كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا

قال القاضي: اللصف: الكبر وما أتى به في هذا الخبر هو اليسير من كثير ممّا أكرم الله عزّ وجلّ به نبيّه صلى الله عليه وسلم، ودلَّ على فضله ورفيع منزلته من ربّه، وهو عليه الصلاة والسلام أهلٌ لكلِّ ما أنعم الله تعالى ذكره به عليه، وأسدى له من شريف الكرامة إليه، وما له عنده في معاده ودار كرامته أعظم من أن يعبِّر عنه الخلق بألسنتهم، وأجسم من أن يخطر بقلوبهم، فهنيئاً له ما أولاه الله من إنعامه وشريف إكرامه، وجعلنا الله عز وجل ممّن يلقاه في معاده، مؤدياً ما ألزمه من حقِّ شريعته، وأنالنا النور والكرامة والسعادة بشفاعته، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. وقد روينا معنى هذا الخبر الّذي رسمناه هاهنا من طرق حضرنا منها هذا فأتينا به.

الغلام الراعي والجنيون الثلاثة
حدّثنا محمّد بن الحسن بن دريد قال، حدثنا عمّي قال، حدّثني أبي عن ابن الكلبي قال: خرج غلامٌ من مذحج، أحسبه قال: من صدا يرعى غنيماتٍ له، فأدركته السماء فأوى إلى كهفٍ فأكنَّ غنمه واقتدح ناراً واحتلب لبناً فوغره، فإذا ثلاثة نفر قد ولجوا عليه الغار فحيَّوه فردَّ تحيّتهم وقال: هلمّوا، وقرَّب إليهم غمره بما فيه، فأخذه أحدهم فشمَّه ثمَّ ردّه ثم أنشأ يقول:
يا راعي الضأن اغتنث من مضحكا ... روى لك الله قفيل نحضكا
يقال: اغتنث من الاناء شربةً أو شربتين إذا جرعت. يقال: جرع ولعق يلعق، والقفيل: اليابس، والنحض: اللحم.
ولا عدمت غبيةً بأرضكما ... تعيد غمراً ما انزوى من برضكا
الغبية: الدفعة من المطر، الغمر: الماء الكثير، الانزواء: التقبض، والبرض: الماء القليل؛ قال: ومن الانزواء قول الأعشى:
يزيد يغضُّ الطرف دوني كأنّما ... زوى بين عينيه عليَّ المحاجم
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلاّ وأنفك راغم
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها " .
وقال الثاني:
يا راعي البهم سقيت ريّا ... ولا تزال تطأ السُّميّا
والسمي: جمع السماء، والمعنى المطر؛ حكي عن العرب: ما زلنا نطأ السماء حتّى أتيناكم.
وسميَّها والتابع الوليّا ... لا تعدم الدّهر حياً مرعيّاً
قال القاضي: الوسميُّ: أول مطر الربيع، وقيل: إنّما سمّي وسمياً لأنّه يسم الأرض، والوليُّ المطرة الّتي تلي الوسمي، والحيا: الغيث، مقصور، قال ذو الرمّة:
خليليّ لا تستيئسا واسألا الذي ... له كلّ أمرٍ أن يصوب ربيع
حياً لبلادٍ شيَّب المحل أهلها ... وجبراً لعظم في شظاه صدوع
يروي البيت الأوّل على وجهين لا تستيئسا من اليأس ولا تستبئسا من التباؤس والتمسكن.
وقال الثالث:
يا ساقي البهم سقاك السَّاقي ... بكلِّ أحوى مثجمٍ غيداق
حتّى ترى ظواهر البراق ... ضاحكة الروض إلى الاشراق
قال القاضي: الأحوى: الأحمر الذي يضرب حمرته إلى السواد، والمثجم: المقيم، يقال: أثجم فهو مثجم إذا أقام، وغيداق: كثير واسع من قول الله تعالى: " لأسقيناهم ماءً غدقاً " " الجن:16 " وغيداق فيعال منه والياء زائدة، والبراق: جمع برقةٍ. فقال الغلام:
حيّيتم من فتيةٍ أزوال ... شمِّ الأنوف سادةٍ أقوال
أقوال يصفهم بالسّؤدد والرئاسة، ويقال وأقيال وأقوال لموك اليمن، وقيل إن القيل هو من دون الملك الأعظم، وقيل إنّ أصله من القول فمن هاهنا قيل أقوال، كأن أصله قيِّل أي فيعل، والأصل قيول، فقلبت الواو ياءً وأدغم الحرف الأوّل في الثاني فصار ياءً مشددة. وخففوا فقالوا: قيل، ومثله ميت وميّت وأصله ميوت. وكان الفرّاء يأبى أن يكون في المعتل فيعل كما لم يأت في الصحيح، ويزعم أن أصل هذا فعّيل، ولما يحتجُّ به ويحتج به مخالفوه مكان هو أولى به، وأكثرهم يقول: قيلٌ وأقيال كما قال عبد المسيح بن حنان بن بقيلة:
رسول قيل العجم يسري بالوثن
ويجمع القيل أيضاً قيولاً، ويقولون للمرأة قيلة، وبه سميّت قيلة.
إن القرى يعتدُّ للنُّزّال ... فدونكم مدمومة الأوصال
فأحنذوا من هذه الأجذال

قال القاضي: أحنذوا معناه اشتووا، من قول الله تعالى: " بعجل حنيذ " " هود:69 " أي محنوذ، ومعناه مشويٌ، وقيل: هو الذي يشوى على الأرض أو فيها ولا يبالغ في إنضاجه وإنّه من شيءّ الأعراب، وقيل: هو الذي يشوى على الأرض أو فيها ولا يبالغ في إنضاجه وإنّه من شيءّ الأعراب، وقيل: إنّه الرطب الّذي فيه نداوةٌ، ومنه حنذب الفرس إذا أجريته ليعرق؛ والأجذال: جمع جذل، ويقال جذال، وهو العود من الخشب كما قال ذو الرمّة الشّاعر:
ما كنت في الحرب العوان مغمَّراً ... إذ شبَّ حرَّ وقودها أجذالها
وقال ذو الرمّة:
يظلّ بها الحرباء للشمس ماثلاً ... على الجذل إلاّ أنّه لا يكبِّر
وقال الحباب بن المنذر يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكّك، هذا معناه،

تتمة الخبر
ثم قال شاةٍ ليذبحها فقالوا له: لا تفعل فإنّا لا نأكل منها، وقال له أحدهم:
بوركت من حزوَّرٍ بذَّال ... رحب الفناء عرضة النزَّال
إنّ لنا في الأبَّد الأهمال
قال القاضي: الأبد جمع آبدٍ وآبدة، يجمع أيضاً أوابد، وهو الوحشي، يقال: تأبّد العير إذا توحّش، وهو نقيض تأنّس. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال في بعير ندَّ من الغنيمة يوم خيبر فرماه رجل من أصحابه بسهم فأثبته: " إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا " ، وقال الأعشى:
شبّهته هقلاً يباري هقلةً ... ربداء في خيطٍ تطارد أبَّدا
وقد يقال للربع والمنزل إذا خلا من أهله وأوحش وأقفر قد تأبّد، قال الأعشى:
تأبّد الربع من سلمى بأحصار ... وأقفرت من سليمى دمنه الدار
ويقال: قد أتى فلان بآبدة إذا جاء بكلمة فظيعة أو فعلة موحشة بديعة، وإنّه ليأتي بالأوابد. والأهمال ما أهمل ولم يكن له راعٍ.
أرفيّ كلِّ ثرّةٍ مجفال
قال ابن دريد: الأرفيّ: لبن الظباء، قال القاضي: وقوله: ثرة غزيرة، ويروي بيت عنترة:
جادت عليه كلُّ عينٍ ثرّةٍ ... فتركن كلَّ قرارةٍ كالدرهم
وقوله: كجفال: أي كبيرة تعمُّ لسعتها، ومن هاهنا قيل: فلان يدعو الجفلى أي يعمّ بعوته، وإذا خصّ ولم يعم قيل: دعا النَّقرى، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الأدب فينا ينتقر
وقال الآخر:
إنّا سنجزيك جزاءً جزلاً ... فقد برعت كرماً وبذلاً
إنَّ بأقصى ذا الكهيف هجلا ... فاختف منه جنباً مبتلاً
تلقى غنىً يطرد عنك الأزلا
قال القاضي: الجهل: الشيء المخبوء الكثير، وقوله: فاختف منه جانباً مبتلاً: أي اكتشفه وأظهره، يقال: اختفى فلان كذا إذا أظهره بعد استتاره، ومثله خفاه، وخفيت الشيء أظهرته، وأخفيته سترته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية يعني النبَّاش والنبّاشة. وقد ذكرت من وجوه هذا الباب وتصريفه في بعض أوائل مجالسنا هذه وفيما رسمناه من علوم القرآن ما يغني عن إعادته في هذا المكان. وقوله يطرد عنك الأزل بفتح الهمزة الفاقة والفقر والإضاقة، فأما الإزل بكسر الهمزة فالكذب، قال الشاعر:
يقولون إزلٌ حبُّ ليلى وذكرها ... وقد كذبوا ما في مودّتها إزل
ومن الأزل بمعنى الضيق قول زهير:
تجدهم على خيَّلتهم إزاءها ... وإن أفسد المال الجماعات والأزل
يروى هم إزاءها وعلى أن تجعل في موضع اسم مرفوع، إلاّ أنّه نصب على الظرف، واستقام فيه الوجهان كخلف وإمام، قال لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها

وهذا من الباب الذي أتى على السعة، قال الله تعالى: " بل مكر الليل والنهار " " سبأ:33 " وإذا جعل إزاؤها بمعنى المختصّ بالإسمية دون الظرف، وجعل مكانه اسم محض لا يكون ظرفاً وكان على أفعل أو فيه لام وألف اتجه فيه وجهان من الإعراب: الرفع على أنّه خبر الابتداء الّذي هو هم، وهي لغة أهل نجدٍ وبني تميم، والنصب على أنّه مفعول " تجدهم " الثاني، ويكون هم فصلاً، وهذه عبارة البصريين من النحويين، فأمّا كوفيّوهم قيسمّونها العماد، وكلُّ ما أتى في القرآن من هذا الباب فهو منصوب في قراءتنا ورسم مصاحفنا، وقد حكي رفعه في قراءة ابن مسعود ورسم مصحفه، ففي قراءتنا: " ولكن كانوا هم الظالمين " " الزخرف: 76 " وفي ما روي عن عبد الله: " ولكن كانوا هم الظّالمون " . وممّا في الشعر نصباً قول الشاعر:
وجدنا آل مرَّة حين خافوا ... جريرتنا هم الأنف الكراما
ومن المرفوع قول الآخر:
أجدَّك لن تزال نجيَّ تيم ... تبيت الليل أنت له ضجيع
وفيما ألّفناه من علوم القرآن استقصاء هذا الباب بحججه وشواهده.
فقال الثالث:
إذا احتفرت منكباً فلجّف ... من عن يمين الجلد المحصوصف
ثم اعتقم قيد الذراع واكشف ... عن مثل رأس الكودن المقرَّف
وثق بعيشٍ غمره لم ينزف
فخرجوا عنه، فقام الغلام إلى حيث وصفوا وحفر كما أمروا، فاستخرج صنماً كرأس الكودن من ذهب له عينان من جوهر أحمر، فأصبح الغلام والله أكثر أهل الحواء مالاً وأحسنهم حالاً.
قال القاضي: قوله: فلجِّف أي بالغ وأعمق، كما قال الشاعر:
يحجُّ مأمومةً في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب عليها كالمغاريد
والجلد المحصوصف من الأرض: الصّلب الجدد. وقوله " ثم اعتقم قيد الذراع " أي ذلله بحفرك إيّاه بعد أن كان في استصعابه بمنزلة العقيم الذي لا يفتح لشدّته، وقيد الذراع: قدره ومقياسه ويقال قيد وقدىً كما قال الشاعر:
وإني إذا ما الموت لم يك دونهقدى الشبر أحنى الأنف أن أتأخَّرا ومنه قاب، قال الله تعالى : " فكان قاب قوسين أو أدنى " " النجم:9 " . وقد بيّنا ما في هذه الكلمة من اللغات في غير هذا الموضع. والكوادن: المقاريف من الخيل، وكذلك الهجين منها، تقصّر في كرمها وفضلها عن عتاقها، ورؤوسها أعظم من رؤوس العتاق، فلذلك شبَّه به الشاعر ما شبّه. وقيل في قوله في أوّل الخبر " واحتلب لبناً فوغره " أنه أسخنه وأودعه إناءه، وأنّه أشار بقوله: إن بأقصى ذا الكهيف هجلاً إلى كثرة ما أومئ به إليه.
قال القاضي رحمه الله: قوله هلموا جاء على اللغة النجدية، وقد بينا في مجالس قبل هذا ما في هلم من اللغات بما يغني عن إعادته. وقوله مدمومة الأوصال إشارة إلى الشاة التي أمرهم بشيها. وقوله: " وقرب إليهم غمره " الغمر: القدح الصغير كما قال الشاعر:
يكفيه حزَّة فلذٍ إن ألمَّ بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر

أبو الينبغي والمأمون
حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا القاسم بن خرداذبه قال: كان أبو الينبغي يحمَّق، وكان أحد الدواهي والمجّان، وكان يتكسَّب بالحمق، فلما قتل محمد بن زبيدة وصار الأمر إلى المأمون ذكر له أبو الينبغي فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه وسلَّم أمره بالجلوس فجلس، فقال له بعض الجلساء: قم فأنشد أمير المؤمنين، فاقل: يا رقيع، أمير المؤمنين يقول لي: اجلس وأنت تقول لي قم. فقال المأمون: بل اجلس وأنشد، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وأنشأ يقول:
كنتم أنتم ثلاثة ... كلّكم نسل الملوك
ذهب الموت بواحد ... ما أرى ذاك يسوك
فقال المأمون: اغرب قبحك الله، وأمر به فأخرج، ثم قال: لا والله ما ينبغي أن نخيِّبه فقد قال على جنونه شبيهاً بالحق، ولا والله أعطوه عشرة آلاف فقبضها وانصرف. وهو يقول: شبيه بالحق، لا والله إلا الحق كلّه.
سيل باليمن يكشف عن جثمان شخص

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي قال: حدثنا أحمد بن عبيد عن المدائني قال، قال عبد الملك بن عمير عن رجل من أهل اليمن قال: أقبل سيلٌ باليمن في ولاية أبي بكر رضي الله عنه فأبرز لنا عن باب البلق، وهو الرخام، فظننا كنزاً، فكتبنا إلى أبي بكر رضي الله عنه نعلمه ذاك، فكتب إلينا لا تحركوه حتى يقدم عليكم أمناء من قبلي. قال: فلما قدم أمناؤه فتحناه فإذا نحن برجلٍ على سريرٍ طوله سبع عشرة ذراعاً وعليه سبعون حلة منسوجة بالذهب، وفي يده اليمنى لوحٌ وفي يده اليسرى محجن، وفي اللوح مكتوب ما هذه ترجمته:
إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويلٌ ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
قال: وإذا عند رأسه سيف أشدّ خضرةً من البقلة، وعلى السيف مكتوب: هذا سيف هود بن عاد بن إرم.
المجلس السَّادس والتسعون

حديث اتزن وأرجح
حدثنا المعافى قال، حدثنا أبي رضي الله عنه قال، حدثنا أبو محمد محمود بن محمد المروزي الوراق قال، حدثنا علي بن حجر بن أناس السعدي قال، حدثنا أبو سفيان بن زياد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن الأعرابي مسلم، عن أبي هريرة قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم السوق، قال: فقعد إلى البززين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، قال: وكان لأهل السوق رجلٌ يزن بينهم الدراهم يقال له فلان الوزان، فدعا به ليتزن ثمن السراويل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اتزن وأرجح " ، قال فقال الرجل: إنَّ هذا القول ما سمعته من أحد فمن أنت " قال أبو هريرة ، فقلت: حسبك من الرَّهق وكفاً في دينك ألا تعرف نبيك، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبلها، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " مه إنما يفعل هذا الأعاجم بملوكها، وإني لست بملك، أنا رجلٌ منكم " . قال: فقعد الوزّان فاتزن وأرجح كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما انصرفنا تناولت السراويل لأحملها عنه فمنعني وقال: " صاحب الشيء أحقُّ بحمله إلا أن يكون ضعيفاً عنه فيعينه أخوه المسلم " . قلت: يا رسول الله إنك لتلبس السراويل قال: نعم في السفر والحضر والليل والنهار، قال أبو سفيان: وشككت في قوله " ومع أهلي " إني أمرت بالتستر فلم أجد ثوباً أستر من السراويل.
شرح وإعراب
قال القاضي: قول أبي هريرة للوزان: " حسبك من الرهق " يعني الهجوم على الباطل، والمبادرة إلى غشيان الشرِّ والإسراع إلى تقحمه. ومنه قوله جل اسمه: " فزادوهم رهقاً " " الجن:6 " وقوله: " فلا يخاف بخساً ولا رهقاً " " الجن:13 " وقوله " ولا يرهق وجوههم قترٌ " " يونس: 26 " . وقول أبي هريرة: " حسبك من الرهق وكفاً في دينك " الوكف: العيب، قال الشاعر:
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم وكف
نصب العورة لأنه أراد الحافظون العورة من الوكف، ومثله الفارجو باب الأمر المبهم. وقد روي عن الأعمش أنه قرأ " إنا مرسلو الناقة " وقرأ عمارة بن عقيل: " ولا الليل سابق النهار " " يس:40 " وهذا الفصل باب من أبواب النحو واسع وفروعه ومسائله وشواهده ودلائله كثيرة، ولها موضع غير هذا هي مشروحة فيه، ويسميه البصريون من اللغويين باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. وسراويل في الأصل اسم أعجمي أشبه من كلام العرب مالا ينصرف، وهي بالفارسية شروال فبنتها العرب على ما ينصرف من كلامها، فإذا صغَّرتها صرفتها إلا أن يكون اسم رجل. وفي هذا الخبر ما دلَّ على أن السراويل من الملابس المختارة، فينبغي لكلِّ ذي دين وفطرة سوية من المسلمين أن يجعل السراويل من أمثلة لبوسه للأثر الوارد فيه ولأنَّ فيه من ستر العورات والادفاء من القرّ في السيرات ما ليس في غيره.
سراويل قيس

حدثنا أحمد بن محمد بن أبي العلاء الأضاحي قال، حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال، حدثني يعقوب بن إبراهيم الدروقي قال، حدثني أبو نميلة يحيى بن واضح قال، أخبرني رجل من ولد الحارث بن الصمّة يكنى أبا عثمان قال: بعث قيصر إلى معاوية بن أبي سفيان أن ابعث إليّ سراويل أطول رجلٍ من العرب، فقال لقيس بن سعد: ما أظننا إلا قد احتجنا إلى سراويلك، قال: فتنحَّى فجاء بها فألقاها إلى معاوية، فقال معاوية: يرحمك الله ما أردت إلى هذا؛ ألا ذهبت إلى منزلك ثم بعثت بها إلينا؟ فقال قيس:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيسٍ والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيسٌ وهذه ... سراويل عاديّ نمته ثمود
وإني من الحيِّ اليمانين سيدٌ ... وما الناس إلا سيدٌ ومسود
فكدهم بمثلي ان مثلي عليهم ... شديدٌ وخلقي في الرجال مديد
قال: فأمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه فوقعت بالأرض. قال: فدعا معاوية بسراويل، فلما جيء بها قال له قيس: نحِّ عنك ثيابك هذه، فقال معاوية:
أما قريشٌ فأقوامٌ مسرولة ... واليثربيون أصحاب التباين
فقال قيس:
تلك اليهود التي تعني ببلدتنا ... كما قريشٌ هم أهل السخاخين

رواية أخرى للخبر السابق
وقد روي لنا هذا الخبر من وجوه، وهذا الذي حضرنا منها، وجاء من طريقٍ آخر وفيه زيادة وخلاف في سياقته وبعض معانيه وألفاظه. فمن تامِّ ما روي فيها أن قيصر كتب إلى معاوية: إني قد وجهت إليك برجلين: أحدهما أقوى رجل ببلادي، والآخر أطول في أرضي، وقد كانت الملوك تتجارى في مثل هذا وتتحاجى به، فأخرج إليهما ممن في سلطانك من يقاوم كلَّ واحد منهما، فإن غلب صاحباك حملت إليك من المال وأسارى المسلمين كذا وكذا، وإن غلب صاحباي هادنتني ثلاث سنين. فلما ورد كتاب قيصر على معاوية أهمه وشاور فيه أصحابه، فقيل له: أما الأِّيد فادع لمناهضته إما محمد بن الحنفية وإما عبد الله بن الزبير، فقال: إذا كان الأمر هكذا فالمنافيُّ أحبُّ إلينا، فأحضر محمد بن علي والأيّد الرومي حاضر، فأخبره بما دعاه له. فقال محمد للرومي: ما تشاء، فقال: يجلس كلُّ واحد منا ويدفع يده إلى صاحبه فمن قلع صاحبه من موضعه أو رفعه عن مكانه فقد فلج عليه، ومن عجز عن ذلك وقهر صاحبه قضي بالغلبة له، فقال محمد: هذا فجعل يمارسه ويجتهد في إزالته عن موضعه فلم يتحرك محمد، وظهر عجز الرومي لمن حضر. فقال له محمد: اجلس الآن، فجلس وأخذ بيده فما لبث أن اقتلعه ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض. فسر معاوية وحاضروه من المسلمين. وقال معاوية لقيس بن سعد والرومي الطوال: تطاولا، فقال قيس: أنا أخلع سراويلي ويلبسها هذا العلج، فإن ما بيننا يبين بذلك؛ ثم خلع سراويله وألقاها إلى الرومي فلبسها، فبلغت ثدييه وانسحب بعضها في الأرض، فاستبشر الناس بذلك. وجاءت الأنصار إلى قيس فقالت له تبذَّلت بين يدي معاوية، ولو كنت مضيت إلى منزلك وبعثت بالسراويل إليه، فقال:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيسٌ وهذه ... سراويل عاديٍّ نمته ثمود
وإني من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود
وفضَّلني في الناس أصلي ووالدي ... وباعٌ به أعلو الرجال مديد
مدح بما يشبه الذم
ّ
حدثنا محمد بن الحسين بن دريد قال، أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: وفد عبيد الله بن زياد بن ظبيان من بني عابس بن مالك على عتّاب بن ورقاء التيمي فأعطاه عشرين ألفاً، فلما أراد توديعه قال له: والله ما أحسنت فأمدحك ولا أسأت فأهجوك، وإنك لأقرب البعداء وأحبُّ البغضاء.
بين ابن عباس ومعاوية

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا أبو النضر إسماعيل بن ميمون قال، حدثنا إبراهيم بن سعيد قال، حدثني أمير المؤمنين الرشيد قال، حدثني أمير المؤمنين المهدي قال، حدثني أمير المؤمنين المنصور قال، حدثني أبي عن عكرمة قال: لما قدم معاوية الحجاز دخل عليه أبوك عبد الله بن عباس فسلّم عليه، فقال له معاوية: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، فقال له أبوك: الحمد لله الذي أنطقك يا معاوية بالحقِّ، وعرَّفك حقّنا وفضلنا، وأنا أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. فقال له معاوية: فكيف رأيت الله عز وجل حيث حرمكم هذا الأمر الذي عرَّضتم له أكتافكم؟ فقال له أبوك: إنه كان من عزائم قدرة الله ما يذودنا عن الدنيا وموارد الهلكة أن قال: " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خيرٌ لمن اتَّقى ولا تظلمون فتيلاً " " النساء:77 " ؛ فو الله يا معاوية لولا طاعة الله لما قدرت أن تغرف بدلوك في طويّ شدَّ عليه هاشمٌ رشاءً؛ فتضاحك معاوية وقال: أمازحك فلا تحلم يا ابن عباس؟ فقال له أبوك: عمن أحلم؟ عمن يرى أن له الفضل؟! ثم نفض ثوبه ايخرج فجذبه معاوية وقال: يا ابن عباس عندي ثوب من عصب اليمن وثوبان من نسج العجم فأهديهما إليك. فلبسهما أبوك وغدا عليه فيهما فقال الشاعر: في ذلك
إن الثياب بآل هاشم زينة ... تزهو ويضعف حسنها في المشهد
وبنو أمية في الثياب تراهم ... شبه القرود أذلّةً في المحتد

هاشم، قريش. باهلة... هل تصرف
قال القاضي: لم يصرف هذا الشاعر " هاشماً " في شعره، أراد القبيلة، ولو أراد الحيّ أو اسم الأب لصرفه، وإن لم يصرف مع هذه النيّة لم يصب - في قول الخليل وسيبويه وجمهور البصريين - لأن الشاعر له أن يصرف في الشعر ما لا ينصرف في الكلام، وليس له ترك صرف المنصرف. وكان الأخفش يجيز ذلك وهو مذهب الكوفيين، وقد استشهدوا بأشياء وردت عليهم فيها، وليس هذا موضع استقصاء هذا الباب لكنّا آثرنا ذكر جملة منه يقف بها ذو الفهم على الأصل فيه، ويجري عليه قياس باقيه. والّذين أبوا ترك صرف ما لا ينصرف في الشعر يعتلّون بأنَّ الشاعر إذا اضطر إلى ما يتنكّب في منثور الكلام رجع إلى أصله وليس له مفارقة الأصل وهدمه؛ والأصل في الأسماء الصّرف، فإذا عرض في شيءٍ منها ما يمنع منه استجيز في الشعر كوب الصرف حملاً على الأصل. فأما ترك صرف المصر وف فنقض ما بني الكلام عليه في أصله.
والذين أجازوا هذا تعلقوا بأبيات أنشدوها على هذا الوجه الذي عابهم عليه يه مخالفوهم. وقد دفع الأولون ما رووه عنهم وأنشدوا كثيراً منه على خلاف إنشادهم. فأمّا وجه ترك صرف هاشم في البيت الذي أتى في هذا الخبر ونظيره من الأسماء فلأنه ذهب به مذهب القبيلة دون اسم الرجل، ودون حمله على أن اسم الحي. وإن مثل هذا في الشعر كثير. وهذا كقولهم حضرت قريش ومعدُّ وثقيف وما لا يقال فيه بنو فلان، ألا ترى أنه لا يقال بنو قريش ولا بنو ثقيف. وقال الشاعر:
غلب المساميح الوليد سماحةً ... وكفى قريش المعضلات وسادها
وقال آخر:
بكى الخزُّ من روحٍ وأنكر جلده ... وعجَّت عجيجاً من جذام المطارف
وقال الأعشى:
ولسنا إذا عدَّ الحصا بأقلَّةٍ ... وإن معدَّ اليوم مودٍ دليلها
ومثله باهلة، وهو اسم امرأة لا يقال فيه بنو باهلة إلا أنه لا يصرف وإن جعل اسم الحيّ من أجل التأنيث. ونظير ما وصفنا سبأ قد صرف وترك صرفه، واختلف القراء فيه فصرفه بعضهم ولم يصرفه بعضهم، وأجراه بعضهم على مذهب الحكاية، وروي فروة - صوابه فروة بن مسيك الغطفاني - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن سبأ أهو اسم أرض أم امرأة، فقال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة فتيامن منهم أربعة وتشاءم ستة. وقد أتى في العربية مصروفاً وغير مصروف قال النابغة:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
ولم يذكر شيئاً مما جاء منه مصروفاً في الشعر إذ لا حجَّة فيه من أجل جواز صرف ما ينصرف فيه. وبيت النابغة هذا يشهد لقول من قال: العرم المسنَّاة أو البناء، ونصبه العرم بالفعل الذي هو يبنون كأنه قال: يبنون العرم من دون سيله. وقصة مأرب والعرم من مشهور القصص، قال الأعشى:

ففي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب قفَّي عليها العرم
قفّى مثل عفّى، وأوّل القصيدة:
أتهجر غانيةً أن تلهمّ ... أم الحبل واهٍ بها منجذم
أم الصّبر أحجى فإن امرءاً ... سينفعه علمه إن علم
وذكر بعد هذا أبياتاً تشتمل على جملة من بنائهم. وقد اختلف في معنى العرم فقيل هو البناء، وقيل هو المسناة بلغة أهل اليمن، وقد قال الأعشى في ذلك:
رخامٌ بنته لهم حمير ... إذا جاء دفَّاعه لم يرم
وقد يروى: إذا جاء ماؤهم. وقيل العرم الفارة وأنها خرقت من المسناة موضعاً فاتسع وصار نبعاً مفسداً بلغة أهل اليمن، وقال الأعشى في ذلك:
سعى جرذٌ فيهم ليلةً ... فخان بهم جارفٌ منهدم
ومما يضارع هذا الباب في بعض فصوله ما أتى من ذكر أسماء الأمم ذوي الملل المختلفين في الآراء والنحل كالمجوس واليهود، قال الشاعر:
أصاح ترى بريقاً هبَّ وهناً ... كنار مجوس تستعر استعارا
وقال آخر:
فرَّت يهود وأسلمت جيرانها ... صمّي لما فعلت يهود صمام
فلم يصرف يهود على ما بيننا. وقالت امرأة من الأنصار:
رحل الصوم حامداً محمودا
خرج الصوم حامداً محمودا
دخل الشرُّ في بيوت يهودا
وقال كعب بن مالك الأنصاري يؤنب العباس بن مرداس السلمي في مدحه قريظة وبكائه عليهم، ويشير إلى أن مدحه الأنصار كان أولى به.
أولئك أولى من يهود بمدحةٍ ... إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنَّب
ونظير هذا ثمود، وكلامنا فيه مستقصىً فيما ألفناه من علوم القرآن وذكر من صرفه ومن لم يصرفه في شيء من القرآن، ومن صرفه في بعض المواضع ولم يصرفه في بعضها، وهو واسع جداً وإنما نذكر من هذه الأنواع ما يدعو الناظر في كتابنا إلى التبغي في طلبه والحرص على استفادته، وقد تركت الإطالة بشرحه في غير موضعه.
المجلس السَّابع والتسعون

لا يدخل قلب امرئ الإيمان حتى يحبكم
حدثنا محمد بن يحيى بن هارون أبو جعفر الإسكافي المعروف بابن شوطا قال، حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله الطحان عن يزيد يعني ابن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب بن ربيعة قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه العباس وهو مغضب فقال: يا رسول الله ما بال قريشٍ إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوهٍ مستبشرة، فإذا لقونا لقونا بغير ذلك؟ قال: فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى احمرَّ وجهه فقال: " لا يدخل قلب امرئٍ الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله " .
قال القاضي: وإن مودة النبي صلى الله عليه وسلم في أقاربه وإخلاص الموالاة لآله من أركان الملة وخالص الشريعة، وإن من انحرف عن هذا وزاغ عنه وصدف عن التديّن به متقرباً باعتقاده إلى الله ورسوله فقد خسر الدنيا والآخرة " ذلك هو الخسران المبين " " الحج:11 " .
أبو الأسود الدئلي وبنو قشير
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان أب الأسود ينزل في بني قشير، وكانوا عثمانية، وكان أبو الأسود علويَّ الرأي، وكان بنو قشير يسيئون جواره ويؤذونه ويرجمونه بالليل، فعاتبهم على ذلك فقالوا: ما رجمناك ولكن الله رجمك، قال: كذبتم لأنكم إذا رجمتموني أخطأتموني ولو رجمني الله لما أخطأني. ثم انتقل عنهم إلى هذيل وقال فيهم:
شتموا علياً ثم لم أزجرهم ... عنه وقلت مقالة المتودّد
الله يعلم أن حبّي صادقٌ ... لبني النبي وللإمام المهتدي
قال القاضي رحمه الله: وقد روي لنا من طريق آخر أن أبا الأسود قال في هذا المعنى وفي بني قشير:
يقول الأرذلون بنو قشيرٍ ... طوال الدهر ما تنسى عليا
بنو عمِّ النبي وأقربوه ... أحبُّ الناس كلِّهم إليَّا
أحبُّ محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشداً أصبه ... ولست بمخطئٍ إن كان غيا
أو متى تفيد الشك

ويقال إن معاوية قال له لما أنشد هذا البيت: قد شككت، فقال: ما شككت، قال الله عز وجل: " وإنّا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين " " سبأ:24 " أفهذا شك؟. والذي احتجَّ به أبو الأسود بيّن الصحة، والإنسان يقول مثل هذا على المناصفة وتحسين المخاطبة والإرهاص لتمكين الحجة ونفي الشبهة وملاينة الخصم، فإنها مما قد تعطفه إلى المقاربة، وتثنيه عن اللَّدد والمشاغبة. وقد يقول الرجل لمن ركب معه البهت في مناظرته والمكابرة في منازعته: قد زعمت أنه إذا جمع بين النار والقطن أنه لا يحترق القطن، فنحن نجمع بينهما فننظر أيحترق أم لا، فإن لم يحترق فالقول ما قلت، وإن احترق فالقول فيه على ما قلنا. وقائل هذا ليس يحتاج بجمعه بين هذين الشيئين إلى علم شيءٍ جهله، ولا دفع شكٍ عرض له، ولكنه لاستظهاره قصد حسم شغب خصمه، وردَّه إلى الحقِّ عن باطله. قال الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم " أم يقولون أفتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من اللّه شيئاً " " الأحقاف:8 " وقال عزَّ اسمه " أم يقولون أفتراه قل إن افتريته فعليَّ إجرامي وأنا بريٌ مما تجرمون " " هود:35 " وقال جل ثناؤه في قصة يوسف عليه السلام " إن كان قميصه قدَّ من قبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قدَّ من دبرٍ فكذبت وهو من الصَّادقين " " يوسف:26 - 27 " . ألا ترى إلى المساواة في الشرطين وجوابهما، وإلى الحكمة والمبالغة في التفقه وجميل المحاورة، والتبدية بذكر المبطلة وتقديم الإخبار عن تصديقها إن كانت لها الحجة، وهذا باب واسع. وقد قال قائلون إن قوله أو إياكم بمعنى وإياكم، وزعموا أن أو بمعنى الواو، فادَّعوا مثل هذا في مواضع من القرآن كثيرة، كقوله تعالى: " مثلهم كمثلٍ الَّذي استوقد ناراً " " البقرة:17 " ثم قال: " أو كصيِّبٍ من السَّماء " " البقرة:19 " وكقوله: " فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوةً " " البقرة:74 " وقوله تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون " " الصافات:147 " وقوله تعالى: " فلا تطع منهم آثماً أو كفوراً " " الإنسان:24 " وزعموا أن أو قد تأتي بمعنى الواو، واستشهدوا بقول الشاعر:
فلو كان البكاء يردُّ شيئاً ... بكيت على بجيرٍ أو عفاق
على المرءين إذ مضيا جميعاً ... لشأنهما بشجوٍ واشتياق
المعنى عل بحير وعفاق، واستدلوا على هذا بقوله: " على المؤمنين " ، ومثله قول جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
وأبى محقّقة النحويين هذه الطريقة، وتأوّلوا كلَّ شيءٍ ممّا أتى هؤلاء به وتلوه واستشهدوا به ورووه على خلاف تأويلهم. وإنما أوقع الذين زعموا أن " أو " تكون بمعنى الواو فيما ذهبوا إليه من خلاف القياس المميّز بين الألفاظ المختلفة المعاني في أصولها، وإنا تقاربت في بعض وجوهها، وجودهم ألفاظاً اشتبهت عليهم لتقاربها، فخلطوا بعضها ببعض، ولم ينعموا النظر فيها، فيحصّلوا تمييزها، ويقوا على ما يختصّ به كلُّ نوعٍ منها، ويتبيّنوا أوجه تقاربها وعلّة اشتراكها وتداخلها، وذلك كقولهم: اجلس في السوق أو المسجد، وجالس الحسن أو ابن سيرين، وخالط الفقهاء أو النحويين، وكل اللحم أو الشحم، والتمر أو الزبيب، والرُّطب أو العنب. وهذا باب يسمّى باب الإباحة وليس من باب الشك وتخير أحد المذكورين وحظر الجمع بينهما. فلمَّا لم يحكموا معاني هذا النوع على حقيقتها، وأغفلوا ملاحظة تفصيلها وتمييزها ذهبوا عن وجه الصّواب فيها. ولتفصيل ما يشتمل هاذ الباب عليه وشرح علله واستيفاء شعبه وأقسامه موضعٌ هو أخصّ به.

المنصور وواعظ منافق
حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا أبو الفضل الربعي قال، حدّثني أبي قال: بينا المنصور ذات يومٍ يخطب وقد علا بكاؤه إذ قام رجلٌ فقال يا وصّاف تأمر بما تجتنبه، وتنهى عمّا ترتكبه، بنفسك فابدأ ثم بالناس.

فنظر إليه المنصور وتأمّله مليّاً وقطع الخطبة ثم قال: يا عبد الجبار، خذه إليك. فأخذه عبد الجبار، وعاد إلى خطبته حتّى أتمّها وقضى الصلاة، ثم دخل ودعا بعبد الجبّار فقال له: ما فعل الرجل؟ قال: محبوسٌ عندنا يا أمير المؤمنين قال: أمل له ثم عرِّض له بالدّنيا فإن صدف عنها وقلاها فلعمري إنّه لمريد، وإن كان كلامه ليقع موقعاً حسناً؛ وإن مال إلى الدنيا ورغب فيها إ ن لي فيه أدباً يزعه عن الوثوب على الخلفاء وطلب الدنيا بعمل الآخرة. فخرج عبد الجبار فدعا بالرجل وقد دعا بغدائه فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: حقّ كان الله في عنقي فأدّيته إلى خليفته، قال: ادن فكل من هذا عليك من أكل الطعام إن أمير المؤمنين، قال: لا حاجة لي فيه، قال: وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيّتك حسنة فلا يفثأك عنها شيء. فدنا فأكل، فلمّا أكل طمع فيه. فتركه إيّاماً ثم دعاه وقال: لهي عنك أمير المؤمنين وأنت محبوس، فهل لك في جاريةٍ تؤنسك وتسكن إليها؟ قال: ما أكره ذلك، فأعطاه جارية ثم أرسل إليه: هذا الطعام قد أكلت والجارية قد قبلت، فهل لك في ثياب تكتسيها وتكسو عيالك إن كان لك عيال ونفقة تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين؟ قال: ما أكره ذلك، فأعطاه. ثم قال له: ما عليك أن تصنع خلّة تبلغ بها الوسيلة من أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة عنده إذا ذكرك؟ قال: وما هي؟ قال: أوليّك الحسبة والمظالم فتكون أحد عمّاله تأمر بمعروفٍ وتنهى عن منكر، قال: ما أكره ذلك؛ فولاّه الّذي تكلَّم بما تكلّم به فأمرت بحبسه قد أكل من طعام أمير المؤمنين، ولبس من ثيابه، وعان في نعمته.
قال القاضي: الصواب عندي وعاش في نعمته.
وصار أحد ولاته، وإن أحبَّ أمير المؤمنين أن أدخله عليه في زيّ الشيعة فعلت، قال: أدخله. فخرج عبد الجبار إلى الرجل فقال: قد دعا بك أمير المؤمنين وقد أعلمته أنك أحد عمّاله على المظالم والحسبة، فادخل عليه في الزيّ الذي يحبّ. فألبسه قباء بأربند وعلَّق خنجراً في وسطه وسيفاً بمعاليق، وأسبل جمَّته، ودخل فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله ، فقال: وعليك، ألست القائم بنا والواعظ لنا ومذكِّرنا بأيّام الله على رؤوس الملأ؟! قال: نعم، قال: فكيف حلت عن مذهبك؟ قال: يا أمير المؤمنين فكّرت في أمري فإذا أنا قد أخطأت فيما تكلّمت به، ورأيتني مصيباً في مشاركة أمير المؤمنين في أمانته. فقال: هيهات، أخطأت أستك الحفرة، هبناك يوم أعلنت الكلام، وظننّا أنّك أردت الله به فكففنا عنك، فلمّا تبيَّن لنا أنك الدنيا أردت جعلناك عظةً لغيرك حتّى لا يجترئ بعدك مجترئٌ على الخلافة. أخرجه يا عبد الجبّار فاضرب عنقه، فأخرجه فقتله.

أمنيات متفاوتة
حدَّثنا محمَّد بن القاسم الأنباري قال، حدّثنا إسماعيل بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي بكر قال، حدّثنا سعيد بن عامر عن جويرية قال: قعد معاوية وعمرو ذات يوم فقال معاوية، ما شيء أصيبه أحبّ إليَّ من عين فوّارة في أرض خوّارة، أصيبها من صاحبها بطيب نفسه؛ فقال له عمرو: لكنّي لست هكذا، ما شيء أصيبه أحبّ إلي من أن أصبح عروساً بعقيلة من عقائل العرب؛ ورجلٌ جالسٌ فقال: ولكنّي لست هكذا، ما شيء أصيبه أحبّ إليّ من الفضل على الأخوان. فقال معاوية: أنا أحقّ بها منك لا أمَّ لك، قال: فقد قدرت يا أمير المؤمنين.
فتوى أبي البختري للرشيد
وحدّثنا محمد بن يحيى الصّوليّ قال، حدّثنا وكيع قال، حدّثنا محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال، حدّثنا عمر بن عثمان قال، حدّثنا أبو سعيد العقيلي، وكان من ظرفاء الناس وشعرائهم قال: لمّا قدم الرشيد المدينة أعظم أن يرقى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباءٍ أسود ومنطقة. فقال أبو البختري: حدّثني جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عليهم السّلام قال: نزل جبريل عليه السّلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه قباء ومنطقة مخنجراً فيها بخنجر، فقال المعاذي التيمي:
ويلٌ وعولٌ لأبي البختري ... إذا توافى الناس للمحشر
من قوله الزّور وإعلانه ... بالكذب في الناس على جعفر
والله ما جالسه ساعةً ... للفقه في بدوٍ ولا محضر
يا قاتل الله ابن وهبٍ لقد ... أعلن بالزور وبالمنكر

يزعم أن المصطفى أحمداً ... أتاه جبريل التقي البري
عليه خف وقبا أسودٌ ... مخنجراً في الحقو بالخنجر

يتزوج بعد أن يستشير مائة رجل
حدّثنا محمد بن الحسن بن زياد المقرئ قال، حدثنا محمد بن القاسم عن محمد بن أبي معشر قال، أخبرني أبي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: حلف رجل أن لا يتزوَّج حتّى يستشير مائة رجل، فاستشار تسعةً وتسعين رجلاً ثم خرج وقال: أوّل من يستقبلني أستشيره، فإذا هو برجلٍ قد طيَّن رأسه وركب قصبة، وبيده سوط يضرب القصبة. فلما انتهى إليه سأله فقال له: يا عبد الله تأخر عن الفرس لا يرمحك؛ فركض على قصبته شوطاً ثم رجع فقال له: هات حاجتك. قال: إني حلفت ألا أتزوج حتى استشير مائة رجل، فاستشرت تسعة وتسعون رجلاً وأنت تمام المائة. فقال له: صاحب الواحدة إذا حاضت حاض معها، وإن مرضت مرض معها، وإن غابت غاب معها، وصاحب اثنتين قاض، وصاحب الثلاث ملك، وصاحب الأربع مسافر.
قال له الرجل: لقد استشرت تسعة وتسعون رجلاً ما كان فيهم أعقل منك، فمن أنت؟ قال: أنا أرادت بنو إسرائيل أن يستقضوني ففعلت هذا لكي أنجو منهم.
رواية أخرى للقصة السابقة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الجوهري عن محمد بن حاتم عن شجاع بن الوليد عن حريش بن أبي الحريش قال: كان رجل في من كان قبلنا حلف أن لا يتزوَّج امرأة حتى يستشير مائة نفس، وإنه استشار تسعةً وتسعون رجلاً فاختلفوا عليه، فلمّا بقي رجلٌ واحد قال: أوَّل من يفجأني من هذا الطريق أستشيره ثم آخذ بقوله. فتلقاه رجل شيخ على قصبة، ومعه صبيان حوله. قال له: إني حلفت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة رجل، وقد استشرت تسعةً وتسعين رجلاً فاختلفوا فقلت: أول من يفجأني من هذا الطريق أستشيره، فجاء شيخٌ راكب على قصبة، ثم لم يجد بداً فدنا منه فقال له: يا عبد الله إني أريد أن أتزوج فأشر عليَّ، فقال له: النساء ثلاث، ثم مضى. قال: قلت في نفسي والله ما قال لي أحدٌ مثل ما قالة هذا لأتبعنَّه، قال: فاتبعته حتى لحقته، قلت: يا عبد الله قلت لي النساء ثلاث، قال: نعم واحدةٌ لك وواحدة عليك وواحدة لا لك ولا عليك. قال: ثم مضى فاتبعته فسألته عن تفسير ما قال، فقال: أما البكر فهي لك ولا عليك، وأما الحنَّانة فهي الثّيب التي قد كان لها زوجٌ فهي لا لك ولا عليك، وأما المنانة فالثيّب التي لها ولدٌ فهي التي عليك ولا لك، خلِّ سبيل الجواد. قال: فاتبعته فقلت: يا عبد الله من أنت وما قصّتك؟ قال: مات قاضي بني إسرائيل أو قال: فقيل من أنت؟ فقيل فلان، فأرادوا أن يجعلوني قاضياً فكرهت ذلك فصنعت ما رأيت فراراً منهم.
الفرزدق لا يساجل الفضل اللهبي
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي قال، حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال، وحدثني ابن عائشة قال، أخبرني أبو عبيدة النحوي قال: أخبرني من سمع الفرزدق يقول: أتيت الفضل بن العباس اللهبي وهو يمتح بدلوٍ من زمزم، وهو يقول:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ورسول الله جدي جدّه ... وعلينا كان تنزيل الكتب
قلت: من يساجلك فرجلي في كذا وكذا من أمّه قال: أتعرفني لا أمّ لك؟ قال: قلت: وكيف لا أعرفك وقد فرَّغ الله عز وجل في أبويك سورة من كتابه فقال عز وجل: " تبَّت يدا أبي لهبٍ " " المسد:1 " قال: فضحك وقال: أنت الفرزدق، قلت: نعم، قال: قد علمت أن أحداً لا يحسن هذا غيرك.
معنى فرغ أي ليس في السورة غير ذكر أبي لهب وذكر امرأته.
قال القاضي: وقد ألطف الفرزدق فيما خاطب به الفضل، لأنه لما لم يمكنه مساجلته، وقد فخر بنسبه من هاشم وقرباه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بما يمضُّه ويفلُّ من غربه.
كانت العرب تقول

حدثنا عبيد الله بن مسلم العبدي قال، حدثنا العباس بن الفضل الهاشمي قال، حدثني أبو بكر الحسن بن علي قال، حدثنا أبو عبد الله وزعم أن رجل من أهل الجبل، قال: حدثني أبي قال: سمعت أبا ربيعة النحوي يقول: كانت العرب تقول: من لم يكن عقله أكمل ما فيه كان هلاكه بأكمل ما فيه. قال أبو عبد الله قال أبي : فحدثت بهذا الحديث الأصمعيَّ فقال: إن هذا لحسن وعندي آخر يشبهه: كانت العرب تقول: من كانت فيه خصلة هي أكمل من عقله فالحري أن تكون سبب منيته. قال أبو عبد الله قال أبي فحدثت بهذين الحديثين أبا عبيدة فقال: هذان حسنان وعندي آخر يشبههما: كانت العرب تقول: من لم يكن أغلب خصال الخير عليه عقله كان أغلب في خصال الخير عليه حتفه. قال أبو عبد الله قال أبي: فحدثت بهذه الأحاديث أبا دلف فقال: هذه حسان، وعندي آخر أحسن منها: كانت العرب تقول: كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا.

أعرابي يصف امرأة جميلة
حدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة قال، حدثني إبراهيم بن محمد بن حيان قال، حدثنا أبو حام السجستاني عن أبي عبد الرحمن العتبي قال: كان أعرابي يشبب بامرأة، فقيل له: صفها، فقال: كان والله وجهها السقم لمن رآها، ولفظها البرء لمن ناجاها، وكانت في القرب أبطن من الحشا، وفي النأي ابعد من السما، ولقد كنت آتيها في أهلها فيتجهَّمني لسانها ويمنيني طرفها، فتعتريني لذلك فترة فتذكرني الصبا وهوى يهتك مني ستر الحيا.
أبيات فيها بعض معنى الخبر السابق
قال القاضي: وقد أنشدت ثلاثة أبياتٍ البيت الثالث يضارع بعض ما أتت به ألفاظ هذا الخبر وهي:
وتنال إن نظرت بلحظتها ... ما لا ينال بحدِّه النصل
وإذا نظرت إلى محاسنها ... فكلِّ موضع نظرةٍ قتل
ولقلبها حلمٌ تصدُّ به ... عن ذي الهوى ولطرفها جهل
وما أتى من هذا الضرب كثير، وقد أتينا منه في أوائل مجالسنا هذه ورسمنا من منظومه لنا ولغيرنا.
ما قاله بزرجمهر قبيل موته
حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي قال، حدثنا الغلابي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثني علي بن محمد قال، قال أنو شروان لبزرجمهر لما أراد قتله: إني قاتلك فتكلم بشيء تذكر به، فقال: أيها الملك إن الدنيا حديث حسن وقبيح، فإن استطعت أن تكون حديثاً حسناً فكنه. قال أبو عبد الله: فذكر هذا الكلام لابن عائشة فقال: صدق والله، وهو من قول الله عز وجل: " وأجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين " " الشعراء: 84 " وأنشد ابن عائشة:
ألم تر أنَّ تخلد بعدهم ... أحاديثهم والمرء ليس بخالد
وأنشد أيضاً:
وإذا الفتى لاقى الحمام رأيته ... لولا الثناء كأنه لم يولد
المجلس الثّامن والتسعون
حديث أبي مطر عن علي وهو يتجول في الأسواق
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني قال، حدثنا جعفر بن عبد الله المحمدي قال، حدثنا عمر بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين قال، سمعت يحيى بن عبد الله بن الحسين يقول، سمعت جعفر بن محمد يقول: قدم شيخٌ من أهل البصرة يقال له أبو مطر، فقيل لي: إنه يروي حديثاً عن أمير المؤمنين أنت؟ فقلت: أنا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين. فأخذني فضمني إليه وبكى ثم قال: نعم قدمت الكوفة وليس لي بها معرفة فكنت آوي إلى المسجد بالليل، وكان المسجد عمارته بالليل كعمارته بالنهار من بين مصلٍّ أو ذاكر فقه أو متعبد. فدخلت السوق وأنا غلامٌ ذيَّالٌ صاحب سكينيّة، فإذا رجلٌ من خلفي يقول: ارفع أزارك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك، وخذ من شعرك إن كنت مسلماً. فالتفتُّ فإذا رجلٌ أصلع ضخم البطن مؤتزرٌ أسفل من ثدييه، عليه رداؤه وفي يده مخفقة. فقلت: من هذا؟ قالوا: أمير المؤمنين.

فتجنبت الطريق فحللت شعري وفرقته، ورفعت إزاري وشمرته، واتبعته فدخل دار الوليد بن عقبة، وكانت الإبل تباع بها، فقال: يا معشر أصحاب الإبل إياكم والحلف فإنه ينفّق السلعة ويمحق البركة، ثم أتى النحاسين فقال: يا معشر النحاسين إياكم أن تزيّنوا سلعتكم بما ليس فيها، ألا إنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من غشَّنا " . ثم أتى التمّارين فقال: يا معشر التمّارين، تصدقوا يرب كسبكم، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم. فلما كاد يجوزهم إذا هو بأمةٍ تبكي، قال ما لك؟ قالت: ابتعت من هذا تمراً بدرهم فأتيت به أهلي فقالوا: ردّيه. فقا ل: يا تمّار، خذ تمرك واردد عليها فإنه ليس لها أمر. فأنكره التمار ولم يعرفه وقال له بالفارسية: اذهب إلى شأنك، ثم عرفه فأقبل يعتذر وهو يبكي، فقال: ما شأنه؟ فقالوا: ذكر أنه لم يعرفك، يسألك أن ترضى عنه، قال: فما أرضاني عنه وعن من كان مثله إذا وفى للمسلمين بشروطهم وأدَّى حقوقهم. ثم مضى من فوره إلى القصّابين فقال: إياكم والنفخ والغشَّ. فقام رجل يقال له زكا اليهودي فقال: يا أمير المؤمنين، إن النفخ لا يزيد فيه ولا ينقص منه، فقال: ويحك فما هو؟ قال: يزينه، قال: فذاك الغش. ثم أتى السمّاكين فقال: يا معشر أصحاب الحيتان، ولا تبيعوا في سوقنا الطافي فإنه ميت. ثم أتى البزازين فجلس إلى شيخ فقال: بعني قميصاً بثلاثة دراهم وأحسن بيعي، فناوله قميصاً فقال: يا أمير المؤمنين يقوم عليَّ بأربعة دراهم وهو لك بثلاثة دراهم، قال: نقصت من رأس مالك درهماً من أجل أنك عرفتني، لست أنا الذي أبتاع منك شيئاً. فجلس إلى آخر فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم فلبسه ثم قال: الحمد لله الذي كساني من رياشه ما أتجمَّل به في الناس وأواري به عورتي. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا. ثم أتى الرحبة فهتف: يا قنبر، يا قنبر آتني بطهور، فأقبل بإناء من خزف فأهوى ليصبَّ عليه، فتناوله فوضعه بين يديه، ثم أفرغ على يمينه، ثم جمع بين كفيه فغسلهما حتى أنقاهما، واستنشق ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، يستقبل باطن أذنيه بكفيه ويستدبرهما بإبهاميه، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل قدميه، ثم جرع من فضل وضوئه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. فأتاه شيخ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أتيت ابني وهو لا يعرفك فابتعت منه قميصاً وإنه أغلى عليك، إنما يقوم علينا بدرهمين، فخذ هذا الدرهم. قال: لا، أخذت رضاي وأخذ الغلام حاجته. ثم أخذ مؤذته ابن النباح في لإقامة، فإذا رجل يقول: يا أمير المؤمنين إني سرقت جملاً فبعته وأكلت ثمنه، قال: يا قنبر دونك الرجل أوقد النار وأعدَّ المحدَّ حتى آتيك، فدخل فصلَّى بالناس وصليت معه، فلما قضى الصلاة خرج مبادراً حتى انتهينا إليهما، فإذا الرجل يقول: يا قنبر، ما تراه صانعاً بي، قال: لا ولكني ما سرقت شيئاً قط، إذ أقبل أمير المؤمنين فقال: يا قنبر ما فعل الرجل؟ عليَّ به. قال: هو ذا ، هو يزعم ما سرقت شيئاً قط، قال: ويحك ما دعاك إلى ما قلت؟ قال: يا أمير المؤمنين أنكرت عقلي، قال: الله، قال: الله. فناشده الله ثلاثاً، كلّ ذلك يقول: الله ما سرقت شيئاً قط. قال: يا قنبر أخل سبيل الرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " .

سند آخر للحديث السابق
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال، حدثني جعفر بن عبد الله قال، حدثنا عمر بن محمد قال، حدثنا غالب بن عثمان الهمداني قال، حدثنا مختار بن نافع أبو إسحاق العكلي التمّار قال، حدثني ابو مطر عمر بن عبد الله الجهنيَّ البصريّ قال: قدمت من البصرة فأتيت الكوفة ولم يكن لي بها معرفة، فذكر مثل حديث يحيى بن عبد الله أو نحوه.
وفود مالك بن عوف على الرسول
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، حدثنا أحمد بن عيسى العكلي عن الحرمازي عن أبي عبيدة قال: وفد مالك بن عوف بن سعيد بن ربيعة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر بن معاوية، وهو رئيس هوزان يوم حنين، بعد إسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنشده:
ما إن رأيت ولا سمعت بواحدٍ ... في الناس كلِّهم كمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل لمجتدٍ ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة حدّدت أنيابها ... بالسمهري وضرب كلِ مهنّد
فكأنه ليثٌ على أشباله ... وسط الأباءة خادرٌ في مرصد
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وكساه حلّةً.

شرح لفظتين
قال القاضي: الأباءة الغيضة أو القطعة من القصب، والأباء القصب، قال الشاعر:
يا من ترى ضرباً يرعبل بعضه ... بعضاً كمعمعة الأباء المحرق
والخادر: المستكنُّ في غيضته أو غابته وهي كالخدر له، قالت الخنساء فيما ترثي به أخاها صخراً:
فتىٌ كان أحيا من فتاةٍ حيّيةً ... وأشجع من ليثٍ بخفَّان خادر
ابن عباس ينشد الشعر في المسجد الحرام فينتقده ابن الأزرق
حدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب قال، حدثنا عمر بن شبة قال، حدثني أبو يحيى الزهري قال، حدثنا ابن أبي ثابت قال، أخبرني أبو سيّار عن عمر البركا قال: بينما ابن عباس في المسجد الحرام وعنده ابن الأزرق وناسٌ من الخوارج يسألونه إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو ممصّرين.
قال القاضي: الممصران: اللذان فيهما صفرة.
يسير حتى سلَّم وجلس. فأقبل عليه ابن عباس فقال أنشدنا، فأنشده:
أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر ... غداة غدٍ أو رائحٌ فمهجّر
حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه ابن الأزرق فقال: الله يا ابن عباس، إنا لنضرب إليك أكباد المطيِّ من أقاصي الأرض لنسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنّا، ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشيِّ فيخسر
فقال ابن عباس: ليس هكذا قال، قال:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخصر
قال: ما أراك إلا وقد حفظت البيت، قال: نعم، وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتكما، قال: فإني أشاء، قال: فأنشده القصيدة حتى جاء على آخرها، ثم أقبل على ابن ربيعة فقال: أنشد، فقال:
تشطّ غداً دار جيراننا
فقال ابن عباس: وللدار بعد غدٍ أبعد.
فقال: كذاك قلت أصلحك الله، أسمعته؟ قال: لا ولكن كذلك ينبغي.
شرح ألفاظ تتصل بالبيت السابق
قال القاضي: وقد روى بعض الرواة بيت ابن أبي ربيعة فقال: أيما إذا الشمس، وايما بالعشيّ، وهي لغةٌ معروفة. وقوله فيضحى قيل: معناه يمسّه الحر، وقيل: تعلوه الشمس وهو ضاحٍ لها غير مستتر منها، والضحُّ، الشمس، والعرب تقول: الضحّ والدحّ. وروي أن عبد الله بن عمر رأى رجلاً قد استظلَّ من الشمس وهو محرم فقال له: أضح لمن أحرمت له. ومن هذا قول الله عز وجل. " وأنَّك لا تظمأ فيها ولا تضحى " " طه:119 " أي لا يصيبك فيها حرٌّ و لا يعلوك شمسٌ؛ وقد قال جل اسمه في أهل الجنة: " لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً " " الإنسان:13 " . والزمهرير: البرد الشديد، ومن وقي أذاهما فقد أنعم الله عليه، قال الأعشى:
مبتّلة الخلق مثل المهاة ... لم تر شمساً ولا زمهريرا
وقد زعم بعضهم أن الزمهرير من أسماء القمر، وأنشد في هذا المعنى:
وليلةٍ فيها الظلام معتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
وأما الخصر فإنه البرد القارس، يقال: قد خصر الرجل يخصر إذا أصابه البرد، كما قال الفرزدق:
إذا أنسوا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
ويقال: ماء خصر أي بارد، كما قال امرؤ القيس:
فلما استطابا صبَّ في الصحن نصفه ... وجاءوا بنصفٍ غير طرقٍ ولا كدر
بماء سحابٍ زلَّ عن ظهر صخرة ... إلى بطن أخرى طيّبٍ ماؤها خصر
أحسن ما قيل في وصف الماء
قال بعضهم: هذا أحسن ما قيل في صفة الماء. وقال قائلون: بل أحسن ما قيل في صفة الماء أبيات أتت في خبرٍ حدَّثناه أبو بكر ابن الأنباري لم يحضرني إسناده، وقد ذكرته في بعض مجالسنا هذه، وهو أنه ذكر أن عاتكة المرية عشقت ابن عمها فأرادها عن نفسها، فأنشأت تقول:
ما برد ماءٍ أيّ ماء تقوله ... تنزّل من غرٍّ طوال الذوائب
بمنحدرٍ من بطن وادٍ تقابلت ... عليه رياح الصيف من كلِّ جانب

ترقرق ماء المزن فيهنَّ والتقت ... عليهنَّ أنفاس الرياح الغرائب
نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فليس به عيبٌ يحسُّ لشارب
بأحسن ممّن يقصر الطّرف دونه ... تقى الله واستحياء ما في العواقب

الحجاج وابن الحنفية وشكوى الثاني لعبد الملك
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمرو بن بشر الورّاق قال، حدثني أبو زكريا يحيى بن خليفة الدارمي قال، حدّثني محمد بن هشام السّعدي التميمي قال: خرج الحجاج بن يوسف وابن الحنفية من عند عبد الملك بن مروان، فلما صارا في الطريق قال الحجاج لمحمد بن الحنفية: لقد بلغني أن اباك كان إ ذا فرغ من القنوت يقول كلاماً حسناً أحببت أن أعرفه، فتحفظه؟ قال: لا، قال: سبحان الله، ما أوحش لقاءكم، وأفظع لفظكم، وأشدَّ خنزوانتكم، ما تعدُّون الناس إلا عبيداً، ولقد خضتم الفتنة خوضاً وقتلتم المهاجرين والنصار. فنظر إليه ابن الحنفية وأنكر لفظه وأحفظه، فوقف وسار الحجاج. ورجع ابن الحنفية إلى باب عبد الملك فقال للآذن: استأذن لي، فقال: ألم تكن عنده قبل وخرجت آنفاً، فما ردَّك وقد ارتفع أمير المؤمنين؟ قال: لست أبرح حتّى ألقاه. فكره الآذان غضب الخليفة فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، هذا محمد بن الحنفية مستأذنٌ عليك، فقال: ألم يكن عندي قبل، لقد ردَّه أمرٌ، إيذن له. فلما دخل عليه تحلحل عن مجلسه كما كان يفعل فقال: يا أمير المؤمنين هذا الحجاج أسمعني كلاماً تكمَّشت له، وذكر أبي بكلام تقمّعت له، وما أحرت حرفاً، قال: فما قال لك حتّى أعمل على حبسه؟ قال: وكأنمّا تفقأ في وجهه الرمّان ونخسه شوك، فخبره عمّا سأله عنه، فقال لصاحب شرطته: عليَّ بالحجاج السّاعة. فأتاه في منزله حين خلع ثيابه فحمله حملاً عنيفاً، وانصرف ابن الحنفية. فجاء الحجاج فوقفه بالباب طويلاً ثم قال: إيذن له، فدخل فسلَّم عليه، فقال له عبد الملك:
لا أنعم الله بعمروٍ عينا ... تحية السُّخط إذا التقينا

يا لكع وهراوة البقّار، ما أنت ومحمد ابن الحنفية؟! قال: يا أمير المؤمنين، ما كان إلاّ خيراً، قال: كذبت والله لهو أصدق منك وابرّ، ذكرته وذكرت أباه، فوالله ما بين لابتيها أفضل من أبيه؛ وما جرى بينك وبينه؟ قال: سألته يا أمير المؤمنين عن شيءٍ بلغني كان أبوه يقوله بعد القنوت، قال: لا أعرفه، فعلمت أن ذاك مقتٌ منه لنا ولدولتنا، فأجبته بالذي بلغك. فقال له عبد الملك: أسأت ولؤّمت، والله لولا أبوه وابن عمّه لكنَّا حيارى ضلاّلاً، وما أنبت الشعر على رؤوسنا إلاّ الله عز وجل وهم، وما أعزَّنا بما ترى إلا رحمهم وريحهم الطيبة، والله لا كلَّمتك كلمةً أبداً، أو تجيئني بالرضا منه، وتسلَّ سخيمته. قال: فمضى الحجاج من فوره، فألفاه وهو يتغدَّى مع أصحابه، قال: فاستأذن فأبى أن يأذن له، فقال له بعض أصحابه: أتى برسالة أمير المؤمنين، فأذن له، فقال: إن أمير المؤمنين أرسلني أن أسلَّ سخيمتك، وأقسم أن لا يكلّمني ابداً حتّى آتيه بالرضى منك، وأنا أحبُّ، برحمك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلاَّ عفوت عمّا كان، وغفرت ذنباً إن كان. فقال: قد فعلت على شريطة فتفعلها، قال: نعم، قال: على صرم الدهر. قال: ثم انصرف الحجاج فدخل على عبد الملك فقال: ما صنعت؟ قال: جئت برضاه وسللت سخيمته وأجاب إلى ما أحبّ وهو أهل ذلك. قال: فأيُّ شيءٍ آخر ما كان بينك وبينه؟ قال: رضي على شريطة، على صرم الدهر، فقال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم، انصرف. فلمّا كان من الغد دخل ابن الحنفية على عبد الملك فقال له: أتاك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فرضيت وأجبته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ثم مال إليه فقال: هل تحفظ ما سألك عنه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين وما منعني أن أبثه غياه إلا مقتي له فأنّه من بقية ثمود. فضحك عبد الملك ثم قال: يا سليمان - لغليّم له - كاتباً ودواةً وقرطاساً، قال: فكتب بخطّه: بسم الله الرحمن الرحيم، كان أمير المؤمنين عليّ عليه السلام إذا فرغ من وتره رفع يده إلى السماء وقال: اللّهم حاجتي العظمى التي إن قضيتها لم يضرَّني ما منعتني، وإن منعتني لم ينفعني ما أعطيتني. فكّاك الرقاب، فكَّ رقبتي من النار، ربِّ ما أنا إن تقصد قصدي بغضب منك يدوم عليَّ، فوعزَّتك ما يحسّن ملكك إحساني، ولا تقبّحه إساءتي، ولا ينقص من خزائنك غناي، ولا يزيد فيها فقري. يا من هو هكذا اسمع دعائي وأجب ندائي، وأقلني عثرتي، وارحم غربتي ووحشتي ووحدتي في قبري، ها أنا ذا يا ربِّ برمّتي. ويأخذ بتلابيبه ثم يركع. فقال عبد الملك: حسن والله رضي الله عنه.

شروح وتعليقات
قال القاضي: قول محمد بن الحنفية عليه السلام: " أسمعني كلاماً تكمشت له " أي انقبضت منه، يقال لما تغضَّن وتشنّج من الفاكهة وغيرها قد تكمّش فهو متكمّش. وقوله: " ذكر أبي بكلام تقمّعت له " يقال: قد تقمَّع الرجل وانقمع إذا انخزل وانكسر. وقول عبد الملك: " يا لكع " يريد يا عبد أو يا لئيم. وقوله " " وهراوة البقّار " يعني عصار الراعي التي يذود بها البقر، يريد أنّه لا يصلح إلاّ لأداني الأمور. وما رواه محمد بن الحنفية من قول أمير المؤمنين عليه السّلام في دعاه: " ها أنا ذا يا ربٌ برمّتي " العرب تقول: أخذ فلان كذا وكذا برمَّته، يريدون أخذه كلّه واستوفاه ولم يغادر شيئاً منه؛ وكذلك قولهم أخذه بأسره، والأسر القيد، وبه سمّي الأسير أسيراً وهو الآخذ بمعنى المأخوذ، وكانوا يشدّونه بالقدِّ إذا أسروه. وأما الرّمة فالحبل البالي كانوا يشدُّون الأمتعة به، ومنه قول ذي الرّمة: أشعث باقي رمَّة التقليد وقيل: إنّما سمّي ذا الرمَّة لقوله هذا، وهو غيلان بن عقبة، فأمّا الرمّة بالكسر فالعظم البالي، ويقال: رمَّ العظم يرمّ وهو رميم، ومنه قول الشاعر:
والنيب إن تعر مني رمّةً خلقاً ... بعد الممات فإني كنت أتَّئر
وهذا من أبيات المعاني ومعناه أن النيب، وهي جمع ناب، وهي الناقة المسنّة، يقال لها ذلك كأنها لم يبق مرُّ السنين عليها إلا ناباً كما يقال فلان راس وفلان بطن، ومن الناب قول جرير:
لقد سرَّني ألاّ تعدَّ مجاشعٌ ... من المجد إلاّ عقر نابٍ بصوأر
وقال أيضاً:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكميَّ المقنّعا

قال: كانت تأكل عظام الموتى طلباً لموحتها فقال هذا الشّاعر: إن تعر منّي رمةً خلقاً، يريد إن تأكل عظامي بعد موتي، فإنّي كنت أتئر أي آخذ منها بثأري سلفاً في حياتي، يعني أنّه كان ينحرها للأضياف. وقوله: " أتَّئر " افتعل من الثأر وأصله اثتئر فقلبت الثاء تاء وأدغمت في الّتي بعدها، وكذلك مدَّكر أصله مذتكر، ومظّلم أصله مظتلم. ولما وصفنا من القلب علة هي مرسومة في موضعها. ومن العرب من يقول أثّتر بالثاء، ومذّكر بالذال، ومطّلم بالطاء إلا أن المختار أفصح في القياس، والأشهر في الرواية مدّكر ومتئر ومظَّلم ومثله مدّخر ومذّخر، قال زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان:
هو الجواد الّذي يعطيك نائلةٌ ... عفواً ويظلم أحياناً فيظَّلم
يروى على الوجهين والظاء أشهرهما، والمشهور من القراء في قول الله تعالى: " فهل من مدَّكر " " القمر: 15،17،22،32،40،51 " الدال، وكذلك وله تعالى: " وما تدّخرون في بيوتكم " " آل عمران:49 " .

المجلس التاسع والتسعون
حديث الأنبياء إخوة لعلات
حدثنا محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري قال، حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد البزاز قال، حدثنا أبو العاص محمد بن سعيد قال، حدثني عنبسة بن عبد الواحد عن أيوب بن عتبة عن يحيى بن أبي كثير عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأنبياء إخوةٌ لعلاَّتٍ، أمهاتهم شتَّى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ، وهو خليفتي على أمتي، وهو نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجلٌ مربوعٌ يضرب إلى البياض والحمرة، يكاد رأسه يقطر وإن لم يصبه بللٌ، يمشي بين ممصّرتين، يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال ويضع الجزية ويقاتل على الإسلام حتى تهلك في زمانه الملل كلها، فتقع الأمنة في الأرض، فترعى الإبل مع الأسود، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع الحيَّات فلا تضرّهم شيئاً، فيلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفَّى فيصلّي عليه المؤمنون " .
العلات والأخياف وصلة ذلك بالميراث
قال القاضي، قال أبو بكر: قوله إخوة لعلاَّت، يقول العرب هم إخوة لعلاّت إذا كانت أمهاتهم مختلفاتٍ وأبوهم واحد، فإذا كان الآباء مختلفين والأم واحدة قيل: هم إخوة لآحاد. وقال بعضهم: يقال في هذا المعنى هم إخوة لأخياف وإخوة لأعيان. وشتى معناه مختلفات. قال القاضي: المعروف من كلام العرب أنهم يقولون للإخوة الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتَّى بنو العلات كما قال الشاعر:
والناس أولاد علاَّت فمن علموا ... أن قد أقلَّ فمحقورٌ ومهجور
وهم بنو الأم أمّا إن رأوا نشباً ... فذاك بالغيب محفوظٌ ومنصور
فإذا كانت الأم واحدةً والآباء مختلفين فهم الأخياف، كما قال الشاعر:
أفي الشدائد أخيافاً لواحدةٍ ... وفي الولائم أولاداً لعلاَّت
ويقال للفرس إذا كانت إحدى عينيه زرقاء والأخرى محلاء أخيف. وإذا كان أبو الإخوة واحداً وأمهم واحدة فهم الأعيان. وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعيان بني الأمّ أولى بالميراث من بني العلات " . وقد استدل بهذا الحديث بعض من ذهب إلى قول عبد الله بن مسعود ومن قال مثل قوله من الخلف والسلف في ابني عمٍّ أحدهما أخٌ لأم أنَّ المال كلَّه لابن العم الذي هو أخّ لأمّ دون الآخر، وحمله مخالفوهم على أنه جاء في الأخ للأب والأم، والأخ للأب، وجماعة غيرهم من المتقدمين والمتأخرين. ولكلُّ فريق منهم عللٌ يوردونها وحججٌ يأتون بها، وقد رسمناها في مواضعها من كتبنا، وذكرنا ما نختاره منها.
مزيد من التفسير والتعليق
قال ابن الأنباري في الخبر الذي قدمنا روايته عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم : " يمشي بين ممصرتين " معناه بين شقتين فيهما صفرةٌ يسيرة، والممشَّق عند العرب المصبوغ بالمغرة، والمغرة يقال لها المشق.

قال القاضي: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " وتهلك في زمانه الملل كلُّها " صريح البيان على أنًّ اليهود والنصارى والمجوس وسائر المشركين ذوو مللٍ مختلفة وليسوا أهل ملةٍ واحدة، وإن جمعهم الكفر، وأنه لا توارث بن أحدٍ منهم ومن هو على غير ملته، لقول النبي: " لا يتوارث أهل ملتين شتى " ؛ وقد روينا هذا القول عن الحسن ومالك وأبي عمرو الأوزاعي وبه نقول. وكان أبو حنيفة وأصحابه يرون الكفر كلَّه ملةً واحدةً ويوقعون التوارث بينهم، وإليه يذهب أصحاب الشافعي، وهذا قولٌ فاسد، وشرح البيان عن هذا الباب مرسومٌ في موضعه.

هبوط عيسى ابن مريم
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، حدثنا أحمد بن الهيثم قال، حدثنا الهيثم بن خارجة قال، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبيه عن يحيى بن جابر الطائي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يهبط عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم شرقيَّ دمشق عند المنارة البيضاء بين مهرودتين " . قال أبو بكر حفظناه عن أحمد بن الهيثم بالدال وتفسيره بين ممصّرتين.
حديث آخر عن هبوط عيسى
وحدثنا محمد بن القاسم قال، حدثنا جعفر بن محمد العبرتائي قال، حدثنا أبو مروان هيثم بن خالد الأزرق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى - قال أبو مروان: وكان قاضياً على حمص - عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يهبط عيسى ابن مريم بين مهروذتين " . قال أبو بكر: حفظناه عن جعفر بن محمد بالذال في هذا الحديث، يعني بين ممصرتين.
معاني الصير
قال أبو بكر: فهذا مما فسر في الحديث بما لا يعرف إلا منه كالحروف التي جاءت مفسَّرةً في الحديث ، منها: من اطَّلع في صير باب فقئت عينه فهي هدر. ومنها أن سالم بن عبد الله رأى رجلاً معه صيرٌ فذاق منه فقال: كيف تبيعه؟ فالصير الأول الشقّ، والثاني الصحناة. ومنها أن عمر رضوان الله عليه سأل المفقود الذي استهوته الجن ما شرابهم؟ فقال: الجدف، ففسَّلا هو نبات باليمن لا يحتاج اليذ يأكله أن يشرب عليه، ويقال هو كل مالا يذكر الله عليه من الآنية والأشربة. ومنها ما جاء في الأمرين من السقا والثُّقا، تفسير الثّقا الحرف " قيل: هو الرشاد " ؟ قال القاضي: جعل أبو بكر ابن الأنباري الصير مما لا يعرف تفسيره إلا في الحديث الذي جاء تفسيره فيه، فذكر هذا أبو بكر علىّ سعة حفظه وإتقانه وضبطه، وكان يذهب عليه في الوقت بعد الوقت أشياء ظاهرةٌ معلومة وينكرها مع اشتهارها، فأخذنا عنه راويتها بأسانيدها؛ على أننا لم نر في من يشار إليه بحفظ الروايات والآداب أحسن منه حفظاً، ولكنه بشرٌ يجري عليه من السهو والنسيان ما يعرى من مثله الإنسان. والصير معروف مشهور، فأما الصير الذي أتى في حديث الاطلاع ففسر بأنه الشق فقد أصاب مفسره المعنى أو قاربه.
فأما الصحناة فتسميتها صيراً مما يعرفه أهل العلم، وقد ذكره قومٌ من أهل الفقه وغيرهم، وأصل الصير الذي بدأنا بذكره عندي الحدّ، وقد جاء في الشعر ما يشهد بهذا ويدلُّ عليه، قال زهير:
وقد كنت من سلمى سنين ثمانياً ... على صير أمرٍ ما يمرُّ وما يحلو
يسمى الولد علياً ويكنيه أبا الحسن
فيعرض معاوية عليه جائزة إن غيرهما

حدثني عبد الله بن مسلم العبدي قال، حدثنا أبو الفضل الربعي قال، حدثنا إبراهيم بن عيسى بن المنصور قال، حدثني إسحاق بن عيسى بن علي قال، حدثني أي وسمعته يقول: ولد أبو محمد علي بن عبد الله سنة أربعين بعد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام، فسماه عبد الله بن العباس علياً وكناه أبي الحسن، وولد معه في تلك السنة لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام غلامٌ فسمَّاه علياً وكنّاه بأبي الحسن. فبلغ ذلك معاوية فوجَّه إليهما أن انقلا اسم أبي تراب وكنيته عن ابنيكما وسمياهما باسمي وكنّياهما بكنيتي، ولكلِّ واحدٍ منكما ألف ألف درهم. فلما قدم الرسول عليهما بهذه الرسالة سارع إلى ذلك عبد الله بن جعفر فسمَّى ابنه معاوية وأخذ ألف ألف درهم، وأما عبد الله بن عباس فإنه أبى ذلك وقال: حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من قومٍ يكون فيهم رجلٌ صالحٌ فيموت فيخلّف فيهم مولود فيسمونه إلا خلفهم الله بالحسنى " ، وما كنت لأفعل ذلك أبداً. فأتى الرسول معاوية فأخبره بخبر ابن عباس فردَّ الرسول وقال: فانقل كنيته عن كنيته ولك خمسمائة ألف درهم، فلما رجع الرسول إلى ابن عباس بهذه الرسالة قال: أما هذا فنعم وكناه بأبي محمد.

مقتل أبي مسلم وكيف تم
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عمر بن عرفة الأزدي قال، أخبرنا أبو العباس المنصوري قال: لما قتل المنصور أبا مسلم قال: رحمك الله أبا مسلم، فإنك بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا ووفينا لك، فإنك بايعتنا على أنه من خرج علينا قتلناه، وأنك خرجت علينا فقتلناك، وحكمنا لك حكمك لنا على نفسك.
قال: ولما أراد المنصور قتله دسَّ رجالاً من القواد منهم شبيب بن واج وتقدَّم إليهم فقال: إذا سمعتهم تصفيقي فاخرجوا إليه فاضربوه. فلما حضر حاوره طويلاً حتى قال له في بعض قوله: وقتلت وجوه شيعتنا فلاناً وفلاناً، وقتلت سليمان بن كثير، وهو من رؤساء أنصار دولتنا، فقتلت لاهزاً، قال: إنهم عصوني فقتلتهم، وقد كان قبل ذلك قال المنصور له: ما فعل سيفان بلغني أنك أخذتهما من عبد الله بن علي؟ قال: هذا أحدهما يا أمير المؤمنين، يعني السيف الذي هو متقلّدٌ به. قال: أرنيه، فدفعه إليه فوضعه المنصور تحت مصلاه وسكنت نفسه. فلما قال ما قال، قال المنصور: يا للعجب أتقتلهم حين عصوك وتعصيني أنت فلا أقتلك؟! ثم صفق فخرج القوم وبدورهم إليه شبيبٌ فضربه فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه. فقال له المنصور: اضربه قطع الله يدك، فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين استبقن لعدوّك قال: وأيُّ عدوٍّ أعدى منك؟ فضربوه بأسيافهم حتى قطعوه إرباً إرباً. فقال المنصور: الحمد لله الذي أراني يومك يا عدوَّ الله. واستؤذن لعيسى بن موسى. فلما دخل ورأى أبا مسلم على تلك الحال، وقد كان يكلّم المنصور في أمره لعناية كانت منه به، استرجع، فقال له المنصور: احمد الله فإنك إنما هجمت على نعمةٍ ولم تهجم على مصيبة، ففي ذلك يقول أبو دلامة:
أبا مجرمٍ ما غيَّر الله نعمةً ... على عبده حتى يغيِّرها العبد
أبا مجرمٍ خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الورد
خطبة المنصور بعد قتل أبي مسلم
حدثنا محمد بن يحيى الصولي بإسناد لم يحضرني في هذا الوقت ذكره لخبر المنصور وقتله أبا مسلم، ثمَّ حدثنا أيضاً بإسناد هذه صفته قال: خطب لمنصور الناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس لا تخرجوا من أنس لطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء لحقّ. إن أبا مسلم أحسن مبتدياً وأساء معقباً. وأخذ من الناس بنا أكثر مما عطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيَّته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله، وعنَّفنا في إمهاله. وما زال ينقض بيعته ويحفر ذمته حتى أحلَّ الله لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه في غيره، ولم يمنعنا الحقُّ له من إمضاء الحقِّ فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني في النعمان:
فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرَّشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبةً ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
ثم نزل:
خطبة أخرى للمنصور بعد قتل أبي مسلم

حدثنا الصولي قال، حدثنا الغلابي قال، حدثنا يعقوب بن جعفر عن أبيه قال: خطب الناس المنصور بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس لا تنفّروا أطراف النعمة بقلّة الشكر فتحلَّ بكم النقمة، ولا تسرُّوا غشَّ الأئمة، فإن أحداً لا يسرُّ منكراً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره. وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقَّنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميعص أوطأنا أم رأسه خبيء هذا الغمد. وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا وأضمر غشَّاً لنا فقد اباحنا دمه، ثم نكث وغدر، وكفر وفجر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره.
كتاب من أبي مسلم إلى المنصور
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال، حدثنا المغيرة بن محمد قال، حدثني محمد بن عبد الوهاب قال، حدثني علي بن بن المغاني قال: كتب أبو مسلم إلى المنصور حين استوحش منه: أما بعد فقد كنت اتخذت أخاك إماماً، وجعلته على الدين دليلاً لقرابته والوصية التي زعم أنها صارت إليه، فأوطأني عشوة الضلالة، وأوهقني في ربقة الفتنة، وأمرني أن آخذ بالظنّة وأقتل على التهمة ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرماتٍ حكم الله بصيانتها،، وسفكت دماءً فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته منه في غير محلّه. فإن يعف الله عني فبفضلٍ منه، وإن يعاقب فبما كسبت يداي، وما الله بظلام للعبيد.
ثم أنساه الله تعالى هذا حتى جاءه حتف أنفه فقتله، ثم صعد المنبر فذكر مثل المتقدم فيما ذكرناه.

معنى حتف أنفه
قال القاضي: قول هذا القائل: " حتى جاءه حتف أنفه " ينبغي أن يكون على قول أهل العلم خطأ من قائله، وذلك أنهم ذكروا أنه يقال لمن لم يقتل ومات على فراشه: " مات حتف أنفه، ومات حتف أنفيه " . وذكر بعض المتقدمين في علم اللغة وأهل المعرفة بالعربية أن هذا مما أتى في ألفاظ معدودة تكلَّم بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يجدوا سابقاً إليها غيره، وأبو مسلم على هذا لم يأته حتف أنفه، وإنما كان بنسيانه عظيم جنايته على نفسه وتعرضه لما لها قبل له به وطمعه في الأمن مما الخوف منه أولى به، فتوجه إلى جبار من الملوك قد وتره، وأسرف في خطابه الذي كاتبه به، مع ما كان منه مما اضطغنه هذا الملك عليه، واسترسل في إتيان حضرته، وأضاع وجه الحزم، واستأنس للخصم، وسلَّم عدَّته التي كان يحمي بها نفسه إلى من أتى عليها وفجعه بها، فقتله أفظع قتلة. فكيف يقال فيه جاءه حتف أنفه مع ما بيَّنَّاه من معنى هذه الكلمة واختصاصها بما تختصُّ به. وبيِّن أن قولهم " مات حتف أنفه " مخالفٌ في المعنى قولهم " قتل " قول السمأل بن عادياء:
وما مات منا سيّدٌ حتف أنفه ... ولا طلَّ منا حيث كان قتيل
وهذا في دلالته على الفصل بمنزلة قول العامة: " مات فلان على فراشه " ليفصلوه ممن قتل. ولو كان هذا القائل في هذا الموضع قال " حتى جاءه حتفه أو منيته، أو حتف نفسه " ، أو ما أشبه هذا من الألفاظ المنبئة عن هذا المعنى، لوصل إليه بغيته وأصاب في العبارة عما قصد له، وسلم من تخطئة أهل العلم له.
المهدي يستدعي مولى فائد ليغنيه صوتاً معيناً
حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا ابن أبي طاهر قال، حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال، حدثني الربيع بن الفضل قال: أمرني أمير المؤمنين المهديُّ بالتقدُّم إلى خليفة العامل على الباب أن يكتب إلى صاحبه كتاباً عن نفسه في إشخاص أبي سعيد مولى فائد، فلم يك شيء حتّى وافى ابو سعيد فأدخله خليفة العامل عليَّ. فتوهّمت عند نظري إليه أنّه قاضي الحرمين، فدخلت من ساعتي إلى أمير المؤمنين وأعلمته، فأمرني بصرف الناس وإدخاله. قال: فقرّب أمير المؤمنين مجلسه وأحفى سؤاله ثم قال له: غنني أبا سعيد:
لقد طفت سبعاً قلت لما قضيتها ... ألا ليت سعيي لا عليَّ ولا ليا
وإنّ الّذي يبغي رضاي بذكرها ... لأكرم من أهلي عليَّ وماليا
فقال: وأغنّيك أحسن منه يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك. قال: أنت وذاك، فغنّاه:
قدم الطويل فأشرقت واستبشرت ... أرض الحجاز وبان في الأسحار
غيث الحيا وضياء كلِّ ملمّة ... سهل القياد ومألف الزوّار

قال القاضي: فأجاده وأحسنه، غير أن المهدي قال: هذا حسن ولكن غنني " لقد طفت سبعاً " قال له: وأحسن منه، جعلني الله فداك. قال له: أنت وذاك، فغناه:
إن هذا الطويل من آل حفصٍ ... نشر الجود بعدما كان ماتا
وبنى المجد مشبهاً لأبيه ... مثل ما يشبه النبات النباتا
قال القاضي: هكذا رواه، وأنشر أفصح. فأحسنه وأجاده، فقال المهدي: ويحك يا أبا سعيد، ما تركت في إحسانٍ مزيداً ولكن غنّني: " لقد طفت سبعاً " فغنّاه:
إنَّ الطويل من آل حفصٍ فاعملوا ... ساد الحضور وساد في الأسفار
قال، فقال له المهدي: أنت تحسن يا أبا سعيد، ولكن ليس تغنيني الّذي أشتهي. فقال له الفضل منتهراً، غنِّ أمير المؤمنين ما يأمرك به. فقال أبو سعيد: يا أمير المؤمنين لا والذي أكرمك بخلافته ما لي إلى ذلك سبيل. قال: وكيف؟ قال: لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وكان في يده شيء، فأهوى إليّ ليضربني به وهو يقول: لقد طفت سبعاً، ماذا صنعت يا بني؟ فقلت: اعف عنّي، فوباعثك بالحقِّ لا غنَّيت هذا الصوت أبداً. قال: فردَّه عني وقال: عفا الله عنك. فرأيت المهدي يبكي وتغلبه دموعه وهو يكفُّها، ثمّ وصله وصرفه.

عرار رسول الحجاج إلى عبد الملك
حدّثنا عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي سعيد وأبو بكر البزاز قالا، حدثنا أبو العيناء قال، حدثنا الأصمعي قال: كتب الحجاج إلى عبد الملك كتاباً ووجَّه به مع رسوله. فجعل عبد الملك يقرأ الكتاب ويستنشي الخبر من الرسول فيجد شرحه أشفى من كتاب الحجاج، وكان أسود، فأنشأ عبد الملك يقول:
وإن عراراً إن يكن غير واضحٍ ... فإني أحبّ الجون ذا المنكب العمم
فقال الرسول: أنا عرار يا أمير المؤمنين، وأبي قال فيَّ هذا الشعر،فأعجب بذلك عبد الملك.
معاوية يعيب أهل اليمن فيعيب اليمني قوم معاوية
حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد الكلبي قال، حدثنا الكلابي قال، حدثنا العباس بن بكار قال، حدّثنا عامر بن عبد الله عن أبي الزناد قال، قال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أجهل قومك حيث قالوا: " ربَّنا باعد بين أسفارنا " سبأ:19 " وحيث ملكوا أمرهم امرأة. فقال: أجهل منهم قومك يا أمير المؤمنين قالوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء " الآية " الأنفال:32 " ألا قالوا: " اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له.
تم المجلس بحمد الله وحسن توفيقه.
المجلس المائة وبه تمام المجالس
زكاة الرأس
حدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار قال، حدثني جعفر بن محمد بن كزال البزازقال، حدّثنا عبد الله بن يحيى يعني المروزي قال، حدّثنا إسماعيل بن يحيى يعني ابن عبد الله التيمي عن شعبة عن الحكم عن الشعبي قال، قلت لابن عباس: ما سنّه الفطرة فقال: سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم جبريل عليه السّلام فقال: يا جبريل إنّ أمّتي يكذبون الأمم يوم القيامة فأخاف أن يردوا عليّ يوم القيامة ولم يتمَّ صومهم، فقال جبريل: مرهم فليعطوا كلَّ رجل منهم عن نفسه نصف صاع من برٍّ يكون كفَّارة لذنوبهم في صومهم حتّى تعتق رقابهم من النار. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: هي زكاة الرأس نجاةً من النار. قال ابن عباس: فكانت هذه أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الدنيا وما فيها . قال ابن مخلد: هذا حديث منكر ولكن فيه ترغيب، واسأل الله السلامة، وإسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي رجل ضعيف وأبوه أيضاً.
هل ضعف الراوي يجعل الحديث ضعيفا
ً
قال القاضي: الذي ذكره ابن مخلد من تضعيف إسماعيل بن يحيى راوي هذا الحديث على ما ذكر عند أهل صناعة الحديث. وكثير من العامّة ومن لا نظر له من النقلة يظن أنَّ ما ضعف راويه فهو باطلٌ في نفسه مقطوعٌ على إنكاره من اصله، وهذا جهلٌ ممّن ذهب إليه، وذلك أن راوياً معروفاً بالكذب في رواياته لو روى خبراً انفرد به مما يمكن أن يكون حقّاً وأن يكون باطلاً لوجب التوقف عن الحكم بصحته والعمل بما تضمّنه، ولم يجز القطع على تكذيب راويه والحكم بتكذيب ما رواه.
مبلغ زكاة الفطر

فأمّا تقدير ما يخرج من زكاة الفطر من البر بأنّه نصف صاع فقد روي هذا المقدار عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات متواترة وبأسانيد متظاهرة، وهو القول المستفيض في الصحاة والتابعين وفقهاء السّلف من المسلمين، وإليه يذهب أئمة الفقهاء العراقيين وغيرهم من المفتين، وبه نقول. وكانت طائفة كبيرة العدد ترى أن ما يخرج في صدقة البرّ بمنزلة ما يخرج فيها من التمر، وممن ذهب إلى هذا مالكٌ والشافعيّ، الّذي يختار إخراج صاع ممن وجد سعةً من غير أن توجب عليه أكثر من ذلك. وقد بيّنا ما يجب إخراجه في هذه الصدقة من أنواع الأقوات، وذكرنا اختلاف الناس في ذلك والاحتجاج لكلّ ذي مذهب فيه وعليه في مواضعه من كتبنا في الفقه مشروحاً ملخّصاً.

معنى بيت يفسره الأصمعي
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، أخبرنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي أن رجلاً وقف عليه فسأله عن معنى هذا البيت:
وماذا عليها من قلوصٍ تمرَّغت ... بعكمين أو ألقتهما بالصحاصح
فقال له عمي: هذا الرجل كان مفرداً، وكانت عنده امرأة فطلَّقها ونكح أخرى، فلقيت المرأة الأولى صاحباً للرجل فقالت: ما فعلت صاحبة فلان؟ قال: هي كما يحبّه، فقالت: كلاّ لقد تمرّغت بعكمين أي ساء خلقها عليه وكرهته، فبلغ ذلك الرجل ، وكان اسمه المرأة الأولى أسماء، فقال:
نعرَّض أسماء الركاب عشيّةً ... تسائل عن ضغن النساء النواكح
وماذا عليها من قلوصٍ تمرَّغت ... بعكمين أو ألقتهما بالصحاصح
وهذا مثلٌ، وليس هناك قلوصٌ ولا عكمان.
مصير مسافر بن عمرو
وحدثنا ابن دريد قال، أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن هشام بن محمد قال: كان مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس من فتيان قريش جمالاً وسخاءً وشعراً. فعشق هند بنت عتبة حتّى شهر أمرهما، فاستحيا وخرج إلى الحيرة ليسلوها. فنادم عمرو بن هند، وكان له مكرماً؛ ثم إن أبا سفيان بن حرب تزوَّج هنداً في غيبة مسافر هذه. وخرج أب سفيان إلى الحيرة تاجراً، فلقي مسافر بن أبي عمرو فسأله عن مكة وأخبار قريش، فخبره من ذلك ثم قال: وإنّي تزوّجت هند ابنة عتبة. فأسف مسافر من ذلك ومرض حتّى سقي بطنه، وقال:
ألا إنّ هنداً أصبحت منك محرما ... وأصبحت من أدنى حموّتها حما
وأصبحت كالمسلوب جفن سلاحه ... يقلِّب بالكفّين قوساً وأسهما
فدعا عمرو بن هند الأطباء فسألهم عن حاله فقالوا: ليس له دواء إلاّ الكيّ، فقال له: ما ترى؟ قال: افعل. فدعا له طبيباً من العباد فأحمى مكاويه حتى صارت كالنار، ثم قال: أمسكوه لي، فقال له مسافر: لست أحتاج إلى ذلك.
فجعل يضع عليه المكاوي، فلمّا رأى الطبيب صبره هاله ذلك، فقال مسافر: قد يضرط العير والمكواة في النار، فأرسلها مثلاً. قال: فلم يغنه ذلك شيئاً.
فخرج يريد مكة فأدركه الموت بزبالة، فدفن بها ونعي إلى أهل مكة، وكان أبو طالب ابن عبد المطلب له نديماً، فقال يرثيه:
ليت شعري مسار بن أبي عم ... روٍ وليت يقولها المحزون
كيف كانت مرارة الموت في في ... ك وماذا بعد الممات يكون
رجع الوفد سالمين جم يعاً ... وخليلي في مرمسٍ مدفون
ميت صدقٍ على هبالة قد حا ... لت فيافٍ من دونه وحزون
مروةٌ تدفع الخصوم بأيدٍ ... وبوجهٍ يزينه العرنين
بورك الميّت الغريب كما بور ... ك نضح الرمَّان والزيتون
الرمان والزيتون

قال القاضي: والمشهور من الرواية في هذا البيت " كما بورك نضر الرمان والزيتون " ، وذكر الرّمان والزيتون لتقدّمهما في أنواعهما وعظم منافعهما وسعة الانتفاع بأصولهما وفروعهما. وورق هاتين الشجرتين من أقوى الأشياء اشتباهاً وكلُّ واحدٍ منهما كأنه صاحبه، وبين ثمرتيهما من الاختلاف والتفاوت ما لا يخيل، وذلك من بديع حكمة الله تعالى وإتقان صنعته ولطيف قدرته. وقد قال الله حجلّ ثناؤه: " وهو الّذي أنزل من السَّماء ماءً فأخرجنا به نبات كلِّ شيءٍ فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حبّاً متراكباً ومن النَّخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ وجنَّاتٍ من أعنابٍ والزَّيتون والرَّمان متشابهاً وغير متشابهٍ " " النعام:99 " . فهو مشتبه في ورقه غير متشابه في أنواعه وطعومه وصورة ثمرته، فسبحان الحكيم في تدبيره، المحسن في تقديره، المنعم على خلقه، والنّاظر لهم بسبوغ رزقه.

تمام الخبر السابق
رجعنا إلى الخبر: قال هشام بن محمد الكلبي، قال الشرقي بن القطامي: البيتان الأوّلان لهشام بن المغيرة المخزومي، وكانت عنده أسماء بنت مخربة النهشليّة، فولدت له أبا جهل والحارث، فغضب عليها في أمرٍ من الأمور فجعلها كظهر أمّه، وهو أول ظهارٍ كان في العرب، فجعلته قريش طلاقاً.
فأرادت أسماء الرحلة إلى أهلها، فقال لها هشام: أين الموعد؟ فقالت: الموسم، فقال لها ابناها أبو جهل والحارث أقيمي معنا، فأقامت. فقال لها المغيرة: لأزوجنّك غلاماً ليس بدون ابني هشام، فزوَّجها ابنه أب ربيعة، فولدت له عبد الله وعياشاً، فذلك قول هشام بن المغيرة:
ألا زعمت أسماء أن سوف نلتقي ... أحاديث طسمٍ إنّما أنت حالم
وقال: ألا أصبحت أسماء حجراً محرّماً " البيتين الأولين " .
وفود أم سنان المذحجية على معاوية
حدثنا الحسين بن أحمد بن محمد سعيد الكلبي قال، حدثنا الغلابي قال، حدثنا العباس بن بكار قال، حدثنا عبد الله بن سليمان المديني عن أبيه عن سعد بن حذافة قال: حبس مروان بن الحكم غلاماً من بني ليث في جناية جناها بالمدينة، فأتته جدة الغلام أمُّ أبيه، وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية، فكلمته في الغلام فأغلظ لها وزبرها. فخرجت إلى معاوية واستأذنت عليه، فأذن لها، فلمّا جلست قال: يا بنت خيثمة، ما أقدمك أرضي وقد عهدتك تشنأين قربي، وتحضين عليّ عدوّي. قالت: يا أمير المؤمنين، إن لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة وأعلاماً ظاهرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع سنن آبائه لأنت. قال: صدقت، نحن كذلك، فكيف قولك:
عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد ... واللّيل يصدر بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مقام فشمرا ... إنّ العدوّ لآل أحمد يقصد
هذا عليٌّ كالهلال تحفّه ... وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائق وابن عمِّ محمّدٍ ... وكفى بذلك والعدوُّ يهدّد
ما زال مذ عرف الحروب مظفَّراً ... والنّصر فوق لوائه ما يفقد
قالت: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وإنا لنمطع بك خلفاً. قال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة:
إما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحقِّ تعرف هادياً مهديّا
فاذهب عليك السلام ربِّك ما دعت ... فوق الغصون حمامةٌ قمريّا
قد كنت بعد محمّد خلفاً لنا ... أوصى إليك بنا فكنت وفيّا
فاليوم لا خلفٌ نؤمّل بعده ... هيهات نمدح بعده إنسيّا
قالت: يا أمير ، لسانٌ نطق، وقولٌ صدق، ولئن تحقّق فيك ما ظننا فحظّك أوفر، والله ما أورثك الشناءة في قلوب المسلمين إلاّ هؤلاء، فادحض مقالتهم، وأبعد منزلهم، فإنّك إن فعلت ازددت بذلك من الله قرباً، ومن المسلمين حبّاً. قال: إنّك لتقولين ذلك؟ قالت: سبحان الله، والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا.

كان والله عليّ أحبَّ إلينا منك إذ كان حياً، وأنت أحبُّ الناس إلينا من غيرك إذ أنت باق. قال: فمن شكواك؟ قالت: مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققت ذلك عليهما؟ قالت: بحسن حلمك، وكرم عفوك. قال: وإنّهما ليطمعان في ذلك؟ قالت: هما والله لك من الرأي على مثل ما كنت عليه لعثمان. قال: والله لقد قاربت فما حاجتك؟ قالت: إن مروان بن الحكم تبّنك بالمدينة تبنُّك من لا يريد البراح منها، لا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنّة، يتتبع عثرات المسلمين، حبس ابني فأتيته، فقال: كيت وكيت، فألقمته أخشن من الحجر، وألعقته أمرَّ من الصاب. " قال أبو عبد الله: الصاب الحضض " .
قال القاضي: الحظظ بالظاء وهو معروف. قال أبو ذويب الهذلي:
نام الخليّ وبتّ الليل مشتجراً ... كأن عينيك فيها الصاب مذبوح
مذبوح مشقوق، والذبح الشق، قال الشاعر:
كأن بين فكّها والفكِّ ... فأرة مسكٍ ذبحت في سكِّ

رجع الخبر
ثم رجعت إلى نفسي بالملامة، وأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظراً وعليه معدياً. قال: صدقت لا أسألك عن ذنبه، ولا أسألك القيام بحجته؛ اكتبوا لها بإخراجه. قالت: يا أمير المؤمنين، وأنّى لي بالرجعة وقد نفد زادي وكلَّت راحلتي؟ فأمر لها براحلة موطأة وخمسة آلاف درهم.
عروة يشكو خال هشام إلى هشام
حدثنا أبو النضر القيلي قال، حدّثنا محمد بن زكريا الغلابي قال، حدّثنا عبيد الله بن محمد عن أبيه، قال الغلابي: وحدثنا العتبي عن أبيه قالا: دخل عبد الله بن عروة بن الزبير " قال ابن عائشة: وأمّه ابنة المغيرة بن شعبة " على هشام بن عبد الملك، وقد كان إبراهيم بن هشام أضرَّ به وهو على المدينة. فقال له عبد الله: يا أمير المؤمنين، إنّك قد ولّيت خالك ما بين المدينة إلى عدن فلم يمنعه كثير ما في يده من قليل ما في أيدينا إن نازعته نفسه اختلاس ما في اختلاسه هتكنا، فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تصل رحماً بقطيعة أخرى، فو الله ما سخّى بأنفسنا عن الأموات إلاّ ما كفّ وجوه الأحياء، ولأن نموت مرفوعين أحبُّ إلينا من أن نعيش مخفوضين. فقال هشام لعبد الله: إنّه لا سلطان لخالي عليك بعد يومك هذا. فقال له عبد الله: فإن قال نقول وإن مدَّ يده مدننا بأيدينا؟ قال: نعم. فقال عبد الله لأخيه يحيى قل، فجثا بين يديه ثم قال:
إنا وإخواناً لنا قد تكلموا ... حديثاً على أمر الضلاة والهدى
يقولون كنّا سادةً في نديِّنا ... وما ذاكم مرّ الحديث ولا حلا
قعوداً بأبواب الفجاج وخيلنا ... تساقى كؤوس الموت تدعس بالقنا
فلما أتاهم فيئهم برماحنا ... تكلّم مكفيُّ بعيبٍ لمن كفى
فضحك هشام هشام وقال له: أحسنت، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وقال لكاتبه: اكتب إلى إبراهيم بن هشام يحسن إليه ويرفعه ففعل.
أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدّثنا إسحاق بن محمد بن أقبان النخعي قال: أنشدني لمروان بن أبي حفصة في ابن أبي دواد لمّا نالته العلّة الباردة:
لسان أحمد سيفٌ مسَّه طبعٌ ... من علّةٍ فجلاها عنه جاليها
ما ضرَّ أحمد باقي علّةٍ درست ... والله يذهب عنه رسم باقيها
موسى بن عمران لم ينقص نبوَّته ... ضعف اللّسان به قد كان يمضيها
قد كان موسى على علاَّت منطقه ... رسائل الله تأتيه يؤدّيها
لقمان وزوجته التي تخونه
حدثنا محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري قال، حدّثنا الحسن بن عليل العنزي قال، حدَّثنا علي بن الصبّاح قال، حدثنا ابو البدر هشام بن محمد الكلبي قال: كان لقمان بن عاد بن عاديا، وكان منبني صيدى بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح رجلاً غيوراً وكان لا يتزوّج امرأة إلاّ فجرت، فتزوّج جاريةً صغيرة لا تدري ما الرجال، وبنى لها بيتاً في رأس جبل،وجعل له خطافاً، وكان يصعد إليه وينزل منه بالسلاسل، فإ ذا تنحّى عنه نحَّى السلاسل. فبصر بها غلامٌ من عاد فعشقها فقال لأهله: لئن لم تجمعوا بيني وبين امرأة لقمان بن عاد لأجابنَّ عليكم حرباً ترقّص أشياخكم.

قالوا: كيف الوصول إليها؟ قال: بأن تجعلوني بين سيوفٍ تودعونها لقمان إلى أجل ثم تستردُّونها منه حين يحين ذلك. فجعلوه بين سيوفٍ وجاءوا بها لقمان فأوعوه إيّاها معها، فإذا جاء لقمان توارى. فلمّا انقضى الأجل جاء أهله يطلبون السيوف فأعطاهم إياها وهو فيها. ثم إن لقمان كان ذات يوم جالساً في ذلك الموضع على سريرٍ له مع امرأته، فرفع رأسه فإذا تخامةٌ تنوس في السقف، فقال لها: ما هذه؟ قالت: منّي.
قال أبو بكر: النوس حركة الشيء المتدلي.
قال: فتنخَّمي ففعلت فلم تصنع شيئاً. قال: يا ويلاه، السيوف دهتني.
ثم احتملها فألقاها من ذلك الموضع فقتلها. فنزل غضبان شديد الغضب فلقيته ابنته صحر فقالت: ما لي أراك يا أبة شديد الغضب؟ قال: وأنت أيضاً من النساء، فأخذ حجراً فضرب رأسها فقتلها. فضربت بها العرب المثل فقالوا: ما أذنبت إلا ذنب صحر، ويضربونه لمن يعاقب ويؤاخذ ولا ذنب له. وفي ذلك يقول خفاف بن ندبة للعباس بن مرداس السلمي:
وعبّاس يدبُّ لي المنايا ... وما أذنبت إلاّ ذنب صحر

لقمان ولقيم
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، أخبرنا أحمد بن سعيد أن لقمان بن عاد خاطر لقيما ابن أخته في مائةٍ من الإبل على السّبق إلى موضع أيهما سبق إليه أخذها. فسبقه لقيم واستاق الإبل، فقدم بها ونحر وأهدى وطبخ وأطعم. فأتى لقمان ابنته صحر، فقدمت إليه لحماً مطبوخاً. فقال: من أين هذا اللّحم؟ قالت: قدم لقيم بالإبل فنحر وأهدى وأطعم، فهذا اللحم من عنده. فتأسّف وغضب وضرب برأسها وقتلها، فضربت العرب في ذلك المثل، وفيه يقول أبو دهبل الجمحي، قال أحمد بن سعيد: أنشدناه الزبير بن بكار له، قال ابن الأنباري: وأنشدناه أحمد بن يحيى أيضاً عن الزبير بن بكار لأبي دهبل الجمحي:
اذهبي بالله فاستسمعي ... خبّريه بالذي فعلا
واسأليه فيم يصرمنا ... قد وصلناه كما وصلا
وتجنَّى حين لنت له ... ذنب صحرٍ يبتغي العللا
قال القاضي: ولقمان بن عاد ولقيم معروفان مشهوران عند العرب، ولهما أخبار كثيرة، والعرب تكثر في كلامها وأشعارها ذكرهما، وتضرب أمثالاً كثيرة بهما، وقد قال بعض من هجا بني تميم.
إذا ما مات ميتٌ من تميم ... فسرَّك أن يعيش فجئ بزاد
بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفَّف في البجاد
تراه يطوّف الآفاق طرّاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ولقيم هو ابن لقمان من أخته، ولقمان أبوه وخاله، وذلك فيما ذكر أهل السّير قالوا: كان لأخت لقمان زوجٌ محمق يولدها الحمقى. يقال في هذا المعنى رجلٌ محمقٌ وامرأة محمقة، كما قال الشاعر:
لست أبالي أن أكون محمقه ... إذا رأيت خصيةً معلَّقه
فقالت لامرأة أخيها لقمان: هبي لي ليلةً من بعل، قالت: وكيف السبيل إلى ذلك وفيه تلفي وتلفك؟!قالت: السبيل إلى ذلك أن تسقيه الخمر، فإذا كان يثمل منها رفعت المصباح من البيت وأخليت لي فراشه، ففعلت ذلك.
وأوى لقمان إلى فراشه فوقع عليها وهو يظنّ أنّها امرأته، لكنه لم يخف عليه حتّى قال في سكره، حين باشرها: هذا هنٌ جديد. فاشتملت على لقيمٍ من أخيها، فأتت به أدهى من لقمان وأفضل، وفي ذلك يقول النمر بن تولب:
لقيم ابن لقيمان من أخته ... فكان ابن أختٍ له وابنما
عشية حمِّق فاستضحكت ... إليه فغرَّ بها مظلما
فأحبلها رجلٌ نابه ... فجاءت به رجلاً محكما
هل كان لقمان مجوسيا
ً
قال القاضي: قد حكي أن فائلاً ذكر أن لقمان بن عاد كان مجوسياً، وإنّما توهّم هذا لاستيلاده أخته، وليس الأمر على ما توهّمه، ولكن السبب فيه ما ذكرنا. وقد ذكر الفراء في قصة أصحاب الكهف في قوله تعالى: " أيّها أزكى طعاماً " " الكهف6:19 " أنّ الذين كانوا بينهم كانوا مجوساً، وذكر أنّ من لم يكن من أهل الكتاب يقال له مجوسي. وهذا خطأ من قائله لأنَّ المجوسيّة ملّةّ مخصوصة متميّزة عن غيرها كاليهودية والنصرانية.
وهذا آخر ما يسَّر اللَّه تعالى إملاءه من كتاب الجليس الصالح الكافي

والأنيس النّاصح الشَّافي، وللَّه سبحانه وتعالى الحمد والمنَّة وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوَّة باللَّه العليّ العظيم.
تمّ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8