كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا

حدثنا ابن دريد: قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن ابن الكلبي، عن محمد بن سليم أبي هلال الراسبي، عن حميد بن هلال الخدري، قال: خطب عمرو بن حريث إلى عدي بن حاتم فقال: لا أزوجك إلا على حكمي، فرجع عمرو وقال: امرأة من قريش على أربعة آلاف درهم أعجب إلي من امرأة من طييء على حكم أبيها، فرجع ثم أبت نفسه فرجع إليه، فقال: على حكمي؟ قال: نعم، فرجع عمرو بن حريث فلم ينم ليلته مخافة أن يحكم عليه بما لا يطيق، فلما أصبح بعث إليه أن عرفني ما حكمت به علي، فأرسل إليه: إني حكمت بأربع مائة درهم وثمانين درهماً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وكسوة فردها وفرق الثياب في جلسائه، وقال:
يرى ابن حريث أن همي ماله ... وما كنت موصوفاً بحب الدراهم
وقالت قريش لا تحكمه إنه ... على كل ما حال عدي بن حاتم
فيذهب منك المال أول وهلة ... وحمامها والنخل ذات الكمائم
فقلت معاذ الله من ترك سنةٍ ... جرت من رسول الله والله عاصمي
وقلت معاذ الله من سوء سنة ... يحدِّثها الركبان أهل المواسمِ

بين حفص بن غياث القاضي وأبي الديك المعتوه
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا القتات بالكوفة، قال: أخبرنا أبو نعيم، قال: كنت جالساً عند حفص بن غياث بعد أن ولي القضاء، فدخل عليه أبو الديك المعتوه وكان ذاهب العقل محتالاً للمعاش، وكان دخوله في يوم من أيام الشتاء شديد البرد فرآه حافياً حاسراً فرحمه، فدعا الجارية فسارها فجاءته بعمامة وخفين، فقال: ارفعيه إلى أبي الديك، قال: فلف العمامة على رأسه ولبس الخف ثم قام بين يديه فأخذ قميصه وكان خلقاً رثاًُ فجال بإصبعه ثم قال: أيها القاضي! جزاك الله عن الأطراف خيراً، وحرك قميصه بإصبعه أي انظر إلى قميصي ورقته ورثاثته، فضحك حفص بن غياث ثم قام فدخل ثم خرج وقد خلع الجبة التي عليه وقميصها، ولبس غيرهما وأمر بدفعهما إلى أبي الديك فلبسهما أبو الديك ثم قال: أيها القاضي! يحكى أن عبد الملك ابن مروان قال لبعض ولده: أي الثياب أعجب إليك؟ قال: ما رأيته على غيري يا أمير المؤمنين، قال: فأي الرجال اخترت لنفسك؟ قال: أحسنهم اختياراً يا أمير المؤمنين. وقد اخترت لنفسك أيها القاضي الثواب وحسن الثناء وسررت أبا الديك كل السرور إلا قطيرة، فقال له حفص: يا أبا الديك! وما القطيرة؟ قال: شيء أنصرف به إلى عيالي، قال: حفص: حباً وكرامة، والله ما في منزلي ذهب ولا فضة ولكن أستقرض لك، يا غلام! قل لفلان أقرضنا ديناراً أدفعه إلى أبي الديك، قال: يقول له أبو الديك: أيها القاضي! والله ما أجد لك مثلاً إلا قول الشاعر:
يعيرني بالدين قومي وإنما تقرضت في أشياء تكسبهم مجداً
وقول صاحبه:
وما كنت إلا كالأصم بن جعفرٍ ... رأى المال لا يبقى فأبقى به حمداً
المجلس الخامس عشر
قول الرسول في مخاطبة قتلى بدر
حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر الواسطي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا نصر بن حماد البجلي، قال: حدثنا شعبة، عن السدي، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى بدر فقال: " جزاكم الله عني من عصابة شراً، فقد خونتموني أميناً وكذبتموني صادقاً، ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال: هذا أعتى على الله من فرعون، إن فرعون لما أيقن بالهلكة وحد الله عز وجل، وإن هذا لما أيقن بالهلكة دعا باللات والعزى " .
قال القاضي: وفي هذا الخبر ما ينبه أولي الألباب من المؤمنين على نعمة الله عز وجل عليهم في هدايته إياهم إلى الإيمان به، وتوفيقهم لتصديق نبيه، والإقرار بصحة نبوته، الاعتراف بوفور أمانته، والإذعان لاتباعه والجد في طاعته، وأن بصرهم من دينه ما عمي عنه أعداؤه، وعصمهم من الضلالة التي هلك فيها عصاة عباده، وعتاة خلقه، فالحمد لله على نعمته علينا في ديننا ودنيانا، وله الشكر على إحسانه إلينا في جميع شئوننا، ونظره لنا فيما يصلحنا، ويعود علينا بالفوز في معادنا، والنجاة من العطب يوم حشرنا.
جارية ظريفة ترد على أبي الشعثاء حين أخبرها بحبه

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الرياشي، عن ابن سلام، قال: أخبرني علي بن هشام أو من أخبرني عن علي بن هشام، قال: كان بالكوفة رجل يكنى أبا الشعثاء، عفيفاً مزاحاً، وكان يدخل على سراة أهل الكوفة، فمزح مع جارية لبعضهم وأخبرها أنه يهواها، وكان شاعرة ظريفة، فقالت:
لآبي الشعثاء حب باطنٌ ... ليس فه تهمة للمتهمْ
يا فؤادي فازدجر عنه وإن ... عبث الحب به فاقعد وقمْ
جاءني منه كلام صائبٌ ... ورسالات المحبين الكلم
صائد تأمنه غزلانه ... مثل ما تأمن غزلان الحرم
صل إن أحببت أن تعطى المنى ... يا أبا الشعثاء لله وصمْ
ثم ميعادك بعد الموت في ... جنة الخلد إن الله رحمْ
حيث نلقاك غلاماً ناشئاً ... كلاماً قد كملت فيك النعم

ابن الزبير يغضب من ابني العباس بن عبد المطلب
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي، قال: دخل عبد الله بن صفوان على عبد الله بن الزبير، فقال: أنت والله كما قال الشاعر:
إن تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم نبك منك على دنيا ولا دينِ
قال: وما ذاك؟ قال: هذان ابنا العباس بن عبد المطلب، أحدهما يفتي الناس في دينهم والآخر يطعم فما بقيا لك، فأرسل إليهما: إنكما تريدان أن ترفعا رايةً قد وضعها الله، ففرقا من قبلكما من مراق العراق، فقال عبد الله: أي الرجلين نطرد عنا؟ أقابس علم أم طالب نيل، وبلغ الخبر أبا الطفيل، فقال:
لا در در الليالي كيف يضحكنا ... منها عجائب أنباءٍ وتبكينا
مثل ما تحدث الأيام من عجبٍ ... وابن الزبير عن الدنيا يلهينا
كنا نجيء ابن عباسٍ فيقبسنا ... علماً ويكسبنا أجراً ويهدينا
ولا يزال عبيد الله مترعة ... جفانه مطعماً ضيفاً ومسكيناً
فالدين والعلم والدنيا ببابهما ... ننال منها الذي شئنا إذا شينا
ففيم تمنعنا منهم وتمنعهم ... منا وتؤذيهم فينا وتؤذينا
إن الرسول هو النور الذي كشفت ... به عماية ماضينا وباقينا
وأهله عصمة في ديننا ولهم ... حق علينا وحق واجب فينا
ولست فاعلم بالأولى به نسباً ... يا بن الزبير ولا الأولى به دينا
لن يجزي الله من أجزى لبغضهم ... في الدين عزاً ولا في الأرض تمكينا
زواج شرحبيل بن الحارث الغساني
من مية بنت عمرو ثم تطليقه لها بأمر أبيه
حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي، قال: قدم شرحبيل بن الحارث الغساني - وكان من أهل بيت الملك - موسماً من مواسم العرب، وحضرت ذلك العام بكر بن وائل، فخطب شرحبيل مية بنت عمرو بن مسعود بن عامر بن عمرو ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وهو أصم بني ربيعة، فقال له أبوها: هي لك وقومها بيدك، فوالله ما في غسان ملك أحب إلي صهراً منك، فأنكحه إياها، فاحتملها شرحبيل إلى أبيه الحارث بن مرة، فكانت معهم وانقطعت إليهم بكر بن وائل وذلك في أيام الطوائف قبل ملك بني نصر بالحيرة، فبينا هو نائم ذات ليلة هي بين يديه، إذ أقبل أسود سالخ يهوى إلى الفتى فاتحاً فاه والسراج تزهر، حتى إذا أهوى إليه أخذت بحلقه فخنقته حتى مات، ثم جعلته بين أثناء الفراش، وكان أبوه إذا أصبح غدا عليه هو وأمه تعظيماً له، ثم يأتيه الناس فيسلمون عليه فلما اجتمع الناس أهوت إلى الأسود فأخرجته ميتاً، فذعر الشيخ فقال: من قتل هذا؟ فقالت: أنا قتلته ولو كان أشد منه لقتلته، فقال: يا شرحبيل خل عنها، فهي - وأبيها - للرجال أقتل، فكره شرحبيل أن يعصي أباه فسار بها وبمالها حتى إذا دنا من أرض بكر بن وائل بعث معها من يلحقها بقومها، فقالت: لو مضيت بين إلى أبي كان أحب إلي، فقال: واسوءَتاه! أنظر إلى أبيك وقد طلقتك في غير ذنب، فقدمت إلى أبيها، فدعا قبيصة ابن هانئ بن مسعود فأنكحها إياه، فقال شرحبيل:
أوزجتني غراء من خير نسوةٍ ... نماها إلى العلياء عمرو وعامرُ

فلما ملأت صدري سروراً وبهجة ... عزمت بحق ليس لي فيه عاذرُ
فطلقتها من غير ذنب أتت به ... إلي سوى أني بمية غادرُ
سرى في سواد الليل أسود سالخٌ ... إلي وقد نامت عيونٌ سوامر
فأهوت له دون الفراش بكفها ... فأصبح مقتولاً فهل أن شاكر
فقال أبوه:
لعمري لئن طلقتها إن مثلها ... إذا طلب القوم من النساء قليل
ولكنني حاذرتها أن تعيدها ... فتصبح محجوباً وأنت قتيل
وأصبح في غسان أبكي بعبرةٍ ... عليك ورزئي عند ذاك جليل

من مخارج أبي يوسف الفقيهة

حدثنا محمد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني بشر بن الوليد وسألته من أين جاء؟ قال: كنت عند أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي، وكنا في حديث طريف، قال: فقلت له: حدثني به قال: قال لي يعقوب: بينا أنا البارحة قد أويت إلى فراشي، فإذا داقٌّ يدق الباب دقاً شديداً، فأخذت علي إزاري وخرجت، فإذا هرثمة بن أعين فسلمت عليه فقال: أجب أمير المؤمنين، قلت: يا أبا حاتم! لي حرمة وهذا وقت كما ترى، ولمت آمن أن يكون أمير المؤمنين دعاني لأمر من الأمور، فإنك أمكنك أن تدفع بذلك إلى غدٍ فلعله أن يحدث له رأي، فقال: ما إلى ذلك سبيل، قلت: فما كيف كان السبب؟ قال: خرج إلي مسرور الخادم فأمرني أن آتي أمير المؤمنين بك، قلت: تأذن لي أن أصب علي ماء وأتحنط، فإن كان أمر من الأمور كنت قد أجدت وأحكمت أمري، وإن رزق الله تعالى العافية فلن يضر، فأذن لي فدخلت فلبست ثياباً جدداً وتطيبتُ بما أمكن من الطيب، ثم خرجنا حتى أتينا دار أمير المؤمنين الرشيد، فإذا مسرور واقف فقال له هرثمة: قد جئت به، فقلت لمسرور: يا أبا هاشم! خدمتي وحرمتي وميلي، وهذا وقتٌ ضيق، لِمَ طلبني أمير المؤمنين؟ قال: لا، قلت: فمن عنده؟ قال: عيسى بن جعفر، قلت:ومن؟ قال: ما عنده ثالث، قال: مر، فإذا صرت في الصحن فأته في الرواق وهو ذاك جالسٌ، فحرك رجلك بالأرض فإنه سيسألك، فقل له: أنا، فجئت ففعلت، قال: من هذا؟ قلت: يعقوب، قال: ادخل، فدخلت فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر، فسلمت فرد علي السلام، وقال: أظننا روعناك؟ قلت: إي والله وكذاك من خلفي، قال: اجلس فجلست حتى سكن روعي، ثم التفت إلي فقال: يا يعقوب تدري لم دعوتك؟ قلت: لا. قال: دعوتك لأشهدك على هذا، إن عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع، وسألته أن يبيعها فأبى، ووالله لئن لم يفعل لأقتلنه، قال: فالتفتُّ إلى عيسى، فقلت: وما بلغ الله بجارية تمنعها أمير المؤمنين وتنزل نفسك هذه المنزلة؟ قال: فقال: عجلت علي في القول قبل أن تعرف ما عندي؟ قلت: وما في هذا الجواب؟ قال: إن علي يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك ألا أبيع هذه الجارية ولا أهبها، فالتفت الرشيد فقال: هل له في ذلك مخرج؟ قلت: نعم، يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فيكون لم يهب ولم يبع، قال عيسى: ويجوز ذلك؟ قلت:نعم، قال: فأشهدك أني قد وهبت له نصفها وبعته النصف الباقي بمائة ألف دينار، فقال: الجارية، فأتي بالجارية وبالمال، فقال: خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها، قال: يا يعقوب؟ بقيت واحدة، قلت: وما هي؟ قال: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله لئن لم أبت معها ليلتي إني لأظن نفسي ستخرج، فقلت: يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ، قال: فإني قد عتقتها فمن يزوجنيها؟ قلت: أنا، قال: فافعل، فدعا بمسرور الخادم وحسين فخطبت فحمدت الله وزوجته على عشرين ألف دينار، ودعا بالمال ودفعه إليها، ثم قال: يا يعقوب؟ انصرف، ورفع رأسه إلى مسرور فقال: يا مسرور؟ قال لبيك يا أمير المؤمنين، قال: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وعشرين تختاً ثياباً، فحمل ذلك معي. قال: فقال بشر بن الوليد: فالتفت إلي يعقوب فقال: هل رأيت بأساً فيما فعلت؟ قلت: لا، قال: فخذ منها حقك، قال: وما حقي؟ قال: العشر. فشكرته ودعوت له، ذهبت لأقوم فإذا بعجوز قد دخلت فقالت: يا أبا يوسف؟ ابنتك تقرئك السلام وتقول لك والله ما وصل إلي في ليلتي هذه من أمير المؤمنين سوى المهر الذي قد عرفته، وقد حملت إليك النصف منه وخلفت الباقي لما أحتاج إليه فقال: رديه فوالله لا قبلتها، أخرجتها من الرق وزوجتها أمير المؤمنين وترضى لي بهذا، فلم نزل نطلب إليه أنا وعمتي حتى قبلها وأمر لي بألف دينار.
؟؟

إسقاط اسبتبراء الأمة وتولية عقد نكاحها

قال القاضي: إسقاط أبي يوسف الاستبراء في هذه المسألة هو مذهبه ومذهب من تقدمه ومن اتبعه من أصحابه، فأما مذهب الجمهور من الحجازيين وغيرهم فعلى أن الاستبراء ها هنا باقٍ بحاله، وأما توليه عقد نكاح هذه المعتقة فإن مذهب أبي يوسف ومتقدمي أصحابه من أهل العراق ومتأخريهم أن مولى الأمة المعتق لها أولى بعقد النكاح له ولغيره عليها، ومذهب عامة أهل العلم من الحجازيين وغيرهم من الشاميين والعراقيين - وكان الشافعي يرى أنه يعقد عليها النكاح لغيره ولا يعقده لنفسه - وأنه إذا أراد أن يتزوجها تولى العقد له عليها الحاكم، ورأيت أبا جعفر شيخنا رحمه الله قد أفتى بهذا في مسائله، والقول الأول أولى بالحق عندي وأشبه بقوله، وبيان هذا الباب وشرحه مستقصى فيما رسمناه من كتبنا في الفقه، وبالله التوفيق.

عمة محمد بن أحمد بن عيسى تستشفع له لدى المعتضد
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: كان مع المعتضد أعرابي فصيح يقال له شعلة بن شهاب اليشكري، وكان يأنس به فأرسله إلى محمد بن عيسى بن شيخ وكان عارفاً به ليرغبه في الطاعة ويحذره العصيان ويرفق به، فقال شعلة بن شهاب فصرت إليه فخاطبته أقرب خطاب فلم يجبني، فوجهت إلى عمته أم الشريف فصرت إليها فقالت: يا أبا شهاب! كيف خلفت أمير المؤمنين، فقلت: خلفته والله أماراً بالمعروف فعالاً للخير، متعززاً على الباطل متذللاً للحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، فقالت لي: أهل ذلك هو مستحقه ومستوجبه، وكيف لا يكون كذلك وهو ظل الله عز وجل الممدود على بلاده، وخليفته على عباده، وأعز به دينه، وأحيا به سنته، وثبتت به شرائعه، ثم قالت: يا أبا شهاب فكيف رأيت صاحبنا؟ قلت: رأيت حدثاً معجباً قد استحوذ عليه السفهاء واستبد بآرائهم وأنصت لأفواههم، يزخرفون له الكذب ويوردونه الندم، فقالت: هل لك أن ترجع إليه بكتابي قبل لقاء أمير المؤمنين، فلعلك تحل عقدة السفهاء؟ قال: قلت: أجل، فكتبت إليه كتاباً حسناً لطيفاً معجباً أجزلت فيه الموعظة وأخلصت فيه النصيحة بهذه الأبيات:
اقبل نصيحة أم قلبها وجل ... عليك خوفاً وإشفاقاً وقل سدداً
واستعمل الفكر في قولي فإنك إن ... فكرت ألفيت في قولي لك الرشدا
ولا تثق برجال في قلوبهمُ ... ضغائن تبعث الشنآن والحسدا
مثل النعاج خمولاً في بيوتهم ... حتى إذا أمنوا ألفيتهم أسدا
وداوِ داءك والأدواء ممكنة ... وإذ طبيبك قد ألقى إليك يدا
أعط الخليفة ما يرضيه منك ولا ... تمنعه مالاً ولا أهلاً ولا ولدا
واردد أخا يشكر رداً يكون له ... ردءاً من السوءِ لا تشمت به أحداً
قال: فأخذت الكتاب وصرت به إلى محمد بن أحمد بن عيسى، فلما نظر فيه رمى به إلي ثم قال: يا أخا يشكر ما بآراء النساء تتم الأمور، ولا بعقولهن يساس الملك، ارجع إلى صاحبك. فرجعت إلى أمير المؤمنين فأخبرته الخبر على حقه وصدقه، فقال: وأين كتاب أم الشريف؟ فدفعته إليه فقرأه وأعجبه شعرها، ثم قال: والله إني لأرج أن أشفعها في كثير من القوم، فلما كان من فتح آمد ما كان، أرسل المعتضد فقال: يا شعلة! هل عندك علم من أم الشريف؟ قال: قلت لا والله يا أمير المؤمنين، قال: فامض مع هذا الخادم فإنك ستجدها في جملة نسائها، قال: فمضيت فلما بصرت بي من بعيد سفرت عن وجهها، وأنشأت تقول:
ريب الزمان وصرفه ... معتادة كشف القناعا
أذل بعد العز منا ال ... صعب والبطل الشجاعا
ولكم نصحت فما أطع ... ت وكم حرصت بأن أطاعا
فأبى بنا المقدار إلا ... أن نقتسم أو نباعا
يا ليت شعري هل ترى ... يوماً لفرقتنا اجتماعا
قال: ثم بكت حتى علا صوتها وضرت بيدها على الأخرى، وقالت: يا أبا شهاب إنا لله وإنا إليه راجعون، كأني والله كنت أرى ما أرى، فقلت لها: إن أمير المؤمنين وجه بي إليك وما ذاك إلا لجيل رأيه فيك، فقال: هل لك أن توصل لي رقعة إليه، قلت: فدفعت إلي رقعة فيها:
قل للخليفة والإمام المرتضى ... ابن الخلائف من قريش الأبطحِ
علم الهدى وسراجه ومناره ... مفتاح كل عظيمة لم تفتحِ

بك أصلح الله البلاد وأهلها ... بعد الفساد وطال ما لم تصلح
فتزحزحت بك هضبة العرب التي ... لولاك بعد الله لم تتزحزح
أعطاك ربك ما تحب فأعطه ... ما قد يحب وجد بعفوك واصفح
يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها ... هب ظالمي ومفسدي لمصلحي
قال: فأخذت الرقعة وصرت بها إلى المعتضد، فلما قرأها ضحك، وقال: لقد نصحت لو قبل منها فأمر أن تحمل إليها خمسون ألف درهم وخمسون تختاً من الثياب، وأمر بأن يحمل مثل ذلك إلى محمد بن احمد بن عيسى.

حكم ما بعد لولا من الضمير المتصل
قال القاضي: قول أم الشريف له في هذا الشعر:
لولاك بعد الله لم تتزحزح
جائز عند جميع متقدمي النحاة ومتأخريهم، كوفيهم وبصريهم غلا أبا العباس محمد بن يزيد فإنه كان لا يجيزه ويطعن فيما ورد في الشعر منه، وينسب قائله إلى الشذوذ ومفارقة السماع والقياس، ومما جاء في الشعر من هذا قول ابن أم الحكم:
وأنت امرؤٌ لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي
وقال آخر:
تقول لي من داخل الهودج ... لولاك هذا العام لم أحجج
وقول الآخر:
أتطمع فينا من أراق دماءنا ... ولولاك لم يطمع بأحسابنا حَسَن
وقد اختلف النحويون في موضع ما يلي لولا من المضمر المتصل من الإعراب، وكان سيبويه والكسائي يقولان: هو مجرور وإن كان الظاهر إذا حل محله رفع، وكان الفراء والأخفش يحكمان على موضعه بالرفع، وإن كان آتياً على الصورة التي صيغت في الأصل إلى ضمير المجرور لغلبة الاشتراك في صيغة المضمر بينه وبين المنفصل وهو كثير في هذا الباب، ومنه قول الشاعر:
فأحسن وأجمل في أسيرك إنه ... ضعيف ولم يأسر كإياك آسرُ
وقالوا: أنت كأنا وأنا كأنت، ولاستقصاء هذا الباب والاحتجاج فيه موضع هو أولى به من هذا الموضع، والأفصح والأوضح في العربية سماعاً وقياساً: لولا أنا ولولا أنت، والقضاء على موضع هذا المضمر المنفصل فإنه في موضع رفع كما هو في الظاهر كذلك، كقولك: لولا زيد ولولا عبد الله، غير أن الوجه الآخر جائز، كما قال جمهور النحويين لروايتهم إياه عن العرب وما استشهدوا به من أشعارها، وليس بمطرحٍ لاحق باللحن المرغوب عنه كما زعم أبو العباس محمد بن يزيد.
عظة واعتبار
حدثنا أبو الحسين أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي المعروف بجحظة، قال: قال لي صافي الحرمي: لما مات المعتضد بالله كفنته والله في ثوبين قوهي قيمتهما ستة عشر قيراطاً.
خبر مقدم وكيع وابن إدريس وحفص على الرشيد

حدثنا ابن مخلد، قال: حدثنا حماد بن المؤمل، أبو جعفر الضرير الكلبي، حدثني شيح على باب بعض المحدثين، قال: سألت وكيعاً عن مقدمه وهو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد، فقال لي: ما سألني عن هذا أحد قبلك، قدمنا على هارون أنا وعبد الله بن إدريس وحفص بن غياث، فأقعدنا بين السريرين فكان أول من دعا به أنا، فقال لي هارون: يا وكيع! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وسموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وصالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين! وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة؟ فقال هارون: اللهم غفراً، خذ عهدك أيها الرجل وامض، فقلت: يا أمير المؤمنين والله لئن كنت صادقاً إنه لا ينبغي أن تقبل مني وإن كنت كاذباً فلا ينبغي أن تولي القضاء كذاباً، فقال: اخرج، فخرجت، فدخل ابن إدريس فكأن هارون قد وسم له من ابن إدريس واسم، يعني خشونة جانبه، فدخل فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض حين برك، وما سمعناه يسلم إلا سلاماً خفياً، فقال له هارون: أتدري لم دعوتك؟ قال: لا، قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وأنهم سموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض، فقال له ابن إدريس: لست أصلح للقضاء، فنكث هارون بإصبعه وقال له: وددت أني لم أكن مثلتك، قال له ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك، فخرج ثم دخل حفص بن غياث، فقال له كما قال لنا، فقبل عهده وخرج، فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف دينار، فقال: إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول لكم: قد لزمتكم مؤونة في شخوصكم فاستعينوا بهذه في سفرتكم، قال وكيع: أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل: قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين وأنا عنها مستغن، وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليها مني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يصرفها إلى من أحب، وأما ابن إدريس فصاح به: مر من ها هنا وقبلها حفص، وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا، عافانا الله وإياك سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل، ووصلناك من أموالنا فلم تقبل، فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله، فقال للرسول: إذا جاء مع الجماعة حدثنا إن شاء الله، ثم مضينا، فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة فنزلنا نتوضأ للصلاة، قال وكيع: فنظرتُ إلى شرطي محموم نائم في الشمس عليه سواده فطرحت كسائي عليه، وقلت: تدفأ إلى أن نتوضأ، فجاء ابن إدريس فاستلبه ثم قال: رحمته لا رحمك الله، في الدنيا أحد رحم مثل ذا؟ ثم التفت إلى حفص وقال: قد علمت حين دخلت إلى سوق أسد فخضبت لحيتك ودخلت الحمام أنك ستلي القضاء، ولا والله لا كلمتك حتى تموت، فما كلمه حتى مات.

المأمون يترك جاريته الحبيبة إلى بلاد الروم
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن مالك النحوي، قال: أخبرنا يحيى بن أبي حماد الموكبي، عن أبيه، قال: لما وصفت للمأمون جارية بكل ما توصف به امرأة من الكمال والجمال، فبعث في شرائها فأتى بها وقت خروجه إلى بلاد الروم، فلما هم بلبس درعه خطرت بباله فأمر فأخرجت إليه، فلما نظر إليها أعجب بها وأعجبت به، فقالت: ما هذا: قال: أريد الخروج إلى بلاد الروم. قالت: قتلتني والله يا سيدي، وجرت دموعها على خدها كنظم اللؤلؤ، وأنشأت تقول:
سأدعو دعوة المضطر ربا ... يثيب على الدعاء ويستجيب
لعل الله أن يكفيك حرباً ... ويجمعنا كما تهوى القلوب
فضم المأمون إلى صدره وأنشأ متمثلاُ يقول:
فيا حسنها إ يغسل الدمع كحلها ... وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب قتلتني ... وقتلي بما قالت هناك تحاول
ثم قال لخادمه: يا مسرور احتفظ بها وأكرم محلها وأصلح لها كل ما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقت رجوعي، فلولا ما قال الأخطل حين يقول:
قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهارِ
ثم خرج فلم يزل يتعهدها ويصلح ما أمر به، فاعتلت الجارية علة شديدة أشفق عليها منها وورد نعي المأمون، فلما بلغها ذلك تنفست الصعداء وتوفيت، وكان مما قالت وهي تجود بنفسها:

إن الزمان سقانا من مرارته ... بعد الحلاوة أنفاساً فأروانا
أبدى لنا تارةً فأضحكنا ... ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
إنا إلى الله فيما لا يزال لنا ... من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا نراها ترينا من تصرفها ... ما لا يدوم مصافاةً وأحزانا
ونحن فيها كأنا لا نزايلها ... للعيش أحياؤنا يبكون موتانا

المجلس السادس عشر
حديث ما ذئبان جائعان في حظيرة
حدثنا محمد بن إسماعيل بن إسحاق الفارسي، قال: حدثنا أحمد بن زهير أبو بكر بن أبي خيثمة، قال: حدثنا قحطبة بن العلاء، قال حدثني سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان في حظيرة وثيقة يأكلان ويفترسان، بأضرّ فيها من حب المال والشرف في دين المرء المسلم " .
تعليق المؤلف
قال القاضي: هذا خبر صحيح مشهور، قد رويناه من غير وجه، وفي جملة ألفاظه اختلاف في اللفظ دون المعنى، في بعضها: ما ذئبان ضاريان، وفيه تنبيه على أن أولى الأمور بالمرء حفظه دينه، وإشفاقه من دخول الخلل فيه، فإن حب المال والشرف والسعي في اكتسابهما، والحرص على حيازتهما والانهماك في مسابقة أهلهما إليهما، ومغالبته عليهما، مما يؤدي إلى هدم الدين وتوهين أركانه، وطمس معالمه وحط بنيانه، مع ما فيه من حمل المرء منه على أسباب الهلكة، وجده فيما يورطه في حبائل الرذائل، وبعده عن شريف الفضائل، فقل من سلم ممن وصفنا حاله من البغي والعدوان والحسد والطغيان، وقد يحرم مع هذا مما أمل إدراكه، وطمع في بلوغه، فحصل من الكد والجد، والعناء والشقاء ولاستيلاء النحوس عليه وانحطاط الجد، فنسأل الله تعلى توفير حظنا من رحمته وعصمته، وأن يتمم ما ابتدأنا به من نعمته، فلقد هلك من هلك من الناس في ركوبهم ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوضح البيان عنه.
وقد ذكر عن الحجاج بن أرطاة وكان من المشهورين بالفقه والقضاء والرواية والتصرف في الآراء، أنه قال: أهلكني حب الشرف. وروى عنه أنه كان لا يشهد جمعة ولا جماعة ويقول: أكره مزاحمة الأنذال.
أمر الحجاج بن علاط السلمي وحيلته في جمع ماله من مكة
حدثنا أحمد بن إبراهيم الخليل الكاتب النهرواني، قال: حدثني أبو عبد العزيز بن علي بن المنتصر، قال: حدثني أحمد بن محمد بن المنتصر، قال حدثنا هرون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي، قال: حدثنا جعفر بن محمد المعيدي ويعقوب، قالا: حدثنا يوسف بن بهلول، قال: حدثني ابن إدريس، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف حتى قدم المدينة في آخر صفر، وكان افتتاح خيبر في عقب المحرم، قال: ولما أسلم الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي شهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحمد بن إبراهيم: وأخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن محمد بن مزيد النحوي بإسناد له، قال: ولما أسلم حجاج بن علاط السلمي وكان قد أسلم ولم تعلم قريش بإسلامه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر في أن يصير إلى مكة فيأخذ ما كان له من مال، وقال الهاشمي في حديثه: قال الحجاج: يا رسول الله! إن لي مالاً بمكة عند أبي طلحة، وعلى التجار، وعند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة أخت بني عبد الدار، وأنا أتخوف إن علموا بإسلامي أن يذهب، فأذن لي باللحوق به لعلي أخلصه.

وقال أبو العباس في حديثه: فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر بأن يصير إلى مكة فيأخذ ما كان له من مال بها، وكانت له أموال متفرقة وهو رجل غريب فهم، إنما هو أحد بني سليم بن منصور ثم أحد بني بهز، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أحتاج إلى أن أقول، قال: فقل. وقال الهاشمي في حديثه: لا بد لي من أن أقول: قال: قل وأنت في حل. قال أبو العباس: وهذا كلام حسن يقال على جهة الاحتيال غير الحق، فأذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من باب الحيلة وليس من باب الفساد والشر ما يقال في هذا المعنى، يقول كما قال الله عز وجل: " أم يقولون تقوله " . وقال الهاشمي في حديثه: فخرج الحجاج، قال: فلما انتهيت إلى ثنية البيضاء وجدت بها رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار وقد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر، وكانوا قد عرفوا أنها أرض الحجاز وبها منعة ورجال. وقال أبو العباس في حديثه: فلما أبصروني قالت قريش: هذا لعمر الله عنده الخبر، أخبرنا يا حجاج فقد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر.
وقال أبو العباس في حديثه: وقال الهاشمي في حديثه وهي بلد يهود وريف الحجاز قال: قلت: قد بلغني أنه قد سار إليها وعندي من الخبر ما يسركم، قال: فالتبطوا بجنبتي ناقتي يقولون: هي يا حجاج، قال: قلت: هُزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأخذوا محمداً أسيراً، وقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصابهم من رجالهم، فقاموا فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم، وهذا الكلام كله من حديث الهاشمي، قال: فقلت: أعينوني على جمع مالي بمكة على غرمائي فإني أبادر خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هناك، قال: فجمعوا مالي كله كأحث جمع سمعت به، وجئت صاحبتني، فقلت: مالي قبل أن يسبقني التجار، فلما سمع العباس بن المطلب ذلك، حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار، وقال أبو العباس في حديثه: فأتاني العباس وهو كالمرأة الوالهة فقال: ويحك يا حجاج! ما تقول؟ قال: فقلت: أكاتم أنت علي خبري؟ وقال الهاشمي في حديثه: فقال: يا حجاج! ما هذا الذي جئت به؟ قال: قلت: وهل عندك حفظ لما يوضع عندك؟ قال: نعم. قال: استأخر حتى ألقاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى، وقال أبو العباس في حديثه: وقلت: فالبث عني شيئاً يخف موضعي، فانصرف عني حتى إذا فرغت من كل شيء وأجمعت أمري على الخروج لقيته فقلت: احفظ علي حديثي فإني أخشى الطلب، قال: أفعل قال: إني والله تركت ابن أخيك عروساً على ابنة ملكهم صفية بنت حيي، وقال أبو العباس في حديثه: خلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، وخلفته عروساً على ابنة ملكهم وما جئتكم إلا مسلماً. وقال الهاشمي في حديثه: ولقد افتتح خيبر ونقل ما كان فيها وساق وصارت له ولأصحابه. وقال أبو العباس في حديثه: فاكتم الخبر ثلاثً حتى أعجز القوم ثم أشعه فإنه والله الحق. قال الهاشمي في حديثه: فاكتم علي ثلاثاً، وما جئت إلا لأخذ مالي فرقاً من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثالثة فأظهر أمرك، والأمر والله على ما تحب، قال: فلما كان اليوم الثالث لبس العباس الحلة وتخلق ثم أخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت، فلما رأته قريش قالت: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة، قال: كلا ومن حلفتم به، لقد افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فنزل عروساً على ابنة ملكهم، قالوا: ومن جاءك بهذا الخبر؟ قال: قلت: الذي جاءكم بما جاءكم ولقد دخل عليكم مسلماً وأخذ ما له وانطلق فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم يصحبه ويكون معه، قالوا: أفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، قال: ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر.
وقال هارون في حديثه، قال صالح، قال محمد بن حميد حدثنا جرير، عن شيخ، قال: لما أخبر العباس يوم خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حي أعتق غلامه الذي خبره، وقال في رواية أخرى: فلما سمع بذلك أراد أن يقوم فلم يقدر، ودعا بابن له يقال له قثم، وكان شبيهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يرتجز وينشد، ولأعداء الله يقول:
ابني قثمْ ... ذو الأنف الأشمْ

شبيه ذي الكرم ... برغم من رغمْ
نبي ذي النعم
وقال هارون في حديث آخر: حدثنا أبو مسلم، عن علي بن المديني، عن زيد بن عياض بن جعدة، قال: ولما فتح الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم خيبر خرج الحجاج بن علاط السلمي إلى مكة وقد أسلم ليأخذ مالاً له عند امرأته، وكان مكثراً له من ماله معادن الذهب بأرض سليم، وذكر كلام الحجاج بطوله، وبلغ العباس فأراد النهوض فلم يقدر، وأمر بباب الدار ففتح ثم دعا غلامه أبا رافع فقال: انطلق إلى الحجاج فقل له: إن الله أعلى وأجل من أن يكون الذي تبلغ حقاً، فأبلغه وأشار إليه، قال لأبي الفضل عندي ما تسر به، فرجع فلم يستطع أن يكتم الخبر فرحاً، فقام إليه العباس فقبل ما بين عينيه. فقال هارون في حديثه: أخبرنا أبو الفضل الربعي، قال: حدثني أحمد بن محمد بن أيوب، عن إبراهيم بن سعيد، عن محمد بن إسحاق، قال: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنين من أهل بيته سبعة ثامنهم مولى لهم: العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والفضل بن العباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وزيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، وعقيل بن أبي طالب، وثامنهم أيمن بن أم أيمن، وكان العباس آخذاً بعنان بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان آخذاً بثفرها، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا يا عم؟ فقال له العباس: أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحراث. قال: نعم أخي وخير أهلي. وقال العباس في ذلك اليوم:
نصرنا رسول الله في الحرب سبعةً ... وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وثامننا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع
وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه ... على القوم أخرى يا بني فيرجعوا
قال القاضي: هكذا هو في كتابي فإن يكن في أصل الشيخ على هذا، فتقدير الكلام اشدد أخرى فيرجعوا فدخلت الفاء جواباً، وإن كنت الرواية في الأصل فيرجع على الخبر عن الواحد بالمعنى فهو يرجع.

الحجاج وفراشة التي كانت تجهز الخوارج

حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، وذكره أبو حاتم عن العتبي أيضاً، قال: كانت امرأة من الخوارج من الأزد يقال لها فراشة، وكانت ذات نبهٍ في رأي الخوارج تجهز أصحاب البصائر منهم، وكان الحجاج يطلبها طلباً شديداً، فأعوزته فلم يظفر بها، وكان يدعو الله أن يمكنه من فراشة أو من بعض من جهزته، فمكث ما شاء الله ثم جيء برجل فقال: هذا ممن جهزته فراشة، فخر ساجداً ثم رفع رأسه، فقال له: يا عدو الله، قال: أنت أولى بها يا حجاج، قال: أين فراشة؟ قال: مرت تطير منذ ثلاث. قال: أين تطير؟ قال: تطير ما بين السماء والأرض، قال: أعن تلك سألتك عليك لعنة الله؟ قال: عن تلك أخبرتك عليك غضب الله، قال: سألتك عن المرأة التي جهزتك وأصحابك، قال: وما تصنع بها؟ قال: دلنا عليها، قال: تصنع بها ماذا؟ قال: أضرب عنقها. قال: ويلك يا حجاج، ما أجهلك! تريد أن أدلك وأنت عدو الله على من هو ولي الله؟ قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. قال: فما رأيك في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: على ذاك الفاسق لعنة الله ولعنة اللاعنين، قال: ولم لا أم لك؟ قال: إنه أخطأ خطيئة طبقت بين السماء والأرض، قال: وما هي؟ قال: استعماله إياك على رقاب المسلمين، فقال الحجاج لجلسائه: ما رأيكم فه؟ قالوا: نرى أن تقتله قتلة لم يقتل مثلها أحد، قال: ويلك يا حجاج، جلساء أخيك كانوا أحسن مجالسة من جلسائك، قال: وأي أخوي تريد؟ قال: فرعون حين شاور موسى فقالوا: أرجه وأخاه، وأشار عليك هؤلاء بقتلي، قال: وهل حفظت القرآن؟ قال: وهل خشيت فراره فأحفظه؟ قال: هل جمعت القرآن؟ قال: ما كان متفرقاً فأجمعه، قال: أقرأته ظاهراً؟ قال: معاذ الله بل قرأته وأنا أنظر إليه، فقال: فكيف تراك تلقى الله إن قتلتك؟ قال: ألقاه بعملي وتلقاه بدمي، قال: إذاً أعجلك إلى النار، قال: لو علمت أن ذلك إليك أحسنت عبادتك واتقيت عذابك ولم أبغ خلافك ومناقضتك، قال: إني قاتلك، قال: إذاً أخاصمك لأن الحكم يومئذ إلى غيرك، قال: نقمعك عن الكلام السيئ، يا حِرسي! اضرب عنقه، وأومى إلى السياف إلا يقتله، فجعل يأتيه من بين يديه ومن خلفه ويروعه بالسيف، فلما طال ذلك عليه رشح جبينه، قال: جزعت من الموت يا عدو الله؟ قال: لا يا فاسق، ولكن أبطأت علي بما لي فيه راحة، قال: يا حرسي أعظم جرحه، فلما أحس بالسيف قال: لا إله إلا الله، ووالله ما أتمها ورأسه في الأرض.

حمدان البرتي يهيم بامرأة طقطق الكوفي
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا أحمد بن الصلت، قال:كان حمدان البرتي على قضاء الشرقية، فقدمت امرأة طقطق الكوفي طقطقاً إليه فادعت عليه مهراً أربعة آلاف درهم، فسأله القاضي عما ذكرت، فقال: أعز الله القاضي، مهرها عشرة دراهم، فقال لها البرتي: أسفري، فسفرت حتى انكشف صدرها، فلما رأى ذلك قال لطقطق: ويلك! مثل هذا الوجه يستأهل أربعة آلاف دينار ليس أربعة آلاف درهم، ثم التفت إلى كاتبه فقال له: في الدنيا أحسن من هذا الشذر على هذا النحر؟ فقال له طقطق، فديتك، إن كانت قد وقعت في قلبك طلقتها، قال له البرتي: تهددها بالطلاق وقد قال الله عز وجل: " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها " إن طلقتها كان ها هنا ألف ممن يتزوجها، فقال طقطق: إني والله ما قضيت وطري مها، وأنا طقطق ليس أنا زيد، فأقبل البرتي على المرأة: فقال لها: يا حبيبتي ما أدري كيف كان صبرك على مباضعة هذا البغيض؟ ثم أنشأ يقول:
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوماً أو يموت حليلها
فقام طقطق فتعلق به وصيف غلام البرتي فصاح به: دعه يذهب عنا في سقر، ثم قال لها: إن لم يصر لك إلى ما تريدين فصيري إلى امرأة وصيف حتى تعلمني فأضعه في الحبس، فكتب صاحب الخبر بما كان فعلق به البرتي وصانعه على خمس مائة دينار على ألا يرفع الخبر بعينه، ولكن يكتب أن عجوزاً خاصمت زوجها فألط فاستغاثت بالقاضي فقال لها: ما اصنع يا حبيبتي هو حكم ولا بد أن أقضي بالحق، وانصرف البرتي متيماً، فما زال مدنفاً يبكي ويهيم فوق السطوح، ويقول الشعر فكان مما قاله:
وا حسرتي على ما مضى ... ليتني لم أكن أعرف القضا
أحببت امرأة وخفت الل ... ه حقاً فما تم حتى انقضى
وغير ذلك من شعر لا وزن له ولا روى، إلى أن ارعوى ورجع.

لطّ وألطّ وأيهما أصح
قال القاضي: هكذا في الخبر ألطّ، والمعروف في العربية لط، وقالوا في اسم الفعل ملط على غير القياس لأن قياس ألط ملط وقياس لط لاط، غير أن السماع لا اعتراض لأحد فيه، ولا يترك للقياس بل يترك القياس له.

بينما يبول من فزعه إذ يبول على قبره
حدثنا أحمد بن جعفر بن موسى بالبرمكي المعروف بجحظة، قال: قال لي ميمون بن هرون الكاتب: جرد شعيب بن عجيف رجلاً ليضربه بالسياط في مال اختانه منه، فبال الرجل لما رأى السياط فجرى بوله من بائكة سراويله فأطله، وشخص مع المعتصم يريدون بلاد الروم، فمات شعيب بن عجيف في الطريق، وخرج الرجل خلف العسكر يطلب الرزق، فغمزه البول في السحر وهو ببعض القرى، فرأى ركاماً فبال عليه فقال له رجل من القرية: بئسما فعلت، بلت على قبر شعيب بن عجيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، بينا أنا أبول من فزعه إذ بلت على قبره.
إلا يكن أخاً بالنسب فإنه أخ بالأدب
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا موسى بن محمد بن موسى بن حماد، قال: سمعت علي بن الجهم، وقد ذكر دعبلاً وكفره ولعنه، وقال: كان قد أغرى بالطعن على أبي تمام وهو خير منه ديناً وشعراً، فقال له رجل: لو كان أبو تمام أخاك ما زاد على كثرة وصفك له، فقال: إلا يكن أخاً بالنسب فإنه أخ بالأدب والدين والمروءة، أما سمعت في قوله في:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالدِ
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من زلال بارد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
أبيات متفاضلة في المدح لبعض الشعراء
حدثنا محمد بن أحمد الحكيمي، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو الوراق، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن بشر، قال: أنشد أبو السمط بن أبي الجنوب بن أبي حفصة لرؤبة:
إن جئت أعطاني وإن كنت لم أجي ... تنفذ أمري فوق ما كنت أرتجي
فقال: لي والله أجود من هذا في عبد الله بن طاهر، وهو متوجه إلى نصر بن شيث فوجه إلي بعشرين ألفاً، فقلت:
لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا ... ببغداد من أرض الجزيرة وابله
ونعم الفتى والبيد بيني وبينه ... بعشرين ألفاً صبحتنا رسائله
وكنا كحي صبح الغيث أهله ... ولم يحتمل أظعانه وحمائله
وأنشدنا هذا الشعر عمارة بن عقيل، فقال: لي - والله - في خالد بن يزيد أحسن من هذا، ثم أنشد:
لم استطع سيراً لمدحة خالد ... فجعلت مدحيه إليه رسولا
فليرحلن إلي نائل خالدٍ ... وليكفين رواحلي الترحيلا
وأنشد هذه الشعر المسمعي، فقال: أنشدني الأصمعي أجود من هذا:
جزى الله خيراً والجزاء بكفه بنى السمط أخدان السماحة والحمد
أتاني وأهلي بالعراق جداهم ... كما انقض غيث في تهامة أو نجد
زيارة حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن يعقوب الدينوري، قال: حدثنا حسان بن أبان البعلبكي، قال: لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميراً أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر في جوار في مثل زيها، تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه، قال: أيتكن حرقة؟ قلن: هذه، قال: أنت حرقة؟ قالت: نعم، فما تكرارك استفهامي؟ إن الدنيا دار زوال وإنها لا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالاً، وتعقبهم بعد حال حالاً، إنا كنتا ملوك هذا المصر قبلك، يجبى إلينا خرجه، ويطيعنا أهله، مدة المدة وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا وشتت ملأنا، وكذاك الدهر يا سعد، إنه ليس من قوم بحبرة إلا والدهر معقبهم عبرة، ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم سرورها ... تقبل تاراتٍ بنا وتصرف
فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد كأنه كان ينظر إليها حيث تقول:
إن للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبين قد أمنت الشرورا
قد يبيت الفتى معافىً فيرزاً ... ولقد كان آمناً مسرورا

وأكرمها سعد وأحسن جائزتها فلما أرادت فراقه، قالت: حتى أحييك تحية أملاكنا بعضهم بعضاً: لا جعل الله لك إلا لئيمٍ حاجة، ولا زال لكريم عندك حاجة، ولا نزع من عبد صالح نعمة إلا جعلك سبباً لردها عليه. فلما خرجت من عنده تلقاها نساء المصر فقلن لها: ما صنع بك الأمير؟ قالت:
حاط لي ذمتي وأكرم وجهي ... إنما يكرم الكريم الكريما

المغيرة بن شعبة يعرض عليها الزواج فترفض
وقد روينا بإسناد لم يحضر الآن ولعله يأتي فيما بعد، أن المغيرة بن شعبة خطب حرقة هذه، فقالت: له: إنما أردت أن يقال: تزوج ابنة النعمان بن المنذر وإلا فأي حظ لأعور في عمياء.
أم جعفر البرمكي وما وصلت إليها حالتها من عظة وعبرة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو بكر الضرير وجه الهرة، قال: حدثني غسان بن محمد بن القاضي، عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة قال: دخلت على أمي في يوم أضحى وعندها امرأة برزة في أثواب دنسة رثة، فقالت لي: أتعرف هذه؟ قلت: لا، قالت: هذه عبادة أم جعفر بن يحيى بن خالد، فسلمت عليها ورحبت بها وقتل لها: يا فلانة! حدثيني ببعض أمركم، قالت: أذكر لك جملة كافية فيها اعتبار لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، لقد هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربع مائة جارية ووصيفة وأنا أزعم أن جعفر ابني عاق بي، وقد أتيتكم في هذا اليوم والذي يقنعني جلد شاتين أجعل أحدهما شعاراً والآخر دثاراً.
زبيري يقُتُّ بهاشم
حدثنا إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع أبو إسحاق السبيعي، قال: حدثنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: لما قال الزبيري للرشيد فيما أغراه بيحيى بن عبد الله بن حسن وعند الرشيد يحيى، فقال: إن هذا يخبرني عنك بأمور إن صحت وجب علي تأديبك وإن أتى التأديب على نفسك. قال يحيى: يا أمير المؤمنين! إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم فيما أكلتم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرحلتمونا، فوجدنا بذلك مقالاً فيكم ووجدتم بخروجنا عليكم مقالاً فينا يتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين فيه على أهله بالفضل، يا أمير المؤمنين! فلم تجرئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك؟ يسعى بهم عندك، والله ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك، وإنه ليأتينا فيسعى بك عندنا من غير نصيحة منه لنا، يريد أن يباعد بيننا ويشتفي من بعض ببعض، ووالله يا أمير المؤمنين إنه للخائن بن الخائن، يسقط بين اللحاء والقضيب، يريد أن يوهنهما جميعاً حسداً وبغياً وغلاً، ثم التفت إلى الزبيري متمثلاً بقول الشاعر:
وقد يسود عصر السوء مثلكم ... وقد يعود رءوس الناس أذنابا
وقد قال بعض أهلك:
أليس من إلقاء الزمان على استه ... وقوف
زبيري يقت بهاشم
إذا ما رآهم كان همزاً ولامزاً ... لأعراضهم مينا وبغياً لحازم
قوله: يقت معناه ينم، وقال: لا يدخل الجنة قتات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن القتات يعني النمام.
رجاء يرجئ ما أمر به
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر، قال: مدحت الحسن بن مخلد فأرسل إلي أني قد أمرت لك بمائة دينار، فالحق رجاء، فلقيت رجاء فقال: لم يأمرني بشيء، فكتبت إليه:
أما رجاء فأرجي ما أمرت به ... وكيف إن كنت لم تأمره يأتمر
بادر بجودك إما كنت مقتدراً ... فليس في كل حال أنت مقتدر
المجلس السابع عشر
حديث فليقل خيراً أو لينصت
حدثنا محمد بن يوسف بن يعقوب، أبو عمر القاضي، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا محمد بن معاوية النيسابوري، قال: حدثنا نهشل بن سعيد قال: حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو لينصت " .
قال القاضي: هذا حديث غريب، والأخبار متظاهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " . وفي بعض الروايات: أو ليسكت. ولما أمل علينا أبو عمر هذا الخبر على من يليه كالمبتسم وإلى جنبه أبو بكر النيسابوري كالمتعجب المستغرب لهذه اللفظة، ومعنى هذه الألفاظ تتفق.

ونحو منه ما ورد الخبر به من قوله: رحم الله امرأ تكلم فغنم أو سكت فسلم.
وفي الكلام مما هو خير وصدق وعدل، وحق الأجر والفائدة، والغنيمة الباردة، وفي الصمت في مواطن الصمت الراحة والسلامة، والتنزه عما عاقبته المكروه والندامة، وقد ذكر في فضل النطق ومدح الصمت نثراً ونظماً ما يطول إتيانه ويكثر تعداده، وليس هذا موضع الإتيان به، وجملة القول أن لكل واحد من الأمرين موضعاً هو فيه أولى من صاحبه، وقد يعتدلان في بعض الأحوال ويتقاربان، وإن كانا في بعضهما يتفاوتان ويتفاضلان. وقد حدثنا عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقيقي قال: حدثنا الحسن بن عمر السبيعي، قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: الصبر هو الصمت، والصمت هو الصبر، ولا يكون المتكلم أورع من الصامت إلا رجل عالم يتكلم في موضعه ويسكت في موضعه.

خالد بن الوليد وعبد المسيح بن عمرو الغساني في فتح الحيرة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا العكلي، قال: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا هشام بن محمد بن السائب، عن عوانة بن الحكم، وشرقي بن قطامي وأبي مخنف قالوا: لما انصرف خالد بن الوليد من اليمامة، وضرب عسكره على الجرعة التي بين الحيرة والنهر وتحصن منه أهل الحيرة في القصر الأبيض وقصر ابن بقيلة وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى نفدت، ثم رموه بالخزف من آنيتهم، فقال له ضرار بن الأزور: ما لهم مكيدة أعظم مما ترى، فبعث إليهم: ابعثوا إلي رجلاً من عقلائكم أسائله ويخبرني عنكم، فبعثوا له عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني، وهو يومئذ ابن خمسين وثلثمائة سنة، فأقبل يمشي إلى خالد فلما رآه قال: ما لهم أخزاهم الله بعثوا إلي رجلاً لا يفقه، فلما دنا قال: أنعم صباحاً أيها الملك، فقال خالد: قد أكرمنا الله عز وجل بغير هذه التحية، بالسلام، ثم قال له خالد: من أين أقصي أثرك؟ قال: من ظهر أبي. قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: على ما أنت: قال: على الأرض. قال: فيم أنت ويحك؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل؟ قال: نعم وأقيد، قال: ابن كم أنت: قال: ابن رجل واحد. قال خالد: ما رأيت كاليوم قط، أسائله عن شيء وينحو في غيره، قال: ما أجبتك إلا عما سألت عنه فاسأل عما بدا لك، قال: كم أتى عليك؟ قال: خمسون وثلثمائة سنة، قال: أخبرني ما أنتم؟ قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا، قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: بل سلم. قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها لنحبس السفيه حتى ينهاه الحليم، قال: ومعه سم ساعة يقلبه في يده، فقال له: ما هذا معك؟ قال: هذا السم، قال: وما تصنع به؟ قال: أتيتك فإن رأيت عندك ما يسرني وأهل بلدي حمدت الله تعالى، وإن كانت الأخرى لم أكن أول من ساق إليهم ضيماً وبلاء فآكله وأستريح، وإنما بقي من عمري اليسير، فقال: هاته فوضعه في يد خالد، فقال: بسم الله وبالله رب الأرض ورب السماء، الذي لا يضر مع اسمه داء، ثم أكله فتجلته غشية فضرب بذقنه على صدره ثم عرق وأفاق، فرجع ابن بقيلة إلى قومه، فقال: جئت من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره، أخرجوهم عنكم، فصالحوهم على مائة ألف، فقال له خالد: ما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ غلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تخرج إلى الشام في قرى متواترة ما تزود رغيفاً، وقد أصبحت خراباً يبابا، كذلك دأب الله في العباد والبلاد، وقال عبد المسيح حين رجع:
أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير
تحاماها فوارس كل حي ... مخافة ضيغم عالي الزئير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... رياضاً بين ذروة والحفير
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كمثل الشاء في اليوم المطير
تقسمها القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يباح لنا حريم ... فنحن كضرة الناب الفخور
كذاك الدهر دولته سجالٌ ... تصرف بالمساءة والسرور
قال القاضي: قول عبد المسيح لخالد لما سأله ما أنتم؟ قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا، معناه أنا عرب ونبط خالط بعضنا بعضاً وجاوره، فأخذ كل فريق منا من خلائق صاحبه وسيرته.

حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرحال الصالحي، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا فضيل الخياط، عن جعفر بن أبي جعفر: أنه كان يتعوذ من النبطي إذا استعرب والعربي إذا استنبط، فقيل له: كيف يستنبط العربي؟ قال: يأخذ بأخلاقهم ويتأدب بآدابهم.

خبر الغضبان بن القبعثري مع الحجاج

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح، قال: حدثت أن الحجاج بن يوسف بعث الغضبان بن القبعثري ليأتيه بخبر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وهو بكرمان، وبعث عليه عيناً وكان كذلك يفعل، فلما انتهى الغضبان إلى عبد الرحمن قال له: ما وراءك؟ قال: شر، تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك، وانصرف الغضبان فنزل رملة كرمان وهي أرض شديدة الرمضاء، فبينا هو كذلك إذ ورد عليه أعرابي من بني بكر بن وائل على فرس له يقود ناقة، فقال: السلام عليك، قال الغضبان: السلام كثير وهي كلمة مقولة، قال الأعرابي: ما اسمك؟ قال: آخذ. قال: أفتعطي؟ قال: لا أحب أن يكون لي اسمان، قال: من أين أقبلت؟ قال: من الذلول، قال: وأين تريد؟ قال: المشي في مناكبها، قال: من عرض اليوم؟ قال: عرض المتقون. قال: فمن سبق؟ قال الفائزون، قال: فمن غلب؟ قال: حزب الله، قال: فمن حزب الله؟ قال: هم الغالبون، قال: فعجب الأعرابي من منطقه، قال: أما تقرض؟ قال: إنما تقرض الفأرة، قال: أتسمع؟ قال: إنما تسمع القينة، قال: أفتنشد؟ قال: إنما تنشد الضالة، قال: أفتقول؟ قال: إنما يقول الأمير، قال: أفتتكلم؟ قال: كل متكلم، قال: أفتنطق؟ قال: إنما ينطق كتاب الله، قال: أتسمع؟ قال: حدثني أسمع، قال: أفتسجع؟ قال: قال إنما تسجع الحمامة، قال الأعرابي: تالله ما رأيت كاليوم قط، قال: بلى ولكنك نسيت، قال الأعرابي: فكيف أقول؟ قال: لا أدري والله، قال الأعرابي: كيف ترى فرسي هذه؟ قال الغضبان: هو خير من آخر شر منه وآخر خير منه أفره منه، قال الأعرابي: إني قد علمت ذلك، قال: لو علمت لم تسألني، قال، قال الأعرابي: إنك لمنكر، قال الغضبان: إنك لمعروف. قال: ليس ذاك أريد، قال: فما تريد؟ قال: أردت إنك لعاقل قال: أفتعقل بعيرك هذا؟ قال الأعرابي: أفتأذن لي فأدخل عليك؟ قال الغضبان: وراؤك أوسع لك، قال الأعرابي: قد أحرقتني الشمس، قال: الساعة يفيء عليك الفيء، قال الأعرابي: إن الرمضاء قد آذتني، قال: بل على قدميك، قال قد أوجعني الحر، قال الغضبان: ما لي عليه سلطان، قال الأعرابي: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تعرض بهما فوالله لا تذوقهما، قال الأعرابي: سبحان الله، قال: من قبل أن تطلع رأسك، قال الأعرابي: أما عندك إلا ما أرى؟ قال: بلى، هراوتان أضرب بهما رأسك، فقال الأعرابي: الله، قال: ظلمك أحد؟ فلما رأى الأعرابي ذك قال: إني لأظنك مجنوناً، قال الغضبان: اللهم اجعلني ممن يرغب إليك، قال: إني لأظنك حرورياً، قال: اللهم اجعلني ممن يتخير الخير، ثم قال: له الغضبان: أهذا بعيرك يا أعرابي؟ قال: نعم: فما شأنه؟ أرى فيه داء فله أنت بائعه ومشتر ما هو شر منه، فولى الأعرابي وهو يقول: والله إنك لمرح أحمق. فلما قدم الغضبان على الحجاج قال: كيف تركت أرض كرمان؟ قال: أصلح الله الأمير، أرض ماؤها وشل، وثمرها دقل ولصها بطل، فالجيش فيها ضعاف، إن كثروا فيها جاعوا، وإن قلوا بها ضاعوا، فقال الحجاج له: أما إنك صاحب الكلمة التي بلغتني عنك حين قلت تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك؟ قال الغضبان: أما إنها - جعلني الله فداءك - لم تنفع من قيلت له، ولا تضر من قيلت فيه، فأمر الحجاج به إلى السجن، فلما ذهب مكث فيه حتى إذا بنى الحجاج خضراء واسط أعجبته كما لم يعجبه بناء قط فقال لمن حوله: كيف ترون قبتي هذه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، ما بنى ملك قط مثلها، وما نعلم للعرب مأثرة أفضل منها، قال الحجاج: أما إن لها عيباً، سأبعث إلى من يخبرني به فبعث إلى الغضبان فأقبل يرسف في قيده، فلما دخل عليه سلم، فقال الحجاج : كيف ترى قبتي هذه ؟ قال: أصلح الله الأمير هذه قبة بنيت في غير بلدك لغير ولدك، لا يسكنها وارثك ولا يدوم لك بقاؤها كما لم يئيم هالك ولم يبق فان، وأما هي فكأن لم تكن، قال: صدقت، ردوه إلى السجن فإنه صاحب الكلمة التي بلغتني عنه، قال: أصلح الله الأمير، ما ضرت من قيلت فيه ولا نفعت من قيلت له، قال: أتراك تنجو مني لأقطعن يديك ورجليك ولأكوين عينيك، قال: ما يخاف وعيدك البريء ولا ينقطع منك رجاء المسيء، قال: لأقتلنك إن شاء الله، قال: بغير نفس، والعفو أقرب للتقوى، قال له الحجاج: إنك لسمين، قال: لمكان القيد والرتعة ومن يكن جار الأمير يسمن. قال الحجاج ردوه إلى السجن، قال: أصلح الله الأمير

قد أثقلني الحديد فما أطيق المشي، قال: احملوه لعنه الله، فلما حملته الرجال على عواتقها قال: " سبحان الذي يخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ، قال: أنزلوه أخزاه الله، قال " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين " ، قال: جروه أخزاه الله، قال: " بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " ، قال: ويحكم، اتركوه فقد غلبني بخبثه. أثقلني الحديد فما أطيق المشي، قال: احملوه لعنه الله، فلما حملته الرجال على عواتقها قال: " سبحان الذي يخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ، قال: أنزلوه أخزاه الله، قال " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين " ، قال: جروه أخزاه الله، قال: " بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " ، قال: ويحكم، اتركوه فقد غلبني بخبثه.

معنى الوشل في اللغة
قال القاضي: قول الغضبان في وصله للحجاج كرمان: ماؤها وشل، يعني به الماء القليل كماء الِأنهار الصغار والجداول التي ليست كالبحور والأودية العظيمة يريد الخبر عن قلته كما قال الشاعر:
اقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ فقدت ذميمُ
وقال جرير:
إن الذين غدو بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
وجمع الوشل أوشال، كما قال امرؤ القيس:
عيناك دمعهما سجالُ ... كان شأنيهما أوشال
وفسر قوم أوشال بأنه ما قطر من الجبل.
جعفر بن محمد يزوج حسين بن زيد ويوصله إلى الثراء

حدثنا محمد بن أحمد بن سعيد الكوفي، قال: حدثني أحمد بن يوسف ابن يعقوب بن حمزة بن زياد الجعفي، قال: حدثني سليمان بن مقبل أبو أيوب الهاشمي المدني، قال: حدثني سليم بن جعفر الجعفري، عن حسين بن زيد، أنه كان نشأ في حجر أبي عبد الله يعني جعفر بن محمد، فلما بلغ مبالغ الرجال قال له أبو عبد الله: ما يمنعك أن تتزوج فتاة من فتيات قومك؟ قال: فأعرضت عن ذلك فأعاد على غير مرة، فقلت له: من ترى أن أتزوج؟ قال: كلثم بن عبد الله الأرقط، فإنها ذات جمال مال، قال: فأرسلت إليها فثارت على رسولي وضحكت منه وتعجبت كل العجب لإقدامي وجرأتي على خطبتها، فأتيت أبا عبد الله فأخبرته، فقال لمعتب: آتني بثوبين يمنيين معلمين فأتى بهما فلبستهما، ثم قال: تعرض أن تمر قرب منزلها وتستسقي ماء واحرص على أن تعلم بمكانك، قال: فوقفت بالباب فعلمت مكاني ففتحت منظراً لها فأشرفت علي وأنا لا أعرفها فنظرت إلي وقالت: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه - قال القاضي: أكثر الكلام: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، ثم انصرفت فأتيت أبا عبد الله فأخبرته، وكنت ربما غبت عن المدينة أتصيد، فقال لي: إذا شئت، فغبت عن المدينة أياماً ثم نزلت المدينة فإذا مولاة لها قد أتتني، فقالت: نحن نريد أن نعمرك للعرس وأنت تطلب الصيد وتضحي للشمس، قد جئت طلبتك غير مرة، وبعثت معي ألف دينار وعشرة أثواب وتقول لك: تقدم إذا شئت فاخطبني وأمهرنيها، فإن لك عندي عشرة جميلة ومواتاة، قال: فغدوت فملكتها وبعثت إليها بالألف الدينار وأمرتها بالتهيؤ، ثم أتيت أبا عبد الله فأخبرته فقال: تهيأ للسفر وانظر من يخرج معك من مواليك على جمل علي زادك، فسميت له الموالي، فقال: إذا كان ليلة الخميس فادخل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فسلم على جدك وودعه ينتظرك بعير زياد بن عبد الله، ففعلت ما أمرني به، فأتيته فأجده والقاسم بن إسحاق بن إبراهيم بن حسن، فلما وقفت عليه أمر لي بثياب السفر وخلا بي فقال: استشعر تقوى الله تعالى، وأحدث لكل ذنب توبة، لذنب السر توبة ولذنب العلانية توبة، وامض لوجهك، فقد كتبت لك إلى معن بن زائدة كتاباً، وغيبتك في سفرك ثلاثة أشهر إنشاء الله، فإذا قدمت صنعاء فانزل منزلاً ولا تحمل على معنٍ بأحد، وتأت له أن تدخل عليه بإذن عام مع الناس، فإذا دخلت عليه فعرفه من أنت، فإن رأيت منه جفوة أو نبوة فاغتفرها وأعرض عنها، فإنك ستصيب منه عشرين ألف دينار سوى ما تصيب من غيره، فخرجت حتى قدمت صنعاء، ففعلت جميع ما أمرني به ودخلت عليه بإذن عام، فإذا أنا به قاعداً وحده وإذا برجل جهم الوجه مختضب بالسواد والناس سماطان قيام، فأقبلت حتى سلمت عليه فرد السلام، فقال: من أنت؟ فأخبرته بنسبي، فصاح: لا والله، ما أريد أن تأتوني، ولباب أمير المؤمنين أعود عليكم من بابي، فقلت له: على رسلك، أنا أستغفر الله من حسن الظن بك، وانصرفت من عنده، فأدركني رجل من أهل البلد فأخبرته خبري، فقال: قد عوضك الله خيراً مما فاتك، ثم بعث غلاماً فأتاه بثلاثة آلاف دينار فدفعها إلي، وسألني عما أحتاج إليه من الكسوة فكتبتها له، فلما كان بعد العشاء دخل إلى صاحب المنزل فقال: هذا الأمير معن بن زائدة يدخل إليك، فلما دخل أكب على رأسي ويدي، ثم قال: سيدي وابن سادتي اعذرني فإني أعرف ما أداري، فلما قر قراره أعلمته بالكتاب الذي معي من أبي عبد الله فقبله وقرأه، ثم أمر لي بعشرة آلاف دينار، ثم قال: أي شيء أقدمك؟ فأخبرته خبري، فأمر لي بعشرة آلاف دينار أخرى وبعشرة من الإبل وثلاث نجائب برجالها وكساني ثلاثين وشياً وغيرها وقال لي: جعلت فداك، إني أظن أبا عبد الله متطلعاً إلى قدومك، فإن رأيت أن تخف الوقفة وتمضي فعلت، وودعني، فتلومت بعد ذلك أياماً، وقضيت حوائجي ثم خرجت حتى قدمت مكة موافياً لعمرة شهر رمضان، فإني لفي الطواف حتى لقيت معتباً مولى أبي عبد الله، فسلمت عليه وسألته، فقال: هو ذا أبو عبد الله قد وافى وإن أحدث ما ذكرك البارحة، فمضيت حتى أتيته فسلمت عليه وساءلته وقبلت رأسه، فقال: تركت معناً؟ فأخبرته بسلامته، فقال: أصبت منه بعد ما جبهك وصاح عليك عشرين ألفاً سوى ما لقيت من غيره؟ قلت: نعم، جعلت فداك. قال: فإن معنا جماعة من أصحابك ومواليك وقد كانوا يدعون لك ويذكرونك فمر لهم بشيء، قلت: ذاك إليك جعلني فداك، قال:فأعطهم ما

رأيت، كم في نفسك أن تعطيهم؟ فقلت: ألف دينار، قال: إذاً تجحف نفسك، ولكن فرق عليهم خمس مائة دينار، وخمس مائة دينار لمن يعتريك بالمدينة، ففعلت ذلك، فقدمت المدينة واستخرجت عيني بذي المروة وبالمضيق بالسقيا، وبنيت منازلي بالبقيع، فتروني أؤدي شكر أبي عبد الله وولده أبداً، وضممت إلي أهلي ورزقت منها علياً والحسن ابني والبنات.، كم في نفسك أن تعطيهم؟ فقلت: ألف دينار، قال: إذاً تجحف نفسك، ولكن فرق عليهم خمس مائة دينار، وخمس مائة دينار لمن يعتريك بالمدينة، ففعلت ذلك، فقدمت المدينة واستخرجت عيني بذي المروة وبالمضيق بالسقيا، وبنيت منازلي بالبقيع، فتروني أؤدي شكر أبي عبد الله وولده أبداً، وضممت إلي أهلي ورزقت منها علياً والحسن ابني والبنات.

مصعب بن الزبير يتمثل عن هزيمته ببيتي شعر
حدثنا إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع، أبو إسحاق، قال: حدثنا زبير بن بكار، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن حمزة، عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه، قال: لما تفرق عن مصعب جنده، قال: له أوداؤه: لو اعتصمت ببعض القلاع وكاتبت من قد بعد عنك من أوليائك كمثل المهلب وابنه الأشتر وفلان وفلان فإذا اجتمع لك من ترضاه لقيت القوم بأكفائهم، فقد ضعفت جداً واختل أصحابك. فلبس سلاحه وخرج فيمن بقي معه من أصحابه وهو يتمثل بشعر قيل إنه لطريف العنبري، وكان طريف العنبري يعد بألف فارس من فرسان خراسان:
علام تقول السيف يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أركب به المركب الصعبا
سأحميكم حتى أموت ومن يمت ... كريماً فلا لوم عليه ولا عتبا
جمع القلعة قلاع خلافاً لابن الأعرابي
قال القاضي: في هذا الخبر، أنه قيل لمصعب: لو اعتصمت ببعض القلاع وهي جمع قلعة، وهذا صحيح في القياس ومثله في قياس العربية رقبة ورقاب وعقبة وعقاب في أحرف كثيرة، وقد جاء في الأخبار عن السلف الذين كلامهم حجة في اللغة لسبقهم اللحن، وزعم ابن الأعرابي أن القلعة لا تجمع قلاعاً، والذي قاله خطأ من جهة السماع والقياس معاً، وقد حكى القلاع في جمع القلعة عدد من علماء اللغويين منهم أبو زيد وغيره.
نديم ينتقم من صاحب بيت المال
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عمرو بن محمد الرومي، قال: كان على بيت مال المعتصم رجل من أهل خراسان يكنى أبا حاتم، فخرجت لي جائزة فمطلني بها، وكان ابنه قد اشترى جارية مغنية تسمى قاسم بستين ألف درهم، قال: فعملت فيه شعراً وجلست ألاعب المعتصم بالشطرنج في يوم الخمار، وكان يشرب يوماً ويستريح يوماً فيلعب فيه ونلعب بين يديه، فجعلت أنشد:
لتنصفني يا أبا حاتم ... أو لتصيرن إلى حاكم
فتعطي الحق على ذلةٍ ... بالرغم من أنفك ذا الراغم
يا سارقاً مال إمام الهدى ... سيظهر الظلم على الظالم
ستين ألفاً في شرا قاسم ... من علٍ هذا الملك الفئم
فقال له: ما هذا الشعر؟ فتفازعت كأني أنشدته ساهياً ولجلجت، فقال: أعده فقتل: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني، وإنما أريد أن يحرص على أن يسمعه، فقال: أعده ويلك، فأعده، فقال: ما هذا؟ فقتل: أظن صاحب بيت المال مطل بعض هؤلاء الشعراء بشيء له فعمل فيه هذا الشعر، قال: فما معنى قاسم؟ قلت:جارية اشتراها ابنه بستين ألف درهم، قال: وأراني أنا الملك النائم صدق والله قائل هذا الشعر، والله لو عرفته لوصلته لصدقته، رجل مملق وليته بيت المال ليعيش برزقه منذ سنتين، من أين لابنه هذا المال؟ ثم قال لإيتاخ: قيد صاحب بيت المال وابنه حتى تأخذ منهما مائتي ألف درهم وول بيت المال غيره.
حكم من كلام الخليل بن أحمد
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا عبد الله محمد بن المروزي بمرو، قال: أخبرنا يحيى بن أكثم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: سمعت الخليل بن أحمد يقول: التواني إضاعة، والحزم بضاعة، والإنصاف راحة، واللجاج وقاحة.
ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه

حدثنا الحسن بن علي بن زكريا البصري، قال: حدثنا الهيثم بن عبد الله الرماني، قال: حدثني المأمون، قال: حدثني الرشيد، قال: حدثني المهدي، قال: حدثني المنصور عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: من الدهاء حسن اللقاء.

صحبة لطيفة
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، عن المغيرة بن محمد المهلبي، قال:حدثني مروان بن موسى بن عبد الله المدني مولى عثمان بن عفان، قال: حدثني موسى بن جعفر بن أبي نمير مولى زريق، قال: بعثني علي بن المهدي من مصر إلى الرشيد هرون أمير المؤمنين على البريد فلحقت شيخاً في طريقي على دابة دميم، فقال لي: يا هذا، إن دابتي هذه قد أتعبتني فهل لك أن أسايرك وتحبس علي، فإن عندي والله ظاهراً وباطناً، قال: قلت له: أفعل، قال: فقلت له يوماً: أما ظاهرك فحسن محادثتك وظرفك، فما باطنك؟ قال أغني والله أحسن غناء في الأرض، قال: فغناني:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
قال القاضي: الشعر لنصيب.
المجلس الثامن عشر
حديث جالس الكبراء
حدثنا إبراهيم بن حماد، قال: حدثنا محمد بن يحيى الجنبسي، قال: حدثنا حسن بن قتيبة المدائني، قال: حدثني عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي، عن سلمة بن كهيل، عن أبي جحيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جالس الكبراء، وسائل العلماء، وخاطب الحكماء " .
حدثنا محمد بن سليمان بن محمد، أبو جعفر الباهلي، قال: قال، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، قال: أخبرنا طلق بن غنام، قال: حدثنا أبو مالك، عن سلمة بن كهيل، عن أبي جحيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جالسوا الكبراء، وخالطوا الحكماء، وسائلوا العلماء " .
تعليق المؤلف
قال القاضي: وفي هذا الخبر إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالطة ذوي الفضل في مخالطتهم ومجالستهم ومعاشرتهم، فحقيق على كل ذي لب تقبل ذلك والرجوع إليه، والعمل عليه، ففيه امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بسنته والتأدب بأدبه، وفيه السلامة من معرة الجهال، ومضرة الضلال، واكتساب الآداب والفوائد، وحيازة المصالح والمراشد، وحسن الثناء والمحامد، والأمن في العواقب، والتنزه عن المعايب، ونسأل الله توفيقاً لما نغتبط به في ديننا ودنيانا وآخرتنا.
عبد الملك يوجه نظر الحجاج إلى إسرافه ورد الحجاج عليه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: أخبرنا أبو عبية، قال: لما قتل الحجاج ابن الأشعث وصفت له العراق قدم قيساً واتسع له في إنفاق الأموال، فكتب إليه عبد الملك: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين أنك تنفق في اليوم ما لا ينفق أمير المؤمنين في الأسبوع، وتنفق في الأسبوع ما لا ينفقه أمير المؤمنين في الشهر، عليك بتقوى الله في الأمر كله وكن لوعيده تخشى وتضرع، ووفر خراج المسلمين وفيأهم، وكن لهم حصناً يجير ويمنع، فكب إليه الحجاج:
لعمري لقد جاء الرسول بكتبكم ... قراطيس تملي ثم تطوى فتطبع
كتاب أتاني فيه لين وغلظة ... وذكرت والذكرى لذي اللب تنفع
وكانت أمور تعتريني كثيرة ... فأرضخ أو أعتل حيناً فأمنع
إذا كنت سوطاً من عذاب عليهم ... ولم يك عندي في المنافع مطمع
أيرضى بذاك الناس أم يسخطونه ... أم أحمد فيهم أم ألام فأقدع
وكانت بلاداً جئتها حيث جئتها ... بها كل نيران العداوة تلمع
فقاسيت فيها ما علمت ولم أزل ... أصارع حتى كدت بالموت أصرع
فكم أرجفوا من رجفة قد سمعتها ... ولو كان غيري طار مما يروع
وكنت إذا هموا بإحدى هناتهم ... حسرت لهم رأسي ولا أتقنع
فلو لم يذد عني صناديد منهم ... تقسم أعضائي ذئاب وأضبع
فكتب إليه عبد الملك: اعمل برأيك.
الحجاج يؤمن الناس إلا أربعة

حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني علي بن الحسن بن موسى، عن عبد الله بن حمد التيمي، قال: حدثني محمد بن حفص، عن عبيد الله بن عبد الله بن فضالة الزهراني، قال: نادى منادي الحجاج بن يوسف يوم رستقا باذ: آمن الناس كلهم إلا أربعة: عبد الله بن الجارود وع بن فضالة وعكرمة بن ربعي وعبد الله بن زياد بن ظبيان، قال: فأتى برأس عبد الله بن الجارود فلم يصدق فرحاً به، وقال: عمموه لي أعرفه فإني لم أره قط إلا معمماً فعمم له فعرفه، فأمر المنادي فنادى: أمن الناس إلا ثلاثة: عبد الله بن فضالة وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وعكرمة بن ربعي، فأما عبيد الله بن زياد فإنه انطلق إلى عمان فأصابه الفالج بها فمات، وأما عكرمة ابن ربعي فإنه لحقته خيل الحجاج في بعض سكك المربد فعطف عليهم فقتل منهم نيفاً وعشرين رجلاً ثم قتلوه، وأما عبد الله بن فضالة فإنه أتى خراسان فلم يزل بها حتى ولي المهلب خراسان فأمر بأخذه حيث أصابه، وقيل له: أكن ذلك ولا تبده فيحذر ويحرز فاحرص على أسره دون قتله، قال: فبعث المهلب ابنه حبيباً أمامه فساق من سوق الأهواز إلى مرو على بغلة شهباء في سبع عشرة ليلة فأخذه غارا بمرور وهو لا يشعر، ثم كتب إلى الحجاج يعلمه ذلك، فجاء المغيرة بن المهلب إلى منزل حبة ابنة الفضل، امرأة عبد الله بن فضالة وهي ابنة عم عبد الله، فأرسل إليها أن حبيباً قد أخذ عبد الله، وقد كتب إلى الحجاج يعلمه بذلك، فإن كان عندك خير فشأنك وعولي علي من المال ما بدا لك، فأرسلت إليه: لا ولا كرامة، تقتلونه وآخذ منكم المال، هذا ما لا يكون، فتحولت إلى منزل أخيها لأمها خولى بن مالك الراسبي وأرسلت إلى بني سعد فاشترى لها باب عظيم وألقته على الخندق ليلاً ثم جازت عليه فغشي عليها، فلما أفاقت قالت: إني لم أكن أتعب، فمتى أصابني هذا فشدوني وثاقاً ثم سيروا بي، فخرجت مع خادمها وغلامها ودليلها، لا يعلم بها أحد، فسارت حتى دخلت دمشق على عبد الملك بن مروان، فأتت أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت أمها بنت ذؤيب بن حلحلة الخزاعي، قالت: يا أم أيوب قصدتك لمر بهظني وغم كظمني وأعلمتها الخبر وقصت عليها القصة، فقالت أم أيوب: قد :كنت أسمع أمير المؤمنين يكثر ذكر صاحبك ويظهر التلظي عليه، قالت: وأين رحلتي إليك؟ قالت: سأدخلك مدخلاً وأجلسك مجلساً إن شفعت ففيه، وإن رددت فلا تنصبي، فلا شفاعة لك بعده فأجلستها في مجلسها الذي كانت تجلس فيه لدخول عبد الملك ليلاً، وجلست أم أيوب قريباً منها فقالت لها: إذا دخل فشأنك، فدخل عبد الملك ليلاً مغتراً، فلما دنا أخذت بجانب ثوبه ثم قالت: هذا مكان العائذ بك يا أمير المؤمنين، ففزع عبد الملك وأنكر الكلام، فقالت أم أيوب: ما يفزعك يا أمير المؤمنين من كرامة ساقها الله عز وجل إليك! فقال:عذت معاذاً، فمن أنت؟ قالت: تؤمن يا أمير المؤمنين من جئتك فيه من كان من خلق الله تعالى ممن تعرف أو لا تعرف، ممن عظم ذنبه لديك أو صغر شامياً أو عراقياً أو غير ذلك من الآفاق؟ قال: نعم، هو آمن، قالت:بأمان الله عز وجل ثم أمانك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فمن هو أيتها المرأة؟ قالت: عبد الله بن فضالة، قال: أرسلي ثوبي أنبئك عنه، قالت: أغدراً يا بني مروان؟ قال: لا، أرسلي ثوبي أحدثك ببلائك عنده، وهو أمن لك ولمعاذك قالت: فحدثني يا أمير المؤمنين ببلائك عنده، قال: ألم تعلمي أني وليته السوس وجندي سابور وأقطعته كذا وكذا وفرضت له كذا ونوهت بذكره ورفعت من قدره؟ قالت: بلى والله يا أمير المؤمنين، أفلا أحدثك ببلائه عندك؟ قال: بلى، قالت: أتعلم يا أمير المؤمنين أن داره هدمت ثلاث مرات بسببك لا يستتر من السماء بشيء، قال: نعم، قالت: أفتعلم يا أمير المؤمنين أنك كتبت إلى وجوه أهل البصرة وأشرافها وكتبت إليه فلم يكن منهم أحد أجابك ولا أطاعك غيره، قال: نعم قالت: أفتعلم أنه كان قبل زلته سيفاً لك على أعدائك وسلماً وبساطاً لأوليائك قال: نعم، حسبك قد أجبت وأبلغت، قالت: أفيذهب يوم من إساءته بصالح أيامه وطاعته وحسن بلائه، قال: لا، هو آمن، قالت: يا أمير المؤمنين إنه الدما وإنه الحجاج وإنه إن رآه قتله، قال: كلا، قالت: فالكتاب مع البريد يا أمير المؤمنين، قال: فكتب لها كتاباً مؤكداً: إياك وإياه أحسن جائزته

ورفده وخل سبيله، ثم وجه به مع البريد، ثم أقبل عليها فقال:ما أنت منه؟ قالت: امرأته وابنة عمه، قال: فضحك وقال: أين نشأت، قالت: في حجر أبيه، قال: فوالله لأنت أعرب منه وأفصح لساناً، فهل معه غيرك؟ قالت:نعم، ابنة عبيد بن كلاب، قال: النميري قالت: نعم، وكذا وكذا جارية، قال: فأنا أوليك طلاقها وعتق جواريه، قالت: بل تهنيه نساءه كما هنأته دمه، فأقبل على أم أيوب فقال لها: يا أم أيوب لا نساء إلا بنات العم. ثم قال: أقيمي عند أم أيوب حتى يأتيك الكتاب بمحبتك إن شاء الله، وقدم الكتاب وقد قدم به على الحجاج من خراسان، فأقامه للناس في سراويل وقد كان نزع ثيابه قبل ذلك وعرضه على الناس في الحديد ليعرفوه، فلما أمسى دعا به الحجاج فقال له عبد الله: أتأذن لي في الكلام؟ قال: لا كلام سائر اليوم، قال: فكساه وحمله وأجازه وخلى سبيله، وانصرف إلى أهله فسألهم عن حبة، فأخبر بأمرها وقيل له: ما ندري أين توجهت، ثم بلغه ما صنعت، فكتب إليها: إنك قد صنعت ما لم تصنع أنثى فأعلميني بمقدمك أتلقاك ويتلقاك الناس معي، فلم تعلمه حتى قدمت ليلاً وهو عند ابنة عبيد بن كلاب، فقالت: لا والله لا يؤذن بي الليلة، فلما أصبح، أخبر بمكانها فأتاها.رفده وخل سبيله، ثم وجه به مع البريد، ثم أقبل عليها فقال:ما أنت منه؟ قالت: امرأته وابنة عمه، قال: فضحك وقال: أين نشأت، قالت: في حجر أبيه، قال: فوالله لأنت أعرب منه وأفصح لساناً، فهل معه غيرك؟ قالت:نعم، ابنة عبيد بن كلاب، قال: النميري قالت: نعم، وكذا وكذا جارية، قال: فأنا أوليك طلاقها وعتق جواريه، قالت: بل تهنيه نساءه كما هنأته دمه، فأقبل على أم أيوب فقال لها: يا أم أيوب لا نساء إلا بنات العم. ثم قال: أقيمي عند أم أيوب حتى يأتيك الكتاب بمحبتك إن شاء الله، وقدم الكتاب وقد قدم به على الحجاج من خراسان، فأقامه للناس في سراويل وقد كان نزع ثيابه قبل ذلك وعرضه على الناس في الحديد ليعرفوه، فلما أمسى دعا به الحجاج فقال له عبد الله: أتأذن لي في الكلام؟ قال: لا كلام سائر اليوم، قال: فكساه وحمله وأجازه وخلى سبيله، وانصرف إلى أهله فسألهم عن حبة، فأخبر بأمرها وقيل له: ما ندري أين توجهت، ثم بلغه ما صنعت، فكتب إليها: إنك قد صنعت ما لم تصنع أنثى فأعلميني بمقدمك أتلقاك ويتلقاك الناس معي، فلم تعلمه حتى قدمت ليلاً وهو عند ابنة عبيد بن كلاب، فقالت: لا والله لا يؤذن بي الليلة، فلما أصبح، أخبر بمكانها فأتاها.

خبر الحجاج بن عبد الله الثعلبي مع عبد الملك
حدثنا عدد من الشيوخ منهم عبد الواحد أبو عمر هذا الخبر على لفظه، قال: أخبرنا ثعلب، عن عبد الله بن شبيب، قال: أخبرني زبير، قال أخبرني عمي، قال: كان عبد الله بن الحجاج الثعلبي من أشد الناس على عبد الملك بن مروان في طاعة ابن الزبير مع القيسية، فلما قتل ابن الزبير أرسل عبد الملك يطلب عبد الله بن الحجاج فلم يظفر به، فلما خاف عبد الله بن الحجاج أن يظفر به أقبل فدخل على عبد الملك في اليوم الذي يطعم فيه أصحابه فمثل بين يديه ثم، قال:
منع الفرار فجئت نحوك هارباً ... جيش يجر ومقنب يتلمع
فقال: أي الأخابث أنت؟ فقال:
ارحم أصيبيتي هديت فإنهم ... حجل تدرج بالشربة جوعُ
فقال: أجاع الله بطونهم، فقال:
مال لهم فيمن يظن جمعته ... يوم القليب فحيز عنهم أجمع
فقال: أحسبه كسب سوء، فقال:
أدنوا لترحمني وتقبل توبتي ... وأراك تدفعني فأين المدفع
قال: إلى النار، فقال:
ضاقت ثياب الملبسين ونفعهم ... عني فألبسني فثوبك أوسع
قال: فنزع مطرفاً كان عليه فطرحه عليه، ثم قال له: آكل؟ قال: كل. فلما وضع يده على الطعام قال: أمنت ورب الكعبة، قال: كنت من كنت إلا عبد الله بن حجاج، قال: فأنا عبد الله بن حجاج، قال: أولى لك.
وقد روى لنا هذا الخبر عن طريق آخر، وفيه: أن عبد الله قال له: لا سبيل لك إلى قتلي، قد جلست في مجلسك وأكلت طعامك ولبست من ثيابك.
من جود خالد بن عبد الله القسري

حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا أبو حفص يعني النسائي، قال: وقرأت في كتاب عن عبد الملك بن قريب الأصمعي، قال: دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري، فقال: أصلح الله الأمير، إني قد امتدحتك ببيتين ولست أنشدكهما إلا بعشرة آلاف وخادم، فقال له خالد: قل. فأنشأ يقول:
لزمت نعم حتى كأنك لم تكن ... سمعت من الأشياء شيئاً سوى نعم
وأنكرت لا حتى كأنك لم تكن ... سمعت بها في سالف الدهر والأمم
فقال خالد بن عبد الله: يا غلام! عشرة آلاف وخادماً يحملها.
ودخل عليه أعرابي: فقال: إني قد قلت فيك شعراً، فأنشأ يقول:
أخالد إني لم أزرك لحاجة ... سوى أنني عافٍ وأنت جواد
أخالد إن الأجر والحمد حاجتي ... فأيهما أتاني فأنت عماد
فقال له خالد بن عبد الله: سل يا أعرابي، قال: وقد جعلت المسألة إلي أصلح الله الأمير؟ قال: نعم. قال:مائة ألف درهم، قال: أكثرت يا أعرابي قال: فأحطك أصلح الله الأمير قال: نعم، قال: قد حططتك تسعين ألفاً، قال له خالد: يا أعرابي ما أدري من أي أمريك أعجب؟ فقال: له : أصلح الله الأمير: إنك لما جعلت المسألة إلي سألتك على قدرك وما تستحقه في نفسك، فلما سألتني أن أحط حططت على قدري وما أستأهله في نفسي، فقال له خالد: والله يا أعرابي لا تغلبني، يا غلام، مائة ألف، فدفعها إليه.

شعر لبشار بن برد في قينة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا العباس بن الفضل الربعي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: كانت بالبصرة لرجل من آل سليمان بن علي جارية، وكانت محسنة بارعة الظرف والجمال، وكان بشار بن برد صديقاً لمولاها ومداحاً له، فحضر مجلسه والجارية نغنيهم، فشرب مولاها وسكر ونام ونهض للانصراف من كان بالحضرة، فقالت الجارية لبشار: أحب أن نذكر مجلسنا هذا في قصيدة مليحة وترسل بها إلي على ألا تذكر فيها اسمي واسم سيدي، فقال بشار وبعث بها مع رسوله إليها:
وذات دل كأن الشمس صورتها ... باتت تغني عميد القلب سكرانا
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فقلت: أحسنت يا سؤلي ويا أملي ... فأسمعيني جزاك الله إحسانا
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
قالت: فهلا فدتك النفس أحسن من ... هذا لمن كان صب القلب حيرانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت: أحسنت أنت الشمس طالعة ... أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا
فأسمعينا غناء مطربا هزجاً ... يزيد حباً محباً فيك أشجانا
يا ليتني كنت تفاحاً تمخضه ... وكنت من قضب الريحان ريحانا
حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها ... وكنت في خلوة مثلت إنسانا
فحركت عودها ثم انثنت طرباً ... تبدي الترنم لا تخفيه كتمانا
أصبحت أطوع خلق الله كلهم ... نفساً لأكثر خلق الله عصيانا
فقلت: اطربينا يا زين مجلسنا ... فغننا، أنت بالإحسان أولانا
فغنت الشرب صوتاً مؤنقاً رصفا ... يُذكي السرور ويبكي العين أحيانا
لا يقتل الله من دامت مودته ... والله يقتل أهل الغدر من كانا
قال القاضي: قول بشار في هذا الشعر: حتى إذا وددت ريحي فأعجبها، على لفظ التذكير والريح مؤنثة، وقد يكن فعل هذا في ضرورة الشعر وجعل الضمير الذي في - فأعجبها - عائداً على الريح وهي مؤنثة، إما لأن تأنيثها ليس بحقيقي، وإما لأنه أراد بقوله: ريحي نسيمي ونحوه، وقد جاء في الشعر مثله كما قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
وقد اختف النحويون في الفرق بين التأنيث الحقيقي والتأنيث الذي هو غير حقيقي فقال بعضهم: التأنيث الذي هو حقيقي ما لا يطلق لفظه على مذكره لاختصاص مؤنثه بلفظة كامرأة وناقة، وأما التأنيث الذي ليس بحقيقي، فكقولهم شاة للذكر من هذا النوع والأنثى، كما قال الأعشى:

فلما أضاء الصبح قام مبادراً ... وكان انطلاق الشاة من حيث خيما
قيل إن الشاة ها هنا الثور، وقوله دابة وحية لذكرهما وأنثاهما، وهذا مذهب الكوفيين، فأما البصريون فيرون الفصل بين هذين التأنيثين ومقابلهما من التذكيرين من قبل اختلافهما من جهة الفروج المختلفة فيهما، كرجل وامرأة وجمل وناقة وفتى وفتاة، وفي تذكير بشار المضمر في قوله فأعجبها وجه آخر حسن ليس فيه ما في الوجه الذي قدمنا ذكره من الضرورة، وهو جائز مطرد في النثر والشعر، ولم أر أحداً ممن يتعاطى هذا الشأن من أهل العلم والأدب أتى به وهو أن يكون لما قال: وجدت ريحي فلم يستو له التأنيث متى رد الضمير إلى الريح لئلا ينكسر الشعر ويفسد الوزن رده إلى الوجود، كأنه قال: وجدت ريحي فأعجبها وجود ريحي، واعتمد على دلالة الفعل الذي هو وجدت وعلى المصدر الذي هو وجود، وهذا صحيح مستفيض في كلام العرب، وقولهم: من كذب كان شراً له، فدل قولهم كذب على الكذب، وقد قال الله تعالى جده: " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم " المعنى: لا تحسبن البخل، فدل يبخلون على البخل، ومن هذا الباب: قول الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلا خلاف
أراد جرى إلى السفه، فدل قوله السفيه على السفه، وهذا باب واسع جداً.

عبيد الله بن يحيى بن خاقان يتنبأ بالأحداث
حدثنا علي بن محمد بن الجهم، أبو طالب الكاتب، قال: حدثني أبو العباس محمد بن عبد الله بن طاهر، قال: حدثني أبي، عن أحمد بن إسرائيل، قال: صرت يوماً إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان فلما صرت في صحن الدار رأيته مضطجعاً على مصلاه مولياً ظهره باب مجلسه، فهممت بالرجوع، فقال لي الحاجب: أدخل فإنه منتبه، فلما سمع حسي جلس، فقلت: حسبتك نائماً، قال: لا، ولكني كنت مفكراً، قلت: فيماذا أعزك الله؟ قال: فكرت في أمر الدنيا وصلاحها في هذا الوقت واستهوائها ودرور الأموال وأمن السبيل وعز الخلافة فعلمت أنها أمكر وأنكر وأغدر من أن يدوم صفاؤها لأحد، قال: فدعوت له وانصرفت، فما مضت أربعون ليلة منذ ذلك اليوم حتى قتل المتوكل ونزل به من النفي ما نزل.
وتنبؤ آخر للإمام أبي جعفر الطبري
حدثني بعض شيوخنا: أن بعضهم حدثه: أنه لما كان من خلع المقتدر في المرة الأولى ما كان، وبويع عبد الله بن المعتز بالخلافة، دخل على شيخنا أبي جعفر الطبري رضي الله عنه فقال له: ما الخبر، وكيف تركت الناس؟ أو نحو هذا من القول، فقال له: بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ قال: محمد بن داود بن الجراح، قال: فمن ذكر للقضاء؟ قال الحسن بن المثنى، فأطرق ملياً ثم قال: هذا أمر لا يتم ولا ينتظم، قال: قلت له: فكيف؟ فقال: كل واحدٍ من هؤلاء الذين سميت متقدم في معناه على الرتبة من أبناء جنسه، والزمان مدبر والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال وانتقاص ولا يكون لمدته طول، فكان الأمر كما قال، ورأيت صحة قوله في أسرع وقت.
صدقه حين كذب وكذبه حين صدق
حدثني شيخ من أهل بغداد بجسر النهروان يعرف بالقدامي ذهب عني اسمه، وكان ذا أدب ومعرفة، بإسناد ذهب عني حفظه:

أن إسحاق بن إبراهيم الطاهري، قال لمحمد بن شجاع الثلجي: أريد أن توجه إلي رجلاً من أفاضل أصحابك أستكفيه شيئاً من أموري، قال: فأرسلت إليه بعض من كان يلزم مجلسي ويأخذ الفقه عني، وله دين وعلم فمضى إليه ثم عاد إلي فأخبرني أنه كلفه تفرقة مال دفعه إليه فصرفه في وجوه البر، فلما كان في العام القابل سأل إسحاق أيضاً أبا عبد الله بن شجاع إنفاذ الرجل إليه ففعل، فلما كان من الغد أرسل الرجل إلى ابن شجاع يذكر أن إسحاق حبسه، فارتاع لذلك وأتى إسحاق فقال له: لم حبست صاحبنا؟ قال: هذا رجل خائن، وكان ابن شجاع قبل أن يلقى إسحاق قد دخل على صاحبه في محبسه فسأله عن قصته فقال له: أعطاني في العام الماضي عشرة آلاف درهم وقال:اصرفها في ذوي الحاجة بها، وفكرت في الذي آتيه فيها، فحدثتني نفسي أن آخذها لنفسي وأسد بها خلتي وأنفقها على عيالي وأرم بها حالي، إذ كنت في عسرة وضيق من المعيشة وعلى حد من الفاقة، وقلت تارة: إن كنت أصرفها فيما يخصني موافقاَ لجملة ما رسمه لي على طريقة من الخيانة إذ لم يأمر لي بهذا المال، فكان ما قاله يقتضي دفعه إلى غيري، ثم قلت :إن غيري إنما أرجح أنه محتاج أو مستحق إلى ظاهر وظن غالب، وأنا من صورة أمري على يقين وعلم بالباطن، وغلبت هذا على عزيمتي، فصرفت المال في صلاح شئوني وقضاء ديوني والتوسعة على عيالي، ثم رجعت إليه فقال لي: ما صنعت ؟ فأخبرته أني أتيت بما كلفنيه وامتثلت أمره فيه، فقال:امض جزاك الله خيراً، فلما كان هذا العام أعطاني مثل نفسي لا عذر لك في أداء الأمانة واستفراغ الجهد والطاقة والتنزه عن السفسفة أو الخيانة، فأتعبت نفسي وأعملت فكري وكددت جسمي في تحري أهل المسكنة وتوخي ذوي الحاجة حتى بلغت الغاية، وصرفت المال بأسره في هذه الطبقة، ولم آخذ لنفسي منه مثقال ذرة ثم جئته فقال:ما صنعت؟ فأخبرته أنني أتيت ما أمرني به، فقال كذبت وأمر بي إلى السجن، فقال له ابن شجاع: أهكذا كان الأمر؟ قال: نعم قال: فهل كان غير هذا؟ قال: لا، قال ابن شجاع: فقلت لإسحاق: إن عندي في هذا شيئاً أذكره لك، وفصصت عليه القصة على وجهها، فنكث في الأرض وقال: قد صدق الرجل فيما ذكره وأمر بتخليته، فقلت له: كيف علمت بصدقه بعد ما كان منك؟ قال: أمرنا هذا جار على الإدغال وخلاف الصحة، فإذا عوملنا بمثل عملنا سكناً إليه وأحسنا الظن بعامله، وإذا أتى ما يخالفه أنكرناه ونفرنا عنه ولم نصدق صاحبه.
قال القاضي: حدثني الشيخ بهذه الحكاية بلفظ غير هذا عبرت عنه بلفظي ولم أخل بمعناه، وبالله التوفيق.

المجلس التاسع عشر
ائتوني بسكين أشقه بينكما
حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد أبو بكر النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن حفص، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " بينا امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بأحدهما: فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى للكبرى، فخرجتا إلى سليمان فأخبرتاه، فقال:ائتوني بسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها، فقضى للصغرى به " ، وقال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قط قبل ذلك اليوم وما كنت أقول إلا المدية.
قال القاضي: السكين والمدية معاً اسمان لهذه الأداة التي تذبح الحيوان وينحر بها وهما موجودان في كلام العرب، ولعل أبا هريرة لم يعرف السكين ولم تكن من لغة قومه، فأما المدية فمؤنثة بحرف التأنيث الذي فيها وهو الهاء وجمعها مدى مثل زبية وزبى ورقية ورقى وكنية وكنى، قال الشاعر:
من كل كوماء سحوف إذا ... جفت من اللحم مدى الجازر
وقد اختلفت أهل العلم بالعربية في تذكير السكين وتأنيثه، فذكر بعضهم وأنكر تأنيثه، وأنثه آخرون وأبوا تذكيره، وأجاز فريق الوجهين معاً فيه، وهذا أولى الأقوال بالصواب عندنا فيه، لأن أولي المعرفة بهذا الباب قد حكوها وأتوا بشواهد ردوها فيها، وأنا ذاكر ما ورد في ذلك عنهم بمشيئة الله وتوفيقه.
قال أبو حاتم السجستاني: السكين تذكر،قال: وسألت أبا زيد الأنصاري والأصمعي وغيرهما ممن أدركنا فكلهم يذكره وينكر التأنيث، قال: أنشدني الأصمعي للهذلي:

يرى ناصحاً فيما بدا وإذا خلا ... فذلك سكين على الحلق حاذق
وقال أبو هفان: قال أبو عمر الجرمي في تذكير حاذق: هذا كما يقول شفرة قاطع وحاذق، وامرأة حائض وعاقر، قال أبو بكر بن الأنباري: وهذا عندي ليس بمنزلة ذلك، لأن الحيض لا يكون إلا للنساء، والحذق يكون للمذكر والمؤنث فلا بد فيه من الهاء إذا وصف به المؤنث، وهذا البيت يدل على تذكير السكين.
قال القاضي: الذي ذكره ابن الأنباري في تذكير لفظ حائض من العلة هو مذهب أصحابه الكوفيين، وقد خالفه فيه البصريون على اختلاف بينهم على تعيين العلة سوى أبي حاتم السجستاني فإنه اختار فيه قول الكوفيين، ولشرح هذا موضع هو أولى به. ولو سلم إلى ابن الأنباري اعتلاله في حائض لكان ما احتج به أبو عمر الجرمي من قولهم شفرة قاطع وحاذق كافياً فيما استدل به ولم يقل أبو بكر في هذا شيئاً ولا عرض للمعتل بطعن في اعتلاله، وهذا يدل على لزومه إياه وعجزه عن الانفصال منه، وقد قالت العرب: امرأة عاشق وهذا مثل حاذق والعشق يكون للرجال والنساء وحدثنا أبو بكر الأنباري، قال: وأخبرنا أبو العباس، عن سلمة، عن الفراء، أنه قال: السكين ذكر وقد أنثت، وأنشد في التأنيث:
فعيث في السنام غداة قر ... بسكين موثقة النصاب
وأنشد في التأنيث أيضاً:
إذا أعرضت منها عناق رأيته ... بسكينه من حولها يتلهف
يلوذ بها عن عينها لا يروعها ... كأنه من حوبائه الموت يصرف
وحدثنا ابن الأنباري، قال: حدثنا عبد الله بن الحسن الحزامي، قال: حدثنا يعقوب، قال ابن الأنباري: وحدثني أبي، عن محمد بن الحكم، عن اللحياني، قال: السكين تذكر وتؤنث، قال اللحياني: لم يعرف الأصمعي في السكين إلا تذكير السكين وتأنيث السراويل، وأنشدنا عن ثعلب:
ادن إلى الشاة من خيارها ... واخرج السكين من قمجارها
القمجار: الغلاف، فهذا شاهد التأنيث.

ذكاء عبد الملك وعلمه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا العكلي، عن الحرمازي قال: أنشد رجل من جلساء عبد الملك أبيات أحيحة بن الجلاح:
استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عم ولا عم ولا خال
يلوون ما عندهم من حق جارهم ... وعن عشيرتهم والمال بالوالي
واجمع ولا تحقرن شيئاً تجمعه ... ولا تضيعه يوماً على حال
إني مقيم على الزوراء أعمرها ... إن الكريم على الأقوام ذو المال
لها ثلاث بئار في جوانبها ... وكلها عقب تسقى بإقبال
كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا ندائي إذا ناديت يا مالي
ما إن يقول لشيء حين أفعله ... لا أستطيع ولا ينمو على حال
فقال رجل من جلساء عبد الملك، وما الزوراء يا أمير المؤمنين، والله لو أرسلت فيها الأشقر ما ترك حوضاً، فقال له عبد الملك: إن أبا عمرو كان من رجال قومه وكان يرى أنه عنى هذا، فعجب الناس من ذكاء عبد الملك ومن معرفته بكنية أحيحة.
قصة غريبة مما كان يرد على القضاة
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، فقال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال حدثنا داود بن محمد بن يزيد، عن أبي عبد الله النباجي، قال: دخل ابن أبي ليلى على أبي جعفر المنصور

وهو قاض فقال له أبو جعفر: إن القاضي قد يرد عليه من طرائف الناس ونوادرهم أمور، فإن كان ورد عليك شيء فحدثنيه، فقد طال علي يومي، فقال: والله لقد ورد علي - منذ ثلاث - أمر ما ورد علي مثله، أتتني عجوز تكاد أن تنال الأرض بوجهها أو تسقط من انحنائها، فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي أن يأخذ لي بحقي وأن يعينني على خصمي، قلت: من خصمك؟ قالت: ابنة أخ لي، فدعوت بها فجاءت امرأة ضخمة ممتلئة فجلست منبهرة، فقالت العجوز: أصلح الله القاضي، إن هذه ابنة أخي وأوصى إلي بها أبوها، فربيتها فأحسنت التربية، ووليتها فأحسنت الولاية، وأدبتها فأحسنت التأديب، ثم زوجتها ابن أخ لي، ثم أفسدت علي بعد ذلك زوجي، فقلت لها: ما تقولين؟ قالت: يأذن لي القاضي أن أسفر فأخبر بحجتي؟ فقالت: يا عدوة الله تريدين أن تسفري فتفتني القاضي بجمالك، فقال: فأطرقت خوفاً من مقالتها، وقلت: تكلمي، فقالت: صدقت أصلح الله القاضي، هي عمتي أوصى بي إليها أبي وربتني فأحسنت ووليتني فأحسنت وأدبتني فأحسنت، وزوجتني ابن عم لي وأنا كارهة، فلم أزل حتى عطف الله بعضنا على بعض واغتبط كل واحد منا بصاحبه، ثم نشأت لها بنية فلما أدركت حسدتني على زوجي ودأبت في فساد ما بيني وبينه، وحسنت ابنتها في عينه حتى علقها وخطبها إليها، فقالت: لا أزوجك حتى تجعل أمر امرأتك بيدي ففعل، فأرسلت إلي: أي بنية إن زوجك قد خطب إلى ابنتي فأبيت أن أزوجه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل، وقد طلقتك ثلاثاً، فقلت صبراً لأمر الله وقضائه، فما لبثت أن انقضت عدتي فبعث إلي زوجها: إني قد علمت ظلم عمتك لك وقد أخلف الله عليك زوجاً فهل لك فيه؟ قلت: من هو؟ قال: أنا، وأقبل يخطبني فقلت: لا والله حتى تجعل أمر عمتي في يدي ففعل، فأرسلت إليها: إن زوجك قد خطبني فأبيت عليه إلا أن يجعل أمرك في يدي ففعل، وقد طلقتك ثلاثاً، فلم يزل حياً حتى توفي رحمة الله عليه، ثم لم ألبث أن عطف الله قلب زوجي الأول فتذكر ما كان من موافقتي إياه فأرسل إلي: هل لك في المراجعة، قلت: قد أمكنك ذلك، فخطبني فأبيت إلا أن يجعل أمر بنتها في يدي ففعل، فطلقتها ثلاثاً، فوثبت العجوز وقالت: أصلح الله القاضي، فعلت هذا مرة وفعلته هي مرة بعد مرة، فقلت: إن الله تبارك وتعالى لم يوقت لهذا وقتاً، وقال: " ومن بغي عليه لينصرنه الله " .

التعليق على الخبر
قال القاضي: إن زوج العمة لم يكن له أن يتزوج ابنة أخيها وهي في حباله، وأرى أن الجارية أرادت أن يتولى التفريق بينه وبينها، استيفاء منها ومجازاة لها على فعلها، وقد رويت لنا هذه القصة عن طريق آخر وفيها مخالفة لهذه الرواية في السند والمتن معاً، وأنا ذاكرها ليستوفي الناظر في كتاب هذا الأمرين جميعاً بمشيئة الله وعونه.

حدثنا محمد بن داود بن سليمان النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن سهل السامري بفلسطين، قال: حدثنا عبد الله بن محمد الإمام، قال: حدثني محمد بن الخليل، قال: أخبرني روح بن حرب السمسار، قال: كنت في دار الطيالسة فإذا الهيثم به عدي حاضر، قال: سمعت محمد بن أبي ليلى يقول: كنت يوماً في مجلس القضاء فوردت على عجوز ومعها جارية شابة، قال: فذهبت العجوز تتكلم قال: فقالت الشابة: أصلح الله القاضي، مرها فلتسكت حتى أتكلم بحجتي وحجتها، فإن لحنت بشيء فلترد علي، فإن أذنت لي سفرت، قال: فقلت: أسفري، قال: فقالت العجوز: إن سفرت قضيت لها علي، قال: قلت: أسفري، فأسفرت والله عن وجه ما ظننت أن يكون مثله إلا في الجنة، فقالت: أصلح الله القاضي، هذه عمتي، مات أبي وتركني يتيمة في حجرها فربتني فأحسنت التربية، حتى إذا بلغت مبلغ النساء قالت: يا بنية! هل لك في التزويج؟ قلت: ما أكره ذلك يا عمة، هكذا كان؟ قالت العجوز: نعم. قالت فخطبني وجوه أهل الكوفة فلم ترض لي إلا رجلاً صيرفياً فزوجتني، فكنا كأننا ريحانتان ما يظن أن الله تعالى خلق غيري، ولا أظن أن الله عز وجل خلق غيره، يغدو إلى سوقه ويروح علي بما رزقه الله، فلما رأت العمة موقعه مني وموقعي منه حسدتنا على ذلك، قالت: فكانت لها ابنة فسوقتها وهيأتها لدخول زوجي علي فوقعت عينه عليها، فقال لها: يا عمة! هل لك أن تزوجيني ابنتك؟ قالت: نعم بشرط، قال لها: وما الشرط؟ قالت: تصير أمر ابنة أخي إلي، قال: قد صيرت أمرها إليك، قالت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة، وزوجت ابنتها من زوجي، فكان يغدو عليها ويروح كما كان يغدو علي ويروح. فقلت لها: يا عمة! تأذنين لي أن أنتقل عنك، قالت: نعم، فانتقلت عنها، قالت: وكان لعمتي زوج غائب فقدم فلما توسط منزله، قال: مالي لا أرى ربيبتنا؟ قالت تزوجت وطلقها زوجها فانتقلت عنا، فقال لها: علينا من الحق ما نعزيها بمصيبتها، قالت: فلما بلغني مجيئه تهيأت له وتسوقت، قالت: فلما دخل علي سلم وعزاني بمصيبتي ثم قال لي: إن في بقية من الشباب فهل لك أن أتزوجك؟ قلت: ما أكره ذاك ولكن على شرط، قال لي: وايش الشرط؟ قلت: تصير أمر عمتي بيدي، قال: فإني قد صيرت أمرها بيدك، قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة، قالت: وقدم بثقله علي من الغد ومعه ستة آلاف درهم، فأقام عندي ما أقام ثم إنه اعتل فتوفي، فلما انقضت عدتي جاء زوجي الأول يعزيني بمصيبتي فلما بلغني مجيئه تهيأت له وتسوقت، فلما دخل علي قال: يا فلانة! إنك لتعلمين أنك كنت أحب الناس إلي وأعزهم علي، وقد حل لنا الرجعة فهل لك في ذلك؟ قلت: ما أكره ذلك ولكن تصير أمر ابنة عمي بيدي، قال: فإني قد فعلت صيرت أمر ابنة عمتك بيدك، قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة، أصلح الله القاضي، فرجعت إلى زوجي، فما استعداؤها علي، فقال ابن أبي ليلى: واحدة بواحدة والبادي أظلم، قومي إلى منزلك. قال ابن أبي ليلى: فحدثت الهادي بذلك، فقال: ويحك يا محمد! ما سمعت حديثاً أحسن من هذا، أنا أحب أن أحدث به الخيزران، يعني أمه.
قال القاضي: وقصة هذا الخبر كقصة المقدم له في أنه لا يحل الجمع بين المرأة وعمتها في النكاح، وأن التماس هذه الجارية من خاطبها تمليكها طلاق عمتها وبنتها من حباله لما وصفنا أنها أرادت أن تشفي غيظها وتتولى التفريق بينها وبين زوجها بنفسها مقابلة لها على ما ابتدأتها به من إساءتها.

أخاف أن يكون في قبولهما وهق رقبتي

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال:حدثنا موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن حسان، قال: قال لي عمي: قدم محمد بن قحطبة الكوفة فقال: أحتاج إلى مؤدب يؤدب أولادي، حافظ لكتاب الله عز وجل، عالم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالآثار والفقه والنحو والشعر وأيام الناس فقيل له: ما يجمع هذه الأشياء إلا داود الطائي وكان محمد بن قحطبة ابن عم داود، فأرسل إليه يعرض ذلك عليه ويسني له الأرزاق والفائدة، فأبى داود ذلك، فأرسل بدرة فيها عشرة آلاف درهم، وقال له: استعن بها على دهرك، فردها، فوجه إليه ببدرتين مع غلامين له مملوكين، وقال: إن قبل البدرتين فأنتما حران. فمضيا بهما إليه فأبى أ ن يقبلهما فقالا له: في قبولهما عتق رقابنا، فقال لهما: إني أخاف أن يكون في قبولهما وهق رقبتي في النار، رداها إليه وقولا له أن يردهما على من أخذتهما منه أولى من أن تعطيني إياهما.

لو علم السبب
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: كنا عند المبرد فجاءه رجل من ولد ابن الزيات فشكا إليه أمر ابن له خدع وليس يدري أين هو، فقال له: إنه جميل الوجه، وشاور أبا العباس في أمره، فلما قام قال أبو العباس: أنشدنا الرياشي:
ولو كان هذا الضب لا ذنب له ... ولا كشية ما مسه الدهر لامس
ولكنه من أجل طيب ذنيبه ... وكشيته دبت إليه الدهارس
قال القاضي: الكشية:الشحمة، ويقال: إن على جنبتي ظهره من جهتي عنقه إلى ذنبه شحمتين ممتدتين إليه هما كشيتاه، و جمع الكشية كشى مثل كلية وكلى، قال الشاعر:
إنك لو ذقت الكشى بالأكباد ... لم ترسل الضبة إعداء الواد
والدهارس والدهاريس: الدواهي، قال الشاعر:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس
بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن توليه القضاء

حدثنا محمد بن زياد المقري، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق السراج بنيسابور، قال: أخبرنا داود بن رشيد، قال: قلت للهيثم بن عدي: بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن أن ولاه المهدي القضاء وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ قال: إن خبره في اتصاله بالمهدي طريف، إن أحببت شرحته لك، قلت: قد والله أحببت ذلك، قال: اعلم أنه وافى الربيع الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهدي، فقال: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال له الربيع: يا هذا! وما حاجتك؟ قال:أنا رجل رأيت لأمير المؤمنين أعزه الله رؤيا صالحة، وقد أحببت أن تذكرني له، قال: له الربيع: يا هذا! إن القوم لا يصدقون ما يرونه لأنفسهم فكيف ما تراه لهم، فاحتل بحيلة هي أرد عليك من هذه، فقال له: إن لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني إليه، فأخبرته أني سألتك الإذن لي عليه فلم تفعل، فدخل الربيع على المهدي فقال له: يا أمير المؤمنين إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم، فقد احتالوا لكم بكل ضرب، فقال له المهدي: هكذا تصنع الملوك فما ذلك؟ قال: رجل بالباب يزعم أنه رأى لأمير المؤمنين أيده الله رؤيا حسنة، وقد أحب أن يقصها عليه، فقال له المهدي: ويحك يا ربيع! إني والله أرى الرؤيا لنفسي فلا تصح لي، فكيف إذا ادعاها لي من لعله قد افتعلها؟ قال: قد والله قلت له مثل ذلك فلم يقبل، قال:فهات الرجل، قال: فأدخل عليه سعيد بن الرحمن وكان له رواء وجمال ومروءة ظاهرة ولحية عظيمة وعارضة ولسان،فقال له المهدي: هات بارك الله عليك، ماذا رأيت؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين آتياً أتاني في منامي فقال لي: إن أمير المؤمنين المهدي يعيش ثلاثين سنة في الخلافة، وآية ذلك أنه يرى في ليلته هذه في منامه كأنه يقلب يواقيت ثم يعدها فيجدها ثلاثين ياقوتة كأنها قد وهبت له، فقال له المهدي: ما أحسن ما رأيت! ونحن نمتحن رؤياك في ليلتنا المقبلة على ما خيبرتنا، فإن كان الأمر على ما ذكرت أعطيناك ما تريد، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك لعلمنا أن الرؤيا ربما صدقت وربما أخلفت، قال له سعيد: يا أمير المؤمنين فماذا أصنع أنا الساعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي وأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين أكرمه الله ثم رجعت صفراً؟ قال له المهدي: فكيف نعمل؟ قال: يعجل لي أمير المؤمنين أعزه الله ما أحب وأحلف له بالطلاق أني قد صدقت، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وأمر أن يؤخذ منه كفيل ليحضر في غير ذلك اليوم، فقبض المال وقيل: من يكفل بك، فمد عينه إلى خادم له حسن الوجه والزي فقال: هذا يكفل بي، فقال له المهدي: أتكفل به يا تملك، فاحمر وخجل وقال: نعم يا أمير المؤمنين، فكفل به وانصرف سعيد بن عبد الرحمن بعشرة آلاف درهم، فلما كان في تلك الليلة رأى المهدي ما ذكر له سعيد حرفاً حرفاً، وأصبح سعيد فوافى الباب واستأذن فأذن له، فلما وقعت عين المهدي عليه قال: أين مصداق ما قلت لنا؟ قال له سعيد: وما رأى أمير المؤمنين شيئاً؟ فضجع في جوابه، فقال له سعيد: امرأتي طالق إن لم يكن رأيت شيئاً، قال له المهدي: ويحك! ما أجرأك على هذا الحلف بالطلاق! قال: لأني أحلف على صدق، قال له المهدي: فقد والله رأيت ذلك مبيناً، فقال له سعيد: الله أكبر، فأنجز لي يا أمير المؤمنين ما وعدتني، قال له: حباً وكرامة، ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت ثياباً من كل صنف، وثلاث مراكب من أنفس دوابه محلاة، فأخذ ذلك وانصرف، فلحق به الخادم الذي كفل به، وقال له: سألتك بالله هل كان لهذه الرؤيا التي ذكرتها من أصل؟ قال له سعيد: لا والله، قال الخادم: كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته له؟ قال هذه من المخاريق الكبار التي لا يأبه لها أمثالكم، وذلك أني لما ألقيت إليه هذا الكلام خطر بباله وحدث نفسه وأسر به قلبه وشغل به فكره، فساعة نام خيل له ما حل في قلبه وما كان شغل به فكره في المنام، فقال له الخادم: قد حلفت بالطلاق، قال: طلقت واحدة وبقيت معي على ثنتين فأزيد في مهرها عشرة دراهم وأتخلص وأحصل على عشرة آلاف درهم وثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت من أصناف الثياب وثلاث مراكب فرهة، فبهت الخادم في وجهه وتعجب من ذلك، فقال له سعيد: قد صدقتك وجعلت صدقي لك مكافأتك على كفالتك بي فاستر علي، ففعل ثم طلبه المهدي لمنادمته، وحظي عنده وقلده القضاء على عسكر المهدي فلم يزل على ذلك إلى أن مات.

فهذا كان السبب في وصلة سعيد بن الرحمن بأمير المؤمنين المهدي، فهل سمعت بأعجب من ذلك يا داود؟ قال: لا.

التعليق على هذه القصة
قال القاضي: قول سعيد في هذا الخبر أنه طلق واحدة وبقيت معه على اثنتين وأنه يزيد في مهرها عشرة دراهم، من كلام الحمقى العامة وجهالهم، لأن مطلق امرأته المدخول بها واحدة إن راجعها في عدتها فلا مهر عليه لها، وإن تزوجها بعد بينونتها فعليه الصداق مبتدئاً غير زائد على قدر منه متقدم، وفي حمل سعيد نفسه في هذه القصة على الكذب وخاصة في الرؤيا وإطلاع الخادم على قبيح ما أتاه، وكذبه فيما حكاه، وجعله هذا مكافأة له على كفالته به، واعتماده مسترسلاً إليه في ستر رذيلته عليه، دليل على أنه كان بمحل من الغرق، وأن عظم لحيته كان على شكل يدل على السفاهة والحمق. وقد حدثنا علي بن الفضل بن طاهر البلخي قال: حدثنا محمد بن أيوب بن يزيد، قال: حدثنا أحمد بن يعقوب، قال حدثنا مصعب بن خارجة، عن أبيه، من كانت لحيته طويلة فلا يلم في عقله شيء.
حدثنا الليث بن محمد بن الليث المروزي، قال: سمعت عبد الله بن محمود، يقال: نظر علي بن حجر إلى أبي الدرداء، قال: وهو طويل اللحية فأنشأ يقول:
ليس بطول اللحى ... يستوجبون القضا
إن كان هذا كذا ... فالتيس عدل رضا
قال: ومكتوب في التوراة: لا يغرنك طول اللحى، فإن التيس له لحية.
حكاية عن القاضي العوفي، وكان طويل اللحية
حدثنا محمد بن الحسن المقري، قال: أخبرني الساجي بالبصرة، قال: اشترى رجل من أصحاب القاضي العوفي جارية فغاضبته ولم تطعه، فشكا ذلك إلى العوفي فقال: أنفذها إلي حتى أكلمها فأنفذها إليه، فقال لها: يا عزوب يا لعوب يا ذات الجلابيب، ما هذا التمنع المجانب للخيرات، والاختيار للأخلاق المشنوءات، فقالت له: أيد الله القاضي: ليس لي فيه حاجة فمره يبيعني، فقال لها: يا منية كل حليم، وبحاث عن اللطائف عليم، أما علمت أن فرط الاعتياصات من الموموقات على طالبي المودات والباذلين لكرائم المصونات مؤديات إلى عدم المفهومات؟ فقالت الجارية: ليس في الدنيا أصلح لهذه العثنونات على صدور أهل الركاكات من المواسي الحالقات، وضحكت وضحك أهل المجلس. وكان العوفي عظيم اللحية.
قال القاضي: العوفي هو الحسن بن الحسن بن عطية بن سعيد بن جنادة، ويكنى أبا عبد الله من أهل الكوفة وقد سمع سماعاً كثيراً، غير أنه ضعيف في الحديث، قدم بغداد وولي قضاء الشرقية بعد حفص بن غياث ثم نقل من الشرقية فولى قضاء عسكر المهدي في خلافة هارون ثم عزل، فلم يزل ببغداد إلى أن توفي بها سنة إحدى أو اثنتين ومائتين، وكان من أعظم الناس لحية.
المجلس العشرون
حديث إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة

حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال الصالحي، قال: حدثنا أبو داود سليمان بن يوسف الحراني، حدثنا سعيد بن بزيع، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: بعث بنو سعيد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عليه فأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب، قال: محمد؟ قال: نعم، قال: فيا ابن عبد المطلب فإني سائلك ومغلظ في المسألة، فلا تجدن في نفسك، قال: لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك، قال: أنشدك لله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، الله بعثك إلينا رسولاً؟ قال: اللهم نعم، قال: فنشدة مثلها، الله أمرك أن نعبد الله وحده لا شريك له وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم، قال: فنشدة مثلها، الله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم، قال: ثم جعل يذكر شرائع الإسلام يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه ولا أزيد ولا أنقص، قال: ثم انصرف إلى بعيره، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى: " إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة " . قال: فأتى إلى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، فقالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم، والله ما يضران ولا ينفعان، إن الله تعالى بعث رسولاً وأنزل كتاباً لينقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى في ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمة، قال: يقول ابن عباس: ما سمعنا بوافد قوم ذكر كلمة من ضمام بن ثعلبة.
قال القاضي رحمه الله: لم يذكر لنا ما الكلمة، ولعلها ذهبت عن حفظ بعض الرواة أو سقطت من كتابه، وينبغي أن يكون معناه أعظم بركة أو ما أشبه هذا من الوجوه، وفي هذا الخبر: ما أبان عن حسن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ووطاءة كنفه ولين جانبه، وإجابته إلى الحلف لما فيه من تسكين نفس مساجله، وتأميله زوال الريب عن قلبه، وهو صلى الله عليه وسلم أصدق الناس في قيله، وأوفاهم أمانة فيما هو بسبيله.

كتاب قيصر إلى عمر رضي الله عنه بشأن النخلة
حدثنا محمد بن منصور بن أبي الجهم الشيعي، قال: حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا يونس بن الحارث الطائفي، عن الشعبي، قال: كتب قيصر إلى عمر: أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير، تخرج مثل آذان الحمر ثم تشقق عن مثل اللؤلؤ أحسبه قال: الأبيض ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر ثم تحمر فتكون مثل الياقوت الأحمر، ثم تينع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج أكل، ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر؟ " من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم: إن رسلك قد صدقتك، هذه الشجرة عندنا هي الشجرة التي أنبتها الله عز وجل على مريم حين نفست بعيسى ابنها عليه السلام فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله، فإن مثل عيسى عندنا كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، الحق من ربك فلا تكن من الممترين " .
بعض ما تلحن فيه العامة الزمرد والزبرجد

قال القاضي رحمه الله: قد روينا هذا الخبر من طرق شتى، وفي بعضها ألفاظ ليست في بعض، وقوله الزمرد العامة يخطئون فيه فيقولون زمرد بالدال المهملة، ويقولون الزبرجذ بالذال المعجمة، والذي حكاه أهل اللغة عن العرب أنه الزمرد بالإعجام والزبرجد بالإبهام على عكس ما يقوله من لا علم به من العوام، وذكر بعض أهل المعرفة أن من فضل النخل أن جميعه في بلاد الإسلام، وأنه ليس في بلاد الشرك منه شيء.

من شهداء الهوى
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا العباس بن الفرج الرياشي، قال: أخبرنا محمد بن سلام، قال كان بالمدينة فتى من بني أمية من ولد سعيد بن عثمان بن عفان وكان يختلف إلى قينة لبعض قريش، وكان طريراً ظريفاً، وكانت الجارية تحبه ولا يعلم بحبها، فأراد يوماً أن يشكو ذلك، فقال لبعض إخوانه: امض بنا إلى فلانة، وانطلقا فدخلا إليها وتوافى فتيان من قريش والأنصار، فلما جلست مجلسها واحتجرت بمزهرها، قال الأموي تغنين:
أحبكم حباً بكل جوارحي ... فهل لكم علم بما لكم عندي
وتجزون بالود المضاعف مثله ... فإن الكريم من جزى الود بالود
قالت نعم، وأحسن منه، وغنت:
للذي ودنا المودة بالضع ... ف وفضل البادي به لا يجازى
لو بدا بنا لكم ملأ الأر ... ض وأقطار شامها والحجازا
فعجب القوم من سرعته مع شغل قلبه، ومن ذهنها وحسن جوابها فازداد بها كلفاً، وصرح عما في قلبه فقال:
أنت عذر الفتى إذا هتك الست ... ر وإن كان يوسف المعصوما
من يقم في هواك يقصر عن اللو ... م وإما زال كان ملوماً
وبلغ عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة خبرها، فاشتراها بعشر حدائق ووهبها له وما يصلحها، فمكثت عنده حولاً ثم ماتت فرثاها، فقال:
قد تمنيت جنة الخلد بالجه ... د فأدخلتها بلا استئهال
ثم أخرجت إذ تطعمت بالنع ... مة منها والموت أحمد حالي
وكرر هذا الشعر مراراً وقضى، فدفنا معاً، فقال أشعب: هذان شهيدا الهوى انحروا على قبره سبعين نحرة كما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر حمزة سبعين تكبيرة.
قال: وبلغ أبا حازم فقال: لو محب في الله عز وجل يبلغ في الحب هذا المبلغ فهو ولي.
من نزاهة حفص بن غياث في الحكم

حدثنا محمد بن مخلد بن حفص حفص العطار: قال: حدثني يحيى ابن الليث، قال: باع رجل من أهل خراسان جمالاً بثلاثين ألف درهم من مرزبان المجوسي وكيل أم جعفر، فمطله بثمنها وحبسه، فطال ذلك على الرجل فأتى بعض أصحاب ابن غياث فشاوره، فقال له: اذهب إليه فقل له: أعطني ألف درهم وأحيل عليك بالمال الباقي وأخرج إلى خراسان، فإذا فعل هكذا فالقني حتى أشير عليك، ففعل الرجل وأتى مرزبان فأعطاه ألف درهم، فرجع إلى الرجل فأخبره، فقال: عد إليه فقل له: إذا ركبت غداً فطريقك على القاضي تحضر وأوكل رجلاً يقبض المال وأخرج، فإذا جلس إلى القاضي فادع عليه ما بقي لك من المال، فإذا أقر حبسه حفص وأخذت مالك، فرجع إلى مرزبان فسأله فقال: انتظرني بباب القاضي، فلما ركب من الغد وثب إليه الرجل فقال: إن رأيت أن ننزل إلى القاضي حتى أوكل بقبض المال وأخرج فنزل مرزبان فتقدما إلى حفص بن غياث فقال الرجل: أصلح الله القاضي، لي على هذا تسعة وعشرون ألف درهم، قال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: صدق أصلح الله القاضي، قال: ما تقول يا رجل فقد أقر لك؟ قال: يعطيني مالي أصلح الله القاضي، فأقبل حفص على المجوسي فقال: ما تقول؟ قال: هذا المال على السيدة، قال: أنت أحمق، تقر ثم تقول: على السيدة، ما تقول يا رجل؟ قال: أصلح الله القاضي، إن أعطاني مالي وإلا حبسته، قال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: المال على السيدة، قال: خذوا بيده إلى الحبس، فلما حبس بلغ أم جعفر الخبر فغضبت فبعثت إلى السندي: وجه إلي مرزبان، وكانت القضاة تحبس الغرماء في الجسر، فعجل السندي فأخرجه، وبلغ حفصاً الخبر فقال: أحبس أنا ويخرج السندي، لا جلست مجلسي هذا أو يرد مرزبان إلى الحبس، فجاء السندي إلى أم جعفر فقال: الله الله في، إنه حفص بن غياث وأخاف من أمير المؤمنين أن يقول: بأمر من أخرجته، رديه إلى الحبس وأنا أكلم حفصاً في أمره فأجابته فرجع مرزبان إلى الحبس، فقالت أم جعفر لهارون: قاضيك هذا أحمق، حبس وكيلي واستخف به فمره لا ينظر في الحكم ويولي أمره إلى أبي يوسف، فأمر لها بكتاب وبلغ حفصاً الخبر، فقال للرجل: أحضرني شهوداً حتى أسجل لك على المجوسي بالمال، فجلس حفص فسجل على المجوسي وورد كتاب هارون مع خادم، فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين، قال: مكانك نحن في شيء حتى نفرغ منه، فقال: كتاب أمير المؤمنين، فقال: انظر ما يقال لك، فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم فقرأه، فقال: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وأخبره أن كتابه ورد وقد أنفذت الحكم، فقال الخادم: قد والله عرفت ما صنعت، أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد، و والله لأخبرن أمير المؤمنين، بما فعلت، فقال له حفص: قل ما أحببت، فجاء الخادم فأخبر هارون فضحك، وقال: مر لحفص بن غياث بثلاثين ألف درهم، فركب يحيى بن خالد فاستقبل حفصاً منصرفاً من مجلس القضاء، فقال: أيها القاضي! قد سررت أمير المؤمنين اليوم وأمر لك بثلاثين ألف درهم، فما كان السبب في هذا؟ قال: تمم الله سرور أمير المؤمنين وأحسن حفظه وكلاءته، ما زدت على ما أفعل كل يوم، قال: علي ذلك؟ قال: ما أعلم إلا أن يكون سجلت على مرزبان المجوسي بما وجب عليه، فقال يحيى بن خالد: بهذا سر أمير المؤمنين، فقال حفص: الحمد لله كثيراً، فقالت أم جعفر لهارون: لا أنا ولا أنت إلا أن تعزل حفصاً، فأبى عليها، ثم ألحت عليه فعزله عن الشرقية وولاه القضاء على الكوفة فمكث عليها ثلاث عشرة سنة، وكان أبو يوسف لما ولي حفص قال لأصحابه: تعالوا نكتب نوادر حفص، فلما وردت أحكامه وقضاياه على أبي يوسف قال له أصحابه: أين النوادر التي زعمت نكتبها؟ فقال: ويحكم! إن حفصاً أراد الله فوفقه. قال ابن مخلد: قال أبو علي: سمعت أبا علي حسن بن حماد سجادة يقول: قال حفص بن غياث: والله ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة، ومات يوم مات ولم يخلف درهماً وخلف عليه تسع مائة درهم ديناً، قال سجادة: وكان يقال:ختم القضاء بحفص بن غياث.

لا يستحيي أحدكم من التعلم

حدثنا محمد بن الفتح القلانسي، قال: أخبرنا ابن أبي عمرو الشيباني، عن أبيه، عن أبي عبد الرحمن الطائي، قال: قال لي عبد الله بن زيد القيسي: بينا أنا واقف على رأس ابن هبيرة وبين يديه سماطان من وجوه الناس إذ أقبل شاب لم أر في مثل جماله وكماله، حتى دنا من ابن هبيرة فسلم عليه بالإمرة فقال: له: أصلح الله الأمير، امرؤ قدحته كربة، وأوحشته غربة، ونأت به الدار، وحل به عظيم، خذله أخلاؤه، وشمت به أعداؤه، وأسلمه البعيد، وجفاه القريب، فقمت مقاماً لا أرى لي معولاً و لا حازباً إلا الرجاء لله تعالى وحسن عائدة الأمير، وأنا أصلح الله الأمير ممن لا تجهل أسرته ولا تضيع حرمته، فإن رأى الأمير - أصلحه الله - أن يسد خلتي ويجبر خصاصتي يفعل، فقال ابن هبيرة: من الرجل؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر:
فزارة بيت العز والعز فيهم ... فزارة قيس حسب قيس فعالها
لها العزة القصوى مع الشرف الذي ... بناه لقيس في القديم رجالها
وهل أحد إن مد يوماً بكفه ... إلى الشمس في مجرى النجوم ينالها
لهيهات ما أعيا القرون التي مضت ... مآثر قيس واعتلاها فعالها
فقال ابن هبيرة: إن هذا لأدب حسن مع ما أرى من حداثة سنك، فكم أتى لك من السن؟قال:تسع وعشرون سنة، فلحن الفتى، فأطرق ابن هبيرة كالشامت به، ثم قال: أو لحان أيضاً مع جميل ما أتى عليه منطقك؟ شنته والله بأقبح العيب، قال: فأبصر الفتى ما وقع فيه، فقال: إن الأمير أصلحه الله عظم في عيني وملأت هيبته صدري،فنطق لساني بما لم يعرفه قلبي، فوالله إلا ما أقالني الأمير عثرتي عندما كان من زلتي، فقال ابن هبيرة: وما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده، ويحضر بها سلطانه، ويزين بها مشهده، وينوء بها على خصمه، أو يرضى أحدكم أن يكون لسانه مثل لسان عبده أو أكاره؟ وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، فإن كان سبقك لسانك وإلا فاستعن ببعض ما أوصلناه إليك، ولا يستحيي أحدكم من التعلم، فإنه لولا هذا اللسان لكان الإنسان كالبهيمة المهملة، وفي رواية أخرى: أو كالصورة الممثلة، قتل الله الشاعر حيث يقول:
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صاحب لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
قال القاضي: في هذا الخبر: فإن رأى الأمير يفعل، فالأحسن: فإن رأى فعل، أو فإن ير يفعل ليتفق لفظ الشرط ولفظ الجزاء، وفعل الجزاء مستقبل في المعنى وإن أتى به بلفظ المضي، ومجيئه مختلط على ما في هذا الخبر صواب، وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم

اللحانون من الخاصة
حدثنا إسماعيل بن علي الخطبي، قال: أخبرنا أبو أحمد البربوني، قال: قال أبو أيوب يعني سليمان بن أبي شيخ، وقال أبو الزناد: كان الوليد بن عبد الملك بن مروان لحاناً كأني أسمعه على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا أهل المدينة. قال: وقال عبد الملك بن مروان لرجل من قريش: إنك لرجل لولا أنك لحان، فقال: وهذا ابنك الوليد يلحن، قال: لكن ابني سليمان لا يلحن، قال الرجل: وأخي فلان لا يلحن.
قال أبو أيوب: كان ربيعة الرأي لحاناً، ومالك بن أنس لحاناً.
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عمر بن عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا المازني، قال: سمع أبو عمرو أبا حنيفة يتكلم في الفقه ويلحن فأعجبه كلامه واستقبح لحنه، فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب، ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس.
جاريتان تغلبان عيسى بن أبان

حدثني طاهر بن مسلم العبدي، قال: حدثني الغلابي، قال: حدثني أحمد بن سليمان قال: سمعت عيسى بن أبان، يقول: كنت عند المأمون فاستأذنته في الخروج إلى البصرة إلى عيالي، فقال: أمير المؤمنين أشوق إليك منك إلى عيالك، ولكن وجه إليهم فيحملوا، ثم قال لخادم على رأسه: قل لهم: يحثوا، قال: فإذا غلام أمرد قد أقبل لم تر عيني أحسن منه مغلف بالغالية يخطر حتى جاء فسلم، فقال له: مرحباً ثم أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل آخر مثله فأقعده على فخذه اليسرى فجعلت أنظر إلى حسنهما، فقال لي: يا عيسى! بأيهما ترى أن أبدأ، فقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله، لقد نزهه الله عن هذا وصانه، قال: يا عيسى ليس هو الذي ذهبت إليه، إنهما جاريتان اشتهيتهما في زي الغلمان، فقلت: أمير المؤمنين أعلى عيناً، فقالت الأولى: والله يا عيسى ما تحسن الحكومة، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: " السابقون الأولون " قال: فبقيت والله متعجباً وتمنيت أني كنت اهتديت إلى ما قالت بجميع ملكي، ثم قالت الأخرى: لا والله يا عيسى، ما تبصر من الحكومة شيئاً، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: " وللآخرة خير لك من الأولى " فتركته معهما وخرجت.

أبو نواس يأخذ معنى حديث شريف وينظمه شعرا
ً
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن سعيد، قال: حدثني أبو ثمامة القيسي، قال: فحدثنا محمد بن المهلب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: رأيت أبا نواس عنده روح بن القاسم، فتحدث روح عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القلوب جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " . قال أبو نواس: أنت لا تأنس بي وسأجعل هذا الحديث منظوماً بشعر، قلت: فإن قلت ذلك فجئني به، فجاءني فأنشدني:
يا قلب رفقاً، أجد منك ذا الكلف ... ومن كلفت به جان كما تصف
وكان في الحق أن يهواك مجتهداً ... بذاك خبر منا الغابر السلف
إن القلوب لأجناد مجندة ... لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تناكر منها فهو مختلف ... وما تعارف منها فهو مؤتلف
حدثنا الصولي: قال: حدثني محمد بن يزيد المهلبي ، قال: حدثني ابن مهدوية،قال: حدث أبو حفص عمر بن إبراهيم العدوي، قال: حدثنا محمد بن المنهال - إلا أنه قال الضرير - قال: حدثني يزيد بن زريع: وساق الخبر، إلا أنه زاد فيه قال يزيد بن زريع: وكان أبو نواس صبياً.
شرب نبيذاً ثم لا يدري أطلق امرأته أم لا، وحكم ذلك
حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب بن زاذان القربي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد التميمي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن معري، قال: جاء رجل إلى أبي حنيفة، فقال: إني شربت البارحة نبيذاً فلا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك طلقتها، ثم أتى سفيان الثوري فقال: يا أبا عبد الله! إني شربت البارحة نبيذاً فلا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: اذهب فراجعها فإن كنت قد طلقتها فقد راجعتها وإن لم تك طلقتها لم تضرك المراجعة شيئاً، ثم أتى شريك بن عبد الله، فقال: يا أبا عبد الله! إني شربت البارحة نبيذاً ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: اذهب فطلقها ثم راجعها، ثم أتى زفر بن الهذيل، فقال: يا أبا الهذيل! إني شربت البارحة نبيذاً ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: سألت غيري؟ قال: أبا حنيفة، قال: فما قال لك؟ قال: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك قد طلقتها، قال: الصواب قال، قال: فهل سألت غيره؟ قال: سفيان الثوري، قال: فما قال لك؟ قال: اذهب فراجعها فإن كنت قد طلقتها فقد راجعتها وإن لم تك طلقتها لم تضرك المراجعة شيئاً، قال: ما أحسن ما قال! قال: فهل سألت غيره؟ قال: شريك بن عبد الله، قال: فما قال لك؟ قال: اذهب فطلقها ثم راجعها، فضحك زفر وقال: لأضربن لك مثلاً، رجل مر بمثغب يسيل فأصاب ثوبه، قال لك أبو حنيفة: ثوبك طاهر وصلاتك تامة حتى تستيقن أمر الماء، وقال لك سفيان: اغسله فإن يك نجساً فقد طهر، وإن يك نظيفاً زاد نظافة، وقال لك شريك: اذهب فبل عليه ثم اغسله.
حذف ألف الاستفهام

قال القاضي: في هذا الخبر: ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، والفصيح ولا أدري أطلقت، غير أنه قد جاء في مواضع بغير ألف اكتفاء بدلالة أم، قال امرؤ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك لو تنتظر
وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر
وقال ابن أبي ربيعة:
فوالله ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
وقد أجاز قوم حذف ألف الاستفهام وإن لم تكن أم في الكلام، وتأولوا مثل هذا في القرآن، كقوله " هذا ربي " واستشهدوا بقول الهذلي:
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه: هم هم؟
وقول ابن أبي ربيعة:
ثم قالوا: تحبها؟ قلت بهراًعدد الرمل والحصى والتراب وأنكر هذا بعض نظار النحويين، إذ فيه عنده التباس الخبر والاستخبار، وقال: الأبيات
على الخبر دون الاستفهام.
وقد أحسن زفر في فصله بين هؤلاء الثلاثة فيما أفتوا به في هذه المسألة وفيما ضربه لسائله من الأمثل، وأما قول أبي حنيفة فهو محض النظر ومر الحق، ولا يجوز أن يحكم على امرئ في زوجته بطلاقها بعد صحة زوجيتها، ويقين العلم بثبوت النكاح بينه وبينها، بظن عرض له وحسبان أنه أوقع الطلاق في حال يتغير فيها الفهم، ويزول معها التمييز، وهو أبعد عند ذوي الأفهام، من أضغاث الأحلام، ورؤيا الراقد في المنام، من حال الصحة التي تلزم فيها الأحكام، وتجري فيها الأقلام، فأما ما قال سفيان الثوري فإنه أشار بالاستظهار والتوقفة والأخذ بالحزم والحيطة وهذه طريقة أهل الورع المتقين، وذوي الاستقصاء على أنفسهم من أهل الدين، وفتيا أبي حنيفة في هذا عين الحق وجل الفقه، وأي هاتين المحجتين سلك من نزلت به هذه النازلة، وعرضت له هذه الحادثة فهو مصيب محسن على ما بينا فيها من الفضل بين المنزلتين، وأما ما أفتى به شريك وتعجب زفر منه واقع في موقعه، ولا وجه في الصحة لما أشار به، وقد أصاب زفر أيضاً في المثل الذي ضربه له، وأرى أن شريكاً توهم أن الرجعة لا تتحقق إلا مع تحقق الطلاق، فأمر باستئناف تطليقة لتصح الرجعة بعدها، وهذا ما لا يحيل فساده، ولو كان كما نرى أنه توهمه لما أثرت الرجعة إلا في التطليقة التي أوقعها وتيقنها دون التي أشفق من تقدمها وهو على غير يقين منها، ولو أن رجلاً وكل رجلاً في طلاق زوجته، ثم غاب الوكيل فأشفق من تطليقه إياها عليه، وأشهد على رجعتها وهو غير عالم بوقوعها، ثم تبين أنها وقعت قبل مراجعته لصحت رجعته، وكذلك لو كتب إلى زوجته بطلاقها إذا وصل إليها كتابه، ثم أشهد على الرجعة بعد الوصول وقبل انقضاء العدة، لكانت الرجعة صحيحة لوقوعها بعد الطلاق الذي لم يكن عالماً به.؟
؟

المجلس الحادي والعشرون
حديث إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم
حدثنا محمد بن علي بن إسماعيل الأبلي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن خلف الجيلاني، قال: حدثنا أبي: قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن ذي حمام، عن علي بن الفضل الحنفي ويكنى أبا الفضل، عن زيد، عن عبد الله بن سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " .
التعليق على الحديث
قال القاضي: هذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الكلام وألطفه، وأبلغ بيان وأشرفه، ولقد أرشد أمته إلى الحاضر المتيسر، والموجود الذي ليس بمستصعب ولا متعذر، وقد جاء عنه وعن السلف بعده في حسن الخلق، وبسط الوجه، وتوطئة الكنف، وجميل المعاشرة، وكريم الصحبة، ما يطول ذكره ويتعب جمعه، وجاء عل النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وإن خير ما أوتي المرء بعد الإيمان بالله عز وجل خلق حسن " وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً في ذم سوء الخلق ما يطول ذكره، وأمر هذين الخلقين في فضله وحسنه، ونقض الآخر وقبحه، بين عند خواص العاقلين وعوام المتميزين، من أن يحتاج إلى الإطناب فيه والإسهاب في الاستشهاد عليه، وفقنا الله وإياكم من الأخلاق لكل ما يحمد ويستحسن، وأعاذنا مما يذم ويستهجن، فلن ندرك خيراً إلا بفضله ومعونته، ولن ندرأ شراً إلا بحوله وقوته.

عيش الفقراء وحساب الأغنياء
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن العتبي، عن سعيد، قال: سمعت أعرابياً، يقول: عجباً للبخيل المتعجل للفقر الذي منه هرب، والمؤخر للسعة التي إياها طلب، ولعله يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنك لم تر بخيلاً إلا وغيره أسعد بماله منه، لأنه في الدنيا مهتم بجمعه، وفي الآخرة آثم بمنعه، وغيره آمن في الدنيا من همه، وناج في الآخرة من إثمه.
قال القاضي: وفيما حكى لي من منثور كلام ابن المعتز: بشر مال البخيل بحادث أو وارث، ومن منظومه:
يا مال كل جامع ووارث ... أبشر بريب حادث أو وارث
سبب نكبة أبي أيوب المورياني وزير المنصور

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن الفضل الربعي، قال: حدثني أبي: قال: كان أبو جعفر المنصور في بعض أسفاره في أيام بني أمية تزوج امرأة من الأزد بالموصل عن ضر شديد أصابه حتى أكرى نفسه مع الملاحين يمد في الحبل، حتى انتهى إلى الموصل أو فعل ذلك لأمر خافه على نفسه، فتنكر وأكرى نفسه في مدادي السفن، فخطب هذه المرأة ورغبها في نفسه، ووعدها ومناها وأخبرنا أنه نابه القدر، وأنه من أهل بيت شرف، وأنها إن تزوجته سعدت به، فلم يزل يمنيها بهذا وشبهه حتى أجابته وأقام معها، وكان يختلف في أسبابه ويجعل طريقه عليها بما رزقه الله عز وجل، ثم اشتملت على حمل، فقال لها: أيتها المرأة! هذه رقعة مختومة عندك لا تفتحيها حتى تضعي ما في بطنك، فإن ولدت ابناً فسميه جعفراً وكنيه أبا عبد الله، وإن ولدت بنتاً فسميها فلانة، وأنا عبد الله بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فاستري أمري فإنا قوم مطلوبون، والسلطان إلينا سريع، وودعها وخرج، فقضي أنها ولدت ذكراً وأخرجت الرقعة وقرأت النسب فسمته جعفراً وضرب الدهر على ذلك ما تسمع له خبراً، ونشأ الصبي مع أخواله وأهل بيت أمه، وكان كيساً ذهناً لقناً واستخلف أبو العباس فقيل للمرأة: إن كنت صادقة في رقعتك وكان من كتبها صادقاً فإن زوجك الخليفة أمير المؤمنين، قالت: ما أدري صفوا لي صفة هذا الخليفة، قالوا: غلام حين اتصل وجهه، قالت: ليس هو هو، قيل: فاستري إذاً أمرك، ولم يلبث أبو العباس أن مات واستحق عندها اليأس، وأقبل ابنها على الأدب فتأدب وظرف وكتب ونزعت به همته إلى بغداد، فدخل ديوان أبي أيوب كاتب المنصور، وانقطع إلى بعض أهله فأتى عليه زمان يتقوت الكتب ويتزيد في أدبه وفهمه وخطه، حتى بلغ أن صار يكتب بين يدي أبي أيوب، إلى أن تهيأ أن خرج خادم يوماً إلى الديوان يطلب كاتباً يكتب بين يدي المنصور، فقال أبو أيوب للغلام: خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين، فدخل الغلام فكتب وكانت تتهيأ من أبي جعفر إليه النظرة بعد النظرة يتأمله، وألقيت عليه محبته واستجاد خطه واسترشق فهمه، فلبث زماناً لا يزال الخادم قد خرج فيقول: يا غلام خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين، واستراح أبو أيوب إلى مكانه، ورأى أنه قد حمل عنه ثقلاً، وبر الغلام ووصله وكساه كسوة تصلح أن يدخل بها إلى أمير المؤمنين، ثم إن أبا جعفر قال للغلام يوماً: ما اسمك؟ قال: جعفر، قال: ابن من؟ فسكت متحيراً، قال: ابن من ويحك؟ قال: ابن عبد الله قال: فأين أبوك؟ قال: لم أره ولم أعرفه، ولكن أمي أخبرتني أن أبي شريف، وأن عندها رقعة بخطه فيها نسبه، عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فساعة ذكر الرقعة تغير وجه المنصور، فقال: وأين أمك؟ قال: بالموصل، قال: وأين تنزلون؟ قال: في موضع كذا، قال: فتعرف فلاناً؟ قال: نعم هو إمام مسجد محلتنا، قال: أفتعرف فلاناً؟ قال: نعم بقال في سكتنا، فلما رأى الغلام أبا جعفر ينزع بأسماء قوم يعرفهم أدركته هيبة له، وجزع وتدمع، فأدركت أبا جعفر الرقة عليه فلم يتمالك أن قال: فلانة بنت فلان من هي منك؟ قال: أمي، قال: ففلانة؟ قال: خالتي، قال: ففلان؟ قال: خالي، فضمه إليه وبكى، وقال: يا غلام! لا يعلمن أبو أيوب ولا أحد من خلق الله تعالى ما دار بيني وبنيك، انظر انظر احذر احذر، فنهض الغلام فخرج، فقال له أبو أيوب لقد احتبست عند أمير المؤمنين، قال: كتبت كتباً كثيرة وأملها علي، قال: فأين هي؟ قال: جعلها نسخاً يتردد فيها حتى يحكمها ثم تخرج إلى الديوان ثم إن أبا جعفر جعل يقول في بعض الأيام لأبي أيوب: هذا الغلام الذي يكتب بين يدي كيس فاستوص به، قال: فاتهم أبو أيوب الغلام أنه يلقي إلى أبي جعفر الشيء بعد الشيء من خبره، ثم لم يلبث أن سأله عنه مرة بعد مرة فقذف في قلب أبي أيوب بغض الغلام، وأنه يقوم مقامه إن فقده أبو جعفر، وقذف في قلبه أنه يسعى عليه وأنه يخرج أخباره، فجعل إذا خرج الخادم يطلب كاتباً بعث معه غيره وأبو جعفر يزداد ولهاً إلى الغلام ويجن جنوناً وليس يمنعه من إدنائه وإظهار أمره إلا لأمر يريده، فلما رأى أن أبا أيوب يحبسه عنه عناداً، قال للخادم: اخرج إلى الديوان فجئني بفلان الغلام الذي كان يكتب بين يدي، فإن بعث معك أبو أيوب بغيره فقل:

لا، أمرني أمير المؤمنين ألا يدخل عليه غيره، ففعل الخادم ذلك فاستحق في قلب أبي أيوب ما حذره وحدثته به نفسه، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - قد تعرفت من أبي أيوب البغض والاستثقال بمكاني، وله غوائل لا يحيط بها علمي وأنا أخافه على نفسي، فقال له أبو جعفر: بارك الله عليك، فما أخطأت الذي في نفسي وهذا كله يا بني قد جال في صدري، فإذا كان غد فتعرض لأن يغلظ لك، فإذا أغلظ فقم فانصرف كأنك مغضب، ولا تعد إلى الديوان واجعل وجهك إلى أمك، وأوصل إليها هذا العقد وهذا الكيس وكتابي هذا، واحمل أمك ومن اتبعها من قرابتك وأقبل فانزل موضع كذا، فإني منفذ إليك خادماً يتفقد أمورك ويعرف خبرك، ولا تطلعن أحداً من الخلق طلع ما معك، وامض بهذا المال وبهذا العقد وأحرزه أولاً قبل رجوعك إلى الديوان، ثم قال للخادم: أخرجه من باب كذا وكذا، فخرج الغلام فأحرز ما كان معه ثم رجع إلى الديوان، وأبو أيوب في فكره من احتباسه عند المنصور، ورجع الغلام بوجه بهج مسرور لا يخفي ذلك عليه وظهور الفرح في وجهه وشمائله، فقال أبو أيوب: أحلف بالله لقد رجع هذا الغلام بغير الوجه الذي مضى به، ولقد دار بينه وبين أمير المؤمنين من ذكرى ما سره، واستشعر الوحشة منه وصرف أكثر عمله عنه، ثم لم يلبث أن أغلظ له، فقال الغلام: أنا إنسان غريب أطلب الرزق وأنت تستخف بي، فكأني قد ثقلت عليك فأنتحي عنك قبل أن تطردني، ثم قام فانصرف وافتقده أبو أيوب أياماً، ورأى أن أبا جعفر لا يسأل عنه ولا يذكره، ثم إن نفس أبي أيوب نازعته إلى علم حقيقة خبره، فأرسل من يسأل عنه في الموضع الذي كان نازلاً فيه، فقيل له: إنه قد تهيأ للسفر وتجهز جهازاً حسناً وشخص إلى أهله بالموصل، فقال أبو أيوب في نفسه: ومن أين له ما يتجهز به، وكم مبلغ ما ارتزق معي وارتفق به؟ لهذا الأمر نبأ، وجعلت نفسه تزداد وحشة منه ومن خبره إلى أن قيل له: قد كان أبو جعفر وصله بمال ووهب له شيئاً، فقال في نفسه: هذا الذي ظننت وقد ربصه لمكاني وينبغي أن يكون استأذنه في أن يخرج إلى أهله فيلم بهم ثم يرجع إليه فيقلده مكاني، فقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى طريق الموصل قرية قرية براً وبحراً، فإذا عرفت موضعه فاقتله وجئني بما معه، فشخص وتهيأ، ثم إن الغلام لما خرج عن بغداد رأى أنه قد أمن فقصر في مسيره، وكان يقيم في الموضع فيستطيبه اليوم واليومين والأكثر والأقل، فلحقه رسول أبي أيوب وعرفه، فباتا بقرية فقام إليه الرسول فخنقه وطرحه في البئر وأخذ خرجه وخرائط كانت معه، وركب دابة له ورجع إلى أبي أيوب وسلم ذلك إليه وشرح الخبر له، ففتش متاعه أبو أيوب فإذا المال والعقد فعرفه، وإذا كتاب المنصور بخطه إلى أمه فوجم أبو أيوب وندم وعلم أنه قد عجل وأخطأ، وأن الخبر لم يكن كما ظن، وعزم على الحلف والمكابرة إن عثر على شيء من أمره، وأبطأ خبر الغلام على أبي جعفر، واستبطأه في الوقت الذي ضرب له، فدعا خادماً من ثقاته ورجلاً من خاصته، فقال لهما: استقرئا المنازل إلى الموصل منزلاً منزلاً وقرية قرية، وأعطيا صفة الغلام حتى تدخلا الموصل، ثم اقصدا موضع كذا من الموصل فسلا عن فلانة، ووصف لهما كل ما أراد ففعلا، فلما انتهيا إلى الموضع الذي أصيب فيه الغلام أعلما خبره، وذكروا الوقت الذي أصيب فيه فإذا التاريخ بعينه، ثم مضيا إلى الموصل فسألا عن أمه فوجداها أشد خلق الله تعالى ولهاً إلى ابنها، وحاجة إلى علم خبره، فأطلعاها طلع حاله، وأمراها أن تستر أمرها، ثم رجعا إلى أبي جعفر بجملة خبره، فكادت أمه أن تقتل نفسها ولم ترد الدنيا بعده، وكان المنصور يذكره فيكاد ذكره يصدع قلبه، وأجمع أبو جعفر على الإيقاع بأبي أيوب عند ذلك، فاستصفى ماله ومال أهل بيته، ثم قتلهم جميعاً وأباد عصراءهم، وكان إذا ذكر أبا أيوب لعنه وسبه، وقال: ذاك قاتل حبيبي.، أمرني أمير المؤمنين ألا يدخل عليه غيره، ففعل الخادم ذلك فاستحق في قلب أبي أيوب ما حذره وحدثته به نفسه، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - قد تعرفت من أبي أيوب البغض والاستثقال بمكاني، وله غوائل لا يحيط بها علمي وأنا أخافه على نفسي، فقال له أبو جعفر: بارك الله عليك، فما أخطأت الذي في نفسي وهذا كله يا بني قد جال في صدري، فإذا كان غد فتعرض لأن يغلظ لك، فإذا أغلظ فقم فانصرف كأنك مغضب، ولا تعد إلى الديوان واجعل وجهك إلى أمك، وأوصل إليها هذا العقد وهذا الكيس وكتابي هذا، واحمل أمك ومن اتبعها من قرابتك وأقبل فانزل موضع كذا، فإني منفذ إليك خادماً يتفقد أمورك ويعرف خبرك، ولا تطلعن أحداً من الخلق طلع ما معك، وامض بهذا المال وبهذا العقد وأحرزه أولاً قبل رجوعك إلى الديوان، ثم قال للخادم: أخرجه من باب كذا وكذا، فخرج الغلام فأحرز ما كان معه ثم رجع إلى الديوان، وأبو أيوب في فكره من احتباسه عند المنصور، ورجع الغلام بوجه بهج مسرور لا يخفي ذلك عليه وظهور الفرح في وجهه وشمائله، فقال أبو أيوب: أحلف بالله لقد رجع هذا الغلام بغير الوجه الذي مضى به، ولقد دار بينه وبين أمير المؤمنين من ذكرى ما سره، واستشعر الوحشة منه وصرف أكثر عمله عنه، ثم لم يلبث أن أغلظ له، فقال الغلام: أنا إنسان غريب أطلب الرزق وأنت تستخف بي، فكأني قد ثقلت عليك فأنتحي عنك قبل أن تطردني، ثم قام فانصرف وافتقده أبو أيوب أياماً، ورأى أن أبا جعفر لا يسأل عنه ولا يذكره، ثم إن نفس أبي أيوب نازعته إلى علم حقيقة خبره، فأرسل من يسأل عنه في الموضع الذي كان نازلاً فيه، فقيل له: إنه قد تهيأ للسفر وتجهز جهازاً حسناً وشخص إلى أهله بالموصل، فقال أبو أيوب في نفسه: ومن أين له ما يتجهز به، وكم مبلغ ما ارتزق معي وارتفق به؟ لهذا الأمر نبأ، وجعلت نفسه تزداد وحشة منه ومن خبره إلى أن قيل له: قد كان أبو جعفر وصله بمال ووهب له شيئاً، فقال في نفسه: هذا الذي ظننت وقد ربصه لمكاني وينبغي أن يكون استأذنه في أن يخرج إلى أهله فيلم بهم ثم يرجع إليه فيقلده مكاني، فقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى طريق الموصل قرية قرية براً وبحراً، فإذا عرفت موضعه فاقتله وجئني بما معه، فشخص وتهيأ، ثم إن الغلام لما خرج عن بغداد رأى أنه قد أمن فقصر في مسيره، وكان يقيم في الموضع فيستطيبه اليوم واليومين والأكثر والأقل، فلحقه رسول أبي أيوب وعرفه، فباتا بقرية فقام إليه الرسول فخنقه وطرحه في البئر وأخذ خرجه وخرائط كانت معه، وركب دابة له ورجع إلى أبي أيوب وسلم ذلك إليه وشرح الخبر له، ففتش متاعه أبو أيوب فإذا المال والعقد فعرفه، وإذا كتاب المنصور بخطه إلى أمه فوجم أبو أيوب وندم وعلم أنه قد عجل وأخطأ، وأن الخبر لم يكن كما ظن، وعزم على الحلف والمكابرة إن عثر على شيء من أمره، وأبطأ خبر الغلام على أبي جعفر، واستبطأه في الوقت الذي ضرب له، فدعا خادماً من ثقاته ورجلاً من خاصته، فقال لهما: استقرئا المنازل إلى الموصل منزلاً منزلاً وقرية قرية، وأعطيا صفة الغلام حتى تدخلا الموصل، ثم اقصدا موضع كذا من الموصل فسلا عن فلانة، ووصف لهما كل ما أراد ففعلا، فلما انتهيا إلى الموضع الذي أصيب فيه الغلام أعلما خبره، وذكروا الوقت الذي أصيب فيه فإذا التاريخ بعينه، ثم مضيا إلى الموصل فسألا عن أمه فوجداها أشد خلق الله تعالى ولهاً إلى ابنها، وحاجة إلى علم خبره، فأطلعاها طلع حاله، وأمراها أن تستر أمرها، ثم رجعا إلى أبي جعفر بجملة خبره، فكادت أمه أن تقتل نفسها ولم ترد الدنيا بعده، وكان المنصور يذكره فيكاد ذكره يصدع قلبه، وأجمع أبو جعفر على الإيقاع بأبي أيوب عند ذلك، فاستصفى ماله ومال أهل بيته، ثم قتلهم جميعاً وأباد عصراءهم، وكان إذا ذكر أبا أيوب لعنه وسبه، وقال: ذاك قاتل حبيبي.

جميل وقول أحدهم فيه لن يفلح هذا أبدا
ً
حدثني أبو المنذر، قال: حدثني شيخ من أهل وادي القرى، قال: لما استعدى آل بثينة مروان بن الحكم على جميل وطلبه ربعي ابن دجاجة العبدي صاحب تيماء هرب إلى أقاصي بلادهم، فأتى رجلاً من بني عذرة شريفاً وله بنات سبع كأنهن البدور جمالاً، فقال: يا بناتي! تحلين بجيد حليكن والبسن جيد ثيابكن ثم تعرضن لجميل فإني أنفس على مثل هذا من قومي، فكان جميل إذا تزين ورآهن أعرض بوجهه فلا ينظر إليهن، ففعلن ذلك مراراً وفعله جميل، فلما علم ما أريد بهن أنشأ يقول:
حلفت لكي تعلمن أني صادق ... وللصدق خير في الأمور وأنجح
لتكليم يوم من بثينة واحد ... ورؤيتها عندي ألذ وأصلح
من الدهر أو أخلو بكن وإنما ... أعالج قلباً طامحاً حيث يطمح
قال: فقال لهن أبوهن: ارجعن، فوالله لا يفلح هذا أبداً.
أبو إسحاق الفزاري يرد على اتهام الرشيد له
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا يزيد بن محمد المهلبي، قال: حدثنا الأصمعي، قال: كنت جالساً بين يدي هارون الرشيد أنشده شعراً، وأبو يوسف القاضي جالس على يساره، فدخل الفضل بن الربيع، فقال: بالباب أبو إسحاق الفزاري، فقال: أدخله، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له الرشيد: لا سلم الله عليك ولا قرب دارك ولا حيا مزارك، قال: لم يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت الذي يحرم لبس السواد، قال: يا أمير المؤمنين، من أخبرك بهذا؟ لعل ذا أخبرك؟ وأشار إلى أبي يوسف - فعلى هذا لعنة الله وعلى أستاذه من قبله، والله يا أمير المؤمنين لقد خرج إبراهيم على جدك المنصور فخرج أخي معه، وعزمت على الغزو فأتيت أبا حنيفة فذكرت ذلك له، فقال لي: مخرج أخيك أحب إلي مما عزمت عليه من الغزو، ووالله ما حرمت السواد. فقال الرشيد: فسلم الله عليك وقرب دارك وحيا مزارك، اجلس يا أبا إسحاق، يا مسرور! ثلاثة آلاف دينار لأبي إسحاق، فأتى بها ووضعها في يده وخرج وانصرف، فلقيه ابن المبارك فقال: من أين أقبلت؟ فقال من عند أمير المؤمنين، وقد أعطاني هذه الدنانير، وأنا عنها غني، قال: فإن كان في نفسك منها شيء فتصدق بها فما خرج من سوق الرافقة حتى تصدق بها كلها.
كأس أم حكيم
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني عون بن محمد الكندي، قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، أبو أحمد إبراهيم، قال: ركب الرشيد يوماً بكراً فنظر إلى محمد الأمين يميل به سرجه، فقال: ما أصارك إلى هذا يا محمد؟ قال: أصارني إليه البارحة:
عللاني بعاتقات الكروم ... واسقياني بكأس أم حكيم
قال: فانصرف يا محمد، فلما رجع الرشيد وجه إليه بخادم ومعه كأس أم حكيم، وكان كأساً كبيراً فرعونياً، قد جعل فيه طوق ذهب ومقبض من ذهب، فإذا هو مملوء دنانير، وقال له: يقول لك أمير المؤمنين بعثت إليك بالذي أسهرك لتشرب فيه وتنتفع بما يصل معه، قال: فأعطى الخادم قبضة من دنانير، وفرق نصفه ما فيه على جلسائه وأعطى النصف خازنه وشرب في القدح ثلاثة أرطال رطلاً بعد رطل ورده، فكان مبلغ الدنانير عشرة آلاف دينار.
متى يقال الليلة الماضية، ومتى يقال البارحة
قال القاضي: جاء في هذا الخبر أن الأمين قال: بكراً أصابني البارحة، وهذا كلام مستفيض في العامة إطلاقهم إياه في خطابهم وفيما يروونه عن غيرهم، فأما أهل العلم بالعربية فيذهبون إلى أنه يقال في أول النهار إلى زوال الشمس لليلة الماضية كان كذا وكذا الليلة، فإذا زالت الشمس قالوا حينئذ: البارحة، وفي هذا الخبر ذكر الكأس، وقد ذهب قوم إلى أنها اسم للخمر واسم للإناء، قال الله تعالى ذكره: " يطاف عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين " وقيل إنها في قراءة عبد الله: صفراء، وقال الفراء: الكأس: الإناء بما فيه، فإذا أخذ ما عليه وبقي فارغاً رجع إلى اسمه إن كان طبقاً أو خواناً أو غير ذلك، وقال بعض أهل التأويل: الكأس الخمر، قال الله عز وجل: " إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً " وقال جل ذكره: " ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً " وأنشد أبو عبيدة:
وما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
وقال الأعشى:

وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
وقال آخر:
ومن لم يمت عبطة يمت هرماً ... الموت كأس والمرء ذائقها
العبطة: أن يموت الرجل من غير علة، ومن هذا قولهم: دم عبيط إذا كان طرياً قد خرج من جسم صحيح، وقال أبو حاتم السجستاني: لا يقال للموت كأس، قال القاضي: وهذا خطأ منه، قد يضاف الكأس إلى المنية، وقد توصف المنية بأنها كأس كما توصف بأنها رحى، ويضاف إليها الرحى فيقال: المنية رحى دائرة على الخلق، وللمنية على الناس رحى دائرة، وللموت كأس مرة، والموت كأس كريهة، ويقال شرب فلان كأس المنية، فيضاف الكأس إليها، قال مهلهل:
ما أرجى العيش بعد ندامي ... قد أراهم سقوا بكأس حلاق
أي بكأس المنية، لأن حلاق من أسماء المنية بمنزلة حذام وقطام، ورواه بكأس خلاق بالخاء فقال: يعني بكأس تصيبهم من الموت وهذا أكثر وأشهر من أن يخيل على عالم بالعربية، وأعجب بذهابه على أبي حاتم مع سعة معرفته، ولكنهم بشر وأنى إنسان يحيط بالعلم كله ولا يخفى عليه شيء من جليه فضلاً عن غامضه وخفيه، وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
أين القرون التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
وقال السجستاني: في البيت الذي فيه الموت إنما هو الموت كأس، قال: وقطع ألف الوصل لأنها في مبتدأ النصف الثاني وهذا يحتمل، وقال: أنشدناه الأصمعي لبعض الخوارج، وقال: ليس لأمية بن أبي الصلت، قال القاضي: وقد روت الرواة هذا الشعر لأمية بن أبي الصلت وأما المعنى الذي ذكره السجستاني من تجويز قطع ألف الوصل فقد جاء في الشعر كثيراً كقول الشاعر:
بأبي امرؤ ألشام بيني وبينه ... أتتني ببشر برده ورسائله
وقال آخر:
إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... ببث وتكثير الوشاة قمين
وقال آخر:
ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة ... على حدثان الدهر مني ومن جمل
وأحسن هذا الباب ما كان في الأوائل والأركان والأنصاف قال حسان:
لتسمعن وشيكاً في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا

القضاة في نظر أبي يوسف
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: سمعت أبا يوسف القاضي يقول: ما ولي القضاء أحد أفقه في دين الله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أعف عن الأموال من ابن أبي ليلى قال: فقلت: فابن شبرمة، قال: رجل مكثار، قال علي: وولى حفص بن غياث القضاء من غير مشورة أبي يوسف فاشتد عليه فقال بن الوليد والحسن اللؤلؤي تتبعا قضاياه، فتتبعناها فلما نظر إليها، قال: هذه قضايا ابن أبي ليلى، ثم قال لهما: تتبعا الشروط والسجلات ففعلا، فلما نظر فيها، قال حفص بن غياث ونظراؤه يعانون قيام الليل.
كم كان يصلي بهم لو أكلوا اللوزينج
حدثنا محمد بن مزيد البوشنجي، قال: سمعت سفيان بن وكيع بن الجراح، يقول: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: دعانا سفيان الثوري يوماً فقدم إلينا تمراً ولبناً خاثراً فلما توسطنا الأكل قال: قوموا بنا نصلي ركعتين شكراً لله تعالى قال سفيان بن وكيع: لو كان قدم إليهم شيئاً من هذا اللوزينج المحدث لقال لهم: قوموا بنا نصلي التراوح.
إغباب الزيارة
أنشدنا محمد بن أبي الأزهر، قال: أنشدني محمد بن يزيد المبرد:
عليك بإقلال الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكاً
فإني رأيت القطر يسلم دائماً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
قال ابن أبي الأزهر: فأنشدت هذين البيتين أبا بشر البندنيجي بإسكان بني سعيد فقال: هما في شعر طويل، وأنشدني القصيدة وهي طويلة، فقلت له: أنشدني المبرد هذين البيتين منذ ثلاثين سنة، قال: قد قلتهما أكثر من سبعين سنة، قال القاضي: في نحو هذا المعنى قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحق مخلق ... لديباجتيه فاغترب يتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
ومن البيان الحسن في هذا المعنى، ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " زر غباً تزدد حباً " .

أنشدنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال: أنشدني أبو بكر القرشي، قال: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
هل الدهر إلا ساعة ثم تنقضي ... بما كان فيها من عناء ومن خفض
فهونك لا تحفل بمشتاة عارض ... ولا فرحة سرت فكلتاهما تمضي

المجلس الثاني والعشرون
فضل العقل
حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي سعيد، أبو بكر البزاز، قال: حدثنا محمد بن عبد النور الحراني، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأنواع البر فتقرب إليه بأنواع العقل، تسبقهم بالدرجات والزلف عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة " .
قال القاضي: وهذا ما يبين به شرف العقل وفضله، وأن الأعمال الصالحة تزكو به ويتضاعف ثواب عاملها بحسب حظهم منه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الرجل ليكون من أهل الصلاة وأهل الصيام وأهل الجهاد - حتى عد سهام الخير - ويجازي إلا على قدر عقله " وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما استودع الله عز وجل عبداً عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما " .
وما روي عن العقل وفضله، وشرف منزلته، وعظيم نفعه، أكثر من أن يحصى.
وقد حدثنا الحارث بن محمد بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن حسين، عن عمرو بن حمزة، قال: حدثنا صالح المري، عن حسن، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك " . وإن في هذا ما يرغب في اقتباس العلم واكتساب الحكمة ورفع المرء قدره عن طبقة العوام، ومنزلة الهمج الطغام، فكم ذي علم ومعرفة وحكمة وبصيرة، قد نبه وسما وارتفع وعلا، وصار متبوعاً معظماً وزعيماً مقدماً، وكم من ذي قدر وحسب، ومنصب ونسب، ومال ونشب، وشرف في أصله، ومنزلة في أهله، قد هدم ما بناء له أهله وشيدوه، وخفض ما رفعوه، وحط ما علوه وعمدوه، وقد روينا أن بعض ولد روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب وجد في القبة التي بالبصرة، وهي التي يقال لها " خضراء روح " على سوءة، فقيل له: ويحك أفي محل شرفك؟! فقال:
ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصنيعا
ومما يستحسن في هذا المعنى قول القائل:
إن الفتى من يقول هأنذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
ولله در القائل:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... أبداً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ... ونفعل مثل ما فعلوا
وقد روينا أن زيد بن علي تمثل بهذين البيتين، ولقد كان رضوان الله عليه من أعلام الأبرار والأئمة الأخيار، سلك سبيل سلفه، واقتفى آثارهم فارتفع واعتلى، وأم أنوارهم فاستبصر واهتدى، ورفع قواعد بنيانهم، وشيد وثيق أركانهم، واتبع سبيلهم في نصرة حزب الإسلام وأوليائه، ومحاربة حرب الدين وأعدائه، وغضب لله جل جلاله من طغيان المترفين وعدوان المسرفين، فجاهد في سبيل ربه بنفسه ومن أطاعه من أهله المتقين، وأوليائه من أماثل المسلمين، وإخوانه في الملة والدين، وأبدى صفحته، وبذل في ذات الله ماله وصحبته، فقضى الله تعالى له بالتوفيق والسعادة، وختم له بالفوز والشهادة، ونقله إلى دار كرامته، وجعل أعداؤه بغرض الانقلاب إلى دار عذابه ونقمته.
حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا أبو معاذ المؤدب خلف بن أحمد، قال سمعت المازني ينشد:
ولرب ذي مال تراه مباعداً ... كالكلب ينبح من وراء الباب
وترى الأديب وإن دهته خصاصة ... لا يستخف به على الأبواب
ولقد أحسن ابن الرومي في قوله:
فلا تفتخر إلا بما أنت فاعل ... ولا تحسبن المجد يورث كالنسب
وليس يسود المرء إلا بفعله ... وإن عد آباء كراماً ذوي حسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده الناس في الحطب
وهذا باب يتسع ويكثر جمعه، ولنا فيه رسالة تشتمل على جملة كثيرة منه.
خبر سعد العشيرة

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن الكلبي، عن أبيه، قال: وفد سعد العشيرة في مائة من ولده إلى بعض ملوك حمير، وكان سعد قد عمر مائة وخمسين سنة، فلما دخل على الملك قال له: ما معك يا سعد؟ قال: عشيرتي، قال: أنت سعد العشيرة. فسمي سعد العشيرة، قال له الملك: إنه قد بلغني عنك رجاحة لب، ورصانة حلم، وأصالة رأي، ونفاذ في الأمور، مع ما جربت من تصرف الدهور، فهل أنت مخبري عما أسائلك عنه؟ فقال: أيها الملك: إن عقلي وقلبي مضغتان مني، حراهما الدهر كما حرى سائر جسمي، ولكني أبو روية ثاقبة ما خذلتني منذ أيدتني، فليقل الملك أسمع، فإن أوفق للصواب فبيمن الملك، وإن يخني الجواب، فبما ثلمته مني الأحقاب، قال له: يا سعد! ما صلاح الملك؟ قال: أيها الملك! معدلة شائعة، وهيبة وازعة، ورعية طائعة، فإن في المعدلة حياة الأنام، وفي الهيبة نفي الظلام، وفي طاعة الرعية التآلف والالتئام. قال له الملك: يا سعد! فمن أحمد الملوك إيالاً، وأحسنهم عند الرعية حالاً؟ قال: من كثرت في اصطناع المعروف رغبته، ومالت إلى الأضياف رحمته، وتخول بالمراعاة رعيته، واعتدلت بهيبته رأفته، قال: يا سعد! يستدرك عنه الملوك حسن المكانة؟ وتستبدل منه الفظاظة بالليانة؟ قال: بالمبالغة في طاعته، والانتهاء إلى مشيئته، ومجانية مسخطته، والتقرب إليه بموافقته، قال: فبم تؤمن سطوة الملك ويحتجب من بوادر عقوبته؟ قال: بالنصيحة غير الممذوقة، وأداء الأمانة غير المشوبة بالخيانة، وقطع لسان العتاب بالحيطة بالمغيب، والتحفظ عن إفشاء الكلمة في الطعن عليه، فإن الكلام إذا لفظه اللسان لم تملك إعادته إلى القلب، ولم يؤمن منه عثرة غير مقالة، وكبوة غير مغتفرة، قال: فأين يوجد الرأي الأصيل، والصواب الأليل؟ قال: عند الناصح اللبيب، الحازم الأريب، الذي إعلانه ككمنونه، ومبتذله كمصونه، قال: فبم يدرك علم الأمر في الولاج المازول والرأي المستور في مستقر التامور؟ قال: بإحدى خلتين، إما بالعشيرة المماطلة، والتجربة المصاولة، أو بالمحبة البالغة، والبصيرة الثاقبة، قال: من أحق الناس بالمعاونة على دهره وأحراهم بالمساعدة على أمره؟ قال: من جعلك سنداً لظهره، وألقى إليك مقاليد أمره، وجعل رجاءك عامر صدره، قال: بم تتأكد محبة الخاصة، ويستعطف رضا العامة؟ قال: ببسط يد العدل، أو إطلاق عقل البذل، والتجافي عن العثار، ما لم يخرج ذلك إلى انتشار، قال: فبم تحسن أحدوثة الملك؟ قال: بإرجائه العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن قبل الطلب، وتسليط الحلم والأناة على الطيش والنزق واستصلاح أولى الانقياد لاستجلاب أولى الرهق.

معنى الألفاظ اللغوية
قال القاضي: قول سعد العشيرة في عقله وقلبه: حراهما الدهر كما حرى سائر جسمي معناه نقصهما، يقال: حرى الشيء يحرى أي نقص، كما قال القائل:
في جسد ينمي وعقل يحري
وفي قوله: فبما ثلمته مني الأحقاب يعني السنين، قال الله عز وجل: " لابثين فيها أحقابا " والواحد حقب، قال الله تعالى: " أو أمضي حقبا " وقيل إن الحقب ثمانون عاماً، وقيل له: حقبة من الدهر يراد به المدة الطويلة، قال متم بن نويرة: يرثي أخاه مالكاً:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وقوله: أحمد الملوك إيالا: يعني الإصلاح والتدبير والسياسة، ويقال فلان حسن الإيالة إذا وصف بالإحسان في سياسة أمره، وقوله: الولاج المأزول يعني المدخل الضيق، ويقال: أصاب القوم أزل أي شدة وضيق.
قال الشاعر:
وإن أفسد المال الجماعات والأزل
فأما الإزل بكسر الهمزة: فالكذب، كما قال ابن دارة:
يقولون إزل حب ليلى وودها ... وقد كذبوا ما في مودتها إزل
وقوله: التامور يريد القلب، ويعبر بالتامور عن النفس وهو الدم، يقال نفس سائلة أي دم، والنفاس والنفساء من هذا.
الوليد يوافق الحجاج على عسفه بآل المهلب

حدثنا أبو إسحاق إسماعيل بن يونس، قال: حدثنا أبو توبة بن دراج، قال: قال الأصمعي: كتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك يذكر عسفه آل المهلب ومطالبته إياهم بما اختانوا من الأموال، فوقع في كتابه بخطه: ليس للخائن حرمة تبعث الأحرار عن ترفيههم، فإياك وتضييع حق قد وجب، وأمانة مال خطير يزين الدولة ويحصن الخلافة، ويؤخذ من خائن لم يشكر عليه، ويدفع إلى ناصح يحتاج إليه، فلما قرأ الحجاج كتابه أنشأ يقول متمثلاً بشعر من بني كلاب:
وإني لصوان لنفسي وإنني ... على الهول أحياناً بها لرحوم
وإني لأزري في خلال كثيرة ... على المرء أن يختال وهو لئيم

أنا أشعر أم أنت
؟
حدثنا محمد بن مزيد البوشنجي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أخبرني ثابت بن الزبير بن هشام، قال: قدم المأمون من خراسان ومعه شاعر، فلقيه أبو العتاهية فقال له: من أشعر أنا أم أنت؟ قال: أنت أشعر وأولى بالتقدمة ووقره، فقال أبو العتاهية: كم تقول في الليلة من بيت شعر؟ قال: ربما أقمت على القصيدة لا تكون ثلاثين بيتاً شهراً، قال: فأنا أشعر منك، ربما دعوت الجارية فأمليت عليها خمس مائة بيت، قال: فحمي الخراساني فقال: لو كنت أرضى مثل شعرك لقلت في الليلة خمسة آلاف بيت، قال: مثل أي شعر؟ مثل قولك:
ألا يا عتبة الساعه ... أموت الساعة الساعه
قال: فاستضحك القوم منه.
وحدثنا ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: قيل لأبي مهدية: يعجبك قول الشاعر:
ألا يا عتبة الساعه ... أموت الساعة الساعه
قال: لا، ولكنه يغمني،قال: فقيل له: فما يعجبك؟ قال: يعجبني:
جاء زهير عارضاً رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح
هل أحدث الدهر لنا نكبة ... أو فل يوماً لزهير سلاح
بدء أمر أبي العتاهية
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أحمد بن صدقة، قال: أخبرني محمد بن عبد الله الأسدي، قال: أخبرني إبراهيم بن سلام،قال: كان أبو العتاهية يعمل الفخار، وكان أبو العتاهية معتوهاً، وكان يعرف بإبراهيم المجنون، قال: فجاء إنسان يوماً فصاح: أين إبراهيم المجنون؟ فقال أبو العتاهية:
لا ذنب إن كان ذا جنونا ... كذا أراد الله أن أكونا
وانطلق يقول الشعر واشتهر به وبإحسانه فيه.
يقول شعراً وهو لا يدري
حدثنا محمد بن محمود الكاتب، قال: حدثني عبدوس بن مهدي بالكرخ، قال: نزلت على ابن أبي البغل عند تقلده الإشراف على أعمال الجبل، فزارته مغنية كان بها لهجاً على قلة إعجابه بالنساء، فإنا لليلة ونحن قعود بالبستان نشرب وقد طلع القمر، فهبت ريح عظيمة فقلبت صوانينا التي كان فيها شرابنا فشيلت وأقبل الغلمان يسقوننا، فسكر ابن أبي البغل على ضعف شربه، وقام إلى مرقده وأخذنا معه والمغنية، فلما حصلنا فيه استدعى قدحاً ولنا مثله، وأنشأ يقول:
مغموسة في الحسن معشوقة ... تقتل ذا الصب وتحييه
بات يرينيها هلال الدجى ... حتى إذا غاب أرتنيه
وطرح الشعر على المغنية فلقنته وغنتنا به، وشربنا القدح وانصرفنا، فلما كان من غد وحضرنا المائدة وهي معنا فاتحناه بما كان منه، فحلف أنه لم يعقل بما جرى ولا بالشعر، واستدعى دفتره فأثبت البيتين فيه.
طرأ الواغل برغم هروبهم إلى الصحراء
حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق المعروف بحرمي، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن البصري ويعرف بالمخضوب، بمكة سنة خمسين ومائتين، قال: حدثني ابن عائشة: أن ثلاثة فتيان من فتيان أهل البصرة وكانوا يتنادمون، فتطربوا يوماً إلى الصحراء والخلوة فيها ممن يغل عليهم في شرابهم وينبذ عليهم، فخرجوا في غب مطر إلى ظهر البصرة فأخذوا في شرابهم ولهوهم يتناشدون حتى كربت الشمس أن تغيب، فإذا بأعرابي كالنجم المنقض يهوى حتى جلس بينهم، فقال بعضهم لبعض: قد علمنا أن مثل هذا اليوم لا يتم لنا ثم قال له أحدهم:
أيها الواغل الثقيل علينا ... حين طاب الحديث لي ولصحبي
ثم قال الآخر:
خل عنا فأنت أثقل والل ... ه علينا من فرسخي دير كعب
ثم قال الثالث:
ومن الناس من يخف ومنهم ... كرحي البزر ركبت فوق قلبي
فقال الأعرابي:

لست بالبارح العشية والل ... ه لشج ولا لشدة ضرب
أو ترون بالكبار مشاشي ... وتعلون بعد ذاك بقعب
وطرح قعبا كان معلقاً فضحكوا من ظرفه وحملوه معهم إلى البصرة فلم يزل نديماً لهم.

الواغل والوارش
قال القاضي: الواغل الذي يغل على الشرب من غير أن يدعوه الناس، قال امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
ويقال للذي يفعل مثل هذا في الطعام وارش.
احتكم يا أبا السمط
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن الكاتب، قال: حدثنا أبو موسى يعني عيسى بن إسماعيل البصري، قال: حدثني القتبي، قال: قدم معن ابن زائدة بغداد فأتاه الناس وأتاه ابن أبي حفصة، فإذا المجلس غاص بأهله، فأخذ بعضادتي الباب ثم قال:
وما أحجم الأعداء عنك تقية ... عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الجود والحتف فيهما ... أبى الله إلا أن يضر وينفعا
فقال معن: احتكم يا أبا السمط؟ فقال: عشرة آلاف، فقال معن: ربحت والله عليك تسعين ألفاً.
مكافأة بغا على شجاعته
حدثنا محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن عبد الأعلى الكاتب، قال: حدثنا جدي علي بن الحسين بن عبد الأعلى، قال:كان عبد الله بن طاهر قد أهدى للمعتصم شهربين ملمعين ذكر أن خراسان لم تخرج مثلهما، فسأله بغا أن يحمله على أحدهما فأبى وقال: تخير غيرهما ما شئت فخذه، قال: فخرجنا ولم يأخذ شيئاً فلما كنا بطبرستان عرض له قوم من أهلها، فقالوا: أعز الله الأمير! إن في بعض الغياض سبعاً قد استكلب على الناس وأقناهم، فقال: إذا أردت الرحيل غداً فكونوا معي حتى تقفوني على موضعه، قال: فلما رحلنا من غد حضر جماعة منهم فانفرد معهم في عشرين فارساً من غلمانه، ومعه قوسه ونشابتان في منطقته، قال: فصاروا به إلى الغيضة فثار السبع في وجهه من بينهم، قال: فحرك فرسه من بين يديه وأخذ نشابة من النشابتين فرماه في استه، فمر السهم فيها إلى الريش، وركب السبع رأسه، قال: وعاد بغا إليه فما اجترأ أحد على النزول إليه حتى نزل بغا فوجده ميتاً، قال: فشبرناه فكان من رأسه إلى رأس ذنبه ستة عشر شبراً ، ووجدناه أحص الشعر إلا معرفته، قال: فكتبنا بخبره إلى المعتصم، فلحقنا جواب كتابنا بحلوان يذكر فيه أنه قد تفاءلت بقتل السبع، ورجا أن يكون من علامات الظفر ببابك، وأنه قد وجه إلى بغا بالشهربين اللذين كان طلب أحدهما فمنعه، وبسبع خلع من خاصة خلعه وثيابه، وخمس مائة ألف درهم صلة له وجزاء على قتله السبع، قال: وإنما أراد المعتصم بذلك إضراؤه على طاعته ومجاهدة عدوه.
قال القاضي: قوله في السبع وجدناه أحص: لا شعر عليه، كما قال الشاعر:
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع
أول ما ظهر من فهم سليمان عليه السلام

حدثنا محمد بن الحسين بن زياد المقري، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا صفوان بن صالح، قال: أخبرنا الوليد، قال: أخبرنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس، قال: لما تزوج داود عليه السلام بتلك المرأة، وولدت له سليمان بن داود بعدما تاب الله عز وجل عليه، غلاماً طاهراً نقياً فهماً عاقلاً عالماً، وكان من أجمل الناس وأعظمه وأطوله، فبلغ مع أبيه حتى كان يشاوره في أموره ويدخله في حكمه، فكان أول ما عرف داود من حكمته وتفرس فيه النبوة أن امرأة كانت كسيت جمالاً، فجاءت إلى القاضي تخاصم عنده، فأعجبته فأرسل إليها يخطبها، فقالت: ما أريد النكاح فراودها على القبيح، فقالت: أنا عن القبيح أبعد، فانقلبت منه إلى صاحب الشرطة فأصابها منه مثل الذي أصابها من القاضي، فانقلبت إلى صاحب السوق فكان منه مثل ذلك، فانقلبت منه إلى حاجب داود فأصابها منه ما أصابها من القوم، فرفضت حقها ولزمت بيتها فبينا القاضي وصاحب الشرطة وصاحب السوق والحاجب جلوس يتحدثون فوقع ذكرها، فتصادق ا لقوم بينهم وشكا كل واحد منهم إلى صاحبه ما أصابه من العجب بها، قال بعضهم: وما يمنعكم وأنتم ولاة الأمر أن تتلطفوا بها حتى تستريحوا منها فاجتمع رأي القوم على أن يشهدوا أن لها كلباً وأنها تضطجع فترسله على نفسها حتى ينال منها ما ينال الرجل من المرأة، فدخلوا على داود عليه السلام، فذكروا له أن امرأة لها كلب تسمنه وترسله على نفسها حتى يفعل بها ما يفعل الرجل بالمرأة فكرهنا أن نرفع أمرها إليك حتى تتحقق، فمشينا حتى دخلنا منزلاً قريباً منها في الساعة التي بلغنا أنها تفعل ذلك، فنظرنا إليها كيف حلته من رباطه ثم اضطجعت له حتى نال منها ما ينال الرجل من المرأة، ونظرنا إلى الميل يدخل في المكحلة ويخرج منها، فبعث داود عليه السلام فأتى بها فرجمها، فخرج سليمان يومئذ وهو غلام حين ترعرع ومعه الغلمان ومعه حصانه يلعب، فجعل منهم صبياً قاضياً آخر على الشرطة وآخر على السوق وآخر حاجباً وآخر كالمرأة، ثم جاءوا يشهدون عند سليمان مثل ما شهد أولئك عند داود عليه السلام يريدون رجم ذلك الصبي كما رجمت المرأة، قال سليمان عند شهادتهم:فرقوا بينهم، ثم دعا بالصبي الذي جعله قاضياً، فقال: أيقنت الشهادة؟ قال: نعم. قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أسود، قال: نحوه، ونادى بالذي جعل على الشرطة، فقال له: أيقنت الشهادة؟ قال: نعم. قال: فما كان لون الكلب؟ قال أحمر، قال: نحوه، ثم دعا بصاحب السوق فقال: أيقنت الشهادة؟ قال: نعم، قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أبيض قال: نحوه، ثم دعا بالذي جعله حاجباً، فقال: أيقنت الشهادة؟ قال:نعم. قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أغبش، قال: أردتم أن تغشوني حتى أرجم امرأة من المسلمين، فقال للصبيان: ارجموهم، وخلي سبيل الصبي الذي جعله امرأة ورجع إلى حصانه، فدخلوا على داود عليه السلام فأخبروه الخبر، فقال داود: علي بالشهود الساعة واحداً واحداً فأتى بهم فسأل القاضي: ما كان لون الكلب؟ قال: أسود، ثم أتى بصاحب الشرطة فسأله فقال: أبيض، ثم أتى بصاحب السوق فسأله فقال: كان أحمر، ثم أتى بالحاجب فسأله فقال: كان أغبش، فأمر بهم داود عليه السلام فقتلوا مكان المرأة، فكان هذا أول ما استبان لداود عليه السلام من فهم سليمان عليه السلام.
وقد حدث في أيام الدولة العباسية في وديعة أودعها بعض الشهود بواسط، فأبدلها واختان صاحبها فيها ما يضارع هذه القصة من بعض جهاتها، نحن نأتي بها فيما نستأنفه من مجالس كتابنا هذا إن شاء الله.

المجلس الثالث والعشرون
من مكارم الأخلاق

حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا بن يحيى المحارمي، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي، قال: حدثنا داهر بن نوح، قال: حدثنا أبو زيد الأنصاري، قال: حدثني عبد الصمد بن سليمان، عن سكين ابن أبي سراج، قال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: أنفعهم للناس، وإن من أحب الأعمال إلى الله تعالى سروراً يدخل على مسلم، أو يكشف عن كربه أو يسد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف شهرين في المسجد، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاً، ومن مشى مع أخ له في حاجة حتى يثبتها ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وسوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل " .
قال القاضي: قال أبو العباس بن سعيد في سكين، يقال سكين بن أبي سراج وسكين بن سراج، قال القاضي: وفي هذا الخبر ترغيب في أنواع من أفعال الخير وأبواب البر ومكارم الأخلاق، وذم لسوء الخلق وتكريه له، وكل فصل من فصول هذا الخبر قد أتى في معناه أخبار، ورويت في مجالسه آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين، ومن تقدمنا من الأئمة الماضين والسلف الصالحين، والخاصة من علماء المسلمين وحكماء أهل الدين، وكتابنا هذا متضمن لكثير منه متفرقاً في المجالس المرسومة فيه، وحقيق على من كرمت نفسه عليه، وحببت منافعها إليه، أن يسعى في اكتساب ما يزينها ويصلحها، ويهذب أخلاقه وينقحها، ويهجر مذموم الخلائق ويطرحها، نسأل الله المعونة على ذلك بفضله وطوله، وقوته وحوله.

خبر عمرو بن المسبح أرمى عربي
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، قال: حدثني جميل بن مراد الطائي من بني معن، عن أشياخه، قال: كان عمرو بن المسبح أرمى عربي على وجه الأرض فأدرك امرأ القيس وله يقول امرؤ القيس:
رب رام من بني ثعل
وعاش حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمسين ومائة سنة فسأله عن الصيد ، فقال " كل ما أصميت ودع ما أنميت " وفيه يقول رجل من طييء:
نعب الغراب وليته لم ينعب ... بالبين من سلمى وأم الحوشب
ويروى زعب الغراب وهي لغة، قال القاضي: وكأن زعب في هذه اللغة من رفع الشيء وأخذه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد بن عمرو: " وأرغب لك من المال " قال الشاعر:
ليت الغراب رمى حماطة قلبه ... عمرو بأسهمه التي لم تلغب
ويروى تغلب، واللغاب عيب في السهام، وهو اختلاف في الريش التي يراش بها واللؤام خلافه وهو محمود، وذكر ابن الكلبي أن عمراً هذا كان يمر به السرب من القطا يطير في السماء، فيقول: أيتها تريدون؟ فيشار له إلى واحدة فيصرعها، قوله: كل ما أصميت ودع ما أنميت، يقال: أصمي الرجل الصيد إذا أصابه فمات بحضرته، وأنماه إذا أصابه فتحامل فعاب عنه ثم مات وأشواه إذا أخطأه ويقال: هذا شوى إذا لم يصب المقتل، قال الشاعر:
وكنت إذا الأيام أحدثن نكبة ... أقول شوى ما لم يصبن صميمي
ويقال: أشوي إذا أخطأ الصميم وأصاب الأطراف كاليدين والرجلين، قال امرؤ القيس:
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... له حجبات مشرفات على الفال
وقد يقال لجلدة الرأس شواة وتجمع شوا، وقال بعض أهل التأويل في قوله عز ذكره " نزاعة للشوى " أن معناه الأطراف، وقيل: فروة الرأس، وقيل الهام، وقيل العصب والعقب، وقد اختلف الفقهاء في أكل الصيد إذا أتاه راميه وغاب عن عينه فأحله بعضهم، وحرمه بعضهم على ظاهر الخبر الذي ذكرناه، وقدر آخرون لغيبته مدة على اختلاف منهم في قدرها، قال القاضي: وأرى أنه قيل للرامي في الموضع الذي وصفنا لإصابته الصميم، وأصمى أصله عندي أصمم فاستثقل التضعيف فقيل أصمي، وأشبعت فتحة الميم الأولى فصارت ألفاً مكان الميم الثانية وبدلاً منها، والعرب تقول: تمطى فلان من المطا وهو الظهر وأصله تمطط، ويقولون تقضى من القضة وأصله تقضض، قال الراجز:
داني جناحيه من الطور فمر ... تقضي البازي إذا البازي كسر
وهذا الباب كثير جداً، وما وجدت أحداً سبقني إلى ما قلت في الصميم

وهو بين، ومن الشوى بمعنى فروة الرأس، قول الشاعر:
إذا هي قامت تقشعر شواتها ... ويشرق بين الليث منها إلى الصقل
وقال الأعشى:
قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيباً شواته
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: من رواه هكذا فقد صحف، وزعم أنه سراته بالسين والراء يعني أعلاه، وما ذكره أبو عمرو أولى بالتصحيف، ورواية البيت بالشين والواو،وقد ثبت وصحت في تأويلها وعرفت، وقول أبي عمرو في السراة صحيح لو أتى به الشاعر، ومن السراة قول امرئ القيس:
كأن سراته وجدة متنه ... مدك عروس أو صراية حنظل
وقد روى أن أبا عمرو لما تبين صحة الرواية بالشين رجع إليها، وقد ذكرنا كلاماً في هذا الفصل أشبع من هذا في كتابنا الذي أمللناه في شرح مختصر الجرمي في النحو.

لم يسمع بأسرة دخلت الإسلام كهؤلاء
وحدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، عن أبيه، قال: حدثني الوليد بن عبد الله الجعفي، عن أبيه، عن أشياخ قومه قالوا: كانت عند أبي سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد الله بن الذؤيب بن سلمة بن عمرو بن ذهل بن مران بن جعفي امرأة منهم فولدت له سبرة وعزيزاً ثم ماتت فورثت ابناها إبلاً، ثم تزوج أبو سبرة أخرى فجفا ابنيه ونحاهما في إبلهما التي ورثاها عن أمهما، فلما بلغهما مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم قال سبرة لمولى لأمه كان يرعى عليه: ابغني ناقة كنازاً ذات لبن، فقال القاضي: هي الكثيرة اللحم المجتمعة الجسم، فأتاه بها فركبها وهو يقول لأبيه:
ألا أبلغا عني يزيد بن مالك ... ألما يأن للشيخ أن يتذكرا
رأيت أبانا صد عنا بوجهه ... وأمسك عنا ماله وتنمرا
ثم توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأقبل أخوه عزيز، فقال للمولى: أين أخي؟ قال: ندت له ناقة فذهب في طلبها، فنظر في الإبل فلم ير شيئاً، فقال للمولى: لتخبرني، فأخبره وأنشده البيتين، فدعا بناقة فركبها وهو يقول:
ألا أبلغا عني معاشر مذحج ... فهل لي من بعد ابن أمي معبر
ولحق بالنبي صلى الله عليه فأسلم، ثم أقبل أبو سبرة فقال للمولى: أين ابناي؟ فأخبره خبرهما وأنشده شعرهما، فركب وهو يقول:
وسبرة كان النفس لو أن حاجة ... ترد ولكن كان أمراً تيسرا
وكان عزيز خلتي فرأيته ... تولى ولم يقبل علي وأدبرا
ثم لحق بهما وخلف عند المولى غلاماً له يقال له شنفر، فمكث المولى أياماً ثم لحق بهم وأنشد يقول:
بدلت أنياباً حيالاً وشنفرا ... بأهلي لا أرضى بهم من أولئك
قال القاضي: الأنياب جمع ناب وهي الناقة المسنة، والحيال: جمع حائل وهي التي حالت عن أن تشتمل على حمل، فأتى أبو سبرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابناه فأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعزيز: ما اسمك؟ قال: عزيز، قال: لا عزيز إلا الله، أنت عبد الرحمن، وقال أبو سبرة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بظهر كفي سلعة قد منعتني من خطام راحلتي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فجعل يضرب به على السلعة ويمسحها فذهبت، ودعا له ولابنيه وأقطعه جروان وادياً في بلاد قومه، قال ابن الكلبي: فلم يسمع لأهل بيت أجابوا إلى الإسلام طوعاً بمثل هؤلاء.
خبر مقتل عمرو ذي الكلب

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، عن الذماري، قال: دخل عمرو بن معدي كرب الزبيدي على عمر رضي الله عنه يوماً، فقال له: يا أبا ثور! أخبرني بأعجب ما رأيت، فقال: إني أخبرك يا أمير المؤمنين أني خرجت يوماً أريد حياً من أحياء العرب حتى إذا ما كنت بواد يقال له بطن شريان إذا أنا برجل مفترس أسداً قد أدخل رأسه في جوفه، وهو يلغ في دمه كما يفترس الأسد الناس والبهائم ويلغ في دمائهم، فهالني ذلك وراعني وظننته شيطاناً ثم عاتبت نفسي، فصحت بالرجل فوالله ما نهنه صياحي به حتى صحت به صيحة أخرى فلم يبل، فصحت الثالثة فرفع رأسه ونظر إلي وعيناه كالجمرتين، ثم أعاد رأسه في جوف الأسد احتقاراً لي، فوقفت أنظر إليه تعجباً منه، فأقبلت حية كان على طريقها تكون شبراً أو نحوه فتعثرت به فلدغته لدغة في منكبه كما كان باركاً على الأسد، فصاح منها صيحة ثم أطرق فلم أره يتحرك كما كان قبل ذلك، فدنوت منه فإذا سيف له وقوس موضوعان، وفرس مشدود فأخذت سلاحه، فلم يتحرك فأممته ودنوت منه وضربت بيدي إلى ذراعيه فتبعتني والله يده من الكف فوقعت، فقلت: إن هذا للعجب، لا أبرح حتى أعلم علمه عند بعض من يمر فأسأله فإذا كلب رابض ناحية، فأقبلت السباع والنسور فحماه الكلب فلما جنني الليل انصرفت وتركته على هيئته فمضى لذلك زمن، فبينا أنا بسوق عكاظ في أيام الموسم في أجمع ما كان الناس، إذا امرأة تنشد الرجل فعرفت النعت والصفة، فقلت: أنا صاحب الرجل، وهذا سيفه وقوسه، قال: فقالت: يا عمرو!إنه لا يجمل بمثلك الكذب وأنت فارس قومك، فأسألك باللات والعزى إلا صدقتني، فخبرتها الخبر، فقالت: صدقت، وإنما كان يفعل ذلك لأن أسداً مرة عدا على أخ كان له يقال له صخر فأكله، فآلى على نفسه ألا يلقى أسداً إلا افترسه وولغ في دمه، وقال: إنما هو كلب، فسمى عمراً ذا الكلب، وأنا أخته الجنوب، وبكته في شعر تقول فيه:
وكل حي وإن طالت سلامتهم ... يوماً طريقهم في الشر مركوب
أبلغ هذيلاً وخصص في سراتهم ... عني مقالاً وبعض القول تكذيب
بأن ذا الكلب عمراً خيرهم نسباً ... ببطن شريان يعوي عنده الذيب
تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب
الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها ... مثعنجر من نجيع الجوف أثغوب

أيهما أجود
؟
حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي، قال حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثنا عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، وحدثني الحسن بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: وحدثنا عبد الله بن ضحاك، قال: حدثنا هشام بن محمد، عن عوانة، قال: وفد عبيد الله بن العباس على معاوية بن أبي سفيان، فلما كان ببعض الطريق عارضته سحابة فأم أبياتاً من الشعر، فإذا هو بأعرابي قد قام إليه فلما رأى هيئته وبهاءه، وكان من أحسن الناس شارة وأحسنهم هيئة، قام إلى عنيزة له ليذبحها فجاذبته امرأته ومانعته، وقالت: أكل الدهر مالك ولم يبق لك ولبناتك إلا هذه العنيزة يتمتعون منها ثم تريد أن تفجعهن بها، فقال: والله لأذبحنها، فذبحها أحسن من اللؤم، قالت: إذن والله لا تبقي لبناتك شيئاً فأخذ العنيزة - وأضجعها، وقال:
قرينتي لا توقظي بنيه ... إن توقظيها تنتحب عليه
وتنزع الشفرة من يديه ... أبغض بهذا وبذا إليه

ثم ذبح الشاة وأضرم ناراً وجعل يقطع من أطايبها ويلقيه على النار ثم يناوله عبيد الله ويحدثه في خلال ذلك بما يلهيه ويضحكه، حتى إذا أصبح عبيد الله وانجلت السحابة وهم بالرحيل قال لقيمه: ما معك؟ قال: خمس مائة دينار، قال: ألقها إلى الشيخ، قال: القيم جعلت فداك، إن هذا يرضيه عشر ما سميت وأنت تأتي معاوية ولا تدري على ما توافقه على ظاهره أم على باطنه، قال: ويحك إنا نزلنا بهذا وما يملك من الدنيا إلا هذه الشاة فخرج لنا من دنياه كلها، وإنما جدنا له ببعض دنيانا فهو أجود منا، ثم ارتحل فأتى معاوية فقضى حوائجه، فلما انصرف وقرب من رحل الأعرابي قال لوكيله: انظر ما حال صاحبنا، فعول إليه فإذا إبل وحال حسنة وشاء كثير، فلما بصر الأعرابي بعبيد الله قام إليه فأكب على أطرافه يقبلها، ثم قال: بأبي أنت وأمي، قد مدحتك وما أدري من أي خلق الله أنت ثم أنشده:
توسمته لما رأيت مهابة ... عليه وقلت: المرء من آل هاشم
وإلا فمن آل المرار فإنهم ... ملوك وأبناء الملوك الأكارم
فقمت إلى عنز بقية أعنز ... فأذبحها فعل امرئ غير نادم
فعوضني منها غناي وإنما ... يساوي لحيم العنز خمس دراهم
أفدت بها ألفاً من الشاء حلبا ... وعبداً وأنثى بعد عبد وخادم
مباركة من هاشمي مبارك ... خيار بني حواء من نسل آدم
فلله عيناً من رأى لعنيزة ... أفادت وراشت بعد عشر قوادم
فقلت لعرسي في الخلاء وصبيتي ... أحق ترى هذا أم أحلام نائم
قال عبيد الله: قد أصبت وأنا من ولد العباس وأنا من آل المرار، فبلغت معاوية، فقال: لله در عبيد الله، من أي بيضة خرج، وفي أي عش درج، عبيد الله معلم الجود، وهو والله كما قال الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا

مطايب الجزور وأطايب الفاكهة
قال القاضي: في هذا الخبر: وجعل يقطع من أطايبها، والصواب من مطايبها هكذا يقال في اللحم، والعرب تقول: مطايب الجزور وأطايب الفاكهة، والمطايب من الجمع الذي لا واحد له على منهاج لفظه، وقياسه مثل ملامح ومشابه وهذا كثير. وقد حكى الفراء أنه سأل بعض العرب عن الواحد في مطايب الجزور، فحكى عنه ما معناه أنه لم يكن عنده فيه شيء يحفظه، وأنه أخذ يتكلف فيه قولاً يستخرجه وجعل يقول: مطيبة وأنه ضحك من هذا من قوله مطيبة، وقول الحطيئة أحسنوا البنا هكذا رأيته بضم الباء. وقد حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد القرشي، قال: حدثنا الأصمعي، قال: أتيت شعبة يوماً وعنده حماد بن سلمة وهما يتكلمان في حديث، فقال له شعبة: يا أبا سلمة! هذا الفتى الذي ذكرته لك، فقال لي حماد بن سلمة كيف تنشد قول الحطيئة: أولئك قوم...، فابتدأت القصيدة من أولها:
ألا طرقتنا بعدما هجعت هند ... وقد سرن خمساً واتلأب بنا نجد
إلى أن بلغت البيت:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
فقال لي حماد بن سلمة: يا بني! إن العرب تقول: بنى يبني بناء في العمران، ويقولون في الشرف: بنا يبنو بناء فأنشد هذا: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلينا، فعرفت قدر حماد بن سلمة من ذلك اليوم، فما كنت أنشده إلا ما كنت أتقنه.
قال القاضي: والبناء في الرباع والمساكن ممدود مكسور الباء في لغات عامة العرب، وبهذه اللغة جاء القرآن، قال الله تعالى: " والسماء بناء " ، وذكر الفراء أن من العرب من يقصر البناء ها هنا.
أعرابي يشرب بجزة صوف فتعاتبه امرأته
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: حدثنا أبو نصر، عن الأصمعي، قال: شرب أعرابي بجزة صوف، فلامته امرأته وعتبت عليه، فأنشأ يقول:
عتبت علي لأن شربت بصوف ... فلئن عتبت لأشربن بخروف
ولئن عتبت لأشربن بنعجة ... ذرءاً ومن بعد الخروف سحوف
الذرء: التي في رأسها بياض، والسحوف: سمينة.

ولئن عتبت لأشربن بلقحة ... صهباء مالئة الإناء صفوف
ولئن عتبت لأشربن بصاهل ... ما فيه من هجن ولا تقريف
الهجين: الذي أمه من غير جنس أبيه، والمقرف مثله.
ولئن عتبت لأشربن بواحدي ... ويكون صبري بعد ذاك حليفي
فلقد شربت الخمر في حانوتها ... صفراء صافية بأرض الريف
ولقد شهدت الخيل تقرع بالقنا ... وأجبت صوت الصارخ الملهوف
قال أبو بكر بن الأنباري: إني وجدت بغير هذا الإسناد أن امرأته أجابته فقالت:
ما إن عتبت لأن شربت بصوف ... أو أن تلذ بلقحة وخروف
فاشرب بكل نفيسة أوتيتها ... وملكتها من تالد وطريف
وارفع بطرفك عن بني فإنه ... من دونه شغب وجذع أنوف

فطنة قاض
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا إدريس الحداد، قال: حدثنا هارون الحمال، عن يزيد بن هارون، قال: تقلد القضاء بواسط رجل ثقة كثير الحديث ما أظنه إلا أكره على القضاء والله أعلم - فجاء رجل فاستودع بعض الشهود كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف دينار، فلما حصل الكيس عند الشاهد، وطالت غيبة الرجل، قدر أنه قد هلك، فهم بإنفاق المال، ثم دبر ففتق الكيس من أسفله وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم وأعاد الخياطة كما كانت، وقدر أن الرجل وافى وطالب الشاهد بوديعته فأعطاه الكيس بختمه، فلما حصل في منزله فض ختمه فصادف في الكيس دراهم فرجع إلى الشاهد، وقال له: عافاك الله، اردد علي مالي فإني استودعتك دنانير والذي وجدت دراهم مكانها، فأنكر ذلك واستعدى عليه القاضي المقدم ذكره، فأمر بإحضار الشاهد مع خصمه، فلما حضرا سأل الحاكم: مذ كم أودعته هذا الكيس؟ قال: مذ خمس عشرة سنة، فأقبل على الشاهد، فقال: ما تقول؟ قال: صدق هو عندي منذ خمس عشرة سنة، فأخذ القاضي الدراهم وقرأ شكلها فإذا هي دراهم منها ما قد ضرب منذ سنتين وثلاثة ونحو ذلك فأمره أن يدفع الدنانير إليه فدفعها إليه أو مكانها وأسقطه، فقال له: يا خائن ونادى مناديه: ألا إن فلان بن فلان القاضي قد أسقط فلان بن فلان الشاهد، فاعلموا ذلك ولا يغترر به أحد بعد اليوم، فباع الشاهد أملاكه بواسط، وخرج منها هارباً فلا يعلم عنه خبر، ولا أحس منه أثر.
رأي أبي يوسف القاضي فيمن يشهدون عنده
حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن قال حدثني بعض أصحابنا، قال: قال الرشيد لأبي يوسف القاضي: بلغني أنك تقول إن هؤلاء الذين يشهدون عندك وتقبل أقوالهم متصنعة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال وكيف ذلك؟ قال: لأن من صح ستره وخلصت أمانته لم يعرفنا ولم نعرفه، ومن ظهر أمره وانكشف ستره لم يأتنا ولم نقبله، وبقيت هذه الطبقة وهم هؤلاء المتصنعة الذين أظهروا الستر وأبطنوا غيره، فتبسم الرشيد وقال: صدقت.
نوع الشهود الذين اختارهم إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة
حدثنا إسماعيل بن علي أبو محمد الخطبي، قال: لما ولى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة القضاء، قال: يجب أن يكون بين أيدينا قوم نتمندل بهم ويتمندلون هم بالعامة، ولا يجب أن يكونوا من أكابر الناس ومن أعاليهم، ولا سوقتهم وسفلتهم، فاختار متوسطي التجار فجعلهم شهوداً.
معنى السوقة الصحيح
قال القاضي: قول ابن حماد من سوقتهم وسفلتهم، يدل على أنه كان يظن أن السوقة أهل الأسواق، ولم يعلم أن السوقة هم الذين يسوقهم الملوك بسياستهم وأن الناس ملوك وسوقة أي رعية، كما قال زهير:
يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
وقالت حرقة بنت النعمان بن المنذر:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
ما قيل في نوح بن دراج القضاء
حدثنا الحسن بن علي العدوي، قال: أخبرنا الحسن بن علي بن راشد، قال: قيل لشريك بن عبد الله: قد تقلد القضاء نوح بن دراج، قال: ذهبت العرب الذين كانوا إذا غضبوا كفروا.
النسب القصير

حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف، قال: حدثني أحمد بن الصلت الحماني، قال: حدثنا النضر بن علي، قال: حدثنا خالد بن الحارث، عن أبيه، قال: قال الفرزدق بن غالب: خرجت من البصرة أريد العمرة، فرأيت عسكراً في البرية، فقلت: عسكر من هذا؟ قالوا: عسكر الحسين بن علي رضي الله عنهما، قال: فقلت: لأقضين حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فأتيته فسلمت، فقال: من الرجل؟ فقلت: الفرزدق بن غالب، فقال: هذا نسب قصير، فقلت: أنت أقصر مني نسباً، أنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : أبو من؟ فقلت: أبو فراس، قال: يا أبا فراس كيف خلفت الناس ومن أين وإلى أين؟ قال: قلت: من البصرة أريد العمرة، وما سألت عنه من أمر الناس فقلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء قال: فاغرورقت عيناه، وقال: هكذا الناس في كل زمان، أتباع لذي الدينار والدرهم، والدين لغو على ألسنتهم فإذا فحصوا بالابتلاء قل الديانون.
قال القاضي: معنى ما ذكر من قصر النسب في هذا الخبر، أن النبيه الذي بغير نظير له يشاركه في نسبه وما يعرف به فلا يحتاج إلى زيادة في انتسابه وإطالته، وهو مستغن بقصير ما يعرف به عن كثيره، كما قال الشاعر:
أحب من النسوان كل قصيرة ... لها نسب في العالمين قصير
ومن هذا النسب نسب الرسل والأنبياء والملوك والخلفاء، وقد قال النسابة البكري لرؤبة بن العجاج لما انتسب له: مه قصرت وعرفت.
وحكى لي بعض أصحابنا، أنه وجد بخط صاحبنا محمد بن جعفر بن جمهور: سألت أبا جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري أن يزيدني في نسبه، فقال متمثلاً قول رؤبة:
قد يرفع العجاج بيتاً فادعني ... باسم إذا الأنساب طالت يكفني

المجلس الرابع والعشرون
من يكن في حاجة أخيه
حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد الحمال، قال: حدثنا عمي، قال: ابن نافع، قال: حدثنا ابن المنكدر، عن أبيه، عن الحسين بن أبي الحسن، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من يكن في حاجة أخيه يكن الله عز وجل في حاجته " .
قال القاضي: في هذا الخبر ما يرغب في قضاء حاجات الإخوان، إذ سعيهم فيها يعود عليهم بمعونة الله عز وجل لهم في حاجتهم، ويرجى به إدراكهم منها ما لا يبلغونه بسعيهم، دون معونة الله لهم عليه وتيسيره إياه، وقد جاء في هذا المعنى ونحوه أخبار كثيرة، وقد مضى بعض ذلك فبما مضى في كتابنا، فلعلنا نأتي فيما بعد بما يحضرنا منه إن شاء الله.
إسلام سادن الصنم
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا السكن، عن العباس ابن هشام، عن أبيه، قال: حدثني أبو كبران المرادي، عن يحيى بن هاني بن عروة، عن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، قال: كان لسعد العشيرة صنم يقال له فراس وكانوا يعظمونه، وكان سادنه رجلاً من بني أنس الله بن سعد العشيرة، يقال له ابن دقشة، قال عبد الرحمن: فحدثني رجل من بني أنس الله يقال له ذباب، قال: كان لابن وقشة رئي من الجن يخبره بما يكون، قال: فأتاه ذات يوم وأنا عنده فأخبره بشيء فنظر إلي وقال لي: يا ذباب، اسمع العجب العجاب، بعث الله أحمد بالكتاب، يدعو بمكة فلا يجاب، قال: فقلت ما تقول؟ فقال: ما أدري هكذا قال لي، فلم يكن إلا قليل حتى سمعنا بظهور النبي صلى الله عليه وسلم فثرت إلى الصنم فحطمته، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلفت فراساً بدار هوان
شددت عليه شدة فتركته ... كأن لم يكن والدهر ذو حدثان
فلما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعاني
فأصبحت للإسلام ما عشت ناصراً ... وألقيت فيه كلكلي وجراني
فمن مبلغ سعد العشيرة أنني ... شريت الذي يبقى بآخر فان
مناظرة ابن عباس للحرورية

حدثنا علي بن محمد بن الجهم، أبو طالب الكاتب، قال: حدثني أبو عبد الله أحمد بن يوسف بن الضحاك الفقيه، قال: حدثنا عمر بن علي الفلاسي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سدي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو رميل، قال: حدثني عبد الله بن عباس، قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار، وكانوا ستة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة لعلي أكلم هؤلاء القوم، فقال: إني أخافهم عليك، قلت: كلا فلبست أحسن ما يكن من اليمنة وترجلت ودخلت عليهم في دار نصف النهار وهم يأكلون، فقال: مرحباً بك يا أبن عباس، فما جاء بك؟ فقلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله عز وجل قال: " بل هم قوم خصمون " فانتحى لي نفر منهم فقالوا: لنكلمنه، فقلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، قالوا: ثلاثاً، قلت: ما هن؟ قالوا: أما إحداهن فإنه حكم الرجال في أمر الله تعالى، وقد قال الله عز وجل: " إن الحكم إلا لله " ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة، قالوا: وأما الثانية فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفاراً فقد حل سباهم وقتالهم، ولئن كانوا مؤمنين فما حل قتالهم ولا سباهم، قلت: هذه ثنتان فما الثالثة؟ قالوا: إنه محا نفسه من إمرة المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، قال: قلت: هل عندكم من غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا، قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم هذا ترجعون؟ قالوا: نعم، قلت أما قولكم حكم الرجال في أمر الله تعالى، فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله عز وجل أن قد صير الله عز وجل حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، وأمر الله عز وجل الرجال أن يحكموا في أرنب، قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم " وكان من حكم الله عز وجل انه صيره إلى الرجال يحكمون فيه ولو شاء لحكم فيه فجاز حكم الرجال، أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أم حكمهم في أرنب؟ وفي المرأة وزوجها: " وإن خفتم شقاق بينها فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " ، نشدتكم الله فحكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل أم حكمهم في بضع امرأة؟ أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم عائشة فتستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم، فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها لقد كفرتم، ولئن قلتم ليست بأمنا لقد كفرتم لقوله تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " فأنتم بين ضلالتين فأتوا منهما مخرجاً، أخرجت من هذا؟ قالوا: نعم. وأما قولكم محا نفسه من إمرة المؤمنين فأنا آتيكم بما ترصون به، إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعلي: " اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قالوا: لا نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، أمح يا علي واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، ووالله، لرسول الله خير من علي لقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فقتلوا على ضلالة، قتلهم المهاجرون والأنصار.

خبر الأصدقاء الثلاثة

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أصحابنا أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج: أنفذ مع عبد الله بن كعب أربعة آلاف إلى خراسان ففعل، فشخص في المعسكر ثلاثة كانوا متؤاخين متصاحبين على اللذات ومعاقرة الشراب، يقال لهم: أوس بن حارثة وأنيس بن خالد وبشر بن غالب، وكانوا إذا نزلوا منزلاً انفردوا دون الناس فخلوا بشرابهم ولذاتهم، فلم يزالوا على ذلك حتى دخلوا سجستان ونزلوا رزداق راوند وخزازى..قال أحمد بن يحيى: الصواب ما ذكره وهو رزداق، ورستاق خطأ - فمات أوس - قال القاضي: أصل هذا الكلام بالفارسية وعرب فقيل: رزداق ورستاق، وهو أكثر في كلام من تقدم ومن تأخر فيما وردت الأخبار عنهم به فعظم حزنهما عليه وجزعهما له، وقال أنيس يرثيه:
تخطى إلي الموت من بين من أرى ... فأتلف ندماني لقد جار واعتدى
أثلبني فتى كان النديم حياته ... لنا دون خلق الله كان أبا الرضا
حليماً أديباً ماجداً ذا سماحة ... بعيداً عن الفحشاء والشر والخنا
أميناً جواداً غير كز مخالف ... ولا جاعلاً رباً من المال ما حوى
يخونه الدهر الخئون بريبة ... فأصبح رهناً للصفائح والصفا
أناديه يا أوس بن حارثة الذي ... به كنت أنفي الهم عني والأذى
أجبني لقد أنفذت بالوجد عبرتي ... عليك أما ترثى لباك إذا بكى
وقد كنت ذا رأي وسمع وفطنة ... سريعاً إلى الداعي مجيباً الندا
فليس لنا إذا مات أوس منادم ... سوى قبره حتى يحل بنا الردى
وقال فيه أيضاً:
وردنا خزازي إذ وردنا ثلاثة ... كأنا جميعاً أيها الناس واحد
أنيس وأوس الحارثي بن خالد ... ونصر أخوهم والمنايا رواصد
فكنا ولا نبغي من الناس رابعاً ... كأنا أثاف لا نريم رواكد
فلما رمانا الناس بالأعين التي ... متى يرمقوا شيئاً بها فهو بائد
رمتني بنات الدهر منا بأسهم ... ونبل المنايا للرجال قواصد
فأردين أوساً لهف نفسي لفقده ... سقي قبره صوب الغمام الرواعد
فمات أنيس فعظم حزن نصر عليه، واتصل بكاؤه وجزعه له، وقال يرثيه:
أنيس فدته النفس ميتاً فقدته ... فنفسي له حرى عليه تقطع
أنيس فدتك النفس أصبحت مفردا ... وحيداً فما أدري أخي كيف أصنع
أنيس فدتك النفس خلفت حسرة ... علي فعيني الدهر ما عشت تدمع
أنيس فدتك النفس ماذا رزئته ... لقد خفت أن أقضي وشيكاً فأسرع
فكيف بقائي بعد أوس أخي الفدى ... وبعد أنيس لست في العيش أطمع
ثم جعل يجلس بين قبريهما فيشرب قدحاً ويصب في كل قبر قدحاً، ويقول:
خليلي هبا ما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما
ألم تعلما ما إن راوند كلها ... ولا بخزازي لي صديق سواكما
أصب على قبريكما من مدامة ... فإلا تذوقا أرو منها ثراكما
مقيم على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
أجدكما ما ترثيان لموجع ... حزين على قبريكما إذ بكاكما
جرى النوم بين اللحم والعظم منكما ... كأنكما كأسي عقار سقاكما
ألم ترحماني أنني صرت مفرداً ... وأني مشتاق إلى أن أراكما
أناديكما بالجهر مني صبابة ... كأنكما لم تسمعا من دعاكما
فإن كنتما لا تسمعاني فما الذي ... خليلي عن سمع الدعاء عداكما
سأبكيكما حتى الممات فما الذي ... يرد على ذي عولة إن بكاكما
فلم يزل يشرب ويردد هذا الشعر حتى مات، فدفن إلى جانبهما، فقبورهم هناك تسمى قبور الإخوة.

تعليق لغوي

قال القاضي: قول أنيس في شعره: كأنا أثاف لا تريم رواكد، الأثافي أثافي القدر، وهي ما تنصب عليه من حجارة أو غيرها، والواحدة أثفية، ومثله أمنية وأماني وأوقية وأواق ، وقد يخفف هذا فيقال أماني وأواقي، وروى عن بعض المتقدمين أنه قرأ " لا يعلمون الكتاب إلا أماني " بالتخفيف، وقيل: هو في تخفيفه وتشديده بمنزلة قراقر وقراقير في جمع قرقور، والعرب تقول في دعائها على الرجل: رماه الله بثالثة الأثافي يريدون الجبل، لأنهم يجعلون للقدر أثفيتين ويسندونهما إلى الجبل فيغنيهم عن أثفية أخرى، وقيل: إنهم يخففون الأثافي من هذا الباب أكثر من تخفيفهم غيره لكثرة استعماله، ومن قال هذا ونحوه: الأخفش وقوله: لا تريم، أي لا تبرح، يقال: لا أريم وما أريم،ولا يستعمل إلا في النفي لا يقال: ما رمت كما يقال ما زلت، ولا يقال زلت في الأبيات، قال الشاعر:
لمن طلل برامة ما يريم ... عفا وخلا له حقب قديم
وقال الأعشى:
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
وقال أيضاً:
أفي الطوف خفت علي الردى ... وكم من ردٍ أهله لم يرم
وقول نصر بن غالب في أنيس أيضاً: لقد خفت أن أقضي وشيكاً أسكن الياء في أقضي وحكمها أن تنصب بأن ليسلم بيته من الانكسار، وقد يجعل هذا على لغة من يقرأ الفعل المضارع على الرفع بعد أن ولا ينصبه وقد جاءت في الشعر أبيات على هذا في الصحيح غير المعتل، من ذلك قول الشاعر:
وإني لأجتاز القِرى طاوي الحشا ... محاذرةً من أن يقال لئيمُ
وروى بعضهم عن مجاهد أنه قرأ: " لمن أراد أن يتم الرضاعة " والأشهر عنه: من أراد أن يتم الرضاعة، وعلى توجيه الفعل إليها وقراءة الجمهور من السلف والخلف التي لا نستجيز تعديها " من أراد أن يتم الرضاعة " لوجوب الحجة بنقلها لصحتها في العربية ومقاييسها، ومما أسكنت ياؤه من معتل هذا الباب قول الأعشى:
فتىً لو ينادي الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا
وجاء مثله في الواو، وذلك قول الفرزدق:
فإن حراماً أن أسب مقاعساً ... بآبائي الشم الكرام الخضارمِ
ولكن نصفاً لو سببتُ وسبّني ... بنو عبد شمسٍ من منافٍ وهاشمِ
أولئك أكفائي فجئتني بمثلهم ... وأعبدُ أن أهجو كليباً بدارمِ
ومثل هذا كثير وشواهده وذكر علله من جهة النحو والإعراب واسع جداً، وله موضع هو أولى به، وقد أضيفت جملة هذا الشعر والخبر الذي تضمنه في رواية أخرى إلى قس بن ساعدة وأنه أنشد هذا في نديميه، وقد رويناه في أخبار قس وأقاصيصه.

الصمصامة سيف عمرو بن معدي كرب

حدثنا أبو النضر العقيلي أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن الحارث، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، قال: أخبرني أحمد بن أبي محمد اليزيدي، قال: كان أبي ربّى الرشيد وموسى ابني المهدي وأدبهما قال: فدخلت على موسى وقد استخلف وكان يجلني ويكرمني، فسلمت فرد علي السلام واستقعدني فقعدت، وإذا بين يديه سيف عريض كأنه بقلة، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا؟ قال: هذا سيف عمرو بن معدي كرب الصمصامة، فاستحسنته، فقال لي أمير المؤمنين: قد كنت سألت أمير المؤمنين المهدي رضي الله عنه أن يهب لي هذا السيف فضن به عني ومنعنيه، فآليت إن بلغني الله تعالى أملي أن أمتحنه، وقد عزمت على أن أدعو غلامي طرخان الحريري وهو جيد الذراع، وأن يحضر لي صخرة سوداء طولانية من حجارة القصارين، وأتقدم إليه أن يجمع يديه في السيف ثم يضرب به الرأس الدقيق من الصخرة، فإن سلم سلم وإن يقطع يقطع، قال: فلم نزل نطلب إليه ونسأله إعفاء السيف من المحنة ونقول: شرفٌ من شرف العرب وسيف لا يوجد مثله، فأبى ودعا غلامه طرخان وأحضر الصخرة، قال أحمد، قال أبي: فقلت له: يا أمير المؤمنين! فإذا لم تطعني فاعمل له حديثاً يبقى على الدهر، يدخل من بالباب من الشعراء حتى يحضروا السيف ومحنته، فإن سلم وصفوه وإن يقطع رثوه، فأمر بإحضار الشعراء، وكان بالباب منهم أبو الهول وأبو الغول التميمي وسلم الخاسر، فقيل لهم: إن أمير المؤمنين أحضركم لمحنة هذا السيف فمن أحسن الوصف له والقول فيه فصلته عشرة آلاف درهم وخلعة وحملان، ثم أحضر طرخان والسيف بين يدي موسى، فحسر عن ذراعيه وهزه وجمع يديه في قائمة ثم ضرب به الصخرة فمضى فها باتراً لها ولم يصبه شيء،فأما أبو الهول فلم يصف شيئاً، وأما سلم فلم يرض ما قال، وأما أبو الغول فوصف فأحسن واخذ الصلة عشرة آلاف درهم والحملان والخلع وانصرف، وأمر لأبي الهول وسلم الخاسر بخمسة آلاف خمسة آلاف وانصرفا، فكان الشعر لأبي الغول حيث يقول:
حاز صمصامة الزبيدي من بي ... ن جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما علمنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أخضر اللون بين حديه بردٌ ... من رياحٍ تميس فيه المنون
أوقدتْ فوقه الصواعق نارا ... ثم شابته بالزعاف القيون
فإذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين
ما يبالي إذا الضريبة حانت ... أشمالٌ سطت به أم يمين

نتيجة الرفق ونتيجة التعذيب
حدثنا الحسين بن المرزبان النحوي، قال: حدثني علي بن جعفر بن بنان المخزمي، قال: حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد المدائني، عن أبي المضرحي، قال: أمر الحجاج محمد بن المنتشر بن أخي مسروق بن الأجدع أن يعذب أزداد مرذ بن الهربز، فقال أزداد مرذ: يا محمد! إن لك شرفاً قديماً، وإن مثلي لا يعطى على الذل شيئاً، فاستأد وارفق بي، فاستأدى في جمعة ثلاثمائة ألف، فغضب الحجاج وأمر معبداً صاحب العذاب أن يعذبه فدق يديه ورجليه فلم يعطهم شيئاً، قال : فإني لأسير بعد ثلاثة أيام إذ أنا بأزداد مرذ معترضاً على بغل قد دقت يداه ورجلاه، فقال: يا محمد! فكرهت أن آتيه فيبلغ الحجاج، وتذممت من تركه إذ دعاني، فدنوت منه فقتل: حاجتك؟ فقال: إنك قد وليت مني مثل هذا فأحسنت إلي، ولي عند فلانة مائة ألف درهم، فانطلق فخذها، قفلت: لا والله لا آخذ تدرهماً وأنت على هذه الحال، قال: فإني أحدثك حديثاً سمعته من أهل دينك، يقولون: إذا أراد الله بالعباد خبراً أمطرهم في أوانه، واستعمل عليهم خيارهم، وجعل المال عند سمحائهم، وإذا أراد بهم شراً أمطروا في غير أوانه، واستعمل عليهم شرارهم، وجعل المال في أشحائهم. ومضى وأتيت منزلي فما وضعت ثيابي حتى جاءني رسول الحجاج، فأتيته وقد اخترط سيفه فهو في حجره، فقال: ادنُ، فدنوت قليلً، ثم قال: ادن، فقلت: ليس بي دنو، وفي حجر الأمير ما أرى، فأضحكه الله تعالى لي وأغمد السيف فقال: ما قال لك الخبيث، فقلت: والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذبتك مذ صدقتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني، وأخبرته بما قال: فلما أردت ذكر الرجل الذي عنده المال صرف وجهه، وقال لا تسمه، ثم قال: لقد سمع عدو الله الأحاديث.

كيف يكون بارداً وله هذا الشعر
حدثنا إبراهيم بن الفضل بن حبان الحلواني، قال: حدثني أبو بكر بن ضباب، قال: سمعت بعض أصحابنا بالرقة يقول: كبر خالد الكاتب حتى دق عظمه ورق جلده فوسوس، فرأيته ببغداد والصبيان يتبعونه ويصيحون به: يا بارد يا بارد! فاسند ظهره إلى قصر المعتصم، وقال: كيف أكون بارداً وأنا الذي أقول:
بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم من مبعدٍ من مثله ومعينِ
ورقت دموع العين حتى كأنها ... دموعي لا دموع جفوني

السيد الحميري يستكمل هدية
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا الصائغ بمكة، قال: أخبرنا يحيى بن معين، قال: أخبرني محمد بن كناسة: أن والياً كان بالكوفة أهدى إلى السيد بن محمد الحميري رداءً عدنياً، فكتب إليه السيد في شعر وجه به إليه:
وقد أتانا رداءٌ من هديتكم ... فلا عدمناك طول الدهر من والِ
نعم الرداء جزاك الله صالحة ... لو أنه كان موصولاً بسربال
فلما قرأ اشعر أهدى إليه خلعة تامة.
معاتبات في عدم قضاء الحاجة
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: أنشدت لسعيد بن سليمان المساحقي القاضي في هارون بن زكريا كاتب العباس بن محمد:
أزورك رفهاً كل يومٍ وليلةٍ ... ودرك مخزونٌ علي قصير
لأي زمان أرتجيك وخلة ... إذا أنت لم تنفع وأنت وزير
فإن الفتى ذا اللب يطلب ماله ... وفي وجهه للطالبين بشير
حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا أبو حفص النسائي قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن، قال: كتب رجل إلى يحيى ابن خالد بن برمك في حاجة وكان وعده فمطله إياها فأرسل إليه بهذه الأبيات:
لولا الممات وأن العمر منتقص ... لما اكترثت بما تأتي من العلل
إما اعتزمت على تنفيذ وعدك لي ... فامنع حياتي من الآفات والأجل
وما تذكر قوم ما فعلت بهم ... عند الورود على معروفك الخضل
إلا استعنت بوجه الأرض أنكته ... وأضم بعضي إلى بعضي من الخجل
قال: فقضى حاجته وأحسن جائزته، ووقع ما قاله بألطف الموقع عنده.
عبيد الله بن جعفر يهب ثيابه لبعض الفتيان
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني أحمد بن عبد الأعلى الشيباني، وأحمد بن عبيد الله الغنوي، أن عبد الله بن جعفر كان في سفر له، فمر بفتيان يوقدون تحت قدر لهم، فقام إليه أحدهم، فقال:
أقول له حين ألفيته ... عليك السلام أبا جعفر
فوقف وقال: وعليك السلام ورحمة الله، فقال:
وهذي ثيابي فقد أخلقت ... وقد عضني زمن منكر
قال: فهذه ثيابي مكانها - وعليه جبة خز وعمامة خز ومطرف خز - ونعينك على زمنك، فقال:
فأنت كريم بني هاشم ... وفي البيت منها الذي يذكر
قال: يا ابن أخي، ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي: وهذي ثيابي، ويقال: هاتا أيضاً، قال الشاعر:
فهذي سيوف يا صدي بن مالك ... كثير ولكن أين بالسيف ضارب
وقال آخر في هاتا:
إن كنت كارهة لعيشتنا ... هاتا فحلي في بني بدر
وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ " ولا تقربا هذه الشجرة " ، وأما هذا ففيه ثلاث لغات. هذا وهي أفصحهن وأشهرهن، وهذاء بمدة بعدها همزة مكسورة، وهذائه بمدة بعدها همزة ثم هاء مكسورتان وكسرة الهاء مشبعة، قال الشاعر في هذه اللغة:
هذائه الدفة خير دفتر ... في كف خير عالم مصور
وآخرون يروون هذه القصة عن المنصور.
حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: أخبرنا الحسن بن خضر، عن أبيه، قال: دخل رجل على المنصور، فقال:
أقول له حين واجهته ... عليك السلام أبا جعفر
فقال له المنصور: وعليك السلام، فقال:
فأنت المهذب من هاشم ... وفي الفرع منها الذي يذكر
فقال له المنصور: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
فهذي ثيابي قد أخلقت ... وقد عضني زمن منكر
فألقى إليه المنصور ثيابه وقال: هذه بدلها.

المجلس الخامس والعشرون
الرزق على قدر النفقة
حدثني محمد بن عمر بن نصير الحربي الحمال، قال: حدثني محمد بن سعد كاتب الواقدي، قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي، قال: أوصلت إلى أمير المؤمنين رقعة أشكو فيها غلبة الدين وحالا قد دفعت إليها، فوقع على ظهر رقعتي: فيك يا شيخ خلتان: الحياء والسخاء، أما السخاء فهو الذي أخرج ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي قطعك عن إطلاعنا على حالك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كانت فيها بلغة فذاك، وإن يكن غير ذلك فهذه ثمرة ما جنيت على نفسك، فأنت حدثتني وأنت قاض لأبي الرشيد، عن محمد بن إسحاق الزهري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن مفاتيح الرزق متوجهة نحو العرش فينزل الله عز وجل على الناس أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له " . قال الواقدي: فكنت أنسيت هذا الحديث حتى حدثني به المأمون فكان أحظى عندي من الصلة.
ابن هرمة يرثى الحكم بن المطلب
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو عثمان، قال: أخبرني رجل من قريش بمكة، أحسبه قال: من ولد عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثني حميد بن مغوث الحمصي عن أبيه، قال: كنت فيمن حضر الحكم بن المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنظب بن الحارث ابن عبد بن عمر بن مخزوم وهو يجود بنفسه بمنبج، قال: ولقي من الموت شدة، فقال رجل ممن حضر وهو في غشية له: اللهم هون عليه فإنه كان وكان، فلما أفاق قال: من المتكلم؟ قال: المتكلم أنا. فقال: إن ملك الموت يقول لك: إني بكل سخي رفيق، قال: وكأنما كانت فتيلة أطفئت، فلما بلغ موته ابن هرمة قال:
سألا عن الجود والمعروف أين هما ... فقلت إنهما ماتا مع الحكم
ماتا مع الرجل الموفي بذمته ... يوم الحفاظ إذا لم يوف بالذمم
ماذا بمنبج لو تنشر مقابرها ... من التهدم بالمعروف والكرم
قال ابن دريد: فسألت أبا حاتم عن قوله: لو تنشر مقابرها لم جزم؟ فقال: قال قوم من النحويين: كراهة لكثرة الحركات، كما قال الراجز:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم ... بالدو أمثال السفين العوم
وقال: لو قال: لو نبشت مقابرها لاستراح من اللبس وكان كلاماً فصيحاً.
قال القاضي: وقد بينا فيما مضى من هذه المجالس هذا النحو مما سكن في الشعر مع استحقاقه التحريك، وذكرنا ما أنشده سيبويه في هذا المعنى والاختلاف في روايته واستجازته، ما يغني عن إعادته، فأما قول أبي حاتم في معنى نبشت في لفظ الفعل الماضي وإسكان عينه، فهو كما قال: وهو مطرد في القياس وقد جاء منه شيء كثير، ومن ذلك قول أبي النجم:
لو عصر منه المسك والبان انعصر
ومثله:
رجم به الشيطان في ظلمائه
وفود جرير على عبد الملك بن مروان
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو الوراق، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن طهمان قال: حدثنا عمرو بن أبي عمرو الشيباني، عن أبي عمرو الشيباني، قال: حدثني مروان بن أبي حفصة، قال: جلس عبد الملك بن مروان يوماً للناس على سرير، وعند رجل السرير محمد بن يوسف أخو الحجاج بن يوسف، وجعل الوفود يدخلون عليه ومحمد بن يوسف يقول: يا أمير المؤمنين! هذا فلان، هذا فلان، إلى أن دخل جرير بن الخطفي فقال: يا أمير المؤمنين! هذا جرير بن الخطفي، قال: فلا حياه الله، القاذف للمحصنات والعاضة لأعراض الناس - قال أبو بكر بن الأنباري: العاضه: المغتاب، ويقال: العاضه : النمام، ويقال: الساحر، قال القاضي: ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن العاضهة والمستعضهة، يعني الساحرة والمستسحرة، قال الراجز:
الماء من عضاههن زمزمه

وقيل في قول الله تعالى: " الذين جعلوا القرآن عضين " أقوال منها: هذا، وهو أن المشركين قالوا: هو سحر، وقيل: إنهم عضوه بأن آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وقيل، بل اقتسموه بينهم استهزاء فقالوا: لفلان هذه السورة ولفلان هذه السورة، فعضوه كما تعضى الشاة وكما تجزأ أعضاء الجزور فتقسم وتوزع بين مقتسميها وهذا فيما يتضمن عنه بمشيئة الله وعونه كتابنا المسمى البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز ونأتي على ما جاء فيه عن أهل العلم، وأصحاب التأويل والمفسرين، وعن أصحاب المعاني النحويين، ومن العضه السحر، ما أنشدنيه عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: أنشدنا أحمد بن يحيى:
أعوذ بربي من النافثا ... في عقد العاضه المعضه
وقال: يعني بهما الساحر، وقال أبو موسى الحامض: المعضه الذي يأتي بالأمر العظيم ثم يبهت - فقال جرير: يا أمير المؤمنين دخلت فاشرأب الناس نحوي، ودخل قوم بعدي فلم يشرئب الناس إليهم، فقدرت أن ذلك لذكر جميل ذكرني به أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: لما ذكرت لي قلت: لا حياه الله القاذف للمحصنات العاضه لأعراض الناس، فقال جرير: والله يا أمير المؤمنين ما هجوت أحداً حتى أجزه عرضي سنة، فإن أمسك أمسكت، وإن أقام استعنت عليه وهجوته، فقال له: هذا صديقك أبو مالك سلم عليه - يعني الأخطل - فاعتنقه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما هجاني أحد كان هجاؤه علي أشد من هجائه، إلا أني كنت أظن أنه يرشي على هجائي، فقال له الأخطل: كذبت وأتن أمك، قال له جرير: صدقت وخنازير أمك، فقال عبد الملك: أحضروا جامعة فأحضرت و غمز الوليد الغلام أن ناجز بها، فقال عبد الملك للأخطل: أنشد، فأنشد:
تأبد الربع من سلمي بأجفار ... وأقفرت من سليمي دمنة الدار
حتى ختمها، فقال له عبد الملك: قضينا لك أنك أشعر من مضى ومن بقي. واستأذنت قيس عبد الملك في أن ينشد جرير فأبى، ولم يزل جرير مقيماً دهراً يلتمس إنشاد عبد الملك وقيس تشفع له، وعبد الملك يأبى إلى أن أذن له يوماً، فأنشده:
أتصحو بل فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح
فقال عبد الملك: بل فؤادك يا بن اللخناء - قال أبو بكر: اللخناء: المنتنة الريح، فلما انتهى إلى قوله:
تعزت أم حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين ذوي اللقاح
تعلل وهي ساغبة بنيها ... بأنفاس من الشبم القراح
قال أبوبكر: الشبم: البارد، والقراح: الماء الذي ليس معه لبن، والساغبة الجائعة، قال القاضي: ومن دعاء العرب: حلبت قاعداً وشربت بارداً، يريدون كنت ذا غنم تحلبها وأنت قاعد ولا إبل لك تحلبها قائماً، وشربت بارداً أي ماء محضاً، قال عبد الملك: لا أروى الله عيمتها، قال القاضي: العيمة: شهوة اللبن، يقال: عمت إلى اللبن أعيم عيمة، ومن دعاء العرب: ما له عام وغام وآم، فغام: قرم إلى اللبن ولم يقدر عليه، وآم: ماتت امرأته، كما قال الشاعر:
وأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوان سعد ليس فيهن أيم
معنى آمت نساء مات أزواجهن، وغام: عطش فلم يقدر على الماء، فلما انتهى إلى قوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
قال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا هكذا. فلما ختمها أمره بإعادتها، فلما أنشد:
أتصحو أم فؤادك غير صاح
لم يقل له ما قال في المرة الأولى، ولما ختمها أمر له بمائة ناقة بأداتها ورعاتها، فقال جرير: يا أمير المؤمنين! اجعلها من إبل كلب، وإبل كلب إبل كرام.
قال القاضي: وقد كتبنا هذا الخبر عن أبي بكر بن الأنباري في مجلس آخر: فأتى به بزيادة في هذه القصيدة وأنشد فيه كلمة جرير كلها وفسر غريبها، وإذا عثرنا عليه رسمناه فيما نستقبله من مجالسنا هذه إن شاء الله.

الرشيد يحبس محمد بن الليث ثم يطلقه ويكرمه

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا الحسن بن زيد أبو علي الكاتب المعروف بالحكيمي، قال: سمعت أحمد بن يوسف الكاتب يقول: حدثني ثمامة بن أشرس، قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث أبي الربيع الكاتب كتب إلى الرشيد رسالة يعظه فيها ويذكر فيها يحيى بن خالد ويقول: يا أمير المؤمنين إن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئاً، وقد جعلته فيما بينك وبين الله عز وجل، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: أي رب! استكفيت يحيى بن خالد أمور عبادك، أتراك تحتج بحجة يرضاها؟ مع كلام فيه توبيخ وتقريع، فلما قرأها الرشيد دعا يحيى بن خالد وقد تقدم إلى يحيى خبر هذه الرسالة، فقال له: أتعرف محمداً بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام. فأمر الرشيد بمحمد بن الليث فوضع في المطبق فأقام دهراً، فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد! أتحبني، قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: أوتقول هذا؟ قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب ولا حدث أحدثت سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله، فكيف أحبك؟قال: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قال له: يا محمد بن الليث أتحبني، قال لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب بعض ما كان في قلبي، فأمر أن يدفع إليه من ساعته مائة ألف درهم فأحضرت، فقال: يا محمد أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم، قد أنعمت وأحسنت، فقال: انتقم الله لك ممن ظلمك وأخذ بحقك ممن بغى عليك، فكان هذا أول ما ظهر من الرشيد في أمر يحيى بن خالد ثم تزيد الأمر بعد ذلك.

خبر وضاح اليمن
حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا أبو حفص النسائي، قال: حدثني محمد بن حبان بن صدقة، عن محمد بن أبي السري، عن هشام بن محمد بن السائب، قال: كانت عند يزيد بن عبد الملك بن مروان أم البنين بنت فلان، وكان لها من قلبه موضع قال: فقدم عليه من ناحية مصر بجوهر له قيمة وقدر، قال: فدعا خصياً له فقال: اذهب بهذا إلى أم البنين وقل لها: أتيت به الساعة فبعثت به إليك، قال: فأتاها الخادم فوجد عندها وضاح اليمن وكان من أجمل العرب وأحسنها وجهاً، فعشقته أم البنين فأدخلته عليها، فكان يكون عندها فإذا أحست بدخول يزيد بن عبد الملك عليها أدخلته في صندوق من صناديقها، فلما رأت الغلام قد أقبل أدخلته في الصندوق فرآه الغلام ورأى الصندوق الذي دخل فيه، فوضع الجوهر بين يديها وأبلغها الرسالة، ثم قال: يا سيدتي هبي لي منه لؤلؤة، قالت: لا، ولا كرامة، فغضب وجاء إلى مولاه فقال: يا أمير المؤمنين! إني دخلت عليها وعندها رجل، فلما رأتني أدخلته صندوقاً فهو في الصندوق الذي من صفته كذا وكذا وهو الثالث أو الرابع، فقال له يزيد: كذبت يا عدو الله، جئوا في عنقه فوجأوا عنقه ونحوه عنه، قال: فأمهل قليلاً ثم قام فلبس نعله ودخل على أم البنين وهي تمتشط في خزانتها، فجاء حتى جلس على الصندوق الذي وصف له الخادم، فقال: يا أم البنين! ما أحبب إليك هذا البيت؟ قالت: يا أمير المؤمنين! أدخله لحاجتي وفيه خزانتي فما أردت من شيء أخذته من قرب، قال: فما في هذه الصناديق التي أراها؟ قالت: حليي وأثاثي، قال: فهبي لي منه صندوقاً، قالت: كلها يا أمير المؤمنين، قال: لا أريد إلا واحداً ولك علي أعطيك زنته وزنة ما فيه ذهباً، قالت: فخذ ما شئت، قال: هذا الذي تحتي، قالت: يا أمير المؤمنين! عد عن هذا وخذ غيره، فإن لي فيه شيئاً يقع بمحبتي، قال: ما أريد غيره، قالت: هو لك، قال: فأخذه ودعا الفراشين فحملوا الصندوق فمضى به إلى مجلسه فجلس ولم يفتحه ولم ينظر ما فيه، فلما جنه الليل دعا غلاماً له أعجمياً، فقال له: استأجر أجراء غرباء ليسوا من أهل المصر، قال: فجاء بهم فأمرهم فحفروا له حفرة في مجلسه حتى بلغ الماء، ثم قال: قدموا لي الصندوق فألقي في الحفرة ثم وضع فمه على شفره فقال: يا هذا! قد بلغنا عنك الخبر فإن يكن حقاً فقد قطعنا أثره وإن يكن باطلاً فإنما دفنا خشباً، ثم أهالوا عليه التراب حتى استوى، قال: فلم ير وضاح اليمن حتى الساعة، قال: فلا والله ما بان لها في وجهه ولا في خلائقه ولا في شيء حتى فرق الموت بينهما.
جنه وجن عليه

قال القاضي: في هذا الخبر: فلما جنه الليل، والفصيح من كلام العرب: جن عليه الليل وأجنه الليل، قال الله جل اسمه " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً " وفيه لغة أخرى وهو جنه كما جاء في الخبر، وقد روى عن بعض الماضين من القراء " جنه المأوى " وهذا وجه شاذ في القراءة، واللغة، وفي هذا الخبر أيضاً وجه من اللغة ليس بالظاهر السائر وهو قوله: ثم أهالوا عليه التراب، واللغة الفاشية الصحيحة العالية: هلت عليه التراب أهيله، قال الله جل ثناؤه: " وكانت الجبال كثيباً مهيلاً " .

من أدب آل البيت
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان أبو الحسن البزاز،قال: حدثنا أبو غسان، عن عبد الله بن محمد بن يوسف بالقلزم، قال: حدثني عبد الله بن محمد اليماني، عن علي بن يوسف المدائني، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: دخلت على أبي عبد الله جعفر بن علي رضي الله عنهم، فقلت: يا ابن رسول الله أوصني، فقال: يا سفيان! لا مروءة لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا خلة لبخيل، ولا أخاً لملول، ولا سؤدد لسيء الخلق ، قلت يا ابن رسول الله، زدني، قال: يا سفيان! كف عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسم الله لك تكن مسلماً، واصحب الناس بما تحب أن يصحبوك به تكن مؤمناً، ولا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره، وشاور في أمورك الذين يخشون الله تعالى، فقلت: يا ابن رسول الله: زدني، قال: يا سفيان! من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فليخرج من ذل معصية الله تعالى إلى طاعة الله عز وجل، قلت: يا ابن رسول الله زدني قال: يا سفيان أدبني أبي بثلاث وأتبعني بثلاث، قلت يا ابن رسول الله! ما الثلاث التي أدبك بهن أبوك؟ قال: قال لي أبي: من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم. ثم أنشدني:
عود لسانك قول الخير تحظ به ... إن اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له ... في الخير والشر فانظركيف ترتاد
قال: فقلت: فما الثلاث الأخر؟ قال: قال أبي: إنما يتقى حاسد نعمة، أو شامت بمصيبة، أو حامل نميمة.
وفود كثيرة عزة على عبد الملك وحديثه معه
حدثنا الحسين بن علي بن المزربان النحوي، قال: حدثنا عبد الله بن هارون النحوي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أبي يعقوب الدينوري، قال: أخبرني نصر بن منصور، عن العتبي، قال: كان عبد الملك بن مروان يحب النظر إلى كثير إذا دخل عليه آذنه يوماً، فقال: يا أمير المؤمنين! هذا كثير بالباب، فاستبشر عبد الملك، وقال: أدخله يا غلام، فدخل كثير وكان دميماً حقيراً تزدريه العين فسلم بالخلافة، فقال عبد الملك: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال كثير: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنما الرجل بأصغريه - قال القاضي: العرب تقول: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، وأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وهو مثل سائر - بلسانه وقلبه، فإن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بحنان، وأنا الذي أقول يا أمير المؤمنين:
وجربت الأمور وجربتني ... فقد أبدت عريكتي الأمور
وما يخف الرجال علي إني ... بهم لأخو مثاقبة خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد يزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينها كرم وخير
بغاث الطير أطولها جسوماً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
وروى
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزور
وفي بغاث الطير لغتان: بغاث وبغاث بالفتح والكسر، فأما الضم فخطأ عند أهل العلم باللغة، فقد أجاز بعضهم الضم، والمقلات التي لا يعيش لها ولد، والقلت بفتح اللام: الهلاك ، ومن ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المسافر وما معه على قلت إلا ما وقى الله عز وجل " ومنه قول الشاعر
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أقلتن ذا هوى
ويروى: أفلتن بالفاء، فأما القلت بسكون اللام: فالنقرة في الجبل أو الحجر يجتمع فيها الماء، تجمع قلات، قال الشاعر:
كأن عينيه من الغئور ... قلتان في جوف صفاً منقور
ثم رجعنا إلى شعر كثير:

لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوي ... فلا عرف لديه ولا نكير
قال القاضي فيروى:
يجرره الصبي بكل سهب ... ويحبسه على الخسف الجرير
قال القاضي: الجرير: الحبل، وبه سمي الرجل: قال الشاعر:
يرى في كف صاحبه خلاء ... فيفزعه ويجبنه الجرير
رجعنا إلى شعر كثير:
وعود النبع ينبت مستمراً ... وليس يطول والقصباء خور
قال القاضي: النبع من كريم الشجر وتتخذ منه القسي، قال الشاعر:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوى والخروع المتقصف
وقال الأعشى:
ونحن أناس عودنا عود نبعة ... إذا افتخر الحيان بكر وتغلب
قال:فاعتذر إليه عبد الملك ورفع مجلسه، ثم قال: يا كثير! أنشدني في إخوان دهرك هذا، فأنشده:
خير إخوانك المشارك في المر ... روأين الشريك في المر أينا
الذي إن حضرت سرك في الح ... ي وإن غبت كان أذناً وعينا
ذاك مثل الحسام أخلصه الق ... ين وجلاه الجلاء فاداد رينا
قال القاضي: ويروى: جلاه التلام يريد التلامذة والتلاميذ وهم الصياقلة ها هنا، ويقال التلام المدوس وهو حجر يجلى به، رجع الشاعر:
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شينا
فإذا ما رأوك قالوا جميعاً ... أنت من أكرم الرجال علينا
فقال له عبد الملك: يغفر الله لك يا كثير، فأين الإخوان؟ قال: غير أني أنا الذي أقول:
صديقك حين تستغني كثير ... ومالك عند فقرك من صديق
فلا تنكر على أحد إذا ما ... طوى عنك الزيارة عند ضيق
وكنت إذا الصديق أراد غيظيعلى حنق وأشرقني بريقي غفرت ذنوبه وصفحت عنهمخافة أن أكون بلا صديق

خروج عبد الملك بنفسه إلى حرب مصعب وتمثله بشعر لكثير
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال حدثنا محمد بن يزيد، قال: أخبرني محمد بن عبد الله بن طاهر، عن أبيه، عن جده، قال: وفد كثير على عبد الملك وهو يريد الخروج إلى مصعب، فقال له لما خرج: يا ابن أبي جمعة! ذكرتك بشيء من شعرك الساعة، فإن أصبته فلك حكمك، قال: نعم يا أمير المؤمنين أردت الخروج فبكت عاتكة بنت يزيد وحشمها - يعني امرأته - فذكرت قولي:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه ... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما عراها قطينها
فقال: أصبت والله، احتكم، قال: مائة ناقة من نوقك المختارة، قال: هي لك،فلما كان الغد نظر عبد الملك إلى كثير يسير في عرض الناس ضارباً بذقنه على صدره يفكر، فقال علي بكثير فجيء به، قال: فإن أصبت ما كنت تفكر فيه فلي حكمي؟ قال: نعم، قال: الله، قال: الله، قال: قلت في نفسك: ما أصنع بالمسير مع هذا الرجل، ليس على نحلتي ولا على مذهبي يسير إلى رجل كذلك وكلاهما عندي ظالم من أهل النار، ويلتقي الحيان فيصيبني سهم غرب فأكون قد خسرت الدنيا والآخرة، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أخطأت حرفاً فاحتكم، قال حكمي أحسن صلتك وأصرفك إلى أهلك، ففعل ذلك
معنى الغرب
قال القاضي: يقال: أصابه سهم غرب وغرب والتحريك أعلاهما، وهو أن يصيبه السهم على حين غفلة منه، والغرب أيضاًً علة تعرض للعين، والغرب دلو عظيمة، ومنه الخبر: " بالغرب ففيه نصف العشر " ويجمع غروباً، كما قال الأعشى:
من ديار بالهضب هضب القليب ... فاض ماء الشؤون فيض الغروب
والغرب مقابل الشرق، والغرب بالتحريك ضرب من الشجر معروف، والغرب بالفتح أيضاً من أسماء الفضة،قال الأعشى:
إذا انكب أزهر بين السقاة ... ولعوا به غرباً أو نضارا
قال أبو عبيدة:الغرب: الفضة، والنضار: الذهب، وقال الأصمعي: الغرب: الخشب، والنضار: الأثل، وكل ناعم فهو نضار، وقيل للأصمعي: أنهم لم يكونوا يشربون في آنية الخشب يعني الأكاسرة، ويقال للفضة:اللجين، والقطعة منه سبيكة ودبلة، والذهب: نضر وعقيان وعسجد، ويقال له: الزخرف، والغرب أيضاً: ما سال من الحوض والبئر من الماء، كما قال ذو الرمة:

فأدرك المتبقى من ثميلته ... ومن ثمائلها واستنشئ الغرب
قوله: واستنشئ الغرب معناه أنه شم من قولهم: شممت منه نشوة طيبة أي ريحاً طيبة، يقول:شممن الماء من شدة العطش، يعني حمر الوحش.
/بسم الله الرحمن الرحيم

المجلس السادس والعشرون
أصل المعانقة والمصافحة
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو سعيد الخوارزمي، حدثنا يوسف بن محمد الطويل، حدثنا محمد بن حاتم الجرجائي، حدثنا سلمة ابن صالح الأحمر، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن أبي سفيان، عن تميم الداري، قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عن معانقة الرجل الرجل إذا لقيه؟ قال: كان تحية الأمم وخالص ودهم العناق، وإن أول من عانق خليل الرحمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فإنه خرج يرتاد لماشيته بجبلٍ من جبال بيت المقدس، إذ سمع صوت مقدسٍ يقدس الله عز وجل، فذهل عما كان يطلب، فقصد ذلك الصوت، فإذا هو بشيخ طوله ثمانية عشر ذراعاً، فقال له إبراهيم: يا شيخ! من ربك؟ قال: من في السماء، قال: فمن رب من في الأرض؟ قال: الذي في السماء، قال: ألها رب غيره؟ قال: فمن رب من في الأرض؟ قال: الذي في السماء، قال: ألها رب غيره؟ قال: مالها رب غيره، وهو رب من فيها ورب من تحتها ومن فوقها، لا إله إلا الله وحده، قال إبراهيم: أين قبلتك؟ فأومأ إلى الكعبة، فسأله عن طعامه، قال: أجمع من هذا التمر في الصيف فآكله في الشتاء، فقال: ما بقي معك من قومك أحد؟ قال: لا أعلم أحدٌ بقي من قومي غيري، قال له إبراهيم عليه السلام: أين منزلك؟ قال: في تلك المغارة قال: أفترينا بيتك، قال: بيني وبينه وادٍ لا يخاض، فقال إبراهيم: كيف تعبره؟ قال: أمشي عليه ذاهباً وأمشي عليه جائياً، فقال له إبراهيم: فانطلق بنا لعل الذي ذلله لك أن يذلله لي، قال: فانطلقا يمشيان حتى انتهيا إليه، فمشيا عليه، كل واحد يتعجب مما أوتي صاحبه، فلما دخلا المغارة إذا قبلته قبلة إبراهيم عليه السلام، فقال له إبراهيم: أي يومٍ خلق الله تعالى أشد؟ قال الشيخ: يوم الدين، يوم يضع كرسيه، يوم تؤمر جهنم فتزفر زفرةً فلا يبقى نبي مرسل، ولا ملك مقرب إلا تهمه نفسه، قال إبراهيم: يا شيخ! ادع الله لي أن يؤمني وإياك من هول ذلك اليوم، فقال الشيخ: وما تصنع بدعائي، إن لي في السماء دعوةً محبوسةً منذ ثلاث سنين، قال له إبراهيم: ألأا أخبرك بما حبس دعوتك؟ قال: بلى، قال: إن الله تعالى إذا أحب عبداً حبس دعواته لحب صوته، ثم يجيبه من بعد ذلك، وإن الله تعالى إذا أبغض عبداً عجل له الحاجة وألقى اليأس في صدره لبغض صوته، ما دعوتك يا شيخ التي في السماء محبوسة؟ قال: مر بي هاهنا شاب في رأسه ذؤابة منذ ثلاث سنين ومعه غنمٌ كأنها حشف، وبقرٌ كأنها حفيت...
قال القاضي: هكذا في الحديث وأحسبه حفلت أي جمع اللبن في ضروعها واخر حلابها، قلت: لمن هذه؟ قال: لخليل الرحمن إبراهيم، قلت: اللهم إن كان لك في الأرض خليلٌ فارنيه قبل خروجي من الدنيا، قال إبراهيم: قد أجيبت دعوتك، فاعتنقا، فيومئذٍ كان أصل المعانقة، وكان قبل ذلك السجود هذا لهذا وهذا لهذا، ثم جاء الصفاح مع الإسلام فلم يسجدوا ولم يعانقوا، ولا تتفرق الأصابع حتى يغفر الله لكل مصافح.
التعليق على الخبر الإصر، الذراع
قال القاضي: الحمد لله الذي وضع عنا الآصار، والآصار: جمع إصر، وهو العهد، وأصله الثقل، قال الله عز وجل: " ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا " يعني التشديد في العبادة، والتثقيل في الشريعة، وقال تعالى ذكره: " وأخذتم على ذلكم إصري " أي عهدي، وقال جل ثناؤه: " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " يعني التثقيل فيما كلفوه وكتب عليهم، وقد قرىء: آصارهم على الجمع.
وفي هذا الخبر: أن الرجل الذي لقيه إبراهيم عليه السلام كان طوله ثمانية عشر ذراعاً، فجاء به على التذكير والأغلب فيه التأنيث، وفي تذكيره خلاف بين اللغويين، وقد أجازه بعضهم وحكاه، وقد استقصينا القول في هذا في موضع غير هذا، وشرحناه وأوضحنا البيان عنه وبيناه.
حكم المصافحة والمعانقة والقيام للزائر

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ندب إلى المصافحة وكان يفعلها، وأنه سئل: أينحني الرجل لصاحبه، فقال: لا، قيل أفيعانقه؟ قال: لا، قيل: أفيصافحه؟ قال: نعم.
وقد ذكر استعمال القيام والمصافحة عن بعض السلف، وليسا عندي بمحظورين، أولا أحد من أهل القدوة حرم ذلك، غير أن الأخذ بما أدب به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته أولى بذوي الألباب، وأليق بوجه الحق والصواب.

أصل اليمن، ما هو
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، حدثنا السكن بن سعيد، حدثنا يحيى بن عمارة، عن الحسن بن موسى الأنصاري، حدثنا أبو غزية الأنصاري، قال: حدثني قرظة المازني، عن زياد بن عبد الله الحارثي، وكان أميراً على المدينة في أيام المنصور، قال: خرجت وافداً إلى مروان بن محمد في جماعة ليس فيهم يمانٍ غيري، فلما كنا ببابه دفعنا إلى ابن هبيرة وهو على شرطه وما وراء بابه، فتقدم الوفد رجلاً رجلاً كلهم يخطب ويطنب في أمير المؤمنين وابن هبيرة، فجعل يبحثهم عن أنسابهم، فكرهت ذلك، وقلت: إن عرفني زادني ذلك عنده شرا، وكرهت أن أتكلم فأطنب، فجعلت أتأخر رجاء أن يمل كلامهم فيمسك، حتى لم يبق غيري، ثم تقدمت فتكلمت بدون كلامهم وإني لقادر على الكلام، فقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل اليمن، قال: من أيها؟ قلت: من مذحج، قال: إنك لتطمح بنفسك، اختصر. قلت: من بني الحارث بن كعب، قال: يا أخا بني الحارث! إن الناس ليزعمون أن أبا اليمن قردٌ، فما تقول في ذلك؟ قلت: وما أقول أصلحك الله، إن الحجة في هذا لغير مشكلة، فاستوى قاعداً، وقال: وما حجتك؟ قلت: تنظر إلى القرد أبا من يكنى، فإن كان أبو اليمن فهو أبوهم، وإن كان يكنى أبا قيس فهو أبو من كني به. فنكس ونكت بظفره إلى الأرض، وجعلت اليمانة تعض على شفاهها تظن أن قد هويت، والقيسية تكاد أن تزدردني، ودخل بها الحاجب إلى أمير المؤمنين ثم رجع، فقام ابن هبيرة فدخل ثم لم يلبث أن خرج، فقال الحارثي: فدخلت ومروان يضحك، فقال: إيهٍ عنك وعن ابن هبيرة فقلت: قال: كذا فقلت كذا، فقال: وايم الله لقد حججته، أو ليس أمير المؤمنين الذي يقول:
تمسك أبا قيس بفضل هناتها ... فليس عليها إن هلكت ضمان
فلم أر قرداً قبلها سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان
قال زياد: فخرجت واتبعني ابن هبيرة فوضع يده بين منكبي، ثم قال: يا أخا بني الحارث، والله ما كان كلامي إياك إلا هفوة، وإن كنت لأربأ بنفسي عن ذلك، ولقد سرني إذ لقنت علي الحجة ليكون ذلك لي أدباً فيما أستقبل، وأنا لك بحيث تحب، فاجعل منزلك علي، ففعلت فأكرمني وأحسن منزلي.
قال ابن دريد: والبيتان ليزيد بن معاوية، وذلك أنه كان حمل قرداً على أتانٍ وحشية فسبق بينها وبين الخيل.
وعلى ذكر القرد
حدثنا أحمد بن كامل، قال: حدثني داود بن محمد بن نجيح أبي مضر، وقال: هو نجيح بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: خطب عبد الله بن الزبير فقال من خطبته: يزيد القرد وشارب الخمر، قال: فبلغت يزيد بن معاوية، فما بات ليلته حتى جهز عشرين ألفاً، وجلس والشمع بين يديه وعليه ثياب معصفرة وهو يرتجز، ويقول:
أبلغ أبا بكر إذا الأمر انبرى
وأخذ الجيش على وادي القرى
عشرون ألفاً بين كهل وفتى
أجمع سكرانٍ من القوم ترى
في أول لقاء بين أبي نواس وأبي العتاهية
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، ثنا أحمد بن منصور المروزي، حدثنا عمر بن يحيى، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: اجتمع عندي أبو نواس وأبو العتاهية، وكل واحد منهما لا يعرف صاحبه، فعرفت أبا العتاهية أبا نواس فسلم عليه، وجعل أبو نواسٍ ينشد من شغشاف شعره، فاندفع أبو العتاهية فأنشد، فقال له أبو نواس: هذا والله المطمع الممتنع، فقال له أبو العتاهية: هذا القول منك - والله - أحسن من كل ما أنشدت، كيف البيت الذي مدحت به الرشيد أو الربيع:
قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله
لوددت أني كنت سبقتك إليه.
قال أبو بكر بن الأنباري: وأنشدني أبي هذه الأبيات لأبي نواس في الفضل بن الربيع بغير هذا الإسناد:
ما من يدٍ في الناس واحدةٍ ... إلا أبو العباس مولاها

نام الثقات وطال نومهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله
فغفوت عني عفو مقتدرٍ ... حلت له نقمٌ فألغاها

هشام بن عبد الملك يسترضي الأبرش الكلبي
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، ثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني الحسين بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الرحمن الطائي، عن عبد الله بن عباس، قال: حدثني الأبرش بن الوليد الكلبي، قال: دخلت على هشام بن عبد الملك فسألته حاجة فامتنع علي، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا بد منها، فإنا قد ثنينا عليها رجلاً، قال: ذلك أضعف لك أن تثني رجلك على ما ليس عندك، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما كنت أظن أني أمد يدي إلى شيء مما قبلك إلا نلته، قال: ولم؟ قلت: لأني رأيتك لذلك أهلاً ورأيتني مستحقه منك، قال: يا أبرش! ما أكثر من يرى أنه يستحق أمراً ليس له بأهل، فقلت: أف لك لكن إنك - والله ما علمت - قليل الخير نكده، والله إن نصيب منك الشيء إلا بعد مسألة، فإذا وصل إلينا مننت به، والله إن أصبنا منك خيراً قط، قال: لا، والله، ولكنا وجدنا الأعرابي أقل شيء شكراً، قلت: والله إني لأكره للرجل أن يحصي ما يعطي.
ودخل عليه أخوه سعيد بن عبد الملك ونحن في ذلك، فقال: مه يا أبا مجاشع، لا تقل ذلك لأمير المؤمنين، قال: فقال هشام: أترضى بأبي عثمان بيني وبينك؟ قلت: نعم، قال سعيد: ما تقول يا أبا مجاشع؟ فقلت: لا تعجل، صحبت - والله - هذا وهو أرذل بني أبيه، وأنا يومئذٍ سيد قومي وأكثرهم مالاً وأوجههم جاهاً، أدعى إلى الأمور العظام من قبل الخلفاء، وما يطمع هذا يومئذٍ فيما صار إليه، حتى إذا صار إلى البحر الأخضر غرف لنا منه غرفةً ثم قال: حسب.
فقال هشام: يا أبرش! اغفرها لي، فوالله لا أعود لشيءٍ تكرهه أبداً، صدق يا أبا عثمان.
قال: فوالله ما زال مكرماً لي حتى مات.
الفرزدق يؤجل ثلاثا
ً
حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا أبو أحمد الحنلى، أخبرنا أبو حفص النسائي، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن بشر، قال: حدثني أحمد بن عمرو الزهري، قال: حدثني عمرو بن خالد العماني، قال: قدم الفرزدق المدينة في سنةٍ جدبةٍ حصباء، فمشى أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ أميرها فقالوا له: أصلح الله الأمير، إن الفرزدق قدم مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة التي قد خلت أموالها، وليس عند أحدٍ منهم ما يعطيه، فلو أن الأمير بعث إليه فأرضاه وتقدم إليه ألا يعرض لأحدٍ بمدحٍ ولا هجاء، قال: فبعث إليه عمر بن عبد العزيز، فقال: يا فرزدق! إنك قدمت مدينتنا في هذه السنة الجدبة، وليس عند واحد منا ما يعطي شاعراً، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم، فخذها ولا تعرض لأحدٍ بمدح ولا هجاء.
قال: فأخذها الفرزدق ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان وهو جالس في سقيفة داره وعليه مطرفٌ وعمامة خز حمراء وجبة خز حمراء، فقال:
أعبد الله أنت أحق ماشٍ ... وساعٍ بالجماعير الكبار
فللفاروق أمك وابن أروى ... أبوك وأنت منصدع النهار
هما قمر السماء وأنت نجمٌ ... به في الليل يدلج كل سار
قال: فخلع عليه جبته والمطرف والعمامة ودعا له بعشرة آلاف درهم. قال: فخرج رجلٌ كان عندعبد الله بن عمرو بن عثمان، وقد حضر الفرزدق عندما أعطاه عمر بن عبد العزيز وتقدم إليه فأخبر عمر بن عبد العزيز الخبر، فبعث إليه عمر: ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحدٍ بمدحٍ ولا هجاء، اخرج فقد أجلتك ثلاثاً، فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك، قال: فخرج الفرزدق وهو يقول:
أأوعدني وأجلني ثلاثاً ... كما وعدت لمهاكها ثمود؟
قد يصلح العشق الفتيان

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، ثنا عيسى بن محمد بن ناظرة السدوسي، قال: حدثني قبيصة بن محمد المهلبي، قال: أخبرني اليمان ابن عمر مولى ذي الرياستين قال: كان ذو الرياستين يبعثني وأحداثاً من أحداث أهله إلى شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفةٍ بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذو الرياستين واعترض ما حفظناه فنخبره، فصرنا ذات يوم إلى الشيخ فقال لنا: أنتم أدباء وقد سمعتم الحكمة، ولكم خيراتٌ ونعمٌ، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا، فقال: اعشقوا فإن العشق يطلق اللسان الغبي، ويفتح حيلة البليد والبخيل، ويبعث على التنظف، وتحسين اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء. ويشرف الهمة، وإياكم والحرام.
فانصرفنا من عنده إلى ذي الرياستين، فسألناه عما أفدناه في يومنا ذلك، فهبناه أن نخبره، فغرم علينا، فقلنا له: أمرنا بكذا وكذا، وقال لنا كذا وكذا، قال: صدق والله، أتعلمون من أين أخذ هذا؟ قلنا: لا، قال ذو الرياستين: إن بهرام جور كان له ابن وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص المروءة، خامل النفس، سيىء الأدب، فغمه ذلك، ووكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه فيحكون له ما يغمه، من سوء فهمه وقلة أدبه، إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوماً، فقال له المؤدب قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صرنا إلى اليأس من فلاحه، قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى أمة فلانٍ المرزبان فعشقها حتى غلبت عليه، فهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها، فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه.
ثم دعا بأبي الجارية، فقال: إني مسر إليك سراً فلا يعدونك، فضمن له سره، فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها، أو تقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجنت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملكٍ ومن همته همة ملك، وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك، ثم ليعلمه خبرها وخبره، لايطلعها على ما أسر إليه.
فقبل أبوها ذلك منه، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها، فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته، أخذ في طلب الأدب والحكمة، والعلم والفروسية، والرماية وضرب الصوالجة، حتى مهر في ذلك، ثم رفع إلى أبيه أنه يحتاج من الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما يقدر له، فسر بذلك وأمر له به.
ثم دعا مؤدبه فقال له: إن الموضع الذي وضع ابني نفسه من حب هذه المرأة لا يزري به، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها، ويسألني أن أزوجه إياها ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها فزوجه إياها، وأمر بتعجيلها إليه، وقال له: إذا اجتمعت وهي فلا تحدث شيئاً حتى أصير إليك، فلما اجتمعا صار إليه، فقال: يا بني! لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك، وهي أعظم الناس منةً عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة، والتخلق بأخلاق الملوك، حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي، فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك، ففعل الفتى وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسرورٌ به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه، بصيانته سره وطاعته، وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره به، وعقد لابنه على الملك من بعده.
قال اليماني مولى ذي الرياستين، ثم قال لهم ذو الرياستين: سلوا الشيخ الآن لم حملكم على العشق؟ فسألناه، فحدثنا حديث بهرام جور وابنه.

الآن ظرف ولطف
قال القاضي: وقد حكى لي بعض ذوي الفضل والأدب أنه أخبر عن فتى من خاصة أهله أنه عشق، على وجه الزراية عليه، فقال: الآن ظرف ولطف ونظف.
من التلطف في ترقية المرء إلى المعالي

ومما يضارع خبر بهرام جور في السياسة والتدبير والتلطف والإحتيال، في ترقية المرء من الدناءة إلى معالي الأحوال، ما حدثني به بعض إخواننا من أهل الأدب عمن ذكره من نظرائه، أن بعض الحكماء حض أصحابه على طلب العلم، وذكر لهم عظم فضله وشرف أهله، وقص عليهم فيه قصصاً، وضرب لهم أمثلة، فكان مما قاله لهم: إن الرجل قد يبلغه الكبر، فتكل أدواته، وتضعف آلاته، وتنقطع لذاته، فلا يحفل بشيءٍ من أمر الدنيا إلا بأن يثنى عليه بالمعرفة، ويعظم بأن يشار إليه بالعلم والحكمة، فجدوا في طلب العلم، ولا تيأسوا من إدراكه.
فقد بلغني أن رجلاً قرأ في صحيفة: أنه من أراد شيئاً وسعى في طلبه ناله أو شيئاً منه، فقال في نفسه: أريد أتزوج فلانة - يعني ملكة كانت في زمانه، وأخذ في طلب ذلك، فتوجه إلى بلادها وأتى قصرها، ورأى الحاشية المحيطة ببابها، وكان يأتي الباب في كل يوم فيجلس في فنائه، وصار بينه وبين الحاشية بعض الأنس لكثرة ترداده، وكان يحدثهم ويحدثونه، وربما سألوه عن حاجة إن كانت له فلا يجيبهم بشيء، إلا أنه بعد قال: لي حاجة إلى الملكة، فقالوا له: أخبرنا بها فإن وراءنا خدماً ومن بعدهم جوارٍ ووصائف بحضرتها، ومن قبلهن تنتهي الأخبار إليها، فقال: لا أذكر حاجتي إلا لها، فأمسكوا عنه، وكانت الملكة تشرف من بعض مستشرفاتها على فناء قصرها، وترى من يحضر ببابها، فأرسلت بعد سنةٍ من مصير ذلك الرجل إلى حضرتها إلى من بالباب: إني أرى منذ سنة رجلاً غريباً يأتي في كل يوم، فانظروا ما شأنه، فإن كان مظلوماً نصرناه، وإن كان مستميحاً أعطيناه، وإن خطب عملاً يصلح لمثله وليناه، فأرسلوا إليها بما خاطبهم به إذ سألوه عن حاله، فأمرت بإدخاله إليها، فلما وقف بين يديها سألته عن حاجته، فقال: لا أذكرها وأحد يسمع ما أذكره، فأمرت جواريها بالتباعد، ثم قالت له: قل، فقال: قصدت الملكة خاطباً لها، أتزوجني نفسها؟ فقالت: إنك لست بملكٍ ولا من ولد الملوك، ومتى تزوجتك سقطت منزلتي، وزال ملكي، ولكن مالذي جراك على أن خاطبتني بهذا؟ فأخبرها بما خطر له حين قرأ الصحيفة، فقالت له: فإنني أرى أن تطلب الحكمة، وتتعلم العلم حتى تصير رأساً فيه، وتشتهر في الناس منزلتك منه، فإن منزلة العلم اشرف من منزلة الملك، فإذا صرت فرداً في الحكمة حسن منك أن تخطبني وحسن بي أن أتزوجك، وأن أسمع أهل مملكتي فأقول لهم: قد طالت أيام ملكي وليس في أهل بيتي من يقوم به بعدي، وقد رأيت أن أتزوج إلى هذا وأرجع إلى رأيه في حياتي، لفضل علمه وظهور حكمته، ويقوم مقامي بعد وفاتي، فلا ينكر ذلك أحد من رعيتي.
وفي هذه المدينة دارٌ يجتمع فيها أهل الحكمة ورؤساء الفلاسفة، ويجتمع الناس إليهم للقراءة عليهم والتعلم منهم، وأنا أتقدم إلى المتقدم منهم بالتقديم لك والإقبال عليك، فاجتهد في التعلم، واقطع ليلك ونهارك باقتباسه، فإذا بلغت منه رتبةً عالية فحينئذ تنال ما أنت راغبٌ فيه من جهتي، ففعل ذلك وصار إلى الدار وأقبل على التعلم، وكان ذا ذكاءٍ وفطنة، وكان يأخذ في المدة اليسيرة ما يأخذ غيره في المدة الطويلة، إلى أن لحق بمن هنالك من متقدمي الحكماء، ثم تقدمهم إلى أن صار فرداً فيهم، واشتهر في الناس فضله، وعظموه لسعة علمه وظهور حكمته، وصار مقصوداً للإستفادة منه، فخطر ببال الملكة ذكره، فسألت عنه فأخبرت بما انتهى إليه أمره، فأمرت باستدعائه فحضر، فقالت له: قد بلغني ما أصبته من الحكمة، فهل لك فيما كنت سألتنيه؟ فقال: لا حاجة لي في ذلك، فقالت: ولم، وقد كنت حريصاً عليه؟ فقال: رغبت في هذا وانا أرى أنه أفضل ما يبلغه الإنسان في دنياه، فلما نلت ما نلته من الحكمة، وعلمت ما علمت من أفانين العلم، تبينت ما بين العلم والملك من الفضل، فرغبت بعلمي عن ملك الدنيا، فقالت له: لهذا أمرتك بما أمرتك به، ورأيت أنك إن لم تبلغ الغاية في العلم لم تعد إلي، وإن علت طبقتك فيه رغبت بنفسك عن أمور الدنيا، وعلمت أن ما ظفرت به أفضل مما كنت التمسته.
وصرفته ولم تزل مكرمةً له.
ودرسٌ من أفلاطون للحث على التعلم

وقد حكى لي بعض المفلسفين بأن فتىً كان يحضر مجلس أفلاطون ويحبه ويعظمه، ويؤثر استماع كلامه، ولا يقرأ عليه شيئاً، ولا يتعلم منه كما يتعلم غيره، وأن هذا الفتى قال لأفلاطون يوماً: قد أحببت أيها الحكيم أن تحضر اليوم منزلى وتأكل من طعامي، وتكرمني بالمشاربة والمنادمة، فأجابه، فلما صار إلى منزله أكلا وأخذا في تناول - الشراب واستماع الملاهي، ثم إن أفلاطون بصق في وجهه - يعني الفتى - فارتاع لذلك، وقال: ما هذا أيها الحكيم ؟ فقال: إنه عرض لي هذا الذي نفثته كما يعرض لسائر الناس فيلقونه في أهون الأماكن وأخسها، ورأيت منزلك وفرشك وآنيتك، فلم أر موضعاً أخس من نفسك، فنبذت هذا الأذى فيه، فقال: قد وعظت أيها الحكيم فأبلغت، ونصحت فأحسنت، وأنا منذ الآن أسعى في تشريف نفسي بدراسة العلم وطلب الحكمة.
ثم صار من أشد حاضري مجلس أفلاطون حرصاً على اكتساب الحكمة، وأحسنهم للعلم أخذاً.

المجلس السابع والعشرون
مذق فمذق له
حدثنا أبي رحمه الله، ثنا أبو عبد الله محمد بن العباس مولى بني هاشم، قال: حدثني محمد بن أبي السري، حدثنا علي بن عاصم، عن حميد الطويل، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا رجلٌ ممن كان قبلكم يتجر بالخمر في البحر إذ فكر في نفسه، فقال: إني آتي قوماً لا معرفة لهم بجيد الخمر من رديئه، فلو أني مزجت الخمر أضعف لي في الثمن، فأمهل حتى استعذبوا الماء، فعمد إلى أوانيه فنصفها من الخمر ثم مزجه بالماء حتى ملأها، ثم أتى الموضع فباع بضعف ما كان يبيع، فلما انصرف رأى في طريقه قردةً فاستحسنها فاشتراها. وحملها معه في سفينته، فلما لججوا عدث القردة على كيسه فأخذته وصعدت الدقل، فأقعت عليه والكيس بين رجليها، فصاح بها أهل السفينة، فقال لهم: لا تفعلوا فإني أخاف أن تقذف بنفسها والكيس في البحر، فتركوها ففتحت الكيس ثم أقبلت تخرج ديناراً فترمي به في السفينة وديناراً في البحر، ودرهماً في السفينة ودرهماً في البحر، حتى أتت على جميع ما في الكيس ثم نزلت في السفينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " مذق فمذق له " .
قال القاضي: في هذا الخبر ما أوجب مجانبة الغش، وتدليس العيب في البيع، وظلم الناس في أموالهم، وبخسهم أشياءهم، وتخويف لذوي الألباب بتعجيل العقوبة لهم، وسوء العاقبة في أموالهم، وسلبهم ما طمعوا أن يتمتعوا به في دنياهم، وينتفعوا به في معايشهم مع التعرض للإثم في معادهم، وحلول ما لا قبل لهم به من عقوبة ربهم.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " مذق فمذق له " أي مزج سلعته بغيرها غشا للناس إرادة تثمير ماله وغش غيره، فجوزي بسلبه الفضل الذي ظلم بأخذه، فسميت مجازاته مذقاً، إلحاقاً لها بالممذوق في حقيقة اللغة من جهة التسمية، وهذا ضرب من فصيح كلام العرب، ومستحسن خطابها، كما قال الله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " ، فسمى المبتدأ باسم الجزاء، وإن كان الإبتداء لا يسمى عقوبة في انفراده، طلباً للائتلاف، واتفاق ألفاظ الجملة في الخطاب، وهذا كثير في القرآن وألفاظ الشريعة، ومنثور كلام العرب ومنظومه، من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وأصل المذق فيما ذكرنا: الخلط والمزج، يقال: لبن صرفٌ وصريفٌ وممذوقٌ، ويقال له أيضاً: مذق، فيسمى باسم المصدر، كما قال الشاعر:
لم يسقها مذقٌ ولا نصيف ... ولا تميرات ولا تعجيف
لكن غذاها المذق والصريف
وقد استعار هذا المعنى بعض المحدثين، فقال:
وأراك تشربني وتمذقني ... ولقد عهدتك شاربي صرفا
وقال صالح بن عبد القدوس، وبعضهم يرويه لسابق البربري:
إن الكريم إذا أحبك قلبه ... أعطاك منه مودةً لا تمذق
وقال أبو معدان مولى آل أبي الحكم:
جرعاني ممذوقةٌ وامزجاها ... ليس صرف الشراب كالممذوق
وهذا النحو كثير واسع.
يصارح الحجاج برأيه في أخيه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8