كتاب : الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
المؤلف : أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي

والسرقة والحرابة ونحو ذلك يشترط في صحتها رد المغصوب الموجود الذي لم يتعلق بالذمة وأما ما يتعلق بها لاستهلاكه فرد عوضه ليس بشرط في صحة التوبة من الغصب عند الجمهور وإنما هو واجب آخر مستقل بنفسه يحتاج لتوبة ويمكن حمل كلام الإمام المتقدم الذي نسبه للجمهوري من تقريره إلا في شرحهولا يشترط في صحتها رد المظالم إلا أن تكون المعصية التي تاب منها من المظالم فلا د من ردها مع القدرة ويؤيد هذا ما يأتي عن إمام الحرمين بل هو عينه وهو ما إذا تاب الغاصب من الغصب فلا بد من رد الذات المغصوبة وأيضا لو لم يرد الأعيان مع قيامها لم يصدق عليه الإقلاع في الحال الذي هو من جملة أركانها قال في شرح المقاصد ثم المعصية الذي يتوب منها إن كانت في خالص حق الله تعالى فقد يكفي الندم كما في ارتكاب الفرار عند الزحف وترك الأمر بالمعروف وقد يفتقر إلى أمر زائد كتسليم النفس في الشرب وتسليم ما وجب في ترك الزكاة وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم رضا العبد أو بذله إليه إن كان الذنب ظلما كما في الغصب وقتل العمد ولزم إرشاده إن كان الذنب إضلالا له واعتذاره إليه أن كان إيذاء كما في الغيبة ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش ولكن التحقيق أن هذا الزائد واجب آخر عن التوبة لقول إمام الحرمين أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحت توبته في حق الله تعالى وكان منع نفسه من مستحق القصاص معصية متجددة تستدعي توبة ولا تقدح في التوبة من القتلوهذا بخلاف توبة الغاصب من غصبه فإنها لا تصح إلا برد المغصوب الموجود لأنه لا يصح الندم عليه مع إدامة اليد على المغصوب ففرق بين القتل والغصب قاله إمام الحرمين"تنبيهات" الأول: التوبة واجبة شرعا على الفور على كل مكلف مؤمنا كان أو كافرا ولا يجوز تأخيرها ولو كان الذنب صغيرة فمن أخرها عصى فيجب عليه توبتان دل على وجوبهما الكتاب والسنة وإجماع الأمة وتوبة الكافر إسلامة وتقبل توبة الكافر قطعا لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقال عليه الصلاة والسلام: "الإسلام يجب ما قبله" 1 أي يقطعه وهل يشترط مع الإيمان الندم على الكفر وبه قال الإمام
ـــــــ
1 رجاله ثقات: أخرجه أحمد 4/204 حديث 17846 والبيهقي في الكبرى 9/123 حديث 18069.

أو لا وبه قال غيره لأن كفره ممحو بإيمانه وإقلاعهقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وأما توبة المؤمن العاصي فقيل تقبل قطعا وقيل ظنا مع الإتفاق على قبولها شرعا لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]الثاني: إذا أذنب التائب هل تعود عليه ذنوبه أم لا الصحيح لا تعود وظاهره ولو عاد بمجلس التوبة ولكن يجدد توبة لما اقترف وإذا تاب من بعض الذنوب دون بعضها فصحح بعض الشيوخ قبول توبته مع الإصرار على البعض الآخر بدليل صحة إيمان الكافر مع إدامته شرب الخمر أو الزناالثالث: لا يشترط في صحة التوبة تعيين الذنب إذا تاب من البعض وتصح التوبة من الذنوب إجمالا ولو لم يشق عليه التعيين خلافا لبعض شراح هذا الكتاب وما قدمناه من وجوب تعيين ما اغتابه به إذا بلغه على وجه أفحش منه وإن ذكره بعض الشراح ليس مذهبا للمالكية بل عندهم لا يجب التفصيل مع الإبراء مطلقا كما أن مذهبهم أن التوبة لا تسقط الحدود ولا التعازير إلى حد الحرابة من حيث هو حدها ويستحب التفصيل للمغتاب من غير وجوب عليه وليس في ذلك تحليل حرام بل إسقاط الحق المبرئالرابع: إذا اقتص من القاتل هل يكون القصاص بمجرده كفارة أو لا بد معه من التوبة قال الحافظ ابن حجر مذهب الجمهور أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود وقيل لا بد من التوبة والصواب أن القصاص كفارة ومسقط لحق المقتول في الآخرة خلافا لمن قال الساقط حق الولي وحق المقتول باققال ابن حجر: بل حقه وصل إليه وأي حق فإن المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل بدليل الحديث الذي صححه ابن حبان وغيره "السيف محاء للخطايا" 1 وفي آخر "لا يمر القتل بذنب إلا محاه ولولا القتل ما كفرت ذنوبه" 2الخامس: يشترط في صحة التوبة صدورها قبل الغرغرة وقبل طلوع الشمس من مغربها فإن الحق إن من يوم الطلوع إلى يوم القيامة لا تقبل توبة أحد من الكفار إلا لعذر كما في حديث
ـــــــ
1 أخرجه ابن حبان 10/520, حديث 46632 لم أقف عليه.

ابن عمر "فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل" 1 أخرجه الطبراني والحاكم وهو نص في محمل النزاع قاله الحافظ وبحث القرطبي لا نعول عليه عند الأشاعرة وأما عند الماتريدية فإنما يشترط عدم الغرغرة في الكفر دون المؤمن العاصي فتقبل توبته عملا بالاستصحاب ولو غير معذور وقولنا في الكافر إلا لعذر لأن المعذور لجنون أو صبا يصح إسلامه ولو بعد طلوع الشمس من مغربها كما ذكرناه فيما سبق. ثم أبدل من لهم قوله عن كبائر السيئات لاشتمالهم عليها وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف والأصل عن السيئات الكبائر وسيأتي بيانها والمعنى أن مما يجب اعتقاده أن الله تعالى تجاوز عن جميع عباده بترك مؤاخذتهم بذنوبهم بسبب توبتهم منها على وجه الفضل والإحسان وظاهر كلام المصنف أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة والحق أن التكفير لا ينحصر في التوبة بل يجوز عقلا وشرعا أن يصفح عنها ويكفرها عن عبده بمحض فضله ولو لم يتب وإذا كان يصفح بالتوبة عن كبائر السيئات فصغائرها بالأولى أن مكفراتها كثيرة ولذا قال وغفر سبحانه وتعالى "لهم" الذنوب "الصغائر" أي سترها وأخفاها عن ملائكته وترك مؤاخذة فاعلها "باجتناب الكبائر" قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] أي الصغائر والمراد باجتنابها ما تشمل التوبة منها بعد ارتكابها لا ما يخص عدم مقارفتها أصلا وأما اجتنابها بعد ارتكابها بغير توبة فلا تغفر به الصغائر فظاهر القرآن والمصنف غفران الصغائر باجتناب الكبائر سواء كانت الصغائر مقدمات للكبائر ومتعلقة بها أم لافمن قبل فما محرما عليه وتجنب شرب الخمر مثلا غفرت قبلته خلافا لمن شرط كون الصغائر مقدمات للكبائر واعلم أنه كما تغفر الصغائر بالجتناب الكبائر تغفر بنحو الصوم والوضوء وبصلاة الجمعة وبالصلوات الخمس لما رواه أبو هريرة من قوله عليه الصلاة والسلام: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر وأما إذا لم تجتنب الكبائر فلا يكفر بهذه المذكورات إلا الصغائر وأما الكبائر المفعولة في تلك المدة فلا يكفرها إلا التوبة أو محض العفو" وليس المراد أنه عند عدم اجتناب الكبائر لا تكفر المذكورات شيئاـــــــ
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/545 حديث 8526 من حديث عبد الله بن عمرو.

والحاصل أن الصغائر تكفر بما ذكر حيث لم يصر عليها اجتنبت الكبائر أم لا خلافا لما نقله ابن عطية عن جمهور أهل السنة من أن تكفير الأعمال الصالحة للصغائر مشروط باجتناب الكبائر فإن لم تجتنب لم تكفر شيئا والذي عليه الحذاق عدم الاشتراط وقد علمت تأويل الحديث بأن معناه أنه إذا كان هناك كبائر لا يكفرها إلا التوبة أو فضل الله لا الوضوء والصلاة وليس المراد أنه مع الكبائر لا يكفر شيء كما حرره النووي رحمه الله هكذا قوله اللقاني ومن المكفرات فعل الحسنات لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]وقوله عليه اصلاة والسلام: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" 1 ومن المكفرات حصول المصائب للإنسان والمؤلمات لما رواه مسلم في صحيحه: "ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" 2 وفي رواية: "لا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر به من ذنوبه" 3ففي الأحاديث الدلالة على تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وما ثقل على الإنسان مشقته وبها يحصل للإنسان رفع درجات وزيادة حسناتقال النووي: وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء ومقابله لبعض العلماء أن المذكورات تكفر الخطايا فقط ولا يحصل بها رفع درجات ولا كتابة حسنات ولعل هذا القائل لم يطلع على الأحاديث الدالة على حصول جميع ذلك وما قدمناه من تكفير المذكورات لصغائر الذنوب عام فيمن صبر عليها ومن لم يصبر لكن الصابر يجتمع له التكفير والأجر وغير الصابر وهو المتسخط الذي لم يرض بالقضاء قد يعود عليه الذي كفر بالمصيبة أو المرض وبما قررنا علم أن الحق جواز الدعاء للمريض ولكل مصاب بنحو جعل الله ذلك لك كفارة لجواز الدعاء بما علمت السلامة منه وأيضا لأن قصد الداعي أن لا يحصل من المصاب مايخل بثواب المصيبة"تنبيهات" الأول: ظاهر القرآن غفران الصغائر بمجرد اجتناب الكبائر من غير توقف على
ـــــــ
1 حسن: أخرجه الترمذي كتاب البر والصلة باب: ما جاء في معاشرة الناس حديث 1987, وأحمد 5/153, حديث 21392, وانظر صحيح الجامع 972 صحيح: أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن حديث 25723 صحيح: أخرجه البخاري كتاب المرض باب: ما جاء في كفارة المرض حديث 5642.

قصد الامتثال وإن كان قصد الامتثال يحصل به الخلاص من عهدة الكبيرة والثواب بخلاف الترك المجرد عن قصد الامتثال فإنه يخرج به المكلف من عهدة الكبيرة فقط دون ثوابالامتثال خلافا لمن شرط في تكفير الصغائر بالاجتناب قصد الامتثالالثاني: كلام المصنف صريح في إنقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر وهو قول الجمهور خلافا لمن قال كلها كبائر وما سمي منها صغيرا فبالنسبة لما هو أكبر منه قال صاحب الجوهرة ثم الذنوب عندنا قسمان صغيرة كبيرة فالثاني منه المتاب واجب في الحال ولا انتقاض إن يعد للحالووقع خلاف في عد الكبائر والحق عدم حصر الكبائر في عدد وإنما وقع الاقتصار على السمع في رواية أبي هريرة عند مسلم في قوله عليه الصلاة والسلام: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتوالي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" 1 لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها وميل النفس إليها وارتكاب المكلف لها وكما أن الصحيح عدم حصرها بالعد فالصحيح عدم ضبطها بالحد بل يعتمد في ذلك على نص العلماء على التعيين وإنما لم ينص الله على أعيانها ليكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن تكون من الكبائر كما أخفى ليلة القدر ترغيبا له في انتظارها وساعة يوم الجمعة واسم الله الأعظم والولي من الناس للحرص على الدعاء في كل اليوم وبكل اسم من اسمائه وعلى الاعتقاد في كل الناسالثالث: أ عظم الكبائر الكفر ويليه قتل العمد العدوان وقيل تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على ما قاله إمام الحرمين من كفره بالكذب عليه وما عدا ذلك تختلف مراتبه بحسب المفاسد المترتبة عليه كالزنا والسرقة والخيانة في الكيل والغيبة والنميمة وترك الصلاة جملة وكذا تأخيرها عن وقتها أو تقديمها أو من غير مسوغ شرعي وكضرب المسلم بغير حق وسب من لم يجمع على نبوته أو ملكيته مثل الخضر وهاروت وماروت وكتمان الشهادة وقبول الرشوةوالصغيرة أفرادها كثيرة ولننبه منها على ما يتوهم كونه كبيرة مع كونه صغيرة كقبلة الأجنبيةـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب: بيان الكبائر وأكبرها حديث 89.

ولعن المعين ولو بهيمة وكذب على غير الأنبياء بما لا حد فيه ولا إفساد بدن ولا مال ولا ضرورة وهجر المسلم ولو تعريضا وهجر المسلم فوق ثلاثة أيام والنوح والجلوس مع الفاسق الذي لا يناسب والنجش والاحتكار المضر وبيع ما علمه معيبا كاتما عيبه والغش والخديعة والصغيرة تنقلب كبيرة بالإصرار عليها والتهاون بها والفرح بها وصدورها من عالم فيقتدي به فيها وحقيقة الإصرار على الذنب الإقامة عليه والعزم على العود إليهالرابع: غفران الصغائر بالاجتناب المذكور قطعي وقيل ظني وعلى الأول بعض المعتزلة والفقهاء والمحدثين وعلى الثاني أئمة الكلام ولكل دليل ويحصل غفران الصغائر ولو باجتناب كبيرة واحدة على الظاهر قاله الأجهوري وربما يعارضه تفسير الاجتناب بأنه عدم مفارقة الكبيرة أو بعد التوبة منها إن صدرت منه لأنه إن ارتكب كبيرة وتاب منها لم يصدق عليه الاجتناب إن ارتكب أخرى ولم يتب بل الظاهر من الآية عدم الإصرار على الكبيرة ولو واحدة وحررهالخامس: نشأ سؤال مما قدمنا ومن كلام المصنف محصله إذا كانت الصغائر تكفر باجتناب الكبائر والكبائر لا يكفرها إلا التوبة أو محض العفو فماذا يكفره نحو الوضوء وأحسن الأجوبة ما قاله السيد يوسف بن عمر أن الذنوب كالأمراض والأعمال الصالحة كالأدوية فكما أن لكل نوع من أنواع الأمراض نوعا من أنواع الأدوية لا ينفع في غيره كذلك المكفرات مع الذنوب وتوزيع ذلك موكول إلى علم الله ويشهد لهذا حديث: "إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها صوم ولا صلاة ولا جهاد وإنما يكفرها السعي على العيال" وأما من لا صغائر له ولا كبائر فيحصل له بها رفع درجات وأما من له محض كبائر وفعل بعض تلك المذكورات فقال بعض الشيوخ فتتشطر كبائره وبحث فيه بعض العلماء قائلا لا بد لكبائره من التوبة إلا أن يتفضل الله عنه بالعفو والقول بالتشطير لا دليل عليه وهذا لا مجال للرأي فيهالسادس: قد قدمنا أن الصغائرتكفر بالحسنات وبالأعمال الصالحة كالصلوات والحج وهذا مع بقاء ثوابها المرتب عليها ولما قدم أن التائب عن كبائره يعفو الله عنه وأن المجتنب للكبائر لا يعاقب على صغائره ذكر حكم من عمل الكبائر غير المكفرة غير مستحل لها ومات من غير توبة وتعرف مسألته بمسألة صاحب الكبيرة فقال "وجعل" سبحانه وتعالى "من لم يتب" من عصاة المؤمنين "من الكبائر صائرا" أي راجعا إلى مشيئته أي إرادته سبحانه وتعالى فلا يقطع له بعفوولا عقاب بل هو تحت مشيئة الله وعلى تقدير عقوبته يقطع له بدخول الجنة وبعدم

الخلود في النار هذا مذهب أهل الحققال صاحب الجوهرة: ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض لربه خلافا للمعتزلة القائلين بتخليده في النار لظاهر: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء: 14] وخلافا للمرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان معصية وخلافا للخوارج القائلين بتخليد صاحب الكبيرة والصغيرة في النار ولا إيمان له وأجيب عما تمسك به المعتزلة بأن المراد بالخلود طول الإقامة لا الدوام ثم استدل على كون صاحب الكثيرة الذي لم يتب تحت المشيئة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ} [النساء: 48] أي لا يستر الإشراك به لأنه بت الحكم على خلود عذاب الكفر بسائر أنواعه ويغفر كرما وفضلا ما دون ذلك أي ما دون الكفر من الذنوب ولو الكبائر لمن يشاء ومن أراد تعذيبه على معصية فقراره الجنة لأنه لا يخلد في النار إلا الكافر وإنما لم يقطع له بالعفو لئلا تكون الذنوب في حكم المباح ولا بالعقوبة لقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] لكن يجب اعتقاد تعذيبه بعض غير معين من كل صنف من أهل الكبائر تنفيذا للوعيد لوجوب صدق إيعاده تعالى ويكفي نعوذه ولو فيواحد من كل صنف من أهل الزنا وواحد من المحاربين ويجب اعتقاد إخراجه وإدخاله الجنة بعد ذلك قال في الجوهرة وواجب تعذيب بعض ارتكاب كبيرة ثم الخلود مجتنب فالآية مفيدة لأمرين كون صاحب الكبيرة تحت المشيئةالثاني: عدم غفران الكفر ولا يشكل على الغفران تخلف الوعيد وقد قال تعالى: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47] ولا شك أنه أوعد العاصي بالعقوبة لأن العفو بعد الإيعاد بالعقوبة محض كرم بخلاف عدم الوفاء بما وعد به الطائع من الثواب فإنه يجب تنزه الباري عنه لأنه بخل"تنبيهات" الأول: ما ذكره المصنف من أن من لم يتب من الكبائر تحت المشيئة مقيد بما إذا لم تكفر بغير التوبة كالحد والحج المبرور إن الصحيح في الحد أنه جابر والحج مكفر حتى الكبائر لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" 1 قال ابن حجر أي صار بلا ذنب وهذا كالصريح في غفر الكبائر سوى ما في ذمته من الصلوات
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الحج باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة حديث 1350 والترمذي كتاب الحج باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة حديث 811 وأحمد 2/484, حديث 10279.

والكفارات وحقوقا الآدميين من زنا وغيره لأن هذه لا يسقطها حد ولا غيره لأن المكفرات إنما تسقط إثم مخالفة الله تعالى فلعل في كلام المصنف حذفا تقديره وجعل من لم يتب من الكبائر ولم يحصل منه مكفر لها أو لم يسلم القول بأن الحدود جوابر ولا القول بتكفير الحج للكبائر فلا يعترض عليه بإهمال هذا القيد الثاني ظاهر كلام المصنف أن من عليه صغائر ومات قبل تكفيرها بتوبة أو بغيرها ليس تحت المشيئة وهو كذلك إذ نقل الشاذلي عن بعض مشايخه أن الكافر في النار بإجماع وكذا المستحل للمعاصيوالمؤمن الطائع في الجنة بإجماع والعاصي يسأل ولا يعاقب والعاصي بالكبائر التائب في الجنة بإجماع وغير التائب في المشيئة كما تقدمالثالث: جرى خلاف فيمن مات زمن الفترة أو لم تبلغه دعوة نبي أو بلغ مجنونا ودام على جنونه وكذا أولاد الكفار فقيل الجميع في المشيئة بخلاف أولاد المسلمين ففي الجنة اتفاقا وأهل الفترة هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل ولم يرسل إليهم الأول ولا أدركهم الثاني يشمل ما بين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام إلا أن هؤلاء على ثلاثة أقسام:
من عرف الله بالعقل دخل في شريعة كورقة بن نوفل أم لا كقس بن ساعدة الأيادي وزيد بن عمرو بن نفيل ممن تنصر في الجاهلية وحكم هذا القسم أن أصحابه ناجون على الصحيح ومثابون كما صرح به صاحب الشرعوثاني الأقسام: من بدل وغير ولم يوحد وشرح أحكاما كعمرو بن لحي سن للعرب عبادة الأصنام وسيب السوائب وبحر البحائر وحكم هذا القسم استحقاق العقاب كما نطق به القرآنوثالث الأقسام: من لم يشرك ولم يوحد ولا دخل في شريعة بل فنى عمره على حين غفلة وهؤلاء هم أهل الفترة حقيقة وحكمهم عدم استحقاق الثواب والعقاب وهم في المشيئة ولا يوصفون بإيمان ولا كفروما قيل من أن أبا حنيفة صرح في الفقه الأكبر بأن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر هو مبني على القول بوجوب المعرفة بالعقل نعم إن ورد نص صحيح أن الله أحياهما وآمنا به صلى الله عليه وسلم وجب القول به وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم مات على الكفر لقوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] والقول بأنه كان عمه عدول عن الظاهرقال العلامة الأجهوري: واحتج بعض مشايخنا إلى ترجيح القول بأن أهل الفترة ناجون

فيكونون في الجنة وكذلك أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ناجيان وليسا في النار بالموت قبل البعثة ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ودخول الجنة لا ينال بعمل وإنما هو بمحض الفضل والنار إنما تكون للكافر والعاصي ومن مات قبل البعثة لم يتصور عصيانه وأيضا أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الكلام والأصول على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا لا عقاب عليه ولا ثواب لهولما قدم أن من لم يتب من الكبائر تحت مشيئته تعالى وكان يتوهم أن من شاء عقوبته لا يخرج من النار قال ومن عاقبه سبحانه وتعالى بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخله به جنته والمعنى أن مما يجب اعتقاده على المكلف أن الله إذا أدخل المؤمن النار لعصيانه لا بد وأن يخرجه منها بسبب إيمانه ويجعل قراره الجنة والنار مؤنثة وهي جسم لطيف محرق بحكم العادة لا بقوة ولا بطبيعة وإضافتها إلى الضمير من إضافة المخلوق للخالق وخص العقاب بها وإن كان يجوز عقابه بغيرها لأن العقاب بها أعظم ومعلوم أن عقاب أهل النار متفاوت بحسب تفاوتهم في المعاصي فمنهم من يعذب لحظة ومنهم من يعذب ساعة ومنهم من يعذب يوما ومنهم من يعذب سبعة الآف سنة وهو آخر من يبقى في النار واختلف فيه فقيل هناد وقيل رجل يقال له جهينة والجنة في اللغة البستان وفي الشرع هي دار الثواب ويقال لها الدار الآخرةفإن قيل: لم جعل المصنف الإيمان سببا لدخول الجنة والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن يدخل الجنة أحد بعمله" قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" 1فالجواب أن نقول: السبب إيمانه مع رحمة الله أو نقول الإيمان لا يطلق عليه لفظ عمل إلا على جهة الندور والغالب إطلاقه على أعمال الجوارح ويمكن أن يقال إن الباء في إيمانه للبدل أي بدل إيمانه وهذا لا يفيد كون الإيمان سببا في دخول الجنة فلا يخالف قوله عليه الصلاة والسلام لن يدخل الجنة أحد بعمله وهذا نحو ما أجاب به في المعنى عن معارضة الحديث لقوله ادخلو الجنة بما كنتم تعملون قاله الأجهوري رحمه الله تعالى ولي وقفة هي هذا الجواب لأن البدل معناه العوض وهو مناف لكون الدخول بمحض الفضل فلعل الصواب جعل الباء للمصاحبة وقيل إنما ذكر الإيمان لدفع توهم دخول الكافر في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب المرضى باب: تمني المريض الموت حديث 5673. ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب: لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله حديث 2816.

قوله: ومن عاقبه بناره أخرجه منها فأدخل جنته لأن لفظ من عام فلما زاد لفظ بإيمانه دل على أن المخرج من النار إنما هو المؤمن ويدخل في كلام المصنف كل صاحب كبيرة من المؤمنين"تنبيهات" الأول: سيأتي الكلام على الجنة والنار ومحلهما وأنواعهماالثاني: الضمائر المستترة في عاقب وأخرج وأدخل عائده على الله تعالى وأما الضمائر المنصوبة والمجرورة بإيمان فهي عائدة على من لأن لفظها مفرد مذكر ومعناها مختلف ثم ذكر الدليل على خروج عصاة المؤمنين من النار بقوله: "ومن" شرطية وشرطها "يعمل" من المؤمنين بقلبه أو غيره من الجوارح "مثقال" أي زنة "ذرة خيرا" أي من خير فهو منصوب على التمييز والخير كل ما يحمد فاعله شرعا والشر عكسه وجواب الشرط يره أي ير جزاءه والإيمان عمل خير وعد الله بجزائه ووعده حق لابد من إنجازة ومعلوم أن جزاء الخير إنما يكون في دار الجزاء وهي الجنة وذلك إنما يكون بعد الخروج من النار لمن دخلها ولا يتصور أن يرى جزاء الخير قبل دخول النار لأن الذي يدخل الجنة لا يخرج منها قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]"تنبيهات" الأول: قيدنا المؤمنين ليتم الاستدلال على دخول الجنة بعد الخروج من النار وأما الكافر فلا يتصور خروجه من النار بل ولا دخوله جنه وما عمله من الخير الذي لا يتوقف على نية فقيل يجازي عليه في الدنيا بالتنعيم ومعافاة البدن وكثرة الولد وقيل في دار العذاب بتخفيف عذاب غير الكفر عنه لأن الصحيح من مذهب مالك كغيره إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بدليل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الآية وأما الإيمان فمخاطبون به اتفاقا وقيل لا يجازي منهم في الآخرة على عمل الخير إلا جماعة مخصوصة جاء فيها النص منهم حاتم الطائي لكرمه لما ورد أنه لما أسلم ولده عدي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد رفع عن أبيك العذاب الأليم بسبب سخائه" 1ومنهم أبو لهب لأنه "لما بشرته أمته ثويبة بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها" 2ومنهم أبو طالب فإنه لما مات قال العباس يا ابن أخي إن أبا طالب كان يعولك ويكفيك أينفعه ذلك قال: "نعم أني وجدته في ضحضاح من النار ولو لا أنا لكان في أسفل الدركات من النار" 3
ـــــــ
1 لم أقف عليه2 لم أقف عليه3 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب حديث 209.

وأما غير هؤلاء الثلاثة فقد قال تعالى في حقهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وغير ذلك قال ابن ناجي: والحق أن التخفيف عن أبي طالبٍ إنما هو بالشفاعة، ولعل التخفيف الحاصل لهؤلاء الجماعة إنما هو فيما يستحقونه من العذاب بجنايتهم التي ارتكبوها سوى الكفر، وأما عذاب الكفر فلا يخفف ولا يفتر ولا يغفر كما قدمناالثاني: جعلنا صلة يعمل بقلبه أو غيره ليشمل عمل القلب الهم لما في الحديث: "من هم بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً. وإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائةٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ بحسب مراتب الإخلاص" 1وأما ما يقع من النفس على قصد المعصية فهو على خمس مراتب: الهاجس وهو ما يلقى فيها والخاطر وهو ما يجري فيها، وحديث النفس وهو التردد هل يفعل أو يترك، والهم وهو أن يترجح عنده قصد الفعل، والعزم وهو قوة القصد والجزم به، فالهاجس لا يؤخذ به إجماعًا؛ لأنه يطرقه قهرًا عليه وكذا ما بعده من الخاطر، وحديث النفس وإن قدر على دفعهما لا يؤخذ بهما لحديثٍ: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به" 2 وإذا تجاوز عن حديث النفس فما قبله أولى، فالحاصل أن الثلاثة مرفوعة إلى جانب المعصية ولا أجر فيها في جانب الحسنة لعدم القصد، وأما الهم فتفترق فيه الحسنة من السيئة، فقد بين في الحديث: أنه بالحسنة يكتب له حسنة وبالسيئة لا يكتب عليه سيئة، ولا ينظر في الترك إن كان ترك السيئة لله كتب له حسنة ولا يكتب عليه سيئة بالهموأما العزم على المعصية فالمحققون على المؤاخذة به لكن تكتب عليه سيئة مطلقة حيث تركها لغير خوف الله، ولا تكتب عليه المعصية التي عزم عليها، وإن كان يعتبر العزم في جانب السيئة فيعتبر في جانب الحسنة بالأولى، ويظهر لي على مقتضى كرمه تعالى في جانب السيئة أن يكتب له ثواب الحسنة المعزوم عليها لا حسنةً مطلقةً وحررهالثالث: قال ابن السبكي دقيقة وهي أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم مشروط بعدم التكلم والعمل، وأما لو انضم لهما فعل فإنه يؤاخذ بالهم والعمل ولا تفهم أنه يؤاخذ بالعمل
ـــــــ
1 صحيح أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة حديث 130, وأحمد 1/279, حديث 25192 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب حديث 127, وابن ماجه حديث 2040, وأحمد 2/393, حديث 9097.

فقط ا هـوأقول: الذي تدل عليه الآيات أن المؤاخذ عليه العمل فقط قال تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7]وهل يوجد عمل بلا تقدم هم؟ ويلزم على كلامه أن يؤاخذ بالعزم وبالعمل ولا تظن صحة هذا، ومقدمات الزنا تدرج في حد الزنا، والأطراف تدرج في القتل وحررهالرابع: المصنف لم يقصد لفظ التلاوة وإلا لقال: فمن يعمل بالفاء ولا قصد رواية القرآن بالمعنى لعدم جوازه كما قدمنا، ولم يحاك كل ما في التلاوة؛ لأنه اقتصر على محل التدليل وإلا لقال: ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره، ومثل هذا التغيير يغتفر في الاقتباس كما هنا، والذرة النملة الصغيرة وقيل أدق الأشياء والاستدلال بها من باب التنبيه بالأدنى على الأعلىولما قدم أن الله تعالى يخرج من أدخله النار من العصاة بسبب إيمانه من غير شفاعة أحدٍ، ذكر هنا أنه قد يكون بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال عاطفًا على إخراجه منها بإيمانه: "ويخرج" أيضًا - سبحانه وتعالى - "منها" أي من النار "بشفاعة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم" ومفعول يخرج "من شفع" عليه الصلاة والسلام "له من أهل الكبائر" الكائن "من أمته" والمعنى: أنه يجب على كل مكلفٍ اعتقاد أن نبينا عليه الصلاة والسلام يشفع في بعض العصاة حتى يخرجوا من النار فيقبل الله شفاعتهقال في الجوهرة: وواجب شفاعة المشفع محمد مقدمًا لا تمنع وغيره من مرتضى الأخيار يشفع كما قد جاء في الأخبار وحقيقة الشفاعة لغةً: الوسيلة والطلبوعرفًا سؤال للغير، والدليل على أنه عليه الصلاة والسلام يشفع قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79] وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] فقيل: إن معناهما الشفاعة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" 1 ولأنه لا يجوز على الله غفران غير الكفر من الذنوب من غير توبةٍ ولا شفاعةٍ فبالشفاعة أولى، ولذا أجمع أهل السنة على ثبوتها له صلى الله عليه وسلم ولسائر المرسلين والملائكة والعلماء والشهداء، يشفع كل واحدٍ على قدر جاهه عند الله تعالى، ففي الصحيحين: "أنا أول شافعٍ وأول مشفعٍ". 2
ـــــــ
1 أخرجه الطبراني في الأوسط 6/106, حديث 5942 بلفظه2 صحيح: لم أجده عند البخاري لكن أخرجه مسلم كتاب الفضائل باب: تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم حديث 2278 بنحوه وبلفظ المؤلف: الترمذي كتاب المناقب باب: في فضل النبي صلى الله عليه وسلم حديث 3616. وابن ماجه حديث 4308.

وله عليه الصلاة والسلام شفاعات أعظمها وأهمها شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف بعد أن يتكلم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حين يعاينون من شدائد الموقف وأهواله وطول القيام فيه لرب العالمين، وزيادة القلق وتصاعد العرق ما يذيب الأكباد وينسي الأولاد مدة ثلاثة آلاف سنةٍ، فيترادونها من آدم إلى عيسى في خمسة آلاف سنةٍ، إذ بين سؤال نبي وآخر ألف سنةٍ كما قاله ابن حجرٍ والقرطبي وغيرهما، فإذا انتهوا إليه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا لها أنا لها أمتي أمتي" 1 وكل من قبله لا يقول إلا نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري فيشفع فيشفع، وهذه مختصة به عليه الصلاة والسلام وتسمى الشفاعة العظمى وهي أول المقام المحمود، خاصةً به وعامةً في جميع الخلق يوم الوقوف للحساب، وهذه مجمع عليها وهي للإراحة من طول الوقوف حيث يتمنوا الانصراف من موقفهم ولو إلى النار، ومن شفاعاته أنه يشفع في إدخال جماعةٍ الجنة من غير حسابٍ، ويشفع في قومٍ استوجبوا النار فلا يدخلونها، وفي جماعةٍ دخلوها فيخرجون منها وهي المرادة هنا في كلام المصنف، ويشفع لجماعاتٍ في رفع درجاتٍ، ويشفع لعمه أبي طالبٍ في تخفيف العذاب عنه بأن نقل من غمراتٍ إلى ضحضاحٍ كما في الحديث"تنبيهات" الأول: علم مما ذكرنا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم له شفاعات كثيرة، وأنه أول شافعٍ وأنه مقبول الشفاعة قطعًا، كما أنه أول واردٍ الجنة، وأول واردٍ المحشر، وأول من تنشق عنه الأرض، وإنما أنكر الشفاعة بعض المعتزلة متمسكين بظواهر آياتٍ منها: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ومنها: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] ومنها: "لا ينال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي"2. وأجاب أهل الحق بأن معنى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] أي ارتضاه للشفاعة له وهم الموحدون، والمراد بالظالم الكافر، والحديث موضوع باتفاق النقلة وعلى تسليمه على المرتدينقال بعض أئمتنا: وحقيق على من أنكرها أن لا ينالهاالثاني: يجوز للعبد أن يطلب من الله أن يكون ممن تناله شفاعة المصطفى ولو لم يكن مذنبًا، لما مر من أنها تكون لرفع الدرجات ولدخول الجنة من غير سبق عذابٍ، ولا يلتفت إلى قول من يقول: إنها لا تكون إلا للمذنبين. قال العلامة ابن رشدٍ: ولا يأنف أحد أن يقول:
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب التوحيد باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء حديث 7510, ومسلم كتاب الإيمان باب: أدنى أهل الجنة منزلة منزلة فيها حديث 1932 موضوع: أسنى المطالب 1/166, وقال: لم يصح وهو من أكاذيب المعتزلة.

اللهم اجعلني ممن تناله شفاعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لسؤال السلف الصالح لها؛ ولأن كل عاقلٍ معترف بالتقصير ومستحق للعفو لعدم اعتداده بعمله، وأيضًا الخاتمة مغيبة عنا لا يعلمها إلا هو، فكل منا لا يدري أين يصير ومن أي فريقٍ، ولذلك قال بعض الصوفية: ينبغي لك يا أخي أن لا تخير نفسك على أحدٍ فإنك لا تدري ما الخاتمةالثالث: قال العلامة الفاكهاني: لا تنافي بين قول المصنف أولًا أخرجه منها بإيمانه، وقوله ثانيًا يخرج منها بشفاعة نبيه؛ لأن الإيمان سبب للشفاعة لتوقفها عليه وسبب السبب سبب، ويصح إسناد الإخراج إلى كل من السببين، ويحتمل أن يكون الإيمان سببًا لأصل الخروج، والشفاعة لتعجيل الخروج من النارولما جرى خلاف في وجود الجنة والنار الآن وعدم وجودهما بين الحق فقال: "و" يجب على كل مكلفٍ أن يعتقد "أن الله سبحانه" وتعالى "قد خلق" أي أوجد "الجنة" فهي موجودة الآن فقد في كلامه للتحقيق. "فأعدها" أي هيأها وصيرها "دار خلودٍ" أي منزل إقامةٍ على التأبيد. "لأوليائه" جمع ولي والمراد بهم هنا المؤمنون من الإنس والجن بناءً على دخولهم الجنة وعليه الأكثر، والمأثور عن مالكٍ والشافعي عدم دخولهم وإنما يكونون في ربضها، وليس المراد الأولياء المتعارفين وهم العارفون بربهم حسب الإمكان المواظبون على الطاعات المجتنبون للمعاصي المعرضون عن الانهماك في الشهوات واللذات؛ لأن الولاية عامة وهي ولاية الإيمان وخاصةً وهي ولاية هؤلاء الجماعةوالجنة لغةً البستان والمراد بها دار الثواب، وهل هي سبع جناتٍ متجاوراتٍ أوسطها وأفضلها الفردوس وهي أعلاها وفوقها عرش الرحمن ومنها تتفجر أنهار الجنة، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة النعيم، وجنة عدنٍ، ودار السلام، ودار الخلد، أو أربعة ورجحه جماعة أخذًا بظاهر قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. ثم قال: ومن دونهما جنتان وقيل واحدة، والأسماء والصفات جارية عليها لتحقق معانيها كلها فيها، والدليل على حقيقة وجود الجنة الآن من ثم إخراجهما منهما بالأكل من الشجرة وكونهما يخصفان عليهما من ورق الجنة وجهين: أحدهما قصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة على ما نطق به الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع الأمة، وحمل الجنة في قصة آدم على بستانٍ من بساتين الدنيا، وآدم على رجلٍ يسمى بذلك كان في حديقةٍ له على ربوةٍ أي محل مرتفعٍ فعصى فيها فأهبط منها إلى بطن الوادي تلاعب بالدين، كما سيشير إلى رده بقوله: وهي التي أهبط منها آدم. إلخ وثانيهما خير

حمل الآيات الصريحة كقوله تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] و {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]ومن السنة: "عرضت علي الجنة فتناولت منها عنقودًا" 1 وغير ذلك من الآيات والأحاديث فإنها صريحة في أن المراد بها دار الثواب، وأن آدم المراد به أبو البشر عليه الصلاة والسلام وهو نبي الله وخليفتهتنبيهان: الأول: علم مما مر أنه لا يجوز إنكار وجود الجنة الآن، فمن أنكر وجودها الآن وفي المستقبل فهو كافر كالفلاسفة، وأما من أنكر وجودها الآن ويعترف بوجودها فيما يستقبل كأبي هاشمٍ وعبد الجبار من المعتزلة فهم مبتدعة، وتمسكهم بأنها لو كانت موجودةً لهلكت لعموم: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] مردود بأنها من المستثنيات التي لا تهلك كالنار والعرش والكرسي والقلم واللوحالثاني: وقع خلاف في محلها كالنار فقال بعض: لا يعلم محلهما إلا من أحاط بكل شيءٍ علمًا، ولعل هذا أحسن الأقوال لعدم ورود الدليل القاطع بتعيين محلهما، وقال بعض: الجنة فوق السموات السبع، والنار تحت الأرض السابعة، وقيل: جهنم محيطة بالدنيا والجنة من ورائها، فلذلك ضرب الصراط على جهنم طريقًا إلى الجنةوفي الحديث أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: تدعوني إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار" 2 وكما من الله سبحانه على المؤمنين بخلق الجنة خصهم بها "وأكرمهم فيها بالنظر" بأبصارهم "إلى وجهه الكريم" المراد بالوجه الذات عند الجمهور، وضمير الجمع لأوليائه، والمفرد المؤنث للجنة، والمذكر لله تعالىقال في الجوهرة: ومنه أن ينظر بالأبصار لكن بلا كيفٍ ولا انحصارٍ فينكشف لهم انكشافًا تاما منزهًا عن المقابلة والمواجهة؛ لأن الرؤية عند أهل الحق قوة للمؤمنين يجعلها الله في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب: رفع البصر إلى الإمام في الصلاة حديث 748, ومسلم كتاب الكسوف باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم حديث 907, والنسائي حديث 1493, وأحمد 1/298, حديث 27112 صحيح: أخرجه أحمد في المسند 3/441, حديث 15693, والحاكم في المستدرك 1/92, حديث 103 وصححه وقال على شرط الشيخين.

خلقه ينكشف لهم بها المرئي ولا تستدعي جرميةً ولا جهةً ولا مقابلةً، وإنما تستدعي مطلق محل تقوم به، وإن جرت العادة بالمقابلة والمواجهة في رؤية بعضنا فإنما ذلك على جهة الاتفاق لا الشرطية، ألا ترى أنا نعلمه سبحانه لا في جهةٍ ولا مكان؟ والمعول عليه في إثبات الرؤية عند أهل السنة الدليل السمعي كالكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22, 23] وآية: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فلولا أنها جائزة ما طلبها موسى عليه الصلاة والسلام، وأيضًا الله تعالى علق رؤية ذاته على استقرار الجبل وهو ممكن فتكون رؤية ذاته ممكنةًوقال مالك رضي الله تعالى عنه: لولا أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة لما عير سبحانه الكفار بالحجب عن رؤيته بقوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لو لم يوقن محمد بن إدريس بأنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا، وأما السنة فحديث: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر" 1 وأما الإجماع فهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مجمعين على رؤيته في الآخرة، وإنما أنكرها المعتزلة متمسكين بشبهة المقابلة التي تقريرها: لو كان مرئيا لكان مقابلًا للرائي بالضرورة فيكون في جهةٍ وحيزٍ وهو محال، وجوابها المقابلة إنما هي شرط في رؤية المخلوق، وقياس الغائب على الشاهد غير صحيحٍ لتوقفه على معرفة حقيقة الغائب وصفته وهي غير ممكنةٍ لنا، وتمسكوا أيضًا بشبهةٍ سمعيةٍ وهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وجوابها أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية، إذ الإدراك الإحاطة بالمدرك وهي محالة على الله، ولذا قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] ولم يقل لا تراه، وإلى الجواب عن الشبهة الأولى أشار صاحب الجوهرة بقوله: بلا كيفٍ، وعن الثانية بقوله: ولا انحصارٍتنبيهات: الأول: علم من تخصيص الإكرام بالنظر في الجنة قصر الرؤيا فيها على المؤمنين وظاهره تناول النساء؛ لأنهن شقائق الرجال، وأما الكفار فلا يرونه لعدم دخولهم الجنة، وأما في عرصات القيامة فقيل عامة وقيل خاصة بالمؤمنين وسيأتي ما فيه، وأما الحيوانات التي
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب: فضل صلاة العصر حديث 554, ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما حديث 633, وأبو داود حديث 4729, والترمذي حديث 2554, وابن ماجه حديث 177, وأحمد 2/293, حديث 7914.

لا عقل لها فلا تراه سبحانه وتعالى لا في الجنة ولا في الموقف، وظاهر كلامهم ولو التي تدخل الجنة؛ لأن الوارد في النصوص في رؤية العقلاء وحرر المسألةالثاني: يدخل فيمن يراه سبحانه وتعالى كل من يحكم له بالإيمان ولو غير مكلفٍ، حتى يتناول الصبيان والملائكة ومؤمن الجن والأمم السابقة والبله والمجانين الذين أدركهم البلوغ على الجنون وماتوا عليه، ومن اتصف بالتوحيد من أهل الفترة؛ لأن إيمانهم صحيح، إذ هو في حكم ما جاء به الرسل في الجملة بناءً على أن غير هذه الأمة يرونه في الجنة وهي محل الرؤية من غير خلافٍ، وخالف بعض العلماء فقال: رؤيته تعالى في الجنة مختصة بمؤمن الإنسوأما الملائكة ومؤمنوا الجن فلا يرونه إلا جبريل عليه السلام فإنه يراه، وأما رؤيته تعالى في عرصات القيامة فتقدم أنها حاصلة لكل أحدٍ وقال قاصرة على المؤمن، وقيل: يراه الكافر أولًا ثم يحجب عنه لتكون الحجبة حسرةً لهالثالث: الرؤية في الجنة تختلف باختلاف الرائي، فمنهم من يراه في الجنة بكرةً وعشيا كالأنبياء والرسل، ومنهم من يراه في العيد أو يوم الجمعةالرابع: الكلام السابق في رؤيته تعالى في غير الدنيا لكن في الموقف الصحيح اختصاصها بالمؤمن كما مر، ومقابله يراه حتى الكافر مطلقًا، وقيل: خصوص المنافق ثم يحجب، وأما في الجنة فالاختصاص بالمؤمن ظاهر لحرمة الجنة على الكافرين، وأما رؤيته تعالى في الدنيا فهي من الجائزات العقلية بدليل طلب سيدنا موسى عليه السلام لها من ربه، ولكن لم تقع له على الأصح ولا لغيره في الدنيا يقظةً إلا لمحمدٍ عليه السلام ليلة الإسراءقال النووي: " والذي عليه أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء "وأما موسى ففي رؤيته خلاف الأصح أنه لم يره، فمن ادعاها من آحاد الناس غيرهما في الدنيا يقظةً فهو ضال بإطباق المشايخ وفي كفره قولان: ففي الحديث: "واعلموا أن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت وهو قاطع للنزاع"وما يقع لبعض المشهورين بالولاية من دعوى رؤيته تعالى يقظةً فيجب حمله على المعرفة لا الرؤية البصرية، وأما رؤيته تعالى في المنام فلا خلاف في صحتها؛ لأن الشيطان لا يتمثل به تعالىالخامس: وقع خلاف في كفر من أنكر الرؤية، فنقل شراح هذا الكتاب كالجزولي

والأقفهسي والشاذلي التكفير، وقال القاضي عياض: وأما مسائل الوعد والوعيد والرؤية وخلق الأفعال وبقاء الأعراض والتولد وشبهها من الدقائق فالمنع من إكفار المتأولين فيها أوضح، إذ ليس في الجهل شيء منها جهل بالله، ولا أجمع المسلمون على تكفير من جهل شيئًا منها، نعم يؤدب ويفسق إن لم يتب، وأما من لا تأويل عنده أصلًا وهو العابد، والجاهل الذي لم يستند إلى شبهةٍ فيكفر، والله أعلمولما جرى خلاف في الجنة التي يحصل فيها النظر هل هي في الدنيا أو هي دار الثواب؟ بين الصحيح من الخلاف بقوله: "وهي" أي الجنة بمعنى دارٍ حديثًا وأيدها دار خلودٍ وأكرم الله فيها أولياءه "التي أهبط" بضم الهمزة لبنائه للمفعول بمعنى أنزل "منها آدم" بالرفع على النيابة عن الفاعل ومنع الصرف العلمية والعجمة، ولو قرأ أهبط بفتح الهمزة والفاعل ضمير مستتر على الله لصح نصب آدم على المفعولية، وآدم عليه الصلاة والسلام هو أبو البشر، سمي بذلك لأدمة لونه وهي حمرة تميل إلى سوادٍ، وكنيته إلى الجنة أبو محمدٍ، كان هبوطه يوم الجمعة، كما كان خلقه يوم الجمعة في جنة عدنٍ عند الجمهور، ومنها أخرج وأنزل إلى الأرض بأرض الهندوقيل بما خلق في الأرض ورد إليها، وعاش ألف سنةٍ، وكانت وفاته يوم الجمعة ودفنه ولده شيث، بغار أبي قيسٍ: وكان طوله يوم خلقه الله من الطين خمسمائة ذراعٍ، ومات وطوله ستون ذراعًا، وعرضه سبعة أذرعٍ، وكان بين خلقه ونفخ الروح فيه أربع جمعٍ من جمع الآخرة، وكان بين دخوله الجنة وخروجه ستة أيامٍ، وسبب هبوطه أنه نهي عن أكل الشجرة فأكل منها، قيل ناسيًا، وقيل متأولًا ظنا منه أنها غير التي نهي عنها، واختلف في تلك الشجرة فقيل شجرة التين، وقيل الحنطة، وقيل غير ذلك، وقصد المصنف بقوله: وهي التي أهبط منها. إلخالرد على من يقول: إن التي أهبط منها آدم جنة في الدنيا بأرض عدن محتجا على ذلك بأن الله تعالى وصف جنة أوليائه بدار الخلد والقرار والمقامة والسلام والجزاء، ولا خوف فيها ولا نصب ولا لغو ولا تأثيم ولا كدر ولا حسد، ومن دخلها لا يخرج منها، وهذه الصفات منفية عن جنة آدم لأنه أخرج منها وكذب فيها إبليس وأثم وتكبر وحسد، ويستحيل وصف الله لها بصفةٍ هي علامة على خلافها، وأجيب عما استدل به بأن صفات الجنة ليست ذاتيةً لها، بل يجوز وصفها بذلك في وقتٍ دون وقتٍ، أو يكون وصفها بتلك الأوصاف موقوفًا على شرطٍ فلا توصف به قبل ذلك الشرط، ولما كان المراد بالجنة في كلامه دار الثواب على الصحيح.

وكان المراد بآدم في كلامه أيضًا أبا البشر وصفه بقوله: "نبيه وخليفته" أي الله تعالى في حكمه بأمره لأن كل نبي خليفته بهذا الاعتباروقيل: سمي بذلك لخلفه من كان قبله أي من الإنس؛ لأن آدم أبو البشر بنص القرآن، فقول يوسف بن عمر: كان قبل آدم سبع أممٍ يتعين فهمه على ذلك راجع قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]. فإنهم بنو الجان فإنهم كانوا في الأرض فلما أفسدوا أرسل إليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال راجع التفسيروما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الأمة توفي سبعون أمةً قبلها هي آخرها" 1 فيجب حمله على أمم الأنبياء السابقين على أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقصد بذلك الرد على من قال: إن آدم الذي أهبط من الجنة ليس هو نبي لله وإنما هو رجل ليس بنبي كان في حديقةٍ له على ربوةٍ أي محل مرتفعٍ فعصى فيها فأهبط منها، فنص المصنف على أن المراد الجنة التي هي دار الثواب، وآدم هو أبو البشر، فيجوز في نبيه وخليفته الرفع والنصب على حكم ما سبق في آدم من الوجهين وصلة أهبط "إلى أرضه" وكذا قوله: "بما سبق في سابق علمه " فإنه متعلق بأهبط، والمعنى: أن الله تعالى أنزل آدم من الجنة إلى الأرض بسبب حصول ما سبق في علمه القديم من مخالفته في الأكل من الشجرةفقوله: في سابق علمه صلة لسبق وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف أي علمه السابق، وهذا سبق حكمٍ ومرتبةٍ لا سبق زمانٍ؛ لأن علمه قديم لا يتقيد بزمانٍ ولا ترتيب في تعلق علمه، بل علمه متعلق بسائر أقسام الحكم العقلي تعلقًا تنجيزيا قديمًا، والهبوط يكون معنويا وحسيا، فالحسي يجوز على الأنبياء والمعنوي لا يجوز عليهم عليهم السلام؛ لأنه الانحطاط في الرتبة، وهبوط آدم حسي وهو رقي في نفس الأمر؛ لأنه ازداد به قدره بسبب النبوة وحصول الذرية وإنزال الكتب السماوية على ما وجد من تلك الذرية وهو الأنبياء والمرسلون وسائر الصالحين، فإهباطه منها ليس طردًا بل لقضاء أوطاره ثم يعود إليها. قال ابن عطاء الله: فكان مراد الحق من آدم عليه السلام الأكل من تلك الشجرة لينزله إلى الأرض ويستخلفه فيها، فكان هبوطًا في الصورة رقيا في المعنى. قال الشيخ أبو الحسن: والله
ـــــــ
1 حسن: أخرجه الترمذي كتاب تفسير القرآن باب: ومن سورة آل عمران حديث 3001 وابن ماجه حديث 4288, وأحمد 5/3. حديث 20037, وانظر صحيح الجامع 2301.

ما أنزل الله آدم إلى الأرض واستخلفه فيها لتنقيصه وإنما أنزله ليجعل له المزية حتى على الملائكة بتعليمهم والقيام بوظائف التكليف، فكمل في آدم العبوديتان: عبودية التعريف وعبودية التكليف، فعظمت منة الله عليه وتوفر إحسانه إليهتنبيهات الأول: علم مما تقرر أن جميع المكلفين من إنسٍ وجن من شخصين آدم عليه السلام وإبليس لعنه
الله، فجميع البشر من آدم وجميع الجن من إبليس، وكان لإبليس سبعة أولادٍ لكل واحدٍ حرفة من حرف السوء لا ينفك عنها كالزنا والسرقة وكالدخول بين الزوج وزوجته بالرمي بالمكاره، ولم أطلع على ما منه ولادة إبليس هل من زوجه أو من نفسه، وأما آدم عليه السلام فقيل ولد له من حواء أربعون بطنًا في كل بطنٍ ذكر وأنثى، وكان يزوج ذكر هذا البطن لأنثى الأخرى، فما مات حتى بلغت ذريته مائة ألفٍ ماتوا جميعًا إلا شيثًا، وخرج من شيثٍ ذرية كثيرة إلا نوحًا، وخرج من نوحٍ ثلاثة أشخاصٍ سام وحام ويافث وهم الذين أعقبوا، فسام أبو العرب والفرس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك والخزرج ويأجوج ومأجوج وما هنالكقال ابن عباسٍ: لما هبط نوح من السفينة لعمارة الأرض نام ذات يومٍ فبدت عورته فنظر إليها حام فضحك ولم يستر عليه، ثم رأى ذلك سام فأعرض بوجهه وغطى عورة أبيه، فلما استيقظ أخبر بذلك، فدعا ولده حامًا فقال له: يا بني غير الله ماء صلبك فلا يلد غير السودان السند والهند والنوبة، وقولنا إلا شيئًا المراد وزوجه، ومثل ذلك يقال في نوحٍالثاني: اختلف في مدة حمل حواء فقيل كغيرها وقيل كانت أقل، كما اختلف في الوطء فقيل ما حصل من آدم إلا في الأرض بعد هبوطه من الجنة والمعلم له جبريل وقيل غير ذلكالثالث: شارك آدم عليه السلام في الهبوط من الجنة حواء وإبليس والحية، فإن إبليس كان من خزنة الجنة وليس من الملائكة على المعتمد؛ لأنه أبو الجن كما مر، وكذا عصا موسى فإنها كانت مع آدم فهبطت معه فتناولتها ذريته حتى وصلت موسى وهي من آس الجنة، وخاتم سليمان فإنه كان مع آدم عليه السلام فخرج به من الجنة وتناولته ذريته حتى وصل لسليمان، والحجر الأسود كان من جواهر الجنان فأخذه آدم فصار حجرًا وهبط معه وصار في أركان الكعبة، والعود الذي منه الطيب، وورق التين الذي ستر سوأتيهما حين بدتا فنزل معهما"و" لما قدم أن الله تعالى خلق الجنة دار إقامةٍ لأوليائه ذكر هنا أنه خلق أيضًا النار دار خلودٍ لأعدائه فقال: "إن الله" تعالى "خلق النار" المراد دار العذاب بجميع طباقها السبع التي أعلاها

جهنم وتحتها لظًى، ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، وباب كل من داخل الأخرى على الاستواء، وبين أعلى جهنم وأسفلها سبعمائة سنةٍ، وحرها هواه محرق ولا جمر لها سوى بني آدم والأحجار المتخذة آلهةً من دون الله، وذكر ابن العربي أن هذه النار التي في الدنيا ما أخرجها الله إلى الناس من جهنم حتى غسلت في البحر مرتين، ولولا ذلك لم ينتفع بها من حرها وكفى بهذا زاجرًا"فأعدها" أي هيأها "دار خلودٍ" على التأبيد "لمن كفر به" أي لم يصدق به"و" لمن "ألحد" أي ارتاب "في آياته وكتبه ورسله" وملائكته واليوم الآخر، والمراد بآياته المخلوقات الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته وتمام قدرته والإلحاد والكفر بمعنًى واحدٍ وهو عدم التصديق بما دلت عليه، ويحتمل أن المراد بآياته آيات كتبه، والإلحاد فيها تأويلها على خلاف ما تأولها السلف الصالح، وبالجملة فعطف ألحد على ما قبله عطف تفسيرٍ"وجعلهم" أي وصير الله تعالى من كفر به أو بشيءٍ من كتبه أو رسله "محجوبين" أي ممنوعين ومطرودين "عن رؤيته" سبحانه وتعالى في الجنة من غير نزعٍ قيل وكذا في عرصات القيامة وقيل يرونه فيها ثم يحجبون على ما تقدم، وإنما حجبوا عن الرؤية لما أنها إكرام وهم ليسوا من أهلهتنبيهات: الأول: عبر بالفعل الماضي هنا وفي قوله سابقًا خلق الجنة إشارةً إلى وجودهما الآن كما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وأنهما لا يفنيان فهما من جملة المستثنيات. قال في الجوهرة: والنار حق أوجدت كالجنه فلا تمل لجاحدٍ ذي جنه دار خلودٍ للسعيد والشقي معذب منعم مهما بقي قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106- 108] أي غير مقطوعٍ، والمراد بالسعيد من مات على الإيمان وإن كان عاصيًا، وبالشقي من استوجب النار وإن كان مسلمًا، ومعنى الاستثناء الأول أن بعض الأشقياء لا يخلد في النار كالعصاة من المؤمنين الذين شقوا بالعصيان، فقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أي عدم خلوده فيخرجه منهاومعنى الثاني أن بعض السعداء لا يخلد في الجنة بل يفارقها ابتداءً يعني أيام عذابه كالفساق من المؤمنين الذين سعدوا بالإيمان والتأبيد من مبدأٍ معينٍ كما ينتقض باعتبار الانتهاء فكذلك باعتبار الابتداء

الثاني: تدخل فيمن كفر من الجن. قال المازري: اتفق العلماء على أن الجن معذبون في الآخرة على المعاصي. قال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [هود: 119] والصحيح أنهم يدخلونها ويثابون فينعمون فيها بالأكل والشرب وغيرهما كما قاله مالك والحسن البصري وجمع كثيروأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة والملك صفا صفا: لعرض الأمم وحسابها، وعقوبتها، وثوابهاولما قدم أن الجنة والنار حق أنهما لا يدخلان إلا بعد الحساب ذكره عقبهما وإن كان الأنسب تأخيرهما عنه فقال: "و" مما يجب اعتقاده حقيقةً "أن الله تبارك وتعالى" أي تزايد وتكاثر خيره وتعاظم وارتفع قدره عما يقول الجاهلون علوا كبيرًا "يجيء" المراد أمره أو حامل أمره أو المراد ظهور آثار قدرته وقهره لاستحالة الحركة والانتقال عليه سبحانه وتعالى، والقصد من ذلك التمثيل بما يظهر عند حضور السلطان من تعظيم هيبته وإتقان سياسته للفصل بين خلقه"يوم القيامة" وهو زمن انقراض الدنيا ولذا يقال له اليوم الآخر؛ لأنه آخر أيام الدنيا، وأوله من النفخة الثانية إلى استقرار الخلق في الدارين، سمي بذلك لقيام الخلق كلهم من قبورهم فيه، وقيامهم بين يدي خالقهم، وقيام الحجة لهم وعليهم وهي مصدر قام، ودخلتها التاء للمبالغة على عادة العرب في نحو علامة ونسابة "و" يجيء "الملك" أيضًا حالة كونه "صفا صفا" أي صفا بعد صف فهو حال من الملك؛ لأن المراد الجنس؛ لأن الاصطفاف إنما يحصل من المتعدد وصفا مصدر لا يصح حمله على ذي الحال، فهو إما على التأويل بالمشتق أي مصطفين، أو على حذف المضاف أي ذوي صفوفٍ وتلك الحال منوية؛ لأن الاصطفاف ليس مقارنًا للمجيء بل بعده وليس صفا الثاني تأكيدًا للأول؛ لأن الصفوف متعددة لما ورد من أنه إذا كان يوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض والسموات، وتكون الخلق إذ ذاك على الصراط يأمرها الله تعالى أن تمتد كالأديم مسيرة خمسمائة عامٍفينزل الخلائق من فوق الصراط وتجتمع فيها فعند ذلك تنزل ملائكة سماء الدنيا فيصطفون ويحتاطون بالخلائق صفا أولًا ثم ملائكة السماء الثانية والثالثة وهكذا بعدد السموات السبع، ثم بعد تناهي الصفوف السبع يقول الله تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] أي بحجةٍ، وخالف لفظ القرآن في تعبيره بيجيء لمطابقة الواقع؛ لأن لفظ الماضي في الآية على معنى المضارع فهو من باب الاقتباس بناءً على جوازه وهو يغتفر فيه التغيير اليسير المناسب للمقام، والملك مفرد الملائكة

وهم عند الجمهور أجسام لطيفة نورانية أعطاها الله قدرة التشكل بأشكالٍ مختلفةٍ كاملةٍ في العلم والقدرة على الأفعال الشاقة، شأنها الطاعات ومسكنها السموات رسل الله إلى أنبيائه وأمناؤه على وحيه يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وكثيرًا ما يعينون الناس على الأفعال الشاقة كالغلبة على الأعداء وكالطيران في الهواء والمشي على الماء، بخلاف الشياطين من الجن فإنهم من النار أو الهواء وإنما يعينون على الشر، وصلة يجيء قوله: "لعرض الأمم" عليه تعالى لينظر في أحوالهاوروي أنه في يوم القيامة ثلاث عرضاتٍ: عرضتان للاعتذار والاحتجاج والتوبيخ والثالثة فيها نشر الكتب، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك يأخذه بشماله، والأمم جمع أمةٍ وهي طوائف المخلوقين بناءً على بعث كل مخلوقٍ أو خصوص من يحاسب من الثقلين"وحسابها وعقوبتها وثوابها" فإن بعض تلك المذكورات وهو الثواب يختص بالثقلين، واختص الحساب بتلك الحالة؛ لأنها أضيق الأحوال باحتياط الملائكة بهم سبع صفوفٍ لا يستطيع ذو البطش منهم الهروب نسأله - سبحانه وتعالى - الإعانة عليه، وعطف الحساب وما بعده على العرض من عطف السبب على المسبب؛ لأن العرض إنما هو لأجل الحساب وما بعده، ولكن يجب عليك أن تعتقد أن محاسبة الرب لعبده ليست للإحاطة بجرائمه التي يعاقب عليها والحسنات التي يثاب عليها؛ لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية بل {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12] إنما ذلك للتخويف بإفشاء الحال بإظهار تفاوت مراتب أرباب الكمالات وفضيحة أرباب الضلال، ومعلوم أن العقوبة والإثابة ناشئتان عن الحساب ومرتبتان عليه، وليس من باب اللف والنشر كما قاله بعض الشراح وعظائم العرض على الرب لا تخفى على أحدٍ فإنه اليوم الذي يذيب الأكباد ويفر فيه الوالد من بنيه والأخ من أخيه ويشتد فيه القلق ويكثر فيه العرق حتى يغوص في الأرض سبعين ذراعًا، وأما على ظهرها فيختلف باختلاف الأشخاص وتفاوتهم في المراتب، فمنهم من يلجم بعرقه ومنهم من يغوص بنصفه في عرقه ومنهم دون ذلك، يوم تشهد فيه الألسن والأيدي والأرجل والسمع والبصر والجلود والأرض والليل والنهار والحفظة الكرام وتتغير فيه الألوان، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وبالجملة العرض والحساب وشدائدهما معلومة لا ينكرها إلا ملحد، فينبغي للعاقل أن يحافظ على فعل المأمورات واجتناب المنهيات لعل أن ينجو من المهلكاتتنبيهان: الأول: ظاهر كلام المصنف اختصاص الحساب بالمكلف لقوله وعقوبتها، وقال

شيخ مشايخنا اللقاني: ولم أقف على نص صريحٍ في حساب الأطفال والبله والمجانين وأهل الفترة ووقع التوقف في العرض هل هو عام في الكافر وغيره ممن لا يحاسب كالسبعين ألفًا أو لا يعرض إلا من يحاسب؟ قال الفاكهاني: لم أر في ذلك نصا والعرض أخص من الحشر، فلا ينافي ما قيل إن البهائم تحشر، ووقع خلاف فيما يدعى به الشخص يوم القيامة والصحيح أنه يدعى بأبيه ولو من زنًى، وقيل يدعى بأمه بأن يقال له: يا فلان ابن فلانة سترًا لولد الزناالثاني: الحساب لغةً العدد واصطلاحًا توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرًا كانت أو شرا، تفصيلًا لا بالوزن إلا من استثنى منهم، واختلف العلماء في معنى محاسبته تعالى عباده على أقوالٍ: أحدها أن الله تعالى يخلق فيهم علمًا ضروريا بمقادير أعمالهم، وثانيها أن يوقفهم بين يديه ويؤتيهم كتب أعمالهموثالثها: أن يكلم الله عباده في شأن أعمالهم بأن يسمعهم صوتًا يخلقه يسمع منه كل واحدٍ بحيث يفهم منه جميع ما له وعليه، ولا شك أن كيفية الحساب مختلفة، فمنه اليسير ومنه العسير ومنه الجهر ومنه السر، ويكون للمؤمن والكافر والإنسي والجني إلا من ورد الحديث باستثنائه ففي حديث حذيفة: "أول من يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا مع كل ألفٍ سبعون ألفًا ليس عليهم حساب"وإذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمةٍ فلا يحاسب، فلا يبعد أن يكون من الكافرين من هو أدنى إلى غضب الله فيدخل النار ولا يحاسب أيضًا"فائدة": من أسباب النجاة من أهوال يوم القيامة قضاء حوائج المسلمين وتفريج الكرب عنهم والتجاوز لهم في معاملاتهم أخذًا وعطاءً، وكذا إشباع الجائع وكسوة العريان وإيواء ابن السبيل وغير ذلك مما فيه رفق بالمسلمين، ولما كانت أحوال الناس يوم القيامة مترتبةً، أولها: البعث وهو إخراجهم من قبورهم وإعادتهم لما كانوا عليه ويقال له النشور؛ لأنهم ينتشرون حين خروجهم من قبورهم وثانيها: الحشر والجمع المشار إليه بقوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47] ثالثها: القيام لرب العالمينرابعها: العرض على الربخامسها: تطاير الصحف وأخذها بالأيمان والشمائل التي يقولون عند أخذها: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].

سادسها: السؤال والحسابوسابعها: الميزان أشار إليه بقوله: "وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد" والمعنى: أن مما يجب الإيمان به وزن أعمال العباد الذين يحاسبون لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]وقال تعالى أيضًا: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8 ] "فمن ثقلت موازينه" أي موزوناته "فأولئك هم المفلحون" أي الناجون، وقد بلغت أحاديثه مبلغ التواتر وانعقد عليه إجماع أهل الحق، وأنه ميزان حسي له كفتان ولسان توضع فيه صحف الأعمال أو أعيانها بعد تجسيمها ليظهر الراجح والخاسرقال في الجوهرة: ومثل هذا الوزن والميزان فتوزن الكتب أو الأعيانتنبيهات: الأول: إنما قيدنا بالذين يحاسبون لما قاله القرطبي بأن الميزان ليس لكل أحدٍ للحديث الصحيح فإن فيه: يقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن1 وأجزي الأنبياء فالذي لا يحاسب لا توزن أعماله، وذكر بعض الأكابر: أهل الصبر أيضًا لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صباالثاني: ظاهر قوله: العباد شمول الكفار وفيهم قولان. فمن قال بدخولهم نظر لعموم الآيات، ومن قال بعدم دخولهم فقد نظر لظاهر قوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105] وأولها من قال بالأول بأنه على حذف الصفة أي نافعًا، والإنس والجن في كل ذلك سواءالثالث: وقت الوزن بعد الحساب كما ذكرنا ومكانه بين الجنة والنار، وإحدى كفتيه على الجنة والأخرى على النار، والمنتصب لذلك جبريل؛ لأنه الذي يأخذ بعموده مستقبلًا به العرش وميكائيل أمين عليه وهو ميزان واحد لجميع الخلق، وقيل متعدد بتعدد الأمم، وقيل بعدد المكلفينالرابع: ظواهر الأحاديث وأقوال العلماء أن كيفية الوزن خفةً وثقلًا في الآخرة مثل كيفيته في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن باب: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3] حديث 4712, ومسلم كتاب الإيمان باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها حديث 194, والترمذي حديث 2434, وأحمد 2/435, حديث 9621.

الدنيا ما ثقل ورجح نزل إلى أسفل ثم يرفع إلى عليين، وما خف طاش إلى أعلى ثم نزل إلى سجينٍ، وعلامة الرجحان ظهور نورٍ وعلامة عدمه ظهور ظلمةٍ، وقيل: يخلق الله لصاحب العمل علمًا ضروريا يعرف به الراجح من الحسنات أو السيئاتالخامس: سكت المصنف عن مقابل: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [الأعراف: 8] وهو {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 9] فيحتمل أنه فأولئك هم الخاسرون ويحمل على الكافر وهو الظاهر، وسكت أيضًا عمن تساوت حسناته وسيئاته قيل: وهم أصحاب الأعراف وهو سور بين الجنة والنارقال المفسرون: أصحاب الأعراف طائفة من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم استوت حسناتهم وسيئاتهم فمنعتهم الحسنات من النار والسيئات من الجنة فيقومون في سور الجنة ثم يدخلهم الله الجنة برحمته وهم آخر من يدخلها كما قال بعض العلماءالسادس: سكت عن الصنج التي يوزن بها، فقال بعض العلماء كمثاقيل الذر تحقيقًا للعدل، وأقول: الظاهر من قولهم: توضع الحسنة في كفةٍ والسيئات في كفةٍ أن الصنج إنما يحتاج إليها فيمن له حسنات فقط أو سيئات فقط، وأما من له حسنات وسيئات فإنها توضع حسناته في مقابلة سيئاته حررهالسابع: قال العلامة ابن ناجي: إذا وقع الوزن بين العباد في المظالم والحقوق وتعدت بالدال المهملة بمعنى فرغت حسنات الظالم قبل فراغ ما عليه فإنه يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم كما نص عليه مسلم وغيره ولا يعارضه قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أي لا تحمل نفس ذنب أخرى لما قاله المفسرون من أن الآية في شخصين لا حق لواحدٍ منهما على الآخر، فأما هذه فبذنبه أخذ وبكسبه غفرت، ومحل الطرح المذكور إذا مات الظالم وهو قادر على القضاء، وأما إذا مات عاجزًا فلا يطرح عليه من سيئات مظلومه شيءقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام بعد الكلام السابق: فإن لم يكن للمظلوم سيئة كالأنبياء ولا للظالم حسنة كالكفار فيعطى المظلوم من الثواب بقدر ما يستحقه على الظالم، ويزاد في عقوبة الظالم بقدر ما كان يأخذ منه المظلوم أن لو كان ثم ما يؤخذ، ثم قال: واختلف العلماء إذا كان المظلوم ذميا والظالم مسلمًا فقال بعضهم: يسقط حقه كالحربي، وقال آخرون: صار حقا للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب به الظالم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو

أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه يوم القيامة" 1 والحديث بلغت رواته مبلغ التواترالثامن: ليس وزن أعمال العباد للوصول للإحاطة بمقادير أعمال العباد، وإنما حكمة ذلك امتحان المكلفين بالإيمان بذلك في دار الدنيا وتخويفهم من عاقبة السيئات وترغيبهم في فعل الخيرات، لأن علمه تعالى محيط بكل شيءٍ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52]"و" مما يجب الإيمان به أن المكلفين الذين أراد الله حسابهم "يؤتون" أي يعطون "صحائفهم" جمع صحيفةٍ وهي الكتب المشحونة "بأعمالهم" التي كتبها عليهم الحفظة، وتقدم أن أخذ الصحف بعد العرض وقبل السؤال والحساب، فكان الأولى للمصنف أن يقدم أخذ الصحف على الوزن؛ لأن الوزن بعد الحساب والحساب بعد أخذ الصحف، والدليل على أحقية أخذ الصحف الكتاب والأحاديث والإجماعقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وما ذكرناه من أن المراد بالصحائف كتب الملائكة التي كتبت فيها أعمالهم في الدنيا هو الصحيح، ولم يذكر من يؤتي لهم الكتب ويدفعها لهم لما فيه من الخلاففقيل إن الريح تطيرها من خزانةٍ تحت العرش فلا تخطئ صحيفة عنق صاحبها، وقيل إن كل أحدٍ يدعى فيعطى كتابه، فأما المؤمن الطائع فيأخذ كتابه بيمينه، والكافر يأخذ كتابه بشماله، ووقع التوقف في المؤمن العاصي والمشهور أنه يأخذ كتابه بيمينه، ومقابلة المؤمن بالكافر تدل على المشهور"فمن أوتي كتابه بيمينه" ولو عاصيًا "فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا" أي سهلًا هينًا، ويدل عليه آية {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء: 71] أي لا ينقصون من ثوابهم مقدار فتيلٍ وهو القشر الذي في شق النواة، سمي بهذا؛ لأن الإنسان إذا أراد استخراجه ينفتل وهو ضرب مثلٍ للشيء الحقير ومثله النقير والقطمير"وأما من أوتي كتابه وراء ظهره" وهو الكافر إجماعًا"فأولئك يصلون سعيرًا" والتلاوة {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق: 11- 12] قال المفسر: أي يتمنى الثبور بقوله يا ثبوراه
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء باب: في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات حديث 3052, وانظر صحيح الجامع 2655.

وهو الهلاك، والصلى الاحتراق أي يذوقون حرها، والسعير اسم لطبقةٍ من طباق النار، والظاهر أن المصنف أطلقه هنا على النار، وقوله وراء ظهره هو لفظ القرآن في آيةٍ وفي أخرى بشماله، ويجمع بينهما بأن الكافر يدخل، يده اليسرى من صدره وتخرج من وراء ظهره ثم يعطى كتابه بشماله وتكون وراء ظهره، ويجمع أيضًا بأن شماله تجعل وراء ظهره ويعطى كتابه بهاتنبيهات: الأول إنما قلنا: الذين أراد الله حسابهم لإخراج الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ فإنهم لا يأخذون صحفًا وكذا الملائكة والأنبياء، نعم ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاص أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء، وعدم اختصاصه أيضًا بالإنس بل الجن كذلك المؤمن والكافرالثاني: أول من يعطى كتابه بيمينه مطلقًا وله شعاع كشعاع الشمس عمر بن الخطاب، وقيل عند ذلك يا رسول الله فأبو بكرٍ؟ قال: هيهات زفت به الملائكة إلى الجنة كما في الحديث، وبعده أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وهو أول من هاجر من مكة إلى المدينة، وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه الأسود بن عبد الأسد، وتأمل هذا العجب في هذين الأخوين، وهذا يقتضي أن عمر بن الخطاب ليس من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍالثالث: ظواهر النصوص أن القراءة حقيقية وقيل مجازية عبر بها عن علم كل أحدٍ بما له وما عليه، ولفظ الحسن البصري يقرأ كل إنسانٍ كتابه أميا كان أو غيرهولما فرغ من أحوال القيامة والحساب والوزن. شرع في الطريق الموصل لكل من الدارين بقوله: "وأن الصراط حق" أي أن مما يجب الجزم بحقيقته وجود الصراط يوم القيامة يرده الأولون والآخرون حتى من لا حساب عليه وهو بالصاد وبالسين المهملتين وبالزاي المعجمة على نزاعٍ في إخلاصها ومضارعتها بين الصاد والزاي من صرت الشيء بكسر الراء إذا ابتلعته؛ لأنه يبتلع المارة، كما أن الطريق كذلك وحقيقته في اللغة الطريق الواضح وشرعًا قال السعد: هو جسر ممدود على متن أي ظهر جهنم أرق من الشعرة وأحد من السيف، دل عليه الكتاب والسنة واتفقت عليه الكلمة في الجملة قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس: 66] وقال عليه الصلاة والسلام: "ينصب الصراط على متن جهنم فأكون أول من يجوزه أنا وأمتي""تجوزه العباد" جميعًا لكن جوازهم عليه مختلف إذ هو "بقدر أعمالهم" التي عملوها في

الدنيا، وأل في العباد للاستغراق فيشمل من يحاسب ومن لم يحاسب كالسبعين ألفًا ونازع بعض في الكفار قائلًا: لا يمرون عليه وحمل كلامه على أثناء المرور لا على ابتدائه فإنه شامل للكافر"فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه" والمعنى: فقوم ممن يمر عليه ناجون "من نار جهنم" أي من السقوط فيها وهم المؤمنون إذ هي بين الخلائق وبين الجنة والصراط على ظهرها فلا يدخل أحد الجنة حتى يمر على جهنم، ولا يتكلم أحد حينئذٍ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان تختطف الناس بأعمالهم، ففي الحديث: "يمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل ومنهم الماشي ومنهم الحابي""وقوم أوبقتهم" أي أوقعتهم "فيها" أي في جهنم "أعمالهم" وهم متفاوتون أيضًا فمنهم من يسقط ولا يخرج وهو الكافر، ومنهم من يسقط ويمكث فيها مدةً ثم يخرج منها كعصاة المؤمنين. قال الحليمي: لم يثبت أنه يبقى إلى خروج الموحدين من النار ليجوزوا عليه إلى الجنة أو يزال ثم يعاد لهم أو لا يعاد أو تصعد به الملائكة إلى السور الذي هو الأعرافتنبيهات: الأول: ما قدمناه من أنه أرق أو أدق من الشعرة وأحد من السيف هو على ظاهره على الصواب خلافًا للقرافي في قوله الصحيح: إنه عريض، وخلافًا لمن حمله على الأدلة الواضحة لوجوب حمل النصوص على ظواهرها إلا ما خالف القواطع، والعبور عليه ليس بأبعد من المشي على الماء والطيران في الهواء ورفع السماء بغير عمدٍ، ولا يشكل على الصواب ما قيل من أن فيه كلاليب تأخذ من أمرت بأخذه؛ لأن كونه أرق من الشعرة لا ينافي ذلكالثاني: إنما قيدنا وجود الصراط بيوم القيامة؛ لأنه جرى خلاف في وجوده الآن وعدم وجوده، كما جرى خلاف فيما منه الصراط، فالذي نقل عن البرهان الحليمي أن الصراط شعرة من شعر جفن مالكٍ خازن النار. وفي كلام الشهاب ما يرد قول البرهان: وأن الحق تفويض معرفة حقيقته إلى الله تعالىالثالث: ما قدمناه من أن جهنم بين الخلائق وبين الجنة يعين أن الجنة مجاورة للنار، ويشكل على قول القائل: إن الجنة فوق السماء السابعة والنار تحت الأرض السابعةالرابع: قد قدمنا أن المرور عليه بعد الحساب وفي بعض الأحاديث أن مسيرته ثلاثة آلاف

سنةٍ، وألف صعود وألف استواء وألف هبوط، وحكمته ظهور عظيم فضله تعالى على المؤمنين في النجاة من النار، وليتحسر الكافر بفوز المؤمن وسقوطه هو في جهنم مع اشتراك الجميع في أصل المرورولما كان الإنسان يغلب عطشه عند خروجه من قبره ذكر الحوض فقال: "والإيمان" أي التصديق "بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم" واجب ويبدع منكره دل على حقيته: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] بناءً على أنه الحوض، وقوله صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهرٍ زواياه سواء وماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه عدد نجوم السماء فمن شرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا، ويشخب فيه ميزابان من الجنة وهو في الأرض المبدلة وهي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم ولا ظلم على ظهرها أحد" وسألت عائشة - رضي الله تعالى عنها - النبي صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال: "على الصراط" والله أعلم"ترده أمته" عليه الصلاة والسلام "لا يظمأ من شرب منه" بعد ذلك أبدًا، وظاهر كلام بعض الشيوخ أن وروده قبل الوزن وقبل الحساب وقبل الصراط وهو المختارقال بعض العلماء: جهل التقدم والتأخر في الميزان والحوض والصراط غير قادحٍ في العقيدة وإنما الواجب اعتقاد ثبوتها. "ويذاد" بالذال المعجمة وبعدها مهملة يبعد "عنه من بدل وغير" مرادف لما قبلهإلا أن الذي غير بكفرٍ ومات عليه يطرد أبدًا وأما من غير بعصيانٍ دون كفرٍ فهو في المشيئةتنبيهان: الأول: مفهوم قول أمته يقتضي أن أمة غيره لا ترده وإنما ترد حوض أنبيائها لما في الحديث: "من أن لكل نبي حوضًا وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردةً وأنا أرجو أن أكون أكثرهم واردةً" 1 وهذا حديث غريبفإن قيل: إن كان لكل نبي حوض فلأي شيءٍ خص وجوب الإيمان بحوض المصطفى - على الجميع الصلاة والسلام ؟ قلت: لاتفاق الأحاديث على وجوده دون غيره، ويقتضي مفهوم أمته أيضًا أن الشرب منه مختص بمؤمني هذه الأمة فغير أمته يطرد عنهوقال ابن عبد البر: ومن المطرودين عن حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم كل من أحدث في الدين ما
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة والرقائق والورع باب: ما جاء في صفة الحوض حديث 2443, وانظر صحيح الجامع 2156.

ليس منه كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء، وقال غيره: وكذا الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائرالثاني: ماء الحوض من نهرٍ في الجنة كما قدمناوحصل التوقف هل في الموقف ماء أم لا ؟ روى ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكان الوقوف بين يدي رب العالمين هل فيه ماء؟ فقال: "أي والذي نفسي بيده إن فيه لماءً وإن أولياء الله ليردون حوض الأنبياء ويبعث الله سبعين ألف ملكٍ بأيديهم عصًى من نارٍ يذودون الكفار عن حياض الأنبياء". 1
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه"، قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذٍ؟ قال: "نعم لكم سيمى أي علامة ليس لأحدٍ من الأمم تردون غرا محجلين من آثار الوضوء"ولما فرغ من السمعيات التي يجب الجزم بحقيقتها شرع في بيان حقيقة الإيمان فقال: "وإن الأيمان" على طريقة السلف التي جرى عليها المصنف "قول باللسان وإخلاص بالقلب" أي تصديق بجميع ما جاء به الرسول، لأن هذا هو المعتبر في الإيمان لا الإخلاص المقابل للرياء. "وعمل بالجوارح" لكن أعمال الجوارح شرط لكماله كما يأتي في كلامه، وأما حقيقة الإيمان عند جمهور الأشاعرة والماتريدية فهو التصديق القلبي بجميع ما جاء به عليه الصلاة والسلام، وأما النطق باللسان فإنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا على المشهور من الخلاف، كما أن المشهور أن أعمال الجوارح شرط لكمال الإيمان على كلام السلف وجمهور الأشاعرة والماتريدية، وقد قدمنا ما فيه شفاء العليلولما جرى خلاف في قبول الإيمان الزيادة والنقص وكان الراجح القبول قال: "يزيد" أي الإيمان بقطع النظر عن محله "بزيادة الأعمال وينقص بنقصها" وفرع على ذلك قوله: "فيكون فيها" أي الأعمال أي بسببها على حد: دخلت امرأة النار في هرةٍ أي بسببها "النقص" في الإيمان "وبها الزيادة" دل على ذلك العقل والنقل، أما العقل فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان الفسقة مساويًا لإيمان الأنبياء والصديقين واللازم باطل فملزومه كذلكوأما النقل فلكثرة النصوص نحو {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال: 2] {وَمَا زَادَهُمْ
ـــــــ
1 أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وانظر كنز العمال 39009.

إِلَّا إِيمَاناً} [الأحزاب: 22]وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو وزن إيمان أبي بكرٍ بإيمان هذه الأمة لرجح عليها" 1 وكلما يقبل الزيادة يقبل النقص فتم الدليل، وهذا واضح على تفسير الإيمان بالتصديق والعمل، وأما على تفسيره بنفس التصديق فكذلك يزيد بزيادة النظر في الدليل وينقص بعدمهاوعلى هذا الراجح جمهور الأشاعرة والفقهاء، والمحدثون والمعتزلة، ونقله الشافعي والإمام مالك والإمام البخاري، ومقابله لجماعةٍ أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه أصحابه وطائفة من المتكلمين أنه لا يزيد ولا ينقص لأنه اسم التصديق البالغ حد الجزم وهو لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات وغيرها بأن المراد بالزيادة بحسب الدوام وكثرة الزمان، أو أن المراد زيادة الأحكام التي لا تتجدد؛ لأن الشرع كان يتجدد شيئًا فشيئًا، فالمراد زيادة متعلقاته وهو ما يجب الإيمان به، وأشار لهذه المسألة صاحب الجوهرة بقوله: ورجحت زيادة الإيمان بما تزيد طاعة الإنسان ونقصه بنقصها وقيل لا وقيل لا خلف كذا قد نقلا وأشار بقوله: وقيل لا خلف إلى قول الفخر الرازي مع جماعةٍ: إن الخلاف لفظي؛ لأن من يقول بقول الزيادة والنقصان يفسره بالتصديق والأعمال، ومن يقول بعدم قبوله الزيادة والنقصان يفسره بالتصديق فقط، وأشار بقوله: كذا قد نقلا إلى التبري من هذا القول وأن الخلاف حقيقي؛ لأن الأصح أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلكولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحدٍ يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، ولا يقال: إن قبل التصديق النقص والزيادة كان شكا. لأنا نقول: مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، فالأول هو العلم المستفاد من الخبر، والثاني هو المستفاد من المشاهد، والثالث هو المستفاد من المعاينة والمباشرة معًاتنبيهات: الأول: إنما قلنا بقطع النظر عن محله؛ لأن محل الخلاف في إيمان غير الأنبياء
ـــــــ
1 موقوف على عمر بإسناد صحيح أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1/69, وعبد الله ابن الإمام أحمد في السنة 1/378 من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال العراقي: رواه البيهقي في الشعب موقوفا على عمر وإسناده صحيح 1/130.

والملائكة لما قاله سيدي أحمد زروق من أن إيمان أهل الاختصاص كالأنبياء والملائكة لا يجوز عليه النقص وإيمان غيرهم يزيد وينقص والحاصل أن إيمان الأنبياء دائمًا في زيادةٍ على توالي الزمان، وإيمان الملائكة لا يزيد ولا ينقصالثاني: قد قدمنا ما يتعلق بمرادفة الإيمان للإسلام أو مخالفتهما وأنهما باقيان بعد موت صاحبهما حكمًا كبقائهما حال النوم والغفلة؛ لأن الوصف الثابت الذي لم يحصل ما يضاده يحكم ببقائه وأنهما مخلوقان، ومن قال الإيمان قديم فباعتبار أصله وهو التوفيق فإنه فعل الله قد بناه على مذهب الماتريدية القائلين بقدم صفات الأفعال ومذهب الأشعري حدوثها، فيكون التوفيق مخلوقًا أيضًاولما كان يتوهم من قوله: وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل الجوارح توقف صحة الإيمان على عمل الجوارح وإن قيل به، نبه هنا على أن العمل شرط كمالٍ فقط بقوله: "ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل" مراده بقوله الإيمان القول الدال على الإيمان وهو النطق بالشهادتين أو ما يقوم مقامه. والمراد بالعمل الطاعات، وأشار بهذا المصنف إلى دفع ما يتوهم من أن الأعمال شرط في صحة الإيمان وليس كذلك، بل المعتمد أن عمل الجوارح شرط في كمال الإيمان على كلام أهل السنةوالمصنف جرى عليه حيث قال: ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل فمن صدق بقلبه ونطق بلسانه وترك الأعمال الواجبة كسلًا كان إيمانه صحيحًا إلا أنه ناقص. والحاصل أن الأعمال جزء من الإيمان الكاملقال القسطلاني في شرح البخاري: والإيمان عند البخاري كابن عيينة والثوري وابن جريجٍ ومجاهدٍ ومالك بن أنسٍ وغيرهم من سلف الأمة وخلفها من المتكلمين والمحدثين قول باللسان وهو النطق بالشهادتين وعمل بالقلب والجوارح فتدخل الاعتقادات والعبادات، وما نسب لأكثر السلف من أن الإيمان اسم للتصديق والعمل فهو مؤول بالإيمان الكامل كما قاله ابن التلمساني ومن وافقه، ويدل على هذا التأويل إدخال الفاسق تحت الإيمان، ولولا التأويل لكان في غاية الصعوبة لبطلان الماهية المركبة ببطلان جزئها، والقول بأن الأعمال شرط في صحة الإيمان قول المعتزلة وهو ضعيف كقول الكرامية: إن الإيمان النطق بكلمتي الشهادتين فقط، وكقول قومٍ: إنه العمل فقط"ولا" يكمل "قول و" لا "عمل إلا بالنية" أي عمل يفتقر إلى نيةٍ فهو عام أريد به الخصوص

وهذا إن أريد بالنية حقيقتها، وإن أريد بها الإخلاص فيصح بقاؤه على عمومه في الأعمال التي يدخلها الرياء ثم إن فسرت النية بالإخلاص فالمراد بلا يكمل لا يحصل ثوابه، وإن أريد بها حقيقتها فمعناه لا يصح، ومثال الأقوال التي تحتاج إلى نيةٍ كالأذان والاستغفار وغيره مما يجب في العمر مرةً كالشهادتين والحمد والتسبيح فإنها تفتقر إلى نية أداء الواجب، هذا محصل معنى كلام الأجهوري ولي وقفة في قوله ثم إن فسرت النية بالإخلاص فالمراد بلا يكمل لا يحصل ثوابه بما قاله القرافي وغيره من حكاية الإجماع ببطلان العبادة بالرياء إن شملها من أولها إلى آخرها، وإن شمل بعضها وتوقف آخرها على أولها كالصلاة ففي صحتها تردد قاله اللقاني في شرح عقيدتهويكمل صحة كلام الشيخ الأجهوري على أن المراد بعدم الإخلاص عدم ملاحظة كون العمل لله تعالى وهذا لا يقتضي الفساد، وإنما يفوت الكمال وعدم الإخلاص المقتضي للفساد هو فعل العبادة لقصد غير الله تعالى وهذا هو الرياء الذي يفسد العمل، واستظهر الفاكهاني أن المراد بالنية هنا الإخلاص وهو أن يعمل العمل لله خالصًا بأن يفرده بالعبادة لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5 ] فإذا ابتدأ العمل لغير الله فسد اتفاقًاوإن ابتدأ لله وأحب بقلبه أن يحمد عليه فلا يضر ذلك، وإن ابتدأه واطلع عليه في أثنائه وأحب بقلبه أن يحمد واستمر على ذلك ولم يدفعه بقلبه فما بعد ذلك يبطل اتفاقًا وما قبله على المشهور، وقيل
يصح وإن أبى ذلك بقلبه ودفعه فلا يبطل اتفاقًا. "ولا" يكمل "قول" وهو ما يصدر من اللسان كالأذان والحمد"و" لا "عمل و" لا "نية إلا بموافقة السنة" أي طريقة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فليس المراد بالسنة المقابلة للكتاب بل المراد شريعته، وهي ما دل عليه الأدلة الشرعية كالكتاب والسنة والإجماع والقياس، ومما دلت عليه شريعته الإخلاص في العمل، فمن عمل على شريعةٍ غير شريعته صلى الله عليه وسلم لم ينتفع بعمله، فثبت بهذا أن القول والعمل يجب على الآتي بهما عرضهما على شريعته، فما وافقها كان صحيحًا وما خالفها لا يلتفت إليه؛ لأنه إما معصية أو قريب منها، والموافق لها ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف أو أضيف إلى واحدٍ منها، وما خرج عن هذه المذكورات فهو بدعة وإن اعتقد قربته وصحت فيه نيتهقال ابن عمر رحمه الله تعالى: هذا الفصل الذي قاله أبو محمدٍ يشتمل على خمس قواعد: الأول أن من آمن بقلبه ونطق بلسانه وعمل بجوارحه بنيةٍ وكان عمله موافقًا للسنة فهذا هو

المؤمن الكامل، فإن لم ينطق بلسانه ولا صدق بقلبه فهذا هو الكافر، ومن آمن بقلبه ونطق بلسانه ولم يعمل بجوارحه كان فاسقًاومن نطق بلسانه وعمل بجوارحه ولم يخلص بقلبه كان منافقًا، ومن آمن بقلبه ونطق بلسانه وعمل بجوارحه بنيةٍ غير موافقةٍ للسنة كان مبتدعًا، ومن عمل بغير نيةٍ شرعيةٍ بأن قصد بفعله الناس كان مرائيًا فيكون عمله باطلًا ويسمى الشرك الأصغر، وإنما بطل عمل المرائي؛ لأن الله تعالى أمر بالعبادة متلبسةً بالإخلاص حيث قال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] ومن عمل العبادة لغيره تعالى لم يأت بشرطها، وليس من الرياء محبة رؤية الناس له حيث ابتدأ العمل لله تعالىتنبيهان: الأول: اشتمل كلام المصنف على أربعة مسائل:
الأولى: بيان كمال الإيمان بالإقرار والنطق وعمل الجوارح. والثانية: قبول الإيمان الزيادة والنقصوالثالثة: التصريح بأن عمل الجوارح شرط لكمال الإيمان. والرابعة: بيان أن صحة الأعمال والأقوال والنيات بموافقة شرعه صلى الله عليه وسلمالثاني: ربما أشعر سكوته عن الإسلام باتحاده مع الإيمان؛ لأن الإسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى قبول الحق والإذعان له وهو حقيقة التصديق ويشهد له قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35- 36]قال التفتازاني: وبالجملة لا يصح في الشرع أن يحكم على أحدٍ أنه مؤمن وليس بمسلمٍ، أو مسلم وليس بمؤمنٍ، ولا يعني بوحدتهما سوى هذا يعني أنهما غير متعددين في الخارج شرعًا وإن اختلف مفهومهما، وصرح بعضهم بذلك فقال: المراد بوحدتهما أن أحدهما لا ينفك عن الآخر، وأما باعتبار المفهوم فهما مختلفان، وعليه يحمل حديث جبريل وآية: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] والحديث والآية صريحان في مغايرة الإسلام للإيمان، والحاصل أن من قال بالتغاير أراد المفهوم. ومن قال بالاتحاد نظر باللزوم الخارجي الموافق للشرع فافهمولما جرى خلاف في كفر صاحب الكبيرة وكان الصحيح عدم كفره نبه عليه بقوله: "وأنه" أي والحال والشأن "لا يكفر أحد" ممن حكم بإسلامه "بذنبٍ من أهل القبلة" أي الصلاة، والمعنى: أن من تقرر بالإيمان الجازم إيمانه وتحقق بالإتيان بالشهادتين إسلامه إذا ارتكب ذنبًا

ليس من المكفرات وكان غير مستحل له فإنه لا يكفر عندنا بارتكابه، ولا يخرج به عندنا عن الإيمان صغيرًا كان الذنب أو كبيرًا، خلافًا للخوارج في التكفير بارتكاب الذنوب ولو صغائر، وللمعتزلة في إخراجهم العبد بالكبيرة من الإيمان وإن لم تدخله في الكفر إلا باستحلالٍ، وهذه القاعدة قال بها مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه ومثل ذلك من ابتدع بإنكاره صفة الباري، وكمنكر خلق الله لأفعال العباد أو رؤيته يوم القيامة وكذلك سائر أهل البدع كالقدرية وغيرهم، وأكثر قول مالكٍ وأصحابه عدم تكفيرهم بل يؤدبون، أما من خرج ببدعته من أهل القبلة كمنكري حدوث العالم والبعث والحشر للأجسام والعلم للجزئيات فلا نزاع في كفرهم لإنكارهم بعض ما علم بمجيء الرسول به ضرورةً، ووقع نزاع في تكفير المجسم قال ابن عرفة: الأقرب كفره، واختيار العز عدم كفره لعسر فهم العوام برهان نفي الجسميةقال القاضي عياض: فإن نفى شخص صفةً من صفات الله الذاتية أو جحدها مستبصرًا في ذلك أي حال كونه على بصيرةٍ من جحدها ونفيها متعمدًا لذلك كقوله: ليس عالمًا ولا قادرًا ولا مريدًا ولا متكلمًا وشبه ذلك من صفات الكمال الواجبة له عز وجل، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه الوصف بهاوعلى هذا حمل قول سحنونٍ من قال ليس لله كلام فهو كافر وهؤلاء يكفرون المتأولين، وأما من جهل صفةً من هذه الصفات فاختلف العلماء في كفره، والذي رجع إليه الأشعري أنه لا يكفر؛ لأنه لم يعتقد مقالته حقا ولم يتخذها دينًا، وأما من أثبت الوصف ونفى الصفة فقال: الله عالم ولا علم له ومتكلم ولا كلام له وهكذا فاختلف فيه على قولين: فمن أخذ بالحال لم يكفره، ومن أخذ بالمآل كفره والمعتمد عدم كفره، كمن نفى الصفات المعنوية فإنه لا يكفر أيضًا، بخلاف من اعتقد أنه غير قديمٍ فإنه يكفر، كما يكفر من اعترف بألوهيته ووحدانيته ولكن اعتقد أنه غير حي أو ادعى أن له ولدًا أو صاحبةً أو أنه متولد من شيءٍ أو اعتقد أن هناك صانعًا للعالم سواه، وكل ذلك كفر بإجماع المسلمين، وأما من نفى صفة البقاء ففيه تفصيل، فإن أراد بالنفي صفةً زائدةً على الذات فلا يكفر بخلاف من أراد بنفيه طريان العدم فلا شك في كفره، وأما من قال: إن الله يجب عليه كذا فإن أراد بالفضل والإحسان فلا يكفر، وإن أراد الوجوب الذاتي أي بالقهر وعدم الإرادة فإنه يكفر لنفيه الإرادة، والاختيار، وأما مسائل الوعد والوعيد والرؤية وخلق القرآن والأفعال وبقاء الأعراض وشبهها من الدقائق فالأولى عدم تكفير.

المتأولين فيهاإذ ليس في الجهل بشيءٍ منها جهل بالله تعالى، ودليل أهل السنة على عدم الكفر بالذنب الآيات والأحاديث الناطقة بإطلاق لفظ المؤمن على العاصي كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] الآية، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم: 8] وبالإجماع على الصلاة على من مات من أهل الكبائر من غير توبةٍ وبمشروعية الحدود لصاحب المعصية كالسارق والزاني ولو كفر لاستحق القتل، وما استدل به المكفر من نحو حديث: "من ترك الصلاة فقد كفر" فمؤول على أن معناه أنه يعامله معاملة الكافر بالارتداد من قتله إن تركها كسلًا وعنادًا أو أخرناه لآخر الوقت ولم يفعل وإن كان هذا يقتل حدا، بخلاف الجاحد فإنه يكفر"تتمة: أهل البدع على أصنافٍ" منهم معتزلة وهم أتباع واصل بن عطاء الله الذي قال: إن صاحب الكبيرة ليس بمؤمنٍ ولا كافرٍ، سموا بذلك لقول الحسن البصري شيخ واصلٍ حين سئل عن جماعةٍ يكفرون صاحب الكبيرة وأطرق رأسه مفكرًا في الجواب على وجه الحق فبادره واعتزل مجلس الحسن البصري وأخذ بقوله الناس ثلاثة أقسامٍ: مؤمن وكافر ولا ولا وهو صاحب الكبيرة، وأراد إثبات المنزلة بين المنزلتين وهي كون الشخص لا مؤمنًا ولا كافرًا اعتزل عنا واصل فهو أول من أسس قواعد الابتداع، وسموا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد لقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقوبة العاصي وهو فعل الصلاح والأصلح، وينفون زيادة الصفات القديمة يقولون: الله عالم بلا علمٍ وقادر بلا قدرةٍومنهم القدرية الذين يقولون: العبد يخلق أفعال نفسه. ومنهم الجبرية الذين ينفون الكسب ويزعمون أن العبد كالخيط المعلق في الهواء، ومنهم الخوارج الذين يخرجون عن الإمام العادل ولا يمتثلون أمرهومنهم الجهمية المتبعون إلى رأي أبي جهيمٍ المنفرد بمقالةٍ باطلةٍ كخلق القرآن وإنكار رؤية الباري والصفات القديمة. ومن لم نكفره من هؤلاء الفرق لا بد له من دخول الجنة ولو بعد دخول النار؛ لأنه تحت المشيئة"و" مما يجب الجزم بحقيقته "أن" أجسام "الشهداء" جمع شهيدٍ وهم الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله "أحياء" حقيقةً "عند ربهم" أي في جنة ربهم "يرزقون" من مشتهى الجنات مثل ما يرزق الأحياء في الدنياقال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران 169].

نزلت في قتلى بدرٍ لما قال الناس في حق من قتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فكره سبحانه أن يحط منزلتهم فأنزل هذه الآيةقال العلامة الجزولي: حياة الشهداء حياة غير مكيفةٍ ولا معقولةٍ للبشر يجب الإيمان بها على ما جاء به ظاهر الشرع وجمهور العلماء على أنهم في الجنة، ويؤيد ذلك "قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة: "إنه في الفردوس" وفي أسباب النزول للواحدي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة لما أصيب إخوانهم بأحدٍ: "جعل الله أرواحهم في أجواف طيورٍ خضرٍ ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ معلقةٍ في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ويتأخروا عن الحرب؟ فقال الله: أنا أبلغهم عنكم" فأنزل الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169] الآية1تنبيهات: الأول: ما قدمناه من أن المتصف بالحياة أجساد الشهداء وأن أجسادهم حقيقة ظاهر الآية الشريفة وعليه الجمهور، لكن حياتهم ليست كحياتهم في الدنيا لما قاله بعضهم من أن الإجماع على أن أجسادهم لا تعود إليها الحياة على ما كانت عليه في الدنيا فالحاصل أن تلك الحياة لا تمنع إطلاق اسم الميت عليه بل حياة غير معقولةٍ للبشرالثاني: حملنا الشهداء على شهداء الحرب الذين قاتلوا لإعلاء كلمة الله من غير ارتكاب مؤثمٍ؛ لأنهم المجاهدون شرعًا، وبعضهم ألحق بهم من قاتل لغرضٍ دنيوي ذاهبًا إلى إرادة الغنيمة أو الوقوع في معصيةٍ لا تنافي حصول الشهادة. نعم اختار جمع التفصيل بين القصد الأخروي فيؤجر بقدره وبين القصد الدنيوي فلا يؤجر كما إذا قصدا معًا، وألحق القرطبي بالمجاهد كل مقتولٍ على الحققال النووي: وهذا الفضل وإن كان الظاهر أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من خرج في قتال البغاة وقطاع الطريق وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما سموا شهداء؛ لأنهم شهد لهم بالجنة أو؛ لأن أرواحهم شهدت دار السلام، بخلاف أرواح غيرهم لا تشهدها إلا عند القيامة، أو؛ لأن دمه يشهد له يوم القيامة، أو؛ لأن الله شهد له باللطف والرحمة وغير ذلك، وللشهيد كرامتان غير هذه، كالأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، وكالغفران بأول الملاقاة وأنه
ـــــــ
1 صحيح: أبو داود كتاب الجهاد باب: في فضل الشهادة حديث 2520, والترمذي حديث 3011, وابن ماجة حديث 2801 وانظر صحيح الجامع 5205.

يتوج بتاج الكرامة يوم القيامة، ومنها أنه يشفع في اثنين وسبعين من أقاربه، ومنها أنه يتزوج بسبعين من الحور العين، ومنها أنه لا يسأل في قبره، ومنها أن الأرض لا تأكل جسده كالأنبياء والعلماء العاملين والمؤذنين احتسابًا فهو من جملة المستثنيات من قوله صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب" وهو عظم صغير في مغرز الذنب للدابةالثالث: فهم من تخصيص الحياة والرزق بشهيد الحرب أو من معه أن شهيد الآخرة كالغريق والميت بالطاعون أو بالإحراق أو بالإسهال، أو كالمقتول دون أهله أو دينه أو مات غريبًا أو متلبسًا بطلب العلم وغيرهم من شهداء الآخرة ليس مثله في الحياة والرزق وإن ألحق به في مطلق الأجرالرابع: قال أبو منصورٍ البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إن نبينا صلى الله عليه وسلم حي بعد وفاته وإنه يسر بطاعة أمته، وإن الأنبياء لا يبلون مع أنا نعتقد ثبوت الإدراكات كالعلم والسماع لسائر الموتى ونقطع بعود حياة كل ميتٍ في قبره وبنعيم القبر وعذابه وهما من الأعراض المشروطة بالحياة لكن من غير توقفٍ على بنيةٍ، وأما أدلة الحياة في الأنبياء فمقتضاها أنها مع البنية فقد قال العلامة الرملي: الأنبياء والشهداء والعلماء لا يبلون والأنبياء والشهداء يأكلون في قبورهم ويشربون ويصلون ويصومون ويحجون، ووقع الخلاف في نكاحهم نساءهم، وللشاذلي في بعض كتبه: إن الشهداء ينكحون حقيقةً كما يأكلون ويشربون، وقائل غير هذا مخالف للآية. قال صاحب الجوهرة: وصف شهيد الحرب بالحياة ورزقه من مشتهى الجناتوقد قدمنا حقيقة الرزق فيما سبق ثم شرع في الكلام على الروح من حيث نعيمها وعذابها ومحلها وحقيقتها فقال: "و" مما يطلب الجزم به أن "أرواح" جمع روحٍ ويرادفها النفس على المعتمد "أهل السعادة" وهم كل من مات على الإيمان ولو كان كافرًا قبل ذلك؛ لأن السعادة هي المنفعة اللاحقة في العقبى وهي الموت على كلمة التوحيد "باقية" لا تفنى عند موت صاحبها ولا عند النفخة الأولى التي يهلك عندها كل شيءٍ؛ لأنها من جملة المستثنيات، وكما يجب اعتقاد أنها باقية يجب اعتقاد أنها "ناعمة" أي منعمة برؤية مقعدها في الجنة ويستمر لها ذلك "إلى يوم يبعثون" أي يقومون أحياءً من قبورهم وهو يوم القيامة"و" يجب أن يعتقد "أرواح أهل الشقاوة" وهم كل من مات على الكفر ولو كان مسلمًا طول عمره "معذبة" برؤية مقعدها من النار ويستمر لها ذلك "إلى يوم الدين" وهو يوم القيامة، وإذا

جاء يوم الدين يحصل النعيم الحقيقي والعذاب الحقيقي الأبدي، وليس المراد أنهما بعد القيامة ينقطعانوالحاصل أن كلام المصنف في مدة البرزخ والدليل على جميع ذلك ما في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك إلى أن يبعثك الله" 1والتنعيم والتعذيب إما للجسد كله أو لجزئه بعد إعادة الروح فيه على مذهب الجمهور، فقول المصنف: وأرواح أهل السعادة. إلخ تبع فيه مذهب ابن حزمٍ وابن هبيرة القائلين بأن التنعيم والتعذيب للروح فقطقال الجلال تبعًا لشيخه الحافظ ابن حجرٍ قال العلماء: عذاب القبر وهو عذاب البرزخ أضيف إلى القبر؛ لأنه الغالب إلى أن قال: ومحله الروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة، وكذا القول في النعيم، ويمكن الجواب عن المصنف بأنه إنما أسند النعيم والعذاب للأرواح لما تقرر من أنها متصلة بالأجساد، فيلزم من تعذيب أو تنعيم الأرواح تنعيم أو تعذيب الأجساد، فلم يخرج المصنف عن كلام أهل السنةتنبيهات: الأول: عذاب القبر قسمان: دائم وهو عذاب الكفار وبعض عصاة المؤمنين، ومنقطع وهو عذاب من خفت جرائمهم فإنهم يعذبون ويرفع عنهم بدعاءٍ أو صدقةٍ أو غير ذلكوقال اليافعي: بلغنا أن الموتى لا يعذبون ليلة الجمعة تشريفًا لها قال: ويحتمل اختصاص ذلك بعصاة المسلمين دون الكفار، وعممه في بحر الكلام في الكافر أيضًا قال: إن الكافر يرفع عنه العذاب يوم الجمعة وليلتها وجميع شهر رمضان، وأما المسلم العاصي فإن مات في غير يوم الجمعة وليلتها عذب إليها ثم ينقطع فلا يعود إلى يوم القيامة، وإن مات ليلة الجمعة أو يومها عذب ساعةً واحدةً ثم لا يعود إلى يوم القيامة، ففي الحديث: "ما من مسلمٍ أو مسلمةٍ يموت ليلة الجمعة أو يومها إلا وقي من عذاب القبر وفتنة القبر ولقي الله ولا حساب عليه" 2قال العلامة الأجهوري: ظاهر الأحاديث الواردة في عدم سؤال الميت ليلة الجمعة ويوم
ـــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ "1/239", حديث "567", وأحمد "2/322", حديث "8266" بلفظه2 صحيح: أخرجه البخاري, كتاب الجنائز, باب: الميت يعرض عليه مقعده بالغداة و العشي, حديث "1379", ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمهاوأهلها, باب: عرض مقعد الميت من الجنة و النار عليه حديث "2866".

الجمعة عدم إعادة السؤال والعذاب بعد مضي الليلة واليوم لفضل ذلك اليوم، وما يوهم الإعادة ليس بصحيحٍالثاني: من عذاب القبر ضغطته وهي التقاء حافتيه على الميت لا ينجو منها صالح ولا طالح، ولو نجا منها غير الأنبياء لنجا سعد بن معاذٍ الذي اهتز عرش الرحمن لموته وحضر جنازته سبعون ألفًا من أعيان الملائكة. وفي الحديث: "لو أفلت منها أحد لأفلت منها هذا الصبي". 1 وورد أن فاطمة بنت أسدٍ أم علي بن أبي طالبٍ: "ومن قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في مرضه الذي مات به يسلمان من ضغطة القبر" 2 كما ورد عنه عليه الصلاة والسلامالثالث: من نعيم القبر وتوسيعه وجعل قنديل فيه وفتح طاقةٍ فيه من الجنة وإملائه خضرًا أي نعيمًا وجعله روضةً من رياض الجنة، وكل هذا محمول على حقيقته عند العلماء، ولا يختص نعيم القبر بهذه الأمة ولا بالمكلفين ويدخل فيهم من زال عقله، وقول الملك: نم نومة العروس وما يتبعه من النعيم خاص بالطائع ومن أراد به المغفرة يوم الدينالرابع: اختلف في جواز الخوض في حقيقة الروح على قولين: أحدهما أن المستحب الإمساك عن الخوض في حقيقتها بالجنس والنوع؛ لأنها مما استأثر الله بعلمه فلا ينبغي لنا التكلم فيها بأكثر من أنها موجودة لعلم العبد عجز نفسه حيث لم يعلم حقيقة ما احتوى عليه جسده وبين جنبيهقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي مما انفرد بعلمه، ولكن الحق كما عليه جمع أن الله لم يقبض نبيه حتى أطلعه على حقيقتها وعلى غيرها مما أخفاه كالساعة إلا أنه أمره بكتمه، كما اختلف في مقرها من الشخص حال الحياة، والصواب عدم الجزم بكونها في محل مخصوصٍ من البدن، وإن جزم الغزالي بأن محلها القلب كما أن الصواب مرادفة الروح للنفس خلافًا لمن قال: النفس جسد على صورة الآدمي والروح النفس المتردد في الإنسان، وكما اختلف في تعددها والجمهور على أنها واحدة، وخالف العز وادعى أن في كل جسدٍ روحين: روح الحياة وهي التي إذا خرجت من الجسد مات، وروح اليقظة
ـــــــ
1 حسن: أخرجه الترمذي كتاب الجنائز باب: ما جاء في من مات يوم الجمعة حديث 1074, وأحمد 2/169, حديث 6582, وانظر صحيح الجامع 57732 صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير 4/121, حديث 3858 وانظر صحيح الجامع 5238.

وهي التي يكون صاحب الجسد ببقائها مستيقظًا وإن خرجت منه نامالخامس: قد قدمنا أن محل الروح من الجسد في حال الحياة غير معلومٍ على الصواب، وأما مقرها بعد الموت وقبل القيامة فمختلف، فمقر أرواح الأنبياء الجنة ومقر أرواح الشهداء في أجواف طيورٍ خضرٍ ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ معلقةٍ في ظل العرش، ومقر أرواح غيرهما البرزخ، والمراد به هنا الحاجز بين الدنيا والآخرة وله زمان وحال ومكان، فزمانه في حين الموت إلى يوم القيامة وحاله الأرواح ومكانه من القبر إلى عليين لأرواح أهل السعادة، وأما أرواح أهل الشقاوة فلا تفتح لهم أبواب السماء بل هي في سجينٍ مسجونةً وبلعنة الله فيه موصوفة، والمراد بسجينٍ الأرض السابعة السفلى، وقيل: أرواح السعداء على أفنية القبور لكن لا على سبيل الدوام تسرح حيث شاءت كما قال مالك وقيل غير ذلك، ولكل روحٍ بجسدها اتصال معنوي ليحل لها من التنعيم والتعذيب ما كتب لها، وبقولنا لها اتصال يحصل به الجمع بين قول من قال إنها على أفنية القبور ومن قال إنها في عليين، ويدل على الاتصال ما ورد: "أن من سلم على قبر شخصٍ كان يعرفه في الدنيا فإنه يعرفه ويرد عليه السلام وهو في قبره"السادس: أجمع أهل السنة على أن الأرواح محدثة خلافًا للزنادقة، نعم وقع الخلاف في خلقها قبل الجسد وتأخرها عنه على قولين: فقيل خلقت قبله بألفي عامٍ وقيل بعده؛ واستدل له بقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان: 1] قيل: إنه مكث أربعين سنةً قبل أن ينفخ فيه الروح، وأجيب بالفرق بين نفخ الروح وخلقه فلا دليل في الآية على التأخيرالسابع: وقع الاختلاف في فنائها عند النفخة الأولى والراجح أنها لا تفنى كما لا يفنى عجب الذنب"و" مما يجب الإيمان به "أن المؤمنين يفتنون" أي يمتحنون ويختبرون "في قبورهم و" معنى يفتنون في قبورهم "يسألون" لإجماع العلماء على أن المراد بفتنة القبر سؤال الملكين منكر بفتح الكاف ونكير بكسرها بيد كل واحدٍ منهما مرزبة من حديدٍ لو وضعت على جبال الدنيا لذوبتها جعلها الله تكرمةً للمؤمنين لتثبيتهم وهتكًا لستر المنافقين في البرزخ من قبل أن يبعثوا، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وهو قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله وما يقوم مقام ذلك، فإذا ثبتهم لا يزولون إذا فتنوا في دينهم "في الحياة الدنيا" أي

عند الموت "وفي الآخرة" عند سؤال الملكين له في قبره فإن القبر أول منزلةٍ من منازل الآخرة فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم ولا مفهوم للمقبور بل كل ميتٍ يسأل قبر أو لم يقبر إلا ما ورد النص بعد سؤاله، وقيل: المراد يثبتهم في الدنيا على قول الإيمان وفروعهوقيل: عند حضور الشياطين للفتنة لما تقرر من أن الإنسان عند احتضاره تحضر له شياطين على صورة من تقدم موته من أقاربه الذين هم أحب الناس إليه ويقولون له: قد سبقناك إلى الآخرة فوجدنا أحسن الأديان دين كذا إشارةً إلى دينٍ غير دين الإسلام، فمن أراد الله ثباته يلقنه حجتهوحاصل المعنى: أنه يجب بالشرع اعتقاد أن الموتى تسأل في قبورها لكن بعد أن تحيا برد الروح إلى جميع البدن ورجح وقيل إلى النصف الأعلى ويرد إليها ما يتوقف عليه فهم الخطاب ويتأتى معه رد الجواب من العقل والعلم؛ لأن تلك الحياة ليست كالحياة المعهودة ثم تسأل، والدليل من السنة ما في البخاري عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعًا، وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دريت ولا تليت ويضرب بمطراقٍ من حديدٍ ضربةً بين أذنيه فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثقلين" 1 وأخرجه أي الحديث المتقدم في البخاري ومسلمٍ بنحوه وزاد: "ويفسح له في قبره سبعون ذراعًا ويملأ عليه خضرًا أي شيئًا يتلذذ به إلى يوم يبعث." 2
تنبيهات: الأول: ظاهر قول المصنف: المؤمنين شموله لكل مؤمنٍ ولو من الجن ولو من غير هذه الأمة ويخرج الكافر ولو منافقًا، والذي جزم به ابن عبد البر والترمذي في نوادر الأصول اختصاص السؤال بهذه الأمة لحديث: "أن هذه الأمة تبتلى في قبورها" 2 وخالف ابن القيم فقال: كل نبي مع أمته كذلك، وما قدمناه من خروج الكافر خالف فيه القرطبي وابن
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الجنائز باب: ما جاء في عذاب القبر حديث 374, ومسلم كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب: عرض مقعد الميت من الجنة ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه حديث 28702 أخرجه الطبراني في الأوسط 6/57, حديث 5785, وانظر الضعيفة 1/473.

الجوزي وقالا: إن ظواهر الأحاديث أن الكافر والمنافق يسألان، بل صريح حديث البخاري السابق سؤال الكافر وحصل الاتفاق على سؤال المنافق، فلعل الراجح القول بسؤال الكفار فلا ينبغي الشك في سؤالهم؛ لأن السؤال فتنة وعذاب وهم بذلك أحرى من المسلمالثاني: قال المشذالي وابن ناجي: الأخبار تدل على أن الفتنة وهي السؤال مرةً وفي حديث أسماء أنه يسأل ثلاثًا، وفصل الجلال بين المؤمن فيسأل سبعة أيامٍ والكافر أربعين صباحًاالثالث: لم يبين المصنف المسئول عنه وصرح البعض به فقال: السؤال في القبر عن العقائد فقط، يقول الملك للميت: من ربك وما دينك وما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم. وفي روايةٍ زيادة من أبوك وما قبلتك، وفي أخرى الاقتصار على بعض تلك المذكورات، وجمع باختلاف المسئولين وبأن بعض الرواة اقتصر على بعضٍ وبعضهم أتم فتوهم الاختلافالرابع: جوز العلماء أن يسألا الميت معًا كما في روايةٍ، وكتب شيخ مشايخنا اللقاني على ذلك يكون أحدهما تحت رجليه والآخر على رأسه، والذي يباشر السؤال الواقف عند رجليه لأنه الذي قبالة وجهه وأن يسأله أحدهما كما في أخرى، وقيل: اختلاف الرواة باختلاف حال المسئولين وهو المختار، ووقت السؤال أول يومٍ بعد تمام الدفن وعند الانصراف عنه، وتوقف الجلال في تعيين وقت السؤال في غير اليوم الأول بناءً على تعدد السؤال وجزم بأنهما يأتيان الميت معًا ولا يتولى السؤال إلا أحدهمافإن قيل: يشكل على كون السؤال أول يومٍ بعد تمام الدفن وعند انصراف الناس كما في الحديث،
وإنه ليسمع قرع نعالهم لو مات جماعة في أماكن متباعدةٍ ودفنوا في زمانٍ واحدٍ فكيف يمكن من الملكين المعينين مباشرة سؤال الجميع في تلك الحالة؟ فالجواب أن يقال: يجوز عقلًا أن يعظم الله جثتيهما حتى يخاطبا الخلق الكثير في زمانٍ متحدٍ في مرةٍ واحدةٍ ويخيل لكل أنه المسئول دون غيره، ويحجب سمع كل عن سماع كلام غيره على نظير محاسبة الله خلقه يوم القيامة فإنه لا ترتيب فيه، وهذا كله مبني على تخصيص الملكين، وأما تعدد ملائكة السؤال بتعدد المسئولين فلا يحتاج إلى هذا الجواب هكذا قال بعض العلماء، وأقول: ظاهر الحديث تعيينهما بأنهما منكر ونكيرالخامس: صفة الملكين كما في الحديث أنهما أسودان أزرقان أعينهما كقدور النحاسوفي روايةٍ: كالبرق وأصواتهما كالرعد إذا تكلما يخرج من أفواههما كالنار بيد كل واحدٍ مطراق من حديدٍ لو ضرب به الجبال ضربةً لذابت. وفي روايةٍ: بيد أحدهما مرزبة لو اجتمع أهل منًى

لم يستطيعوا حملها واسمهما منكر ونكير؛ لأنهما لا يشبهان خلق الآدميين ولا خلق الملائكة ولا خلق الطير ولا البهائم ولا الهوام بل هما خلق بديع وليس في خلقهما أنس للناظرين جعلهما الله تذكرةً للمؤمنين وهتكًا لستر المنافقين وهما للمؤمن الطائع وغيره على الصحيح وقيل هما للكافر والعاصي وأما المؤمن الموفق فله ملكان اسم أحدهما بشير والآخر مبشر، قيل ومعهما ملك آخر يقال له ناكور، وقيل ويجيء قبلهما ملك يقال له رمان، وحديثه قيل موضوع وقيل فيه لين، وما ورد من انتهاء الملكين للميت وإزعاجه فمحمول على غير المؤمن الصالح، وأما المؤمن الطائع ومن أراد الله له العفو والغفران فيقولان له: نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، والحق كما قال شيخ شيوخنا اللقاني: أن كل من ختم له بالسعادة يوفق لجواب الملكينالسادس: لم يبين المصنف أيضًا كذلك كيف يدخلان القبر على الميت بعد تمام الدفن، وقال شيخ شيوخنا اللقاني: إنه ورد في حديثٍ أنهما يبحثان الأرض بأنيابهما وأنهما كصياصي البقر أي قرونهماوفي آخر أنهما يمشيان في الأرض كما يمشي أحدكم في الضباب وهما رافعان للاحتمالات التي أبداها بعض العلماءالسابع: ربما يقع السؤال في حضور المصطفى صلى الله عليه وسلم لأحدٍ في قبره وقت سؤاله، وقال فيه شيخ مشايخنا اللقاني: لم يثبت أنه يحضر لأحدٍ وإنما ثبت حضور إبليس في زاويةٍ من زوايا القبر مشيرًا إلى نفسه عند قول الملك: من ربك مستدعيًا من جوابه بهذا ربي، فنسأل الله التوفيق للجوابالثامن: قول المصنف: المؤمنين عام في كل مؤمنٍ إلا من ورد عدم سؤاله كالأنبياء والصديقين والشهداء ولو شهد آخرةً فقط - والمرابط والميت ليلة الجمعة وتدخل بزوال شمس الخميس، أو يومها والملائكة؛ لأن السؤال لمن شأنه أن يقبر، وتوقف ابن الفاكهاني في أهل الفترة والمجانين والبلهقال الجلال: ومقتضى الرواية أنه لا يسأل إلا المكلف فلا تسأل الأطفال، وجزم القرطبي بسؤالهم
وهو المفهوم من قول المصنف فيما يأتي في باب الدعاء للطفل، وعافه من فتنة القبر، وأحاديث كثيرةٍ، وتلخص أن في سؤال الأطفال قولين، وممن لا يسأل المواظب على قراءة السجدة والملك كل ليلةٍ، ومن قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في مرضه الذي مات فيه

وجميع من نص على شهادتهالتاسع: من أنكر فتنة القبر وسؤال الملكين مبتدع ويؤدب، فإن أصر على إنكاره لا يجوز قتله ويضرب أدبًا كما فعله عمر رضي الله عنه ببعض الناس، وإنما أطلنا في ذلك لداعي الحاجةولما فرغ من الكلام على ما يتعلق بالشخص بعد موته شرع في بيان حاله في حياته فقال: "و" مما يجب على المكلف الجزم به ويكفر بجحده اعتقاد "أن على العباد حفظةً يكتبون أعمالهم" التي تصدر منهم في الدنيا يكتبونها في ديوانٍ من ورقٍ كما قال تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] على أحد الأقوال، لا يهملون من عمل العبد شيئًا قولًا أو اعتقادًا، هما أو عزمًا، خيرًا أو شرا، أو الصغائر المغفورة باجتناب الكبائر، أو غيره من المكفرات صدر منهم على وجه القصد أو الذهول في حالة الصحة أو المرض كما رواه علماء النقلقال مالك بن أنسٍ: يكتبون على العباد كل شيءٍ حتى أنينهم في مرضهم محتجا بظاهر {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} والرقيب الحافظ والعتيد الحاضرقال في الجوهرة: بكل عبدٍ حافظون وكلوا وكاتبون خيرةً لن يهملوا من أمره شيئًا فعل ولو ذهل حتى الأنين في المرض كما نقل فحاسب النفس وقل الأملا فرب من جد لأمرٍ وصلا وحينئذٍ يدخل في العبد الكافرقال النووي: والصواب الذي عليه المحققون بل نقل عن بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل أفعالًا جميلةً كالصدقة وصلة الرحم أي نحوهما من كل ما يتوقف على نيةٍ ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له، وممن نص على أن على الكافر حفظةً يوسف بن عمر قال بعض: وهو الذي لا يصح غيره وهو الجاري على تكليفهم بفروع الشريعة، فظاهر كلام المصنف أن الكاتبين هم الحفظة، وكلام الجوهرة يقتضي أنهم غير الحفظة، والمسألة ذات خلافٍ، والله يعلم الحق منهتنبيهات: الأول: إطلاقه العباد يتناول المكلف وغيره؛ لأن الصحيح كتبهم حسنات الصبي وإن كان المجنون لا حفظة عليه، ولعل وجه الفرق أن حال المجنون ليس متوجهًا للتكليف بخلاف الصبي، وأما غير الحسنات فلا يكتب على الصبيان وربما يتناول الملائكة أيضًا، وقد تردد الجزولي فيهم وفي الجن هل عليهم حفظة أم لا؟ ثم جزم بأن على الجن الحفظة دون الملائكة فإنه استبعد كون عليهم حفظة لما يلزم عليه من التسلسل.

الثاني: محل الحفظة من الإنسان في حال حياته شفة الإنسان، وقيل محل كاتب الحسنات على عاتقه الأيمن، وكاتب السيئات على عاتقه الأيسر، وقلمهم لسانه ومدادهم ريقه لا يفارقونه إلا عند الخلاء والجماع، ولا يمنع من ذلك كتبهما عليه ما يصدر منه في هاتين الحالتين، ويجعل الله لهما علامةً وعلى نوع ما يصدر منه في الخلاء وعند الجماع، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات لا يمكنه من كتب السيئة إلا بعد مضي ست ساعاتٍ من غير توبةٍ أو غيرها من المكفرات ويبادر لكتب الحسنات، وإنما لم يمكنه كاتب الحسنات من كتب السيئة لعله يستغفر، فإن استغفر في داخل الساعات كتبها كاتب اليمين حسنةً، وإن لم يحصل استغفار ولا توبة كتبها صاحب الشمال سيئةً واحدةً، وأما المباحات فيكتبها كاتب السيئات على القول بكتبها، وأما محلهما بعد الموت فقبر الميت يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان مؤمنًا ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرًاالثالث: اختلف هل على العبد غير الملكين؟ فقيل عليه عشرة، وعن عثمان أن عليه عشرين، والدليل على وجوب اعتقاد حقيقة الحفظة قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10- 11] وقوله عليه الصلاة والسلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر" وانعقد الإجماع على الحفظة فمن جحد أو كذب أو شك فيه فهو كافر وكذلك من جهله، وسموا حفظةً لحفظهم ما يصدر من العبد أو لحفظهم الآدميين من الجنالرابع: وقع تردد الشيوخ فيمن يصعد بالمكتوب هل هو الكاتب له أو غيره كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الصبح" 1 هل هم الحفظة فيكونون أربعةً اثنان بالليل واثنان بالنهار، كما وقع خلاف هل الكتبة هم الحفظة أو غيرهم؟ فالمتبادر من قول المصنف: حفظة يكتبون أعمالهم أن الكتبة هم الحفظة وقيل غيرهمولما كان يتوهم من وضع الحفظة على العباد خفاء شيءٍ من أعمالهم على ربهم والواقع خلاف ذلكقال كالمستدرك على ما سبق: "و" مما يجب اعتقاده أن "لا يسقط" أي يغيب
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب: فضل صلاة العصر حديث 555, ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما حديث 632, والنسائي حديث 485, وأحمد 2/486, حديث 10314.

"شيء" مما ضبطوه على العباد "عن علم ربهم" لإحاطة علمه سبحانه وتعالى بما يسرون وما يعلنون، فالحاصل أن وضع الحفظة لا لخوف نسيانٍ أو غفلةٍ لاستحالة ذلك على الباري - تعالى - وإنما
فائدة ذلك ترجع للعبد؛ لأن الإنسان إذا علم أن عليه من يحصي عمله ويضبطه ليشهد به عليه يوم القيامة على رءوس الأشهاد يحصل منه انزجار عن الإقدام على ارتكاب المعاصي ولإقامة الحجة عليهم على قدر جحدهم"و" يجب على كل مكلفٍ أن يعتقد "أن ملك الموت" وهو عزرائيل وقيل اسمه عبد الجبار "يقبض" جميع "الأرواح" من مقرها أو من يد أعوانه المعالجين لنزعها منه لكن "بإذن ربه" لما في الخبر: "والله لو أردت قبض روح بعوضةٍ ما قدرت على ذلك حتى يكون الله أذن بقبضها"، وأشار إلى هذا صاحب الجوهرة بقوله: وواجب إيماننا بالموت ويقبض الروح رسول الموت والمعنى: أن الموت حق ابتلى الله به كل ذي روحٍ ولو أعز خلقه كمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فهو أعظم مصيبةً يصابها الآدمي، وليس ثم مصيبة أعظم منه سوى الغفلة عنهقال تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] وحقيقته على مذهب الأشاعرة كيفية وجودية تضاد الحياة أو عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا وجاحده كافر بإجماع المسلمينتنبيهات: الأول: ما قدمناه من أن ملك الموت يقبض كل روحٍ يشمل أرواح الشهداء ولو شهيد بحرٍ، ويشمل أرواح البهائم ولو براغيث، بل قيل إنه يقبض روح نفسه، وقيل إنما يقبضها الله تعالى كما قيل إنه يقبض روح شهيد البحرفإن قيل: إذا كان المتولي لقبض الأرواح جميعًا ملك الموت فكيف إذا مات خلق كثير في أماكن متعددةٍ متباعدةٍ في زمنٍ متحدٍ؟ فالجواب: أن ملك الموت الدنيا بين يديه كالقصعة بين يدي الآكل ورجلاه في الأرض السفلى ووجهه في اللوح المحفوظ، وأخرج أحمد والبزار وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا فأتى موسى عليه الصلاة والسلام فلطمه ففقأ عينه فأتى ربه فقال: يا رب عبدك موسى فقأ عيني ولولا كرامته عليك لشققت عليه. قال: اذهب إلى عبدي فقل له فليضع يده على جلد ثورٍ وله بكل شعرةٍ وارتها يده سنة، فأتاه فقال: ما بعد هذا؟ قال: الموت، قال: فالآن فشمه شمةً فقبض روحه ورد

الله تعالى عينه إليه، فكان بعد يأتي الناس خفيةً". 1 وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر بن زيدان: "ملك الموت كان يقبض الأرواح بغير وجعٍ فسبه الناس ولعنوه فشكا إلى ربه فوضع الله الأوجاع ونسي ملك الموت، يقال: مات فلان من مرض كذا"2الثاني: إنما قال المصنف: ويقبض الأرواح إشارةً إلى أن الروح باقية على حياتها، لكن إسناد القبض إلى ملك الموت يعارضه آية: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وآية {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فما وجه الجمع؟ فالجواب: إن إسناد التوفي إلى الله في آية: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] على طريق الخلق، وإسناده إلى ملك الموت في آية {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] كما في كلام المصنف؛ لأنه المباشر لنزعها، وإسناده إلى الرسل في آية {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] لأنهم المعالجون في نزعها وإخراجها من الأعصابالثالث: وقع الخلاف في قدر مدة الدنيا فقيل سبعة آلاف سنةٍ وقيل غير ذلك، والصواب تفويض علم ذلك إلى الله تعالى، وأما قدر مدة هذه الأمة فقال الجلال السيوطي في الكشف: الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنةٍ ولا تبلغ الزيادة على الألف وخمسمائة سنةٍ، وقال أيضًا: كثر
السؤال عن الحديث المشهور على ألسنة الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكث في قبره ألف سنةٍ، وأجيب بأنه باطل لا أصل لهثم شرع في بيان فضل الصحابة على غيرهم وعلى بعضهم فقال: "و" مما يجب الجزم به "أن خير" أي أفضل "القرون" التي توجد بعد موته صلى الله عليه وسلم "القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به" وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والمراد بهم الذين رأوه وصحبوه ولو قليلًا فإنهم أفضل من جميع أهل القرون المتأخرة وأولى المتقدمة للحديث الصحيح: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق ملء أحدٍ ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". 3
ولحديثٍ: "إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين"4. وفي
ـــــــ
1 رجاله رجال الصحيح أخرجه أحمد 2/533 حديث 10917, ولم أجده عند البزار وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 13012, رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح2 لم أقف عليه3 صحيح: أخرجه البخاري كتاب المناقب باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلي ...." حديث 3673, ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب: تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم حديث 2540, وأبو داود حديث 4658, والترمذي حديث 3861, وابن ماجة 1614 لم أقف عليه.

القرآن: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] لأن المراد أفضل أمتي، ومعنى لا يبلغ مد أحدهم أن ثواب الصدقة بملء أحدٍ من الذهب من غيرهم لا يبلغ ثواب إنفاق المد ولا نصيفه من الصحابة، وذلك؛ لأن إنفاقهم رضي الله عنهم كان في وقت الضرورة وضيق الحال، وكان في حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وحمايته مع صدق نيتهم وخلوص طويتهم رضي الله تعالى عنهم، والنصيف على وزن رغيفٍ فهو بكسر الصاد المهملة قبلها نون مفتوحة لغةً في النصف، قاله شيخ الإسلام في حاشيته على العقائد، وزاد غيره: أنه يطلق على ما يوضع على الرأس المسمى بالحبرة، والمراد هنا المعنى الأولتنبيهات: الأول: تعبير المصنف برأوا إشارةً إلى تعريف الصحابي كما قال العراقي: رأى النبي مسلمًا ذو صحبةٍ وقيل إن طالت ولم تثبت وقيل من أقام عامًا وغزا وظاهر المصنف كالعراقي ولو رآه على بعدٍ ولو لم يعرفه، والأولى تعريفه بمن لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على الإسلام ليشمل الأعمى، ويشمل من مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا أو أحضره أبوه معه عند النبي صلى الله عليه وسلم ولو غير مميزٍ، واعتبر بعضهم التمييز كما اعتبر التعارف وألغاه آخرون، ووقع التردد فيمن كلم النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه حائط، ولا يشترط في ثبوت الصحبة طول زمان الرؤيا بخلاف اجتماع التابعي بالصحابي فلا بد من طوله حتى يكون تابعيا على ما ارتضاه بعض الشيوخ وكذلك تابع التابعي، والمراد من الطول ما تحصل به الصحبة عرفًاالثاني: المفضل كل فردٍ من أفراد الصحابة من حيث صحبته على غيره من أهل القرون، وبقولنا من حيث الصحبة لا يرد أنه قد يوجد في قرن التابعين من هو أفضل من كثيرٍ من الصحابة من حيث العلم أو الصلاح وغير ذلك من الخصال الحميدة، ومعنى التفضيل كثرة الثواب ورفع الدرجات، وإنما كانت الصحابة أفضل القرون؛ لأنهم رضي الله عنهم آووه ونصروه وجاهدوا معه وتصدقوا بفضول أموالهم مع الحاجة وباعوا النفوس لله ورسولهالثالث: كما يجب اعتقاد أنهم أفضل القرون يجب اعتقاد أنهم متفاوتون في الفضل فيما بينهم رضي الله عنهم بكثرة الملازمة له صلى الله عليه وسلم والمجاهدة معه والقرب منه، إذ ليس من رآه وفارقه كمن جاهد معه وإن كان شرف الصحبة حاصلًا للجميعالرابع: لم يبين المصنف ما تثبت به الصحبة ونص عليه غيره قائلًا: وتعرف الصحبة بالتواتر والاستفاضة وبالشهرة أو بإخبار بعض الصحابة أو بعض ثقات التابعين أو بإخباره عن نفسه بأنه صحابي إذا دخلت دعواه تلك تحت الإمكان قاله ابن حجرٍ.

"ثم" يلي قرن الصحابة في الفضل أهل القرن "الذين يلونهم" وهم التابعين جمع تابعي وهو من لقي الصحابي وطال اجتماعه به حتى صار صاحبًا له عرفًا كما قاله الخطيب، وقاله ابن الصلاح والنووي: هو من لقي الصحابي فجعل الكلام فيه كالكلام في الصحابي، والفرق على كلام الخطيب مزية لقائه صلى الله عليه وسلم على لقاء غيره من صلحاء أمته ولا يشترط فيه التمييز على أحد القولين كما تقدم في الصحابي، ولا شك في تفاوتهم في الفضل وأفضلهم على الإطلاق أويس القرني على الأصح، كما أن أفضل التابعيات حفصة بنت سيرين على خلافٍ"ثم" يلي قرن التابعين قرن "الذين يلونهم" وهم تابعوا التابعين الذين اجتمعوا بالتابعين اجتماعًا طويلًا، والأصل في الترتيب المذكور ما في الصحيح عن عبد الله بن مسعودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 1وفي روايةٍ: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: "قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: "ثم يخلف من بعدهم خلف تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" 2قال الحافظ العسقلاني: اقتضى هذا الحديث أن الصحابة أفضل من التابعين وأن التابعين أفضل من أتباع التابعين، واختلف هل هذه الفضيلة بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ والذي عليه الجمهور الثاني، فيكون كل فردٍ من القرن الأول من حيث كونه صحابيا أو تابعيا وإن كان عاصيًا أفضل من كل القرن الثاني وإن كان عاملًا كما تقدم نظيره في قرن الصحابةتنبيهات: الأول: اختلف فيما بعد القرون الثلاثة هل بينهم تفاضل بالسبقية كالقرون الثلاثة أم لا؟ فذهب جماعة إلى الأول، وأن كل قرنٍ أفضل من الذي بعده إلى يوم القيامة لخبر: "ما من يومٍ إلا والذي بعده شر منه وإنما يسرع بخياركم" 3 وبهذا القول قال أبو الحسن المغربي
ـــــــ
1 رواية الصحيحين ليست من حديث أبي هريرة وإنما حديث أبي هريرة عند أحمد بلفظ "خيركم قرني ثم الذين يلونهم" قال أبو هريرة: ولا أدري أذكر مرتين أو ثلاثا "ثم يخلف من بعدهم قوم يحبون السمانة ويشهدون ولا يستشهدون"2 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الشهادات باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد حديث 2652, ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب: فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم حديث 2533, وابن ماجه حديث 23623 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الفتن باب: لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه حديث 7068, والترمذي حديث 2206, وأحمد 3/132, حديث 12369.

وذهب القاضي أبو الوليد بن رشدٍ المالكي إلى أن ما بعد القرون الثلاثة سواء لا مزية لأحدها على الآخروقال بعض العلماء: والأقرب التفاضل بالاستقامة والسداد في الدين لا بالسبقية في الزمان، وهذا اختيار لأحد القولين فيما بعد القرون الثلاثة، وقولنا بالسبقية احترازًا عن التفاضل بغير السبقية فإنه يمكن التفاوت والتفاضل به، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابة: "أتدرون أي الخلق أفضل إيمانًا؟" فقيل له: الملائكة، فقال: "بل غيرهم"، فقيل له: الأنبياء، فقال: "بل غيرهم"، فقيل: الشهداء، فقال: "بل غيرهم"، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني ويصدقون بما جئت به ويعملون به فهم خير منكم".1
ولما رأى الفاكهاني وغيره معارضة هذا لما مر من أفضلية القرن الأول على سائر القرون قال: ولا يلزم من تفضيل هؤلاء الجماعة على غيرهم من جهة إيمانهم به عليه الصلاة والسلام من غير رؤيته تفضيلهم مطلقًاالثاني: اختلف في معنى القرن فقيل هم أهل زمانٍ واحدٍ، وقيل اسم للزمان، وقيل المراد بالقرن الجيل، والأصح أنه اسم لمائة سنةٍ، والظاهر أو المتعين أن المصنف أراد بالقرن الجيل وأهل الزمان الواحد بدليل قوله: الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزمان لا يرى وإنما الذي يرى هو أهلهالثالث: التفضيل بين تلك القرون قطعي عند الأشعري وظني عند الباقلاني وإمام الحرمين، وبالظاهر والباطن على القطع، وفي الظاهر فقط على أنه ظنيولما ذكر أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أفضل القرون قطعًا وقيل ظنا، شرع في بيان الأفضل منهم بقوله: "وأفضل الصحابة الخلفاء" الأربعة "الراشدون المهديون" والمعنى: أن مما يجب اعتقاده أن أفضل الصحابة الذين ولوا الخلافة بعده صلى الله عليه وسلم وهي النيابة عنه في عموم مصالح المسلمين من إقامة الدين وصيانة المسلمين بحيث يجب على كافة الخلق الاتباع لهم ويحرم عليهم مخالفتهم، وبين عليه الصلاة والسلام مدتها بقوله: "الخلافة بعدي ثلاثون سنةً ثم
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه الحاكم في المستدرك 4/96, حديث 6993 وأبو يعلى في مسنده 1/148, حديث 160 بلفظ "أتدرون أي أهل الإيمان أفضل..." وانظر الضعيفة 2/103.

تصير ملكًا عضوضًا" 1 وهذه المدة هي دور ولايتهم رضي الله تعالى عنهم، والخلفاء جمع خليفةٍ وهو كل من قام مقام غيره في خيرٍ، وسموا خلفاء لأنهم خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام، والراشدون جمع راشدٍ وهو المسدد في نفسه الموثق في أمره وحاله، والمهديون أي المتصفون في أنفسهم بكمال الهدى فهما متقاربان أو مترادفان؛ لأنك تقول: أرشدك الله بمعنى هداك وهداك بمعنى أرشدك، والفرق بين الخلافة والملك أن النظر في الخلافة إلى القيام في مقام الميت عن رضًا ممن قام عليه، والنظر في الملك إلى القيام في مقام الغير مطلقًا، مع القهر والغلبة لمن قام عليه سواء كان بالقوة كقيامه عن رضًى ممن قام عليه، أو بالفعل كقيامه عن كرهٍ ممن قام عليه قاله البقاعي، ومنه تعرف حكمة توصيف الملك في الحديث بالعضوض قال في الجوهرة:
وصحبه خير القرون فاستمع ... فتابعي فتابع لمن تبع
وخيرهم من ولي الخلافة ... وأمرهم في العضل كالخلافةوالمعنى: أن شأن الخلفاء الأربعة في التفاوت في الفضل على حسب تفاوتهم في الخلافة، فالأسبق فيها أكثرهم فضلًا، ثم التالي فالتالي، كذلك عند أهل السنة وإمامهم أبي الحسن الأشعري وأبي منصورٍ الماتريدي فالأفضل منهم بعد الأنبياء "أبو بكرٍ" الصديق الذي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في النبوة بغير تلعثمٍ، وصدقه في المعراج بلا ترددٍ، ولي الخلافة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ومدة خلافته سنتان وثلاثة أشهرٍ وعشرة أيامٍ، ومات رضي الله عنه ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمانٍ بلغت من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة وله ثلاث وستون سنةً كسن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان سبب موته شدة حقده وحزنه على المصطفى صلى الله عليه وسلم وقيل غير ذلك، ودفن في حجرة عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"ثم" يلي أبا بكرٍ في الفضل "عمر" بن الخطاب الفاروق لفرقه بين الحق والباطل في القضاء والخصومات، ولي الخلافة باستخلاف أبي بكرٍ رضي الله عنهما وأجمعت الصحابة على خلافته، ومدة خلافته عشر سنين وستة أشهرٍ وثمانية أيامٍ، وقتل رضي الله عنه في سنة ثلاثٍ وعشرين، قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة واسمه فيروز، وكان المغيرة استغله بأن جعل
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه ابن حبان 15/392, حديث 6943 وصححه دون قوله: ثم تصير ملكا عضوضا فأخرجه بنحوه الطبراني في الكبير 20/53 حديث 91, والبيهقي 8/159, حديث 16407, وأبو يعلى 2/177, حديث 873.

عليه كل يومٍ أربعة دراهم؛ لأنه يصنع الرحى، فلقي عمر وكلمه فقال له: يا أمير المؤمنين إن المغيرة قد ثقل علي عملي فكلمه لي بالتخفيف عني، فقال عمر: اتق الله وأحسن إلى مولاك، فغضب أبو لؤلؤة وقال: واعجباه قد وسع الناس عدله غيري وأضمر على قتل عمر واصطنع له - لعنه الله - خنجرًا لقتل عمر له رأسان وسمه فجاءه صلاة الغداةقال عمر بن ميمونٍ: إني لقائم في الصلاة وما بيني وبين عمر إلا ابن عباسٍ فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني الكلب حين طعنه وطار العلج بسكينٍ ذات طرفين لا يمر على أحدٍ يمينًا وشمالًا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا مات سبعة وقيل ستة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلما علم أنه مأخوذ نحو نفسه فقال عمر رضي الله عنه: قاتله الله لقد أمرت به معروفًا ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجلٍ يدعي الإسلام بل كان رقيقًا مجوسيا، وقيل: كان نصرانيا، توفي عمر رضي الله عنه في ذي الحجة لأربع عشرة ليلةً مضت منه في السنة المذكورة، ومات وسنه كسن أبي بكرٍ، دفن أبو بكرٍ عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم وعمر خلفه، وبقي هناك موضع قبرٍ يدفن فيه عيسى عليه السلام ومناقبهما كثيرة منها ما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه في حديث علي: "أبو بكرٍ وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين" 1ومنها ما رواه أبو يعلى في مسنده: "أبو بكرٍ وعمر مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس"ومنها ما رواه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة: "أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي قال أبو بكرٍ: وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه. قال: أما إنك يا أبا بكرٍ أول من يدخل الجنة من أمتي" 2ومنها ما نقله بعض شراح العقيدة أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من تحت العرش أين من له حق على الله"، قيل يا رسول الله ومن له حق على الله؟ قال: "من أحب أبا بكرٍ وعمر"3ـــــــ
1 صحيح: أخرجه الترمذي كتاب المناقب باب: في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما حديث 3666, وابن ماجه حديث 95, وأحمد 1/80 حديث 602 وانظر: صحيح الجامع 512 أخرجه أبو داود كتاب السنة باب: في الخلفاء حديث 4652, والحاكم في المستدرك 3/77 حديث 4444 وصححه وقال على شرط الشيخين وانظر ضعيف الجامع 653 لم أقف عليه.

ونقل أيضًا أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل آنفًا فقلت له: يا جبريل حدثني بفضائل عمر بن الخطاب في السماء فقال: يا محمد لو حدثتك بفضائل عمر في السماء ما لبث نوح في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا ما نفدت فضائل عمر، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكرٍ"1"ثم" يلي عمر في الفضل "عثمان" بن عفان رضي الله عنه الملقب بذي النورين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه رقية ولما ماتت رقية زوجه أم كلثومٍ ولما ماتت قال: لو كان عندنا ثالثة لزوجتكها، ولي رضي الله عنه الخلافة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنةً وإحدى عشر شهرًا وتسعة أيامٍ، ثم قتل ظلمًا، ولما دخلوا عليه ليقتلوه قالت زوجته: إن شئتم فاقتلوه وإن شئتم فاتركوه فإنه مكث أربعين سنةً يصلي الصبح بوضوء العتمة، ويروى أنه مكتوب في العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكرٍ الصديق عمر الفاروق عثمان ذو النورين يقتل ظلمًاوسبب قتل عثمان رضي الله عنه أنه لما فتحت في أيامه الفتوحات كالإسكندرية وإفريقية وفارس وسواحل الروم وغير ذلك وعمرت المدينة وصارت قبة الإسلام وكثرت فيها الخيرات والأموال، بطرت الرعية بكثرة الأموال والخير والنعم وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا، أخذوا ينقمون على خليفتهم عثمان رضي الله عنه؛ لأنه صار من ذوي الشأن العظام حتى صار له ألف مملوكٍ، ويعطي الأموال لأقاربه ويوليهم الولايات الجليلة، فتكلموا فيه إلى أن قالوا: هذا ما يصلح للخلافة وهموا بعزله وصاروا لمحاصرته فحاصروه في داره أيامًا وكانوا أهل جفاءٍ، ووثب عليه ثلاثون فذبحوه والمصحف بين يديه وهو شيخ كبيروفي روايةٍ: وفتحوا عليه داره والمصحف بين يديه فأخذ محمد بن أبي بكرٍ بلحيته فقال له عثمان: أرسل لحيتي يا ابن أخي فوالله لو رأى أبوك مقامك هذا لساءه فأرسل لحيته وولى، وضربه تبار بن عياضٍ وسودان بن حمران بسيفهما فنضح الدم على قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وجلس عمرو بن الحمق على صدره وضربه حتى مات، ووطئ عمر بن صابئٍ على بطنه فكسر له ضلعين من أضلاعه، وقتل رضي الله عنه وهو ابن ثمانين سنةًـــــــ
1 ضعيف: أخرجه الطبراني في الأوسط 2/159, حديث 1570, وأبو يعلى في مسنده 3/179, حديث 1603 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 13624: فيه الوليد بن الفضل العنزي وهو ضعيف جدا.

وفي روايةٍ أنه قتل يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن يوم السبت قبل الظهر وقيل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلةً خلت من ذي الحجة سنة خمسٍ وثلاثين"ثم" يلي عثمان في الفضل "علي" بن أبي طالبٍ المرتضى من عباد الله وخواص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له كما يقال لأبي بكرٍ الصديق الأكبر وكرم الله وجهه؛ لأنه لم يلتبس بكفرٍ قط ولا سجد لغير الله مع صغره وكون أبيه على غير الملة ولذا خص بكرم الله وجهه، ولي الخلافة بعد عثمان بإجماع الصحابة، وكانت مدة خلافته رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهرٍ وسبعة أيامٍ، توفي بالكوفة طعنه الكلب عبد الرحمن بن ملجمٍ في ليلة الجمعة ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، وثب عليه فضربه بخنجرٍ على دماغه فمات بعد يومين، فأخذوا ابن ملجمٍ وعذبوه وقطعوه إربًا إربًا بعد موت علي رضي الله عنه، ودفن في محراب مسجد الكوفة، وقيل بقصر الأمراء، وقيل قبره برحبة الكوفة، وقيل لا يعلم قبره، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدة خلافتهم بقوله: "الخلافة بعدي ثلاثون سنةً ثم تكون ملكا عضوضًا" ولهذا قال معاوية رضي الله عنه لما ولي بعد انقضاء الثلاثين: أنا أول الملوكتنبيهات: الأول: هذا الترتيب الواقع بين الخلفاء متفق عليه في أبي بكرٍ وعمر ومختلف فيه في عثمان وعلي، ومذهب مالكٍ الذي رجع إليه وانعقد عليه الإجماع بعد ذلك ما ذكره المصنف من تفضيل عثمان على علي رضي الله عن الجميعالثاني: قد ذكرنا أولًا أن فضل الخلفاء على بقية الصحابة مما يجب اعتقاده تبعًا لشيخه اللقاني في شرح جوهرته، وقال الأجهوري: التفضيل الواقع بين الصحابة ليس مما يجب على المكلف اكتسابه واعتقاده كما قد يتوهم، بل لو غفل عن هذه المسألة مطلقًا لم يقدح في دينه، نعم لو خطرت بالبال أو تحدث فيها
باللسان وجب الإنصاف وتوفية كل ذي حق حقه ولو جحد التفضيل لا يكفر، وإن قيل بأنه قطعي نظرًا إلى القول بأنه ظنيالثالث: ما ذكره المصنف من الاقتصار في الخلفاء على الأربعة يفيد أن معاوية ليس بخليفةٍ بل ملك وهو المطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنةً" 1 وقيل: إنما تتم بمدة الحسن بن علي وذلك أن الناس بايعوه بعد أبيه في العشر الأخير من رمضان سنة أربعين من الهجرة، ثم إن الحسن سلم الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان في النصف من جمادى الأولى سنة إحدى
ـــــــ
1 صحيح ابن حبان 15/392, حديث 9943, وقد تقدم برقم 133.

وأربعين من الهجرة، فتكون مدة خلافة الحسن سبعة أشهرٍ ونصفًا وأيامًا، فبخلافته تتم مدة الثلاثين سنةً كما ذكره القاضي ومن وافقه، ولعل هذا مبني على ما ذكرناه من المدة، وأما على أن مدتها ثلاث عشرة سنةً فلاالرابع: إنما سموا بالخلفاء رضي الله تعالى عنهم؛ لأنهم لم يخرجوا عما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فلما حافظوا على متابعته سموا خلفاء، وأما الذين خالفوا سنته وبدلوا سيرته فهم ملوك، وقول الرسول: ملكًا عضوضًا الملك مثلث الميم، والعضوض بفتح العين من عض ومعناه أنهم يضرون الرعية ويتعسفون عليهم فكأنهم يعضونهم بالأسنان، ومعنى ملكًا خلافةً ناقصةً لشوبها بالزلل وعدم خلوصها من الخللقال في مختصر النهاية: وملكًا عضوضًا أي يصيب الرعية فيه غضب وظلم كأنهم يعضون عضا، وملوك عضوض جمع عضدٍ بالكسر وهو الخبيث الشرير، وأول الملوك معاوية ولما تولى قال: أنا أول الملوك بعد الخلفاء، ولما دخل عمر الشام رأى جمعًا كثيرًا وجيشًا عظيمًا قد سالت الأودية به ونقع غبار الخيل فقال عمر: ما هذا؟ فقالوا: هذا نائبك معاوية، فقال: هذا كسرى العربولما حكم على الصحابة المكرمين بأنهم خير القرون أجمعين، شرع في بيان ما يطلب منا في حقهم بقوله: "و" من المطلوب من كل مكلفٍ "أن لا يذكر" بالبناء للمفعول نائبه "أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكرٍ" لخبر: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا" قال أبو محمدٍ في غير هذا الكتاب: معناه أن لا يذكروا إلا بخيرٍ؛ لأنه الواجب لهم؛ لأن الله عظمهم، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا تؤذوني في أصحابي" 1وقال أيضا: "لا تسبوا أصحابي" 2وفي روايةٍ: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا" 3. أي لا فرضًا ولا نفلًا وقيل لا صدقةً ولا قربةً. وقال أيوب السختياني: من
ـــــــ
1 لم أقف عليه2 صحيح: أخرجه البخاري كتاب المناقب باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا..." حديث 3673, ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب: تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم حديث 2540, وأبو داود حديث 4658, والترمذي حديث 3861. وابن ماحه حديث 1613 حسن: أخرجه الطبراني في الكبير 12/142, حديث 12709 وحسنه الألباني صحيح الجامع 6285 دون قوله: "لا يقبل الله صرفا ولا عدلا" فلم أقف عليها.

أحب أبا بكرٍ فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور الله، ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى، وغير ذلكوالحاصل أنه يجب علينا احترامهم وتعظيمهم، ومن هنا قال القاضي: من سب غير الزوجات فقد أتى كبيرةً ويؤدب حيث اشتمل سبه على قذفٍ. قال: ومن قال إنهم كانوا على ضلالةٍ وكفرٍ فإنه يقتل، وعن سحنونٍ مثله فيمن قال ذلك في الخلفاء الأربعة وينكل في غيرهم، وذكر في الشفاء خلافًا فيمن كفر عثمان أو علياوجزم العز بن عبد السلام الشافعي بعدم التكفير، ولفظ القرطبي لم يختلف في كفر من قال: إنهم كانوا على ضلالةٍ؛ لأنه أنكر ما علم من الدين ضرورةً وكذب الله ورسوله فيما أخبر به، واختلف هل يستتاب وتقبل توبته كالمرتد أو لا يستتاب ولا تقبل توبته كالزنديق إن ظهر عليه وإن سبهم بغير ذلك، فإن سبهم بما يوجب الحد كالقذف حد للقذف ثم ينكل النكال الشديد، وإن سبهم بغير ذلك جلد الجلد الشديد. قال ابن حبيبٍ: ويخلد في السجن إلى أن يموت، وأما أذية الزوجات فقال ابن عباسٍ: من سب واحدةً فلا توبة له ولا بد من قتله عائشة أو غيرها، وقال الأبي في غير عائشة الحد في القذف والعقوبة في غيرهقال شيخ مشايخنا: قلت والظاهر أن حكم عائشة في القذف بغير ما برأها الله منه كذلك، وأما بما برأها الله منه فلا شك في كفره فيقتل إن لم يتبولما حكم على الصحابة المكرمين بأنهم خير القرون وكان قد حصل بينهم بعض منازعاتٍ ومحارباتٍ لو كانت من غيرهم لم تنقص عن التفسيق، خشي من إساءة الظن بهم بسبب ذلك فقال: "و" مما يطلب منا في حقهم أيضًا "الإمساك عما شجر" أي وقع "بينهم" أي الصحابة من المحاربات والمخاصمات"و" إن احتجنا إلى الخوض فيما شجر بينهم فيجب علينا أن نعتقد "أنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج" وفسر ذلك بقوله: "و" أن "يظن" أي يسلك "بهم أحسن المذاهب" أي المسالكقال في الجوهرة: وأول التشاجر الذي ورد إن خضت فيه واجتنب داء الحسد فيجب على المكلف أن يطلب لهم أحسن التأويلات فيما نقل عنهم نقلًا صحيحًا من القتال وغيره، ويعتقد أن كلا من المتشاجرين لم يصدر ذلك منه إلا على وجهٍ يعتقد فيه الصواب، فمن ذلك وقعة

صفين اسم موضعٍ أو ماءٍ بالشام بين علي ومعاوية، ولم يقاتل علي فيها حتى قتل عمار بن ياسرٍ فجرد ذا الفقار وقتل في ذلك اليوم ألفًا وستمائةٍ، وكما في وقعة الجمل بالعراق بين علي والزبير وطلحة فتأول ما وقع بين علي ومعاوية، على أن عليا طلب انعقاد البيعة أولًا بعد عثمان قبل القصاص من الذين قتلوه ليحصل التمكن مما يريده، إذ لا تقام الحدود ولا يستقيم أمر الناس إلا بالإمام، وتأول ما وقع من معاوية على أنه طلب القصاص من الذين قتلوا عثمان، فكل قصد مقصدًا حسنًا فوقع بينهم ما وقع، وتعتقد أن وقوف علي عن مبايعة أبي بكرٍ إنما كانت عتبًا، ثم لما أعتبه أبو بكرٍ بايعه على رءوس الأشهادكما أن منازعته مع معاوية ووقوفه عن القصاص من قتلة عثمان إنما ذلك لطلب انعقاد البيعة ليستقيم الأمر ويتمكن من الاقتصاص لما مر من أن الحدود وسائر مصالح العباد لا يتمكن منها إلا مع نصب الإمام، والذي اتفق عليه أهل الحق أن عليا اجتهد وأصاب فله أجران، ومعاوية اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، فالحاصل أن المصيب في جميع ذلك كما قال السعد وعليه أهل الحق علي، والمخطئ معاوية، ولكن الجميع ما بين مجتهدٍ ومقلدٍ على هدًى وخيرٍ فهو مأجور ، وسبب تلك الحروب مع عدالتهم اختلاف اجتهادهم، والحال أن القضايا كانت مشتبهةًفإن قيل: في كلام المصنف نوع تناقضٍ؛ لأنه قال أولًا: والإمساك عما شجر بينهم، ثم قال: وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم. إلخ وهذا يقتضي عدم الإمساك، فالجواب: أن المطلوب ابتداء الإمساك من المكلف، فإن وقع ونزل وتكلم فالواجب أن يلتمس لهم أحسن المخارج، أو أن الإمساك إنما هو مطلوب في حق العوام أو بحضرة العوام أو المبتدعة، وأما الخوض للعالم بحضرة غير العامي فلا حرج ويلتمس لهم أحسن المحاملتنبيهات: الأول: قد قدمنا ما يعلم منه أن البحث عن أحوال الصحابة وعما شجر بينهم ليس من عقائد الإيمان ولا مما ينتفع به في الدين بل ربما أضر باليقين، وإنما ذكر القوم بعض شيءٍ مما يتعلق بها صونًا للقاصرين عن اعتقاد ظواهر حكايات الرافضةالثاني: مفهوم المصنف أن غير قرن الصحابة ولو قرن التابعين لا يجب أن يلتمس لهم أحسن المخارج، بل كل من ظهر عليه قادح حكم عليه بمقتضاه ووسم بما يستلزمه من كفرٍ أو فسقٍ أو بدعةٍ، وكان من يزيد في حق أهل البيت من الظلم والجور والإهانة ما لا يخفى على من لعنه، ولا يقتصر عن الكبيرة عند من طعنه، وأما نحن فلا ننجس ألسنتنا بذكره. قال السعد

التفتازاني: والحق أن رضي يزيد بقتل الحسين وإهانته أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تواتر معناه وإن كانت تفاصيله آحادًا فنحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وعلى أعوانه، وخالف في جواز لعن المعين الجمهور، وأما على وجه العموم كلعنة الله على الظالمين فيجوز قاله الأجهوري في بعض رسائلهقال ابن حجرٍ في الصواعق: ويحرم على الوعاظ حكاية قتل الحسين حيث لم يبينوا ما يندفع به سوء الاعتقاد فيهم، وأن فعلهم ذلك كان لغرضٍ مذمومٍ يؤدي إلى تنقيص الصحابة، فلا ينافي ما قالوه من جواز ذكر ما شجر بينهم لبيان الحق الذي يجب اعتقاده من تعظيم الصحابة وبراءتهم من كل نقصٍالثالث: قاتل الحسين سنان بن أنسٍ الأشجعي وكان قتله بكربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة، ولما حمل رأسه ليزيد بن معاوية جعله في طشتٍ وجعل يضرب ثناياه بقضيبٍ وكان أنس حاضرًا فبكى وقال: كان أشبه برسول الله من غيره من إخوته، وروى ابن أبي الدنيا أنه كان عنده زيد بن أرقم فقال: ارفع قضيبك فوالله لطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ما بين هاتين الشفتين، ثم جعل زيد يبكي، فقال ابن زيادٍ: أبكى الله عينيك لولا أنت شيخ قد خرفت لضربت عنقكولما فرغ من بيان ما يجب على المكلف في حق الصحابة، شرع في بيان ما يجب عليه في حق الأئمة والأمراء والعلماء بقوله: "و" يجب على كل مكلفٍ "الطاعة" أي الامتثال والانقياد "لأئمة المسلمين" بالظاهر والباطن في جميع ما أمروا به سوى المعصية على ما يدل عليه حذف المتعلق، فأما في المعصية فتحرم طاعتهم لخبرٍ: "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق" وغير المعصية يشمل المكروه، وفي وجوب إطاعتهم فيه خلاف الوجوب عند ابن عرفة حيث لم تكن الكراهة مجمعًا عليها وعدمه عند القرطبي فإن أطاعهم بظاهره دون باطنه فهو عاصٍ، والأئمة جمع إمامٍ مأخوذ من الإمامة وهي لغةً التقدم، واصطلاحًا صفة حكمية توجب لموصوفها تقديمه على غيره معنًى ومتابعة غيره له حساوتنقسم أربعة أقسامٍ: إمامة وحيٍ وهي النبوة، وإمامة وراثةٍ كالعلم، وإمامة عبادةٍ وهي الصلاة، وإمامة مصلحةٍ وهي الخلافة العظمى لمصلحة جميع الأمة، وكلها تحققت له صلى الله عليه وسلم، وحيث أطلقت في لسان أهل الكلام انصرفت إلى المعنى الأخير عرفًا وهي بهذا المعنى رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا تجب طاعة الإمام إلا بشروطٍ الإسلام

والتكليف والذكورة والحرية والعدالة والعلم والكفاية وكونه قرشيا واحدًا على خلافٍ فيهما، فإن اجتمع عدد بهذه الصفة فالإمام من انعقدت له البيعة بأهل العقد والحل، فإن انعقدت لاثنين ببلدين في وقتٍ واحدٍ فقيل هي للذي عقدت له ببلد الإمام الميت، وقيل يقرع بينهما، ولا يجوز العدد في العصر الواحد والبلد إجماعًا إلا أن تتباعد الأماكن بحيث لا يصل حكم الإمام إلى محل آخر كالأندلس وخراسان فيجوز التعدد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهمثم بين الأئمة بقوله: "من ولاة" أي حكام "أمورهم، و" من "علمائهم" والضمير للمسلمين، والمراد العلماء العاملون بأمر الله وأمر السنة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والأصل في هذا كله قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] إذ هم أمراء الحق العالمون العاملون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكروفي الحديث: "من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني" والمؤلف رحمه الله جمع بين القولين في تفسير قوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فإنه قيل: المراد بهم أمراء الحق على الوجه الذي بينا، وقيل: العلماء العاملون بعلمهم، فالمجتهد منهم يجب عليه العمل بما غلب على ظنه ولا يقلد، والمقلد يجب عليه تقليد أهل العلم لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] إلا عقائد الإيمان فيحرم التقليد فيها من القادر على النظر الموصل للمعرفة مع صحة إيمانه وإن كان عاصيًا كما تقدمتنبيهان: الأول: من ثبتت إمامته لا ينعزل منها عند الأكثر بالفسق ولا بالجور حيث نصب عدلًا، وإنما ينحل عقد الإمامة بما يزول به مقصود الإمامة كالردة1 والجنون المطبق وصيرورة الإمام أسيرًا لا يرجى خلاصه، وكذا بالمرض الذي ينسيه العلوم، وبالعمى والصمم والخرس، وكذا بخلعه نفسه لعجزه عن القيام بمصالح المسلمين وإن لم يظهر المرض إنما استشعر من نفسه العجز عن القيام بأمر الإمامة، وعليه يحمل خلع الحسن نفسه رضي الله عنه، وما تقدم عن الأكثر من عدم عزله بالفسق والجور يعارضه قول القرطبي: إذا نصب الإمام عدلًا ثم فسق بعد إبرام العقد، فقال الجمهور: وتنفسخ إمامته وينخلع بالفسق الظاهر المعلوم؛ لأنه
ـــــــ
1 الردة لغة: الرجوع عن الشيء ومنه الردة عن الإسلام يقال: ارتد عنه ارتدادا أي تحول والاسم الردة والردة عن الإسلام: الرجوع عنه. وارتد فلان عن دينه إذا كفر بعد إسلامهوفي الاصطلاح: كفر المسلم بقول صريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنهومن شرائط الردة: ألا تقع من المسلم إلا إذا توفرت شرائط البلوغ والعقل والاختيار الموسوعة 22/180.

قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم وغير ذلك، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور، فلو جوزنا أن يكون فاسقًا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله ا هـوقول ينبغي أن يكون محل الخلاف ما لم يشتد الضرر ببقائه وإلا اتفق على عزله، وأما نائب الإمام فيظهر أنه ليس كالإمام فيعزل بما ذكر اتفاقًا وحرر المسألة، وأما خلعه لنفسه من غير سببٍ فليس له ذلك على مذهب مالكٍ لضابط العلامة خليلٍ في توضيحه: كل من ملك حقا على وجهٍ لا يملك معه عزل نفسه فله أن يوصي به ويستخلف عليه من ينوب عنه كالخليفة والوصي والمجبر في النكاح عند ابن القاسم وإمام الصلاة وكل من ملك حقا على وجهٍ يملك معه عزل نفسه فليس له أن يوصي به ولا يستخلف عليه إلا بشرطٍ كالقاضي والوكيل ولو مفوضًا، وإذا خلع بلا سببٍ لم تنعقد الإمامة لمن ولي بعدهالثاني: قد قدمنا أنه لا ينعزل عند الأكثر بالفسق ولا بالجور أيضًا، ولكن ينهى عن الجور بلطفٍ وينصح ويرشد إلى الحق وجوبًا على من تمكن من ذلك وظن إفادته أو توهمها، ولا يجوز الدعاء على الأمراء جهرًا لما يترتب عليه من الفتن كما لا يجوز مخالفتهم، بل المطلوب الدعاء لهم بالإصلاح، والاستغفار"و" مما يجب على المكلف أيضًا "اتباع السلف الصالح" وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أقوالهم وأفعالهم وفيما تأولوه واستنبطوه. قال في الجوهرة: وتابع الصالح ممن سلفا وجانب البدعة ممن خلفا وظاهر كلام المصنف وجوب الاتباع للسلف ولو في حق المجتهد وهو مذهب مالكٍ رضي الله عنه ومن تبعه، وقال بعض أهل المذهب كالفاكهاني: وهذا والله أعلم في حق من لم يبلغ درجة الاجتهاد، وأما المجتهد فلا يتبعهم فيما استنبطوه باجتهادهم لأن المجتهد لا يقلد غيره، وأما أقوالهم وأفعالهم المتعلقة بالشرائع التي لم يحصلوها باجتهادهم وإنما هي مأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في اتباعهم فيها، فلعل ظاهر كلام المصنف لا يخالف هذا، ثم أكد الكلام السابق بقوله: "واقتفاء آثارهم"؛ لأن الاقتفاء هو الاتباع، وإنما طلب من المكلف اتباع السلف الصالح في عقائده وأقواله وأفعاله وهيئاته لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكرٍ وعمر". وقال أيضًا: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوًا عليها بالنواجذ"وقال أيضًا: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" والمراد العلماء منهم، ولأن في اتباع

السلف الصالح النجاة من كل سوءٍ وفيه الفوز بكل كمالٍ؛ لأنهم أشد محافظةً على طريقة نبينا عليه الصلاة والسلام "و" لحصول النجاة لنا والفوز باتباعهم يجب علينا معاشر المكلفين "الاستغفار" أي طلب المغفرة "لهم" أي السلف الصالح، لكن لا بقيد الصحابة بل الأعم لما يستوجبه المتقدم من المتأخر من حسن الثناء عليه والدعاء لهففي كلام المصنف الاستخدام الذي هو ذكر الشيء بمعنًى وإعادة الضمير عليه بمعنًى آخر، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وقال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر: 10] وإنما طلب الاستغفار لهم لما سبق؛ ولأنهم وضحوا السبيل. قال بعض: وهذا يفيد وجوب الاستغفار لمن سبق بالإيمان، ويحصل أداء الواجب بمرةٍ كالشهادتين وقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: والحمد لله وسائر الأذكار، ولا يخرج من عهدة الواجب من تلك المذكورات إلا إذا أتى بها مع قصد أداء الواجب وإلا كان عاصيًا حيث مات قبل ذلك ولو كان محكومًا له بالإيمان؛ لأن الكلام في المؤمنتنبيه: تفسيرنا للسلف الصالح بالصحابة هو تفسير مراد، فلا ينافي أن السلف في اللغة كل متقدمٍ وسلف الرجل آباؤه، والصالح عرفًا وشرعًا هو القائم بما يلزمه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده ويطلق على النبي وعلى الوليقال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} [الأنبياء: 85]، إلى قوله: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 86] وقال في يحيى: {وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] وقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]ولما كانت الشرائع لا تتضح غالبًا إلا بعد الجدال وكان منه الجائز وهو ما كان لإظهار الحق أو لإبطال الباطل والحرام وهو ما ليس كذلك قال: "و" يجب على المكلف "ترك المراء" في الدين وهو بالمد لغةً الاستخراج، تقول: مريت الفرس إذا استخرجت جريه، والمماري يستخرج ما عند صاحبه، وعرفًا منازعة الغير مما يدعي صوابه ولو ظناقال تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً} [الكهف: 22] قال الغزالي: والمذموم منه طعنك في كلام الغير لإظهار خللٍ فيه لغير غرضٍ سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه، ولذا قال مالك: الجدال ليس من الدين في شيءٍ "و" يجب أيضًا ترك "الجدال" مصدر جادل إذا خاصم وحقيقته الحجة بالحجة، وهذا قريب من قول بعضهم: هو تعارض بين اثنين فصاعدًا لتحقيق حق أو

إبطاله والمحرم هو الثاني، وقال بعض المراء: والجدال لفظان مترادفان قال مالك رضي الله عنه: الجدال ليس من الدين في شيءٍ، وقال الشافعي: ما ذاكرت أحدًا وقصدت إفحامه وإنما أذاكره لإظهار الحق من حيث هو حققال الشيخ أبو حامدٍ: أكثر ما يوجد المراء والجدال في علماء زماننا فلا تجالسهم وفر منهم فرارك من الأسد، وقال صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجدال وهو محق بنى الله له بيتًا في الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتًا في أعلى الجنة". وقال بعضهم: ما ذاكرت حليمًا إلا وحقرني ولا سفيهًا إلا وأخزاني، وقال: ما استكمل أحد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء والجدال وإن كان محقا، وقوله "في الدين" يتنازعه المراء، والجدال في الدين هو جدال أهل الأهواء والبدع؛ لأنه يؤدي إلى الوقوع في الشبهات، وقد أوجب الشارع هجران ذي البدع، ومفهوم قوله في الدين أن الجدال في أمر الدنيا جائز بين أهلها مع مراعاة الحق والتزام الصدق وترك اللدد والإيذاءتنبيهان: الأول: للمناظرة الجائزة - ويقال لها المذاكرات بين العلماء - شروط وآداب، فأما شروطها فهي ضبط قوانين المناظرة من كيفية إيراد الأسئلة والأجوبة والاعتراضات وكيفية ترتيبها وكون كل واحدٍ من المتناظرين عالمًا بالمسألة التي وقعت فيها المناظرات، وصون كل واحدٍ كلامه من الفحش والخطأ على صاحبه، والصدق فيما ينسبه لنفسه أو لغيره، وكذا جميع أقواله مطابقةً لاعتقاده، وأما آدابها فهي تجنب اضطراب ما عدا اللسان من الجوارح، والاعتدال في رفع الصوت وخفضه، وحسن الإصغاء لكلام صاحبه، وجعل الكلام مناوبةً، والثبات على الدعوة إن كان مجيبًا، والإصرار على السؤال إن كان سائلًا، والاحتراز عن التعنت والتعصب وقصد الانتقام، وأن لا يتكلم فيما لا يعلمه ولا في موضع مهانةٍ ولا عند جماعةٍ تشهد بالزور لخصمه ويردون كلامه، ويجتنب الرياء والمباهاة والضحك، فإذا وجدت تلك الآداب أفادت المناظرة خمس خصالٍ: إيضاح الحجة، وإبطال الشبهة، ورد المخطئ للصواب والضال إلى الرشاد، والزائغ إلى صحة الاعتقاد مع الذهاب إلى التعليم، وطلب التحقيقالثاني: بقي بعد المراء والجدال ألفاظ يقع الالتباس بين معانيها فينبغي للطالب معرفتها وهي: المكابرة والمعاندة والمجادلة والمناكرة والمناظرة والمشاغبة والمغالطة، فالمكابرة هي الإقامة على إنكار الشيء بعد العلم به، والمعاندة هي النزاع في المسألة العلمية مع عدم العلم بكلامه وكلام صاحبه، والمجادلة هي الفكر في النسبة بين الشيئين من الجانبين لإظهار

الصواب، كما أن المناظرة كذلك إلا أن المناظرة قد تكون مع نفسه دون المجادلة فإنها لا تكون إلا مع الغير، والمناكرة لا تكون إلا مع نفسه من غير تلفظٍ، والمشاغبة هي المنازعة في المسألة لا لإظهار الصواب ولا لإلزام الخصم، والمخالطة لإلزام الخصم لا لإظهار الصوابوترك كل ما أحدثه المحدثون. ولما كان كل خيرٍ في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف قال: "و" يجب على المكلف "ترك" فعل "كل ما أحدثه المحدثون" من الابتداعات المخالفة لما كان عليه السلف الصالح لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" 1وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا: "إياكم ومحدثات الأمور" 2 وهي ابتداعات الخلف السيئ الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يمت حتى مهد الدين وأسس قواعده وأوضح كل ما يحتاج إليه ثم أحال بعده على أصحابه فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" الحديث، فكل ما كان في كتابٍ أو سنةٍ أو أجمع عليه أو استند إلى قياسٍ أو إلى عمل أحدٍ من الصحابة فهو دين الله، وما خالف ذلك فبدعة وضلالة فلا يجوز العمل به، وبهذا لا معارضة بين ما هنا وبين ما يأتي في الأقضية يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور فإنه جعلها من الشرع ولم يجعلها ضلالةً؛ لأن ما يأتي محمول على ما استند إلى كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعٍ أو قياسٍ، وما هنا محمول على ما لم يستند إلى واحدٍ منها، ومحصل الجواب بإيضاح أن ما يأتي محمول على ما تقتضيه قواعد الشرع ولو وجد سببه في زمنه صلى الله عليه وسلم لفعله، والبدعة3 التي هي في ضلالةٍ ما ليست كذلك واختلف في معناها فقيل
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الصلح باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود حديث 2697, ومسلم كتاب الأقضية باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور حديث 1718, وأبو داود حديث 4606, وابن ماجه حديث 14 وأحمد 6/240 حديث 260752 أخرجه المروزي في السنة 268, حديث 693 البدعة لغة: من بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه: إذا أنشأه وبدأه والبدع: الشيء الذي يكون أولا ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] أي ليست بأول رسول بعث إلى الناس بل قد جاءت الرسل من قبل فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني والبدعة: الحدث وما ابتدع في الدين بعد الإكمالوفي لسان العرب: المبتدع الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن بل ابتدأه هو وأبدع وابتدع وتبدع: أتى ببدعة ومنه قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] وبدعة: نسبة إلى البدعة والبديع: المحدث العجيب وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال والبديع من أسماء الله تعالى ومعناه: المبدع لإبداعه الأشياء وإحداثه إياهاأما في الاصطلاح: فقد تعددت تعريفات البدعة وتنوعت لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها

..............................................................................__________
ومدلولها فمنهم من وسع مدلولها حتى أطلقها على كل مستحدث من الأشياء ومنهم من ضيق ما تدل عليه فتقلص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام وسنوجز هذا في اتجاهينالاتجاه الأول: أطلق أصحاب الاتجاه الأول البدعة على كل حادث لم يوجد في الكتاب والسنة سواء أكان في العبادات أم العادات وسواء أكان مذموما أم غير مذموم ومن القائلين بهذا الإمام الشافعي ومن أتباعه العز بن عبد السلام والنووي وأبو شامة ومن المالكية: القرافي والزرقاني ومن الحنفية ابن عابدين ومن الحنابلة: ابن الجوزي ومن الظاهرية: ابن حزم ويتمثل هذا الاتجاه في تعريف العز ابن عبد السلام للبدعة وهو: أنها فعل مالم يعهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلموهي منقسمة إلى بدعة واجبة وبدعة محرمة وبدعة مندوبة وبدعة مكروهة وبدعة مباحة وضربوا لذلك أمثلة فالبدعة الواجبة: كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله وذلك واجب لأنه لابد منه لحفظ الشريعة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والبدعة المحرمة من أمثلتها: مذهب القدرية والجبرية والمرجئة والخوارج. والبدعة المندوبة: مثل إحداث المدارس وبناء القناطر ومنها صلاة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد. والبدعة المكروهة: مثل زخرفة المساجد وتزويق المصاحف. والبدعة المباحة: مثل المصافحة عقب الصلوات ومنها التوسع في اللذبذ من المآكل والمشارب والملابسواستدلوا لرأيهم في تقسيم البدعة إلى الأحكام الخمسة بأدلة منها:
أ- قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح جماعة في المسجد في رمضان نعمت البدعة هذه فقد روي عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي ابن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أولهب- تسمية ابن عمر صلاة الضحى جماعة في المسجد بدعة وهي من الأمور الحسنة روي عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى فسألناه عن صلاتهم فقال بدعةج- الأحاديث التي تفيد انقسام البدعة إلى الحسنة والسيئة ومنها ما روي مرفوعا: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"الاتجاه الثاني:
اتجه فريق من العلماء إلى ذم البدعة وقرروا أن البدعة كلها ضلالة سواء في العادات أو العبادات ومن القائلين بهذا الإمام مالك والشاطبي والطرطوشي. ومن الحنفية: الإمام الشمني والعيني. ومن الشافعية البيهقي وابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيتمي ومن الحنابلة: ابن رجب وابن تيمية وأوضح تعريف يمثل هذا الاتجاه هو تعريف الشاطبي حيث عرف البدعة بتعريفين:
الأول أنها: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وهذا التعريف لم يدخل العادات في البدعة بل خصها بالعبادات بخلاف الاختراع في أمور الدنياالثاني أنها: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

......................................................................................__________
وبهذا التعريف تدخل العادات في البدع إذا ضاهت الطريقة الشرعية كالناذر للصيام قائما لا يقعد متعرضا للشمس لا يستظل والاقتصار في المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علةواستدل القائلون بذم البدعة مطلقا بأدلة منها:
أ- أخبر الله أن الشريعة قد كملت قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3] فلا يتصور أن يجيء إنسان ويخترع فيها شيئا لأن الزيادة عليها تعتبر استدراكا على الله سبحانه وتعالى. وتوحي بأن الشريعة ناقصة وهذا يخالف ما جاء في كتاب اللهب- وردت آيات قرآنية تذم المبتدعة في الجملة من ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]ج- كل ما ورد من أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البدعة جاء بذمها من ذلك حديث العرباض بن سارية وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فما تعهد إلينا فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضو عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"د- أقوال الصحابة في ذلك من هذا ما روي عن مجاهد قال: دخلت مع عبد الله بن عمر مسجدا وقد أذن فيه ونحن نريد أن نصلي فيه فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال: "اخرج بنا من عند هذا المبتدع" ولم يصل فيهالبدعة في العادات:
البدعة في العادات منها المكروه كالإسراف في المآكل والمشارب ونحوها ومنها المباح مثل التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام من غير سرف ولا اختيال. وذهب قوم إلى أن الابتداع في العادات التي ليس لها تعلق بالعبادات جائز لأنه لو جازت المؤاخذة في الابتداع في العادات لوجب أن تعد كل العادات التي حدثت بعد الصدر الأول من المآكل والمشارب والملابس والمسائل النازلة بدعا مكروهات والتالي باطل لأنه لم يقل أحد بأن تلك العادات التي برزت بعد الصدر الأول مخالفة لهم ولأن العادات من الأشياء التي تدور مع الزمان والمكانالبدعة في العبادات: اتفق العلماء على أن البدعة في العبادات منها ما يكون حراما ومعصية ومنها ما يكون مكروهاأ- البدعة المحرمة: ومن أمثلتها: بدعة التبتل والصيام قائما في الشمس والخصاء لقطع الشهوة في الجماع والتفرغ للعبادة لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الرهط الذين فعلوا ذلك: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"ب- البدعة المكروهة: قد تكون البدعة في العبادات من المكروهات مثل الاجتماع عشية عرفة للدعاء

.......................................................................................__________
لغير الحجاج فيها وذكر السلاطين في خطبة الجمعة للتعظيم أما للدعاء فسائغ وكزخرفة المساجد جاء عن محمد بن أبي القاسم عن أبي البحتري قال: أخبر رجل عبد الله بن مسعود أن قوما يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول: كبروا الله كذا وكذا وسبحوا الله كذا وكذا واحمدوا الله كذا وكذا قال عبد الله: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم فأتاهم فجلس فلما سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعود فجاء وكان رجلا حديدا فقال أنا عبد الله بن مسعود والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلما ولقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما فقال عمرو بن عتبة استغفر الله فقال عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيداأنواع البدعة:
تنقسم البدعة من حيث قربها من الأدلة أو بعدها عنها إلى حقيقية وإضافيةالبدعة الحقيقية: هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل ولهذا سميت بدعة حقيقية لأنها شيء مخترع على غير مثال سابق وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع إذ هو مدع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة ولكن ثبت أن هذه الدعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر ولا بحسب الظاهر أما بحسب نفس الأمر فبالعرض وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شبه وليست بأدلة ومن أمثلتها التقرب إلى الله تعالى بالرهبانية وترك الزواج مع وجود الداعي إليه وفقد المانع الشرعي كرهبانية النصارى المذكورة في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] فهذه كانت قبل الإسلام أما في الإسلام فقد نسخت في شريعتنا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن رغب عن سنتي فليس مني". ومنها: أن يفعل المسلم مثل ما يفعل أهل الهند في تعذيب النفس بأنواع العذاب الشنيع والقتل بالأصناف التي تفزع منها القلوب وتقشعر منها الجلود مثل الإحراق بالنار على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العليا والقربى من الله في زعمهمالبدعة الإضافية: وهي التي لها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة والثانية ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية ولما كان العمل له شائبتان ولم يتخلص لأحد الطرفين وضعت له هذه التسمية لأنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لاستنادها إلى دليل وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لاستنادها إلى شبهة لا إلى دليل أو لأنها غير مستندة إلى شيء وهذا النوع من البدع هو مثار الخلاف بين المتكلمين في البدع والسنن وله أمثلة كثيرة منها: صلاة الرغائب وهي اثنتا عشرة ركعة في ليلة الجمعة الأولى من رجب بكيفية مخصوصة وقد قال العلماء: إنها بدعة قبيحة منكرة وكذا صلاة ليلة النصف من شعبان وهي: مائة ركعة بكيفية خاصة وصلاة بر الوالدين ووجه كونها بدعة إضافية: أنها مشروعة باعتبار النظر إلى أصل الصلاة لحديث رواه الطبراني في الأوسط "الصلاة خير موضوع" وغير مشروعة باعتبار ما عرض لها من التزام الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة فهي مشروعة باعتبار ذاتها مبتدعة باعتبار ما عرض لهاالبدع المكفرة وغير المكفرة: البدع متفاوتة فلا يصح أن يقال: إنها على حكم واحد هو الكراهة فقط أو التحريم فقط فقد وجد أنها تختلف في أحكامها فمنها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبه القرآن عليها كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] الآية وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139] وقوله تعالى: {ما جعل الله

.................................................................................................__________
مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103]. وكذلك بدعة المنافقين الذين اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]فهذا وأضرابه لا يشك أحد في أنه كفر صراح لابتداعه أشياء أنكرتها النصوص وتوعدت عليها ومنها ما هو كبيرة وليس بكفر أو يختلف فيه هل هو كفر أم لا؟ كبدع الفرق الضالةومنها ما هو معصية وليس بكفر اتفاقا كبدعة التبتل والصيام قائما في الشمس والخصاء بقطع شهوة الجماع للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك وقد سبق بعض منها ولقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29]تقسيم البدع غير المكفرة إلى كبيرة وصغيرة: إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] وإذا كانت ليست رتبة واحدة فالبدع من جملة المعاصي وقد ثبت التفاوت في المعاصي فكذلك يتصور مثله في البدع فمنها ما يقع في الضروريات ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات ومنها ما يقع في رتبة التحسينات وما يقع في رتبة الضروريات منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال فمثال وقوعه في الدين: اختراع الكفار وتغييرهم ملة إبراهيم عليه السلام في نحو قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103] وحاصل ما في الآية تحريم ما أحل الله على نية التقرب به إليه مع كونه حلالا بحكم الشريعة المتقدمة. ومثال ما يقع في النفس: ما عليه نحل بعض الهند من تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب واستعجال الموت لنيل الدرجات العلى على زعمهم. ومثال ما يقع في النسل: ما كان من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة ومعمولا بها ومتخذة كالدين وهي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره بل كانت من جملة ما اخترعوه من ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها في حديث أنكحة الجاهلية ومثال ما يقع في العقل ما يتناول من المسكرات والمخدرات بدعوى تحصيل النفع والتقوي على القيام ببعض الواجبات المشروعة في ذاتها ومثال ما يقع في المال قولهم: {الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} فإنهم احتجوا بقياس فاسد وكذلك سائر ما يحدث الناس بينهم من البيوع المبنية على المخاطرة والغرر هذا التقسيم من حيث اعتبار البدعة كبيرة أو صغيرة مشروط بشروطالأول: ألا يداوم عليها فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه لأن ذلك ناشئ عن الإصرار عليها والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ولذلك قالوا: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار فكذلك البدعة من غير فرقالثاني: ألا يدعو إليها فإذا ابتلي إنسان ببدعة فدعا إليها تحمل وزرها وأوزار الآخرين معه مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"الثالث: ألا تفعل في الأماكن العامة التي يجتمع فيها الناس أو المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها أعلام الشريعة وألا يكون ممن يقتدى به أو يحسن به الظن فإن العوام يقتدون بغير نظر بالموثوق بهم أو بمن يحسنون الظن به فتعم البلوى ويسهل على الناس ارتكابها أنظر الموسوعة الفقهية 8/21- 35, ومعجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 1/361- 363 ومن مصادره: الاعتصام 1/37, والتعريفات ص 37, ودستور العلماء 1/232.

هي الأمر الذي لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم سواء دل الشرع على حرمته أو كراهته أو وجوبه أو ندبه أو إباحته، وإليه ذهب من قال: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة كابن عبد السلام والقرافي وغيرهما، وهذا أقرب لمعناها لغةً من أنها ما فعل من غير سبق مثالٍوقيل: هي ما لم تقع في زمنه عليه الصلاة والسلام ودل الشرع على حرمته وهذا معناها شرعًا، وعليه جاء قوله عليه الصلاة والسلام: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار" 1فإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب بدعة على الأول؛ لأنه لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم وإن وقع منه الأمر به، وكذلك جمع القرآن في المصاحف، والاجتماع على قيام رمضان، والتوسع في لذيذ المآكل، وأذان جماعةٍ بصوتٍ واحدٍ، وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: المحدثات ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف الكتاب والسنة والإجماع فهذا هو البدعة الضلالةوثانيهما ما أحدث من الخير ولا خلاف فيه، وقد قال الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قيام رمضان: نعمت البدعة هي يعني أنها محدثة لم تكن على هذه الكيفية وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى، والمختار أن لبس الطيلسان سنة، وألف السيوطي في استحباب لبسه كتابًا وقال: من أنكر سنده فهو جاهل"خاتمة" قال القرافي: الأصحاب متفقون على إنكار البدع نص عليه ابن أبي زيدٍ وغيره، والحق أنها خمسة أقسامٍ:
الأول: من الخمسة بدعة واجبة إجماعًا وهي كل ما تناولته قواعد الوجوب وأدلته من الشرع كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع فإن تبليغها لمن بعدنا واجب إجماعًا وإهماله حرام إجماعًا
الثاني: بدعة محرمة إجماعًا وهي كل ما تناولته أدلة التحريم وقواعده كالمكوس وتقديم الجهلاء على العلماء وتولية المناصب الشرعية بالتوارث لمن لا يصلح لهاالثالث: بدعة مندوبة كصلاة التراويح وإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور، على
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الأدب باب: في الهدي الصالح حديث 6098 والنسائي حديث 1311, وابن ماجه حديث 45.

خلاف ما كانت عليه الصحابة، فإن التعظيم في الصدر الأول كان بالدين فلما اختل النظام وصار الناس لا يعظمون إلا بالصور كان مندوبًا حفظها لظلم الخلقالرابع: بدعة مكروهة وهي ما تناولتها قواعد الكراهة كتخصيص الأيام الفاضلة بنوعٍ من العبادات، ومنه الزيادة على القرب المندوبة كالصاع في صدقة الفطر وكالتسبيح ثلاثًا وثلاثين والتحميد والتكبير والتهليل فيفعل أكثر مما حده الشارع فهو مكروه حيث أتى به لا لشك لما فيه من الاستظهار على الشارع، فإن العظماء إذا حدث شيئًا تعد الزيادة عليه قلة أدبٍ، ومن البدع المكروهة أذان جماعةٍ بصوتٍ واحدٍالخامس: بدعة مباحة وهي كل ما تناولته قواعد الإباحة كاتخاذ المناخل لإصلاح الأقوات واللباس الحسن والمسكن الحسن وكالتوسعة في لذيذ المأكول والمشروب على ما قاله العز، ومن البدع المباحة اتخاذ الملاعق والضابط لما يجوز وما لا يجوز مما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم عرضه على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضته ألحق بها، فعلم من هذا التقسيم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعةٍ ضلالة" 1
محمول على البدعة المحرمةولما كان الباب كالكتاب والفراغ منه كالفراغ من الكتاب ختمه بالصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "وصلى الله على سيدنا محمدٍ نبيه" ورسوله وأفضل خلقه، وتقدم أن معنى السيد الكامل المحتاج إليه، واستعمل في غير الله إشارةً إلى الجواز كـ "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وك "قوموا لسيدكم" وهو سعد، وأما استعمال السيد في الله فحكي عن مالكٍ قولان بالمنع والكراهة، هذا ملخص كلام التتائي، وأقول: لعل وجه كلام مالكٍ رضي الله عنه مبني على الراجح من منع إطلاق ما لم يرد أو؛ لأنه يستعمل في غيره تعالى، "وعلى آله" أي أتقياء أمته فتناول الصحابة، "وأزواجه" الطاهرات أمهات المؤمنين فضلًا عن خديجة وقيل عائشة، "وذريته وسلم" بلفظ الماضي لعطفه على صلى الذي هو كذلك "تسليمًا كثيرًا" قال سيدي يوسف بن عمر: هذه الرواية المشهورة وروي: وصلى الله على محمدٍ نبيه فقط، ويؤخذ منها أن الإنسان يؤجر على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكملها على الصفة الواردة عنه عليه الصلاة والسلاموقولنا ختمه بالصلاة والسلام إشارةً إلى أن محل ندبه الإتيان بهما إذا كان الرجاء حصول
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه المقدمة باب: إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين حديث 42.

بركتها بحيث يقبل الفعل المبدوء والمختوم بهما لا لمجرد قصد الإخبار بتمام الباب أو الكتاب على حد ما قيل في الإتيان بلفظ، والله أعلم فإنه لا يندب إلا وقد قصد تفويض العلم على الحقيقة لله تعالى أو غير ذلك لا لقصد الإعلام بالفراغ؛ لأن الألفاظ الموضوعة لتستعمل في معنًى لا ينبغي استعمالها في غيره، وتقدم أنها تجب في العمر مرة وتسن أو تندب في الصلاة وتستحب خارجها؛ لأنها تفرج الكرب وتحل العقد ولما فرغ من الكلام على ما تعتقده القلوب، شرع يتكلم على ما تعمله الجوارح فقال:

باب ما يجب منه الوضوء والغسل
"باب" هو لغةً ما يتوصل منه إلى غيره وهو حقيقة في الأجساد كباب المسجد ومجاز في المعاني، ولا تصح إرادته هنا بهذا المعنى لأنه في الاصطلاح اسم لجملةٍ مخصوصةٍ من مسائل العلم مشتملةٍ على فصولٍ، والفصل يشتمل على مسائل جمع مسألةٍ وهي مطلوب خبري يقام عليه الدليل، ولذلك لا يسمى مسألةً إلا ما أقيم عليه الدليل واكتسب به، لا الأمر الضروري كالصلوات الخمس فرض وكالزكاة فرض فلا تعد من مسائل العلم"ما" أي الموجب الذي "يجب منه الوضوء، و" الموجب الذي يجب منه "الغسل" والضمير في منه عائد على ما الموصولة ومن تعليلية لأن هذا شروع في موجبات الوضوء والغسل، والموجب ما يلزم بسببه الوضوء أو الغسل، والوضوء لغةً النظافة واصطلاحًا طهارة مائية تشتمل على غسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس، والغسل إيصال الماء إلى جميع الجسد بنية استباحة الصلاة مع الدلك، وسيذكر كل واحدٍ في بابه، وموجبات الوضوء ويعبر عنها بنواقضه ومبطلاته ثلاثة أقسامٍ: أحداث وأسباب وما ليس بحدثٍ ولا سببٍ وهو ما لا يدخل تحت حدهما كالردة والشك في الحدث وليس منها رفضه لأنه لا يبطل بالرفض بعد الفراغ ولا بالعزم على النقض، كما لا يبطل الصوم بالعزم على الفطر، وبدأ بأول الأقسام فقال: "الوضوء" وقد قدمنا تعريفه وستأتي صفته في بابه "يجب لما يخرج" على وفق العادة "من أحد المخرجين" المعتادين وهما القبل والدبر على وجه الصحة، فلا ينتقض بالداخل بالحقنة ولا بالقرقرة
الشديدة ولا بالحقن بالريح أو البول أو غيرهما لعدم صدق الحدث عليهماوبين الخارج المعتاد بقوله: "من بولٍ أو غائطٍ أو ريحٍ" من الدبر لا إن خرج من فرج المرأة أو ذكر الرجل فلا ينتقض لأنه لم يخرج من محله المعتاد، وقيدنا بقولنا على وفق العادة للاحتراز عن الحصى والدود المتخلقين في المعدة فلا ينقضان ولو كان عليهما عذرة كثيرة،

ويعفى عن الخارج عليهما فلا يجب منه الوضوء لأنه تابع لهما وهما غير ناقضين فتابعهما كذلك، ولا يجب غسل ما أصاب منه ولو كثر حيث كان خروج الحصى والدود مستنكحًا بأن كان يخرج في كل يومٍ مرةً فأكثر لقول خليلٍ: وعفي عما يعسر، أو كان خروجهما غير مستنكحٍ لكن قل الخارج عليهما، والظاهر أن المراد بالقليل ما يستحيل خروجهما بدونه لا إن كان كثيرًا فيجب إزالته عن المحل لعدم العفو عنهوإن خرج شيء مما لا يعفى عنه وهو في الصلاة بطلت كسقوط سائر النجاسات التي لم يعف عنها، ومثل الحصى والدود في عدم نقض الوضوء الدم والقيح لكن بشرطٍ يخرجا خالصين من الحدث وإلا نقضا، والفرق بينهما وبين الحصى والدود غلبة مخالطة الحصى والدود للعذرة وندرة مخالطة القيح والدم لها، فتلخص أن الحصى والدود والدم والقيح ليست من الحدث على هذا التفصيل ولو قدر على رفعهما، وتوقف بعض الشيوخ في ذات الحصى والدود ثم استظهر أنهما ظاهر الذات ومتنجسان، راجع الأجهوري على خليلٍ، وأما الحصى والدود غير المتخلقين بأن ابتلعهما وخرجا من محل الحدث فإنهما ينقضان لأنهما من الحدث في تلك الحالة كما لو شرب ماءً حارا وابتلع درهمًا أو غيره فخرج منه سريعًا فلا شك في نقض ما ذكر للوضوءوقيدنا بقولنا على وجه الصحة للاحتراز عن الخارج من القبل أو الدبر على وجه السلس الملازم لصاحبه ولو نصف الزمن فإنه لا ينقض، لكن يستحب منه الوضوء إن لازم جل الزمن أو نصفه إلا أن يشق، وأما لو كان يفارق أكثر الزمن فإنه ينقض، فالصور أربع لا ينقض في ثلاثٍ، والنقض في صورةٍ ومحلها في المعجوز عن رفعه وإلا نقض في الجميع كما سنذكره، وقيدنا بالمعتادين وهما القبل والدبر للاحتراز عن الخارج من غيرهما بأن خرج بوله أو فضلته من عينه أو أذنه أو من حلقه فلا نقض، أو خرج حدثه من ثقبةٍ في جسده إلا أن تكون تحت المعدة مع انسداد مخرجيه فإن الخارج منها ينقض اتفاقًا، أو انقطع خروجه من محله وصار موضع القيء موضعًا له فإنه ينقض أيضًا كما قال ابن عبد السلام: ويظهر لي الجزم بالنقض بالخارج من ثقبةٍ ولو فوق المعدة حيث انسد المخرجان بالأول من محل القيء وإن حاولوا الفرق بينهما، ويدل لما قلته ما تقرر من نقض الوضوء عندنا بالشك في الحدث وتأمله بإنصافٍ
"أو" أي وكذا يجب الوضوء "لما يخرج من الذكر من مذيٍ مع" وجوب "غسل الذكر كله منه" بنيةٍ على المعتمد من قولين لكن بشرط أن يخرج بلذةٍ معتادةٍ كما يؤخذ من كلام المصنف الآتي في تعريف المذي، والدليل على ما قاله المصنف ما في الموطأ والصحيحين: "أن عليا

رضي الله عنه أمر المقداد أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من امرأته فخرج منه المذي ماذا عليه؟ فقال المقداد: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوء الصلاة" 1 ولفظ الفرج في الحديث ظاهر في جملة الذكر، والمراد بالنضح فيه الغسل، وبين ذلك ما وقع في مسلمٍ صريحًا: "يغسل ذكره ويتوضأ" 2 ومقابل المشهور يكفي غسل موضع الأذى ولا يحتاج إلى نيةٍ بناءً على أن غسله غير تعبدي، وفيه صور أربع أشار لها خليل بقوله: ففي النية وبطلان صلاة تاركها أو تارك كله قولان: الراجح من قول النية الوجوب كما أن الراجح من قولي الصحة وعدمها مع ترك النية الصحة مع غسل جميعه، وأما عند الاقتصار على بعضه فالقولان في الصحة والبطلان على السواء ولو مع ترك النية على التحقيق"تنبيهات" الأول: كلام المصنف كالحديث في مذي الرجل، وأما مذي المرأة فيكفيها غسل محل الأذى فقط، وتوقف بعض الشيوخ في النية أو استظهر افتقارها إلى نيةٍ كالرجل، قلت: ووجهه ظاهر لأن النساء شقائق الرجالالثاني: المذي بالذال المعجمة وفيه حينئذٍ ثلاث لغاتٍ: تسكين الذال مع تخفيف الياء، وكسر الذال مع شد الياء وتخفيفها ساكنةً، ويروى بالدال المهملة ولعله في اللغات الثلاثالثالث: ناقش بعض الفضلاء في تقديم المصنف موجبات الوضوء على الوضوء بأن فيه تقديم التصديق وهو الحكم على التصور لأنه حكم على الوضوء بأنه يجب لما يخرج من المخرجين مع أنه يجب تقديم التصور على التصديق حكمًا والحكم على الشيء فرع عن تصوره، والجواب عن تلك المناقشة أن يقال: لا نسلم أن فيه تقديم الحكم على التصور، وإنما فيه تقديم الحكم على التصوير للغير، وحكم الشخص على شيءٍ متصورٍ في ذهنه قبل تصويره في الخارج لغيره غير ممتنعٍ، ولا شك أن المصنف كان متصورًا للوضوء حين حكم عليه بأنه يجب لما يخرج من المخرجين وهذا أحسن الأجوبة عن هذا الإشكالثم عرف المذي ببيان صفته عند اعتدال الطبيعة وصفة خروجه فقال: "وهو" أي المذي "ماء أبيض رقيق يخرج عند اللذة" المعتادة وهي الميل إلى الشيء وإيثاره على غيره "بالإنعاظ" أي
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مالك في الموطأ 1/40, حديث 84 بلفظ المصنف والبخاري مختصرا حديث 132, ومسلم حديث 3032 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الحيض باب: المذي حديث 303.

قيام الذكر "عند الملاعبة أو التذكار" بفتح التاء أي التذكر وفهم منه أنه لو خرج بلا لذةٍ أو لذةٍ غير معتادةٍ لا يجب غسل جميع الذكر منه وإنما يغسل محل الأذى، وينقض الوضوء إن لم يخرج على وجه السلس وإلا فلا ينقض إلا أن يفارق أكثر الزمن أو يقدر على رفعه، والناقض للوضوء يتعين فيه الماء ولا يكفي فيه الحجر بخلاف غير الناقض فيكفي فيه الحجر مثل المني الذي لم يوجب غسلًا، وفهم
من كلام المصنف أن مجرد الإنعاظ لا يوجب الوضوء ولو كان مع التلذذ وإدامة تفكرٍ أو نظرٍ، وقولنا عند اعتدال المزاج للاحتراز من عدم اعتداله فقد يخرج مذيه أصفر فلا يختل الحكم بل يجب منه غسل جميع الذكر لأن الحكم دائر مع خروجه بلذةٍ معتادةٍ"تنبيه": قال بعض الشراح: يؤخذ من قول المصنف عند الملاعبة جواز الملاعبة للزوجة والأمة، وقد رغب عليه الصلاة والسلام في ذلك بقوله لعبد الرحمن حين تزوج ثيبًا: "فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" ا هـ. قلت: الحكم مسلم ولكن لم يظهر لي وجه الأخذ من كلام المصنف لأنه لم يشترط أحد كون الملاعبة التي ينشأ عنها المذي جائزةً أو محرمةً وتأمله، نعم يؤخذ من الحديث حيث حض على ملاعبة البكر"وأما الودي" بالدال المهملة الساكنة وحكى الجوهري كسرها وتشديد الياء وروي بالمعجمة "فهو ماء أبيض خاثر" بالمثلثة أي ثخين "يخرج بإثر" بكسر الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما أي عقب "البول" غالبًا وقد يخرج وحده وحكمه أنه "يجب منه ما يجب من البول" فينقض الوضوء وإنما يغسل منه محل الأذى فقط، ويجزي فيه الاستجمار بالحجر كالبول، ولما كان حكمه مغايرًا لحكم المذي أتى المصنف بأما الفاصلة لحكم ما بعدها عما قبلهاولما كان مراد المصنف استيفاء أحكام الخارج من القبل ذكر المني وإن كان من موجبات الغسل في غالب أحواله قبل تتميم الكلام على موجبات الوضوء فقال: "وأما المني" بتشديد الياء "فهو" من الرجل "الماء الدافق" يعني المدفوق الثخين "الذي يخرج" دفعةً بعد دفعةٍ "عند اللذة الكبرى" وهي الحاصلة "بالجماع" بخلاف التي يخرج بها المذي فهي صغرى والتقييد بالجماع بالنظر للغالب وإلا فقد يخرج بغيره وصفة "رائحته" إذا كان رطبًا من صحيح المزاج "كرائحة" غبار "الطلع" من فحل النخل وهو بالعين المهملة وفيه لغة بالحاء المهملة، وقيدنا ب رطبًا لأنه إذا يبس تشبه رائحته رائحة البيض عند يبسه وبصحيح المزاج لأنه قد يتغير من المريض وتختلف رائحته، وإنما نبه المصنف على لونه ورائحته ليرجع إليها عند الاشتباه إذا قام

من نومٍ مثلًا فوجد بللًا أو شيئًا جافا رائحته كرائحة الطلع أو البيض عند يبسه يعلم منه أنه مني، كما يعلم كونه منيا يجعل نقطة ماءٍ حار عليه عند يبسه ويشربها سريعًا، وإنما يشبه بالطلع دون غيره مما يشبه لأنه الذي كان موجودًا في بلادهم وقيل غير ذلك"و" أما صفة "المرأة" أي منها فهو "ماء رقيق" ضد ماء الرجل "أصفر" غالبًا بخلاف ماء الرجل فإنه أبيض غالبًا، وأما طعمه فهو من الرجل مر ومن المرأة مالح، وإذا اجتمع الماءان في الرحم كان الولد بينهما، وأيهما سبق أو علا أشبه الولد صاحبه. ثم بين ما يوجبه المني بقوله: "يجب منه" أي يجب من أجل خروج المني من الرجل أو المرأة "الطهر" أي غسل جميع الجسد حيث خرج في نومٍ مطلقًا أو في يقظةٍ بلذةٍ معتادةٍ؛ كما يعلم من تعريف المصنف له بأنه الخارج عند اللذة الكبرى، وأما لو خرج بلا لذةٍ أو غير معتادةٍ فلا يوجب إلا الوضوء ولو قدر على دفعه، وفهم من كلام المصنف أنه لا يجب على المرأة طهر إلا بخروج منيها ولا يكفي إحساسها خلافًا للقاضي سندٍ وقوله: "فيجب من هذا طهر جميع الجسد" تكرار ولعله ارتكبه لأجل التشبيه بقوله: "كما يجب من طهر الحيضة" وإنما شبه الغسل من الجنابة بالغسل من الحيض لأن الحيض أقوى الموانع لأنه يمنع ما لا تمنعه الجنابة وقيل غير ذلكولما كان يتوهم من التشبيه المذكور أن الدم الخارج من المرأة يوجب عليها غسل جميع جسدها في كل الأحوال قال: "وأما دم الاستحاضة" وهو خارج من المرأة زيادةً على أيام عادتها أو استظهارها "فيجب منه الوضوء" فقط على مشهور المذهب إذا كان ناقضًا لوضوئها وذلك بأن يخرج منها لا على وجه السلس بأن يفارقها أكثر الزمن أو قدرت على رفعه، وأما لو لازمها ولو نصف الزمن فلا يجب عليها منه الوضوء"و" إنما "يستحب لها ولسلس البول" بكسر اللام أي للشخص الذي قهره البول فسلس اسم فاعلٍ وهو المناسب لقوله لها "أن يتوضأ لكل صلاةٍ" وذلك في صورتين: أن يلازمهما جل الزمن أو نصفه، ومحل الاستحباب إلا أن يشق عليهما"تنبيهات": الأول: علم مما قررنا به كلام المصنف من وجوب الوضوء على ما فارق أكثره أو قدر على رفعه، والاستحباب على ما لازم جل أو نصف الزمن اندفاع التناقض الذي ادعاه بعضهم في كلامهالثاني: قول المصنف لسلس البول كان الأولى ولصاحب السلس ليشمل سائر الأحداث بولًا أو ريحًا أو مذيًا أو منيا، فإن الجميع سواء في عدم النقض الذي خرج منها ولازم ولو

نصف الزمن حيث عجز عن رفعه، وأما لو قدر على رفعه بتداوٍ أو سترٍ فإنه يكون ناقضًا إلا في مدة تداويه ومدة استبراء الأمة المشتراة، والتفصيل في السلس طريقة المغاربة واقتصر عليها خليل فهي المشهورة في المذهب، خلافًا لطريق العراقيين في استحباب الوضوء في كل صورةٍالثالث: ظاهر المصنف وأهل المذهب عموم هذا الحكم في السلس ولو تسبب فيه الشخص، لكن جرى خلاف في اعتبار الملازمة هل في خصوص أوقات الصلاة التي ابتداؤها من الزوال ومنتهاها طلوع، الشمس من اليوم الثاني أو مطلقًا، والمعتمد أنه لا يعتبر إلا الملازمة في أوقات الصلاة، وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا فرضنا أن أوقات الصلاة مائتان وستون درجةً وغير وقتها مائة درجةٍ فأتاه فيها وفي مائةٍ من أوقات الصلاة فعلى المشهور ينقض لمفارقته أكثر الزمن لا على مقابلةٍ لملازمة أكثره قاله الأجهوري في كبيرهالرابع: قال العلامة خليل في توضيحه عن شيخه المنوفي: لا ينبغي أن تفهم المسألة على إطلاقها، وإنما تقيد بما إذا كان إتيان السلس غير منضبطٍ، وأما لو كان منضبطًا فإنه يعمل عليه، فإذا كان يعلم بالعادة أنه يأتيه إذا دخل وقت العصر مثلًا ويلازمه للغروب فإنه يقدم العصر في آخر القامة الأولى وكذا يقال في العشاء، والحاصل أنه إذا كان يستغرق وقت إحدى الصلاتين فإنه يفعلها في وقت الأخرى تقديمًا أو تأخيرًا، لأن الضروري قد يكون قبل الاختياري في مثل هذهالخامس: ينظر في النقطة التي تنزل من الشخص بعد وضوئه فإن كانت تنزل عليه كل يومٍ مرةً فأكثر فإنه يعفى عنها ولا يلزمه غسل ما أصاب منها وإن نقضت الوضوء وتبطل بها الصلاة، وإذا تحقق نزولها وإن لم يتحقق يتمادى على صلاته ولو كان إمامًا ويتبعه مأمومه. بعد ذلك إذا تحقق نزولها يعيد الصلاة وجوبًا ولا يعيد مأمومه، بمنزلة من صلى بالحدث ناسيًا وهو إمام فيعيد أبدًا دون مأمومه، ولا منافاة بين العفو عن النقطة وبطلان الصلاة لأن العفو عن كل ما يعسر، والنقض يكون بما يفارق أكثر الزمن أو يقدر على رفعه، ووجه الفرق خفة النجاسة بخلاف طهارة الحدث قام الإجماع على وجوبهاولما فرغ من القسم الأول وهو الحدث شرع في ثاني الأقسام وهو الأسباب جمع سببٍ وهو لغةً الحبل واصطلاحًا ما يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود لذاته، وينحصر في ثلاثة أشياء: زوال العقل واللمس بشرطه ومس الذكر للبالغ، والفرق بينه وبين الحدث الذي هو

الخارج المعتاد من المخرج المعتاد على طريق الصحة كما قدمنا أن الحدث ناقض بنفسه، والسبب إنما ينقض بواسطةٍ لأنه يؤدي إلى الحدث فقال: "ويجب الوضوء من زوال" أي استتار "العقل" وهو آلة التمييز "بنومٍ مستثقلٍ" وهو الذي لا يشعر صاحبه بسقوط لعابه أو حبوته أو الكراس من يده ولا بمن يذهب من عنده ولا بمن يأتي ولا بالأصوات المرتفعة، ولا فرق بين طويله وقصيره لا إن خف فلا ينقض، ولو طال فصوره أربع ويشملها قول خليلٍ: وبسببه وهو زوال عقلٍ وإن بنومٍ ثقل ولو قصر لا خف وندب إن طال، ولكن يستحب الوضوء من خفيفه إن طال، والدليل على عدم نقض الخفيف ما في مسلمٍ: "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون"1قال عياض: فيه دليل على أن النوم ليس بحدثٍ في نفسه وإنما يوجب الوضوء الثقيل الذي يذهب معه حس المرء بحيث لا يعلم بالحدث إذا خرج منه، وأما الخفيف الذي يحس معه بما يخرج منه فلا ينقض، ويحمل على هذا نوم الصحابة رضي الله عنهم لأنهم كانوا جلوسًا ينتظرون الصلاة"تنبيهان" الأول: هذا التفصيل في النائم جالسًا، وأما القائم الذي لم يستند إلى شيءٍ في حال قيامه فلا
ينتقض وضوءه إلا بسقوطه، وأما المستند فإن كان بحيث لو أزيل المستند إليه لسقط فإنه يكون بمنزلة الجالس، وأما لو كان بحيث لو أزيل ما استند إليه لم يسقط فإنه لا ينتقض وضوءه إلا بسقوطه بالفعل، لأن عدم سقوطه علامة على خفة نومهالثاني: ظاهر كلام المصنف كخليلٍ النقض بالنوم الثقيل ولو كان النائم الجالس متمكنًا ومستقرا وهو الذي يترجح اعتماده عندي لما علم من أن النائم ترتخي أعصابه فلا يشعر بما يخرج منه، فمقتضى المذهب من أن النقض بالشك في الحدث نقض وضوئه، والمراد بالاستسفار سد الدبر"أو" أي ويجب الوضوء أيضًا من زوال العقل من حصول مطلق "إغماءٍ" وهو مرض في الرأسقال مالك: ومن أغمي عليه فعليه بالوضوء وهو قول فقهاء الأمصار وانعقد عليه الإجماعـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الحيض باب: الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء حديث 376.

"أو" أي ويجب الوضوء أيضًا بزوال العقل بسبب "سكرٍ" ولو بحلالٍ "أو" بسبب "تخبط جنونٍ" بأن يتخبطه الجن ثم يعود لحاله، وإنما انتقض وضوءه بهذه لأنها أشد من النوم ولذلك لم يفرقوا بين طويلها وقصيرها ولا بين ثقيلها وخفيفها لأن هذه يزول معها التكليف، بخلاف النوم صاحبه مخاطب وإن رفع عنه الإثم"تنبيهان" الأول: بقي على المصنف لو زال عقله بترادف الهموم عليه فقال ابن القاسم: لا وضوء عليه، والذي قاله مالك رضي الله عنه وجوب الوضوء وقال به ابن نافعٍ، وقيل لمالكٍ: أهو قاعد؟ قال: أحب إلي أن يتوضأ ومما لا ينقض زواله بالاستغراق في حب الله تعالى حتى غاب عن إحساسه. قاله يوسف بن عمر، ولي في ذلك وقفة مع نقض الوضوء بزواله بالنومالثاني: فسرنا زوال العقل بالاستتار لما قاله العلامة الفاكهاني: العقل لا يزيله النوم ولا الإغماء ولا السكر وإنما تستره فقط، وكذلك المجنون المنقطع بخلاف المطبق فإنه يزيله لا محالة، وحينئذٍ فيكون التعبير في المذكورات بلفظ زوالٍ على جهة المجاز
ومن الأسباب اللمس وأشار إليه بقوله: "ويجب الوضوء من" أجل "الملامسة" المراد اللمس وهو ملاقاة جسمٍ لجسمٍ على جهة الاختبار كما يشعر به قوله: "للذة" أي لقصدها أو وجودهاقال خليل: ولمس يلتذ به صاحبه عادةً ولو لظفرٍ أو شعرٍ أو حائلٍ وأول بالخفيف وبالإطلاق وهذا حيث لا ضم، وأما لو ضم اللذات الملموسة أو قبض على شيءٍ من جسدها فإن وضوءه ينتقض اتفاقًا ولو كان الحائل كثيفًا قصد لذةً أو وجدهاقاله الأجهوري نقلًا عن الحطاب، لكن يشترط في اللامس البلوغ، وأما الصبي فلا ينتقض وضوءه ولو جامع زوجته وكذلك الملموس فإن بلغ والتذ أو قصد اللذة انتقض وضوءه كاللامس وبقيد العادة يخرج الالتذاذ بالصغيرة غير المطيقة أو الدابة فإنه لا ينقض الوضوء إلا الالتذاذ، أو بمس فرج الصغيرة أو الدابة فإنه ينقض لاختلاف عادة الناس بالالتذاذ بفرجهما، ولذلك نصوا على نقض الوضوء بالالتذاذ بالمحرم، ولما كان يتوهم قصر الملامسة على ما كان باليد فقط دفع ذلك التوهم بقوله: "و" يجب الوضوء أيضًا من "المباشرة بالجسد للذة" وفهم من اشتراط الملامسة أن الالتذاذ بالنظر من غير لمسٍ لا ينقض ولو أنعظ
قال خليل: ولا لذة بنظرٍ كإنعاظٍ حيث لا مذي"تنبيهان" الأول: كما لا يعتبر في اللمس كونه بعضوٍ خاص لا يشترط كونه أصليا بل ولو

كان اللمس بعضوٍ زائدٍ، ولا يشترط مساواته لغيره في الإحساس بل الشرط قصد وجود اللذة حال اللمس ولو بأمرد على المعتمد ولا سيما مع فساد الزمان والقصد كالوجدانوفي الأجهوري على خليلٍ: لا يعتبر في اللمس هنا كونه بعضوٍ أصلي أو زائدٍ له إحساس كما في مس الذكر، فمتى حصل اللمس هنا بعضوٍ ولو زائدًا لا إحساس له وانضم لذلك قصده للذة أو وجدانها نقض، هذا ظاهر إطلاقهم انتهىالثاني: إذا قصد لمس امرأةٍ يعتقد أنها أجنبية فتبين أنها محرم فإنه ينتقض وضوءه، وأما لو لمس من يعتقدها محرمًا فتبين أنها أجنبية فلا نقض، هكذا قال بعض الشيوخ، ولعله بناه على عدم النقض بلمس المحرم والمذهب أن المحرم كغيره. قال العلامة ابن رشدٍ: قصدها للفاسق في المحرم ناقض. قال بعض المراد بالفاسق من مثله يلتذ بمحرمه، فتلخص أن صور اللمس أربع: قصد فقط، وجدان فقط، قصد ووجدان، انتفاء الأمرين. ينتقض الوضوء بالثلاث الأول ولا نقض بانتفائهما، وكثيرًا ما يتوضأ الإنسان ويلمس زوجته عقب وضوئه أو أجنبيةً فلا ينتقض وضوءه ولا وضوءها إلا مع القصد والوجدان"و" يجب الوضوء أيضًا من "القبلة" بضم القاف وهي وضع الفم على الفم "للذة" حيث كانت على فم من يلتذ به عادةً ولو بامرأةٍ بمثلها، ولا يشترط في القبلة طوع ولا علم ولا قصد ولا وجدان على المعتمد خلافًا للمصنف إلا أن يحمل كلامه على أن القبلة في غير الفم لأنها في غيره تجري على حكم الملامسة، بخلافها على الفم فتنقض مطلقًا لعدم انفكاكها عن اللذة عادةً، ولذا قال خليل: إلا القبلة بفمٍ وإن بكرهٍ أو استغفالٍ لا لوداعٍ أو رحمةٍ إلا أن يجد اللذة، ولا إن كانت على حائلٍ إلا أن يكون خفيفًا أو كانت على فم صغيرةٍفلو كان المقبل بكسر الباء صبيا أو كانت المقبلة صغيرةً لا تشتهى فلا نقض بتقبيلها ولو التذ البالغ بتقبيلها، وقول ابن عرفة: قبلة ترحم الصغيرة ووداع الكبيرة ولا لذة لغوٍ يقتضي بحسب مفهومه أنه ينتقض وضوءه بالالتذاذ حتى بقبلة الصغيرة وحرره، وعدم النقض صرح به الأجهوري، وكذا لو قبل شاب شيخًا أو شيخ شيخًا فلا نقض، بخلاف ما لو قبل الذكر البالغ أنثى فالنقض ولو كان شابا وهي كبيرة لأن شأن الذكر الالتذاذ بالأنثى ولو كانت كبيرةً وإذا كان الوضوء ينتقض بالتقبيل من البالغ على فم من يلتذ بمثله مطلقًا من باب أولى تنتقض بالتقبيل على فرج من يوطأ مثله، لأن علماءنا نصت على أن نظر الفرج أو مسه إنما يحمل على قصد اللذة خلافًا لبحث بعض شيوخ شيوخنا رحمه الله تعالى.

ومن الأسباب المس وإليه أشار بقوله: "و" يجب الوضوء أيضًا "من مس الذكر" المتصل المراد ذكر نفسه، فأل عوض عن الضمير سواء مسه عمدًا أو سهوًا، لأن ما لا يشترط فيه العمد لا يشترط فيه لذة ولا قصدها، ولو كان الماس شيخًا أو عنينًا لكن بشرط البلوغ وعدم الحائل إلا ما خف جدا وبشرط اتصال الذكر، وكون المس بباطن الكف أو الأصابع أو بجنبها والزائد الذي فيه إحساس كغيره، وإن لم يساو غيره على ما ظهر لنا من جزم أهل المذهب بنقض وضوء الخنثى المشكل بمس ذكره ونقض وضوء الشاك في حدثه، وما أدري من أين أخذوا اشتراط مساواة الزائد لغيره في الإحساس والتصرف مع ما ذكرنا ومع وجوب الاحتياط في جانب العبادات، وما في الأجهوري من أن الأصلي لا يعتبر فيه إحساس بنا في قولهم: إن المس باليد الشلاء لا ينقض، وأيضًا صرح الأجهوري بأنه لا بد من الإحساس في الأصابع الأصلية، وأيضًا اشتراطهم في الزائد مساواته لغيره في الإحساس شاهد صدقٍ على اشتراط الإحساس في الأصابع الأصلية، والدليل على وجوب الوضوء بمس الذكر ما في الموطإ وأبي داود والترمذي عن سبرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" 1قال الترمذي: حديث حسن صحيح وقال البخاري: هو أصح شيءٍ سمعته في هذا الباب وما يخالفه ضعيف، وفهم من قولنا المتصل أنه لا ينتقض بمسه بعد قطعه ولا بموضع الجب ولو التذ ولا بمس ذكر غيره إلا لقصدٍ أو التذاذٍفإن قيل: ما الفرق بين اللمس والمس؟ فالجواب: أن اللمس ملاقاة جسمٍ لجسمٍ آخر على وجه الاختبار ولذلك عبر فيما يشترط فيه القصد باللمس والمس ملاقاة جسمٍ آخر على وجه الاختبار، ولذا عبر في جانب الذكر بالمس لأن النقض يحصل بمسه ولو سهوًا، ومفهوم الذكر أنه لو مس شيئًا من جسده سواء لا ينتقض وضوءه كالدبرقال خليل: لا بمس دبرٍ ولا أنثيين ولا فرج صغيرةٍ ولا دابةٍ إلا أن يلتذ بمس فرجهما فينتقض وضوءه، بخلاف جسدهما فلا نقض ولو التذ به"واختلف في مس المرأة فرجها في إيجاب الوضوء" عليها "بذلك" وعدمه على عدة رواياتٍ: أحدها عدم النقض مطلقًا وهي الصحيحة المعول عليها في المذهب ومذهب المدونةـــــــ
1 أخرجه أبو داود كتاب: الطهارة باب: الوضوء من مس الذكر حديث 181, والنسائي حديث 163, وابن ماجه حديث 479, وأحمد 6/406, حديث 27334, ومالك في الموطأ 1/42, حديث 89 أما رواية الترمذي ففيها زيادة فلا يصل حتى يتوضأ 82.

وصدر بها العلامة خليل ألطفت أم لا؟ والتفصيل بين الإلطاف بأن تدخل أصبعها بين شفريها فيجب عليها الوضوء وعدمه، ورواية باستحباب الوضوء وقد علمت أن أرجحها أولها"تنبيه" : لم يذكر المصنف القسم الثالث من موجبات الوضوء وهو الردة والشك في الحدثقال خليل: وبردةٍ وبشك في حدثٍ بعد طهرٍ علم إلا لمستنكحٍ وبشك في سابقهما، والمراد الشك في الناقض مطلقًا سواء كان في حدثٍ أو سببٍ إلا الردة فلا ينتقض الوضوء بالشك فيهما، لأن الإنسان لا يرتد بالشك في الارتداد لأن الأصل عدم الارتدادولما فرغ من الكلام على موجبات الوضوء شرع في موجبات الغسل1 وهي أربعة: خروج المني بلذةٍ معتادةٍ، ومغيب الحشفة، وانقطاع دم الحيض والنفاس، والموت. وقدم المصنف منها خروج المني فقال: "ويجب الطهر" أي إيصال الماء إلى جمع الجسد بنية استباحة الصلاة مع الدلك "مما ذكرنا" أول الباب وأعاده هنا بقوله: "من خروج الماء الدافق للذة" المعتادة فلا يجب الغسل لخروجه بلا لذةٍ بأن خرج على وجه السلس ولو قدر على رفعه، أو لذةٍ غير معتادةٍ كمن لدغته عقرب فأمنى أو ضرب فأمنى أو هزته دابة أو نزل في ماءٍ حار أو حك جسده لنحو جربٍ فأمنى فلا غسل عليه، إلا أن يحس بمبادئ اللذة ويستديمها بهز الدابة أو بما بعدها فيمني فيجب عليه الغسل، وما لا يوجب الغسل قد يوجب الوضوء سواء حصل "في نومٍ أو يقظةٍ" وسواء خرج "من رجلٍ أو امرأةٍ" ولا يشترط مقارنة الخروج للذة، فلو التذ بتفكرٍ أو نظرٍ ثم ذهبت لذته وأمنى بعد ذهابها فإنه يجب عليه الغسل ولو كان اغتسل بعد اللذة لأن غسله لم يقع في محله، بخلاف ما لو غيب حشفته في مطيقةٍ ولم ينزل ثم اغتسل بعد اغتساله أمنى فلا يلزمه إعادة الغسل لأن غسله الأول وقع في محله وإنما عليه إعادة الوضوء"تنبيهان" الأول: قد علم مما مر أنه لا يجب الغسل بخروج المني إلا إذا كان خروجه بلذةٍ
ـــــــ
1 الغسل لغة: مصدر غسله يغسله ويضم أو بالفتح مصدر وبالضم اسم والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي ونحو ذلكويأتي الغسل بمعنى التطهير يقال: غسل الله حوبتك أي خطيئتكوالغسل في الاصطلاح: استعمال ماء طهور في جميع البدن على وجه مخصوص بشروط وأركانوالغسل مشروع بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أي اغتسلنوأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل"والغسل قد يكون واجبا كغسل الجنابة والحائض وقد يكون سنة كغسل العيدين ويفرد الفقهاء للأغسال المسنونة فصلا خاصا أنظر الموسوعة الفقهية 31/194, 195.

معتادةٍ، وظاهرةٍ ولو خرج في نومٍ كما يوهمه قول المصنف في نومٍ وليس كذلك، بل اشتراط اللذة إنما هو في الخارج يقظةً، وأما ما خرج في النوم فالشرط وجود البلل، ولو ظن أو شك أنه مني لقول خليلٍ: وإن شك أمذي أم مني اغتسل، ولقول ابن عرفة: شك الجنابة كتحققها وأحرى لو تحقق أنه مني، ولو رأى في نومه أنه يضرب فخرج منيه فيجب عليه الغسلالثاني: مفهوم قول المصنف: ويجب الطهر من خروج الماء الدافق للذة يقتضي أنه لا يجب على المرأة غسل بدخول مني في فرجها من غير خروج منيها وهو كذلك فقد قال خليل: لا بمني وصل للفرج ولو التذت، أي فلا غسل عليها إلا أن تنزل أو تحمل حيث كان خروجه لجماعها في غير فرجها، وأما لو أخذته من الأرض ووضعته في فرجها أو جلست عليه فلا غسل عليها بدخوله ولو حملتقال الأجهوري: لأن اللذة هنا غير معتادةٍ ويلحق الولد بزوجها ولو علم أن المني من غيره، ولعل وجهه أن خروجه في تلك الحالة بغير لذةٍ أو بلذةٍ غير معتادةٍ، وهذا بخلاف ما لو ساحقت امرأة غيرها فإنه يجب الغسل على كل واحدةٍ بخروج منيها لأن خروج مني كل بلذةٍ معتادةٍأو انقطاع دم الحيضة أو الاستحاضة "أو" أي يجب الطهر من "انقطاع دم الحيض" وهو الدم الخارج بنفسه من قبل من تحمل عادةً وإن دفعةً ومثله الصفرة والكدرة كما يأتي. "أو" انقطاع دم "الاستحاضة" وهو الخارج زيادةً على أيام عادتها أي واستطهارها، وإنما يجب عليها الغسل من انقطاع دم الاستحاضة إذا لم تكن اغتسلت عند تمام عادتها أو واستطهارها، وإلا كان اغتسالها لانقطاع دم الاستحاضة مستحبا فقط على مشهور مذهب مالكٍ، واقتصر عليه العلامة خليل حيث قال: لا بالاستحاضة وندب لانقطاعه وهذا أولى ما يقرر به كلام المصنف، لأن المحل على الراجح مع الإمكان واجب صناعةً"تنبيه" : ظاهر كلام المصنف وجوب الغسل على من انقطع حيضها، ولو كانت استعجلت خروجه وهو كذلك حيث خرج ممن تحمل عادةً وإن لم تنقض به العدة كما قال المنوفي لأنه لم يخرج بنفسه، وتوقف في باب العبادات واستظهر تلميذه خليل عدم تركها الصلاة والصوم، وقال الأجهوري: الأظهر أنها تتركهما مدة الدم وتقضيهما بعد الانقطاع، ويكره لها الإقدام على ذلك بخلاف ما لو تأخر عن عادته فعالجته ليخرج في زمنه فلا شك في كونه حيضًا في باب العدة والعبادة وجواز إقدامها على ذلك، وأما لو استعملت دواءً لقطعه أصلًا فلا يجوز لها حيث كان يترتب عليه قطع النسل كما لا يجوز للرجل استعمال ما يقطع نسله أو يقلله.

"أو" أي ويجب على المرأة الطهر من انقطاع "دم النفاس" بكسر النون وهو لغةً ولادة المرأة، واصطلاحًا دم خرج للولادة بعدها اتفاقًا أو معها على قول الأكثر أو قبلها لأجلها على قولٍ مرجوحٍ والراجح أنه حيض"تنبيه": ظاهر كلام المصنف أن نفس الحيض والنفاس ليسا بموجبين للغسل، وإنما الموجب انقطاعهما وليس كذلك بل هما موجبان وانقطاعهما شرط في صحة الغسل"أو" أي ويجب الغسل "بمغيب" جميع "الحشفة" من بالغٍ ولو غير منتشرةٍ من غير حائلٍ كثيفٍ، والمراد بالحشفة الكمرة بفتح الميم وهي رأس الذكر على صاحبها حيث غيبها "في الفرج" لا في هواه ولو كان فرج آدميةٍ أو بهيمةٍ مطيقةٍ وسواء كانت ذات الفرج حيةً أو ميتةً، ومثل الفرج الدبر بجامع استطلاق المني، وتغيب قدر الحشفة من مقطوعها كالحشفة في جميع الأحكام لا ما دونها إلا أن ينزل فيجب للإنزال، والغسل يجب على الفاعل والمفعول أيضًا حيث كانا بالغين، وإنما وجب الغسل على المفعول به في دبره لحمله على الفاعل في الحد والغسل أحرى وإن كانا صبيين لا غسل عليهما، وإن كان الفاعل بالغًا وجب عليه دون المفعول بخلاف العكس فلا غسل عليهما إلا أن ينزل المفعول فالغسل عليه للإنزال، وكذا لو غيب بعضها ولو الثلثين فلا غسل إلا أن يحصل إنزال، وظاهر كلام المصنف ولو كانت الحشفة من خنثى مشكلٍ بلغ بالسن أو الإنبات كما أن ظاهره ولو كان فرج خنثى مشكلٍ أيضًا"تنبيهات" الأول: قولنا من بالغٍ الاحتراز عما لو كان المغيب حشفته صبيا فلا يجب عليه الغسل كما ذكرنا، ولكن يستحب له الغسل فقط حيث بلغ سن من يؤمر بالصلاة وأولى المراهق حيث وطئ مطيقةً، وأما الصغيرة فإن أمرت بالصلاة ووطئها بالغ استحب الغسل وإلا فلا، كما لا يجب ولا يستحب الغسل لكبيرةٍ وطئها غير البالغ ولم تنزل ولو مراهقًا على ما بحثه الأجهوري وعند بعضهم يندب لها، ولعله أظهر من ندب غسل الصغيرة من وطء البالغ وحرره، وقولنا: ولو كانت صاحبة الفرج ميتةً صحيح بخلاف الحشفة من ميتٍ فلا غسل على من غيبت، فإذا غيبت امرأة حشفة دابةٍ ميتةٍ في فرجها فلا غسل عليها إلا أن تنزلالثاني: ظاهر كلام المصنف كغيره أن الكلام في الآدمي إذا غيب حشفته في إنسيةٍ أو دابةٍ وسكت عن الجني إذا غيب حشفته في إنسيةٍ أو دابةٍ والإنسي إذا غيب حشفته في جنيةٍ، والذي يظهر من تكليف الجن أن الجني إذا غيب حشفته ولو في إنسيةٍ يجب عليه الغسل، بخلاف الإنسي يرى نفسه يطأ جنيةً أو ترى الإنسية جنيا يطؤها فلا غسل على كل، واستظهر البدر

القرافي وجوب الغسل على كل منهما قياسًا على الشك في الحدث، وهذا كله حيث لا إنزال أو تكون الجنية زوجةً للإنسي، وإلا فلا بد من الغسل من غير نزاعٍالثالث: قد شرطنا في وجوب الغسل على من غيب حشفته إطاقة المفعول الآدمي، وتوقف بعض الشيوخ في الدابة واستظهر عدم الاعتبار من إطلاق أهل المذهب، وأقول: الظاهر اعتباره بالأولى من اعتباره في الآدمي لأن الشأن في البهيمة عدم ميل النفوس إليها بخلاف الآدمي وهذا مما لا تردد فيه، وصرح الأجهوري بذلك حيث قال: والظاهر أن حشفة غير الآدمي لا يعتبر فيها البلوغ، ولا بد من كون المدخل فيه مطيقًا ولو آدميا، وأقول: لعل وجه عدم اشتراط بلوغ صاحب الحشفة من غير الآدمي شدة الميل إليها لكبرها أو نحو ذلك، بخلاف المفعول بها لا يمكن الالتذاذ بها إلا عند إطاقتهاولما كان الموجب للغسل مجرد مغيب الحشفة بشرطه قال: "وإن لم ينزل" لحديث: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" 1 وحديث: "إنما الماء من الماء" 2 محمول على النوم فمن رأى في نومه أنه غيب ثم انتبه فلم يجد بللًا فلا غسل عليه إجماعًا، ثم أعاد قوله: "ومغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل" ليترتب عليه قوله: "ويوجب الحد" على الزاني الطائع اتفاقًا والمكره على أحد قولين، ويوجب حد اللواط على اللائط بشروطه الآتية، ومعلوم أن اللواط هو تغييب الحشفة في دبر الذكر وحده الرجم مطلقًا، وأما في دبر الأنثى غير زوجته فهو من قبيل الزنا إلا أن يكون محصنًا فيرجم، وأما في دبر زوجته فيؤدب ويوجب الصداق" على الزوج البالغ في زوجته المطيقة ولو بغير انتشارٍ ولو في دبرها أو في زمن حيضهاقال خليل وتقرر بوطءٍ وإن حرم وكذا أي يوجب الصداق على الواطئ الغالط بغير العالمة، وكذا على المعتمد لوطء أجنبيةٍ حيث لا علم عندها أو أكرهها، وأما لو وطئ عالمةً طائعةً فهي زانية لا صداق لها"و" مما يوجبه مغيب الحشفة أنه "يحصن الزوجين" الحرين المسلمين العاقلين البالغين إن صح نكاحهما اللازم حيث كان وطؤهما مباحًا مع انتشارٍ. "ويحل المطلقة ثلاثًا" أو اثنتين
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه كتاب الطهارة وسننها باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان حديث 608, وأحمد 6/239, حديث 260672 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الحيض باب: إنما الماء من الماء حديث 343, وأبو داود حديث 217, والترمذي حديث 112, حديث 199 وابن ماجه حديث 607, وأحمد 3/47, حديث 11452.

"للذي طلقها" حرا في الأولى أو رقيقًا في الثانية بشرط الانتشار مع بقية شروط التحليل الآتية في محلها"ويفسد" على المحرم بالعمرة عمرته التي لم يستكمل أركانها، وكذا "الحج" إن وقع الوطء قبل الوقوف مطلقًا أو بعده إن وقع بعد إفاضةٍ وعقبة يوم النحر أو قبله"ويفسد" مغيب الحشفة سائر أنواع "الصوم" من فرضٍ أو تطوعٍ ولو وقع على جهة النسيان، ويلزمه القضاء مع الكفارة في عمده برمضان الحاضر أو القضاء فقط في غيره ولو تطوعًا هذا مع العمد، وأما مع النسيان فلا قضاء إلا في الفرض على طريق خليلٍ ولفظه: وقضاء في الفرض مطلقًا وفي النفل بالعمد الحرام ولو بطلاقٍ بت إلا لوجهٍ كوالدٍ وشيخٍ وإن لم يحلفاولما قدم أن الحيض والنفاس يوجبان الغسل ولكن لا يصح إلا بعد انقطاعهما، شرع في بيان علامة الانقطاع فقال: "وإذا رأت المرأة" الحائض "القصة" بفتح القاف "البيضاء" أي الماء الأبيض الذي يخرج آخر الحيض كالجير، لأن القصة مأخوذة من القص وهو الجير، وقيل القصة ما يشبه العجين، وقيل غير ذلك "تطهرت" جواب الشرط أي وجب عليها الغسل إن رأت القصة عند وقت صلاةٍ مفروضةٍ"وكذا إذا رأت الجفوف" وهو علامة ثانية للطهر ومعناه: أن تدخل المرأة خرقةً في فرجها فتخرج جافةً ليس عليها شيء من أنواع الدم، ولا يضر بللها بغير الدم كرطوبة الفرج إذ لا يخلو عنها غالبًا"تطهرت" أي وجب عليها الاغتسال "مكانها" إن ضاق وقت الصلاة التي رأت علامات الطهر في وقتها أو طلب زوجها مواقعتها في ذلك الوقت، ولو دعاها أبواها أو أحدهما إلى ما يوجب تأخير غسلها فإنه يجب عليها بر زوجها قبل بر أبويها، لأن حق زوجها أوكد عليها فتقدمه على حقهما لأنه في مقابلة عوضٍ، كما تقدم الغسل على سائر ما يجب عليها فعله مما يقبل النيابة كقضاء الدين ورد الوديعة مثلًا"تنبيهان" الأول: ظاهر كلام المصنف استواء العلامتين في حق المعتادة والمبتدأة وليس كذلك بل القصة أبلغ، فكل من رأتها تتطهر سريعًا ولا تنتظر الجفوف لا وجوبًا ولا ندبًا ولو اعتادته، وأما من رأت الجفوف أولًا فإن كانت معتادة القصة أو هي والجفوف فإنه يستحب لها انتظار القصة لآخر المختار، وأما معتادة الجفوف فقط إذا أتاها فلا يندب لها انتظارها، وأما المبتدأة فالمعتمد أنها تطهر بكل منهماالثاني: ليس على المرأة أن تبحث عن علامة الطهر إذا توهمت انقطاع حيضها إلا عند نومها وعند دخول وقت الصلاة، لأن برؤيتها عند النوم تعرف حكم صلاة الليل، وعند صلاة الصبح

تعرف حكم صلاة النهار، وإذا رأت علامة الطهر غدوةً وشكت هل انقطع حيضها قبل الفجر أو بعده فلا يلزمها قضاء صلاة الليل حتى تتحقق أنه انقطع قبل الفجر بحيث يبقى ما يسع الطهر وجميع الأولى وركعةً من الثانية، ولكن تصوم يومها إذا كان رمضان وتقضيه، وأما صلاة الصبح فإن كانت رأت علامة الطهر قبل طلوع الشمس بحيث تدرك الغسل وركعةً قبل الطلوع وجبت عليها وإلا سقطت، كما لو شكت هل انقطع حيضها قبل طلوع الشمس أو بعده، والفرق بين الصوم والصلاة وحيث وجب قضاء الصوم عند الشك في الانقطاع في وقت نيته أو بعده، وسقوط الصلاة أن الحيض يمنع الصلاة أداءً وقضاءً، بخلاف الصوم فإنما يمنع أداءً لا قضاءًولما كانت الحائض تخاطب بالغسل بمجرد رؤيتها علامة الطهر قال: "رأته" أي ما ذكر من القصة أو الجفوف "بعد يومٍ أو يومين أو ساعةٍ" والمعنى: أن الحائض متى رأت علامة الطهر وحضر وقت الصلاة فإنها يجب عليها الغسل، سواء انقطع الدم بعد استمراره نازلًا يومًا أو يومين أو ساعةً لأن الحيض لا حد لأقل منه، وأما باعتبار أكثره فحده خمسة عشر يومًا لمن تمادى بها، وأما باعتبار الخارج فله حد باعتبار أقله وهو القطرة ولا حد له باعتبار أكثره"تنبيه": هذا الحكم بالنسبة للعبادة، وأما بالنسبة للعدة فيرجع في أقله للنساء العارفات هل هو يوم أو بعضه؟ ولا يكتفى في باب العدة الاستبراء بالقطرة للأنساب بخلاف العبادة فإنها لمحض حق الرب سبحانه وتعالىثم شرع في الكلام على من تقطع حيضها: "ثم إن عاودها" أي المرأة التي رأت علامة الطهر بعد يومٍ أو يومين قبل تمام عادتها "دم" ولو قطرةً "أو رأت صفرةً أو كدرةً تركت الصلاة" والصوم والطواف لأن ذلك حيض، والمعنى: أن الحائض إذا انقطع عنها الحيض واغتسلت ثم نزل بعد طهرها فإنها تجعله حيضًا وتضمه لما قبله سواءً، لأن النازل في المرة الثانية دمًا خالصًا أو صفرةً وهو الدم الذي يشبه الصديد وتعلوه صفرة أو كدرة بضم الكاف وهو الدم الكدري الذي يشبه غسالة اللحم، وتترك سائر العبادات لأنها حائض حقيقةً "ثم انقطع عنها" مرةً ثانيةً بعد معاودته "اغتسلت"قال العلامة خليل: وتغتسل كلما انقطع وتصوم وتصلي وتوطأ، ولا يجوز لها تأخير الغسل بعد دخول وقت الصلاة إلا أن تعلم بنحو أمارةٍ أنه يعاودها في وقتها الذي رأت علامة الطهر فيه فلا يجب عليها الغسل، واعلم أن التي عاودها الدم بعد انقطاعه عليها في حكم أيام نزول الدم

وإلا لم يجب غسل ولا صلاة ولا صوم، وأما بالنسبة لغير العبادة فهي في حكم أيام الحيض ولذلك قال: "ولكن ذلك كله" أي الدم الأول والذي عاودها بعد الانقطاع أقل من مدة الطهر تكون زمن الطهر بالنسبة للعبادة طاهرًا حقيقةً يجب عليها الغسل وسائر العبادات فليست أيام الانقطاع "كدمٍ واحدٍ" متصلٍ "في العدة والاستبراء" ولا نظر لزمن الانقطاع بل ينزل الفعل الواقع فيه منزلة الواقع في زمن نزول الدم، مثاله في العدة أن تحيض المرأة يومًا أو يومين ثم ينقطع وتغتسل ثم يطلقها زوجها دون الثلاث ثم يعاودها الدم بالقرب فيجبر مطلقها على رجعتها لأنه كالمطلق زمن سيلان الدموهذا معنى قول المصنف: ولكن ذلك كله كدمٍ واحدٍ في العدة، وقال خليل في باب طلاق السنة: ومنع فيه ووقع وأجبر على الرجعة ولو لمعاودة الدم لما يضاف فيه للأول على الأرجح والضمير في فيه للحيض، وأما بالنسبة للاستبراء ففيه إشكال عويص، لأن الأمة المستبرأة أو المتواضعة بمجرد رؤيتها الدم تدخل في ضمان مشتريها، وإذا طهرت المستبرأة أو المتواضعة ولو بعد يومٍ حلت لمشتريها، ولو كان الدم الثاني كجزء الأول لم تحل لمشتريها بعد طهرها من الأول، ويجاب: بأن فائدة ذلك تظهر في السيد إذا أراد بيعها فإنه لا يجوز له بيعها بين الدمين إذا انقطع قبل حصول ما يكفي في الاستبراء وهو يوم أو بعضه، بل لا يجوز له بيعها حتى يعاودها ويمضي ما هو كافٍ في الاستبراء وغير ذلك، والعويص بالعين المهملة الشديد القويقال في القاموس في باب العين المهملة مع الصاد المهملة: عوص الكلام اشتد، والعويص من الشعر ما يصعب، وأما الغويص بالغين المعجمة فهو النازل يقال: غاص في الأرض نزل فيها. ولما كان جعل الدم الثاني من جملة الأول مشروطًا بكون انقطاع الأول قبل مضي طهرٍ قال: "حتى يبعد ما بين الدمين" بمضي مدة أقل الطهر، واختلف في قدرها فعند سحنونٍ "مثل ثمانية أيامٍ أو" مثل "عشرة أيامٍ" عند ابن حبيبٍ، وقيل: أقل مدة الطهر خمسة عشر يومًا وهو المعتمد وعليه اقتصر العلامة خليل، فأوفى كلام المصنف لتنويع الخلاف فإن بعد ما بين الدمين "فيكون" الثاني "حيضًا مؤتنفًا" ولا يضم للأولولما قدم أن الحائض يجب عليها الغسل عقب انقطاع حيضها ولو رأت علامة الطهر بعد خروج الحيض بالقرب صرح بمفهوم انقطاعه فقال: "ومن تمادى بها الدم" أي استمر نازلًا عليها أو انقطع أقل من خمسة عشر يومًا بناءً على المشهور من أن أقل مدة الطهر خمسة عشر يومًا أو بعد ثمانية أيامٍ أو عشرة أيامٍ على مقابله الذي مشى عليه المصنف ثم عاودها وهي غير

حاملٍ "بلغت" جواب الشرط أي مكثت تاركةً للغسل والصلاة حيث استمر نازلًا "خمسة عشر يومًا" حيث كانت مبتدأةً أو كانت عادتها خمسة عشر يومًا"ثم هي" أي التي استمر الدم نازلًا عليها زيادةً على الخمسة عشر يومًا "مستحاضة" أي لا تعد الخارج منها حيضًا لأن أكثر الحيض زمنًا خمسة عشر يومًا، وحينئذٍ يجب عليها أن "تتطهر" عند تمام الخمسة عشر يومًا "وتصوم وتصلي ويأتيها" أي يستمتع بها "زوجها" ولو بالوطء لأن المستحاضة عندنا طاهر حقيقةً على المعتمد، ويصير هذا الدم كالسلس لا يوجب الغسل وإنما يوجب الوضوء فقط إن فارق أكثر الزمن أو قدرت على رفعه إلا أن تميز بعد مدة الطهر وإلا كان حيضًا. قال خليل في المستحاضة والمميزة بعد طهرٍ ثم حيضٍ: ولا تستظهر على الأصح إلا أن يدوم على الصفة التي ميزتها ويزيد على عادتها فتستظهر على المعتمد، وفرضنا الكلام في المبتدأة أو معتادة الخمسة عشر للاحتراز عن معتادة أقل منها يستمر الدم نازلًا عليها زيادةً على عادتها فإنها تستظهر بثلاثة أيامٍ. قال خليل: وللمعتادة ثلاثةً استظهار على أكثر عادتها ما لم تجاوزه ثم هي طاهر، فإن كانت عادتها ثلاثة أيامٍ ثم استمر نازلًا فإنها تغتسل بعد ستة أيامٍ، وإن كانت عادته اثني عشر يومًا استظهرت بثلاثةٍ أيضًا، وإن كانت عادتها أربعة عشر استظهرت بيومٍ، وإن اختلفت عادتها بالقلة والكثرة ثم زاد فإنها تستظهر على الأكثر من العادتين زمنًا لا وقوعًا، سواء كان الأكثر سابقًا أو متأخرًا، ومدة الاستظهار تصير من جملة العادة لأن العادة تثبت بمرةٍ. "تنبيه": قيدنا كلام المصنف بغير الحامل، لأن الحامل تحيض وتزيد أيام حيضها على ذلك بحسب كبر الحمل وصغره، فإن كانت في السابع فما بعده إلى غاية حملها فإنه إن استمر نازلًا عليها تمكث عشر يومًا ونحوها كالثلاثين، وإن كانت في الثالث أو السادس وما بينهما تمكث عشرين، وإن كانت في الشهر الأول أو الثاني فقولان المعتمد منهما أنها بمنزلة غير الحامل، ولا تستظهر الحامل على ما رجحه الأجهوريولما فرغ من الكلام على ما أراد من مسائل الحيض، شرع في الكلام على أحكام النفاس وهو لغةً ولادة المرأة وشرعًا دم أو صفرة أو كدرة يخرج للولادة بعدها أو معها أو قبلها على قولٍ مرجوحٍ فقال: "وإذا انقطع دم النفساء" بالمد وهي المرأة التي ولدت ثم رأت القصة أو الجفوف عقب الدم "وإن كان" انقطاعه "قرب الولادة اغتسلت وصلت" لأنه لا حد لأقل زمنه كالحيض، وإن كان لأقله حد باعتبار الخارج وهو قطرة كالحيض أيضًا.

"و" مفهوم انقطع "إن تمادى بها الدم حسبت ستين ليلةً" بأيامها لأنها أكثر مدة النفاس"ثم" إن استمر نازلًا عليها "اغتسلت وكانت" أي وصارت "مستحاضةً تصوم وتصلي وتوطأ" ولا تبالي بهذا الخارج لأنه يصير كالسلس ولا تستظهر النفساء، وإذا انقطع دم النفاس فإنها تلفق الستين يومًا سواء كانت مبتدأةً أو معتادةً، بخلاف الحائض إنما تلفق عادتها فقط وتستظهر وإن كانت مبتدأةً تلفق الخمسة عشر، وإذا ولدت ولدين فإن وضعت الثاني داخل الستين وقبل تمام طهرٍ فلهما نفاس واحد تغتسل بعد الستين، وإن تأخر وضع الثاني عن الستين أو مضت مدة الطهر فلكل نفاسٍ مستقل، وما مر من أنه إذا تقطع نفاسها تلفق ستين يومًا كما تلفق الحائض المبتدأة خمسة عشر يومًا والمعتادة عادتها فمقيد بأن لا يكون بين الدمين طهر تام وإلا كان الثاني نفاسًا مؤتنفًا"تنبيهان" الأول: علم من قول المصنف: وإذا انقطع دم النفساء إلخ أن ما يحصل من النفساء من تأخير الغسل مع انقطاع الدم لتمام أربعين يومًا. مخالف للشرع. قال العلامة ابن ناجي: وهو جهل منهن فليعلمن ويحرم عليهن هذا التأخير، ويجب على المرأة قضاء الصلوات أيام الانقطاعالثاني: ظاهر كلام المصنف: لو ولدت المرأة من غير دمٍ لا غسل، عليها لأنه شرط في غسل النفساء انقطاع دمها فمقتضاه أنها ولدت بدمٍ والمسألة ذات قولين، والمعتمد منهما وجوب الغسل وتنوي الطهر من الولادة"خاتمة": الحيض والنفاس يمنعان مس المصحف ودخول المسجد ورفع الحدث والصوم والصلاة ووجوبهما وقضاء الصوم بأمرٍ جديدٍ، ويمنعان الطلاق وإن وقع، ويمنعان إباحة الاستمتاع بالمرأة بما بين السرة والركبة ولو بغير الوطء ولو بحائلٍ، وأما بالركبة فما تحتها أو السرة وما فوقها فلا حرمة ولو بالوطء، وأما بالنظر فجائز ولو بما بين السرة والركبة ولو من غير حائلٍ وغاية الحرمة حتى تطهر بالماء ولو كانت كافرةً، وأما القراءة فلا يمنعانها مدة السيلان مطلقًا وكذا بعد انقطاعهما إلا أن يكون عليها جنابة هذا هو المعتمد. ولما فرغ من الكلام على موجبات الطهارة الصغرى والكبرى: شرع في بيان ما تحصل به الطهارة وما يطلب تطهيره للصلاة فقال.

باب في بيان طهارة الماء
باب في بيان طهارة الماء هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الماء الطاهر، وكان الأنسب الطهورية بدل طهارة، لأن مقصوده بيان ما يرفع به الحدث1 وحكم الخبث2 وهو الطهور ويرادفه المطلق على الصحيح، وأما الطاهر فهو أعم من الطهور، ولعله إنما عبر بطهارة لأجل المعاطيف، لأن الثوب والمكان إنما يوصفان بالطهارة، لأن الطهورية من أوصاف الماء فقط، وحقيقة المطلق ما صدق عليه اسم ماءٍ بلا قيدٍ أو تقولٍ هو الباقي على أوصاف خلقته غير مستخرجٍ من نباتٍ ولا حيوانٍ"و" في بيان طهارة "الثوب" وهو محمول المصلي "و" في بيان طهارة "البقعة" وهي محل
ـــــــ
1 الحدث في اللغة من الحدوث: وهو الوقوع والتجدد وكون الشيء بعد أن لم يكن ومنه يقال: حدث به عيب إذا تجدد وكان معدوما قبل ذلك والحدث اسم من أحدث الإنسان إحداثا بمعنى الحالة الناقضة للوضوءويأتي بمعنى الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف ومنه محدثات الأموروفي الاصطلاح يطلق ويراد به أمور:
أ- الوصف الشرعي أو الحكمي الذي يحل في الأعضاء ويزيل الطهارة ويمنع من صحة الصلاة ونحوها وهذا الوصف يكون قائما بأعضاء الوضوء فقط في الحدث الأصغر وبجميع البدن في الحدث الأكبر وهو الغالب في إطلاقهموقد ورد هذا التعريف في كتب فقهاء المذاهب الأربعة باختلاف بسيط في العبارة بالأسباب التي توجب الوضوء أو الغسل ولهذا نجد الحنفية يعرفونه بأنه: خروج النجس من الآدمي سواء أكان من السبيلين أم من غيرهما معتادا كان أم غير معتادوالمالكية يعرفونه بأنه الخارج المعتاد من المخرج المعتاد في حال الصحةوالحنابلة يعرفونه بما أو جب وضوءا أو غسلا كما وضح بعض الشافعية بابا للأحداث ذكروا فيها أسباب نقض الوضوءج- ويطلق الحدث على المنع المترتب على المعنيين المذكوريند- وزاد المالكية إطلاقه على خروج الماء في المعتاد كما قال الدسوقيوالمراد هنا من هذه الإطلاقات هو الأول أما المنع فإنه حكم الحدث وهو الحرمة وليس وليس نفس الحدث كما صرح به الحنفية والمالكية والشافعية أنظر الموسوعة الفقهية 17/108, 1092 الخبث في اللغة هو كل ما يكره رداءة وخسة محسوسا كان أو معقولا ويتناول من الاعتقاد الكفر ومن القول الكذب ومن الفعال: القبيحقال ابن الأعرابي: الخبث في كلام العرب المكروه فإن كان من الكلام فهو الشتم وإن كان من الملل: فهو الكفر وإن كان من الطعام فهو الحرام وإن كان من الشراب فهو الضار. والخبث في المعادن ما نفاه الكير مما لا خير فيهوفي اصطلاح الفقهاء: هو عين النجاسة أنظر الموسوعة الفقهية 19/11.

قيام المصلي وسجوده أو ما تماسه أعضاؤه. "و" في بيان "ما يجزئ" مريد الصلاة "من اللباس" وقوله: "في الصلاة" راجع لجميع ما تقدم، وجمع مع طهارة الماء الثوب والبقعة لاحتياج المصلي إلى الجميع، وكان ينبغي أن يزيد بدن المصلي ولعله إنما تركه لفهمه من اشتراط طهارة الثوب والبقعة والترجمة لهذه المذكورات لا تنافي الزيادة عليها بقوله فيما يأتي: وقلة الماء مع أحكام الغسل فإنه زائدة على الترجمة والطهارة بالفتح مصدر طهر بضم الهاء أو فتحها لغةً النظافة والنزاهة من الأدناس، وتستعمل مجازًا في التنزيه من العيوب وشرعًا قال ابن عرفة: صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أو له، فالأوليان من خبثٍ والأخيرة من حدثٍ، ومعنى حكمية أنها يحكم بها ويقدر قيامها بمحلها، وليست معنًى وجوديا قائمًا بمحله، لا معنويا كالعلم ولا حسيا كالسواد والبياضوقوله به أي بملابسه فيشمل الثوب والبدن والماء وكل ما يجوز للمصلي ملابسته، وقوله فيه يريد به المكان، وقوله له يريد به المصلي وهو شامل لطهارته من الحدث والخبث، إلا أن قوله بعد والأخيرة من حدثٍ يخصه به، والضمير في به وفيه وله عائد على الموصوف من قوله لموصوفهاومعنى توجب تصحح وتسبب وليس المراد بالوجوب أحد الأحكام، ومعنى جواز استباحة الصلاة جواز طلب إباحة الصلاة شرعًا، لأن طلب إباحة الصلاة مع المانع غير جائزٍ لأن الطهارة مفتاح الصلاة، ولا يجوز لأحدٍ طلب دخول محل بغير مفتاحه، فإذا وجد مفتاحه جاز له طلب دخوله، ولا يرد طهارة الميت وطهارة الذمية من حيضها ليجوز لزوجها وطؤها، والطهارة لنحو زيارة ولي، فإن كل واحدةٍ من هذه المذكورات لم توجب لموصوفها جواز الصلاة لأنا نقول: هي طهارة شرعية لولا مقارنة المانع لها في الأوليين وهو الموت والكفر ولعدم نيةٍ وقع الحدث في الأخيرة، ولذلك ينبغي لمن يتوضأ لفعل أمرٍ لا يتوقف على الطهارة نية رفع الحدث ليباح بوضوئه الصلاة وغيرهاوأما الطهارة بضم الطاء فهي فضلة ما يتطهر به الإنسان، وأما الطهورية وهي من خواص الماء فهي صفة حكمية توجب لموصوفها كونه بحيث يصير المزال به نجاسته طاهرًا، وأما الطاهرية فهي مقابلة النجسية وهي أعم لصدقها بالطهورية وعدمها وهو الطاهر فقط، وأما التطهير فهو إزالة النجس أو رفع مانع الصلاة، والمتطهر الموصوف بالطهارة التي هي صفة حكمية، والطاهر ضد النجس، وسيأتي الكلام على النجاسة. وافتتح المصنف هذا الباب ببعض حديثٍ تبركًا به فقال: "والمصلي يناجي" أي يسارر "ربه فعليه أن يتأهب" أي يتهيأ

"لذلك" المذكور من المناجاة والصلاة "بالوضوء" إن كان حدثه أصغر. "أو الطهر إن وجب عليه الطهر" بأن كان حدثه أكبر، ولفظ الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطإ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعضٍ". 1
وقال ابن بطالٍ: مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة، وأما المناجاة من قبل الرب سبحانه وتعالى لعبده فهي إقباله على عبده بالرحمة والرضوان وما يفتحه عليه من العلوم والأسرار، واختلف في حكم الخشوع في الصلاة، فالذي نقله سيدي يوسف بن عمر عن الفقهاء أن من استكمل صلاته بالركوع والسجود ولم يخشع فيها أن صلاته تجزيه وإنما فاته الأفضل، ونقل سيدي أحمد زروق أن حضور القلب في جزءٍ من الصلاة واجب إجماعًا وينبغي أن يكون عند تكبيرة الإحرام، وهذا لا ينافي أن المشهور فقهًا صحة الصلاة بدونه لأنهم لم يجعلوا من أركانها الخشوع ولا بد من مبطلاتها تركه، ويؤيد هذا صحة صلاة من تفكر بدنيوي مع كراهة ذلك منه، ولو كان حضور القلب واجبًا لحرم عليه التفكر وعلى الوجوب فهو فرض تبطل الصلاة بتركه كما قال التتائي في شرح خليلٍ، وإنما طلب من مريد الصلاة الإنصاف بهذه الأوصاف لأن حالة الصلاة أعظم الحالات لأنه متمثل بين يدي خالقه ومتلبس بعبادته، فينبغي أن يكون على أشرف الأوصاف"تنبيه": قال سيدي يوسف بن عمر: اقتصر على الطهارة الظاهرة وسكت عن الباطنة وهي النزاهة عن الحسد والكبر والعجب والحقد وغير ذلك من الآفات مع أنها مطلوبة أيضًا، فينبغي للإنسان أن يتطهر ظاهرًا وباطنًا، ولا يكون كمن بنى دارًا وحسن ظاهرها وترك باطنها مملوءًا بالنجاسات والقاذورات، ألا ترى أن من أهدى جاريةً مزينةً لملكٍ وهي ميتة لا يقبلها، فالمتطهر ظاهره دون باطنه كذلك ا هـوأقول: لعل المصنف إنما اقتصر على طهارة الظاهر لأنها التي تتوقف عليها صحة الصلاة، وإن لم يبلغ المصلي درجة الكمال إلا بطهارة جسده من تلك المذكورات والله أعلم. ثم شرع في بيان الماء الطهور بقوله. "ويكون ذلك" المذكور من الوضوء أو الطهر "بماءٍ طاهرٍ" أي طهورٍ كما يدل عليه قوله: "غير مشوبٍ" أي غير مخلوطٍ "بنجاسةٍ" فلا يصح بما شابته نجاسة غيرت أحد أوصافه الثلاث: اللون والطعم والريح "ولا بماءٍ" بالمد "قد تغير" تحقيقًا أو ظنا وإن
ـــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ 1/80 حديث 177.

لم يقو "لونه" أو طعمه أو ريحه "بشيءٍ خالطه" أو اتصل به من أعلاه وإن لم يمازجه لقول ابن عرفة: كل تغيرٍ بحالٍ معتبر وإن لم يمازج بشرط أن يكون ذلك المغير مما يفارق الماء غالبًا"من شيءٍ نجسٍ" كبولٍ وعذرةٍ "أو طاهرٍ" كلبنٍ وعسلٍ، فالمتغير بشيءٍ من هذه المذكورات لا يصح به وضوء ولا غسل. قال خليل: لا بمتغيرٍ لونًا أو طعمًا أو ريحًا بما يفارقه غالبًا من طاهرٍ أو نجسٍ وحكمه كغيره، فالماء المتغير بالنجس يقال له متنجس، والذي غيره طاهر يكون طاهرًا غير طهورٍ، والأول ينتفع به في غير مسجد وآدمي، وغير الطهور ينتفع به في العادات من الطبخ والعجن دون العبادات كما يأتي في كلامه، وعلم مما قررنا أن قول المصنف: ولا بماءٍ قد تغير إلخ معطوف على مقدرٍ عطف عام على خاص خلافًا لمن زعم تكراره مع ما قبله"تنبيهات" الأول: أشار المصنف باشتراط عدم التغير المذكور إلى بيان حقيقة الماء المطلق ويرادفه الطهور، وعرفه خليل بأنه الذي يصح عرفًا إطلاق لفظ الماء عليه من غير اعتبار قيدٍ لازمٍ، وعرفه بعضهم بأنه الباقي على أوصاف خلقته غير مستخرجٍ من نباتٍ ولا حيوانٍ، أو تقول كما قال القاضي عبد الوهاب وابن عسكرٍ: هو الذي لم يتغير أوصافه بما ينفك عنه غالبًا، ويدخل فيه ماء آبار ثمود ونحوها فإنه من المطلق وإن نهي عن استعماله، وكذلك ماء سائر الآبار المنهي عن استعمالها، فإن تطهر بها وصلى صحت صلاته مع النهي ولو على جهة الحرمة ويدخل فيه النابع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، بناءً على أنه تكثير موجودٍ لا على أنه إيجاد معدومٍ، على قول من يشترط في حد المطلق أن يكون غير مستخرجٍ من نباتٍ ولا حيوانٍالثاني: مفهوم قول المصنف خالطه بمعنى لاصقه يقتضي أن التغير بالمفارق المجاور للماء المنفصل عنه لا يضر وهو كذلك لأنه باقٍ على إطلاقه ولو تغيرالثالث: يستثنى من المفارق القطران فإنه يكون دباغًا للقربة فلا يضر تغير مائها ولو طعمًا أو لونًا، وأما لو كان غير دباغٍ فإنه لا يضر تغير ريح الماء بخلاف اللون والطعم لا فرق في ذلك بين مسافرٍ وغيره، ولا بين كون القطران في أسفل الماء وأعلاهالرابع: كل موضعٍ اعتبر فيه التغيير لا يشترط فيه كونه بينا إلا في مسألة تغير ماء البئر بآلة استقائها فيشترط كونه بينا بحيث يظهر ولو لغير المتأمل، ويكفي ظن التغير من تحقق كون المغير مفارقًا، لا إن تحققنا التغير وشككنا في المغير هل هو من المفارق أو لا، فالماء باقٍ على إطلاقه. قال خليل: أو شك في مغيره هل يضر أو تغير بمجاوره من غير ملاصقةٍ أو بما

جمع من عليه كالندا المجموع من فوق الزرع فالجميع مطلقولما كان التغير السالب للطهورية إنما هو بالمفارق غالبًا استثنى على جهة الانقطاع ما لا يضر التغير به وهو الملازم للماء دائمًا أو غالبًا كحيوان البحر فقال: "إلا ما غيرت لونه" أو طعمه أو ريحه أو الثلاث ولو تحقيقًا "الأرض التي هو بها" فإنه يصح التطهر به "من سبخةٍ" بكسر الموحدة أي الأرض ذات سباخٍ. قال الفاكهاني: رويناه بفتح الباء فيكون بفتح الثلاثة وهي أرض ذات ملحٍ ورشحٍ ملازمٍ، والصواب التفصيل بين جعل سبخةٍ صفةً للأرض فتكسر الباء كما قررنا وبين إرادة واحدة السباخ
فتفتح. "أو" من "حمأةٍ" بفتح المهملة وسكون الميم مهموز وهو طين أسود منتن "أو نحوهما" من كل ما لا ينفك عن الماء، ولو أخرجت تلك المذكورات من الماء وألقيت فيه قصدًا كمغرةٍ وشبٍ وملحٍ وزرنيخٍ مما هو من قراره أو متولد منه كالطحلب وهي الخضرة التي تعلو الماء وتسميها العامة بالريم وكالسمك الحي فلا يضر التغير بشيءٍ من ذلك، وأما بعد موته فيضر التغير به ويصير الماء طاهرًا غير طهورٍوأما تغير الماء بروئه فيضر ولو حيا على ما استظهره الأجهوري، وقال الحطاب: ولا يضر التغير بالسمك ولا روثه احتاج إلى ذكورٍ وإناثٍ أم لأنه إما متولد من الماء أو مما لا ينفك عنه غالبًا، ويظهر لي موافقة كلام الحطاب لإطلاق أهل المذهب. قال الأجهوري عند قول العلامة خليلٍ أو بمتولدٍ منه ما لم يطبخ فيه: وأما لو طبخ نحو الطحلب وغير الماء فإنه يسلب طهوريته ولو ملحًا أو كبريتًا على كلام الحطاب، وظاهر كلام خليلٍ أنه لا يضر التغير بما يتولد منه، ولو أخرج من ماءٍ وألقي في آخر ولو تغير تغيرًا بينًا، وظاهره أيضًا أنه لو وضع إناءً من أجزاء الأرض ووضع فيه الماء وغيره لا يضر، ولو أحرقت الأواني بالنار كالجرار الحمر ولو حرقت بزبلٍ أو غيره من النجاسات بناءً على أن رماد النجس ودخانه طاهران، ولا يضر تغير الماء بالجبس ولا بالجير لأنه كالفخار ولا بالملح ولو طرح فيه قصدًا ولو مصنوعًا إلا ما كان مصنوعًا من حشيشٍ فإنه إذا ألقي في الماء وغيره يسلب طهوريته اتفاقًاولما قدم ما هو كالحد للمطلق نص على أنواعه بالعد فقال: "وماء السماء" مبتدأ خبره قوله طيب طاهر، وهو يشمل المطر والندا والثلج والبرد والجليد ذاب بنفسه أو بفعل فاعلٍ، وإذا وجد داخله شيء، فإن لم يغيره فالماء باقٍ على إطلاقه، وإن غير أحد أوصافه فحكمه كمغيره، ويقاس على ذلك ما يوجد في بعض حيضان الأخلية من العذرة فإن غيرت أحد أوصاف الماء سلبت طهوريته وإلا فلا، فالخبر: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو

ريحه" 1 هذا هو مذهب مالكٍ رضي الله عنه"وماء العيون" النابعة من الأرض كزمزم طيب طاهر خلافًا لابن شعبان في قوله: إنه طعام يحرم إزالة النجاسة به وتغسل الميت به بناءً على نجاسته، وأما على المشهور من دخوله في المطلق فيجوز استعماله في رفع الحدث وإزالة عين أو حكم الخبث، وأما تغسيل الميت به فيكره على القول بنجاسة ميته ويجوز على طهارته"وماء الآبار" ولو آبار ثمود وإن نهي عن استعمالها طيب طاهر، وتقدم صحة صلاة من توضأ بمائها أو تيمم على أرضها لأنه عليه الصلاة والسلام وإن أمرهم بطرح ما عجن من مائها لم يأمرهم بغسل أوانيهم، فالوضوء بمائها كالوضوء بماء المغصوب"وماء البحر" ولو الملح ولو كان متغير اللون والطعم والريح "طيب طاهر مطهر للنجاسات" ورافع للأحداث لقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 2 أي ماؤه طهور وميتته حلال"تنبيه": إفراد الخبر وهو طيب طاهر، لأن المبتدأ واحد وإن اختلف بالإضافة أو حذف لفظ طيبٍ طاهرٍ من الثلاث الأول لدلالة الرابع عليها، والطاهر مرادف للطيب فهو تفسير لهولما قدم أن الماء المتغير بالمفارق لا يصح به وضوء ولا غسل بين هنا ما يفعل به فقال: "وماء غير لونه" أو طعمه أو ريحه "شيء طاهر حل فيه" مما يفارق الماء غالبًا كلبنٍ أو عسلٍ ولو لم يمازج على المشهور"فذلك الماء طاهر" في نفسه غير "مطهرٍ لغيره" فلا يصح استعماله "في وضوءٍ أو طهرٍ" أي غسلٍ"أو" في زوال حكم "نجاسةٍ" لزوال اسم المطلق عنه، فيستعمل في العادات كالطبخ والعجن وإزالة أوساخٍ طاهرةٍ، ومفهوم كلامه أنه لو خالطه طاهر ولم يغيره يكون باقيًا على
ـــــــ
1 لم أقف على الحديث بهذا اللفظ لكن أخرجه أبو داود كتاب الطهارة باب: ما جاء في بئر بضاعة حديث 66, والترمذي حديث 66, والنسائي حديث 326, بلفظ "الماء طهور لا ينجسه شيء" وقد روي بلفظ: "أنزل الله الماء طهورا" و "جعل الله الماء طهورا" كما في سنن الدار قطني 1/29 حديث 8 وسنن البيهقي الكبرى 1/259 حديث 1155, والمصنف لعبد الرزاق 1/61حديث 181, والمصنف لابن أبي شيبة 1/132 حديث 1518, أما باقي الرواية إلا ما غير فأخرجها الدار قطني في سننه 1/28 حديث 2, والطبراني في الأوسط 1/226 حديث 744 والبيهقي في الكبرى 1/260 حديث 11602 صحيح: أخرجه أبو داود كتاب الطهارة باب: الوضوء بماء البحر حديث 83, والترمذي حديث 69, والنسائي حديث 59, وابن ماجه حديث 386, وأحمد 2/361حديث 8720 وانظر صحيح الجامع 7048.

إطلاقه فيجوز استعماله في العبادات وغيرها من كراهةٍ سواء كان قليلًا أو كثيرًا، ثم صرح بمفهوم طاهرٍ بقوله: "وما غيرته النجاسة" لونًا أو طعمًا أو ريحًا تحقيقًا أو ظنا "فليس بطاهرٍ" ولو كثيرًا فلا يستعمل في طبخٍ ولا عجنٍ "ولا مطهرٍ" لغيره فلا يصح استعماله في وضوءٍ ولا غسلٍ وإنما ينتفع به في غير مسجدٍ وآدمي، وأشار خليل إلى جمع ذلك بقوله: وحكمه كمغيره أي فالمتغير بالطاهر طاهر غير طهورٍ، والمتغير بالنجاسة متنجس، وأما لو أخبرك شخص أو اثنان بنجاسة ماءٍ ولم تشاهد فيه تغيرًا لفقد بصرٍ أو ظلمةٍ، فإن كان عدل روايةٍ وهو المسلم البالغ وموافقًا لك في المذهب أو مخالفًا وبين لك وجه النجاسة فإنه يجب عليك قبول خبره، وإن لم يبين المخالف وجه النجاسة فالأحسن ترك الماءقال خليل: وقبل خبر الواحد إن بين وجهها واتفقا مذهبًا وإلا فقال يستحسن تركه، وما لو أخبرك شخص بطهارة ماءٍ شككت في نجاسته لوجب عليك الرجوع إلى خبره ولو كافرًا أو صبيا لأنه أقر بما يحمل عليه الماء، اللهم إلا أن يظهر في الماء ما يقتضي نجاسته أو يسلب طهوريته، وإلا عمل بالتفصيل المتقدم"تنبيهان" الأول: لو زال تغير الماء بعد الحكم بنجاسته من غير صب مطلقٍ عليه كبعض البرك التي تلقى فيها النجاسة وكماء المحل المعروف بالحرارة هل يستمر على تنجيسه أو ينقلب طهورًا؟ قولان الراجح منهما أنه باقٍ على تنجيسه، وأما لو زال تغيره بصب مطلقٍ عليه ولو يسيرًا أو ترابٍ ولم يظهر أثر التراب فيه فإنه يصير طهورًا، وأما لو ظهر أثر التراب في الماء فإنه يستصحب تنجيسه، وأما لو زال تغير الطاهر المفارق بنفسه وأولى بواسطة شيءٍ فإنه يصير طهورًا قطعاالثاني: لو تحققنا تغير الماء وشككنا في المغير له هل هو من جنس ما يضر أم لا؟ فهو طهور حيث استوى طرفا الشك وإلا عمل على الظن، بخلاف ما لو تحققنا التغير وعلمنا أن المغير مما يضر التغير به وشككنا في طهارته ونجاسته فلا يكون طهورًا بل هو طاهر فقطثم أشار إلى مسألةٍ وقع فيها نزاع بين الإمام وبعض أصحابه بقوله: "وقليل الماء" وهو قدر آنية الوضوء أو الغسل ولو للمتوضئ "ينجسه قليل النجاسة" الحالة فيه "وإن لم تغيره" هذا مذهب ابن القاسم مستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا" 1 وفي روايةٍ: فإنه
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود كتاب الطهارة باب: ما ينجس الماء حديث 63, والترمذي حديث 67, والنسائي حديث 52, وابن ماجه حديث 517, وأحمد 2/26, حديث 4803 وانظر صحيح الجامع 416, 417

لا ينجس، وهو المراد بقوله: لم يحمل خبثًا أي يدفع النجس ولا يقبله. قاله الرملي الشافعي، ومفهومه أنه إذا لم يبلغهما يحمل الخبث أي يتنجس بمجرد الملاقاة ولو لم يتغير، والمشهور عند مالكٍ رضي الله عنه أنه لا يتنجس إلا بالتغيير ولو أقل من قلتين مستدلا بخبر بئر بضاعة وهي بئر تلقى فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب، إذ سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" 1 ولا يعارض هذا حديث القلتين لعدم صحته لتضعيف مالكٍ وغيره له، وعلى تسليم صحته إنما يدل بالمفهوم، ودلالة المنطوق تقدم على دلالة المفهوم، وأيضًا قوله: لم يحمل خبثًا معناه يضعف عن حمل النجاسة فتظهر فيه فتغير أحد أوصافه، فيكون فيه إشارة إلى أن التنجس بسبب التغير والشيء ينعدم بانعدام سببه، وحكم هذا القليل على المشهور وجوب استعماله عند عدم غيره والكراهة مع وجود غيرهوقد اقتصر عليه خليل حيث قال في بيان المياه المكروهة: وكره ماء مستعمل في حدثٍ وفي غيره تردد ويسير كآنية وضوءٍ وغسلٍ بنجسٍ لم يغير أو ولغ فيه كلب وراكد يغتسل فيه إلخ، وإذا توضأ بالماء القليل المذكور وصلى فلا إعادة عليه أصلًا على المشهور، وأما على الضعيف الذي هو كلام المصنف: لو صلى به يعيد في الوقت أبدًا مراعاةً للخلاف" تنبيهان" الأول: مفهوم قليلٍ أن الكثير وهو ما زاد على آنية الوضوء أو الغسل لا ينجس إلا بالتغير بالفعل اتفاقًا، ومفهوم النجاسة أن القليل إذا خالطه طاهر مفارق ولم يتغير باقٍ على إطلاقه من غير نزعٍالثاني: تلخص من كلام أهل المذهب أن الماء المخلوط بالمفارق على أقسامٍ: قسم طاهرٍ طهور وهو الكثير الذي لم يتغير أحد أوصافه، وقسم غير طهورٍ وهو الذي تغير أحد أوصافه، ولا فرق مع التغير بين القليل والكثير وحكمه كمغيره، وقسم فيه خلاف وهو القليل الذي حلته نجاسة ولم تغيره فعند المصنف متنجس، وعلى المشهور مكروه الاستعمال مع وجود غيرهثم لم فرغ من الكلام على ما يصح التطهير به من الماء وما لا يصح، شرع في مسألةٍ زائدةٍ على ما ترجم له فقال: "وقلة الماء" أي وتقليل الماء في حال الاستعمال من غير تحديدٍ "مع إحكامٍ" بكسر الهمزة أي إتقان "الغسل" أو الوضوء "سنة" بمعنى مستحبة، وعبر بالسنة جريا على طريق البغداديين لأنهم يعبرون عن المستحب بالسنة لأن الكل فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو مراده
ـــــــ
1 سبق تخريجه قريبا.

بالسنة مقابل البدعة"والسرف" أي الإكثار "منه" أي من الماء زيادة على الحد المطلوب شرعًا في الأعضاء أو الغسلات "غلو وبدعة" ومعنى الغلو الزيادة على ما يطلب شرعًا، والبدعة كل ما خرج عن الشرع وهي هنا بدعة مكروهة لقوله في النوادر: والقصد في الماء مستحب والسرف منه مكروه مخافة أن يتكل على صب الماء ويترك التدلك، ولا وجه للاعتراض على المصنف بتغييره بلفظ البدعة لإيهامه الحرمة لما مر من أن البدعة قد تكون مكروهةً، ولا فرق في الوضوء والغسل بين الواجبين أو المندوبين، وأما السرف في غير الوضوء كغسل الثوب أو الإناء لزيادة التنظيف فلا كراهة فيه، كزيادة الغسلات في الوضوء لنحو تبردٍ أو تدف، وأما طرح الماء فإن كان لسببٍ كأن يكون شرب منه ما عادته استعمال النجاسات فلا إشكال في الجواز، وأما لو كان عبثًا فإن كان الماء موقوفًا أو مملوكًا وهو في محل للماء فيه ثمن عظيم فلا يجوز لما فيه من إضاعة المال وإلا فلا حرج هكذا ينبغي. ثم استدل على استحباب تقليل الماء في الطهارة بقوله: "وقد "توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمد" ولا حاجة إلى زيادةٍ بعد الاستنجاء لأن الاستنجاء لم يدخل في الوضوء كما قرر بعض الشراح إلا على ما يعتقده العامة من دخوله في الوضوء، ولعل هذا ملحظ من قدر ذلك في كلام المصنف"وهو وزن رطلٍ وثلثٍ" والرطل1 بكسر الراء على الأجود اثنا عشر أوقيةً، والأوقية عشرة دراهم وقيل أحد عشر درهمًا، والدرهم خمسون وخمسا حبةً من متوسط الشعير المقطوع الطرفين"وتطهر" أي غسل جميع جسده صلى الله عليه وسلم بعد غسل ما هناك من الأذى "بصاعٍ وهو" أي الصاع بمعنى وزنه "أربعة أمدادٍ بمده عليه الصلاة والسلام" وتقدم أن المد رطل وثلث، فيكون الصاع خمسة أرطالٍ وثلث، وهذا كله مصداق حديث الصحيحين عن أنسٍ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمدادٍ"2 ففيه إشارة إلى استحباب الاقتصار على القدر الكافي لا للتحديد خلافًا لبعض الشيوخ، وسينص المصنف على أن الحديث ليس القصد منه التحديد بقوله: وليس كل الناس في أحكام ذلك سواءـــــــ
1 الرطل: بكسر الراء وفتحها الذي يوزن به والرطل العراقي= 128 درهما = 5و407 غراما وهو المراد بكلام الفقهاء عند كلامهم على أوزان غير الفضة انظر معجم لغة الفقهاء 2232 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الوضوء باب: الوضوء بالمد حديث 201 ومسلم كتاب الحيض باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة حديث 325.

"تنبيهات" الأول: المتبادر من قول المصنف والحديث توضأ عليه الصلاة والسلام بمد، أن المراد توضأ من وزن مد وليس كذلك بل المراد كما قال ابن العربي أنه توضأ من كيل مد لا بوزن مدقال الشيخ زروق: بمقدار ما يبلغه وزن مد من الطعام لا بمقدار وزن مد من الماء، إذ ما يبلغه وزن مد من الطعام، فإذا وزن مد من الطعام ووضع في آنيةٍ فإنه يشغل منها أكثر ما يشغله وزن المد من الماء إذا وضع في الآنية المذكورة، والحاصل أن المراد القدر من الماء الذي يبلغ من الآنية مبلغ المد من الطعام، ويقال مثله في الصاعالثاني: وقع التردد في بعض الشيوخ في صورة وضوئه صلى الله عليه وسلم بالمد هل هو الوضوء الذي اقتصر فيه على مرةٍ أو اثنين أو ثلاثٍ؟ قال الجزولي: لم أر في ذلك نصا، وهذا لا ينافي طلب الاقتصار في الماء سواء أراد أن يتوضأ على وجه الكمال من شفع غسله وتثليثه أو أراد الاقتصار على مرةٍولما فرغ من الكلام على ما يحصل به التطهير ومن أنواع المياه، وما لا يصح به وهو المتغير بالمفارق غالبًا، ومن بيان القدر المستحب منه، شرع في الكلام على حكم إزالة النجاسة المضادة للطهارة وهي النجاسة المصطلح عليها وهي صفة حكمية توجب لموصوفها منع استباحة الصلاة به أو فيه بقوله: "وطهارة البقعة" وهي مكان المصلي "للصلاة" ولو نافلةً "واجبة" وفسرنا البقعة بمكان المصلي الذي تمسه أعضاؤه لأن المومئ إنما يلزمه طهارة موضع قدميه لا طهارة ما يومئ إليه وإن أوجبنا عليه حسر عمامته حال الإيماء، لأن الحائل مانع من فرضٍ مجمعٍ على فرضيته، بخلاف الطهارة فإن أمرها خفيف، وأيضًا أسقطوا عن المومئ الركوع والسجود فكيف يشترطون عليه طهارةً أزيد من محل قدميه؟ "وكذلك طهارة الثوب" أي محمول المصلي ولو طرف عمامته الملقى بالأرض، سواء تحرك بحركته أم لا واجبة عليهولما كان المصنف كثيرًا ما يطلق الواجب على الطلب المتأكد قال: "فقيل إن ذلك" أي الوجوب "فيهما" أي البقعة والثوب "واجب" مثل "وجوب الفرائض" على المكلف يثاب على فعله ويعاقب على تركه ويطلب من الصبي، لأن الطلب بالشروط من باب خطاب الوضع يستوي في الطلب به البالغ وغيره، لكن مع القدرة والذكر لا مع العجز والنسيان، وعليه فإن صلى بثوبٍ نجسٍ أو في بقعةٍ متنجسةٍ بطلت صلاته ويعيدها أبدًا مع العمد ولو جاهلًا وفي الوقت مع العجز والنسيان، وهذا القول ظاهر المدونة وصدر به خليل وصرح غير واحدٍ بمشهوريته واقتصر عليه ابن القصار، ولا يشكل عليه حديث السلام وهو كرش البعير الذي

ألقي عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقطع الصلاة لإمكان أنه لم يعلم به أو علم به وكان من مزكى أو غير ذلك مما يمنع الإشكال"وقيل" المراد بالوجوب فيهما "وجوب السنن المؤكدة" أي الطلب المتأكد لا أنه يأثم بتركه، ويكون عبر بالوجوب مجازًا لاشتراك الفرض والسنة في مطلق الطلب، وهذا القول شهره ابن رشدٍ لأنه قول ابن القاسم، ورواه عن مالكٍ ولفظه: رفع النجاسات من الثياب والأبدان سنة لا فريضة. قال ابن رشدٍ وعليه فمن صلى بثوبٍ نجسٍ أعاد في الوقت ولو عمدًا الظهرين للاصفرار والعشاءين للفجر والصبح للطلوع والجمعة كالظهرين، وعلى هذا فالخلاف حقيقي لقول القرطبي: لم يذكر عن أحد القولين بالإعادة أبدًا على القول بالسنية، وعلى فرض صحته يمكن حمل الأبدية على جهة الاستحباب بخلافه على القول بالوجوب خلافًا لمن قال إنه لفظي، وهذا محصل قول خليلٍ: هل إزالة النجاسة عن ثوب مصل ولو طرف عمامته وبدنه ومكانه لا طرف حصيره سنة أو واجبة؟ إن ذكر وقدر وإلا أعاد الظهرين للاصفرار خلاف"تنبيهات" الأول: علم مما قررنا أن الوجوب مقيد بالذكر والقدرة دون القول بالسنية فإنه غير مقيدٍ، إذ لا فائدة فيه لأنه لا ينحط عن مرتبة السنية مع العجز والنسيان، لأن الإعادة في الوقت مرتبة على تركها على القول بالسنية ولو كان الترك عمدًا ومن باب أولى مع العجز والنسيانالثاني: سكت المصنف عن طهارة البدن وفيه تفصيل محصله أن الظاهر ومنه داخل الفم والأنف والأذن والعين حكمه حكم البقعة، والثوب للصلاة وفيه الخلاف الذي ذكره المصنف وكما تقدم في عبارة خليلٍ، وأما الباطن فما دخل في المعدة طاهرًا فلا حكم له إلا بعد انفصاله وخروجه منها، وأما ما دخل فيها غير طاهرٍ فالراجح وجوب تقايئه مع القدرة والذكر، وإلا أعاد الصلاة المفروضة أبدًا وجوبًا على القول بالوجوب وندبًا في الوقت على القول بالسنية، وأما عند العجز أو النسيان فالصلاة صحيحة وتعاد في الوقت ولو على القول بالوجوب، وهذا التفصيل شامل لمن استعمل النجاسة مختارًا أو مضطرا، وسواء تاب أم لا على ما استظهره الأجهوريالثالث: لم يعلم من كلام المصنف حكم طهارة البدن لغير الصلاة وفيه خلاف، المشهور منه الاستحباب لقول المدونة: ويكره لبس الثوب النجس في الوقت الذي يعرق فيه فإنه يفيد أن التضمخ بالنجاسة مكروه، وقال سيدي زروق وسيدي يوسف بن عمران: أنه حرام والخلاف

في غير الخمر وأما هو فيحرم التضمخ به اتفاقًا وفي غير النجاسة المانعة من الطهارة بقسميها، وإلا فلا نزاع في إزالة المانع منها حيث إنه حائلالرابع: قد ذكرنا أن المراد بالثوب محمول المصلي ولم يعلم من كلامه حكم من صلى بجنب من بثوبه نجاسة، ومحصله أنه إذا سقط عليه ما هو متصل بغيره فلا شيء عليه إلا أن يسجد على شيءٍ منه، ويلحق به الولد غير طاهر الثياب يتصل بأبيه في الصلاة فلا تبطل صلاته إلا إذا سجد على شيءٍ منها، أو حمل لابس الثياب المتنجسة مثل أن يركب الصغير أباه أو يتعلق برقبته ويقوم به وهو في الصلاة فتبطل لحمله النجاسة، لأن حمل ذي الثياب المتنجسة أشد من سقوط ثيابه دون حملهولما ذكر أنه لا بد من طهارة البقعة للصلاة ناسب ذكر الأماكن السبعة التي ينهى عن الصلاة فيها بقوله: "وينهى" بالبناء للمفعول ونائب الفاعل ضمير مستتر عائد على مريد الصلاة على جهة الكراهة"عن الصلاة في معاطن الإبل" والمعاطن جمع معطنٍ وهو موضع بروكها عند الماء لشربها عللًا وهو الشرب الثاني بعد نهلٍ وهو الشرب الأول وظاهره ولو لم يتكرر ذلك منها وهو كذلك على القول بأن الكراهة للتعبد وهو القول المختار. قال خليل: وبمعطن إبلٍ ولو أمن من النجاسة ولو فرش شيئًا طاهرًا فيه، وعلى أن الكراهة للتعبد وهو المعتمد لا يقاس عليه موضع مبيتها لا على مقابله من أنه معلل بكثرة إنزالها فيه فنكره في مبيتها بالأولى، وإذا وقع ونزل وصلى ففي كيفية الإعادة قولان: أحدهما الإعادة في الوقت مطلقًا، وثانيهما يعيد الناسي في الوقت، والجاهل والعامد يعيدان أبدًا على جهة الاستحباب لأنه إنما ارتكب مكروهًا، وقال الأجهوري: هذا يفيد أن الإعادة الأبدية تكون فيما يعاد استحبابًاقال خليل: وبمعطن الإبل ولو أمن، وفي الإعادة قولان، ومفهوم الإبل أن الصلاة في مرابض البقر والغنم جائزة وهو كذلك على المنصوص. قال العلامة خليل: وجازت بمربض بقرٍ وغنمٍ"و" ثانيها الصلاة في "محجة الطريق" والإضافة بيانية لأن المحجة هي الطريق والنهي للكراهة حيث شك في إصابتها بأرواث الدواب وأبوالها ويستحب الإعادة في الوقت، وأما لو تيقنت طهارتها فلا كراهة ولا إعادة وإن تحققت نجاستها فلا تجوز الصلاة فيها، وتعاد الصلاة أبدًا مع العمد أو الجهل ومع النسيان أو العجز في الوقت فالأقسام ثلاثة، وكلام المصنف حيث

صلى فيها اختيارًا، وأما اضطرارًا لضيق المسجد مثلًا فلا كراهة. قال العلامة ابن ناجي: كل موضعٍ كرهت فيه الصلاة لغلبة النجاسة حكم له بالأصل وهو الطهارة عند الضرورة"و" ثالثها: الصلاة المفروضة على "ظهر بيت الله الحرام" أي الكعبة لكن النهي هنا للتحريم ولذا قال خليل: وبطل فرض على ظهرها وتعاد أبدًا، ولو كان بين يديه قطعة من حيطانها بناءً على أن المأمور باستقباله جملة البناء لا بعضه ولا الهواء، ولا ترد صحة الصلاة على أبو قبيسٍ مع كون المصلي عليه مستقبلًا لهواء الكعبة لا لجملة البنيان لما قالوه من أن الإنسان كلما بعد عن البيت يرتفع له، وكما تبطل الصلاة على ظهر بيت الله تبطل في حفرةٍ تحته أو جنبه ولو نافلةً، وحاصل ما يتعلق بالصلاة داخل الكعبة أو خارجها أن الصلاة داخلها على ثلاثة أقسامٍ: إن كانت مندوبةً تستحب، وإن كانت رغبيةً أو سنةً تمنع ابتداءً وتصح بعد الوقوع ولا تعاد، وإن كانت مفروضةً تمنع وتعاد في الوقت الاختياري، وأول بالنسيان وبالإطلاققال خليل: وجازت سنة فيها وفي الحجر لأي جهةٍ لا فرض فيعاد في الوقت وأول بالنسيان وبالإطلاققال محققوا شراحه: معنى جازت سنة مضت، وأما الصلاة خارجها فإن كانت تحتها فهي باطلة ولو كان بين يديه جميع جدارها والفرض والنفل سواء. وإن كان فوقها فالفرض باطل، وأما صلاة النفل على ظهرها ففيه قولان بالصحة وعدمها، والدليل على ذلك الكتاب والسنة والعمل"تنبيه": علم مما ذكرنا ومما سنذكره أن النهي على جهة الكراهة في جميع ما ذكره المصنف إلا الصلاة على ظهر بيت الله فإنه للحرمة والله أعلم"و" رابعها الصلاة في جوف "الحمام" والنهي للكراهة "حيث لم يوقن منه بطهارةٍ" ولا نجاسةٍ وإلا فلا كراهة في الأول ويمنع في الثاني، وقولنا في جوف للاحتراز عن خارجه وهو موضع نزع الثياب فتجوز الصلاة فيه حيث لم يتيقن نجاسته لأن الغالب على خارجه الطهارة "فائدة": الحمام هو المحل المعروف وهو مذكر باتفاق أهل اللغة مشتق من الحميم وهو الماء الحار. قال الأزهري: يقال للخارج من الحمام طاب حميمك أي طاب عرقك"و" خامسها "المزبلة" بفتح الباء وضمها وهي موضع طرح الزبالة"و" سادسها "المجزرة" وهي المحل المعد للتذكية ومحل الكراهة في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق عند الشك في الطهارة، وتعاد الصلاة في الوقت ولو صلى عامدًا، ويأتي أن معنى قول خليلٍ: وإلا فلا إعادة على الأحسن أي أبديةً، وأما لو تحققت فلا كراهة.

"و" سابعها "مقبرة" مثلثة الباء "المشركين" وكذا المسلمين والنهي للكراهة حيث شك في طهارتها، وأما لو تحققت نجاستها فتمنع الصلاة فيها وتجوز الأمن من نجاستها، ولذلك شهر العلامة خليل جواز الصلاة في المحجة والمقبرة والمزبلة إن أمنت تلك البقاع من النجس، ولا فرق بين مقبرة مسلمٍ وكافرٍ، ولفظ خليلٍ: وجازت بمربض بقرٍ أو غنمٍ كمقبرةٍ ولو لمشركٍ ومزبلةٍ ومحجةٍ ومجزرةٍ إن أمنت من النجس وإلا فلا إعادة أي أبدية على الأحسن إذ لم تحقق، فعلم منه أن محل النهي في الجميع إن لم توقن طهارة تلك البقاع سوى الصلاة على الكعبة فإن النهي لعدم الاستقبال وإلا فلا نهي، وإنما خص المقبرة بالمشركين وإن كان مفهومه غير معتبرٍ لأجل قوله: "و" كذا ينهى عن الصلاة في "كنائسهم" أي المشركين والمراد محل عبادتهم ليشمل الكنيسة والبيعة وبيت النارقال خليل: وكرهت بكنيسةٍ ولم تعد، ولا فرق في الكراهة بين العامرة والخاربة، ولا بين أن يصلى على فراشها أو غيره حيث صلى فيها اختيارًا، أما الإعادة فمشروطة بأن يصلي بها اختيارًا وكانت عامرةً وصلى على فرشها فيعيد في الوقت بمنزلة من صلى على نجاسةٍ ناسيًا، وأما لو تركها مكرهًا أو كانت خاربةً ولو صلى على فرشها أو عامرةً وصلى على شيءٍ طاهرٍ فلا إعادة، فالكراهة معلقة بالصلاة فيها على وجه الاختيار، ولو صلى على فرشٍ طاهرٍ، والإعادة مقيدة بثلاثة قيودٍ، ويلزم منها الكراهة بخلاف الكراهة لا يلزم منها الإعادة"تنبيه": علم من تقريرنا لكلام المصنف أن النهي في جميع المذكورات على جهة الكراهة إلا الصلاة على ظهر بيت الله الحرام فعلى الحرمة، وأن النهي في بعضها عند عدم تيقن الطهارة، وفي بعضها ولو عند الأمن من النجاسة كالصلاة في معاطن الإبل فافهم"خاتمة" تشتمل على أماكن تكره الصلاة فيها سوى ما نص عليه المصنف، منها: البقعة المعوجة التي لا يتمكن المصلي من الجلوس فيها على الوجه المطلوب في الصلاة، ومنها: البقعة التي فيها تصاوير وتماثيل ومنها: البقعة التي بها نائم أو جماعة أو متيقظ ويصلي إلى وجهه كل لاشتغالهومنها: البقعة التي بها جدار يرشح ويصلي إليه لأن المصلي يناجي ربه فينبغي استقباله لأفضل الجهات، ومنها: البقعة التي لا يتوقى أصحابها النجاسات كبيت النصراني أو المسلم الذي لم يتنزه عن النجاسات، ومثل ذلك الفرش الذي يمشي عليه الصبيان، ومن لا يتحفظ من النجاسات ولا يلزم من الكراهة الإعادة، لأن شرط الإعادة تيقن النجاسة أو عدم تيقن الطهارة

في ما الغالب فيه النجاسة كالمزبلة والمجزرة ونحوهما، وأما البقعة التي يصلي فيها على الثلج الشديد البرودة فكرهها في الذخيرة حيث لا يتمكن من السجود على الوجه الأكمل، والدار المغصوب لا تجوز الصلاة فيها ولكن لا إعادة معها على المشهور، وسمع ابن القاسم: لا بأس بالصلاة في مساجد الأفنية يدخلها الدجاج والكلاب ابن رشدٍ ما لم يكثر دخولهاولما فرغ من الكلام على طهارة الماء والبقعة والثوب شرع في الكلام على ما يجزئ من اللباس في الصلاة فقال: "وأقل ما يصلي فيه الرجل" على جهة الكمال "من لباسٍ ثوب ساتر" جميع جسده سوى رأسه ويديه وبينه بقوله: "من درعٍ" بالدال المهملة "والدرع القميص" الذي يلبس في العنق وشرطه كونه كثيفًا لا يصف ولا يشف "أما رداءٍ" عطف على درعٍ، والرداء بالمد ما يلتحف به الإنسان كحرامٍ أو بردةٍ، وليس المراد به الذي يلبس فوق الثياب على عاتقي المصلي، لأن هذا مستحب أو سنة زيادة على الستر المطلوب في حق كل مصل، ويتأكد في حق أئمة المساجد، وفي حق المأموم في الجامع بأكثر من المأموم في غيره، وأما الستر بغير الكثيف وهو ما يصف العورة أي يحددها من كونها صغيرةً أو كبيرةً أو يشف ويرى من لونها فهو مكروه، ويعيد في الوقت على المعتمد بل كراهة لبس الواصف في الصلاة وغيرها، وبين محترز ما يجزئ على جهة الكمال بقوله: "ويكره أن يصلي" الرجل "بثوبٍ ليس على أكتافه منه شيء" لخبر: "لا يصلين أحدكم بثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء" 1 أي مع وجود غيره"فإن فعل ذلك" المكروه "لم يعد صلاته" لا في الوقت ولا غيره لأن النهي للتنزيه"تنبيه": لم يعلم من كلام المصنف حكم ما إذا اقتصر المصلي على ستر أقل مما ذكر، كما أنه لم يبين هل الستر واجب شرطٍ أو لا؟ ونحن نبين ذلك تتميمًا للفائدة فنقول: اعلم أنه جرى خلاف في ستر العورة في الصلاة فقيل: واجب شرط مع الذكر والقدرةوقيل: واجب غير شرطٍ مع الذكر والقدرة أيضًا، وينبني عليهما لو صلى مكشوف العورة عامدًا قادرًا على الستر فعلى الشرطية يعيد الفرض لبطلانه، وعلى نفي الشرطية يعيد في الوقت مع القدرة والعلم، لكن يأثم مع القدرة والعلم دون العجز والنسيانقال خليل: هل ستر عورته بكثيفٍ وإن بإعادةٍ أو طلبٍ أو نجسٍ وحده كحريرٍ وهو مقدم شرطٍ إن ذكر وقدر وإن بخلوةٍ للصلاة خلاف، ومقابل الشرطية الوجوب الغير الشرطي كما
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه النسائي كتاب الصلة باب: صلاة الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء حديث 769 وهذا لفظه وهو مخرج في الصحيحين بنحوه.

قررنا لا السنة ولا الاستحباب وإن قيل بهما لضعفهما، والخلاف في العورة المغلظة وهي من الرجل السوأتان وهما من المقدم الذكر والأنثيان ومن المؤخر ما بين الأليتين، وأما عورته المخففة فهو من المؤخر الأليتان ومن المقدم العانة وما فوقها للسرة على بحث فيهوالمغلظة يعيد لكشفها عمدًا أو جهلًا أبدًا على الشرطية، والمخففة يعيد لكشفها في الوقت فقط ولو عمدًا للاتفاق على عدم شرطية سترها وإن وجب وكشف بعض كل منهما ككشف كل، ولا فرق بين صلاة الخلوة والجلوة لأن الستر للصلاة مطلوب في الحالتين، وما عدا المغلظة والمخففة من جسد الرجل يستحب ستره ويكره كشفه من غير إعادةٍ كما صرح به المصنف بقوله: فإن فعل ذلك لم يعد صلاته فمن صلى من الرجال مكشوف الفخذ لا إعادة عليه، هذا بيان عورة الرجل في الصلاة وأما المرأة فأشار المصنف إلى الكلام عليه بقوله "وأقل ما يجزئ المرأة" الحرة "من اللباس في الصلاة" في خلوةٍ أو جلوةٍ "الدرع الحصيف" بالحاء المهملة وهو الكثيف الذي لا يصف ولا يشف "السابغ" بالغين المعجمة بعد الموحدة أي "الذي يستر" جميع جسدها حتى "ظهور قدميها" حال وقوفها في الصلاة لأن بطونهما في هذه الحالة مستورات فإذا سجدت أو جلست فلا بد من سترهما لقول مالكٍ رضي الله عنه: لا يجوز للمرأة أن تبدي في الصلاة إلا وجهها وكفيها لأن جميع أجزائها في حالة الصلاة عورة ولو شعرهاولذلك قال بالعطف على الدرع "وخمار" بالخاء المكسورة "تتقنع به" أي تغطي به رأسها وشعرها وعنقها وعقصها، ولا يجوز لها أن تجعل الوقاية فوق رأسها وتترك ذقنها وعنقها مكشوفين، ويشترط في الخمار من الكثافة ما يشترط في الدرع"تنبيهات" الأول: علم من كلام المصنف أن جميع جسد المرأة عورة في الصلاة سوى الوجه والكفين لأنه لم ينص على سترهما إلا أنه لم يبين المغلظ والمخفف من جسدها ونحن نبينه فنقول: اعلم أن عدا الوجه والكفين من المرأة عورة في الصلاة يجب عليها ستره إلا أنها على قسمين: مغلظة ومخففة فالمغلظة ما عدا صدرها وأطرافها كبطنها وظهرها ولو المحاذي لصدرها كما يؤخذ من كلام ابن عرفة وتعيد صلاتها بكشف جزءٍ منها أبدًا عند العمد أو الجهل، وفي الوقت عند النسيان والعجز بناءً على أن سترها واجب على جهة الشرطية والمخففة نحو الصدر والأطرافقال خليل وأعادت لصدرها وأطرافها بوقتٍ ككشف أمةٍ فخذًا لا رجلًا، وقال مالك: إن بدا صدرها أو شعرها أو ظهر قدميها أعادت في الوقت وإلا أبدًا، وقيدنا المرأة بالحرة احترازًا عن

الأمة وإن بشائبةٍ فإن عورتها بالنسبة للصلاة مخالفة لعورة الحرة، إذ المغلظة منها الأليتان وما حاذاهما من القدم وتعيد لكشفها أبدًا، والمخففة منها الفخذان تعيد لكشفهما أو جزءٍ منهما في الوقت، وإن كان الرجل لا يعيد لكشف الفخذ لأنه من الأنثى أقبح، والحاصل أن عورة الأمة في الصلاة منحصرة فيما بين السرة والركبةالثاني: علم مما مر بيان عورة الرجل والمرأة بالنسبة للصلاة، وأنها من الرجل والأمة منحصرة فيما بين السرة والركبة، ومن المرأة الحرة جميع جسدها إلا الوجه والكفين، وقد بينا ما تعاد الصلاة لكشفه منها أبدًا أو في الوقت، وأما بالنسبة للرؤية فلم يبينه المصنف ونحن نبينه فنقول: اعلم أن عورة الرجل الواجب عليه سترها عن الناس خلا زوجته وأمته ما بين الركبة والسرة مع رجلٍ مثله أو امرأةٍ محرمٍ له، والسرة والركبة خارجتان، وهذا يقتضي أن الفخذ من الرجل عورة فيجب عليه ستره ويحرم عليه كشفه والنظر إليه وهو ما اختاره ابن القطان، كما يحرم تمكين الدلاك منه ولو على رأي من يقول بكراهة النظر إليه لأن المباشرة أشد من النظر، وسيأتي في المصنف: والفخذ عورة وليس كالعورة نفسهاقال ابن عمر: الفخذ عورة حقيقةً يجوز كشفها مع الخاصة ولا يجوز كشفها مع غيرها، وأما عورته مع المرأة الأجنبية ولو أمةً فهي ما عدا الوجه والأطراف، وأما عورة الأمة معه فهي ما بين السرة والركبة لأنه ينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة وهي ترى منه الوجه والأطراف، والفرق قوة داعيتها للرجل وخفيف داعيته لها، وأما عورة الحرة مع امرأةٍ مثلها فكعورة الرجل مع مثله ما بين السرة والركبة، إلا أن تكون المرأة كافرةً فعورتها معها جميع جسدها إلا وجهها وكفيها، إلا أن تكون تلك المرأة أمتها وإلا كانت عورتها معها كرجلٍ مع مثله ولو كانت كافرةً، والحاصل أن عورة الرجل مع مثله أو مع محرمه، وعورة الحرة المسلمة مع أنثى غير كافرةٍ أو كافرةٍ وهي أمتها، وعورة الأمة مع رجلٍ أو امرأةٍ ما بين السرة والركبة، وأن عورة الحرة مع الذكور المسلمين الأجانب جميع جسدها إلا وجهها وكفيها، ومثل الأجانب عبدها إذا كان غير وغدٍ سواء كان مسلمًا أو كافرًا فلا يرى منها الوجه والكفين، وأما مع الكافر غير عبدها فجميع جسدها حتى الوجه والكفين، وأما عورتها مع المحرم أو مع عبدها المسلم أو الكافر إذا كان وغدًا فجميع جسدها إلا الوجه والأطراف فيجب عليها سترها منهما فيريان منها الوجه والأطراف وترى منهما ما تراه من محرمهاقال شيخنا في شرحه: والعبد الوغد مع سيدته كالمحرم وأطرافها كرأسها وذراعيها وما فوق منحرها، فتلخص أن الذي يحل للمرأة النظر إليه من الرجل أكثر مما يحل له النظر إليه منها

سواء كانت محرمًا أو أجنبيةً لأنه يرى من الأجنبية الوجه والكفين وهي ترى منه الوجه والأطراف، ويرى من محرمه الوجه والأطراف وترى منه ما عدا ما بين السرة والركبة، وهي ترى منه الوجه والأطراف وهذا كله حيث لا شهرة وإلا حرم النظر ولو لأمه أو بنتهالثالث: قد قدمنا أن الستر بالكثيف في الصلاة إنما يطلب حيث القدرة ولو بالاستعارة وأولى بالشراء بالثمن المعتاد حيث لم يحتج له، ولا يشترط طهارته إلا عند القدرة وإلا استتر بالنجس وأولى الحرير فإن لم يجد شيئًا صلى عريانًا، فإن وجد ما يستتر به بعد صلاته عريانًا ندب له الإعادة في الوقت خلافًا ل خليلٍ، كما تندب الإعادة لمن صلى بحريرٍ أو نجسٍ ثم وجد ثوبًا غير حريرٍ أو وجد من صلى بالمتنجس ثوبًا طاهرًا أو ماءً يطهر به الثوب ويعيد الظهرين للاصفرار والعشاءين الليل كله والصبح للطلوع، وإنما أطلنا في ذلك لداعي الحاجة إليهولما ذكر ما يختلف فيه الرجل والمرأة ذكر ما يشتركان فيه بقوله: "و" يستحب للمرأة أن "تباشر بكفيها الأرض في السجود مثل الرجل" ويكره لهما سترهما ولو بالكمين من غير ضرورة حر أو بردٍ أو غيرهما كجراحاتٍ، وأما السجود عليهما فسنة على المشهور. قال خليل: وسن على أطراف قدميه وركبتيه كيديه على الأصح، فلو ترك السجود عليها صحت صلاته، وإن استحب إعادتها في الوقت كما قال سند لأن الصلاة تعاد في الوقت لترك السنة. قال خليل: وعن سنةٍ يعيد في الوقت، وأما السجود على الجبهة فهو فرضفإن قيل: يعارض المشهور حديث: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاءٍ" 1 فإنه يدل على وجوب السجود على اليدين لأنهما من جملة السبعة. فالجواب أن قوله في آخر الحديث: "ولا أكف الشعر والثياب" يدل على أن الأمر ليس للوجوب بدليل أنه لو ضم ثيابه أو شعره لا تبطل صلاته، فكذلك لو ترك السجود على اليدين، ولا يقال: من جملة السبعة الجبهة لو ترك السجود عليها تبطل صلاته، لأنا نقول: وجوب السجود على الجبهة بدليلٍ آخر وهو قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وحقيقة السجود وضع الجبهة على الأرضولما فرغ من الكلام على موجبات الوضوء والغسل، وعلى ما يحصلان به من الماء المطلق، وما يطلب تطهيره للصلاة من ثوبٍ ومكانٍ، شرع في بيان واجباتهما وصفاتهما مقدمًا الكلام على الوضوء فقال:
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الأذان باب: السجود على الأنف حديث 812 ومسلم كتاب الصلاة باب: أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب حديث 490 والنسائي حديث 1096, وابن ماجه حديث 883.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11