة، قال الكوكبي وحدثنا عسل بن ذكوان قال حدثنا التوزي عن أبي عبيدة، قال الكوكبي وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر، قال الكوكبي وحدثنا محمد بن القاسم الضرير قال حدثنا ابن عائشة عن محمد بن المختار عن أبيه، يزيد بعضهم على حديث بعضٍ، قالوا: كان عند معاوية بن أبي سفيان جماعة نفرٍ من سماره في ذات ليلة، فقال: والله لقد فني مني اللذات من المطاعم والمشارب إلا من صبيٍ صغير يلاعبني وألاعبه وأضمه إلى صدري، فقال عمرو بن العاص: أفلا أدلك يا أمير المؤمنين على امرأة لو تزوجتها عدت بها شاباً في سن ابن ثلاثني سنة ثم لا تزال معها أنعم الناس عيشاً بقية عمرك؟ قال معاوية: ومن هي؟ " قال محمد بن القاسم أبو العيناء دون الجماعة: هي فاطمة بنت عبد الرحمن بن سهل، وقالت الجماعة دون محمد بن القاسم: هي هند بنت سهيل بن عمرو، وأحسبه هو الثبت قال معاوية: أوليست تحت عبد الله بن عامر بن كريز.؟ قال: بلى، قال: فبئس ما عرضت به إلي، أن تذكر زوجة رجلٍ من خيار قريش، قال عمرو: رأيتك حدثت نفسك بشيءٍ فعرضت عليك ما عرضت، وقد يتزوج الرجل المرأة ويتزوجها غيره، فقال معاوية: اكتموا هذا الأمر لا تشهروه، فلعمري إن نال أحد حاجته بالرفق والتأني الحيلة لأنالنه منها. ثم دعا معاوية خادماً له من أبر خدمه عنده وخصهم لديه، فقال له: انطلق إلى عبد الله بن عامر فزره، وإذا حضر اباب فألطفه وأكرمه وأوقع في قلبه كثرة ذكري له وأني ربما ذكرته عند نسائي وحرمي وحيث لا يذكر فيه أحد من الرجال، وأن ذلك ليس إلا لقدره عندي ومنزلته مني، فإذا أوقعت ذلك في قلبه فأعلمني، ففعل الخادم ما أمره به حتى ظن عبد الله أنه ليس أحد بمنزلته عنده، فقال معاوية للخادم: انطلق الآن شبه الناصح والمتحظي عنده فمره أن يخطب إلى أمير المؤمنين إذا أحب. فتهيأ عبد الله بن عامر لذلك وهيأ له كلامه، فأدخله الخادم على معاوية فبره وألطفه وأقبل عليه بوجهه يحدثه، ودعا بالطعام وألوان الأشربة وأقبل يستطعمه الكلام، فحصر عبد الله وانقطع وانقبض وهابه، فقال معاوية حين رأى حصره وهيبته: إنه لن يمنعك من أمير المؤمنين الخلوة، قل ما أحببت وانبسط في كلامك وسل ما أحببت فدعا له وأثنى عليه وانصرف يومه ذلك ولم يكلمه في شيء، فدعا معاوية خادمه ذلك فأعلمه أن الرجل هاب وحصر؛ فاغد إليه ومره أن يسأل حاجته وشجعه وأعلمه أن أمير المؤمنين قاضٍ حاجته. فمضى الخادم إلى عبد الله فأمره بالعود إلى معاوية ومسألته حاجته فإنه لن يمنع ما يريد؛ فغدا عبد الله على معاوية فأكرمه وألطفه ودعا له بالطعام والشراب، فلما أكلا وشربا قال عبد الله: جئتك يا أمير المؤمنين في حاجةٍ على حسن ظني بأمير المؤمنين ومنزلتي منه، فإن وافق منه ما أحب فذاك الذي أبغي، وإن خالفه فأعوذ بالله من سخط أمير المؤمنين ومن موجدته، قال معاوية: تكلم يا ابن أخي بما بدا لك، قال عبد الله: جئتك أخطب ابنتك رملة، قال: فنظر إليه معاوية شبه المنكر عليه المستعظم له والمنقبض منه ثم قال: ننظر في ذلك، فقام ابن عامر وقد سقط في يديه وظن أنه أغضبه، فلما خرج دعا معاوية خادمه فقال: انطلق الآن فلا تظهر ثلاثة أيام، فإن ابن عامرٍ سيطلبك، ثم ألقه بعد وأعلمه أه أحمق رجل في قريش وأقلهم عقلاً حيث يخطب إلى أمير المؤمنين ابنته وعنده امرأة غيرها إنما يريد الإضرار بها وأن يؤذيها، وتشدد بذلك، ومره أن يعود ويكتب كتاباً يذكر فيه أنه لم يطلب هذا الأمر وهو يريد أن يضر بابنة أمير المؤمنين ويكون عنده غيرها، وأنه يخلي عن كل امرأةٍ تعظيماً لحقها، ففعل الخادم ذلك ثم لقي ابن عامر فبلغ منه ما أراد، فقال له ابن عامر: كيف الحيلة لإصلاح هذا الأمر؟ قال: تدخل إن شئت أو تكتب كتاباً تذكر فيه أنك مطلق لنسائك إكراماً لابنة أمير المؤمنين وتعظيماً لحقها، ففعل ذلك ابن عامر، فلما قرأ معاوية كتابه دعا بعشرةٍ من قريشٍ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم عرفتم حال ابن عامر في شرفه وحسبه ومكانه من أمير المؤمنين وقرابته، وقد خطب إلى أمير المؤمنين ابنته، وقد زوجه على ما ضمن من تطليق ما عنده، فقال عبد الله عند ذلك: فإن فاطمة بنت عبد الرحمن، كما قال أبو

العيناء، وقال غيره: فإن هند بنت سهيل بن عمرو طلق البتة، فدعا له معاوية والقوم جميعاً .ثم خرج عبد الله إلى دارٍ سوى الدار التي كانت فيها، ثم أرسل إليها أن اعتدي، فلما أتاها الرسول قالت له: ويحك مالك؟ قال: طلقك عبد الله، قالت: ما أظنه فعل هذا وعقله معه، ثم سألت عن الأمر فأخبرت، فدعت قهرمانها فأمرته أن يجهزها، ثم ارتحلت نحو المدينة وقالت: فرق معاوية بيني وبين صاحبي ليتزوجني، والله لا يصل إلى ذلك حتى يصل إلى أمه، وقيل لمعاوية إنها قد شخصت، قال: دعها فلتذهب حيث شاءت فلعمري لا تخرج من سلطاني إلا أن تخرج إلى أرض الشرك.ناء، وقال غيره: فإن هند بنت سهيل بن عمرو طلق البتة، فدعا له معاوية والقوم جميعاً .ثم خرج عبد الله إلى دارٍ سوى الدار التي كانت فيها، ثم أرسل إليها أن اعتدي، فلما أتاها الرسول قالت له: ويحك مالك؟ قال: طلقك عبد الله، قالت: ما أظنه فعل هذا وعقله معه، ثم سألت عن الأمر فأخبرت، فدعت قهرمانها فأمرته أن يجهزها، ثم ارتحلت نحو المدينة وقالت: فرق معاوية بيني وبين صاحبي ليتزوجني، والله لا يصل إلى ذلك حتى يصل إلى أمه، وقيل لمعاوية إنها قد شخصت، قال: دعها فلتذهب حيث شاءت فلعمري لا تخرج من سلطاني إلا أن تخرج إلى أرض الشرك.

فلا انقضت عدتها كتب معاوية إلى مروان بن الحكم، وهو عامله على المدينة، يأمره أن يخطبها عليه، فأرسل إليها بذلك، فأرسلت إليه: إن عدتي لم تنقض، فقال: نحن أعلم بعدتك ، فقالت: فإني لا أخبرك دون يوم الجمعة، ثم أرسلت إلى الحسن بن علي عليه السلام: إني أريد أن تأتيني لأمر أستفتيك فيه، فأرسل إليها: إن مثلي لا يأتي النساء للفتيا، فأرسلت إليه: إن لم تأتني أتيتك في مجلسٍ حاسرةً فإن كنت ترضى أن تخرج إليك امرأة من قريش حاسرةً حتى تفتيها فأنت ورأيك، فأعظم ذلك وخرج حتى أتاها، فأذنت له فدخل وأمسك جواريها بينه وبينها ثوباً، فحمدت الله وصلت على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: أعندك يا ابن رسول الله خير؟ قال الحسن: والله لقد ألجأتني إلى أمر لم يكن من كلامي، من أحق أن يكون عنده الخير مني وأدنى طرفي رسول الله وعلي بن أبي طالب صلى الله عليهما، قالت: إنه كان من معاوية في فرقته بيني وبين صاحبي ما أحسب أنه قد بلغك، ووالله مالي فيه من حاجةً، ولقد اخترتك لنفسي، فإن وجدت أحداً أحق بي منك فقد رضيت بحكمك، أو ما شئت، قال الحسن رضي الله عنه: قد علمت ما كان بيني وبين معاوية حتى أصلح الله ذلك، وهذا أمر ما أحدث به نفسي، ومالي يومي هذا فيه من حاجة، قالت: أذكرك الله أن ترد علي نفسي بعد إذ بذلتها لك واخترتك، قال: مالي إلى ذلك سبيل، فلما رأت تأبيه عليها قالت لجواريها نحين الثوب عني، فنحين الثوب فإذا بمثل القمر لأربع عشرة، وكانت من أحسن النساء وأتمهن وكان الحسن صاحب نساء، فلما راى جمالها، ولم يكن رأى مثلها، أخذت بقلبه، فقال: قد رضيت وقبلت، فأرسلت إلى رجال من قريش فأشهدتهم أنها قد جعلت أمرها إلى الحسن بن علي، فحمد الله وأثنى عليه وأشهدهم أنه قد تزوجها علاى كذا وكذا، وبلغ الخبر مروان فأرسل إلى السحن فحبسه، وأرسل إليها فحبسها وأقام عليها الرقباء، وكتب إلى معاوية يعلمه أن الحسن وثب فتزوجها بغير علم قاضٍ ولا سلطانٍ ولا ولي، جرأة عليك وخلافاً لك، وإني قد أمرت بحبسهما إلى إن يأتين منك رأي، فكتب إليه معاوية: قد فهمت ما كتبت به في أمر الحسن وأمرها، وقد أجبتك في ذلك بكتاب بعثت به إليك مختوماً، فاجمع إليك ثلاثين رجلاً من قريش، ثم فض الخاتم بحضرة الحسن وحضرة القوم، ثم اقرأ كتابي واعمل بما فيه، ففعل ذلك مروان، فإذا فيه أما بعد فإنك كتبت إلي تذكر من تزويج الحسن بغير حكم حاكم ولا علم سلطان، وسألتني أن أكتب إليك برأيي فيهما ومكانهما، ولعمري ما بغل من أمر معاوية أن يحرم شيئاً قد أحله الله أو يحل شيئاً قد حرمه الله، والحسن إنما ترك أن يعلم السلطان لمخافته مني، لما سبق من خطبتي المرأة قبله، واختارته وآثرته علي، فإذا قرأت كتابي هذا فخل عن الحسن، وادفع إليه زوجته، ولا تعرض لهما في شيءٍ يؤذيهما، وادفع إلى الحسن ما مالي قبلك عشرة آلاف دينار معونةً له على تزويجه، وادفع إلى زوجته خمسة آلاف دينار، وأحسن جوارهما، فلما قرأ مروان الكتاب قبل ما أمر به وأعانهما أيضاً من ماله، ومنع معاوية عن ابن عامرٍ ابنته وقال: إنما زوجتك على أن أتزوج امرأتك وبنتي صغية حتى تبلغ، فاستأذن ابن عامرٍ للحج وأتى المدينة فرأى الحسن على بابه فأقبل إليه فسلم، فرحب به السحن وأنزله، ثم قال ابن عامر: أبا محمد أتأذن في الدخول على فاطمة بلفظ أبي العيناء والسلام عليها؟ قال: وكرامة، ثم أرسل إليها هذا ابن عمك عبد الله يريد الدخول عليك فأذني له، فأذنت له وجلست وأخذت زينتها، ثم قام الحسن فدخل عليه فإذا هي تبكي، فقال الحسن: يا هذا قد علمت مثل هذا، وقد صير الله الأمر إلى ما تريد، وأنا طيب النفس بالنزول عنها والتخلية بينك وبينها غير زاهد فيها ولا قالٍ لها، ولكن كراهة مساءتك، قال ابن عامر: لا والله مالي بذاك من حاجة، وقالت هي: والله لا أرجع إليه وقد طلقني بغير ذنب ولا حدثٍ إلا طمعاً في ابنة معاوية، قال الحسن: فما بكاؤكما؟ قالت: ذكرت ابنتي حيث نظرت إلى وجهه، وكان لعبد الله بن عامر منها ابنة، وكانت عند أخوات عبد الله بالمدينة. ثم كشف عبد الله عن شيءٍ تحت ثوبه فغذا سفطان في أحدهما جوهر وفي الآخر در، فقال: يا أبا محمد إن هذا شيء كان لي عندها سألتها عنه وما أطمع أن ترده علي، وما أظن أحداً تسخو نفسه عن مثله، فردته علي، فأقسمت عليك لما أخذت منه

حاجتك، قال الحسن: مالي فيه من حاجةٍ وأنت أحق بما لك، ولكن حاجتي إليك غير هذا، أحب أن تسعفني بها، قال: ما هي؟ قال: ابنتك هي ابنتي وأحب أن تضمها إلى أمها، قال: هي لك، فأرسلها إليها من ساعتها فحملت وكل ما كان لها من خدم ومالٍ فدفعها إلى الحسن. قال الحسن: مالي فيه من حاجةٍ وأنت أحق بما لك، ولكن حاجتي إليك غير هذا، أحب أن تسعفني بها، قال: ما هي؟ قال: ابنتك هي ابنتي وأحب أن تضمها إلى أمها، قال: هي لك، فأرسلها إليها من ساعتها فحملت وكل ما كان لها من خدم ومالٍ فدفعها إلى الحسن.
قال أبو بكر محمد بن زكرياء: فأخبرنا أبو عثمان عبيد الله بن عثمان بن عمر القرشي التيمي قال أخبرني أبي وكان أبوه قاضي المنصور قال: لما طلق عبد الله بن عامر بن كريز هند بنت سهيل بن عمرو وله منها ابنة وتزوجها الحسن بن علي عليه السلام فلم يدر ما الحيلة لها لما كان في نفسه منها، فبعث إلى ابنته ليقبضها فصرفه السحن بالرجال فكلمه وكان من قوله: ماحجر رجلٍ عندي أشرف ولا أفضل من حجر الحسن بن علي عليه السلام، ولكنها امرأة قد بلغت وأحب كينونتها عندي والأنس بها، فلما رأت ذلك هند قالت للحسن: إني ولا له أعرف أنه لا يدعها لأحدٍ إلا لي فتأذن لي أن آتيه؟ قال: نعم لأنك المأمونة وهو المأمون، وكان قد قبض ابنته إليه، فأرسلت إليه: إني آتيك ليلة كذا وكذا، فأقام لها ابن عامر في داره الخارجة وصفاء بالشمع وفي قبته التي كان يسكنها من دراته وصائف، وجلس على سرير إلى باب خلفه وقد بسط له، وجاءت فجلست أسفل من سريره، وجاءت ابنتها فاعتنقتها وتباكيا، فقالت هند لانب عامر: إني جئتك في بنتي ولا حجر لها خير من حجري ولا أدب أنفع لها من أدبي، والله إن أحب ما فيها إلي أنها منك، فإن رأيت أن تهبها لي وتشفعني فيها فعلت، قال: هي لك، ثم دعا بسبنية خزٍ فملئت خزاً، ودعا من أصناف الثياب بثوبٍ فملاًه من كل صنف، ودعا بأربعة آلاف دينار وحلل ما يدرى ما قيمتها ثم ولى إلى الباب الذي خلف سريره فقام بين البابين ثم قال: لك ما بين سريري هذا إلى ما دخلت فيه من ملكي، فانصرفت بذلك المتاع المال والرقيق.
قال محمد بن زكريا، قال أبو عثمان وأخبرني أبي قال: كان ابن عامر قد استودع هنداً بنت سهيل بن عمرو أسفاظاً فيها حلي كثير ودر وجوهر لم يأمن عليها أحداً غيرها، وطلقها وهو عند معاوية، وهي بالمدينة، قد انتقلت من منزله وتزوجها الحسن بن علي رضوان الله عليه فأرسل إليها ابن عامر يطلب ما استودعها، فأنكرت الرسول أن يكون استودعها شيئاً أوله عندها شيء! فلما كثرت الرسل فيما بينها وبينه لقي ابن عامر الحسن بن علي عليهما السلام، فقال له: كنت استودعت هنداً وديعةً وقد أرسلت إليها فيها، وقد سبق إلى قلبي أن جحدها لمن أرسلته محبة أن لا يفشو ذلك، وأنها لا تحب دفعه إلا إلي، فإن رأيت أن تأذن لي عليها فعلت، فقال: نعم، فجاء الحسن فأعلمها أن ابن عامرٍ بالباب، فشدت عليها ثيابها، فلما دخل ابن عامر غلبته العبرة وبكت الأخرى قبل أن يتكلم أحدهما، فقال الحسن بن علي رضوان الله عليه لما رأى ذلك، إن شئتما كنت خير محل. فقال ابن عامر: إذاً والله لا نجتمع أبداً، فسألها عما وضع عندها فقالت: نعم والله ما كنت لأقر به لأحدٍ أبداً ولا أدفعه إلى سواك أبداً، يا جارية ضعي لي هناك فراشاً، فوضع لها فراش واستقر مجلسها، ثم قالت: ارفعي الفراش الذي كان تحتي فرفع ثم قالت: احفري، فحفرت تحت فراشها فأخرجت تلك الأسفاط بخاتم ابن عامر لم تحرك، فقالت: واله ما رأيتها وما زلت أنقله معي حيث ما كنت مع فراشي، إلى أن رده الله إليك، قال ابن عامر: خذي منه ما أحببت، وفتح بعضها ليعطيها فحلقت لا تأخذ منه شيئاً، فقام عبد الله بن عامر وقد قبض متاعه.

غلام يمازح أبا نواس وهو ضجر
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال أخبرني أبو علي بن سعيد الشيباني قال حدثني هارون بن سفيان مولى بجيلة قال: كنت مع أبي نواس يوماً في بعض طرق بغداد وهو ضجر قليل النشاط، فجاء غلام حسن الوجه رائق، فجعل يمازحه ويعبث به وأبو نواس لا يلتفت إليه، فانصرف الغلام وهو يقول: أصبحت والله يا أبا نواس بارداً، فقال لي أبو نواس أمعك ألواح:؟ قلت، نعم، قال اكتب:
اذهب نجوت من الهجاء ولذعه ... وأما ولثغة أحمد بن نجاح

لولا فتور في كلامك يشتهى ... وترفقي لك بعد واستملاحي
وتكسر في مقلتيك هو الذي ... عطف القلوب عليك بعد جماح
لعلمت أنك لا تمازح شاعراً ... في ساعةٍ ليست بحين مزاح

المجلس السادس والسبعون
معنى كل يوم هو في شأن
حدثنا الحسين بن الحسين بن عبد الرحمن الأنطاكي قال: حدثنا محمد بن الحسن يعني أبا الحارث الرملي قال حدثنا صفوان بن صالح الجمشقي قال حدثنا الوزير بن صبيح الثقفي قال حدثنا يونس بن ميسرة بن حلبس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: " كل يومٍ هو في شأنٍ " الرحمن: 29 من شأنه يغفر ذنباً ويكشف كرباً ويجيب داعياً ويرفع قوماً يضع آخرين.
قال القاضي: وقد روينا هذا الخبر من طريق آخر وفيه : ويعطي سائلاً. اللهم فاجعلنا ممن غفرت ذنبه وكشفت كربه، وأجبت دعاءه وأعطيته سؤله ورجاءه، وممن ترفعه بتوفيقك إياه لطاعتك وحسن عبادتك، وأجرنا أن نكون ممن تضعه وتخفض قدره وتحط منزلته لتقصيره في تأدية حقك ومخالفته لأمرك، واحلل الضيعة بأعدائك وأعدائنا من العتاة المسرفين، والطغاة المترفين، والبغاة الجبارين، والفجرة، الظالمين، إنك ولي المؤمنين ومهلك الكفرة الضالين.
خداش ومذهب الخداشية
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا عبد الأول عن ابن أبي خالد قال: كان خداش صاحب الخداشية يفسد قوماً من أهل الدعوة برايه، وهو رأي الخرمية، إباحة المحارم، وكان ممن رأى هذا الرأي مالك بن الهيثم والحريش بن سليم الأعجمي، وكان خداش يقول لهم: لا صوم ولا صلاة ولا حج، ويقول: إنما تأويل الصوم أن يصام عن ذكر الإمام ولا يباح باسمه لأحد، والصلاة الدعاء للإمام وذكره وطاعته، الحج أن تحجوا الإمام أي تقصدوه فإنه ليس في الحج إلى الكعبة درك، ولا في ترك الأكل والشرب للصائم منفعة، ولا في الركوع والسجود طائل، فلا ينبغي أن تمتنعوا مما تحبون من طعام أو شراب أو جماع أو غير ذلك في كل حين، ولا جناح عليكم فيه، ويتأول لهم من القرآن قوله عز وجل: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا " المائدة: 93 الآية ، وكان خداش نصرانياً بالكوفة ثم أسلم ولحق بخراسان وهو الذي يقول فيه الشاعر:
تفرقت الظباء على خداشٍ ... فما يدري خداش ما يصيد
قال القاضي رحمه الله: وقد كان المنصور عند خروج من خرج عليه ونهدوا لمحاربته تمثل بهذا البيت عند أخبار بعض المخبرين له عنهم.
الخرمية
وأما رأي الخرمية هذا فقد كثر المتدينون به والعاملون عليه من غير أن يعتقدوه ديناً لهم، لكنهم ركبوا المجون والخلاعة، وانقادوا لدواعي نفوسهم الأمارة بالسوء الخداعة، وانهمكوا في الشهوات الخسيسة، واستثقلوا عبادة الله وطاعته المفضية بهم إلى المراتب النفيسة، والله نسأل التوفيق والعصمة.
الرشيد وأعرابي باقعة
حدثني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو الفضل الربعي قال حدثني أبي قال: خرج الرشيد في بعض متنزهاته فلما أسرع السير في بعض البراري انفرد من الناس على نحو من ميل، فرفع له خباء منصوب فأمه حتى وقف عليه، فإذا فيه أعرابي جالس، فسلم عليه الرشيد، فرد عليه الأعرابي السلام ثم رفع رأسه إليه فقال: من أنت يا حسن الوجه؟ فقال له الرشيد: أنا من أبغض الناس إلى الناس، قال الأعرابي: أنت إذاً من معد، قال نعم، قال: من أي معد؟ قال: من أبغض معد إلى معد، قال: فأنت إذاً من مضر، قال: نعم، قال: فمن أي مضر أنت؟ قال: من أبغض مضر إلى مضر، قال: فأنت إذاً من كنانة، قال: نعم، قال: من أي كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة، قال: فأنت إذاً من قريش، قال: نعم، قال: من أي قريش أنت؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش، قال: فأنت إذاً من بني هاشم، قال نعم، قال: فمن أي بني هاشم أنت؟ قال: من أبغض بني هاشم إلى بني هاشم، قال: فأنت إذاً من ولد العباس، قال: نعم، قال: فمن أي ولد العباس؟ قال: من أبغض بني العباس إلى بني العباس، قال: فوثب الأعرابي قائماً ثم قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وتوافت الجيوش، فقال الرشيد: احملوه قاتله الله أعرابياً ما أدهاه!!
هشام بن عبد الملك يعزل إبراهيم المخزومي

حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن الحسن الأنصاري قال حدثنا عبد العزيز بن محمد المخزومي قال: كتب هشام بن عبد الملك إلى إبراهيم بن هشام المخزومي، وكان عامله على الحجاز: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد قلد ما كان ولاك من الحجاز خالد بن عبد الملك، وإن أمير المؤمنين لم يعزلك حتى كنت وإياه كما قال القطامي:
أمور ما يدبرها حكيم ... بلى فنهى وهيب ما استطاعا
وكلن الأديم إذا تفرى ... بل وتعيباً غلب الصناعا
وإني والله ما عزلتك حتى لم يبق من أديمك شيء أتمسك به.
فلما ورد كتابه على إبراهيم تغير وجهه وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أصبحت اليوم والياً، وأنا الساعة سوقة، فقام إليه رجل من بني أسد بن خزيمة فقال:
فإن تكن الامارة عنك راحت ... فإنك للهشام وللوليد
وقد مر الذي أصبحت فيه ... على مروان ثم على سعيد
قال: فسري عنه وأحسن جائزة الأسدي.
قال القاضي: قول هشام حتى كنت وإياه عطف وإياه الذي هو النصب على التاء، وهي في موضع رفع، لأنه من باب المفعول معه، كقولهم: ما صنعت وإياكن ومنه قول الشاعر:
فكان وإياها كحران لم يفق ... عن الماء إذ لاقاه حتى تعذرا

أبو الأسود يريد وليدة
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال قال أبو موسى، يعني تينة، حدثني القحذمي قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى بحير بن ريسان الحيمري فقال:
بحير بن ريسان الذي ساد حميراً ... بأفعاله الدائرات تدور
وإني لأرجو من بحيرٍ وليدةً ... وذاك على المرء الكريم يسير
فقال: يا أبا الأسود سألتنا على قدرك، ولو سألتنا لعى قدرنا ما رضينا بها لك، قال: إما لا فا جعلها روقة أي تعجب مالكها.
أعرابي ثكل تسعة من أبنائه
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبو عمارة المستملي قال حدثنا الأصمعي قال: رأيت أعرابياً بمكة يصيح وأويلاه واثكلاه، فقلت له: ما ثكلك يا أعرابي؟ قال: ستعة من الذكور في تسعةٍ من الشهور كأنهم البدور، قلت: لا إخالك إلا وقد قلت في ذلك شعراً، قال: أجل، ثم أنشدني:
ألا يزجر الدهر عنا المنونا ... يوقي البنات وفني البنينا
وكنت أبا تسعةٍ كالبدور ... قد فقأوا أعين الحاسيدنا
فمروا على حادثات الزمان ... كمر الدراهم بالناقدينا
أضر بهم ريب هذا المنون ... حتى أبادهم أجمعينا
وحتى بكاهم حسادهم ... فقد أقرحوا بالدموع الجفونا
وحسبك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه له راحمينا
أفتنت سعيدا
ً
حدثنا محمد بن مخلد قال حدثنا أحمد بن محمد بن بكر بن خالد قال حدثنا أبو العباس داود بن رشيد قال حدثنا أبو نميلة عن عمرو بن زائدة قال حدثتني امرأة بني أسد قالت: زففنا عروساً في الحي، فمررنا بسعيد بن جبير والمغنية تقول:
لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت ... سعيداً فأضحى قد قلى كل مسلم
وألقى مفاتيح المساجد واشترى ... وصال الغواني بالكتاب المنمنم
قال ابن مخلد فقال سعيد: كذب.
الأصمعي يصحف في شعر الراعي
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا القاسم بن إسماعيل قال حدثنا أبو ذفافة بن سعيد بن سلم الباهلي قال: قرأنا على الأصمعي شعر الراعي، فمر في قصيدته ما بال دفك بالفراش مذيلا:
وكأن ريضها إذا باشرتها ... كانت معودة الرحيل ذلولا
فقلنا له: ما معنى باشرتها؟ قال: ركبتها من المباشرة، فحكينا ذلك لأبي عبيدة فقال: صحف والله الأصمعي، إنما هو إذا يا سرتها وهذا كقول الآخر:
إذا يوسرت كانت ذلولاً أديبةً ... وتحسبها إن عوسرت لم تؤدب
قال القاضي: الأمر في هذا لعمري كما قال أبو عبيدة، واستشهاده فيه صحيح على ما وصف.
الأصمعي لا يأبه لاعتراض ابن الأعرابي
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الطيب بن محمد الباهلي قال حدثنا أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي قال قرأنا على الأصمعي شعر العجاج، فمر بنا:

من أن تبدلت بآد آدا ... لم يك ينآد فأمسى انآدا
فقد أراني أصل القعادا
قال: ودخل ابن الأعرابي فأومأ إلينا: سلوه ما القعاد، فقال: الشيوخ الذين قعدوا عن الغزل كبراً وكذلك هو من النساء، فقال ابن الأعرابي: أما القعاد من الرجال فصحيح، وأما النساء فقواعد كما قال الله عز وجل: " والقواعد من النساء " النور: 60 قال: فو الله ما التفت الأصمعي إليه، ثم أنشد للقطامي:
أبصارهن إلى الشبان مائلة ... وقد أراهم عني غير صداد
فما الفرق بين صداد وقعاد، فما نطق ابن الأعرابي بحرفٍ وقام فخرج.
قال القاضي: الأمر في هذا على ما قال الأصمعي، وقد أغفل ابن الأعرابي إنكاره منه ما أنكره.

خطبة للحجاج بعد دير الجماجم
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الكلبي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا محمد، يعني ابن عبيد الله بن عباس، عن عطاء، يعني ابن مصعب، عن عاصم قال: خطب الحجاج أهل العراق بعد دير الجماجم، فقال: يا أهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف، ثم أفضى إلى الأصماخ والأمخاخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض وفرخ، ثم دب ودرج، فحشاكم نفاقاً وشقاقاً، وأشعركم خلافاً، اتخذتموه دليلاً تتبعونه، وقائداً تطيعونه، ومؤامراً تشاورونه، فكيف تنفعكم تجربة أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر وأجمعتم على الكفر، وظننتم أن الله عز وجل يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذاً وتنهزمون سراعاً يوم الزاوية بما كان من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليكم، إذا وليتم كالإبل الشاذة عن أوطانها النوازع، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حين عضكم السلاح وتجشمتكم الرماح يوم ير الجماجم، وما يوم دير الجماجم، بها كانت المعارك والملاحم ب؟:
ضربٍ يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
يا أهل العراق: الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات، إن بعثناكم إلى ثغوركم غللتم وجبنتم، وإن أمنتم أرجفتم وإن خفتم نافقتم، لا تتذكرون نعمة، ولا تشكرون معروفاً. هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاوٍ أو استفزكم عاصٍ أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلا لبيتم ثم دعوته وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافاً وثقالاً وفرسناناً ورجالاً؟؟! يا أهل العراق: هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟! يا أهل العراق: ألم تنفعكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته ويذقكم حر سيفه وأليم بأسه ومثلاته؟! ثم التفت إلى أخل الشام فقال: يا أهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها القذر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب ويحرسها من الذباب. يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء، وأنتم الملاءة والحذاء، أنتم الأولياء والأنصار، والشعار دون الثار، بكم يذب عن البيضة والحوزة، وبكم ترمي كتائب الأعداء ويهزم من عاند وتولى.
القاضي شريح يتزوج زينب التميمية

حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال حدثنا الهيثم بن عدي عن الشعبي قال، قال لنا شريح: يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء، قلنا: وكيف ذلك يا أبا أمية؟ قال: رجعت يوماً من جنازةٍ مظهراً فمررت بخباءٍ فإذا بعجوز معها جارية رؤد، فاستسقيت فقالت: اللبن أعجب إليك أم الماء أم النبيذ؟ قال قلت: اللبن أعجب إلي. قالت: يا بنية اسقيه لبناً فإني أظنه غريباً، فسقتني، فلما شربت قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه بنتي زينب بنت حدير أحدى نساء بني تميم ثم من بني حنظلة ثم من بني طهية، قلت: أتزوجينيها، قالت: نعم إن كنت كفؤنا، قال: فانصرفت إلى منزلي، فامتنعت من القائلة، فلما صليت الظهر وجهت إلى إخواني الثقات: مسروق بن الأجدع والأسود بن يزيد فصليت العصر ثم رحت إلى عمها وهو في مسجده، فلما رآني تنحى لي عن مجلسه، فقلت: أنت أحق بمجلسك، ونحن طالبو حاجةٍ، فقال: مرحباً بك يا أبا أمية، ما حاجتك؟ قلت: إني ذكرت زينب بنت أخيك، فقال: والله ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر، قال: وتكلمت فزوجني ثم انصرفت فما وصلت إلى منزلي حتى ندمت وقلت: ماذا صنعت بنفسي، فهممت أن أرسل إليها بطلاقها، ثم قلت: لا أجمع بين حمقتين، ولكني أضمها إلي، فإن رأيت ما أحب حمدت الله تعالى، وإن تكن الأخرى طلقتها. فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها، فلما أهديت إلي وقام النساء عنها قلت: يا هذه إن من السنة إذا أهديت المرأة إلى زوجها أن تصلي ركعتين خلفه ويسألا الله عز وجل البركة، فقمت أصلي فإذا هي خلفي، فلما فرغت رجعت إلى مكانها، ومددت يدي فقالت: على رسلك، فقلت: إحداهن ورب الكعبة، فقالت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله، أما بعد، فإني امرأة غريبة، ولا والله ما ركبت مركباً هو أصعب علي من هذا، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك، فخبرني بما تحب آته وبما تكره أزدجر عنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولك. قال فقلت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله، أما بعد فقد قدمت خير مقدمٍ، قدمت على أهل دارٍ زوجك سيد رجالهم، وأنت إن شاء الله سيدة نسائهم، أحب كذا وأكره كذا، قالت: فحدثني عن أختانك، أتحب أن يزوروك؟ قال قلت: إني رجل قاضٍ وأكره أن يملوني، وأكره أن ينقطعوا عني، قال: فأقمت معها سنةً أنا كل يومٍ أشد سروراً مني باليوم الذي مضى، فرجعت يوماً من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهي في منزلي، فقلت: من هذه يا زينب؟ قالت: هذه ختنتك، هذه أمي، قلت: كيف حالك يا هذه؟ قالت: كيف حالك يا أبا أمية، وكيف رأيت أهلك؟ قال قلت: كل الخير، قالت: إن المرأة لا تكون أسوأ خلقاً منها في حالتين: إذا ولدت غلاماً وإذا حظيت عند زوجها، فإن رابك من أهلك ريب فالسوط السوط، قلت: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الأدب. فكانت تجيئني في كل حولٍ مرةً فتوصي بهذه الوصية ثم تنصرف، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يوماً ولا ليلةً، إلا يوماً وكنت لها ظالماً وذلك أني ركعت ركعتي الفجر وأبصرت عقرباً فعجلت عن قتلها فكفأت عليها الإناء وبادرت إلى الصلاة وقلت: يا زينب إياك والاناء، فعجلت إليه فحركته فضربتها العقرب، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أمص إصبعيها وأقرأ عليهما المعوذتين، وكان لي جار يقال له قيس بن جرير لا يزال يقرع مريئته، فعند ذلك أقول:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم أضرب زينبا
وأنا الذي أقول:
إذا زينب زارها أهلها ... حشدت وأكرمت زوارها
وإن هي زارتهم زرتها ... وإن لم تكن لي هوى دارها
يا شعبي، فعليك بنساء بني تميم فإنهن النساء.

شروح وتعليقات على خبر شريح
قال القاضي: قد روينا خبر شريح في نكاحه زينب من غير طريق، عثرنا على هذا منها فأثبتناه، وهو كافٍ من غيره. وفي بعض ما رويناه، بيت يلي قوله:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم أضرب زينبا
وهو:
وزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا
قال القاضي: وقد أغار شريح في هذا البيت على قول النابغة في مدح النعمان بن المنذر:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملكٍ دونها يتذبذب

فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
قال القاضي: قوله في الخبر جارية رؤد يريد وصفها بأنها في اقتبال شبابها كما قال الشاعر:
خمصانة قلق موشحها ... رؤد الشباب غلا بها عظم
وقوله: أهديت إلى زوجها فيه لغتان: هديت العروس إلى زوجها هداءً وأهديت إهداءً، وطرح الألف أكثر، فكأنه من الهداية لا من الهدية، وهو أشبه وأليق بالمعنى، ومن الهداء قول زهير:
فإن تكن النساء مخبآتٍ ... فحق لكل محصنةٍ هداء
وأما قول زينب لشريح هذه ختنتك فقد تكلم في هذا قوم من الفقهاء واللغويين، وحاجة الفقهاء إلى معرفة ذلك بينه، وإذ قد يوصي المرء لأصهار فلان وأختانه؛ وقد يحلف لا يكلم اصهار فلان وأختانه، فقال قوم: يكون الأختان من قبل الرجل والأصهار من قبل المرأة. وذهب قوم في هذا إلى التداخل والاشتراك وهذا أصح المذهبين عندي، وقد قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام.
محمد النبي أخي وصهري ... أحب الناس كلهم إليا
والنبي أبو زوجته؛ ويدلك على هذا قولهم: قد أصهر فلان إلى فلان، وبين القوم مصاهرة وصهر، فجرى هذا مجرى النسب والمناسبة في إجرائهما على الطرفين والعبارة بهما عن الجهتين، وقد قال الله تعالى: " وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً " الفرقان:54 وقد جاء عن أهل التأويل في قول الله تعالى: " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة " النحل: 72 أقوال: قال بعضهم: هم الأصهار، وقال بعضهم: هم الأختان، وظاهر هذا العمل على اختلاف المعنيين بحسب ما ذهب إليه من قدمنا الحكاية عنه، وقد قال: وجائز أن يكون عبر باللفظين عن معنى واحد، وقد قال بعضهم: الحفدة الخدم، قال الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال
وقال رؤبة يخاطب أباه:
إن بنيك لكرام نجده ... ولو دعوت لأتوك حفدة
أي سراعاً إلى معاونتك واتباع أمرك، ومن هذا قولهم: وإليك نسعى ونحفد أي نجد في عبادتك ونسعى في طاعتك.

المجلس السابع والسبعون
خطبة عمر في الجابية واستجابته لدعوة قسطنطين
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن الحارث أبو النضر العقيلي قال حدثنا أبو إسحاق طلحة بن عبد الله بن محمد الطلحي النديم قال حدثنا أبو بكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي قال: سمعت أبا عبيد الله محمد بن سليمان بن عطاء بن قيس يقول حدثني أبي سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله الجهني عن عمه أبي مشجعة بن ربعي قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية لفرض الخراج، وذلك بعد وقعة اليرموك، قال: فشهدته دعا بكرسي من كراسي الكنيسة فقام عليه فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: أيها الناس أكرموا الناس، إن خياركم أصحابي، ألا ثم الذين يلونهم، ألا ثم الذين يلونهم، ألا ثم يظهر الكذب ويكثر الحلف حتى يحلف الرجل وان لم يستحلف، ويشهد وإن لم يستشهد، ألا فمن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة. يد ربكم مع الجماعة، ألا وإن الشيطان ذئب بني آدم، فهو مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ألا لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له إلا كان الشيطان ثالثهما، ألا ومن ساءته سيئاته وسرته حسناته فهو مؤمن. قمت فيكم بقدر ما قام النبي صلى الله عليه وسلم فينا.
ثم ارتحل حتى نزل أذرعات، وقد ولى على الشام يزيد بن أبي سفيان، فدعا بغدائه، فلما فرغ من الثريد وضعت بين يديه قصعة أخرى، فصاح وقال: ما هذا؟ فأرسل يزيد إلى معاوية، وكان صاحب أمره، فقال معاوية: ما الذي أنكرت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما بالي توضع بين يدي قصعة ثم ترفع وتوضع أخرى؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنك هبطت أرضاً كثيرة الأطعمة فخفت عليك وخامتها، فأشر إلى أيها شئت حتى ألزمكه، فأشار إلى الثريد، فقال قسطنطين لمعاوية: جاد ما خرجت منها.

فلما فرغ من غدائه قالم قسطنطين وهو صاحب بصرى بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا عبيدة قد فرض علي الخراج فاكتب لي به، فأنكر عمر ذلك وقال: ما فرض عليك؟ قال: فرض علي أربعة دراهم وعباءة على كل جلجلة يعني الجماجم فقال عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة: ما يقول هذ1؟ قال: كذب، ولكني كنت صالحته على ما ذكر ليستمتع به المسلمون في شتائهم هذا، ثم تقدم أنت فتكون الذي يفرض عليهم الخراج، فقال له عمر: أبو عبيدة أصدق عندنا منك، فقال قسطنطين: صدق أبو عبيدة وكذبت أنا، قال: فويحك، ما أردت بمقالتك؟ قال: أردت أن أخدعك، ولكن افرض علي يا أمير المؤمنين أنت الآن، قال: فجاثاه النبطي مجاثاة الخصم عامة النهار، ففرض على الغني ثمانية وأربعين درهماً، وعلى الوسط أربعةً وعشرين درهماً، وعلى المفلس المدقع اثني عشر، وشرط عليهم عمر أن يشاطرهم منازلهم وينزل فيها المسلمون، وعلى أن لا يضربوا بناقوس، ولا يرفعوا صليباً إلا في جوف كنيسة، وعلى أن لا يحدثوا إلا ما في أيديهم، وعلى أن لا يقروا خنزيراً بين أظهر المسلمين، وعلى أن يقروا ضيفهم يوماً وليلة، وعلى أن يحملوا راجلهم من رستاقٍ إلى رستاق، وعلى أن يناصحوهم ولا يغشوهم، وعلى أن لا يمالئوا عليهم عدواً، فمن وفى لنا وفينا له منعناه مما نمنع نمنه نساءنا وأبناءنا، ومن انتهك شيئاً من ذلك استحللنا بذلك سفك دمه وسباء أهله وماله.
فقال له قسطنطين : يا أمير المؤمنين اكتب لي به كتاباً، قال: نعم، ثم ذكر عمر فقال: إني أستثني عليك معرة الجيش، فقال النبطي: لك ثنياك، وقبح الله من أقال:. فلما فرغ قال له قسطنطين: يا أمير المؤمنين، قم في الناس فأعلمهم كتابك لي ليتناهوا عن ظلمنا والفساد علينا، فقالم عمر فخطب خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له قال النبطي: إن الله عز وجل لا يضل أحداً، فقال عمر رضي الله عنه: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، شيئاً تكلم به، فعاد عمر في الخطبة، ثم أعاد النبطي المقالة، فقال: أخبروني ما يقول، قالوا: إنه يقول إن الله لا يضل أحداً، فقال عمر: والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن الذي فيه عيناك، ومضى عمر في خطبته، فلما فرغ قام قسطنطين فقال: يا أمير المؤمنين، لي إليك حاجةً فاقضها لي، فإن لي عليك حقاً، قال: وما حقك علينا؟ قال: إني أول من أقر لك بالصغار، قال: وما حاجتك إن كان لك فيها منفعة فعلنا، قال: تغدى عندي أنت وأصحابك، قال: ويحك إن ذلك يضرك، قال: ولكنها مكرمة وشرف أناله، قال: فانطلق حتى نأتيك، فانطلق فهيأ في كنيسة بصرى ونجدها وهيأ فيها الأطعمة وقباب الخبيص وكانوناً عليه المجمر، فلما جاء عمر وأصحابه نزلوا في بعض البيادر، ثم خرج يمشي وتبعه الناس والنبطي بين يديه، ثم بدا لعمر فقال: لا يتبعني أحد، ومضى هو والنبطي، فلما أن دخل الكنيسة إذا هو بالستور والبسط وقباب الخبيص والمجمر، فقال عمر للنبطي: ويلك، لو نظر من خلفي إلى ما هاهنا لفسدت علي قلوبهم، اهتك ما أرى، قال: يا أمير المؤمنين، إني أحب أن ينظروا إلى نعمة الله علي، قال: إن أردت أن نأكل طعامك فاصنع ما آمرك به، فهتك الستور وتزع البسط وأخرج عنه المجمر، ثم قال: اخرج إلى رحالنا فأتنا بأنطاع، فأخذها عمر فبسطها في الكنيسة، ثم عمد إلى ذلك الخبيص وما كان هيأ فعكس بعضه على بعض وقال: أعتدك شيء آخر؟ قال: نعم عندنا بقل وشواء، قال: إيتني به، فأخذه فخلط الشواء بالخبيص بعضه على بعض وجعل يحمل بيديه ويجعله على الأنطاع.
قال طلحة فأخبرنا أحمد بن معاوية قال: فأمليت هذا الحديث على رجل من أصحاب الحديث فزادني فيه، قال فقال النبطي: يا أمير المؤمنين، إن هذا الطعام لا يؤكل هكذا، قال فقال عمر: ويل لك ولأصحابك إذا جاء من يحسن يأكل هذا، ثم قال: ادع الناس، فجاءوا فجثوا على ركبهم وأقبلوا يأكلون، فربما وقعت اللقمة من الخبيص في فم الرجل فيقول: إن هذا طعام ما رأيناه، فيقول عمر: ويلك أما تسمع؟ كيف لو رأوا ما رأيت؟!

فلما فرغوا قال النبطي لمعاوية: إن الأحبار والرهبان قد اجتمعوا، وهم يريدون أن ينظروا إلى أمير المؤمنين، وإنما عليه أخلاق وسخة، فهل لك أن تخدعه حتى ينزعها ويلبس ثياباً حتى يقضي جمعته، فقال له معاوية: أما أنا فلا أدخل في هذا بعد إذ نجوت منه أمس، فقال له النبطي: يا أمير المؤمنين، ثيابك قد اتسخت، فإن رأيت أن تعطيناها حتى نغسلها ونرمها، قال: نعم، فغسل الثياب وتركها في الماء، ثم هيأ له قميصاً مروياً ورداء قصبياً فلما حضرت الجمعة قال له عمر: إيتني بثيابي، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما جفت، ونحن نعيرك ثوبين حتى تقضي جمعتك، فقال: أرني، فلما نظر إلى القميص قال: ويحك كأنما رفي هذا رفواً، أغربهما عني وائتني بثيابي، فجاء بها تقطر، فجعل يتناولها، وجعل النبطي يأخذ بطرف الثوب وعمر بالطرف الآخر ويعصرها، ثم دعا بكرسي من كراسي الكنيسة فقام عليه يخطب الناس ويمسح ثيابه ويمددها، قال: فسأله أي شيءٍ كانت ثيابه؟ قال: غزل كتانٍ. قال: وجاءت الرهبان فقاموا وراء الناس وعليهم البرانس تبرق بريقاً، ومعهم عصي فيها تفاح الفضة، ومعهم المواكب، فلما نظروا إلى هيئته قالوا: أنتم الرهبان!! لا والله، ولكن هذه الرهبانية، ما أنتم عنده إلا ملوك.

مشاطرة السكان بدمشق منازلهم
قال: ثم ارتحل عمر حتى أتى دمشق فشاطرهم منازلهم وكنائسهم، وجعل يأخذ الحيز القبلي من الكنيسة لمسجد المسلمين لأنها أنظف وأظهر، وجعل يأخذ هو بطرف الحبل ويأخذ النبطي بطرف الحبل حتى شاطرهم منازلهم، قال: فربما أزحف فأخذ الحبل منه فأعقبه. ففرغ عمر من دمشق وحمص وبعث أبا عبيدة إلى قنسرين وحلب ومنبج، ففعل بها كما فعل عمر، ورجع عمر من حمص إلى المدينة.
عياض بن غنم وصلح الرها
قال: فلما نزل أبو عبيدة منبج بعث عياض بن غنم في عشرين فارساً فأتى الرها وقد اجتمع بها أهل الجزيرة من الأنباط، فأتاها ابن غنم فوقف عند بابها الشرقي على فرس أحمر محذوف، فأخبرنا أحمد بن معاوية عن محمد ابن سليمان بن عطاء، قال حدثني أبي عن جدي عمن سمع عياضاً وهو يدعوهم إلى الإسلام فأبوا عليه، فعرض عليهم الجزية فأقروا، وقد عرفوا شرط عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الشام فقالوا: نعم نقر على أن نشترط، قال: نعم فاشترطوا ونشترط، فاشترطوا كنائسهم التي في أيديهم على أن يؤدوا خراجها وما لجأ إليها من طائر وصلمهم التي في كنيستهم قال محمد بن سليمان بن عطاء: الصلم الخشبة التي يزعمون أن عيسى بن مريم عليه السلام صلب عليها لم يقل صلبهم وسور مدينتهم، قال عياض: فإني أشترط أنا أيضاً، فاشترط عليهم أن يشاطرهم منازلهم وينزل فيها المسلمون، وعلى أن لا يحدثوا كنيسةً إلا ما في أيديهم، وعلى أن لا يرفعوا صليباً ولا يضربوا بناقوسٍ إلا في جوف كنيسة، وأن يقروا ضيف المسلمين يوماً وليلة، وعلى أن يحملوا راجل المسلمين من رستاقٍ، إلى رستاق وعلى أن لا يعمروا خنزيراً بين ظهراني المسلمين، وعلى أن يناصحوا المسلمين ولا يغشوهم ولا يمالئوا عليهم عدواً، ومن وفى لنا وفينا له ومنعناه مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، ومن انتهك شيئاً من ذلك استحللنا سفك دمه وسباء أهله وماله، فقالوا: اكتب بيننا وبينك كتاباً، فتورك عياض على فرسه، فلما فرغ قالوا: اشهد لنا، قال: فكتب شهد الله وملائكته وكفى بالله شيهداً. ودفع الكتاب إليهم فدخل في شرطهم جميع أهل الجزيرة. وأما الأرض فهي للمسلمين وأنتم عمالهم فيها.
تعليقات للقاضي
قال القاضي: قوله: فمن أراد بحبوحة الجنة يعني فضاءها وسعتها كما قال جرير:
قومي تميم هم القوم الذين هم ... ينفون تغلب عن بحبوحة الدار
وفي هذا الخبر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل أهل الجزية طبقات، ففرض على أغنيائهم مقداراً من الجزية، وعلى المتوسط منهم مقداراً متوسطاً بين ما فرضه على أعلاهم طبقة وما جعله على أدونهم في الوجد منزلةً، وظهر ذلك من فعله واستفاض في الصحابة فلم يظره من أحدهم إنكار له ولا مخالفة فيه، ثم تلاه في ذلك أئمة أهل العلم بالدين في جميع أمصار المسلمين، وبهذا نقول؛ وكان الشافعي يرى ألا يتجاوز في قد الجزية ديناراً أو عدله، واستقصاء الكلام والحجاج في هذا يطول، وهو مرسوم في مواضعه من كتبنا في الفقه.
عمر يرحل لنفسه

حدثنا أحمد بن إسحاق بن بهلول أبو جعفر الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا إسحاق بن عيسى الطباخ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده قال: خرجت مع عمر إلى الشام، فاستيقظنا ليلةً وقد رحل لنا رواحلنا وهو يرحل لنفسه وهو يقول:
لا يأخذ الليل عليك بالهم ... والبس له هذا القميص واعم
وكن شريك رافعٍ وأسلم ... ثم اخدم الأقوام حتى تخدم
قال فقلت: رحمك الله يا أمير المؤمنين لو أيقظتنا لكفيناك.
قال القاضي: كأن أبا تمام سمع هذا فأخذ منه قوله:
فمن خدم الأقوام يرجو نوالهم ... فإني لم أخدمك إلا لأخدما
وقوله: مؤمله حتى مؤملا

قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر
وروينا في معنى ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أتى هذا الخبر به عن بعض السلف أنه قال لا بن عمر بن عبد العزيز: ما رأيت رجلاً أكرم من أبيك، سمرت معه ذات ليلةٍ فخفت المصباح، فقام إليه فأصلحه، فقلت له: يا أمير المؤمنين هلا أمرت بإصلاحه، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
إنا لا نتخذ الإخوان خولا
ً
وروي نحو هذا عن الأبرش الكلبي وقد قام ليصلح المصباح، فقال له صاحب المجلس: مه ليس من المروءة أن يستخدم الرجل ضيفه؛ ويروى أنه قال: إنا لا نتخذ الاخوان خولاً.
فروة بن مسيك يفد على الرسول
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو عثمان قال أخبرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان بين مراد وبين بني الحارث بن كعب قتال في الجاهلية فاستعانت بنو الحارث بهمدان على مراد، فقتل من هؤلاء ألف ومن هؤلاء ألف، وذلك يوم الرزم، فدخل فروة بن مسيك بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين كنت عن قومك يوم الرزم؟ فقال فروة: يا رسول الله:
إن نهزم فهزامون قدماً ... وان نهزم فغير مهزمينا
كذاك الحرب صولتها سجال ... تكر صروفها حيناً فحينا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أردت هذا، وإن الذي أصيب به قومك هو الذي حرضهم على الإسلام.
أنت الذي يكذب من يحدث بأنعم الله
؟
حدثنا أبو طالب الكاتب علي بن محمد بن الجهم قال حدثنا أبو بكر أحمد بن منصور الزيادي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن زياد بن جبل عن أبي كعب الحارثي، وهو ذو الإداوة، قال: سمعته يقول: خرجت في طلب إبل لي ضوال، فتزودت لبناً في إداوة، قال ثم قلت في نفسي: ما أنصفت ربي فأين الوضوء؟ قال: فهرقت اللبن وملآتها ماء، فقلت: هذا وضوء وهذا شراب، قال فكنت أبغي إبلي فإذا أردت أن أتوضأ اصطببت من الإداوة ماءً فتوضأت، وإذا أردت أن أشرب اصطببت لبناً فشربته، فمكثت بذلك ثلاثاً فقالت له أسماء النجرانية: يا أبا كعب أحقيناً كان أم حليباً، فقال: إنك لظالمة، كان يعصم من الجوع ويروي من الظمأ، أما إني حدثت بهذا نفراً من قومي منهم علي بن الحارث سيد بني قنان فقال: ما أظن الذي تقول كأن تقول، قال قلت: الله أعلم بذلك، قال فرجعت إلى منزلي فبت ليلتي تلك، قال: فإذا أنا به صلاة الصبح على بابي فخرجت إليه، قال فقلت: يرحمك الله لم تعنيت إلي؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ قال: لا ، فإني أحق بذلك أن آتيك، ما نمت الليلة إلا أتاني آتٍ فقال: أنت الذي يكذب من يحدث بأنعم الله؟! موقف المتكلمين من الكرامات

قال القاضي: قد أنكر جماعة من المتكلمين أن يظهر الله تعالى من آياته ما يخرج عن عادات الناس على مرور الزمان وكرور الأيام إلا لنبي، علماً له شاهداً بصدقه ودليلاً على صحة نبوته، أو في زمان نبي ونفوا جواز هذا وأن يؤيد به أحد من الآدميين ليس بني وأن كان على غاية الصلاح في دينه، والطهارة في نفسه وقوة يقينه، وجمهور المعتزلة من أشد الناس دفعاً له وتكذيباً لمن حكى شيئاً منه، وقد كان أبو بكر ابن الإخشيد يجيز هذا إذا جرى على يد من ليس بنبي إذ أيد به على وجه يرجع إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والشهادة بصحة رسالته وأبو بكر من أماثل المعتزلة في علمه وبيانه ونظره وتدينه. ورأيت بعض من شاهدناه من نظاري المعتزلة وذوي التدين منهم يجيز إظهار مثل ذلك، هذا للصالحين وعلى أيدي الأبرار المخلصين، وفي ذكر ما يحتج به لأهل هذا القول وعليهم وإثبات ما روي فيه من الأخبار المستفيضة المنتشرة وما حكي عمن ظهرت عدالته واشتهر علمه وأمانته طول ليس هذا موضع استقصائه، وليس هذا الباب مما يدفعه عقل ولا نظر ولا سمع ولا خبر.
وقد كان بعض المتكلمين ورواة الأخبار من المتثبتين يجيزون ظهور هذه الحوائج على أيدي الأنبياء والصالحين من أئمتهم وأئمة الدين بعدهم، ويمنع من ظهورها على من يدعي النبوة كاذباً ويتدين ديناً باطلاً، ويذهبون إلى أن في تجويز ذلك إفساد الأدلة والتباس الحجة والتسوية بني ذوي الهدى والضلالة والولاية والعداوة، وأجازوا ظهور هذه الأشياء على يد من يدعي الربوبية على وجه الفتنة وتغليظ الفتنة، كالذي روي من أمر الدجال وأنه يتبعه جنة ونارن وقالوا: ليس في إضلال الناس ولا لبس في دينهم، لأن الأسنان مرسوم بما لا ينفك منه مما يدل على حدثه وأنه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، فأما الدجال فإنه مع ما فيه من سمة الحدث التي يشارك فيها سائر الناس مرمي بالعاهة الظاهرة لأعين الناظرين، النافية للشك في أمره عن قلوب العاقلين. وأما النبوة فصدق من يدعيها وكذب من هو مبطل في ادعائها، فإن هذين الفريقين مشتركان من جهة الخلقة والصورة والهيئة الإنسانية.

المجلس الثامن والسبعون
حديث الرسول عن فتنة الدجال
أخبرنا القاضي أبن الفرج المعافى بن زكريا الجريري قال حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري قال حدثنا جعفر بن محمد بن الحجاج بن فرقد القطان قال حدثنا إسماعيل يعني ابن رجاء قال حدثنا معقل يعني ابن عبيد الله عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن أسماء قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حدث أصحابه حديثاً غليظاً حتى فاضت أعين القوم ينتحبون عن فتنة الدجال، ثم قام عنهم فخرج وهم كذلك، فسكبت له وضوءاً في الإناء فدخل ثم خرج فتوضأ ثم رجع إليهم وهم على تلك الحال، والوضوء يقطر منه، فاعتمد على عارضتي الباب ثم قال: مهيم، قالت أسماء: فكنت جاريةً ناهداً جرية على مسألته، فقلت حين لم يجيبوه: مهيم يا رسول الله، خلعت قلوبنا بالأعور الدجال وقد كان حدث القوم في حديثه عن الدجال أنه تنحاز إليه ثمار الأرض وأطعمتها فقلت له: فكيف يا رسول الله يومئذ؟ والله إني لأعجن عجيني ثم ما يأني لي حتى إني لأخشى أن يفتنني، تعني الجوع، قال: لا بأس، لا بأس، إن خرج وأنا حي فأنا حجيجه، وإن يخرج بعدي فالله خليفتي على كل مسلم.
وحدثني أن مما وصفه به أنه قال: ما أشكل عليكم فيه فإنه أسود جعد أعور مكتوب بين عينيه: كافر، يقرأه كل مسلم كاتب أو غير كاتب.
قال القاضي: وقد روي أن التبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ما يقال إنه يتبع الدجال من الطعام والشراب ونحوهما، فقال: هو أهون على الله من ذلك.
والأخبار الواردة في أمر الدجال وظهوره ومهلكه كثيرة جداً، ونسأل الله أن يعيذنا من فتنته، ويجيرنا من ضلالته، ويعصمنا من فتنة المحيا والممات برحمته.
إنها حسناء فلا تفرك
حدثنا أحمد بن إسحاق ابن بهلول قال حدثني أبي قال حدثنا معن بن عيسى قال: سمعت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالكعبة فإذا أعرابي طوال على عنقه مثل المهاة البيضاء وهو يقول:
عدت لهذي جملاً ذلولا ... موطأ أتبع السهولا
أعدلها بالكف أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلاً جزيلا

فقال عمر: يا عبد الله، من هذه المرأة التي قد وهبت حجك لها؟ قال: امرأتي، أما والله إنها على ذاك لحمقاء مرغمة، أكول قمامة، لا يبقى لها حامة، ولكنها حسناء فلا تفرك وأم عيالٍ فلا تترك، فقال عمر: فشأنك إذاً بها.

شروح وتعليقات
قال القاضي: قوله: مثل المهاة البيضاء يعني البقرة الوحشية، ويقال للبلورة مهاة، وكأنه قصد بهذا القول البيان عن الصفاء والحسن والضياء. ويقال ما لهذا العيش مهاه أي نور وبهجة، كما قال الشاعر:
وليس لعيشنا هذا مهاه ... وليست دارنا الدنيا بدار
يروى مهاة بتاءٍ في الوصل يوقف عليها بالهاء، لأنها للتأنيث، وهي فعلة مثل حصاة ويروى مهاه على أن الهاء أصلية وهي لام الفعل وزنها فعال مثل سفاه. وقوله: أعدلها بالكف أن تميلا قيل معناه: عن أن تميل، والكوفيون يتأولونه بمعنى لئلا تميل، وقالوا مثل هذا في قوله تعالى: " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم " الأنبياء:31 أنه بمعنى ألا تميد بكم، وقالوا في قوله عز وجل: " يبين الله لكم أن تضلوا النساء: 176 معناه أن لا تضلوا. وأنشدوا في هذا قول الشاعر:
رأينا ما يرى البصراء فيها ... فآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباع.
وأنكر البصريون هذا وقالوا: المعنى يبين الله لكم كراهية أن تضلوا وحملوا معنى البيت على نحو هذا الوجه.
وقوله: إنها لحمقاء مرغامة إن كانت الرواية هكذا فهو من المراغمة، وهي المشاقة والمخالفة، وإن كان الصحيح من الرواية مرعامة بالعين المبهمة فهو من الرعام وهو المخاط. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صلوا في مرابض الغنم وامسحوا رعامها فإنها من دواب الجنة. فإن كانت الرواية هكذا فإنه وصفها بالحمق، تقول العرب: أحمق يمتخط بكوعه. ومن قال في الخبر مرغامة بالغين المعجمة فإنه ينبغي أن يقول رغامها بفتح الياء. وقوله: لا تبقى لها حامة أي طائفة تطوف لإفنائها خبز بيتها. وقوله: ولكنها حسناء فلا تفرك زعم أهل العلم باللغة أن العرب تقول: فركت المرأة زوجها تفركه إذا أبغضته، وأنهم يقولون في الرجل إذا أبغض أمرأته: قد صلفت عنده، ولا يقولون فركها. وقد جاء في هذا الخبر حسناء فلا تفرك فإن كان هذا الكلام محفوظاً وكان رواية من يضبط هذا ويوثق بنقله ومعرفته فهو صحيح مستعمل، مسقط لقول من زعم أنه مرفوض مهمل، وإن كانت الرواية غير ثابتةٍ فما ذكره اللغويون الذين عنوا بكلام العرب وميزوا مستعملة من مهمله أولى باتباعهم والأخذ بروايتهم وإثبات ما أثبتوه ونفي ما نفوه وأسقطوه. وقد قيل إن امرأ القيس كان مفركاً أي تبغضه النساء، ويقال امرأة فارك كما قال متمم بن نويرة:
أقول لهندٍ حين لم أرض فعلها ... أهذا دلال العشق أم فعل فارك
ويجمع الفارك فوارك، مثل قاعد وقواعد، وطالق وطوالق، وطاهر وطواهر، كما قال ذو الرمة:
إذا الليل عن نشزٍ تجلى رمينه ... بأبصار أمثال النساء الفوارك
وهذا من الجمع المطرد في العربية سماعاً وقياساً.
أسئلة علي لابنه الحسن

حدثنا بدر بن الهيثم الحضرمي قال حدثنا علي بن المنذر الطريقي قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا محمد بن عبدي الله أبو رجاء من أهل تستر قال حدثنا شعبة بن الحجاج الواسطي عن أبي إسحاق الهمداني عن الحارث الأعور أن علياً عليه السلام ساءل ابنه الحسن عليه السلام عن أشياء من أمر المروءة، فقال: يا بني ما السداد؟ قال: يا أبة السداد دفع المنكر بالمعروف، قال: فما الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة وحمل الجريرة، قال: فما المروءة؟ قال: العفاف وإصلاح المرء ماله، قال: فما الدقة؟ قال: النظر في اليسير ومنع الحقير، قال: فما اللؤم؟ قال: إحراز المرء نفسه وبذله عرسه من اللؤم، قال: فما السماحة؟ قال: البذل في اليسر والعسر، قال: فما الشح؟ قال: أن ترى ما في يديك شرفاً وما أنفقته تلفاً، قال: فما الإخاء؟ قال: الوفاء في الشدة والرخاء، قال: فما الجبن؟ قال: الجرأة على الصديق والنكول عن العدو، قال: فما الغنيمة؟ قال الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا هي الغنيمة الباردة، قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك النفس، قال: فما الغنى؟ قال: رضى النفس بما قسم الله عز وجل لها وإن قل فإنما الغنى غنى النفس، قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس في كل شيء، قال: فما المنعة؟ قال: شدة الباس ومنازعة أشد الناس، قال: فما الذل؟ قال الفزع عند المصدوقة، قال: فما الجرأة؟ قال موافقة الأقران، قال: فما الكلفة؟ قال كلامك فيما لا يعنيك، قال: فما المجد؟ قال: إن تعطي في الغرم وأن تعفو عن الجرم، قال: فما العقل؟ قال: حفظ القلب عن كل ما استرعيته، قال: فما الخرق؟ قال: معاداتك لإمامك ورفعك عليه كلامك، قال: فما السناء؟ قال إيتان الجميل وترك القبيح، قال: فما الحزم؟ قال: طول الأناة والرفق بالولاة والاحتراس من الناس بسوء الظن هو الحزم، قال: فما السرو؟ قال: موافقة الإخوان وحفظ الجيران، قال: فما السفه؟ قال: إتباع الدناة ومصاحبة الغواة، قال: فما الغفلة؟ قال: تركك المسجد وطاعتك المفسد، قال: فما الحرمان؟ قال: تركك حظك وقد عرض عليك، قال: فما السيد؟ قال: السيد الأحمق في ماله المتهاون في عرضه، يشتم فلا يجيب المتحرز بأمر عشيرته هو السيد.

علي يروي كلمات للرسول
قال ثم قال علي عليه السلام: يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحشة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاروة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء والصبر. وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الظرف الصلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحسب الفخر. يا بني لا تستخفن برجل تراه أبداً، فإن كان أكبر منك فعد أنه أبوك، وإن كان في مثل عمرك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك فاحسب أنه ابنك. فهذا ما ساءل علي بن أبي طالب ابنه الحسن عليهما السلام عن أشياء من المروءة وما أجابه الحسن رضي الله عنه.
تعليق القاضي
قال القاضي: في هذا الخبر من جوابات الحسن أباه عما ساءله عنه من الحكمة وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه وحفظه، ووعاه وعمل به، وأدب نفسه بالعمل عليه، وهذبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدته بالوقوف عنده. وفيما رواه في أضعافه أمير المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم مالا غنى بكل لبيب عليم ومدرهٍ حكيم عن حفظه وتأمله، والمسعود من هدي لتقبله، والمجدود من وفق لامتثاله وتقبله.
المغيرة بن حبناء عند طلحة الطلحات
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال: قدم المغيرة بن حبناء أحد بني مالك بن حنظلة على طلحة الطلحات يطلب صلته، فأخرج إليه حجري ياقوت في درجين فقال: أيما أحب إليك عشرة آلاف أو الحجران؟ فقال: ما كنت لأختار الحجارة على الدراهم، فأمر له بعشرة آلاف، ثم قال: أيها الأمير إن نفسي تنازعني إلى أحد الحجرين، فدفعه إليه، فأنشأ يقول:
أرى الناس غاضوا ثم فاضوا ولا أرى ... بني خلفٍ إلا رواء الموارد
إذا نفعوا عادوا لمن ينفعونه ... وكائن ترى من نافع غير عائد
فألقى إليه الحجر الأخر.

أعرابي قاتل اللصوص ونجا
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال قال أبو موسى يعني عيسى بن إسماعيل تينة حدثني الرياشي أن لصوصاً وقعوا على قوم فيهم أعرابي فسلبوهم ثيابهم، وقاتل الأعرابي حتى نجا، فأنشأ يقول:
سائلا سيفي هل رويته ... حين عز الري من هام اللصوص
فر أصحابي وقاتلتهم ... باذلاً نفسي لهم دون القميص
كاد يدعو وينادي بائع ... من يفوز اليوم بالثوب الرخيص
عمر بن هبيرة يلجأ إلى يزيد بن المهلب
ليحمل عنه غرما
ً
حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا أبو إسحاق طلحة بن محمد الطلحي النديم قال حدثنا أحمد بن معاوية قال، وقال عبد الله بن الكوفي: أغرم سليمان بن عبد الملك عمر بن هبيرة من غزاته في البحر ألف ألف درهم، فمشى إلى يزيد بن المهلب وقد ولي العراق بعثمان بن حيان المري والقعقاع ابن خالد العبسي والهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي وغيرهم من قيس، فلما انتهوا إلى باب سرادق يزيد أذن لهم الحاجب في دخوله، وأعلمهم أنه يغسل راسه، فلما فرغ خرج في سبنية فألقى نفسه على فرشه ثم قال: ما ألف بينكم؟ فقال عثمان: هذا ابن هبيرة شيخنا وسيدنا، كان الوليد حمل معه مالاً حيث وجهه إلى البحر، فأعطاه جنده، فخرج عليه من غرمه ألف ألف درهم، فقلنا: يزيد سيد أهل اليمن ووزير لسليمان وصاحب العراق ومن قد تحمل أمثالها عمن ليس مثلنا، ووالله لو وسعتها أموال قيس لاحتملناها. ثم تكلم القعقاع فقال: يا ابن المهلب هذا خير ساقه الله إليك، وليس أحد أولى به منك، فافعل به كبعض فعلاتك الأول، فلن يصدك عن قضاء هذا الحق ضيق ولا بخل، وقد أتيناك مع ابن هبيرة فيما حمل، فهب لنا أموالنا واستر في العرب عورتنا. ثم تكلم الهذيل بن زفر فقال: يا ابن المهلب، إني لو وجدت من الممشى إليك بداً لما مشيت إليك، لأن أموالك بالعراق، وإنما أتيتنا خائفاً، ثم أقمت فينا ضيفاً، ثم تخرج من عندنا محروباً. وايم الله لئن تركناك بالشام لنأتينك بالعراق، وما ها هنا أقرب في الحظوة وأوجب للذمام. ثم تكلم ابن خيثمة فقال: إني لا أقول لك يا ابن المهلب ما قال هؤلاء، أخبرني إن أنت عجزت عن احتمال ما على ابن هبيرة فعلى من المعول، لا والله ماعند قيس له فكاك، ولا في أموالهم متسع، ولا عند الخليفة له فرج. ثم تكلم ابن هبيرة فقال: أما أنا فقد قضيت حاجتي رددت أم أنجحت لأنه ليس لي أمامك متقدم ولا خلفك متأخر، وهذه حاجة كانت في نفسي فقضيتها. فضحك يزيد بن المهلب وقال: إن التعذر أخو البخل، ولا أعتذر، فاحتكموا، فقال القعقاع: نصف المال، فقال يزيد: قد فعلت، أرنا يا غلام غداءك، قال: فجيء بالطعام فأنكرنا منه أكثر مما عرفنا، فلما فرغنا أمر بتطييبنا وحملاننا وإجادة الكسوة لنا، قال: ثم خرجنا، حتى إذا مررنا قال ابن هبيرة: أخبروني عما بقي من يحمله بعد ابن المهلب؟ لقد صغر الله أقداركم وأخطاركم، والله ما يدري يزيد ما بين النصف والتمام، وما هما عنده إلا سواء، ارجعوا إليه فكلموه في الباقي، قال: وقد كان يزيد ظن بهم أن سيرجعون إليه في التمام، فقال للحاجب: إذا عادوا فأدخلهم، فلما عادوا أدخلهم، فقال لهم يزيد: إن ندمتم أقلناكم، وإن استقللتم زدناكم، فقال له ابن هبيرة: يا ابن المهلب، إن البعير إذا أوقر أثقلته أذناه وأنا بما بقي مثقل، فقال: قد حملتها عنك، ثم ركب إلى سليمان فقال: يا أمير المؤمنين إنك إنما رشحتني لتبلغ بين وإني لا أضيق عن شيءٍ اتسع له مالك، وما في أيدينا عوارٍ لك تصطنع بها الناس وتبتني بها المكارم، ولولا مكانك ظلعنا بالصغير. ثم قال: إنه أتاني ابن هبيرة في وجوه أصحابه، فقال له سليمان: أمسك أتاك في مال الله عنده، خب ضب، جموع منوع، خدوع هلوع، هيه فصنعت ماذا؟ قال: حملتها عنه، قال: احملها إذاً إلى بيت مال المسلمين، قال: والله ما حملتها خدعةً وأنا حاملها بالغداة، ثم حملها فلما أخبر سليمان بذلك دعا يزيد فلما رآه ضحك وقال: ذكت بك ناري، ووريت بك زنادي، غرمها علي وحمدها لك، قد وفت لي يميني فارجع المال إليك، ففعل.
حين تأتى حماد عجرد في استرداد غلام آبق

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال أخبرنا عمر بن حماد عجرد وكان حماد يكنى به قال: آخر شعرٍ قاله أبي أنا كنا بواسط فأبق له غلام فبلغنا أنه بالكوفة، فوجه أبي في طلبه، فأخبرت أنه عند ابن أخي إسحاق بن الصباح الكندي، وكان على الكوفة، فلم أصل إلى الغلام، فكتبت إلى أبي بخبره وقلت: انظر من يثقل على إسحاق فخذ كتابه يشفع لك عنده، قال: فكتب إلي:
أما كتابك يا بي فإنه ... جزع وليس بحازمٍ من يجزع
انظر وصيتي التي أوصيكها ... فاعمل بها إن كنت مني تسمع
لا تطلبن إلى الأمير شفاعةً ... إن الشفاعة عنده لا تنفع
ولو آن ذلك في الحكومة نافعي ... عند الأمير لكان لي من يشفع
لكنه وكثيرة آلاؤه ... وسماؤه بالغيث ليست تقلع
إن كان يطلب للصنيعة موضعاً ... حسناً فعندي للصنيعة موضع
ما كان إسحاق ليصنع بابنه ... في الحكم إلا مثل ما بك يصنع
فإذا قضى فاقنع فإن قضاءه ... لي إن قضى لي أو علي لمقنع
قال الحسين: فأنشدتها في مسجد الكوفة فتلقفها أهل الكوفة فبلغت إسحاق فأرسل إلي فقال: يا ابن أخير أنت هاهنا مقيم ولم تعلمني؟ وأمر بالغلام فرد علي ووصلني بخمسمائة درهم، فانصرفت إلى أبي فوجدته قد مات.

أقوال منثورة ومنظومة في المشورة
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبي عن أبي جعفر محمد بن عمران قال يقال: توأم الرأي خير من الفذ ورأي الثلاثة لا ينقض. قال محمد: ويقال نصف عقلك مع أخيك، يعني في المشاروة. قال محمد: ويقال رأي الفذ لا تستغني به الخاصة ولا يصلح للعامة. قال محمد: ويقال ما هلك امرؤ عن مشورةٍ ولا سعد امرؤ باستغناء برأي، وإذا أراد الله أن يهلك عبداً أغناه برايه فكان أول ما يهلكه، قال الله عز وجل: " وشاورهم في الأمر " آل عمران: 159 من غير حاجة منه إليهم ولكن لتبقى سنة، وقال الشاعر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحدٍ ... أشيرا علي اليوم ما تريان
وقال الآخر:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضةً ... مكان الخوافي نافع للقوادم
في العجلة والبطء
وحدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أبي عن أبي جعفر محمد بن عمران قال يقال: بيتوا الرأي يكشف لكم عن محضه. قال ويقال: العجلة تسلب الوقار. قال ويقال في مثلٍ: أسرع تبطئ.
عتبة بن ربيعة يعرض على الرسول
أن يكف عن أمره

حدثنا أبو بكر ابن الأنباري قال حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا أحمد بن أيوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عن زياد مولى بني هاشم عن محمد بن كعب القرظي قال، قال عتبة بن ربيعة وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منفرد ناحيةً: أريد أن أقوم إلى محمدٍ فأعرض عليه أموراً ليكف عن أمره هذا فأيها شاء أعطيناه إذا رجع لنا عن هذا، فقالوا له: شأنك أبا الوليد، وكان عتبة سيداً حليماً فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي إنك منا بحيث قد علمت من السطة في النسب والمكان من العشيرة وانك قد أتيت قومك بما لم يأت أحد قومه بمثله: سفهت أحلامنا وكفرت آباءنا وعبت آلهتنا وفرقت كلمتنا، فإن كان هذا لمالٍ بتغيه جمعنا لك أموالنا حتى تكون أيسرنا، وإن كنت تميل إلى الرئاسة رأسناك علينا ولم نقطع أمراً دونك، وإن كان لرئي من الجن بعتادك أعذرنا في الجد والاجتهاد حتى ينصرف عنك فإن الرأي يحمل صاحبه على ما لا يصل معه إلى تركه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت يسمع، فلما سكت عتبة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمع يا أبا الوليد ما أقول: " بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قراناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " فصلت:14 ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم آله في القراءة حتى انتهى إلى السجدة، فسجد وسجد معه المسلمون، وعتبة مصغٍ يستمع وقد اعتمد على يديه من وراء ظهره، فلما قطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القراءة قال له: يا أبا الوليد قد سمعت الذي قرأت عليك فأنت وذاك. فانصرف عتبة إلى قريشٍ في ناديها فقالوا: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي مضى به من عندكم. ثم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: والله لقد سمعت من محمدٍ كلاماً ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، فأطيعوني في هذه وأنزلوها بي وخلوا محمداً وشأنه واعتزلوه فو الله ليكونن لما سمعت من قوله نبأ، فإن أصابته العرب كفيتموه بأيدي غيركم، وإن كان ملكاً أو نبياً كنتم أسعد الناس به لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم، فقالوا: هيهات، سحرك محمد يا أبا الوليد، فقال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما شئتم.

الرسول يصف القرآن
حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا محمد وهو ابن سعدان قال حدثنا الحسين بن محمد عن يزيد بن عطاء وحكيم بن نافع عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن هو حبل الله، النور المبين والشفاء النافع، عصمة من تمسك به نجا، ولا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستثبت ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله عز وجل يأجركم على تلاوته بكل حرفٍ عشر حسناتٍ. أما إني لا أقول لكم ألم حرف ولا ألفين أحدكم واضعاً إحدى رجليه يدع أن يقرأ سورة البقرة فإن الشيطان وإن أصفر البيوت صفر من كتاب الله.
علي غير مرتاح لوقوع الناس في الأحاديث

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا إدريس بن عبد الكريم قال حدثنا خلف قال حدثنا منصور بن عطاء، رجل من أصحابنا قال: سمعت حمزة الزيات يحدث عن أبي المختار الطائي عن ابن اخي الحارث عن الحارث قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت علياً عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت علياً عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل الذي ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن رد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن لما سمعته غير أن قالوا: " إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد " الجن: 1،2 من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، أو قال: من اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور.
من أعطي كل القرآن أوجزءاً منه
حدثنا سليمان بن يحيى بن الوليد المقري أبو أيوب الضبي قال حدثنا محمد بن سوار قال حدثنا عبد الوهاب عن بشر بن نمير عن القاسم مولى خالد بن يزيد عن أبي أمامة الحمصي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعطي ثلث القرآن فقد أعطي ثلث النبوة، ومن أعطي ثلثا القرآن فقد أعطي ثلثا النبوة، ومن أعطي القرآن كله فقد أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه.
ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق فيقرأ آية ويصعد درجه حتى ينجز ما معه من القرآن، ثم يقال له اقبض فيقبض، ثم يقال له اقبض فيقبض، ثم يقال له: أتدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي اليسرى النعيم.

موعظة علي لكميل بن زياد
حدثنا محمد بن أحمد المقدمي وحدثنا عبد الله بن عمر بن عبد الرحمن الوراق وحدثنا ابن عائشة قال حدثني أبي عن عمه عن كميل، وحدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال حدثنا المدائني، والألفاظ في الروايتين مختلطة، قالا، قال كميل بن زياد النخعي: أخذ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبان، فلما أصحر تنفس ثم قال: يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاةٍ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق غاوٍ، يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة. يا كميل محبة العالم دين يدان به، في كسبه العلم لذته في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته، ونفقة المال تزول بزواله، والعلم حاكم والمال محكوم عليه. يا كميل مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر: أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. إن هاهنا لعلماً وأشار إلى صدره لو أصبت له حملة. ثم قال: اللهم بلى أصبته لقناً غير مأمون عليه يستعمل آلة الدين في الدنيا ويستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعمه على كتابه، أو منقاداً لجملة الحق لا بصيرة له في إحيائه، يقدح الزيغ في قلبه بأول عارضٍ من شبهة، اللهم لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً بالذات، سلس القياد في الشهوات، ومغرماً بالجمع والادخار، وليسا من رعاة الدين، أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة، وكذلك يموت العلم بموت حملته.
ثم قال اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجةٍ إما ظاهر مشهور وإما خائف مغمور، لئلا تبطل حجج الله وبيناته فيكم، وأين أولئك؟ ألئك الأقلون عدداً، الأعظمون قدراً، بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين، واستسهلوا ها واستوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأرواحٍ معلقة بالمحل الأعلى. يا كميل، أولئك خلفاء الله في أرضه، الدعاة إلى دينه، هاه وأشوقاً إلى رؤيتهم، أستغفر الله لي ولك.

ما رأيت أقرأ لكتاب الله من علي
حدثنا محمد بن الحسين بن زياد قال حدثنا حسني بن الأسود قال حدثنا يحيى بن أدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحداً أقرأ لكتاب الله من علي بن أبي طالب عليه السلام.
علي لم يصب من الفيء إلا قارورة
حدثنا أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا عباس بن الفرج الرياشي قال حدثنا أبو عاصم عن معاذ بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء عن أبيه عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: ما أصبت من فيئكم إلا هذه القارورة أهداها إلي الدهقان بضم الدال ثم أتى إلى بيت المال فقال خذه وأنشأ يقول:
أفلح من كان له قوصرة ... يأكل منها كل يومٍ مرة
نيرزوا كل يوم
حدثنا إسماعيل بن الحسين القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن السعر التميمي قال: أهدي إلى علي بن أبي طالب فالوذج في جام يوم النوروز فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم النوروز، فقال: نيرزوا كل يوم، بالياء.
شعر لعبد الله بن زياد الحارثي
حدثنا أبو بكر ابن دريد قال أنشدني عمي قال أنشدنا ابن عائشة لعبد الله بن زياد الحارثي:
لا يبلغ المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا وان عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرةً ... لا عفو ذلٍ ولكن عفو أحلام
وإن دعا الجار لبوا عند دعوته ... في النائبات بإسراجٍ وإلجام
مستلئمين لهم عند الوغى زجل ... كأن أسيافهم أغرين بالهام
شعر لأعرابي
أخبرنا أبو بكر قال أخبرنا أبو حاتم عن العتبي قال سمعت أعرابياً يقول:
إذا كان الهياج سحبت درعي ... وإن كان الرخاء جررت بردي
وأبذل للخليل تلاد مالي ... وإن قل التلاد بذلت جهدي
وأغني في الحروب غناء مثلي ... ولست بموحشٍ إن كنت وحدي
شعر في الدعوة إلى الفضيلة
أنشدنا أبو بكر قال أنشدنا السكن قال أنشدنا محمد بن عباد:
إذا عثرة نابت صديقك فاغتنم ... مرمتها فالدهر بالناس قلب
وبادر بمعروف إذا كنت قادراً ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب
إذا كنت في الأمرين تأتي مخيراً ... فأتقاهما لله أولى وأوجب
وأخر هديت السوء إن كان نازلاً ... ولو ساعةً إن القلوب تقلب
وكف عن السوءات لا تقربنها ... فكل مسيء محسن حين يعتب
فكم فائتٍ في فوته لك خيرة ... وإدراكه لو نلته لك أعطب
وكم مدركٍ أمنيةً كان داؤه ... بإدراكها والغيب عنه محجب
رشونا فقضيت حاجتنا
حدثنا أبو بكر قال أخبرنا الرياشي قال حدثنا أبو معقل قال سمعت عبد الله بن روبة قال: كانت لنا حاجة إلى السلطان فاستشفعنا إليه فلم يشفعنا فرشونا فقضى حاجتنا فقال رؤبة:
لما رأيت الشفعاء بلدوا ... وسألوا أميرهم فأنكدوا
نامستهم برشوةٍ فأفردوا ... وسهل الله بها ما شددوا
غزل جميل لأبي حية
أنشدنا أبو بكر قال أنشدنا عبد الرحمن عن عمه لأبي حية النميري:
إذا هن ساقطن الأحاديث للفتى ... سقوط حصى المرجان من سلك ناظم
رمين فأنفذن القلوب فلا ترى ... دماً مائراً إلا جرى في الحيازم
وخبرك الواشون أن لا أحبكم ... بلى وستور البيت ذات المحارم
أصد وما الصد الذي تحسبينه ... عزاء بنا إلا ابتلاع العلاقم
حياءً وبقيا أن تشيع نميمة ... بنا وبكم أفٍ لأهل النمائم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالمرهفات اللهاذم
ويروى: أرقلت صعاد القنا بالراعفات الملاغم
ولكن وبيت الله ما طلا مسلماً ... كعز الثنايا واضحات المباسم
وإن دماً لو تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم
جمع فأوعى وسئل فأكدى

أخبرنا أبو بكر قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سئل المساحقي عن عبد الله بن الحسن فقال: جمع فأوعى، وسئل فأكدى، وحكم فتعدى.

رأي ابن المسيب في مصارع بني هاشم
أخبرنا أبو بكر قال حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: ذكر لسعيد بن المسيب مصارع بني هاشم فقال: إني أظن أن الله جل اسمه أراد أن يطهر بهم بطن الأرض كما عمر بهم ظهروها.
صاحب يجيد تمزيق عرض صاحبه
أخبرنا أبو بكر قال أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة:
لي صاحب ليس يخلو ... لسانه من جراحي
يجيد تمزيق عرضي ... على طريق المزاح
يجود بخير أو يهم به
أنشدنا أبو بكر قال أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس:
فتى لا تراه الدهر إلا ونفسه ... تجود بخيرٍ أوتهم بخير
تيه الغنى ومذلة الفقر
أنشدنا أبو بكر قال أنشدنا أبو عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس:
خلقان لا أرضى فعالهما ... تيه الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطراً ... وإذا افتقرت فته على الدهر
واصبر فلست بواجدٍ خلقاً ... أدنى إلى فرج من الصبر
أربع ضائعة
حدثنا أبو بكر قال سمعت الأصمعي يقول قال بعض الحكماء: لاشيء أضيع من أربع: مودة تمنحها من لا وفاء له، وبلاء تصطنعه عند من لا شكر له، وأدب تؤدب به من لا ينتفع به، وسر تستودعه من لا صيانة له.
قول لسلم الخاسر أحسن ما مدح به معن
أخبرنا أبو بكر قال أخبرنا أبو حاتم قال سمعت أبا عبيدة يقول: بلغني أنه قيل لمعن بن زائدة ما أحسن ما مدحت به؟ قال: بقول سلم الخاسر:
أبلغ الفتيان مألكةً ... أن خير الود ما نفعا
إن قرماً من بني مطرٍ ... أتلفت كفاه ما جمعا
كلما عدنا لنائله ... عاد في معروفه جذعا
عدم جواب اللئيم أشد عليه من الشتم
أنشدنا أبو بكر ابن الأنباري قال أنشدنا أحمد بن عبيد قال أنشدنا الأصمعي:
وما شيء أحب إلى لئيمٍ ... إذا شتم الكريم من الجواب
متاركة اللئيم بلا جوابٍ ... أشد على اللئيم من السباب
شديد عادة منتزعة
وحدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثنا محمد بن عمران الضبي قال: كانت لأبي الأسود الديلي من معاوية ناحية حسنة، فوعده وعداً فأبطأ عليه، فقال له أبو الأسود:
لا يكن برقك برقاً خلباً ... إن خير البرق ما الغيث معه
لا تهني بعد إذ أكرمتني ... فشديد عادة منتزعه
من مشى في حاجة أخيه المسلم
وحدثنا أبو بكر قال حدثنا عبد الله بن ناجية قال حدثنا عبد الله بن عمران العابدي المخزومي بمكة سنتة اثنتين وأربعين ومائتين قال حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مشى في حاجة أخيه المسلم كتب الله له بكل خطوةٍ سبعين حسنةً ومحا عنه سبعين سيئة من حين يخرج فيها، فإن قضيت الحاجة على يده خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وان مات بين ذلك دخل الجنة بغير حساب.
ألم اختار الوحدة
وحدثنا أبو بكر قال حدثني أبي عن محمد بن الحسن الجوهري قال: دخلت على أحمد بن صاعد الصوري وهو جالس وحده في مسجده، فقلت له: ما لي أراك وحدك؟ فقال:
قنعت بعلم الله ذخري وواحدي ... بمكنون أسرارٍ تضمنها صدري
فلو جاز ستر السر بيني وبينه ... عن القلب والأحشاء ماعلما سري
النعم مغضوب عليها حدثنا أبو بكر قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثنا عبد الرحمن بن موسى قال حدثنا أبو عاصم أحمد بن يونس قال حدثنا روح بن عبد الرحمن البوشنجي قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما أرى النعم إلا مغضوباً عليها، أراها في غير أهلها.
وأنشدني محمد بن المرزبان قال أنشدني أبو عبد الله النهمي لسعيد بن حميد في هذا المعنى:
يا حجة الله في الأرزاق والقسم ... ومحنةً لذوي الأخطار والهمم
تراك أصبحت في نعماء سابغةٍ ... إلا وربك غضبان على النعم
وأنشدنا أبو الحسن ابن البراء:
ليست النعمة عند الله في مثلك نعمة

غضب الله عليها ... فابتلاها بك نقمة

أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع
حدثنا أبو بكر قال حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال حدثنا الأشعث بن سليم قال: سمعت معاوية بن سويد بن مقرن يحدث عن البراء قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، وأمرنا بعيادة المريض وتشييع الجنائز وتشميت العاطس وإجابة الداعي ونصرة المظلوم وإبرار القسم وإفشاء السلام؛ ونهانا عن أنية الفضة وخاتم الذهب والميثرة والحرير والديباج والاستبرق والقسي.
تفسيرات لغوية
قال اللغويون: التشميت هو الدعاء، يقال له التسميت والتشميت، والتشميت معجمة فيه أعراف وأفصح. من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم أدخل علياً على فاطمة عليهما السلام قال: لا تعجلا حتى آتيكما، فلما أتاهما شمت عليهما وانصرف، يعين دعا لهما. والميثرة: سرج من سروج العجم فيه حديد والاستبرق الغليظ من الديباج والقسي يثاب فيها حرير تعمل في ناحية مصر بقرية يقال لها القس.
أيمن بن خريم لا يقاتل مصليا
ً
وحدثنا أبو بكر قال، حدثنا محمد بن أحمد المقدمي قال حدثنا أبو حفص الفلاس، قال: أخبرنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عبد الملك بن مروان قال لأيمن بن خريم بن فاتك: ألا تخرج فتقاتل معنا؟ فقال: إن أبي وعمي شهدا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمراني أن لا أقاتل رجلاً يصلي، فإن أعطيتني براءةً من النار قاتلت معك، فتركه. وهو الذي يقول:
فلست مقاتلاً رجلاً يصلي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي وزري ... معاذ الله من سفهٍ وطيش
أأقتل مسلماً في غير جرم ... فليس بنافعي ما عشت عيشي
إلى متى هذا الفراق
أنشدنا أبو بكر قال أنشدنا المظفر بن عبد الله رحمة الله عليه:
وقد ضقت ذرعاً بشق الإزار ... غداة الرحيل وبل الخمار
كأن الدموع على خدها ... بقية طلٍ على جلنار
تلبية لأبي نواس
حدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا سعيد بن اليمان قال حدثنا ابن صفوان قال: لما حج أبو نواس لبى فقال:
إلهنا ما أعدلك ... مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ... ما خاب عبد سألك
أنت له حيث سلك ... لولاك يا رب هلك
لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك ... والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ... كل نبيٍ وملك
وكل من أهل لك ... سبح أوصلى فلك
لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك
يا مخطئاً ماأغفلك ... عجل وبادر أجلك
وأختم بخيرٍ عملك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
في القوت غنى
وأنشدني أبي رحمه الله: ليس بذل الوجوه في طلب الفضل عن القوت من فعال الكرام
فإذا ما أنالك الله قوتاً ... من حلالٍ فأنت أغنى الأنام
جود حاتم
أنشدني أبو بكر قال أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لحاتم بن عبد الله:
سلي البائس المقرور يا أم مالكٍ ... إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
أأبسط وجهي أنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
إن الحديث طرف من القرى
وأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
إنك يا ابن جعفر نعم الفتى ... ونعم مأوى طارقٍ إذا أتى
فرب ضيف طرق الحي سرى ... صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
إن الحديث طرف من القرى ... ثم اللحاف بعد ذاك في الذرى
شريك يتلقى الخيزران

حدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا أبو عكرمة الضبي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن أبي سفيان الحميري، قال: وحدثني محمد بن المرزبان قال حدثنا أبو بكر العامري قال حدثنا سليمان بن معصوم قال حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم والألفاظ في الروايتين مختلطة، قالا: حجت الخيزران أم موسى وهارون فخرج شريك يتلقاها وحمل معه خبزاً، فأبطأت فأقام ثلاثاً ينتظرها فيبس خبزه فجعل يبله بالماء ويأكله، فهجاه ابن عبدل قال أبو بكر: كذا في رواية أبي، وفي رواية ابن المرزبان فهجاه أبو المنهال العلاء الغنوي فقال:
فإن يكن الذي حدثت حقاً ... بأن قد أكرهوك على القضاء
فمالك حين تخرج كل يومٍ ... تلقى من يحج من النساء
وسودت القميص وصرت فيه ... تطوف يا شريك مع الإماء
مقيماً في قرى شاهي ثلاثاً ... بلا زادٍ سوى كسرٍ وماء
يزيد الناس خيراً كل يومٍ ... وترجع يا شريك إلى وراء

المودة أقرب الأنساب
وأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... وعلمت ما عرفوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب
أرقني أن لا ضجيع ألا عبه
حدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا حميد بن الربيع الخزاز قال حدثني يونس بن بكير الشيباني قال حدثني أبو إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما زلنا نسمع حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا إنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيراً، إذ مر بأمرأةٍ من نساء العرب مغلقة عليها بابها وهي تقول:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه
ألا عبه طوراً وطوراً كأنما ... بدا قمر في ظلمة الليل حاجبه
يسر به من كان يلهو بقربه ... لطيف الحشا لا تجتويه صواحبه
فو الله لولا الله لا شيء غيره ... لنقض من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيباً موكلاً ... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
ثم تنفست الصعداء، وقالت: لهان على عمر بن الخطاب وحشتي وغيبة زوجي عني، وعمر واقف يستمع قولها، فقال لها: يرحمك الله يرحمك الله، ثم وجه إليها بكسوة ونفقة، وكتب في أن يقدم زوجها عليها.
وصايا أخلاقية
أنشدنا أبو بكر قال أنشدني أبي رحمه الله:
اسلك من الط... المناهج ... واصبر وإن حملت لا عج
انبذ همومك لا تضق ... ذرعاً بها فلها مفارج
راقض الحوائح ما استطعت وكن لهم أخيك فارج
فلخير أيام الفتى ... يوم قضى فيه الحوائج
وأنشدني ...رحمه الله:
ليس في كل ساعةٍ وأوان ... تتهيا صنائع الاحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها حذراً من تعذر الإمكان
وأنشدني أبي رحمه الله:
وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم أقوام خلائق أربع
حياء وإسلام وتقوى وأنني ... كريم ومثلي قد يضر وينفع
تفسير ابن عمر لآية النور
وحدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا أبو علي العنبري قال حدثني علي بن ثابت الجزري عن الوازع بن نافع العقيلي عن سالم عن ابن عمر في قول الله عز وجل: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباح النور: 35 قال: المشكاة: جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والمصباح: النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه " يوقد من شجرةٍ مباركةٍ " النور: 35 الشجرة إبراهيم عليه السلام " لا شرقية ولا غربيةٍ النور: 35 لا يهودي ولا نصراني، ثم قرأ: " ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين " آل عمران: 67.
مصير عبدة زوج هشام

حدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال حدثنا عياش بن عبد الواحد قال حدثني ابن عائشة قال حدثني أبي قال: كانت عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية عند هشام بن عبد الملك، وكانت من أجمل النساء، فدخل عليها يوماً وعليها ثياب سود رقاق من هذه التي يلبسها النصارى يوم عيدهم، فملأته سروراً حين نظر إليها ثم تأملها فقطب، فقالت: مالك يا أمير المؤمنين، أكرهت هذه، ألبس غيرها؟ قال: لا، ولكن، رأيت هذه الشامة التي على كشحك من فوق الثياب، وبك يذبح النساء وكانت بها الشامة في ذلك الموضع أما إنهم سينزلونك عن بغلةٍ شهباء يعني بني العباس وردةٍ، ثم يذبحونك ذبحاً قال وقوله يذبح بك النساء يعني إذا كانت دولة لأهلك ذبحوا بك من نساء القوم الذين ذبحوك فأخذها عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس فكان معها من الجوهر مالا يدرى ما هو، ومعها درع يواقيت وجوهر منسوج بالذهب، فأخذ ما كان معها وخلى سبيلها، فقالت في الظلمة: أي دابةٍ تحتي؟ قيل لها دهماء، لظلمة الليل، فقالت: نجوت، قال: فأقبلوا على عبد الله بن علي فقالوا: ما صنعت؟ أدنى ما يكون يبعث أبو جعفر إليها فتخبره بما أخذت منها فيأخذه منك.
اقتلها. فبعث في أثرها، وأضاء الصبح فإذا تحتها بغلة شهباء، وردة، فلحقها الرسول فقالت: مه، قال: أمرنا بقتلك، قالت: هذا أهون علي، فنزلت فشدت درعها من تحت قدميها وكميها على أطراف أصابعها وخمارها فما رئي من جسدها شيء، والذي لحقها مولى لآل العباس، قال ابن عائشة: فرأيت من يدخل دورنا يطلب اليواقيت للمهدي ليتم به تلك الدروع التي أخذت منها، وإنما كانت بدنا يغطي المرأة إذا قعدت.

من أفاعيل الزنج بالبصرة
قال الحسن بن عبد الرحمن: ولما دخل الزنج البصرة فيما أخبرني مشايخنا لا يختلفون دخلوا دار جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس فجاءوا إلى بنته آمنة وهي عجوز كبيرة قد بلغت تسعين سنة، فلما رأتهم قالت: اذهبوا بي إليه فإنه ابن خال جدتي أم الحسين بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي، قالوا: بل أمرنا بقتلك فقتلوها.
ابن الزبير ينشد معاوية ثلاث أبيات
حدثني أبي قال حدثني أبو أحمد العباس قال أخبرنا عمر بن محمد أبو حفص قال حدثنا عبد الله بن خبيق قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله قال قال معاوية لعبد الله بن الزبير: أنشدني ثلاثة أبيات غريبة، قال: أنشدكها بثلاثين ألفاً تدفعها إلي، قال: حتى تنشد وأسمع، قال: فأنا أقول وتسمع وأنت الحكم، فأنشده أبيات الأفوه الأودي:
بلوت الناس قرناً بعد قرن ... فلم أر غير ختال وقال
ولم أر في الخطوب أشد ضراً ... وأضنى من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طراً ... فما شيء أمر من السؤال
قال: فحكم له ودفع إليه ثلاثين ألفاً.
أحبوا العرب لثلاث
حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو حصين قاضي الكوفة قال حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي قال حدثنا يحيى بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي.
بلسان سؤول وقلب عقول
وحدثنا أبو بكر قال حدثني أبو عيسى الختلي قال حدثنا أبو يعلى الساجي قال حدثنا الأصمعي عن عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن مغيرة عن الشعبي قال: قيل لابن عباس: أين أصبت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول.
مقطعات في العتاب
وأنشدنا أبو بكر قال أنشدني أبي رحمه الله عليه:
أعاتب ذا المروءة من صديقي ... إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود ... يبقى الود ما بقي العتاب
وأنشدني أبي:
أعاتب من أبقي على حفظ وده ... ولا قدر عندي للذي لا أعاتبه
وأنشدني أبي:
إن بعض العتاب يدني من ... العتب ويؤذي به المحب الحبيبا
وإذا ما القلوب لم تضمر الود ... د فلن يعطف العتاب القلوبا
المجلس التاسع والسبعون
أنفق ولا تخشى من ذي العرش إقلالا

حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى إملاء من لفظه في يوم الاثنين الثاني من شهر رمضان سنة تسع وتسعين وثلاثمائة قال حدثنا محمد بن أحمد بن صالح الأودي قال حدثنا يوسف بن موسى القطان قال حدثنا رجا بن مرجى قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً قال: بذلك أمرت.
قال القاضي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
وقد قال الله عز وجل: " وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه هو خير الرازقين " سبأ39.

أعرابية قسرية عند خالد القسري
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا الأصمعي قال: ذكروا أن خالد بن عبد الله القسري لما أحكم جسر دجلة واستقام له نهر المبارك أفشى عطايا كثيرة وأذن للناس إذناً عاماً، فدخلت عليه أعرابية قسرية فأنشأت تقول:
إليك يا ابن السادة الأماجد
يعمد في الحاجات كل عامدٍ
فالناس بين صادرٍ ووارد
مثل حجيج البيت نحو خالد
وأنت يا خالد خير والد
أصبحت عند الله بالمحامد
مجدك قبل الشمخ الرواكد
ليس طريف المجد مثل التالد
قال: فقال لها خالد: حاجتك كائنةً ما كانت، فقالت: أصلح الله الأمير، أناخ علينا الدهر بجرانه، وعضنا بأنيابه، فما ترك لنا صافناً ولا ماهناً، فكنت المنتجع وإليك المفزع، قال فقال لها خالد: هذه حاجة لك دوننا فقالت: والله لئن كان لي نفعها إن لك لأجرها وذخرها، مع أن أهل الجود لو لم يجدوا من يقبل العطاء لم يوصفوا بالسخاء، قال لها خالد: أحسنت فهل لك من زوج؟ فقالت: لا، وما كنت لأتزوج دعياً، وإن كان موسراً غنياً، وما كنت أشتري عاراُ يبقى بمالٍ يفنى، وإني بجزيل مال الأمير لغنية، قال الأصمعي: فأمر لها بعشرة ألاف درهم.
شرح الغريب
قال القاضي: أما قولها فما ترك لنا صافناً ولا ما هناً: الصافن من الخيل فيما ذكر أبو عبيدة الذي يجمع بين يديه وبين طرف سنبك إحدى رجليه، والسنبك مقدم الحافر. قال وقال بعض العرب: بل الصافن الذي يجمع بين يديه، والذي يرفع طرف سنبك رجليه فهو مخيم، يقال أخام برجله.
وقال الفراء: الصافنات فيما ذكر الكلبي بإسناده: القائمة على ثلاث، وقد أناخت الأخرى على طرف الحافر من يدٍ أو رجلٍ، وهي في قراءة عبد الله " صوافن فإذا وجبت " الحج:36 يريد معقولةً على ثلاث، وقد رأيت العرب تجعل الصافن القائم على ثلاث أو غير ثلاث، وأشعارهم تدل على أنه القائم خاصة، والله أعلم بصوابه.
وقد روي عن ابن عمر أنه قال لرجل يريد نحر ناقته: انحرها معقولة اليمنى أو اليسرى قائمةً على ثلاث، سنة محمد صلى الله عليه وسلم، أو نحو هذا القول. وقد قرئ: " فاذكروا اسم الله عليها صوافن " الحج:36 على ما تقدم من الحكاية عن ابن مسعود وصوافي بمعنى خالصة لله عز وجل من الصفاء والخلوص، فأما قراءة الجمهور الأعم والسواد الأعظم فإنه صواف على جمع الصافة وهي المصطفة، ورسم مصاحف المسلمين شاهد لهذه القراءة بالصحة مع استفاضة النقل لها في الأمة، وقد قال عمرو بن كلثوم في معنى هذه اللفظة:
تركنا الخيل عاكفةً عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وأما قولها: ولا ما هناً فإنها تعني ولا خادماً، ومن الماهن قول الشاعر:
وهزئن مني أن رأين مويهناً ... تبدو عليه شتامة المملوك
المويهن: تصغير ماهن، والخويدم تصغير خادم، والشتامة القبح والكلوح، يقال: وجه شتيم أي باس قبيح، ومن هذا الشتم والشتيمة في القول معناه قبحه وقذعه، والمشاتمة المسابة وهما من هجر القول وفحشه.
وقال بعض اللغويين: لا يقال عضنا الدهر وإنما يقال عظنا بالظاء، والمعروف فيه الضاد.
أعز شيئين درهم حلال وأخ في الله
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: حدثنا محمد بن عيسى الواسطي قال: حدثنا ابن عائشة عن حزم بن أبي حزم قال: كان يونس بن عبيد يمر بنا في بني لاحق فيقول: ما أعرف اليوم شيئاً أعز من شيئين: درهم حلال وأخ في الله عز وجل. وأنشدنا إبراهيم قال أنشدنا أحمد بن يحيى:

خير إخوانك المشارك في المر ... وأين الشريك في المر أينا
لا يني شاهداً يسرك بالبش؟ ... ر وإن غبت كان أذناً وعينا
مثل سر العقيان إن مسه النا ... رجلاه التلام فازداد زينا
تفسير بعض الألفاظ ويروى: أخلصه القين وهو الحداد، العقيان من أسماء الذهب. وسره أخلصه وأشرفه، وسر كل شيء جيده ومختاره،والتلام هو الذي يجلى به، يقال له المدوس، وقيل: هو التلام يريد التلامذه والتلاميذ مثل الأساورة والأساوير وقيل إنها في قراءة عبد الله أساوير من ذهب وقال: التلام بالحذف دون التمام كما قال الشاعر:
عفت المنا بمتالعٍ فأبان
يريد المنازل فحذف اكتفاءً بدلالة ما بقي من الكلام وأقام وزن شعره مستغنياً فيه عن التمام

حكاية غريبة عن
توسط عمر بن عبد العزيز لدى يزيد بن المهلب
حدثنا أبو النضر العقيلي قال: حدثنا أبو إسحاق الطلحي قال: أخبرنا أحمد بن معاوية قال: وقال ابن الكوفي وكان بشر بن مروان قد ادخر وهو على العراق عن ابنه عبد الملك وعن عيينة بن أسماء من غلات أراضيهم مالاً عظيماً، فلما ولي الحجاج أخرج تلك البقايا فوجد ما على عبد الملك وعيينة بن أسماء فقال: وما على بشرٍ أن يهب من مال الله تعالى لابنه وختنه هذا وأكثر منه، والله لآخذنهما به أخذ الضب ولده، وطالبهما فريثاه حتى هلك فلحقا بالشام فنزلا على عمر بن عبد العزيز فقالا له: إن بشراً كان أطعمنا شيئاً كثيراً من غلاتنا فبسطنا فيه أيدينا، وان الحجاج بسفهه وخرقه وظلمه أخرج علينا ثم أخذنا به، فلم نزل نخدعه عن أنفسنا حتى هلك، فكلم أمير المؤمنين في هبة ذلك لنا، فضحك عمر وقال: لست أثق لكما بكلامي، ولكن لكما عندي رأي فيه نجاح طلبتكما، قالا: فادللنا عليه، قال: نمشي إلى يزيد بن المهلب فإما أن يحملها من ماله، وإما أن يعيننا على سليمان فيهبها لكما، ولا والله ما كنت لأمشي إلى عربيٍ على الأرض غيره ليس من ولد مروان. ثم أتوا يزيد فقال له عمر: إن اأتيناك زواراً وهذان من قد عرفت، فلا تنظرن إلى جرم أبو يهما عند أبيك، فضحك يزيد وقال: عفا الله عنك يا أبا حفص، أرجع في ذنبٍ قد غفره أبي قبلي؟! والله ما عجز عن مكافأتهما في حياته ولا أوصاني بالثأر من بعده، فإنهما لأخواي وصاحباي، هاتوا حاجتكم، فقال عمر: إن الحجاج أخرج عليهما مما كان بشر ترك لهما من غلاتهما ألف ألف وخمسمائة ألف فما ترى؟ قال: رأيكم فاحتكموا، قال: تحمل منها ما شئت قال: علي نصفها، والمطلب إلى أمير المؤمنين في بقيتها، فإن حمله عني وإلا حملته، فقال عبد الملك بن بشر: والله ما ظلم الناس أن زعموا أنك سيدهم. ثم خرجوا وعمر يقول: ما رأينا مثل هذا العراقي في وطأته فعل قبلها مثلها، ثم حمل عن القيسيين وعن يزيد بن عاتكة، وهذه ألف ألف وخمسمائة ألف. ثم ركب يزيد إلى سليمان فدخل عليه وعنده جماعة من وجوه أهل اليمن فقام فقال: يا أمير المؤمنين، فقال له سليمان: أمسك، وأبيك إنك لقادر على خلواتي، اجلس، فقال يزيد: ما قمت لأجلس فأذن لي في الكلام، فقال: هات، فأخبره بمجيء عمر إليه وقال: قد حملت النصف وضمنت عليك الباقين والله يا أمير المؤمنين إن مقامي بالشام لمن تمام نعمة الله علي بأمير المؤمنين، إنه لم يعمد إلي أحد في حاجة إلا قضاها الله بك يا أمير المؤمنين على يدي، فقال سليمان: قد وهبنا ذلك كله لك، فلك حمده وعلينا غرمه.
الرشيد يستنشد الكرماني شعرا
ً
في خلوب جارية الرشيد
حدثنا الحسين بن القاسم الكواكبي قال: حدثني عمي أبو عبد الله أحمد بن فراس السامي قال حدثنا الجهم بن بدر قال: قال الكرماني في خلوب جارية الرشيد شعراً، فبلغ الرشيد فوجه إليه وأقعد الرشيد خلوب خلف ستر، ومر الكرماني بالفضل بن الربيع فقال: إن أمير المؤمنين قد وجه إلي فأنشده إن استنشدني؟ قال؛ نعم، بعد الأمان. فلما دخل قال له الرشيد: أأنت الكرماني؟ قال: نعم، قال: أنشدني، قال في الزهد؟ قال: لست هناك، قال: ففي المديح؟ قال: ولا، قال: فما أنشدك يا أمير المؤمنين؟ قال: شعرك في خلوب، قال: بعد الأمان يا أمير المؤمنين قال: نعم، فأنشده قوله فيها حتى بلغ:
لو لم أذقها طاب لي حبها ... لكنني ذقت فلا ذقت

فخرجت خلوب من وراء الستر فقالت: والله يا أمير المؤمنين ما ذقته ولا ذاقني، ولا رأيته ولا رآني، وقد أقر بالزنا فحده، قال: يا خلوب قد أعطيناه الأمان، قالت: لا أمان في حدٍ من حدود الله عز وجل، قال: قد سمعت يا كرماني، قال: يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل: " والشعراء يتبعهم الغاوون " الشعراء:224 إلى قوله: " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " الشعراء:226 قال: صدقت، وأمر له بثلاثين ألف درهم.

طريقة الشعراء
قال القاضين: ومن الموجود في طريقة الشعراء أنهم يقولون مالا يفعلون، ويصفون من يمدحونه أو يهجونه بما ليس فيه وبما لا علم لهم به، وقد قال في هذا عمران بن حطان للفرزدق:
أيها المادح العباد ليعطى ... إن لله ما بأيدي العباد
فسل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المهيمن العواد
ولا تقل في الجواد ما ليس فيه ... وتسم البخيل باسم الجواد
وأنشدني عن ابن الرومي:
يقولون مالا يفعلون مسبة ... من الله مسبوب بها الشعراء
وما ذاك فيهم وحده بل زيادة ... يقولون ما لا يفعل الأمراء
ونظير خبر الكرماني مع الرشيد ما روي أن الفرزدق أنشد عبد الملك:
فبتن جنابتي مصرعاتٍ ... وبت أفض أغلاق الختام
فقال له: قد أقررت بما أوجب علي أن أقيم عليك الحد، فقال: يا أمير المؤمنين يمنعك من ذلك آية من كتاب الله عز وجل، فقال: وما هي؟ قال: قوله عز وجل: " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " الشعراء: 226.
هشام يستدعي حماداً الراوية ليسمع منه شعراً
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبو الحسن بن البراء قال حدثني حميد بن محمد الكوفي قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله القرشي قال حدثني محمد بن أنس صاحب شعر الكميت قال: حماد الراوية: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك وكان هشام يقليني على ذلك، فلما ولي هشام مكثت سنةً لا أخرج، فلما لم أذكر خرجت فصليت الجمعة وجلست على باب الفيل، وهو باب مسجد الكوفة، فإذا شرطيان قد وقفا علي فقالا لي: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، فقلت: من هذا كنت أحذر، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني آتي أهلي فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبداً ثم أصير إليه معكما؟ قالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت في أيديهما ودخلت على يوسف بن عمر في الإيوان الأحمر، فسلمت فرد علي السلام فطابت نفسي برده علي السلام، ثم رمى إلي بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، إذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروعٍ ولا متعتعٍ، وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرةً ليلةً إلى دمشق، فأخذت الخمسمائة الدينار ونظرت فإذا جمل مرحول فوضعت رجلي في الغرز وسرت احدى عشرة ليلةً، فلما كان اليوم الثاني عشر وافيت باب هشام فاستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء مفروشةٍ بالرخام، بين كل رخامتين قصبة من ذهب، وحيطانها على ذلك العمل، وإذا هشام جالس على طنفسة من خز أحمر وعليه ثياب خزٍ حمر مضمخة بالعنبر؛ فسلمت فاستدناني حتى قبلت رجله وأجلسني، فإذا أنا بجاريتين لم أر مثلهما قبلهما، في أذن كل واحدة منهما حلقة من ذهب فيها جوهرة تتوقد، فقال لي: يا حماد كيف أنت وكيف حالك؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين قال: أتدري لم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من قائله، قلت وما هو؟ قال:
فدعت بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قلت هذا يقوله عدي بن زيد العبادي في قصيدة له، فقال أنشدنيها، فأنشدته:
بكر العاذلون في وضح الصب؟ ... ح يقولون ما له لا يفيق
ويلومون فيك يا ابنه عبد الل؟ ... ه والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذ أكثروا العذل عندي ... أعدو يلومني أم صديق
زانها حسنها بفرعٍ عميمٍ ... وأثيث صلت الجبين أنيق
وثنا يا مغلجات عذاب ... لا قصاراً ترى ولاهن روق
فدعت بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق

ثم كان المزاج ماء سماء ... ليس ما آجن ولا مطروق
فقال: أحسنت يا حماد، يا جارية اسقيه فسقتني شربةً ذهبت بثلث عقلي، ثم قال: أعد، فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للأخرى: يا جارية اسقيه، فسقتني شربة ذهب ثلثا عقلي، فقلت: إن سقتني الثالثة افتضحت، ثم قال: سل حوائجك كائنةً ما كانت، قلت: إحدى الجاريتين قال: هما لك بما عليهما من حلي وحلل، ثم قال للأولى: اسقيه، فسقتني شربة سقطت فلم أعقل حتى أصبحت، فإذا أنا بالجاريتين عند رأس، وإذا خادم تقدم عشرة خدم مع كل واحد بدرة فقال: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه فانتفع بها في شأنك، فأخذتها والجاريتين وانصرفت.
؟تعليقات وتفسيرات قال القاضي: قد رويت قصة هذا الشعر عن حماد أنها كانت مع الوليد بن يزيد وفيها ما ليس في هذا الخبر، وفي هذا الخبر ما ليس فيها، وجائز أن تكون القصتان جرتا في وقتين فيكونا غير متنافيتين وقد أثبتنا القصة الأخرى في بعض مجالس كتابنا هذا والله أعلم بصواب ذلك.
وقول عدي بن زيد في هذا الشعر يصف ثنايا هذه المرأة: ولا هن روق الروق الطوال، يقال ناب أروق وثنية روقاء والجمع روق مثل أحمر وحمراء وحمر، قال الأعشى:
وإذا ما الأكس شبه بالأر ... وق يوم الهيجا وقل البصاق
يقال ناب أكس وثنية كساء، إذا كانا قصيرين، وإنما وصف الحرب بالشدة وان ريق المحارب قد شبهت اسنانه على كسسها بالروق لتجردها وقلة البصاق فيها.
؟

النوشجاني يتغاضى للمأمون فلا يرضيه ذلك
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى الكاتب قال حدثني من سمع قحطبة بن حميد بن قحطبة يقول: حضرت المأمون يناظر محمد بن القاسم النوشجاني في شيء ومحمد يغضي له ويصدقه فقال له المأمون: أراك تنقاد لي إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك ولو شئت أن أقتسر الأمور بفضل بيانٍ وطول لسان وأبهة الخلافة وسطوة الرياسة لصدقت وان كنت كاذباً، وصوبت وان كنت مخطئاً، وعدلت وإن كنت جائراً، ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة وغلبة الحجة، وإن شر الملوك عقلاً وأسخفهم رأياً من رضي بقولهم صدق الأمير.
لا بأس أن يكون الخال أشرف من العم
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال: حدثنا أبو موسى يعني تينة قال حدثنا القحذمي قال: تزوج قيس بن معد يكرب بنت الحارث بن عمرو من بني آكل المرار فولدت له الأشعث بن قيس ففال أبو هانئ الكندي:
بنات الحارث الملك بن عمروٍ ... تخيرها فتنكح في ذراها
لها الويلات إذا أنكحتموها ... الا طعنت بمديتها حشاها
وقد نبئتها ولدت غلاماً ... فلا عاش الغلام ولا هناها
فأجابه أبو قساس الكندي:
ألا أبلغ لديك أبا هني ... ألا تنهى لسانك عن رداها
فقد طالبت هنداً قبل قيسٍ ... لتنكحها فلم تك من هواها
فطافت في المناهل تبتغيها ... فلاقت منهلاً عذباً شفاها
شديد الساعدين أخا حروبٍ ... إذا ما سيل منقصة أباها
وما حثت مطيته إليها ... ولا من فوق ذروتها أتاها
قال عيسى قال القحذمي: وآل الأشعث ينشدون هذا الشعر ولا ينكرونه قال: وا لأشراف لا يبالون أن يكون أخوالهم أشرف من أعمامهم.
اللسان في اللغة
قال القاضي: قوله في هذا الشعر: ألا تنهى لسانك عن رداها أنث اللسان، وذكر أهل العلم بالعربية أن العرب تذكر اللسان وتؤنثه وقيل من أنثه أراد به اللغة والرسالة كقول الشاعر:
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا صخب فيها ولا سخر
مقولة لعلي في مفهوم القضاء والقدر
حدثنا الحسين بن أحمد بن محمد الكلبي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال:

لما قدم علي رضي الله عنه من صفين قام إليه شيخ من أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن مسيرنا إلى أهل الشام، بقضاء وقدر؟ فقال علي عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما قطعنا وادياً ولا علونا تلعةً إلا بقضاء وقدرٍ، فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي، فقال علي عليه السلام، ولم؟ بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم مصعدون، وفي منحدركم وأنتم منحدرون، وما كنتم في شيء من أموركم مكرهين ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: كيف يا أمير المؤمنين والقضاء والقدر ساقنا إليها؟ قال: ويحك لعلك ظننته قضاء لازماً وقدراً حاتماً، لو كان ذاك لسقط الوعد والوعيد، ولبطل الثواب والعقاب ولا أتت لائمة من الله لمذنب، ولا محمدة من الله لمحسن، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب، ذلك مقال إخوان عبدة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمن، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها، ولكن الله تعالى أمر بالخير تخييراً، ونهى عن الشر تحذيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يملك تفويضاً، ولا خلق السموات والأرض وما أرى فيهما من عجائب آياتهما باطلاً " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " ص: 27.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين فما كان القضاء والقدر الذي كان فيه مسيرنا ومنصرفنا؟ قال: ذلك أمر الله وحكمته. ثم قرأ علي رضي الله عنه " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " الإسراء:23 فقام الشيخ تلقاء وجهه ثم قال:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته ... يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً ... جزاك ربك عنا فيه إحسانا

المجلس الثمانون
يا أبا بكر دعها فإن لكل قوم عيدا
ً
أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا علي بن شعيب قال حدثنا ابن نمير قال حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة أنها كانت عندها جاريتان تغنيان في يوم عيد وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاها، فدخل عليها أبو بكر رضي الله عنه فانتهرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر دعها فإن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا.
؟؟
الرخصة في الغناء المباح
قال القاضي: قد ضمنا هذه المجالس نظائر لهذا الخبر، وذكرنا في غير موضع من كتبنا ما جاء من الرخصة في الغناء المباح وما يستعمل معه من آلات الملاهي كالدف ونحوه، وأن ذلك يختار ويؤمر به في الأعياد والعرسات وما يجري مجراها مما ينبسط عنده المسلمون وينشطون فيه في مجامعهم ومآدبهم. وذكرنا في عدة مواضع ما يكره من ترجيع الغناء و.طيط في تلاوة القرآن وإنشاد العشر، وأوضحنا سقوط من موه على الناس في ذلك وتعلق بسخيف الشبه فيه إرهاصاً لمعيشته وتوطئاً للحطام من مأكلته، وان في وفور السرور واستقامة الأمور بالتصرف فيما أباحه الله عز وجل وأذن فيه لمندوحه عما حظره وزجر عنه وعابه.
ابن ورقاء يحسب الشعر قرآنا
ً
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبن عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة قال: خطب عتاب بن ورقاء الرياحي على المنبر فقال: أقول كما قال الله تعالى في كتابه:
ليس شيء على المنون بباقٍ ... غير وجه المسبح الخلاق
فقيل له: أيها الأمير، هذا قول عدي بن زيد، فقال: فنعم والله ما قال عدي بن زيد.
قال ابن دريد أخبرنا أبو عثمان في عقب هذا الحديث ولم يسنده إلى أحد قال: أتي عتاب بن ورقاء بامرأة من الخوارج فقال لها: يا عدوة الله ما حملك على الخروج علينا؟ أما سمعت الله يقول:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
فقالت: جهلك بكتاب الله حملني على الخروج عليك وعلى أئمتك يا عدو الله.
كيف سار المثل الخير يبقى والشر أخبث زاد
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو الفضل الربعي قال حدثني أبي، وحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن السائب عن أبيه عن الشرقي بن القطامي وألفاظ الروايتين مختلفة ومعاينهما متقاربة قال، قال الرشيد للمفضل الضبي: أخبرني يا مفضل عن قول العرب:
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد

فقال: يا أمير المؤمنين هذا مثل لهم سائر قبل الإسلام، وكان من حديث هذا المثل أن عبيد بن الأبرص الأسدي كان حكيماً من حكماء العرب وشاعراً مجيداً، قتله المنذر بن ماء السماء من أجل الغريين وكان من حديث هذا المثل قبل أن يقتله المنذر بثلاثة أحوال أن ناساً نزلوا عليه فقراهم وأحسن ضيافتهم وكان يقري الضيف ويحسن إلى المنقطع به، فلما أراد القوم الرحيل خرج معهم يشيعهم، فشيعهم حتى أبعدوا ونزلوا في موضع وقال غيره: فلما نزل القوم وعرسوا خرج عبيد وصاحب له يمشيان في الموضع الذي نزل القوم فيه، وسارا حتى أتيا حباً هناك فرأيا شجاعاً عظيماً أقرع يلهث قد أدلع لسانه من العطش، فأخذ صاحب عبيدٍ حجراً وهم أن يشدخه به، فقال له عبيد: ما أنت صانع؟ قال: أقتل هذا الشجاع فإنه عدو، قال عبيد: لا تفعل فإن الأسير قد يجار وإن كان عدواً، ثم استقى من الحب ماءً فسقى الشجاع، فجعل يشرب حتى روي، ثم تسبسب في الرمل فغاب، قال: ورجع عبيد إلى القوم فودعهم ثم رحلوا، ورجع عبيد إلى منزله فأقام حولين، فأتاه بعض الرعاة فخبره ان إبله قد شردت فركب راحلة له وخرج في طلب الإبل، وكان شجاعاً بطلاً، فسار عشر مراحل لا يرى له أثراً ولا يعرف لها خبراً، حتى إذا كان في بعض الليالي وقد كلت راحلته وتعب وأظلم الليل وهبت الرياح فلم ير سهلاً ولا جبلاً نفقت الراحلة، فقال: يا لك من ليلٍ ديجور ومن نفوق راحلةٍ بالليل، وكان الموضع الذي هو فيه يقال له الصادي وهناك ماء، فقال: والله ما أرى إلا الإقامة على هذا الماء والموت، ثم حط رحله عن راحلته وأسند ظهره إليه وطأطأ رأسه إلى الأرض وجمع أثوابه عليه، فإذا هاتف يهتف به من خلفه، يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو يقول:
يا أيها الشخص المضل مذهبه ... وليس معه من أنيس يصحيه
دونك هذا البكر خذه فاركبه ... حتى إذا الليل توارى مغربه
بساطع الصبح ولاح كوكبه ... فحط عنه رحله وسبسبه
قال القاضي: ويرويى تواري غيهبه، والغيهب الظلمة. فالتفت وراءه فإذا بكر معقول عليه رحل، فوثب حتى حل عقاله وصار في متنه، فوثب البكر من غير أن يثيره حتى استقام على الطريق يسير به كالبرق الخاطف وكالريح العاصف لا يلوي على شيءٍ ولا يفتر من السير، حتى إذا كان في وجه الصبح ونظر عبيد إلى بياض الحيرة برك البكر فلم يقم، فاستحثه فلم يقم، فقال: إنه لمأمور، وثنى رجله فنزل عنه وولى ناحية فثار البكر يجر بزمامه، فقال عبيد: بكر يسري في ليلةٍ واحدةٍ عشر مراحل لا أسأله ما أنت ولا من الذي أرسلك إلي؟! ثم أدار وجهه إليه وهو يقول:
يا أيها الكبر قد أنجيت من كربٍ ... ومن فيافٍ تضل المدلج الهادي
ألا أنبت لنا بالقول نعرفه ... من الذي جاد بالنعماء في الوادي
اذهب سليماً فقد بلغت مأمننا ... بوركت من ذي سنامٍ حامل حادي
قال: فأجابه البكر وهو يقول:
أنا الشجاع الذي ألفيته رمضاً ... ينازع الماء من ذي المورد الصادي
فجدت بالماء لما ضن حامله ... رويت هامي ولم تولع بإنكادي
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
قال القاضي ويرى: ما أوعبت في الزاد
هذا جزاؤك من لا أمن به ... فسر سليماً وقاك الله من هاد
فقال له الرشيد: أحسنت يا مفضل، يا ربيع أعطه عشرين ألفاً، عشرة آلاف لمعرفته بالمثل وأصله، وعشرة آلاف لحسن روايته له.
قال القاضي: في هذا الخبر نفقت الراحلة وإنما يقال نفق الفرس وتنبل البعير.
ابن الزبير بنشد معاوية ثلاثة أبيات حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قل حدثني أبو أحمد العباس قال أخبرنا عمر بن محمد بن حفص قال حدثنا عبد الله بن خبيق قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله قال قال معاوية لعبد الله بن الزبير: أنشدني ثلاثة أبيات غريبة، قال: أنشدكها بثلاثين ألفاً تدفعها إلي، قال: حتى تنشد فأسمع، قال: فأنا أقول وتسمع وأنت الحكم، فأنشده أبياتاً للأفوه الأودي:
بلوت الناس قرناً بعد قرنٍ ... فلم أر غير ختالٍ وقال
ولم أر في الخطوب أشد شراً ... وأضنى من معاداة الرجال

وذقت مرارة الأشياء طراً ... فما شيء أشد من السؤال
قال: فحكم له ودفع إليه ثلاثين ألفاً.

عمر معجب بمعاوية
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال حدثنا أبو موسى يعني تينة قال حدثنا العتبي قال حدثني أبي قال: خرج عمر يسير في عمله، فلما قرب من دمشق تلقاه معاوية في موكب له رز، وعمر على حمار إلى جنبه عبد الرحمن ابن عوف على حمار آخر، فلم يرهما معاوية وطواهما، فقيل له: خلفت أمير المؤمنين وراءك، فرجع فلما رآه نزل عن دابته فأعرض عنه عمر ومشى حتى علق نفسه بأرنبته، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، أجهدت الرجل، فقال عمر: يا معاوية أأنت صاحب الموكب آنفاً مع ما يبلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ فقال معاوية: نعم، فرفع عمر رضي الله عنه صوته فقال: ولم ويلك؟ فقال: إنا في بلاد لا يمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بدلهم مما يرهبهم من آلة السلطان، فإن أمرتني أقمت عليه وإني نهيتني عنه انتهيت، فقال عمر: يا معاوية والله ما بلغني عنك أمر أكرهه فأعاتبك عليه إلا تركنني منه في أضيق من رواجب الفرس، فإن كان ما قلت حقاً إنه لرأي أديب، وإن كان باطلاً إنها لخدعة أريب، لا آمرك به ولا أنهاك عنه، فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين لأحسن الفتى المصدر فيما أرودته فيه، فقال عمر رضى الله عنه: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه.
تولية المهلب خراسان
حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا أبو إسحاق الطلحي قال حدثنا أحمد ابن معاوية قال قال ابن الكوفي: لما قدم المهلب على الحجاج بعد فراغه من أمر الأزارقة وقتالهم، أكرمه الحجاج وشرفه وبلغ له الغاية، قال: فخرج الحجاج يوماً آخذاً بيد المهلب، حتى إذا انتهى إلى المحراب قالم ثم قال: يا أبا سعيد أنا أطول أم أنت؟ فقال: الأمير أطول مني وأنا أشخص منه، فلما انصرف من صلاته أخذ بيده فأدخله معه ثم قال له: سجسنان خير ولاية أم خراسان؟ قال: سجستان قال: وكيف؟ قال: لأنها ثغر كابل وزابلستان، وان خراسان ثغر الترك، قال أيهما أحب إليك أن يليه رجل مثلك؟ قال: إن أمثالي في الناس لكثير وما نحن حيث يرى الناس، قال: سر إلى سجستان، قال: غيري خير لك فيها مني وأنا بخراسان خير لك من غيري، قال: ولم؟ قال: لأن بدء نعمة الله علي بعد الإسلام كان في غزوتي خراسان مع الغفاري، وابن أبي بكرة بسجستان خير لك من لأن أهلها أحبوه لحسن أياديه فيهم وأنا بخراسان خير منه، قال: وما كنت تلي من أمر الغفاري؟ قال: كنت فيمن صحبه فلما نزلنا بيهق ودنونا من عدونا قال الغفاري: هل من فوارس ينظرون لنا أمامنا وإن أصابوا أحداً أتوا به، فانتدب منا مع صاحب شرطته عشرة فوارس فلقينا عدتنا من عدونا، فقال أصحابي: قد عاينا طلائع القوم فانصرفوا، فقلت: وما عليكم أن نشامهم؟ فأبوا وأنصرفوا وتقدمت فقتل الله العشرة على يدي، ثم انصرفت برؤوسهم ودوابهم وأسلابهم معي، وقد كان أصحابي نعوني إلى الغفاري، فلما رآني ضحك وقال:
كبا القوم عند عيان الرهان ... ونال المهلب حظ الفرس
ففاز المهلب بالمكرمات ... وآب عمير بحد التعس
ثم ولاني شرطته وخرج إلي من أمره. فولاه الحجاج خراسان، وكان واليها حتى هلك بها، فقال نهار بن توسعة يرثيه:
لله دركم غداة دفنتم ... سم العداة ونائلاً لا يحظر
إن تدفنوه فإن مثل بلائه ... في المسلمين وذكره لا يقبر
كان المدافع دون بيضة مصره ... والجابر العظم الذي لا يجبر
والكافي الثغر المخوف بحزمه ... وبيمن طائره الذي لا ينكر
أنى لها مثل المهلب بعده ... هيهات هيهات الجناب لأخضر
كل امرئ ولي الرعية بعده ... بدل لعمر أبيك منه أعور
ما ساسنا مثل المهلب سائس ... أعفى عن الذنب الذي لا يغفر
لا لا وأيمن في الحروب نقيبةً ... منه وأعدل في النهاب وأوقر
وأشد في حق العراق شكيمةً ... يخشى بوادرها الأمام الأكبر
جمع المروءة والسياسة التقى ... ومحاسن الأخرق منها أكثر
تجري له الطير الأيامن عمره ... ولو أنه خمسين عاماً يخطر

لما رأى الأمر العظيم وأنه ... سيحل بالمصرين أمر منكر
وأرنت العوذ المطافل حوله ... حذر السباء وزل عنها المئزر
ألقى القناع وسار نحو عصابةٍ ... خزرٍ فذاقوا الموت وهو مشمر
كان المهلب للعراق سكينة ... وولي حادثها الذي يستنكر

أبو الديك المعتوه
حدثنا حمزة بن الحسين بن عمر السمسار قال حدثنا العباس بن محمد بن عبد الرحيم الأنصاري قال حدثني أبي قال قال أبو نعيم: أرسل إلي عمران بن إسحاق بن الصباح، وكان كثيراً ما يرسل إلى الفقهاء، وكان أبوه قبله يفعل ذلك، قال: فأتيته فإذا أبو الديك وكان معتوهاً ذاهب العقل مختلاً محتالاً جيد البديهة حسن الجواب على باب عمران بن إسحاق يخاصم ويجلب يختلط ويشير إلى الحائط كأنه يرى شيئاً يخاصمه، وكان ذلك لا يعتريه إلا عند الجوع وكان قد عرف بذلك، وكان علية أهل الكوفة: فقهاؤها وأمراؤها، يأمرون بتفقد ذلك. فدخلت على عمران فلم أجلس حتى قلت له: أيها الأمير، أبو الديك على الباب يخاصم ويخلط ولا أحسبه إلا جائعاً، فإن ذلك يعتريه مع الجوع، فقال عمران: يا غلام، المائدة، بها مهيأة، ثم قال: أبو الديك، فدخل، فلما عاين المائدة ورأى حسنها قال، قال الله تعالى في كتابه يحكي مسألة نبيه " ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا " المائدة: 114 الآية؛ وهذه المائدة لأول أهل الكوفة وآخرهم، والآية معرفة أبي نعيم بما كنت فيه؛ قال أبو نعيم: ثم أقبل علي فقال: يا أبا نعيم هذه فطنة العقلاء وأذهان الفقهاء واختيار العلماء، جزاك الله خيراً. ثم أقبل على عمران فقال: أيها الأمير، قال الله تعالى في كتابه: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " الدهر: 8 وأنا مسكين، يتيم من عقلي، أسير في حبس شيطان موكل بي.
فتيان بني عبد مناف وفتيان بني أسد حدثنا محمد بن سهل بن الفضل الكاتب قال حدثنا أبو زيد يعني عمر ابن شبة قال حدثني الوليد بن هشام قال قال معاوية للحارث بن نوفل: أدخل علي فتيان بني عبد مناف، فأدخلهم كأن وجوههم الدنانير، فنظر إليهم فقال: بأبي أنتم:
بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم آباء صدقٍ فأنجبوا
هم حفظوا غيبي كما كنت حافظاً ... لهم غيب أخرى مثلها لو تغيبوا
فقال عبد الله بن الزبير: يا أمير المؤمنين ألا أدخل عليك فتيان بني أسد قال: فأدخلهم كأن وجوههم الحيات، فقال معاوية:
أكلن حمضاً فالوجوه شيب ... شربن حتى نزح القليب
أبو الدرداء ينظم شعرا
ً
حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني محمد بن إسحاق المسيبي قال: سمعت شيخاً يقال له عبد الملك بن عمارة من ولد خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين من الأنصار يحدث أبي أن أبا الدرداء قيل له كل أصحابك قد قال الشعر غيرك، فنكس أو أطرق قليلاً ثم قال:
يريد العبد أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول العبد فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا
فقالوا: لقد أحسنت فزد، فقال: لا، إنما قلت حين قلتم إن أصحابك كلهم قد قالوا، فكرهت أن يعملوا عملاً لا أعمله، وليس الشعر من شأني.
لا تملأوا أعينكم من أئمة الجور
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن علي بن الحسن الخواص العابد قال حدثنا الحسن بن جرير الصوري قال حدثنا محمد بن عمرو العسقلاني قال حدثنا إبراهيم بن أدهم عن أبي عيسى المروزي قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول في إمرة عبد الملك بن مروان: لا تملأوا أعينكم من أئمة الجور ولا من أعوانهم إلا بإنكار بقلوبكم كيلا تحبط أعمالكم الصالحة.
السفاح يعمل بيتين لتخويف بني أمية
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن فهم قال حدثنا ابن النطاح قال: روينا أن السفاح عمل بيتين ووجه برجل إلى عسكر مروان ليقوم على الجبل ليلاً فيصيح بهما وينغمس فلا يوجد، وهما:
يا آل مروان أن الله مهلككم ... ومبدل أمنكم خوفاً وتشريدا
لا عمر الله من أنسالكم أحداً ... وبثكم في بلاد الخوف تطريدا
قال: ففعل ذلك فدخلت قلوبهم مخافة.
وصية علي لشريح

حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري قال حدثنا موسى بن شبيب بشيزر عن يونس بن موسى البصري عن الحسن بن حماد عن الرماح بن المنذر النهدي عن محمد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه قال لشريح: لسانك عبدك مالم تتكلم، فإذا تكلمت فأنت عبده، فانظر ما تقضي وفيم تقضي وكيف تقضي وفيما تمضي وإليه تفضي.
قال القاضي: هذا الذي خاطب به أمير المؤمنين شريحاً من أحسن الكلام، وأشرفه لفظاً ومعنى ومتى تأمله من يلي الأحكام واعتبر به وأجرى أمره عليه فاز ورشد، وافلح وسعد، نسأل الله توفيقه وعصمته برأفته ورحمته.

المجلس الحادي والثمانون
أسئلة أبي ذر للرسول

حدثنا علي بن محمد بن أحمد البصري قال حدثنا الفضل بن جعفر بن همام أبو العباس البصري قال حدثنا عبد الله بن سعيد القيسي قال حدثنا يحيى بن سعيد السعدي قال حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير الليثي عن أبي ذر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهو جالس وحده، فاغتنمت خلوته، فقال يا أبا ذر إن للمسجد تحيةً، قلت: ما تحيته يا رسول الله؟ قال: ركعتان، فركعتهما ثم التفت إليه فقلت: يا رسول الله أنت أمرتني بالصلاة فما الصلاة؟ قال: خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء أكثر، قلت: يا رسول لله أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الإيمان بالله ثم الجهاد في سبيل الله، قلت يا رسول الله أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: أحسنهم خلقاً، قلت: يا رسول الله فأي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قلت فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر السوء، قلت: فأي الليل أفضل؟ قال: جوف الليل العابر، قلت: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قلت فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد من مقل إلى فقير في سر، قلت: فما الصوم؟ قال: قرض مجزي وعند الله أضعاف كثيرة، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها، قلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وهريق دمه، قلت: أي آية أنزلها الله عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي. ثم قال: يا أبا ذر، ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة؛ قلت: يا رسول الله، كم النبيون؟ قال: مائة ألف وأربعةٌ وعشرون ألف نبي، قلت: يا رسول الله، كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم الغفير، قلت: من كان أول الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً؟ قال: نعم نبياً مكلماً خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه. ثم قال: يا أبا ذر، أربعةٌ من الأنبياء، سريانيون: آدم وشيث وإدريس وهو أول من خط بالقلم ونوح، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الأنبياء آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى صلى الله عليهما، وبينهما ألف نبي، قلت: يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: مائة كتابٍ وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: أمثال كلها: أيها الملك المبتلى المغرور، لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً أن تكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه ويتفكر بما صنع، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عوناً لتلك الساعات استجماماً للقلوب وتفريغاً لها، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، فإن من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا في ما يعنيه. وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث: مرمة لمعاش، أو تزوداً لمعاد، أو تلذذاً في غير محرم. قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبراً كلها: عجبت لممن أيقن بالموت ثم يفرح، ولمن أيقن بالنار ثم يضحك، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها، ولمن أيقن بالقدر كيف ينصب، ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل. قلت: يا رسول الله، هل في الدنيا مما أنزل الله عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر، تقرأ " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى " الأعلى: 14 19 قلت: يا رسول الله، أوصني قال: أوصيك بتقوى الله فإنه زين لأمرك كله، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض، قلت: زدني، قال: عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك، قلت: زدني، قال: إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه، قلت: زدني، قال: قل الحق، وإن كان مراً، قلت؛ زدني، قال: حب المساكين وجالسهم، قلت: زدني، قال: لا تخف في الله لومة لائم، قلت: زدني، قال: ليحجزك عن الناس ما تعلم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8