كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا

حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائقي، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، قال: حدثنا يحيى بن عباد، قال: حدثنا خالد بن أبي خالد أبو العلاء، قال: حدثنا حصين وليس ابن عبد الرحمن السلمي، قال: بينما سائلٌ يسأل وابن عباس في الملأ جالس، فقال له ابن عباس: يا سائل، فقال: لبيك، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصلي الخمس وتصوم رمضان؟ قال: نعم، قال: فحق علينا أن نصلك قال: فنزع ثوباً كان عليه وكساه إياه، وقال عند ذلك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما مسلمٍ كسا مسلماً ثوباً كان في حفظ الله تعالى ما بقيت منه رقعة " .

تعليق المؤلف
قال القاضي: وفي هذا الحديث ما يدعو إلى فعل الخير، ويحض عليه، ويرغب في اصطناع المعروف، ويندب إليه، ورحمة الله ورضوانه على ابن عباس ترجمان التنزيل، وحبر التأويل، وبحر العلوم والحكم، والجود والكرم، فلقت أجيبت فيه دعوة ابن عمه صلى الله عليه وسلم، نبي الرحمة إذ دعا له بالفقه والحكمة، فأقبس علمه لقاصديه من الأمة، وأفاض فيهم مكارمه، وأفادهم غرائب علم الدين ومسائله.
عينٌ للحجاج يوفق في مهمته
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن الأصمعي، عن يونس، عن أبي عمرو، قال: بعث الحجاج - إذ كان يقاتل شبيباً والحرورية بالعراق - إلى صاحب أهل دمشق، فلما أتاه، قال له: اطلب لي من أصحابك رجلاً جليداً بئيساً ذا عقل ورأي، فقال: أصلح الله الأمير، وما أحسبني إلا وقد أصبته، إن في أصحابي رجلاً من حكم بن سعد يقال له: الجراخ جلد صحيح العقل يعد ذلك من نفسه، يعني البأس، قال: فابعث إليه فلما رآه الحجاج قال له: ادن يا طويل، فلم يزل يقول له ذلك ويشير إليه بيده حتى لصق به أو كاد، ثم قال: اقعد، فقعد تحك ركبته ركبته، وليس عنده غيره، ثم قال له: قم الساعة إلى فرسك فاحسسه وأعلفه وأصلح منه، ثم خذ سرجه ولجامه، وسلاحك فضعه عند وتد فرسك، ثم ارقب أصحابك حتى إذا أخذوا مضاجعهم ونوموا فاشدد على فرسك سرجه ولجامه، واصبب عليك سلاحك وخذ رمحك واخرج حتى تأتي إلى عسكر أعداء الله تعالى تعاينهم وتنظر إلى حالاتهم وما هم عليه، ثم تصبحني غداً، ولا تحدثن شيئاً حتى تنصرف، فإذا انصرفت إلى أصحابك فلا تخبرهم بما عهدته إليك.
فنهض الجراح، فلما أتى أصحابه وهم متشوفون له سألوه عن أمره، فقال: سألني الأمير عن أمر أهل دمشق، واعتل لهم به، ثم فعل ما أمره به الحجاج، ثم خرج من العسكر يريد عسكر القوم، فلما كان في المنصف من العسكرين لقى رجلاً في مثل حاله، فعلم الجراح أنه عين العدو يريد مثل الذي خرج له فتواقفا وتساءلا، ثم شد عليه الجراح فقتله، وأوثق فرسه برحله، ثم نفذ إلى العسكر الذي فيه القوم فعاينه، وعرف من حاله وحال أهله ما أمر به، ثم انصرف إلى القتيل فاحتز رأسه وأخذ سلاحه وجنب فرسه، وعلق الرأس في عنق فرسه، ثم أقبل.
وصلى الحجاج صلاة الصبح وقعد في مجلسه، وأمر بالأستار فرفعت وهو متشوف منتظرٌ الجراح، وجعل يرمي بطرفه إلى الناحية التي يظن أنه يقبل منها، فبينا هو كذلك إذ أقبل الجراح يجنب الفرس والرأس منوطٌ في لبان فأقبل الحجاج يقول ويقلب كفيه: فعلت ما أمرتك به؟ قال: نعم، وما لم تأمرني، حتى وقف بين يديه وسلم، ثم نزل وحدث الحجاج بما صنع وما عاين من القوم، فلما فرغ من حديثه زبره الحجاج وانتهره، وقال له الحجاج: انصرف فانصرف، فبينا هو في رحله إذ أقبل فراشون يسألون عن الجراح، معهم رواق وفرشٌ وجارية وكسوة، فدلوا على رحله، فلم يكلموه حتى ضربوا له الرواق وفرشوا له فرشاً واقعدوا فيه الجارية، ثم أتوه فقالوا: انهض إلى صلة الأمير وكرامته، فلم يزل الجراح بعدها يعلو ويرتفع حتى ولي أرمينية فاستشهد، قتلته الخزر.
قال أبو حاتم: الجراح مولى مسكان أبي هانىء أي أبي نواس، وذلك عنى أبو نواس بقوله حيث يقول:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
معنى البئيس واللبان
قال القاضي: في هذا الخبر: فاطلب لي من أصحابك رجلاً جليداً بئيساً، البئيس: الشجاع الشديد في الحرب، وهو من البأس، والبأس: الحرب قال أبو كبير الهذلي في البئيس:
ومعي لبوسٌ للبئيس كأنها ... قرنٌ بجبهة ذي نعاج مجفل

من قول الله عز وجل: " بعذابٍ بئيسٍ " معناه: شديد، وقول الراوي في هذا الخبر: والرأس منوطٌ في لبان فرسه، اللبان: الصدر قال عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئرٍ في لبان الأدهم
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرةٍ وتحمحم
وأما اللبان بالضم فهو الكندر، واللبانة: الحاجة، قال لبيد:
قض اللبانة لا أبالك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيب
فأما اللبان بالكسر فهو ما يدر به ثدي النساء، ويقال له: منهن اللبان ومن غيرهن من إناث الحيوان: لبن، قال الأعشى:
رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ... بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق
وقال بعض العرب:
دعتني أخاها أم عمروٍ ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
وقد كثر استعمال الناس لفظ اللبن في اللبان، واستفاض في الآثار، وكلام فقهاء السلف والخلف ومنطق الخاصة والعامة، وأنكره بعض أهل اللغة.

الحجاج يكثر الخير في البيوت
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: أخبرنا علي بن الحسن، قال: أخبرني إبراهيم بن محمد، عن الهيثم بن الربيع، قال: قال الحجاج: إني لا أرى الناس قد قلوا على موائدي فما بالهم؟ فقال له رجل من عرض الناس: أصلح الله الأمير، إنك أكثرت خير البيوت فقل غشيان الناس لطعامك، فقال: الحمد لله وبارك الله عليك، من أنت؟ قال: أنا الصلت بن قران العبدي، فأحسن إليه.
الخلفاء يغارون من أبيات جيدة قيلت في غيرهم
حدثنا أحمد بن العباس العسكري، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن موسى بن حمزة، مولى بني هاشم، قال: حدثني أحمد بن موسى بن حمزة، قال: الفضل بن يزيغ، قال: رأيت مروان بن أبي حفصة قد دخل على المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعةٍ من الشعراء وفيهم سلم الخاسر وغيره، فأنشده مديحاً، فقال: من؟ قال: شاعرك مروان بن أبي حفصة، فقال له المهدي: ألست القائل:
أقمنا باليمامة بعد معنٍ ... مقاماً لا نريد به زيالا
وقلنا أين نرحل بعد معنٍ ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
قد جئت تطلب نوالنا وقد ذهب النوال، لا شيء لك عندنا، جروا برجله. قال: فجروا برجله حتى أخرج، فلما كان في العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء - وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في ذلك الحين في كل عام مرة - قال: فمثل بين يديه وأنشده قصيدته التي يقول فيها:
طرقتك زائرةٌ فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
قادت فؤادك فاستقاد وقبلها ... قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
قال: فأنصت لها حتى إذا بلغ إلى قوله:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تدفعون مقالةً عن ربكم ... جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال آخر آيةٍ ... بتراثهم فأردتم إبطالها
يعني بني علي وبني العباس، قال: فرأيت المهدي وقد زحف من صدر مصلاه حتى صار على البساط إعجاباً بما سمع، ثم قال له: فإنها لأول مائة ألف أعطيها شاعر في خلافة بني العباس.
قال: فلم تلبث الأيام أن أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد، قال: فرأيت مروان بن أبي حفصة ماثلاً مع الشعراء، بين يدي الرشيد وقد أنشده شعراً، فقال له: من؟ قال: شاعرك مروان بن أبي حفصة، فقال له: ألست القائل البيتين اللذين له في معن اللذين أنشدهما المهدي: خذوا بيده فأخرجوه، فإنه لا شيء له عندنا، فأخرج.
فلما كان بعد ذلك بيومين تلطف حتى دخل عليه فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
لعمرك لا أنسى غداة المحصب ... إشارة سلمى بالبنان المخضب
وقد صدر الحجاج إلا أقلهم ... مصادر شتى موكباً بعد موكب
قال: فأعجبته، قال له: كم قصيدتك بيتاً؟ قال له: ستون أو سبعون بيتاً، فأمر له بعدد أبياتها ألوفاً، فكان ذلك رسم مروان حتى مات.
مزرد ينتقم لحرمانه
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا الأصمعي.

قال: كنت يوماً عند هارون أمير المؤمنين، فقدمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعي! قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: حدثني حديث مزرد أخي شماخ، فقلت: يا أمير المؤمنين! إن مزرداً كان غلاماً نهماً جشعاً، وكانت أمه تؤثر عيالها بالزاد عليه، وكان ذلك يغيظه ويغمه، فذهبت أمه يوماً في بعض حقوق أهلها وخلفت مزرداً في رحلها، فدخل الخيمة وأخذ صاعي دقيق وصاع عجوةٍ وصاع سمن، فضرب بعضه ببعض وأكله، ثم أنشأ يقول:
ولما مضت أمي تزور عيالها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع
خلطت بصاعي حنطة صاع عجوةٍ ... إلى صاع سمنٍ وسطه يتربع
ودبلت أمثال الأثافي كأنها ... رءوس نقادٍ قطعت يوم تجمع
وقلت لبطني اشبع اليوم إنه ... حمى أمنا مما تفيد وتجمع
فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبع
قال: فاستضحك هارون حتى أخذ على بطنه، واستلقى. ثم قعد، فمد يده وقال: خذوا باسم الله.

معنى النهم والنقد، والصفر والغرث
قال القاضي: قوله: كان غلاماً نهماً، يعني حريصاً على الأكل وهو كالشره والجشع، يقال: نهم ينهم نهماً فهو نهم، مثل شره يشره شرهاً ويقال أيضاً: رجل منهوم، وقد قدمنا القول في ذلك.
والنقاد: الغنم الصغار التي هي شرطٌ ليست خيرات ولا حرزات، يقال لها: نقد، كما قال الراجز:
لو كنتم شاءً لكنتم نقدا
وقول مزردٍ يخاطب بطنه: فإن كنت مصفوراً، يعني: وإن كان بك الصفر وهو داء في البطن يهيج الجوع على صاحبه، قال الشعر:
لا يغمز الساق من أين ولا نصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا عدوى ولا هامة ولا صفر " ، وكان العرب ترى أن ذلك يعدي، فتأول قوم هذا الخبر على أنه عني به هذا المعنى وذهب به آخرون إلى أنه الشهر المسمى صفراً، وإبطال ما كانت العرب تفعله في تقديمه إلى المحرم على ما كانوا يذهبون إليه في النسيء.
واستقصاء بيان هذا مرسوم في موضعه، فأما الصفر في بيت مزرد وفي البيت الذي استشهدنا به، فإنه الداء الذي وصفناه دون غيره.
وأما قوله: فإن كنت غرثاناً فإنه من الغرث، وهو الجوع، يقال: رجل غرثان أي جائع، وامرأة غرثى، مثل غضبان وغضبى، قال الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وتروي غر مكان غرثى، وقال حسان بن ثابت:
حصانٌ رزانٌ ما تزن بريبةٍ وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
رد على عتاب
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي، قال: سمعت هبة الله ابن إبراهيم بن المهدي، يقول: كتب أبي إلى بعض من عتب عليه في شيء: لو عرفت الحسن لتجنبت القبيح، ولو استحليت الحلم لاستمررت الخرق، وأنا وأنت كما قال زهير:
وذي خطلٍ في القول يحسب أنه ... مصيبٌ فلم يلمم به فهو قائله
عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو بادٍ مقاتله
وإن من إحسان الله تعالى إلينا وإساءتك إلى نفسك أنا أمسكنا عما تعلم، وقلت ما لا تعلم، وتركنا الممكن وتناولت المعجز.
أشعب يتوب عن لحم الجداء
حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بابن الشرابي، قال: حدثنا أبو العباس الرثدي، قال: أخبرنا أبو إسحاق الطلحي، قال: أخبرني أبو محمد عيسى بن عمر بن عيسى التيمي، قال:

كان زياد بن عبد الله الحارثي خال أبي العباس أمير المؤمنين والياً لأبي العباس على مكة، فحضر أشعب مائدته في أناسٍ من أهل مكة، وكانت لزياد بن عبد الله الحارثي صحفة يخص بها، فيها مضيرةٌ من لحم جديٍ، فأتى بها فأمر الغلام أن يضعها بين يدي أشعب وهو لا يدري أنها المضيرة، فأكلها اشعب، يعني أتى على ما فيها، فاستبطأ زياد بن عبد الله المضيرة، فقال: يا غلام! الصحفة التي كنت تأتيني بها، قال: قد أتيت بها - أصلحك الله - فأمرتني أن أضعها بين يدي أبي العلاء، قال: هنأ الله أبا العلاء وبارك له، فلما رفعت المائدة، قال: يا أبا العلاء - وذلك في استقبال شهر رمضان - قد حضر هذا الشهر المبارك، وقد رققت لأهل السجن لما هم فيه من الضر، ثم لانضمام الصوم عليهم، وقد رأيت أن أصيرك إليهم فتلهيهم بالنهار وتصلي بهم الليل، وكان أشعب حافظاً لكتاب الله، فقال: أو غير ذلك - أصلح الله الأمير - قال: وما هو؟ قال: أعطي الله عهداً ألا آكل مضيرة جديٍ أبداً.

أول تعرف الشعراء بأبي تمام
حدثنا محمد بن محمود الخزاعي، قال: حدثنا علي بن الجهم، قال: كان الشعراء يجتمعون في كل جمعةٍ في القبة المعروفة بهم في جامع المدينة، فيتناشدون الشعر ويعرض كل واحد منهم على أصحابه ما أحدث من القول بعد مفارقتهم في الجمعة التي قبلها.
فبينا أنا في جمعة من تلك الجمع، ودعبل وأبو الشيص وابن أبي فنن يجتمعون والناس يستمعون إنشاد بعضنا بعضاً، أبصرت شاباً في أخريات الناس جالساً في زي الأعراب وهيئتهم، فلما قطعنا الإنشاد قال لنا: قد سمعت إنشادكم منذ اليوم، فاسمعوا إنشادي، قلنا: هات، فأنشدنا:
فحواك عينٌ على نجواك يا مذل ... حتام لا ينقضي من قولك الخطل
فإن أسمج من تشكو إليه هوى ... من كان أحسن شيء عنده العذل
كأنما جاد مغناه فغيره ... دموعنا يوم بانوا وهي تنمهل
ولو ترانا وإياهم وموقفنا ... في موقف البين لاستهلالنا زجل
من حرقةٍ أطاعتها فرقةٌ أسرت ... قلباً ومن عذلٍ في نحره غزل
وقد طوى الشوق في أحشائنا بقرٌ ... عين طوتهن في أحشائها الكلل
ثم مر فيها حتى انتهى إلى قوله في مدح المعتصم:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
قال: فعقد أبو الشيص عند هذا البيت خنصره ثم مر فيها إلى آخرها، فقلنا: زدنا فأنشدنا:
دمنٌ ألم بها فقال سلامٌ ... كم جل عقد ضميره الإلمام
ثم أنشدناها إلى آخرها، وهو يمدح فيها المأمون، فاستزدناه فأنشدنا قصيدته التي أولها:
قدك اتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي
حتى انتهى إلى آخرها، فقلنا له: لمن هذا الشعر؟ فقال: لمن أنشدكموه، قلنا: ومن تكون؟ قال: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، قال أبو الشيص: تزعم أن هذا الشعر لك وتقول:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
قال: نعم، لأني سهرت في مدح ملكٍ ولم أسهر في مدح سوقة، فقربناه حتى صار معنا في موضعنا، ولم نزل نتهاداه بيننا، وجعلناه كأحدنا، واشتد إعجابنا به لدماثته وظرفه، وكرمه وحسن طبعه، وجودة شعره، وكان ذلك اليوم أول يوم عرفناه فيه، ثم تراقت حاله حتى كان من أمره ما كان.
شرح وإعراب
قال القاضي: قول أبي تمام: يا مذل، المذل، الفتور والخدر، قال الشاعر:
وإن مذلت رجلي دعوتك أشتكي ... بدعواك من مذلٍ بها فيهون
وقوله:
حتى ظننت قوافيه ستقتتل
اسكن الياء وحقها النصب لضرورة الشعر، وقد جاء مثله في كثير من العربية، ومن ذلك قول الأعشى:
فتى لو ينادي الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا
وقال رؤبة:
كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الورق
وقد قرأ بعض النحويين من القرأة حرفاً من القرآن على هذه اللغة في رواية انتهت إلينا عنه، ذلك أن أبي حدثني قال: حدثنا محمد بن معاذ بن قرة الهروي، قال: حدثنا علي بن خشرم، قال: سمعت الكسائي يقرأ: " وإني خفت الموالي من ورائي " قال:
كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الورق

والمعروف في هذا الموضع من التلاوة قراءتان، إحداهما: " وإني خفت الموالي " بمعنى: قلت الموالي، فالموالي في هذه القراءة ساكنة، وهي في موضع رفع بالفعل.
رويت هذه القراءة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وعدد من متقدمي القرأة، والقراءة الثانية: وإني خفت، من الخوف الموالي بالنصب، إذ هي مفعول بها.
وهذا باب واسع مستقصى في كتبنا المؤلفة في علوم التنزيل والتأويل، والمعروف مما نقله رواة الشعر في بيت الأعشى: فتى لو ينادي الشمس، فيه وجهان من التفسير.
أحدهما: أن يكون من الدعاء والمناداة، والمعنى: لو دعاها لأجابته مذعنةً طائعة. والآخر: أن يكون المعنى: لو جالسها في الندي والنادي، ورواه ابو العباس محمد بن يزيد النحوي: لو يباري من المباراة، وهي المعارضة، والعرب تقول: فلانٌ يباري الريح، أي يعارضها، قال طرفة:
تباري عناقاً ناجياتٍ وأتعبت ... وظيفاً وظيفاً فوق مورٍ معبد
وقول أبي تمام: قدك، معناه: حسبك، قال النابغة:
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
ومعنى: اتئب: استحيي، أربيت: زدت في الغلواء، مأخوذ من الغلو وتجاوز الحد، قال الشاعر:
إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتثبت
والسجراء بالسين المهملة جمع سجير، وهو القريب الولي، فأما الشجراء بالشين المعجمة فإنه جمع شجير، وهو البعيد والعدو.

المجلس الثالث والأربعون
الزجر عن أذى اليتيم
حدثنا الحسن بن إبراهيم بن عبد المجيد المقري، قال: حدثنا أبو يوسف الفلوسي، قال: حدثنا عمرو بن سفيان القطيغي، قال: حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن اليتيم إذا بكى اهتز عرش الرحمن عز وجل لبكائه، يقول الله تعالى: من أبكى عبدي وأنا قبضت أباه وواريته في التراب؟ فيقولون: ربنا لا علم لنا، قال: اشهدوا أن من آواه أرضيته يوم القيامة " .
تعليق المؤلف
قال القاضي: في هذا الخبر زجر عن أذى اليتيم وترغيب في التعطف عليه، والإحسان إليه، والعقول السليمة والفطن السوية، تنبئان عن حظر ظلمه، وحسن حفظه وتعهده، وما أتى عن الله عز وجل في محكم تنزيله وعلى لسان رسوله من التوصية به، والتوعد بأليم العقاب على ظلمه، كثير ظاهر، قد قامت الحجة به واستفاض العلم بصحته، في خاصة المسلمين وعامتهم، ومأموميهم وأئمتهم، فاتقى امرؤٌ ربه، وخاف مقامه، وأشفق مما هو أمامه، وتدبر قول الله عز وجل: " وليخشن الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً " فإن هذا الذي تلوناه في نظائره من التنزيل أجزل لفظٍ وأبلغ وعظ، وفي فضل المصيخ إليه، والعامل عليه، والقابل له، والقائم بالقسط فيه، أوفر حظ.
وفقنا الله وإياكم لمرضاته وأعاننا على طاعته، وعصمنا من معصيته، إنه جواد كريمٌ، رءوف رحيم.
سآكل منها ولو شققت بطنك
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: أخبرنا العتبي، عن أبيه، قال: حج معاوية رحمه الله وكان عامله على المدينة مروان، فلما ورد المدينة هيأ له مروان طعاماً فأكثر وجوده، فلما حضر الغداء جاء متطببٌ نصراني لمعاوية فوقف وجعل إذا أتى لونٌ قال: كل يا أمير المؤمنين من هذا، وإذا أتى لونٌ ظن أنه لا يوافقه، قال: لا تأكل من هذا.
فلما كان في بعض غدائهم، أقبل زنجيان مؤتزران بربطتين بيضاويين يدلحان بجفنةٍ لها أربع حلقات مترعةً حيساً، فلما رآها معاوية استشرف لها وحسر عن ذراعيه، فقال له الطبيب: أي شيءٍ تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد - والله - أن أواقع ماترى، قال: أمزق ثيابي، قال: ولو مزقت بطنك، فجعل يدبل مثل دبل البعير ويقذف في جوفه حتى إذا نهل، قال: يا مروان! ما حيسكم هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، عجوةٌ ناعمة، وإقطةٌ مزنية، وسمنةٌ جهنمية، قال: هذه - والله - الأشفية جمعت لا كما يقول هذا النصراني.
زهد بعض الصحابة وتقشفهم

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا موسى بن علي الختلي، قال: حدثنا أبو السكن زكريا بن يحيى، قال: حدثني عم أبي زحر بن حصنٌٍ، قال: حدثني عنبسة بن عمرو الوهبي، قال: مر بنا عبد الله بن مسعود ونحن بسرفٍ وهو يريد الحج، فأهدينا إليه إقطاً وسمناً ولبناً وطيراً جاءت بها الرعاة من مسيرة أربعة أيام، فقال: وددت أني في موضع هذا الطير حيث لا أرى أحداً ولا يراني، ثم جلس يأكل وجلست آكل معه، فلما فرغ من الأكل جعل يلحس الصحفة ويلعق ما فيها، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! إن هاهنا من يكفيك غسلها، فقال: إن لعق الصحاف يعدل عتق الرقاب.

عود إلى خبر معاوية وأكله من الحيس
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا موسى بن علي الختلي، قال: حدثنا أبو السكين، قال: حدثني عمي زحر بن حصن، عن جده حميد بن منهب، قال: حج معاوية وعامله على المدينة مروان، فاتخذ طعاماً فلما حضر وجلس يأكل قام نصراني على رأس معاوية وجعل يقول: كل من هذا فإنه ينفعك، ودع هذا فأنه يضرك، وأتي بعد الطعام بجفنةٍ عظيمةٍ يحملها أسودان مؤتزران بربطتين بيضاوين، مملوءة حيساً، أحسب أن كل واحدٍ منهما يحمل جفنة، فاستشرف لها معاوية فلما وضعت بين يديه جعل يدبل منها تدبيلاً، فعظم ذلك على النصراني وقال: يا أمير المؤمنين! لا تأكل منها وإلا مزقت ثيابي، قال: والله لآكلن ولو مزقت بطنك، وجعل يمعن في الأكل حتى اكتفى، ثم قال: يا مروان! ما جفنتك هذه؟ قال: عجوةٌ ناعمة، وإقطةٌ مزينة وسمنةٌ جهنمية، قال: هذه والله أشفيه كلها لا ما يقول هذا النصراني.
قال موسى: أبو السكين بن عباس خرج إلى البادية إلى شيخنا هذا زحر بن حصن فكتب منه هذه الأخبار، وكان يسميها " أخبار الأشراف " .
ابن الأنباري لا يرغب في تفسير الحيس
قال القاضي: لما ذكر ابن الأنباري الحيس في هذا الخبر وهو يمليه علينا سئل أن يفسر الحيس، فأبى فروجع، فامتنع وضحر، وكان فيما قال: لم يفسره من قلبي فأفسره أنا! فعجبت من اعتلاله في الإمتناع من تفسيره بأنه لم يفسره من قبله، والناس يحتاجون إلى تفسير من تأخر لهم ما لم يتقدمه في تفسيره من رواه قبله، وأعجب من هذا أنه أورد تفسيره في الخبر نفسه عند آخره.
قال القاضي: والحيس من مطاعم العرب المعروفة لهم المشهورة، ومنه قول الشاعر:
وإذا تكون كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بحيسٍ بعد أن أعتقها وتزوجها.
وقول الراوي في الخبر الذي رويناه عن ابن دريد: دلحان، عني به حملهما وتناولهما، وجعلهما بمنزلة الدالح الذي هو أحد من تناول الدلو عند الإستقاء، وبعده الماتح والمائح.
أول من ذكر الحيس في شعره
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا شيخ ذكره يقال له محمد بن عبد الرحمن، حدثه وذهب عني اسمه، عن ابن دأب، قال: كان ضمرة بن بكر بن عبد مناة، سيد بني كنانة، وقد ضم ولد أعمامه إليه فأغير على إبل له فخرج أهله واستنقذوها، وكان أشدهم بأساً أحمر بن الحارث بن عبد مناة، فلما ردوا الإبل على ضمرة عمل حيساً فأطعمه ابنه جندب إذ كان أحمر قد خرج، فعمد أحمر إلى سلاحه فلبسه وأخذ إبله ورحله، وقال: والله لا ساكنت ضمرة أبداً وقد عرف حسن بلائي، وهو مقبلٌ على ابنه دوني، وقال:
يا ضمر أخبرني ولست بفاعلٍ ... وأخوك صادقك الذي لا يكذب
هل في القضية أن إذا استغنيتم ... وأمنتم وأنا البعيد الأجنب
وإذا الشدائد بالمخنق مرةً ... أشجتكم فأنا الحبيب الأقرب
وإذا تكون شديدة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
عجباً لتلك قضيةً وإقامتي ... فيكم على تلك القضية أعجب
فأكون فيكم مثل عبد أبيكم ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
فقال جندب:
لنا صاع إذا كلنا خصومنا ... نطففها ونوفي للوفي
لأحمر حيسه ولنا غنانا ... كما أغنى وإن عابوا الغني
فلذا قال عبيد بن الأبرص
سنهدي إليكم أي هاتين شئتم ... ونعطيكم الصاع الذي قال جندب
المشهور من الرواية في هذا الشعر:
وإذا تكون كريهةً أدعى لها

وشديدةٌ أيضاً، وفي البيت الذي يليه:
ذاكم وجدكم الصغار بعينه ... لا أم لي............
والهوان أيضاً، وقد روي: عجبٌ لتلك قضيةً بالرفع، على أنه - أعني العجب - شيءٌ لازم، مثل قولهم: ويلٌ له، وقوله:
فتربٌ لأفواه الوشاة وجندلٌ
وقالوا: ترباً وجندلاً، وتراباً، جعلوه نائباً عن الإهانة والإذلال.
وروي: عجباً لتلك، نصباً على إضمار الفعل، بمنزله قولهم: سقياً ورعياً.
وقد روي لنا هذا الخبر - أعني خبر ضمرة - عن أبي محمد الأنباري وفي بعض ألفاظه اختلاف، ولعلنا نخرجه فيما يستقبل من مجالسنا هذه إن شاء الله.
طالبٌ مشاكس
حدثنا علي بن محمد بن كامل النخعي، قال: حدثنا علي بن جعفر الرماني، قال: حدثنا إسماعيل السدي، قال: كنت في مجلس مالك أكتب عنه، فسئل عن فريضة فيها اختلاف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاب فيها بجواب زيد بن ثابت، فقلت: فما قال فيها علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، فأومأ إلى الحجبة فلما هموا بي حاصرتهم وحاصروني فأعجزتهم، وبقيت محبرتي بكتبي بين يدي مالك، فلما أراد أن ينصرف، قال له الحجبة: ما نعمل بكتب الرجل ومحبرته، فقال: اطلبوه ولا تهيجوه بسوءٍ حتى تأتوني به، فجاءوا إلى فرفقوا بي حتى جئت معهم، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال لي: إن أهل الكوفة قوم معهم معرفة بأقدار العلماء، فأين خلفت الأدب؟ قال: قلت: إنما ذاكرتك لأستفيد، فقال: إن عليا وعبد الله لا ينكر فضلهما، وأهل بلدنا على قول زيد، وإذا كنت بين ظهراني قومٍ فلا تبؤهم بما لا يعرفون فيبدأك منهم ما تكره.
قال: ثم حججت من سنتي وقدمت الشام، فدخلت دمشق فجلست في حلقة الوليد بن مسلم، فلم اصبر أن سألته عن مسألة فأصاب، فقلت: أخطأت يا أبي العباس، فقال: تخطئني في الصواب وتلحن في الإعراب، فقلت: خفضتك كما خفضك ربك، وداخلته الإحتجاج فمال الناس إلي وتركوه، وقالوا: أهل الكوفة أهل الفقه والعلم، فخفت أن يندأني منه ما ندأني من مالك بن أنس، فإذا رجلٌ له حلمٌ ودينٌ وزعه عن الإقدام.

السفلة، وسفلة السفلة
حدثني أحمد بن محمد بن الجراح الضراب، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن أمين، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: سمعت مالك بن أنس، يقول: قال ربيعة الرأي: يا مالك! من السفلة؟ قال: من أكل بدينه، قال: فمن سفلة السفلة؟ قال: قلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه، قال: زه، صدقتني.
شهرة قاضٍ بالغلمان
حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار، قال: سمعت أبا العيناء في مجلس أبي العباس محمد بن يزيد، قال: كنت في مجلس أبي عاصم النبيل، وكان أبو بكر بن يحيى بن أكثم حاضراً فنازع غلاماً، فارتفع الصوت، فقال أبو عاصم: مهيم؟ فقالوا: هذا أبو بكر ابن يحيى بن أكثم ينازع غلاماً، فقال: إن يسرق فقد سرق أبٌ له من قبل.
وحكاية أخرى في المعنى
حدثنا محمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: قال أبو عبيد الله محمد ابن القاسم: لما عزل إسماعيل بن حماد عن البصرة، شيعوه فقالوا: عففت عن أموالنا وعن دمائنا، فقال إسماعيل: وعن أبنائكم. يعرض بيحيى بن أكثم من اللواط.
وقاضٍ تفتنه حسناء
وحدثنا الحكيمي، قال: قال أبو عبد الله: وكان الحسن بن عبد الله بن الحسن العنبري قاضياً عندنا في الفتنة، وكان عابساً كالحاً، فقدمت إليه جاريةٌ لبعض أهل البصرة تخاصم في ميراث، وكانت حسنة الوجه، فتبسم وكلمها، فقال عبد الصمد بن المعذل:
ولما سفرت عنها القناع متيمٌ ... تروح منها العنبري متيما
رأى ابن عبد الله وهو محكمٌ ... عليها، لها طرفاً عليه محكما
وكان قديماً عابس الوجه كالحاً ... فلما رأى منها السفور تبسما
فإن يصب قلب العنبري فقبلها ... صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما
مصدر فاعل الفعال والمفاعلة
قال القاضي: قول أبي العيناء في الحكاية الأولى من حكايتيه هاتين في قول إسماعيل ما قاله يعرض بيحيى بن أكثم باللواط هكذا قال:

فاللواط مصدر لاوط يلاوط ومصدره لواطٌ وملاوطة في القياس، مثل زانى يزاني مزاناةً وزناءً، وقاتل يقاتل قتالاً ومقاتلةً، في نظائر ذلك من باب الفعال والمفاعلة، وأتى بالمصدر فيه صحيحاً بالواو لصحة فعله، وذلك لاوط يلاوط ولو كان مصدر لا يلوط لأعل إعلال فعله فقيل لاط لياطاً، وقلبت واوه ياءً لانكسار ما قبلها، ألا ترى أنهم يقولون: قام قياماً في مصدر قام يقوم، وقوام في مصدر قاوم يقاوم، قال الله تعالى: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً " فلواذاً مصدر لاوذ يلاوذ، فأما مصدر لاذ يلوذ يقال فيه: لاذ لياذ، قال حسان بن ثابت في مصدر " لاوذ " :
وقريشٌ تفر منهم لواذاً ... لم يقيموا وخف منها الحلوم
وقال ذو الرمة في مصدر " لاذ " :
تلوذ من الشمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطالب
وفي استقصاء تصريف هذا الجنس من الأفعال والمصادر، وذكر أصوله تقديراً وتقريراً، وتمييز مقايسه تفصيلاً وتحريراً، طولٌ، وله موضع وهو أولى به.

أيهما الأصل الفعل أم المصدر
وقد تعلق نحاة الكوفيين على أصحابنا البصريين بأنهم قد اتفقوا على حمل المصدر في الإعتلال على الفعل فأجروه مجرى التابع التالي له، وأن هذا يدل على صحة قول من قدم الفعل فجعل المصدر مأخوذاً منه، وفساد قول البصريين بتقديم المصدر والحكم بأنه أخذ منه الفعل.
وللبصريين جوابٌ عن هذا وانفصال منه، وذلك أن كره اختلاف الجملة واضطراب الباب، وأوثر التوفيق بين بعضه وبعض، فلما حضر معنى أوجب اعتلال الفعل اعتل المصدر، على أن المعتل من المصادر ما كان متجاوزاً الأصل فإنه هو أولٌ في الحقيقة له، ألا ترى أن أصل المصدر في القيام قام قومةً وقوماً على أصل القياس في التقدير، مثل: صام صوماً وعام عوماً ورام روماً.
ومن فائدة الإختلاف في أبنية المصادر يحصل الفرق بين المعاني المختلفة، كقولهم: وجدان في المال، ووجود في الإدراك، وموجدة في الغضب، ووجدٌ في الغنى، وجدةٌ في المال، ووجدٌ في الحب والغضب، والفعل فيه كله وجد يجد، وفرع المولدون من هذا قولهم: وجادةٌ: ما كان من العلم أخذ من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة.
ومثل هذا في الأسماء التي حفظت مصادرها يستفاد به الفرق في العلاقة بالفتح في المحبة والخصومة، والعلاقة بالكسر في السيف والسوط، ولا خلاف في سبق هذه الأسماء للأفعال وتقدمها عليها.
وومما يبين إيثارهم توفيق المفضول في الجلمة وإن كان القياس يقتضي لشيء منها دون غيره من بابه حكماً، فيستتبع ما سواه وإن لم يكن فيه من العلة ما فيه، قولهم: آمن، وأبدلوا من الهزة مدة كراهيةً لإجتماع الهمزتين، ثم حملوا عليه يومن وتومن ونومن للتوفيق والتسوية، وإن كانوا قد يقرونه على أصله، ويتركون إلحاقه بما العلة خاصة فيه.
وفي شرح هذا الباب وبسط القول فيه طول ليس هذا موضعه، والفراء وهو من أنبه مخالفي البصريين في هذا الفضل وأعلمهم وأنظرهم في قياسه واستدلاله قد احتج في استحقاق الفعل الماضي الفتح يحمله إياه على التثنية في قولك: جلس وجلسا، فألزم الواحد وهو متقدم حكم الإثنين وهو بعده، فأتبع الأول الثاني وعلق عليه حكمه كأن ثانيه أولٌ له، ومن كان هذا مذهبه فحقيقٌ على أن لا ينكر على خصمه مثله، وكيف وقد أومأنا من مذهب مخالفيه إلى ما يوضح عن حقيقته، ويدل على صحته.
علمته الحياة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الأصفهاني، قال: حدثنا بندار، عن الأصمعي، قال: مثل فتى بين يدي الحجاج، فقال: أصلح الله الأمير، مات أبي وأنا حملٌ، وماتت أمي وأنا رضيع، فكفلني الغرباء حتى ترعرعت، فوثب بعض أهلي على مالي فاجتاحه، وهو هاربٌ مني ومن عدل الأمير. فقال الحجاج: الله! مات أبوك وأنت حمل وماتت أمك وأنت رضيع وكفلك الغرباء، فلم يمنعك ذلك من أن فصح لسانك، وأنبأت عن إرادتك! اطردوا المؤدبين عن أولادي.
كيف تختار أصدقاؤك
؟
حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: سمعت محمد ابن عمر البزاز، يذكر عن محمد بن عباد، قال: حدثنا سفيان بن عيينةن قال علقمة بن لبيد العطاردي، لابنه: يا بني! إن نزعتك إلى صحبة الرجال حاجةٌ، فاصحب من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن عركت به مانك.

من إن قلت صدق قولك، وإن صلت سدد صولك، يزاول عنك من رام ونالك.
من إن مددت يدك يصل مدها، وإن بدرت منك ثلمةٌ سدها، وإن رأى منك حسنةً عدها.
من إن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك.
من إن نزلت بك إحدى ملمات الزمان آساك، من لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك من الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق.
من إن حاولت حويلاً أمرك، وإن تنازعتما منفساً آثرك.
قوله: إن حاولت حويلاً أي رمت أمراً طالباً ومنازعاً أمرك، ويتجه في قوله: أمرك وجهان، أحدهما: أن يأمرك بالصواب فيه، ويشير عليك بركوب الحزم فيما تحاوله، ويرشدك إلى وجه الرأي في التأتي له. والوجه الثاني: أن يكون معنى قوله: أمرك كثرك فيما تحاوله، وأيدك فيما تجاذبه وتزاوله، وأمدك بقوته، ورفدك بمعونته، من قولهم: قد أمر بنو فلان: أي كثروا، كما قال لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوماً يصيروا للذل والعار
وقال آخر:
أم عيالٍ ضنؤها أمر ... لو نحرت لضيفها عشر جزر
لأصبحت من لحمهن تعتذر
وقد تأول قول الله عز وجل " أمرنا مترفيها " على وجهين في قراءة الجماعة، والوجهان: أمرنا أي أمروا بالطاعة ففسقوا، وقيل: فيه أكثرنا، وقرىء أمرنا من الإمارة، وأمرنا بمعنى أكثرنا، وروي عن الحسن أنه قال: أمرنا بكسر الميم على معنى أكثرنا، وأنكر الفراء هذه القراءة وذكر أن أمر لا يتعدى إلى مفعول. وحكى أبو زيد التعدي في هذا الفعل عن العرب، فصحت قراءة الحسن من جهة العربية، وإن شذت عما نقلته الجماعة في هذه الكلمة من القراءة.
واستقصاء هذا الفعل وتلخيصه، في موضعه من كتبنا في علوم التنزيل والتأويل.

المجلس الرابع والأربعون
نعيمان الصحابي الظريف
حدثنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي، قال: حدثنا الزبير - يعني ابن بكار - قال: وحدثني يحيى بن محمد، قال: حدثني يعقوب بن جعفر بن أبي كثير، قال: حدثني أبو طوالة عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: كان بالمدينة رجل يقال له نعيمان، يصيب الشراب، فكان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه بنعله، ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم، ويحثون عليه التراب، فلما كثر ذلك منه، قال له رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعنك الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، فإنه يحب الله ورسوله.
قال: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء إلى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطالب نعيمان بثمنه جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أعط هذا ثمن متاعه، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولم تهده إلي؟ فيقول: يا رسول الله! إنه - والله - لم يكن ثمنه عندي، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه.
وفي هذا الخبر ما أبان فضل مكارم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن فكاهته وسعة خلقه وسجاحته. وقد روينا أنه كان من أفكه الناس، وأنه كان يقول: " إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً " ، وأنه قال: " إن الله تعالى لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه " .
ونعيمانٌ هذا ممن شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدعابة بديع الممازحة، وجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر، وكانت له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاباتٌ استحسنها الناس ويعجبون بها.
منها، ما حدثناه أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: وحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي الحارث بن عبد الله الأصغر بن زمعة، عن جابر بن علي بن يزيد بن عبد الله الأصغر بن وهب بن زمعة، عن قريبة بنت عبد الله الأصغر بن وهب، عن أبيها، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: خرج أبو بكر الصديق قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعام في تجارة إلى بصرى ومعه نعيمان بن عمرو الأنصاي وسليط بن حرملة، وهما ممن شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سليط بن حرملة على الزاد، وكان نعيمان مزاحاً، فقال لسليط، أطعمني، فقال: لا أطعمك حتى يأتي أبو بكر، فقال نعيمان لسليط: لأغيظنك.

فمروا بقوم فقال نعيمان لهم: أتشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم لست بعبده وأنا ابن عمه، فإن كان إذا قال لكم ذلك تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا علي عبدي، قالوا: لا، بل نشتريه ولا ننظر في قوله.
فاشتروه منه بعشر قلائص، ثم جاءوا ليأخذوه فامتنع منهم، فوضعوا في عنقه عمامة، فقال: لا، إنه يتهزأ ولست بعبده، فقالوا: قد أخبرنا خبرك ولم يسمعوا كلامه.
فجاء أبو بكر الصديق فأخبروه الخبر، فأتبع القوم فأخبرهم أنه مزحٌ، ورد عليهم القلائص وأخذ سليطاً منهم، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فضحك من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جولاً وأكثر.
ولنعيمان أخبار كثيرة لا يحتمل كتابنا هذا إحضار جميعها، وقد استدل مستدلون بما أتى في الخبر الأول من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على نعيمان، وزجره للاعنه، ونظائره من الأخبار على فساد مذهب المعتزلة في وعيد أهل الصلاة وعلى صحة تجويز العفو عنهم وأنهم في مشيئة الله تعالى.
وللكلام في هذا الباب موضع آخر.

صفة الوليد بن يزيد وبعض شعره
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن عمه، قال: أخبرني مروان بن أبي حفصة، قال: قال لي هارون أمير المؤمنين: هل رأيت الوليد بن يزيد؟ قال: قلت: نعم، قال: صفه لي. قال: فذهبت أتحرج، فقال: إن أمير المؤمنين لا يكره ما تقول فقل، فقلت: كان من أجمل الناس وأشعرهم واشدهم، قال: أتروي من شعره شيئاً؟ قلت: نعم، ودخلت عليه مع عمومتي ولي جمة فينانة. فجعل يقول بالقضيب فيها ويقول: يا غلام! هل ولدتك سكر؟ " أم ولدٌ كانت لمروان بن الحكم، زوجها أبا حفصة " فقلت: نعم، فسمعته يقول أنشد عمومتي:
ليت هاشماً عاش حتى يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا
كلنا له الصاع التي كالها ... وما ظلمناه بها آصعا
وما أتينا ذاك عن بدعةٍ ... أحلها القرآن لي أجمعا
قال: فأمر هارون بكتابتها فكتبت.
قال القاضي: جمةٌ فينانة معناها الوافرة الجثلة، وقول الوليد في شعره: محلبه الأوفر: يعني: الإناء الذي يحلب فيه بكسر ميمه، أجرأه في بابه الأعم في الأواني والأدوات، كالمخرف والمكتل والمرجل والمقطع والمحيط والمبضع، فأما المتطبب به الذي تغلظ فيه العامة، فيقولون: المحلب فهو المحلب بفتح الميم مثل المندل، وهو العود.
الوليد يسافر ليشرب في حانة بالحيرة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو الفضل الربعي، قال: أخبرنا إسحاق الموصلي، قال: قال محمد بن منصور الأزدي، حدثني شيخ من أهل الكوفة، قال: حدثني خمارٌ كان بالحيرة، قال: ما شعرت يوماً وقد فتحت حانوتي إذا فوارس ثلاثة متلثمون بعمائم خز قد أقبلوا من طريق السماوة في البرية، فقال لي أحدهم: أنت مر عبد الخمار؟ قلت: نعم، وكنت موصوفاً بالنظافة وجودة الخمر وغسل الأواني، فقال: اسقني رطلاً، فقمت فغسلت يدي ثم نقرت الدنان فنظرت إلى أصفاها فبزلته وأخذت قدحاً نظيفاً فملأته ثم أخذت منديلاً جديداً فناولته إياه فشرب، وقال: اسقني آخر. فغسلت يدي وتركت ذلك الدن وذلك القدح وذلك المنديل، ونقرت دناً آخر فبذلت منه رطلاً في قدح نظيف، وأخذت منديلاً جديداً فسقيته فشرب، وقال: اسقني رطلاً آخر، فسقيته في غير ذلك القدح، وأعطيته غير ذلك المنديل، فشرب وقال: بارك الله عليك، فما أطيب شرابك وأنظفك! فما كان رأيي أن أشرب أكثر من ثلاثة، فلما رأيت نظافتك دعتني إلى شرب آخر فهاته، فناولته إياه على تلك السبيل، ثم قال: لولا أسبابٌ تمنع من بيتك لكان حبيباً إلي أن أجلس فيه بقية يومي هذا.
وولي راجعاً في الطريق الذي بدا منه، وقال: اعذرنا، ورمى إلي أحد الرجلين اللذين كانا معه بشيء فنظرت فإذا صرة فيها خمس مائة دينار، وإذا هو الوليد بن يزيد أقبل من دمشق حتى شرب من شراب الحيرة وانصرف.
قال القاضي: أخبار الوليد بن يزيد كثيرة، وقد ذكرها الإخباريون مجموعة ومفرقة، ومعظمها يأتي متفرقاً في مجالس كتابنا هذا.

وكنت جمعت شيئاً منها فيه، من سيره وآثاره ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من خرقة وسفاهته، وحمقه وخسارته، وهزله ومجونه، وركاكته وسخافة دينه، وما صرح به من الإلحاد في القرآن، والكفر وباطله ممن أنزله وأنزل عليه، وعارضت شعره السخيف بشعرٍ حصيف، وباطله بحق نبيهٍ شريف، وأتيت في هذا بما توخيت به رضا الله تعالى، واستيجاب مغفرته.

خطبة يزيد بن الوليد بعد عزله لابن عمه
وقد حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، قال: خطب الناس يزيد بن الوليد، فقال: أما بعد، أيها الناس فإني والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا حرصاً على الدنيا، ولا رغبةً في المال، ومابي إطرء نفسي، إني لظلومٍ لها إلا أن يرحمني ربي، ولكنني خرجت غضباً لله تعالى ولدينه، وداعياً إلى الله جل ثناؤه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لما هدمت معالم الهدى، وأطفىء نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، الراكب كل بدعة، يعني الوليد بن يزيد، مع أنه والله ما كان يصدق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفئي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله تعالى في أمره، وسألته ألا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك.
من أجابني من أهل ولايتي
حتى أراح الله منه العباد وطهر منه البلاد بحول الله وقوته لا بحولي
وقوتي
أيها الناس! إن لكم علي إلا أضع حجراً على حجر، ولا لبنةً على لبنة، ولا أكنز مالاً، ولا أحمل خراجاً من بلدٍ، إلى بلد، حتى أشد ثغر ذلك البلد وخصاصته، فإن فضل عنه شيءٌ نقلته إلى البلد الذي يليه، وإلى من هو أحوج إليه منه،ولا أجمركم في نفوركم، فأفتنكم وأفتن أهاليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم، ويقطع نسلهم، وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستوي المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت بما قلت، فلي عليكم السمع والطاعة، وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أف فلكم أن تستتيبوني فإن تبت وإلا فانتم في حل من بيعتي ودمي، وإن علمتم أحداً يعرف بالصلاح يعطيكم مثل الذي أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من بايعه ودخل في طاعته.
أيها الناس! أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء في نقض عهد الله تعالى، وإنما الطاعة طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله عز وجل فأطيعوه بطاعة الله تعالى، فإذا عصى الله عز وجل، ودعا إلى معصيته فهو أهل أن يعصى وأن يقتل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
معنى التجمير
قال القاضي: قوله: ولا أجمركم في ثغوركم، التجمير: أن يبعث الرجل إلى الثغر ثم يترك فيه فلا يقفل إلى أهله، ويرد إلى وطنه، فيضر به ويعرض للفتنة في نفسه وأهله، والعدل ألا يجمر الجند في البعث، وأن يعقب بينهم في كل ستة أشهر فيما يختاره، وقد كان بعض من تقدم من ولاة الأمر وبما عقب في كل سنة، والأمر في هذا عندنا أن يتوخى فيه الأئمة وأولو الأمر المصلحة، ويحملوا الناس على الرفق بهم، ويجتهد في حسن النظر لهم، ويتحرى في هذا الباب من التدبير ما هو أبلغ في سياسة الرعية، وتحصين الثغور، وحفظ البيضة، وحماية الحوزة، والتحرز من الفساد والفتنة، وانتشار الكلمة، فالتجمير في هذا الخبر معناه ما وصفنا.
والتجمير: حضور الجمار بمنى ورميها، كما قال الشاعر:
فلم أرى كالتجمير منظر ناظرٍ ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى
والتجمير: مصدر جمرت النخلة إذا نزعت جمارها.
الدار التي كان يقف فيها ابن أبي ربيعة
حدثنا إبراهيم بن محمد المهلبي، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا الزبير ابن بكار، قال:

كنت أرمي الجمار راجلاً فإذا أعييت جئت إلى دار بكارٍ مولى الأخنس بن شريق، وهي الدار التي عند الجمرة، فكنت مع عمي مصعب بن عبد الله ونحن نرمي الجمار، فقلت: هذه دار بكار، قال: أو ما عندك من خبرها أكثر من هذا؟ فقلت: لا، قال: موضعها كان عمر بن أبي ربيعة يقف عليه ينظر إلى النساء إذا خرجن يرمين الجمرة، وكان إذا ذاك دكاناً، قال: وكان بكارٌ لي صديقاً فأنشدنا أصحابنا عنه يرثي المهدي، وكان المهدي أعطاه بداره أربعة آلاف دينار فأبى وقال: ما كنت لأبيع جوار أمير المؤمنين بشيء أبداً، فقال المهدي: أعطوه أربعة آلاف دينار ودعوه وداره، فلما مات المهدي، قال بكارٌ يرثيه:
ألا رحمة الله في كل ساعةٍ ... على رمةٍ أمست بما سبذان
لقد غيب القبر ثم سؤدداً ... وكفين بالمعروف يبتدران
قال عبد الله بن محمد: وكان المهدي مات بما سبذان سنة تسع وستين ومائة.

يتمنى كل يوم حجة أو اعتمارا
ً
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب، عن أبيه، قال: أنشد ابن أبي عتيق سعيد بن المسيب قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها الراكب المجد ابتكاراً ... قد قضى من تهامة الأوطارا
إن يكن قلبك الغداة خليا ... ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل يومين حجةً واعتمارا
وقال: لقد كلف المسلمين شططاً، فقال: في نفس الجمل شيءٌ غير ما في نفس سائقه.
قال: وقال عبد الله بن عمر لعمر بن أبي ربيعة: يا ابن أخي! ما اتقيت الله حيث قلت:
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل يومين حجةً واعتمارا
فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني وضعت ليت حيث لا تقع، قال: صدقت.
بعض ما كان يلقاه أتباع البرامكة
حدثنا أحمد بن العباس العسكري، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، عن هاشم بن موسى أخي مسرور الكبير، قال: حدثني عمي مسرور، قال: لما أصيب يحيى بن خالد بن برمك بعثني هارون إلى جارية له كانت قد ترهبت، مغنية يقال لها قرب، وكانت صاحبة أمر يحيى بن خالد، فقال: ائتني بها، فدخلت عليها وعليها لباس الصوف، فقلت: أجيبي أمير المؤمنين، فقالت: أنا أعلم لم يدعوني، وهذا أمرٌ قد تركته لله تعالى فأحب أن تحتال لي، فأعلمتها ألا حيلة في ذلك.
قال: فدعت بأثوابٍ فلبستها ثم تقنعت بسبعة أخمرة، قال: فجئت بها فدخلت بها عليه. فأقعدها ثم قال: هات عوداً، قال: فجئته به، قال: ادفعه إليها، فقالت: يا أمير المؤمنين! هذا أمرٌ تركته لله تعالى ونويت ألا أفعله بعد يحيى بن خالد، قال: فألح فأبت، فقال: يا مسرور! خذ مقرعة وقف على رأسها فإن أبت فاضرب رأسها أبداً، قال: فأبت، فضربتها، حتى تقطعت السبعة أخمرة، فنظرت إلى شعرها والدم قد خرج من رأسها، فقالت: أفعل، ثم تناولت العود، فغنت:
لما رأيت الديار قد درست ... أيقنت أن النعيم لم يعد
قال: فوالله ما فرغت حتى نظرت إلى دموع هارون على لحيته، ثم قال: انصرفي فقامت من بين يديه وهي تبكي، فقال لي: يا مسرور! الحقها بعشرة آلاف دينار وقل لها: يقول لك أمير المؤمنين: اصرفيها فيما تحتاجين إليه، واجعليني في حل، فقالت: يا مسرور لا حاجة لي فيها، وهو في حل.
ما أحسن الحق!
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني الحسين بن عبد الرحمن، عن بعض أشياخه، عن العلاء بن المنهال، قال: أتى خاقان رجلٌ من غني في وفد أتوه من العرب، وبوجه الرجل ضربةً منكرة، فقال له خاقان: أي يوم ضربت هذه الضربة؟ وهو يرى أنها ضربة سيف، فقال الرجل: ضربني فرسٌ لي، فقال خاقان: لصدقه أعجب لي مما ظننت، ما أحسن الحق! فأضعف له الجائزة.
كيف تولى أبو الأحوص ولاية مصر
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق السراج بنيسابور، قال: أخبرنا داود بن رشيد، عن الهيثم بن عدي، قال:

وجه المهدي أمير المؤمنين إلى أبي الأحوص فأقدم عليه ليوليه مصر وأعمالها، قال: فلما حضر عرض عليه ذلك فامتنع منه امتناعاً شديداً، فاغتاظ من ذلك المهدي فهم بضرب عنقه، وكان بحضرة المهدي محمد بن داود جليس خير، فقال له: يا أمير المؤمنين! تمهل عليه ثلاثة أيام، ففعل وأمره بالانصراف، فلما خرج من عنده اشتد غيظه وقال: أما ترى إلى هذا الشيخ، قد لبس خفاً أحمر وخفاً أسود ليوهم أنه مضطرب العقل! فقال له محمد بن داود الجليس الصالح: لا تقل ذلك، لعل الشيخ أخرج إليه ما يلبسه في الظلمة فلم يعلم، فسكن.
ومضى محمد بن داود إلى الشيخ أبي الأحوص فألفاه متشكياً يبكي، فقال له: ما شأنك؟ فقال: إنه خرج لي من الظلمة خف أحمر وخف أسود، فلبستها ولم أعلم، فلما خرجت من عند أمير أمير المؤمنين جعل الصبيان يصيحون ويضحكون، فلما تبينت ذلك نزعت الخفين ومشيت حافياً فلحقني وجعٌ عظيم في رجلي، فقال له محمد بن داود: إن أمير المؤمنين وقع له غير هذا فثنيته عما كان وقع له، فإذا حضرت عنده فإياك أن تأبى أو تمتنع، فمضى إلى المهدي فعرفه ذلك فسكن غضبه، واشتد حرصه على تقليد أبي الأحوص.
فلما حضر بين يديه في اليوم الرابع دعا بسفطٍ فأخرج منه كتاباً فيه عهده على مصر وأعمالها، ثم دفع إليه كتاباً ثانياً إلى صاحب الشرطة يأمره بالحضور مجلسه وألا يخليه، ثم دفع إليه كتاباً ثالثاً، فقال: هذا تبيين ٌ برزقك على العامل، وهو ألف دينار في كل شهر، ومائتا دينار للمائدة، ثم دعا بسفطٍ آخر فأخرج منه ثياباً وطيباً فدفعه إليه، وأمر له بثلثمائة دينار للنفقة، ثم قال له: الرزق تأخذه معجلاً هنياً تستعين به، وللمائدة مائتا دينار وكل الطيب لتقوي به نفسك، ولا تمل إلى شيءٍ بتة، لأن نفسك غنية بالرزق، وهذه الثلثمائة دينار تستعين بها على نفقة الطريق، فلا تعترضن من أحد شيئاً فتستحش منه، وهذه الثياب والطيب تكون معك، فإن - وعائذ بالله تعالى - حدث حادث عليك كان هذا معداً، فانظر لنفسك وأعزها فقد أعززناك وامددناك، وفقك الله تعالى للصواب.
فخرج أبو الأحوص إلى مصر فحكم بها سنين كثيرة فحسن أثره وحمد أمره.

ما لهذا حسنة ولا لك سيئة
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبي، عن المغيرة، عن هارون، قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، قال: كنا نأتي المغيرة بن عبد الرحمن فجاءه يوماً مولى له يقال له كبة، وكان شيخاً كبيراً، فقال له المغيرة: يا كبة! بالله حدثنا بعض ما كان في شبابك، فقال: نعم، دخلنا مرةً بيت مغنية أنا وثلاثة من مزاحي المدينة، فغنت صوتاً، فقال لها أحدهم: أسأل الله تعالى ألا ينزل لي حسنةً إلا كتبها لك، ثم غنت صوتاً آخر، فقال لها الآخر منهم: بأبي أنت، غرك والله، لا والله ما له حسنة، ولكن أسأل الله تعالى ألا ينزل لك سيئة إلا كتبها علي، ثم غنت صوتاً آخر، فقال لها الثالث: غراك والله، لا والله ما لهذا حسنة ولا كرامة له، ولا لك سيئة، ولكن أسأل الله تعالى ألا يخرجك من الدنيا حتى تريه أعمى يقاد.
قال القاضي: قد قال جميل في نحو هذا:
ألا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفى علي كلامها
ولو كان هو القاضي
حدثنا عثمان بن أحمد الدقيقي، قال: حدثنا سهل بن علي الدفتري، قال: حدثني فروة بن عبد الله المديني، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بشر بن آدم، قال: سأل الأغضف مالك بن أنس عن مسألة فأجابه، ثم سأله فأجابه، وقال الأغضف: لم قلت ذلك؟ قال مالك: يا غلام! خذ بيده فاذهب به إلى السجن، فلما ولى به الغلام قال له الأغضف: إني قاضي أمير المؤمنين! قال: ذاك أهون لك علي، قال: يا أبا عبد الله لا أعود، قال: خل سبيله.
المجلس الخامس والأربعون
لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به
حدثنا سعيد بن محمد بن أحمد أبو عثمان البزاز، أخو الزبير الحافظ، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا محمد بن أبي حفصة، قال: حدثنا ابن شهاب، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما مسيءٌ فيستعتب، وإما محسنٌ فيزداد " .
وحدثنا سعيد بن محمد، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا الربيع بن صبيح، قال: أخبرنل حبيب بن فضالة

أن أبا هريرة ذكر الموت وكأنه تمناه، فقال بعض أصحابه: وكيف تمنى الموت بعض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس لأحد أن يتمنى الموت لا باراً ولا فاجراً، أما بارٌ فيزداد، وأما فاجر فيستعيب " ، قال: وكيف لا أتمنى الموت وأنا أخاف أن تدركني فتنة الدهماء، وبيع الحكم، وتقاطع الأرحام، وكثرة الشرط، ونشءٌ يتخذون القرآن مزامير " .
قال القاضي: قد ورد هذا الخبر بالنهي عن تمني الموت لما بين فيه من المعنى، وجاء في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علماء السلف أخبار منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضلر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي " .
وروى عن ابن عباس أنه قال: ما أحدٌ إلا والموت خير له من بر ولا فاجر، إن كان براً فقد قال الله عز وجل: " وما عند الله خيرٌ للأبرار " وإن كان فاجراً فقد قال الله تعالى: " أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " .
قال القاضي: وهذا الخبر عن ابن عباس خارج على معنى يواطىء ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا روايته، ولا ينافيه إذا حمل على الوجه الصحيح في المعنى.
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت عند الضرر ونزوله، ووقع البلاء وحلوله، وأرشد إلى استقبال التوبة من الإساءة والوزر، والازدياد من فعل الخير وأعمال البر، وأن يستعتب المرء من فرطاته، ويستكثر من طاعاته، فأما إذا توفاه الله جل جلاله من غير تمن منه للموت، وهو على غير علم منه بحاله فيه، ولا متيقن أن إماتته خير له من تبقيه، فإن حاله في هذا مخالفة للمعنى الآخر الذي قدمنا بيانه، ولكل وجهٍ من هذين المعنين حكمٌ جارٍ على طريقته، ومختص بحقيقته، وقد كان أعلام السلف الأخيار، وصلحاؤهم الأبرار، يرغبون إلى الله تعالى في الشهادة في سبيله ويحرصون عليها ويتعرضون لها ويأسون على فوتها، ويغبطون من رزقها، وأكرم بها لظهور فضلها وشرف أهلها، وهذا يوضح عن أجراء كل جهة من هذه الجهات على حكمها، وإنزالها منزلتها، وأنا ما ذكره أبو هريرة من فتنة الدهماء وبيع الحكم وتقاطع الأرحام وكثرة الشرط ونشءٍ يتخذون القرآن مزامير، فقد رأينا جميع ما تخوفه، وأدركنا ما خاف أن يدركه، فإلى الله عز وجل نجأر بالشكوى، وإياه نستعين على كل بلوى.
فأما قوله: فتنة الدهماء، فإنه أضاف الفتنة إلى الدهماء، وللنحويين في هذا مذهبان: منهم من يجعل الفتنة مضافة إلى الدهماء ويجيز إضافة الشيء إلى نفسه ويجري هذا في أشيئاء كثيرة: لحق اليقين، ودار الآخرة، ةمسجد الجامع، وصلاة والأولى.
وكثير من محققيهم ينكر هذا المذهب، ويخالف هؤلاء في تأويل هذه الكلمات، وما أتى من نظائرها، ويحمل حق اليقين على معنى حق العلم اليقين، والأمر اليقين على إقامة الصفة مقام الموصوف، ويقول: معنى دار الآخرة أي دار المنزلة الآخرة أو النشأة والمذمة، ومعنى مسجد الجامع: الوقت الجامع، أو الفرض الجامع، وصلاة الأولى صلاة المكتوبة الاولى، ونحو هذا الوجه من التأويل الصحيح في المعنى الجاري على القياس.
فأما الدهماء في هذا الخبر ففيه وجهان في التأويل، أحدهما صفة الفتنة أو ما اضيفت إليه بالدهمة والسواد والظلمة، وقد قال عبد الله بن المبارك في خبرٍ ضمن شعراً له:
فنحن في فتنةٍ عشواء مظلمةٍ ... نستغفر الله من أهوال ما فيها
والوجه الآخر: غشيان الفتنة وهجومها وتراكمها وعمومها، من قولهم دهمت القوم الخيل تدهمهم.
وقوله: نشءٌ يتخذون القوم مزامير، فإنه عنى به من حدث ونشأ من الأشرار بعد من مضى من البررة الأخيار، قال نصيب:
ولولا أن يقال صبا نصيبٌ ... لقلت: بنفسي النشء الصغار

وهؤلاء الذين عنوا بهذا الخبر هم الذين يرددون القرآن لبطونهم بالألحان غير خاشعين ولا متعظين ولا معتبرين ولا متفهمين، وأمر هذا النشء في زماننا فاشٍ، فهم من أشد الناس فتنةً، وأعظمهم على أهل الدين بلية، فقد جعلوا اجتماعهم على تلاوة القرآن بمنكر الألحان، ومزامير الشيطان، وعلى تهم القيان وملاهيهم من المعازف والعيدان، والزيادة في كتاب الله تعالى ما ليس منه بالإيقاع والأوزان، وحصل خواص أهل العلم والإيمان بمنزلة إقصاء وهوان، ومن عداهم من حليف فتنة وأسير قينة، وأكثر من تراه في وقتنا ممن أومىء إليه، إما واهي العزيمة ضعيف العقدة، قد تأول المحكم غير تأويله، وتشبث بجملة المتشابه لعجزه عن معرفة تفصيله، وإما ماجنٌ خليعٌ أو مغرورٌ مخدوعٌ قد استفزه الغار له بجرأته وجسارته، واستنزله الماكر به فورطه في خسارته، فأوهمه أن الذي دعاه إليه، وحمله عليه، من أعمال البر، والقرب الكابسة للأجر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا بما ذكره من التغني بالقرآن، وتحسين التلاوة بالترنم والألحان، والذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم عندنا، قراءة القرآن بالتحسين والخشوع وتحقيقه وترتيله، وتبيينه وتفصيله، وتحسين الصوت به من غير إحداث زيادة في إضعافه بالزمزمة والنقرات، والهمهمة والنبزات.

الأذان بالألحان
حدثنا المظفر بن يحيى ابن الشرابي، قال: حدثنا أبو عيسى محمد بن جعفر بن محمد، قال: حدثنا الحسن يعني ابن عبد العزيز الهروي، قال: حدثنا الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، أو عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، أنه قال: لهممت أو أردت أن أكلم أمير المؤمنين في الأذان بألأحان أن يمنع من ذلك، قال الله عز وجل: " فماذا بعد الحق إلا الضلال " أفمن الحق أن يؤذن بألحان.
والكلام في هذا الباب يطول ويتسع، واستقصاؤه يتعذر ويمتنع، ولنا في هذا الباب ولشيخنا أبي جعفر رضي الله عنه كلام كثير مرسوم في مواضعه، من كتبنا، وقد رسمنا من ذلك صدراً صالحاً في كتابنا المسمى " بتذكير العاقلين وتحذير الغافلين " فمن أحب الوقوف عليه فينظر فيه، ففيه بيان وفائدة لمن نصح نفسه ونظر لدينه، بمشيئة الله وعونه.
عبد الملك يتوسم الخلافة بأمور في نفسه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن العتبي، عن أبي عبيدة، عن عمارة العقيلي، أو غير رجل عن عمارة، قال: كنا نجلس عند الكعبة وعبد الملك بن مروان يجالسنا من رجل عذب اللسان لا يمل جليسه حديثه، فقال لي ذات يوم: يا أبا إسحاق! إنك إن عشت فسترى الأعناق إلي مادة، والآمال إلي سامية.
ثم قام فنهض من عندنا، فأقبلت على جلسائي فقلت: ألا تعجبون من هذا القرشي! يذهب بنفسه إلى معالي الأمور، وإلى أشياء لعله لا ينالها، قال: فلا والله ما ذهبت الأيام حتى قيل لي: إنه قد أفضيت إليه الخلافة، فذكرت قوله، فتحملت إليه فوافيت دمشق يوم الجمعة، فدخلت المقصورة فإذا أنا به وقد خرج علي من الخضراء، فصعد المنبر فحمد الله جل وعز وأثنى عليه، فبينما هو يخطب إذ نظر إلي ثم أعرض عني، فساءني ذلك، ونزل فصلى بنا ودخل الخضراء.
فما جلست إلا هنيهة حتى خرج غلامه قائلاً: أين عمارة العقيلي؟ قلت: هأنذا، قال: أجب أمير المؤمنين فدخلت إليه فسلمت عليه بالخلافة فقال لي: أهلاً وسهلاً، وناقةً ورحلاً، كيف بعدي كنت؟ وكيف كنت في سفرك؟ وكيف من خلقت؟ لعلك أنكرت إعراضي عنك فإن ذلك موضع لا يحتمل إلا ما صنعت، يا غلام! بوىء له بيتاً معي في الدار، فأنزلني بيتاً فكنت آكل معه وأسامره حتى مضت لي عشرون يوماً، فقال لي: يا أبا إسحاق! قد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وأمرنا لك بحملان وكسوة فلعلك قد أحببت الإلمام بأهلك ثم الإذن في ذلك إلينا، أتراني حققت أملك يا أبا إسحاق؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، وإنك لذاكر لذلك؟!، قال: أي والله، وإن تمادى به عهد، قلت: يا أمير المؤمنين! أكان عندك عهدٌ ما قلت لي، أم ماذا؟ قال: بثلاث اجتمعن في، منها إنصافي جليسي في مجلسي، ومنها أني ما خيرت بين أمرين قط إلا اخترت أيسرهما، ومنها: قلة المراء.
متى تكون الشركة في الهدية
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الحسن الديباجي، قال: حدثني أبو عبد الله اليوسفي.

أن أم جعفر كتبت إلى أبي يوسف: ما ترى في كذا، وأحب الأشياء أن يكون الحق فيه كذا، فأفتاها بما أحبت.
فبعثت إليه بحق فضة فيه حقائق فضة مطبقاتٌ، في كل واحدة لون من الطيب، وفي جام دراهم وسطه جامٌ فيه دنانير، فقال له جليسٌ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أهديت له هديةٌ فجلساؤه شركاؤه فيها " ، فقال أبو يوسف: ذاك حين كانت هدايا الناس التمر واللبن.

شماتةالأعداء في العزل
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المزربان، قال: حدثنا أبو يعقوب النخبي، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: قيل لشريك لما قلد القضاء: ليتك خلصت من هذا الأمر ولو بالموت، فقال: أما بالموت فلا، ولكن بعورٍ أو شلل.
فلما تعصبت عليه القبائل وعزل عن القضاء جعل يسعى في أن يرد، فقال له ذلك الرجل: ليتك أعدت إلى الحكم ولو بعورٍ أو شلل، إنك لتمنى ذلك، فقال: نعم يا ابن أخي، وشماتة الأعداء شديدة.
قال القاضي: نظير هذا قول عمر لعمار: ساءك إذ عزلتك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد ساءني أن وليتني، ولقد ساءني أن عزلتني.
معبد يتحدى الغريض
حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بابن الشرابي، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن بشر المرثدي، قال: حدثنا أبو إسحاق طلحة بن عبد الله الطلحي، قال: أخبرني أحمد بن إبراهيم، قال: وحدثني أبي، عمن حدثه، قال: خرج معبدٌ - وهو يومئذ أحسن أهل المدينة غناءً - إلى مكة يتحدى الغريض، فسأل عن منزله فدل عليه، فأتاه فقرع الباب فقالت الجارية: من هذا؟ فقال: قولي لأبي فلان، هذا رجلٌ من أهل المدينة من إخوانك، فقال: افتحي له، فدخل فحياه وسأله عن حاجته، فقال: أنا رجلٌ من أهل صناعتك، وقد أحببت أن أسمع منك وأسمعك ، فقال هات على اسم الله تعالى، فغناه معبد، فقال: أحسنت والله يا أخي، حتى انتهى، ثم اندفع هو يغني، فسمع معبد شيئاً لم يسمع بمثله قط، فقال له: أنت أحسن الناس غناءً، فقال له: كيف لو سمعت عجوزاً لنا في سفح أبي قبيس، يعني ابن سريج، فقال: كيف لي - جعلت فداك - بأن أسمعه منه؟ قال: قم بنا إليه، قال: فنهضنا حتى أتينا باب ابن سريج فقرعه الغريض فعرفته الجارية، فقالت: ادخل فدخلا جميعاً فإذا ابن سريج نائم الصبحة، وإذا عليه قرقرة أصفر.
قال القاضي: كذا قال ابن الشرابي، وهكذا رأيته في أصل كتابه والصواب قرقل في قول الجمهور، وإن كان بعضهم قد رد هذا وصواب قولهم قرقر، وقد خضب يديه وزراعيه إلى مرفقيه، فقال له الغريض: جعلت فداك، هذا رجل من إخوانك من أهل المدينة يتغنى، وقد أحب أن يسمعك غناه ويسمع منك، قال: هات، فغناه معبد فقال له ابن سريج: أحسنت والله ثم استل ابن سريج دفاً مربعاً وتغنى:
نظرت عيني فلا نظرت ... بعده عيني إلى أحدٍ
قال معبد: فسمعت شيئاً ما سمعت مثله قط، ولا ظننت يكون، فأخذت أئتم به واختلف إليه.
من صفة الغريض
وحدثنا المظفر، قال: حدثنا محمد بن أحمد المرثدي، قال: أخبرنا أبو إسحاق الطلحي، قال: وأخبرني أحمد، قال: كان الغريض مخنثاً وكان جميلاً له شعر، وكان مولى الثريا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وكان يتعلم من ابن سريج.
من نوادر طويس
وحدثنا المظفر، قالك أخبرني أحمد، قال: أخبرنا أبو إسحاق، قال: وخبرني أحمد، قال: حدثني أبي، قال: مر طويس وكان مخنثاً أحسن الناس غناءٍ، ومعه جماعة من المخنثين، فمر بنهر حمام يكون ذراعاً، فرفع ثيابه ووضعها تحت إبطه اعتزاءً وتجلداً، ثم قال: أنا زيد الخيل، أنا عامر بن الطفيل، انا دريد بن الصمة، ثم قفز قفزة فإذا هو مستنقعٌ في النهر، وصاح المخنثون الغريق الغريق.
من مخارج أبي يوسف
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا عبد الله بن الحسن أبو شبيب، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال:

أرسل أمير المؤمنين الرشيد إلى قاضي القضاة أبو يوسف، في ساعةٍ لم يكن يرسل إليه في مثلها، قال أبو يوسف: فتحنطت وتكفنت ولبست فوق ذلك ثيابي، ودخلت على أمير المؤمنين، فألفيته جالساً على طرف المصلى، وإذا بين يديه سيف مسلول، فسلمت فرد علي السلام وأدناني، فشم مني رائحة الحنوط، فقال: ما هذه الرائحة فأخبرته الخبر فاسترجع، ثم أمر بذلك فنزع عني، وجاءني بثياب فلبستها، ثم قال لي: تدري من خلف هذا الستر؟ قلت: لا، يا أمير المؤمنين، قال: إن خلفه أعز خلق الله تعالى علي، قال: فظننت أنها الخيزران، ثم قال: إني أودعتها عقوداً لها مقدار، وجوهراً له خطر، وإني فقدت منها عقداً، فحلفت بأيمان البيعة وأكدتها على نفسي أنها تصدقني عن خبره، فإن لم تصدقني ضربتها بسيفي هذا حتى أبضعها قطعاً، قال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين! قد أخرجك الله تعالى من يمينك، فمر بالسيف يرد إلى غمده، فأمر به فرد إلى غمده، فقلت: يا أمير المؤمنين! سلها وعرفها يمينك، فسألها وغلظ عليها الأمر، قال: قل لها: لا تجيبك حتى أقول لها، ثم قال لها أبو يوسف: أمسكي، ثم قال: يا أمير المؤمنين! فسلها ثانية، فسألها وغلظ عليها ما حلف به، فقال لها أبو يوسف: قولي إني لم آخذه، فقالت: لم آخذه.
ثم التفت إلى أمير المؤمنين، فقال: قد صدقتك في أحد القولين إن كانت أخذته فقد صدقت، وإن كانت لم تأخذه فقد صدقتك.
فأمر له بعشرة آلاف درهم، وقاما وخرجا من البيت الذي كانا فيه إلى خزانة، فأمر بها ففتحت وأخرج إليه أسفاطٌ فأمر بها فحلت، فإذا فيها جوهر له خطر، فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين! ما رأيت أحسن من هذا، فإن رأيت أن تهبه لي؟ فقال: لا والله ما نفسي بذلك طيبة، فقال: فهبه لأم جعفر، فقال: لا والله، ولا نفسي به طيبة، قال: يا أمير المؤمنين! فإن لم تفعل لا هذا ولا ذا فتعلم أم جعفرٍ أني سألتك أن تهب لها هذه العقود فأبيت، قال: أما ذا فنعم، فأعلم أم جعفر بذاك فأنفذت إلى أبي يوسف بمائة ألف درهم.

سبب شدة المنصور على مخالفيه
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن أبيه قال: قال عبد الصمد بن علي للمنصور: يا أمير المؤمنين! لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو، فقال: لأن بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قومٍ قد رأونا أمس سوقةً واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة، ولو لم أفعل هذا لاحتجنا إلى ما هو أعظم منه.
من مروءة الحسن البصري
حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثني أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا أبو حفص النسائي، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير، قال: حدثنا محمد بن كثير بن مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، قال: كان الحسن إذا اشترى له شيء بكذا وكذا ونصف أتمه به، فباع الحسن بغلاً له بأربع مائة درهم، فقيل لصاحبه، لو اتيته فاستحططته من ثمنه شيئاً، فأتاه فقال: يا أبا سعيد! إن رأيت أن تخفف عني من ثمن البغل! فقال له: خمسون درهماً أرضيت؟ قال: نعم، يا أبا سعيد، قال: فلك خمسون أخرى أرضيت؟ قال: نعم، رضي الله عنك، قال: فلما أدبر الرجل قال: هلم فإنه بلغني أن من الإحسان أن يضع الرجل نصف حقه، اذهب فلك مائتان.
المجلس السادس والأربعون
قصة مقتل أمية بن خلف
حدثنا محمد بن القاسم الأنباي، قال: حدثني أبي، عن أبي الفضل العباس بن ميمون، عن يعقوب بن محمد الزهري، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده عبد الرحمن بن عوف، قال: كنت أعرف بعبد عمرو فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، فلما كان يوم بدر سلبت أربعة ادرعٍ من دروع المشركين وأقبلت بهن، فمر بي أمية بن خلف وابنه علي، فناداني أمية: يا عبد عمرو! فلم أجبه، فقال: يا عبد الرحمن! قلت: وما شأنك؟ قال: أنا وابني خيرٌ لك من هذه الأدرع، فألقيتهن وأقبلت بهما، فبصر بهما بلال فأقبل بسيفه، وقال: أمية رأس الكفر؟ الحمد لله الذي أمكنني منك، فقلت: يا بلال! كانت معي والله أربعة أدرع وألقيتهن واعتمدت على هذين، فلا تفجعني بهما.

فأقبل يريدهما فقلت: تنح يا ابن السوداء، وقام إلى قوم من الأنصار، فقال: معاشر المسلمين! أمية رأس الكفر وابنه، فأقبلوا بالسيوف إليهما، فما ملكوني من أمرهما شيئاً، فضرب علي ضربةً فطنت ساقه، فصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، ثم حملوا فذففوا عليهما.
فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالاً، فجعني بأسيري وذهبت أدراعي.
معنى ذففوا: أجهزوا، قال أبو بكر: قال أبي: قال العباس: فحدثت بهذا الحديث ابن عائشة، فقال لي: حدثني أبي أن شاعراً من المسلمين مدح بلالاً لما فعل ذلك، فقال:
هنيئاً زادك الرحمن خيراً ... فقد أدركت ثأرك يا بلال
فما نكساً وجدت ولا جباناً ... غداة تنوشك الأسل الطوال
معنى التناوش مهموزاً و غير مهموز
قال القاضي: معنى تنوشك: تناولك، وهو من المناوشة، وقيل: إن التناوش: التناول من قريب بغير همز، والتناؤش بالهمز: التناول من بعيد، قال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا
فهذا غير مهموز، وقال نهشل بن حري في الهمز:
تمنى نئيشاً أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقد قرأت القرأة: " وأنى لهم التناؤش " بالهمز وتركه، ونسب الصلولي شيخنا أبا جعفر رحمه الله إلى التصحيف في بيت نهشل، وذكر أنه رواه تمنى حبيشٌ، وجرت بيننا وبينه في هذا مخاطبة قمعته بحضرة جماعة منهم أولو علم ومعرفة، ولنا في هذا رسالة أوضحنا فيها سقوط ما أورده الصولي وحكاه، وضمناها من خطأ الصولي وتصحيفه وتعاطيه ما لا يحسنه في مواضع من تأليفه، ومن نظر في ذلك أشرف منه على علم مستفاد، وبيان مستجاد، إن شاء الله.

الوليد يتوله بجارية نصرانية
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: أخبرنا العتبي، قال: كان الوليد بن يزيد نظر إلى جارية نصرانية من أهيأ الناس يقال لها سفرى، فجن بها وجعل يراسلها وتأبى عليه، حتى بلغه أن عيداً للنصارى قد قرب، وأنها ستخرج فيه وكان موضع العيد بستانٌ حسن، وكان النساء يدخلنه، فصانع الوليد صاحب البستان أن يدخله فينظر إليها فتابعه، وحضر الوليد وقد تقشف وغير حليته، ودخلت سفرى البستان فجعلت تمشي حتى انتهت إليه، فقالت لصاحب البستان: من هذا؟ قال لها: رجلٌ مصابٌ، فجعلت تمازحه وتضاحكه حتى اشتفى من النظر إليها ومن حديثها، فقيل لها: ويلك! تدرين من ذلك الرجل؟ قالت: لا، فقيل لها: الوليد بن يزيد فإنما تقشف حتى ينظر إليك، فجنت به بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها، فقال الوليد في ذلك:
أضحى فؤادك يا وليد عميدا ... صباً قديماً للحسان صيودا
من حب واضحة العوارض طفلةٍ ... برزت لنا نحو الكنيسة عيدا
ما زلت أرمقها بعيني وامق ... حتى بصرت بها تقبل عودا
عود الصليب فويح نفسي من رأى ... منكم صليباً مثله معبودا
فسألت ربي أن أكون مكانه ... وأكون في لهب الجحيم وقودا
قال القاضي: لم يبلغ مدرك الشيباني هذا الحد من الخلاعة فيما قال في عمرو النصراني:
يا ليتني كنت له صليباً ... وكنت منه أبداً قريبا
أبصر حسناً وأشم طيباً ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا
فلما ظهر أمره وعلمه الناس، قال:
ألا حبذا سفري وإن قيل إنني ... كلفت بنصرانيةٍ تشرب الخمرا
يهون علينا أن نظل نهارنا ... إلى الليل لا أولى نصلي ولا عصرا
وللوليد في هذا النحو من الخلاعة والمجون وسخافة الدين ما يطول ذكره، وقد ناقضناه في أشياء من منظوم شعره والمتضمن ركيك ضلاله وكفره، وما لعلنا نورده فيما نستقبله من مجالس في كتابنا هذا.
حكم الوادي يضطرب أمام الوليد
حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بان الشرابي، قال: حدثنا أبو العباس المرثدي، قال: حدثنا أبو إسحاق الثلجي، قال: أخبرني أبي، عن حكم الوادي، قال:

قال الوليد بن يزيد بن عبد الملك لجلسائه من المغنيين: إني لأشتهي غناء أطول من أهزاجكم وأقصر من الغناء الطويل، قالوا جميعاً: قد أصبته يا أمير المؤمنين، بالمدينة رجل يقال له: مالك بن أبي السمح الطائي حليف لقريش وهذا غناؤه، وهو أحسن الناس خلقاً وأحسنهم حديثاً، قال: أرسلوا إليه، فأرسل إليه فشخص حتى وافاه بالشام بدمشق.
قال: فلما دخلنا في وقت النبيذ دخل معنا، فقال له الوليد: غنه، فاندفع يضرب فلم يطاوعه حلقه ولم يصنع قليلاً ولا كثيراً، فقال له الوليد: قم فاخرج.
قال: وأقبل علينا يعنفنا، ويقول: ما تزالون تغروني بالرجل وتزعمون أن عنده بعض ما أشتهيه حتى أدخله وأطلعه على ما لم أكن أحب أن يطلع عليه أحد، ثم لا أجد عنده ما أريد. فقلنا: يا أمير المؤمنين! والله ما كذبنا ولكن عسى الرجل قد تغير بعدنا، قال: ولم نزل به حتى استرسل وطابت نفسه وغنيناه حتى نام، ثم انصرفنا فجعلنا طريقنا على مالك، فافترينا عليه وكدنا نتناوله، قال: فقال: ويحكم! دخلتني له هيبةٌ منعتني من الغناء ومن الكلام لو أردته، فأعيدوني إليه فإني أرجو أن يرجع إلى حلقي وغنائي.
قال: فكلمنا الوليد فدعا به، فكان في الثانية أسوأ حالاً منه في الأولى فصاح به أيضاً فخرج، وفعلنا كفعلنا، قال: فقال: أعيدوني إليه فامرأته طالق وما يملك في سبيل الله إن لم أستنزله عن سريره إن هو أنصفني، قال: فجئنا إلى الوليد، قال: فأخبرناه، قال: فقال: وعلي مثل يمينه إن هو لم يستنزلني أن أنفذ فيه ما حلف به فهو أعلم.
قال: فأتيناه فأخبرناه بمقالة الوليد ويمينه، قال: قد قبلت، قال: فحضرنا معه داراً نكون فيها إلى أن يدعي بنا، فمر به صاحب الشراب فأعطاه ديناراً على أن يأتيه بقدحٍ حبشاني مملوءٍ شراباً من شراب الوليد، فأتاه بقح ثم بقدح ثم بقدح، بثلاثة أقداح، فأعطاه ثلاثة دنانير ثم أدخلناه عليه، فقال له الوليد: هات، فقال: لا، والله أوترجع إلي نفسي وأضطرب وأرى للغناء موضعاً، قال: فذاك لك، قال: فاشرب يا أمير المؤمنين، قال: فشرب وجعل يشرب ويغني المغنون، حتى إذا ثمل الوليد وثمل هو سل صوتاً فأحسن وجاء بما يغرب، فطربنا وطرب الوليد وتحرك، وقال: اسقني يا غلام فسقي وتغنى مالكٌ صوتاً آخر فجاء بالعجب، فقال له الوليد: أحسنت أحسنت أحسن الله إليك، فقال: الأرض الأرض يا أمير المؤمنين، قال: ذاك له ونزل فحياه وأحسن إليه، ولم يزل معه، حتى قتل الوليد.

ألا أن تحج ثانية يا أمير المؤمنين
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الربعي، قال: حدثنا إسحاق الموصلي، قال: حدثني أبي، عن إبراهيم الجرجاني، قال: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا بين القبر والمنبر، إذ أنا عن يميني برجل حسن الهيئة خاضب، معه رجلٌ في مثل حاله، فحانت مني لفتة نحوه فإذا هو يكسر حاجبه، ويفتح فاه، ويلوي عنقه، ويشير بيده، فتجوزت في صلاتي وسلمت، فقلت: أفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتغنى؟ قال: قنعك الله دار مخرمة، ما أجهلك! - قال: ودار مخرمة صخرة - أما في الجنة غناء؟ قلت: بلى، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، قال: فأنا في روضة من رياض الجنة، قلت: لا، قال: واحرباه! أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " بين قبري ومنبري روضةٌ من رياض الجنة " ، فنحن في تلك الروضة، فقلت: قبح الله شيخاً وشارة، ما أسفهك! فقال: بالقبر لما أنصت إلي، فتخوفت إلا أنصت إليه، فاندفع فتغنى بصوتٍ يخفيه:
فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينك تدمعا
فوالله إن قمت للصلاة مما دخا علي، فلما رأى ما نزل بي، قال: يا ابن أمي! أرى نفسك قد استجابت وطابت، فهل لك في زيادة؟ قلت: ويحك! مسجد رسول الله صلى الله وسلم، قال: أنا أعرف بالله ورسوله منك، فدعنا من جهلك، وتغنى:
فلو كان واشٍ باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
وما بالهم لا أحسن الله حفظهم ... من الحظ هم في نصر هم ليلى حياليا

قال: فقال له صاحبه: يا ابن أخي! أحسنت والله، عتق ما يملك لو أن هذا في موضع أمير المؤمنين الرشيد لخلع عليك ثيابه مشقومةً طرباً، قال: فقمت وهما لا يعلمان من أنا، فدخلت على أمير المؤمنين الرشيد، فحدثته، فقال: أدركهما لا يفوتانك، فوجهت من أتى بهما، فلما دخلا عليه ودخلا بوجوهٍ قد ذهب ماؤها، وأنا قائمٌ على رأسه، فقال: يا إبراهيم! هذان هما؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، فنظر المغني منهما إلي وقال: سعاية في جوار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسري عن أمير المؤمنين بعض غضبه، فقال: ما كنتما فيه؟ قالا: خيرٌ، قال: فما من ذلك الخير؟ فسكتا، فقال للمغني منهما: من أنت؟ فابتدره جماعة فقالوا: يا أمير المؤمنين! هذا ابن جريج فقيه أهل مكة، فقال: فقيه يتغنى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يا أمير المؤمنين! لم يكن ذلك بالقصد مني، ولكني سمعت من هذا المخزومي - يعني صاحبه - صوتين لم يزالا في قلبي حتى التقينا وأحببت أن يأخذهما علي فأخذهما علي، وحلفت إني قد أحسنت وأنه لو كان في موضع أمير المؤمنين لخلع علي، وسكت.
فقال: إن كنت تركت من الحديث شيئاً فهاته، فقال: ما تركت يا أمير المؤمنين شيئاً، قال: والله لتقولن ما قال أو لأضربن عنقك.
قال: يا أمير المؤمنين! قال: لو كنت في موضعه لخلعت عليه ثيابك مشقوقة طرباً، فتبسم الرشيد وقال: أما هذا فلا، ولكن سأنبذها لك صحيحة فهو خيرٌ لك، ثم دعا بثيابٍ ونبذ إليه ثيابه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ولصاحبه بخمسة آلاف درهم، وقال: لا تعود لمثل هذا.
قال: فقال صاحب ابن جريج: إلا أن تحج ثانيةً يا أمير المؤمنين، فضحك وقال: ألحقوه بصاحبه في الجائزة.

وصية أعرابية لولدها
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن رستم، قال: حدثني محمد بن عيسى النحوي، قال: قال أبان بن تغلب - وكان عابداً من عباد البصرة: شهدت أعرابية وهي توصي ولداً لها يريد سفراً وهي تقول له: أي بني! اجلس امنحك وصيتي، وبالله تعالى توفيقك، فإن الوصية أجدى عليك من كثير عقلك.
قال أبان: فوقفت مستمعاً لكلامها مستحسناً لوصيتها فإذا هي تقول: أي بني! إياك والنميمة، فإنها تزرع الضغينة وتفرق بين المحبين، وإياك والتغرض للعيوب، فتتخذ غرضاً، وخليق إلا يثبت الغرض على كثرة السهام، وقل ما اعتورت السهام هدفاً إلا كلمته حتى يهي ما اشتد من قوته، وإياك والجود بدينك، والبخل بمالك، وإذا هززت فاهزز كريماً يلين لهزتك، ولا تهزز اللئيم فإنه صخرة لا يتفجر ماؤها، ومثل لنفسك أمثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه، فإن المرء لا يرى عيب نفسه، ومن كانت مودته بشره، وخالف ذلك فعله، كان صديقه منه على مثل الريح في تصرفها، ثم أمسكت. فدنوت منها فقلت: بالله يا أعرابية إلا زدتيه في الوصية، قالت: أوقد أعجبك كلام الأعراب يا عراقي؟ قلت: نعم، قالت: والغدر أقبح ما تعامل به الناس بينهم، ومن جمع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة ريطتها وسربالها.
عندما يسمع المحب اسم حبيبه
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عون بن محمد، قال: حدثني إدريس بن بدر أخو الجهم بن بدر، قال: كان أبي منقطعاً إلى الفضل بن يحيى، فكان معه يوماً في موكبه، فقال أبي: فرأيت من الفضل حيرةً وجولة، فنظر إلي ففطن أني قد استبنت ما كان فيه، فقال: عرفني يا بدر، كيف قال المجنون: وداع دعا.......؟ فأنشده:
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
قال: هذه والله قصتي، كنت أهوى جاريةً يقال لها خشف، فكان مني ما رأيت ونالني مثل ما نال المجنون.
كتاب سوء الأدب
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الشامي بهراة، قال: أخبرني علي بن الجعد، قال: كتب أبو يوسف القاضي يوماً وعن يمينه إنسان، فلاحظه يقرأ ما يكتب، ففطن به أبو يوسف، فقال له: وقفت على شيءٍ من خطأ؟ قال: لا، والله، ولا حرف. فقال له أبو يوسف: جزيت خيراً كفيتنا مؤونة قراءته، ثم أنشأ يقول:
كأنه من سوء تأدابه ... تعلم في كتاب سوء الأدب

لم يدعه يسأل غيره
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني سليمان بن منصور الخزاعي، قال: حدثنا أبو سفيان الحميري، عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، قال: قدم أعرابي المدينة يطلب في أربع دياتٍ حنلها، فقيل له: عليك بحسن ابن علي، وعليك بعبد بن جعفر، وعليك بسعيد بن العاص، وعليك بعبد الله بن العباس، فدخل المسجد فرأى رجلاً يخرج ومعه جماعة، فقال: من هذا؟ قيل: سعيد بن العاص، قال: هذا أحد أصحابي الذين ذكروا لي، فمشى معه فأخبره بالذي قدم له، ومن ذكره وأنه أحدهم، وهو ساكتٌ لا يجيبه، فلما بلغ باب منزله قال لخازنه: قل لهذا الأعرابي فليأت بمن يحمل له، فقيل له: ائت بمن يحمل، قال: عافى الله سعيداً، إنما سألناه ورقاً ولم نسأله تمراً، قال: ويحك إئت بمن يحمل لك، فأخرج إليه أربعين ألفاً، فاحتملها الأعرابي فمضى إلى البادية ولم يلق غيره.
كيف خلصه الله من الغلام
حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلجن قال: حدثنا الحسين بن فهم، قال: حدثنا عمر بن شية، عن فلان من أهل البصرة، قال: مررت بالنخاسين ببغداد فإذا أنا برجل ينادي على غلام نظيف له هيئة وجمال، وهو يقول: من يشتري غلاماً سارقاً آبقاً قتولاً لمواليه؟ فعد خلال سوء، قال: فقلت: يا غلام! ما هذه الصفات بك؟ قال: فقال لي: امض إلى عملك إن أردت أن تمضي، فإن مولاي يريد أن يستعيبني بهذا، قال: فرغبني هذا الكلام فيه، فقلت للمنادي: بعنيه، فقال: مع كل ما وصفت من الخلال المذمومة فيه؟ قال: فقلت: ارم بثمن هذا في البحر.
فاشتريته بسبعة عشر ديناراً وصرت به إلى منزلي، فمكث شهوراً لا أرى إلا كل خلةٍ جميلة، حيطة وشفقة ونصحاً حتى أمنته وسلمت إليه، فقبض على كيسٍ لي فيه جملةٌ ثم هرب، فلم أعرف له خبراً، ولم يكن لي على بيعه حجةٌ لما بين من خلاله.
قال: فقلت: ما أرى كل ما قيل فيه إلا حقاً، وحمدت الله عز وجل إذ كانت النازلة بمالي ولم تكن بي. قال: ثم اتصل بي الخبر أنه بالكوفة قد انقطع إلى صيرفي، قال: فخرجت خلفه فأراه قاعداً في الصيارف في دكان رجل نبيلٍ منهم، قال: فقبضت عليه وقلت: يا عدو الله يا آبق! قال: فقال الصيرفي: أهو مملوك؟ قال: فقلت: نعم، وهو عبدي، قال: فقال الغلام: نعم، هو مولاي وأنا مملوكه، فراعني تماوته، قال: وخفت أن ينالني ما قال المنادي، قال: فجئت به إلى حدادٍ فقلت له: ضع بيدي ويده مصكةً وثيقة، قال: وقلت: والله لا نزال هكذا إلى بغداد، وخرجت من الكوفة أمشي ويمشي لا يتهيأ لنا الركوب من أجل المصكة، حتى وافينا برقيا، قال: فنمنا في الخان على تعب، قال: فما شعرت إلا بوثبة الأسد فوق الغلام، قال: فأخذه يجره ويجرني معه بالمصكة قال: فذكرت سكيناً في خفي صغيرة، فأخرجتها فحززت يده فبقيت في المصكة، ومضى به الأسد، ثم نزعت المصكة ودفنت يده
رواية أخرى للخبر
حدثنا أبو النضر العقيلي بنحو هذا عن أبي الحسن بن راهوية الكاتب، قال: حكى بعض التجار أن مملوكاً سرق منه كيساً فيه جملة من الدنانير وهرب، قال: فخرجت في طلبه فأدركني المساء في موضع حدده وذكر لي أنه مسبعٌ، فرأيت شجرة عاليه فتسنمتها، فلما كان في الليل أقبل الأسد والأرض كادت تنشق من زئيره، فجزعت وجذبت غصناً من الشجرة متعلقاً به لأرتفع من مكاني وازداد بعداً من الأرض، فسقط شخص من الشجرة سمعت وجبته، فوثب الأسد عليه وجعل يلغ في دمه، ويلتهم لحمه ثم ولى، وأقمت بمكاني حتى جاء الصبح وانتشر الناس، فنزلت فإذا رأس غلامي ملقى وإلى جنبه كيسي بحاله، فأخذته وانصرفت.
أبى إلا الحق
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: حدثني إسماعيل بن حسان قال: حدثنا حماد بن داود التغلبي، عن عوانة بن الحكم، قال:

أتى الحجاج برجلين من الخوارج، فقال لأحدهما: ما دينك؟ قال: دين إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، فقال: يا حرسي! اضرب عنقه، ثم قال للآخر: أنت ما دينك؟ قال: دين الشيخ يوسف بن الحكم - يعني أبا الحجاج - قال: ويحك أخبرته؟ لقد كان صواماً قواماً، يا حرسي! خل عنه، فقال: ويحك يا حجاج! أشقيت نفسك واثمت بربك، قتلت رجلاً على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " : فقال: أبيت، يا حرسي! اضرب عنقه، فانطلق به فأنشأ يقول:
سبحان رب قد يرى ويسمع ... وقد مضى في علمه ما تصنع
ولو يشا في ساعةٍ بل أسرع ... فيرسلن عليك ناراً تسطع
فيترك السرير منك بلقع
فضربت عنقه.

من طرائف القضاة
حدثنا جعفر بن أحمد بن جعفر النهرواني، قال: حدثني أبي، عمن حدثه، قال: ولى يحيى بن أكثم إسماعيل بن سماعة القضاء بغربي بغداد، وولى سوار بن عبد الله شرقيها، وكانا أعورين، فكتب فيه محمد بن راشد الكاتب:
رأيت من العجائب قاضيين ... هما احدوثة في الخافقين
هما فال الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء بأعورين
فلو جمع العمى يوماً بأفقٍ ... لكانا للزمانة خلتين
ةتحسب منهما من هز رأساً ... لينظر بزاله من فرد عين
وكان يحيى بن أكثم أعور.
من رسائل العتابي
حدثنا الحسين بن المزربان النحوي، قال: حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن صدقة النحوي، قال: كتب العتابي إلى داود بن يزيد بن المهلب: أما بعد، فإني امرؤ في خلتان: حصرٌ مقيد بالحياء، وعزة نفس شبيهةٌ بالجفاء، ولم أزل أرغب بنفسي في صحبة غطارفة الرجال، وأبناء ذوي الفعال، فوردت العسكر فرفع إلي أقوام منهم من يرتاش حاله، ولا يشرف إلا بماله، ومنهم من أنحل أديمه، ولم يصل قديمه، في طبات شتى يضيق عنهم المدح، ويتسع فيهم الذم، ورأيت وجوه القبائل تصدر عنك بأنواع الفضائل في حمل الديات، وفضل الهبات، ورأيتك من نبعةٍ أصلها الكرم، وأغصانها الهمم، تثمر الحمد، وترقع المجد، فحططت رحلى بفنائك وشددت عراه بأطناب وفائك، وقلت في ذلك
داود خير فتىً يعاذ بركنه ... ملكٌ يجير من الزمان القاسي
كم من يد لك أصبحت مشهورةً ... بيضاء تجلو ظلمة الإبلاس
فلقلما تلقاه إلا واقفاً ... متحرماً بين الندى والباس
أثر الهدية في النفوس
حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: اخبرنا أبو حفص - يعني النسائي - قال: حدثني أحمد بن محمد بن يعقوب التميمي، عن علي بن محمد القرشي، قال: حدثنا حفص بن عمرو بن خاقان، قال: حدثني يونس بن عبيد، قال: أتيت محمد بن سيرين، فقلت: قولوا له: يونس بن عبيد بالباب، فقال: قولوا له: أنا نائم، فقلت: قولوا له: إن معي هدية، فقال: كما أنت إذاً.
هل كذب ابن سيرين
قال القاضي: قول ابن سيرين، فقال: قولوا له: إنه نائم وليس بنائم، أراد به - والله أعلم - أنه نائمٌ بعد هذا الوقت، كقول الرجل: أنا قاتم غداً، قال الله عز وجل: " إنك ميتٌ وإنهم ميتون " ، وابن سيرين ممن تنزه عن الكذب لدينه وورعه. وقد روي عنه في ذم الكذب أشياء كثيرة.
لماذا يهدأ ولماذا يضرب
؟
حدثنا أحمد بن محمد بن السري التميمي، قال: حدثنا أحمد بن قرج، قال: سمعت أبا عمر الدفتري، يقول: سمعت الكسائي يقول: كنت يوماً أقرأ على حمزة فدخل سليم فاضطربت، فقال لي حمزة: يا هذا! تقرأ علي وأنت مستمر حتى إذا دخل سليم اضطربت؟ قلت: إني إذا قرأت عليك فأخطأت قومتني، وإذا أخطأت فسمعني سليم عيرني.
القصة يرويها الكسائي
حدثنا محمد بن الحسين بن مقسم، قال: حدثنا أبو أحمد المخرمي، قال: حدثنا أبو هشام، قال: حدثني سليم، قال: رأيت الكسائي يقرأ على حمزة فجئته فاستندت إلى المحراب بجنب حمزة، فجعل الكسائي يرعد، فقال له حمزة: كأنه أهيب في عينك مني؟ قال: لا، ولكني إذا أخطأت علمتني، وهذا إذا سمعني أخطىء شنع علي.
ألفاظ التلبية

حدثنا عبد الله بن الحسن بن محمد، أبو عمر البزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا الحسن بن موسى، قال: حدثنا زهير، قال: قال ابن إسحاق لأخي: يا رجيل! قال: لبيك، قال: لبى يديك.
قال القاضي: قول القائل: لبيك، بالإضافة فيه إلى كاف المخاطبة، وليست الإضافة فيه إلى الأسماء الظاهرة أعلامها ومبهمها، كقولك: لبى زيد، ولبى هذا الظاهر المستعمل في العربية، وقد أتى على شذوذه كما أتى في هذه الكلمة، أعني لبى يديك، وذلك أن عدداً من النحويين أنشدوني هذا البيت:
دعوت لما نابني مسوراً ... فلبى فلبى يدي مسور
وللتلبية أحكام قد رسمنا فيها رسالةً تحوي تفسير معانيها، وما اتفق عليه واختلف فيه منها، من جهة النحو والإعراب، وأبواب الفقه، وسببها ومجاريها في الحج والعمرة، ومن نظر فيه أشرف على أنواع من الفائدة.

الهموم تزيد مع النعم
حدثنا أبي، قال: وحدثني بعض أصحابنا، قال: حدثنا أبو عمرو الضرير بالكوفة، قال: قال يحيى بن معين: كنت أنا وأحمد بن حنبل عند عبد الرزاق، وكنت أكتب الشعر والحديث، وكان أحمد يكتب الحديث وحده، فخرج إلينا يوماً عبد الرزاق، وهو يقول:
كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم
وكلما زادك من نعمخ زا ... دك ما زادك من غم
فقال له أحمد: كيف قلت؟ كيف قلت؟ فأعادها عليه فكتبها.
رواية أخرى للخبر فيها زيادة
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: وحدثني أبي، عن بعض أصحابه، عن أبي عاصم، عن ابن جريج.
قال: خرجت في السحر، فرأيت رقعةً تضربها الرياح فأخذتها فلما أضاء الصبح فتحتها، فإذا فيها:
كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم
وكلما زادك من نعمةٍ ... زادك الذي زادك في الغم
إني رأيت الناس في دهرنا ... لا يطلبون العلم للعلم
إلا مباهاةً لأصحابهم ... وعدةً للغشم والظلم
قال ابن جريج: والله لقد منعتني هذه الأبيات عن أشياء كثيرة.
المجلس السابع والأربعون
تأكل من فم رسول الله
حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال: حدثنا حسين بن فهم، قال: حدثنا عبد الله بن الرومي، قال: حدثنا النضر بن محمد، عن عكرمة بن عمار، عن أثال بن قرة، عن شهر بن حوشب، قال: " كانت بالمدينة امرأةٌ تضحك الثكلى، قال: فدخلت على عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندها وهو يأكل قديداً، فقالت: انظروا يأكل ولا يطعمني! قال: فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان بين يديه، فقالت: لا آكله إلا من فيك، فأخرج لها النبي صلى الله عليه وسلم من فيه فأكلت، فما تكلمت بعد ذلك بكلمة بطالة " .
تعليق المؤلف
قال القاضيك وكيف يستبعد هذا وقد أكلت من طعامٍ كان في وعاء الصدق، وظرف الحق، وطريق العلم، والوقار والحلم.
وفي القصة التي أتى هذا الخبر بها ما فيه البيان عن فضل النبي صلى الله عليه وسلم وبركته، ويمن نقيبته، ووضوح أعلام نبوته، وظهور جاهه عند ربه، ونحن نحمد الله تعالى على هدايتنا لتصديقه، وتوفيقنا للإيمان به، ونسأله أن يثبتنا على التمسك بملته، وحفظ شريعته، ويعصمنا من معصيته ويجعلنا من الفائزين يوم الحساب بولايته فيسعدنا برفع الدرجات بشفاعته إنه سميع الدعاء، لطيف لما يشاء.
اللحن في أذنه أوقع
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو معمر، عن أبيه، قال: كان أمير على الكوفة من بني هاشم، وكان لحاناً فاشترى دوراً من جيرانه ليزيدها في داره، فاجتمع إليه جيرانه فقالوا له: أصلحك الله، هذا الشتاء قد هجم علينا فتمهلنا إن رأيت حتى يقبل الصيف ونتحول، فقال: لسنا بخارجيكم.
قال: ودعا يوماً بابنه وبمؤدبه، وهو على سطح فمر ثوران في الطريق، فقال الغلام: ما أحسن هذان الثوران! فلما نزلا من عنده قال المؤدب للغلام: ويحك! أهلكتني، فقال له الغلام: هذا حمار، ولو قلت هذين الثورين ما وقع عنده موقعا وستنظر ما يكون؟ فلم يلبث أن جاءته خمس مائة درهم وتخت ثيابٍ، فقال: كيف رأيت؟
تخريج قولهم ما أحسن هذان

قال القاضي: أما قول هذا اللحان الجاهل: لسنا بخارجيكم يريد بمخرجيكم، فمن النوادر المضحكة الدالة على انحطاط منزلة المتكلم وركاكاته. وأما قول ابنه: ما أحسن هذان الثوران، فليس بلحن، وإن كان الفصيح المختار خلافه، وقد رسمنا من القول في هذا ما يوضح عن علله ووجوهه فيما بيناه في وجه قراءة من قرأ: " إن هذان لساحران " ، ولا حاجة بنا في هذا الموضع إلى التشاغل به.

حيلة عراقي في أخذ جارية ابن جعفر
حدثنا أبو النضر العقيلي، قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم، عن أبي بكر العجلي، عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة، قالوا: كانت عند عبد الله بن جعفر جاريةٌ مغنية يقال له عمارة، وكان يجد بها وجداً شديداً، وكان لها منه مكانٌ لم يكن لأحدٍ من جواريه، فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه، فزاره يزيد ذات يوم فأخرجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها.
ولم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت، وأنت لا تستجيز إكراهه، وهو لا يبيعها بشيء أبداً، وليس يغني في هذا إلا الحيلة.
فقال: انظروا لي رجلاً عراقيا له أدبٌ وظرفٌ ومعرفة، فطلبوه فأتوه به، فلما دخل رأى بياناً وحلاوة وفهماً، فقال يزيد: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظوتك آخر الدهر، ويدٌ أكافئك عليها إن شاء الله، ثم أخبره بأمره فقال له: إن عبد الله بن جعفر ليس يرام ما قبله إلا بالخديعة، ولن يقدر أحدٌ على ما سئلت، وأرجو أن أكونه والقوة بالله، فأعني بالمال، قال: خذ ما أحببت، فأخذ من طرف الشام وثياب مصر واشترى متاعاً للتجارة من رقيقٍ ودواب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلاً إلى جانبه ثم توسل إليه، وقال: رجلٌ من أهل العراق قدمت بتجارة وأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به.
فبعث عبد الله إلى قهرمانه أن أكرم الرجل ووسع عليه في نزله، فلما اطمأن العراقي سلم عليه أياماً وعرفه نفسه وهيأ له بغلة فارهة وثياباً من ثياب العراق وألطافاً، فبعث بها إليه وكتب معها: إني يا سيدي رجلٌ تاجر ونعمة الله تعالى علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من لطفٍ وكذا وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطيئة الظهر فاتخذها لرجلك، فأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبلت هديتي، ولا توحشني بردها، فإني أدين لله تعالى بمحبتك وحب اهل بيتك، فإن أعظم أملي في سفرتي هذه أن أستفيد الأنس بك والتحرم بمواصلتك.
فأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله فقام وقبل يده واستكثر منه، فرأى أدباً وظرفاً وفصاحةً فأعجب به وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بلطف وطرفٍ، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً، فقد ملأنا شكراً وما نقدر على مكافأته، فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله ودعا عمارة وجواريه، فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في عجبه، فلما رأى ذلك عبد الله سر به إلى أن قال له: هل رأيت مثل عمارة؟ قال: لا والله يا سيدي، ما رأيت مثلها ولا تصلح إلا لك، وما ظننت أنه يكون في الدنيا مثل هذه الجارية حسن وجه وحسن غناء، قال: وكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة، قال: تقول هذا لتزين لي رأيي فيها وتجتلب سروري؟ قال له: يا سيدي والله إني لأحب سرورك، وما قلت لك إلا الجد، وبعد فإني تاجر أجمع الدرهم إلى الدرهم طلباً للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، فقال له عبد الله عشرة آلاف دينار؟ قال: نعم، ولم يكن في ذلك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن، فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف دينار، قال: وقد أخذتها، قال: هي لك، قال: وجب البيع، فانصرف العراقي.

فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد وافى به، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار، وقال: هذا ثمن عمارة فردها وكتب إليه: إنما كنت أمزح معك، ومما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها، فقال له: جعلت فداك، إن الجد والهزل في البيع سواء، فقال له عبد الله: ويحك! ما أعلم جاريةً تساوي ما بذلت، ولو كنت بائعها من أحدٍ لآثرتك، ولكني كنت مازحاً، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي، فقال العراقي: إن كنت مازحاً فإني كنت جاداً، وما اطلعت على ما في نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها، وليست تحل لك وما لي من أخذها من بد.
فمانعه إياها، فقال له: ليست لي بينة، ولكني استحلفك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره، فلما رأى عبد الله الجد قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارقٌ ولا نزل بنا نازلٌ أعظم علينا بليةً منك، تحلفني فيقول الناس اضطهد عبد الله ضيفه وقهره فألجأه إلى أن استحلفه، أما والله ليعلمن الله جل ذكره أني سائله في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء، ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه وتجهيز الجارية بما يشبهها من الثياب والخدم والطيب، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولها عوضاً مما ألطفتنا، والله المستعان.
فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة! إني والله ما ملكتك قط، ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكنني دسيسٌ من يزيد بن معاوية وأنت له، وفي طلبك بعث بي فاستترى مني، وإن داخلني الشيطان في أمرك وتاقت نفسي إليك فامتنعي.
ثم مضى بها حتى ورد دمشق فتلقاه الناس بجنازة يزيد، وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام الرجل أياماً ثم تلطف للدخول عليه فشرح له القصة - وروي أنه لم يكن أحدٌ من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلا ونسكا - فلما أخبره قال: هي لك، وكل ما دفعه إليك في أمرها فهو لك، وارحل من يومك فلا أسمع من خبرك في بلاد الشام، فرحل العراقي، ثم قال للجارية: إني قلت لك حين خرجت بك من المدينة، وأخبرتك أنك ليزيد وقد صرت لي، وأنا اشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، فإني قد رددتك إليه فاستتري مني، ثم خرج بها حتى قدم المدينة فنزل قريباً من عبد الله بن جعفر، فدخل عليه بعض خدمه، فقال له: هذا العراقي، ضيفك الذي صنع بنا ما صنع وقد نزل العرصة لا حياه الله.
فقال عبد الله: مه! أنزلوا الرجل وأكرموه.
فلما استقر به، بعث إلى عبد الله: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفة لأشافهك بشيء؟ فقلت: فأذن له، فلما دخل سلم عليه وقبل يده وقربه عبد الله ثم اقتص عليه القصة حتى فرغ، ثم قال: قد - والله - وهبتها لك قبل أن أراها أو أضع يدي عليها فهي لك، ومردودة عليك، وقد علم الله جل وعز أني ما رأيت لها وجهاً إلا عندك، وبعث إليها فجاءت وجاءت بما جهزها به موفراً، فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشياً عليها، وأهوى إليها عبد الله وضمها إليه.
وخرج العراقي وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة، فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري: أحلم هذا؟ أحقٌ هذا؟ ما أصدق هذا! فقال له العراقي: جعلت فداءك، ردها الله عليك بإيثارك الوفاء وصبرك على الحق، وانقيادك له، فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني صبرت عنها، وآثرت الوفاء وسلمت لأمرك، فرددتها علي بمنك، ولك والحمد.
ثم قال: يا أخا العراق! ما في الأرض أعظم منة منك، وسيجازيك الله تعالى.
فأقام العراقي أياماً، وباع عبد الله غنماً له بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانة: احملها إليه، وقل له: اعذر واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلاً لأكثر منه.
فرحل العراقي محموداً وافر العرض والمال.

الوليد وعطرد المغني
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا محمد بن عجلان أبو بكر، قال: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: حدثني محمد بن عبد الحميد بن إسماعيل بن عبد الحميد بن يحيى، عن عمه أيوب بن إسماعيل، قال: لما استخلف الوليد كتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إلي عطرد المغني قال عطرد: فدفع إلي العامل الكتاب فقرأته، وقلت: سمعاً وطاعة.

فدخلت عليه في قصره وهو قاعدٌ على شفير بركة ليست بالكبيرة، يدور فيها الرجل سباحة، فوالله ما كلمني كلمة حتى قال: أعطرد؟ فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: غنني حي الحمول. قال عطرد: فغنيت:
حي الحمول بجانب العزل ... إذ لا يناسب شكلها شكلي
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
إني بحبلك واصلٌ حبلي ... وبريش نبلك رائشٌ نبلي
وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي
قال: فوالله ما تكلم بكلمة حتى شق بردةً صنعانية عليه - ما يدري ما ثمنها - نصفين فخرج منها كما ولدته أمه، ثم رمى بنفسه في البركة فنهل منها حتى تعرفت فيها النقصان فأخرج منها ميتاً سكراً، فضربت يدي إلى البردة فأخذتها فوالله ما قال لي الخادم خذها ولا دعها، وانصرفت إلى منزلي وأنا أفكر فيه وفيما رأيت منه.
فلما كان من الغد دعاني في مثل ذلك الوقت، وهو قاعد في مثل ذلك الموضع، فقال: عطرد؟ قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: غنني، فغنيته:
أيذهب عمري هكذا لم أنل منه ... مجالس تشفي قرح قلبي من الوجد
وقالوا: تداوى إن في الطب راحةً ... فعزيت نفسي بالدواء فلم يجد
فلم يتكلم حتى شق بردة كانت عليه مثل البردة والأمسية فخرج منها ورمى بنفسه في البركة فنهل والله حتى تبينت النقصان، فأخرج ميتاً سكراً، وضممت البردة إلي فما قيل لي خذ ولا دع، فانصرفت إلى منزلي، فلما كان في اليوم الثالث دعاني فدخلت إليه وهو في بهوٍ قد كنت ستوره، فكلمني من وراء الستر، فقال: أعطرد؟ فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين ، قال: كأنني بك الآن قد أتيت المدينة فقلت: دعاني أمير المؤمنين فدخلت إليه ففعل وفعل، قال يا ابن الفاعلة لئن تكلمت - بشيء مما كان - شفتاك، لأطرحن الذي فيه عيناك، يا غلام! أعطه خمسمائة، الحق بالمدينة.
قلت: أفلا يأذن لي أمير المؤمنين فأقبل يده وأتزود نظرة إلى وجهه، قال: لا، قال عطرد: فخرجت من عنده فما تكلمت بشيء من هذا حتى دخلت الهاشمية.
قوله: وقالوا: تداوى.....خرجه على الأصل لإقامة الوزن، وقد بينا هذا فيما مضى بشواهده.

شعر لا يصدر من قلب سليم
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أحمد بن يحيى النحوي، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، عن عمرو بن عثمان، قال: مرت سكينة بعروة بن أذينة، وكان يتنسك، فقالت له: يا أبا عامر! ألست القائل:
إذا وجدت أذى للحب في كبدي ... أقبلت نحو شفاء الحب أبترد
هذا بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لحر على الأحشاء يتقد
أولست القائل:
قالت وأبثثتها سري فبحت به ... قد كنت عهدي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
هؤلاء أحرار - وأشارت إلى جواريها - إن كان هذا خرج من قلب سليم.
قال القاضي: وأنشدنا بيتي عروة الأولين من غير هذه الرواية.
لما وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سجال القوم أبترد
هذا بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنارٍ على الأحشاء تتقد
والأوار: ما يجد من الغلة والحرارة، كما قال الشاعر:
والنار قد تشفي من الأوار
وأما السجال فجمع سجلٍ، وهو الكبير من الدلاء، قال الراجز:
لطالما حلأتماها لا ترد ... فخلياها والسجال تبترد
وأما قوله: أبترد فهو افتعل من قولهم: برد الماء حرارة جوفي، قال الشاعر:
ةعطل قلوصي في الركاب فإنها ... ستبرد أكباداً وتبكي بواكيا
وروي لنا قوله في الشعر الثاني: وأبثثتها وجدي مكان سري.
الالتذاذ بالتلاقي بعد الفراق
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا المبرد، قال: حرم محمد بن عبد الله القيان، وكتب إليه أحمد بن عبد السلام الخزاعي رقعة ولم يترجمها ودسها في رقاع المتظلمين، فيها:
عرفات الأمير أيده الل ... ه بطول التوفيق والتسديد
فرقت بيننا وبين مدل ... وعجابٍ ومنصفٍ وفريد
كم قلوب قد أحرقت في صدور ... ودموعٍ قد أقرحت من خدود
فوقع محمد بن عبد الله بن طاهر في رقعته:

حسن رأي الأمير في العشاق ... وفر الحب بامتناع التلاق
خاف أن تحدث الملال سلواً ... فتلافى الهوى ببعض الفراق
وأغض اللقاء ما كان منه ... من تناءٍ وبعد طول اشتياق
شجرٌ غرسه كريهٌ ولكن ... يجتنى غبه لذيذ المذاق
قال القاضي: قد قال الناس في تضاعيف الالتذاذ بالتلاقي بعد الفراق، وفي تسهيل الفراق، واستحبابه لوفور الاستمتاع بالأوبة والاتفاق، فأكثروا، وإن كان أكثرهم يعلل نفسه ويرضيها بما لو خلي وما يختاره لم يرضه لها، لم نبن كتابنا هذا على استقصاء أنواعه، واستيفاء الأبواب فيه، فنجمع ذلك ونستوعبه، وهو يأتي في هذه المجالس متفرقاً بحسب ما يحضرنا، ويخرج لنا، وبالله توفيقنا، وبمشيئته وحسن معرفته نرجو أن تجري مقاصدنا ومتصرفاتنا.

أبيات وجدت على سد مأرب
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: لما هدمت مأرب سبأ أصيب في ركن من أركانها:
ستأتي سنون هي المعضلا ... ت ترجع مل الهجعة الأجدل
وفيها يهين الصغير الكبير ... وذو الحلم يسكته الأجهل
ترى الشيخ يلقي العصا طائعاً ... ويمشي عليها الفتى الأرجل
وفي الركن الثاني:
ما يكن كائناً لا شك فيه ... يزده الصبح والليل اقترابا
وليسا زائدي شيئاً تولى ... وحالاً دونه إلا ذهابا
وفي الركن الثالث:
أيالك دهراً قد خلا عجبه ... دهراً تحول رأسه وذنبه
دهراً تداوله الإماء فقد ... ترضى بماء بطونها عربه
وفي الركن الرابع الأخير:
الأخير شر ... الأخير شر
قال القاضي: ترجع مل الهجعة أراد من الهجعة، فحذف النون، ولم يأت بالكلمة على أصلها لئلا ينكسر الشعر، وهذا مذهبٌ معروف في العربية إذا كانت هذه اللام ظاهرةً كقولهم: بلعنبر وبلحرث وبلقين، فإذا كانت اللام لا تظهر أخرج على أصله كقولك، بنو الرحل ويقولون: بلمرة لظهور اللام، قال الشاعر:
غدا بني علباء بكر بن وائل ... وعجا صدور الخيل نحر تميم
ومن الكثير الفاشي من هذا الباب في كلامهم قولهم: ما أنس مل أشياء بمعنى من الأشياء، قال الأعشى:
فما مل أشياء لأنس قولها ... لعل النوى بعد التغرق تصقب
فما أنسى مل أشياء لا أنسى قولها ... وأدمعها يغسلن حشو المكاحل
وهذا باب يتسع، ويتصل به البيان عن قراءة أبي عمرو: " وأنه أهلك عادل أولى " ، وقال الشماخ بن ضرار يمدح عرابة الأوسي:
رأيت عرايتل أوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
ولشرح هذا المعنى موضع من كتبنا هو أحق به.
المجلس الثامن والأربعون
خبر بني أبيرق
حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، سنة ثماني عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أبو مسلم الحسن بن أحمد الحراني ببغداد سنة ثمان وأربعين ومائتين، قال: حدثنا محمد بن سلمة الحراني، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، قال: كان أهل بيتٍ منا يقال لهم " بنو أبيرق " : بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وقال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر، قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث، فقال:
أوكلما قال الرجال قصيدةً ... أصموا وقالوا ابن الأبيرق قالها؟

وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجةٍ في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسارٌ فقدمت ضافطةٌ من الشام، ابتاع الرجل منها فخص به نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطةٌ من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيدٍ حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاحٌ له درعان وسيفاهما وما يصلحهما، فعدي عليه من تحت الليل فنقبت المشربة فأخذ الطعام والسلاح، فأتى عمي رفاعة، فقال: ابن أخ! أتعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وشرابنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقروا في هذه اليلة، ولا نرى فيما نراه إلا بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق - قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجلٌ منا له صلاح وإسلام - فلما سمع ذلك لبيدٌ اخترط سيفه وقال: أبني أبيرق! والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار، حتى لم نشك أنهم أصحابنا، فقال: لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، قال: قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقلت له: يا رسول الله! إن أهل بيتٍ منا أهل جفاءٍ عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيدٍ فنقبوا مشربةً له وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم، يقال له: أسيد بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه قومٌ من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى بيتٍ منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على غير بينةٍ ولا تثبتٍ، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيتٍ ذكر فيه إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير تثبتٍ ولا بينة، قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتى عمي رفاعة، فقال يا ابن أخ! ما صنعت؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم يلبث أن نزل القرآن " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً - أي بني أبيرق - وأنت، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً - أي مما قلت لقتادة - ، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم - أي بني بيرق - إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً، هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا، ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً - أي أنهم لو استغفروا الله غفر لهم - ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً، ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفةٌ منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيءٍ، وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً، لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " إلى: ومن يشاقق الرسول . فلما نزل القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده إلى رفاعة، قال: قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عمي في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي! هو في سبيل الله، قال: فعرفت إن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشيرٌ بالمشركين ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد، فأنزل الله تعالى فيه: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا، إن الله لا يغفر أن يشرك به " إلى آخر الآية، فلما نزل على سلافة رماها حسان بأبياتٍ من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم

قالت: أهديت إلى شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير.قالت: أهديت إلى شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير.

معنى الضافطة، والدرمك
قال القاضي: قول الراوي في هذا الخبر: ضافطة أراد عيراً أو رفقه فيها ميرة، وقوله: الدرمك يريد النقى، ومنه الخبر: " أن الأرض بعد البعث درمكةٌ بيضاء " ، قال: أعشى بني قيس بن ثعلبة:
له درمك في رأسه ومشاربٌ ... وقدرٌ وخبازٌ وصاع وديسق
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في تربة الجنة: إنها الخبز من الدرمك.
وقال ابن الأنباري: الدرمك خبز الحوارى، وأنشد:
ذهب الذين إذا استجعت فزرتهم ... خبزوا الفؤاد بدرمكٍ وشراب
حذف الياء في مثل يا ابن أخ ويا ابن أم
وفي الخبر: يا ابن أخ، بحذف الياء المضاف إليها وإبقاء الكسرة دلالة عليها ، وهذا وجه معروف في كلام العرب، غير أن معظم النحويين زعموا أن الذي يكثر استعماله في هذا الباب موضعان: يا ابن أم ويا ابن عم، على اختلاف القراءة في فتح الميم وكسرها من قوله يا ابن أم، وعلى ما في هذه الكلمة من لغات العرب، واعتل بعضهم في اختصاص هذين الاسمين لهذا المعنى بابن الرجل يقول: يا ابن أم ويا ابن عم، لمن ليس بأخيه ولا ابن عمه، وهذا عندي لازم في يا أخي ويا ابن أخي لكثرة قولهم: يا أخي ويا ابن أخي للأجنبي، وقد يقولون يا ابن أمي في الإضافة في يا ابن أمي، ويسكنونها تارةً ويحركونها أخرى، قال الشاعر:
يا ابن أمي ويا شقيق نفسي ... أنت خليتني لدهرٍ شديد
وقال آخر:
يا ابن أمي ولو شهدتك إذ ... تدعو تميماً وأنت غير مجاب
وقوله: وكان شيخاً قد عسى، يعني أن الكبر قد بلغ منه وأثر فيه، وقد قرىء " وقد بلغت من الكبر عسياً " وعسيا على ما بين القراء من الاختلاف في ضم العين على الأصل وكسرها، قال الشاعر:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
ويروى: وقد بدا، ويقال: في هذا الباب العسو والعتو
كتب بني أمية أقصر من كتب بني العباس
حدثنا محمد بن الحسين بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: سمعت بعض أصحابنا يحدث عن عبد الله بن سوار، قال: كنت غلاماً أكتب بين يدي يحيى بن خالد، فدخل عليه شيخٌ ضخمٌ جميل الهيئة، فأعظمه يحيى وأقعده إلى جانبه وحادثه ثم قال له: ما بالكم كنتم تكتبون الكتب إلى عمالكم في سائر أموركم فلا تطبلون، وإنما الكتاب بقدر الفضل من كتبنا، ونحن نطيل إطالة لا يمكنا غير ذلك، فقال: اعفني، فأبى عليه إلا أن يجيبه، فقال وأنت غير ساخط؟ٍ قال: نعم، قال: إن بني أمية كانت لا تكتب في الباطل أنه حقٌ، ولا في الحق أنه باطل فلا تعقب أمراً قد نفذ بخلافه أمرٌ، فلا يحتاجون إلى الأطالة وطلب المعاذير والتلبيس، وأنتم تكتبون في الشيء الحق أنه باطل والباطل أنه حق، ثم تعقبون ذلك بخلافه فلا بد لكم من الإطالة.
قال عبد الله بن سوار: فسألت عن الشيخ فقيل لي: هذا رجلٌ من كتاب بني أمية القدماء من أهل الشام.
قال القاضي: قول يحيى لهذا الكتاب في سائر أموركم، إن كان أراد فيما يسير وينتشر من أموركم، فهو صواب في اللفظ، وإن كان أراد به العموم والإحاطة على معنى جميع أموركم، فهو خطأ من جهة اللفظ والمعنى، إذ السائر في هذا المعنى تأويله الباقي، وإنما يقال: فعلت في باب كذا كيت وكيت وفي سائر الأبواب لمعنى الفاضل والبقية، يقال: أسأرت في الإناء أسأر بالهمز قال الشاعر:
أعط الملوح سؤر الكلب يشربه ... إن الملوح شرابٌ على الكدر
وقال الأعشى:
بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها ... بعد ائتلافٍ وخير الود ما نفعا
وقال أيضاً:
فبانت وقد أسأرت في الفؤا ... د صدعاً على نأيها مستطيرا
وقال حميد بن ثور الهلالي:
إلا إن أمي ما يزال مطالها ... شديداً وفيها سؤرةٌ وهي قاعد
يعني بقية من الشباب، وهي من القواعد، وقد روي بيت الأخطل على وجهين:
وشاربٌ مربحٌ بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار

بالهمز في سوار وغيره فمن رواه مهموزاً قالمعنى أنه لا يفضل في الكأس شيئاً إذ أن هذا عيبٌ عندهم من وجهين، أحدهما: أنه يدل على عجزه عن الشراب أو كراهية الشراب والندام، ومن رواه بسوار غير مهموز فمعناه بوثاب من المساورة والمواثبة، فهذا بيان الخطأ في هذا من جهة اللفظ، وأما من جهة المعنى فلكثرة كتب بني أمية في عظيم الآثام وجسيم الإحرام، وذميم الجور والإحكام، ولكثرة الإطالة في كتبهم، والعجب من يحيى كيف أمسك عن جواب هذا المتكلم من أن يريه من إطالة كتب بني أمية وخطأ معانيها، ونقضها أكثر ما أصدرت من أحكامها.

ما للشيطان ذنب في هذا
صلى رجل منهم خلف إمام فلما قرأ " الحمد " أرتج عليه فلم يدر ما يقول، فجعل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويردد ذلك مراراً، فقال الشاطر من خلفه: ما للشيطان ذنبٌ إلا أنك أنت ما تحسن تقرأ.
مجان الشعراء يصفون صلاة أحدهم
حدثنا أبو النضر العقيلي، قال: حدثنا أبو الحسن بن راهويه، قال: صلى يحيى بن المعلى الكاتب، وكان في مجلسٍ فيه أبو نواس ووالبة بن الحباب وعلي بن الخليل والحسين الخليع صلاةً فقرأ فيها: قل هو الله أحد، فغلظ فسلم، فقال: أبو نواس:
أكثر يحيى غلظاً ... في قل هو الله أحد
فقال والبة:
قام طويلاً ساكناً ... حتى إذا أعي سجد
فقال علي بن الخليل:
يزحر في محرابه ... زحير حبلى بولد
فقال الحسين الخليع:
كأنما لسانه شد ... بحبلٍ من مسد
منزلة أبي العتاهية عند العباسيين
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عون بن محمد، قال: حدثنا إبراهيم بن الحسن، قال: سمعت أبا العتاهية ينشد المأمون:
مولاي أعلم ذي علمٍ بما يأتي ... يزيدني كل يومٍ في كراماتي
لم يأت شيئاً من الأشياء أعلمه ... إلا تحرى به بري ومرضاتي
أعطيت فوق المنى من سيدٍ ملكٍ ... وخصني الله منه بالكرامات
عدوه من جميع الناس كلهم ... فالحمد لله من يبغي معاداتي
فقل لحاسد هذا الحب مت كمداً ... فالحب يقسمه رب السموات
إن لم يعاوده شكري في مدائحه ... فلا تمليت منه حسن عاداتي
فقال المأمون: أنت يا أبا إسحاق تمدحنا منذ خمسين سنة، لو كنت تذمنا لكانت لك حرمة، وكل ما نفعله بك من استحقاقك.
المجلس التاسع والأربعون
الحب في الله ومنزلته
أخبرنا المعافي، قال: حدثنا الفضل بن أحمد بن منصور المقري أبو العباس الزبيدي، قال: حدثنا عبد الأعلى بن حماد الرسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رجلٍ زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال له الملك: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية أسلم عليه، قال: هل له عليه قرض؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك يعلمك أنه قد أحبك كما أحببته فيه " .
تعليق المؤلف
قال القاضي: هذا خبرٌ معروف قد كتبناه عن عددٍ من الشيوخ من طرق شتى، وأتى في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدةٌ من الأخبار، وأنه قال في بعضها: إن الله تعالى ذكره، قال: " حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، وإن المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور " .
مما أشبه هذا مما يرغب في التحاب في الله والتواصل فيه، وإنما يخلص المودة والمخالة في الله وله مع التقوى، وقد جاء في الأثر: " أنه ما تحاب قط رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه " ، متى عري المتحابان من تقوى الله فإلى أشد العداوة مآلهما، وأقبح التباغض عاقبة أمرهما، وقد قال الله جل جلاله: " الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين " وقد اقتص الله من أحوال الكفار وإخوانهم وطواغيتهم وأذنابهم، ومن تبرؤ بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، ما فيه تنبيهٌ للناظرين، وعظةٌ للمعتبرين، والله نسأل التوفيق لما يرضيه، والعصمة من جميع معاصيه.
من أعلام النبوة

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: قال رجل من بني ليثٍ: بعثني قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة لآتيهم بخبره، فقدمت فبت في جبل آل خويلد، ومعي فلان ابن فلان، فلم أر كرعبه، فقلت: أبهذا القلب تقاتل محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال: إن نفسي تخبرني أنه إن رآني قتلني، فلما أصبح أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال لي الرجل: أئتني بخبره ولا يعلمن بمكاني، قال: فأتيته فأجده جالساً بالأبطح في ثوبين أبيضين كأني انظر إلى أعكان بطنه، وبلالٌ قائم يقرأ " يس، والقرآن الحكيم " فقلت له: مره فليزدنا من هذا الكلام الطيب، فقال: زده يا بلال، فقرأ " اقتربت الساعة وانشق القمر " فدنوت منه فقلت: يا رسول الله، كيف الإسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتفعل ما تؤمر به وتنهى عما تنهى عنه، فقلت: يا رسول الله! إن عندي أمانةً لرجلٍ أفأكتمها أم أحدثك بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتمها وهو فلان ابن فلان، بات معك في هذه الليلة في جبل آل خويلد وللظالمين مصارع، الله صارعه فيها؟ قال: ورحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ورحلت معه فانكشفت هوازن، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الرجل صريعاً يركض برجليه، فقال: أبعدك الله فأنك كنت تبغض قريشاً.
قال القاضي: في هذا الخبر علمٌ من أعلام النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت رسالته، وصحة نبوته، وما أطلعه الله عليه من غيبه، الذي يكرم من يخصه به، وعلى منزلة قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرته ورهطه الأدنين وعزته. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه، قال: " من يرد هوان قريش أهانه الله " وكيف يبغض ذو حجىً قبيلاً منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد أصفيائه، وخاتم أنبيائه.

يستحيي من النهر
حدثنا الحسين بت القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا يحيى بن صالح الوحاصي، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد الحضرمي، عن كعب الأحبار.
أن رجلاً من بني إسرائيل أتى فاحشة فدخل نهراً يغتسل فيه، فناداه الماء: يا فلان ألا تستحي ألم تتب من هذا الذنب؟ فقلت إنك لا تعود فيه؟ فخرج من الماء فزعاً وهو يقول: لا أعصي الله، فأتى جبلاً فيه اثنا عشر رجلاً يعبدون الله فلم يزل معهم حتى تخطوا موضعهم فنزلوا يطلبون الكلأ، فمروا على ذلك النهر، فقال الرجل: أما أنا فلست بذاهب معكم، قالوا له: لم؟ قال: لأن ثم من قد اطلع مني على خطيئةٍ فأنا أستحيي منه أن يراني، فتركوه ومضوا، فناداهم النهر: يا أيها العباد! ما فعل صاحبكم؟ قالوا: زعم لنا أن هاهنا من قد اطلع منه على خطيئةٍ فهو يستحيي منه أن يراه، قال: يا سبحان الله! إن بعضكم ليغضب على ولده أو على قراباته، فإذا تاب ورجع إلى ما يحب أحبه، وإن صاحبكم قد تاب ورجع إلى ما أحب فأنا أحبه، فأتوه فأخبروه، واعبدوا الله على شاطئي. فأخبروه فجاء معهم فأقاموا يعبدون الله زماناً، ثم إن صاحب الفاحشة توفي، فناداهم النهر: يا أيها العباد والعبيد الزهاد! غسلوه من مائي وادفنوه على شاطئي حتى يبعث يوم القيامة من قربي، ففعلوا به ذلك، وقالوا: نبيت ليلتنا هذه على قبره نبكي، فإذا أصبحنا سرنا، فباتوا على قبره يبكون، فلما جاء وجه السحر غشيهم النعاس، فأصبحوا وقد أنبت الله على قبره اثنتي عشرة سروة، فكان أول سروٍ أنبته الله تعالى على وجه الأرض، فقالوا: ما أنبت هذا الشجر في هذا المكان إلا وقد أحب عبادتنا فيه، فأقاموا يعبدون الله على قبره، كلما مات منهم رجلٌ دفنوه إلى جانبه حتى ماتوا بأجمعهم، قال كعب: فكانت بنو إسرائيل يحجون إلى قبورهم.
خطبة زياد البتراء، وتعليق بعض من سمعها

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أبي يعقوب الدينوري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد الفريابي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عبد الملك بن عمير، قال: شهدت زياد بن أبي سفيان وقد صعد المنبر فسلم تسليماً خفياً، وانحرف انحرافاً بطياً، وخطب خطبةً بتيرا، قال ابن الفريابي: والبتيرا: التي لا يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال: إن أمير المؤمنين قد قال ما سمعتم، وشهدت الشهود بما قد علمتم، وإنما كنت امرأً حفظ الله مني ما ضيع الناس، ووصل مني ما قطعوا، ألا إنا قد سسنا وساسنا السائسون، وجربنا وجربنا المجربون، وولينا وولي علينا الوالون، وإنا وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدةٌ في غير عنف، ولينٌ في غير ضعف، وأيم الله إن لي فيكم صرعى، فليحذر كل رجل منكم أن يكون من صرعاي، فوالله لآخذن البريء بالقسيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حتى تلين لي قناتكم، وحتى يقول القائل: " انج سعد، فقد قتل سعيد " ، ألا رب فرحٍ بإمارتي لن تنفعه، ورب كارهٍ لها لن تضره، وقد كانت بيني وبين أقوام منكم إحن وأحقاد، وقد جعلت ذلك خلف ظهري وتحت قدمي، ولو بلغني عن أحدكم أن البغض لي قتله ما كشفت له قناعاً، ولا هتكت له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا أبداها لم أقله عثرته، ألا ولا كذبة أكثر شاهدٍ عليها من كذبة إمام على منبر، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، وإذا وعدتكم خيراً أو شراً فلم أف به فلا طاعة لي في رقابكم، ألا وأيما رجل منكم كان مكتبه خراسان فأجله سنتان ثم هو أمير نفسه ألا وأيما رجلٍ منكم كان مكتبه دون خراسان فأجله ستة أشهر ثم هو أمير نفسه، وأيما امرأةٍ احتاجت فإننا نعطيها عطاء زوجها ثم نقاصه به، وأيما عقال فقدتموه من مقامي هذا إلى خراسان فأنا له ضامنٌ، فقام إليه نعيم بن الأهتم المنقري، فقال: أشهد قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال: كذبت أيها الرجل ذاك نبي الله داود عليه السلام، ثم قام إليه الأحنف بن قيس، فقال: أيها الرجل إنما الجواد بشده، والسيف بحده، والمرء بجده، وقد بلغك جدك ما ترى، وإنما الشكر بعد العطاء، والثناء بعد البلاء، ولسنا نثني عليك حتى نبتليك، فقال: صدقت، ثم قام أبو بلال مرداس ابن أدية، فقال: أيها الرجل: قد سمعت قولك: والله لآخذن البريء بالسقيم والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر، ولعمري لقد خالفت ما حكم الله في كتابه إذ يقول: " ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى " فقال: إيهاً عني، فوالله ما أجد السبيل إلى ما تريد أنت وأصحابك حتى أخوض الباطل خوضاً. ثم نزل.
فقام مرداس بن أدية، وهو يقول:
يا طالب الخير نهر الجور معترضٌ ... طول التهجد أو فتكٌ بجبار
لا كنت إن لم أصم عن كل غانيةٍ ... حتى يكون بريق الحور إفطاري
فقال له رجلٌ: أصحابك يا أبا بلال شباب، فقال: شباب مكتهلون في شبابهم، ثم قال:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم سجود
فسرى وانجفل الناس معه، فكان قد ضيق الكوفة على زياد.

شريطة بشار
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عوف بن محمد، قال: قال دعبل لإبراهيم بن العباس: أريد أن أصحبك إلى خراسان، فقال له إبراهيم: حبذا أنت صاحباً مصحوباً إن كنا على شريطة بشار قال: وما شريطة بشار قال: قوله:
أخ خيرٌ من آخيت أحمل ثقله ... ويحمل عني حين يفدحني ثقلي
أخٌ إن نبا دهرٌ به كنت دونه ... وإن كان كونٌ كان لي ثقة مثلي
أخ ماله لي لست أرهب بخله ... ومالي له لا يرهب الدهر من بخلي
قال: ذلك لك ومزية فاصطحبا.
من كنوز العلم
حدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: محمد - يعني بن زكريا الغلابي - ، قال: حدثنا ابن عائشة، قال: قال: ابن يحيى الأسلمي، عن ليث، عن مجاهد، قال:

شهدت مائدةً عليها الحسن والحسين، ومحمد بنو علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن صفوان، فسقطت جرادةٌ على المائدة، فقال ابن عباس لمحمد بن الحنيفة: يا أبا القاسم! ما كان أبوك يقول على جناح الجرادة مكتوب؟ قال: ما كنت لأتكلم بحضرة أبي محمد - يعني الحسن - فقال: يا أبا محمد! ما كان أبوك يقول؟ قال: كان أبي يقول: على جناح الجرادة مكتوب بالسريانية: أنا الله رب الجرادة وخالقها، فإذا شئت أن أبعثها رزقاً لقوم فعلت، وإذا شئت أن أبعثها عزاباً على قومٍ فعلت، فقام محمد إلى الحسن فقبل رأسه، وقال: هذا والله من كنوز العلم.

سبب غضب بشار على سلم
حدثنا عبد الله بن الحسن بن محمد البزاز، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، حدثني أبو الحسن علي بن يحيى، حدثني أحمد بن صالح المؤدب وكان أحد العلماء، قال: أخبرني جماعة من أهل الأدب أن بشاراً غضب على سلمٍ الخاسر وكان من تلامذته ورواته، فاستشفع عليه: بجماعة من إخوانه فأتوه، فقالوا: جئناك في حاجة، قال: كل حاجةٍ لكم مقضية إلا سلماً، قالوا: ما جئناك إلا في سلم فلا بد من أن ترضى عنه، قال: فأين هو؟ قال: هوذا فقام سلم فقبل رأسه ويديه، وقال: يا أبا معاذ! خريجك وأديبك، قال: يا سلم! من الذي يقول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
قال: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداك، قال: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
قال: خريجك يقول ذلك - يعني نفسه - فقال: فتأخذ معاني التي عنيت بها، وتعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظاً أخف من لفاظي حتى يروى ما تقول: ويذهب شعري، لا أرضى عنك أبداً، قال: فما زال يتضرع إليه ويتشفع له الجماعة حتى رضي عنه.
انتقام العنزي
حدثني عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي.
قال: كان رجل من عنزة دعا رؤبة بن العجاج فأطعمه وسقاه، وأنشده فخره على عنزة، فساء ذلك العنزي، فقال لغلامه سراً: اركب فرسي وجئني بأبي النجم، فطلبه فجاء وعليه جبة حزوبت من غير سراويل، فدخل وأكل وشرب، ثم قال: العنزي: أنشدنا يا أبا النجم ورؤبة لا يعرفه، فانتحى في قوله:
الحمد لله الوهوب المجرل
حتى بلغ:
تبقلت من أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل
قال القاضي: ثنى أبو النجم في قوله بين رماحي، لأن رماح الفريقين وإن كانت جمعاً جملتان كما قال الشاعر:
ألم يحزنك أن جبال قيسٍ ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا
وقد قال الله عز وجل: " هذان خصمان اختصموا " وقال جل ذكره: " سنفرغ لكم أيها الثقلان " فثنى وجمع على ما فسرناه، فقال له رؤبة: إن نهشلاً ابن مالك يرحمك الله، فقال له: يا ابن أخي إن الناس أشباه، إنه ليس مالك بن حنظلة، إنه مالك بن ضبيعة، قال: فخزي رؤبة وحيي من غلبة أبي النجم إياه، ثم أنشده أبو النجم فخره على تميم، فاغتم رؤبة، وقال لصاحب البيت: لا يحبك قلبي أبداً.
قال القاضي: والبت: الكساء ويجمع بتوتاً.
وقد ذكر أن رؤبة ذوكر بالأراجيز، فقال: وقد ذكر أبو النجم قصيدته تلك: لعنها الله، يعني هذه اللامية لاستجادته إياها وغضبه منها وحسده عليها.
القصيدة أيضا
ً
حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن بشر المرشدي، أخبرني أبو إسحاق الطلحي، حدثنا المازني، قال: حدثنا الأصمعي، قال: حدثني أبو سليم العلاء، قال: قلت لرؤبة: كيف رجز أبي النجم عندكم؟ قال: لاميته تلك عليها لعنة الله، قال: فإذا هي قد غاظته وبلغت منه.
أسوأ الناس حالا
ً
حدثنا أحمد بن محمد بن سلم الكاتب، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: قال بعضهم: أسوأ الناس حالاً من قويت شهوته، وبعدت همته، واتسعت معرفته وضاقت قدرته.
أين حدث الخرق
قال: وقال: الزبير: كان بالبصرة رجل بصيرٌ بالغناء، فحضر مجلس بعض الأشراف فحفظ عنه بعضهم صوتاً أخل به بعد، فلقيه يوماً بباب بعض الأمراء، فقال: يا أبا فلان! الثوب الذي أعطيتنا كان فيه خرق، فقال: عندكم حدث ذلك.
هذه الأحاديث الصغار

حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: سمعت محمد بن يونس، يقول: سمعت أبا عاصم وذكر هذه الأحاديث الصغار، فقال: هذا اللؤلؤ.

شكر ورد عليه
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا أبو خليفة قال: أخبرني القاضي محمد بن الفتح السياري.
قال: اجتزت بالكوفة في بعض شوارعها، فأخذني بطني فلم أدر ما أصنع، إذ رأيت خصيا على باب كبير، فقلت: أصلحك الله، هل من موضعٍ أبول فيه؟ فقال لي: ادخل، فدخلت فإذا دار كبيرة قوراء، في وسطها بستان، فرأيت عيناً من ثقبٍ في الستارة، ووجهاً لا ينبغي أن يكون أحسن منه، فلما قضيت حاجتي، قلت في نفسي: إن كان مع هذا الوجه الحسن براعة لسان فهو غاية، فقلت وأنا خارج لأسمعها: أحسن الله لكم، وبارك عليكم، وتولى مكافأتكم بالحسنى، فقالت مسرعةً: وأنت، فبارك الله عليك وأحسن إليك، فما رأينا خارئاً أشكر منك، فأفحمتني.
لا، ولا العوراء
حدثنا الحسين بن محمد بن سعيد المطيقي، حدثنا يوسف بن موسى المروزي، قال: قال عبد الله بن خبيق، سمعت بعض أصحابنا، يقول: قيل للفضيل بن عياض مات حماد البربري وأوصى بخمسة أفراس، قال فضيل: وأصابوا من يقبلها؟ قالوا: نعم، قال: وإيش يطلبون عليها، قالوا: الحوراء، قال: لا ولا العوراء
معنى الرفه
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: أنبأنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: أنشدت لسعيد بن سليمان المساحقي القاضي، في هارون بن زكريا كاتب العباس بن محمد:
أزورك رفهاً كل يومٍ وليلةٍ ... ودرك مخزونٌ علي قصير
لأي زمانٍ أرتجيك وخلةٍ ... إذا أنت لم تنفع وأنت وزير
فإن الفتى ذا اللب يطلب ماله ... وفي وجهه للطالبين بشير
قال القاضي قوله: أزورك رفهاً، يعني كل يوم من غير إغباب، وقد أبان ذلك بقوله: كل يوم وليلة، وهو مأخوذ من قولهم في الإبل: هي ترد الماء رفهاً، إذا اتصل وردها، ثم يقال في إظمائها غبٌ وربعٌ وخمس إلى عشر، وهو أقصى الإظماء، وكنت بحضرة بعض المجدودين يوماً ممن حكمه زمان السوء فينا، وجار ببسط يده وقبض أيدينا، وأشاع له في عامة الناس وعشرائهم، وأغمارهم وغوغائهم، أنه أوحد دهره، وقريع عصره، علماً وذكاءً، وأدباً ومضاء، فتمثل ببيت البحتري من كلمته السينية التي يصف فيها إيوان كسرى، وهي من جيد شعره وحسنه، وأولها:
صنت نفسي عما يدنس نفسي ... وترفعت عن جدا كل جبس
والبيت الذي تمثل به هذا الرجل على قبح خطئه فيه:
وبعيدٌ ما بين وارد خمسٍ ... عللٍ شربه ووارد سدس
فما رأيت أحداً من حاضري مجلسه يومئذٍ على كثرتهم قد تبين منه إنكار هذا اللفظ ولا لحظ، وعاد بعد بمثل هذا في مجلس آخر، ثم إنني كنت أنا وهو يوماً خاليين، فأنشد هذا البيت غير مرةٍ على الوجه الذي أنكرته، فقلت له: قد سمعتك تنشد هذا البيت غير مرةٍ على ما أنشدته في هذا الوقت، ولست أدري كيف اتفق لك الخطأ فيه مع ظهوره؟ وكيف لم تتأمله فتعرف فساد المعنى الذي إنشادك عبارة عنه؟ قال: فكيف هو؟ فقلت له:
وبعيدٌ ما بين وارد رفهٍ عللٍ شربه ووارد خمس
فقال: لا، وهو على ما رويته، فقلت له: وأي بعد بين الخمس والسدس؟ هو تاليه المتصل به الذي يليه، وبين الرفه وبين الخمس وما دونه بعد ظاهر، وفضل حائل، فلم يبن لي منه رجوع، وقد كان كثيراً، ما يرجع في أشياء كثيرةٍ إلي، ويرجع عنها عند توقيفي إياه وتثبيتي له.
المجلس الخمسون
لا نستعمل على عملنا من طلبه
حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس، قال: حدثنا حماد بن الحسن، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب، حدثنا مندل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه.
قال: قال أبو موسى: " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي رجل، فقال: استعملني، فقال: إنا لا نستعمل على عملنا من طلبه ولا من حرص عليه " .
شرح السبب في ذلك

قال القاضي: تأملوا رحمنا الله وإياكم، ما ورد به هذا الخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم من إخباره أنه لا يستعمل على الناس من طلب العمل عليهم، ولا من حرص على ولاية أمورهم، لأن من سأل هذا وحرص عليه لم يؤمن زيغه عن العدل في من يلي عليه، ومحاباته لمن يواليه، وشفاء غيظه ممن يعاديه، والإستطالة بما بسط فيه على من بسط عليه، فيجور في حكمه، ويستعين بسلطانه على ظلمه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سأل القضاء، واستعان عليه بالشفعاء، ما روي من أن الله وكله إلى نفسه.
وروي عن عبد الرحمن بن سمرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: " يا عبد الرحمن! لا تسل الإمارة، فإنك أن أوتيتها عن غير مسألةٍ أعنت عليها، وإن أوتيتها عن مسألةٍ وكلت إليها " .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحرصن أحدٌ على الإمارة فيعزل " .
وقد كان سلفاؤنا من علماء المسلمين ينأون عن الولايات ويمتنعون من ملابستها والدخول فيها، ويجانبون أهلها مع دعائهم إليها وإكراههم عليها، حتى إن منهم من يتهيب الفتيا في الدين، ويكل مستفتيه إلى غيره من المفتين، ولو ذكرنا ما روي في تفصيل هذه الجملة لأطلنا القول والوصف، وملأنا الأجلاد والصحف، وقد مضى في بعض ما تقدم من مجالس كتابنا هذا من ذلك طرفٌ، ولعلنا نأتي بكثير من هذا الباب في المؤتنف، وبالله نستعين، وإلى الله المشتكى مما يراد في زماننا هذا، من تقليد السفلة والجهال السخفاء الضلال للأحكام، وإجلاسهم مجالس الأئمة الأعلام، مع عظيم جهالتهم، وسقوط عدالتهم، وفساد أمانتهم، وقبح الظاهر والباطن من أمرهم، والله ولي الإنتقام ممن يطوي في هذا الباب بصحة الإمام، ويسعى لما يساق إليه من الأحكام، في هدم شريعة الإسلام، ونستعين الله على تمكيننا من إيضاح هذا الأمر، وإنهائه إلى من إليه الأمر، ساسة الأمة، ومدبري الملة، حتى تنكشف له نصيحة المحقين، وفضيلة المحققين، ويظهر له تمويه الممخرقين، وما تنحوه ولبسوه، وتبجحوا فيه ودنسوه، ويوفقه الله جل جلاله لتأمله حق تأمله، والإصغاء إليه وتقبله، ويبسط فيه لسانه ويده، ويعلى فيه أمره ونهيه، فينزل كل ذي منزلةٍ منزلته، ويقف كل امرىءٍ عند انتهاء قدره، اللهم فبك نستعين، وأنت خير معين، وأنت أرضى بما نحبه، وأكره لما نكرهه، وأقدر على نصرة الحق وأهله، ومحق الباطل وحزبه.

الشكوى من تولي الجهال الأمر
وقد حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، حدثنا أحمد بن يحيى، أخبرني أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، قال: كان من كلام علي بن أبي طالب عليه السلام وكثيراً ما يقوله في حروبه: اللهم أنت أرضى للترضي، واسخط للسخط، وأقدر على أن تغير ما كرهت، وأعلم بما تقدر، ولا تغلب على باطل، ولا تعجز عن حق، وما أنت بغافلٍ عما يعمل الظالمون.
ثم إني أقول: اللهم إني أستعدي على الوسائط الفجار، والسفراء الأشرار، وكل ساخط خامل، وسفيه جاهل، ممن قدم على نبيهٍ فاضل، ورضي به بدلاً من كل عالم عاقل، فهو يغر إمامه، ويفجر أمامه وتأملوا أيها الألباء قضاة الحضرة، والعراقين الكوفة والبصرة، بله أطراف البلاد ورسا تيق السواد، أين هم من العلم بالكتاب والسنة وفقه الشريعة؟ وأي حظ لهم من العدالة والعفاف والأمانة؟ وقد كان الأئمة فيما مضى ربما دلس عليهم في أعمالهم من هو على بعض الصفات التي قدمنا ذكرها، فينتبه الراقد منهم من غفلته، ويستيقظ الوسنان من رقدته، ويقبل على سوام رعيته، فيبني ما انهدم، ويسد ما انثلم، ويستدرك الفاسد بإصلاحه، ويتلافى التفريط باستصلاحه، وكانت الرعايا تمتعض من منكر هذا النوع، وتشمئز منه فلا تقار عليه، فيؤدي ذلك إلى رفض الأراذل، وإجتباء الأماثل، وتقديم الأفاضل، ولم يكن أحد يقلد شيئاً من شعب الدين والمملكة، إلا بعد الإبتلاء والخبرة، والإمتحان والتجربة.
ما قيل في تقلد نوح بن دارج القضاء
وقد حدثنا الحسن بن علي أبو سعيد البصري، قال: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، قال: قيل لشريك بن عبد الله: قد تقلد القضاء نوح بن دراج، فقال: ذهبت العرب الذين كانوا إذا غضبوا كفروا، وقد كان لنوح بن دراج في العلم والمعرفة والفهم منزلة معروفة، لا ينكرها ذو معرفة، وقد كان استدرك بعض ما أغفله رجلٌ من علماء القضاة، حتى قال ذلك القاضي:

كادت تزل به من حالقٍ قدمٌ ... لولا تداركها نوح بن دراج

تصحيح رواية البيت
قال القاضي: رأيت المحدثين يقولون في رواية هذا البيت: لولا تداركها بفتح الراء والكاف، وهذا خطأ منهم، لأنه إذا كان على هذا كانت لولا فيه بمعنى التحضيض، كقولك: يا هذا فعلت كذا ولولا ما فعلت وإلا فعلت، ولا معنى لذلك هاهنا، وإنما المراد لولا التي تؤذن بامتناع الشيء الوجود غيره، كقولك لولا أنت للقيت زيداً، والصواب إذاً أن تروى لولا تداركها بضم الراء والكاف وعلى إعمال المصدر، والمعنى لولا أن تداركها، كقول الله تعالى: " لولا أن تداركه نعمةٌ من ربه " ومن قصد هذا المعنى فقد أخطأ بحذفه الموصول وإبقائه الصلة.
فهم القضية، فولاه القضاء
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الأول بن مريد، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: أتت امرأة عمر رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت أفضل من زوجي، إنه ليقوم الليل ولا ينام، ويصوم النهار ما يفطر، فقال عمر: جزاك الله خيراً، مثلك أثنى بالخير، فاستحيت ثم ولت، وكان كعب بن سور الأزدي ثم أحد بني لقيط بن الحارث بن مالك بن فهم حاضراً، فقال: يا أمير المؤمنين ألا أعديت المرأة إذ جاءت تستعدي؟ قال: أوليس إنما جاءت تثني على زوجها وتذكر خصال الخير؟ فقال: والذي أعظم حقك لقد جاءت تستعدي، فقال عمر: علي بها، فجاءت، فقال لها عمر: أصدقيني فلا بأس بالحق، فقالت: والله يا أمير المؤمنين إني لامرأة، وإني لأشتهي كما يشتهي النساء، فقال: يا كعب! فقال: يا كعب اقض بينهما فإنك قد فهمت من أمرهما ما لم أفهم، فقال: يا أمير المؤمنين! تحل له من النساء أربع، فله ثلاثة أيام وثلاث ليلالٍ يتعبد فيهن ما شاء، ولها يوما، وليلتها، فقال عمر: ما لحق إلا هذا، اذهب فأنت قاضٍ على أهل البصرة، فلم يزل قاضياً بقية خلافة عمر وخلافة عثمان، فلما كان يوم الجمل تقلد مصحفاً وخرج يصلي بين الناس فأتاه سهمٌ غربٌ فقتله، وقتل يومئذٍ أخوان فجاءت أمهم بعدما انقضت الحرب فحملتهم وهي تقول:
أعيني جودا بدمعٍ سرب ... فتيةٍ من خيار العرب
وما ضرهم غير حتف النفو ... س أي أميري قريشٍ غلب
قال القاضي: الذي قضى به كعب بن سور فيما بين هذه المرأة وبين زوجها هو قول علماء السلف، وعليه فقهاء الخلف وبه تقول، وما احتج به كعبٌ فيه صحيح على ما ذكره.
السبب في زوال ملك بني أمية في رأي ملك النوبة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو العباس الفضل بن العباس الربعي، قال: حدثني إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، قال: سمعت عمي سليمان بن أبي جعفر يقول:

كنت واقفاً على رأس المنصور ليلةً وعنده إسماعيل بن علي، وصالح بن علي، وسليمان بن علي، وعيسى بن علي، فتذاكروا زوال ملك بني أمية وما صنع بهم عبد الله، وقتل من قتل منهم بنهر أبي فطرس، فقال المنصور: رحمة الله ورضوانه على عمي، ألا من عليهم حتى يروا من دولتنا ما رأينا من دولتهم، ويرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم، فلقد لعمري عاشوا سعداء وماتوا فقراء، فقال له إسماعيل بن علي: يا أمير المؤمنين! إن في حبسك عبد الله بن مروان بن محمد، وقد كانت له قصة عجيبة مع ملك النوبة، فابعث فسله عنها، فقال: يا مسيب! علي به، فأخرج فتىً مقيداً بقيدٍ ثقيل وغل ثقيل فمثل بين يديه، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا عبد الله! رد السلام أمنٌ، ولم تسمح لك نفسي بذلك بعد، ولكن اقعد، فجاءوا بوسادةٍ فثنيت فقعد عليها، فقال له: لقد بلغني أنه كانت لك قصةٌ عجيبةٌ مع ملك النوبة فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين! لا والذي أكرمك بالخلافة، ما أقدر على النفس من ثقل الحديد، ولقد صدىء قيدي مما أرشش عليه من البول، وأصب عليه الماء في أوقات الصلوات، فقال: يا مسيب! أطلق عنه حديده، ثم قال: نعم يا أمير المؤمنين، لم قصد عبد الله بن علي إلينا، كنت المطلوب من بين الجماعة، لأني كنت ولي عهد أبي من بعده، فدخلت إلى خزانة فاستخرجت منها عشرة آلاف دينار، ثم دعوت عشرة من غلماني وحملت كل واحدٍ على دابة ودفعت إلى كل غلامٍ ألف دينار وأوقرت خمسة أبغلٍ فرشاً، وشددت في وسطي جوهراً له قيمة مع ألف دينار، وخرجت هارباً إلى بلاد النوبة فسرت فيها ثلاثاً، فوقفت إلى مدينة خراب فأمرت الغلمان فعدلوا إليها وكشحوا منها ما كان قذراً ثم، بسطنا بعض تلك الفرش، ودعوت غلاماً لي كنت أثق بعقله، فقلت: انطلق إلى الملك فأقرئه مني السلام، وخذ لي منه الأمان وابتع لي ميرةً، قال: فأبطأ علي حتى سؤت به ظناً، ثم أقبل ومعه رجل آخر، فلما أن دخل كفر لي ثم قعد بين يدي، فقال لي: الملك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: من أنت؟ وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب أم راغب إلي أم مستجيرٌ بي، قلت: ترد على الملك السلام، وتقول له: أما محارباً لك فمعاذ الله فأما راغباً في دينك فما كنت أبغي بديني بدلاً، وأما مستجير بك فلعمري، قال: فذهب ثم رجع إلي، فقال: إن الملك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أنا صائر إليك غداً فلا تحدثن في نفسك حدثاً ولا تتخذ شيئاً من ميرةٍ فإنها تأتيك وما تحتاج إليه، فأقبلت الميرة فأمرت غلماني ففرشوا ذلك الفرش كله وأمرت بفرشٍ فنصبت له ولي مثله، وأقبلت من غدٍ أرقب مجيئه، فبينا أنا كذلك إذ أقبل غلماني يحضرون، قالوا: إن الملك قد اقبل، فقمت بين شرفتين من شرف القصر أنظر إليه، فإذا أنا برجلٍ قد لبس بردين ائتزر بأحدهما وارتدى الآخر، حافٍ راجلٍ وإذا عشرة معهم الحراب ثلاثة يقدمونه وسبعة خلفه، وإذا الرجل الموجه إلي جنبة فاستصغرت أمره، وهان علي لما رأيته في تلك الحال، وسولت لي نفسي قتله، فلما قرب من الدار إذا أنا بسواد عظيم، فقلت: ما هذا السواد؟ فقيل: الخيل، فوافى يا أمير المؤمنين زهاء عشرة آلاف عنان، وكان موافاة الخيل الدار في وقت دخوله فأحد قوابها، فدخل إلي فلما نظر إلي، قال: لترجمانه: أين الرجل؟ فأومأ الترجمان إلي، فلما نظر إلي، وثبت له فأعظم ذلك وأخذ بيدي فقبلها ووضعها على صدره، وجعل يدفع ما وإلى الفسطاط برجله ويشوش الفرش، فظننت أن ذلك شيئاً يجلونه أن يطؤوا على مثله حتى انتهى إلى الفراش فقلت لترجمانه: سبحان الله لم لم يقعد على الموضع الذي قد وطىء، فقال: قل له: إني ملكٌ، وحق كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله، قال: ثم أقبل طويلاً ينكت بإصبعه في الأرض ثم رفع رأسه، فقال لي، كيف سلبتم هذا الملك وأخذ منكم وأنت أقرب الناس إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم، فقلت: جاء من كان أقرب قرابة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فسلبنا وقتلنا فطردنا، فخرجت إليك مستجيراً بالله عز وجل ثم بك، قال: كنتم تشربون الخمر وهي محرمةٌ عليكم في كتابكم؟ فقلت: فعل ذلك عبيدٌ وأتباعٌ وأعاجم دخلوا في ملكنا، من غير رأينا، قال: فلم كنتم تلبسون الحرير والديباج، وعلى دوابكم الذهب والفضة وقد حرم ذلك عليكم، قلت: عبيدٌ وأتباعٌ دخلوا في ملكنا، قال: قال: فلم كنتم أنتم بأعيانكم

إذا خرجتم إلى نزهكم وصيدكم تقحمتم على القرى فكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم به، بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تدوسوا زروعكم فتفسدوها في طلب دراجٍ قيمته نصف درهم، أو في عصفور قيمته لا شيء والفساد محرم عليكم في دينكم، قلت: عبيدٌ وأتباع، قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهاكم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوف أن تنزل النقمة وهي إذا نزلت عمت وشملت، فاخرج بعد ثلاث، فإني أن وجدتك بعدها أخذت جميع ما معلك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب فخرج. فأقمت ثلاثاً وخرجت إلى مصر، فأخذني واليك فبعث بي إليك فها أنذا والموت أحب إلي من الحياة ، قال: فهم أبو جعفر بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: ينزل في دارٍ من دورنا ونجري عليه ما يجري على مثله، قال: ففعل ذلك به، فوالله ما أدري أمات في حبسه أن أطلقه المهدي. خرجتم إلى نزهكم وصيدكم تقحمتم على القرى فكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم به، بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تدوسوا زروعكم فتفسدوها في طلب دراجٍ قيمته نصف درهم، أو في عصفور قيمته لا شيء والفساد محرم عليكم في دينكم، قلت: عبيدٌ وأتباع، قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهاكم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوف أن تنزل النقمة وهي إذا نزلت عمت وشملت، فاخرج بعد ثلاث، فإني أن وجدتك بعدها أخذت جميع ما معلك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب فخرج. فأقمت ثلاثاً وخرجت إلى مصر، فأخذني واليك فبعث بي إليك فها أنذا والموت أحب إلي من الحياة ، قال: فهم أبو جعفر بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: ينزل في دارٍ من دورنا ونجري عليه ما يجري على مثله، قال: ففعل ذلك به، فوالله ما أدري أمات في حبسه أن أطلقه المهدي.
قال القاضي في هذا الخبر اتعاظٌ ومعتبر وتحذيرٌ ومزدجر، والله نسأل توفيقنا وعصمتنا مما يوجب حلول الغير، ويلهمنا الشكر، وييسرنا لأعمال البر، وان يحكم عقدة الأنس بيننا وبين نعمه، حتى يألفنا لشكرنا إياها، وتأدية حق ربنا المنعم علينا بها، ويوطنها فلا ننأى عنها.

أبيات في تحذير بني العباس
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، حدثني عبد الله الألوسي، قال: لما صار جيش الدعي بالبصرة إلى النعمانية طرحت رقعة في دار الناصر مختومة، فجاءوا بها إلى الموفق، فقال: فيها عقرب لاشك، ففتوحها فإذا فيها:
أرى ناراً تأجج من بعيدٍ ... لها في كل ناحيةٍ شعاع
وقد نامت بنو العباس عنها ... وأصبحت وهي غافلة رتاع
كما نامت أمية ثم هبت ... لتدفع حين ليس لها دفاع
فأمر الموفق من ساعته بالإرتحال إلى البصرة.
قال القاضي: وهذا الشعر مما يجابه قائله قول القائل في بني أمية:
أرى تحت الرماد وميض جمرٍ ... وأخلق أن يكون له ضرام
وقد غفلت أمية عن سناها ... ويوشك أن يكون لها اضطرام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظٌ أمية أم نيام
مروان بن محمد حين أحيط به
وحدثني أبو النضر العقيلي، قال أبو الحسن بن راهويه الكاتب، عمن أخبره: أن مروان بن محمد جلس يوماً وقد أحيط به، وعلى راسه خادم له، فقال له: ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفي على يدٍ ما ذكرت، ونعمةٍ ما شكرت، ودولةٍ ما نصرت، فقال له: يا أمير المؤمنين! من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغدٍ، حل به أكثر من هذا، فقال: هذا القول أشد علي من فقد الخلافة.

قال القاضي: ونحن نلجأ إلى الله جل جلاله راغبين إليه،خاضعين له، واثقين به، راجين لإحسانه، مستجيرين بعفوه وكرمه، في أن يحفظ علينا الخلافة الهاشمية والدولة العباسية، ونعوذ به أن نضحى بعد الإستظلال بظلها، والتقلب في عدلها، والبشر بخدمة أهلها، ونسأله سؤال من وجه رغبته إليه، واعتمد في دينه ودنياه عليه، أن يتمم نعمته، ويهني موهبته، ويوفر تشريفه وتكرمته، لعبده القادر بالله أمير المؤمنين، ويعز نصره، ويرفع في الملأ الأعلى ذكره، وينفذ في شرق البلاد وغربها أمره، ويبسط يده في جميع الرعايا ولسانه، ويديل من كل مخالفٍ عليه سلطانه، حتى يفيض العدل فينا، ويديل ظالمنا، وينيل مظلومنا، ويظهر له ما ستره المنافقون، ويمكنه من نقض ما أبرمه المارقون، حنى يدني كل أمين، ويقصي كل ظنين، ويستبطن أولي النعم من أهل الدين، ويصطنع ذوي الفقه والإمامة، ويطرح أهل الريب والخيانة، إنه لطيفٌ خبير.

المهتدي يتشبه بعمر بن عبد العزيز
حدثني بعض الشيوخ ممن شاهد جماعةً من العلماء، وخالط كثيراً من الرؤساء أن هاشم بن القاسم الهاشمي، حدثه وقد حدث هاشم هذا حديثاً كثيراً، وكتبنا عنه الآن هذه الحكاية، لم أسمعها منه وحدثني بها هذا الشيخ الذي قدمت ذكره، قال أبو العباس هاشم بن القاسم: كنت بحضرة المهتدي عشيةً من العشايا، فلما كادت الشمس تغرب وثبت لأنصرف، وذلك في شهر رمضان، فقال: اجلس فجلست، ثم إن الشمس غابت، وأذن المؤذن لصلاة المغرب وأقام، فتقدم المهتدي فصلى بنا ثم ركع وركعنا، ودعا بالطعام فأحضر طبق خلافٍ وعليه رغفٌ من الخبز النقي، وفيه آنيةٌ في بعضها ملح وفي بعضها خل، وفي بعضها زيتٌ، فدعاني إلى الآكل فابتدأت آكل مقداراً أنه سيؤتى بطعامٍ له نيقةٌ وفيه سعة، فنظر إلى وقال لي: ألم تك صائماً؟ قلت: بلى، قال: أفلست عازماً على صوم غدٍ، فقلت: كيف لا وهو شهر رمضان، فقال: فكل واستوف غذاءك فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى، فعجبت من قوله، ثم قلت: والله لأخاطبنه في هذا المعنى، فقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ وقد أوسع الله نعمته وبسط رزقه وكثير الخير من فضله، فقال: أن الأمر لعلى ما وصفت والحمد لله، ولكنني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز، وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك، فغرت على بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله، فأخذت نفسي بما رأيت.
قال القاضي: ولم تزل المنافسة في أعمال البر وأبواب الخير، في أثر المتقين وسبيل الصالحين، وقد وفق الله المهتدي رضوان الله عليه من هذا لما يرجى له المثوبة منه والزلفى لديه، وفقنا الله وإياكم لطاعته وحسن عبادته.
آراء لهشام بن عبد الملك
حدثني محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي أحمد بن الحارث، قال: قال: أبو الحسن.
قال يوماً هشام بن عبد الملك وهو يسير في موكبه: يا لك دنيا ما أحسنك! لولا أنك ميراثٌ لآخرك، وآخرك كأولك، فلما حضرته الوفاة نظر إلى ولده يبكون حوله، فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما كسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له!
متى أحصل عندك؟
حدثني محمد بن عمر بن نصير الحربي، قال: حدثنا محمد بن جعفر الكوفي، قال: أخبرني عبد الله بن إبراهيم الوراق، قال: صحبت رجلاً في السفر وأنست به لأدبه وحسن أخلاقه، فصرنا إلى مصر، وكنت أقصده وأبيت عنده الليلة والليلتين في الأسبوع، وقل ما أخل بزيارته في ليلة كل جمعة، وكان ينزل غرفةً من الغرف فقصدت في بعض العشايا زيارته فوجدت غرفته مغلوقة وعليها مكتوب:
أبداً تحصل عندي ... ف
متى أحصل عندك
إن تناصفنا وإلا ... أنت يا وراق وحدك
فانصرفت إلى منزلي ثم لقيته من غدٍ فضحك كل واحدٍ منا إلى صاحبه فيما كان من مداعبته فيما كتبه، واستدعيت بعد ذلك زيارته إياي، وكان يبيت الليالي عندي وأبيت عنده إلى أن فرقت بيننا حوادث الأيام.
تأخير كل وتقديمها

قال القاضي: قوله في هذه الحكاية: في ليلة كل جمعة واللفظ الآتي في هذا الخبر صحيح يؤدي عن هذا المعنى، وقد جاء في بعض القرآن نحو هذا في موضع من القرآن، وهو قول الله تعالى " كذلك يطبع الله على كل قلبٍ متكبرٍ جبار " فقرأ جمهور القراء من أهل الحرمين والشام والعراقين على كل قلبٍ متكبرٍ، بإضافة كل إلى قلبٍ، على أن قوله متكبر جبار، من صفة ذي القلب، وإن كان القلب نفسه قد يوصف بذلك، ونحو هذا قولهم: فلانٌ سليم القلب، وقلب فلانٍ سليم، فيجري الصفة على اللفظ تارةً أي على القلب إذ كانت السلامة والتكبر والجبرية فيه، وتارة على صاحبه ويجعل صفةً لجملته لاستحقاقه الوصف لها، وإن كانت حالة في قلبه، وقد قرأ بعض القراء على كل قلبٍ متكبرٍ بتنوين القلب، وجعل الصفة له إذ كانت فيه، وممن قرأ هكذا أبو عمرو بن العلاء من البصرة، وذكر أنها من قراءة عبد الله بن مسعود على كل قلب متكبر، بإضافة قلب إلى كل على الوجه الذي قدمنا ذكره، وهذه القراءة شاهدةٌ للإضافة موافقةٌ في المعنى قراءة من أضاف على الوجه الآخر، وحكى الفراء أنه سمع بعض العرب يقول: رجل سفره يوم كل جمعة، يريد كل يوم جمعة، قال: والمعنى واحد.
قال القاضي: ولفظ قراءتنا على ما في مصاحفنا على الإضافة أولى بإبانة المعنى وطريق التحقيق دون التجوز، لأن قراءتنا أتت بإضافة كل إلى قلب، واستوعبت قلوب المنكرين، وجرت على إضافة جمع إلى ما دليل الجمع ظاهر في لفظه، وقراءة عبد الله أضيف فيها واحد إلى جماعة تجوزاً وعني به معنى الجمع وهو بمنزلة قول الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زماننا زمن خميص
وقول الآخر:
كانه وجه تركيين قد عصبا ... مستهدفٌ لطعان غير تذبيب
وقول ابن عبدة:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيضٌ وأما جلدها فصليب
وقول جرير:
الواردين وتيمٌ في ذرا سبأٍ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال الآخر:
لا تنكروا القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظمٌ وقد شجينا
على أن وجه قراءة عبد الله في هذا المعنى أقوى مما في هذه الأبيات، لأن لكل لفظاً يقتضي التوحيد، ومعنى يقتضي الجمع، وقد يتجه في قراءة عبد الله حملها على ما لا يتغير المعنى به من التجوز، الذي يسميه النحويون القلب، وقد تأول عليه قومٌ من النحويين كثيراً من آي القرآن وما وردت به الأخبار، وهو الباب الذي بلغتين: أدخلت القلنسوة رأسي، وتهيبني الفلاة، كما قال الشاعر:
ولا تهيبني الموماة اركبها ... إذا تجاوبت الأصداء بالسحر
وهذا باب قد استقصيناه في كتبنا، وأمللنا منه قدراً واسعاً على شرحٍ وتفصيل فيما أمللناه من النثر والنظم، ومن شرح مختصر أبي عمرو الجرمي في النحو، واتينا فيه بما لا نعلم أحداً سبقنا إليه، ومن نظر فيما هنالك تبين منه ما وصفنا إن شاء الله.

المجلس الحادي والخمسون
أي الخلق أعجب إيمانا
ً
حدثنا محمد بن الحسن بن محمد أبو عيسى القرشي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسحاق البصري، قال: حدثنا منهال بن بحر، عن هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي الخلق أعجب إيماناً؟ قالوا: الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف لا يكونون مؤمنين وهم عند الرحمن؟ قالوا: فالنبيون، قال: كيف لا يكونون مؤمنين والوحي ينزل عليهم؟ قالوا: فنحن، قال: كيف لا تكونون مؤمنين وأنا بين أظهركم؟ وإن أعجب الخلق إيماناً قومٌ يأتون من بعدي يجدون اسمي في ورقةٍ فيؤمنون بي ويصدقوني " .
تعقيب المؤلف

قال القاضي: فالحمد لله الذي هدانا لدينه، والإيمان بنبيه، وتصديقنا بكتابه ووحيه، ووفقنا لموالاة من تقدمنا من السابقين الأولين، وتابعيهم بإحسانٍ من السلف الصالحين، وبصر بأفضل أئمتنا الخلفاء الراشدين المهديين، الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، ونبرأ إلى الله تعالى ممن عادى الأئمة، وسب الأخيار من سلف الأمة، وكان فيما وجدته عن عمر بن ذر، ثم وجدته عن عبد الله بن عمر، ثم وجدته عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال - وقد ذكر له أن أناساً يشتمون أصحابه - : قاتلهم الله أيشتمون قوماً - يعني الصحابة - أسلموا من مخافة الله عز وجل، وأسلم الناس من مخافة أسيافهم؟

أطع كل أمير
وقد حدثنا محمد بن الحسين بن علي بن سعد الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا الحكم بن موسى، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن جميل بن مالك الحمصي، عن مكحول، عن معاذ بن جبل، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ! أطع كل أمير، وصل خلف كل إمامٍ، ولا تسبن أحداً من أصحابي " .
قال القاضي: وما ورد في هذا الباب من الأخيار ونقل الروايات والآثار مما لا يتسع استقصاؤه، ويمتنع على رواته جمعه وإحصاؤه.
كيف يسب أحد أصحاب النبي
وقد حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا أبو بشر هارون بن حاتم البزاز، قال: سمعت محمد بن صبيح ابن السماك، يقول: علمت أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى عليه السلام، وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى عليه السلام، فما بالك يا جاهل سببت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد علمت من أين أتيت، لم يشغلك ذنبك، أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك، لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين، فكيف لم يشغلك عن المحسنين، أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين، ولرجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين، فمن ثم عبت الشهداء والصالحين، أيها العائب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لو نمت ليلك وأفطرت نهارك لكان خيراً لك من قيام ليلك وصيام نهارك، مع سوء قولك في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فويحك! لا قيام ليلٍ ولا صوم نهارٍ وأنت تتناول الأخيار، فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى، ويحك! هؤلاء شرفوا في أحد، وهؤلاء جاء العفو عن الله تعالى فيهم، فقال: " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استنزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " فما تقول فيمن عفا الله عنهم؟ نحن نحتج بخليل الرحمن إبراهيم، قال: " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيم " فقد عرض العاصي للغفران فلو قال: فإنك عزيزٌ حكيم، أو عذابك عذابٌ أليم، فبم تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين، شر الخلف خلف شتم السلف، والله لواحدٌ من السلف خير من ألفٍ من الخلف.
القول في كلمة " خلف "
قال القاضي: في هذا الخبر قد حرك لام الخلف، وقد اختلف أولو العلم باللغة والعربية في هذا، فقال معظمهم: يقال: هؤلاء خلف صدقٍ بالتحريك، وخلف سوءٍ بالتسكين، ومن أمثال العرب في الذي يطيل السكوت ثم يتكلم بالفاسد من الكلام: " سكت ألفاً ونطق خلفاً " ومنه قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب
وذكر أن أعرابياً كان مع قومٍ فحبق فتشور ثم أومى بيده إلى استه، فقال: خلف سوءٍ نطقت خلفاً، ويقال للمحال الفاسد من المقال: هذا خلف، وذكر الأخفش أنه يقال: خلفٌ للمتبع لمن سلف قبله، وخلف لمن أتى بعد من تقدمه من غير تفريق منه بين المدح والذم فيه، وهذا قول حسن غير مستبعد، وقد يكون تحريك اللام في الخلف في هذا الخبر لاقترانه بالسلف كما قال من قال: من العير الخير، كما قالوا: الغدايا والعشايا، وهذا باب يتسع منظومه ومنثوره، وقد أتينا به أو بمعظمه في مواضع من كتبنا.
وقال الفراء: هو خلف سوءٍ من أبيه، ولك عندي خلفٌ من مالك، وربما ثقلوا خلف سوءٍ، وهو قليل.
وصية معاوية

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أنبأنا أبو حاتم، عن العتبي، عن أبيه، عن خالد، عن أبيه، عن عمرو بن عتبة، قال: لما اشتكى معاوية مشكاته التي هلك فيها أرسل إلى فاس من بني أمية فخص ولم يعم، فقال: يا بني أمية! إنه لما قرب ما لم يكن بعيداً، وخفت أن يسبقكم الموت إلي سبقته بالموعظة إليكم، لا لأرد قدراً ولكن لأبلغ عذراً، لو وزنت بالدنيا لرجحت بها، ولكني وزنت بالآخرة فرجحت بي، إن الذي أخلف لكم من الدنيا أمرٌ ستشاركون فيه أو تغلبون عليه، والذي أخلف لكم من رأيٍ أمر مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه، مخوفٌ عليكم ضرره إن ضيعتموه، فاجعلوا مكافأتي قبول وصيتي، إن قريشاً شاركتكم في نسبكم وبنتم منها بفعالكم، فقدمكم ما تقدتم فيه، إذ أخر غيركم ما تأخروا له، وبالله لقد جهر لي فعلمت، ونغم لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم نظري إلى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كان أول تجادلكم فيما بينكم، واجتماع المختلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد الحسن الذي أقبل به، فلست أذكر عظيماً يركب منكم ولا حرمةً تنتهك، إلا والذي أكف عن ذكره أعظم، فلا معول عليه عند ذلك أفضل من الصبر، وتوقع النصر، واحتساب الأجر، فيمادكم القوم دولتهم امتداد العنانين في عنق الجواد، فإذا بلغ الله عز وجل بالأمر مداه، وجاء الوقت المحتوم، كانت الدولة كالإناء المكفو، فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتقه غيركم فيكم، فجعل العاقبة فيكم، والعاقبة للمتقين.

سليمان بن عبد الملك وشرهه إلى الطعام
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان الهاشمي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله وصله، قال: قال: لنا سليمان يوماً: إني قد أمرت قيم بستاني أن يحبس علي الفاكهة ولا يجني منها شيئاً حتى تدرك، فاغدوا علي مع الفجر - يقول: لأصحابه الذين كان يأنس بهم: لنأكل الفاكهة في برد النهار - فغدونا في ذلك الوقت، فصلى الصبح وصلينا، ثم دخل ودخلنا معه، فإذا الفاكهة متهدلةٌ على أغصانها وإذا كل فاكهة مختارة قد أدركت كلها، فقال: كلوا، ثم أقبل فأكلنا بمقدار الطاقة، وأقبلنا نقول: يا أمير المؤمنين: هذا العنقود، فيخرطه في فيه، يا أمير المؤمنين، هذه التفاحة، كلما رأينا شيئاً نضيجاً أومأنا إليه فيأخذه فيأكله ويحطمه، حطماً، حتى ارتفع الضحى ومتع النهار، ثم أقبل على قيم البستان، فقال: ويحك يا فلان، إني قد استجعت فهل عندك شيء تطعمنيه؟؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين عناقٌ حولية حمراء، قال: ائتني بها ولا تأتين معها بخبز، فجاء بها على خوان لا قوائم له وقد انفخت وملأت الخوان، وجاء بها غلمةٌ يحملونها فأدنوها منه وهو قائم، فأقبل يأخذ العضو فيجيء معه لنضجه فيطرحه فيخرطه في فيه، ويلقي العظم حتى أتى عليها، ثم عاد لأكل الفاكهة فأكل فأكثر ثم قال للقيم: ويحك! ما عندك شيء تطعمنيه؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، دجاجتان قد عبئتا شحماً، قال: ائتني بهما، ففعل بهما كما فعل بالعناق، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل مليا ثم قال للقيم: هل عندك شيء تطعمنيه، فإني قد جعت، قال: عندي سويقٌ جديدة يعني الحنطة كأنه قطع الأوتار وسمن سلاء وسكر، قال: أفلا أعلمتني بهذا قبل: ائتني وأكثر، فجاء بقعبٍ يقعد فيه الرجل، وقد ملأه من السويق قد خلطه بالسكر وصب عليه سمن سلاء، وأتى بجرة ماءٍ بارد وكوزٍ فأخذ القعب على كفه، وأقبل القيم يصب عليه الماء فيحركه حتى كفأه على وجهه فارغاً، ثم عاد لأكل الفاكهة فأكل مليا حتى حرت عليه الشمس، فدخل وأمرنا أن ندخل إلى مجلسه فدخل وجلسنا، فما مكث أن خرج علينا فلما جلس قام كبير الطباخين حياله يؤذنه بالغداء، فأومأ إليه أن أئت بالغداء، فوضع يده فأكل، فما فقدنا من أكله شيئاً.
أكفأه وكفأه
قال القاضي: في هذا الخبر حتى أكفأه على وجهه بمعنى قلبه وهو خطأ إنما هو كفأه، فرويناه على الصواب، يقال: كفأت الإناء فهو مكفوءٌ، وأنا كافىء، وأما أكفأ فإنه في الشعر، وهو من عيوب قوافيه، وأهل هذه الصناعة مختلفون في ماهيته، وله موضه هو مذكور فيه على شرح لمعانيه وقد روي لنا هذا الخبر من طريق آخر، وفيه أن سليمان بن عبد الملك بعد فراغه من أكله هذا عرضت له حمى أدته إلى الموت.

الأعرابي الذي استحمل ابن الزبير
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أحمد بن الحارث، قال: قال أبو الحسن، قال أبي: أتى فضالة بن شريك الكاهلي الأسدي - أسد بني خزيمة - عبد الله بن الزبير، فقال له: قد نفدت نفقتي ونقبت راحلتي فاحملني، فقال له: أحضر راحلتك، فأحضرها، فقال له: أقبل بها أدبر بها ففعل، فقال: ارقعها بسبتٍ واخفصها بلهبٍ، وأنجد بها يبرد خفها وسر عليها البردين تصح، فقال ابن فضالة: إنما أتيتك مستحملاً ولم آتك مستوصفاً، لعن الله ناقةً حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن وراكبها، يريد نعم وراكبها، فانصرف ابن فضالة وهو يقول:
أقول لغلمتي شدوا ركابي ... أفارق بطن مكة في سواد
فما لي حين أقطع ذات عرقٍ ... إلى ابن الكاهلية من معاد
سيبعد بيننا نص المطايا ... وتعليق الأداوى والمزاد
وكل معبدٍ قد أعلمته ... مناسمهن طلاع النجاد
أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ ... نكدن ولا أمية بالبلاد
من الأعياص أو من آل حربٍ ... أغر كغرة الفرس الجواد
قال: فالكاهلية إحدى جدات ابن الزبير، فقال: علم أنها ألأم جداتي فسبني بها قال القاضي رضي الله عنه: إن في قول ابن الزبير إن وراكبها معناها نعم، وهي لغةٌ مشهورة يمانية، وقد حمل قوم عليها إن في قول الله عز وجل: " إن هذان لساحران " فقالوا: المعنى نعم، وجاء في بعض فصيح الخطب: إن الحمد لله، برفع الحمد، بمعنى نعم الحمد لله، ومن ذلك قول الشاعر:
بكرت علي عواذلي ... يلحونني وألومهنه
ويقلن شيبٌ قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
يعني بقوله إنه: نعم، والهاء للسكت والوقف، كقولهم: تعاله، والقول مستقصي على شرحه في إن هذه وفيما أتى من القرآن والتلاوات في قوله: إن هذان في مواضعه من تآليفنا وإملائنا، وقول ابن فضالة في شعره هذا: نص المطايا النص ضربٌ من السير فيه ظهور وارتفاع، ومن هذا إشتق اسم المنصة أعني الإرتفاع والظهور، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذكرت أنه كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، ومنه: نصصت الحديث إلى صاحبه أي رفعته إليه، وقال امرؤ القيس:
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ ... إذا هي نصته ولا بمعطل
وقوله: وكل معبد: المعبد المذلل، قال طرفة:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
وأبو خبيب: هو عبد الله بن الزبير، كان يكنى أبا خبيب وأبا بكر. وقال الشاعر فيه، وفي أخيه مصعب:
قدني من نصر الخبيبين قدي ... ليس أميري بالشحيح الملحد
يروي الخبيبين مثنى، يراد هو وأخوه، ويروي الخبيبين على الجمع، من باب الأشاعثة والمسامعة والمهالبة، يراد هو وذووه، وقوله: ولا أمية في البلاد نصب بلا النافية، وإنما تعمل في النكرة دون المعرفة، لأنه أراد: ولا مثل أمية، كما قال الآخر:
لا هيثم ... الليلة للمطي
أي لا مثل هيثم، وقوله: من الأعياص، نسب بني أمية مقسوم على الإضافتين الأعياص والعنابس والأعياص أعلاهما.
قال القاضي رحمه الله: ابن الزبير حين ذكر الكاهلية ونسبة ابن فضالة إياه إليها معنى لطيف، وتعريض بسبه أبلغ من التصريح، إذ علم أن الكاهلية ألأم أمهات ابن الزبير فسبه بها، فالسب راجعٌ عليه بأعظم من سبه من هجاه، إذ بنو كاهل رهط ابن فضالة وعصبته.
وقول ابن الزبير: ارقعها بسبت، السبت: جلودٌ يؤتى بها من اليمن تتخذ منها النعال، وهي من جلود البقر، وكانت من ملابس الملوك، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل رآه يمشي في المقبرة لابساً شيئاً منها: يا صاحب السبتين: اخلع سبتيك.
وقال عنترة يصف رجلاً بالنبل وتمام الخلق:
بطلٌ كأن ثيابه في سرحةٍ ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم
وقوله: اخصفها بهلب: يعني ما أخذ من شعر الذنب، وقوله: وأنجد بها، يريد: أئت بها نجداً: أنجد الرجل إذ أتى نجداً، وأغار إذا أتى الغور، ومن كلام العرب " أنجد من رأى حصناً " أي شارف نجداً، وحصن جبيل، قال الأعشى:
نبي يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا

وقوله: وسر عليها البردين: البردان: أول النهار وآخره، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من صلى البردين دخل الجنة " . قال: الله عز وجل: " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل " ومن الدليل على ما قلناه في معنى البردين قول حميد بن ثور الهلالي:
فلا الظل من برد الضحى نستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي نذوق

ما رأيكم في صفعه
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: ثنا عبد الله بن عبد الله بن طاهر، قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي، قال: كنت أختلف إلى محمد بن نصر ويقرأ علي وأولاده الأشعار، وكذلك إلى ولد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، وكان محمد بن نصر وعبد الله بن إسحاق صفرين من الأدب، على جلالة مروءتهما وشرفهما وسروهما، فاجتمعا يوماً في مجلس يشبه مجالس الخلفاء، وأحضر طعام كطعامهم ثم ضربت ستارةٌ وجلسا وبين أيديهما أولادهما، فغنت الستارة بشعر جرير:
ألا حي الديار بسعد إني ... أحب لحب فاطمة الديارا
فقال: عبد الله بن إسحاق لمحمد بن نصر: يا أخي! لولا حمق العرب وجهلها ما ذكر السعد هاهنا، فقال محمد بن نصر: لا تفعل يا أخي فإن فيه منافع، يشد اللثة ويطيب النكهة ويصلح المعدة، فالتفت علي بن محمد إلى إخوته وإلى ولد عبد الله فقال: أما أنا فقد أطلقت على هذا العلم أن يصفع أبي، فما رأيكم أنتم؟ فقالوا: مثل رأيك، وامتلأ المجلس ضحكاً.
المأمون وكلب الجنة
حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني بعض الهاشمين، قال: خرج المأمون يوماً من الرصافة يريد الشماسية فدنونا من ركابه فسلمنا عليه وقبلنا يده، قال: وكان أمامي رجلٌ من الطالبيين يلقب بكلب الجنة، وكان طيباً ظريفاً، فلما دنا من المأمون قبل يده، فقال له المأمون كالمسر إليه: كيف أنت يا كلب الجنة؟ قال: أما الدنانير والدراهم والزينة فلعمرو بن مسعدة وأبي عباد، وأما الطنز والتجمهر فلبني هاشم، فرد المأمون كمه على فيه، وقال: ويلك كف لا تفضحني، قال: لا والله أوتضمن لي شيئاً تعجله لي، قال: العشية يأتيك رسولي، فأتاه عمرو بن مسعدة بثلاثين ألف درهم.
ويخرج بأسلحته لنصرة المأمون
وحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني هذا الهاشمي، قال: ركب المأمون يوماً إلى المطبق وبلغ القواد ركوبه فتبعوه، قال: فكان كلب الجنة ممن ركب تلك العشية، قال: فبصر به المأمون وفي يده خشبةٌ من حطب الوقود، وفي اليد الأخرى لحافه، فقال: يا كلب الجنة؟ قال: نعم كلب الجنة بلغه ركوبك فجاء لنصرتك، والله ما وجدت سلاحاً إلا هذه المشققة من حطب البقال، ولا ترساً إلا لحافي هذا، وعياش بن القاسم في بيته ألف ترس وألف درع وألف سيف قائم غير مكترث فوصله بثلاثين ألفاً وجاء عياش يركض، فشتمه المأمون وناله بمكروه.
أول مكسٍ وضع في الأرض
وحدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب، قال: حدثنا العباس بن عبد الله الترفقي، قال: حدثنا محمد بن يوسف القربان، عن سفيان، عن أبي إسحاق، قال: سمعت هشام بن الحارث يقول: أول مكسٍ وضع على وجه الأرض، خرجت عجوزٌ على عهد سليمان النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها دقيقٌ لها فسكبته الريح فذرته، فأتت سليمان تستعدي على الريح، فقال: انظروا من طابت له الريح اليوم في البحر فأغرموه دقيقها.
قال: القاضي رحمه الله: الذي أتت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أن لا عوض مما تذروه الريح على من طابت له وعلى من لم تطب له وشريعة نبينا هي المأخوذ بها إلى يوم القيامة وما خالف شيئاً منها في الصورة من شرائع الأمم الخالية والقرون الماضية فهو منسوخ بما أتت، وهذا الخبر لم يأت من طريق ينقطع العذر به ويقطع على مغيبه، ولا عزي إلى من تجب الحجة بقوله، وإن ثبت أن نبي الله سليمان عليه السلام قضى هذه القضية، فإنها كانت هكذا في شريعته إذ هو نبي معصومٌ ولا يقضي بغير الحق، ولا يحكم بخلاف العدل، وقد قال الله جل ذكره: " لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمةٌ واحدةً ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " ، وقال: جل ثناؤه: " تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " .

قال القاضي: ولم يكن من الصواب عندي أن يعبر فيما أتى به هذا الخبر بالمكس، إذ المكس ما يأخذ الظالمون من العشارين وغيرهم من المسلمين قسراً بغير وجه حق وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الزناة وغيرهم أنه قال: " لقد تاب هذا توبةً لو تابها صاحب مكسٍ لغفر له " ، وفي بعض المحرمات: " من فعل هذا كان عليه من الإثم مثل ما عليه صاحب مكس " ، وكل هذا ينبىء عن عظيم إثم المكس، وفي المكس قول الشاعر:
وفي كل أسواق العراق إتاوةٌ ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

المجلس الثاني والخمسون
مكافأة قيمة على تصحيح كلمة من حديث شريف
حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخراعي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو، وعلي أطمارٌ مترعبلة، فقال: لي: يا نضر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق، قال: لا، ولكنك تتقشف، قال: فتجاذبنا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سدادٌ من عوز " . قلت: صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم، حدثني عوف الأعرابي، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سدادٌ من عوز " فكان المأمون متكأً فاستوى جالساً، وقال: السداد لحنٌ يا نضر؟ قلت: نعم هاهنا، وإنما لحن هشيم وكان لحاناً، فقال: مالفرق بينهما، قلت: السداد: القصد في السبيل، والسداد: البلغة وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد، قال: أفتعرف العرب ذلك، قلت: نعم، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فأطرق المأمون ملياً ثم، قال: قبح الله من لا أدب له، ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب، قلت: قول ابن بيضٍ في الحكم بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلت لها: ... لأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا سرادقه ... هذا ابن بيضٍ بالباب، يبتسم
قد كنت أسلمت قبل مقتبلاً ... هيهات أدخل أعطني سلمي
قال القاضي: قوله: أسلمت مقتبلاً، معناه أسلفت وأخذت قبل قبيلاً يعني كفيلاً، ومن السلف من كره الرهن والقبيل في السلم، ومنهم من أجازه، وقال: استوثق من حقه، فقال المأمون: لله درك! فكأنما شق لك عن قلبي، أنشدني أنصف بيت قالته العرب، قلت: قول ابن أبي عروبة المديني يا أمير المؤمنين:
إني وإن كان ابن عمي عاتباً ... لمزاحم من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرأً ... مترجرجاً في أرضه وسمائه
وأكون والي سره وأصونه ... حتى يحيز إلى وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحنا إلى جربائه
وإذا أتى من وجهه بطريفةٍ ... لم أطلع فيما وراء خبائه
وإذا ارتدى ثوباً جميلاً لم أقل ... ياليت أن علي حسن روائه
فقال: أحسنت يا نضر، أنشدني الآن أقنع بيتٍ للعرب، فأنشدته قول ابن عبدل:
إني امرؤٌ لم أزل وذاك من الله أديباً أعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الد ... ار وإن كنت نازحاً طربا
لا أجتوي خلة الصديق ولا ... أتبع نفسي شيئاً إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الر ... زق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غريبٍ حلبا

قال ابن أبي الأزهر: ويروي الضفي، قال أبو بكر: وسمعت بنداراً الكرخي، يقول: لا أحب الضفي بالضاد فيما يرويه الناس، لأن الضفي يكون للملك دون السوقة، والصفي بالصاد أبلغ في المعنى لأنها الغزيرة اللبن، قال القاضي رحمه الله: والذي حكي في هذا عن بندار قريب، وجائزٌ أن يكون الصفي بمعنى الشيء الذي يختار ويصطفى، وإن كان مصطفيه غير ملكٍ، لأن صفي المال إنما وسم بهذه السمة لأن الملك اصطفاه لنفسه، وجائزٌ أن يصطفيه الملك ثم يصير لبعض السوقة، وجائز أن يقال للشيء الكريم صفي بمعنى أنه لنفاسته مما يصطفيه الملوك ويصلح أن يصطفوه، فيعبر عنه بذلك قبل أن يصطفى، كما قال الله عز وجل: " ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا " فسماهم شهداء قبل أن يشهدوا، وكقوله: " إني أراني أعصر خمراً " وكانت الملوك قبل الإسلام تصطفي من الغنيمة علقاً منها كريماً أو غرة مشتراة لأنفسها فيأخذه دون الجيش، وفي ذلك يقول الشاعر:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
يعني بالمرباع: ربع الغنيمة، والصفايا: جمع صفية، وهي ما ذكرنا، وقوله: وحكمك أي ما تتحكم فيه وتحكم به، والنشيطة ما تنشطه من المغنم فتأخذه، والفضول ما فضل عن القسمة أو كان القسم لا يحتمله، ثم جعل الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فيما غنمه المسلمون من المشركين الخمس ولذوي القربى من رهطه ومن سمى معهم، فحط ما جعل له عن قدر ما كانت الملوك تأخذه قبله، تطييباً لنفوس أصحابه، وتوكيداً لما نزهه عن أخذ الأجر على ما جاء به، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما لي في هذا المال إلا الخمس، وهو مردودٌ فيكم " ، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ منه حاجته لمؤونته ومؤونة أهله، ويصرف ما بقي مما خلص له وهو خمس الخمس في الكراع والسلاح وما كان تأييداً للدين وعتاداً لنوائب المسلمين، وكان له صلى الله عليه وسلم الصفي أيضاً، فكان يأخذه من أصل الغنيمة، وروي أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، فقتل مقاتلهم وسبى زراريهم، واصطفى منهم جويرية ابنة الحارث.
رجعنا إلى تمام الشعر، شعر ابن عبدل وبقية الخبر المتضمن له:
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعةٍ رغبا
والعبد لا يطلب العلا ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إلا الد ... ين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنسٍ رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر ... حل ومن لا يزال مغتربا
قال: أحسنت يا نضر، أفعندك ضد هذا؟ قلت: نعم، أحسن منه، قال: هاته، فأنشدته:
يد المعروف غنمٌ حيث كانت ... تحملها كفورٌ أو شكور
فقال: أحسنت يا نضر، وأخذ القرطاس فكتب شيئاً لا أدري ما هو، ثم قال: كيف تقول: أفعل من التراب؟ قلت: أترب، قال: الطين؟ قلت: طن، قال: فالكتاب ماذا؟ قلت: متربٌ مطين، قال: هذه أحسن من الأولى، قال: فكتب لي بخمسين ألف درهم، ثم أمر الخادم أن يوصله إلى الفضل بن سهل ج فمضيت معه، فلما قرأ الكتاب قال: يا نضر! لحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا، ولكن هشيماً لحانة، فأمر لي بثلاثين ألفاً، فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفاً وقال لي الفضل: يا نضر! حدثني عن الخليل بن أحمد، قلت: حدثني الخليل بن أحمد، قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم ما رأيت، وكان على سطح أو سطيح، فلما رأيناه أشرنا إليه بالسلام، فقال: استووا، فلما ندر ما قال، فقال لنا شيخٌ عنده: يقول لكم: ارتفعوا، فقال الخليل بن أحمد: هذا من قول الله عز وجل: " ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ " ، ثم ارتفع ثم قال: هل لكم في خبزٍ فطيرٍ ولبنٍ هجيرٍ وماءٍ نمير، فلما فارقناه، قال: سلاماً، قلنا: فسر قولك هذا، فقال: متاركة لا خير ولا شر، فقال الخليل: هذا مثل قول الله جل وعز " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " أي متاركةً.
قال القاضي رحمه الله: قوله في الخبر أطمارٌ مترعبلة، يريد ثياباً متقطعة، يقال: رعبلت الثوب وغيره إذا قطعته، قال الشاعر:
يا من رأى ضرباً يرعبل بعضه ... بعضاً كمعمعة الأباء المحرق

الأباء: القصب، قال القاضي: خبر النضر بن شميل هذا قد كتبناه من طرقٍ شتى متقاربة الألفاظ والمعاني، وفيه زيادة ليست في غيره، والأشعار التي أنشدها النضر المأمون فيه لما استنشده غير ما في سائر ما كتبناه من قبل الرواية المشهورة، وهي بليغة حسنة، فرأيت إحضار هذه الرواية ليتكامل للناظر الفائدة في كتابنا، وإن تكرر بعض ألفاظ متن الخبر.

الرواية الأخرى
حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراساني، قال: أحمد بن عبيد بن ناصح، قال: أبو زيد، قال: النضر بن شميل: قال: دخلت على المأمون، وعلي أطمارٌ أخلاقٌ غسيلٌ، فقال لي: يا نضر! تدخل علي في مثل هذه الأخلاق؟ ثم قال: نحمل منك هذا على التقشف، ثم تجاذبنا الحديث، فقال: المأمون: حدثنا هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها وكمالها كان فيه سداد من عوز " ، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين: أخبرني عوف الأعرابي، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها وكمالها كان فيه سداد من عوز " وكان متكئاً، فجلس واستوى، وقال: يا نضر! السداد في هذا الموضع لحنٌ؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، وإنما لحن هشيم، فقال لي: ماالفرق بين السداد والسداد، قلت: السداد: القصد في الدين والسبيل، والسداد: البلغة في الشيء أسد به الشيء، فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قلت: نعم، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان، يقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
كأني لم اكن فيهم وسيطاً ... ولم تك نسبتي في آل عمرو
فأطرق طويلاً ثم رفع رأسه، وقال: قبح الله من لا أدب له، ثم تجاذبا الحديث ثم قال: قبح الله اللحن، قلت: ما لحن أمير المؤمنين، وإنما لحن هشيم، وكان هشيم لحانةً، فتبع أمير المؤمنين ألفاظه، قال: وكيف روايتك الشعر، قلت: قد رويت الكثير منه، قال: فأنشدني في أحسن ما قالت العرب في الحكم، فأنشدته:
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلي من العلا ... هويت إذاً حلماً وصفحاً عن المثل
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجا ... فإن له حق التقدم والفضل
قال: ما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالت العرب في الحزم، فأنشدته:
على كل حالٍ فاجعل الحزم عدةً ... لما أنت باغيه وعوناً على الدهر
فإن نلت أمراً نلته عن عزيمةٍ ... وإن قصرت عنه الحقوق ففي عذر
فقال: ما أحسن ما قال! فأنشدني ما قالت العرب في إصلاح العدو، حتى يكون صديقاً فأنشدته:
وذي غيلة سالمته فقهرته ... فأوقرته مني بعبء التجمل
ومن لا يدافع سيئات عدوه ... بإحسانه لم يأخذ الطول من عل
ولم أر في الأشياء أسرع مهلكا ... لضغنٍ قديمٍ من وادٍ معجل
قال: ما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالت العرب في السكوت، فأنشدته:
إني ليهجرني الصديق تجنباً ... فأريه أن لهجره أسبابا
وأراه إن عاقبته أغريته ... فيكون تركي للعتاب عتابا
وإذا بليت بجاهلٍ متحكم ... يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته منى السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا

ثم قال: ما مالك؟ قلت: أريضةٌ بمرو الروذ أتمززها، قال: أفلا نفيدك مالاً؟ قلت: إن رأى أمير المؤمنين ذلك، فدعا بدواةٍ وقرطاسٍ وكتب، ولا أدري ما كتب، ثم قال: إذا أردت أن تترب الكتاب كيف تأمر، قلت: يا غلام أترب الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: متربٌ، قال: فمن السحاة، قلت: يا غلام أسح الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: كتاب مسحىً، قال: الطين، قلت: يا غلام طن الكتاب، وأطن الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطينٌ ومطان، قال: يا غلام اترب واسح وطن الكتاب، ثم قال امض إلى الفضل بن سهل بهذا الكتاب، فمضيت فأوصلته، فقال: بم استأهلت أن يأمر لك بخمسين ألف درهم؟ فحدثته الحديث على جهته، فقال: لحنت أمير المؤمنين؟ قلت: ما لحن، وإنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين ألفاظه، فأمر لي بأربعين ألفٍ أخرى من عنده، وانصرفت بكلمة أفادوها بتسعين ألف درهم.

تعقيب للمؤلف بشرح حال العلماء في زمنه
قال القاضي رحمه الله: قد كان من مضى من العلماء وأهل الفضل من الأدباء، تمسهم الفاقة، وتنالهم العسرة والإضافة، ثم يصلون من الخلفاء، والسادة الرؤساء، بيسير ما عندهم من العلم والحكمة، والأدب والمعرفة، إلى الحظ الخطير، والوفر الكبير، والنضر بن شميل ممن اتفق له ذلك بعد شدة عظيمة لحقته، وفاقة مجحفة لزمته، وكان أحد الأعلام ممن أخذ عن الخليل علم العربية، وله من رواية السنن والآثار، والأحاديث والأخبار، منزلته ولما أضر به إيطان البصرة، ونبت بها عنه المعيشة، شرع في الظعن عنها، فذكر فيما روي لنا عنه من طريق لم يحضرني في هذا الوقت، ولعلي أورده إذا عثرت عليه بعد، أنه تبعه سبع مائة رجل أو نحوهم من أصحابه يشيعونه، وجعلوا يبكون توجعاً لمفارقته إياهم، وأظهر لهم نحو هذا من استيحاشه وكراهته النأي عليها عنهم، وقال: لو كان لي في كل يومٍ ربع من الباقلى أتقوته لما ظعنت، قال الراوي: فعجبت من أنه لم يكن في هذا الجمع الكثير من المتفجعين لفقده من يكفيه هذا القدر، ويقوم له به، ثم إنه أتى خراسان فاستغنى وأثرى بما أسدى إليه المأمون لما وصل إليه وسمع كلامه، ووقف على أدبه، ولقد ظهر من المأمون في هذا الخبر من النبل والإنصاف لأهل العلم والتواضع لمن تجيء له من قبله فائدة، وظهر له منه علم ومعرفة، ما شكر الله تعالى لما أراده به، ألا ترون إلى ما اقترحه من الأشعار في المعاني التي ذكر، وإلى نقده إياها، وإلى نقد استحسانه لها، ولقد كان في الشعراء إذا أنشده النقاد، والشعراء إذا أنشدوه كان من الأجواد، ولقد روي لنا عنه من نقد الشعر وتبريزه في التمييز بين جيده ورديئه، وإبرازه على أهل هذه الصناعة فيه، وعلوه بالحجة عليهم عند مخالفتهم إياه ما يطول ذكره، وسناتي بما يحضرنا منه في مستأنف مجالسنا هذه.
صناعة نقد الشعر

ونقد الشعر والتحقيق في معانيه من الصناعات التي أكثر المضطلعين لها قد عدموا وقد قلوا، وقد كان بعض من يختلف إلي للأخذ عني، والقراءة علي من أهل بعض الأطراف، قد قرأ علي شيئاً مما صنفه ابن السكيت في هذا المعنى وابن قتيبة، وما ألفه أبو الفرج قدامة الكاتب في نقد الشعر والكتاب المنسوب إلى أبي عثمان الأشنانداني علق عني صدراً صالحاً من الزيادة في ذلك، وشرح مستغلقه وإيضاح شكله، وتفسير مجمله، وتلخيص مهمله، وتخطئة من أخطأ في تأويله، ثم غاب عني فانقطعت عن التفرغ لتتبع ما بقي منه، وقد وقع إلينا في هذا الباب فقرٌ حسنة عن شيخي هذه الصناعة في زمانهما وهما أبو العباس النحويان أحمد بن يحيى، ومحمد بن يزيد، وكان محمد بن يحيى الصولي يتكلم كثيراً في هذا النوع، ويدعي فيه دعاوى يدفعه عن التقدم فيها، ظهور تأخره عنها، وتفاحش خطئه فيما يورده منها، وقد أخرج قومٌ من هذا القبيل إعجابهم بأنفسهم، وفساد تخيلهم، إلى تخطئة الفحول من الشعراء الجاهليين، ومن بعدهم من المخضرمين، ومن بينهم من الإسلاميين الذين قولهم حجة على من بعدهم، ومن تأخر عنهم، فأحسن حالاته في هذا الباب أن يكون تبعاً لهم، فمن ذلك أن لغدة الأصبهاني أقدم على تخطئة الطبقة الأولى، كامرىء القيس وزهير والنابغة والأعشى ومن يجري مجراهم، فخطأهم فيما أصابوا فيه فتفاقم خطؤه، وتعاظم خطله، وقد كنت أمللت على بعض من حضرني ما يتبين فيه قصور معرفته، وضعف بصيرته، ثم رأيت أبا حنيفة أحمد بن داود الدينوري قد صمد لكتاب لغدة هذا فنقضه، وأورد أشياء صحيحة تنبيء على إغفاله وضعف تأمله، ومع هذا فلسنا ننكر أن يخطىء الرئيس في عمله، والسابق في فهمه، فلا يضع ذلك من قدره، ولا يحطه عن مرتبته، إذ فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى ربنا عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
وقد كان للمتوكل خادم يعرف " بعرق الموت " قد شدا أشياء من الأدب، وحفظ صدراً من الشعر إلا أنه حل بقلبه من النقص نحو ما حل بجسمه، فظن أنه قد اضطلع بأفانين الأدب، واطلع على بلاغات العرب، وأخذ في نحو ما كان لغدة أخذ فيه، ونسب امرأ القيس إلى ذهابه في بعض شعره عن صحة ترتيب نظمه، ووصل الشكل بشكله، وإلحاق المثل بمثله، وحمل الفرع على أصله، وتوهم عليه هذا الباب من العيب، ونعاه عليه، وتكلف بإغفاله إصلاحه عند نفسه، بخطأ أتى به من عنده، وذكر هذا في بيتين من كلمة امرىء القيس التي أولها:
ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
والبيتان:
كأني لم أركب جواداً للذةٍ ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرةً بعد إجفال
فظن أن امرأ القيس قلب وجه الترتيب، وعدل عن محجة التأليف، وأتى بذكر الجواد في صدر البيت وقرن به تبطن الكاعب، ثم صدر البيت الثاني بسبئه الخمر وجعل عجزه في حثه الخيل على الكر، وتوهم أن هذا متنافرٌ غير متشاكل، ومتخالف غير متماثل، وأن الوجه في هذا لو تنبه عليه هو أن يقول:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذةٍ ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
قال القاضي رحمه الله: ولو ثاب إلى هذا الخادم عازب لبه، وفتح له القفل الضاغط عليه، لتيقظ للوقوف على فساد توهمه، ولتجلى له الخلل فيما آثره وقدمه، وتعلم أن ترتيب امرىء القيس في هذين البيتين من أصح الترتيب وأحسنه، وأوضح التأليف وأبينه، وأنه متسقٌ مستتب، ومتفقٌ متلئب، ولا ستفاد علماً جماً لما يتبينه من اطراده وتلاومه، وائتلافه وتقاومه، وأنه من أحسن الشعراء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر حكمة " وأنا مبين هذا بياناً كافياً، وملخصه تلخيصاً مفيداً شافياً إن شاء الله وبه التوفيق.

إن الجواد يركب لأغراضٍ شتى، منها المحاربة وشن الغارة وإدراك العدو والهارب، وفوت الثائر الطالب، وطلب الأوتار وأخذ الثأر، والتماس المعيشة والبرهان وزيارة الإخوان ومجاراة الأقران، والسبق والنضال، والتدرب بالفروسية والقتال، والركض والرياضة، والإسراع والمواشكة في الحاجة، في لواحق هذه الأمور وتوابعها، أو ما يقاربها ويضارعها، كالمجازاة والمضاهاة والمباهاة، وكانوا إذا كان لهم ذحلٌ يحرمون الخمر على أنفسهم حتى يثأروا فحينئذٍ يستحلونها، قال امرؤ القيس:
حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقبٍ ... إثماً من الله ولا واغل
ومنها القصد لضروب اللهو والمتعة، والنشاط والرتعة، والالتذاذ باختيال الجواد وقطعه الجدد، قالركوب الذي قصد امرؤ القيس بقوله: كأني لم أركب جواداً، إنما عنى به بعض ما فيه التذاذ ومتعة، ولهو ورتعة، وقد أبان ذلك بقوله: للذة، فكان من أليق ما يليه، ويقرن به ما جانسه في التمتع واللهو، إذ لم يكن ركوبه للغارة والغزو فلذلك قال: ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال، ولو قال بعد قوله: كأني لم أركب جواداً للذة، حسب ما اقترحه وقال الخادم وأشار به، لكان قد أتى بمجمع من القول غير متسق، ومضربٍ من التأليف غير متفق، ولم يقدم هذا الخادم على هذا الرأي الفائل، والتوهم الباطل، إلا بعد حذفه من قول امرىء القيس ما ينكشف المعنى بإثباته، ويزداد وضوحه بإحضاره، وذلك قوله: للذةٍ، ولو لم يذكر اللذة لم يؤمن على مثل هذا اراد الشبهة وإن كانت من المتأمل الناظر، والنحرير الماهر، مأمورٌ به لوجوب حسن الظن بامرىء القيس في نظمه، ونسبته إلى وصل بعض كلامه بحسب ما يليق به، وكيف وقد أوضح المعنى وأومأ إليه، وافصح به ونص عليه، وأما قوله: " ولم أسبأ الرزق الروي فإنه قد يسبأ رزق الخمر للنادم واللذة، والارتياح والنشوة، وقد يسبأ للبيع والتجارة ولإهدائه إلى ذي المروءة لتحريك الطبائع بشربه على تذكر الأضغان والغمر، وتهيج الحقد وطلب الوتر، والجد في القيام بالثأر، وتجرئة الجبان، وتنشيط الجنان، والسماحة في إدراك الشرف بالنفوس، وبذل كل علق مضنةٍ نفيسٍ، وأراد امرؤ القيس بما سبأه من الخمر هذه المعاني أو ما أراد منها، فكان اللائق بقوله: ولم أسبأ الزق الروي أن يكون عجز بيته هذا ما وصفه في قوله: ولم أقل لخيلي كري كرةً بعد إجفال فاغفل هذا الخادم المقصوص، والأتي المنقوص، هذا المعنى، وأخذ من البيت الأول قوله للذة فألحقها بالبيت الثاني، فلم يتم له بما غيره ما قدره، وذهب عنه فهم ما رتبه امرؤ القيس وقرره، وما ذكرنا من تقسم المعاني التي وصفنا بها سبايا الخمر أشهر في عرف الناس وكلام العرب من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه، وقد قال الله جل وعز " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعٌ للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما " وهذا معنى بين الصحة غير مشكلٍ على ذي بصيرة، قال: حسان بن ثابت:
نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغثٌ أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
وقال الأعشى:
لعمرك إن الراح إن كنت سائلاً ... لمختلف عشيها وغداتها
لنا من صحاها خبث نفسٍ وكأبةٌ ... وذكر همومٍ ما تغب اذاتها
وعند العشي طيب نفسٍ ولذةٌ ... ومال كثير غدوةً نشواتها
وقال المتنخل:
ولقد شربت من المدا ... مة بالكبير وبالصغير
فإذا انتشيت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وهذا كثير جداً، وقول امرىء القيس: لم أقل لخيلي كري، أراد لفرسان خيلي، كما قالت العرب: يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنة، أي: يا فرسان خيل الله، وقال: الله جل ثناؤه، وقوله أصدق القول وأحسنه " واسأل القرية " يعني أهلها، وقال: تعالى ذكره:

" فأشربوا في قلوبهم العجل " أي حب العجل في قول معظم أهل التأويل، وذكر بعضهم أنه سحل وألقي في اليم فشربوه، والقول الأول أولى بالصواب لأنه لا يقال في ما شرب ولحس من الماء وغيره قد أشربته في قلبي، وإنما يقال: أشرب فلان حب فلان في قلبه أو عداوته وبغضه، وذكرت أبياتاً غزلة لبعض المحدثين فأوردتها ها هنا لأني استحسنتها هاهنا وفي بيت منها نحو هذا المعنى، وهي:
وقد كنت أرجو في مغيبك سلوةً ... ولم أدر أن الطيف إن غبت طالبي
ووالله لا ينكى محب بمثلها ... وإن كان مكروهاً فراق الحبايب
وأشرب قلبي حبها ومشى به ... تمشي حميا الكأس في رأس شارب
يدب هواها في عظامي ولحمها ... كما دب في الملسوع سم العقارب

المجلس الثالث والخمسون
من قال لا إله إلا الله..
حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن داود المنادي، وأبو الحسين، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد بن قيس السكري الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأثري، قال: حدثنا مالك بن قيس، عمن حدثه، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وكان على كل رجل منا رعية الإبل يوماً، فكان اليوم الذي أرعى فيه، فبصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم في حلقةٍ يحدثهم، فسعيت إليه فأدركته وهو يقول: من توضأ فأحسن وضوءه ثم ركع ركعتين لا يريد فيهما إلا وجه الله تعالى غفر الله تعالى ما كان قبلهما من ذنب، فكبرت فإذا رجل يضرب على كتفي فالتفت فإذا هو أبو بكر الصديق، فقال أبو بكر: التي قبلها يا ابن عامر أفضل منها، قلت: وما هي؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال: لا إله إلا الله يصدق لسانه قلبه دخل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء " .
رواية أخرى للحديث
حدثنا ابن المنادى، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، وعلي بن سهل النسائي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى أبو محمد العبسي الكوفي، قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا ونفرٌ من جهينة فكنا نتناوب رعي الإبل على كل رجل منا يوم، فجاءت نوبتي فرعيتها ثم روحت نفسي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهويخطب، فجلست إلى جنب عمر بن الخطاب فأدركت من كلامه وهو يقول: ما من رجل مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقوم إلى مصلاه فيعلم ما يقول فيها، إلا انقل كيوم ولدته أمه من الخطايا " ، قال: فلما سمعتها لم أملك نفسي أن قلت: بخٍ بخٍ، فقال: عمر - وهو إلى جنبي قاعدٌ - قال: أجود منها قبل أن تجيء، قلت: وما هي: فداك أبي وأمي؟ فقال: قال: " ما من رجل مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
معنى بخ بخ واللغات فيها
قال القاضي أبو الفرج: قوله بخ بخ، هذه كلمة تقولها العرب عند الشيء تفضله وتمدحه وتعجب به، وفيها لغتان: التسكين والكسر والتنوين، فمن سكن فعلى الأصل فيما يبنى ولا يعرب، والكسر على الباب في الساكن إذا حرك، والتنوين في قول محققي نحاة البصريين يؤذن بالتنكير، وحذفه يدل على التعريف، وأكثر ما تستعمل هذه الكلمة بالتكرير ولها نظائر فيما وصفنا من حكمها، قال الشاعر:
بين الأشج وبين قيسٍ باذخٌ ... بخ بخ بوالده وبالمولود
ومثل هذا صهٍ صهٍ ومهٍ مهٍ.
وفي القصة التي رويناها بهذين السندين ما يرغب في العمل بما أنبأت بفضله، ويدل على سعة إحسان الله تعالى وتفضله، وقد روي لنا هذا الخبر من وجهٍ فيه عللٌ عارضته في سنده، وأنا ذاكره ليحصل لمن وقف عليه الفائدة منه إن شاء الله.
العلل التي في سند الحديث

حدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار، قال: حدثنا أبو يحيى محمد بن سعيد بن غالب العطار، سنة ست وخمسين ومائتين، قال: سمعت نصر بن حماد، قال: كنا على باب شعبة نتذاكر، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رعية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت وحوله أصحابه، قال: فسمعته يقول: " من توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين، واستغفر الله تعالى غفر الله تعالى له " ، قلت: بخ بخ، فحدثني رجلٌ من خلفي فإذا عمر، فقال: الذي قال قبل أحسن، قلت: وما قال؟ قال: " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قيل له ادخل من أي أبواب الجنة شئت " ، قال: فخرج شعبة فلطمني ثم رجع فدخل من ناحية الباب ثم خرج، فقال: ما له بعد يبكي، فقال له عبد الله بن إدريس: إنك أسأت إليه، قال شعبة: انظر ما يحدث عن إسرائيل، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت لأبي إسحاق: من حدثك؟ قال: حدثني عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: سمع عبد الله بن عطاء، عن عقبة، فغضب، ومسعر بن كدام حاضر، فقال مسعر: أغضب الشيخ؟ قلت: يصححن هذا الحديث أو لأرمين بحديثه، فقال لي مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة. قال شعبة: فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته، فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، قال شعبة: فلقيت مالكاً، قال: سعدٌ بالمدينة لم يحج العام، قال شعبة: فرحلت إلى المدينة فلقيت سعد بن إبراهيم، فقال: الحديث من عندكم زياد بن مخراق، قلت: إيش هذا الحديث؟ بينما هو كوفي إذ صار مكياً، إذ صار مدنياً، إذ صار بصرياً، قال شعبة: فرحلت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته، فقال: ليس هذا الحديث مما تبغي، قلت: حدثني به، قال: لا ترده، قلت: حدثني، فقال: حدثني شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما ذكر شهراً، قلت: دمر على هذا الحديث، لو صح لي هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أحب إلي من أهلي ومالي والناس أجمعين.
وقد حدثنا أبي رضي الله عنه، عن العباس بن الفضل البغدادي، عن محمد بن سعيد، وساق القصة على اختلاف ألفاظها مع تقارب معانيها وفي آخر الحديث أعني حديث أبي، عن العباس بن الفضل - قال: محمد بن سعيد: قدم علينا مغني بن معاذ، فذكرت له هذا الحديث، فقلت له: عندكم أصل، قال: نعم، حدثني بشر بن المفضل، عن شعبة، كهذه القصة، وزاد فيها حرفاً هو، قال محمد بن سعيد: لم أحفظه.

التدليس في الحديث
قال القاضي أبو الفرج: والتدليس في الحديث كثير، والمدلسون من أهله كثير، وكذلك الإرسال وكان شعبة ينكر التدليس، ويقول فيه ما يتجاوز الحد مع كثرة روايته عن المدلسين، وشاهدت من كان مدلساً من أعلام أهل العلم المحدثين كالأعمش وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وهشيم بن بشير وغيرهم، والمدلس من هؤلاء ليس بكذاب في روايته، ولا مجروح في عدالته، ولا مغموصٍ في أمانته، وأعلام الفقهاء يحتجون في الدين بنقله، وكان الشافعي لا يرى ما يرويه المدلس حجة، إلا أن يقول في روايته: حدثنا أو أخبرنا أو سمعت، وقد وجدناه لشعبة مع سوء قوله في التدليس في عدة أحاديث رواها، وجمعنا ذلك في موضع هو أولى به، قال القاضي: وفي ظاهر هذه الحكاية عن شعبة أنه قد انتهك من حرمة هذا الرجل ما هو حمى محظور، وإلى الله تصير الأمور، وفي ما يصلح إثبات مثله في هذا الكتاب، من الأخبار المدلسة وأحوال المدلسين ما يتسع، فلعنا نأتي منه بجملة فيما نستقبل إن شاء الله.
أحكم ما قالته العرب وأوجزه
حدثني محمد بن الحسين بن دريد، قال: أبو عثمان الأشنانداني، قال: أخبرني العتبي، قال: دخل الشعبي على عبد الملك، فقال: يا شعبي! أنشدني أحكم ما قالت العرب وأوجزه، فقال: يا أمير المؤمنين، قول امرىء القيس:
صبت عليه وما تنصب من أممٍ ... إن الشقاء على الأشقين مصبوب
وقول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وقول النابغة:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
وقول عدي بن زيد:

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... إن القرين بالمقارن يقتدي
وقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقول عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبةٍ يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
وقول لبيد:
إذا المرء أسرى ليلةً ظن أنه ... قضى أملاً والمرء ما عاش عامل
وقول الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلومٍ مجراً ومسحبا
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقول الحارث بن عمرو:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقول الشماخ:
وكل خليل غير هاضم نفسه ... لوصل خليلٍ، صارمٌ أو معارز
فقال عبد الملك: حججتك يا شعبي بقول طفيل الغنوي:
ولا أخالس جاري في حليلته ... ولا ابن عمي غالتني إذاً غول
حتى يقال إذا دليت في جدثٍ ... أين ابن عوفٍ أبو قران مجعول
قال القاضي أبو الفرج: بيتا طفيل اللذان أنشدهما عبد الملك وفضلهما وزعم أنه حج الشعبي من أشعار الشعراء غير مقصر عنهما، ومن تأمل ما وصفنا وجده على ما ذكرنا، من غير أن يحتاج إلى تكلف تفسير ذلك، وإطناب في الاحتجاج له، فأما بيت الشماخ فإن معنى قوله: غير هاضم نفسه، أي حامل عليها لخليله والهضم: النقص، يقال: هضم فلانٌ فلاناً حقه أي نقصه، قال الله جل جلاله: " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا يخاف ظلماً ولا هضماً " وأما قوله: أو معارز، فالمعارز المتقبض، يقال: استعرز علي فلان إذا انقبض، وألقيت البضعة على النار فعرزت، وكأن الشماخ سلك سبيل النابغة في بيته الذي أنشده الشعبي في هذا الخبر، وأصل الغرض في هذه الجملة، على ما بين البيتين مما لأحدهما من الشف من تنقيح ألفاظ الشعر، وفضل استغناء أجزاء أحد البيتين على أجزاء الآخر، وأنا قائلٌ في هذا قولاً يبين صحته ويوضح حقيقته إن شاء الله، وأقول وبالله التوفيق: إن جملة الألفاظ للبيتين التي تجمعهما على معنى واحد، هو أن الذي يحفظ الأخوة بين الأخوين، ويحرس الخلة بين الخليلين أن يلم أحدهما صاحبه على شعثه ويهضم له نفسه، ومتى لم يفعل هذا لم يكن على ثقة من استبقائه وكان بعرض مصارمته، وانقباضه عنه ومعارزته، وبيت النابغة في هذا الباب أفحل وأوفى، وأجزل وأشفى، وقد كشف عن العلة فيما أتى به بقوله: أي الرجال المهذب، فأحسن العبارة عن هذا المعنى: " من تك يوماً بأخيك كله " ، وقد نوه بيت النابغة هذا رواة الشعر ونقلته، ونقاده وجهابذته، واستحسنوا تكافؤ أجزائه، واستقلال أركانه، واشتماله على فقر قائمة بأنفسها، كافية كل واحدة منها، وهذا من النوع المستفصح، والفن المستعذب، من أعلى طبقات البلاغة، وقد أتى القرآن منه بالكثير الذي يقل ما أتى منه في الشعر إذا قيس إليه، فتبين للمميزين كثير فضل ما في القرآن عليه، فمن ذلك قول الله جل وعز: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتابٍ وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير " ولنا في هذا الباب رسالة أبنا فيها رجحان ما في القرآن من هذا الجنس على كثرته، على ما أتى منه في الشعر على قلته، فلم نطل كتابنا هذا بإعادته، وقد ضممنا معه شطراً صالحاً كتابنا المسمى " البيان الموجز في علوم القرآن المعجز " ومن نظر فيه أرشف على ما يبتهج بدراسته، ويغتبط باستفادته بتوفيق الله تعالى وهدايته.

ثمامة وهو سكران ومحاورته للمأمون
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا القربي، قال: حدثني صالح بن سعيد الضبعي، قال: حدثني أبي، قال:

قال الوليد بن عياش بن زفر، خرج ثمامة من منزل محمد بن نوح العمكري مع المغرب وهو سكران، وإذا هو بالمأمون قد ركب في نفر، فلما رآه ثمامة عدل عن طريقه، وبصر به المأمون فضرب كفل دابته وحاذاه، فوقف ثمامة فقال له المأمون: ثمامة؟ قال: إي والله، قال: سكران؟ قال: لا والله، قال: أفتعرفني؟ قال: أي والله، قال: من أنا؟ قال: لا أدري والله، فضحك المأمون حتى تثنى عليه عن دابته، ثم قال: عليك لعائن الله، قال: تترى يا أمير المؤمنين، قال: فعاد في الضحك، وأمر له بخمسين ألف درهم.

متى حلت له الخمر
حدثنا محمد بن أبي مزيد، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني عبد الله بن الحسين، قال: حدثني الضحاك بن عثمان، قال: أتى عبد الملك بن مروان بفتىً من قريش قد شرب نبيذاً، فقال: له أين شربت؟ فقال:
شربت مع الجوزاء كأساً ريوةً ... وأخرى مع الشعرى إذا ما استقلت
معتقةً كانت قريشٌ تصونها ... فلما استحلوا قتل عثمان حلت
قال: فخلاه، وأعطاه عشرة آلاف درهم.
في أقل من هذا ما يحفظ لك
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، عن الحرمازي، قال: أتى رجلٌ من الأنصار عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي بفارس فتعرض له فلم يصب منه طائلاً، فانصرف وهو يقول:
رأيت أبا حفص تجهم مقدمي ... فلط بقولٍ عدره أو مواربا
فلا تحسبني إن تجهمت مقدمي ... أرى ذاك عاراً أو أرى الخير ذاهباً
ومثلي إذا ما بلدة لم تواته ... تنكب عنها واسترم العواقبا
قال: فبلغت الأبيات عمر بن عبيد الله، فقال: علي بالرجل فجاءوا به، فقال: يا عبد الله! ما أخرج هذا منك؟ أبيني وبينك قرابة؟ قال: لا، قال: أفلك عندي يدٌ أسديتها، قال: لا، قال: فما دعاك إلى هذا؟ قال: أفضل الأشياء، كنت أدخل مسجد المدينة أحفل ما يكون فأتجاوز من الحلق إلى حلقتك فأجلس فيها وأوثرك، فقال: في أقل من هذا والله ما يحفظ لك، كم أقمت؟ قال: أربعين ليلة، فأمر له بأربعين ألفاً وجهزه إلى أهله.
بيتان يلغيان قراراً للأمير
حدثنا الحسين بن محمد بن خالويه النحوي، قال: حدثني اليزيدي، قال: حدثني أبو موسى، عن دماذ، عن الأصمعي، قال: حرم خالد بن عبد الله القسري الغناء فأتاه حنين بن بلوع مع أصحاب المظالم ملتحفاً على عود، فقال: أصلح الله الأمير شيخ كبير ذو عيال، كانت له صناعة حلت بينه وبينها، قال: وما ذاك؟ فأخرج عوده وغنى:
أيها الشامت المعير بالشي ... ب أقلن بالشباب افتخارا
قد لبست الشباب قبلك حيناً ... فوجدت الشباب ثوباً معارا
فبكى خالد، وقال: صدق والله، إن الشباب لثوبٌ معار، عد إلى ما كنت عليه، ولا تجالس شاباً ولا معربداً.
قل إن شاء الله
حدثنا الحسن بن علي بن زكريا البصري، قال: الحسن بن علي بن راشد، قال: سمعت القاضي شريك بن عبد الله، يقول: كنت ذات ليلة أصلي في السطح وإلى جنب سطحي امرأة تطلق وقد عسر عليها ولادها، فكادت تموت فشغلت قلبي، وزوجها في ناحية السطح يسمع صراخها، فسمعته يقول: والله يا هذه لئن خلصك الله تعالى لا أعود أضاجعك أبداً، فقالت له مسرعة: قل إن شاء الله يا مشوم، فأضحكني قولها، وما ذكرتها وأنا في الصلاة إلا وضحكت من قولها.
معلومات أبي حنيفة في التاريخ
حدثنا محمد بن الحسين بن زياد المقري، قال: حدثنا ابن خزيمة بنيسابور، عن المزني، عن الشافعي، قال: مضى أبو يوسف القاضي ليسمع المغازي من أبي إسحاق أو من غيره فأخل مجلس أبي حنيفة أياماً فلما أتاه، قال له أبو حنيفة: يا أبا يوسف من كان صاحب راية طالوت؟ قال له أبو يوسف: إنك إمام وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ أيما كانت أولى بدراً أو أحداً، فإنك لا تدري أيهما كان قبل، فأمسك عنه.
بعض ما رثى به البرامكة

حدثنا محمد بن مزيد، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: لما قتل جعفر بن يحيى وصلب بباب الحسن رأسه في ناحية وجسده في ناحية، مرت به امرأة على حمارٍ فارهٍ فوقفت عليه، ثم نظرت إلى الرأس، فقالت بلسان فصيح: والله لئن صرت اليوم آيةً لقد كنت في المكارم غاية، ثم أنشأت تقول:
بكيت على يحيى وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوماً مفارقة الدنيا
ولما رأيت السيف خالط جعفراً ... ونادى منادي للخليفة في يحيى
وما هي إلا دولةٌ بعد دولةٍ ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعةً ... من الملك حطت ذا إلى غاية سفلى
ثم حركت الحمار فكأنها كانت ريحاً لم تعرف.
قال القاضي أبو الفرج: قد روى لنا فيما رثي به البرمكي بعض من وقف على خشبته غير حكاية، وستأتي بعد إن شاء الله.

أضمر الملك لنا شرا
ً
حدثنا أحمد بن كامل، قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد القيسي، قال: حدثنا محمد بن أبي السرى، قال هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه قال: خرج كسرى في بعض أيامه للصيد ومعه أصحابه، فعن له صيدٌ فتبعه حتى انقطع عن أصحابه وأظلته سحابة فأمطرت مطراً حال بين أصحابه وبين اللحوق به فمضى لا يدري أين يقصد، فرفع له كوخٌ فقصده فإذا عجوزٌ بباب الكوخ وأدخل فرسه وأقبل الليل فإذا ابنة العجوز قد جاءت معها بقرة قد رعتها بالنهار، فأدخلتها الكوخ وكسرى ينظر، فقامت العجوز إلى البقرة ومعها آنية فاحتلبت البقرة لبناً صالحاً وكسرى ينظر، قال: فقال في نفسه: ينبغي أن يجعل على كل بقرة إتاوة، فهذا حلابٌ كثيرٌ وأقام بمكانه، فلما مضى أكثر الليل، قالت العجوز: يا فلانة! قومي إلى فلانة فاحتلبيها، فقامت إلى البقرة فوجدتها حائلاً لا لبن فيها، فنادت أمها: يا أمتاه قد والله أضمر لنا الملك شراً، قالت: وما ذاك؟ قالت: هذه فلانة حائل ما تبس بقطرة، قال: فقالت لها أمها: امكثي عيها قليلاً، قال: فقال كسرى في نفسه: من أين علمت ما أضمرت في نفسي؟ أما إني لا أفعل ذلك، قال: فمكثت ثم نادتها، يا بنية! قومي إلى فلانة، قال: فقامت إليها فوجدتها جافلاً، فنادت أمها: يا أمتاه! قد والله ذهب ما كان في نفس الملك من الشر هذه فلانة جافل فاحتلبتها، وأقبل الصبح وتتبع الرجال إثر كسرى حتى أتوه، فركب وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه فحملتا، فأحسن إليهما، وقال: كيف علمت أن الملك قد أضمر شراً، وأن الشر الذي أضمره قد عدل عنه، قالت العجوز: أنا بهذا المكان من كذا وكذا ما عمل فينا بعدلٍ إلا خصب بلدنا واتسع عيشنا، وما عمل فينا بجورٍ إلا ضاق عيشنا وانقطعت مواد النفع عنا.
قال القاضي: قول المرأة في هذا الخبر فلانة يعني البقرة، قال كثير من أهل اللغة: إنما يقال فلانة في المرأة، فأما ما عداها من البهائم وغيرها فوجه الكلام أن يقال: الفلانة، والوجه الآخر عندي غير مستنكرٍ، إذ قد كانوا يخصون كل واحدٍ منه التلقيب والتسمية.
المجلس الرابع والخمسون
من أدب المؤاكلة
حدثنا أحمد بن محمد بن سعد أن الصيداني، قال: حدثنا جعفر بن محمد الوراق، حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي، قال: حدثنا عبد الأعلى بن أعين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن ابن عمر، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وضعت المائدة فليأكل أحدكم مما يليه، ولا يتناول مما يلي جليسه، ولا يأكل من ذروة القصعة فإن البركة تأتيها من أعلاها، ولا يرفع الرجل يده حتى يفرغ القوم، فإن ذلك يخجل جليسه فيمتنع من الطعام، ولعله أن يكون له فيه حاجة " .
تعليق للمؤلف
قال القاضي: وفي هذا الخبر من أدب الطعام وحسن الأكل والمؤاكلة، ما يحق على كل ذي لب وحجى الأخذ به، والله تعالى يجازي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على تعليمه إيانا أولى الأمور في ديننا ودنيانا، أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
سوف يبحث عنه سنة كاملة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني الحسن بن الخضر، قال: أبو بكر - أظن عن أبيه، قال:

كتب الحسن بن سهل إلى محمد بن سماعة القاضي: أما بعد فإني قد احتجت في أموري إلى رجلٍ جامعٍ لخصال الخير، ذي عفةٍ ونزاهةٍ طعمة، قد هذبته الآداب، وأحكمته التجارب، ليس بظنين في رأيه، ولا بمطعون في حسبه، إن أؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهماً من الأمور أدى قبوله، له سن مع أدبٍ ولسانٍ، تقعده الرزانة، ويسكته الحلم، قد فر عن ذكاء وفطنة، وعض عن قارحةٍ من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة، قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام بأمورهم فحذقها، له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه، وحسن لفظه، دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات العلم له شاهدة، مضطلع بما استنهض، مستقلاً بما حمل، وقد آثرتك بطلبه وحبوتك بارتياده، ثقة بفضل اختيارك، ومعرفة بحسن تأتيك، فكتب إليه: إني عازم على أن أرغب إلى الله حولاً كاملاً في ارتياد هذه الصفة، وأفرق الرسل الثقات إلى الآفاق لالتماسه، وأرجو أن يمن الله تعالى بالإجابة، وأفوز لديك بقضاء حاجتك إن شاء الله.
قال القاضي أبو الفرج: قوله: في هذا الخبر: ونزاهة طعمة بكسر الطاء الطاعم وهو هيئة على فعلة للتطعم مثل الركبة والجلسة، والطعمة بالضم الشيء المطعوم وما جعل للإنسان من ضد الطعمة، قال الشاعر:
وما أن طبنا جبنٌولكنمنايانا وطعمة آخرينا
ويقال: قد جعلت هذه الأرض لفلان طعمة أي جعلها لطعمه، والطعمة بالفتح المرة في القياس من طعمت طعمةً واحدةً مثل الركبة والجلسة.

لا آمن أن يكون معه حديدة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني محمد بن القاسم.
قال: دخل الربيع على المهدي وأبو عبيد الله جالس يعرض كتباً، فقال له أبو عبيد الله: يا أمير المؤمنين يتنحى هذا، يعني الربيع، فقال له المهدي: تنح، قال: لا أفعل، قال: كأنك تراني بالعين الأولى، قال: بل أراك بالعين التي أنت بها، قال: فلم لا تتنحى إذ أمرتك؟ قال: لا آمن أن يكون معه حديدة ينالك بها وأنت سعرة المسلمين وقد قتلت ابنه، فقام المهدي مذعوراً وأمر بتفتيشه، فوجدوا بين جوربه وخفه سكيناً، فردت الأشياء إلى الربيع، فجعل كاتبه يعقوب بن داود مكانه، فقال فيه الشاعر:
أدخلته فعلا علي ... ك كذاك شؤم الناصية
يعقوب يحكم في الأمو ... ر وأنت تنظر ناحيه
محمد البيدق ينتقم من النمري
حدثنا محمد بن مزيد البوشنجي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد البيدق - وكان أحسن الشعراء إنشاداً كان إنشاده أحسن من الغناء - قال: دعاني هارون الرشيد في عشي يوم وبين يديه طبقٌ وهو يأكل مما فيه ومعه الفضل بن الربيع، فقال لي الفضل: يا محمد! أنشد أمير المؤمنين ما يستحسن من مديحه، فأنشدته للنمري، فلما بلغت إلى هذا الموضع.
أي امرىءٍ بات من هارون في سخطٍ ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أوديةٌ ... أحلك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت أمراً فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمةٌ ... يوم الوغى والمنايا بينهم قرع
قال: فأمر برفع الطعام، وقال: هذا والله أطيب من كل الطعام ومن كل شيء، وأجاز النمري بجائزة سنية، قال محمد البيدق: فأتيت النمري فعرفته أني كنت سبب الجائزة فلم يعطني شيئاً، وشخص إلى رأس عين فأحفظني وأغاظني، ثم دعاني الرشيد يوماً آخر، فقال: أنشدني يا محمد، فأنشدته:
شاءٌ من الناس راتعٌ هامل ... يعللون النفوس بالباطل
فلما بلغت إلى قوله:
إلا مساعير يغضبون لها ... بسلة البيض والقنا الذابل
قال: أراه يحرض علي، ابعثوا إليه من يجيئني برأسه، فتكلم الفضل بن الربيع فلم يغن كلامه شيئاً، فوجه الرسول إليه فوافاه في اليوم الذي مات فيه وقد دفن، فأراد نبشه وصلبه فكلم في ذلك فأمسك عنه.

قال القاضي أبو الفرج: النمري منسوب إلى النمر بن قاسط والميم من النمر مكسورة إلا أنها فتحت في الغضافة استثقالاً للكسرتين واليائين، وقد أتى ذلك عن العرب مستفيضاً مطرداً في ثلاثة مواضع، قالوا: النمري والشقري في النسب إلى شقرة بن تميم، والسلمي في النسب إلى بني سلمة من الأنصار، وقد يأتي النسب كثيراً على غير القياس، وقد قالوا الدهري في النسب إلى الدهر إذا وصفوا الرجل بطول العمر، وهو كثير جداً وعلله وشواهده مذكورة في مواضعها.

من المفاخرة بين المدن
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا عمرو بن علي بن بحر بن كثير السقا، مولى باهلة أبو حفص، قال: حدثنا محمد بن عباد المهلبي، عن أبي بكر الهذلي، قال: كتب بباب أبي العباس حين ولي الخلافة فخرج آذنه فأدخل من كان بالباب من أهل الكوفة، فدخل عليه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحجاج بن أرطأة، والحسن ابن زياد، وأدخل من كان من أهل البصرة، فقال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: نحن أكثر من أهل البصرة خراجاً وأوسع منهم أنهاراً، فقال لي: ما تقول يا أبا بكر؟ قال: قلت: معاذ الله من ذلك يا أمير المؤمنين، وكيف يكونون كذلك ولنا كرمان ومكران وفارس والأهواز والسند والهند والقرص والقرص، افتتحناها بالبيض القواضب، حتى ربطنا أعنة الخيل بأصول القنا بأرض الفلفل، قال: فقال محمد بن عبد الرحمن: نحن أكثر منكم علماً وفقهاً، قال: فما تقول يا أبا بكر؟ قال: قلت: بل هم أعظم كبرياء وأقل أتقياء وأكثر أنبياءً كان منهم المغيرة الخبيث السريرة، وبيان وأبو بيان، والله يا أمير المؤمنين، ما رأيت شيئاً قط أكثر بدناً مصلوباً ولا رأساً منصوباً من أهل الكوفة، وما لنا إلا نبي واحد صلى الله عليه وسلم، قال: فتبسم أبو العباس، فقال الحسن بن زياد: أتشتم أصحاب علي؟ وقد سرتم إليه لتقتلوه، فإن قلت: نحن والله أصحاب علي سرنا إليه لنقتله فكف الله تعالى شوكتنا وسلاحنا عنه حتى أخرجه من بين أظهرنا، فقتله أهل الكوفة من بين أظهركم فأينا أعظم ذنباً، فقال الحجاج بن أرطأة: بلغني أن أهل البصرة كانوا يومئذٍ ثلاثين ألفاً وأهل الكوفة تسعة آلاف فلما التقت حلقنا البطان، وتناهد النهدان، وأخذت الرجال أقرانها، ما كانوا إلا كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف، قال: ما تقول يا أبا بكر؟ قلت: معاذ الله تعالى من ذلك يا أمير المؤمنين، ومن أين كنا ثلاثين ألفاً وقد خرجت ربيعة تعين علينا، وخرج الأحنف بن قيسٍ في سعدٍ والرباب وهم الشام الأعظم والجمهور الأكبر، ولكن سلهم كم كان عددنا يوم استغاثوا بنا؟ فلما التفت حلقتا البطان، وتناهد النهدان، وأخذت الرجال أقرانها، شدخ منهم في صعيدٍ واحد تسعة آلاف وذبحوا ذبح الحملان، قال: فقال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: يا أمير المؤمنين نحن أكثر منهم أشرافاً، وأكرم منهم أسلافاً، قال: ما تقول يا أبا بكر؟ قلت: معاذ الله يا أمير المؤمنين، هل كان في تميم الكوفة مثل الأحنف بن قيس الذي يقول فيه الشاعر:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيسٍ ... ظللن مهابة منه خشوعا
وهل كان في قيس عيلان الكوفة مثل قتيبة بن مسلم الذي يقول فيه الشاعر:
كل يوم يحوي قتيبة نهباً ... ويزيد الأموال مالاً جديداً
باهلي قد عصب التاج حتى ... شاب منه مفارقٌ كن سواد
ويروى: كل يوم يجري قتيبة نهباً، وهل كان في بكر بن وائل الكوفة مثل مالك بن مسمع الذي يقول له الشاعر
إذا ما خشينا من أميرٍ ظلامةً ... دعونا أبا الأيتام يوماً فعسكرا
وهل كان في أزد الكوفة مثل المهلب بن أبي صفرة الذي يقول له الشاعر:
إذا كان المهلب من ورائي ... هدا ليلي وقر له فؤادي
ولم أخش الدنية من أناسٍ ... ولو صالوا بقوة قوم عاد
وهل كان في عبد قيس الكوفة مثل الحكم بن المنذر بن الجارود، الذي يقول له الشاعر:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... أنت الجواد ابن الجواد المحمود
سرادق المجد عليك ممدود
حكم نذر الكتابي إذا أسلم
قال: فقال أبو العباس ما رأيت مثل هذه الغلبة.

قال: وقال أبو حفص: حدثني عون بن أبي سنان الراسبي، عن أبي بكر الهذلي، قال: سألنا أبو العباس في هذا المجلس عن يهوديةٍ مرضت فنذرت في مرضها إن الله سلمها لتسرحن في كنيسةٍ من كنائس اليهود، ولتطعمن مساكين من مساكينهم، فقامت من مرضها وقد أسلمت، قال: فسكت القوم، فقلت: يا أمير المؤمنين سألت عنها الحسن بن أبي الحسن، فقال: تسرج في مسجد من مساجد المسلمين وتطعم مساكين من مساكينهم، وسألت قتادة وهو إلى جانبه، فقال لي: مثل مقالة الحسن، فلقيت محمد بن سيرين فسألته عن ذلك، فقال لي: ليس عليها شيء، هدم الإسلام ما كان قبله، فلقيت الشعبي فأخبرته بما قال الحسن وقتادة، فقال لي: فأين أنت عن الأصم ابن سيرين؟ فقلت له: قد سألته عن ذلك، فقال لي: ليس عليها شيء هدم الإسلام ما كان قبله، فقال: أصاب الأصم وأخطأ الحسن وقتادة، وقال: يعني محمد بن أحمد: حدثني جعفر بن عبد الواحد، قال: كنت أتغدى مع المتوكل فسألت عن نصراني حلف على يمين ونذر نذراً ثم أسلم، هي يجب عليه؟ فقال له: حدثني عبد الله بن بكر السهمي، قال: حدثنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! ما أتيتك حتى حلفت بعدد أولاء، وجمع بين أصابع يده، على أن لا آتيك ولا آتي دينك، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامه ولم يأمره بكفارة يمينه.

قال القاضي أبو الفر: قد اختلف أهل العلم في الكافر ينذر نذراً في هذه أو يخلف يميناً ثم يسلم، فأسقط عنه الكفارة والإتيان بما نذره كثيرٌ من فقهاء الحجاز والعراق، وأوجب ذلك عليه عددٌ منهم، واحتجوا بأن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر في كفره لا تصح منه قربة إلى ربه قبل إسلامه، وأن الأسباب التي تؤدي إلى وجوب أسباب الطاعات تجري مجرى مواقيت الفروض والنوافل في خصوصية المسلمين بها، ومفارقة أهل الكفر لهم فيها، واعتل في ذلك بعضهم بقول الله عز وجل: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " واحتج مخالفوهم بأن العبادات التي أتت شريعة الإسلام بها لازمة لكل ذي مرةٍ سوي فعلها والرجوع إليها والأخذ بها، وما أسقط الله عنهم بعد الإسلام أداءه وقصاءه سقط دون غيره مما لم ينصب دلالةً على إسقاطه، إذ الواجب إقراره على أصله، واحتجوا أيضاً بأن عمر بن الخطاب، قال: نذرت أن أعتكف ليلةً في الجاهلية، فلما أسلمت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أوف بنذرك " ، ورأيت شيخنا أبا جعفر ذكر في الكافر يحلف في حال كفره ثم يحنث فيها بعد إسلامه أنه لا كفارة عليه، واعتل بأن الكافر يحلف بإلاهه الذي يعبده، ومن مذهبه أنه من حلف بغير الله تعالى ثم حنث فلا كفارة عليه، فكأنه أسقط الكفارة عمن حلف بغير الله من الكفار، وقال في حديث عمر، لما رواه. أنه يدل على وجوب النذر فيما ورد خبر عمر فيه، وقد شرحت مذهبه في هذا وأتيت بما حضرني فيه فيما صنفته من كتب الفقه، وكرهت الإطالة في هذا الموضع بإعادته، وأما ما أفتى فيه الحسن وقتادة من الإسراج في مسجد من مساجد المسلمين مكان نذر الناذرة في كفرها أن تسرج في كنيسة من كنائس اليهود فإن إبطال نذرها في الكنيسة صواب إذ هو معصية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ، وقال: " ولا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين والكفارة في هذا عندنا غير واجبة، وقد ضعف شيخنا سند هذا الخبر الآتي بها وجمهور فقهاء الكوفيين يوجبونها ويوجبون معها كفارة يمين، إذا كان الناذر يميناً والإسراج في مسجد من مساجد المسلمين غير واجب عندنا في هذه المسألة إذ لم يكن نذره ولا أتت حجةٌ بوجوبه ومن أوجبه فقوله: مضارع لمن أوجب على الناذر أن ينحر ولده ذبح شاةٍ من الغنم أو نحر شيءٍ من الإبل، وأما ما أفتيا به من إطعام مساكين من المسلمين مكان من منذرت إطعامه من مساكين اليهود فإن إطعام مساكين اليهود يجزىء في النذر إذا جعل لهم، وفيه قربة إلى الله جل وعز، وقد أجاز كثيرٌ من فقهاء المسلمين صرف صدقة الفطر وكفارة الأيمان والجهاد إلى أهل الذمة، ومن إجاز إطعام مساكين المسلمين ما نذر إطعامه مساكين أهل الذمة، فشاهده من القياس جواز صلاة القادر أن يصلى في مسجد سماه وعينه إذا صلى في مسجدٍ غيره هو مثله أو أفضل منه، فأما إبطال نذر إطعام مساكين أهل الذمة وإيجاب نقله إلى مساكين أهل المسلمين فلا وجه له في الصحة، وأما فتيا الشعبي وابن سيرين فهي جاريةٌ على أصل مذهب من قدمنا حكاية مذهبه، ممن يبطل أصل نذر الكافر في أصل كفره، وأما الخبر الذي رواه جعفر بن عبد الواحد للمتوكل فلا حجة له فيه، وذلك أن جد بهزر بن حكيم القشيري وهو معاوية بن حيدة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف، وقال له: حلفت ولم يذكر الذي حلف به، وجائز أن يكون حلف بغير الله تعالى فلا كفارة عليه عندنا بعد حنثه، وأيضاً فأنه قال: حلفت، ومن قال حلفت لأفعلن كذا وكذا ، أو لا أفعل كذا فليس عليه عندنا ما على القائل: أحلف بالله من الكفارة إذا حنث، حتى يقول: أحلف بالله وأقسم بالله أو أولي بالله أو أشهد بالله، وإن كان من أهل العلم من يجعل قول القائل: أشهد وأحلف وأولي وأقسم يميناً، ويسوي بين هذا وبين ما وصله باسم الله تعالى، فقال: أشهد بالله وأحلف بالله وأولي بالله وأقسم بالله.

هل يتلازم الجود والشجاعة
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال حدثنا البربري، قال: من كلام أحمد بن أبي خالد: لا يعدن شجاعاً من لم يكن جواداً، فإن من لم يقدر على نفسه بالبذل لم يقدر على عدوه بالقتل.

قال القاضي: ذكر عن بعض أهل العلم أنه قال: كان الناس يقولون إن الشجاع لا يكون بخيلاً، وإن الشجاعة والبخل لا يجتمعان، وذلك أن من جاد بنفسه كان بماله أجود، حتى نشأ عبد الله بن الزبير فكان من الشجاعة بحيث لا يدانيه كبير أحد، وكان من البخل على مثل هذا الحد، ونحو قول من استنكر اجتماع الشجاعة والبخل، قول الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود

خليفة يأمر ابنه بكتابة بيتين
حدثنا أبو النضر العقيلي، قال: أخبرني أحمد بن محمد بن عيسى، قال: حدثني عمر بن عبد الله الإخباري، قال: سمعت المهتدي يقول: كنت أمشي خلف أبي الواثق على ميدان من البستان في الهاروني فالتفت إلي، فقال: اكتب هذين البيتين واحفظهما:
تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسناً فزده
ستلقى من عدوك كل كيدٍ ... إذا كاد العدو ولم تكده
لا يفرح إلا بما تحت يده
حدثنا أحمد بن محمد بن الجراح، قال: العباس بن محمد الهاشمي مولى لهم، قال: عبد الرحمن بن أبي البختري الدلال الكوفي، قال: سمعت يحيى بن آدم يقول لأبي بكر بن عياش: يا أبا بكر! ما أصبحت تفرح بشيءٍ من الدنيا؟ فقال: ما أفرح إلا بدرهمٍ في كمي مصرور، وقدرٍ قد جعلتها الجارية في التنور.
رب نصح خير من مال
حدثنا أبو هاشم الحمصي، عن عبد الغافر بن سلامة الحضرمي، قال: حدثنا أبو حميد، قال: حدثنا أبو حبوة، قال: حدثنا أبو عتبة، قال: حدثني أبو سبأ عتبة بن تميم التنوخي، عن أبي عمير الصوري، قال: كلمة لك في أخيك خيرٌ لك من مالٍ يعطيك، لأن كلمته تحييك، والمال يطغيك.
من نوادر المعلمين
حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدثني أبو يعلى المعروف بالبربري، قال: جاءني رجلٌ، فقال أشغلني في موضعٍ أؤدب فيه، قلت: ما تحسن حتى أطلب لك على قدر ذلك؟ قال: احفظ القرآن وليس عندي من العربية شيءٌ، فشغلته عند رجل فأنشده:
من يذق الحرب يجد طعمها ... مرا وتتركه بجعجاع
فقال له: هذه الآية في أي سورة هي؟ قال: هي في: " حم عسق " .
المجلس الخامس والخمسون
من جوامع الكلم
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل أبو بكر الناقد، بسر من رأى، سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، قال: حدثنا إبراهيم يعني ابن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي الحمصي، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا مطعم بن المقدام، عن نصيح القيسي، عن ركب المصري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لمن تواضع في نفسه من غير منقصة، وذل في غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة " .
رواية أخرى للحديث
حدثنا إبراهيم بن سليمان بن حمدويه الدهان المروزي، بالنهروان، قدم للحج سنة تسع عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أحمد بن علي بن سلمان أبو بكر، قال: حدثنا محمد بن ثميلة، قال: حدثنا محمد بن عيسى، عن أبان، عن أنس، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قهقهةً عند القبور، فقال: ما يؤمن هذا بيوم الحساب، ثم خطب فقال: يا أيها الناس! كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذين نشيع من الموتى يعني في نفرٍ وهم إلينا راجعون، وكأنا مخلدون بعدهم، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن تواضع لله في غير منقصة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سبريرته، وحسنت علانيته، واعتزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم يتعدها إلى بدعة.
قال: القاضي: لقد أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الموعظة، وضمنها أصولاً من الحكمة، وأرشد فيها إلى ما يكسب النجاة والعصمة، ويأمن العامل به المتقبل له العطب والهلكة.
وقد روي أن عبد الله بن مسعود سمع رجلاً ضحك في المقبرة، فقال له: لا أكلمك أبداً.

وحكي لنا عن بشر بن الحارث مثله، ولعمري إن المقبرة لمحلة يدعو حضورها ذا اللب وسلامة الصدر والقلب، إلى الرهبة والدعاء، والتذكر والبكاء، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه في زيارة قبر أمه، فأذن له وأنه زارها في ألف مقنع، فلم ير باكٍ ولا باكية أكثر من يومئذ.
مجاهدٌ تلفظه الأرض
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا العكلي، قال: أخبرني رجلٌ من أهل البصرة، قال: رأيت رجلاً له هيئة وسمتٌ وعليه الصوف، فسألته عن اسمه، فقال: اسمي علي بن محمد فجلست إليه فحدثته فخبرني أنه مضى إلى المصيصة غازياً، فرأى في مسجدها شيخاً جميلاً هيباً، وحوله قومٌ يسمعون من حديثه، قال: فجلست إليه فسألنى عن حالتي، فقلت: رجلٌ من أهل العراق قدمت أريد وجه الله تعالى والدار الآخرة، فقال: رزقك الله حياةً طيبة ومنقلباً كريماً، ثم قال لي: إن لي إليك حاجةً لا تردني عنها، قلت: نعم، قال: تتحول إلي وتنزل علي فما كان إلا ساعةً، ثم نزلت برجلٍ قد وهب الله له قوةً على الصيام والقيام وطلب الخير، فأقمت عنده حتى تهيأ لصاحب الثغر الغزو، وخف معه عشرة آلاف من المطوعة، فقدم ابنه وكان حدثاً، وكان رب منزلي فيمن خرج فخرجت بخروجه، فلما أوغلنا في بلاد العدو دلف إلينا جمعٌ عظيمٌ فوقفنا لهم وأقبل الفتى يحرض الناس ثم برز الشيخ فتكلم، وقال: هذه أبواب الجنة فافتحوها بسيوفكم، فحمل الفتى فأصيب، وحمل الشيخ رب منزلي فأصيب رحمهما الله، ثم إن الله تعالى منحنا أكتاف العدو فقتلنا وأسرنا ورجعنا إلى مواضعنا، فخفرنا لمن أكرمهم الله بالشهادة فدفناهم، ودفنا الشيخ، وسوينا عليه لحده، فارتجت الأرض ورجفت بنا، ثم لفظت الشيخ فوقع على عشرة أذرع من قبره، فقلنا: رجفة أو زلزلة، فحفرنا له قبراً آخر وسوينا عليه، فسمعنا ما هو أهول وأفظع، ولفظت به الأرض أبعد من ذلك الموضع، فحفرنا له قبراً ثالثاً ودفناه، فجاءت هدةٌ طاشت منها عقولنا ولفظته الأرض، وسمعنا هاتفاً يقول: أيتها العصابة! إن هذا الرجل لم يزل يدعو الله أن يجعل محشره من بطون السباع وحواصل الطير، فدعوه إن الله جل جلاله قد سمع نداه، فتركناه وانصرفنا.

ابن صفوان ينصح السفاح بالاستمتاع بالنساء
حدثنا الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الربعي، عن العباس بن الفضل، قال: قال: إسحاق يعني ابن إبراهيم الموصلي، قال شبيب بن شيبة:

دخل خالد بن صفوان التميمي على أبي العباس وليس عنده أحد، فقال: يا أمير المؤمنين! إني والله ما زلت منذ قلدك الله تعالى خلافة المسلمين إلا وأنا أحب أن أصير إلى مثل هذا الموقف في الخلوة، فأن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب حتى أفرغ فعل، قال: فأمر الحاجب بذلك، فقال: يا أمير المؤمنين! إني فكرت في أمرك، وأجلت الفكر فيك فلم أر أحداً له مثل قدرك، ولا أقل استمتاعاً في الاستمتاع بالنساء منك، ولا أضيق فيهن عيشاً، إنك ملكت نفسك امرأةً من نساء العالمين واقتصرت عليها، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وإن عركت عركت، وحرمت نفسك يا أمير المؤمنين التلذذ باستطراف الجواري وبمعرفة اختلاف أحوالهن، والتلذذ بما يشتهى منهن؟ إن منهن يا أمير المؤمنين الطويلة التي تشتهى لجسمها، والبيضاء التي تحب لروعتها، والسمراء اللعساء، والصفراء العجزاء، ومولدات المدينة والطائف واليمامة ذوات الألسن العذبة والجواب الحاضر، وبنات سائر الملوك، وما يشتهي من نظافتهن وحسن هندامهن، وتخلل بلسانه فأطنب في صفات ضروب الجواري وشوقه إليهن، فلما فرغ خالد، قال: ويحك! ما سلك مسامعي والله كلامٌ قط أحسن من هذا، فأعد علي كلامك فقد وقع مني موقعاً، فأعاد عليه خالد كلامه بأحسن مما ابتدأه، ثم قال: انصرف، وبقي أبو العباس مفكراً فيما سمع من خالد يقسم أمره، فبينا هو يفكر إذ دخلت عليه أم سلمة، وقد كان أبو العباس حلف أن لا يتخذ عليها ووفى لها، فلما رأته مفكراً متغيراً، قالت له: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل حدث أمر تكرهه أو أتاك خبر ارتعت له؟ فقال: لا، والحمد لله، ثم لم تزل تستخبره حتى أخبرها بمقالة خالد، قالت: فما قلت لابن الفاعلة؟ فقال: ينصحني وتشتمينه! فخرجت إلى مواليها من البخارية فأمرتهم بضرب خالد، قال خالد: فخرجت إلى الدار مسروراً بما ألقيت إلى أمير المؤمنين، ولم اشك في الصلة، فبينا أنا مع الصحابة واقفاً إذ أقبلت البخارية تسأل عني، فحققت الجائزة والصلة، فقلت لهم: هأنذا، فاستبق إلي أحدهم بخشبةٍ فلما أهوى إلي غمزت برذوني ولحقني فضرب كفله، وتنادى إلى الباقون وغمزت البرذون فأسرع، ثم راكضتهم ففتهم، واختفيت في منزلي أياماً - قال القاضي: الصواب: استخفيت - ووقع في قلبي أني أتيت من قبل أم سلمة، فطلبني أبو العباس فلم يجدني، فلم أشعر إلا بقوم قد هجموا علي، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فسبق إلي قلبي أنه الموت، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، لم أر دم شيخٍ أضيع، فركبت إلى دار أمير المؤمنين، ثم لم ألبث أن اذن لي فاصبته خالياً فرجع إلي عقلي، ونظرت في المجلس ببيتٍ عليه ستورٌ رقاق، فقال: يا خالد لم أرك! قلت: كنت عليلاً، قال: ويحك! إنك وصفت لأمير المؤمنين في آخر دخلةٍ دخلتها علي من أمور النساء والجواري صفةً لم يخرق مسامعي قط كلام أحسن منه، فأعده علي، قال: وسمعت حساً خلف الستر - فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب إنما اشتقت اسم الضرتين من الضر، وأن احداً لم يكن عنده من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضر وتنغيص، قال له أبو العباس: لم يكن هذا في الحديث، قال: بلى والله يا أمير المؤمنين، قال: فأنسيت إذاً، فأتمم الحديث، قال: وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأثا في القدر يغلى عليهن، قال: برئت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت سمعت هذا منك ولا مر في حديثك، قال: وأخبرتك أن الأربع من النساء شر مجموع لصاحبهن يشيبنه ويهرمنه ويحقرنه ويقسمنه، قال: لا والله ما سمعت هذا منك ولا من غيرك، قلت: بلى والله، قال: أفتكذبني؟ قلت: أفتقتلني! نعم والله يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن أبكار الإماء رجال إلا أنهن ليست لهن خصى، قال خالد: فسمعت ضحكاً من خلف الستر، ثم قلت: نعم، وأخبرتك أن عندك ريحانة قريش، وأنك تطمح بعينيك إلى النساء والجواري، قال: فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عماه، بهذا حدثته ولكنه غير حديثك ونطق عن لسانك، فقال أبو العباس: مالك قاتلك الله، وفعل بك وفعل؟ قال: وانسللت، قال: فبعثت إلي أم سلمة بعشرة آلاف درهم وبرذون وتخت.
قال القاضي أبو الفرج: قوله في هذا الخبر: السمراء اللعساء التي في شفتها سمرة وسواد، ومن ذلك قول ذي الرمة:
لمياء في شفتيها حوةٌ لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب

اللما مقصور: سمرة الشفة، والحوة: الحمرة إلى السواد شبيه به، واللعس مثل ذلك، والشنب برد وعذوبة في الأسفان، ويقال: امرأة لمياء ورجل ألمى، وذكر عن الأصمعي أنه قال: اللعس السواد الخالص، ويقال: ليل ألعس، ولا أدري يقال: لعسٌ أم لا؟ ويقال: حوي يحوى وقياسه في اللمالمي يلمى، وقوله: ينصحني وتشتمينه الكلام الفصيح السائر: وينصح لي، قال الله تعالى: " إن أردت أن أنصح لكم " ويقال: فنصحت لكم، ونصحت فلاناً: لغة قد حكيت، وهي دون هذه في الفصاحة من ذلك قول الشاعر:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا ... لديهم رسائلي
وأصل النصح: الإخلاص والمناصحة المخالصة ويقال: هذا شيءٌ ناصح أي خالص، كما قال الشاعر:
تركت بنا لوحاً ولو شئت جادنا ... بعيد الكرى ثلجٌ بكرمان ناصح

أأزرع أنا ويحصد يوشع
حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثنا أبو الأصبغ، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن عطاء، عن أبيه، قال: أوحى الله إلى موسى بن عمران أن يوشع هو القائم على الناس بعدك، فقال: يارب أأزرع أنا ويحصد يوشع أأرعى أنا الغنم حتى إذا صلحت واستوت صارت إلى يوشع، فقال الله تعالى: إن أيام يوشع مخرجتك من الدنيا، فقال: يارب فأنا أكون من قبل يوشع، فقيل له: فاصنع به كما كان يصنع بك، فقال: نعم، وكان من رسم يوشع أن ينبه موسى للصلاة، فجاء موسى إلى باب يوشع، فقال: يا يوشع! فضرب الله على أذنه فلم ينتبه، وجعل بنو إسرائيل يمرون على موسى، فقال: يارب مائة موتةٍ أهون من ذل ساعة، وانتبه يوشع فلما رأى موسى فزع، وقال: يا نبي الله أنت واقفٌ هاهنا، ومضى موسى إلى الجبل واتبعه يوشع فجعل موسى يوصيه: اصنع ببني إسرائيل كذا وافعل كذا، ثم قال له: ارجع فأبى فخلع موسى نعليه ورمى بهما، وقال: جئني بنعلي، فذهب ليجيء بهما فأرسل الله نوراً حال بين يوشع وموسى فلم يصل إليه فرجع يوشع إلى بني إسرائيل فأخبرهم فجاءوا إلى الموضع من الجبل فإذا موسى قد قبض، ورصفت الحجارة عليه.
قد قاربتك جهدي
حدثنا عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد، عن المازني، قال: اجتمعت مع يعقوب بن السكيت، عن محمد بن عبد الملك الزيات، فقال لي محمد بن عبد الملك: سل أبا يوسف عن مسألة، فكرهت ذلك وجعلت أتبطأ وأدافع، مخافة أن أوحشه لأنه كان لي صديقاً، فألح علي محمد بن عبد الملك، فقال لي: لم لا تسأله؟ فاجتهدت في اختيار مسألةٍ سهلة لأقارب يعقوب، فقلت له: ما وزن " نكتل " من الفعل من قول الله تعالى: " فأرسل معنا أخانا نكتل " فقال لي: نفعل، فقلت: ينبغي أن يكون ماضيه كتل، فقال: ليس هذا وزنه إنما هو نفتعل، فقلت له: نفتعل كم هو حرفٌ؟ قال: خمسة أحرف، فقلت له: فنكتل كم حرف هو؟ قال: أربعة أحرف، فقلت: له أيكون أربعة أحرف بوزن خمسة أحرف، فانقطع وخجل وسكت، فقال محمد بن عبد الملك: فأنما تأخذ كل شهر ألفي درهم على أنك لا تحسن ما وزن نكتل؟ فلما خرجنا، قال لي يعقوب: يا أبا عثمان! هل تدري ما صنعت؟ فقلت له: والله لقد قاربتك جهدي، وما لي في هذا ذنبٌ

قال القاضي أبو الفرج: نكتل في هذا الموضع هو في أوليته وابتدائيته في ماضيه ومستقبله: كال يكيل على فعل يفعل، مثل مال يميل وقياسه في أصل تقديره كيل يكيل، نظيره من الصحيح ضرب يضرب، إلا أن الياء في كيل انقلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، والألف لا تكون إلا ساكنة إلا أنها في نية حركة ونقلت كسرة الياء في المضارع ونقلت كسرتها إلى الكاف وكانت ساكنة، فكسرت إذ لم يستقم التقاء الساكنين فصار نكتل، وقيل في الجمع: كلنا نكتل، ثم لما زيدت التاء دلالة على الإفتعال قيل: اكتال نكتال وأصله اكتيل يكتيل، نحو افتعل يفتعل نظيره من الصحيح: اكتتب يكتتب واكترث يكترث واستبق يستبق ثم قلبت الياء من اكتيل ألفاً لتحركها وانفتاح ما قيلها، فصار اكتال ومضارعه يكتال، وأصله يكتيل، وفي الجمع نكتيل وزنه نفتعل، فلما قيل نكتل فأعرب بالجزم إذ هو جواب الأمر اقتضى الجزم سكون اللام، فالتقى ساكنان اللام والألف المنقلبة من الياء فأسقطت الألف لذلك فبقي نكتل، ووزنه في الأصل نفتعل ثم لما حذفت الألف المنقلبة من الياء وهي عين الفعل صار نكتل فوزنه نفتل، على طريقة التحرير وتمييز الزوائد من الأصول بالعبارة عن الأصليات بالفاء والعين واللام وتسمية الزوائد بأنفسها، ألا ترى أنا نقول في وزن جهور أنه فعول فيعبر عن الجيم والهاء والراء الأصليات بالفاء والعين واللام، وتأتي باسمها الواو فهي الزيادة إذ ليست من الفعل فاءً ولا عيناً ولا لاماً، ويعقوب لما رأى نكتل موافقاً لوزن نفعل تسرع إلى ما أجاب به مع ذعر المحنة وإزعاج البديهة وهيبة الحاث لسائله على شراسة خلقه وإشفاقه من تشعث منزلته عنده، وقطع مادة المعيشة من جهته.
ووزن ألفاظ الكلم تأتي على جهات مختلفة بحسب أغراض الوازنين، وعلى قدر ترتيب الصناعة من المقابلين، والنحويون يزنون الحروف على أخصر من وزن العروضين، لأنهم يقابلون في الزنة الحركة بجنسها من التحريك الذي هو خلاف السكون ونوعها إن ضماً وإن فتحاً وإن كسراً، على اختصاص كل واحد من هذه الأنحاء دون صاحبه، والعناية بذات الحرف دون الإعراب والتنوين وما يزاد ويحذف خطا ولفظاً، والعروضيون يراعون ذلك كله ويسوقونه ويبنون وزنهم على اللفظ، ويجرون وزنهم على مقابلة الحركة جنساً لا نوعاً، فيسوون فيها بين الضم والفتح والكسر، ولما تساوى نكتال واكتال في عدد الحروف وسبيل حرف المضارعة أن تجري به الزيادة على حروف الماضي، فلأن همزة اكتال زائدة للوصل تذهب إذا تحركت فاء الفعل وليست بلازمة للكلمة، وقد اختلف فيما زاد من الأسماء من الثلاثي الذي هو فاءٌ وعينٌ ولام فأتى رباعياً أو خماسياً من غير أن يكون فيه شيءٌ من حروف الزيادة كقولك جعفر وفرزدق، فحكم بعضهم على هذا بأن الحرف والحرفين منه مما أتى بعد الفاء والعين واللام مجهول، وقضى بأن الطرف أولى منه بباب الزيادة، وذهب آخرون إلى مثل هذا في العين، وميزوا بين تجانس الحرفين في آخره، وذلك كفعلل الذي هو وزن قردد، وبين ما اختلفا فيه نحو جعفر، وهذا باب لا يحتمل كتابنا هذا الإتساع فيه، وله موضع هو أولى به.
ومما اتفق في هذه القصة مع ما ذكرنا من الأحوال العارضة أن يعقوب كان في صناعة النحو ذا بضاعة مزجاةٍ نزرة، وقد صنف مع هذا في النحو كتاباً مختصراً لم يعد فيه القدر الذي تناله يده، وإن كان إماماً علماً في اللغة، وقدوة سابقاً مبرزاً في اختلاف أهلها من البصريين والكوفيين، وله فيها كتبٌ مؤلفة حسنة، وأنواع مصنفة مفيدة، وأبو عثمان المازني وإن كان قد قصد الجميل من مقاربته وتسهيل مناظرته فإنما أتى بما هو متيسر له دونه، وقد كان الأولى بما قصده تنكب ما فيه اعتلالٌ وقلب، والعدول به عن التصريف الكاد للقلب الشاق على اللب، وقد رد المازني على سيبويه مسائل في بعضها حججٌ وفي بعضها شبهٌ، وسأل الأخفش عن مسائل نسبه إلى التقصير والإنقطاع في بعضها، وحكي أن الأخفش رجع عند أول توقيف منه عليها في البعض منها، وقد ذكرنا من هذا طرفاً في موضعه.

بنو الأحرار تهجي وتمدح
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا الغلابي، قال: حدثنا الضبي، قال: سمع أعرابي رجلاً يقول: " الأعراب كفراً ونفاقاً " ثم سمعه يقول: " ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر " الآية، فقال: هجا ومدح، لا بأس، ثم أنشد:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8