كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا

هجوت بحيراً ثم إني مدحته ... كذاك بنو الأحرار تهجو وتمدح

كيف يفعل مع هذا الأنف
؟
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا عبد الله بن محمود، قال: رأيت قاضي القضاة يحيى بن أكثم بمكة وقد وقف يلاحظ حجاماً عليه أنف كأنه أزجٌ، فقلت له: أيها القاضي! ما هذا الوقوف، فقال لي: ذرني فإني أريد أنظر إلى هذا كيف يستوي له مص المحجمة مع هذا الأنف؟ وقد كان رجلٌ جالسٌ بين يدي الحجام ففطن به الحجام، فقال له: مالك قائم تنظر إلي؟ ليس ونور الله أضرب في قفا هذا بمعولي وأنت واقف، فتوارينا عنه فإذا هو يعطف أنفه بيده اليسرى ويمسك المحجمة بيده اليمنى ويمص بفيه، فقال يحيى: أما هكذا فنعم، قال عبد الله: وكان يحيى بن أكثم أعور.
شعر مكتوب على حائط
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري أبو بكر، حدثنا أبو علي العنزي الحسن بن عليل، قال: حدثنا علي بن الحسين الدرهمي، قال: كنا عند محمد بن عبيد الطنافسي، فقال: قرأت على حائطٍ بالحيرة منذ أربعين سنة:
إن البلية أن تحب ... ولا يحبك من تحبه
فيصد عنك بوجهه ... وتلح أنت فلا تغبه
أقلل زيارتك الصدي ... ق يراك كالثوب استجده
إن الصديق يمله ... إلا يزال يراك عنده
قال أبو بكر: هذا مما لا يعاب فيه الشاعر.
قال القاضي أبو الفرج: في هذا الشعر موضعان فيهما قوله " يراك " ، وذاك أن وجه الكلام يرك بالجزم، لأنه جواب الأمر، وهو قوله: أقلل، ولو أنشد يراك على من يقول هو يرآني كما قال الشاعر:
أري عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالمٌ بالترهات
لكان جيداً وزحافه جائزاً، وما " يزال " فإنه لم يحذف فيه الألف، على رده إلى الأصل في التقدير، وله نظائر في الكلام وقد قرأ بعض القراء في غير موضع من القرآن على هذه اللغة، وقد ذكرنا في بعض مجالس كتابنا من هذا الباب، وما أتى فيه من شواهد الشعر ما لا طائل في إعادته، وروينا هذا لأبياتٍ عمن ذكر أن الشافعي تمثل بها، وأما الوجه الآخر فإن منه ما قد جاء مثله، وهو من عيوب الشعر المعروفة ومنه ما لا يجوز البتة.
1 12 - /المجلس السادس والخمسون
فضل رسول الله وبني هاشم
أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن المنادي حدثنا أبو بكرٍ محمد بن أحمد بن أبي العوام الرياحي حدثنا بهلول بن المورق أبو غسان الشامي حدثنا موسى بن عبيد ة حدثني عمرو بن عبد الله بن نوفل من بني عدي بن سعد الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: قلبتُ الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل منك يا محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم.
قال القاضي أبو الفرج: فالحمد لله الذي فضل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، وفضل بني أبيه على سائر بني الآباء، وجعلنا من أمته التي هي خير أمةٍ أخرجت للناس وهدانا لتصديقه والإيمان به، ووفقنا لاتباعه، وأباننا ممن عانده وجحده، وبغى عليه وحسده، وعصمنا من أن ننفس على رهطه وأسرته وأقربيه وعترته، بما آتاهم الله من فضله وكرامته، وحباهم به من شريف نعمته، وذلك بحسن توفيقه وجميل عصمته، وفضلناب على كثير من أنسبائه الراصدين لمحاربته، والجادين في مخالفته، فقد هلك كثير منهم بمشاقته؛ ألا تسمعون إلى ما أنزل الله في أبي لهب وإن كان أحد الهاشميين، وإلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو من العجم الاجنبيين إذ قال: سلمان منا أهل البيت؛ وقال الله تعالى: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " آل عمران:86 " .
نجا إبراهيم بن عبد الله بحيلة عجيبة

حدثنا أحمد بن أبي العلاء الأضاحي المعروف بحرمي قال حدثنا عبد الله يعني ابن شبيب قال أخبرني جعفر بن محمد قال حدثني إبراهيم بن رياح قال أخبرني محمد بن حيان أبو عبد الله الحراني قال: كان إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن قد صار إلى مدينة الموصل في تواريه، وصح ذلك عند أبي جعفر فكتب إلى الوالي هناك يعلمه أنه قد صح عنده أبن إبراهيم في مدينة الموصل، ويأمره إذا ورد عليه كتابه أن يتحفظ في بقية يومه فإذا هو أمسى غلقت أبواب المدينة فلم يخرج منها أحد ولم يدخل، ثم استقبل التفتيش لغد فإنك ستجده. وكان مع إبراهيم يومئذ من أهل الجزيرة ومن الزيدية قوم لهم بصائر وأموال وغناء عناية به، وكانت لهم عيون قد أذكوها على السلطان، فبلغهم خبر الكتاب وما عزم عليه الوالي فاشتروا بغلين وحذفوهما كما يعمل ببغال البريد، عملت لهما لجم وأداة على حسب ما يعمل بدواب البريد، وخرج أحدهم إلى بعض القرى التي تقرب من الموصل، فلما كان وقت العشاء الآخرة وأغلقت الأبواب ركب إبراهيم بن عبد الله أحد البغلين، وركب الآخر رجل بتشبه با لفرانق، وخرج الرجل على البغل يصيح كما يصيح الفرانق، ومعه خريطة، واتبعه إبراهيم حتى إذا صار إلى الباب صاح ففتح له الباب على أنه من قبل الوالي ثم مضيا فانتهيا إلى الرجل ومضيا. وصح الخبر على هذه الحكاية عند المنصور فكثر منه تعجبه واشتد عليه تأسفه.

وصية حكيم لابنه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال، قال بعض الحكماء لابنه: يا بني أقبل عهدي ووصيتي: إن سرعة ائتلاف قلوب الأبرار حين يلتقون كسرعة اختلاط قطر المطر بماء الأنهار، وبعد الفجار من الائتلاف وإن طال تعاشرهم كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على آري واحد. كن يا بني بصالح الوزراء أعنى منك بكثرة عددهم، فإن اللؤلؤة خفيف محملها كثير ثمنها، والحجر فادح حمله قليل غناؤه عنك.
علي يرسل إلى معاوية في أمر البيعة
حجثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن يحيى قال حدثني عمران عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عون قال: بلغني أن جرير بن عبد الله البجلي قال: بعثني علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان يأمره أن يبايع هو ومن قبله؛ قال: فخرجت لا أرى أحداً سبقني إليه، حتى قدمت على معاوية، فإذا هو يخطب الناس وهم حوله يبكون حول قميص عثمان رضي الله عنه وهو معلق في رمح، فدفعت إليه كتاب علي، ومثل رجل إلى جنبي كان يسير بمسيري ويقيم بمقامي لا أشعر به، فقال لمعاوية:
إن بني عمك عبد المطلب ... هم قتلوا شيخكم غير كذب
وأنت أولى الناس بالوثب فثب ... واغضب معاوي للإله وارتقب
بادر بخيل الأمة الغاب النشب ... بجمع أهل الشام ترشد وتصب
وسر مسير المحزئل المتلئب ... وهزهز الصعدة للشأس الشغب
قال: ثم دفع إليه كتاباً من الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه، فإذا فيه:
معاويَ إنّ الملك قد جُبَّ غاربُهْ ... وأنت بما في كفَّكّ اليومَ صاحبُهْ
أتاك كتابٌ من علّيٍ بِخَصْلةٍ ... هي الفصلُ فاخترْ سَلْمَهُ أَو تحاربُهُ
وإن كنتَ تنوي أن تجيبَ كتابهُ ... فقبحَ ممليهِ وقبحَ كاتبهْ
وإن كنت تنوي ترك رجع جوابه ... فأنت بأمرٍ لا محالةً راكبهْ
فألق إلى الحي اليمانين كلمةً ... تنالُ بها الأمر الذي أنت طالبهْ
تقولُ أمير المؤمنين أصابه ... عدو ومالا هم عليه أقاربه
وكنت أميراً قبلُ بالشام فيكمُ ... وحسبي من الحق الذي هو اجبهْ
يجيبوا ومن أرسى ثبيراً مكانه ... تدافع بحر لا ترد غواربه
فأكثر أو أقلل مالها الدهر صاحب ... سواك فصرح لست ممن تواربه
قال، فقال: أقم فإن الناس قد نفروا عنه لمقتل عثمان حتى يسكنوا؛ قال: فأقمتُ أربعة أشهرٍ، ثم جاءه كتابٌ آخر من الوليد بن عقبة فيه:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فإنك من أخي ثقةٍ مُليمُ

قطعتَ الدهرَ كالسَّدِمِ المعَّنى ... تُهَدَّرُ في دمشقَ وما تَريم
فإنك والكتابَ إلى عليًّ ... كدابغةٍ وقد حَلَمَ الأديمُ
فلو كنتَ القتيلَ وكان حيّاً ... لَشَمَّرَ لا أَلفُّ ولا سؤومُ
فلما جاءه كتابه وصل ما بين طومارين ثمَّ طواهما أبيضين وكتب عنوانهما: من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، ودفعهما إليَّ وبعث معي رجلاً من عبسٍ ولا أدري ما مع العبسي؛ قال: فخرجنا حتى قدمنا الكوفة، فاجتمع الناسُ إلى علي في المسجد ولا يشكون أنها بيعةُ أهل الشام، فلما فتح الكتاب لم يوجد فيه بشيء، وقام العبسي فقال: من هاهنا من أفناء قيس؟ إني أخص من قيسٍ غطفان وأخص من غطفان عبساً ، وإني أحلفُ بالله لقد تركتُ تحت قميص عثمان رضي الله عنه أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبين لحاهم بدموع أعينهم، متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته، وإني أحلف بالله ليقتحمنها عليكم ابنُ أبي سفيان بأكثر من أربعة آلاف من خصيان الخيل فما ظنكم بعد بما فيها من الفحول؟ فقال له قيس بن سعدٍ: يا أخا عبسٍ لا نبالي بخصيان خيلك ولا ببكاء كهولك، ولا يكون بكاؤهم بكاء يعقوب على يوسف. ثم دفع العبسي كتاباً من معاوية فيه:
أتاني أمر فيه للناس غمة ... وفيهب اجتداع للأنوفٍ أصيلً
مصاب أمير المؤمنين وهدة ... تكادُ لها صمُّ الجبالٍ تزولُ
فلّله عينا من رأى مثلَ هالكٍ ... أُصيبَ بلا ذنبٍ وذاك جليلُ
دعاهم فَضَمُّوا عنه عند دعائه ... وذاك على ما في النفوسِ دليل
ندمتُ على ما كان من تَبَع الهوى ... وحسبيَ منه حسرةُ وعويلُ
سأنعَى أَبا عمروٍ بكلَّ مهنَّدٍ ... وبيضٍ لها في الدَّارعين صليلُ
فأَمَّا التي فيها المودةُ بيننا ... فليس إليها ما حييتُ سبيلُ
سأُلْقحُها حرباً عَواناً مُلِحَّةً ... وإني بها من عامها لكفيلُ
قال: فأمر علي عليه السلام قيس بن سعد أن يجيبه عن كتابه، فكتب إليه قيس:
معاوي لا تعجلْ علينا معاويا ... فقد هجتَ بالرّأي السفيهِ الأفاعيا
وحرّكتَ منا كلَّ شيءٍ كرهته ... وأبقيتَ حَزَّاتِ النفوسِ كما هيا
بعثتَ بقرطاسين صفْرين ضَلَّةَ ... إلى خير من يمشي بنعلٍ وحافيا
مضى أبو بَقى بعد النبيّ محمدٍ ... عليه سلامُ الله عَوْداً وبادياً
أَلا ليت شعري والأمانُّي ضلَّةٌ ... على أيِّ ما تنوي أردتَ الأمانيا
أّلا ليت شعري والأمانُّي ضلَّةٌ ... على أيِّ ما تنوي أردتَ الأمانيا
على أن فينا للموارب مطمعاً ... وإنك متروكٌ بشامك عاصيا
أبى الله إلا أنّ ذا غير كائن ... فَدَعْ عنك ما مَنَّتْك نفسُكَ خاليا
وأكثرْ وأقللُ إنّ شامَكَ شحمةٌ ... تَعَجَّلها طاهٍ يبادِرُ شاويا
من العام أو من قابلٍ كلُ كائنٍ ... قريبٌ، وأبْعدْ بالذي ليس جائيا
؟شروح وتعليقات قال القاضي أبو الفرج قوله: الغابُ النشب؛ الغابُ جمع غابةٍ وهي الغيضة، والنشب المشتبك الذي قد انتشب، يقال: قد نشبت الخصومةُ بين فلانٍ وفلانٍ، ويروى الأشب ، وأراه أصح في الرواية، وهو الاختلاط، والأشابة: الأخلاط؛ قال الشاعر:
أولئك قومي لم يكونوا أشابةً ... وهل يعظ الضليلَ إلا أولئكا
وقوله: المحزئل المتلئب: المحزئل: المنحاز الناهض المجتمع، قال الشاعر:
واستطربت ظعنهم لما احزأل بهم ... مع الضحى ناشط من داعيات
والمتلئب: المستقيم المستتب، وقوله: وهزهز الصعدة يعني هز القناة، واستثقل الإدغام فأظهر التضعيف وكرر كما قالوا قد كركر كلامه وكمكم قال الله تعالى : " فكبكبوا فيها " الشعراء: 94 أي كبوا. وهذا كثيرٌ في العربية جداً . والشأس: الشديدُ المستصعب الشرس. وقول قيس بن سعدٍ في شعره مضى أو بقى يقال: إن بقى ولقى بمعنى بقي ولقي لغة طيء ، قال الشاعر:

لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى ... على الأرض قيسي يسوقُ الأباعرا
وقال آخر:
حتى لقى الله على بغيه ... والله من ذي البغي قد ينصف
وقد ذكر عن الحسن أنه قرأ: " ولا أدراكم به " يونس: 16 بمعنى أدريتكم، فحمله بعضهم على هذه اللغة. وطيء تنحو هذا النحوَ في الأسماء فتقول في جارية: جاراة، ويقولون في ناصية: ناصاه، كما قال الشاعر:
ألا آذنت أهل اليمامة طيء ... بحربٍ كناصاة الأغر المشقر
وقد زعم بعضُ المحققين في علل النحو واللغة في قولهم أبى يأبى من هذه اللغة، وذاك أنه أنكر أن يكون في العربية فعل يفعل مما ليست عينه ولا لامه من حروف الحلق، وأن سيبويه لم يحك غير هذه الكلمة، وإن كان غيره قد حكى في هذا الباب حروفاً عدةً. وزعم من حكينا قوله أن أصل يابى يأبى ثم استعمل على هذه اللغة، ومن الفاشي في رواية الكوفيين قلى يقلى وقد حكي قلي يقلى والأفصح قلى يقلي.

أبو الأسود يعوذ من جماله
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أبو الهيثم الغنوي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي عن أبي مهدية قال أخبرني أبو عفير الدؤلي وكان شاعراً قال: كنت عند عبد الملك بن مروان إذ دخل أبو الأسود الدؤلي وكان أحول دميماً قبيح المنظر، فقال له عبد الملك يمازحه: يا أبا الأسود لو علقت عليك عوذة تدفع عنك العين، فقال: إن لك جواباً يا أمير المؤمنين، وأنشد:
أفنى الجديد الذي فارقتُ جدتهُ ... كرُّ الجديدين من آتٍ ومنطلق
لم يتركا ليَ في طولِ اختلافهما ... شيئاً يخافُ عليه لذعةُ الحدق
أما والله لئن كانت أبلتني السنون، وأسرعتْ إلي المنون، لما أبلت ذلك إلا في موضعه، ولرب يوم كنتُ فيه إلى الآنسات البيض أشهى منك إليهن في يومك هذا على عجبك بنفسك، وإني اليوم لكما قال امرؤ القيس:
أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
ولقد كنت كما قال أيضاً:
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
قال له عبد الملك: قاتلك الله من شيخٍ ما أعظم همتك.
؟شرح قال القاضي أبو الفرج: العيط: جمع عيطاء، وهي الناقة الطويلة العنق والأعيس: فحل أبيض تعلوه شقرة؛ ومن العيط قول ذي الرمة:
وعيطٍ كأسراب الحدوج تشوفت ... معاصيرها والعاتقات العوانس
؟؟
يحرض على بيعة القاسم بن الرشيد
حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني عمر بن محمد بن حمزة الكوفي قال حدثني سليمان بن سعد قال حدثني إسماعيل بن صالح بن علي بن عبد الله، وكان انقطاعه إلى الرشيد، قال: دخلتُ على الرشيد وقد عهد إلى محمد والمأمون في من يهنئه من ولد صالح بن علي، فأنشأت أقول:
يا أيها الملك الذي ... لو كان نجماً كان سعدا
اعقد لقاسم بيعة ... واقدح له في الملك زندا
الله فرد واحد ... فاجعل ولاة العهد فردا
قال: فاستضحك هارون، وبعثت إلي أم جعفر: كيف تحبنا وأنت شآم؟ وبعثت إلي أم المأمون: كيف تحبنا وأنت أخو عبد الملك بن صالح؟ وبعثت إلي أم القاسم بعشرة آلاف درهم، فاشتريت بها ضيعتي بأرتاح.
يحيى بن أكثم وقاعة في الناس
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني يعقوب بن بنان الكاتب قال حدثني علي بن يحيى قال: كان يحيى بن أكثم وقاعة في الناس وكان شريراً، وكان يغري المأمون بالناس ويقع فيهم عنده، وكان يثني على عمرو بن مسعدة ويقرظه عنده، ولا يزال يذكر فراهته ونصيحته وحسن صناعته؛ فبلغ ذلك عمراً فدخل على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن يحيى بن أكثم يثني علي عندك، وأنا أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن تريه أنك قبلت شيئاً من قوله في، فإنه إنما قدم الثناء علي لوقيعةٍ يريد أن يوقعها بي لديك لتصدقه فيما يقول، قال: فضحك المأمون منه وقال: قد أمنت من ذلك فلا تخفه مني.
كيف يسمي يحيى بن أكثم الثقلاء

حدثنا محمد بن السحن بن زياد المقري قال أخبرنا أحمد بن يحيى ثعلب قال أخبرنا أبو العالية الشامي مؤدب ولد المأمون قال، قال المأمون ذات يوم ليحيى بن أكثم القاضي: أريد منك أن تسمي لي ثقلاء أهل عسكري وحاشيتي، فقال له: يا أمير المؤمنين اعفني فإني لست أذكر أحداً منهم وهم لي على ما تعلم، فكيف إن جرى مثل هذا؟ قال له: فإن كنت لا تفعل فاضطجع حتى أفتل لك مخراقاً دبيقياً وأضربك به وأسمي مع كل ضربة رجلاً، فإن كان ثقيلاً تأوهت، وإن يك غير ذلك سكت، فأكون أنا على معرفة منهم ويقين من ثقلائهم. فاضطجع له يحيى وقال: أرأيت قاضي قضاة وأميراً ووزيراً يعمل به مثل ذا؟ فلف له مخراقاً دبيقياً وضربه به ضربة وذكر له رجلاً ثقيلاً فصاح يحيى: آه آه يا أمير المؤمنين في المخراق آجرة، فضحك المأمون منه حتى كاد يغشى عليه وأعفاه من الباقين.
من أكرم الناس أباً وأماً وجدة و
حدثنا الحسن بن علي بن المرزبان النحوي قال: أخبرنا عبد الله بن هارون النحوي قال أخبرنا الحسن بن علي قال أخبرنا أبو عثمان قال: سمعت أبا الحسن المدائني يقول، قال معاوية وعنده عمرو بن العاص وجماعة من الأشراف: من أكرم الناس أباً وأماً وجداً وجدةً وخالاً وخالةً وعماص وعمةً؟ فقام النعمان بن العجلان الزرقي فأخذ بيد الحسن عليه السلام فقال: هذا، أبوه علي، وأمه فاطمة، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدته خديجة، وعمه جعفر، وعمته أم هانئ بنت أبي طالبٍ، وخاله القاسم، وخالته زينب. فقال عمرو بن العاص: فحب بني هاشمٍ دعاك إلى ما عملت؟ فقال ابن العجلان: يا ابن العاص أما علمت أنه من التمس رضى مخلوقٍ بسخط الخالق حرمه الله تعالى أمنيته وختم له بالشقاء في آخر عمره؟ بنو هاشم أنضر قريشٍ عوداً، وأقعدها سلفاً، وأفضل أحلاماً.

يشتم عمر بن ذر
حدثنا محمد بن أحمد بن هارون العسكري قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن عبد الحميد قال حدثني رجل قال: جاء رجل إلى عمر بن ذرٍ وهو في مجلسه فشتمه، فلما سكت أقبل عمر على أصحابه فقال: ما علم الله فستر، أكثرُ مما قال هذا وأظهر.
حين عفا المنصور عن أهل الشام
حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن خلف السكري قال حدثنا أبو يعلى زكرياء بن يحيى بن خلاد المنقري البصري الصيرفي قال حدثنا الأصمعي عمن أخبره أن أبا جعفر المنصور حين عفا عن أهل الشام قال له رجل: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضل قد جاوز حد المنصف، فنحن نعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين وأن لا يرتفع إلى أعلى الدرجتين.
ابن الرومي يجود بنفسه
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: رأيت علي بن العباس بن جريج الرومي يجود بنفسه فقلت له: ما حالك؟ فأنشد:
غلطَ الطبيبُ عليَّ مُوردٍ ... عجزتْ مواردُهُ عن الإصدارِ
والناسُ يَلْحَوْنَ الطبيبَ وإنما ... غَلَطُ الطبيبِ إصابةُ المقدارِ
في من صرف عن عمله
قال القاضي أبو الفرج: جرت بيني وبين بعض إخواننا من أهل الأدب مذاكرة جرى فيها قطعة مما مدح به من صرف عن عمل كان يتولاه، وما روي عن بعض أهل الأدب أنه قال: شيعوا المعزول واستقبلوا الوالي؛ وذكرتُ ما في هذا من الحكمة وإرهاص المنزلة والاحتراس من الظنة وإيثار حسن المحالفة وتمكين المودة، فأنشدني هذا الأخ أبياتاً ذكر أنها لجعيفران في إبراهيم بن المدبر وقد عزل عن البصرة، ثم أخبرني صديقنا أبو الحسن بن حوزان أنه وجدها في شعر سوار بن أبي شراعة وأن الأخفش أنشده إياها لسوار أيضاً وهي هذه:
يا أبا إسحاقَ سِرْ في دعةٍ ... وامضِ مصحوباً فما منكَ خَلَفْ
ليت شعري أيَّ أرضٍ أجدبت ... فأغيثتْ بك من هذا العجفْ
نزل الرحمُ من الله لهم ... وَحُرمْناكَ لذنبٍ قد سلف
إنّما أنت ربيعٌ باكرٌ ... حيث ما صرَّفَهُ الله انصرف
الأحنف يتستر على معاوية

حدثنا محمد بن سهل بن الفضل الكاتب قال حدثنا أبو زيدٍ يعني عمر بن شبة قال: حدثت أن الأحنف بن قيسٍ كان عند معاوية وليس عنده غيره، فغنت جارية من جواري معاوية في جانب الدار، فأقبل على الأحنف فقال: يا أبا بحرٍ لا ترم حتى أعود إليك، إني لأطلب خلوة هذه الجارية فلا أكاد أقدر على ذلك، ثم قام في أثرها فكأنما كانت لابنة قرظة امرأة معاوية عين على معاوية، فأقبلت به فلبيته، فقلت لها: أكرمي أسراكم فقالت: اسكت يا قواد.

وصية المهلب لابنه يزيد
حدثنا عبد الله بن أحمد المعروف بابن النحوى قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال وحدثني محمد بن الحسن الأحول قال حدثنا المدائني قال: أوصى المهلب ابنه يزيد فقال: إياك يا بني والسرعة عند مسألةٍ بنعم، فإن أولها سهل وآخرها ثقيل في فعلها، واعمل أن لا وإن قبحت فربما روحت، فإن كنت من أمرٍ تسأله على ثقة فأطمع ولا توجب، ثم افعل، وإن علمت أن لا سبيل إليه، فاعتذر، فإنه من لا يعتذر بالعذر فنفسه ظلم.
ما بين نعم ولا
قال أبو عبد الله وأنشدنا ثعلب قال، أنشدني ابن الأعرابي:
لا تتبعن نعم لا طائعاً أبداً ... فإن لا أفسدت من بعدها نعم
إن قلت يوماً نعم بدءاً فتم بها ... فإن إمضاءها صنف من الكرم
قال القاضي رحمه الله: قد أنشدنا هذين البيتين جماعة من شيوخنا عن ثعلب عن ابن الأعرابي، قال وأنشدنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش لرجل من طيءٍ هذه الأبيات:
والله والله لولا أنني فرق ... من الأمير لعاتبت ابن نبراس
في موعدٍ قاله لي ثم أخلفني ... غداً غداً ضرب أخماس لأسداس
حتى إذا نحن ألجانا مواعده ... إلى الطبيعة في حفز وإبساس
أجلت مخيلته عن لا فقلت له ... لو ما بدأت بها ما كان من باس
وليس يرجع في لا بعدما سلفت ... منه نعم طائعاً حر من الناس
قال القاضي أبو الفرج: وقد روينا في جهات نعم ولا أشياء كثيرة من ملح الأخبار ولطيف الأشعار ومن فنون الآداب الغريبة وفوائد العلم النبيهة مما يطول ولا يتسع مجلس من مجالس كتابنا له، ولكنا نذكر فيما هاهنا طرفاً منه وفيما نستأنفه من مجالسنا هذه ما نعثر أولاً أولاً عليه.
وحضرني في باب نعم ولا شيء كنت نظمته وهو:
لا في مقدمة اللأواء مؤذنة ... بالجحد والنفي والحرمان والعدم
وقد رأينا نعم في أصل بنيتها ... صيغت مناسبة النعماء والنعم
ومما أنشدوناه في ذم لا قول الذي قال:
قبحت لا فإنها ... خلقت خلقة الجلم
تذهب العرف والجمي؟ ... ل وتأتي على الكرم
؟اللغات في نعم وفي نعم لغتان مشهورتان ولغة شاذة، فأشهر المشهورتين منهما نعم بفتح العين، وعليها قراءة الجمهور من أهل الحجار والشام والعراقيين؛ وقرأ باللغة الثانية عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما روي عنه وهي نعم، بكسر العين، وهي قراءة أبي وائل شقيق بن سلمة، واختارها الكسائي فقرأ بها في القرآن كله كقوله " قال نعم وإنكم لمن المقربين " الأعراف: 114و " قال نعم وإنكم إذن لمن المقربين " الشعراء:42 واللغة الشاذة نعام وبالقراءة الأولى نقرأ لاستفاضتها في الخاصة والعامة لغة وتلاوة. وقد ذكر عن أبي وائل أنه كان إذا سمع قارئاً يقرأ نعم بالفتح قال له: نعم وشاء، يعني إبلاً وغنماً؛ كما قال زهير.
فيوم منك خير من أناس ... كثيرٍ حولهم نعم وشاء
ويقال للإبل والبقر والغنم نعم وأنعام. وقال بعض أهل اللغة يقال للإبل على انفرادها نعم، ولا يقال ذلك للبقر والغنم إلا إذ كانت مع الإبل.
وأما الأنعام فيستوي كل نوع من ذلك في التسمية به نعم، قال ذلك الأصمعي. وقال بعضهم أنا عيم لجماعة الإبل، يقال: نعم ثم أنعام ثم أنا عيم قال ذو الرمة:
دانى له القيدُ في ديمومةٍ قذفٍ ... قينيه وانحسرتْ عنه الأناعيمُ
؟نعم ولا فيما يتصل بالفقه

ومما في نعم ولا مما يتصل بعلم الفقه قول الرجل للآخر: اعطني سرج بغلي هذا أو لجام دابتي هذه فقال: نعم أولا، ولم يصله بأعطيكه، فإن شيخنا أبا جعفر ذهب إلى أن هذا إقرار منه بالسرج واللجام. وحكي هذا عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، واحتج بأن قوله نعم إنعام بالفعل، لا إباء له، وهذا عندي كما قال. وحكي عن أبي ثور أنه قال: قوله نعم إقرار وقوله لا ليس بإقرار، وبين فساد قوله بنحو ما قدما بيانه.
؟؟

المجلس السابع والخمسون
رسول الله يعرض نفسه على القبائل
أخبرنا المعافى بن زكرياء قال أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المعروف بحرمي الأضاحي قال حدثنا عبد الله بن شبيبٍ قال حدثني إسماعيل بن مهران قال حدثني أحمد بن محمد بن أبي نصرٍ عن أبان بن عثمان عن ابان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكرٍ، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر وكان رجلاً نسابة فسلم فردوا السلام فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: من هامتها أو من لهازمها، قالوا: بل من هامتها العظمى قال: وأي هامتها العظمى؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال: فمنكم عوف الذي كان يقال: لا حر بوادي عوفٍ؟ قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام أبو اللواء ومنتهى الاحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم حسان بن ربيعة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أصهار الملوك من لخمٍ؟ قالوا: لا، قال: فلستم أنتم ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دعفل حين بقل وجهه، فقال:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا إنك قد سألتنا فلم نكتمك شيئاً، فممن الرجل؟ قال: من قريش، قال: بخٍ بخٍ أهل الشرف والرئاسة، فمن أي قريشٍ أنت؟ قال: من بني تيم بن مرة، قال: أمكنت والله الرامي من صفا الثغرة، فمنكم قصي بن كلاب الذي جمع الله به القبائل من فهرٍ فكان يدعى مجمعاً؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كأن وجهه قمر يضيء ليلة الظلام الداجي؟ قال: لا، قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الندوة؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، قال: فاجتذب أبنو بكرٍ رضي الله عنه زمام ناقته فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال دغفل:
صادف درء السيل درءاً يدفعه ... يهضبه يرفعه أو يصدعه

وايم الله لو بثت لأخبرتك أنك من زمعات قريش أو ما أنا بدغفل . قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال علي فقلت: يا أبا بكرٍ وقعت من الأعرابي على باقعةٍ، قال: أجل. إن فوق كل ذي طامةٍ طامةً والبلاء موكل بالمنطق. قال علي عليه السلام: ثم دفعنا إلى مجلسٍ آخر عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر، فسلم، فردوا عليه السلام، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليس بعد هؤلاء عز في قومٍ. وكان في القوم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن يزيد. وكان مفروق بن عمروٍ قد علاهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته، وكان أدنى القوم إلى أبي بكر فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال: إنا لنزيد على ألفٍ ولن نغلب عن قلة، قال: فكيف المنعة فيكم؟ قال: علينا الجهد ولكل قوم حد، قال: فكيف الحربُ بينكم وبين عدوكم؟ قال: إنا أشد ما نكون غضباً حين نلقى وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا نؤثر جيادنا على أولادنا، والسلاح على اللقاح، النصر من عند الله تعالى يديلنا لنا وعلينا، لعلك أخو قريش؟ قال: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هوذا في الرحل، قال: قد بلغنا أنه يقول ذلك. قالوا: فإلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهروا على أمر الله وكذبوا رسله، واستغنوا بالباطل عن الحق، وهو الله الغني الحميد، قال فإلى ما تدعو أيضاً؟ قال:( فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً " إلى قوله: " ذلكم وصاكم به " " الأنعام:151 " قالوا: وإلى ما تدعو أيضاص؟ قال: فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي " النحل: 90 الآية. فقال مفروق بن عمروٍ: دعوت والله إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق ولقد أفك قوم ظاهروا عليك وكذبوك. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال وهذا هانئ بن قبيضة، وهو شيخنا وصاحب حبنا، فتكلم هانئ بن قبيصة فقال: يا أخا قريش قد سمعتُ مقالتك، وإن لنرى تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته منا لم ننظر في أمرك ولم نتثبت في عاقبة ما تدعو إليه ولها في الرأي وإعجالاً في النظر، والولة يكون مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن تعقد عليهم عقداً، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا شيخنا وكبيرنا وصاحب حربنا، فتكلم المثنى فقال: يا أخا قريش قد سمعت مقالتك، فأما الجواب فهو جواب هانئ بن قبيصة، وأما أن نؤويك وننصرك فإنا نزلنا بين صيرين: اليمامة السمامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما هذان الصيران؟ فقال: مياه العرب وأنهار كسرى، فأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وأما ما يلي أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، ولسنا نأمن أن يكون هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما يكره الملوك، فإن أحببت أن تؤويك مما يلي مياه العرب آويناك ونصرناك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، وليس يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يمنحكم الله عز وجل أموالهم ويفرشكم نساءهم يورثكم ديارهم، أتسبحون الله تعالى وتقدسونه؟ فقال النعمان: هذا لك، فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً " البقرة: 119 " وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً " الأحزاب: 46 ووثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي وقال: يا علي، أي أحلامٍ في الجاهلية بها يكف الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون في هذه الدنيا؟!

تعليقات على الخبر
قال القاضي أبو الفرج: قول أبي بكرٍ رضي الله عنه: من لهازمها، اللهازم: نواحي العنق وجوانبه، قال الراجز:
يا خاز باز أرسل اللهازما

وقوله: من صفا الثغرة: الصفا الحجر الأملس ومنه " إن الصفا والمروة " البقرة: 158 قال جرير:
هبت شمالاً فذكرى ما ذكرتكم ... إلى الصفاة التي شرقي حورانا
وقال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث صخرة ... بصفا المشقر كل يومٍ تقرع
ويروى بقفا المشقر، ويروى المشرق؛ وذكرت أبياتاً عن لي في بعضها ذكر الصفا وقرعها وهي:
حلفت يميناً برةً وشفعتها ... فهل أنت مني باليمينين قانع
فما نازعت نفسي إلى ما كرهته ... ولا خلتها يوماً إليه تنازع
ولا حل من قلبي هواك محلة ... من الناس ممن أصطفي وأشايع
لقد قرع الواشي بأهون سعيه ... صفاة قديماً أخطأتها القوارع
فأزعجني في ضعفه وهو ساكن ... وشرد عن عيني الكرى وهو هاجع
وأما الثغرة فهي اللبة، قال عنترة:
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم
وروي ثغرة وجهه. وقال ثابت: الثغرة: الهزمة التي بين الترقوتين. وقوله: الهضبة: الدفعة من المطر تجمع هضباً، قال ذو الرمة:
فبات يشئزه ثأد ويسهره ... تذوب الريح والوسواس والهضب
وأما قول هاني بن قبيصة: وله في الراي الوله: الحيرة القلق، ولعله قال: وهل، فمن ها هنا اشتبه. والوهل: الخطأ والغلط والزلل.
وأما قول المثنى بن حارثة: فإنا نزلنا بين صيرين فإن الصير: الجانب والناحية والحد. قال زهير:
وقد كنتُ من سلمى سنين ثمانياً ... على صير أمرٍ ما يمر ولا يحلو
؟شاهك يا أبا مسلم حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال حدثني رجل من أهل خراسان عن أبيه قال: كنت أطلب العلم فر آتي موضعاً إلا وجدت أبا مسلمٍ قد سبقني إليه، فألفني فدعاني إلى منزله، ودعا بما حضر فأكلت، ثم قال: كيف لعبك بالشطرنج؟ فقلت: إني لاعب بها، فدعا بشطرنجه، فتناولت السواد فوضعته بين يدي، فتناولها من بين يدي وأعطاني البياض، فأشفت شاهه على القتل، فداخله أمر عظيم، فاغتممت له، ثم قال لي: العب فقد فرج الله ، فخلص شاهه وجعل يقول:
ذروني ذروني ما قدرت فإنني ... متى ما أهج حرباً تضق بكم أرضي
وأبعث في سود الحديد إليكم ... كتائب سوداً طالما انتظرت نهضي
قال: فكنت ألاعبه ويلهو بهذين البيتين حتى بلغني خروجه.
وجوه الأعراب في وأبعث
قال القاضي أبو الفرج وأبعث فيه من جهة الأعراب ثلاثة أوجه: الجزم على العطف إلا أنه لا يستعمل في هذا الموضع لإقامة وزن البيت، والرفع على الاستئناف، والنصب بإضمار أن والتقدير: يكون مني هيج فأبعث، فلا يعطف أبعث على هيج لأن هيج مصدر وأبعث فعل فتقدر أن إذ هي والفعل مصدر، فيصح حينئذ عطف الثاني على الأول لأنه عطف اسمٍ على اسمٍ، ويسمي الكوفيون هذا الوجه الصرف لأنه صرف عن الجزم؛ وقد جاء هذا كثيراً في القرآن والشعر؛ قال الله تعالى: " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " محمد: 7 فجزم الثاني على العطف. قال تعالى: " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " البقرة: 284 فقرىء فيغفر ويعذب جزماً ورفعاً ونصباً، وقرأ القرأة: " أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير، ويعلم الذين " الشورى: 34،35 بالرفع والنصب في يعلم. وقرىء: " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " آل عمران:142 على النصب والجزم. وقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالنصب إذ أريد به النهي عن الجمع بينهما دون الإفراد، وإن أريد النهي عن كل واحدٍ منهما فالجزم هو الكلام. وقد أتى كثير من هذا في الشعر، قال الشاعر:
فإن لم أصدق ظنكم بتيقن ... فلا سقت الأوصال مني الرواعد
ويعلم أكفائي من الناس أنني ... أنا الحافظ الحامي الذمار المداود
وقال الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلومٍ مجراً ومسحباً
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
وقال النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام

ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
ويروى بذناب دهر. الجزم في نمسك والرفع والنصب وجوه جائزة، وجاز في هذا البيت الجزم الذي لا يجوز فيما أنشدناه، قيل لعلةٍ أنا ذاكرها إن شاء الله.
وأقول مستعيناً بالله: إن بيت النابغة من النوع الذي يسميه العروضيون الوافر وهو أول أنواعه عند جمهورهم، وإذا روي بالرفع والنصب فلا زحاف فيه، ويسمى سالماً لسلامته من الزحاف، وإذا روي بالجزم سكنت لام مفاعلتن فصار مفاعلتن فنقلت إلى مفاعيلن ويسمى معصوباً. وبيت النابغة يروى على وجهين: أجب الظهر بالإضافة، ويصرف أجب فيكسر لإضافته، ويروى أجب الظهر فيفتح وهو في موضع جرٍ إذ هو صفة لعيش أو دهر لأنه لا ينصرف والتنوين مقدر في أصله. ومن هذا الباب زيد حسن الوجه. قال زهير:
أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم لم ينصب له الشرك
فالنصب في ريش القوادم كالنصب في زيد الحسن الوجه، والحسن الوجه أقوى عند البصريين من حسن الوجه وهما عند الكوفيين سواء. قال الحارث بن ظالم:
فما قومي بثعلبة بن سعدٍ ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
وقال عدي بن زيدٍ:
من وليٍ أو أخي ثقةٍ ... والبعيد الشاحط الدارا
وهذا باب من النحو له شعب وفروع ولا ستقصائه موضع هو أولى به.
؟بين عريب وعلويه حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا الفضل بن العباس أبو الفضل الربعي قال حدثنا إبراهيم بن عيسى الهاشمي قال، قال علويه: أمرني المأمون وأصحابي أن نغدو عليه لنصطبح، فغدوت فلقيني عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب فقال: يا أيها الرجل الظالم المعتدي، أما ترحم ولا ترق ولا تستحي من عريب، هي هائمة بك وتحتلم عليك في كل ليلة ثلاث مرات؟ قال علوية: وكانت عريب أحسن الناس وجهاً وأظرف الناس وأفكه، وأحسن غناء مني ومن صاحبي مخارق؛ فقلت له: مر حتى أجيء معك. فحين دخلت قلت له : استوثق من الأبواب فإني أعرف الناس بفضول الحجاب. فأمر بالأبواب فأغلقت، ودخلت فإذا عريب جالسة على كرسي بين يديها ثلاث قدور زجاج، فلما رأتني قامت إلي فعانقتني وقبلتني وأدخلت لسانها في فمي، ثم قالت: ما تشتهي تأكل؟ قلت: قدراً من هذه القدور، فأفرغت قدراً منها بيني وبينها فأكلنا ثم دعت بالنبيذ فصبت رطلاً فشربت نصفه وسقتني نصفه، فما زلنا نشر حتى سكرنا. ثم قالت يا أبا الحسن، أخرجت البارحة شعر أبي العتاهية فاخترت منه شعراً، وقلت: ما هو؟ قالت: ؟
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن كنت طوع يديه
فصيرناه مجلسنا، فقالت: بقي علي فيه شيء فأصلحه، قلت: ما فيه شيء، قالت: بلى في موضع كذا، فقلت: أنت أعلم، فصححناه جميعاً. ثم جاء الحجاب فكسروا الباب واستخرجت فأدخلت على المأمون، فأقبلت أرقص من أقصى الصحن وأصفق بيدي وأغني الصوت، فسمع وسمعوا مالم يعرفوه فاستظرفوه. فقال المأمون: ادن يا علويه، فدنوت فقال: رد الصوت، فرددته سبع مرات، فقال: أنت الذي تشتاق إلى ظل صاحب يروق ويصفوا إن كدرت عليه؟ فقلت: نعم، فقال: خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب بدلها. وسألني عن خبره فأخبرته فقال: قاتلها الله فهي أجل أبزار من أبا زير الدنيا.
؟

من الحكم السياسية
أخبرنا المعافى قال حدثنا محمد بن أبي الأزهر البوشنجي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا مبارك الطبري قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت أمير المؤمنين المنصور يقول: الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه.
في وصف الأحمق
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال، قال الهيثم بن عدي قال وهب بن منبه: الأحمق إذا تكلم فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيه، وإذا عمل أفسد وإذا ترك أضاع. لا علمه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه، تود أمه لو أنها ثكلته، وتود امرأته لو أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، وتأخذ جليسه منه الوحشة؛ وأنشد لمسكين الدارمي في ذلك:
أتق الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق

كلما رقعت منه جانباً ... حركته الريح وهنا فانخرق
أو كصدع في زجاج فاحش ... هل ترى صدع زجاج يتفق
وإذا جالسته في مجلس ... أفسد المجلس منه بالخرق
وإذا نهنهته كي يرعوي ... زاد جهلاً وتمادى في الحمق

من جاد بماله وبنفسه فقد جاد بنفسيه
قال المعافى: وحدثني أبو النضر العقيلي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو تمام حبيب بن أوس الطائي قال حدثني محمد بن خالد الشيباني قال، قال يزيد بن أبي يزيد الغساني: من جاد بنفسه عند اللقاء، وبماله عند العطاء، فقد جاد بنفسيه كليهما.
طوق بن مالك يستزير العتابي
حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا أبو دعامة الشاعر قال: كتب طوق بن مالك إلى العتابي يستزيره ويدعوه إلى أن يصل القرابة بينه وبينه، فرد عليه: إن قريبك من قرب منك خيره، وإن عمك من عمك نفعه، وإن عشيرتك من أحسن عشرتك، وإن أحب الناس إليك أجداهم بالمنفعة عليك، ولذلك أقول:
ولقد بلوت الناس ثم سبرتهم ... وخبرت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب
ويدوى أكبر
المجلس الثامن والخمسون
خطبة لعمر رضي الله عنه
أخبرنا المعافى بن زكريا قال حدثنا ابن أبي داود عبد الله بن سليمان في شعبان سنة ست عشرة وثمانمائة إملاًء من لفظه بتلقين ابنه أبي معمر إياه قال حدثنا المسيب بن واضح قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن سيعدٍ الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في خطبته: أيها الناس إنما كنا نعرفكم إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وكان ينزل عليه الوحي وإذ ينبئنا الله تعالى من أخباركم، ألا فقد مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما نقول لكم: من أظهر منكم خيراً ظننا به خيراً وأحببناه على ذلك، ومن أظهر منكم شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه. أسراركم فيما بينكم وبين الله تعالى. ولقد أتى علي زمان وما أرى أحداً يقرأ القرآن يريد به إلا ما عند الله تعالى، وقد خيل إلي أن أناساً يقرأون القرآن يريدون به ما عند الناس، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وأعمالكم ألا وإني لم أبعث عليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ولا ليأكلوا أموالكم. ولكن بعثتم ليحجزوا بينكم ويقسموا فيكم فيئكم، فمن كانت له قبل أحدٍ منهم مظلمة فليقم. فما قام أحد غير رجل واحدٍ فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك ضربني مائة سوطٍ، فسأله عمر لم ضربه فاعتل له، فقال له عمر: قم فاستقد منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن تفتح هذا على عمالك كبر عليهم وكانت سنة يأخذ بها من بعدك، فقال عمر: أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد من نفسه، قم فاستقد منه، فقال له عمرو بن العاص: أو فدعنا إذن فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه. فافتدوا منه بمائة دينار، قال قلنا لعطاء يعين ابن عجلان: وكيف أقص رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه؟ قال: أقبل من منى يزور البيت حتى إذا كان في بعض الطريق عرض له إنسان، فكره أن يوطئه فضربه بمخصرته، فلما طاف بالبيت وصلى قال: يا أيها الناس إني أقبلت من منى فعرض لي إنسان فضربته بمخصرتي، فإن كان في الناس فليقم. فقام رجل فقال له: أنا، فقال له رسول لله صلى الله عليه وسلم: استقد فقال: بل أعفو يا رسول الله.
تعليق المؤلف على خطبة عمر
قال القاضي أبو الفرج: قد ضمن عمر رضي الله عنه خطبته هذه من الحكم التي تتقبلها العقول ويشهد بصحتها المعقول ما فيه أكثر النفع لمن استمع إليه، وأجرى أمره في دينه عليه، وذكر أنه يحمل الناس في موالاتهم ومعاداتهم على ما أبدوه ويكلهم إلى ربهم عز وجل فيما أخفوه، ونصح الناس

في ما أمرهم به من أن يريدوا الله تعالى بتلاوة كتابه كما كان السلف الذين نزل الوحي بينهم، وأخبر أنه سيأتي من يريد بتلاوته الناس وحطام الدنيا، ويأتي بالتلاوة للسمعة والرياء، وذكر ما لم يكن عند أحد ممن سمعه رد له ولا مرية فيه من إنفاذه عماله على الناس للعدل فيهم وأداء حقوقهم إليهم، وأنه حكم بالقصاص ممن جنى منهم، وبإنصاف مظلومهم من ظالمهم، وها نحن في زمانٍ الجور فيه ظاهر غامر، والظالم قاهر، والمظلوم حائر؛ وأما تلاوة القرآن في زماننا فإن من يتلوه فيه تقرباً إلى ربه واعتباراً به، وتفكراً في حكمه، وتدبراً في آياته، وتفقهاً في دينه، فإنه في قلته ومهانته وذلته على حد عظيم في منزلته، وهو بمنزلة الكبريت الحمر في عزته، وبمنزلة الشامة البيضاء في الثور الأسود، إذا نظر في أمره في عدد أهله، ومعظم من يتلوه في وقتنا إما مباهٍ لأمثاله مفاخر، أو مبارٍ لأشكاله مكاثر، أو مستميحاً للحطام والسحت الحرام من ذوي البغي والضلالة، واللهو والبطالة، بالتغني لهم به على الوجه الذي زجر الله تعالى عنه ورسوله من ألحان اللاهين وترجيع اللعابين، قد جعل ذلك له طعمةً واتخذه لنفسه معيشة، ودرت عليه الهبات، والعطايا والصلات، من المغرورين، المسحورين منهم والمفتونين، المطبوع على قلوبهم، وتعلقوا عند العامة بادعاء التأويل في الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: زينوا القرآن بأصواتكم، وبقوله: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، فحملوه على غير وجهه ووجهوه إلى خلاف ما قصد له به، فكانوا في تلاوتهم للقرآن من الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يتعجلونه ولا يتأجلونه، وضلوا عن سواء السبيل في ما يتأولونه.
وقد أتينا من الكلام في هذا المعنى بما ينتفع به الناظر فيه، إذا وقف على معانيه، ناصحاً لنفسه، مشفقاً من خشية ربه، في كتابنا المسمى: التذكير والتحذير وفي بعض ما مضى من مجالس كتابنا هذا وفي غيرهما.

تعال فاستقد
ومما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في معنى القصاص الذي ذكره عمر في خطبته ما حدثناه إبراهيم بن حماد في المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة قال حدثنا أبو موسى يعني محمد بن المثنى قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب بن بكير بن عبد الله عن عبيدة بن مسافع عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئاً إذا أكب عليه رجل فطعنه بعرجون كان في يده، فصاح الرجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاستقد، فقال الرجل: قد عفوت يا رسول الله.
قال القاضي أبو الفرج: وما روي في هذا النحو كثير، وإلى الله تعالى من زمان السوء المشتكى والمفر والملجأ، وغوثه المأمول المرتجى، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
اضرب ضرباً تقوى عليه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي قال، حدثنا أبو حاتم قال: ضرب رجل من ذوي السلطان رجلاً فأوجعه فقال له: أصلحك الله اضربني ضرباً تقوى عليه فإن القصاص أمامك.
الأشتر وجيداء

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الله بن موسى القرشي ابن أبي الدنيا قال حدثنا محمد بن صالح الحسني قال حدثني أبي عن نمير بن قحيف الهلالي قال: كان في بني هلال فتى يقال له بشر ويعرف بالأشتر، وكان سيداً حسن الوجه شديد القلب سخي النفس، وكان معجباً بجارية من قومه تسمى جيداء، وكانت الجارية بارعة الجمال، فاشتهر أمره وأمرها، ووقع الشر بينه وبين أهلها حتى قتلت بينهم القتلى وكثرت الجراحات، ثم افترقوا واصطلحوا على ألا ينزل أحد منهم بقرب الآخر، قال نمير بن قحيف: فلما طال على الأشتر البلاء والهجر جاءني في ذات يوم فقال: يا نمير، هل فيك من خير؟ قلت: عندي كل ما أحببت، قال: أسعدني على زيارة جيداء، فقد ذهب الشوق إليها بروحي وتنغصت علي حياتي، قلت: بالحب والكرامة، فانهض إذا شئت؛ فركب وركبتُ معه. فسرنا يومنا وليلتنا والغد، حتى إذا أن قريب من مغرب الشمس نظرنا إلى منازلهم ودخلنا شعباً خفياً فأنخنا راحلتينا وجلين، فجلس عند الراحلتين وقال: يا نمير اذهب بأبي أنت وأمي فادخل الحي، واذكر لمن لقيك أنك طالب ضالةٍ، ولا تعرضن بذكري بينب شفةٍ ولسان، فإن لقيت جاريتها فلانة الراعية فأقرها مني السلام، وسلها عن الخبر وأعلمها بمكاني. فخرجت لا أعذر في أمري حتى لقيت الجارية فأبلغتها الرسالة وأعلمتها بمكانه وسألتها عن الخبر، فقالت: هي والله مشدد عليها متحفظ منها، وعلى ذلك فموعد كما الليلة عند تلك الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت، فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم نهضنا نقود راحلتينا حتى جئنا الموعد، فلم نلبث إلا قليلاً إذا جيداء قد جاءت تمشي حتى دنت منا، فوثب إليها الأشتر فصافحها وسلم عليها وقمت مولياً عنهما، فقالا: إنا نقسم عليك إلا ما رجعت، فو الله ما بيننا ريبة ولا قبيح نخلو به دونك، فانصرفت راجعاً إليهما حتى جلست معهما، فتحدثا ساعة، ثم أرادت الانصراف فقال لها الأشتر: أما فيك حيلة يا جيداء، فنتحدث ليلتنا ويشكو بعضنا إلى بعض؟ قالت: والله ما إلى ذلك سبيل إلا أن نعود إلى الشر الذي تعلم، قال لها الأشتر: لا بد من ذلك ولو وقعت السماء على الأرض، قالت: هل في صديقك هذا من خير أو معه مساعدة لنا؟ قال: الخير كله، قالت: يا فتى هل فيك من خير؟ قلت: سلي ما بدا لك فإني منتهٍ إلى رأيك ولو كان في ذلك ذهاب روحي، فقامت فنزعت ثيابها فجعلتها علي فلبستها، ثم قالت: انزع ثيابك، فخلعتها فلبستها ثم قالت: اذهب إلى بيتي فادخل إلى خبائي فإن زوجي سيأتيك بعد ساعة أو ساعتين فيطلب إلى بيتي فادخل إلى خبائي فإن زوجي سيأتيك بعد ساعة أو ساعتين فيطلب منك القدح ليحلب فيه الإبل فلا تعطه إياه حتى يطيل طلبه ثم ارمه به رمياً ولا تعطه إياه من يدك فإني كذلك كنت أفعل به، فيذهب فيحلب، ثم يأتيك عند فراغه من الحلب والقدح ملآن لبناً فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذ منه حتى يطيل، نكداً عليه، ثم خذه أو دعه حتى يضعه، ثم لست تراه حتى يصبح إن شاء الله، قال: فذهبت ففعلت ما أمرتني به حتى إذا جاء بالقدح الذي فيه اللبن أمرني أن آخذه فلم آخذه حتى طال نكدي عليه، ثم أهويت لآخذه وأهوى ليضعه واختلفت يدي ويده، فانكفأ القدح واندفق ما فيه، فقال: إن هذا طماح مفرط، وضرب بيده إلى مقدم البيت فاستخرج منه سوطاً مفتولاً كمتن الثعبان المطوق ثم دخل علي فهتك الستر عني وقبض بشعري ثم اتبع ذلك السوط متني، فضربني تمام ثلاثين، ثم جاءت أمه وإخوته وأخت له فانتزعوني من يده، ولا والله ما أقلع حتى زايلني روحي وهممت أن أوجرة السكين وإن كان فيه الموت فلما. خرجوا عني وهو معهم شددت ستري وقعدت كما كنت، فلم ألبث إلا قليلاً حتى إذا أم جيداء قد دخلت علي تكلمني، فكلمتني وهي تحسبني ابنتها، فأتقيها بالسكات والبكاء، وتغطيت بثوبي دونها، فقالت: يا بنية اتقي الله ربك ولا تعرضي لمكروه زوجك، فذاك أولى بك، فأما الأشتر فلا أشتر لك آخر الدهر. ثم خرجت من عندي وقالت: سأرسل إليك أختك تونسك وتبيت عندك الليلة، فلبثت غير ما كثير، فإذا الجارية قد جاءت فجعلت بتكي وتدعو على من ضربني، وجعلت لا أكلمها، ثم اضطجعت إلى جانبي، فلما استمكنت منها شددت بيدي على فمها وقلت: يا هذه تلك أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري الليلة في سببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فو الله لئن تكلمت

بكلمةٍ لأصيحن بجهدي حى تكون الفضيحة شاملة. ثم رفعت يدي عنها فاهتزت الجارية كما تهتز القصبة من الزرع، ثم بات معي منها أملح رفيق رافقته وأعفه وأحسنه حديثاً فلم تزل تتحدث وتضحك مني ومما بليت به من الضرب حتى برق النور وإذا جيداء قد دخلت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت وفزعت وقالت: ويلك من هذا عندك؟ قلت: أختك، قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، ولعمر الله إنها لعالمة بما نزل بي، وأخذت ثيابي منها ومضيت إلى صاحبي فركبنا ونحن خائفان فلما اطمأننا حدثته بما أصابني وكشفت عن ظهري فإذا فيه ما غرس الله من ضربةٍ إلى جانب أخرى، كل ضربة تخرج الدم وحدها، فلما رأى ذلك قال: لقد عظمت صنيعتك ووجب شكرك إذ خاطرت بنفسك فبلغني الله مكافأتك.بكلمةٍ لأصيحن بجهدي حى تكون الفضيحة شاملة. ثم رفعت يدي عنها فاهتزت الجارية كما تهتز القصبة من الزرع، ثم بات معي منها أملح رفيق رافقته وأعفه وأحسنه حديثاً فلم تزل تتحدث وتضحك مني ومما بليت به من الضرب حتى برق النور وإذا جيداء قد دخلت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت وفزعت وقالت: ويلك من هذا عندك؟ قلت: أختك، قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، ولعمر الله إنها لعالمة بما نزل بي، وأخذت ثيابي منها ومضيت إلى صاحبي فركبنا ونحن خائفان فلما اطمأننا حدثته بما أصابني وكشفت عن ظهري فإذا فيه ما غرس الله من ضربةٍ إلى جانب أخرى، كل ضربة تخرج الدم وحدها، فلما رأى ذلك قال: لقد عظمت صنيعتك ووجب شكرك إذ خاطرت بنفسك فبلغني الله مكافأتك.
قال الكوكبي وحدثني أحمد بن جعفر المستملي قال حدثنا أبو يونس محمد بن نعيم الوراق حدثني محمد بن صالح مثله سواء.

هذا فزدي أنه
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال، قال أبو عبد الله ابن الأعرابي: كان حاتم الطائي أسيراً في عنزة فقالت له امرأة منهم يوماً: قم فافصد لنا هذه الناقة، وكان الفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق الناقة ثم يجمع الدم فيشوى، فقام حاتم إلى الناقة فنحرها فلطمته المرأة، فقال حاتم: لو غير ذات سوارٍ لطمتني. فذهب قوله مثلاً. وقالت له النسوة: إنما قلنا له افصدها، فقال: هكذا فصدي أنه. قال أبو بكر: يريد أنا وهي لغة طيء.
اللغات في أنا
قال أبو بكر وبغير هذا الإسناد: في أنا أربع لغات: أنا قائم بإثبات الألف في الوصل، وأنا قائم بإسقاط الألف في الوصل، وأنا قائم بإثبات الآلن في الوصل. وأنه بإدخال هاء السكت، والرابعة أخبرنا بها أبو العباس عن بعض النحويين عن العرب أن قائم بإسكان النون، يراد بها أنا قائم، قال الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميداً قد تذريت السناما
فنصب حميداً على المدح؛ وتذريت معناه ارتفعت إلى ذروة الحسب، وذكر السنام مثلاً.
تعليقات وتوضيحات
قال القاضي أبو الفرج: قد كان أهل الجاهلية فيما ذكر يشوون الدم مخلوطاً بالوبر ويأكلونه ويسمونه العلهز. ولما قال حاتم: لو غير ذات سوارٍ لطمتني فأرسلها مثلاً صارت كلمة يقولها القائل عند عدو الدقيق الحسب على من هو فوقه، وحين يهتضم الرفيع ذا القدر من هو دونه. ويروى أن حاتماً قال في هذا الخبر: هكذا فزدي أنه، وإشمام الصاد الساكنة الزاي إذا ولتيها الدال لغة للعرب معروفة جيدة قد قرأ بها في القرآن عدد من القرأة كقوله: يصدفون، ويصدر الناس، ويصدر الرعاء. والذي رواه لنا أبو بكر ابن الأنباري من اللغات في أنا كما روي، وقد قرأه بإثبات الألف في الوصل والوقف بعض قرأة المدينة في مواضع عدة. وممن روي عنه هذا نافع بن عبد الرحمن.
خالد بن صفوان يرد على مفاخر اليمنية

حدثنا أبحمد بنب العباس العسكري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ قال حدثني أبو جعفرٍ محمد بن إبراهيم بن يعقوب بن داود قال حدثنا الهيثم بن عديٍ قال: كان أبو العباس يعجبه السمر ومنازعة الرجال، فحضره ذات ليلةٍ في سمره إبراهيم بن مخرمة الكندي وناس من بني الحارث بن كعب، وهم أخواله، وخالد بن صفوان بن إبراهيم التميمي فخاضوا في الحديث وتذاكروا مضر واليمن، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين إن اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا، وكانت لهم القرى، ولم يزالوا ملوكاً أرباباً، ورثوا ذلك كابراً عن كابرٍ وأولاً عن آخر، منهم النعمانيات والمنذريات والقابوسيات والتبابعة، ومنهم من حمت لحمه الدبر، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم مكلم الذئب، ومنهم الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً، وليس شيء له خطر إلا وإليهم ينسب: من فرس رائع، أو سيفٍ قاطع، أو درعٍ حصينةٍ، أو حلةٍ مصونةٍ، أو درةٍ مكنونةٍ، إن سئلوا أعطوا، وإن سيموا أبوا، وإن نزل بهم ضيف قروا، لا يبلغهم مكاثر، ولا ينالهم مفاخر، هم العرب العاربة وغيرهم المتعربة. قال أبو العباس: ما أظن التميمي يرضى بقولك، ثم قال: ما تقول يا خالد؟ قال: إن أنت أذنت لي في الكلام وأمنتني من الموجدة تكلمت، قال: قد أذنت لك فتكلم ولا تهب أحداً، فقال: أخطأ يا أمير المؤمنين المتقحم بغير علمٍ، ونطق بغير صواب، فكيف يكون ما قال؟ القوم ليست لهم ألسن فصيحة، ولا لغة صحيحة، ولا حجة نزل بها كتاب، ولا جاءت بها سنة، وهم منا على منزلتين: إن جاروا عن قصدنا أكلوا، وان جازوا حكمنا قتلوا، يفخرون علينا بالنعمانيات والمنذريات وغير ذلك مما سنأتي عليه، ونفخر عليهم بخير الأنام، وأكرم الكرام، محمد عليه السلام، ولله عز جل علينا المنة به وعليهم، لقد كانوا أتباعه فبه عزوا وله أكرموا، فمنا النبي المصطفى، ومنا الخليفة المرتضى، ولنا البيت المعمور والمسعى وزمزم والمقام والمنبر والركن والحطيم والمشاعر والحجابة والبطحاء، مع مالا يخفى من المآثر، ولا يدرك من المفاخر، وليس يعدل بنا عادل، ولا يبلغ فضلنا قول قائل. ومنا الصديق والفاروق والوصي وأسد الله سيد الشهداء، وذو الجناحين وسيف الله، عرفوا الدين وأتاهم اليقين، فتمن زاحمنا زحمناه، ومن عادانا اصطلمناه. ثم التفت فقال: أعالم أنت بلغة قومك؟ قال: نعم. قال: فما اسم العين؟ قال: الجحمة قال: فما اسم السن؟ قال: الميزم. قال: فما اسم الأذن؟ قال: الصنارة، قال: فما اسم الأصابع؟ قال الشناتر، قال: فما اسم الأذن؟ قال: الزب، قال: فما اسم الذئب؟ قال: الكتع، قال فقال له: أفمؤمن أنت بكتاب الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فإن الله تعالى يقول: " إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " يوسف: 2 وقال: " بلسان عربي مبين " الشعراء :195 وقال: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " إبراهيم:4 فنحن العرب والقرآن بلساننا نزل؛ ألم تر أن الله عز وجل قال: " والعين بالعين " المائدة:45 ولم يقل: الجحمة بالجحمة. وقال: " والسن بالسن " المائدة: 45 ولم يقلك الميزم بالميزم وقال جل اسمه " والأذن بالأذن " المائدة:45 ولم يقل الصنارة بالصنارة. وقال: " يجعلون أصابعهم في آذانهم " البقرة:19 ولم يقل شناترهم في صناراتهم وقال تعالى: " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " طه: 94 ولم يقل لا تأخذ بزبي. وقال: " فأكله الذئب " يوسف: 17 ولم يقل فأكله الكتع. ثم قال: أسألك عن أربع إن أنت أقررت بهن قهرت وإن جحدتهن كفرت. قال: وما هن؟ قال: الرسول منا أو منكم؟ قال: منكم، قال: والقرآن نزل علينا أو عليكم؟ قال: عليكم، قال: فالبيت الحرام لنا أبو لكم؟ قال: لكم، قال: فالخلافة فينا أو فيكم؟ قال فيكم. قال خالد فما كان بعد هذه الأربع فلكم.

المجلس التاسع والخمسون
رائحة عتبة بن فرقد
أخبرنا المعافى قال حدثنا أبي قال حدثنا أحمد يعني ابن يحيى الحلواني قال حدثنا سعيد يعني ابن سليمان عن عباد عن حصين قال: أخبرتني أم عاصم امرأة عتبة بن فرقدٍ قالت: كنا عند عتبة نسوة نتطيب فيخرج وهو أطيبنا ريحاً، ما يزيد على أن يدهن، فقلنا: ما هذه الريح؟ قال: أخذني الشرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوت ذلك إليه فأمرني أن ألبس علي ثوباً، قال: يعني يغطي فرجه، ثم تفل في يده ثم مسح بها ظهري وبطني.

قال القاضي أبو الفرج: وهذا مما أبان الله تعالى لعباده من فضائل نبيه عليه السلام وآياته وخصائصه وبركاته، ونحن نرجو إذ هدانا إلى الإيمان به أن نصل إلى شريف المنزلة بعد البعث ببركته صلوات الله عليه وسلامه.

بين معاوية وابن الزبير
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني محمد بن الحسين عن سليمان بن أحمد قال: حدثني عبد الله بن محمد بن حبيبٍ أن معاوية لما حج مر بالمدينة فلقيه عبد الله بن الزبير فقال: آدني على الوليد بن عتبة فقد تزايد خطله، وذهب به جهله إلى غايةٍ تقصر عنها الأنوق، ودون قرارها العيوق، فقال معاوية: والله ما يزال أحدكم يأتيني يغلي جوفه غلي المرجل على ابن عمه، فقال ابن الزبير: أما والله ما ذاك عن فرارٍ منه ولا جبنٍ عنه، ولقد علمت قريش أني لست بالفه الكهام ولا بالهلباجة النثر، فقال له معاوية: إنك لتهددني وقد عجزت عن غلامٍ من قريش لم يبر في سباقٍ ولا ضرب في سياق، وإن شئت خلينا بينك وبينه، فقال ابن الزبير: ما مثلي يهارش به، ولكن عندك من قريش والأنصار ومن ساكني الحجون والآطام من إن سألت حملك على محجةٍ أبين من ظهر الجفير، قال: ومن ذلك؟ قال: هذا، يعني أبا الجهم بن حذيفة، فقال معاوية: تكلم يا أبا الجهم. فقال: أعفني، قال: عزمت عليك لتقولن، قال: نعم أمك هند، وأمه أسماء بنت أبي بكرٍ، وأسماء خير من هند، وأبوك أبو سفيان وأبوه الزبير، ومعاذ الله أن يكون أبو سفيان مثل الزبير، وأما الدنيا فلك وأما الآخرة فله، إن شاء الله.
شرح النص السابق
قال القاضي أبو الفرج: قول ابن الزبير لمعاوية: آدني على الوليد معناه أعدني، وزعم بعضهم أن فلاناً يستأدي على فلان أفصح من يستعدي، وهما عندي سواء. وقد روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أعدني على رجل من أصحابك، وقوله: يقصر عنها الأنوق، يعني الرخم وهو يرتاد لبيضه شوامخ الجبال وحيث يبعد متناوله ويخفى مكانه، فلا يكاد إنسان يجده أو يصل إليه، والعرب تضرب المثل في من طلب ما يعز وجوده ويتعذر إدراكه ونيله فيقولون: إنه يطلب بيض الأنوق. وقد روي لنا أن رجلاً سأل معاوية حاجةً معتاصة مستثقلة فرده عنها، فسأله حاجة هي أيسر منها إلا أن فيها استصعاباً، فقال معاوية:
طلب الأبلق العقوق فلما ... لم ينله أراد بيض الأنوق
والأبلق: الفرس، والعقوق: ذات الحمل، وذلك في الذكر مستحيل. وبيض الأنوق ما فسرنا؛ فلما طلب هذا الرجل أمراً مستبعداً لا سبيل إليه، ثم طلب ما ينال على صعوبةٍ لما منع ما لا مطمع له فيه، ضرب معاوية هذا البيت مثلاً له. وهذا من المثال القريب والتشبيه المصيب. وأما العيوق فنجم عالٍ معروف. وأما قوله: لست بالفه: فمعنى الفهاهة في الكلام ما يأتي على غير استقامةٍ، ويقال: أتى فلان في قوله بفهةٍ، أي بقولٍ ساقطٍ في لفظه ومعناه. وأما الكهام فالكليل، يقال: سيف كهام إذا كان نابياً كليلاً. وأما الهلباجة فالأحمق. وأما النثر فذو الرأي السخيف واللب الضعيف. كما قال الشاعر:
هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذولب نثر
وأما قول معاوية: لم يبر في سباق: أي لم يسبق مجارياً فيفضله ويظهر غلبته إياه، يقال: أبر فلان على فلانٍ إذا غلبه وزاد في الفضل عليه، يبر إبراراً فهو مبر، كما قال ذو الرمة يمدح بلال بن أبي بردة:
أبر على الخصوم فليس خصم ... ولا خصمان يغلبه جدالا
ولبس بين أقوامٍ فكل ... أعد له الشغازب والمحالا
قال القاضي أبو الفرج: الشغازب: جمع شغزبةٍ وأصله أن يدخل الرجل رجله بين رجلي الرجل فيصرعه، يقال: صرعه شغزبيةً. والمحال الكيد والمكر، من قول الله تعالى: " وهو شديد المحال " الرعد:13 وأما قوله: ولا ضرب في سياق فمعناه أنه لم يرض فيحتنك ولم يؤخذ بالتثقيف ولذع التأديب فتستحكم عزيمته وتستحصد مرته. وأما قول ابن الزبير: " من ساكني الحجون والآطام " : فإن الحجون موضع بمكة معروف وإياه عنى الشاعر بقوله:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وقال آخر:
هيجتني إلى الحجون شجون ... ليته قد بدا لعيني الحجون

وأما الآطام فإنها جمع أطم، والعرب تسمي ما كان من البيوت مربعاً كعبة، وما كان مدوراً أطماً. وأما الجفير فإنه الكنانة، وجمعه جفر، قال الشماخ:
وخفت نواها من جنوبٍ عنيزةٍ ... كما خف من نبل المرامي جفيرها
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو: الكنانة جعبة السهام، والكنانة هي الوفضة وجمعها وفاض؛ الكسائي مثله؛ الأحمر: الجفير والجشير جميعاً الوفضة أيضاً.
ابن أبي دواد يخرج عيناً على المعتصم
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني يعقوب بن بنان الكاتب قال حدثني أبو العباس ابن الفرات قال: كنا ليلةً في دار أبي الصقر إسماعيل بن بلبل فوافى يعقوب بن إسحاق الصائغ برسالةٍ من أبي القاسم عبيد الله بن سليمان في حاجةٍ له، فجلس معنا إلى أن يؤذن له على أبي الصقر، فجرى ذكر أحمد بن أبي دوادٍ فكل حدث عنه وعن أيامه بشيء. فحدثنا يعقوب بن الصائغ قال: لما وجه المأمون بأبي إسحاق المعتصم إلى مصر وعقد له من باب الأنبار إلى أقصى المغرب قال ليحيى بن أكثم: ينبغي أن ترتاد لي رجلاً حصيفاً لبيباً له علم وأمانة وثقة أنفذه مع أبي إسحاق، وأوليه المظالم في أعماله، وأتقدم إليه سراً بمكاتبتي سراً بأخباره وما تجري عليه أموره، وبما يظهر ويبطن، وما يرى من أمر قواده وخاصته، وكيف تدبيره في الأموال وغيرها، فإني لست أثق بأحدٍ ممن يتولى البريد، وما أحب أن أجشمه بتقليد صاحب البريد عليه فيكون معتمدي عليه وتكون كتبه سرية إليك لتقرئني إياها إذا وردت، فقال: يا أمير المؤمنين عندي رجل من أصحابي أثق بعقله ودينه ورأيه وأمانته وصدقه ونزاهته. فقال: جئني به في يوم كذا وكذا، فصار يحيى بن أكثم بأحمد بن أبي دوادٍ إلى المأمون في اليوم الذي حده له.

فكلمه المأمون فوجده فهماً راحجاً، فقال له: إني أريد إنفاذك مع أخي أبي إسحاق، وأريد أن تكتب بأخباره سراً، وتتفقد أحواله ومجاري أموره وتدبيراته وخبر خاصته وخلواته، وتنفذ كتبك بذلك إلى يحيى بن أكثم مع ثقاتك ومن تأمنه على دمك، فإني أشهر أمرك بتقليد المظالم في عسكره، وأتقدم إليه بمشورتك والأنس بك. فقال له أحمد: أبلغ لك يا أمير المؤمنين في ذلك فوق ما قدرته عندي وبي، وأنتهي إلى ما يرضي أمير المؤمنين ويزلف عنده. فجمع المأمون بين أحمد بن أبي دوادٍ وبين المعتصم وقال له: إنك تشخص في هذا العسكر وفيه أوباش الناس وجند وعجم وأخلاط من الرعية، ولا بد لعسكرك من صاحب مظالم يكون فيه لينظر في أمور الناس، وقد اخترت لك هذا الرجل فضمه إليك وأحسن صحبته وعشرته؛ فأخذه المعتصم معه، فلما بلغوا الأنبار وافت كتب أصحاب البريد بموافاة المعتصم الأنبار، فقال المأمون ليحيى: ترى ما كان من بغداد إلى الأنبار خبر يكتب به صاحبك إليك؟ قال فقال يحيى: لعله يا أمير المؤمنين لم يحدث خبر تحسن المكاتبة به؛ وكتب يحيى إلى أحمد يعنفه ويستبطئه ويخبره أن أمير المؤمنين قد أنكر تأخر كتابه. فلما ورد الكتاب على أحمد ووقف على ما فيه احتفظ به ولم يجب عنه؛ وشخص المعتصم حتى وافى الرحبة ولم يكتب أحمد بحرف واحدٍ من أخبار المعتصم التي تقدم إليه فيها. وكتب أصحاب البريد بموافاة المعتصم الرحبة وأخبار عسكره، فدعا المأمون يحيى بن أكثم فقال: يا أسخن الله عينك، عجبت أن تختار إلا من هذه سبيله، تختار لي ويحك رجلاً تصفه بكل الصفات فأتقدم إليه بما كنت حاضره، فلا يكتب من بغداد إلى أن يوافى الرحبة إليك كتاباً في معنى ما اعتمد عليه فيه:؟! قال: فكتب يحيى إلى أحمد كتاباً أغلظ له المخاطبة وأسمعه فيه المكروه ويقول له: إنما أشخصناك لما تقدمنا به إليك، وإنا إنما أظهرنا تقليدك المظالم ليتيسر ما أمرت به، فما هذه الغفلة وما هذا الجهل بما يراد منك؟ فورد الكتاب على أحمد فقرأه واحتفظ به، وسار المعتصم من الرحبة حتى وافى الرقة، فدعا المأمون بيحيى فقال له: يا سخين العين، هذا مقدار رأيك وعقلك؟ اللهم إلا أن تكون غررتني معتمداً، وأوطأتني العشوة قصداً أولا فتجيئني برجل تعلم موقعه عندك وتطلعني على الوقوف عليه فتصفه وتقرظه حتى أودعته سراً من أسراري وأمراً أقدمه على كل أموري، فمضى من مدينة السلام إلى ديار مصر فلم يكتب يحرفٍ مما أمر بالكتاب به؟! فقال: يا أمير المؤمنين من يعمل بغير ما يؤدي إلى محبتك ويقود إلى إرادتك فأذاقه الله بأسك، وألبسه نكالك، وصب عليه عذابك.
وكتب إلى أحمد كتاباً يشتمل على كل إيعاد وإرهابٍ وتخويف وتحذير، وخاطبه بأوحش مخاطبةٍ وأنكلها، فورد الكتاب على أحمد فقرأه واحتفظ به.

وأمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب إلى أبي إسحاق المعتصم كتاباً يأمره فيه بالبعثة بأحمد بن أبي دواد مشدودةً يده إلى عنقه، مثقلاً بالحديد، محمولاً على غير وطاء. فورد الكتاب على المعتصم، ودخل أحمد بن أبي دواد إليه وهو بالرقة ما جاوزها، فرأى المعتصم كئيباً مغموماً، فقال: أيها الأمير أراك متغيراً وأرى لونك حائلاً، فقال: نعم لكتابٍ ورد علي من أجلك، ونبذ إليه بالكتاب فقرأه أحمد، فقال له المعتصم: تعرف لك ذنباً يوجب ما كتب به أمير المؤمنين؟ قال: ما اجترمت ذنباً، إلا أن أمير المؤمنين لا يستحل هذا مني إلا بحجةٍ، فما الذي عند الأمير فيما كتب به إليه؟ فقال: أمر أمير المؤمنين لا يخالف لكني أعفيك من الغل والحديد، أحملك إليه على حال لا توهنك ولا تؤلمك وأوجه بك مع غلامٍ من غلماني أتقدم إليه في ترفيهك وأن لا يعسفك، فقال: جزاك الله أيها الأمير أفضل ما جازى منعماً، فإن رأى الأمير أن يأذن لي في المصير إلى منزلي ومعي من يراعيني إلى أن يردني إلى مجلس الأمير فيأمر بأمره فعل، فقال له: امض؛ ووجه معه خادماً من خدمه، فصار أحمد إلى منزله واستخرج الكتب الثلاثة التي كاتبه بها يحيى بن أكثم وهم بالأنبار، والكتاب الذي ورد وهم بالرحبة، والكتاب الذي ورد وهم بالرقة، ورجع إلى المعتصم فأقرأه الكتاب الأول ثم الثاني ثم الثالث وقال له: إنما بعثت لأكتب بأخبارك وأتفقد أحوالك وأكاتب يحيى بذلك ليقرأه على أمير المؤمنين فخالفت ذلك لما رجوته من الحظوة عندك ولما أملته في غدك. فاستشاط المعتصم غضباً وكاد يخرج من ثيابه غيظاً وتكلم في يحيى بكل مكروه وتوعده بكل بلاءٍ وقال: ويلي على البقار البليد السراويل، وقال لأحمد: يا هذا لقد رعيت لنا رعاية لم يتقدمها إحساننا إليك وحفظت علينا ما نرجو أن نتسع، لمكافأتك عليه ومعاذ الله أن أسلمك أو أفرج عنك أو تنالك يد ولي قدرة على منعها منك ، أو أوثر خاصة وحميماً عليك ما امتد بي عمر أو تراخى بي أجل، فكن معي فأمرك نافذ في كل ما ينفذ فيه أمري؛ ولم يجب المأمون على كتابه، فلم يزل معه إلى أن ولي الخلافة وإلى أن ولي الواثق وإلى أيام المتوكل، فأوقع به.
قال القاضي أبو الفرج: قول المأمون ليحيى: أوطأتني العشوة يقال فيها: العشوة والعشوة. وقال بعض علماء اللغة: الضم فيها أفصح اللغات.

لا ينقص الكامل نفع عياله
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا محمد بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن محمد قال: رأى رجل محمد بن كناسة يحمل بيده بطن شاة فقال له: أنا أحمله لك فقال:
لا نقص الكامل من كماله ... ما جر من نفع الى عياله
شعر لعريب
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا أحمد بن جعفر بن حامد قال: لما توفي عمي محمد بن حامد وهو الذي كانت عريب تحبه صار أبي إلى منزله لينظر إلى تركته فأخرج إليه سفط مختوم، فإذا فيه رقاع عريب، فجعل يتصفحها ويضحك، فأخذت منها رقعة فإذا فيها شعر لها:
ويلي عليك ومنكا ... أوقعت في القلب شكا
زعمت أني خؤون ... جوراً علي وإفكا
ولم يكن ذاك مني ... إلا مجوناً وفتكا
إن كان ما قلت حقاً ... أو كنت حاولت تركا
فأبدل الله قلبي ... بفتكة الحب نسكاً
الرشيد ولحم الجزور

حدثنا محمد بن الحسن بن زياد والمقري قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثنا أبو العالية الشامي عن إبراهيم بن المهدي أنه كان يتغدى مع الرشيد في يوم شاتٍ، وإن الرشيد سأل صاحب المطبخ: هل عنده برمة من لحم الجزور؟ فأعلمه أن عنده عدة ألوان منه، فأمر بإحضار ما عنده منه، فقدمت إليه صحفة ومد يده إلى لقمة منها فأدخلها في فيه، فلما حرك لحييه عليها مرتين ضحك جعفر بن يحيى، فسأله الرشيد عن سبب ضحكه، وأمسك عن المضغ، فقال: ذكرت كلاماً دار بيني وبين جاريتي البارحة فضحكت منه، فقال له الرشيد: هذا محال، فأخبرني عن السبب بحقي عليك، فقال له جعفر: إذا ابتلع أمير المؤمنين لقمته حدثته السبب، فأخرج لقمته من فيه وألقاها تحت المائدة، فلما فعل ذلك قال له جعفر بكم يتوهم أمير المؤمنين والقاها تحت المائدة، فلما فعل ذلك قال له جعفر: بكم يتوهم أمير المؤمنين أن هذا اللون يقوم عليه؟ فقال له الرشيد: أتوهمه يقوم علي بأربعة آلاف درهم، فقال له جعفر: والله إن هذا اللون ليقوم عليك بأربع مائة ألف درهم، فقال: وكيف ويحك؟ فقال جعفر: سأل أمير المؤمنين صاحب المطبخ منذ أكثر من أربع سنين عن برمةٍ من لحم الجزور فأخبره أنه لم يتخذها، فأنكر ذلك علي أمير المؤمنين وقال: لا يفت مطبخي لون يتخذ من لحم الجزور في كل يوم، فأنا منذ ذلك اليوم أنحر جزوراً في كل يومٍ لأن الخلفاء لا يبتاع لهم لحم الجزور من السوق، ولم يدع أمير المؤمنين بشيءٍ من لحمها إلى يومه هذا. قال إبراهيم: وكان الرشيد في أول طعامه ولم يكن أكل إلا ملهوجة وأحدةً، وكان أشد خلق الله تقززاً، فصعق حين قال له جعفر ما قال، وضرب بيده اليمنى وفيها الغمر وجهه ومد بها لحيته ثم قال: هلكت ويلك يا هارون، واندفع يبكي، وأمر برفع المائدة وطفق يبكي حتى أذنه المؤذنون بصلاة الظهر، ألف ألف درهم وأن يفرق في كل جانب من جانبٍ من جانبي بغداد خمسمائة ألف درهم وأن يفرق في كل مدينةٍ من الكوفة والبصرة خمسمائة ألف درهمٍ، وقال: لعل الله تعالى أن يغفر لي هذا الذنب. وقام يصلي الظهر، ثم عاد في مكانه فلم يزل باكياً حتى أذنه المؤذنون بصلاة العصر وقام فصلى: وعاد لمكانه إلى أن قرب ما بين صلاة العصر والمغرب، فأخبره القاسم بن الربيع مولاه أن أباه يوسف القاضي بالباب فأمره بإدخاله، فدخل وسلم فلم يرد عليه وأقبل يقول: يا يعقوب هلك هارون، فسأله يعقوب عن القصة فقال: يخبرك جعفر بهان وعاد لبكائه. وحضر جعفر فسأله أبو يوسف عن القصة فقال: يخبرك جعفر بها، وعاد لبكائه. وحضر جعفر فسأله أبو يوسف عن القصة والسبب المخرج للرشيد إلى ما خرج إليه، فحدثه جعفر عن الجزور التي كانت تنحر في كل يوم طول تلك المدة ومبلغ ما أنفق في أثمانها من الأموال، فقال له أبو يوسف: أخبرني عن هذه الإبل التي كانت تبتاع بهذه الدراهم هل كانت تترك إذا نحرت حتى تفسد، ولا تؤكل لحومها حتى تنتن فيرمى بها؟ قال جعفر: اللهم لا، قال أبو يوسف: فكان يصنع بها ماذا؟ قال: يأكلها الحشم والموالي وعيال أمير المؤمنين، فقال أبو يوسف: الله أكبر الله أكبر، أبشر يا أمير المؤمنين بالثواب الجزيل من الله عز وجل على نفقتك، وأبشر بثواب الله تعالى على ما فتح لك من الصدقة في يومك هذا، ومن البكاء للتقية من ربك، فإني لأرجو يا أمير المؤمنين أن لا يرضى الله تعالى من ثوابه على ما قد داخلك من الخوف من سخطه عليك إلا الجنة، فإنه يقول تعالى: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " الرحمن: 46 وأنا أشهد بالله تعالى أنك خفت مقام ربك، فسري عن الرشيد وطابت نفسه ووصل أبا يوسف بأربعمائة ألف درهم، ثم صلى المغرب ودعا بطعامه فأكل، فكان غداؤه في اليوم عشاءه.

المجلس الستون
بايعنا الرسول على السمع والطاعة
حدثنا عبد الله بن محمد بن ثابت البزاز، قال حدثنا محمد بن عمرو بن أبي مذعورٍ قال حدثنا عبد الله بن إدريس، قال سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر ومحمد بن عجلان عن عبادة بن الوليد عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.

قال القاضي أبو الفرج: هذا الذي ذكره عبادة أنهم بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو دين الله الذي أمره بالدعاء إليه والمبايعة عليه، فأداه عن ربه وقام لله تعالى فيه بحقه، نسأل الله تعالى أن يوفقنا ويعيننا عليه، ويعصمنا من الزيغ عنه والتفريط فيه، ونرجوا إجابته دعاءنا إنه قريب مجيب.

بين العباس بن مرداس وخفاف
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال حدثنا أبو حاتم قال قال أبو عبيدة: ذكرت بنو سليم أن العباس يعين ابن مرداس ندم على ما كان منه في خفافٍ، قال فقال في مجمعٍ من قومه: جزى الله خفافاً والرحم عني شراٍ، كنت أخف بني سليم من دمائهم ظهراً، وأخمصهم من أذاها بطناً، فأصبحت ثقيل الظهر من دمائها، منفضج البطن من أذاها وأصبحت العرب تعيرني بما كان مني، وايم الله لوددت أني كنت أصم عن هجائه، أخرس عن جوابه ولم أبلغ من قومي ما بلغت، ثم قال:
ألم تر أني كرهت الحروب ... وأني ندمت على ما مضى
ندامة زارٍ على نفسه ... وتلك التي عارها يتقى
وأيقنت أني بما جئته ... من الأمر لابس ثوبي خزا
حياءً ومثلي حقيق به ... ولم يلبس الناس مثل الحيا
وكانت سليم إذا قدمت ... فتى للحوادث كنت الفتى
وكنت أفيء عليها النهاب ... وأبلي عليها وأحمي الحمى
ولم أوقد الحرب حتى رمى ... خفاف بأسهمه من رمى
فألهبت حرباً بأصبارها ... ولم أك فيها ضعيف القوى
قال القاضي: الاصبار: النواحي.
فإن تعطف اليوم أحلامها ... ويرجع من ودها ما نأى
فلست فقيراً إلى حربها ... ولا بي عن سلمها من غنى
فلما بلغت خفافاً قال: عرف والله العباس خطأ ما ركب، الآن لما فدحته الحرب واحتمل ثقل الدماء أنشأ يظهر الندامة، لا والله ما اختلفت الدرة والجرة حتى يبوء بعذرٍ أو يلبس ثوب ذلٍ، وقال:
أعباس إما كرهت الحروب ... فقد ذقت من حرها ما كفى
وألقحت حرباً لها درة ... زبوناً تسعرها باللظى
ولما ترقيت في غيها ... دحضت وزل بك المرتقى
وأصبحت تبكي على زلةٍ ... وماذا يرد عليك البكا
فإن كنت أخطأت في حربنا ... فلسنا مقيليك ذاك الخطا
وإن كنت تطمع في صلحنا ... فحاول ثبيراً وركني حرا
شرح النص
قال القاضي أبو الفرج: قول العباس بن مرداس: وأخمصهم من أذاها بطناً: من المخمصة، وهي المجاعة، وخمص البطن اضطماره، يقال: بطن خميص، قال الله تعالى: " فمن اضطر في مخمصةٍ " المائدة:3 ومن الخمص قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتكم غبر يبتن خمائصا
ويروى غرثى أي جياعاً. ويقال: امرأة خمصانة إذا دق خصرها. وقال الشاعر:
خمصانة قلق موشحها ... رود الشباب غلابها عظم
وقوله: منفضج البطن أراد خلوه من أذاها. وقوله: أفيء عليها النهاب أي أرده ويتجه في مدحه نفسه برده النهاب على قومه وجهان: أحدهما أن يستعيد ما انتهب من أموالهم فيرده عليهم، والآخر أنه يعف عن غنائمهم ولا يستأثر بها فيحويها لنفسه دونهم، كما قال عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ويقال: فاء الشيء إذا رجع. وأفاء الرجل الشيء على غيره أي رده عليه، قال الله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " الحشر: 7 أي ما رده؛ ومن الفيء قول امرئ القيس:
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
والفيئة الرجعة. وقوله: ويرجع من ودها ما نأى، قد عطفه على قوله: فإن تعطف اليوم، ووجه الإعراب فيه الجزم، إذ هو معطوف على المجزوم على ما يجب في باب الجزاء إلا أنه لما لم يجد بداً من الحركة لتمام وزن البيت نوى النون الخفيفة كما قال الشاعر:

اضرب عنك الهموم طارقهاضربك بالسيف قونس الفرس وقد يحمل على إرادة أن وبمعنى الجمع " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " آل عمران:142 على ما بيناه في ما مضى من المجالس. وأما قول خفاف: الآن لما فدحته الحرب معناه أثقلته، كما قال الشاعر:
إذا لم تزل يوماً تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفدحتك المغارم
وجاء في الأثر: لا يترك في الإسلام مفدح، فقيل: معناه الذي قد فدحه الدين وأثقله. وقال بعضهم في الرواية لا يترك مفدج بالجيم وقيل في تفسيره قولان: أحدهما أنه لا أحد يؤدي عنه من أهله، والآخر أنه الجاني الذي لا عشيرة له ولا عاقلة تعقله وتؤدي عنه عقل جنايته وأرش جريرته.
والدرة ما يحتلب، والجرة ما يجتر. وقوله: ألقحت حرباً لها درة أنها تدر وتتصل ويتبع بعض مكروهها بعضاً. وقوله: " زبوناً " أي تدفع ببأسها من أصابته، يقال: حرب زبون، والزبن: الدفع، ويقال زبنه أي دفعه، ومنه الزبانية، سموا بذلك لأنهم يزبنون أي يدفعون أهل النار فيها. قال الله تعالى: " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا " الطور:13 أي يدفعون فيها دفعاً.
ويقال: ناقة زبون أي تدفع الجمال، قال الشاعر:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة من هذا، وهو بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر كيلاً، وكذلك بيع العنب بالزبيب، هو من دفع كل واحد من المتزابنين ما يبيعه إلى صاحبه.

كيف بدأت نقمة المأمون على يحيى بن أكثم
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو يوسف يعقوب بن بنان الكاتب قال حدثنا علي بن يحيى المنجم أن المأمون كان احتظى يحيى بن أكثم ورفع منزلته وخص به خاصةً باطنةً، فدخل عليه يوماً وهو يتغدى وعبد الوهاب بن علي إلى جانب المأمون، فسلم فرد عليه السلام ثم قال: هلم يا أبا محمد؛ يا غلام وضئه، قال: فخرج يحيى والطويلة على رأسه يتوضأ، فقال المأمون: أوسع لأبي محمدٍ، فأوسع له عبد الوهاب بينه وبين المأمون فغسل يده ودخل فوضع طويلته من غير إذنه، فقال المأمون لعبد الوهاب: عد إلى مكانك، وأقعد يحيى بين يديه، وكان ذلك بدء ما نقمه عليه.
لماذا كان عمر بن عبد العزيز كذلك
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبو العباس، قال حدثنا عمر أبن شبة قال حدثنا ابن عائشة، قال سمعت أبي يقول: قيل ليحيى بن الحكم بن أبي العاص: ما بال عمر بن عبد العزيز ومولده مولده ومنشأه منشأه جاء على ما قد رأيت؟ فقال: إن أباه أرسله إلى الحجاز سوقة فكان يغضب الناس ويغضبونه، ويمخضهم ويمخضونه، ولقد كان الحجاج بن يوسف لا يعرف عربي أحسن منه أدباً فطالت ولايته، فكان لا يسمع إلا ما يحب، فمات وإنه لأحمق وسيئ الأدب.
حول أبي العتاهية وهو ينشد
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال: رأيت الناس في النفر وقد اجتمعوا على رجلٍ وهو ينشد، فدنوت فقلت: من هذا؟ فقيل: أبو العتاهية، وكان ينشد:
أجاب الله داعيك ... وعادى من يعاديك
كأن الشمس والبدر ... جميعاً في تراقيك
وفي فيك جنى النحل ... وما أحلاه من فيك
وقد شاع بأن الخ؟ ... ز يؤذيك ويدميك
وما يدريك من ذل؟ ... ك أسماء جواريك
ولا فاختة النخل ... من الطاووس والديك
تعالى الله ما أحس؟ ... ن ما براك باريك
فقال له رجل: يا شيخ أفي مثل هذا الموضع؟ قال: وما على من قضى حجه أن يشكو بثه ويصف من هويه.
؟؟
حسد إسحاق الموصلي للأصمعي
حدثنا أحمد بن العباس العسكري، قال حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ، قال حدثني أحمد بن علي بن أبي نعيم قال: كان الرشيد يحب الوحدة، فكان إذا ركب حماره عادله الفضل بن الربيع، وكان الأصمعي يسير قريباً منه بحيث يحادثه، وإسحاق الموصلي على دابةٍ يسير قريباً من الفضل. فأقبل الأصمعي لا يحدث الرشيد شيئاً إلا سر به وضحك منه، فحسده إسحاق.

وكان فيما حدثه الأصمعي قال: يا أمير المؤمنين مررت على رجلٍ زانكي جالس على بابه قال: ويحك فما الزانكي؟ فوصفه له قال العسكري: هو الشارط قال: فقلت له : يا فتى أيسرك أنك أمير المؤمنين؟ قال: لا، قلت: ولم؟ قال: لا يدعوني أذهب حيث شئت، قال فقال الرشيد: صدق والله ما يدعونا نذهب حيث شئنا. قال: فاستضحك الرشيد. قال فقال إسحالق للفضل: ما يقول كذب، فقال الرشيد: أي شيء قال؟ فأخبره فغضب فقال: والله إن كان ما يقول كذباً إنه لأظرف الناس، وإن كان حقاً إنه لأعلم الناس فمكث بينهما شر دهراً من الدهر، فقال إسحاق:

أصيمع باهلي يستطيل النخار ومعاوية
حدثنا أبو النضر العقيلي، قال حدثني عبيد الله اليزيدي قال حدثنا محمد بن حبيبٍ عن ابن الأعرابي قال: دخل النخار العذري النسابة على معاوية وعليه عباءة فكلمه فأعرض عنه، فقال: يا معاوية إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها، فأقبل عليه.
رؤبة والنسابة البكري
حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثنا أبو عثمان المازني بكر بن محمدٍ قال حدثنا الأصمعي عن العلاء بن أسلم قال: سمعت رؤبة بن العجاج يقول: أتيت النسابة البكري فقال لي: من أنت؟ قلت: رؤبة بن العجاج، فقال لي: قصرت وعرفت، لعلك من قوم عندي إن سكت عنهم لم يسألوني وإن حدثتهم لم يعوا عني، قال قلت: أرجو أن لا أكون كذلك، قال: فما أعداء المرء؟ قال قلت: لا أدري فأخبرني، قال بنو عم السوء إن رأوا قبيحاً أذاعوه وإن رأوا حسناً دفنوه. ثم قال لي: إن للعلم آفةً ونكداً وهجنة، فآفته نسيانه، ونكده الكذب فيه، وهجنته نشره عند غير أهله.
عافية بن يزيد القاضي
حدثنا محمد بن الحسن بن زيادٍ المقرى قال حدثنا داود بن وسيم البوشنجي ببوشنج قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن عمه عبد الملك بن قريب الأصمعي أنه قال: كنت عند الرشيد يوماً فرفع إليه في قاضٍ كان استقضاه هو يقال له عافية، فكثر عليه فأمر بإحضاره فأحضر، وكان في مجلسه جمع كثير، فجعل أمير المؤمنين يخاطبه ويوقفه على ما رفع فيه، وطال المجلس، ثم إن أمير المؤمنين عطس فشمته من كان بالحضرة من قرب منه سواه فإنه لم يشمته، فقال له الرشيد: ما بالك لم تشمتني كما فعل القوم، فقال له عافية لأنك يا أمير المؤمنين لم تحمد الله عز وجل فلذلك لم أشمتك هذا النبي صلى الله عليه وسلم عطس عنده رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال: يا رسول الله ما بالك شمت ذاك ولم تشمتني؟ فقال: إن هذا حمد الله تعالى فشمتناه، وأنت فلم تحمده فلم أشمتك، فقال له الرشيد: ارجع إلى عملك، أنت لم تسامح في عطسةٍ، تسامح في غيرها؟ وصرفه منصرفاً جميلاً.
قال أبو بكر: هذا عافية بن يزيد الأودي قلده المهدي القضاء وأشرك بينه وبين محمد بن عبد الله بن علاثة الكلابي، قال أبو بكرٍ فأخبرنا عبد الله بن الحسن الخزاعي عن علي بن الجعد قال: رأيت محمد بن عبد الله وعافية بن يزيد وقد أشرك المهدي بينهما في القضاء يقضيان جميعاً.
؟التشميت والتسميت قال القاضي أبو الفرج: يقال لما يدعى به للعاطس سمت وشمت، وهو بالشين المعجمة أفصح في اللغة وأشهر في الرواية، وقيل إنه مأخوذ من قولهم: استأشمت الماشية في الرعي بمعنى أنها انبسطت فيه. وأما التسميت بالسين المهملة فكأنه أراد به الرفق والتسكين. وأخذ من السمت ومن القصد ومثله: رفوت فلاناً إذا رفقت به ولاينته كما قال الهذلي:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقال بعضهم: التشميت مبادرة العاطس بالدعاء له، والمبادرة إلى تشميته كسرعة الشامت بالشماتة إلى من يشمت به. وقد ذكر أن بعض جلساء الرشيد شمت الرشيد وقد عطس، فقال له بعض الحاضرين: لا ينبغي أن تفعل مثل هذا، ولا تخاطب أمير المؤمنين بما يقتضي منه تكلف الرد، وأن بعضهم قال: أصاب المشمت السنة وأصاب المعترض عليه أدب المجالسة للسلطان.

قال القاضي أبو الفرج: قد أصاب المشمت في هذه القصة إصابةً مطلقةً لا خطأ فيها ولا شريطة، وأخطأ الراد عليه والمعتذر لمن نهاه والموبخ له، ولو كان الأمر على ما ذكره لكان ينبغي للناس ترك السلام على أئمتهم إذا دخلوا عليهم والكف عن تعزيتهم وتهنئتهم، وأحق من شمت ودعي في مواطن الدعاء له أمير المؤمنين، وأولى من سارع إلى تحية المسلم بأحسن منه تحيته أو مثلها كما أمر الله عز وجل وبادر بتأدية الفرض فيه وفي ما جرى مجراه من التشميت وغيره أئمة الدين. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد على من شمته من أمته وأهل ذمته ويشمت من عطس من المسلمين بحضرته، وروي أن اليهود كانوا يتعاطسون عنده رجاء أن يدعو لهم. وعلى نحو ما وصفنا مضت الأئمة الراشدون والسلف الصالحون والخلفاء المهديون. وذكر أن الحجاج بن يوسف قال للناس يوماً: بلغني أن أمير المؤمنين عبد الملك عطس فشمته من حوله فرد عليهم، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. وروى بعضهم أنه كتب بهذا القول والأمنية إلى عبد الملك. وأكثر من يشير في هذه الأمور بغير الحق من لا رأي له ولا أمانة ولا للأئمة عنده موالاة ولا نصيحة. وقد تجاوزوا هذا الحد إلى السعي فيما يقدح في المملكة ويشعث أسباب الخلافة، ولكن ما الحيلة إذا كان الرأي في يد من يملكه ويتمكن من تصريفه على هواه فيه دون من يعرفه ويضطلع في ترتيبه مرتبته وإنزاله منزلته ويؤثر الحق على نفسه وأقربيه ولا يخاف لومة لاثم.
قال القاضي: وما أتى في سنة العطاس وما ندب فيه العاطس وأرشد إليه وصفة التشميت والرد على المشمت من الآثار والرواية والاخبار ومنظوم الأشعار أكثر من أن يحيط امرؤ به في مثل هذا الموضع.
؟

المجلس الحادي والستون
؟
حديث في أشراط الساعة

أخبرنا المعافى بن زكرياء قال: حدثنا محمد بن الحسن بن علي بن سعيد أبو الحسن الترمذي في صفر سنة سبع عشرة وثلاثمائة إملاءً من أصل كتابه، قال حدثنا أبو سعيد محمد بن الحسين بن ميسرة، قال حدثنا أبو بكر محمد بن أبي شعيب الخواتيمي، قال حدثنا إبراهيم بن مخلد عن سليم الخشاب مولى لبني شيبة قال أخبرني ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: لما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أخذ بحلقتي باب الكعبة ثم أقبل بوجهه على الناس فقال: يا أيها الناس فقالوا: لبيك يا رسول الله فدتك آباؤنا وأمهاتنا، ثم بكى حتى علا انتحابه فقال: يا أيها الناس إني أخبركم بأشراط القيامة، إن من أشراط القيامة إماتة الصلوات واتباع الشهوات والميل مع الهوى وتعظيم رب المال، قال فوثب سلمان فقال: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال إي والذي نفسي بيده، عندها يذوب الملح في الماء مما يرى، ولا يستطيع أن يغير، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال إي والذي نفسي بيده، إن المؤمن ليمشي بينهم يؤمئذٍ بالمخافة، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يكون المطر قيظاً والولد غيظاً، تفيض اللئام فيضاً، يغيض الكرام غيضاً، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، للمؤمن يومئذٍ أذل من الأمة، فعندها يكون المنكر معروفاً والمعروف منكراً ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، ويصدق الكذاب، ويكذب الصادق، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يكون أمراء جورة، ووزراء فسقة، وأمناء خونة، وإمارة النساء ومشاورة الأماء، وصعود الصبيان المنابر، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم وإن سكتوا استباحوهم، ويستأثرون بفيئهم يطأون حريمهم ويجار في حكمهم يليهم أقوام جثاهم جثا الناس، قال القاضي أبو الفرج: هو هكذا في الكتاب، والصواب جثثهم جثث الناس وقلوبهم قلوب الشياطين لا يوقرون كبيراً ولا يرحمون صغيراً قال سلمان: بأبي أنت وأمي، وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، يا سلما، عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس والبيع، وتحلى المصاحف، ويطيلون المنابر، وتكثر الصفوف، قلوبهم متباغضة وأهواؤهم جمة وألسنتهم مختلفة، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يأتي سبي من المشرق يلون أمتي فويل للضعفاء منهم، وويل لهم من الله، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يكون الكذب ظرفاً والزكاة مغرماً، وتظهر الرشا، ويكثر الربا، ويتعاملون بالعينة، ويتخذون المساجد طرقاً، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها تتخذ جلود النمور صفاقاً، وتتحلى ذكور أمتي بالذهب ويلبسون الحرير، ويتهاونون بالدماء، وتظهر الخمور والقينات والمعازف، وتشارك المرأة زوجها في التجارة؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها يطلع كوكب الذنب وتكثر السيجان ويتكلم الرويبضة، قال سلمان: وما الرويبضة؟ قال يتكلم في العامة من لم يكن يتكلم، ويحتضن الرجل للسمنة، ويتغنى بكتاب الله تعالى ويتخذ القرآن مزامير، وتباع الحكم وتكثر الشرط؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يحج أمراء الناس لهواً وتنزهاً، وأوساط الناس للتجارة، وفقراء الناس للمسألة، وقراء الناس للرياء والسمعة؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يغار على الغلام كما يغار على الجارية البكر، ويخطب الغلام كما تخطب المرأة، ويهياً كما تهيا المرأة، وتتشبه النساء بالرجال وتتشبه الرجال بالنساء، ويكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وتركب ذوات الفروج السروج فعليهن من أمتي لعنة الله، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يظهر قراء عبادتهم التلاوم بينهم، أولئك يسمون في ملكوت السماء الأنجاس والأرجاس؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، تتشبب المشيخة، قال

قلت: وما تشبب المشيخة؟ قال: أحسبه ذهب من كتابي أن الحمرة هذا الحرف وحده خضاب الإسلام والصفرة خضاب الإيمان والسواد خضاب الشيطان قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يوضع الدين وترفع الدنيا ويشيد البناء وتعطل الحدود ويميتون سنتي، فعندها يا سلمان لا ترى إلا ذاماً ولا ينصرهم الله، قال: بأبي أنت وأمي وهم يومئذ مسلمون كيف لا ينصرون؟ قال: يا سلمان إن نصرة الله الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، وإن أقواماً يذمون الله تعالى ومذمتهم إياه أن يشكوه وذلك عند تقارب الأسواق، قال: وما تقارب الأسواق؟ قال عند كسادها كل يقول: ما أبيع ولا أشتري ولا أربح، ولا رازق إلا الله تعالى. قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يعق الرجل والديه ويجفو صديقه، ويتحالفون بغير الله ويحلف الرجل من غير أن يستحلف ويتحالفون بالطلاق، يا سلمان لا يحلف بها إلا فاسق، ويفشو الموت موت الفجاءة ويحدث الرجل سوطه؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها تخرج الدابة، وتطلع الشمس من مغربها، ويخرج الدجال وريح حمراء، ويكون خسف ومسخ وقذف ويأجوج ومأجوج وهدم الكعبة، وتمور الأرض، وإذا ذكر الرجل رؤي.ت: وما تشبب المشيخة؟ قال: أحسبه ذهب من كتابي أن الحمرة هذا الحرف وحده خضاب الإسلام والصفرة خضاب الإيمان والسواد خضاب الشيطان قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يوضع الدين وترفع الدنيا ويشيد البناء وتعطل الحدود ويميتون سنتي، فعندها يا سلمان لا ترى إلا ذاماً ولا ينصرهم الله، قال: بأبي أنت وأمي وهم يومئذ مسلمون كيف لا ينصرون؟ قال: يا سلمان إن نصرة الله الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، وإن أقواماً يذمون الله تعالى ومذمتهم إياه أن يشكوه وذلك عند تقارب الأسواق، قال: وما تقارب الأسواق؟ قال عند كسادها كل يقول: ما أبيع ولا أشتري ولا أربح، ولا رازق إلا الله تعالى. قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يعق الرجل والديه ويجفو صديقه، ويتحالفون بغير الله ويحلف الرجل من غير أن يستحلف ويتحالفون بالطلاق، يا سلمان لا يحلف بها إلا فاسق، ويفشو الموت موت الفجاءة ويحدث الرجل سوطه؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها تخرج الدابة، وتطلع الشمس من مغربها، ويخرج الدجال وريح حمراء، ويكون خسف ومسخ وقذف ويأجوج ومأجوج وهدم الكعبة، وتمور الأرض، وإذا ذكر الرجل رؤي.

ابن عباس يتوقع أشراط الساعة
حدثنا محمد بن الحسن الترمذي، قال حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، قال حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا ابن جريج قال حدثني ابن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم فقال: والله ما نمت حتى أصبحت، قال قلت: ولم ذاك؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب، خشيت أن يكون الدجال قد طرق، فوالله ما نمت حتى أصبحت.
مادة ش ر ط
قال القاضي أبو الفرج: قوله: أشراط القيامة يعني أعلامها وأماراتها قال الله تعالى: " فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها " محمد:18 يعني علاماتها، يقال أشرط الرجل نفسه أي وسمها بسيما وجعل لها علامة تعرف بها، قال أوس بن حجر
فأشرط فيها نفسه وهو معلم ... وألقى بأسبابٍ له وتوكلا
والواحد من الأشراط، وشرط المال رذاله، قال الشاعر:
وفي شرط المعزى لهن مهور
وقوله: يكثر السيجان وهي الطيالسة وأحدها ساج، ومثله تاج وتيجان ونار ونيران وجار وجيران، وقال بعض اللغويين: هي الخضر منها خاصة.
المؤلف يرى كثيراً من أشراط الساعة

قال القاضي أبو الفرج: وقد رأينا كثيراً من أشراط القيامة وأدركنا منها ما فيه عظة وكأنا بباقيها قد ردف ما فرط من ما ضيها، وحقيق على كل ذي مرة سوي وأخي دين رضي أن يبادر ما قد أظله بالتوبة وبحسن الإقلاع والإنابة، ويتأهب لما هو لاقيه لا محالة، ولا يضيع ما أنعم الله تعالى عليه من المهلة، ولا يغتر بالأماني الكاذبة، فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، والغار نفسه بالتسويف بعد الزجر والتخويف لا يعذر، وفقنا الله وإياكم للجد فيما يرضيه، وعصمنا من ركوب معاصيه، وأعاننا على عدوه القاصد بكيده لضلالتنا، والحريص على غوايتنا واستزلالنا، برأفته.

خطبة عتبة في حجته
حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن دريد قال حدثنا أبو عثمان عن العتبي عن أبيه عن هشام بن صالح عن سعيد القصير قال: حج عتبة سنة إحدى وأربعين والناس قريب عهدهم بالفتنة، فصلى بمكة الجمعة ثم قال: يا أيها الناس إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف للمحسن فيه الأجر وعلى المسيء فيه الوزر، ونحن على طريق ما قصدنا، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا فإنها تنقطع دوننا، ورب متمن حتفه في أمنيته، فاقبلوا العافية ما قبلناها فيكم وقبلناها منكم. وإياكم ولو فإنها أتعبت من كان قبلكم ولن تريح من بعدكم، وأنا أسأل الله تعالى أن يعين كلاً على كل؛ قال فصاح به أعرابي: أيها الخليفة، فقال: لست به ولم تبعد، فقال: يا أخاه، فقال: قد أسمعت فقل، فقال: تالله إن تحسنوا وقد أسأنا خير من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم دوننا فما أحقكم باستتمامه، وإن كان منا فما أولاكم بمكافأتنا، رجل من بني عامر بن صعصعة يلقاكم بالعمومة، ويقرب إليكم بالخؤولة، قد كثره العيال ووطئه الزمان، وبه فقر وعنده شكر، فقال عتبة: أستغفر الله منكم وأستعينه عليكم، قد أمرت لك بغناك فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
قد بلغ السيل الزبى
حدثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن الحسن قال: لما كثر الطعن على عثمان رضي الله عنه تنحى علي عليه السلام إلى ماله بينبع فكتب إليه عثمان: أما بعد فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين وبلغ الأمر فوق قدره، وطمع في من لا يدفع عن نفسه.
فإن كنت مأكولاً فكن خيرا آكلٍ ... وإلا فأدركني ولما أمزق
قال ابن مزيد حدثني بهذا الحديث بعينه أحمد بن الحارث الخزاز عن أبي الحسن المدائني سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
ظلم آل علي أحب إلى الزبير
حدثنا ابن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال: كان الزبير إذا جاءه من ناحية ولد علي بن أبي طالب عليهم السلام أذى وجاءه من ناحية ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم مثله قال: والله لأن يظلمني آل علي أحب إلي وينشد:
وإن كنت مقتولاً فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
تفسير ما تقدم
قال أبو عبيدة: قوله: بلغ السيل الزبى فإنها زبى الأسد التي تحفر له، وإنما جعلت مثلاً في بلوغ السيل إليها لأنها إنما تجعل في الروابي من الأرض، ولا تكون في المنحدر، وليس يبلغها إلا سيل عظيم.
قال القاضي أبو الفرج رحمه الله: وقوله: وجاوز الحزام الطبيين يعني قد اضطرب من شدة السير حتى خلف الطبيين من اضطرابه، يضرب هذا المثل للأمر الفظيع الفادح الجليل: وأما قوله:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكلٍ ... وإلا فأدركني ولما أمزق
فإن هذا بيت تمثل به لشاعر من عبد القيس جاهلي يقال له الممزق، وإنما سمي ممزقاً لبيته هذا، وقال الفراء الممزق.
قال القاضي أبو الفرج: ومن الزبية التي هي مصيدة الأسد قول الطرماح بن حكيم:
يا طيء السهل والأجبال موعدكم ... كبمتغي الصيد أعلى زبية الأسد
وقال الراجز:
قد كنت في الأمر الذي قد كيدا ... كاللذ تزبى زبية فاصطيدا
اللذ: لغة في الذي. ومن العرب من يقول اللذ بكسر الذال من غير إثبات ياء كما قال الشاعر:
واللذ لو يكنى لكانت برا ... أوجبلاً أشم مشمخرا
ويقال من هذه اللغة يعني الذ مسكنة الذال، في المؤنث اللت، قال الشاعر:
فقل للت تلومك إن نفسي ... أراها لا تعلل بالنمير

والزبية على ما بينا لا تتخذ إلا في قلة رابيةٍ أو رأس قلعةٍ أو هضبة، قال العجاج: وقد علا السيل الزبى فلا غير أي جل الأمر عن التلافي والإصلاح للتغيير، وقيل إن الغير هاهنا الديات، والمعنى لكثرة القتل. ومن الغير بمعنى الديات قول هدبة بن الخشرم:
لنجد عن أنوفاً من أنوفكم ... بني أمية أن لا تقبلوا الغيرا
والعرب تقول في شدة الأمر تفاقمه واستشراء الشر وتعاظمه: قد علا الماء الزبى، وانقد في البطن السلى، وبرح الخفا، وحلت الحبا، وبلغ السكين العظيم، والتقت حلقتان البطان، وهو مضارع لقولهم: بلغ الحزام الطبيين، قال أوس بن حجر:
وازدحمت حلقتا البطان بأق؟ ... وام وطارت نفوسهم جزعا
ومن أفصح ما أتى في هذا المعنى ما جاء القرآن به وذلك قوله عز وجل: " والتفت الساق بالساق " القيامة:29 وقال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
والطبيان تثنية طبي وجمعه أطباء، ويقولون: التقت حلقتا البطان والحقب، ومنه:
أشدد بمثنى حقبٍ حقواها
ويقال حقب البعير إذا صار الحزام في الحقب، قال الشاعر:
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير
والأطباء موضع الثدي من السباع، ويقال لذلك الموضع من ذوات الخف والظلف أخلاف والواحد خلف، قال ابن عبدل:
وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
؟

عتاب بين علي وعثمان
وحدثني عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي قال حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي قال: ويروى عن قنبر مولى علي قال: دخلت مع علي على عثمان فأحبا الخلوة فأومى إلي علي بالتنحي فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتب علياً وعلي مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: مالك لا تقول؟ قال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب؛ قال أبو العباس: تأويل ذلك أني إن تكلمت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي فلذعك عتابي، وعقدي أن لا أفعل وإن كنت عاتباً إلا ما تحب.
تأويل المؤلف لمعنى العتاب
قال القاضي أبو الفرج: هذا الذي تأوله أبو العباس وجه مفهوم، وفي هذا القول تأويل آخر، وهو أن يكون أراد أنه إن شرع في مخاطبته بما استدعي أن يخاطبه فيه ذكر له أنه أتى بخلاف الأصوب عنده، وترك ما كان الأولى به أن يفعله، إلا أنه لإشفاقه عليه مع إيثاره النصيحة له آثر محبته وكره إظهار ما فيه تثريب عليه أو لائمة له، وهذا التأويل عندي أصح من تأويل أبي العباس، وقد ورد في معناه ما يشهد لما وصفناه في القصة التي ذكرنا.
عثمان يشكو علياً إلى ابن عباس حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الرحمن بن منصور قال حدثنا العتبي عن أبيه قال: بعث عثمان بن عفان إلى ابن عباس وهو محصور عنده مروان بن الحكم، فقال عثمان: يا ابن عباس أما ترى إلى ابن عمه عمك كان الأمر في بني يتم وعدي فرضي وسلم حتى إذا صار الأمر إلى ابن عمه بغاه الغوائل، قال ابن عباس فقلت له: والله إن ابن عمي ما زال عن الحق ولا يزول، ولو أن حسناً وحسيناً بغيا في دين الله الغوائل لجاهدهما في الله حق جهاده، ولو كنت كأبي بكر وعمر لكان لك كما كان لأبي بكر وعمر بل كان لك أفضل لقرابتك ورحمك وسنك، ولكنك ركبت المر وهاباه. قال ابن عباس: فاعترضني مروان فقال: دعنا من تخطئتك يا ابن عباس فأنت كما قال الشاعر:
دعوتك للعتاب ولست أدري ... أمن خلفي المنية أم أمامي
فشققت الكلام رخي بالٍ ... وقد جل الفعال عن الكلام
إن يكن عندك لهذا الرجل غياث فأغثه، وإلا فما أشغله عن التفهم لكلامك والفكر في جوابك، قال ابن عباس، فقلت له: هو والله كان عنك وعن أهل بيتك أشغل إذ أوردتموه ولم تصدروه، ثم أقبلت على عثمان رضي الله عنه فقلت له:
جعلت شعار جلدك قوم سوءٍ ... وقد يجزى المقارن بالقرين
فما نظروا لدنيا أنت فيها ... بإصلاحٍ وما نظروا لدين
ثم قلت له: إن القوم والله غير قابلين إلا قتلك أو خلعك، فإن قتلت على ما قد علمت وعملت، وإن تركت فإن باب التوبة مفتوح.
قال القاضي أبو الفرج: فقد أنبأ هذا الخبر أن أصح التأويلين في ما قاله علي لعثمان في الخبر المتقدم هو ما وصفنا.
حق العالم على غيره

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا ابن الأعرابي وسهل بن هارون قال، قال علي بن أبي طالب عليه السلام: من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا نفشي له سراً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تجلس أمامه، وإذا أتيته خصصته بالتحية وسلمت على القوم كافة، وأن تحفظ سره ومغيبه ما حفظ أمر الله عز وجل؛ فإنما العالم بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء، والعالم أفضل من الصائم القائم الغازي في سبيل الله تعالى، وإذا مات العالم شيعه سبع وسبعون ألفاً من مقربي السماء وإذا مات العالم انثلم بموته في الإسلام ثلمة لا تسد إلى يوم القيامة.
؟

ليلة قر
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثنا أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي عن أبيه قال: أدخلت إلى الرشيد يوماً فقال لي: أنشدني في شدة البرد فأنشدته لابن محكان السعدي:
في ليلة من جمادى ذات أنديةٍ ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
ما ينبح الكلب فيها غير واحدةٍ ... حتى يلف على خرطومه الذنبا
قال القاضي: وقد روي على خيشومه.
فقال هات غير هذا، فأنشدته:
وليلة قرٍ يصطلي القوس ربها ... وأقدحه اللائي بها يتنبل
فقال لي ما بعد هذا شيء. قال الصولي وأنشدني عبد الله بن المعتز لنفسه:
وليلٍ يود المصطلون بناره ... لو أنهم حتى الصباح وقودها
رفعت لها ناري لمن يبتغي القرى ... على شرفٍ حتى أتتها وفودها
شرح وتوضيح قال القاضي: قول انب محكان ذات أندية: ذكر جمهور أهل العلم أن جمع الندى، أنداء على أفعال وأنه الباب في هذا النوع من المقصور، وأن الباب في الممدود من جنسه على أفعلة ومنه حشا وأحشاء وطلا وأطلاء وأما الممدود فمنه عطاء وأعطية وخلاء وأخلية وقباء وأقبية، ألا ترى أنهم يقولون هوى في هوى النفس مقصور ويجمعونه أهواء، قال الله تعالى ذكره: " واتبعوا أهواءهم " محمد: 14،16 وقالوا في جمع هواء الجو الممدود أهوية، وأن أندية في بيت ابن محكان شذ عن القياس. وزعم بعضهم أن أندية في هذا البيت جمع نادٍ وهو المجلس، وأن المعنى أنهم كانوا يجلسون في النادي يصطلون عند شدة البرد، وأن ذلك بمنزلة قولهم وادٍ وأودية، وقيل إنه جمع ندي وهو مثل النادي، وأنكر هؤلاء جمع الندى الذي هو في معنى الطل أندية.وقد زعم الفراء في قول الله تعالى: " وأحسن ندياً " مريم: 73 أن الندي تجمع أندية والنادي نوادي القوم، وقال: ولو جمعت الندى نوادي والنادي أندية كان صواباً لأن معناهما واحد.
قال القاضي أبو الفرج: يتجه صرف الأندية في بيت ابن محكان إلى وجه يطرد في القياس جمعه على أفعلة لكن المعنى الظاهر أنه عنى به يبطل أو يتشعث، والذي عندي في هذا أنهم جمعوا الندى بمعنى الطل أنداء على أصله وقياسه ذو أندية على الشذوذ وإدخاله في غير بابه، كما قالوا في جمع رحى أرحاء على القياس وأرحية على الشذوذ، والباب في الجمع أحد الأبواب التي أخرج على القياس وأرحية على الشذوذ، والباب في الجمع أحد الأبواب التي أخرج كثير منها عن أصل قياسه وألحق بغير بابه. ومن الأندية بمعنى المجالس قول الشاعر:
يومان يوم مقامات وأنديةٍ ... ويوم سيرٍ إلى الأعداء تأويب
التأويب: سير النهار، والسرى: سير الليل، والإساد: سير الليل والنهار، هذا قول محققي أهل اللغة في هذه الفصول التي ذكرناها في هذا الباب من الجمع. وقد استقصينا القول فيها وفيما يضارعها وفي البيت الذي أنشدناه في بيت ابن محكان في موضع غير هذا، وأتينا فيهما بما لم نر لإعادته في هذا الموضع وجهاً، وقد روينا خبراً في هذه القصة وفيها أبيات لابن محكان عدة وفي أولها:
يا ربة البيت قومي غير صاغرةٍ ... ضمي إليك رجال القوم والقربا
ولعلنا أن نورد هذه الرواية فيما بعد إن شاء الله تعالى.
المجلس الثاني والستون
يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت

أخبرنا المعافى قال حدثنا إبراهيم بن الفضل الحلواني سنة سبع عشرة وثلاثمائة قال حدثنا أحمد بن حازم الكوفي قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا شيبان عن ليث عن شهر بن حوشب الأشعري عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله قال: إن الله عز وجل يقول يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم، ومن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني بقدرتي غفرت له ذنوبه، وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على إشقاء قلب عبدٍ من عبادي لم ينقص ملكي جناح بعوضة، ولو أن حيكم وميتكم وأولكم وآخركم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فسأل كل سائل ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل ما سأل لم ينقص ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر على شفة البحر فغمس فيه إبرة ثم انتزعها، وذلك بأني جواد واجد أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون.

تعليق على الحديث
قال القاضي أبو الفرج: في هذا الخبر ما يبعث على التفكر في عظمة الله ورأفته ورحمته وسعة ملكه وجوده وكرمه، ويدعو إلى توجيه كل راغب إليه رغبته ومسألته ومغفرته وانزاله كل حاجة به ثقة بتفضله وإيماناً بأنه الملك الأعز الأكرم وحده الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وأنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأن الفضل كله بيده، اللهم فاغفر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا واكشف كروبنا وطهر قلوبنا فقد فرطنا في أمورنا وظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم وأجرنا من سخطك واعصمنا من معصيتك ووفقنا لطاعتك وأعنا على عبادتك وأوزعنا شكر نعمتك وألهمنا ذكرك، ويسر لنا الحلال الطيب من رزقك وألبسنا عافيتك وافتح لنا أبواب فضلك وأحينا متقلبين في نعمك منعمين بخيرك واختم لنا خير خاتمة وأكرمنا بحسن المنقلب، واجعل قبضك إيانا راحةً لنا من فتن الدنيا ومهالكها ومفضياً بنا إلى روح الجنة وممالكها، إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
وصية عبد الملك لأبنائه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن العتبي قال: لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة جمع ولده وفيهم مسلمة وكان سيدهم فقال: أوصيكم بتقوى الله تعالى فإنها عصمة باقية وجنة واقية، وهي أحصن كهفٍ وأزين حلية، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حق الكبير، مع سلامة الصدور، والأخذ بجميل الأمور، وإياكم الفرقة والخلاف فبهما هلك الأولون، وذل ذوو العزة المعظمون. انظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون ومجنكم الذي به تستجنون، وأكرموا الحجاج فإنه وطأ لكم المنابر وأثبت لكم الملك، وكونوا بني أم برزة وإلا دبت بينكم العقارب، كونوا في الحرب أحراراً وللمعروف مناراً، واحلولوا في مرارةٍ، ولينوا في شدة، وضعوا الذخائر عند ذوي الحساب والألباب، فإنه أصون لأحسابهم وأشكر لما يسدى إليهم. ثم أقبل على ابنه الوليد فقال: لا ألفينك إذا مت تجلس تعصر عينيك وتحن حنين الأمة، ولكن شمر وائتزر والبس جلدة نمر ودلني في حفرتي وخلني وشأني وعليك وشأنك، ثم ادع الناس إلى البيعة فمن قال هكذا فقل بالسيف هكذا. ثم أرسل إلى عبد الله ابن يزيد بن معاوية وخالد بن أسيد فقال: هل تدريان لم بعثت إليكما؟ قالا: نعم لترينا أثر عافية الله تعالى إياك، قال: لا، ولكن قد حضر من الأمر ما تريان، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء؛ فقالا: لا، والله ما نرى أحداً أحق بها منه بعدك يا أمير المؤمنين، وقال: أولى لكما، أما والله ولو غير ذلك قلتما لضربت الذي فيه أعينكما، ثم رفع فراشه فإذا السيف مشهور، ولم يزل بين مقالتين حتى فاظ، مقالته الأولى:
فهل من خالدٍ إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
ومقالته الثانية: الحمد لله الذي لا يبالي من أخذ من خلقه أو ترك، صغيراً أو كبيراً، حتى مات، فسجاه الوليد، وكان هشام أصغر ولده فقال:
وما كان قيس هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
فلطمه الوليد ثم قال له: اسكت يا ابن إلا شجعية فإنك أحول أكشف، تنطق بلسان شيطان، ألا قلت:

إذا مقرم منا ذرى حد نابه ... تخمط منا ناب آخر مقرم
فقال مسلمة: إياكم والضجاج فإنكم إن صلحتم صلح الناس، وإن فسدتم كان الفساد أسرع، ثم قال:
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على شخصه يوم علي عصيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... نكوب على آثارهن نكوب
فقال سليمان: مات والله أمير المؤمنين وصار في منزلة هو فيها والذليل الضعيف سواء. ثم صعد المنبر الوليد فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون يا لها مصيبة ما أعظمها وأفظعها، وأخصها وأعمها وأوجعها، موت أمير المؤمنين، ويا لها نعمةً ما أعظمها وأجسمها وأوجب الشكر علي لله فيها: خلافته التي سربلنيها. فكان أول من عزى نفسه وهنأها بالخلافة. ثم قال: انهضوا رحمكم الله فبايعوا على بركة الله. فلما بايعه الناس جلس مجلس عبد الملك وجمع أهل بيته ثم قال:
ألقوا الضغائن والتحاسد بينكم ... عند المغيب وفي الحضور الشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مد في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدهر ألف بينكم ... بتواصلٍ وتراحمٍ وتودد
وانفوا الضغائن والتخاذل عنكم ... بتكرمٍ وتوازرٍ وتغمد
حتى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسودٍ منكم وغير مسود
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنقٍ وبطش أيد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد

شروح وتعليقات
قال القاضي: قوله: تحن حنين الأمة، الحنين: البكاء، وقيل صوت البكاء، كما قال الشاعر:
فلا تبكوا علي ولا تحنوا ... بقول الإثم إن الإثم حوب
وأما تمثل هشام بالبيت الذي ذكرناه فإنه لعبدة بن الطبيب قاله في قيس ابن عاصم يرثيه في شعرٍ له وهو:
عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أسديته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
ويروى: هلك واحدٍ، رفعاً ونصباً، فمن نصب فعلى أنه خبر كان، وجعل قوله هلكه بدلاً من قيس، البدل المعروف بالاشتمال لاشتماله على المعنى، كقولك أعجبني عبد الله علمه؛ المعنى: أعجبني علم عبد الله.
قال الله تعالى: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه " البقرة: 217 المعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام. ومن هذا النوع قول الأعشى بهجو الحارث بن وعلة:
لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى ... شمائله ولا آباه المجالدا
المعنى: شمائل وعلة؛ والبدل في الكلام له أقسام وفروع وأحكام، والكوفيون يعبرون عن هذا الباب بالتكرير والترجمة والإتباع، ولبسطه وشرحه موضع هو أولى به، وقد ذكرناه في غير موضع من كتبنا وضمنا طرفاً منه في كتابنا المسمى الشافي في طهارة الرجلين.
؟
حوار بين ابن الزبير وابن عباس
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال أخبرنا أبو عكرمة الضبي عامر بن عمران قال أخبرنا العتبي عن أبيه قال: لما خرج الحسين بن علي عليهما السلام إلى الكوفة اجتمع ابن عباسٍ وعبد الله بن الزبير بمكة، قال: فضرب ابن عباس على جنب ابن الزبير وتمثل:
يا لك من قبرةٍ بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
خلا والله يا ابن الزبير الحجاز وصار الحسين إلى العراق؛ قال فقال

ابن الزبير لابن عباس: والله ما ترون إلا أنكم أحق بهذا الأمر من سائر الناس، فقال له ابن عباس: إنما يرى من كان في شكٍ، فأما نحن فمن ذلك على يقين، ولكن أخبرني عن نفسك: لم زعمت أنك أحق بهذا الأمر من سائر العرب؟ قال ابن الزبير: لشرفي عليهم قديماً لا ينكرونه، قال: فأيما أشرف أنت أم من شرفت به؟ قال: إن الذي شرفت به زادني شرفاً. قال: وعلت أصواتهما، فقال ابن أخ لعبد الله بن الزبير: يا ابن عباس دعنا من قولك فو الله لا تحبونا يا بني هاشم أبداً، قال: فخفقه عبد الله بن الزبير بالنعل وقال: أتتكلم وأنا حاضر؟، فقال له ابن عباس: لم ضربت الغلام وما استحق الضرب وإنما يستحق الضرب من مرق ومذق؟ قال: يا ابن عباس أما تريد أن تعفو عن كلمة وأحدةٍ؟ قال: إنما نعفو عن من أقر فأما من هر فلا؛ قال: فقال ابن الزبير: فأين الفضل؟ قال ابن عباس: عندنا أهل البيت لا نضعه في غير موضعه فنندم، ولا نزويه عن أهله فنظلم، قال: أولست منهم؟ قال: بلى إن نبذت الحسد ولزمت الجدد؛ قال: فاعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما.

قصة جحدر اللص والحجاج والأسد
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال أخبرني أحمد بن عبيدٍ عن أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي قال: بلغني أنه كان رجل من بني حنيفة يقال له جحدر بن مالك فتاكاً شجاعاً قد أغار على أهل حجرٍ وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف، فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه بتلاعب جحدر به، ويأمره بالاجداد في طلبه والتجرد في أمره؛ فلما وصل الكتاب إليه أرسل إلى فتيةٍ من بني يربوع من بني حنظلة فجعل لهم جعلاً عظيماً إن هم قتلوا جحدراً أو أتوا به أسيراً، فانطلق الفتية حتى إذا كانوا قريباً منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به، فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرةً شدوه كتافاً وقدموا به على العامل، فوجه به معهم إلى الحجاج وكتب يثني عليهم خيراً، فلما أدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا جحدر بن مالك، قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان، وجفاء السلطان، وكلب الزمان، فقال له الحجاج: وما الذي بلغ منك فيجترى جنانك ويجفوك سلطانك ويكلب زمانك؟ قال: لو بلاني الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان وبهم والفرسان، ولوجدني من أنصح رعيته، وذلك أني مالقيت فارساً قط إلا كنت عليه في نفسي مقتدراً، قال له الحجاج: إنا قاذفون بك في حائرٍ فيه أسد عاقر ضارٍ فإن هو قتلك كفانا مؤونتك، وإن أنت قتلته خلينا سبيلك؛ قال: أصلح الله الأمير، عظمت المنة، وأعطيت المنية، وقويت المحنة، فقال الحجاج: فإنا لسنا بتاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد، فأمر به الحجاج فغلت يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن. فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة: تحمل عني شعراً، وأنشأ يقول:
ألا قد هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غصنين من غربٍ وبان
فقلت لصاحبي وكنت أحزو ... ببعض الطير ماذا تحزوان
فقالا الدار جامعة قريب ... فقلت بل انتما متمنيان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير داني
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني
بلى وترى الهلال كما نراه ... ويعلوها النهار إذا علاني
إذا جاوزتما نخلات حجرٍ ... وأودية اليمامة فانعياني
وقولا جحدر أمسى رهيناً ... يحاذر وقع مصقول يماني
قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسدٍ ضارٍ عاتٍ ويجر على عجل؛ فلما ورد كتابه على العامل امتثل أمره، فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به فجعل في حائرٍ وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر فأتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى عنقة، وأعطي سيفاً والحجاج وجلساؤه في منظرةٍ لهم، فلما نظر جحدر إلى الأسد أنشأ يقول:
ليث وليث في محلٍ ضنك ... كلاهما ذو أنفٍ ومحك
وشدةٍ في نفسه وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك
أو ظفر بحاجتي ودركي ... فهو أحق منزل بترك

فلما نظر إليه الأسد زأر زأرة شديدة وتمطى وأقبل نحوه، فلما صار منه على قدر رمح وثب وثبة شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط ذباب السيف لهواته، فخر الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبر الحجاج والناس جميعاً،وأنشأ جحدر يقول:
يا جمل إنك لو رأيت كريهتي ... في يوم هولٍ مسدف وعجاج
وتقدمي لليث أرسف موثقاً ... كيما أثاوره على الإحراج
شثن براثنه كأن نيوبه ... زرق المعاول أو شباة زجاج
يسمو بناظرتين تحسب فيهما ... لما أحدهما شعاع سراج
وكأنما خيطت عليه عباءة ... برقاء أو خرق من الديباج
لعلمت أني ذو حفاظٍ ماجد ... من نسل أقوام ذوي أبراج
ثم التفت إلى الحجاج فقال:
ولئن قصدت بي المنية عامداً ... إني بخيرك بعد ذاك لراجي
ويروى: إني لخيرك يا ابن يوسف راج.
علم النساء بأنني لا أنثني ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
وعلمت أني إن كرهت نزاله ... أني من الحجاج لست بناج
فقال له الحجاج: إن شئت أسنينا عطيتك، وإن شئت خلينا سبيلك، قال: لا، بل اختار مجاورة الأمير، أكرمه الله. ففرض له ولأهل بيته وأحسن جائزته.
قال القاضي: مسدف: مظلم من السدفة، والرسف: مشي المقيد، والبرائن: مخالب الأسد. والشبا والشباة: حد الأسنة، قال أبو بكرٍ: البرقاء التي فيها سواد وبياض.

المأمون يترحم على ابن أبي خالد
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: سمعت جرير بن أحمد بن أبي دواد يحكي عن أبيه أن أحمد بن أبي خالدٍ وزير المأمون توفي في آخر سنة اثنتي عشرة ومائتين، وأن المأمون صلى عليه ووقف على قبره فلما دلي في قبره قال: رحمك الله، أنت والله كما قال الشاعر:
أخو الجد إن جد الرجال وشمروا ... وذو باطلٍ إن كان في القوم باطل
سعة علم المأمون
حدثنا عبد الباقي بن قانعٍ قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا عثمان بن عمران العجيفي عن محمد بن سعدٍ قال حدثني محمد بن حفص الأنماطي قال: تغدينا مع المأمون في يوم عيدٍ، قال: وأظنه وضع على مائدته أكثر من ثلاثمائة لونٍ، قال: فكلما وضع لون نظر المأمون إليه فقال: هذا نافع لكذا ضار لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليجتنب هذا، ومن كان منكم صاحب بلغم فليجتنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا، ومن قصد قلة الغذاء فليقتصر على هذا. قال: فو الله إن زالت تلك حاله في كل لونٍ يقدم إليه حتى رفعت الموائد، فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت هرمس في حسابه، أو في الفقه كنت علي بن أبي طالب عليه السلام في علمه، أو ذكر السخاء كنت حاتم طيء في صفته، أو صدق الحديث فأنت أبو ذرٍ في لهجته، أو الكرم فأنت كعب بن مامة في فعاله، أو الوفاء فأنت السموأل ابن عاديا في وفائه. فسر بهذا الكلام وقال: يا أبا محمد إن الإنسان إنما فضل بعقله، ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحمٍ ولا دم أطيب من دمٍ.
ميل المأمون إلى التواضع
قال: ونظر يوماً إلى رؤوس آنيته محشوةً بقطنٍ وكانت قبل ذلك بأطباق فضةٍ، فقال لصاحب الشراب: أحسنت يا بني إنما يباهي بالذهب والفضة من قلا عنده، وأما نحن فينبغي أن نباهي بالأفعال الجميلة والأخلاق الكريمة، فإياك أن تحشو رؤوس أوانيك إلا بالقطن فذاك بالملوك أهيأ وأبهى.
ولد لأبي دلامة ابنة
حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ قال حدثنا يحيى بن خليفة بن الجهم الدارمي قال حدثني محمد بن حفص المعجلي قال: ولد لأبي دلامة ابنة فغدا على أبي جعفر المنصور فقال له: يا أمير المؤمنين إنه ولد لي الليلة ابنة، قال: فما سميتها؟ قال: أم دلامٍ. قال: وأي شيء تريد؟ قال: أريد أن يعينني عليها أمير المؤمنين، ثم أنشده:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس
قال: فهل قلت فيها شيئاً؟ قال: نعم، قلت:

فما ولدتك مريم أم عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمك أم سوءٍ ... إلى لباتها وأب لئيم
قال: فضحك أبو جعفر، ثم أخرج أبو دلامة خريطةً من خرق فقال: ما هذه؟ قال: يا أمير المؤمنين أجعل فيها ما تحبوني به، فقال: املؤوها له دراهم فوسعت ألفي درهم.

إياس دخل الشام وهو غلام
حدثنا محمد بن الحسن بن زيادٍ المقري قال حدثنا مسبح بن حاتم بالبصرة قال حدثنا عبد الله بن عائشة عن أبيه قال: دخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام، فقدم خصماً له إلى قاض لعبد الملك بن مروان، وكان خصمه شيخاً صديقاً للقاضي، فقال له القاضي: يا غلام أما تستحي أن تقدم شيخاً كبيراً؟! قال إياس: الحق أكبر منه، قال له: اسكت، قال له: فمن ينطق بحجتي إذا سكت؟ قال: ما أحسبك تقول حقاً حتى تقوم، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: ما أظنك إلا ظالماً، قال: ما على ظن القاضي خرجت من منزلي. فدخل القاضي على عبد الملك فأخبره الخبر فقال له: اقض حاجته واصرفه عن الشام لا يفسد الناس علينا.
كرم إبراهيم بن عاصم العقيلي
حدثنا محمد بن أحمد بن علي الإسكافي حدثني جدي قال وحدثني أبو محلم قال: كان هشام بن عبد الملك ولى سجستان إبراهيم بن عاصم العقيلي، وكان من كرماء الناس، فقال فيه علكم بن مهير العقيلي:
أما قبيحات النساء فإننا ... أبينا، وأما منجبات الكرائم
فيمنعني منهن أن ليس عندنا ... لهن مهور أو يزار ابن عاصم
قال: فحمل إليه من سجستان قبل أن ينزع إليه مائة ألف درهمٍ.
أنواع المفاتيح
حدثنا محمد بن الحسن النقاش قال حدثنا السراج قال حدثنا داود بن رشيد قال حدثنا الوليد بن مسلمٍ قال حدثني خليد بن دعلج عن قتادة قال: مفاتيح البحر السفن، ومفاتيح الأرض الطرق، ومفاتيح السماء الدعاء.
ضوال الكلام وضوال الإبل
حدثنا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد قال، قال بعض الحكماء: ضوال الكلام أحب إلي من ضوال الإبل، قيل له: نحو ماذا؟ قال: نحو قول الشاعر:
وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظن ما الله صانع
وصف دعوة مظلوم
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال أنشدنا أبو إسحاق إبراهيم بن المدبر قال أنشدني محمد بن عمر الجرجاني قال أنشدني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال الصولي: وأنشدنا أحمد بن يحيى ولكنه قال: أنشد إسحاق لأعرابي يصف دعوةً دعا بها مظلوم:
وساريةٍ لم تسر في الأرض تبتغي محلاً ... ولم يقطع بها البعد قاطع
سرت حيث لم تحد الركاب ولم تنخ ... لوردٍ ولم يقصر لها القيد مانع
تمر مرور الليل والليل ضارب ... بجثمانه فيه سمير وهاجع
إذا وردت لم يردد الله وفدها ... على أهلها والله راء وسامع
تفتح أبواب السموات دونها ... إذا قرع الأبواب منهن قارع
وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظن ما الله صانع
المؤتمن يتعلم النحو
حدثنا العباس بن العباس بن المغيرة أبو الحسين الجوهري حدثني محمد بن موسى الواسطي الفراقي قال أبو الحسين: الفراقي هذا كان نظير ثعلب، قال حدثني سلمة أو الطوال شك أبو الحسين قال حدثني الفراء أنه دخل على المؤتمن وكان قريش مؤدبه فقال له الفراء: أين بلغ الأمير؟ يعني من العربية فقال: سله، فقال له الفراء: كيف تقول: إن ما ضربت زيد؟ فقال له المؤتمن: إنما ضربت زيد، فقال الفراء: يجمل بالأمير النظر فيها، ولم يقل له أخطأت، فقال: قد أصبت، فقال له الفراء: وأين توجد ما في معنى الذي؟ قال: في كتاب الله تعالى، قال: أين؟ قال: قول الله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " النساء:3 معناه الذي ملكت أيمانكم، قال الفراء: فقمت وقد حممت.
قال أبو الحسين: وكان الكسائي يؤدب المؤتمن، فظهر به في كفه بياض، فبلغ ذلك أمه فخشيت أن يؤذيه الكسائي وجيء بقريشٍ يؤدبه.
ما ومن

قال القاضي: قد ذهب قوم إلى أن ما تأتي بمعنى الذي ومن، والأصل الظاهر اختصاص من يعلم ومن يعقل ب؟ من وأن ما لما لا يعقل ولجنس ما يعقل، وأن الذي لهما جميعاً، ومن أحكام ما أنها قد تكون هي وصلتها بمعنى المصدر، وقد حكي عن بعض العرب: سبحان ما سبحت له، يعنون الرعد، فذهب به بعضهم إلى معنى من وكذلك قوله: " والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها " الشمس:5 7 وقال منكروه من محققي النحاة: هذا كله بمعنى المصدر والمعنى وبنائها وطحوها وتسويتها، وقالوا: معنى " وما ملكت أيمانكم " النساء: 36 وأيمانهم أي ملك أيمانكم وأيمانهم كقولك: أعجبني ما صنعت أي صنيعك. وقيل في قوله: " وما خلق الذكر والأنثى " الليل:3 أنه بمعنى: وخلقه الذكر والأنثى، وقيل غير ذلك. ويقال: ما زيد؟ فيقال: إنسان فهذا صحيح في جنس ما يعقل.
والعجب من استخذاء الفراء عندما احتج عليه المؤتمن به وكيف لم يورد شيئاً مما تعلق به الموافقون له في مذهبه، وقد كانت رتبته تجل عن أن يذهب هذا المعنى عليه، وأن ينفك عن نصرة قوله والقيام به، ولكن ربما ارتبك النحرير والبليغ المزير عند شيء يفجؤه أو عارض يفدحه.
؟كتاب من عمرو بن مسعدة إلى ابن الزيات حدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب قال حدثني عبد الله ابن هارون قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن موسى البيمار ستاني، قال أبو طالب: أحسبه سمعه من أبي عبد الله البيمار ستاني، هو البرطني، قال حدثني أبو حفص الكرماني، وكان من كتاب عمرو بن مسعدة، أنه كتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات: أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى وإذا أسس بنى، ليستتم بناء أسه، يجتني ثمر غرسه، وبناؤك في ودي قد وهى وشارف الدروس، وغرسك عندي قد عطش وأشفى على اليبوس. فتدارك بناء ما أسست، وغرس ما زرعت. قال أبو عبد الله البيمار ستاني: فحدثت بذلك أبا عبد الرحمن العطوي فقال في هذا المعنى أبياتاً يمدح بها محمد بن عمران بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك:
إن البرامكة الكرام تعلموا ... فعل الكرام فعلموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لم يهدموا لبنائهم آساسا
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا
فعلا تسقيني وأنت سقيتني ... كأس المودة من جفاتك كاسا
أنستني متفضلاً أفلا ترى ... أن القطيغة توحش الإيناسا
؟منامان حدثنا عبد الله بن محمد بن الفرج الواسطي قال حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال حدثنا يحيى بن عبد الله المقدمي قال سمعت محمد بن عمر بن علي يحدث عن هارون بن رحيم قال: رأيت الحسن بن حبيب بن ندبة في النوم فقلت: ما صنع بك ربك؟ قال: ما تراه صنع بي؟ رحمني وأكرمني وغفر لي وطيبني وقال: هكذا أفعل بأبناء ثلاث وثمانين.
حدثنا أحمد بن محمد بن علي الديباجي، قال حدثنا محمد بن يونس، قال حدثنا الأصمعي، قال حدثني أبي قال: رأى رجل في المنام جرير بن الخطفى فقال: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، قال: بماذا؟ قال: بتكبيرةٍ كبرت الله تعالى في المقر قال الأصمعي: ماء بالبادية قلت: فما فعل أخوك الفرزدق؟ قال: هيهات أهلكه قذف المحصنات، قال الأصمعي: لم يدعه في الحياة ولا في الممات.

المجلس الثالث والستون
علي بن الجهم وحديث العشرة المبشرين بالجنة
أخبرنا المعافى قال حدثنا عبد الباقي بن قانع، قال حدثنا أبو محمدٍ عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعروف بعبدان الشافعي بالبصرة، قال حدثني إبراهيم بن صالح الشيرازي قال: نزل علي بن الجهم بشيراز فقال لي: أخصك بحديث؟ قال: فقلت له: أفعل، فقال: قال لي المتوكل يوماً: يا علي هذا الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: عشرة من قريش في الجنة، أي حديث هو؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين أصح حديثٍ، قال: فمن رواه؟ قال قلت: رواه سفيان الثوري عن منصورٍ عن هلال بن يسافٍ عن عبد الله بن ظالم عن سعيدٍ بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشرة من قريش في الجنة، قال فقال لي: ما أحسنه من حديث!! قال: قلت: يا أمير المؤمنين قد حضرني شيء فأقوله؟ قال: قل، قلت:
محمد خير بني النضر ... حكاه بالعدل أبو بكر

صديق خير الخلق لا واني ... ينصره في العسر واليسر
وثالث القوم الذي بعده ... يخلفهم في البر والبحر
ذاك أبو حفص فما مثله ... يكون حتى آخر الدهر
سبحان من أكرمهم بالتقى ... وصير الأبرار في قبر
هذا هو الفخر فلا غيره ... ما بعد ذاك الرمس من فخر
ورابع القوم إمام الهدى ... عثمان ذو النور أبو عمرو
كفى رسول الله ما همه ... وجهز الجيش لدى العسر
يخمسهم إبن أبي طالب ... إمام عدلٍ ظاهر النصر
صاحب صفين فما قبلها ... إلى حنين وإلى بدر
وطلحة الخير لهم سادس ... أنقذه الله من الكفر
وسبع القوم الزبير الذي ... كان حليف الشفع والوتر
هذا وسعد لهم ثامن ... وإبن عوفٍ طيب النشر
وحمزة السيد في قومه ... على وجوه القوم كالبدر
وعم خير الخلق لا يمترى ... أبو الملوك السادة الزهر
فالملك فيهم أبداً ثابت ... من أول الدهر إلى الحشر
قال: فضحك، وأخرج ذلك اليوم مالاً عظيماً وقسمه على بني هاشم وقريشٍ والأنصار وبين المهاجرين وأعطاني منه صدراً صالحاً.

تعليق الجريري
قال القاضي: الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته للعشرة من أصحابه بالجنة خبر صحيح، وقد أتت الرواية به من طرقٍ عدة، وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نفسه وتسعة معه، وفي بعضها أنه ذكر من صحابته عشرةً، والأخبار بكل واحدٍ من الوجهين ثابتة. وقول علي بن الجهم في شعره لا واني أتى به على الأصل، وهذا مما يسوغ للشاعر لإقامة الوزن، قال الشاعر:
كمشتريٍ بالحمد أحمرةً تترى
وقال آخر:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب
وقوله: كفى رسول الله ما همه العرب تقول: همك ما أهمك أي أذابك ما يعذبك، ويقال: هممت الشحم أي أذبته، فكأنه قال: ما كرثه ولذعه بمضضه، وقوله: يخمسهم ابن أبي طالب يقال: خمست القوم أخمسهم إذا صرت خامساً لهم، ومثله ثلثتهم أثلثهم وسدستهم أسدسهم، ومثله ثمنتهم وعشرتهم، فإذا قلت أخمسهم بالضم فمعنا أخذت خمس أموالهم، ومثله أثلثهم وأسدسهم وأثمنهم وأعشرهم إذا أخذت هذه الأجزاء منهم، فإذا قلت: ربعتهم وسبعتهم وتسعتهم قلت في الوجهين أربعهم وأتسعهم، ففتحت عين الفعل من أجل حرف الحلق. وقوله: إبن أبي طالبٍ وإبن عوفٍ بالقطع والألف فيه للوصل لضرورة الشعر وتصحيح الوزن، وقد أتى مثل هذا كثيراً في أشعار العرب، وذكرنا منه فيما مضى من كتابنا هذا أبياتاً عدة، من ذلك قول الشاعر:
ألا لا أرى إثنين أكرم شيمةً ... على حدثان الدهر مني ومن جمل
وقال آخر:
فأي امرئ ألشامُ بيني وبينه ... أتتني ببشرى برده ورسائله
ولاستقصاء القول في هذا بين يدي هشام

حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال حدثنا أبو عثمان عن العتبي قال: صعد رجل إلى هشام بن عبد الملك في خضراء معاوية، فمثل بين يديه لا يتكلم، فقال له هشام: مالك لا تتكلم؟ قال: هيبة الملك وبهر الدرج؛ فلما رجعت نفسه إليه قال له هشام: تكلم وإياك ومدحنا، فقال: لست أحمدك إنما أحمد الله تعالى فيك. ثم قال: إن الدنيا ذمت بأعمال العباد إذا أساءوا، ولم تحمد بأعمالهم فيها إذا أحسنوا، وإن الدنيا لم تكتم بما فيها فتذم ولكن إنما جهرت به، فأخذها من أخذها بذلك وهي عليه، وتركها من تركها لذلك وهي له. وإن الدنيا نادت أهلها بأنها تاركة من أخذها، ومفارقة من صحبها، ومخربة عمران من عمرها، فمن زرع فيها شروراً حصد حزناً، ومن أبر فيها هوى اجتنى ندامةً، وإنما هي لمن زهد فيها اليوم وأعرض عنها وآثر الحق عليها؛ وأخذها من أخذها بعد البيان منها والإخبار عن نفسها، فغر نفسه وسماها غرارةً، وكذب نفسه وسماها كذابة، وزهد فيها آخرون فصدقوا مقالتها، ورأوا آثارها في فعلها فأخذوا منها قليلاً، وقدموا فيها كثيراً، وسلموا من الباطل، وصارت لهم عوناً على الحق في غيرها، فلم تحمد بإحسان من أحسن فيها وهي له، وذمت بأساءة من أساء فيها وهي عليه، فأنت أحق بإساءتك فيها إذ كان الإحسان لك دونها. فأطرق هشام يفكر في كلامه واملس الرجل فلم يره.

شرح غريب النص
قال القاضي: ومن أبر فيها هوى أي لقح يقال: أبرت النخل وأبرته إذا ألقحته، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: من باع نخلاً مؤبراً،وقوله: سكة مأبورة، وقال الشاعر:
لا تأمنن قوماً وترتهم ... وبدأتهم بالغشم والظلم
أن يأبروا نخلاً لغيرهم ... والشيء تحقره وقد ينمي
وقوله: فاملس معناه زال عن موضعه بسهولةٍ، وهو مأخوذ من الملاسة، يقال: أملس من كذا وتملس أي زال بسرعةٍ لملاسة موضعه وأنه ليس فيه أجزاء لها نتوء ونبو وتضريس. ويقال في هذا المعنى املص وتملص فكأنه من الدحض والزلق، ويقال إن هذا الوجه أفصح الكلامين، ومنه أملصت المرأة فأزلقت إذا أسقطت جنينها، ومنه الخبر الوارد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في إملاص امرأة بغرةٍ: عبدٍ أو أمةٍ وذلك إذا ضربت فأسقطت جنيناً ميتاً.
وهذا الخبر مما ينبه على الحذر من غرور الدنيا، وقال الله تعالى ذكره: " يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور " فاطر:5.
شعوانة تبكي وتبكي
حدثنا أبي قال حدثنا أبو أحمد الختلي قال حدثنا الحسين بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتبكي النساء معها:
لقد أمن المغرور دار إقامةٍ ... ويوشك يوماً أن يخاف كما أمن
ما أنفق يوم تحذيق المعتز
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو يوسف يعقوب بن بنان الكاتب قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن الفرات قال: حدثنا أبي وجماعة من شيوخنا قال: لما حذق المعتز القرآن دعا المتوكل شفيعاً الخادم بحضرة الفتح بن خاقان فقال: إني عزمت على تحذيق أبي عبد الله في يوم كذا وتكون خطبته علي وحذاقه ببركوارا، فأخرج من خزانة الجوهر جوهراً بقيمة مائة ألف دينارٍ في عشر صواني فضة للنثار على من يقرب من القواد مثل محمد بن عبد الله ووصيف وبغا وجعفر الخياط ورجاء الحصاري ونحو هؤلاء من قادة العسكر، وأخرج مائة ألف دينارٍ عدداً للنثار على القواد الذين دون هؤلاء في الرواق بين يدي الأبواب، وأخرج ألف ألف درهمٍ بيضاً صحاحاً للنثار على من في الصحن من خلفاء القواد والنقباء.

قال شفيع: فوجهت إلى أحمد بن حباب الجوهري فأقام معنا حتى صنفنا في عشر صواني من الجوهر الأبيض والأحمر والأزرق والأخضر بقيمة مائة ألف دينارٍ ووزن كل صينية ثلاثة آلاف درهم؛ وقال شفيع لابن حباب: اجعل في صينيةٍ من هذه الصواني جوهراً يكون قيمته خمسة آلاف دينار وانتقصه من باقي الصواني حتى يكون في كل واحدة تسعة آلاف دينار وانتقصه من باقي الصواني حتى يكون في كل واحدة تسعة آلاف وخمسمائة دينار فإن أمير المؤمنين أمرني أن أدفع هذه الصينية إلى محمد بن عمران مؤدب الأمير أبي عبد الله إذا فرغ من خطبته، ففعل ذلك، وشدوا كل صينية في منديلٍ، وختمت بخاتم شفيع، وتقدم شفيع إلى من كان معه من الخدم أن ينثروا العين في الرواق، والورق في الصحن، وأوعز إلى الناس من الأكابر ووجوه الموالي والشاكرية بحضور بركوارا في يومٍ سمي لهم ليشهدوا خطبة الأمير المعتز، وكتب إلى محمد بن عبد الله وهو بمدينة السلام بالقدوم إلى سر من رأى لحضور الحذاق. قال: فتوافى الناس إلى بركوارا قبل ذلك بثلاثة أيام، وضربت المضارب، وانحدر المتوكل غداة ذلك اليوم ومعه قبيحة ومن اختصت من حرم المتوكل ومن حشمها إلى بركوارا، وجلس المتوكل في الإيوان على منصته وأخرج منبر أبنوس مضببٍ بالذهب مرصعٍ بالجوهر مقابضه عاج، وقال بعضهم: عود هندي، فنصب تجاه المنصة وسط الإيوان، ثم أمر بإدخال محمد بن عمران المؤدب، فدخل فسلم على أمير المؤمنين بالخلافة ودعا له، فجعل أمير المؤمنين يستدنيه حتى جلس بين يدي المنبر، وخرج المعتز من بابٍ في جنبة الإيوان حتى صعد المنبر، فسلم على أمير المؤمنين وعلى من حضر، ثم خطب، فلما فرغ من خطبته دفعت الصينية إلى محمد بن عمران، ونثر شفيع صواني الجوهر على من في الايوان، ونثر الخدم الذين كانوا في الرواق والصحن ما كان معهم من العين والورق، وأقام المتوكل ببركوار أياماً في يومٍ منها دعته قبيحة، فيقال إنه يوم لم ير مثله سروراً و حسناً وكثرة نفقةٍ، وإن الشمع كله كان عنبراً إلا الشمعة التي في الصحن فإنه كان وزنها ألف من فكادت تحرق القصر، ووجد حرها من كان في الجانب الغربي من دجلة. وقد كان أمر المتوكل أن يصاغ له سريران: أحدهما ذهب والآخر فضة، ويفرش السرير الفضة ببساط حبٍ وبرذعة حبٍ ووسادي حب ومخدتي حبٍ ومسند حبٍ منظوم على ديباج أسود، وكان طول السرير تسعة أذرعٍ، قال: فأخرج من خزانة الجوهر حب عمل له ذلك فكان أرفع قيمة الحبة ديناراً، وأقل القيمة درهماً، فاتخذ له ذلك وأمر بفرش السرير الذهب بمثل فرش السرير الفضة منقوشاً بأنواع الجوهر الأحمر والأخضر والأصفر والأنواع، ففرشا فقعد عليهما هو وقبيحة ثم وهبهما لها.

دافع عن أبي هريرة في مجلس الرشيد
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا محمد بن يونس الكديمي قال حدثنا يزيد بن مرة الدباغ قال حدثنا عمر بن حبيب قال: كنا عند هارون أمير المؤمنين، وبين يديه قوم تيناظرون، فذكروا حديثاً فقالوا: رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب أبو هريرة، وارتفعت أصواتهم بتكذيب أبي هريرة، فرأيت هارون قد نحا نحوهم ومال إلى قولهم، فقلت أنا: صدق أبو هريرة، وأبو هريرة الصادق في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقمت فانصرفت.
فلما دخلت منزلي وافيى بريد فأدخلته فقال: أجب أمير المؤمنين أجابة مقتول لأنك لا ترجع، فقلت في نفسي: الله يعلم أني قمت بحقٍ، ونصرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضيت إلى هارون فدخلت عليه وهو جالس على كرسي من ذهب حاسراً عن ذراعية، بيده سيف، فقال: يا عمر بن حبيب،تقبل علي بالرد بما أقبلت به؟! فقلت: يا أمير المؤمنين، الذي قلته إزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذابين فأمر الإسلام كله باطل، والصلاة الصوم والطلاق والحدود. قال: صدقت يا عمر بن حبيب، أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله.
قال القاضي: الفصيح زريت على الرجل زراية وأزريت به إزراءً.
تقبل السواد في أيام المأمون فربح كثيرا
ً

حدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب، قال حدثني القاسم ابن أحمد الكاتب، قال حدثني أحمد بن محمد بن مدبرٍ، قال حدثني إسحاق ابن إبراهيم بن مصعبٍ قال: تضمنت السواد من المأمون لسنة ثلاث عشرة ومائتين بأربعمائة ألف كر شعيراً مصرفاً بالفالج حاصلاً، وثمانية آلاف ألف درهمٍ سوى مؤن العمل وأرزاق العمال وغير ذلك، فارتفع لي فيه من الفضل بعد المؤن والأرزاق الجارية عشرون ألف ألف درهم، قال: فأتيت المأمون، فقلت: يا أمير المؤمنين إني قد استفضلت في ضمان السواد عشرين ألف ألف درهم، قال: قد سررتني وقد سوغتها، ولكن اكتب إلى عبد الله بن طاهرٍ فعرفه أني إنما ضمنتك السواد له وسوغتك هذا الفضل لمكانه ومحله مني، ففعلت، قال: فكتب إلي عبد الله بن طاهر: قد سرني ما كتبت به من ربحك عشرين ألف ألف درهم وتسويغ أمير المؤمنين إياك ذلك، وأمير المؤمنين أجل قدراً وأعظم خطراً من أن يستكثر هذا من فعله، إذ كان أهلاً لما هو أكثر منه، وليس ينبغي أن نقنع لك بهذا دون أن أضيف إليه شيئاً آخر من مالي فاقبض من غلة ضياعي مائة ألف ألف درهم.

بين بني هاشم وبني أمية
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن عائشة عن جويرية قال، قال عمر بن عبد العزيز: ما زلنا نحن وبنو عمنا من بني هاشم مرةً لنا ومرةً علينا، نلجأ إليهم ويلجأون إلينا حتى طلعت شمس الرسالة فأكسدت كل نافق وأخرست كل ناطق.
جرير يحكم بتفوق الأخطل
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال حدثنا ابن الأعرابي قال، قيل لجرير: أيما أشعر أنت في قولك.
حي الغداة برامة الأطلال ... رسماً تحمل أهله فأحالا
أم الأخطل في جوابها:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا
قال: هو أشعر مني، إلا أني قد قلت في قصيدتي بيتاً لو أن الأفاعي نهشتهم في أستاههم ما حكوها حيث أقول:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا
تعليقات للمعافى بن زكريا قال القاضي: من فضل جرير تفضيله الأخطل في الشعر واعترافه بأن شعره يفضل شعر نفسه، على ما بينهما من العداوة والملاحاة والمقارعة والمهاجاة والمفاخرة والمباراة، مع أن جريراً قد أتى في قصيدته هذه بما ليس في قصيدة الأخطل ولا غيرها من شعره ما يدانيه ويقارب معناه، وذلك قوله:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلاص تكر عليكم ورجالاً
وهذا من أخصر كلام وأفصحه، وأبلغ نظامٍ وأروضحه. وقد روي أن الأخطل لما أنشد هذا البيت بهت عنده وكثر تعجبه منه وقال: من أين لابن المراغة هذا؟ فقيل له: إن هذا المعنى في القرآن وتلي عليه قول الله جل وعز: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو " والمنافقون: 4 فقال الأخطل: أنا من أين لي مثل كتاب محمدٍ آخذ منه وأستعين به؟! والذي أتى القرآن به في هذا مبر على ما قاله الشعراء فيه لأمرٍ متفاوت في قلة عدد حروفه وقرب مأخذه ووضوح معناه. ومما يشبه قول جرير في هذا المعنى قول الذي قال:
ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومة تدعو عبيداً وأزنما
ونحو هذا قول الآخر
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
تؤدي إليه أن كل ثنيةٍ ... تطلعها ترمي إليه بقاتل
ويروى تسنمها.
قال القاضي: قوله: كفة حابل يعني حبالة الصائد، وقال اللغويون: الكفة ما كان مستديراً ككفة الميزان، والكفة بالضم ما كان مستطيلاً ككفه الثوب، والوجهان يرجعان إلى معنى واحد، وهو الكف والحصر والحبس وإحاطة النهايات بالحواشي المتوسطات؛ ومنه حاجة لها كفة، وحاجات لها كفف أي نهاية تجمعها وتحيط بها وتكفها عن التشذب والانتشار. ومن ذلك قول الأعشى ميمون بن قيسٍ:
كانت وصاة وحاجات لها كفف ... وأن صحبك إن ناديتهم وقفوا
هفوة من سوارح العقل الباطن
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا إبراهيم بن سعدان قال حدثنا ا؟لأصمعي عن عبد الله بن صالح قال، قال لي رجل من حارثة بن لام: أضافني رجل من بني تغلب فأحسن ضيافتي فأفلت من لساني هذا البيت:

والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا
فلما قلته خجلت وسقط في يدي، فقال لي: يا عبد الله انبسط، فإنما قلت كلمةً مقولةً.
أحلى قولٍ للمستملي
حدثنا محمد بن الحسن بن زيادٍ المقري قال حدثنا عبد الله بن محمود بمرو قال، سمعت يحيى بن أكثم يقول: كنت قاضياً وأميراً ووزيراً وقاضياً على القضاة ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي: من ذكرت رضي الله عنك؟

مجموعة حكم
حدثنا محمد بن عبد الله السليطي قال حدثنا محمد بن المنذر الهروي أبو عبد الرحمن شكر، قال حدثني حطان بن عبد الرحمن الجندي، قال حدثنا عبد الله بن سليمان الجندي قال، قالوا: دعامة العقل الحلم وجماعه الصبر. وأعلم أن هذه الدنيا دول، فما كان منها للإنسان أتاه على ضعفه، وما كان منها عليه لم يدفعه بقوته. وقالوا: الشر مخوف من كل وجهٍ، والنفع مرجو من كل ناحيةٍ، وما أكثر ما يأتي الخير من وجوه الخوف ويأتي الشر من ناحية الرجاء.
حدثنا أحمد بن علي القاضي النيسابوري، قال حدثنا محمد بن المسيب الأرغياني، قال حدثنا عبد الله بن خبيق، قال حدثني أبو عبد الله الحلبي، قال سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: إن للحوئج فرساناً كفرسان الحرب. وقال لي أبو إسحاقك إن الرجل ليسألني عن حالي ولو أخبرته لشمت بي.
عمرو بن عبيد يعظ المنصور
حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال حدثنا المدائني، قال: دخل عمرو بن عبيد على المنصور فقال: إن الله تعالى أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها، واحذر ليلة تمخض عن يومٍ لا ليلة بعده. قال: فبكى أبو جعفر، قال عمرو: انبذ عنك البكاء واترك ما تنكر إلى ما تعرف، واعلم أن ربك لبالمرصارد، والسلام.
شعر إسحاق الموصلي
حين أبل صباح بن خاقان
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قال حدثنا محمد بن أحمد بن عمار قال حدثنا أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان بن علي قال حدثنا صباح بن خاقان قال: اعتللت علة أشفيت منها، فبلغ ذلك إسحاق بن إبراهيم الموصلي فاغتم منها، ثم ورد عليه الخبر بإفاقتي فكتب إلي:
حمدت الله إذ عافى صباحا ... وأعقبه السلامة والصلاحا
وكنا خائفين على صباح ... من الخبر الذي قد كان باحا
وخوفني من الحدثان أني ... رأيت الموت إن لم يغد راحا
الأخطل يسرق معنى للأعشى
حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد الشرابي، قال حدثنا أبو العباس المرثدي، قال أخبرني طلحة بن عبد الله الطلحي، قال أخبرني إبراهيم بن سعدان، قال حدثنا ابن بشير المديني قال: وفدت إلى بعض ملوك بني أمية فمررت بقريةٍ فإذا رجل مرنح من الشراب قائم يبول، فسألته عن الطريق فقال: أمامك، ثم لحقني فقال: أنزل، فنزلت، فقال: ادن دونك وعليك الحانة، فدخلت، فأحضر سفرة واستل سلة فأخرج منها رغفا ووذراً من لحمٍ فقال: أصب، ثم سقاني خمراً، فإذا أبو مالك. ثم قال لي: كيف علمك بالشعر؟ قلت: قد رويت، فأنشدني قصيدته:
صرمت حبالك زينب ورعوم
فلما انتهى حبالك زينب ورعوم فلما انتهى إلى قوله:
حتى إذا أخذ الزجاج أكفنا ... نفحت فأدرك ريحها المزكوم
قال: ألست تزعم أنك تبصر الشعر؟ قلت: بلى، قال: فكيف لم تشقق بطنك فضلاً عن ثوبك عند هذا البيت؟! قال: قلت: قد فعلت عند البيت الذي سرقت هذا منه، قال: وما هو؟ قلت: بيت الأعشى:
من خمر عانة قد أتى لختامها ... حول، تفض غمامة المزكوم
قال: أنت تبصر الشعر، فلما صرتُ إلى سليمان سمرت معه بهذا أول بدأتي.
تعليق الجريري قال القاضي: للأعشى في هذا المعنى بيت هو أبلغ من هذا البيت في كلمةٍ له أخرى وهو.
من اللاتي حملن على الروايا ... كريح المسك تستل الزكاما

واستلال الزكام أبلغ من فضه لأن استلاله نزعه وإخراجه، وفضه نشره وتفريقه وكسره كفض الخاتم، وفي فضه مع هذا إزالته وتنحيته كما يزول الخاتم عند فضه ويفارق ما كان حالاً فيه ولازماً له. وفي قول الأخطل: فأدرك ريحها المزكوم من البلاغة أنه إنما يفوته إدراك المشمول لحلول الزكام به وغلبته إياه، فإذا أدرك ريح الخمر التي كان الزكام حائلاً بينه وبينها عندنفحتها فإنما ذلك لزوال الزكام وزوال بعضه وإن لم يزل بكليته، فمن هاهنا كان الفض والاستلال أبلغ وأبين في المعنى.

ما يقوله الحسن إذا أصبح وإذا أمسى
حدثنا طلحة بن محمد بن إسرائيل الجوهري قال حدثني أبو الحسن أحمد ابن عبد الرحمن الجوهري قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا سفيان الثوري عن حصين الأسدي قال: كان الحسن إذا أصبح قال:
يسر الفتى ما كان قدم من تقى ... إذا عرف الداء الذي هو قاتله
وإذا أمسى قال:
فما الدنيا بباقيةٍ لحي ... ولا حي على الدنيا باق
من أول من قال شعراً يعقوب أم آدم
حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد المنادي، قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن يونس أبو إسماعيل إملاءً، قال حدثنا أبو صالح سهل بن خاقان، وكان من خيار الناس، قال: سمعت أبا المورع يقول: أول من قال بيت شعر يعقوب صلى الله عليه وسلم لما جاءوه فأخبروه عن يوسف عليه السلام بالذي أخبروه به فقال:
فصبر جميل بالذي جئتم به ... وحسبي إلهي في المهمات كافيا
قال القاضي أبو الفرج: قد أتت هذه الرواية بما وصفناه، وقد روي لنا أن أول من قال الشعر آدم عليه السلام لما قتل قابيل أخاه هابيل، وأن إبليس لعنه الله أجاب آدم عليه السلام عن شعره ذلك، وهي رواية معروفة، ولعلنا نأتي بها فيما بعد إذا خرجت لنا إن شاء الله تعالى.
معاوية يغري ابن عمر بالمال ليبايع ليزيد
حدثنا محمد بن العباس بن نجيح البزاز قال حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي من كتاب أبيه يلقن، قال حدثني أبي قال حدثنا مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيدٍ قال حدثنا أيوب عن نافع أن معاوية لما أراد أن يبايع ليزيد أرسل إلى ابن عمر بمائة ألفٍ ثم أرسل إليه أن بايع ليزيد فقال ابن عمر: إن كان ذاك لذلك إن ديني عندي إذن لرخيص.
لماذا يختلف إلى الناس
حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد بن سعيد الكلبي الدينوري، قال حدثنا أحمد بن علي بن نعيم الدينوري، قال حدثني محمد بن يزيد بن هارون الواسطي بسر من رأى، في سنة ثلاث وستين ومائتين، قال حدثنا القاسم بن بهرام عن أبي الزبير عن جابرٍ عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لا يؤتى الرجل إلا لخصلةٍ من أربع خصالٍ: لشرفٍ، أو لشكر معروفٍ سلف، أو لأمرٍ يؤتنف، أو لحديث يطرف.
حدثنا محمد بن زيادٍ المقري قال سمعت أحمد بن صالح النحوي السرخسي قال، سمعت المسعودي يقول، قال المأمون: يختلف إلى الناس لأربعة أشياء: لصحة شرفٍ، أو لعلمٍ مطرف، أو لأمرٍ مؤتنفٍ، أو لمعروفٍ قد سلف.
ما في جيب ابن الجهم حين قتل
حدثنا محمد بن الحسن بن أستاذ الهروي، قال سمعت عبد الله بن عروة يقول، سمعت أبا عشانة يقول: لما قتل علي بن الجهم وجد في جيبه رقعة فيها:
يا وحشتا للغريب في البلد لنا ... زح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
أف للدنيا وتف
حدثنا عبد الله بن الحسن بن محمدٍ البزاز قال حدثنا محمد بن خلف قال حدثني عبد الله بن محمد بن مرزوق العتكي عن عبد الواحد بن غياث أو آخر غيره ذهب عني اسمه العتكي يقول هذا قال: قد دخلت دار المورياني ليلاً فسمعت قائلاً يقول:
أف للدنيا وتف ... كل من فيها يلف
فأجابه آخر:
لم تقل والله شيئاً ... إن فيها من يعف
منهم القاضي ويحيى ... والهجيمي المخف
توضيح
قال القاضي أبو الفرج: القاضي معاذ بن معاذ، ويحيى بن سعيد القطان، وخالد بن الحارث الهجيمي.

قال القاضي: أف عند جمهور أهل العلم كلمة يقولها المرء عند الشيء يضجره أو يتبرم منه ويتقذره، وتف بمعناها، وقيل إنها إتباع لأفٍ مثل حسن بسن وعطشان نطشان. وقيل هي بمعنى النتن، وقيل التف الشيء الحقير نحو الشظية تؤخذ من الأرض. وقال بعض المحققين في علم العربية الأف وسخ الظفر، والتف وسخ الأذن. وقال الله تعالى: " فلا تقل لهما أفٍ " الاسراء:23 وأتت هذه اللفظة في مواضع عدةٍ من القرآن وفيا لغات عدة وقراءات مختلفة، وقد ذكرنا هذا مستقصى في مواضع من كتبنا.

المجلس الرابع والستون
كيف تولى عمر بن حبيب القضاء
حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء بن يحيى إملاءً من لفظه سنة تسعين وثلاثمائةٍ، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو العباس الكديمي، قال حدثنا عمر بن حبيبٍ العدوي القاضي قال: قدمت مع وفدٍ من أهل البصرة حتى دخلنا على أمير المؤمنين المأمون، فجلسنا وكنت أصغرهم سناً، فطلب قاضياً يولى علينا بالبصرة، فبينا نحن كذلك إذ جيء برجل مقيدٍ بالحديد مفولةٍ يده إلى عنقه، فحلت يده من عنقه، ثم جيء بنطعٍ فوضع في وسطه ومدت عنقه، وقام السياف شاهراً السيف، فاستأذن أمير المؤمنين في ضرب عنقه فأذن له، فرأيت أمراً فظيعاً، فقلت في نفسي: والله لأتكلمن فلعله أن ينجو، فقمت فقلت: يا أمير المؤمنين اسمع مقالتي. فقال لي: قل، فقلت: إن أباك حدثني عن جدك عن ابن عباسٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ من بطنان العرش ليقم من على الله تعالى أجره، فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب أخيه. فاعف عنه عفا الله عنك يا أمير المؤمنين، فقال: لي: آلله إن أبي حدثك عن جدي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؟ فقلت: آلله إن أباك حدثني عن جدك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. فقال: صدقت، إن أبي حدثني عن جدي عن ابن عباسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. فقال: صدقت، إن أبي حدثني عن جدي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، يا غلام أطلق سبيله، فأطلق سبيله ثم أمر أن أولى القضاء ثم قال لي: عن من كتبت؟ قلت: أقدم من كتبت عنه داود بن أبي هندٍ، قال: فحدث، قلت: لا، قال: بلى فحدث، فإن نفسي ما طلبت مني شيئاً إلا وقد نالته ما خلا هذا الحديث فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي ويقال لي من حدثك.؟ فأقول: حدثني فلان، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين فلم لا تحدث؟ قال: لا يصلح الملك والخلافة مع الحديث للناس.
مدح حسن العفو
قال القاضي: ما قرره الله عز وجل في العقول من حسن العفو وتفضيل أهله وما أنزله فيه وأحكمه في كتابه وعلى لسان رسول الله أكثر من أن نأتي على ذكر جميعه وقد قال الله تعالى: " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " الشورى:40 وقال جل ذكره: " وإن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم " البقرة: 237 وكل هذا مؤكد لما مكنه الله جل وعلا في العقول وشاهد لما تواتر من الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
العائف اللهبي
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه عن يونس عن شيخ من عنزة قال: خرج رجل من لهب، وهم حي من الأزد، وهم أعيف العرب، ومعه سقاء لبن، فسار صدر يومه ثم عطش فأناخ ليشرب فإذا غراب ينعب، فأثار راحلته ومضى؛ فلما أجهده العطش أناخ ليشرب فنعب الغراب، فأثار راحلته ومضى؛ فلما أجهده العطش أناخ ليشرب فنعب الغراب، فأثار راحلته فمضى، ثم أناخ ليشرب فنعب الغراب وتمرغ في التراب، فضرب الرجل السقاء بسيفه فإذا فيه أسود سالخ. ثم مضى لوجهه فإذا غراب واقع على سدرةٍ، فصاح به فوقع على سلمةٍ، فصاح به فوقع على صخرةٍ، فإذا تحت الصخرة كنز ذهبٍ، فلما رجع إلى أبيه قال له: ما صنعت؟ قال: سرت صدر يومي، ثم أنخت لأشرب فنعب غراب، فقال: أثره وإلا لست بأبني، قال: فأثرته ثم أنخت لأشرب فنعب غراب قال: أثره وإلا لست بابني، قال: أثرته، ثم أنخت الثالثة لأشرب فنعب غراب وتمرغ في التراب فقال: اضرب السقاء بالسيف وإلا لست بابني، قال: فضربته فإذا فيه أسود سالخ.
قال: ثم مه، قال: ثم رأيت غراباً واقعاً على سدرةٍ قال: أطره وإلا فلست بابني، قال: أطرته فوقع على صخرةٍ، قال: أحذني يا بني، قال: فأحذاه.
معنى أحذى

قال القاضي: قوله أحذني أي أعطني فأعطاه، يقال: أحذى فلان فلاناً شيئاً من ماله إذا رضخ له؛ قال رجل من بني سعدٍ لرؤبة بن العجاج: أحذ أبا الجحاف إذ حبينا
أعرابية ترثي قوماً هلكوا
حدثنا علي بن محمد بن الجهم الكاتب أبو طالب، قال حدثني أبو الحسين الحسن بن عمرو السبيعي، قال حدثني رجل من الأعراب وفد إلى ابن البعيث، قال حدثني عم لي قال: نزلت ماءً لبني فزارة ثم ارتحلت عنه وأتيته في العام المقبل فإذا ليس من الحي أحد خلا عجوز في سفح جبلٍ تبكي، فقلت: ما يبكيك يا عجوز؟ قالت: على أثر الحي، قلت لها: أعسى حيياً نزلت به عام أول؟ قالت: أقلت حييا؟ والله لقد كان حي ربحل، إذا ارتحلوا على ألف فحل، لقد كان فيهم مليل، وما مليل؟ سحاب ذيلٍ على ذيلٍ عطاؤه سيل، وغضبه ويل، لم تحمل مثله إبل ولا خيل، ولقد كان فيهم مالك وما مالك؟ خير من هنالك. ولقد كان فيهم مهجعة وما مهجعة؟ فارس كأربعة، يكر والخيل معه، ولقد كان فيهم عمار وما عمار؟ يوم الفخر فخار، ويوم الجر جرار، لم تخمد له نار طلاب بأوتار، ولقد كان فيهم هجين لهم يقال له حممة، وما حممة؟ له ألف ناقة مسنمة، وألف مهرة مسومة، وألف نعجةٍ مزنمةٍ، وألف عبد وأمة، قعد ذات يومٍ قعدةً له حسنة فأنهبها كلها في ساعةٍ لم يقض نهمه، قال: فكأنما ألقمتني عنها وعن قومها حجراً.

شرح الغريب في حديث الأعرابية
قال القاضي: قولها حي ربحل أي حي قيلٍ كريم نبيه، واسع عطاؤه، رحبٍ فناؤه، ومنه قول القائل: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلا، وملكاً ربحلاً، يعطي عطاءً جزالاً. وأما قولها: ولقد كان فيهم هجين لهم فالهجين الذي أمه أمة، ومنه قول عنترة قبل أن يحرره أبوه:
أنا الهجين عنترة
وجمع الهجين هجناء مثل أمين وأمناء، وقرين وقرناء، وكمين وكمناء. ومن الهجين قول الشاعر:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقول الشماخ:
إذا بركت على نشزٍ وألقت ... عسيب جرانها كعصا الهجين
والمسنمة من الإبل: العظيمة الأسنمة؛ والمسومة من الخيل: المحسنة المهيأة. وقيل في قول الله عز وجل: " واتلخيل المسومة " آل عمرا:14 هي المطهمة، أي التي يعنى بها ويقام عليها، والغنم المزنمة: ذوات الزنمات التي تحت ألحيها الزنمات. وعسيب الجران: الحلقوم، والجران: باطن العنق.
رؤيا المأمون وما قال أرسطاطاليس
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال حدثنا ابن أبي سعدٍ قال أخبرني محمد بن يحيى بن خالد بن يزيد بن مثنى المروزي، قال حدثني منصور بن طلحة بن طاهرٍ بن الحسين، قال حدثني عبد الله بن طاهر قال: عجبني أمير المؤمنين من رؤيا رآها، فسألته عنها فذكر أنه رأى في منامه كأن رجلاً جلس مجلس الحكماء فقلت له: من أنت؟ قال: أنا أرسطاطاليس الحكيم، فقلت له: أيها الحك ما أحسن الكلام؟ قال: ما يستقيم في الرأي قلت: ثم ماذا؟ قال: ما يستحسنه سامعه، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما لا تخشى عاقبته، قلت: ثم ماذا؟ قال لا ثم. قال المأمون: لو كان حياً ما كان يتكلم بأكثر مما تكلم به.
الكندي رأي جالينوس في المنام
وحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو الحسن الأشج قال قال: حدثني يعقوب الكندي قال: رأيت جالينوس فيما يرى النائم فقلت بأبي أنت، رجل من الملوك اعتل لا يبرئه إلا فتح الباسليق وليس يوجد له فما ترى؟ قال: افتح له عرقاً بين الخنصر والبنصر يقال له الأسيلم، قال الكندي: فأنا أول من فصد الأسيلم.
أعرابي يسأل
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحم بن عبيدٍ عن ابن الأعرابي قال: قدم أعرابي من البادية فوقف على الناس فقال: أنا عكاب بن عدينة أبوت عشرةً وأخوت عشرةً، وكنت مفزعاً للجمة، مقنعاً للهمة، أهنأ الفقير، و أفك الأسير، وأذيل العسير، فانباق علي الدهر متخوفاً لإخوتي وبنيه يوديهم واحداً واحداً حتى اخترم ظهرتي، وأفنى عمارتي، وأساف ماليه، وأباد رجاليه، وكنت أورد إبلي سحراً، وأصدرها طفلاً، عكراً دثراً، ومالاً وفراً، قليلة الفرش والإفال، حسنة الحلية والفحال، فانتسفها الزمان، واجتملها الحدثان، حبجاً وغدة، فقرع مراحي، وفنت أوضاحي، فهل من راحمٍ أخا جهدٍ ولأواء وشصاصاء، شملكم الله بإسباغ الرزق.

؟؟تفسير حديث الأعرابي قال أبو بكر ابن الأنباري قولهم: أبوت وأخوت معناه كنت أباً لعشرة وأخاً لعشرة. وقوله: أهنأ الفقير: أصلح شأنه؛ قال القاضي: وأصله من الهناء الذي تطلى به الإبل من الجرب، قال زهير:
فأبرى موضحات الرأس منه ... وقد يشفي من الجرب الهناء
ومنه قول الآخر:
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينقٍ جرب
متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب
ثم استعير هذا في كل من رفد غيره لسد فقرٍ أو إصلاح أمر، وهو من حسن التشبيه وقريبه؛ قال أبو بكرٍ: وأذيل العسيرة معناه: ألين الناقة الصعبة لأحمل عليها الضعيف والمجتدي. وقوله: فانباق علي الدهر معناه: قصدني ببائقةٍ، وهي البلية والداهية، ومتخوفاً: متنقصاً قال الله عز وجل: " أو يأخذهم على تخوفٍ " النحل: 47 قال القاضي: يقال تخوفه إذا انتقصه، كما قال الشاعر:
تخوف السير منها تامكاً قرداً ... كما تخوف عود النبعة السفن
يعني ناقة تنقص سيرها من سنامها بعد تمكنه واكتنازه. والنبع شجر معروف وقال الأعشى:
ونحن أناس عودنا عود نبعةٍ ... إذا افتحر اليحان بكر وتغلب
والسفن: الفأس، وهو يتنقص العود وينحته حتى يصنع منه سفينةً، ومنه سميت سفينةً بمعنى مسفونة أي منحوتة منجورة منتقصة الأعواد بالسفن. وقد قرئ على تخوف بمعنى الانتقاص من الحافات والجوانب. قال أبو بكرٍ: والجمة: القوم يسألون في الدية ويقال أيضاً للدية جمة. قال الشاعر:
؟وجمةٍ تسألني أعطيت ... وسائل عن خبري لويت
فقلت لا أدري وقد دريت
وقوله: حتى اخترم ظهرتي في الظهرة قولان: الظهرة قولان: الظهرة عشيرة الرجل. وقال لي أبي قال أحمد بن عبيد: الظهرة والأهرة متاع البيت وما يصونه الرجل مما يودعه منزله من الآنية وأفنى عمارتي العمارة: القبيلة. وأساف ماليه معناه أو قع السواف في إبلي. وأصدرها طفلاً معناه عند غيبوبة الشمس، يقال ظفلت الشمس إذا تهيأت للغروب. وفي السواف لغتان: السواف والسواف بضم السين وفتحها وهو داء يأخذ الإبل فيقتلها. قال أبو عمرو الشيباني: السواف من أدواء الإبل بالفتح، وقال الأصمعي: السواف مضموم من الأدواء بمنزلة الكباد والسعال والنخار. عكراً دثراً العكر جمع عكرة وهي سبعون من الأبل إلى المائة، والدثر هو المال الكثير وجمعه دثور.
قال أمرؤ القيس:
لعمري لقوم قد نرى في ديارهم ... مرابط للأمهار والعكر الدثر
يريد العكر الدثر، فكسر الثاء لكسرة الراء على لغة من يقول قام بكر ومررت ببكرٍ. وقال أبو ذرٍ: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يعني أصحاب الأموال الكثيرة.
قال القاضي:والوقف في بكر على حركة إعراب طرفة لغة معروفة للعرب، وقد روي عن أبي عمرو أنه قرأ: " وتواصوا بالصبر " البلد: 17 في بالوقف بكسر الباء، ومن هذه اللغة قول الشاعر:
علمنا أخواننا بنو عجل ... شرب النبيذ واعتقالاً بالرجل
وقد شرحنا علة هذه اللغة في موضعها. والعرب أيضاً تقول مال دثر وأموال دثر. قال أبو بكر: قليلة الفرش والإفال الفرش: الصغار من الإبل التي لا تطيق أن يحمل عليها، والإفال: الصغار من الإبل واحدها أفيل. قال القاضي: قد قيل إن الفرش الغنم، والحمولة الإبل والبقر والبغال والحمير، فأما الإفال فهي الصغار عند اللغويين، قال الفرزدق:
وجاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وجاءت خلفه وهي زفف
ويروى يرف، وهي رفف، والمعنى واحد، وهو المشي السريع. قال الله عز ذكره: " فأقبلوا إليه يزفون " الصافات: 94 ومن القرأة من يقرأ يرفون. قال أبو بكرٍ واجتملها الحدثان ذهب بجملتها ولم يبق منها شيئاً.

حبجاً وغدة الغدة: من أدواء الإبل، الحبج: أن تأكل الإبل النبات فتنتفخ بطونها حتى تموت. وقال الزبير بن بكار: لما ورد نعي مصعب بن الزبير على أهل مكة صعد عبد الله بن الزبير المنبر فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء؛ ألا وإنه لم يذلل الله تعالى من كان الحق معه ولو كان فرداً، ولم يعزز من كان الشيطان وليه وحزبه ولو كان الأنام كلهم معه، ألا وإنه أتانا خبر من العراق أحزنا وأفرحنا، أتانا قتل المصعب بن الزبير رحمه الله، فأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لذعةً يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعدها ذوو العزم إلى جميل الصبر وكرم العزاء، وأما الذي أفرحنا فإن القتل كان له شهادةً، وإن الله عز وجل جعل ذلك لنا وله خيرةً. ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت حبجاً كما يموت بنو أبي العاص، وما نموت إلا قتلاً قعصاً بالرماح وموتاً تحت ظلال السيوف، ألا وإنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول ملكه ولا يبيد، فإن تقبل علي الدنيا لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لا أبك عليها كالخرف المهتر.
قال أبوب بكر: فقرع مراحي المراح: موضع الإبل الذي تراح إليه، يعني أن إبله ماتت وتلفت وبقي مراحها أقرع، والعرب تقول قد قرع مراح الرجل إذا ذهب ماله، قال الشاعر:
إذا آداك مالك فانتهبه ... لجاديه وإن قرع المراح
فإن أعيا عليك فلم تجده ... فنبت الأرض والماء القراح
فإن الفقر إلف فناء قوم ... وإن آسوك والموت الرواح
وفنت وضاحي معناه: فنيت دراهمي، فنت بلغة طيء، يقولون في فني فنى وفي رضي رضى وفي بقي بقى، قال الشاعر:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى ... على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
واللاواء والشصاصاء: الشدة وكلب الزمان.
قال القاضي: الذي ذكره أبو بكرٍ في نفى ورضى وبقى أنه لغة طيء هو على ما ذكر، وقد ذكرنا من هذه اللغة وحكايتها صدراً في ما مضى من مجالس كتابنا هذا، وقد تتداخل لغات العرب ويأخذ بعضهم من لغة بعض، قال زهير:
تربع صارةً حتى إذا إذا ... فنى الدحلان عنه والأضاء
يريد فني..
إسماعيل بن صالح يغني الرشيد حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن محمد الطالقاني قال حدثني فضل اليزيدي عن محمد بن إسماعيل بن صبيحٍ قال: قال الرشيد للفضل بن يحيى وهو بالقرقة: قد قدم إسماعيل بن صالح بن علي وهو صديقك، وأريد أن أراه، فقال له: إن أخاه عبد الملك في حبسك، وقد نهاه أن يجيئك، قال الرشيد: فإني أتعلل حتى يجيئني عائداً، فتعلل، فقال الفضل لإسماعيل: ألا تعود أمير المؤمنين؟ قال: بلى، فجاءه عائداً، فأجلسه ثم دعا بالغداء فأكل، وأكل إسماعيل بين يديه، فقال له الرشيد: كأني قد نشطت برؤيتك إلى شرب قدح، فشرب وسقاه، ثم أمر فأخرج جوارٍ يغنين وضربت ستارة وأمر بسقيه، فلما شرب أخذ الرشيد العود من يد جاريةٍ ووضعه في حجر إسماعيل، وجعل في عنق العود سبحةً فيها عشر درات اشتراها بثلاثين ألف دينار وقال: غنني يا إسماعيل وكفر عن يمينك بثمن هذه السبحة فاندفع يغني بشعر الوليد بن يزيد في غلية أخت عمر بن عبد العزيز وكانت تحته، وهي التي ينسب إليها سوق غالية بدمشق:
فأقسم ما أدنيت كفى لريبةٍ ... ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
أعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
فسمع الرشيد أحسن غناءٍ من أحسن صوتٍ، فقال: الرمح يا غلام، فجيء بالرمح، فعقد له لواءً على إمارة مصر، قال إسماعيل: فوليتها ست سنين، أو سعتهم عدلاً وانصرفت بخمسمائة ألف دينارٍ، قال: بلغت عبد الملك أخاه ولايته فقال: غنى والله الخبيث لهم، ليس هو لصالح بابنٍ.
إذا قصر من يؤاكل المأمون

حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري قال أخبرنا عبد الله بن محمود قال حدثنا يحيى بن أكثم قال: كان المأمون إذا قصر بعض من يأكل معه أمر بإقامته عن المائدة ولقد رأيته يوماً وقد أمر أن يقام بابنه العباس عن المائدة لتقصيرٍ كان منه، وقال: إذا قصرت احتشم غيرك لتقصيرك، فقال العباس: لم أقصر ولكني وجدت علةً، قال: هلا ذكرتها قبل جلوسك على الطعام، فإما احتملناك على التقصير وإما أعفيناك من الأكل معنا.
أعرابية تمثل نموذجاً للصبر
حدثنا عبد الباقي بن قانعٍ قال تحدثنا محمد بن زكرياء قال حدثنا إبراهيم بن عمرو بنب حبيب قال حدثنا الأصمعي قال: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمةٍ عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، ثم قالت: ما أنتم؟ فقلنا: قوم ضالون رأيناكم فأنسنا بكم، فقالت: يا هؤلاء ولوا وجوهكم عين حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسحاً فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها إلى أن رفعتها فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني، فوقف الراكب عليها فقال: يا أم عقيل، عظم الله أجرك في عقيل، قالت: ويحك مات ابني " ؟ قال نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت فقالت: يا هؤلاء، هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله تعالى شيئاً؟ قلت: نعم أنا، قالت: اقرأ علي آياتٍ من كتاب الله عز جل أتعزى بها، قلت: يقول الله تعالى وجل جلاله: " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمةً وأولئك هم المهتدون " البقرة: 155 157 قالت: الله إنها لفي كتاب الله عز وجل هكذا؟ فقلت: آلله لفي كتاب الله تعالى هكذا. قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعتين ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله تعالى أحتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثاً، اللهم إني فعلت ما أمرتني فأنجز لي ما وعدتني.

لأي علة خلق الله الذباب
حدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار قال حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن ميمون قال حدثني وزيرة بن محمد بمصر قال حدثني معمر بن شبيب بن شيبة قال: سمعت المأمون يقول لمحمد بن إدريس: يا محمد لأي علةٍ خلق الله تعالى الذباب؟ فسكت ثم قال: مذلةً للملوك، فضحك المأمون ثم قال له: يا محمد رأيت الذبابة وقد سقطت على خدي؟ قال: نعم ولقد سألت عنها وما عندي فيها جواب، فأخذني من ذلك الزمع، فلما رأيت الذبابة قد سقطت منك بموضع لا يناله من معه عشرة آلاف سيف وعشرة آلاف رمح انفتح لي فيها الجواب، فقال: لله درك يا محمد.
ذباب وذبان
قال القاضي: قيل في هذا الخبر الذبابة على لغةٍ حكيت ضعيفة، يقال فيها ذبابة في التوحيد وذباب في الجمع، مثل رقاقة ورقاق، وثمامة وثمام، وجزارة وجزار فما أشبه هذا مما سبق جمعه واحده وكانت الهاء فارقة بين واحده وجمعه، فأما اللغة الفصيحة في العربية الفاشية عند أهل اللغة فهو أن الذباب واحد. قال الله عز وجل: " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه " الحج:73 ويجمع الذباب في القة أذبة، وفي الكثرة ذبان، مثل غراب وأغربة وغربان.
المأمون يمتحن محمد بن العباس
حدثنا ابن مخلد قال حدثنا محمد بن الحسن، قال حدثنا وزيرة، قال حدثنا معمر بن شبيب، قال سمعت المأمون يقول: قد امتحنت محمد بن العباس في كل شيء فوجدته كاملاً، وقد بقيت خصلة وهو أن أسقيه من النبيذ ما يغلب على الرجل الجيد الشرب، قال فحدثني ثابت الخادم وقد دعا به فأعطاه رطلاً فقال: اشرب يا محمد، قال: يا أمير المؤمنين ما شربت قط، قال: عزمت عليك لتشربن، فشربه، ثم وإلى عليه بالأرطال حتى سقاه عشرين رطلاً، فما تغير ولا زال عن حجة.
قولة طبع ووثاقة بنية

قال القاضي: وهذا ممن لم يعتد شربه ولم يأنس به مزاجه وطباعه أبلغ في الأعجوبة وأدل على اعتدال التركيب وقوة الطبع ووثاقة البنية، والله أعلم بصحة هذه الحكاية وثبوتها من جهة الرواية.

محمد بن الحسن والشافعي
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف قال حدثني أحمد بن أبي الصلت الحماني قال، سمعت أبا عبيدٍ يقول: رأيت الشافعي عند محمد بن الحسن وقد دفع إليه خمسين ديناراً، وقد كان دفع إليه قبل هذا خمسين درهماً وقال: إن اشتهيت العلم فالزم، ثم دفع إليه هذه الدنانير ولزمه الشافعي؛ قال أبو عبيد: فسمعت الشافعي يقول: كتبت عن محمد بن الحسن وقر بعير؛ وسمعته يقول لمحمد بن الحسن وقد دفع إليه الدنانير بعد الخمسين درهماً وقال له: لا تحتشم، فقال: ما أنت عندي في موضع أحتشمك. وجرى ذكر الشراب فقال الشافعي: الحمد الله لو علمت أن الماء البارد يضر مرؤءتي في ديني لما شربت إلا الماء الحار ألقى الله تعالى، ولو كنت عندي ممن أحتشمك ما قبلت برك.
المجلس الخامس والستون
معنى النعم الظاهرة والباطنة
أخبرنا المعافى قال حدثنا أحمد بن حمدان بن عبد العزيز الختلي، قال حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة العبسي، قال حدثنا إبراهيم بن محمدٍ بن ميمون، قال حدثنا عمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي قال حدثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً " لقمان: 20 قال ابن عباس: هذه مما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله ما هذه النعمة؟ فقال: أما ما ظهر فالإسلام وما سواه من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه، وأما ما بطن فما ستر عليك من مساوئ عملك، يا ابن عباس إبن الله عز وجل يقول: ثلاث جعلتهن للمؤمن: صلاة المؤمنين عليه من بعد موته، وجعلت له ثلث ماله يكفر عنه من خطاياه، وسترت مساوئ عمله أن أفضحه بشيءٍ منها ولو أبديها لنبذه أهله فمن سواهم.
آراء في تفسير الآية
قال القاضي: جاء هذا الخبر بتلاوة هذه الآية وتأويلها ووردت بتلاوتها فيه على قراءة من قرأ: " وأسبغ عليكم نعمةً " بلفظ التوحيد وهي قراءة كثيرٍ من المكيين والكوفيي، وقد قرأها كثير من المدنيين والشاميين والبصريين " وأسبغ عليكم نعمه " على لفظ الجمع وهما قراءتان مشهورتان قد استفاض نقلهما، وقرأت الأئمة بهما وراثةً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناهما يرجع إلى معنى واحدٍ لأن قائلاً لو قال: ما يتقلب فيه فلان من المال والولد والصحة والأمن وأنواع الخير وجميل الستر نعمة أسداها الله تعالى إليه، أو قال هذه نعم من الله تعالى تفضل بها عليه، لكان القولان صحيحين، وكذلك تقارب المعنى في قراءة من قرأ: فانظر إلى آثار رحمة الله " الروم: 50 ومن قرأ: أثر رحمة الله " وقراءة من قرأ: " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته " البقرة: 81 و خطيئاته وقد قيل إن معنى قوله خطيئته في هذا الموضع الشرك، وقيل بل كبائر ذنوبه التي مات ولم يتب منها. وروي عن عبد الله بن كثير أنه قال في معنى قوله تعالى: وأسبغ عليكم نعمة " هي شهادة أن لا إليه إلا الله في ما زعموا، وقيل بل هو عام شامل للنعم؛ ومثل هذا في القرآن كثير. وقيل إن هذا مما ينبئ الواحد منه عن جملة جنسه، كقولهم: هلكت الشاة والبعير، وكثر الدرهم الدينار في أيدي الناس، وقال الله تعالى ذكره: " والعصر. إن الإنسان لفي خسرٍ " العصر: 1،2 أراد الجنس دون اختصاص إنسان واحدٍ، ألا ترى أنه استثنى منه جمعاً فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " العصر: 3 وهذا باب مستقصى في ما رسمناه من علوم القرآن.
وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان وقد بعثه إلى الشام:

ابدأ بالصلاة إذا حل لك وقتها ولا تشاغل عنها بغيرها، فإن الإمام تقتدي به رعيته وتعمل بعمله في نفسه، وإذا وعظت فأوجز، ولا تكثر الكلام فإن كثرة الكلام تنسي بعضه بعضاً، وإنما يغني منه ما وعي عنك. وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تدخرن عن المشير شيئاً فتكون إنما تؤتى من نفسك، ولا تلجن في عقوبةٍ فإن أدناها وجيع، ولا تسرعن إليها وأنت مكتفٍ بغيرها، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واستغن بعلانيتهم ولا تجسس في عسكرك فتفضحه، ولا تغفله فتفسده، ولا تقاتلن بمجروح فإن بعضه ليس معه، واستشل الناس بالدينا فإن ذا النية تكفيك نيته، ومن أعطيته شيئاً بشيءٍ فف له، ولا تتخذن حشماً تضع عنهم ما تحمله على غيرهم فإن ذلك يضغن الناس عليك ويستحلون به معصيتك.
قال القاضي: رضي الله عن أبي بكر فقد أبلغ في وصيته، وبالغ في نصيحته، ومن حفظ عنه ما علمه، احتذى ما أشار به ورسمه، كان سالكاً محجة الرشاد، في المعيشة والمعاد، ونسأل الله التوفيق للسداد وحسن الاستعداد.

عمرو بن معدي كرب الأكول
الشجاج يغلبه ربيعة بن مكدم
حدثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال حدثنا الزبير بن بكار، قال حدثني عمر بن أبي بكرٍ المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: دخل عمرو بن معد يكرب الزبيدي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنده الربيع بن زيادٍ وشريك بن الأعور الحارثيان فسلم عليه وقال: يا أمير المؤمنين دخلت على خالك أبي سليمان يعني خالد بن الوليد فأتى بثورٍ وقوسٍ وكعبٍ فأطعمنيه، فقال عمر: إن في ذلك لشبعةً، قال: يا أمير المؤمنين لك أولي؟ قال: بل لي ولك، قال كلا يا أمير المؤمنين، فلقد رأيتني آكل الأزهر: التبن هو القدح العظيم، والثور: الأقط، والكعب القطعة من التمر رثيئةً و صريفاً.
قال القاضي: وليس في كتابي عن ابن أبي الأزهر، تفسير القوس، وهو القطعة من السمن، وقيل إن هذه الأسماء الثلاثة هي القية الفضلة من الأنواع التي وصفنا.
قال: فنظر عمر إلى الربيع بن زياد كالمتعجب من قوله، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين إنه لكذلك، وإن الخيل لتتقي ذراه إذا كان بين الصفين وانتعلت الخيل الدماء؛ على أنه قد نقض الإل قال ابن أبي الأزهر: الإل هو العهد وقطع أو صرنا قال ابن أبي الأزهر: الأواصر الأصول قال عمرو: يا أمير المؤمنين جاورت هذا الحي من بني الحارث بن كعب عشرين سنةً فمشوا إلي الضراء ودبوا إلي الخمر.
قال القاضي: الضراء: ما واراك من شجرةٍ، والخمر: ما وراك من شيءٍ، قال زهير
فمهلاً آل عبد الله عدوا ... مخازي لا يدب لها الضراء
وقال آخر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا ... فقد جاوزتما خمر الطريق

فلما بدت لي ضباب صدورهم وحسك قلوبهم أو جرتهم أمر من نقيع الحنظل. فقال شريك بن الأعور: يا أمير المؤمنين إن هذا ما أعجزنا لما أخذته أنيابنا وكلمته أظفارنا، فقال عمرو: إليك يا ابن الأعور فإني لا أغمز غمز التين ولا يقعقع لي بالشنان؛ فلما خشي عمر أن يتفاقم الأمر بينهم ويخرجوا إلى ما هو أعظم من هذا قال: إيهاً عنكم الآن، وأقبل على عمروٍ فقال: يا أبا ثور لقد حدثت عن نفسك بمأكلٍ ومشرب، ولقد لقيت الناس في الجاهلية والإسلام فأخبرني هل صدفت عن فارس قط؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أكره الكذب في الجاهلية وأنا مشرك فكيف إذ هداني الله تعالى للإسلام؟ لقد قلت ذات يومٍ لخيل من بني ذهل: هل لكم في الغارة؟ قالوا: على من؟ قلت: على بني البكاء، قالوا: مغار بعيد على شدة كلب وقلة سلب، قلت: فعلى من؟ قالوا: على هذا الحي من كنانة فإنه بلغنا أن رجالهم خلوف. فخرجت في خيل حتى انتهيت إلى وادٍ من اوديتهم فدفعت إلى قومٍ سراةٍ؛ قال له عمر: وما أدراك أنهم سراة؟ قال: انتهيت إلى قبابٍ عظيمةٍ من أدم، وقدورٍ متأقةٍ وإبلٍ وغنم، فقال عمر: هذا لعمري علامة السرور، قال عمرو: فانتهينا إلى أعظمها قبةً فأكشفها عن جاريةٍ مثل المهاة، فلما رأتني ضربت يدها على صدرها وبكت، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: ما أبكي على نفسي ولا على المال، فقلت: على أي شيءٍ تبكين؟ قالت: على جوارٍ أترابٍ لي قد ألفتهن وهن في هذا الوادي، قال: فهبطت الوادي على فرسي فإذا أنا برجلٍ قاعدٍ يخصف نعله، وإلى جانبه سيف موضوع، فلما رأيته علمت أن الجارية قد خدعتني وما كرتني، فلما رآني الرجل قام غير مكترث، ثم علا رابيةً، فلما نظر إلى قباب قومه مطروحةً حمل علي وهو يقول:
قد علمت إذ منحتني فاها ... ولحفتني بكرةً رداها
أني سأحمي اليوم من حماها ... يا ليت شعري ما الذي دهاها
فقلت مجيباً له:
عمرو على طول السرى دهاها ... بالخيل يزجيها على وجاها
حتى إذا جل بها احتواها
ثم حملت عليه وأنا أقول:
أنا ابن عبد الله محمود الشيم ... مؤتمن الغيب وفي بالذمم
من خير من يمشي بساقٍ وقدم
قال: فحمل علي وهو يقول:
أنا ابن ذي الاقيال أقيال ألبهم ... من يلقني يود كما أودت إرم
أتركه لحماً على ظهر وضم
قال: واختلفنا ضربتين، فأضربه أحذر من العقعق، ويضربني أثقف من الهر، فوقع سيفه في قربوس سرجي فقطعه، وعض كاثبة الفرس، فوثبت على رجلي قائماً وقلت: يا هذا ما كان يلقاني من العرب إلا ثلاثة: الحارث بن ظالم لسنه والتجربة، وعامر بن الطفيل للشرف والنجدة، وربيعة بن مكدم للحياء والبأس، فمن أنت ثكلتك أمك؟ قال: بل من أنت ثكلتك أمك؟ قلت: أنا عمرو بن معدي كرب الزبيدي، قال: وأنا ربيعة بن مكدم، قلت: اختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن نتضارب بسيفينا حتى يموت الأعجز؛ وإما أن نصطرع فأينا صرع صاحبه قتله، وإما المسالمة، قال: ذاك إليك فاختر، قلت: إن بقومك إليك حاجةً وبقومي إلي حاجة، والمسالمة أولى وخير للجميع. ثم أخذت بيده فأتيت به أصحابي وقلت لهم: خلوا ما بأيديكم قالوا: يا أبا ثور غنيمة باردة بأيدينا تأمرنا أن نتركها؟ فقلت لهم: لو رأيتم ما رأيت لخليتم وزدتم، خلوا وسلوني عن فرسي ما فعل؛ قال: فتركنا ما بأيدينا وانصرفنا راجعين.

معنى الغنيمة الباردة
قال القاضي: في قوله: غنيمة باردة وجهان: أحدهما أنها الغنيمة التي لم ينل غانمها حر السلاح وحازوها سالمين ظاهرين موفورين غير مكلومين، وقد يكون البرد في هذا القول بمعنى الطمأنينة والراحة كما يقال: اللهم أذقنا برد عفوك، ومنه برد اليقين بمعنى الطمأنينة والسكون، ويقولون برد الميت أي سكن. والوجه الثاني أن الغنيمة الباردة هي المستقرة الحاصلة والمحوزة الثابتة من قولهم: ما برد بيدي من هذا شيء، أي ما حصل ولا ثبت، كما قال الراجز:
اليوم يوم بارد سمومه ... من عجز اليوم فلا تلومه
أي ثابت سمومه. وقد أنشدنا محمد بن القاسم الأنباري:
عافت الشرب في الشتاء فقلنا ... برديه تصادفيه سخينا

على وجهين: برديه أي احبسيه وأقريه لينكسر برده، والآخر بل رديه من الورد، فأدغم اللام في الراء، وهذا كثير في كلام العرب، والإظهار هاهنا قليل في السماع ضعيف في القياس، وان كان بعضهم قد أظهر، وقد روي عن حفص بن سليمان الأسدي عن عاصم بن أبي النجود " بل ران " المطففين: 14 بالإظهار.

نصيحة وصيف وتردد ابن بلبل
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني يعقوب بن بنان المنقري قال حدثنا أبو العباس ابن الفرات، وقد جرى ذكر إسماعيل بن بلبل وأيامه، فقال: كنت يوماً بين يديه وقد ورد عليه خبر الناصر ودخوله قرماسنين، فرأيته قد أطال الفكر ثم قال لأحمد الحاجب: وجه إلى أبي علي وصيف إلى موسى ابن أخت مفلح، فلم نلبث أن حضرا ثم قال: وجه إلى عبد الله بن الفتح، فقال له وصيف: أريد أن أقول شيئاً قبل أن توجه إلى عبد الله بن الفتح، فقال له وصيف: أريد أن أقول شيئاً قبل أن توجه إلى عبد الله بن الفتح، فقال: قل، فكأنه كره أن يقول بسبب من حضر المجلس، فقال أبو الصقر: نحتاج أن نخلو، ولم يكن بالحضرة إلا أربعة أنا خاسمهم: أحمد بن محمد بن خالد أخو أبي صخرة، وما شاء الله الذي كان يكتب للطائي وإسماعيل بن ثابت الزغل، وابن فراس وقد كان استكتبه للعبدي، فقمنا، فقال: مكانك يا أحمد، فجلست ناحيةً وبين يدي أعمال أنظر فيها، وقال لوصيف: قل، فقال له: إن كنت توجه إلى عبد الله بن الفتح تشاوره في أمرٍ ورد عليك وتظن أنه لك مثل من حضر فلا تظن ذاك، فإن عبد الله كان بمصر يقول: ليس لي صلاة ما دمت مع ابن طولون لأن الناصر ليس براض عنه، وهو الآن إنما هو معك على أن الناصر يستنصحك ويرضى بك فيما ولاك من أمره، فإن وقف على تدبيرٍ تدتبره على غير ما يوافق الناصر رأى أن دمك حلال، فأفكر أبو الصقر ساعةً وقاموا معه فدخلوا مجلساً وأسبلت الستور دونهم، ومعهم خادم لأبي الصقر أسود يقال له صندل حسن الفكر؛ فلما قدم الناصر ونكب إسماعيل وتخلصنا من النكبة واستخلفني أبو القاسم عبيد الله بن سليمان كان الخادم يجيئني كثيراً، فسألته عماجرى في تلك الخلوة فقال لي: لا تلد النساء مثل وصيف الخادم، ولا يرى في الدول مثله، قال مولاي لهما يعين يوصيفاً وموسى: قد قرب هذا الرجل ولم يبق في بيوت الأموال شيء ولا والله ما ورائي ما أرضيه به، ونحن في عدةٍ عظيمةٍ قد أنفقت الأموال عليها لأدفع بها عن نفسي، وقد أفكرت في أن أوجه وأقطع جسر النهروان وأوجه بأكثر الجيش إليه مع أحمد بن الحسن المادرائي، فقال له موسى: الرأي لسيدنا ونحن بين يديه في كل ما نهضنا إليه، فقال لوصيفٍ: ما تقول يا أبا علي؟ فقال: أرى لك رأياً لا يخلص لك غيره، أرى أن تأخذ ابنه وتأخذ معك من الجيش من تعلم أنه لك ناصح، وتقيد من تتهمه، وتخرج في الجملة التي تثق بها حتى توافي المدائن، فتأخذ المعتمد وأولاده وتخلفني بواسط وتصير أنت إلى الصرة، والخليفة وأولاده معك، ويكون أبو العباس ومن قد قيدته معك، فإن أهل البصرة إذا رأوا الخليفة حارب دونك رجالهم وخولهم وصبيانهم ونساؤهم، ويكون ما ل الأهواز وواسط والبصرة في يديك، وتحدر معك الشذاءات والحراقات والزلالات والطيارات، وتكاتب عمرو بن الليث فإنه عدوه، فإن كفيت أمره بهذه العلة التي يقال إنه فيها رجعت إلى بغداد وأنت أعز الناس، وإن عاش كنت مع أمير المؤمنين وإمام المسلمين لم تخلع ولم تحدث في أمره حادثة تزيل إمامته، ومعك ولي عهدٍ مقدم على أخيه ولم تخرج من طاعةٍ، فالناس كلهم معك، وقاتلناه أشد قتال، ولعنته على المنابرن وكان ابنه في يديك وأنت مستظهر به وبابنه الآخر، وأولادك وحاشيتك معك.

وإذا نظر الأولياء إلى جودك وبخله واستنقاذك خليفةً مظلوماً وقيامك بنصرته ناصحوك وبذلوا مجهودهم لك، وإن خالفت هذا فأنت والله مأخوذ مقتول، وأنت أعلم. فقال له: القول ما قلت، وهذا هو التدبير، وأنا آخذ في هذا وأعمل به، وخرجا من عنده. فبلغ وصيفاً أن مولاي عرض دوابه وبغاله لاستقبال الناصر، وأنه أنفذ كتاباً إلى أبي بكر ابن أخته، وكان مع الناصر، ليعرضه على الناصر ليجد له موضعاً في استقباله، وورد الكتاب بدخول الناصر حلوان، فجاءه وصيف فقال: ما عزم سيدنا الوزير؟ قد كاد ما جرى أن يفوت، فقال: الليلة أنظر في هذا، فقال: فإلى أن تنظر أتقدم أنا إلى واسط لأكون هناك إلى أن توافي، فقال: ويحك، الرجل قد كتب إلى ابن أختي أنه لم يبق فيه من الروح ما يدخل بغداد، فما معنى الانزعاج وتنبيه الأولياء على المطالبة بالشخوص؟ فقال: والله إن دخل الناصر بغداد في تابوتٍ ليخرجن المحبوس من غير أمرك، ليجتمعن الناس كلهم له، ولينقلبن عنك كل من اصطنعته، فإن كنت لا تطيعني فيما أشرت به فدعني حتى أكبس الحسني كأني قد عاصيتك، وآخذ المحبوس معي، وآخذ المحبوس معي، وآخذ الخليفة من المدائن معي كأنه عن غير أمرك، فإنه يتهيأ لك إن وقعت على شيءٍ يخالف محبتك أن تتخلص حتى تلحق بي أو تستتر إلى أن تجد الفرصة بالتخلص، فقال له: ألى أن يقفل ذاك من حلوان ربما ينجلي المر، فقال له: أما أنا فما أقيم ساعة أخرج من عندك وأنا بواسطٍ إلى أن يأتيني أمرك إن بقي لك أمر، وودعه وخرج، فخلا به المادرائي وأشار عليه بمثل هذا فلم يفعله، ودخل الناصر، وكانت الكائنة والجلاء الذي لم ير مثله.

رأي معاوية في ما يستحسن من الشعر
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا عمر بن شبة عن أشياخه قال: قال معاوية بن أبي سفيان لعبد الرحمن بن الحكم: أراك تعجب بالشعر، فإن فعلت فإياك والنسيب بالنساء فإنك تعر به الشريفة وترمي به العفيفة وتقر على نفسك بالفضيحة، وإياك والهجاء فإنك تحنق به كريماً وتستثير به لئيماً، وإياك والمدح فإنه كسب الوقاح وطعمة السؤال، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وشعرك وتودد به إلى غيرك.
ويقال الشعر أدنى مروءة السري وأفضل مروءة الدني.
نصيب الشاعر ورأيه في شعراء عصره
أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد بن أحمد عن محمد بن عبد الله عن معاذٍ صاحب الهروي قال: دخلت مسجد الكوفة فرأيت رجلاً لم أر قط أنقى ثياباً منه و لا أشد سواداً، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا نصيب، فقلت: أخبرني عنك وعن أصحابك، فقال: جميل إمامنا، وعمر أوصفنا لربات الحجال، وكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وقد قلت ما سمعت، قلت: فإن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو، قال: فأقروا لي أني أحسن المديح؟ قلت: نعم، قال: أفترى لا أحسن أن أجعل مكان عافك الله أخزاك الله؟ قلت: بلى، قال: ولكني رأيت الناس رجلين: رجلاً لم أسأله فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه، ورجلاً سألته فمنعني فكانت نفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أطلب منه.
شاعر يسترفد مكديا
ً
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال: قدم أحمد أو إبراهيم بن الحسن بن سهل البصرة وقد ولي شيئاً من أعمالها فنزل طاحية، فمضى إليه بعض شعراء البصرة فامتدحه، فوقع إليه:
شاعر يطلب رفداً ... من أخي شعرٍ مكدي
إن ذا أعجب أمرٍ ... خاض فيه الناس بعدي
أنا في أخذ ثياب الن؟ ... اس مذ كنت أسدي
جلب الريح إلري؟ ... ح الذي يطلب رفدي
قال: فأردت هجاءه فلم أفعل، فلقيني يوماً فقال لي: يا هذا مازحناك فجددت في هجرنا، ثم قال لغلامه: لا تفارقه، فمضى بي معه فأقمت عنده يومي ووهب لي خمسمائة درهمٍ وقال: لا تقطعني، فكنت أمضي إليه، فلما أراد الخروج من البصرة أمر لي بجميع ما بقاه في الدار مما لم يحمله معه، فبعته بمائة دينار، قال أبو عبد لله: لا أدري من حدثني بهذا الجماز أو الحمدوي أوغيرهما.
؟ضروب من القبح

حدثنا محمد بن الحسن بن زيادٍ قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب، قال حدثنا أبو العالية، قال سمعت المأمون يقول: ما أقبح اللجاجة بالسلطان، وأقبح والله من ذلك الضجر من القضاة قبل التفهم، وأقبح منه سخافة الفقهاء بالدين، وأقبح منه البخل بالأغنياء والمزاح بالشيوخ والكسل بالشباب والجبن بالمقاتل.
؟لا تغرق في شتمنا حدثنا أحمد بن جعفر قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر قال حدثنا ابن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني قال حدثنا سفيان بن عيينة قال: كان بين عمر بن ذر وبين رجلٍ يقال له ابن عياش شحناء، وكان يبلغ عمر بن ذرٍ أن ابن عياشٍ يتكلم فيه، قال: فخرج عمر ذات يوم فلقي ابن عياش فوقف معه، فقال له: لا تغرق في شتمنا ودع للصلح موضعاً فإنا لا نكافئ أحداً عصى الله تعالى فينا بأكثر من أن نطيع الله تعالى فيه.
؟

لا تدع على أخيك
حدثنا ابن المنادي قال حدثنا جعفر الصائغ أيضاً قال حدثنا الحسن بن بشر، قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بهن عبيد الله قال: سمع مسلم بن يسار رجلاً يدعو على أخٍ له من أجل أنه ظلمه، فقال له مسلم: يا أخي لا تدع على أخيك ولا تقطع رحمه، وكله إلى الله فإن خطيئته أشد له طلباً من أعدى عدو له.
كبش من افريقية
حدثنا عبدي الله بن مسلم العبدي قال حدثنا الغلابي، قال حدثنا إبراهيم بن حبيب القاضي الغلابي قال: رأيت في دار محمد بن زبيدة كبشاً قدم به من إفريقية أسود فيه حلق مكتوب ببياض: لا إله إلا الله وفي الشق الآخر محمد رسول الله.
انتقل من جوار ابن طاهر
حدثنا أحمد بن أبي سهلٍ بن عاصم الحلواني، قال حدثنا أبو الحسن علي بن هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور قال: كان أبي نازلاً في جوار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فانتقل عنه إلى دارٍ ابتاعها بنهر المهدي وهي دار إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فكتب إليه عبيد الله مستوحشاً:
يا من تحول عنا وهو يألفنا ... بعدت جداً فلأياً صرت تلقانا
فاعلم بأنك إذ بدلت جيرتنا ... بدلت داراً وما بدلت إخوانا
فأجابه هارون بن علي:
بعدت عنكم بداري دون خالصتي ... ومحض ودي وعهدي كالذي كانا
وما تبدلت مذ فارقت قربكم ... إلا هموماً أعانيها وأحزانا
وهل يسر بسكنى داره أحد ... وليس أحبابه للدار جيرانا
غزل لهارون الرشيد
حدثنا عمر بن أحمد بن علي المروزي الجوهري إملاءً من حفظه سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة قال: أخبرني أبو العباس أحمد النيسابوري أن هذه الأبيات كتبها هارون الرشيد إلى جاريةٍ له كان يحبها وكانت تبغضه:
إن التي عذبت نفسي بما قدرت ... كل العذاب فما أبقت ولا تركت
مازحتها فبكت واستعبرت جزعاً ... عني فلما رأتني باكياً ضحكت
فعدت أضحك مسروراً بضحكتها ... حتى إذا ما رأتني ضاحكاً فبكت
تبغي خلافي كما خبت براكبها ... يوماً قلوص فلما حثها بركت
أو لعله لابن إياس
حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخواص، قال حدثنا أبو العباس ابن مسروق، قال حدثني محمد بن أحمد أبو الحسن المدائني، قال حدثني عبد الله بن يحيى بن فرقد مولى المهدي قال: اشترى محمد بن إياس جاريةً مغنية فهويها وكان مستهتراً بحبها وعشقها فأعرضت بوجهها عنه يوماً، فلقيني وهو كئيب حزين، فقلت: ما شأنك؟ فأنشأ يقول:
أليس من عجب بل زادني عجباً ... مملوكة ملكت من بعد ما ملكت
هي التي عذبتني في مودتها ... كل العذاب فما أبقت ولا تركت
أو لشاعر آخر
أنشدنا بعقوب بن محمد بن صالح الكريزي قال أنشدنا عبد الجليل بن الحسن لذؤيب:
هي التي عذبتني في مودتها ... كل العذاب فما أبقت ولا تركت
عاتبتها فبكت واستعبرت أسفاً ... عني فلما رأتني باكياً ضحكت
فظلت أضحك مسروراً لضحكها ... فاستعبرت إذ رأتني ضاحكاً فبكت
تبغي خلافي كما خبت براكبها ... يوماً قلوص فلما حثها بركت
كأنها درة قد كنت أذخرها ... ليوم عسرٍ فلما رمتها هلكت
المجلس السادس والستون

يذهب إلى دمشق ليسمع حديثاً من أبي الدرداء
أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا قراءة عليه قال حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، قال حدثنا محمود بن خداش، قال حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، قال حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة إلى أبي بالدرداء وهو بدمشق، فقال: ما أقدمك يا أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما جئت لحاجةٍ؟ قال: لا، قال: ما قدمت لتجارةٍ؟ قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث، قال: فإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقاً يبتغي به علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها إرضاءً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما أروثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافرٍ.
قال القاضي: هذا خبر قد كتبناه عن عددٍ من الشيوخ، وروينا في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأئمة العلماء من السلف والخلف. واستقصاء القول في شرف العلم وفضله، وارتفاع منزلته، وعلو شأن اقتباسه وحمله، وجلالة القائمين بروايته ونقله، مما يصعب ويبعد ويتعب المتعاطي له ولا يتيسر، ونحن نأتي بالشيء بعد الشيء في المجلس بعد المجلس فيسهل مورده، ويعظم على الناظر فيه الانتفاع به، وبالله نستعين فإنه خير معين.

الخليل يرى أن الرجال أربعة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا أبو معمر عن أبيه قال حدثنا النضر بن شميل قال، سمعت الخليل بن أحمد يقول: الرجال أربعة: رجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه، ورجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عاقل فاتبعوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذاك مائق فاحذروه. وأنشدت في بعض ما يشتمل بعض الحكاية عليه:
ما زلت في تيه الظلام أجري ... حتى دريت أنني لا أدري
بين الطاهري وبعض أهل الأدب
حدثنا الحسني بن القاسم الكوكبي، قال حدثنا أبو الحسن علي بن عصمة الأواني الشهراباني الشاعر قال حدثني بعض المشايخ من أهل الأدب قال: كنت مقيماً بالري فدعاني ذات يوم محمد بن علي الطاهري، فلما استوى مجلسي عنده قال لي: قد خطرت ببالي أشياء أنا سائلك عنها فقل فيها بما حضرك، قلت: يسأل الأمير وأسمع، قال: ما أطيب الطعام؟ قلت: طعام لقي جوعاً ومطعم وافق شهوة، قال: فما ألذ الشراب؟ قلت: شربه ماءٍ باردٍ تبرد غليلك أو كأس راح تعاطيها خليلك، قال: فما أمتع الغناء؟ قلت: أوتار أربعة، وجارية متربعةً، غناؤها مصيب، وضربها عجيب، قال: فما أذكى الطيب؟ قلت: ريح بدن تحبه، أو ولدٍ تربه، قال: فما أشهى النساء؟ قلت التي تخرج من عندها كارهاً، وترجع إليها والهاً، قال: فما أفره الخيل؟ قلت: الأسوق الأعنق الذي إذا طلب لم يسبق، وإذا طلب لم يلحق، إذا صهل أطربك، وإذا رأيته أعجبك، قال: أحسنت يا غلام أعطه مائة دينار قلت: أعز الله الأمير وأين تقع مني مائة دينار؟ فقال لقد زدت نفسك مائة دينار قلت: أولست كذا؟ قال الأمير قال: لا، ولا كني أحقق ظنك، يا غلام أعطه مائتي دينار.
؟؟
إهانة الحجاج لأنس وما نجم عنها

حدثني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيدٍ قال حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن عوانة بن الحكم الكلبي قال: دخل أنس بن مالك على الحجاج بن يوسف، فلما وقف بين يديه سلم عليه فقال أيها يا أنيس، يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشأفة، ولأقلعنك كما تقلع الصمغة، فقال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله ؟ فقال: إياك سك الله سمعك، قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلةٍ قتلت ولا أي ميتةٍ مت. ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضباً وصفق عجباً، وتعاظمه ذلك من الحجاج. وكان كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك، أما بعد، فإن الحجاج قال لي هجراً، وأسمعني نكراً، ولم أكن لذلك أهلاً، فخذ لي على يديه فإني أمت بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فبعث عبد الملك إلى إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وكان مصادقاً للحجاج، فقال له: دونك كتابي هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق، فأبدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فادفع كتابه إليه وأبلغه مني السلام وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتاباً إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك. وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت من شكاتك للحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها فاكتب إلي بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي، والسلام، فلما قرأ أنس بن مالك كتابه وأخبر برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيراً وعافاه وكافأه عني بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه. فقال إسماعيل بن عبد الله لأنس: يا أبا حمزة إن الحجاج عامل أمير المؤمنين وليس بك عنه غنى ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعةٍ ثم دفع إليك لقدر أن يضر وينفع، فقاربه وداره، فقال أنس: أفعل إن شاء الله. ثم خرج إسماعيل من عنده فدخل على الحجاج، فلما رآه الحجاج قال: مرحباً برجلٍ أحبه وكنت أحبلقاءه، فقال له إسماعيل: وأنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به، قال: وما أتيتني به؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس عليك غضباً ومنك بعداً، قال: فاستوى الحجاج جالساً مرعوباً فرمى إليه إسماعيل بالطومار، فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما نفضه قال: قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه، فقال له إسماعيل: لا تعجل، قال: كيف لا أعجل وقد أتيتني بآبدةٍ؟ وكان في الطومار: إلى الحجاج بن يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف: أما بعد، فإنك عبد طمت بك الأمور فسموت فيها وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية إداً، وأردت أن تبورنى، فإن سوغتكها مضيت قدماً، وإن لم أسوغها رجعت القهقرى، فلعنك الله عبداً أخفش العينين منقوص الجاعرتين، أنسيت كاسب آبائك بالطائف وحفرهم الآبار ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب؟! والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فلم تقبل له أحسانه ولم تجاوز له إساءته، جرأةً منك على الرب عز وجل، واستخفافاً منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عزير بن عزرة وعيسى بن مريم لعظمته وشرفته واكرمته، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه ثماني سنين يطلعه على سره ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم مثكل بحتفٍ قاضٍ و " لكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون " الأنعام:67.

تفسير بعض المفرادات

قال القاضي: قول الحجاج: سك الله سمعك يقال: استكت الأذنان واصطكت الركبتان. وقوله للحجاج: يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب كانت المراة تستعمل عجم الزبيب لتضيق قبلها في ما ذكر بعض أهل العلم وهو حبه، والنوى كله يقال له عجم واحدته عجمة، قال الأعشى:
مقادك بالخيل أرض العدو ... وجذعانها كلقيط العجم
قيل: صارت من صلابتها مثل النوى. وقال أبو عبيدة: عجم عجماً أي ليك لأنه نوى الفم فهو أصلب ليس بنوى خل ولا نبيذٍ فهو أصلب وأملس، وإنما أرارد صلابتها وضمرها، ولقيط أراد ملقوط مثل جريح ومجروح، ويروى كلفيظ العجم أي ملفوظ ملقى.

بين دعبل والمطلب الخزاعي
حدثنا محمد بن الصولي قال حدثني عون بن محمد قال لما هجا دعبل المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال:
اضرب ندى طلحة الطلحات متئداً ... ببخل مطلبٍ فينا وكن حكما
تخرج خزاعة من لؤمٍ ومن كرمٍ ... فلا تعد لها لؤماً ولا كرما
ويروى تسلم خزاعة. فدعاه بعد ذلك المطلب، فلما دخل إليه قال: والله لأقتلنك لهجائك لي، فقال: له فأشبعني إذن ولا تقتلني جائعاً، فقال: قبحك الله هذا أهجى من الأول، ثم وصله فحلف أنه يمدحه ما عاش، فقال فيه:
سألت الندى لا عدمت الندى ... وقد كان منا زماناً غرب
فقلت له طال عهد اللقاء ... فهل غبت بالله أم لم تغب
فقال بلى لم أزل غائباً ... ولكن قدمت مع المطلب
قال القاضي: في هذا الخبر ما دل على دهاء دعبل ولطف حيلته وأنبأ عن ذكاء المطلب ودقة فطنته. وقد روي مثل هذا عن معن بن زائدة وأتي بجماعةٍ قد عاثوا في عمله فأمر بقتلهم، فقال له أحدهم: أعيذك بالله أن تقتلنا عطاشاً فأمر بإحضار ماءٍ يسقونهم، فأحضر، فلما شربوا قال: أيها الأمير لا تقتل أضيافك، فقال: أولى لك، وأمر بتخليتهم.
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون قال: أنشدني دعبل لنفسه يرثي المطلب:
مات الثلاثة لما مات مطلب ... مات الحياء ومات الرغب والرهب
لله أربعة قد ضمها كفن ... أضحى يعزى بها الإسلام والعرب
يا يوم مطلب أصحبت أعيننا ... دمعاً يدوم لها ما دامت الحقب
هذي خدود بني قحطان قد لصقت ... بالترب منذ استوى من فوقك الترب
جمع فعلة
قال القاضي: قول دعبل في شعره في الخبر المتقدم: اضرب ندى طلحة الطلحات أسكن اللام في قوله الطلحات للضرورة وحقها التحريك، والعرب تقول طلحة الطلحات، وحمزة وحمزات، وتمرة وتمرات، وجمرة وجمرات، ومثله الركعات والسجدات بفتح عين الفعل من فعلات في الأسماء من هذا الباب، مالم تكن العين واواً أو ياءً أو ألفاً. وقد أسكن الراجز العين من الاسم في الباب الذي وصفت فقال:
عل صروف الدهر أو دولاتها ... تديلنا اللمة من لماتها
فتستريح النفس من زفراتها
هكذا روي عل صروف بالجر وله علة مختلف فيها، فمن الناس من زعم أن إحدى لامي عل التي في معنى لعل حذفت وأن اللام التي في الظرف هي اللام الخافضة ففتحها لغة، وأكثر أهل العلم ينكرون هذا التأويل ويذهبون إلى أن خفض ما يلي لعل لغة من لغات العرب.

وما كان من الأسماء في هذا الباب عينه مدغمةً في لامه لتجانسهما مثل حبةٍ وحبات وعمة وعمات فإنه ساكن، وكذلك الألف مثل دارةٍ ودارات، وتارة وتاراتٍ، وبابةٍ وباباتٍ، لأن الألف لا تكون إلا ساكنةً، ومتى ما ريم تحريكها انقلبت عن جنسها إلى الهمزة. فأما الواو والياء كجوزةٍ ولوزةٍ وعورةًٍ وغيبةٍ وبيضةٍ وربطةٍ، فالمستفيض من لغة العرب فيه الإسكان للتخفيف ولئلا يلزم القلب فيه الواو ولاياء لتحركهما وانفتاح ما قبلهما ويقع الالتباس، فتكون عارة في عورة بمنزلة دارةٍ، وهذيل بن مدركة يحركون فيقولون عورات وبيضات. قال الله تعالى ذكره: " ثلاث عوراتٍ لكم " النور: 58 فهذه القراءة السائرة بنقل العامة والخاصة، وقد قرأ بعضهم عورات بالتحريك، وهذه قراءة شاذة. وأما فعلات إذا كانت نعتاً فبابها التسكين تخفيفاً مثل: ضخمةٍ وضخمات، وعبلةٍ وعبلاتٍ، وكما شذ في الأسماء قول الراجز زفراتها على ما قدمنا ذكره، فقد شذ في القياس واطرد في الاستعمال قولهم: ربعات في جمع رجل ربعة وامرأة ربعةٍ. وقد زعم جماعة من النحاة أن مما شذ أيضاً في هذا الموضع قولهم شاة لجبة وشياه لجبات، وهي القليلة اللبن. وأرى أنه قيل على التفاؤل بالغزر كما قيل للعطشان ناهل، وللضرير بصير، وللديغ سليم، في قول كثير منهم. ألا ترى إلى قول الشاعر:

في جحفل لجب
وقد حكي شاة لجبة بالفتح، وحكى الكسائي عن العرب فيما روي عنه لجبة ولجبة، فعلى هذين الوجهين يكون لجبات جارياً على أصله وقياسه وغير خارج عن بابه. وأما قولهم لقبيلة من قريش العبلات فإنه تقرر في أصله اسماً وخرج أن يكون صفةً ونعتاً. قال الشاعر في لغة هذيل التي قدمنا ذكرها:
أبو بيضاتٍ رائح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح
وقد اختلف أهل العلم بالعربية في علة تحريك عين فعلات بحيث وصفنا وفعلة منه ساكنة العين، فقال أكثرهم: فعل هذا ليفرق بين الأسماء في هذا الباب وبين النعوت، وكانت الأسماء لخفتها أحمل للحركة والنعوت أولى بالتسكين لثقلها وأنها تأتي ثانيةً بعد الأسماء. وقال بعضهم: فعلات في هذ1 الباب فيها تاءان في الأصل والتقدير، وإحداهما هاء تنقلب في الوقف تاء كقولك جفنة وكان التقدير في جمعها جفنتات لأن التاء الأولى لازمة في الواحدة والتاء الثانية أتت للجمع، فاكتفي بإحداهما جعلت حركة العين عوضاً مما حذف، وكانت الأسماء أحق بهذا لسعتها وخفتها، ولم يؤت بها في النعب للتخفيف. وقد حكي امرأة صعدة، كأنها صعدة توصف بالطول تشبيهاً بالقناة، يقال في يد فلانٍ صعدة يمانية، كما قال الشاعر:
في كفه صعدةً يمانية ... فيا سنان كشعلة القبس
يعني وهجاً ومثله:
صعدة قد ثبتت في حائرٍ ... أينما الريح تميلها تمل
فأسكن هاهنا المشبه والمشبه به وهو النعت والاسم في الواحد، وقالوا: نسوة صعدات فأسكنوا لأنه نعت، وكأنهن صعدات فحركوا لأنه اسم.
قال القاضي: وهذا باب تتصل به أبواب تشاركه في أصوله ولها أحكام وعلل، وفيها لغات تتشعب وتتفرع، وهي مرسومة على حدودها مقرونة بعللها في أو إلى المواضع بها.
حكمة للحسن
حدثنا إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع أبو إسحاق، قال حدثنا يحيى بن جعفر بن عبد الله بن أبي طالب، قال حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي، قال حدثنا الوليد بن مسلم وضمرة بن ربيعة عن أحمد بن أبي حميدٍ عن الحسن قال: ما عرف الخير من لم يتبعه، ولا عرف الشر من لم يجتنبه، وما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا رؤي ذلك في عمله، فانظر ما تجب أن يكون معك غداً فقدمه اليوم.
خسف بدركلتي ونجا أبو زبيبة
حدثنا محمد بن أحمد بن أسد الهروي، قال حدثنا ابن أبي سعد الوراق قال: كان رجل يقال له أبو زبيبة متعبداً يجيء إلى مدينة من مدائن اليمن يقال لها دركلتي قال: فيقف عليهم فينشد هذه الأبيات:
غر جهولاً أمله ... يموت من جا أجله
فما بقاء آخرٍ ... قد مات عنه أوله
قال فكان هذا دأبه، وكان أهل القرية ملحين في المعاصي فخسف بهم، فمر بها رجل فلقيه آخر فقال: ما فعلت دركلتي؟ قال: خسف بها، قال: فأبو زبيبة؟ قال: سلم.
المشي إلى الصين أهون من تلك الخطوة

حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال حدثنا محمد بن القاسم، قال حدثنا الأصمعي قال: نظر الأحنف إلى سيفٍ مع رجلٍ من بني تميم فقال له: إن فيه لقصراً وإنه لجيد، فقال صاحب السيف: يا أبا بحر إنها تطيله خطوة، كما قال الشاعر:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلحقها إذا لم تلحق
قال الأحنف: يا ابن أخي، المشي والله إلى الصين أهون من تلك الخطوة.

لا بد من إنصاف الشعراء
حدثنا أبو النضر العقيلي، قال حدثنا عسل بن ذكوان، قال حدثنا الزيادي قال: كان الخليل بن أحمد صديقاً لجعفر بن سليمان الهاشمي، فجاء يوماً ليدخل عليه فوجد على بابه شعراء قد أنشدوه وقبلت أشعارهم وتأخرت جوائزهم، فشكوا ذلك إليه وسألوه إذكاره، فدخل إليه فأنشده:
لا تقبلن اشعر ثم تعقه ... فتنام والشعراء غير نيام
وأعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعقابهم يبقى على الأيام
قال القاضي: وقد روينا هذه الأبيات منسوبةً إلى ابن الرومي في ما روي لنا من شعره، والله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
بين الحسن بن علي وزياد
حدثنا أحمد بن الحسن بن الكلبي قال حدثنا محمد بن زكرياء قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال حدثنا هشام بن محمد عن أبيه قال: كان سعيد بن سرحٍ مولى حبيب بن عبد شمس شيعةً لعي بن أبي طالب عليه السلام، فلما قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه وطلبه زياد، فأتى الحسن بهن علي، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فأخذهم وحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن علي إلى زياد أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم فهدمت داره وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد عليه عياله وماله، فإني قد أجرته فشفعني فيه. فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي، وأنت طالب حاجةٍ، وأنا سلطان وأنت سوقة، كتبت إلي في فاسقٍ لا يؤويه إلا مثله، وشر من ذلك توليه أباك وإياك، وقد علمت أنك قد آويته إقامة منك على سوء الرأي ورضى منك بذلك، وايم الله لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك وإن نلت بعضك غير رفيقٍ بك ولا مرعٍ عليك، فإن أحب لحمٍ إلي آكله للحم الذي أنت منه، فأسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه إياك.
فلما قرأ الحسن عليه السلام الكتاب تبسم وكتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح وكتابه إلى زياد فيه وأجابة زيادٍ إياه، ولف كتابه في كتابه وبعث به إلى معاوية. وكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن فاطمة عليهما السلام إلى زياد بن سمية: الولد للفراش واللعاهر الحجر. فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية وقرأ معاوية الكتاب ضاقت به الشام، وكتب إلى زيادٍ: أما بعد فإن الحسن بن علي بعث بكتابك إلي جواب كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرت التعجب منك، وعلمت أن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان والآخر من سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم. وأما رأيك من سمية فما يكون رأي مثلها؟ ومن ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه وتعرض له بالفسق، ولعمري لأنت أولى بالفسق من الحسن، ولأبوك إذ كنت تنسب إلى عبيدٍ أولى بالفسق من أبيه، وإن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عليك وإن ذلك لم يضعك.
وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك، فإذا قدم عليك كتابي هذا فخل ما في يديك لسعيد بن سرح، وابن له داره، ولا تعرض له، واردد عليه ماله، فقد كتبت إلى الحسن أن يخير صاحبه إن شاء أقام عنده، وإن شاء رجع إلى بلده، وليس لك عليه سلطان بيدٍ ولا لسانٍ. وأما كتابك إلى الحسن باسمه ولا تنسبه إلى أبيه فإن الحسن ويلك ممن لا يرمى به الرجوان، أفإلى أمه وكلته لا أم لك، هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفخر له إن كنت تعقل؛ وكتب في أسفل الكتاب:
تدارك ما ضيعت من بعد جرأةٍ ... وأنت أريب بالأمور خبير
أما حسن بابن الذي كان قبله ... إذا سار سار الموت حيث يسير

وهل يلد الرئبال إلا نظيره ... فذا حسن شبه له ونظير
قال القاضي: الرئبال ولد الأسد.
ولكنه لو يوزن الحلم الحجى ... برأي لقالوا فاعلمن ثبير
قال الغلابي: قرأت هذا الخبر على ابن عائشة فقال: كتب إليه معاوية حين وصل إليه كتاب الحسن في أول الكتاب الشعر والكلام بعده.

تعليقات لغوية ونحوية
قال القاضي: قول معاوية: من لا يرمى به الرجوان يعني تثنية الرجا وهو الجانب والناحية جمعه أرجاء، قال الله عز وجل: " والملك على أرجائها " الحلاقة:17 والعرب تقول: فلان لا يرمى به الرجوان أي لا يستهان به وتستضعف منزلته فيطرح به ويرمى به، كما قال الشاعر:
فلا يرمى بي الرجوان اني ... أقل القوم من يغني مكاني
وأما قوله: تدارك ما ضيعت فإنه حرك الكاف في الأمر لأنه أراد النون الخفيفة، كما قال الشاعر:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس
أراد: اضربن؛ والله تعالى الموفق للصواب.
المجلس السابع والستون
معالجة محارب بن دثار لشهود الزور
أخبرنا المعافى قال حدثنا نصر بن بيزويه المعروف بابن أبي منصور الشيرازي في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وثلاثمائة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم شاذان قال حدثنا سعد بن الصلت قال حدثني هارون بن الجهم أبو الجهم القرشي عن عبد الملك بن عمير القبطي قال: كنت عند محارب بن دثار الذهلي وهو في قضائه حتى تقدم إليه رجلان، فادعى أحدهما قبل الآخر حقاً فأنتكره، فقال: ألك بينة؟ قال: نعم فلان. فقال له الرحل المدعى قبله: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لئن شهد علي ليشهدن بزورٍ، ولئن سألني عنه لأزكينه، فلما جاء الشاهد قال محارب بن دثار: حدثني عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الطير يوم القيامة لتضرب بمناقيرها وتقذف ما في حواصلها وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة، وما يكلم شاهد الزور ولا تقار قدماه على الأرض حتى يقذف به في النار. ثم قال للرجل: بم تشهد؟ قال كنت شهدت على شهادةٍ وقد نسيتها، أرجع فأتذكرها، فرجع ولم يشهد عليه بشيء.
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان أبو الحسين البزاز قال حدثنا أبو بكرٍ سليمان بن داود بن كثير الكندي قال: شهد رجل على رجلٍ عند محارب بن دثار، وكان محارب متكئاً، فقال المشهود عليه: والله الذي تقوم السماء والأرض بأمره ما شهد علي إلا بزورٍ، وما علمت إلا خيراً إلا هذه الشهادة، وإنما ذلك لحقد له علي، فاستوى محارب جالساً ثم قال: يا هذا سمعت ابن عمر يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي على الناس يوم تشيب فيه الولدان، وتضع الحوامل ما في بطونها، وتضع الطير ما في حواصلها، وتضرب بأذنابها ولا ذنب عليها، فإن كنت شهدت على حقٍ فأقم على شهادتك، وإن كنت شهدت على باطل فاتق الله تعالى وغط رأسك، واخرج من هذا الباب، فغطى الرجل رأسه وخرج من الباب.
فظاعة شهادة الزور
قال القاضي: الأمر في عظيم جرم شاهد الزور وجسيم إثمه وفظيع ما تحمله وقبيح ما ارتكبه واقتحمه واحتقبه وأقدم عليه، وما ورد من توعد الله جل جلاله إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يطول شرحه ويتعب جمعه، ومن بليغ ما ورد فيه هذا الخبر الذي رويناه؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يؤمر به إلى لنار. وروي عنه أيضاً أنه قال: عدلت شهادة الزور الشرك.

وقال الله جل وعز: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " الحج:30 وقال تعالى جده: " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون " النحل:105 وروي عن ابن عباس أنه قال في قوله جل ذكره: " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين " الأعراف: 152 هي والله لكل مفترٍ كذباً إلى يوم القيامة. وقد اختلف أهل العلم فيما ينبغي أن يعمل بشاهد الزور: فذهب بعضهم إلى تعزيره وتأديبه، ورأى آخرون إظهار أمره والنداء عليه والتنكيل به وشهره وتحذير الناس منه وإسقاط شهادته إلى أن يتوب وتظهر توبته وتحسن إنابته أو تأتي عليه منيته، ونسأل الله توفيقه وعصمته، وأن يجعلنا ممن يؤثر دينه على دنياه، ورضى ربه على هواه، وأن لا يجعلنا ممن يبيع حظه من ولاية الله تعالى بشيءٍ من حطام الدنيا وزينتها، ولا يشري صالح ما بينه وبين ربه بمنازل الدنيا ومراتبها، إنه سميع الدعاء لطيف لما يشاء.
اضربني ضرباً تقوى عليه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا أبو حاتم، قال ضرب رجل من خدم السلطان رجلاً فأوجعه، فقال له: أصلحك الله، اضربني ضرباً تقوى عليه فإن القصاص أمامك.

كيف تم استخلاف عمر بن عبد العزيز

حدثنا أحمد بن يحيى بن المولى قال حدثنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي قال حدثنا محمد بن المبارك الصوري قال حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن حسان الكناني قال: لما مرض سليمان بن عبد الملك المرض الذي توفي فيه، وكان مرضه بدابق، ومعه رجاء بن حيوة، فقال لرجاء بن حيوة: يا رجاء من لهذا الأمر من بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب، قال: فالآخر؟ قال: ذاك صغير، قال: فمن ترى، قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز. قال: أتخوف بني عبد الملك، أن لا يرضوا، قال: فول عمر بن عبدب العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتاباً وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوماً عليها، قال: لقد رأيت، إيتني بقرطاس، قال: فدعا بقرطاسٍ فكتب فيه العهد لعمر بن عبد العزيز ومن عبده يزيد بن عبد الملك ثم ختمه ودفعه إلى رجاء، قال: اخرج إلى الناس فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً، قال: فخرج إليهم رجاء فجمعهم وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب من بعده، قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم لا تخبرون بمن فيه حتى يموت، قالوا: لا نبايع حتى نعلم من فيه، قال: فرجع رجاء إلى سليمان، قال: انطلق إلى أصحاب الشرط والحرس وناد الصلاة جامعة، ومر الناس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما في هذا الكتاب، فمن أبى أن يبايع منهم فاضرب عنقه، قال: ففعل، فبايعوا على ما فيه، قال رحاء: فلما خرجوا خرجت إلى منزلي فبينا أنا أسير في الطريق إذ مسعت جلبة موكبٍ، فالتفت فإذا هشام، فقال لي: يا رجاء قد علمت موقعك منا وإن أمير المؤمنين قد صنع شيئاًِ لا أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني، فإن يكن عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمير نفس حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت، قال قلت: سبحان الله يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه؟ لا يكون ذلك أبداً، فأدارني وألا صني فأبيت عليه، قال: فانصرف. فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز فقال لي: يا رجاء إنه قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إلي، ولست أقوم بهذا الشأن فأعلمني ما دام في الأمير نفس لعلي أتخلص منه ما دام حياً، قلت: سبحان الله يستكتمني أمير المؤمنين أميراً أطلعك عليه؟، فأدراني وألا صني فأبيت عليه، قال رجاء وثقل سليمان، وحجب الناس عنه حتى مات، فلما مات أجلسته وأسندته وهيأته وخرجت إلى الناس فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فقلت: إن أمير المؤمنين قد أصبح ساكناً، وقد أحب أن تسلموا عليه وتبايعوا على ما في هذا الكتاب، والكتاب بين يديه، قال: فأذنت للناس فدخلوا وأنا قائم عنده، فلما دنوا قلت: إن أميركم يأمركم بالوقوف، ثم أخذت الكتاب من عنده، ثم تقدمت إليهم فقلت: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في الكتاب أجمعين وفرغت من بيعتهم قلت: لهم: آجركم الله في أمير المؤمنين قالوا: فمن فافتح الكتاب، فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلما نظرت بنو عبد الملك تغيرت وجوههم، فلما قرأوا من بعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا، فقالوا: أين عمر بن عبد العزيز؟ فطلبوه فلم يوجد في القوم، قال: فنظروا فإذا هو في مؤخر المسجد، قال: فأتوه فسلموا عليه بالخلافة فعقر فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه فرقوا به المنبر، فلم يقدر على الصعود حتى أصعدوه، فجلس طويلاً لا يتكلم، فلما رآهم رجاء جلوساً قال: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعوه؟ قال: فنهض القوم إليه فبايعوه رجلاً رجلاً، قال فمد يده إليهم، قال: فصعد إليه هشام فلما مد يده إليه قال يقول هشام إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال عمر: نعم إنا لله وإنا إليه راجعون حين صار يلي هذا الأمر أنا وأنت. قال: ثم قام عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إني لست بقاضٍ ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوالٍ. ثم نزل يمشي فأتاه صاحب المراكب فقال: ما هذا؟ أقالك: مركب الخليفة، قال: لا حاجة لي فيه، إيتوني بدابتي، فأتوه بدابته فركبها ثم خرج يسير وخرجوا معه، فمالوا إلى طريق، قال: إلى أين؟ قالوا: إلى البيت الذي يهيأ للخليفة، قال: لا حاجة لي فيه، انطلقوا بي إلى منزلي، قال رجاء:

فأتى منزله فنزل عن دابته، ثم دعا بدواةٍ وقرطاسٍ وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار ويمل على نفسه، قال رجاء: فلقد كنت أظن أن سيضعف فلما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا ونحوه.فأتى منزله فنزل عن دابته، ثم دعا بدواةٍ وقرطاسٍ وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار ويمل على نفسه، قال رجاء: فلقد كنت أظن أن سيضعف فلما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا ونحوه.

هل تجوز الشهادة على الكتاب المختوم
قال القاضي رحمه الله: قد اختلف أهل العلم في الشهادة على الكتاب المختوم كالذي جرى في هذه القصة، وكالرجل يكتب وصيته في صحيفة ويختم عليها ويشهد قوماً على نفسه أنها وصيته من غير أن يقرأوها عليه أو يقرأها عليهم ويعاينوا كتبه إياها، وما أشبه هذا مما يشهد المرء فيه على نفسه وإن لم يقرأه الشاهد أو لم يقرأ عليه، فأجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم فيه جمهور أهل الحجاز، وروي عن سالم بن عبد الله، وذهب إلى هذا مالك بن أنس ومحمد بن سلمة المخزومي، وأجاز ذلك مكحول ونمير بن أوس وزرعة بن إبراهيم والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز في من وافقهم من فقهاء أهل الشام، وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول الليث بن سعد في من وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل البصرة وقضاتهم، وروي عن قتادة وعن سوار بن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبريين في من سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد من متأخري أصحاب الحديث منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
وأبى ذلك جماعة من فقهاء أهل العراق منهم إبراهيم وحماد الحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، وهو قول شيخنا أبي جعفر رحمة الله عليه، وكان بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الأول لعلل ذكر إنه حاج بعض مخالفيه فيها.
قال القاضي: وإلى القول الذي قدمت حكايته عن أهل الحجاز والشام ومصر والمغرب والبصرة أذهب، ولكل ذي قولٍ من هذهين القولين علل يعتل بها لقوله، ويحتج بها على خصمه، وليس هذا الموضع مما يحتمل إحضارها، وهي مشروحة مستقصاة في ما رسمناه من كلامنا في كتب الفقه ومسائله. وقوله: " ألا صني " قريب من معنى قوله أدارني وهو ليه وفتله.
أشرف من حرب بن أمية من أكفاً عليه إناءه
حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكارٍ قال حدثنا أبو بكر الهذلي وعبيد الله بن محمد الغساني عن الشعبي قال: دخل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على معاوية وعنده يزيد ابنه، فجعل يزيد يعرض بعبد الله في كلامه وينسبه إلى الإسراف في غير مرضاة الله، فقال عبد الله ليزيد: إني لأرفع نفسي عن جوابك، ولو صاحب السرير يكلمني لأجبته؛ قال معاوية: كأنك تظن أنك أشرف منه قال: إي والله، ومنك ومن أبيك وجدك، فقال معاوية: ما كنت أحسب أن أحداً في عصر حرب بن أمية يزعم أنه أشرف من حرب بن أمية، قال عبد الله: بلى والله يا معاوية، إن أشرف من حرب بن أمية من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه، قال: صدقت يا أبا جعفر، سل حاجتك فقتضى حوائجه وخرج.
قال الشعبي: ومعنى قول عبد الله لمعاوية إن أشرف من حرب من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه، لأن حرب بن أمية كان إذا كان في سفرٍ فعرضت له ثنية أو عقبة تنحنح فلم يجترئ أحد أن يرقاها حتى يجوز حرب بن أمية، وكان في سفرٍ فعرضت له ثنية فتنحنح، فوقف الناس ليجوز، فجاء غلام من بني تميمٍ فقال: ومن حرب؟ ثم تقدمه، فنظر إليه حرب وتهدده وقال سيمكنني الله تعالى منك إذا دخلت مكة. فضرب الدهر من ضربه، ثم إن التميمي بدت له حاجة بمكة فسأل عن أعز أهل مكة فقيل له عبد المطلب بن هاشم، فقال: أردت دون عبد المطلب، فقرع عليه بابه، فخرج إليه الزبير فقال ما أنت؟ إن كنت مستجيراً أجرناك، وإن كنت طالب قرىً قريناك، فأنشأ التميمي يقول:
لاقيت حرباً بالثنية مقبلاً ... والصبح أبلج ضوءه للساري
قف لا تصاعد واكتنى ليروعني ... ودعا بدعوة معلن وشعار
فتركته خلفي وسرت أمامه ... وكذاك كنت أكون في الأسفار
فمضى يهددني الوعيد ببلدةٍ ... فيها الزبير كمثل ليثٍ ضار
فتركته كالكلب ينبح وحده ... وأتيت قرم مكارمٍ وفخارٍ

قوماً هزبراً يستجار بقربه ... رحب المباءة مكرماً للجار
وحلفت بالبيت العتيق وركنه ... وبزمزمٍ والحجر ذي الأستار
إن لا لزبير لمانعي بمهندٍ ... عضب المهزة صارمٍ بتار
فقال له الزبير: قد أجرتك، وأنا ابن عبد المطلب، فسر أمامي فإنا معشر بني عبد المطلب إذا أحرنا رجلاً لم نتقدمه، فمضى بين يديه والزبير في أثره، فلقيه حرب فقال: الميممي ورب الكعبة، ثم شد عليه، ثم أخترط سيفه الزبير ونادى في إخوته، ومضى حرب يشتد والزبير في أثره حتى صار إلى دار عبد المطلب، فلقيه عبد المطلب خارجاً من الدار فقال: مهيم يا حرب، قال: ابنك، قال: ادخل الدار، فدخل فأكفأ عليه جفنة هاشمٍ التي كان يهشم فيها الثريد، وتلاحق بنو عبد المطلب بعضهم على أثر بعض فلم يجترئوا أن يدخلوا دار أبيهم، فاحتبوا بحمائل سيوفهم وجلسوا على الباب، فخرج إليهم عبد المطلب، فلما نظر إليهم سره ما رأى منهم، فقال: يا بني أصبحتم أسود العرب. ثم دخل إلى حرب فقال له: قم فاخرج، فقال: يا بني أصبحتم أسود العرب. ثم دخل إلى حرب فقال له: قم فاخرج، فقال يا بني أصبحتم أسود العرب. ثم دخل إلى حرب فقال له: قم فاخرج، فقال يا أبا الحارث هربت من واحدٍ وأخرج إلى عشرة؟ فقال: خذ ردائي هذا فالبسه فإنهم إذا رأوا ردائي عليك لم يهيجوك. فلبس رداءه وخرج فرفعوا رؤوسهم فلما نظروا إلى الرداء عليه نكسوا رؤوسهم، ومضى حرب، فهو قوله إن أشرف من حرب، من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه.

حذف القول وإضماره
قال القاضي رحمه الله: قول التميمي جار الزبير في أول بيته الثاني من كلمته قف لا تصاعد بعد قوله في آخر بيته الأول: والصبح أبلج ضوءه للساري معناه: فقال قف، فأضمر القول. وحذف القول وإضماره كثير في كلام العرب، قال الله جل ثناؤه: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم " الرعد:23،24 المعنى يقولون: سلام عليكم؛ وقال الله تعالى: " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " الزمر: 3 وهو كثير في القرآن وسائر العربية ومن ذلك قول الشاعر:
ما للجفان تخطاني كأنهم ... لم يلف حول ذرى بيتي مساكين
أراد كأنهم يقولون ، وقال آخر:
وقائلةٍ ما بال لونك شاحباً ... كأنك يحميك الطعام طبيب
تتابع أحداثٍ تخرمن منتي ... وأبلين جسمي فالفؤاد كئيب
فأضمر القول. وفي هذا الخبر: " أكفأ عليه الاناء " أي الجفنة والفصيح السائر في كلام العرب: كفأت الاناء، فأما أكفأت فإنما يقال في بعض عيوب الشعر، يقال: أكفأ الشاعر يكفئ إكفاءً. وبين أهل العلم بالقوافي خلاف في ماهيته، وهو مبين في موضعه.
حلف الفضول
حدثنا محمد بن مخلد العطار قال حدثنا عبد الله بن شبيب بن خالد قال حدثني أبو بكر بن شيبة قال حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، قال حدثني أبو بكر بن شيبة قال حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، قال حدثني عثمان ابن الضحاك عن أبيه عن عبد الله بن عروة قال: سمعت جدي حكيم بن حزام يقول: انصرفت قريش من الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وكان الفجار في شوال، وكان حلف الفضول أكرم حلفٍ كان قط وأعظمه شرفاً، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وذاك أن الرجل من العرب وغيرها من العجم، ممن كان يقدم مكة بتجارته ربما ظلموا ثمنها، وكان آخر من ظلم رجل من زبيد من مذحج، وقدم بسلعةٍ له فباعها من العاص بن وائل السهمي، وكان شريفاً عظيم القدر فظلمه ثمنها، فناشده الزبيدي في حقه فأبى عليه، فأتى الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوماً وجمح وسهماً وعدي بن كعب فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل وزبروه، فلما رأى ذلك الزبيدي أوفى على أبي قبيسٍ عند طلوع الشمس وقريش في أنديتها حول الكعبة فنادى بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلومٍ بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرمٍ أشعثٍ لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر
هل مخفر من بني سهمٍ بخفرته ... فعادل أم ضلال ما لمعتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقال الزبير بن عبد المطلب: ما لهذا مترك؛ فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة وأسد بن عبد العزى في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة، في شهرٍ حرام، وتعاهدوا وتعاقدوا بالله القائم ليكونن يداً واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يرد إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وما رسا ثبير وحراء مكانهما. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا سلعة الزبيدي منه فدفعوها إليه؛ قال ابن مخلد: بعض هذا الحديث لم أفهمه من ابن شبيب وثبتني فيه بعض أصحابنا.

يا للكهول وللشبان
قال القاضي رحمه الله: قوله في البيت الثاني يا للرجال بفتح اللام وهي التييسميها النحويون لام الاستغاثة، يقال يا للقوم للماء فتفتح لام المدعو وتكسر اللام في الماء لأنه المدعو إليه، كما قال الشاعر:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النهى طربا
وإذا قالوا: يا للعرب وللموالي فتحت اللام الأولى وكسرت الثانية لأن الأولى فتحت لتفيد معنى الاستغاثة ثم كسرت الثانية لما علم أنها معطوفة عليها، كما قال الشاعر:
يبكيك ناءٍ بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشبان للعجب
وذهب بعضهم إلى أن الأصل في يا لبكرٍ ويا لتميم: يا آل بكر ويا آل تميم، وترك الهمز فيه تخفيفاً، وممن كان يرى هذا الرياشي، وأول أبيات التميمي في هذا الخبر مما للرياشي فيه متعلق، وذلك قوله يا آل فهر وللبصريين والكوفيين من النحويين في الاحتجاج لقولهم والمحاجة لمن خالف ما عليه جمهورهم كلام واستشهاد بالقياس، وأتى فيه من الشعر ما تطول حكايته، وله موضع هو أولى به.
الرسول يشهد حلف الفضول
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد قال حدثني أبو مصعب قال حدثني أبو السائب عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: دخلت على أبي العباس فما سألني عن شيء إلا عن المسح على الخفين وعن حلف الفضول، فأعلمته أن المسح جائز، وأن هاشماً وزهرة وتيماً كانوا أصحاب حلف الفضول، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شهدت حلفاً في دار عبد الله بن جدعان بين هاشم وزهرة وتيم، وأنا فيهم، ولو دعيت به لأجبت، وما أريد أن أخيس به ولي حمر النعم، وكان تحالفهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يدعوا لأحدٍ عند أحد فضلاً إلا أخذوه وبذلك سمي حلف الفضول.
قال القاضي رحمه الله: وقد اختلف في السبب الذي من أجله سمي هذا الحلف حلف الفضول، ففي الأول أنه سمي بهذا لقولهم لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، وفي الخبر الثاني لما قالوا في حلفهم إنهم لا يدعون لأحدٍ عند أحد فضلاً إلا أخذوه.
رمي بسهام السحر
حدثنا أحمد بن أبي سهل بن عاصم أبو بكر الحلواني قال أبو بكر ختن المبرد قال: لقيني الأسباطي على الجسر وقد أخذ إسماعيل بن بلبل دور أهل الخلد فقال لي:
بغى وللبغي سهام تنتظر ... أنفذ في الأكباد من وخز الإبر
سهام أيدي القانتين في السحر
قال فما مضت الأيام حتى كان من أمر إسماعيل ما كان.
أصحاب الحديث يؤذون ابن عياش

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا عبد الله بن خلف قال حدثنا محمد بن زكرياء وليس بالغلابي قال حدثني سليمان بن محمد بن عبد الرحمن العرزمي قال: كنت عند أبي بكر بن عياش فجاءه أصحاب الحديث فآذوه، فبعث إلى صاحب الربع فجاءه فقال له: حاجتك يا أبا بكر، قال: أقم هؤلاء عني قال: وما حالهم؟ قال: أصحاب يا أبا بكر، قال: أقم هؤلاء عني قال: وما حالهم؟ قال: أصحاب الحديث، قد آذوني وأضجروني، قال: ارفق بهم يا أبا بكر فقد قصدوك ولهم حق، فغضب وقال: انظروا إلى هذا البتيارك!! ثم قال: أتدرون ما البتيارك؟ قالوا: لا، قال: كانت امرأة بالكوفة لها زوج قد عسر عليه المعاش، فقالت له: لو خرجت فضربت في البلاد وطلبت من فضل الله تعالى، فخرج إلى الشام فكسب ثلاثمائة درهم، فاشترى بها ناقة سمينة فارهةً، فركبها وسار عليها، فأضجرته فحلف بطلاق امرأته ليبيعنها يوم يقدم الكوفة بدرهم، فقالت له امرأته: ما جئت به؟ قال: أصبت ثلاثمائة درهم فاشتريت هذه الناقة فأضجرتني، فحلفت بطلاقك ثلاثاً أن أبيعها أول يومٍ أقدم الكوفة بدرهم، فقالت: أنا أحتال لك فعلقت في عنث الناقة سنوراً وقالت: أدخلها السوق فناد من يشتري السنور بثلاثمائة درهم والناقة بدرهم، ولا أفرق بينهما، قال: ففعل، فجاء أعرابي فجعل يدور حول الناقة ويقول: ما أسمنك ما أفرهك ما أرخصك لولا هذا البتيارك.

زلة العاقل وزلة الجاهل
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم القزاز قال حدثنا نصر بن أحمد قال قال الخليل بن أحمد: زلة العاقل يضرب بها الطبل، وزلة الجاهل تخفى في الجهل.
ابن المنجم يستدين من بختيشوع فيعاتبه المتوكل
حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم، قال حدثني أبي قال: خرجنا مع المتوكل إلى دمشق فلحقتنا ضيقة بسبب المؤن والنفقات التي كانت تلزمنا، قال: فبعثت إلى بختيشوع وكان لي صديقاً أسأله أن يقرضني عشرين ألف درهم، قال: فأقرضنيها، فلما كان بعد يوم أو يومين دخلت مع الجلساء إلى المتوكل، فلما فأقرضنيها، فلما كان بعد يوم أو يومين دخلت مع الجلساء إلى المتوكل، فلما جلسنا بين يديه قال: يا علي لك عندي ذنب وهو عظيم، قلت: يا سيدي فما هو، فإني لا أعرف لي ذنباً ولا جناية؟ قال: بلى، أضقت فاستقرضت من بختيشوع عشرين ألف درهم، أفلا أعلمتني؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين صلات أمير المؤمنين عندي متواترة وأنزاله علي دارة، واستحييت مع ما قد أنعم الله علينا به من هذا التفضل أن أسأله شيئاً، قال: ولم؟ إياك أن تستحيي من مسألتي والطلب مني وأن تعاود مثل ما كان منك، ثم قال: مائة ألف درهم بغير صروف، فأحضرت عشر بدر فقال: خذها واتسع بها.
تحول أبي العتاهية من الغزل إلى الزهد
حدثنا المظفرين يحيى بن أحمد الشرابي قال حدثنا حسن بن عليل الغنوي قال حدثنا أبو مالك اليمامي محمد بن موسى بن يحيى بن يزيد النجار، قال حدثني داود بن يحيى بن عيسى بن النجار بن زياد بن النجار، قال: صحبت أبا العتاهية في طريق مكة فترافقنا فأنشدته يوماً بيتاً فضحك، والشعر:
اخلع عذارك فيما تستلذ به ... واجسر فإن أخا اللذات من جسرا
واحفظ خليلك لا تغدر به أبداً ... لا بارك الله في من خان أو غدرا
والشعر لأبي العتاهية، فقال لي: يا داود هل معك من شعري في عتبة شيء؟ قلت: نعم، قال: أرنيه، قال: فأخرجته فنظر إليه فجعل يلوي رأسه، فلما مر هذا البيت:
فالليل أطول من يوم الحساب على ... عين الشجي إذا ما نومه نفرا
قال: فجعل يحرك رأسه ويقول: يا أبا العتاهية ليس لك والله علم بيوم الحساب، قال ثم قال: علي بنارٍ، فأخذ الكتب فأحرقها وقال لي: عليك بما هو خير من هذا، فأخرج كتاباً فيه مكتوب:
ألا هل منيب إلى ربه ... فيستغفر الله من ذنبه
على أن في بعض أحواله ... حوادث يخبرن عن قلبه
فلم أر كالميت في أهله ... يحب ويهرب من قربه
يحب محبوه إبعاده ... وهم مجمعون على حبه
وقال لي: اكتب فكتبت، وأملى علي:
لا تكذبن فإنني ... لك ناصح لا تكذبنه
واعمل لنفسك ما استطع؟ ... ت فإنها نار وجنه

واعلم بأنك في زما ... ن مشبهاتٍ هن هنه
صار التواضع بدعة ... فيه وصار الكبر سنة

المجلس الثامن والستون
طوبى لمن رآني وآمن بي
أخبرنا المعافى قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي قال حدثنا فضل يعني ابن سهل، قال حدثنا موسى بن داود قال حدثنا ابن لهيعة عن دراجٍ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال، قال رجل: يا رسول الله طوبي لمن رآك وآمن بك، فقال طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجل: يا رسول الله فما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنةٍ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
قال القاضي: قد وردت الأخبار من طرقٍ شتى بأن طوبى شجرة في الجنة، وقال أهل العربيةب طوبى فعلى من الطيب وأصلها طيبي بالياء فقلبت واواً لانضمام الطاء، ومثل هذا الكوسى من الكيس.
هذا وأبيك الشرف
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال حدثنا أبو حاتم عن العتبي عن أبيه قال: ابتنى معاوية بالأبطح مجلساً فجلس عليه ومعه ابنة قرظة، فإذا هو بجماعة على رحالٍ لهم، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يغني:
من يساجلني يساجل ماجداً ... أخضر الجلدة في بيت العرب
قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر، قال: خلوا له الطريق فليذهب. ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يغني:
بينما يذكرنني أبصرنني ... عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم ... قد عرفناه وهل يخفى القمر
قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال: خلوا له الطريق فليذهب. قال: ثم إذا هو بجماعة وإذا رجل منهم يسأل فقال: رميت قبل أن أحلق،وحلقت قبل أن أرمي، لأشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج، فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى بنت قرظة فقال: هذا وأبيك الشرف، هذا والله شرف الدنيا وشرف الآخرة.
؟تعليقات وفوائد قال القاضي: وقد روي من طريق آخر أنه قال هذا والله الشرف لا ما نحن فيه، وروي أنه قال: كاد العلماء يكونون أرباباً. والشعر المتقدم في هذا الخبر: المشهور منه أنه للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ وروايته المعروفة:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقد ذكر أن الفرزدق قالن لما أنشد هذا البيت: ما يساجلك إلا من عض بهن أمه. وأما تعظيم معاوية شأن عبد الله بن عمر من أجل العلم فقد أحسن القول فيه وأنصف، ومنزلة العلماء في المسلمين وفقههم في الدين أعلى وأظهر وأبين وأشهر من أن يحتاج فيها إلى إطناب وإطالةٍ وإسهاب.
؟؟
شعر لمجنون بني جعدة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال أنشدنا هارون بن محمدٍ قال أنشدنا الزبير لمجنون بني جعدة:
يا حبذا راكب كنا نسر به ... يهدي لنا من أراك الموسم القضبا
قالت لجارتها يوماً تساجلها ... لما تعرت وألقت عندها السلبا
ناشدتك الله الا قلت صادقة ... أصادفت صفة المجنون أم كذبا
قال فقلت: تراه سرقه من قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي؟:
ولقد قالت لجاراتٍ لها ... وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسداً منهن قد حملنه ... وقديماً كان في الناس الحسد
أبو العتاهية يسرق معنى لبشار
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو العباس بن الفضل الربعي قال حدثني أبو غسان رفيع بن سلمة قال حدثني محمد بن الحجاج قال قال بشار لأبي العتاهية أنشدني، فأنشده:
كم من صديقٍ لي أسا ... رقه البكاء من الحياء
فإذا تفطن لامني ... فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عيني بالرداء
قال بشار: ما أشعرك ويحك، لولا أنك سرقتني، قال: وما قلت يا أبا معاذ؟ قال قلت:
وقالوا قد بكيت فقلت كلا ... وقد يبكي من الجزع الجليد

ولكن قد أصاب سواد عيني ... عويد قذى له طرف حديد
فقالوا ما لدمعهما سواء ... أكلتا مقلتيك أصاب عود

معنى الطرب
قال القاضي: بين هذه الأبيات في الخبرين من التناسب والتقارب في معانيهما ما يمكن أن يكون بعض من أنشأهما أخذ من صاحبه، وجائز أن يكون الاتفاق فيهما وقع من غير شعورٍ، من كل ناظمٍ من الشاعرين بما نظمه غيره. وقد روي لنا بيت بشارٍ المتقدم في أبياته هذه من طريق آخر وعجزه وهل يبكي من الطرب الجليد والطرب هو استطارة تلحق الرجل عند غلبة السرور أو الحزن عليه، وهو مما تغلط فيه العامة وتذهب فيه عن وجه الصواب، فيظنون أنه يقال في الفرح خاصة دون الغم، والأمر فيه بخلاف ما يتوهمون، وقد زعم بعض أصحاب اللغة أنه من الأضداد، وأنكر ذلك كثير منهم، فقال لنا ابن الأنباري: هو عندي خفة تلحق الرجل عند الشيء يسره أو يحزنه، وقد قال الأعشى:
فهاجت شوق محزونٍ طروبٍ ... فأسبل دمعه فيها سجاما
وقال لبيد:
وأراني طرباً في إثرهم ... طرب الواله أو كالمختبل
ومما يدل على ما وصفنا في الطرب قول الكميت بن زيدٍ:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ... ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
ثم قال في هذه الكلمة:
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى ... وخير بني حواء والخير يطلب
بني هاشم آل النبي ورهطه ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
ومعلوم أن الطرب إلى بني هاشم الذي عناه الكميت إنما هو ارتياحه إليهم وما يستفزه ويزدهيه ويستخفه من غلبة الموالاة لهم والإخلاص في مودتهم، وتوخي القربة إلى الله تعالى بمسالمة من سالمهم ومحاربة من حاربهم، وهذا هو الحق الواجب في الدين واللازم للمسلمين.
الفضل وصلاح الإمام
حدثنا أبي رضي الله عنه قال حدثنا إدريس بن عبد الكريم قال سمعت مزدويه يقول، سمعت لافضيل يقول: لو أن لي دعوةً مستجابة لجعلتها للإمام، فإن صلاحه صلاح العباد والبلاد. فقام إليه ابن المبارك فقبل وجهه وقال: يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك؟ قال القاضي: ولعمري إن في صلاح الإمام أعظم صلاحٍ للمسلمين في دينهم ودنياهم، وإن دعاءهم له بذلك من أحسن ما يأتونه، ولهم فيه من وفور الحظ في اتساق معايشهم واستقامة متصرفاتهم ما لا يخيل على من كان له قلب ذكي ولب رضي. وقد أصاب الفضيل في قوله، وأحسن ابن المبارك في فعله، ونحن نسأل الله تعالى أن يرزقنا معدلة أئمتنا وإحسانهم، ويعطف علينا قلوبهم، ويمدهم بأيده، ويشد سلطانهم بكيده، ويوفقنا لطاعتهم وتأدية حقوقهم، وإخلاص النصيحة لهم، ومظاهرة أوليائهم، وجهاد أعدائهم.
عقبة بن سلم والشعراء
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال، قال أحمد بن بدر، حدثنا الأصمعي قال: مدح بشار عقبة بن سلمٍ فأعطاه عشرة آلاف درهم، ومدحه مروان بن أبي حفصة بالقصيدة التي يقول فيها:
يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظير
لو كان مثلك واحد ... ما كان في الدنيا فقير
ودخل أبو الشمقمق يوماً على عقبة بن سلمٍ، وهو جالس بين بشار ومروان، فاستأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده:
يا عقب يا عقب وقيت الردى ... يا قاتل البخل ومحيي الندى
إن أبا عمرة قد زارني ... فشق سربالي وقد الردا
فالطمه يا عقب لنا لطمةً ... إذا رآني في طريق عدا
قال: بم ألطمه؟ قال: بخمسمائة درهمٍ قال: أنا أبو الملد، ربحت عليك أربعة آلاف وخمسمائة درهم، ثم قال: أعطوا شميمقاً خمسمائة درهم واحملوه على بقرة. قال الأصمعي: عقبة بن سلم يكنى أبا الملد، وهو الذي يقول له بشار: اسمل وحييت أبا الملد
توجيهات نحوية
قال القاضي: قول مروان بن أبي حفصة: لو كان مثلك واحد بجوز فيه مثلك ومثلك بالرفع وبالنصب على الحال لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت على الحال كما قال الشاعر:
لخولة موحشاً طلل ... يلوح كأنه خلل
وقال آخر:
والشر منتشراً يأتيك عن عرض ... والصالحات عليها مغلقاً باب

العلة في نصب النكرة إذا قدمت أن النعت لا يكون قبل المنعوت والحال مفعول فيها، وتقدم المفعول وتأخره سائغان، وقد يكون النصب بأن يجعل خبراً لكان.

صور شعرية محورها البرق
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال: وعدني سليمان بن وهب وهو يزر للمهدي أن يوقع لي بإيعاز ضيعة أبي فأبطأ في ذلك، فقلت له: قد تأخرت حاجتي، فأنت والله كما قال ابن المولى:
وإذا تباع كرمية أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا تخيل من سحابك لامع ... سبقت مخايله يد المستمطر
فجذب الدواة وقال: ما أخلب برقك ولا كذبت مخيلتك، ووقع لي بما أردت.
قال الصولي: أنشدت المبرد يوماً قول بشار:
أبرقت لي حتى إذا قلت جادت ... أقشعت عن سحائب تشفتر
تركتني وما أومل منها ... كالمرجي حلوبة ما تدر
فأنشدني:
كأنك مزنة برقت بليل ... لحيران يضيء له سناها
فلم تمطر عليه وجاوزته ... وقد أرسى المنى لما رآها
فسألته عن أرسى فقال: أثبتت المنى في قلبه، أما قرأت " والجبال أرساها " النازعات:32.
قال القاضي: قول بشار: أبرقت لي لغة قد أثبتها قوم ومنها قول الكميت:
أرعد وأبرق يا يزي؟؟ ... د فما وعيدك لي بضائر
وكان الأصمعي ينكر هذا ويرده ولا يعرف إلا رعد وبرق.
يعوض على معاونيه بسخاء بالغ
حدثني أبو النصر العقيلي قال حدثنا يعقوب بن بنان الكاتب قال، قال لي أبو العباس ابن الفرات، حدثني كاتب إبراهمي بن سيما قال: لما صرنا إلى البصرة لمحاربة الناجم بها وقعت النار في عسكرنا فأحرقت كل ما كان لإبراهيم من مضرب وغيره، قال: فانصرفنا إلى سر من رأى وعملنا حساب نفقات عسكرنا، ففضل في أيدينا من المال الذي تسبب لنا أربعة وثمانون ألف دينار، قال فقال لي إبراهيم: صر إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان وأعلمه ما نالنا في مضاربنا وآلتنا، وسله أن يهب لنا من هذا المال الذي فضل قبلنا ما نرم به حالنا، فلعله يصفح لنا عن خمسة آلاف دينار نصرفها في نفقتنا، قال: فصرت إليه فوجدته مستخلياً مستلقياً على مصلاه، فسألني عن إبراهم وحدثني ساعةً، ثم قال لي: ما جاء بك في هذا الوقت؟ إليه ما قال إبراهيم فقال: وكم بقي قبلك من المال؟ قلت: أربعة وثمانون ألف دينار، قال: فأدخلها في حسابكم، وقل له يأخذها بارك الله له فيها قال: ففعلت ذلك وأخذنا المال كله، وإنما كان تقديرنا أن يترك لنا منه خمسة آلاف دينار.
الرسول كان يحب أن يرى عنترة
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن بن يزداد المروزي الكاتب قال حدثنا أبو موسى عيسى بن إسماعيل البصري المعروف بتينة، قال وسمعت ابن عائشة يقول: أنشد النبي صلى الله عليه وسلم لعنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أصيب به كريم المأكل
قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحد من فرسان العرب كنت أحب أن أراه ما خلا عنترة.
عبسي شديد التعصب لعنترة
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن، قال حدثنا أبو موسى، قال حدثنا القحذمي عن عمه عن ابن دأب قال: جاءني أعرابي منعبس ما رأيت قط أشد عصيبةً منه، فقال: يا أبا الوليد ما شيء بلغني عنك؟ قال قلت: وما هو؟ قال: بلغني أنك تقول إن عنترة فقئت عينه قبل أن يموت، قال قلت: نعم، قال: ومن فقأها؟ قال قلت: غلام من بني قبال، قال: عندك في ذلك شاهد؟ قلت:نعم، قال: فأنشدنيه،فأنشدته:
غزا ثم آب العبد خائب جده ... إلى ضخمة الأذنين والكف شهبره
فبات إليها كاسراً شق عينه ... فقالت له من عار عينك عنترة
فقال لها لا ضير إن ملمة ... ألمت وإن الدهر يقلب أعصره
وإن غلاماً من قبالٍ أصابهم ... وما كان عن كف القبالي اهدره
قال فقال لي: أمعك غير هذا؟ قال قلت: نعم.
أما بنو عبس فإن دعيهم ... ولت فوارسه وأفلت أعورا
سمع التذامر والتواصي بينهم ... لا يفلتن العبد عنتر عنترا
قال فقال لي: يا أبا الوليد قد صح هذا عندك؟ قال قلت: قد حدثتك الحديث وأنشدتك الشعر، قال: والله ماتفقت عينه في قبره، كيف تزعم أنها تفقت قبل موته؟!

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8