كتاب : الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
المؤلف : أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي

لم يناهز الحلم. قال اللخمي: والمناهز ككبير وهذا يقتضي أن ما دون المناهز للحلم لها نظر عورته، وله أن ينظر منها ما بين سرتها وركبتها وهو يصدق بابن عشر أو اثني عشر؛ لأنه غير مناهز، وجواز النظر لا ينافي حرمة التغسيل؛ لأن التغسيل فيه جس فهو أخص من النظر، فالحاصل أن ابن سبع أو ثمان تنظر المرأة عورته وتغسله، وقيدنا النساء بالأجانب للاحتراز عن المرأة المحرم، فإن لها تغسيل الرجل من محارمها إن لم يوجد رجل يغسلهقال خليل: ثم أقرب أوليائه ثم أجنبي ثم امرأة محرم، وهل تستره أو عورته تأويلان، ثم ييمم لمرفقيه، ثم شرع في تغسيل الذكر للأنثى بقوله: "ولا يغسل الرجال الصبية" التي بلغت حد الشهوة كبنت ست أو سبع لحرمة نظرهم لها بقصد الالتذاذ، وأما الرضيعة وما قاربها ممن لا تميل لها النفس فيجوزقال خليل بالعطف على الجنائز ورجل كرضيعة. "واختلف فيها" أي الصبية "إن كانت ممن لم تبلغ أن تشتهى" كبنت أربع أو خمس فقيل يحرم على الرجل تغسيلها وقيل يجوز "والأول" وهو حرمة تغسيلها "أحب إلينا" معاشر أصحاب الإمام كابن القاسم وأحب للوجوبوالحاصل أن الرضيعة ومن ألحق بها يجوز للرجل تغسيلها، والتي بلغت أن تشتهى يحرم عليه تغسيلها، والخلاف فيما فوق الرضيعة، ومذهب المدونة، المنع. قال ابن عمر: وظاهر كلام المصنف سواء كان الرجل محرما للصبية أم لا وهو قول بعض الشيوخ، وقيل: إنما هذا في الرجال الأجانب، وأما الرجال المحرم فله تغسيل المرأة من محارمه إن لم توجد امرأةقال خليل: والمرأة أقرب امرأة ثم أجنبية ثم محرم فوق ثوب يممت لكوعيها" خاتمة " لو ماتت امرأة وجنينها يضطرب في بطنها فإن أمكن إخراجه من محله فعل اتفاقا وإن لم يمكن فلا تدفن ما دام حيا، واختلف هل تبقر بطنها لإخراجه حيث رجي خروجه حيا؟ وهو قول سحنون وعزي لأشهب أيضا، وقيل: لا تبقر وهو قول ابن القاسم، ووقعت في زمنهما وسئلا عنها فأفتى أشهب بالبقر، وافتى ابن القاسم بعدمه، فعملوا فيها بكلام أشهب فخرج الجنين حيا وكبر وصار عالما يعلم العلم ويتبع قول أشهب ويدع قول ابن القاسم وهذا بخلاف من ابتلع مالا ولو مملوكا له فإن بطنه تبقر حيث كان بال له، قال خليل: وبقر عن مال كثر ولو بشاهد لا عن جنين، وتؤولت أيضا على البقر إن رجي وإن قدر على إخراجه من محل فعل، ومثل المال الجواهر النفيسة، ومن باب أولى الحيوان البهيمي يموت بلا ذكاة وولده يضطرب في بطنه فلا نزاع في جواز بقر بطن أمه حيث رجي خروجه حيا، وانظر كيف تبقر بطن

الميت لإخراج المال إنفاقا ويختلف في بقرها لإخراج الجنين مع عظمة النفس وشرفها على المال، ويمكن توجيه ذلك بما فيه ليونة بأن نفع المال محقق دون الجنين لاحتمال موته عند خروجه أو بعده بسرعة مع أذية الأم ببقر بطنها ويؤذي الميت ما يؤذي الحي. ولما فرغ من الكلام على ركني الإسلام وهما شهادتا الإسلام والصلاة شرع في الثالث بقوله:

"

باب في الصيام
"
وهو لغة الإمساك والترك والصمت ولوقوف الفرس، وشرعا الإمساك عن شهوتي البطن والفرج وما يقوم مقامهما، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية قبل الفجر أو معه في غير أيام الحيض والنفاس وأيام العيد، وحكمة مشروعيته مخالفة النفس وكسرها وتصفية مرآة العقل وتنبيه العبد على مواساة الجائع وبين حكمه بقوله: "وصوم شهر رمضان فريضة" على كل عاقل بالغ مطيق له غير مسافر سفر قصر، دل على فرضيته الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وأما السنة فحديث: "بني الإسلام على خمس"، إلى قوله: "وصوم رمضان" وأما الإجماع فقد انعقد على فرضيته، فمن جحده قتل كفرا إلا أن يتوب كسائر المرتدين، ومن اعترف بوجوبه وامتنع من فعله عنادا أو كسلا فنقل ابن ناجي أنه يقتل حدا على المشهور لكن بعد تأخيره إلى أن يبقى من الليل مقدار ما يوقع فيه النية، وفرض في السنة الثانية من الهجرة بعد ليلتين خلتا من شعبان، وحين فرض رمضان كان الشخص مخيرا بين الصوم والإطعام، ثم نسخ التخيير بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ووجب الصوم إلى الليل، وأبيح الطعام والشراب والجماع إلى صلاة العشاء أو نوم أحدهما فيحرم جميع ذلك، فاختار عمر رحمه الله تعالى زوجته وكذبها في أنها نامت ووطئها فنزل "علم الله" إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]وفي الذخيرة: اختلف في أول الصوم في الإسلام فقيل عاشوراء، وقيل ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان اسم للشهر على الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النيران وصفدت الشياطين" 1 كما أن الصحيح جواز استعمال رمضان غير
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، حديث "3277"، ومسلم كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان، حديث "1079" والنسائي، حديث "2097"، وأحمد "2/357" حديث "8669".

مضاف للشهر سواء كان هناك قرينة على الشهر أم لا؛ لأن القول بأنه من أسمائه تعالى لم يصح، وسمي هذا الشهر برمضان؛ لأنه يرمد الذنوب أي يحرقها، وقيل غير ذلك، ولما بين حكم صوم رمضان شرع في بيان ما يثبت به بقوله: "يصام" أي شهر رمضان "لرؤية الهلال" حيث كانت الرؤية من عدلين، ومثل العدلين الجماعة المستفيضة أي الكثيرة الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب فإن خبرهم يفيد العلم أو الظن القريب منه، ولا فرق في ذلك بين زمن الصحو والغيم، ولا بين المصر الصغير أو الكبير، ومثل العدلين الواحد الموثوق بخبره ولو عبدا أو امرأة إذا كان المحل لا يعتني فيه بأمر الهلال في حق أهل الرأي أو غيرهم، وأما إذا كان المحل يعتنى فيه بأمر الهلال فلا يثبت برؤية الواحد ولو في حق أهله ولو صدقوه، ولكن يجب عليه أن يرفع أمره إلى الحاكم، ولا يجوز له الفطر فإن أفطر كفر ولو متأولا؛ لأن تأويله بعيدقال خليل: وعلى عدل أو مرجو رفع رؤيته، والمختار وغيرهما فإن أفطروا فالقضاء والكفارة إلا بتأويل فتأويلان والراجح وجوب الكفارةفإن قيل: ما الفرق بين قبول قول المؤذن الواحد وعدم قبول قول الشاهد الواحد برؤية هلال رمضان في المحل الذي يعتنى فيه بأمر الهلال، مع أن كل واحد منهما مخبر بدخول وقت؟ فالجواب أن المؤذن يستند في إخباره إلى أمر يطلع عليه غيره ولو أخطأ لنبهه غيره، بخلاف الهلال ولا سيما جميع الناس حرص على رؤية الهلال فهم كالمعارضين لمدعي الرؤية، ويفهم من تعبير المصنف وغيره برؤية أنه لا يعول على قول أهل الميقات إنه موجود ولكن لا يرى؛ لأن الشارع إنما يعول على الرؤية لا على الوجود، خلافا لبعض الشافعية" تنبيه ": سمي الهلال هلالا لرفع الصوت عند رؤيته، ويسمى بذلك لثلاث ليال ثم بعد يسمى قمرا، وسمي الشهر شهرا لشهرته. "و" كما يجب الصوم لرؤية الهلال "يفطر لرؤيته" أي هلال شوال فالضمير للمقيد بدون قيده؛ لأن الأول هلال رمضان والثاني هلال شوال وسواء "كان" رمضان "ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما" لأن الشهر يأتي كاملا وناقصاقال ابن مسعود رحمه الله: "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر ما صمنا معه ثلاثين"، ثم ذكر مفهوم قوله يصام لرؤيته بقوله: "فإن غم الهلال" أي هلال رمضان بأن كثر الغيم مكانه ليلة الثلاثين مع رؤية هلال شعبان "فيعد" المكلف "ثلاثين يوما من غرة" أي أول الشهر "الذي قبله" وهو شعبان "ثم" بعد إتمام شعبان ثلاثين، يوما "يصوم" أي يثبت صوم رمضان ليلة الواحد والثلاثين التي ابتداؤها من غرة شعبان، ولو توالى الغيم شهورا ففي الطراز

عن مالك يكملون عدة الجميع حتى يظهر خلافه اتباعا لحديث: "الشهر تسعة وعشرون يوما فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" 1 ولو توالى ثلاثة على الكمال؛ لأن الأصل كمال الشهور، ولا التفات إلى حساب المنجمين ولا لقول أهل الميقات إنه لا يتوالى أكثر من أربعة أو خمسة على التمام ولا أكثر من ثلاثة على النقصان، وإلى هذا كله الإشارة بقول خليل: يثبت رمضان بكمال شعبان أو برؤية عدلين ولو بصحو بمصر، فإن لم ير بعد ثلاثين صحوا كذبا أو مستفيضة وعم إن نقل بهما عنهما لا بمنفرد إلا كأهله ومن لا اعتناء لهم بأمره، والضمير في كذبا للعدلين، ومثلهما ما زاد عليهما، ولم يبلغ عدد المستفيضة، وقوله: فإن لم ير أي بغير العدلين الذين ادعيا رؤيته وصامت الناس بشهادتهما ومع تكذيبهما صوم الناس برؤيتهما معتد به للضرورة، ونظر الأجهوري فيما إذا رأى شخص الهلال وصام برؤية نفسه ولم ير بعد الثلاثين صحوا فهل يكذب نفسه أو يعمل على اعتقاده؟ وأما الجماعة المستفيضة وهم الذين يفيد خبرهم العلم أو الظن القريب منه فلا يحكم بتكذيبهم لإسلام جميعهم ولو كان فيهم النساء والعبيد" تنبيهات " الأول : كما يثبت رمضان برؤية العدلين أو برؤية الجماعة المستفيضة أو بكمال شعبان ثلاثين يوما أو برؤية منفرد بمحل لا يعتنى فيه بأمر الهلال يثبت بنقل عدلين أو جماعة مستفيضة عن عدلين أو عن جماعة مستفيضة، لكن إن كان عن رؤية العدلين فلا بد أن ينقل عن كل واحد اثنان، وإن كان عن حكم الحاكم أو عن الثبوت عند الحاكم أو عن الجماعة المستفيضة فيكتفى ولو بواحد ولو في محل يعتنى فيه بأمر الهلال، وكذا يثبت برؤية المنائر موقودة حيث كانت لا توقد إلا بعد الثبوت الشرعي كما عندنا بمصر، ومثلها سماع المدافع فإنها لا تضرب عند الغروب إلا لثبوت الشهرالثاني : وجوب الصوم عندنا لا يتوقف على حكم الحاكم، فلو حكم مخالف بثبوته برؤية واحد في محل يعتني أهله برؤية الهلال، ففي لزومه للمالكي وعدم لزومه تردد، ولو أخبر الحاكم شخصا بما ثبت عنده فإن كان موافقا لمن أخبره في المذهب فإنه يلزمه الصوم، وأما لو كان مخالفا في المذهب لمن أخبره فإنه يسأله، فإن وجد الثبوت بشاهدين لزمه الصوم وبواحد
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم حديث "1907"، ومسلم، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤيته، حديث "1080"، وا[و داود حديث "2320" والترمذي، حديث "690"، والنسائي، حديث "2132"، وابن ماجه، حديث "2061".

جرى الخلاف المتقدم، ولو ادعى السلطان أو القاضي الرؤية فإنه يكون من رؤية الواحد لا يعول عليه حيث كان المحل يعتنى فيه برؤية الهلال، ولو صدقناه لا يلزمنا الصوم خلافا لبعض المذاهبالثالث : لو رأى شخص النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالصوم لا يلزم الرائي ولا غيره إجماعا لاختلال ضبط النائم لا للشك في رؤيته صلى الله عليه وسلم، ألا ترى أنه لو أخبره بطلاق زوجته لم تحرم عليه إجماعا. "وكذلك" أي وكما يجب الصوم لرؤية هلال رمضان أو لإتمام عدة شعبان ثلاثين يوما يفعل "في الفطر" فيجب برؤية عدلين أو جماعة مستفيضة لهلال شوال أو لإتمام ثلاثين يوما من غرة هلال رمضان لا برؤية منفردقال خليل: ولا يفطر منفرد بشوال ولو أمن الظهور إلا بمبيح كمرض أو سفر، ولكن يفطر بالنية لحرمة الإمساك بالنية يوم العيد، وظاهر كلام المصنف كخليل أنه لا يثبت هلال شوال برؤية الواحد، ولا في محل لا يعتنى فيه بأمر الهلال وهو كذلك حتى عند من يقول بثبوت رمضان بعدل واحد وهو ظاهرثم شرع في الكلام على بعض شروط الصوم بقوله: "ويبيت الصيام" أي ينوي الصوم وجوبا "في أوله" بعد ثبوته وغروب شمس آخر يوم من شعبانقال خليل: وصحته مطلقا بنية مبيتة أو مع الفجر، وكفت نية لما يجب تتابعه لا مسرود ويوم معين، ورؤية على الاكتفاء فيهما بنية، وصفتها أن ينوي التقرب إلى الله تعالى بأداء ما افترض عليه من استغراق النهار في كل أيامه بالإمساك عما يفطر، ولا يلزم تعيين سنة رمضان كاليوم للصلاة، فالمراد بالتبييت نية الصوم ليلا الذي أوله الغروب وآخره طلوع الفجر، والدليل على وجوب النية قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" 1 والدليل على وجوب التبييت قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم" 2 إنما صحت مع الفجر؛ لأن الأصل في النية مقارنتها لأول العبادة، وإنما اغتفر تقدمها في الصوم لمشقة تحري الفجر. "وليس عليه البيات" كل ليلة "في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، حديث"1"، ومسلم كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات، حديث "1907" وأبو داود، حديث "2201"، والترمذي، حديث "1647"، والنسائي، حديث "75"، وابن ماجه، حديث "4199"2 صحيح: أخرجع الترمذي بمعناه، كتاب الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، حديث "730"، والنسائي، حديث "2336"، وابن ماجه، حديث "1700"، وانظر:، حديث "7516".

بقيته" وكذلك كل صوم يجب تتابعه يكفي النية الواحدةقال خليل: وكفت نية لما يجب تتابعه لا مسرود ويوم معين، والمنفي إنما هو وجوب التبييت كل ليلة، فلا ينافي أنه يستحب تبييتها كل ليلة لمراعاة الخلاف، فإن الشافعي وأبا حنيفة يقولان بوجوب النية كل ليلةوروي أيضا عن مالك وإن كان خلاف مشهور مذهبه وسبب الخلاف هل صوم رمضان عبادة واحدة أو كل يوم عبادة مستقلة، فالمريض والمسافر إن تماديا على الصوم يجب عليهما النية في كل ليلة لعدم وجوب التتابع في حقهما وعند صحة المريض، وقدوم المسافر يكفيهما نية لما بقي كالحائض تطهر والصبي يبلغ في أثناء الصوم والكافر يسلم في أثناء الشهر. "و" يجب على كل من صام فرضا أو نفلا أن "يتم الصيام إلى" تحقق دخول "الليل" لقوله تعالى: لقوله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم" 1 أي انقضى صومهوقوله: إلى تحقق دخول الليل إشارة إلى خروج الغاية، وإلى حرمة استعمال المفطر عند الغروب، ويجب عليه القضاء من غير كفارة إلا أن يتبين أكله بعد الغروب فلا قضاء، ويفهم من قوله: إلى الليل أنه يكره له الوصال لخبر: "لا تواصلوا" وإن أبيح له صلى الله عليه وسلم الوصال؛ لأنه من خصوصياته، واعلم أن شروط الصوم ثلاثة أقسام: أحدها شرط في الوجوب فقط وهو اثنان: البلوغ والقدرة على الصوموثانيها شرط في الصحة فقط وهو أربع: الإسلام والكف عن المفطرات والنية المبيتة والزمن القابل للصوم فيما ليس له زمن معين. ثالثها في الوجوب والصحة وهو ثلاثة أشياء: العقل والنقاء من دم الحيض والنفاس ودخول وقت الصوم فيما له وقت معين كرمضانثم شرع في بيان ما يطلب من الصائم أو مريد الصوم بقوله: "ومن السنة تعجيل الفطر" بعد تحقق الغروب بغروب جميع قرص الشمس لمن ينظره أو دخول الظلمة، وغلبة الظن بالغروب لمن لم ينظر قرص الشمس، كمحبوس بحفرة تحت الأرض ولا مخبر له، وبعد ذلك فلا ينبغي له تأخير الفطر كما يفعله بعض أهل التشديد، وأما من يؤخره لعارض أو اختيارا مع اعتقاد أن
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب متى يحل فطر الصائم، حديث "1954" ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، حديث "1100"، والترمذي، حديث "698".

الصوم قد انتهى بالغروب فلا كراهة في فعله، ويستحب فطره على شيء حلو ففي الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات، فإن لم يجد رطبات فثمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء"1 والحسوات بالسين المهملة، ومن كان بمكة فالمستحب في حقه الفطر على ماء زمزم لبركته، فإن جمع بينه وبين التمر فحسن، وإنما ندب الفطر على التمر وما في معناه من الحلويات؛ لأنه يرد ما زاغ من البصر بالصوم، ويقول ندبا عند الفطر: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، أو يقول: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله، فإن للصائم دعوة مستجابة قيل هي بين رفع اللقمة ووضعها في فيه"و" من السنة أيضا "تأخير السحور" بضم السين المهملة للفعل، وبفتحها المأكول في السحر، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" وورد أيضا: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يفطر على رطبات قبل الصلاة" وما ذكره المصنف من سنة تعجيل الفطر وتأخير السحور مثله في القرطية والجواهر لكن في تعجيل الفطر، والذي في خليل أنهما مستحبان ولفظه: وندب تعجيل فطر وتأخير سحور. قال بعض شراحه، وهو المذهب: وقدر التأخير كما في الحديث أن يبقى بعد الفراغ من الأكل والشرب إلى الفجر قدر ما يقرأ القارئ خمسين آية ولعل المراد القارئ المتمهل في قراءته" تنبيهان " الأول : تكلم المصنف على حكم تأخير السحور ولم يذكر حكم فعله، وهذا الندب لخبر: "تسحروا فإن السحور بركة" 2؛ لأنه يقوي على الصيام وينشط"الثاني : فهم من ندب أو سنة تعجيل الفطر تقديمه على صلاة المغرب وهو كذلك حيث وقع على نحو رطبات من كل ما خف، وإلا قدمت الصلاة؛ لأن وقت المغرب مضيق، هذا هو المأخوذ من فعله صلى الله عليه وسلم، خلافا للشافعي وابن حبيب من أئمتنا في تقديم الطعام، إلا أن يحمل ما قالاه على الفطر بغير الفطر على الرطب أو الماء فلا يخالف ما قلناه، ولما كان يتوهم من طلب تأخير السحور جواز فعله عند الشك في الوقت قال: "وإن شك" مريد السحور "في الفجر فلا يأكل" ولا يشرب ولا يفعل شيئا من المفطرات، ومثل الشك في الفجر الشك في الغروب،
ـــــــ
1 حسن: أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب ما يفطر عليه-، حديث "2356"، والترمذي، حديث "696"، وأحمد "3/164" حديث "12698" وحسنه اللباني "الصحيحة 6/821"2 صحيح: اخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب، حديث "1923" ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره، حديث "1095" والترمذي، حديث "708"، والنسائي، حديث "2146".

والنهي للتحريم فيهما على المشهور في الأول واتفاقا في الثاني، ووجه الفرق أن الأصل بقاء الليل وفي الثاني بقاء النهار، وأيضا الله تعالى جعل غاية الصوم الليل لا الشك فيه" تنبيهات " الأول : لم يبين المصنف ما يترتب على من أكل مع الشك وهو القضاء، إلا أن يتبين أن الأكل قبل الفجر أو بعد الغروب، ولا كفارة على واحد منهما؛ لأن الكفارة إنما تلزم المنتهك للحرمة، وممن يجب عليه القضاء فقط من أكل على يقين ثم طرأ له الشك في الفجر أو الغروب واستمر على شكهالثاني : لو طلع الفجر وهو متلبس بالفطر فالواجب عليه إلقاء ما في فمه ونزع فرجه ولا قضاء عليه، فلو مكث قليلا متعمدا لزمه الكفارةقال خليل: ولا قضاء في نزع مأكول أو مشروب طلوع الفجرالثالث : لو غره شخص وقال له كل مثلا فإن الفجر لم يطلع فأكل وتبين أنه طلع وجب القضاء على من أكل من غير كفارة، وفي لزومها للغار قولان، وأما لو أكره شخص شخصا على الأكل أو الشرب للزم المكره بالفتح القضاء ويلزم المكره الكفارة، بخلاف من أكره غيره على جماع امرأة لا تلزمه كفارة، والفرق أن الانتشار معه نوع اختيار، وإنما لم تلزمه الكفارة؛ لأنه لم يتعمد، فالحاصل أن من أكره غيره على الجماع لا يلزمه كفارة ولا يلزم المكره بالفتح أيضا، لأن لزوم الكفارة مشروط بالتعمد"ولا يصام يوم الشك" أي يكره إذا صامه "ليحتاط" أي يحتسب "به من رمضان" وما ذكرناه من الكراهة هو ظاهر المدونة خلافا لابن عبد السلام في جزمه بالتحريم لخبر: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"1 والمراد بيوم الشك صبيحة ليلة الثلاثين حيث تكون السماء مصحية ويشيع على ألسنة الناس الذين لا تقبل شهادتهم أن الناس قد رأوا الهلال لا صبيحة الغيم، ومال إلى هذا ابن عبد السلام من أئمتنا قائلا: وهو الأظهر عندي لأننا ليلة الغيم مأمورون بإكمال العدة ثلاثين يوما لخبر: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان أو فاقدروا له" 2 فإن هذا يدل على أن صبيحة ليلة الثلاثين من شعبان عملا بالاستصحاب، ولذلك قال بعض
ـــــــ
1 أخرجه الحاكم في المستدرك "1/585" حديث "1542" وصححه البيهقي في الكبرى "4/208" حديث "7741" من قول عمار وله حكم الرفع2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الصوم باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان ومن رأى كله، حديث "1900"، ومسلم، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، حديث "1080".

الشيوخ: إن تفسير يوم الشك بما عند الشافعي إلى النفس أميل، ومفهوم قول المصنف ليحتاط به أن الإمساك فيه ليتحقق لا ينهى عنه بل مندوبقال خليل: وندب إمساك ليتحقق. "ومن صامه كذلك" أي للاحتياط "لم يجزه" لعدم جزم النية لعدم ثبوت الشهر وقت الشروع في الصوم. "وإن وافقه من رمضان" خلافا لبعض الأئمة، وهذا بخلاف من التبست عليه الشهور فتحرى شهرا وصامه ثم تبين أنه رمضان أنه يجزئه على المعتمد كما قال سحنون، وإن كان خلاف قول شيخه ابن القاسم، ووجه المعتمد أن المتحري مأمور بالصوم وجازم بنيته، بخلاف الصائم احتياطا فإنه بمنزلة من سلم شاكا في إتمام صلاته فإنها باطلة ولو تبين له الكمال، وكذلك من شك في دخول الوقت وصلى في حال شكه فإن صلاته تبطل ولو تبين وقوعها فيه، ولما كان محل النهي عن صوم يوم الشك مختصا بالاحتياط قال "ولمن شاء صومه تطوعا أن يفعل" أي لا يكره له ذلكقال خليل: وصيم عادة وتطوعا وقضاء ولنذر صادف لا احتياطا، بل قال بعض شراحه: لا مفهوم لقوله صادف لما عرفت من الكراهة حيث صامه احتياطا"ومن أصبح" أي دخل في الصباح يوم الشك "فلم يأكل ولم يشرب ثم تبين له" في أثناء النهار "أن ذلك اليوم من رمضان لم يجزه" لعدم تبييته النية الصحيحة. "وليمسك" وجوبا "عن الأكل" والشرب وسائر المفطرات "في بقيته و" يجب عليه أن "يقضيه" لفساد صومه والتمادي فيه لحرمة الشهر، وقول المصنف: لم يأكل ولم يشرب لا مفهوم له بل ولو أصبح مفطرا، ولذا قال العلامة خليل: وإن ثبت نهارا أمسك وإلا كفر إن انتهك بأن أفطر عالما بوجوب الإمساك وحرمة الفطر، ومثله المفطر نسيانا أو مكرها في لزوم الكفارة إن انتهك كل بأن تمادى على الفطر عالما بوجوب الإمساك بعد زوال النسيان والإكراه، بخلاف من جاز له الفطر من غير إكراه مع العلم برمضان كالمضطر والحائض والنفساء فلا كفارة على واحد بأكله أو شربه لعدم وجوب الإمساك عليه، بخلاف المفطر لإكراه أو نسيان أو للشك في أن اليوم من رمضان قال التادلي: عبادتان يلزم التمادي فيهما بعد فسادهما كما يجب في صحيحيهما وهما: الصوم والحج، بخلاف الصلاة فيجب قطع الفاسد منها ويحرم التمادي عليها، ووجه الفرق أن الصوم والحج فسادهما في الغالب بشهوة البطن والفرج وشدة ميل النفس، فأمر الشخص بالتمادي فيهما زجرا للنفس وإن وجب قضاؤهما بعد ذلك، ولما كان وجوب الإمساك على من أكل نهارا في رمضان مختصا بمن أفطر نسيانا أو مكرها لا من أبيح له الفطر مع العلم برمضان قال: "وإذا

قدم المسافر" من سفره الذي يجوز له فيه الفطر حالة كونه "مفطرا أو طهرت الحائض" أو النفساء "نهارا" ظرف لقدم وطهرت "فلهما" أي يجوز لهما التمادي على نحو "الأكل في بقية يومهما" وكالمفطر لضرورة جوع أو عطش، والمرضع يموت ولدها نهارا، والمريض يقوى، والصبي يبلغ ولم يكن بيت الصوم أو بيته وأفطر عمدا قبل بلوغه فلا يجب الإمساك على واحد من هؤلاء بقية يومه بخلاف الصبي يبيت الصوم ويستمر صائما حتى بلغ أو أفطر ناسيا وأمسك فإنه يجب عليه الإمساك في هاتين الصورتين قاله الأجهوري، والضابط في ذلك أن كل من جاز له الفطر لعذر غير إكراه مع العلم برمضان، وأخرى من ذي العذر المجنون والمغمى عليه لا يجب عليه الإمساك بعد زوال عذره ولا يستحب، بخلاف من يباح له لا مع العلم كالناسي أو لعذر إكراه وألحق بهما الشاك في اليوم كما قدمنا، وضابط العلامة خليل مخدوش منطوقا بالمكره ومفهوما بالمغمى عليه والمجنون لما قدمته لك من حكمهما" تنبيهان " الأول : مما يتفرع على جواز استمرار الفطر للمسافر ومن معه جواز وطء كل زوجته التي طهرت من حيضها أو نفاسها يوم قدومه ويجوز لها تمكينه، كما يجوز له وطء الصغيرة والمجنونة والكتابية التي لم تكن صائمة أو صائمة حيث لا يفسد الوطء صومها في دينها؛ لأنه لا يجوز له إكراهها على ما لا يحل لها في دينها، كما لا يجوز له منعها من التوجه إلى نحو الكنيسة أو من شرب خمر أو أكل خنزيرالثاني : وقع الخلاف في الكافر يسلم في نهار رمضان، فإن قلنا بعدم خطابه لم يندب له الإمساك كالصبي يحتلم نهارا، وإن قلنا بخطابه ندب له الإمساك بقية يومه ليظهر عليه علامة الإسلام بسرعة، وإنما لم يجب عليه الإمساك ترغيبا له في الإسلام، ويستحب له قضاء يوم الإسلام دون ما قبله، ولما كانت التطوعات تصير عندنا واجبة الإتمام بالشروع فيها ويحرم تعمد فسادها قال: "ومن أفطر" من المكلفين "في تطوعه عامدا" عمدا حراما فعليه القضاء كسائر التطوعات التي يتعمد إفسادهاقال خليل: وقضاء في النفل بالعمد الحرام ولو بطلاق بت إلا لوجه كوالد وشيخ وإن لم يحلفا فإنهما إن أمراه بالفطر شفقة عليه قال مالك: أحب أن يطيعهما ويفطر وإن لم يحلفا ولا حرمة ولا قضاء، ومثل الوالدين السيد مع عبده، والمراد الوالدان دنية لا الجد ولا الجدة، وأما الفطر لنحو حيض أو نفاس أو جوع أو مرض فلا يلزم به قضاء؛ لأنه عمد غير حرام. "أو سافر" عطف على أفطر "فيه" أي في زمن تطوعه بالصوم "فأفطر" فيه عمدا لا لعذر بل "لسفر

فعليه القضاء" لحرمة فطر المتطوع اختيارا؛ لأن جواز الفطر في السفر مختص برمضان لا في غيره من نحو كفارة أو تطوع لأنه رخصة والرخص لا يقاس عليها، فقوله: فعليه راجع لمن أفطر في تطوعه عامدا ولمن أفطر في سفره، فحذفه من الأول لدلالة الثاني؛ لأنه جواب من الشرطية،
فإن قيل: يشكل على كلام المصنف كخليل حديث: "الصائم أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" 1 فإنه يقتضي جواز الفطر للمتطوع وعدم لزوم القضاء فما الجواب؟ والجواب: أن في سند الحديث مقالا فلا يحتج به سلمنا صحته فلا دليل فيه لما فيه من المجاز، والمجاز إما في أوله وإما في آخره، وبيانه أن المراد بالصائم فيه إما مريد الصوم فيكون قوله: إن شاء صام مستعملا في حقيقته، وإما أن يكون المراد بالصائم المتلبس بالصوم فيكون الصائم مستعملا في حقيقته ويكون قوله: إن شاء صام معناه استمر على صومه فيكون مجازا، وارتكاب المجاز في أوله يعينه أدلة كثيرة منها: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] هكذا أجاب الناصر اللقاني، وربما يعين فيه حديث أم هانئ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بشراب فشرب منه ثم ناولها فشربت فقالت: يا رسول الله أنا كنت صائمة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" 2 فلعل الصواب الجواب الأول للآيات السابقة، ولما في الموطإ وغيره: "أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما أصبحتا متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه، فقال لهما: "اقضيا مكانه يوما آخر" 3 فلو كان الفطر مباحا لم يلزمهما القضاء، ولأن العمل على ما قلنا، ألا ترى لقول ابن عمر ذلك يلعب بصيامه؟ وأيضا جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما فليصل" أي فليدع إلى أهل الطعام، وورد صريحا "فإن كان صائما فلا يأكل" وملخص الجواب عن هذا الحديث أنه لا عمل عليه مع هذه الأدلةثم صرح بمفهوم عامدا بقوله: "وإن أفطر" في تطوعه حال كونه "ساهيا" أو مكرها "فلا قضاء عليه" لعدم تعمده ولكن يجب الإمساك بقية يومه، واختلف في ندب قضائه على قولين،
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع، حديث "732"، وأحمد "6/341" حديث "26937" وانظر: صحيح الجامع 3854"2 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع، حديث "732"، وأحمد "6/341" حديث "26937" وانظر: صحيح الجامع 3854"3 أخرجه مالك في الموطأ "1/306" حديث "676".

ومثل الناسي المفطر لضرورة كجوع أو عطش أو لوجه كأمر شيخه أو أحد أبويه، والمراد شيخه في العلم أو الطريقة، ولما كان عدم لزوم القضاء في الفطر لا على وجه العمد مختصا بالتطوع قال: "بخلاف" صوم "الفريضة" فإنه يجب قضاؤه ولو بفطر النسيان، وسواء رمضان أو غيره من نحو كفارة أو نذر إلا المعين يفوت صومه لمرض أو حيض أو نسيان على ما قال خليل فلا يجب قضاؤه، ولما وقع الخلاف بين الأئمة في حكم الاستياك في حق الصائم، أشار المصنف لبيان حكمه في المذهب بقوله: "ولا بأس بالسواك" أي الاستياك بعود ونحوه مما لا يتحلل منه شيء "للصائم في جميع نهاره"قال خليل: وجاز سواك كل النهار، فلا بأس في كلام المصنف بمعنى الإذن، فلا ينافي أنه يتأكد ندبه في وقت الصلاة ووقت الوضوء ولكن قبل الزوال، وأما بعده فالجواز من غير ندب كما نبه عليه الأجهوري في شرح خليل، وقد يجب إذا توقف زوال ما يبيح التخلف عن الجمعة عليه من نحو رائحة بصل أو ثوم، وقد يحرم كالاستياك بالجوزاء ولو في حق الصائم بغير رمضان بل ولو لغير صائم، لتعليل حرمة الاستياك بها بأنها من زينة النساء؛ لأنها تحمر الفم وحرره وقد يكره كالاستياك بالعود الأخضر الذي يتحلل منه شيء، وإنما نص المصنف كخليل على جواز الاستياك في جميع النهار للرد على الشافعي وأحمد في كراهته عندهما بعد الزوال لما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" 1 ودليلنا ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أي لأوجبته عليهم، وهذا يعم الصائم وغيره، وفي السنن الأربع عن عامر بن ربيعة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ولا أعد يستاك وهو صائم"2وعن عمر رضي الله عنه: "كان يستاك لكل صلاة وهو صائم"3 ولا دلالة للإمامين ومن تبعهما فيما تمسكوا به؛ لأن الخلوف لا ينقطع ما دامت المعدة موجودةفإن قيل: الخلوف أثر عبادة فلا يزال، فالجواب أن الأفضل في التطوعات الإخفاء مخافة
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم، حديث "1894" ومسلم، كتاب الصيام، حديث "1151"، والنسائي، حديث "2211"، وأحمد "2/232" حديث "7174"2 ضعيف: أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب السواك للصائم، حديث "2364"، والترمذي، حديث "725"، وضعفه الألباني في ضعيف أبي دواد "115/2364"3 لم أقف عليه.

الرياء، ولا يعترض على هذا بإبقاء دم الشهيد؛ لأن الصائم مناج لربه، فالمطلوب منه تطيب رائحة فمه بخلاف الشهيد، وأيضا للشارع غرض في بقاء دم الشهيد ليشهد له على الخصم يوم القيامة بفعله، ولا يقال: كيف تكون الرائحة المنتنة حسا أطيب عند الله من ريح المسك مع علمه تعالى بأنها منتنة؟ لأنا نقول: هذا من باب تشبيه الحسن الشرعي بالعرفي، أي أن هذا المنتن عندنا في الحسن أفضل وأحسن في الشرع من ريح المسك عند الطبع لصبر الصائم عليه والصبر عمل صالح، وحاصل الجواب أنه ليس المراد بطيبه استلذاذه، وإنما المراد بطيبه عند الله رضاه به وثناؤه على الصائم بسببه" تنبيهان " الأول : وقع خلاف بين ابن الصلاح وابن عبد السلام في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك هل في الدنيا أو في الآخرة؟ ذهب ابن عبد السلام إلى أنه في الآخرة واستدل برواية مسلم حيث قال: "أطيب عند الله يوم القيامة" وقال ابن الصلاح: إن ذلك في الدنيا، وأقول: لا مانع من كونه أطيب عند الله في الدنيا والآخرة بل الآثار دالة على ذلكالثاني: الخلوف ريح متغير كريه الشم يحدث من خلو المعدة وهو بضم الخاء المعجمة وحكى عياض فتحها وهو خطأ "ولا تكره له" أي للصائم "الحجامة" ولا الفصادة "إلا خيفة التغرير" لأدائها إلى الفطر، وربما أشعر قوله خيفة التغرير بأن هذا في حق المريض، وهو كذلكقال خليل: يكره ذوق ملح وعلك ثم يمجه ومداواة حفر زمنه إلا لخوف ضرر ونذر يوم مكرر ومقدمة جماع كقبلة وفكر إن علمت السلامة وإلا حرمت وحجامة مريض فقط، وأما الصحيح فلا تكره له إلا إذا شك في السلامة وعدمها، والذي حرره الأجهوري في شرح خليل أن الحجامة والفصادة يحرمان عند علم عدم السلامة حتى على الصحيح، ويكرهان عند الشك في السلامة ولو للصحيح، وأما عند اعتقاد السلامة فالكراهة للمريض وعدمها للصحيح وجهه أن المريض لا يتأتى منه الجزم بالسلامة، والمراد بالمريض من قام به المرض ومثله ضعيف البنية. قال ابن عرفة: وضعف بنية الصحيح وشيخوخته كالمريض" تنبيه " إنما نص المصنف على خصوص الحجامة للرد على أبي حنيفة وجماعة في قولهم:

إن الحجامة تفطر بنفسها أخذا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحتجم" 1 وأجاب الجمهور بأنه منسوخ بحديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم"، أو "أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على فطرهما بأكل أو شرب"2 والحديث المذكور رواه أبو داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكموأما قول الفاكهاني نقلا عن ابن معين في الجواب أن حديث "أفطر الحاجم والمحتجم" 3 لم يصح غير مسلم مع ذكر هؤلاء الجماعة له، إلا أن يحمل قوله لم يصح على معنى لم يحكم أحد بتصحيحه، فلا ينافي أنهم ذكروه وإن كان ضعيفا أو منسوخا كما تقدم "ومن ذرعه" بالذال المعجمة أي خرج منه غلبة "القيء في" صيام "رمضان" وأولى غيره "فلا قضاء عليه" لا وجوبا ولا ندبا ولو خرج متغيرا، لكن بشرط أن لا يرجع منه شيء إلى حلقه، فإن رجع منه شيء في حلقه كفر إن تعمد، وإلا قضى ولو مع الشك في الوصولقال في الذخيرة: والقلس كالقيء وهو ما يخرج من فم المعدة عند امتلائها فإن بلغ إلى فيه وأمكنه طرحه ولم يفعل فقال مالك لا قضاء عليه، وكذلك البلغم يخرج من الصدر إلى طرف اللسان ويبلعه لا قضاء عليه ولو تمكن من طرحه، ومثله النخامة ولو وصلت إلى طرف اللسان وتعمد ابتلاعها لا قضاء عليه في شيء من ذلك، خلافا لخليل في إيجابه القضاء على من تمكن من طرحه، ومما لا قضاء فيه بالأولى الريق يتعمد جمعه في فيه ويبلعه على أحد قولين وأظنه الراجح، ومما لا قضاء فيه ما غلب من ذباب أو دقيق أو جبس لصانعه أو بائعه كغبار الطريق يغلب الصائم، ومما لا قضاء فيه الحقنة من الإحليل وهو غير الذكر ولو بمائع، وأما من الدبر أو فرج المرأة ففيها القضاء، ومما لا قضاء فيه أيضا الجائفة حيث لم تصل إلى محل الطعام أو الشراب، وكذا المني أو المذي المستنكحان، ولا في نزع المأكول أو المشروب طلوع الفجر أي في الزمن الذي يتصل به الفجر، ثم ذكر مفهوم قوله ذرعه بقوله: "وإن استقاء" بالمد أي استدعى خروج القيء "فقاء" أي خرج منه القيء "فعليه القضاء" بمجرد خروجه وظاهره ولو
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، حديث "2367" والترمذي، حديث "774"، وابن ماجه، حديث "1679"، وأحمد "2/364"، حديث "8753" وانظر: "صحيح الجامع 1136"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، حديث "1938" وأبو داود، حديث "2372"، والترمذي، حديث "775"، وابن ماجه، حديث "1682"3 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، حديث "2367"، والترمذي، حديث "774" وابن ماجه، حديث "1679"، وأحمد "2/364"، حديث "8753" وانظر: "صحيح الجامع 1136".

تيقن عدم رجوع شيء منه إلى حلقه، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء عمدا فعليه القضاء" 1 رواه أصحاب السنن والحاكمقال الترمذي: حسن غريب وضعفه البغوي. ثم شرع في أسباب تبيح الفطر بقوله: "وإذا خافت الحامل" على نفسها أو "على ما في بطنها أفطرت" وجوبا ولو في صيام رمضان حيث خافت هلاكا أو شديد أذى وندبا فيما دون ذلك. "ولم تطعم" على المشهور وإنما تقضي فقط في نظر رمضان وإنما لم تطعم؛ لأنها مريضة، وأشار إلى مقابل المشهور بقوله: "وقد قيل تطعم" ومثل الحامل المريضقال خليل عطفا على الجائز: ولمرض خاف زيادته أو تماديه ووجب إن خاف هلاكا أو شديد أذى كحامل ومرضع لم يمكنهما استئجار أو غيره خافتا على ولديهما، ويدخل في ذلك ما إذا شمت الحامل شيئا وتخشى إن لم تأكل منه سريعا ألقت ما في بطنها، وأما الصحيح يلحقه المشقة بدوام صومه فلا يجوز له الفطر إلا لخوف الموت أو حدوث المرض على أحد قولين" تنبيهان " الأول : الخوف المجوز للفطر هو المستند صاحبه إلى قول طبيب ثقة حاذق، أو لتجربة من نفسه أو لإخبار ممن هو موافق له في المزاج كما قالوه في التيممالثاني : استعمل المصنف لفظة ما في قوله: ما في بطنها إما على القليل أو نظرا إلى الحال؛ لأن الجنين في حكم غير العاقل. "و" يؤذن "للمرضع إن خافت على ولدها" المشقة الشديدة بإدامة الصوم "ولم تجد من تستأجره له أو" وجدته ولكن "لم يقبل غيرها" أو قبل لكن لم تجد أجرة لمن لم ترض بدونها "أن تفطر" وجوبا إن خافت عليه الهلاك أو شديدة الأذى، وندبا فيما دون ذلك ولذلك قلنا يؤذن ليشمل"و" يجب عليها أن "تطعم" بعد أكل يوم بخلاف الحامل، والفرق أن الحامل ملحقة بالمريض وهو لا إطعام عليه، ومثل الأم في ذلك المستأجرة للرضاع حيث احتاجت للأجرة، أو لكون الولد لا يقبل غيرها كما قاله خليل في توضيحه وبعض شراح هذا الكتاب، ونظيرها الحصاد الذي يخرج للحصاد بأجرته المحتاج إليها فإنه يجوز له الخروج إليه ولو أدى إلى فطره حيث يضطر إلى الأجرة لكن بشرط تبييت الصوم، ولا يجوز له الفطر بالفعل إلا عند حصول المشقة فليس كالمسافر، ومثله صاحب الزرع حيث لا يمكنه التخلف
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب الصائم يستقيء عامداً، حديث "2380" والترمذي، حديث "720"، وابن ماجه، حديث "1676"، وأحمد "2/498"، حديث "10468" وانظر: "صحيح الجامع 6243".

عن الخروج للخوف على زرعه فافهم" تنبيه " إذا استئجرت المرضع فإن الأجرة تكون من مال الولد حيث كان له مال لأنها كالنفقة، والأب لا يلزمه الإنفاق عليه مع وجود مال له، وأما إن لم يكن له مال فمن مال الأب، فإن لم يكن للأب مال فمن مال الأم، هكذا اقتصر عليه ابن عرفة فيكون مقيدا لترجيح القول بتقديم مال الأب على مال الأم، والخلاف في مال الأم التي يلزمها الرضاع وإلا اتفق على تقديم مال الأب على مال الأم، وكل من قيل بأنه يطعم فالإطعام في حقه واجب إلا في حق الشيخ الكبير وأشار إليه بقوله: "ويستحب للشيخ الكبير إذا أفطر أن يطعم" مدا عن كل يوم، وإنما يكتفى بالإمام إذا كان لا يستطيع الصوم جملة، وأما لو كان يقدر عليه ولو في غير رمضان لوجب عليه القضاء ولا إطعام عليه، ومثل الشيخ الكبير من لا يستطيع ترك الماء لشدة العطش في جميع الزمنقال خليل عاطفا على المندوب: وفدية لهرم وعطش، وقول المدونة ولا فدية على من لم يستطع الصوم، ومراده عدم الوجوب فلا ينافي الندب كما قال المصنف، والحاصل أن كل من جاز له الفطر لمرض أو سفر أو مشقة لا إطعام عليه، إلا من يسقط عنه الصوم لكبر أو عطش كما تقدم، وإلا الحامل والمفرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر، وبين قدره بقوله: "والإطعام في هذا" المذكور "كله" أي المندوب والواجب "مد" بمده عليه الصلاة والسلام "عن كل يوم يقضيه" إن كان يجب عليه القضاء فلا يرد الشيخ الهرم والعطش فإنهما يطعمان ولا يقضيان لسقوط الصوم عنهما لعدم إطاقتهما المشروطة في وجوب الصوم، ويكون الإخراج مع القضاء أو بعده فيمن عليه القضاء؛ لأنه لا يجزئ الإطعام إلا بعد الوجوب، ويجب أن يدفع لكل مسكين مدا واحدا، فلا يصح إعطاء المد لأكثر من واحد، ولا إعطاء أكثر من مد لواحد، فإن فعل لم يعتد بالزائد. "وكذلك" يجب أن "يطعم من فرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر" قال خليل عاطفا على الواجب: وإطعام مد بمده عليه الصلاة والسلام لمفرط في قضاء رمضان لمثله عن كل يوم لمسكين، ولا يعتد بالزائد إن أمكن قضاؤه لشعبان لا إن اتصل مرضه مع القضاء أو بعده، وهذا شرع في الكفارة الصغرىوالمعنى: أن من فرط في قضاء رمضان إلى أن دخل عليه رمضان آخر فإنه يجب عليه التكفير بإخراج مد عن كل يوم يقضيه يدفعه لمسكين واحد، فإن أعطى المد لاثنين كمل لكل واحد، وإن أعطى مدين لواحد انتزع واحدا إن كان باقيا وبين له أنه كفارة، وفهم من قوله فرط

أنه تمكن من القضاء في آخر شعبان بقدر ما عليه من الأيام، فلو أخر القضاء حتى بقي من شعبان قدر ما عليه من الأيام، فمرض أو سافر أو حاضت حتى دخل رمضان لم يلزم كفارة لعدم التفريط، وأما لو أخره ناسيا حتى دخل رمضان لكان مفرطا. قاله الحطاب في شرح خليل، بخلاف التأخير لإكراه أو جهل فلا كفارة؛ لأن الكفارة الكبرى إذا كانت لا تجب بالفطر مع الإكراه أو الجهل فأحرى الصغرى، ومن العذر تأخير الحامل القضاء لتأخير وضعها حتى دخل رمضان لأنها مريضة" تنبيهان " الأول : اعلم أن التفريط الموجب للكفارة إنما ينظر فيه لشعبان الوالي لعام القضاء خاصة، فمن اتصل مرضه برمضان الوالي لعام القضاء وفرط في العام الثاني حتى دخل رمضان السنة الثالثة فإنه لا كفارة عليه؛ لأنه لا يتعدد المد بتعدد السنين التي فرط فيها، وإنما يلزمه مد إذا فرط في القضاء في شعبان الوالي لعام القضاءالثاني : لم يبين المصنف زمن القضاء وبينه خليل بقوله: بزمن أبيح صومه تطوعا، فلا يقضي في رابع النحر ولا في سابقيه ولا فيما وجب صومه ولو بنذر، ويصح في يوم الشك؛ لأنه يصام تطوعا ولما كان يتوهم طلب الصبيان بالصوم كسائر التطوعات قال: "ولا صيام على الصبيان" لا وجوبا لا ندبا "حتى يحتلم الغلام" أو يرى علامة للبلوغ سواء. "و" حتى "تحيض الجارية" أو ترى علامة سوى الحيضقال خليل: والصبي لبلوغه بثمان عشرة أو الحلم أو الحيض أو الحمل أو الإنبات، ومفهوم الصيام أن غيره من الصلاة وشروطها وما يتعلق بها ليس كذلك، فيندب للولي أن يأمرهم به ويندب لهم فعله ويكتب لهم ثوابه كما تقدم، والفرق بين الصوم ونحو الصلاة مشقة الصوم دون الصلاة، وأيضا تكرار الصلاة فناسب أمرهم بها ليتمرنوا عليها كما تقدم، قال العلامة الأجهوري: ويفهم من كلامهم أنه لا ثواب في صيام الصبيان لعدم أمرهم به، والثواب إنما يكون في فعل ما يؤمر به الفاعل، ويفهم من حديث: "ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر" 1 أنه يندب حج الصغير وتلفت النفس للفرق، ا.هـ. كلام الأجهوري، وأقول: لعل الفرق ما مر من مشقة الصيام دون الحج؛ لأن الحج وإن عظمت مشقته إنما هي لغير الصبي، وأما هو
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي وأجر من حج به، حديث "1336" والترمذي، حديث "924"، والنسائي، حديث "2645"، وابن ماجه، حديث "2910"، وأحمد "1/244" حديث "2187".

فيحمله الولي فيما لا يطيققال خليل: وحمل مطيق ورمي إلخ، والأحسن أن يقال: لا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم: "أن له حجا ولمن أحجه أجرا" أنه يؤمر بفعله ابتداء كالصلاة؛ لأنهم لم ينصوا على أنه يندب للولي إحجاج الصغير، وإنما نصوا على أنه إذا اتفق أن الولي أخذ الصغير معه إلى الحج يأمره بالإحرام إن كان مميزا أو ينوي إدخاله في حرمات الحج إن كان لا تمييز عنده لحرمة الحرم، وعدم جواز دخول مكة بلا إحرام لغير المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن استثني ممن هو متردد عليها كما هو مبين في محله وحرره، وأشار إلى مفهوم حتى يحتلم بقوله: "وبالبلوغ" وهو قوة تحدث في الصغير يخرج بها من حال الطفولية إلى حال الرجولية وقد قدمنا علاماته "لزمتهم" أي فرضت وتحتمت عليهم "أعمال الأبدان" كالصلاة والصوم والحج وسائر المأمورات وشروطها وجميع ما تتوقف صحته عليه، ولا مفهوم لأعمال الأبدان بل أعمال القلوب كالنية وسائر المعتقدات الواجبة الاعتقاد، ولا يرد لزوم العدة والإحداد للصغيرة ولزوم نفقة الأبوين وصدقة الفطر؛ لأن المخاطب بذلك الولي، أو أن المراد بأعمال الأبدان خصوص الصيام وما أشبه من نحو الصلاة والغزو والحج من كل ما يتوقف على البلوغ فلا ترد المذكورات، وقوله: "فريضة" بالنصب على الحال المؤكدة لعاملها؛ لأن اللزوم والفريضة مترادفان، واستدل على ذلك بقوله: قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59]في كل الأوقات {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] وهم الكبار، فوجوب الاستئذان بالبلوغ علامة على لزوم سائر الفرائض، إذ لا قائل بالفرق بين حكم وحكم، لكن يشكل الاستدلال بتلك الآية لما تقرر من أن شرط الدليل المطابقة للمدلول أو كونه أعم، ووجوب الاستئذان أخص من المدلول الذي هو سائر الفرائض، وأجيب بأنه مطابق من جهة المعنى ولذلك قال الأجهوري: وهذا الاستئذان من حيث المعنى مطابق للدعوى، وإن كان لفظه أخص فهو من باب يؤخذ من النص معنى يعمه، وسبب نزول تلك الآية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل يتيما إلى عمر فدخل عليه وهو مكشوف فتغيظ من دخوله عليه في تلك الحالة من غير استئذان فذهب إلى المصطفى يسأله عن ذلك فوجدها قد نزلت"1 والخطاب للرجال والنساء بتغليب الذكور على الإناث" تنبيهان " الأول : ظاهر قول المصنف: وبالبلوغ لزمتهم إلخ، أن لزوم الأعمال يحصل
ـــــــ
1 لم أقف عليه.

بمجرد البلوغ وهو كذلك حيث وجدت الشروط وانتفت الموانع، فلا ترد عدم لزوم الصوم إذا بلغ بعد طلوع الفجر لفوات وقت النية التي شرطها أن تكون مبيتة فلا يلزمه إمساك ولا قضاءالثاني : إذا ظهر الحمل بأنثى في أول الحجة وجب عليها قضاء رمضان؛ لأنه لا يظهر إلا بعد ثلاث أشهر، فقد تبين أنها بلغت من ابتداء رمضان أو قبله، فإن ظهر في نصف الحجة وجب عليها قضاء نصفه"ومن أصبح" أي طلع عليه الفجر "جنبا" في زمن صومه "ولم يتطهر أو" أصبحت "امرأة حائض طهرت" أي طاهرة لرؤيتها علامة الطهر وليتما الصوم "قبل الفجر، و" الحال أنهما "لم يغتسلا إلا بعد الفجر أجزأهما صوم ذلك اليوم" لوقوع النية قبل الفجر، ولا يضر الإصباح بلا غسل ولو مع العلم بالجنابة وانقطاع الحيض ليلاقال خليل: وجاز إصباح بجنابة، والجواز لا ينافي كون الأفضل الاغتسال ليلا، والدليل على ما ذكره المصنف خبر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام في رمضان ثم يصوم" 1 وأما صحة صوم الحائض إذا طهرت قبل الفجر فمتفق عليه إذا كان طهرها في زمن يسع الغسل، وعلى المشهور إذا كان في زمن بحيث تدرك فيه النية، وإذا شكت هل طهرت قبل الفجر أو بعده وجب عليها الإمساك والقضاء، والإمساك لاحتمال طهرها قبل الفجر، والقضاء لاحتمال طهرها بعده، وهذا بخلاف الصلاة فلا يلزمها قضاؤها إذا شكت هل طهرت قبل خروج وقتها أو بعده؟ والفرق أن الحيض يمنع أداء الصلاة وقضاءها، وأما الصوم فإنه يمنع أداءه لا قضاءه، فلذلك وجب عليها قضاء الصوم عند الشك؛ لأنها تقضي أيام الحيض المحقق فأيام الشك فيه أحرى،
فإن قيل: الحيض يمنع صحة الصوم والصلاة ووجوبهما، فما وجه الفرق بين قضاء الصوم دون الصلاة؟ فالجواب: أن قضاء الصوم بأمر جديد لعدم تكرره بخلاف الصلاة"ولا يجوز" لأحد بل ولا يصح "صيام يوم الفطر ولا النحر" لما صح من نهيه عليه الصلاة والسلام عن صومهما وللإجماع على تحريم صومهما، واختلف هل المنع للتعبد أو معلل بضيافة الله لعباده في هذين اليومين؟ فعلى الأول لا قضاء على ناذرهما، وعلى الثاني وجوب القضاء عليهـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، حديث "1109"، والنسائي، حديث "183".

" تنبيه ": إنما قلنا: ولا يصح أنه لا يلزم من عدم الجواز عدم الصحة كالصلاة في الدار المغصوبة؛ لأن النهي هنا عن ذات العبادة الموصوفة بكونها في ذلك الزمن، ومثلها المنهي عنها لذات المكان كالفريضة على الكعبة، وأما الصلاة في الدار المغصوبة فإنما نهي عنها لأمر عارض وهو الاستيلاء على ملك الغير لا لذات زمانها ولا لذات مكانها، ألا ترى أنه يحرم الاستيلاء على محل الغير ولو بغير صلاة؟ "ولا" يجوز أيضا ولا يصح أن "يصام اليومان اللذان بعد يوم النحر إلا" أن يصومهما "المتمتع" أو القارن "الذي لا يجد هديا" و كذلك كل من حصل منه نقص في حج متقدم على الوقوف بعرفة وعجز عن الهدي فإنه يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع من منى كما يأتي في باب الحج، وأشار إليه خليل بقوله: وصام أيام منى بنقص في حج إن تقدم على الوقوف، وسبعة إذا رجع من منى ولم تجز إن قدمت على وقوفه، والأصل في حرمة صومهما لغير نحو المتمتع قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها أيام أكل وشرب" 1 وفي الصوم إعراض عن ضيافة الله تعالى، وقيل تحريم صومهما لمحض التعبد وتظهر ثمرة الخلاف في ناذر صومها، فعلى أنه معلل أنه يجب على ناذرهما قضاؤهما وعلى التعبد لا قضاء" تنبيه ": علم من رفعنا يومان بالنيابة عن فاعل يصام ورفع المتمتع بالفاعلية لفعل محذوف استقامة الكلام وصحة الإعراب، وإن كان لفظ المصنف رحمه الله بحسب ظاهره يخالف قاعدة النحو المقررة في الاسم الواقع بعد إلا مع التفريغ، فإن القاعدة إعرابه على ما يقتضيه ما قبلها لو كانت إلا محذوفة مشار إليه بقول الخلاصة: وأن يفرغ سابق إلا لما بعد يكن كما لو إلا عدما وهذا أولى من قول بعضهم: الصواب بناء يصوم للفاعل ونصب اليومين وصفتهما ورفع المتمتع على الفاعلية بيصوم، وما في المصنف زلة قلم؛ لأن هذا من ضروريات المصنف، وما أجاب به بعض الشيوخ من تجريحه على رفع رجال على قراءة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ , رِجَالٌ} بالبناء للمجهول، ورفع رجال على الفاعلية بفعل محذوف لا يصح هنا لوجود إلا قبل المرفوع وتفريغ العامل، وهذا توضيح لتصويب سيدي يوسف بن عمر "واليوم الرابع" ليوم النحر "لا يصومه متطوع" أي يكره على المشهور، ووجه الفرق بين الرابع وسابقيه أن التعجيل يسقط رميه فهو أضعف رتبة منهما. "و" إنما "يصومه من نذره" ولو قصداـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، حديث "1141"، وأبو داود، حديث "2419"، والترمذي، حديث "773"، والنسائي، حديث "3004"، وابن ماجه، حديث "1720".

قال خليل: ورابع النحر لناذره وإن تعيينا، وإنما لزم الناذر صومه مع كراهته، والنذر لا يلزم الوفاء به إلا إذا كان مندوبا أو مسنونا قبل النذرقال خليل: وإنما يلزم به ما ندب نظرا إلى كونه مطلق عبادة، ويفهم من لزوم الوفاء بنذره قصدا لزومه في ضمن سنة معينة منذورة بالأولى، وأما لو نذر سنة مبهمة أو شهرا مبهما فلا يصومه "أو" أي وكذا يصومه "من كان في صيام" غير منذور لكن "متتابع" وجوبا "قبل ذلك" أي قبل مجيء الرابع، كمن صام شوالا وذا القعدة عن كفارة ظهار أو قتل ثم مرض ثم صح في ليلة الرابع فإنه يصومه، ويلزم من صومه لناذره جواز صومه للمتمتع بالأولى عن سابقيه، فتلخص أن الرابع يكره صومه ويصح لناذره ولنحو المتمتع وكل من كان في صيام متتابع، وإنما قلنا غير منذور لتقدم المنذورة" تنبيه " علم من كلام المصنف وغيره أن صيام السنة على أقسام: واجب كصوم رمضان، وحرام كيومي العيد، ومكروه كأيام الليالي البيض وستة من شوال لمن يقتدى به أو يعتقدها غير مندوبة، وجائز لنحو المتمتع كثاني النحر وثالثه، وجائز لثلاثة أشخاص: الناذر والمتمتع والصائم لأيام واجبة التتابع اتصل بها وهو رباع النحر، وما رغب الشارع فيه بخصوصه كعرفة وعاشوراء، وما يصام على وجه الاحتياط كيوم الشك، وما رغب فيه الشارع لا على وجه الخصوص كصيام بعض أيام غير ما سبق أو الدهر"ومن أفطر في نهار رمضان" حال كونه "ناسيا" الصوم "فعليه القضاء فقط" خلافا لمن قال بعدم لزوم القضاء كالشافعي، وخلافا لمن قال عليه القضاء مع الكفارة، ولذلك رد المصنف عليهما بقوله فقط: ولكن يجب عليه الإمساك لحرمة الزمن، فإن تمادى على الفطر غير متأول لزمه الكفارة، وأما لو تمادى على الفطر متأولا بأن ظن إباحة الأكل لمن أفطر ناسيا فلا كفارة عليه؛ لأن هذا تأويل قريب، والدليل على ما قاله المصنف من عدم لزوم الكفارة قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 1، والمرفوع الإثم، فلذا ارتفعت الكفارة، واحترز بقوله: في نهار رمضان عن الفطر في قضائه، ففي لزوم قضاء القضاء فيلزمه يومان وعدم لزومه فيلزمه يوم فقط خلاف، وعما لو أفطر في التطوع ناسيا فإنه يمسك وجوبا ولا قضاء عليه، ومثله في عدم القضاء الزمن المنذور المعين يفطر فيه ناسيا على ما قال خليل، أو
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناس، حديث "2043" وانظر: "صحيح الجامع 1731".

يفوت صيامه لحيض أو نفاس أو لمرض، المشار إليه بقول خليل: إلا المعين لمرض أو حيض أو نسيان، وسيأتي مفهوم أفطر ناسيا وهو المتعمد فعليه القضاء والكفارة"وكذلك" أي عليه القضاء فقط "من أفطر عليه" أي في نهار رمضان "لضرورة" يشق معها الصوم وبينها بقوله: "من مرض" يخشى بالصوم زيادته أو تأخير برئه، واستند في ذلك لتجربة في نفسه أو إخبار طبيب حاذق أو موافق له في المزاج، وحكم الفطر الوجوب إن خاف الهلاك أو شديد الأذىقال خليل: ووجب إن خاف هلاكا أو شديد أذى، وأما إن لم يخش ذلك ولكن يشق عليه الصوم فله الفطر ويقضي أو يمسك، وأما المرض الخفيف الذي لا يشق معه الصوم فيحرم لأجله الفطر، فإن أفطر كفر مع القضاء، ومفهوم لضرورة أن الصحيح الذي يحصل له المشقة بالصوم لا يجوز له الفطر إلا أن يضطر بحيث يخشى الهلاك، أو شديد الأذى الذي لا يستطيع الصبر معه على الصوم، ولما قدم أن الصائم تطوعا لا يجوز له الفطر في السفر اختيارا وكان يتوهم عدم الجواز لصائم رمضان بالأولى رفع ذلك الإيهام بقوله: "ومن سافر" أي أنشأ السفر أو دخل عليه رمضان وهو مسافر "سفرا تقصر فيه الصلاة" بأن كان مباحا ومسافته أربع برد ذهابا بأن قصدت دفعة "فله أن يفطر وإن لم تنله" أي تلحقه "ضرورة وعليه القضاء" لما في صحيح مسلم أن أبا سعيد قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" 1 "و" لكن "الصوم أحب إلينا" معاشر المالكية لمن قوي عليه وفطره مكروه لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ولا يشكل عليه أفضلية قصر الصلاة على الإتمام لأن الذمة تبرأ مع القصر، بخلاف الفطر لا براءة معه ففضل الصيام لبراءة الذمة بهوأشار بقوله: أحب إلينا إلى الرد على ابن حنبل وابن الماجشون ومن وافقهما حيث قالوا: إن الأفضل الفطر لما في الصحيح وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ليس من البر الصيام في السفر" 2ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، حديث "1116"2 صحيح: اخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل، حديث "1946"، ومسلم، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، حديث "1115".

وأجاب أصحاب المشهور بأن الفقهاء أولت كل ما دل على أفضلية الفطر على من يشق عليه الصوم ويتضرر به لاشتغاله بنحو القتال بقرينة قوله صلى الله عليه وسلم: "تقووا لعدوكم" 1 وأشار خليل إلى هذه المسألة بقوله عاطفا على الجائز: وفطر بسفر قصر شرع فيه قبل الفجر ولم ينوه فيه وإلا قضى ولو تطوعا ولا كفارة إلا أن ينويه بسفره، ومعنى الشروع قبل الفجر أن يصل إلى محل بدء القصر قبل طلوع الفجر، ومعنى الفطر قبل الفجر تبييت الفطر، وأما لو كان يعلم أن الفجر يطلع عليه قبل وصوله إلى محل بدئه لم يجز له تبييت الفطر وإن بيته كفر ولو متأولا، وكأن جواز تبييت الفطر مشروط بمن يعلم أنه يجاوز محل بدء القصر قبل الفجر، وأما من يعلم أنه لا يصل إلى محل بدء القصر إلا بعد الفجر فإنه يجب عليه تبييت الصوم، ولا يحل له الفطر إلا لضرورة كالحاضروالحاصل أن من يصل إلا محل بدء القصر قبل الفجر يجوز له تبييت الفطر، فإن بيت الصوم لم يجز له الفطر إلا لضرورة كغير المسافر؛ لأنه شدد على نفسه بتبييت الصوم، فإن أفطر اختيارا كفر، وأما من يعلم أنه لا يصل إلا إليه إلا بعد الفجر فهذا يجب عليه تبييت الصوم، فإن بيت الفطر كفر ولو كان متأولا لأنه رفع نية الصوم نهارا، وأما لو بيت الصوم عملا بالواجب عليه لم يجز له الفطر لغير ضرورة فإن أفطر كفر إن أفطر قبل عزمه على السفر ولو تأول، وإن أفطر بعد شروعه فلا كفارة وإن لم يتأول، وإن أفطر بعد عزمه وقبل شروعه فإن لم يكن متأولا كفر وإلا فلا إن سافر من يومه" تنبيهات " الأول : يقطع جواز الفطر ما يقطع جواز قصر الصلاة المشار إليه بقول خليل: وقطعه نية إقامة أربعة أيام صحاح ولو بخلاله إلا لعسكر بدار الحربالثاني : من أراد إدامة الصوم في سفر القصر وجب عليه تبييت النية في كل ليلة لانقطاع وجوب التتابع بسفر القصرالثالث : ظاهر كلام المصنف أن كل من سافر على هذا الوجه يجوز له الفطر بالشرط الذي ذكرناه، ولو أنشأ السفر لأجل الفطر ونظر فيه بعض الشيوخ قائلا: لو تعمد السفر لأجل الإفطار كمن أخرت الصلاة لحيض فحاضت أو تصدق بماله ليسقط عنه الحج أو أخر الصلاة في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب الصائم يصب عليه الماء من العطش حديث "2365"، وأحمد "3/475" حديث "15944"، ومالك في الموطأ "1/294"، حديث "650" وصححه الألباني في صحيح سنن أبي دواد "2365".

الحضر ليصليها مقصورة في السفر، اللخمي: وجميع ذلك مكروه، وفي كلام غيره أنه مأثوم ولا يجب عليه الصوم في السفر ولا يصلي أربعا ولا تقضي الحائض، لكن يناقض ذلك من أبدل إبلا بذهب فرارا من الزكاة، أو من جمع أو فرق في الخلطة فرارا، وأصل المذهب المعاملة بنقيض القصد الفاسدقال بعض الشيوخ: وفطر هذا لا يتأتى على المشهور من أنه لا يجوز الفطر في السفر المكروه أو الحرام، هذا ملخص كلام الحطاب، ولما كان يتوهم من قصر جواز الفطر في السفر على سفر القصر لزوم الكفارة لمن أفطر في غيره مطلقا قال: "ومن سافر أقل من" مسافة "أربعة برد فظن أن الفطر مباح له فأفطر فلا كفارة عليه" لعدم انتهاكه بل هو من أصحاب التأويل القريب وهو ما استند صاحبه لسبب موجود "و" إنما "عليه القضاء فقط" من غير خلاف "و" مثله "كل من أفطر متأولا" تأويلا قريبا "فلا كفارة عليه" ومثل خليل لأصحاب التأويل القريب بقوله: لا إن أفطر ناسيا أو لم يغتسل إلا بعد الفجر أو تسحر قربه أو قدم ليلا أو سافر دون القصر أو رأى شوالا نهارا فظن الإباحة، بخلاف بعيد التأويل وهو ما لم يوجد سببه ففيه الكفارةوأشار إليه خليل بقوله: بخلاف بعيد التأويل كرا ولم يقبل أو لحمى ثم حم أو الحيض ثم حصل أو حجامة أو غيبة، وكذا من رأى هلال رمضان ولم يرفع شهادته على المعتمد، وكذا من أكل بعد ثبوت الصوم نهارا مع العلم بوجوب الإمساك، فيجب على كل ممن ذكر الكفارة ولو أفطر ظانا الإباحة، إلا من حجم أو احتجم وأفطر ظانا الإباحة فلا كفارة عليه على المعتمد وهو قول ابن القاسم لاستناده إلى سبب موجود فهو من أمثلة التأويل القريب، خلافا لخليل في مشيه على كلام ابن حبيب وهو خلاف المشهور، كما أن قوله: أو تسحر قرب الفجر خلاف المعتمد، والمعتمد أن من تسحر قرب الفجر وأفطر عليه الكفارة، بخلاف من تسحر في الفجر ويفطر ظانا الإباحة فإنما عليه القضاء فقط، فتلخص أن صاحب التأويل القريب لا يلزمه كفارة بخلاف البعيد، فإطلاق المصنف في التأويل غير مسلم. "وإنما الكفارة" واجبة "على من أفطر" في رمضان الحاضر "متعمدا بأكل أو شرب أو جماع" أو أفطر متأولا تأويلا بعيداقال خليل: وكفر إن تعمد بلا تأويل قريب وجهل في رمضان فقط جماعا أو أكلا أو شربا بفم فقط، أو رفع نية نهارا، أو كان فطره باستياك بجوزاء، أو تعمد إخراج مني وإن بإدامة فكر أو نظروالحاصل أن شروط الكفارة خمس: العمد والاختيار والانتهاك للحرمة والعلم بحرمة

الموجب الذي فعله وإن جهل وجوب الكفارة بخلاف جهل رمضان فيسقطها اتفاقا، وخامس الشروط كون الفطر في رمضان الحاضر وحيث كانت الكفارة عن المكفر فتجب. "مع القضاء" قال خليل: ويجب معها القضاء إن كانت له، وأما لو كفر عن غيره كما لو أكره زوجته أو غيرها على الجماع لم يلزمه القضاء وإنما القضاء عليها" تنبيهات " الأول : لم يقيد الأكل بالفم اعتمادا على المتعارف من أن الأكل والشرب إنما يكونان بالفم، وأما لو أفطر بما وصل من أنفه أو أذنه أو عينه أو رأسه كدهن المرأة رأسها نهارا بما يصل إلى حلقها لوجب القضاء فقط، ويشترط في لزوم الكفارة بالأكل أو الشرب وصول المأكول أو المشروب إلى الجوف فلا كفارة بما يصل إلى الحلق، ورده وإن لزم القضاء بوصول المنحل إلى الحلق وإن لم يصل إلى الجوف بخلاف غير المنحل نحو الدرهم يصل إلى حلقه ويرده فلا قضاء ولا كفارة، ويشترط في الجماع الموجب للكفارة كونه موجبا للغسل على الفاعل، لا إن وطئ الصائم البالغ غير المطيقة ولم ينزل، ولا كفارة على كبيرة وطئها صبي ولم تنزل ومع المذي القضاءالثاني : إذا عرفت ما ذكرناه لك ممن تلزمه الكفارة، علمت أن حصر المصنف الكفارة في تعمد الأكل والشرب والجماع غير مسلم إلا أن يجاب بأنه نظر إلى الغالب فلا ينافي أنها قد تجب بغير ما ذكرهالثالث : لم يتعرض المصنف لحكم ما إذا تعدد منه موجب الكفارة، ومحصله أنها لا تتعدد بتعدد الأكلات أو الوطآت، ولا بأكل ووطء في يوم واحد ولو كان أخرج للأول كفارة قبل فعل الثاني، وإنما تتعدد بتعدد الأيام، وهذا حكم الكفارة عن نفسه، وأما لو أوجب الكفارة على غيره فتتعدد عليه بتعدد المكفر عنهالرابع : قد ذكرنا أن من شروط الكفارة الانتهاك وشرطه أن يكون بالظاهر، وفي نفس الأمر للاحتراز عما لو تعمد الفطر في يوم ثم تبين أنه يوم عيد، أو أفطرت المرأة متعمدة ثم تبين أنها حائض قبل ذلك فلا كفارة عليها، خلافا لحمديس ومن وافقه، بخلاف من أفطرت متعمدة ثم يأتيها بعد فطرها الحيض في ذلك اليوم فإنها تكفرالخامس : صريح المصنف كغيره أن الكفارة إنما تلزم بالأكل أو غيره بعد حصوله، وأما لو عزم على الأكل أو الجماع فلا يلزمه ولا القضاء، كمن عزم على نقض وضوئه ولم يحصل منه الناقض بالفعل ولا يعد قصده الأكل والشرب رفضا، وإنما أطلنا في ذلك لداعي الحاجة إليه.

ولما فرغ من بيان موجب الكفارة شرع في بيانها قوله: "والكفارة" الكبرى "في ذلك" المذكور من الأكل وما ذكر معه أحد ثلاثة أشياء في حق الحر الرشيد وأشار إلى أولها بقوله: "إطعام" أي تمليك "ستين مسكينا" أحرارا مسلمين، والمراد بالمسكين ما يشمل الفقير وثاني مفعولي إطعام "هذا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم" فلا يجزئ غداء وعشاء خلافا لأشهب، كما لا يجزئ دفعها لأقل من ستين ولا لأكثر، ويسترجع من كل واحد منهم ما زاد على المد إن كان بين له أنه كفارة وبقي بيده وكمل الستين، فإن ذهب من يده فلا يتبع به؛ لأنه المسلط له في إتلافه، ويكمل لمن أخذ الناقص كما ذكروه في كفارة اليمين، ومقدار المد رطل وثلث بالبغدادي، وهو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطين، وهل تكون من عيش المكفر أو من غالب عيش أهل البلدة عند الاختلاف؟ قال اللخمي: يجزئ ذلك على الخلاف في زكاة الفطر وهي على التخيير على مشهور المذهب، وأفضل أنواعها الإطعام. فلذلك صدر به وقال: "فذلك" أي الإطعام "أحب إلينا" معظم أصحاب الإمام مالك والمصنف منهم، وإنما كان الإطعام أفضل؛ لأنه أعم نفعا وأفضلية في حق الفقير والغني على مشهور المذهبقال خليل: وكفر إن تعمد بلا تأويل قريب وجهل في رمضان فقط جماعا أو أكلا أو شربا بفم فقط، بإطعام ستين مسكينا لكل مد. وهو الأفضل، أو صيام شهرين متتابعين، أو عتق رقبة كالظهار، ومقابل المشهور ما أجاب به يحيى بن يحيى الأمير عبد الرحمن حين سأل الفقهاء عن وطئه جاريته في نهار رمضان من لزوم تكفيره بالصوم، وسكت الحاضرون ثم سألوه: لم لم تخيره؟ فقال: لو خيرته لوطئ كل يوم وأعتق فلم ينكروا عليه. قال القرافي ما معناه: أن الكفارات شرعت للزجر، والملوك لا تنزجر بالإعتاق لسهولته عليهم فتعين ما هو زاجر لهم، وهذا من النظر في المصلحة ولا تأباه القواعد، ولعله غير مناف للتخيير لإمكان حمل التخيير على فقد المعين لنوع منها، هذا ملخص كلام القرافي، وأشار إلى ثاني أنواعها بقوله: "وله" أي الحر الرشيد "أن يكفر بعتق رقبة" مؤمنة سليمة من العيوب ومحررة لخصوص الكفارة، ورتبته تلي رتبة الإطعام في الأفضلية؛ لأن فيه منفعة للغير في الجملة، وأشار إلى ثالث الأنواع بقوله: "أو" يكفر ب "صيام شهرين متتابعين" بنية التتابع والكفارة، وقيدنا بالحر الرشيد للاحتراز عن العبد فإنما يكفر بالصوم، إلا أن يعجز عنه أو يمنعه سيده لإضراره بخدمته فيبقى في ذمته إلى أن يأذن له سيده في الإطعام، وللاحتراز عن السفيه فإن وليه يأمره بالصوم فإن لم يقدر عليه أو أبى كفر عنه بأدنى النوعين أي قيمة الإطعام أو الرقبة، وهذا في تكفير الشخص عن نفسه، وأما لو

كفر عن غيره فإنما يكفر عنه بالإطعام أو العتق إن كان المكفر عنه حرا، أو بالإطعام فقط إن كان رقيقا، كما لو وطئ أمته في نهار رمضان" تنبيه " كما يلزم المعتمد للفطر الكفارة يلزمه الأدب أيضاقال خليل: وأدب المفطر عمدا إلا أن يأتي تائبا. قال شراحه: ولو كان فطره بما يوجب حدا فيجتمع عليه عقوبة المال وهي الكفارة، وعقوبة البدن وهي الحد، والأدب فهذه ثلاثة أشياء، فإن جاء تائبا سقط الأدب فقط ويلزمه الحد والكفارة، كما يسقط الأدب إن جاء مستفتيا لئلا يؤدي إلى عدم الاستفتاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤدب الأعرابي الذي جاء مستفتيا والله أعلمولما كانت الكفارة مختصة بالفطر في رمضان الحاضر شرع في محترزه بقوله: "وليس على من أفطر في قضاء رمضان متعمدا كفارة" لا وجوبا ولا ندبا، خلافا لمجاهد القائل: بوجوبها، ووجه المشهور ما قاله الفاكهاني من أن الكفارة سببها انتهاك حرمة رمضان بإفساد الصوم فيه والوقت الحاضر له حرمة، وإنما وقع خلاف في لزوم قضاء القضاء على قولينقال خليل: وفي لزوم قضاء القضاء خلاف، فعلى اللزوم يلزمه يومان: يوم للأصل ويوم للمفسد، وقيل: يوم فقط، والقولان جاريان في الفطر عمدا أو سهوا على ما ارتضاه السنهوري والشيخ أحمد الزرقاني، ومثل قضاء رمضان قضاء النفل المفسد ولما كان الإغماء مسقطا لوجوب الصوم كسائر العبادات لشرطية العقل فيها وكان يتوهم سقوط قضائه كالصلاة قال: "ومن أغمي عليه ليلا" في شهر رمضان "فأفاق بعد طلوع الفجر" ولو يسيرا "فعليه قضاء الصوم" لفوات محل النية الذي هو الليل، ففي المدونة: أن الصائم إذا طرأ عليه الإغماء قبل الفجر وزال بعده بيسير لم يصح صومه وعليه القضاء لمقارنة الإغماء لوقت النية، زاد ابن حبيب: ولا يؤمر بالكف عن الأكل بقية النهار، ومن باب أولى إذا استمر الإغماء إلى غروب الشمس، والحاصل أنه إذا أغمي عليه جل اليوم ولو سلم أوله أو أغمي عليه دون الجل ولم يسلم أوله بل طلع الفجر وهو مغمي عليه يجب عليه القضاء، وأما لو أغمي عليه دون الجل وسلم قبل الفجر أو استمر سالما ناويا الصوم ثم طرأ عليه الإغماء في أثناء النهار إلخ فلا قضاء عليهقال خليل: لا إن سلم أوله ولو أغمي عليه نصفه، وأشعر قول المصنف: ومن أغمي عليه إلخ أن من سكر بحرام ليلا واستمر على سكره عليه القضاء من باب أولى لتسببه، نص عليه اللخمي ولم يجز له استعمال الفطر بقية يومه، وأما السكران بحلال فكالمجنون، والمجنون في التفصيل كالمغمى عليه على المعتمد، وأما النائم يمضي عليه أيام وهو نائم بعد تبييت النية فلا

قضاء عليه لصحة صومه وبقاء تكليفه، وإنما الساقط عن النائم الإثم فقط، حتى لو بيت النية بعد ثبوت الشهر ونام جميعه صح صومه وبرئت ذمته، وليس السكران بحلال كالنائم بل كالمجنون كما علمت، فما شرح شيخ مشايخنا الأجهوري من أنه كالنائم زلة قلم. "ولا يقضي" أي المغمى عليه "من الصلوات" فرضا "إلا ما أفاق في وقته" ولو الضروري، وإنما كرر المصنف هذه الجملة لينبه على مخالفة الصوم للصلاة، وإنما سقطت الصلاة دون الصوم لتكررها بخلاف الصوم، ألا ترى أن الحائض والنفساء يقضيانه دون الصلاة؟
" تنبيه ": كان الأنسب للمصنف أن لو قال: ولا يطالب المغمى عليه بفعل شيء من الصلوات إلا ما أفاق في وقته؛ لأن القضاء عبارة عن الإتيان بما خرج وقته، وما أفاق في وقته أداء لا قضاء. ثم شرع في بيان ما يطلب من الصائم وما ينهى عنه مبتدئا بالأول بقوله: "وينبغي للصائم" أي يطلب منه "أن يحفظ" أي يصون "لسانه وجوارحه" عما لا ثواب في فعله، وعطف الجوارح على اللسان من عطف العام على الخاص وهو أحسن من اقتصار خليل على اللسان حيث قال: وكف لسان، وفسرنا ينبغي بيطلب؛ لأن ما لا ثواب في فعله منه ما هو واجب الترك كالغيبة والنميمة، ومنه ما تركه مندوب وهو كل ما ليس بحرام ولو مباحا لغير الصائم كترك الإكثار من الكلام المباح، وإنما خص رمضان بالذكر وإن شاركه غيره في هذا؛ لأن المعصية فيه أشد، إذ المعاصي تغلظ بالزمان والمكان، فمن عصى الله في الحرم أعظم حرمة ممن عصاه خارجا عنه، ومن عصاه في مكة أعظم حرمة ممن عصاه في خارجها، والجوارح سبعة: السمع والبصر واللسان واليدان والرجلان والبطن والفرج واللسان بعضها، وإنما أفرده مع دخوله فيها لأنه أعظمها آفة، فقد ورد عن مالك بن دينار أنه قال: إذا رأيت قساوة في قلبك ووهنا في بدنك وحرمانا في رزقك فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك، فبالجملة اللسان شر الجوارح، فإن استقام استقامت الجوارح. وروى البيهقي في الشعب: "إذا تزوج العبد فقد كمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي" 1 قيل: النصف الباقي اللسان، فيتعين على أهل الفضل والصلاح أن يقلوا الكلام فيما لا يعني، ويتأكد ذلك في حق الصائم وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم" . والرفث الجماع والفحش من القول وكلام النساء في الجماع، وقوله: "فليقل إني صائم" أي بلسان حاله لا بلسان مقالهـــــــ
1 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان "4/383"، حديث "5487".

"و" مما ينبغي للصائم أيضا أن "يعظم من شهر رمضان ما عظم الله سبحانه وتعالى" قال بعض الشيوخ؛ "من" زائدة "وما" موصولة؛ لأن المعنى: وينبغي للصائم أن يعظم شهر رمضان الذي عظمه الله سبحانه وتعالى إذ أنزل فيه القرآن وأنزل فيه التوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعظم الأدلة على تعظيمه، وخصه بإيجاب الصوم فيه بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وتعظيم الصائم له بتمييزه بفعل المبرات وكثرة العبادات وتلاوة القرآن، وصحح بعض الشيوخ كلام المصنف بادعاء أن من بمعنى في وهذه متعلقة بيعظموالمعنى: وينبغي للصائم أن يعظم في شهر رمضان ما عظم الله من القرآن والتسبيح والصلاة، وتعظيمها بالإكثار منها في شهر رمضان ويكره تعظيمه بغير ما عظم الله ككثرة وقيد النار في المساجد وتزويقها ببعض فرش نفيسة "و" ينبغي للصائم ولو غير رمضان أن "لا يقرب" بفتح الياء والراء على الأفصح مبني للفاعل الذي هو "الصائم النساء بوطء ولا مباشرة ولا قبلة للذة في نهار رمضان" لأن قرب النساء ذريعة إلى إفساد الصوم، ولم يعلم من كلامه عين الحكم ومحصله: إن قربهن بوطء حرام على المكلف، وأما بغيره من المقدمات فمكروه مع علم السلامة وحرام عند عدم علمها. قال خليل عاطفا على المكروه: ومقدمة جماع كقبلة وفكر إن علمت السلامة وإلا حرمت، وقولنا: ولو في غير رمضان دفعا لما قد يتوهم من اختصاصه بصيام رمضان لأن الكلام فيه. "و" مفهوم في نهار رمضان أنه "لا يحرم" ولا يكره شيء من "ذلك" أن المذكور من وطء وغيره "عليه في ليله" لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] اللهم إلا أن يكون معتكفا أو محرما أو صائما في كفارة ظهار أو قتل، فيستوي عنده الليل والنهار فلا يطأ المظاهر منها ولو ليلا" تنبيه " اعترض ابن الفخار كلام المصنف حيث قيد القبلة بكونها اللذة فإنه يقتضي إباحتها بدون اللذة، مع أن اللذة قد تحدث عندها، وإن لم يقبل بقصدها فالصواب المنع مطلقا عند علم عدم السلامة، والكراهة عند علم السلامة كما قدمنا عن خليل حيث قال بالعطف على المكروه: ومقدمة جماع كقبلة وفكر إن علمت السلامة وإلا حرمت، وظاهر كلام المصنف النهي عن القبلة لكل صائم ولو نقلا لحرمة إبطال التطوعات عندنا اختيارا، كما أن ظاهره سواء كان الصائم شابا أو شيخا كبيرا وهو كذلك على المشهور، وظاهر كلامه أن التفكر أو النظر ليس منهيا عنه، وجعلهما ابن الحاجب كالقبلة و خليل أيضا، وجعل اللخمي النظر المستدام كالقبلة، هذا ملخص كلام ابن الفخار بتصرف وإيضاح، وأقول: كلام ابن الفخار المتضمن

عدم جواز القبلة ولو لغير قصد اللذة موافق لكلام خليل كما قدمنا، وأما الشاذلي فتمحل للمصنف جوابا وقال: كأنه احترز بقوله للذة عند القبلة للوداع أو الرحمة مما لا التذاذ به عادة، وارتضى تقييده الأجهوري فلا ينافي عدم جوازها لغير الوداع أو الرحمة ولو بغير قصد اللذة"ولا بأس أن يصبح" الصائم "جنبا من الوطء" وأولى من الاحتلام. قال خليل عاطفا على الجائز: وإصباح بجنابة والمراد بلا بأس وبالجواز في كلام خليل عدم الكراهة فلا ينافي أنه خلاف الأولىولما قدم الصائم ينهى عن مقدمات الجماع ولو مع علم السلامة شرع في الحكم المترتب على من ارتكبها بقوله: "ومن التذ في نهار رمضان بمباشرة" ولو ببعض أعضائه كرجله "أو قبلة فأمذى لذلك" المذكور "فعليه القضاء" ولو نسي كونه في رمضان، وقيل لا قضاء على الناسي، ومفهوم كلامه أنه لو لم يمذ لا قضاء عليه وإن أنعظ وهي رواية ابن وهب وأشهب عن مالك في المدونةوقال ابن القاسم : عليه القضاء بالإنعاظ، ومشى عليه ابن عرفة في تعريف الصوم، ولكن قال بعض المحققين: قاعدة شيوخ المذهب تقديم ما رواه غير ابن القاسم في المدونة على ما يقوله ابن القاسم في غيرها ومثل الإمذاء بالمباشرة الإمذاء بالفكر والنظر ولو لم يدمهما على ما في بعض شراح خليل وفي الأجهوري هنا، فإن كان عن فكر غير مستدام أو نظر غير مستدام فلا يجب القضاء وإنما يستحب فقطقال الأقفهسي : وأقول ظاهر كلام خليل لزوم القضاء مطلقا؛ لأنه سوى بين الفكر والقبلة، ولا شك أنه إن أمذى قضى من غير شرط استدامة. "و" مفهوم أمذى أنه "إن تعمد ذلك" المذكور من المقدمات "حتى أمنى فعليه الكفارة" مع القضاء على مشهور المذهب، وتعبيره بحتى يوهم أنه لا تجب الكفارة بخروج المني بمجرد القبلة أو المباشرة وليس كذلك، إذ المعتمد لزوم الكفارة بتعمد إخراج المني بالقبلة أو المباشرة أو الملاعبة من غير شرط عادة ولا استدامة، وأما تعمد إخراجه بنظر أو فكر فلا بد من الاستدامة ممن عادته الإنزال بهما أو استوت حالتاه، وأما من كانت عادته السلامة مع إدامتهما فتخلفت وأمنى فقولان استظهر اللخمي منهما عدم لزوم الكفارة، ونقل بعض كلام اللخمي عاما في جميع مقدمات الوطء وهو أظهر، وأما من أمنى بتعمد نظرة واحدة ففي المدونة لا كفارة عليه وهو المعتمد ومقابله للقابسي، ومحل الخلاف فيمن عادته الإمناء بمجرد النظر وإلا اتفق على عدم لزوم الكفارة، هذا ملخص كلام

اللخمي مع بيان الراجحثم شرع في حكم التراويح المعروفة بقيام رمضان بقوله: "ومن قام رمضان" أي صلى فيه التراويح ويقال لها القيام "إيمانا" أي مصدقا بالأجر الموعود عليه "واحتسابا" أي مخلصا في فعله ومحتسبا أجره على الله تعالى ولم يفعله لرياء ولا سمعة "غفر له ما تقدم من ذنبه" هذا جواب من الشرطية، وهذا لفظ حديث في الصحيحين، وفي الموطإ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" 1والمراد ذنوبه الصغائر، وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة أو عفو الله، وأما تبعات العباد فلا يكفرها التوبة بل لا بد من استحلال أربابها؛ لأن حقوق العباد لا يقال لها ذنوب إنما الذنب إثم الجرأة، فهذا يكفر بالتوبة أو غيرها من نحو الحج بناء على أنه يكفر الكبائر، لكن حمل الذنوب على الصغائر وإن كان واجبا لأنها التي تكفر بالقيام يلزم عليه إشكال، وهو أنه قد تقدم أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر، وكذلك بالوضوء وبالصلوات الخمس وغيرها مما نص الشارع على أنه من المكفرات، فأين الصغائر التي يكفرها القيام؟ وقد سبق هذا الإشكال بعينه في بحث العقيدة، وأحسن ما يجاب به عن هذا الإشكال أن يقال: الذنوب كالأمراض والمكفرات كالأدوية لها، فمن الذنوب ما لا يكفره إلا الوضوء، ومنها ما لا يكفره إلا الصوم، ومنها ما لا يكفره إلا القيام، ويشهد لهذا الجواب حديث: "إن من الذنوب ما لا يكفره الصوم ولا الصلاة وإنما يكفره السعي على العيال " ومن فعل شيئا من المكفرات ولم يكن عليه شيء من الذنوب يرفع له بها درجات، وحكم القيام الذي أراده المصنف الندب ويتأكد الندب في رمضان حتى قال ابن عبد البر: إن حكمه السنية، ولكن الذي رجحه خليل الندب حيث قال: ووقته وقت الوتر بعد عشاء صحيحة وشفق للفجر، فلا يصلى قبل العشاء ولا بعد عشاء مقدمة على محلها الضروري، واختلف هل الاشتغال به أفضل أو مذاكرة العلم؛ لأنه فرض وفعله مستحب قولان ولما شاع في الأمصار تحديده بعشرين ركعة غير الشفع والوتر وكان يتوهم عدم حصول ذلك الثواب بأقل منها دفعه بقوله: "وإن قمت فيه" أي في رمضان "بما تيسر" من الصلاة ولو أقل من
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري مختصرا، كتاب الإيمان باب تطوع قيام رمضان من الإيمان حديث "37"، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، حديث "759"، ومالك في الموطأ "1/113"، حديث "249".

عشرين ركعة "فذلك" الذي تيسر لك "مرجو فضله" أي ثوابه لاشتمال كل ركعة على قيام وسجود وقراءة: والله يضاعف لمن يشاء" ورجاء الفضل من القيام القليل لا ينافي أن الكثير أكثر ثوابا "و" مرجو "تكفير الذنوب به" وإنما قال: مرجو فضله ولم يجزم بحصوله لما تقرر من أن الإثابة على الأعمال الصالحة غير مقطوع بها، إذ الإثابة عليها متوقفة على الإخلاص والقبول، ولذلك نصوا على أن العاقل ينبغي أن يجعل عمله دائما في حضيض النقصان وغير بالغ درجة الكمال، لعل الباري سبحانه وتعالى يتفضل عليه بالقبول والإحسانثم شرع في بيان المحل الذي يندب فعل القيام فيه بقوله: "و" يجوز فعل صلاة "القيام فيه" أي في رمضان "في" سائر "مساجد الجماعات" وإن كانت مساجد خطب ويجوز فعله "بإمام" فهو مستثنى من كراهة صلاة النافلة جماعة المشار إليه بقول خليل: وجمع كثير لنفل أو بمكان مشتهر لاستمرار العمل على الجمع فيها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويستحب أن يكون الإمام ممن يحفظ القرآن لاستحباب ختمه في صلاة التراويح ليسمع جميعه المأمومون، ولما كان فعلها في البيوت أفضل قال: "ومن شاء قام" أي صلى التراويح "في بيته ولو بإمام وهو أحسن" أي أفضل من فعلها في المسجد "لمن قويت نيته وحده" ومعنى قويت نيته أن يكون عنده نشاط في فعلها في بيته. قال خليل عاطفا على المندوب المتأكد: وتراويح وانفراد فيها إن لم تعطل المساجدقال شراحه: وندب الانفراد مقيد بمن ينشط لفعلها في بيته، وبعدم تعطيل المسجد من فعلها في البيوت، وبأن لا يكون آفاقيا وهو بالمدينة المنورة، وإلا كان فعلها في المسجد أفضل، وإنما كان فعلها في البيوت مع القيود أفضل للسلامة من الرياء؛ لأن صلاة الجلوة على النصف من صلاة الخلوة، ولما في الصحيحين: "أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة" 1قال الفاكهاني: والأصل في قيام رمضان: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه التراويح ليلتين وقيل ثلاثا في المسجد، ثم امتنع من الخروج في الثالثة وقيل في الرابعة لما بلغه ازدحامهم، فلما أصبح قال: "رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" 2
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب صلاة الليل، حديث "731"، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، حديث "78"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب: من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد، حديث "924" ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، حديث "761".

كما أشار الأجهوري بقوله: وفيه قد صلى نبي الرحمه قيامه بليلتين فاعلمه أو بثلاث ثم لم يخرج له خشية أن يفرض عليهم فعله ثمة كان الجمع فيه من عمر لما وعاه عن علي من خبر من أنه ينزل أملاك كرام برمضان كل عام للقيام فمن لهم قد مس أو مسوه يسعد والشقوة لا تعروه والحاصل: أن صلاة التراويح لها أصل في الشرع، وقول عمر فيها: نعمة البدعة هذه ليس راجعا لأصلها، وإنما أراد بقوله: نعمت البدعة جمعهم على إمام على سبيل المواظبة في المسجد؛ لأنهم حين امتنع المصطفى صلى الله عليه وسلم من الخروج صاروا يصلونها فرادى في بيوتهم، ثم بعد سنتين حصل الأمن من خشية فرضيتها لعدم تجديد الأحكام بعد موت المصطفى عليه الصلاة والسلام أمرهم عمر بن الخطاب رحمه الله تعالى بفعلها جماعة، ولعله قصد بذلك إشهارها والمداومة عليها وإحياء المساجد بفعلها؛ لأن إخفاءها ذريعة لإهمالها وتضييعها،
فإن قيل: كيف يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إنما منعني من الخروج إليكم خشية فرضها عليكم" مع ما في الحديث حين فرض الصلوات الخمس من قوله تعالى: "هن خمس لا يبدل القول لدي1 إلخ" فالجواب أن المراد خشية فرضها في خصوص رمضان، وأما الصلوات الخمس فمفروضة في اليوم والليلة على الدوام، أو أن المراد خشية فرضها عليكم في جماعة، وقيل غير ذلك،
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما منعني من الخروج خشية فرضها" يقتضي أن فعلها في المسجد أفضل، فكيف تقولون فعلها في البيوت أفضل؟ فالجواب: أن المصطفى عليه الصلاة والسلام قد يفعل المفضول للتشريع، ففعله لها في المسجد من الواجب عليه الصلاة والسلام، وخلاف الأفضل في حقناثم شرع في بيان عدد الركعات التي كان يفعلها المصطفى وواظب عليها السلف الصالح بعد قوله: "وكان السلف الصالح" وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم "يقومون فيه" في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبأمره كما تقدم "في المساجد بعشرين ركعة" وهو اختيار أبي حنيفة والشافعي وأحمد، والعمل عليه الآن في سائر الأمصار. "ثم" بعد صلاة العشرين "يوترون بثلاث" من باب تغليب الأشرف لا أن الثلاث وتر؛ لأن الوتر ركعة واحدة كما مر، ويدل على ذلك قوله: "ويفصلون بين الشفع والوتر بسلام" استحبابا ويكره الوصل إلا لاقتداء
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، حديث "349"، وسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث "163".

بواصل، وقال أبو حنيفة: لا يفصل بينهما، وخير الشافعي بين الفصل والوصل، واستمر عمل الناس على الثلاثة والعشرين شرقا وغربا. "ثم" بعد وقعة الحرة بالمدينة "صلوا" أي السلف غير الذين تقدموا؛ لأن المراد بهم هنا من كان في زمن عمر بن عبد العزيز "بعد ذلك" العدد الذي كان في زمن عمر بن الخطاب "ستا وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر" والذي أمرهم بصلاتها كذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما رأى في ذلك من المصلحة؛ لأنهم كانوا يطيلون في القراءة الموجبة للسآمة والملل، فأمرهم بتقصير القراءة وزيادة الركعات، والسلطان إذا نهج منهجا لا تجوز مخالفته ولا سيما عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهذا اختاره مالك في المدونة واستحسنه وعليه عمل أهل المدينة، ورجح بعض أتباعه الأول الذي جمع عمر بن الخطاب الناس عليها لاستمرار العمل في جميع الأمصار عليه لذلك صدر به خليل بقوله: ثلاث وعشرون بالشفع والوتر. "وكل ذلك" أي العدد من العشرين أو الستة والثلاثين "واسع" أي جائز وهذا غير ضروري الذكر. "و" يستحب أن "يسلم من كل ركعتين" ويكره تأخير السلام بعد كل أربع حتى لو دخل على أربع ركعات بتسليمة واحدة الأفضل له السلام بعد كل ركعتين، ولما بين قدر ما فعله الصحابة ومن بعدهم من السلف الذين كانوا في زمن عمر بن عبد العزيز،
شرع في بيان عدد ما كان يفعله المصطفى صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي غيره بقوله: "وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: "ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على اثنتي عشرة ركعة بعدها الوتر"1قال بعض الشيوخ: وما قالته عائشة هو أغلب أحواله صلى الله عليه وسلم، فلا يعارض ما روي عنها بخمس عشرة وسبع عشرة، وروى غيرها من أزواجه "أنه رجع إلى تسع ثم إلى سبع"، وليس اختلافا حقيقيا بل اختلاف بحسب اعتبارات، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أول ما يبدأ إذا دخل المسجد بعد العشاء بتحية المسجد، وإذا قام يتهجد افتتح ورده بركعتين خفيفتين لينشط، وإذا خرج لصلاة الصبح ركع ركعتي الفجر، فتارة عدها بفعله في ليله وهو سبع عشرة وتارة أسقط تحية المسجد فعد ثلاث عشرة، وفي هذا جمع بين كثير مما وردـــــــ
1 صحيح: بلفظ على أحدى عشرة ركعة" أما الرواية المذكورة فلم أقف عليها، أخرجه البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، حديث "2013"، وأبو داود، حديث "1341"، والترمذي، حديث "439"، والنسائي، حديث "1697".

" خاتمة " قال الباجي في شرح الموطإ: هذا القيام الذي تقومه الناس برمضان في المساجد مشروع في السنة كلها يوقعونه في بيوتهم، وإنما جعل ذلك في المساجد برمضان لكي يحصل لعامة الناس فضل القيام بالقرآن كله، ويسمعون كلام ربهم في أفضل الشهور ا هـ، ونحو هذا لابن الحاج في المدخل. قال العلامة التتائي: ولما سمع بعض الفضلاء هذه الفائدة أنكرها غاية الإنكار حتى أوقفناه على أنها من كلام الباجي وابن الحاج ولما فرغ من الكلام على أحكام الصيام شرع في الاعتكاف؛ لأنه لا بد له من الصيام فقال:
* * *

"باب في" ذكر أحكام "الاعتكاف"
وهو لغة مطلق اللزوم لخير أو شر، وشرعا قال ابن عرفة: لزوم مسجد مباح لقربة قاصرة بصوم معزوم على دوامه يوما وليلة سوى وقت خروجه لجمعة أو لمعنيه الممنوع فيه، والمراد باللزوم الإقامة، واحترز بمسجد مباح عن ملازمة غير المباح، كملازمة نحو الكعبة من المساجد المحجورة فلا يصح الاعتكاف فيها، والمراد بالقربة القاصرة الصلاة والذكر وتلاوة القرآن ويكره فعل غيرها كاشتغال كثير بعلم أو كتابة، ومعزوم بالرفع صفة ل "لزوم"، وقوله: سوى وقت خروجه لجمعة إلخ مستثنى من اللزوم، فلا تجب إقامته في المعتكف وقت خروج لصلاة الجمعة بل يخرج للجمعة ويرجع، ولا يبطل اعتكافه ويتم على ما مضى، هكذا جرى عليه ابن عرفة، وضعف الأشياخ كلامه في هذا، والمعتمد بطلان اعتكافه لخروجه لصلاة الجمعة، ولذلك أوجبوا عليه الاعتكاف في محل فيه خطبة إذا نذر أياما تأخذه فيها الجمعة، وإلا خرج وبطل اعتكافه كما مشى عليه خليل، وقوله: أو لمعنيه بنون وبعدها مثناة أي مقصوده الممنوع في المسجد، فلا تلزم الإقامة زمنه بل يخرج لقضاء حاجته من بول أو غيره، كخروجه لغسل جنابة من احتلام في المسجد أو لمرضه الذي لا يستطيع معه المكث في المسجد، وإذا خرج لشيء من ذلك لم يبطل اعتكافه، وأشار إلى حكم الاعتكاف بقوله: "والاعتكاف من نوافل الخير" المطلوب للشارع على جهة الاستحباب ب على ما هو ظاهر من كلامه، واستظهره خليل في توضيح ابن الحاجب قائلا: إذ لو كان سنة لما واظب السلف على تركه، وخالف ابن العربي وقال: إنه سنةقال ابن عبد السلام: وهو مقتضى الآثار لفعله صلى الله عليه وسلم مداوما عليه، وقال ابن عبد البر في الكافي: إنه سنة في رمضان جائز في غيره أي جوزا راجحا فلا ينافي أنه مندوب، وحكمة مشروعيته التشبه بالملائكة الكرام في استغراق الأوقات بالعبادة وحبس النفس عن شهواتها واللسان عن الخوض فيما لا يعني، وفسره المصنف بقوله: "والعكوف الملازمة" من مسلم مميز لمسجد مباح بمطلق صوم ولو كان منذورا لقربة قاصرة وهي الصلاة والذكر وقراءة القرآنقال خليل: وكره فعل غير ذكر وصلاة وتلاوة كعيادة وجنازة ولو لاصقت، وكاشتغال بعلم وكتابته وإن مصحفا إن كثر إلا أن يكون فقيرا فيباح له لتمعشه، كما لا يكره له الاشتغال بالعلم

المتعين، ويدخل في المميز الذكر والأنثى البالغ، وغير الحر والعبد بإذن سيده" تنبيه ": إذا علمت ما قررناه ظهر لك أن في كلام المصنف التعريف بالأعم؛ لأنه لم يبين الذي يطلب من المعتكف ملازمته، والذي ينهى عنه كتعريف الإنسان بأنه حيوان وفيه خلاف والأكثر على منعه، وهذا معنى قول الشاذلي: أن المصنف عرف الاعتكاف بالمعنى اللغوي، وأقول في جوابه ذكره التعريف بعد قوله الاعتكاف من نوافل الخير يرشد إلى المراد، وهو أن المراد الملازمة على القربة القاصرة كما بيناه، وحينئذ فليس في كلامه التعريف بالأعم؛ لأن الفقيه ليس من دأبه بيان المعنى اللغوي، وإنما غرضه بيان المعنى الشرعي، وفيه أيضا تقديم التصديق على التصور لأنه قال أولا: والاعتكاف من نوافل الخير وهذا تصديق، والتصور قوله: والعكوف الملازمة هكذا قال بعضهم، والصواب أن الذي في كلامه تقديم التصديق على التصوير لا على التصور، والممنوع الثاني لا الأول؛ لأن قوله: والعكوف الملازمة تصوير لا تصور، وأشار إلى شروطه بقوله:
"ولا اعتكاف يصح" عندنا "إلا بالصيام" ولو رمضانقال خليل: وصحته بمطلق صوم ولو نذرا. "ولا يكون إلا متتابعا" إن نذر تتابعه أو أطلق بأن قال: لله علي اعتكاف شهر مثلاقال خليل عاطفا على ما يلزم وتتابعه في مطلقه، وأما لو نذر أن يعتكف مدة مفرقة فلا يلزم تتابعها، بخلاف من نذر صيام شهر أو سنة من غير اعتكاف وأطلق لا يلزمه تتابعه، والفرق بين الاعتكاف والصوم أن الصوم إنما يفعل بالنهار فكيف ما أتى به برئت ذمته فرقه أو تابعه، بخلاف الاعتكاف يستغرق الليل والنهار فكأن حكمه يقتضي التتابع اعتبارا بأجل الدين والإجازة والخدمة والأيمان نحو: والله لا أكلم زيدا ثلاث أيام، فيحنث إن كلمه في لياليها كما يحنث بكلامه في النهار. "و" من شروط صحته أيضا أنه "لا يكون إلا في المساجد" المباحة فلا يصح في بيت ولا في مسجد محجر ولا في سطح المسجد ولا في بيت قناديله، ولو كان المعتكف امرأة، واشتراط المسجد "كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]" وإطلاق المسجد يعم كل جزء منه وهذا لا ينافي استحباب عجزه، ولما كانت المساجد شاملة للجوامع ذوات الخطب وغيرها، والاعتكاف تارة يستلزم الجمعة وتارة لا، وكان الأول يجب فيه الجامع دون الثاني قال: "فإن كان" أي محل مريد الاعتكاف المفهوم من المقام "بلدا فيها الجمعة" وكان مريد الاعتكاف ممن تلزمه صلاة الجمعة ونوى أو نذر اعتكاف

أيام تدركه فيها الجمعة "فلا يكون" اعتكافه "إلا في الجامع" لأجل صلاة الجمعة، فلو اعتكف في مسجد لا خطبة فيه وجب عليه الخروج لصلاة الجمعة ويبطل اعتكافه على المعتمد خلافا لما قاله ابن عرفة، فلو لم يخرج لم يبطل اعتكافه وإن حرم عليه؛ لأن ترك الجمعة صغيرة، والاعتكاف إنما يبطل بارتكاب الكبيرة، اللهم إلا أن يتركها ثلاث مرات متواليات، وإلا جرى الخلاف في بطلانه بالكبيرة، ثم استثنى من قوله: إنه لا يكون إلا في الجامع قوله: "إلا أن ينذر" أو ينوي "أياما لا تأخذه فيها الجمعة" فإنه يصح اعتكافه في أي مسجدثم بين أقل ما يستحب من الاعتكاف بقوله: "وأقل ما هو أحب إلينا من الاعتكاف عشرة أيام" هذا هو المعتمد لأن مالكا أنكر مقابله وقال: أقله عشرة أيام لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف أقل منها، وأكثره شهر، ويكره ما زاد عليه، وقال ابن الحاجب: أكمله عشرة أيام، وأقله يوم وليلة، ويكره ما زاد على عشرة، ونقل هذا عن مالك أيضا فتلخص أن له قولين في أقله، وتظهر فائدة الخلاف في الأقل فيمن نذر اعتكافا أو دخل فيه ولم يعين عددا، فعلى كلام المصنف يلزمه اعتكاف عشرة أيام؛ لأنها أقل المستحب، وعلى قول ابن الحاجب يلزمه يوم وليلة؛ لأنهما أقل المستحب عنده"ومن نذر اعتكاف يوم فأكثر لزمه" مع ليلة فيلزمه دخول المعتكف قبل الغروب أو معه. "و" كذا "إن نذر" اعتكاف "ليلة" فقط. "لزمه يوم وليلة" قال خليل: ولزم يوم إن نذر ليلة وكذا عكسه، بخلاف ما لو نذر بعض يوم أو بعض ليلة فلا يلزمه شيء إلا أن ينوي الجوار فيلزمه ما نوى، وإنما لزمه الأمران بنذر أحدهما لأن الليلة يعبر بها عن يومها كما في القرآن والسنة. قال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] الآية، اتفق المفسرون وغيرهم على أن المراد الأيام ولياليها. وفي الحديث: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال" 1 فإن الستة بلياليها من شوالفإن قيل: قد علم من كلامه أن نذر أقل من عشرة أيام غير مستحب بل صرح بعضهم بكراهته فكيف يلزمه الوفاء بنذره مع قول خليل: وإنما يلزم به ما ندب؟ فالجواب: أن في ذلك الأقل شائبتين، شائبة كونه مطلق عبادة، وشائبة التجديد بهذا القدر المخصوص، فيلزم الناذر الوفاء به للشائبة الأولى كما قالوه في ناذر رابع النحر يلزمه الوفاء به مع كونه مكروها قبل النذر، ومثل
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال أتباعا، حديث "1164"، والترمذي، حديث "759"، وأحمد "5/417"، حديث "23580".

كلام المصنف في لزومه الوفاء لو نذر أكثر من مدة الاعتكافثم شرع في بطلان الاعتكاف بقوله "ومن أفطر فيه" أي في زمن اعتكافه "متعمدا فليبتدئ اعتكافه" لبطلانه بتعمد إفساد الصوم، ومفهوم متعمدا لو بطل صومه بغير تعمد وبغير وطء ومقدماته كأكله ناسيا وكمرض أو حيض فلا يبتدئه لعدم بطلانه ويقضي بعد زوال عذره اليوم الذي حصل فيه الفطر واصلا له باعتكافه حيث كان الصوم فرضا بحسب الأصل كرمضان أو منذورا ولو معينا، فلو أمرناه بالبناء فنسي ابتداء اعتكافه ولا يعذر بالنسيان الثاني، بخلاف من ذكر نجاسة وهم بغسلها فنسي وشرع في الصلاة بعد النسيان الثاني فصلاته صحيحة، ويعيد ندبا في الوقت لخفة أمر النجاسة لما قيل من أن إزالتها سنة أو مندوبة، وأما لو كان الصوم الذي اعتكف في زمنه تطوعا ففيه تفصيل، فإن كان الفطر بأكل أو شرب على وجه السهو فكذلك يقضيه لما معه من التفريط، وإن كان الفطر لحيض أو نفاس أو مرض لم يلزم قضاؤه، فإن قلت: كيف يقضي ما أفطر في زمنه لمرض أو حيض مع كونه منذورا معينا وفات؟ فالجواب: أن الصوم لما انضم له الاعتكاف تقوى جانبه فلزم قضاؤه ولو منذورا معينا، ويجري مثل هذا الجواب والسؤال في وجوب القضاء على من أفطر في التطوع ناسيا، ويجاب بأن الصوم لما كان شرطا في الاعتكاف ووجب قضاء الاعتكاف وجب قضاء الصوم بطريق التبع، وإنما سقط القضاء بالحيض والنفاس حيث كان الصوم تطوعا، ولزم مع الفطر بالنسيان لما مر من أن الناسي عنده نوع من التفريط مع انضمام وجوب قضاء الاعتكاف المنذور، وقيدنا بغير الوطء ومقدماته؛ لأن عمدهما وسهوهما سواء وإليهما الإشارة بقوله: "وكذلك" أي يبتدئ الاعتكاف "من جامع فيه ليلا أو نهارا ناسيا أو متعمدا" ومثل الجماع قبلة لشهوة واللمس ببعض جسد من يلتذ به مع قصد اللذة أو وجدانها، فذكر الوطء وصف طردي لا إن قبل من لا تشتهى، أو لوداع أو رحمة ولم يجد لذةقال أبو عمران: وطء المكرهة والنائمة كغيرهما في بطلان اعتكافهما بخلافه احتلامهما، وإلى هذا كله الإشارة بقول خليل: وصحته بعدم وطء وقبلة شهوة ولمس وإن لحائض ناسية، واعلم أن هذه المذكورات تبطل الاعتكاف ويبتدئه ولو كانت لا تبطل الصوم، كما لو وقعت من المعتكف ليلا أو في تطوع نهارا نسيانا، ومما يبطل الاعتكاف تعمد السكر ولو ليلا ولو صحا قبل الفجر، وأما سكره بحلال فإنما يبطل اعتكاف يومه إن حصل السكر نهارا كالجنون والإغماء فيجري فيه من التفصيل ما جرى فيهما، وأما الكبائر غير المفسدة للصوم كالقذف

والغيبة فقيل كالسكر بالحرام وقيل ليست كذلك لزيادته عليها بتعطيل الزمن، وأما الصغائر فلا تبطل الاعتكاف اتفاقا
ثم شرع في أعذار لا تبطله إنما تمنع إما الجلوس في المسجد أو الصوم بقوله: "وإن مرض" المعتكف مرضا يمنعه من المكث في المسجد أو من الصوم دون المكث في المسجد أو جن أو أغمي عليه "خرج إلى بيته" وجوبا مع المرض المانع من المكث في المسجد مع جواز المانع من الصوم فقط. وفي الرجراجي: أنه يجب عليه المكث في المسجد مع المانع من الصوم فقط. "واذا صح" من مرضه ورجع إلى معتكفه سريعا "بنى على ما تقدم" من اعتكافه، والمراد بالبناء في كلامه الإتيان ببدل ما فات بالعذر، سواء كان على وجه القضاء بأن كانت أيام معينة وفاتت أو لا على وجه القضاء بأن كانت الأيام غير معينة بل مضمونة "وكذلك إن حاضت المعتكفة" تخرج إلى بيتها كما يخرج المريض "وحرمة الاعتكاف عليهما" أي على المريض ما دام "في المرض وعلى الحائض" ما دامت "في الحيض" فلا يجوز لواحد منهما أن يفعل ما لا يفعله المعتكف. "وإذا طهرت الحائض أو أفاق المريض" وصلة طهرت وأفاق "في ليل أو نهار رجعا" وجوبا "ساعتئذ" أي وقت طهرت الحائض أو أفاق المريض، والمراد بعد طهرها وبرء المريض "إلى المسجد" وإن لم يعتدا بيوم الرجوعقال خليل: وبنى. بزوال أو إغماء أو جنون كأن منع من الصوم لمرض أو حيض أو عيد وخرج وعليه حرمته، فإن أخره بطل إلا ليلة العيد ويومه، وظاهر كلام خليل والمصنف أن المعتكف إذا أخر الرجوع يبطل اعتكافه ولو لعذر من نسيان أو إكراه ويستأنف، لا أن يكون التأخير لخوف على نفسه كما قاله عبد الحق فلا يبطل اعتكافه، كما لا يبطل بالتأخير إذا صادف زوال العذر ليلة العيد أو يومه فلا يبطل اعتكافه، ولو أخر الرجوع حتى مضى العيد وتالياه في الأضحى لعدم صحة صوم ذلك الزمن، بخلاف لو طهرت الحائض أو النفساء أو صح المريض وأخر كل الرجوع إلى المسجد فإن اعتكافه يبطل لصحة صوم ذلك اليوم لغيرهما، بخلاف يوم العيد فإن صومه لا يصح لأحد" تنبيهان " الأول : علم مما قررنا به كلام المصنف أن البناء في كلامه مصروف عن ظاهره إلى معنى أعم، وأن مثل المرض الإغماء والجنون، نعم كلامه ككلام خليل شامل لما إذا كان الاعتكاف بصوم فرض بحسب الأصل كرمضان أو بنذر، لكن إن كانت أيامه مضمونة أي غير معينة لا فرق بين حصول العذر قبل دخول المسجد أو بعده، وأما لو كانت معينة فلا يجب البناء

إلا إذا حصل العذر بعد دخول المسجد، وأما لو حصل قبل الدخول في المعتكف ففيه ثلاثة أقوال المعتمد منها عدم لزوم القضاءالثاني : في كلام المصنف بعض تكرار بيانه أنه قال أولا في المريض: فإذا صح بنى، ثم أعاده ثانيا في قوله: وإذا طهرت الحائض أو أفاق المريض، هكذا قال بعض، وظهر لنا جواب يندفع به دعوى التكرار وهو أن القصد من إعادته ثانيا الإشارة إلى وجوب رجوعه سريعا إلى المسجد؛ لأنه لم يعلم من قوله أولا إذا صح بنى وجوب الرجوع سرعة فنبه عليه ثانياثم شرع في بيان ما يجوز للمعتكف الخروج لأجله وما لا يجوز بقوله: "ولا يخرج المعتكف من معتكفه" أي محل اعتكافه لأن الخروج مناف للملازمة "إلا لحاجة الإنسان" التي لا يجوز فعلها في المسجد كبول، وما لا غنى له عن تحصيله كشراء مأكوله ومشروبه، لكن بشرط أن لا يجاوز محلا قريبا يمكن الشراء منه، فالمراد بحاجته ما يحمله على الخروج، فيشمل الخروج للوضوء والغسل لجنابته أو عيده أو جمعته أو تبرده لحر أصابه كما قاله في الطراز من رواية ابن وهب، ولو كانت هذه المذكورات في الحمام، وقول الشامل: ولا يدخل المعتكف الحمام محمول على من يمكنه التطهر في بيته أو في محل أقرب منه، ويجوز له أيضا الخروج لغسل ثيابه التي أصابتها نجاسة ولا غنى له عنها، ويجوز له انتظار تجفيفه إن لم يمكنه الاستنابة لغيره، ويجوز له أيضا الخروج لمرض أبويه أو أحدهما أو لحضور جنازة أحدهما وإن بطل اعتكافه، وإذا ماتا معا لا يخرج لجنازتهما ولا لأداء شهادة وإن وجبت ويؤديها في المسجد، وإذا خرج لشيء مما لا يجوز الخروج إليه بطل اعتكافه" تنبيهات " الأول : يستحب لمريد الاعتكاف أن يحصل جميع ما يحتاج إليه قبل دخوله المعتكف، ويكره دخوله غير مكفىالثاني : إذا أراد المعتكف أن يأكل أو يشرب فيأكل في أي محل من المسجد، ويجوز له الأكل في رحابه أو في المنارة ويغلقها عليه، فإن أكل خارجه بين يديه كره له ذلك، وأما لو أكل خارجا عما بين يديه فإنه يبطل اعتكافهالثالث : كخروجه لبعض حوائجه، ولمانع حصل له كحيض أو إغماء أو جنون وقضى حاجته أو زال مانعه وقلنا يرجع سريعا هل يجب عليه الرجوع إلى المسجد الذي كان فيه أولا، أو يجوز له الذهاب إلى أي مسجد حيث كان مثل الأول في القرب

أو أقرب؟ توقف في ذلك شيخ مشايخنا الأجهوري، والذي يظهر لي عدم تعيين الأول حيث وجد مثل الأول في القرب أو أقرب وحرر المسألة، وهذا بخلاف ما لو ابتدأ اعتكافه في مسجد وأراد أن يخرج منه لا لعذر بل لمجرد الانتقال ليكمل فيه اعتكافه، فلا يجوز له على ما يظهر ويبطل اعتكافه؛ لأنه لو كان يجوز له الانتقال إلى محل آخر اختيارا لما وجب على ناذر أيام تدركه فيها الجمعة الاعتكاف في محل خطبةثم بين الزمن الذي يطلب من مريد الاعتكاف الدخول فيه بقوله: "وليدخل" مريد الاعتكاف "معتكفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يبتدئ فيها اعتكافه" ليستكمل الليلة، وحكم الدخول في ذلك الوقت الوجوب إن كان الاعتكاف منذورا، والندب إن لم يكن منذورا، وعلى الوجهين لو أخر دخوله ودخل قبل الفجر أجزأهقال خليل: وصح إن دخل قبل الفجر؛ لأنه أدرك محل النية، بل ولو دخل مع الفجر بناء على صحتها مع الفجر لكن مع الإثم على التأخير في الاعتكاف المنذور، وإنما أجزأه مع مخالفته الواجب بناء على أن أقله يومثم شرع في بيان ما ينهى المعتكف عن فعله فقال: "ولا يعود مريضا" أي على جهة الكراهة، والمراد في المسجد لا إن كان خارجه فيمنع ويبطل اعتكافه، وأما سلامه على من بقربه فلا بأس به، ولا يقوم من محله للتعزية ولا للتهنئة، وهذا حيث كان المريض غير أبويه، وأما هما أو أحدهما فقد مر أنه يجب عليه الخروج لعيادتهما أو لجنازة أحدهما، ويبطل اعتكافه كخروجه لصلاة الجمعة فإنه واجب ويبطل اعتكافه"ولا يصلي" المعتكف "على جنازة" ولو لاصقت ولو جنازة جار أو صالح، والمراد يكره إلا أن يتعين فيجب عليه الصلاة عليها، كما يجب عليه أن يخرج لتجهيزها إن تعين عليه وتبطل اعتكافه، واتفق الشيوخ على جواز حكايته الآذان؛ لأنه ذكر، ولا يقال: الصلاة على الجنازة مشتملة على تكبير وهو ذكر؛ لأنا نقول: هي تقتضي المشي والانتقال من محله والمخالطة للناس المنافي كل منهما للاعتكاف، ولا يقال: الصلاة على الجنازة أحب من النفل إذا قام بها الغير إن كان الميت جارا أو صالحا، وقلتم هنا يكره مطلقا؛ لأنا نقول: ذلك في حق غير المعتكف والله أعلم "و" كذا "لا يخرج لتجارة" أي يكره إذا كان محلها قريبا من المسجد بحيث يكون بين يديه، وأما لو كان خارجا عن ذلك فيمنع ويبطل اعتكافه كما تقدم في خروجه لأكله، ومفهوم التجارة أنه لو كان لنحو أكله فلا ينهى عنه. قال في المدونة: ولا بأس أن يشتري ويبيع الشيء الخفيف من عيشه الذي لا يشغله، وأما شراؤه أو بيعه للتجارة داخل المسجد فيكره أيضا، فلا مفهوم لقوله يخرج، فالحاصل أنه يكره

بيعه أو شراؤه للتجارة مطلقا أي سواء خارج المسجد أو داخله، ويجوز لغيرها مما لا يستغنى عنه ولو خارجه بحيث لا يجاوز محلا قريبا يمكن الشراء منه، ويشترط أن لا يجد من يشتري له، وقد سئل مالك: أيجلس مجالس العلماء ويكتب العلم؟ فقال: لا يفعل إلا الأمر الخفيف والترك أحب إليقال ابن القاسم في المجموعة: ولا يخرج لمداواة رمد بعينيه وليأته من يعالجه، ولا يصعد لتأذين بمنار أو سطح. قال خليل مشيرا إلى ما يكره للمعتكف بقوله: وكره أكله خارج المسجد، واعتكافه غير مكفى، ودخوله منزله وإن لغائط، واشتغاله بعلم وكتابته وإن مصحفا إن كثر، وفعل غير ذكر وصلاة وتلاوة كعيادة وجنازة ولو لاصقت، وصعوده لتأذين بمنار أو سطح، وإخراجه لحكومة إن لم يلذ به، وأشار إلى الجائز بقوله: وجاز إقراء قرآن وسلامه على من بقربه وتطيبه، وأن ينكح وينكح، وأخذه إذا خرج لغسل جمعة ظفرا أو شاربا، وانتظار غسل ثوبه وتجفيفه، وندب إعداد ثوبه ومكثه ليلة العيد"ولا شرط" معمول به "في الاعتكاف" قال الجزولي: صورته أن يقول: أعتكف الأيام دون الليالي أو بالعكس، أو أعتكف عشرة أيام إلى أن يبدو لي فهذا لا يجوز، وإن وقع ونزل فأقوال ثلاثة: المشهور منها أنه يبطل الشرط ويصح الاعتكاف، وكذا لو شرط أنه إن عرض له أمر يوجب القضاء فلا قضاء عليه لم يفده، ولا فرق في ذلك بين أن يشترط ذلك قبل دخول المعتكف أو بعده. قال ابن عرفة: وشر منافيه لغو وقال خليل: وإن شرط سقوط القضاء لم يفده"ولا بأس" أي يندب "أن يكون" المعتكف "إماما لمسجد" ولو راتبا؛ لأن الصلاة لا تنافي الاعتكاف وإنما استحب كونه إماما، لأن "النبي صلى الله عليه وسلم أم في زمن اعتكافه"، ولا يفعل لنفسه إلا ما كان راجح الفعل، فما في خليل من كراهة ذلك فخلاف المشهور، وأما إقامة الصلاة أو صعوده للأذان على منار أو سطح فمكروهتان؛ لأن ما ذكر ليس من شأن المعتكف. ثم شرع في بيان ما يباح له فعله بقوله: "وله أن يتزوج" أي يباح للمعتكف عقد النكاح سواء كان رجلا أو امرأة. "أو" أي ويباح له أن "يعقد نكاح غيره" قال خليل: وله أن ينكح وينكح بشرط أن يفعل ذلك في مجلسه من غير تشاغل به بأن كان مجرد إيجاب وقبول، وأما لو عقد بغير مجلسه فإن كان في المسجد كره، وإن كان خارجه حرم وبطل اعتكافه، وهذا بخلاف المحرم بنحو حج أو عمرة فإنه لا ينكح ولا ينكح، والفرق أن المعتكف منعزل عن الناس بخلاف المحرم؛ ولأنه مفسدة

الإحرام أشد من مفسدة الاعتكاف، ومما يجوز للمعتكف قراءة القرآن على غيره وسماعه من غيره وسلامه على من بقربه من صحيح أو مريضثم بين وقت خروجه من المسجد بعد تمام اعتكافه بقوله: "ومن اعتكف" بالنذر أو على وجه التطوع عشرة أيام "أول الشهر" رمضان أو غيره "أو وسطه" وأتمها "خرج" جوازا "من اعتكافه بعد غروب الشمس من آخره" لانقضاء اعتكافه بغروب شمس آخر يوم، وفهم من قوله: بعد غروب الشمس أنه لا يجوز الخروج قبل الغروب وهو كذلك من غير خلاف. "و" أما "إن اعتكف بما" أي في زمن يتصل فيه "اعتكافه بيوم الفطر" المراد أن يكون آخره غروب الشمس ليلة عيد الفطر والنحر، كمن اعتكف العشر الأخير من رمضان أو الأول من ذي الحجة. "فليبت" على جهة الندب "ليلة" يوم عيد "الفطر" أو النحر "في المسجد" الذي اعتكف فيه، وإنما استحب له البيات في المسجد "حتى يغدو منه إلى المصلى" ليصل عبادة بعبادة. قال مالك رضي الله عنه: بلغني أنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك عند اعتكافه العشر الأخير من رمضان" خاتمة " يتأكد ندب الاعتكاف في شهر رمضان، والأفضل منه العشر الأخير لأجل طلب ليلة القدر، وهي الليلة التي يقدر فيها - سبحانه وتعالى - جميع الأمور والأحكام الجارية في مخلوقاته في السنة المقبلة المشار إليها بقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ومعنى تقدير الأمور تلك الليلة سوقها إلى مواقيتها وتنفيذ القضاء المقدر؛ لأن الله تعالى قدر الأشياء قبل خلق السموات والأرض، لأن الغالب كونها فيه لخبر: "التمسوها في العشر الأواخر" وهي الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجما بعد نجم على قدر الحاجة، وكان نزول أوله وآخره في عشرين سنة، وما قدمناه هو أحد قولين أشار إليهما خليل بقوله: وفي كونها بالعام أو برمضان خلاف. قال مالك والشافعي وأحمد، وأكثر أهل العلم: فإنها لا تختص بليلة، وعلى القولين لا تلزم ليلة بعينها بل تنتقل، فإذا كانت في سنة في ليلة تكون في سنة في ليلة أخرى وهي باقية إلى يوم القيامة على الصواب بدليل حثه صلى الله عليه وسلم على التماسها وما ورد من رفعها، فالمراد رفع تعيينها خلافا لمن قال برفعها جملة وسميت ليلة القدر لتقدير الكائنات فيها من أرزاق وغيرها وإظهارها للملائكة، وسبب امتنان الله تعالى بتلك الليلة على أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنه صلى الله عليه وسلم نظر في أعمار من مضى من الأمم وتعجب من طولها مع قصر أعمار أمته وعدم بلوغها عمر

الأوائل، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومعنى ذلك أن العمل الصالح في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، والمراد عمل ليلها ونهارها، كما أن المراد بالألف شهر ما يشمل الليل والنهار، ووقع خلاف هل يحصل الثواب المذكور لمن عمل عالما بها أو يحصل لكل من صدر منه العمل ولو لم يشعر بها؟ والصواب من ذلك الخلاف حصول الثواب مطلقا، لكن ثواب من عمل مع العلم بها بظهور شيء من علاماتها أتم من ثواب من لم يعلم، وعلاماتها كثيرة:
منها: أن المياه المالحة تعذب تلك الليلة ثم ترجع إلى أصلها، ومنها: أن الشمس لا تطلع يومها على قرني شيطان بخلاف يوم غيرها، ومنها: اقشعرار وبكاءومنها: أن تلك الليلة تكون مشرقة نيرة ومعتدلة لا حارة ولا باردة ولا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح، ولا يرى فيها نجم، وتطلع الشمس صبيحتها مشعشعة حمراء لا شعاع لها، كان عليه الصلاة والسلام يأمر من رأى علامة ليلة القدر أن يقول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنيوقالت عائشة رضي الله عنها: لو رأيت ليلة القدر ما سألت الله إلا العفو والعافية. هذا ملخص الكلام على ليلة القدرقال الباجي: مقتضى هذا اختصاص هذه الأمة بها، وثواب العمل فيها أكثر من ثوابه في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، وعدة الألف شهر بالسنين ثلاث وثمانون سنةولما فرغ من الكلام على معظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وهو الصلاة والصوم، شرع في الزكاة وكان الأنسب تقديمها بعد الصلاة وتأخير الصوم عنها كما في حديث: "بني الإسلام على خمس" 1 ولعله إنما أخرها عن الصوم لمناسبة الصوم للصلاة فقال:
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: بني الإسلام على خمس، حديث "8" ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، حديث "16"، والترمذي، حديث "2609"، والنسائي، حديث "5001"، وأحمد "2/26" حديث "47981".

"باب في" بيان أحكام "زكاة العين"
"والحرث والماشية وما يخرج من المعدن و" ذكر في "أحكام" وقدر "الجزية" في بيان قدر "ما يؤخذ من تجار" بضم التاء جمع تاجر كفاجر وفجار، ويقال تجار بكسرها كصاحب وصحاب "أهل الذمة و" من تجارة "الحربيين" وستأتي الزيادة على ما ترجم له وهي أحكام الركاز وزكاة العروض، والزكا في اللغة النمو والزيادة، يقال: زكا الزرع وزكا المال إذا كثر، وفي الشرع بالمعنى الاسمي جزء من المال شرط وجوبه لمستحقه بلوغ المال نصابا، والمعنى المصدري: إخراج جزء من المال إلخووجه تسمية الجزء زكاة على ما قال ابن رشد: أن فاعلها يزكو بفعله عند الله أي يرفع بذلك عند الله تعالى، كما يشهد بذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وقيل: لنمو ذلك الجزء في نفسه عند الله لخبر: "من تصدق بكسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا كان كأنما يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربي أحدكم فلوه بفتح الفاء والواو المشددة أو فصيله حتى تكون مثل الجبل" 1 أو قيل غير ذلك، وبدأ بحكمها فقال: "وزكاة" بالرفع لأنه مبتدأ وهي بمعنى تزكية "العين" أعني الذهب والفضة. "والحرث" وهي سائر الحبوب المعروفة والثمار وذوات الزيوت الآتي بيانها. "والماشية" وهي خصوص بهيمة الأنعام لا غيرها من الخيل والبغال وخبر المبتدأ "فريضة" ولو كانت الماشية معلوفة أو عاملة ولو كان الحرث في أرض خراجية دل على فرضيتها الكتاب والسنة والإجماع، وفرضت في ثانية الهجرة بعد زكاة الفطرأما الكتاب فآيات كثيرة منها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وأما السنة فحديث الصحيحين: "بني الإسلام على خمس" 2 إلى قوله: "وإيتاء الزكاة" وأما الإجماع فقال القرافي: اتفقوا على وجوبها فمن جحدها فهو كافر، إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام، وأما
ـــــــ
1 صحيح: اخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب، حديث "1410" ومسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، حديث "1014"، والترمذي، حديث "661"، والنسائي، حديث "2525"، وابن ماجه، حديث "1842"، وأحمد "2/331" حديث "8363"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب بني الإسلام على خمس، حديث "8" ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، حديث "16"، والترمذي، حديث "2609". والنسائي، حديث "5001"، وأحمد "2/26" حديث "4798" وتقدم برقم "442".

من أقر بوجوبها وامتنع من أدائها فإنها تؤخذ منه كرها وإن بقتال وتجزيه وفرضيتها على غير الأنبياءولوجوبها شروط ستة: الإسلام بناء على عدم خطاب الكفار، والملك التام، والنصاب، ومرور الحول في غير المعدن، ومجيء الساعي في الماشية، وعدم الدين في العين، والمشهور خطاب الكفار بفروع الشريعة، فيكون الإسلام شرطا في صحة الزكاة، بخلاف خطابهم بالإيمان فإنه متفق عليه، وقولنا على غير الأنبياء لما قاله ابن عطاء من أن الأنبياء لا ملك لهم مع الله؛ لأنهم يشهدون أن جميع ما بأيديهم من ودائع الله يبذلونه في محله؛ ولأن الزكاة إنما شرعت طهرة لما عساه أن يكون ممن وجبت عليه، والأنبياء مبرءون من الدنس لعصمتهم. قال بعض الشيوخ: وهذا بناه ابن عطاء الله على مذهب إمامه من عدم ملك الأنبياء، ومذهب الشافعي خلافهثم بين وقت وجوب إخراج الزكاة في الحبوب بقوله: "فأما زكاة الحرث" كالقمح والشعير والسلت والقطاني السبعة وذوات الزيوت والثمار الآتية "فيوم حصاده" لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقولنا وقت وجوب إخراج الزكاة؛ لأن وقت الوجوب يدخل بمجرد الإفراكقال العلامة خليل: والوجوب بإفراك الحب وطيب الثمر فما أكل بعد الإفراك زمن المسغبة من القمح والشعير والفول يجب عليه أن يتحراه ويؤدي زكاته من جنسه حبا ناشفا أو من ثمنه إن باعه، كما يجب عليه أن يتحرى ما تصدق به أو ما استأجر به، وأما الثمار فوقت الوجوب فيها يوم الطيب. قال مالك: إذا زهت النخل وطاب الكرم واسود الزيتون أو قارب وأفرك الزرع واستغنى عن الماء وجب فيه الزكاة. "و" أما تزكية "العين" غير المعدن "والماشية ففي" تمام "كل حول مرة" حيث لا ساعي في الماشية وإلا فبعد حضوره وعده حيث أمكن حضوره وحضر بالفعل، فالحاصل أن العين إنما تزكى بعد تمام اثني عشر شهرا، وكذا الماشية التي لا ساعي لها أو لا يمكن وصوله وإلا فبعد وصوله بعد تمام الحولقال خليل: وهو شرط وجوب إن كان وبلغ، فإن تخلف وأخرجت أجزأ الإخراج ولو تخلف لغير عذر، ومحل الإجزاء إن أثبت المخرج والإخراج بالبينة فإن أخرجت قبل مجيء الساعي دون تخلف فلا تجزئ، بخلاف التي لا ساعي لها فيجزئ إخراجها ولو قبل تمام الحول حيث كان التقدم بيسير كالشهر.

قال خليل: أو قدمت بكشهر في عين وماشيةولما فرغ من بيان وقت إخراجها شرع في بيان قدر النصاب وهو القدر الذي بلغه المال وجبت زكاته بقوله: "ولا" تشرع "زكاة من الحب" الذي فيه الزكاة وهو القمح والشعير والسلت والأرز والدخن والذرة والعلس والقطاني السبعة التي هي العدس واللوبيا والترمس والحمص والبسلة والفول والجلبان وذوات الزيوت وهي حب الفجل الأحمر والسمسم المعبر عنه بالجلجان والقرطم والزيتون"والتمر" والزبيب فهذه عشرون نوعا لا غيرها من نحو بزر كتان أو سلجم أو بزر فجل أبيض ولا في فواكه كرمان أو خوخ كما يأتي في كلامه "في أقل من خمسة أوسق" بناء على مشهور المذهب من أن النصاب تحديد، والدليل على ذكر قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" 1. ورواية مسلم: "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق" 2والأوسق جمع وسق بفتح الواو على اللغة المشهورة، ومقابل المشهور يقول النصاب تقريب فتجب عند النقص اليسير، ولما كانت الأوسق قد لا تعرف في بعض البلاد فسر قدرها بالكيل بقوله: "وذلك" من الخمسة أوسق قدره بالكيل "ستة أقفزة" جمع قفيز وهي ثمانية وأربعون صاعا وربع قفيز فالستة أقفزة "وربع" قفيز هي الخمسة أوسق وقدرها بالكيل المصري على ما حرره شيخ مشايخنا الأجهوري بالأقداح أربعمائة قدح وبالأرادب أربعة أرادب وويبة لكبر الكيل في زمنه عما كان في الأزمنة السابقة، فلا ينافيه ضبط العلامة خليل في زمنه الأوسق بالكيل المصري ستة أرادب ونصف ويبة"والوسق" قدره بالصيعان "ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو" أي صاع النبي صلى الله عليه وسلم "أربعة أمداد بمده عليه الصلاة والسلام" والمد حفنة وهي ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، ووزنه رطل وثلث بالبغدادي، فيكون الصاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وحينئذ فالخمسة أوسق بالأرطال الشرعية ألف وستمائة رطل كل رطل مائة وثمانية وعشرون درهما بالوزن المكي، والرطل اثنا عشر أوقية والأوقية أحد عشر درهما ووزن الدرهم خمسون وخمسا حبة من متوسط الشعير، وأما بالأرطال المصرية فالخمسة أوسق كما قال الأجهوري
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الورق، حديث "1447" ومسلم، كتاب الزكاة، حديث "979"2 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب-، حديث "979".

ألف رطل وأربعمائة رطل وخمسة وثمانون رطلا، فعلم أن الخمسة أوسق بالصيعان ثلاثمائة صاع، وبالأمداد ألف مد ومائتا مد، وبما ذكرنا علم قدر النصاب بالكيل الشرعي والمصري وبالوزن الشرعي والمصري" تنبيهات " الأول : لم يبين المصنف القدر المأخوذ من النصاب وهو العشر فيما سقي بغير مشقة فيدخل أرض السيح أي الماء الجاري، وما سقي من السماء، وما سقي بقليل ماء كالذرة الصيفي بأرض مصر فإنه يصب عليه قليل ماء عند وضع حبه في الأرض ثم لا يسقى بعد ذلك، ونصف العشر فيما سقي بمشقة كالدواليب والدلاء والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون العشر وما سقي بالنضح نصف العشر" 1 وإن سقي بهما فعلى حكميهما حيث تساويا أو تقاربا فيؤخذ العشر من ذي السيح ونصفه من ذي الآلة، وإن سقي بأحدهما أكثر فقيل الحكم للأكثر ويلغى الأقل وقيل لا تبعية وتعتبر القسمةقال خليل: وإن سقي بهما فعلى حكميهما وهل يغلب الأكثر خلافالثاني : شرط اعتبار الخمسة أوسق أن تكون خالصة من التبن الذي لا تخزن به، وأن تكون مقدرة الجفاف فيما أكل أخضر كفريك وشعير أو فول أو كان مما لا يجف أصلا كعنب وزيتون وبلح مصر، أو مما يجف كعنب وبلح غير مصر وأكل قبل جفافهالثالث : شرط وجوبها في الحبوب والثمار أن تكون مزروعة، وأما ما وجد من الحبوب والثمار نابتا في الجبال والأراضي المباحة فلا زكاة فيه. قال الشيخ أحمد الزرقاني ابن يونس: قال مالك: وما يجمع من الزيتون والتمر والعنب في الجبال فلا زكاة فيه وإن بلغ خرصه خمسة أوسق ولا يكون أهل قرية ذلك الجبل أحق به وهو لمن أخذه؛ لأن الأرض كلها لله ولرسوله. قال محمد: إلا ما كان من ذلك بأرض العدو فإن في جميع ما سميت لك الخمس إن جعل في الغنائمثم شرع فيما يضم بعضه إلى بعض لكمال النصاب وما لا يضم بقوله: "ويجمع القمح والشعير والسلت" وهو المعروف بشعير النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يكمل النصاب من كل واحد بانفراده وصلة يجمع "في الزكاة" لتقارب منفعتها ولذلك جعلت في البيع جنسا بحيث يحرم التفاضل في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب العشرة فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، حديث "1483"، وأبو داود، حديث "1572"، والنسائي، حديث "2490"، وأحمد "5/233" حديث "22090".

بيع بعضها ببعض. "فإذا اجتمع من جميعها" بعد الضم "خمسة أوسق" فأكثر "فليزك ذلك" المجموع ويخرج من كل نوع بحسابهقال خليل: وأخذ من الحب كيف كان كالتمر نوعا أو نوعين وإلا فمن أوسطها، فإن أخرج عن أحدها من غيره فإن أخرج من الأعلى عن الأدنى أجزأ بخلاف عكسه، ويجب الضم ولو زرعت ببلدانقال خليل: وتضم القطاني كقمح وشعير وسلت وإن ببلدان إن زرع أحدهما قبل حصاد الآخر؛ لأن الحصد في الحبوب كالحول، وإن زرع أحدهما بعد حصاد الآخر فلا ضم، فإذا زرع في ثلاثة أماكن وزرع الثاني قبل حصاد الأول وزرع الثالث بعد حصاد الأول وقبل حصاد الثاني، فإن كان في كل واحد نصاب فلا إشكال، وإن لم يكن في كل واحد نصاب فإنه ينظر إن كان في الأول وسقان وفي الثالث وسقان أيضا وفي الوسط وهو الثاني ثلاثة أوسق فإنه يضم لكل منهما ويزكى الجميع، لكن يشترط في الضم أن يبقى من حب الأول إلى حصاد الثاني ما يكمل به النصاب، فلا بد في زكاة الجميع عند ضم الوسط لكل منهما أن يبقى حب السابق لحصد اللاحق، فإن لم يكن في الوسط مع كل واحد على البدلية نصاب مثل أن يكون في كل واحد من الثلاثة وسقان فلا زكاة في الجميع، وأما لو كان يكمل النصاب من الوسط مع أحدهما دون الآخر، مثل أن يكون في الوسط ثلاثة أوسق، وفي الأول اثنان وفي الثالث واحد أو بالعكس، فنص اللخمي: لا زكاة على القاصر، والذي استظهره ابن عرفة إن كمل النصاب من الأول والوسط زكي الثالث معهما، وإن كمل من الثالث والوسط زكاهما دون الأولقال بعض: ولعل الفرق أنه إذا كمل النصاب من الأول والثاني فالأول مضموم للثاني فالحول للثاني وهو خليط للثالث، وإذا كمل من الثاني والثالث فالمضموم الثاني للثالث فالحول للثالث ولا خلطة للأول به وهو فرق جيد. "وكذلك تجمع" لتكميل النصاب "أصناف التمر" كالصيحاني فإنه يضم للبرني والعجوة؛ لأن الضابط أن الأنواع المتقاربة في المنفعة يضم بعضها لبعض مراعاة لحق الفقراء ويخرج من كل نوع بحسابه إلا إذا زادت على نوعين فمن أوسطها كما يأتي، ويفهم من كلامه أن القمح وما معه لا يضم لأصناف التمر وهو كذلك. "وكذلك تجمع أصناف القطنية" بكسر القاف وفتحها لبعضها بشرط زرع المضموم قبل حصاد المضموم إليه كما تقدم في كلام خليل، فإذا اجتمع من جميعها خمسة أوسق زكى وإلا فلا؛ لأنها في الزكاة جنس واحد رفقا بالفقراء بخلاف البيع، وتجمع القطنية على قطاني وهي كل ما

له غلاف كالبسيلة والحمص والعدس والجلبان والفول والترمس واللوبيا، وسميت بالقطاني؛ لأنها تقطن بالمكان أي تقيم به، وليس منها الجلجلان ولا حب الفجل ولا الكرسنة، وتقدم أنه عند الضم يخرج من كل نوع بحسابه، وإن أخرجت من بعض الأنواع فقط أجزأ إن كان المخرج منه أعلى من المخرج عنه"وكذلك" تجمع "أصناف الزبيب" بعضها إلى بعض فيضم الجعرور لغيره والأسود للأحمر، فإن اجتمع النصاب زكى وإلا فلا. ولما فرغ مما يضم بعضه إلى بعض شرع فيما لا يضم بقوله: "والأرز" مبتدأ وقوله: "والدخن والذرة" معطوفان عليه وجملة "كل واحد منها صنف" خبر المبتدأ لا يضم شيء من تلك المذكورات "إلى الآخر في الزكاة" كما أنها أجناس في البيع يجوز التفاضل فيما بينها"وإذا كان في الحائط أصناف" مختلفة بالجودة والرداءة "من التمر" وكمل النصاب بضم بعضها إلى بعض "أدى" أي أخرج المالك "الزكاة عن الجميع من وسطه" أي التمر، ومثل أصناف التمر في الإخراج من الوسط أصناف الزبيب على ما رجحه بعضهم، وإنما أجزأ ذلك رفقا بالمزكي وبالفقراء، إذ لو أخذ من الأعلى عن الجميع لأضر برب المال، أو من الأدنى عن الجميع لأضر بالفقراء، فكان العدل الوسط، وسكت عما لو أخرج كل واحد بحسبه ولم يخرج من أوسطها لوضوح أمره وهو الجواز؛ لأنه الأصل، ومفهوم كلام المصنف لو كان الحائط كله جيدا أو كله رديئا لأخذ منه على المشهور، ومفهوم أصناف لو اجتمع صنفان فقط جيد ورديء، ففي الجواهر: يؤخذ من كل بقسطه ولا ينظر للأكثر، ومفهوم أصناف التمر أن أصناف الحبوب ليست كذلك بل يؤخذ من كل بحسبهقال خليل: وأخذ من الحب كيف كان كالتمر نوع أو نوعين وإلا فمن أوسطها
ولما كان المعتبر في النصاب الكيل والإخراج تارة من الحب وتارة من غيره أشار للثاني بقوله: "يزكى الزيتون إذا بلغ حبه خمسة أوسق" مقدرة الجفاف فإذا قال المخرص إنه بعد الجفاف يبلغ خمسة أوسق "أخرج" المالك زكاته "من زيته" إن كان في بلد له فيها زيت ولو كان زيته رطلا ولا يجزئ الإخراج من حبه ولأئمته على مذهب المدونة وهو المشهور، وما يأتي عن المصنف ضعيف، فلو قال الخارص أنه يقصر عن الخمسة أوسق فلا زكاة فيه ولو كثر زيته، والقدر الذي يخرج من زيته العشر إن سقي بغير مشقة، ونصفه إن سقي بها، والنقص والعصر على ربه. "و" كذلك "يخرج" جزء الزكاة "من الجلجلان" وهو السمسم "ومن حب الفجل" الأحمر إذا بلغ حب كل خمسة أوسق "من زيته" وظاهره سواء كان زيته يستعمل في الأكل أو

غيره على المشهور. "تنبيه": ظاهر كلام المصنف أنه لا يجزئ الإخراج من حب ما ذكر وليس كذلك، بل المعتمد إجزاء الإخراج من حبهما، ومثلهما القرطم فتستثنى هذه من ذوات الزيوت؛ لأنها تراد لغير العصر كثيرا فليست كالزيتون الذي له زيت، فإنه يتعين الإخراج من زيته كتعين الإخراج من ثمن ما ليس له زيت منه. "فإذا باع ذلك" المذكور من حب الخمسة أوسق قبل العصر "أجزأه أن يخرج من ثمنه إن شاء الله" تعالى هذا ضعيف والمعتمد أنه لا يخرج إلا من زيته كما صدر به بقوله: ويزكى الزيتون إلى قوله: من زيته، والحاصل أن الزيتون إذا كان له زيت يتعين الإخراج من زيته ولا يجزئ الإخراج من حبه، ولأئمته إذا باعه وإن كان في بلد لا زيت له فيها كزيتون مصر فيخرج من ثمنه من غير خلاف، ومثله ما لا يجف من رطب مصر وعنبها وحمصها وفولها وفريكها إذا بيعت قبل جفافها، إلا أن هذا يجوز إخراج زكاتها حبا يابسا كما تقدم في نحو الجلجلانولما قدمنا أن المزكى من أنواع النبات عشرون نوعا وكانت غير معلومة صريحا من كلامه نص على ما لا زكاة فيه بقوله: "ولا زكاة في الفواكه" كانت تيبس كالبندق أو لا كالخوخ والرمان"و" كذا لا زكاة في "الخضر" كالبطيخ والخيار والبقول كالبصل لقول عائشة رضي الله عنها: جرت السنة أن لا زكاة في الخضر على عهده عليه الصلاة والسلام وعهد الخلفاء بعدهولما فرغ من الكلام على ما يزكى من الحبوب وما لا يزكى شرع في الكلام على زكاة العين وبيان قدر النصاب منها بقوله: "ولا زكاة من الذهب" مسكوكا أو غيره "في أقل من" وزن "عشرين دينارا" شرعية بناء على المشهور من أن النصاب تحديد. "فإذا بلغت" العين من الذهب وزن "عشرين دينارا ففيها نصف دينار" وهو "ربع العشر" ووزن الدينار الشرعي أربعة وعشرون قيراطا، والقيراط ثلاث حبات من متوسط الشعير فوزنه من الحبات اثنان وسبعون حبة من متوسط الشعير، وأما الدنانير المصرية الموجودة في زماننا من سكة محمد وإبراهيم فقد صغرت عن الشرعية حتى صار النصاب منها ثلاثة وعشرين دينارا ونصف دينار وخروبة وسبعي خروبة كما حرره علامة الزمان الأجهوري، ولما كانت العين لا وقص فيها قال: "فما زاد" على العشرين دينارا "فبحساب ذلك وإن قل الزائد لا زكاة في الفضة في أقل من" وزن "مائتي درهم" شرعية ووزنه خمسون وخمسا حبة من متوسط الشعير، ووزن المائتين الشرعية من الدراهم المصرية في زماننا على ما حرره الأجهوري مائة وخمسة وثمانون درهما ونصف درهم وثمن

درهم. "وذلك" القدر المذكور في حد النصاب وهو المائتا درهم "خمس أواق والأوقية" بضم الهمزة وتشديد الياء وزنها بالدراهم الشرعية "أربعون درهما" شرعية؛ لأن الحاصل من ضرب الخمسة في الأربعين مائتان، ويقال لها دراهم الكيل؛ لأن بها تقدر المكاييل الشرعية من أوقية ورطل ومد وصاع، والضارب لها الناقش عليها علامة الإسلام عبد الملك بن مروان، ولما ضربها جاءت على حساب خمسين وخمسي حبة وهي وزن الدرهم الشرعي. ثم بين وزن الدراهم ببيان صفتها بقوله: "من وزن سبعة أعني أن السبعة دنانير" الشرعية "وزنها عشرة دراهم" شرعية؛ لأن وزن السبعة دنانير خمسمائة وأربع حبات، ووزن العشرة دراهم كذلك، وذلك أنك إذا اعتبرت ما في سبعة دنانير وما في عشرة دراهم من الحبات وجدتهما عددا واحدا؛ لأن وزن الدرهم كما تقدم خمسون وخمسا حبة من الشعير المتوسط، وكل دينار وزنه اثنان وسبعون شعيرة، وإذا ضربت عشرة عدد الدراهم في خمسين خرج من ذلك خمسمائة وتبقى الأخماس وهي عشرون خمسا الحاصلة من ضرب العشرة في الخمسين بضم الخاء بأربع حبات فالجملة خمسمائة وأربع حبات، وإذا ضربت سبعة عدة الدنانير في اثنين وسبعين عدد حبات الدينار يخرج هذا العدد وهو خمسمائة وأربع حبات، فاتفقت السبعة دنانير والعشرة دراهم في عدة الحبوب، وحاصل مراد المصنف أن الدرهم سبعة أعشار الدينار، والدينار مثل الدرهم وثلاثة أسباع مثله، فكل سبعة دنانير وزنها وزن عشرة دراهم، فكأن المصنف قال: والمراد بتلك الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة دنانيروقولنا: بين وزن الدراهم هو المتبادر من كلامه، ويحتمل أنه قصد بقوله: من وزن سبعة بيان نوع دنانير الزكاة وهذا الاحتمال بعيد لوجود الفاصل، والأصل في الصفة الاتصال بالموصوف فالمتعين هو الأول، ولذلك تعقب سيدي يوسف بن عمر كلام المؤلف بأنه مشكل من وجهين: أحدهما قوله من وزن سبعة أحال فيه مجهولا على مجهول؛ لأنه لم يبين وزن الدرهم لا وزن الدينار، والثاني قوله من وزن سبعة يظهر منه أنه أحال الدراهم على الدنانير، وقوله أعني يظهر منه أن الدنانير يفسرها بالدراهم فهي من مشكلات الرسالة كما قال ابن غازي وغيره. "فإذا بلغت هذه الدراهم" التي وزن كل عشرة منها سبعة دنانير "مائتي درهم ففيها ربع عشرها" وهو "خمسة دراهم"؛ لأن عشر المائتين عشرون والخمسة ربعها، وهذا مستغنى عنه بقوله: ولا زكاة في أقل من مائتي درهم، ولما كانت العين لا وقص فيها قال: "فما زاد فبحساب ذلك" قال العلامة خليل: وفي مائتي درهم شرعي أو عشرين دينارا فأكثر ومجمع

منهما بالجزء ربع العشر. قال بعض شيوخ ابن عبد السلام بعد قوله فما زاد فبحسابه: وهذا فيما يمكن إخراج ربع عشره، وما لا يمكن إخراج ربع عشره يشترى به نحو طعام مما يمكن قسمه على أربعين جزءا والدليل على ذلك كله ما خرجه الترمذي وأبو داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عنكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الورق من كل أربعين درهما درهم" 1 وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم زاد فبحساب ذلك" تنبيهات " الأول : ما ذكره المصنف في تحديد النصاب إنما هو باعتبار الدراهم الشرعية كما عرفت، وأما بالدراهم المصرية فالنصاب مائة وخمسة وثمانون درهما ونصف درهم وثمن درهم، وذلك لنقص الدرهم الشرعي عن الدرهم المصري خروبة وعشر خروبة ونصف عشر خروبة، وأما مقدار النصاب من الفضة العددية المسماة بالأنصاف فهو ستمائة وستة وستون نصفا وثلثا نصف. قاله بعض شيوخ شيوخنا، وأقول: الظاهر أو المتعين التعويل على ما يساوي المائتي درهم شرعية وزنا؛ لأن الأنصاف لا ضبط لها لاختلافها بالصغر والكبر، فكل من ملك ذلك الوزن وجبت عليه الزكاة ولا يعول على العدد، إذ الأنصاف المقصوصة قد لا يعدل الألف منها وزن مائتي درهم من الشرعية، وأما مقداره من القروش فينضبط لانضباطها بالوزن، وإلا اختلف باختلاف نوعها، فالكلاب والريال اثنان وعشرون وربع لاتفاقهما وزنا، وأما البنادقة فالنصاب منها عشرون وأبو طافة اثنان وعشرونالثاني : أفهم قوله: فإذا بلغت هذه الدراهم مائتي درهم إلخ أنها لو نقصت عن ذلك لا زكاة فيها وليس كذلك، بل المسقط للزكاة إنما هو النقص الذي يحطها في الرواج عن زنة الكاملة لا الذي تروج معه كالكاملة فإنه لا يسقطها قال خليل مبالغا في وجوب الزكاة أو نقصت أو برداءة أصل أو إضافة وراجت ككاملة، وأما إن لم ترج كالكاملة فإن زكاتها تسقط إن كان نقصها حسيا، وأما لو كان معنويا فيعتبر الخالص منها فإن كان نصابا زكى وإلا فلا، وإليه الإشارة بقول خليل: وإلا حسب الخالصفإن قيل: زكاة الناقصة التي تروج كالكاملة مناف لما تقدم من أن النصاب تحديد على
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الذهب والورق، حديث "620" وابن ماجه، حديث "1790"، واحمد "1/121" حديث "984" وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه "1790".

المشهور لا تقريب، فالجواب: أن هذا مبني على مقابل المشهور ولا إشكال؛ لأنهم كثيرا ما يبنون مشهورا على ضعيف، أو أن النقص اليسير التي تروج معه رواج الكاملة بمنزلة العدم كنقص المكيال المتعارفالثالث : أفهم اقتصاره كغيره من المصنفين على الذهب والفضة أن الفلوس الجدد لا زكاة فيها وهو كذلك، قال في الطراز المذهب لا زكاة في أعيانها وظاهره ولو تعومل بها عددا خلافا لبعض الشيوخولما كان اختلاف قدر النصاب من العينين موهما لعدم جواز جميع النصاب منهما دفعه بقوله: "و" يجوز أن "يجمع الذهب والفضة" لنقص كل عن النصاب "في الزكاة" رفقا بالفقراء فقد مضت السنة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضم الذهب إلى الفضة والفضة إلى الذهب وأخرج الزكاة عنهما"1ثم فرع على الجمع قوله: "فمن كان له" من الورق وزن "مائة درهم" من الفضة "و" له من الذهب وزن "عشرة دنانير" أو عنده مائة وثمانون درهما وعنده دينار يساوي عشرين درهما "فليخرج من كل مال ربع عشره" لكن بالتجزئة والمقابلة بأن يجعل كل دينار في مقابلة عشرة دراهم؛ لأن دينار الزكاة بعشرة دراهم لا بالجودة والرداءةقال خليل: وفي مائتي درهم شرعي أو عشرين دينارا فأكثر ومجمع منهما بالجزء ربع العشر وإن لطفل أو مجنونتنبيهان " الأول : ربما يفهم من قول المصنف: فليخرج من كل عدم جواز إخراج أحدهما عن الآخر وليس كذلكقال خليل: وجاز إخراج ذهب عن ورق وعكسه بصرف وقته مطلقا، وأما إخراج الفلوس الجدد عن الذهب أو الفضة فلا يجوز ابتداء ويجزئ بعد الوقوع كما قاله المصنف في نوادرهالثاني : فهم من جعل العشرة دنانير مقابلة لمائة درهم في تكميل النصاب أن صرف دينار الزكاة عشرة دراهم كدينار الجزية بخلاف صرف دينار غيرهما فإنه اثنا عشر درهماولما فرغ من الكلام على زكاة الحبوب والعين شرع في الكلام على العروض بقوله: "ولا زكاة في" أعواض "العروض" ومثلها الكتب والحديد وسائر أنواع الحيوانات التي لا زكاة في أعيانها، والمراد بالعروض هنا ما عدا النقود وماشية الأنعام وألحق بها ما في عينه الزكاة ونقص
ـــــــ
1 لم أقف عليه.

عن النصاب أو كمل، وأخرجت زكاة عينه كالحب المزكى حين التصفية فإنها لا تجب زكاة عينه مرة أخرى، وإنما قدرت في أعواض العروض؛ لأن ذات العروض لا زكاة فيها ولو نوى بها المالك التجارة"حتى تكون" أي تصير تلك المذكورات "للتجارة" بأن ينوي حين استحداث ملكه التجارة فإنه يخاطب بزكاة عوضه إذا باعه ولو صاحب نية التجارة غيرها كنية قنية أو غلة أو هما، وأما لو استحدث ملكه بنية القنية أو الاغتلال أو بلا نية أصلا فلا زكاة عليه اتفاقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة على المسلم في فرسه ولا عبده" 1واعلم أن التجارة على قسمين: إما احتكار بأن ينتظر بالبيع الربح ويرصد الأسواق، وإما إدارة يبيع ولو بالرخص، وللقسمين شروط أربعة، أولها: أن يكون العرض ملك بمعاوضة مالية، لا إن ملك بإرث أو هبة أو صدقة أو بمعاوضة غير مالية. كالمأخوذ من خلع فلا زكاة عليه إذا باعه ولو نوى به حين تملكه التجارة بل ثمنه فائدة يستقبل حولا من يوم قبضه، فلو أخر ثمنه لا زكاة عليه ولو أخر قبضه هروبا من الزكاة على المعتمدالثاني: أن يكون نوى بشرائه التجارة ولو صاحب نيتها نية غيرها كما قدمناالثالث: أن يكون أصله عينا اشتراه بها ولو كانت أقل من نصاب أو عرضا ملكه بمعاوضة ولو للقنية ثم باعه واشترى به ذلك العرض بقصد التجارةالرابع: أن يبيع ذلك العرض بعين لا أن يبيعه أو باعه بغير عين، إلا أن يقصد ببيعه بغير العين الهروب من الزكاة، والبيع لا فرق بين الحقيقي منه والمجازي بأن يستهلكه شخص ويأخذ التاجر قيمته، لكن إن كان التاجر محتكرا فلا زكاة عليه حتى يبيع بنصاب؛ لأن عروض الاحتكار لا تقوم، وإن كان مديرا فيكفي في وجوب الزكاة في حقه مطلق البيع ولو كان ثمن ما باعه أقل من نصاب؛ لأنه يجب عليه تقويم بقية عروضهوبدأ بحكم عروض الاحتكار بقوله: "فإذا بعتها" أو استهلكها شخص وأخذت قيمتها أي عروض التجارة على وجه الاحتكار "بعد حول فأكثر" ابتداؤه "من يوم أخذت" أي ملكت "ثمنها" إن لم تكن زكيته "أو" من يوم "زكيته ففي ثمنها الزكاة" حيث كان الثمن عينا لا إن كان عرضا، إلا أن يقصد بأخذ العرض ثمنا الهروب من الزكاة فتجب عليه "لحول واحد" سواء "أقامت قبل البيع حولا أو أكثر" ويشترط في وجوب الزكاة على المحتكر أن يكون باع بنصاب
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه النسائي، كتاب الزكاة، باب زكاة الخيل، حديث "2468" وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي "2467".

كما قدمنا، واحترز بقوله: بعتها بعد حول عما لو باعها قبل تمام الحول فإنه لا يزكي إلا بعد تمامه" تنبيهان ": الأول : إذا عرفت ما قدمت لك من الشروط ظهر لك ما في كلامه من الإجمال الحامل عليه الاختصارالثاني: ربما يفهم من كلام المصنف ولو بالعناية جواز الاحتكار وهو كذلك عند مالك ولو في الأطعمة، لكن يفيد الجواز بما إذا لم يترتب عليه ضرر بالناس وإلا فلا يجوز، وذلك بأن يشتري جميع ما في السوق بحيث لا يترك لغيره شيئا مما يحتاجون إليه فيمنع، ولا يمكن إلا من شراء قدر حاجته، وثنى بالكلام على عروض الإعارة بقوله: "إلا أن تكون مديرا" أي حريصا على سرعة البيع بحيث "لا يستقر" أي لا يمكث "بيدك عين ولا عرض" بل تبيع ولو بلا ربح وتخلفه بغيره كالعطارين والزياتين ونحوهم من كل ما لا يرصد الأسواق. "فإنك" يا مدير إذا بعت بنقد ولو درهما "تقوم عروضك" قيمة عدل تراعي فيها الزمان والمكان في "كل عام" والتقويم عام في سائر عروضه المعدة للتجارة ولو طعام سلم ولو بارت عنده سنين؛ لأن بوارها وكسادها لا ينقلها للقنية ولا للاحتكار، وكذا ديونه التي على الناس المؤجلة الكائنة من بيع كانت عروضا أو نقودا حيث كانت مرجوة، لكن العرض يوم بعين والنقد بعرض ثم بنقد لا ديونه الغير المرجوة، ولا دين القرض أو ديونه الكائنة من بيع إذا كانت من النقد الحال المرجو فالمعتبر عددها، وأما دين القرض فلا يزكى إلا بعد قبضه لسنة من أصله ولو مكث أعواما على المدين. "و" بعد الفراغ من التقويم "تزكي ذلك" القدر المجموع من القيم "مع ما بيدك من العين" الناضة عندك وكذلك النقد الحال المرجو والمعد للنماء، لا إن كان سلفا على الناس فلا يعتبر عدد الحال منه، ولا يقوم المؤجل على مشهور المذهب، وتأولته المدونة بتقويم المؤجل" تنبيهات " الأول : علم مما مر أن المدير لا يلزمه تقويم عروضه إلا إن باع شيئا ولو بدرهم حيث قبضه ولو أتلفه سريعا بعد قبضه، لا إن لم يبع شيئا أو باع عروضه بعروض فلا زكاة عليه، إلا أن يقصد بالبيع بالعروض الهروب من الزكاةالثاني : قول المصنف كل عام لم يبين أول العام إحالة على المحتكر من أنه يزكي من يوم تزكية الأصل أو ملكهالثالث : لو باع العروض بعد التقويم فزاد ثمنها على قيمتها فلا زكاة عليه في الزيادة.

قال خليل: ثم زيادته ملغاة بخلاف حلي التجر، كما أنها لو بيعت ببخس فلا تسترد الزيادة من الفقيرالرابع : لو كان المدير كافرا وأسلم وباع بعين فهل يقوم عروضه لحول من يوم إسلامه أو يستقبل بثمنه حولا من يوم القبض؟ قولان. وأما الكافر المحتكر فإنه يجب عليه الاستقبال بالثمن حولا من يوم القبض قولا واحدا كالفائدةوأما العين لا تزكى كغيرها إلا بعد مضي عام، وكان حول الربح والنتاج حول أصله قال: "وحول ربح المال حول أصله" فيضم لأصلهقال خليل: وضم الربح لأصله كغلة مكتر للتجارة ولو ربح دين لا عوض له عنده، فإذا استلف قدرا ولو أقل من نصاب واشترى به سلعة ثم باعها بزيادة على ما تسلفه عشرين دينارا مثلا بعد حول من يوم السلف وجبت عليه الزكاة، وكذا لو اشترى سلعة بقدر في ذمته ثم باعها بعد حول بثمن زائد على ثمنها نصابا فإنه يجب عليه الزكاة، وفائدة بناء حوله على حول أصله أنه لو كان أصله من نصاب وكمل به النصاب وجبت الزكاة بعد تمام الحول؛ لأن الربح كامن في أصله، وهذا بخلاف ربح الفوائد فإنه يستقبل به كما يستقبل بهاقال خليل: واستقبل بفائدة تجددت لا عن مال كعطية أو غير مزكى كثمن مقتنى، وحقيقة ربح المال الذي حوله حول أصله كما قال ابن عرفة زائد ثمن مبيح تجر على ثمنه الأول ذهبا أو فضة" تنبيه ": لم يبين المصنف رحمه الله حول أصله وفيه تفصيل؛ لأن أصله إما أن يكون عينا تسلفها، أو عرضا تسلفه، أو عرضا اشتراه للتجارة، أو عرضا اشتراه للقنية، وبدا له التجر فيه، فالحول في الأول من يوم القرض، وفي الثاني من يوم التجر، وفي الثالث من يوم الشراءوفي الرابع من يوم البيع "وكذلك" أي مثل ربح المال "حول نسل الأنعام" هو "حول الأمهات" ولو كانت الأمهات أقل من نصاب، فمن كان عنده ثلاث من الإبل فولدت ما يكمل النصاب أو كان عنده عشرون من الضأن فولدت تمام النصاب وجبت الزكاة بعد تمام حول الأمهات، لأن نسل الحيوان كربح المال يضم لأصله، وظاهره ولو كان النسل من غير نوع الأمهات فلو نتجت الإبل غنما أو البقر إبلا نصابا لكان حول النسل حول الأمهات، لكن يراعى النصاب من كل نوع على حدته، وأما بالنسبة لتكميل النصاب فلا بد أن يكون النسل من نوع الأصل، فلا تضم الإبل للبقر ولا عكسه كما يأتي في كلامه.

"خاتمة" لم ينبه المصنف على حكم ما لو استفاد شيئا وفيه تفصيل، فإن كان ما استفاده عينا بأن ورث نقدا أو وهب له أو باع دارا أو ثوبا أو قبض أجرة فإنه يستقبل حولا من يوم القبضقال خليل: واستقبل بفائدة تجددت لا عن مال كعطية أو ثمن غير مزكى، وأما لو كان ما استفاده ماشية فإن كان عنده من نوعها نصاب ضمها إليه وزكاها لحول الأصلقال خليل: وضمت الفائدة له وإن قبل حوله بيوم لا لأقل، والفرق بين فائدة العين وفائدة الماشية أن زكاة الماشية موكولة للساعي فلو لم تضم لخرج الساعي في كل زمن وفيه مشقة عليه، بخلاف زكاة العين فإنها موكولة لأربابهاولما قدمنا أن من شروط وجوب الزكاة في العين عدم الدين قال: "ومن له مال" أي من العين "تجب فيه الزكاة" لكونه نصابا "و" لكن "عليه دين مثله" أي قدره كأن يكون عنده عشرون دينارا وعليه مثلها أو ما قيمته ذلك "أو" أقل منه لكن "ينقصه عن مقدار مال الزكاة" أي عن النصاب مثل أن يكون عنده عشرون دينارا وعليه نصف دينار "فلا زكاة عليه" لخبر: "إذا كان للرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه"1 ولما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول على المنبر بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد: "هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه فإن فضل له ما تجب فيه الزكاة فليزكه ثم لا شيء عليه حتى يحول عليه الحول"2" تنبيه ": ظاهر إطلاق المصنف في الدين شموله لدين الزكاة وهو كذلك، فإذا تجمد عليه من الزكاة ما يعادل ما عنده من العين النصاب أو ينقصه عن النصاب فلا زكاة عليه وشموله للحال والمؤجل، ولو مهر زوجته المؤجل لموت أو فراق على مذهب من يراه لا دين كفارة أو هدي أو نذر فلا يسقط زكاة ما عنده، والفرق أن دين الزكاة تتوجه المطالبة به من الإمام العادل وتؤخذ ولو كرها، بخلاف نحو الكفارة والنذرولما كان إسقاط الدين الزكاة من العين مشروطا بعدم وجود ما يجعل في مقابلة الدين من العروض قال: "إلا أن يكون عنده" أي من له مال وعليه دين قدره ولا ينقص النصاب "مما لا يزكى" وبينه بقوله: "من عروض مقتناة" كثياب "أو رقيق أو حيوان مقتنى أو عقار أو ربع ما فيه
ـــــــ
1 لم أقف عليه2 صحيح: أخرجه البيهقي في الكبرى "4/148"، حديث "7395"، والشافعي في مسنده "1/97"، ومالك في الموطأ "1/253"، حديث "593"، وابن أبي شيبة "2/414"، حديث "10555"، وعبد الرزاق في مصنفه "4/52" كلهم عن عثمان رضي الله عنه، وانظر "الإرواء 3/260".

وفاء لدينه" أو معشر وإن زكي أو معدن أو قيمة كتابة أو غير ذلك مما يباع على المفلس "فليزك ما بيده من المال" ويجعل ما عنده من المذكورات في مقابلة الدين، لكن بشرط أن يكون حال الحول على ما يجعل في الدين" تنبيه " قوله: إلا أن يكون عنده مما لا يزكى إلخ الظرف خبر يكون مقدم على الاسم وما فيه وفاء اسمها مؤخر، وقوله مما لا يزكى رتبته التأخير؛ لأنه بيان لما الواقعة اسما، ففي كلامه تقديم وتأخير تقديره إلا أن يكون عنده ما فيه وفاء مما لا يزكى من عرض إلخ، وأشار إلى مفهوم قوله ما فيه وفاء لدينه بقوله: "فإن لم تف عروضه" التي عنده "بدينه" بأن زاد الدين الذي عليه على قيمة العروض التي عنده فإنه يجعل العروض في مقابلة بعضه "حسب بقية دينه" مما خرج عن قيمة العرض "فيما بيده" من المال "فإن بقي بعد ذلك" المحسوب في الدين "ما فيه الزكاة زكاه" مثال ذلك أن يكون عنده ثلاثون دينارا وعليه عشرون دينارا، وعنده من العروض التي تباع في الدين وحال عليه الحول ما يوفي عشرة تبقى عشرة من الدين بحسبها ويأخذها من الثلاثين التي عنده ويعطيها لصاحب الدين يبقى بعد وفاء الدين عشرون فيزكيها، ومفهوم كلامه إذا لم يبق ما فيه الزكاة تسقط عنه الزكاة، مثال ذلك أن يكون عنده عشرون وعليه عشرون دينارا وعنده من العروض ما يفي بعشرة يبقى من الدين عشرة يعطيها من العشرين التي عنده يفضل له بعد وفاء الدين عشرة لا زكاة فيهاولما قدم أن الدين إنما يسقط زكاة العين فقط ذكر محترزها بقوله: "ولا يسقط الدين زكاة حب ولا تمر ولا ماشية" ولا معدن ولا ركاز، فمن خرج من زرعه خمسة أوسق أو وجد في ماشيته نصابا وعليه دين يزيد على قيمة ذلك فإنه يجب عليه إخراج الزكاة ويوفي دينه من الباقيقال خليل: ولا تسقط زكاة حرث ولا ماشية ومعدن بدين أو فقد أو أسر وظاهره كالمصنف، ولو استدان الدين لإحياء الزرع أو الماشية أو استعان به على إخراج المعدن وهو كذلك إذ لم يقيده أحد فيما نعلم، والفرق بين هذه المذكورات وبين العين أن هذه أمور ظاهرة وزكاتها موكولة إلى الساعي يأخذها قهرا، بخلاف العين فإن زكاتها موكولة إلى أمانة أربابها لخفائها فيقبل قولهم في أن عليهم دينا كما يقبل قولهم في إخراجها، وهذا توجيه لما فرق به ابن القاسم فإنه قال: لأن السنة جاءت بإسقاط الدين لزكاة العين بخلاف غيرها. قال القرافي: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز يبعثون الخراص والسعاة ولا

ينقصون شيئا لأجل الدين من ثمرة ولا من ماشية وكانوا يسألونهم عن الدين في العين"" تنبيه ": وقع الخلاف في إسقاط الدين لصدقة الفطر، وظاهر المذهب عدم إسقاطها بالدين لوجوب تسلف الصاع عنه في الحال للقادر على وفائه في المستقبل، واقتصر على هذا القول خليلولما ذكر أن المدين إذا نص له شيء من المال تجب عليه زكاة جميع ما عنده وما له من الدين المرجو كل عام، بخلاف المحتكر إنما يزكي إذا باع بنصاب شرع في الكلام على حكم دينه بقوله: "ولا زكاة عليه" أي المحتكر ومثله المقرض "في دين" له على آخر ما دام على المدين سواء كان ثمن سلعة باعها المحتكر أو عينا أقرضها له. "حتى يقبضه" عينا وبالغ على عدم الزكاة قبل القبض بقوله: "وإن أقام أعواما" فإن قبضه عينا "فإنما يزكيه لعام واحد" من يوم ملك أو زكى الأصل "بعد قبضه" حقيقة أو حكماقال خليل: وإنما يزكى دين إن كان أصله عينا بيده أو عرض تجارة وقبض عينا ولو بهبة أو إحالة لسنة من أصله، فأفاد أنه إنما يزكى بشروط: منها أن يكون أصل هذا الدين عينا بيده أو بيد وكيله أو عرضا من عروض التجارة فأقرض العين أو باع العرض، لا إن كانت العين بيد غيره من نحو إرث أو كان العرض الذي باعه عرض قنية فلا زكاة إلا بعد استقبال حول من يوم قبض المال المورث أو ثمن السلعة التي كانت للقنية، ومن الشروط أن يقبض الدين حقيقة وهو واضح، أو حكما بأن وهبه المحتكر لغير المدين وقبضه الموهوب له المحتكر يزكيه لكن من غيره، إلا أن يكون الواهب أراد أن الزكاة منه وأولى لو شرط ذلك الواهب، وأما لو وهبه للمدين فلا زكاة على الواهب ومن القبض الحكمي الإحالة، فإن كان للمحتكر مائة دينار على شخص ومضى لها حول فأكثر وعليه مائة دينار حال حولها فأحال بالتي عليه على التي له، فعلى المحتكر المحيل زكاة المائة التي له على المحال عليه بمجرد الحوالة، لأن قبول المحال للحوالة بمنزلة قبض المحيل، وهذا بخلاف المال الموهوب لا يزكيه الواهب حتى يقبضه الموهوب لهقال ابن الحاجب: الدين المحال به يزكيه ثلاثة في عام واحد: المحيل والمحال والمحال عليه، لكن المحيل يزكيه من غيره، والمحال عليه كذلك حيث كان عنده ما يجعله في مقابلته والمحال يزكيه منه، ومفهوم هذا الشرط لا زكاة ولو أخر المحتكر قبضه هروبا من الزكاة ومن الشروط أن يقبض عينا إن قبض عرضا بدله، فلا زكاة عليه إلا بعد بيعه فإنه يزكيه لسنة من يوم

قبضه، ومن الشروط أن يكون المقبوض من الدين نصابا أو يكون عنده ما يكمل النصاب ولو فائدة جمعها مع المقبوض ملكا وحولا، فإذا وجدت هذه الشروط وجبت زكاته لعام واحد من يوم ملك أو زكى أصله ولو تلف المقبوض أولا أو آخرا أو هما حيث حصل التمكن من الإخراج لا إن تلف النصاب أو بعضه سريعا" تنبيه ": حملنا كلام المصنف على دين القرض ودين المحتكر لقوله: حتى يقبضه؛ لأن المدير يزكي كل عام حيث نض له شيء من المال ولو درهما، ولو الدين الذي لم يقبض، إما عدده إن كان نقدا حالا مرجوا، وإما قيمته إن كان عرضا أو نقدا مؤجلا مرجوا، وأما ما كان من إرث ونحوه فسيأتي. ثم شبه في دين المحتكر قوله: "وكذلك العرض" الذي بيده للاحتكار لا يزكيه "حتى يبيعه" بعين ويكون نصابا فيزكيه لسنة واحدة، وهذا مكرر مع قوله سابقا: فإذا بعتها بعد حول فأكثر من يوم أخذت ثمنها أو زكيته، ففي ثمنها الزكاة لحول واحد قامت قبل البيع حولا أو أكثر، فتلخص من الكلام السابق أن المدير يزكي كل سنة إذا نض له شيء ما من المال ويقوم عروضه، والمحتكر لا يزكي إلا إذا باع بنصابولما فرغ من الكلام على الدين الناشئ عن عروض التجارة شرع في الكلام على ما كان من إرث أو هبة فقال: "وإن كان الدين أو العرض" حاصلا "من إرث" أو هبة أو صدقة أو أرش جناية أو مهر أو خلع أو صلح عن دم خطأ أو عمد أو عمل يد "فليستقبل" المالك "حولا بما يقبض منه" أي من ثمن ما باعه لأنه فائدةقال خليل: واستقبل بفائدة تجددت لا عن مال كعطية أو غير مزكى كثمن مقتنى، وهو كقول ابن عرفة في تعريفها ما ملك لا عن عوض ملك لتجر، ولا بد من الاستقبال حولا كاملا بثمن ما ذكر بعد قبضه عينا، ولو فر بتأخير القبض أعواما قال العلامة بهرام شاملة، وإن ورث عينا استقبل بها حولا كاملا من قبضه أو قبض رسوله، ولو أقام أعواما أو علم به أو وقف له على المشهور الجاري على المذهب خلافا لما في خليل"تنبيه" علم مما قررنا أن ما يتحصل للإنسان من عمل يده يستقبل به، ومثله فيما يظهر ما يقبضه من وظائفه أو جرامكة لصدق حد الفائدة عليهولما كان الخطاب بالزكاة وضعيا لا يشترط فيه تكليف المالك قال: "وعلى الأصاغر" وهم غير البالغين ومثلهم المجانين "الزكاة في أموالهم في الحرث والعين والماشية" لكن اتفاقا في الحرث والماشية لنموهما بنفسهما على مذهب مالك والشافعي وأحمد في العين، ولذلك قال خليل في العين: وإن لطفل أو مجنون دليلنا قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]

ظاهرها العموم في الصغير والكبير، وفي الموطإ عن ابن عمر: "اتجروا في أموال اليتامى لئلا تأكلها الزكاة" والمخاطب بالإخراج الولي فالمعتبر مذهبه، فإذا كان مذهبه يرى الوجوب وجب عليه الإخراج، ثم إن لم يكن في البلد حاكم أو كان مذهبه يرى الوجوب فلا حاجة إلى رفع، وأما لو كان في البلد من يرى سقوط الزكاة عن مال الصغير فلا يخرج حتى يرفع لمن يرى الوجوب، كما لو جهل فينبغي الرفع إليه لعله ممن لا يرى الزكاة على الأصاغر فيمنعهم من إخراجها، كما يفعله بخمر يجدها في التركة لاحتمال أن يرى تحليلها لإراقتها فيضمنها إن أراقها. "و" على الأصاغر أيضا "زكاة الفطر" لكن المطالب بالإخراج من تلزمه نفقتهم كما يأتي في باب زكاة الفطرولما قدمنا أن من شروط وجوب الزكاة الحرية قال: "ولا زكاة على عبد" لا شائبة حرية فيه "ولا عمن فيه بقية رق" كالمكاتب والمدبر والمعتق بعضه وأم الولد ولا فيما يربيه للتجارة بلا خلاف لعدم تمام ملكه، ولا زكاة على سيده أيضا فيما بيده ولو انتزعه منه استقبل به، والدليل على عدم الوجوب على العبد في ماله قوله تعالى: {عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وخبر لا النافية متعلق "في ذلك" المتقدم "كله" من حرث وماشية أو عين، ولا يدخل تحت اسم الإشارة زكاة الفطر؛ لأن الباب لزكاة الأموال. "فإذا أعتق" العبد ولم يشترط سيده أخذ ماله "فليأتنف حولا من يومئذ" أي من يوم نجز عتقه "بما يملك" في الحال "من ماله" الذي فيه الزكاة؛ لأنه يوم كمال ملكه، بناء على أن من ملك أن يملك يعد مالكا، ومعلوم أن الاستقبال فيما يشترط في تزكيته مرور الحول كالعين والماشية، وأما الثمار والحبوب فينظر إن عتق قبل الطيب وجبت عليه الزكاة، وإن عتق بعد الطيب لا زكاة عليه، وقيدنا بقولنا: ولم يشترط إلخ لما تقرر في المذهب من أن مال العبد يكون له في العتق إن لم يشترطه السيد، بخلاف البيع فإن مال العبد يبقى لسيده بعد بيعه إن لم يشترطه المشتري" تنبيه ": قد علمت من قولنا في الحال دفع ما قد يتوهم من أن المراد يملكه في المستقبل بعد العتق دون ما كان يملكه في يده حين العتق؛ لأن هذا لا يصح؛ لأن المصنف لم يأت بما يدل على الاستقبال، وأيضا قرينة الحال تعين ما قلنا من أن الكلام في المال الكائن بيده زمن الرقية، فنسخه ملك بلفظ الماضيولما كانت الماشية التي في عينها الزكاة بهيمة الأنعام خاصة قال: "ولا زكاة على أحد في عبده" الذكر "وخادمه" الأنثى ولو قال في رقيقه لشملها "و" لا زكاة على أحد أيضا في "فرسه"

لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" 1 وفي رواية زيادة: "إلا صدقة الفطر" 2. "و" لا زكاة على أحد أيضا في "داره ولا فيما يتخذ للقنية من الرباع والعروض المقتناة" ينبغي رجوع المقتناة لكل ما تقدم سوى الرباع، وأما المتخذ للتجارة من تلك المذكورات فالزكاة في قيمته أو ثمنه على ما تقدم من تنويع التجارة إلى إدارة واحتكار والمنفي زكاة عينه، ولا يخفى ما في كلام المصنف من التكرار. "ولا" زكاة أيضا على أحد "فيما يتخذ للباس من الحلي" المباح سواء كان مقتنى أو متخذا للكراء كان لرجل أو امرأة، وسواء كان باقيا على حاله أو تكسر، إلا أن ينوي عدم إصلاحه فتجب زكاته كما لو تهشم ولو نوى إصلاحه، وقيدنا بالمباح للاحتراز عن المحرم الاستعمال ففيه الزكاة، ولو كان مرصعا على جوهر فيزكى زنته إن أمكن نزعه بغير فساد وإلا تحرى، والمحرم على المرأة غير الملبوس كالمرود والمكحلة وآلة نحو الأكل، وعلى الرجل خاتم الذهب أو الخنجر أو الركاب ولو كان المحرم معدا للعاقبة ليجعل صداقا أو منويا به التجارة، ففي جميع ذلك الزكاة، وليس من الحلي ما تجعله المرأة على رأسها من القروش أو الفضة العددية أو الذهب المسكوك فإن عليها فيه الزكاة، بخلاف ما صاغته لتلبسه لبنتها إذا كبرت أو وجدت فإنه لا زكاة فيه، بخلاف الرجل يشتري أو يصوغ حليا لما يحدثه الله له من الأولاد أو الإماء فعليه فيه الزكاة" تنبيه ": حلي في كلام المصنف يحتمل أن يكون بفتح الحاء وسكون اللام على وزن ثدي فيكون مفردا، ويحتمل أن يكون بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء فيكون جمعا، وقد تكسر الحاء في الجمع مثل عصي، وقرئ بذلك {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً} [الأعراف: 148] بالضم والكسر"ومن ورث عرضا أو وهب" بالبناء للمجهول ونائب الفاعل ضمير العرض والضمير في "له": عائد على من "أو رفع": بالبناء للفاعل أي حصد "من أرضه زرعا فزكاه فلا زكاة عليه في شيء من ذلك": المذكور من عرض أو زرع فما يستقبل من الزمان ولو مضى أعوام. "حتى يباع": ذلك المذكور بعين نصاب. "ويستقبل به": أي بالثمن المفهوم من البيع "حولا من يوم يقبض": المالك "ثمنه"؛ لأن ثمن ما ذكر كالفائدة يستقبل به كما مر، لا إن لم يقبضه ولو هاربا أو باع بعروض فلا زكاة عليهـــــــ
1 صحيح: أخرجه النسائي، كتاب الزكاة، باب زكاة الخيل، حديث "2468" وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي "2467"، وتقدم برقم "450"2 أخرجه الطبراني في الأوسط "6/90" حديث "5887".

" تنبيه ": هذه المذكورات لم يحترز المصنف بها عن شيء؛ لأنه لم يقل أحد بزكاة عين العروض، وإنما ذكرها لينبه على أن ثمنها بعد بيعها فائدة يجب الاستقبال به، وأما قوله من زرعه فالتقييد به بالنظر إلى الغالب، فلا ينافي أن ما اشتراه ليأكله أو وجده نابتا في الجبل كذلك لا زكاة في عينه لما مر من أن الحب الذي يزكى ما زرعه الإنسان لا ما وجده نابتا في أرض مباحة فإن هذا لا زكاة فيه كما قاله مالك، وقال بعض الشراح: احترز بذلك عما لو اكترى أرضا ليزرعها بنية التجارة فإنه يزكيه مرتين:
إحداهما: زكاة عينه إن كان نصاباوالثانية: ثمنه إذا باع بنصاب بعد الحول إن كان محتكرا، أو يقومه كل سنة إن كان مديرا ونض عنده شيء كما تقدم المشار إليه بقول خليل: وإن اكترى وزرع للتجارة زكى ثم زكى الثمن لحول التزكيةثم شرع في الكلام على المعدن فقال: "وفيما يخرج": بالبناء للمفعول والنائب ضمير المستتر في يخرج عائد على ما "من المعدن": بكسر الدال من عدن بفتح الدال في الماضي يعدن بكسرها في المضارع إذا أقام به. قال البساطي: والقياس إن كان اسم مكان الفتح كمذهب ومقعد. ثم بين المخرج منه بقوله: "من ذهب أو فضة": وقوله: "الزكاة": بالرفع مبتدأ خبره قوله: فيما يخرج، وتقدير الكلام: والزكاة واجبة فيما يخرج من معدن الذهب والفضة، وإنما قدم الخبر للحصر أي لا يزكى من المعادن إلا معدن الذهب والفضة، كقول خليل: وإنما يزكى معدن عين لا معدن نحاس ولا رصاص، قال في المدونة: ولا زكاة في معادن الرصاص والنحاس والحديد والزرنيخ واللؤلؤ وسائر الجواهر، قال في الجلاب؛ لأنها عروض، وأشار إلى أن قدر النصاب من المعدن كغيره بقوله: "إذا بلغ": الخارج منه "وزن عشرين دينارا": إن كان معدن ذهب "أو": بلغ وزن "خمس أواق فضة": إن كان معدن فضة، وقوله: "ففي ذلك ربع العشر": جواب إذا الشرطية والتقدير: إذا خرج من معدن العين النصاب ففيه ربع العشر لا الخمس خلافا لأبي حنيفة، ولما كان الحول لا يشترط في زكاة المعدن قال: "يوم خروجه": وقيل: إنما تجب بتصفيتهقال خليل: وفي تعلق الوجوب بإخراجه أو تصفيته تردد، وتظهر فائدة الخلاف إذا رفع من المعدن شيئا ولم يضعه إلا بعد حول من يوم خروجه، فمن قال: الوجوب بالتصفية يقول بزكاته مرة واحدة، ومن قال: الوجوب بخروجه كالمصنف يقول يزكيه مرتين، وتظهر أيضا فيما لو

أنفق منه شيئا بعد الإخراج وقبل التصفية هل يحسب أم لا؟ "وكذلك": يجب ربع العشر "فيما يخرج": منه "بعد ذلك": أي بعد تمام النصاب حيث خرج "متصلا به": بأن كان بعض الخارج لكونه من عرقه "وإن قل": قال خليل: وضم بقية عرقه وإن تراخى العمل، وإنما وجب زكاة الخارج بعد تمام النصاب وإن قل؛ لأنه كالدين يزكى المقبوض منه بعد النصاب وإن قل، وأشار إلى مفهوم متصل بقوله: "فإن انقطع نيله": أي عرقه الذي في المعدن؛ لأن النيل يسمى عرقا بأن ترك العمل "بيده وابتدأ غيره لم": يجب عليه أن "يخرج شيئا حتى يبلغ": الخارج "ما فيه الزكاة": بأن بلغ نصابا؛ لأن ما خرج من معدن أو عرق لا يضم لغيرهقال خليل: لا معادن ولا عرق لآخر بل يعتبر كل عرق على حدته وإن تراخى العمل فيه، والحاصل أن الصور ثلاث، إحداها: أن يتصل العمل والنيل ويخرج نصاب فالزكاة حتى في الخارج بعد النصاب وإن قل. ثانيها: أن ينقطع النيل ويتصل العمل فالمذهب لا زكاة في الثاني حتى يبلغ نصابا لا أقل؛ لأنه لا يضم نيل لغيره. ثالثها: أن ينقطعا معا فلا زكاة في الثاني حتى يبلغ نصابا اتفاقا" تنبيهات ": الأول : يستثنى من المعدن الندرة فإن الواجب فيها الخمس لا الزكاةقال خليل: وفي ندرته الخمس كالركاز، والندرة بفتح النون وسكون الدال القطعة الخالصة من الذهب أو الفضة، ويدفع ذلك الخمس للإمام إن كان عدلا وإلا فرق على فقراء المسلمين، والأربعة أخماس حكمها حكم المعدن يقطعها الإمام لمن شاءالثاني : فهم من قوله يزكى الخارج اشتراط كون الواجد ممن تجب عليه الزكاة بأن يكون حرا مسلما؛ لأن المعدن شبيه بالزرع لا يزكيه نصراني ولا عبدالثالث : إذا كان المخرج للمعدن جماعة اعتبر ملك كل على انفراده، كالشركاء في الزرع أو في الماشية أو في العين لا زكاة على من لم تبلغ حصته نصاباالرابع : لم يتكلم المصنف على حكم المعادن الموجودة في الأراضي، والحكم فيها جميعها الإمام يقطعها لمن يشاءقال خليل: وحكمه للإمام يقطعه لمن يعلم فيه باجتهاد الإمام، إما حياة المعطى بالفتح أو مدة من الزمان، أو يوكل من يعمل فيه للمسلمين، وإنما جعل للإمام ولم يستحقه واجده لما يحصل فيه من الهرج والفتن بين الناس، فالواجد له لا يتصرف حتى يخبر به الإمام ويمكنه منه

ويحوزه؛ لأن عطايا الإمام تفتقر للحوز كعطية غيره على المشهور، إلا أن يوجد في أرض الصلح المملوكة لمعين أو غيره فحكمه للمصالح أو وارثه لا للإمامو لما فرغ من الكلام على زكاة غير الماشية شرع في الكلام على الجزية، وكان الأنسب تأخير الكلام عليها بعد الجهاد لتسببها عنه، ويقدم الكلام على زكاة الماشية والفطرة، وتنقسم إلى صلحية وعنوية، فالصلحية ما التزم كافر منع نفسه أداءه على إبقائه بلدة تحت حكم الإسلام بحيث تجري عليه أحكامه، والعنوية ما لزم الكافر من مال لأمنه باستقراره تحت حكم الإسلام وصونه مأخوذة من المجازاة، والجزاء بمعنى المقابلة؛ لأنهم أعطوا المال في مقابلة الأمان، ومجازاة لكفنا عنهم وتمكينهم من سكنى بلادنا، وشرعت في السنة الثامنة، وقيل التاسعة من الهجرة، ومدتها مغياة بنزول عيسى عليه السلام، وبعد نزوله لا يقبل منهم جزية وإنما يطالبهم عليه السلام بالإيمان وإلا قتلهم وحكم ضربها الجواز، وقد يعرض وجوبها إذا كانت المصلحة للمسلمين في ضربها، وأشار إلى من تؤخذ منه بقوله: "وتؤخذ الجزية": صلحية أو عنوية "من رجال أهل الذمة": والمراد بهم كل كافر يصح سبيه ولو قرشيا، وطريقة ابن رشد مخالفة لمشهور المذهب. "الأحرار البالغين": العقلاء فلا تؤخذ من المجانين ولا ممن لا يصح سبيه كالمعاهد قبل انقضاء مدة عهده والمرتد لعدم صحة سبيهما، ويشترط فيمن تؤخذ منه أيضا أن يكون مخالطا لأهل دينه، وأن يكون قادرا على أدائها، فلا تؤخذ من المنعزل بدير أو صومعة كالرهبان، ولا من العاجز عن أدائها، ويشترط أيضا أن لا يكون ممن أعتقه مسلم في بلاد الإسلام بخلاف كافر أعتقه كافر أو مسلم في بلاد الحرب فتؤخذ منه، فتلخص أن شرط المأخوذ منه الجزية عنوية أو صلحية1: الذكورة والحرية والبلوغ والعقل وصحة سبيه وعدم
ـــــــ
1 قال الجوهري: الجزية ما يؤخذ من أخل الذمة، والجمع الجزي "بالكسر" مثل لحيةٍ ولًحى. وهي عبارة عن المال الذي يعقد الذمة عليه للكتابي. وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله. وقال ابن منظور: الجزية أيضاً خراج الأرض. قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وقال النووي: الجزية "بكسر الجيم" جمعها جزي "بالكسر" أيضا كقربة وقرب ونحوه، وهي مشتقة من الجزاء كأنها جراء إسكاننا إياه في دارنا، وعصمتنا دمه وماله وعياله. وقيل: هي مشتقة من جزي يجزي إذا قضى. قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] أي لا تقضيوقد اختلفت وجهات نظر الفقهاء في تعريف الجزية اصطلاحا تبعا لاختلافهم في طبيعتها، وفي حكم فرضها على المغلوبين الذين فتحت أرضهم عنوة "أي قهراً لا صلحاً". فعرفها الحنفية والمالكية بأنها: اسم لما يؤخذ من أهل الذمة فهو عام يشمل كل جزية سواء أكان موجبها القهر والغلبة وفتح الأرض عنوة، أو عقد الذمة الذي ينشأ بالتراضي. وعرفها الحصني من الشافعية بأنها: المال المأخوذ بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا، او لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم، أو لكفنا عن قتالهموعرفها الحنابلة بأنها: مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا. وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: الجزية هي الخراج المضروب على رءوس الكفار إذلالا وصغاراً. الموسوعة "15/ 149، 150".

عتق مسلم له في بلاد الإسلام والقدرة على الأداء والمخالطة لأهل دينه ولو راهب كنيسة، بخلاف راهب الدير أو الصومعة فلا تؤخذ منهما لعدم مخالطتهماقال خليل: عقد الجزية إذن الإمام لكافر صح سبيه حر قادر مخالط لم يعتقه مسلم سكن غير مكة والمدينة واليمن. ثم ذكر محترزات القيود السابقة بقوله: "ولا تؤخذ": الجزية "من نسائهم": أي رجال أهل الذمة "و": لا تؤخذ من "صبيانهم و": لا من "عبيدهم": ولا من الرهبان المنعزلين إلا أن يكون ترهبهم بعد ضربها فلا يمنع لاتهامهم على قول الأخوين، وعند ابن القاسم تسقط بالترهب، فإذا بلغ الصبي أو عتق العبد فإنها تؤخذ منهما سريعا كما لو أفاق المجنون، ولا ينتظر بالأخذ مرور الحول. "وتؤخذ": الجزية "من المجوسي": نسبة إلى محله لقوله صلى الله عليه وسلم في شأنهم: "سنوا لهم سنة الكتاب" قال كثير من العلماء: معنى ذلك في أخذ الجزية منهم وليسوا أهل كتاب، فعلى هذا لم تتعد السنة إلى ذبائحهم، وهذا قول مالك وجمهور الصحابة. "وتؤخذ": الجزية أيضا "من رجال نصارى العرب": لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من نصارى نجران، ولا فرق بينهم وبين نصارى الروم أو قريش" تنبيهات ": الأول : سكت المصنف عن العاقد لها مع الكفار، وقد نص عليه العلامة خليل بأنه الإمام فلو عقدها مسلم غير الإمام بغير إذن الإمام لم يصح عقده، لكن لا يجوز قتل الكافر المأذون له من غير الإمام ولا أسره، ويفعل به غير القتل والأسر، وسكت عن محل إقامتهم مع أداء الجزية، وبينه خليل أيضا بأنه غير جزيرة العرب التي هي مكة والمدينة واليمن، وأما هذه الأماكن الثلاثة فلا يجوز سكناهم فيها ولا يدفنون بها إن ماتوا وإن كان يمضي بعد الوقوع، ولا يخرجون من قبورهم إلا الميت في الحرم فلا بد من إخراجه منه ولو بعد دفنه كما قاله السنهوري في شرح خليل لخبر: "لا يبقين دينان بجزيرة العرب" نعم يجوز لهم المرور إذا كان لمصلحةالثاني : قال بعض العلماء: مفسدة الكفر أعظم مفسدة، فكيف نقرهم عليها بأخذ المال مع وجوب درء المفسدة؟ وأجاب العلامة القرافي بعد استشكاله المسألة: بأن هذا من باب التزام

المفسدة الدنيا لتوقع المصلحة العليا؛ لأن الكافر إذا قتل انسد باب الإيمان، فشرعت الجزية لرجاء الإسلام من ذريته إن لم يسلم هو بعد اطلاعه على محاسن الإسلامالثالث : قال بعض الأكابر: وما الحكمة في تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى بعد قبول الجزية؟ وبينه ابن بطال بقوله: السر في ذلك الاستغناء عن المال بعد نزول عيسى عليه السلام، لأنه يفيض ويكثر في أيامه حتى لا يقبله أحد، فلا يقبل من الكافر إذ ذاك إلا الإيمان أو يقتله، وأجاب ولي الدين القرافي: بأن قبول الجزية من اليهود والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل لتعلقهم بزعمهم بشرع قديم، فإذا نزل عيسى انقطعت شبهتهم بحصول معاينتهثم ذكر القدر المأخوذ بقوله: "و": قدر "الجزية": العنوية "على أهل الذهب أربعة دنانير": في كل سنة عن كل واحد "و": قدرها "على أهل الورق": أي الفضة "أربعون درهما": هذا هو المقدر الذي فرضه عمر رضي الله عنه بحضرة الصحابة من غير نكير، وأما إن لم يكن عندهم إلا المواشي فلم يبين المصنف حكمه، ونقل بعض عن سحنون أن عليهم ما أرضاهم عليه الإمام من إبل أو بقر أو غنم، وقصرنا الكلام على العنوية المأخوذة ممن فتحت بلدهم قهرا للاحتراز عن الجزية الصلحية وهي المأخوذة ممن منعوا أنفسهم وحفظوها وطلبوا الإقامة بأماكنهم فلا تحديد فيها، وإنما يلزمهم ما شرطوه على أنفسهم ورضي به الإمام أو من يقوم مقامه، إذ له أن لا يرضى ويقاتلهم، وإن أطلق لهم الإمام وأطلقوا له ولم يسموا قدرا حين الصلح فيلزمهم ما يلزم العنوي" تنبيه ": لم يبين المصنف هل تؤخذ في أول العام أو آخره؟ وبينه العلامة خليل بقوله: والظاهر آخرهاقال ابن رشد والباجي: لا نص لمالك وأصحابه، وظاهر المذهب والمدونة أنها تؤخذ بآخر العام كالزكاة، ولم يبين المصنف أيضا صفة أخذها وبينها خليل بقوله: مع الإهانة عند أخذها، ولذا لا تصح النيابة في دفعها، وينبغي أن يبسط الكافر كفه بها ويأخذها المسلم من كفه لتكون يد المسلم هي العليا، والقدر المذكور إن يجب على الغني بقرينة قوله: "ويخفف عن الفقير": قال خليل: ونقص الفقير بوسعه ولا تزاد، فإن لم يكن له قدرة على شيء سقطت عنه كما تسقط بالإسلام صلحية أو عنوية، وظاهر كلامهم ولو ظهر منه التحيل بالإسلام على إسقاط ما كان منكسرا وهو كذلك، بخلاف ما إذا قصد بترهبه في دير أو صومعة التحيل على إسقاطها، ولعل وجه الفرق أن الراهب باق على كفره في الجملة بخلاف من نطق

بالإسلام" خاتمة ": يجب على الإمام عند ضرب الجزية أن يلزمهم بلبس علامة تميزهم عن المسلمين، وبترك ركوب الخيل والبغال والسروج، وإنما يركبون الحمير على نحو البرذعة وأرجلهم من جهة واحدة بالمشي في جنب الطريق وبالتأدب مع المسلمين، كما يجب علينا الذب عن أذيتهم لعصمتهم بدفع الجزية، فإن صدر منهم ما ينافي الواجب عليهم عزرهم الإمام إلا أن يكون ناقضا لعهدهم، كقتالهم للمسلمين ومنع الجزية أو إكراه حرة مسلمة على الزنا فإنه يقتل إلا أن يسلم، ويجب لها من ماله الصداق وولدها منه على دينها لا بغصب أمة مسلمة. قال ابن المواز: ولا بغصب حرة ذمية وخرج بالإكراه الطوع فليس نقضا عند مالك خلافا لابن وهب، قال ذلك كله التتائي في شرح خليلولما كان يتوهم من عصمتهم وحرمة التعرض حتى لأموالهم عدم جواز أخذ العشر منهم دفعه بقوله: "و": يجوز أن "يؤخذ ممن تجر": بفتح الجيم في الماضي وضمها في المضارع "منهم": أي أهل الذمة لا بالمعنى السابق بل بمعنى جميع أهل الذمة ذكورا أو إناثا، صغارا أو كبارا، أحرارا أو عبيدا"من أفق": بضم الفاء ويجوز إسكانها أي إقليم "إلى أفق": أي إقليم آخر، والأقاليم خمسة: مصر والشام والعراق وبر الأندلس وبر المغرب، والاعتبار بهذا لا بالسلاطين إذ لا يجوز تعدد السلطان، وقيل: يجوز عند تنائي الأقطار، وأما الأفق في باب أوقات الصلاة فالمراد به الجو الذي بين السماء والأرضوفي باب الحج المراد به البلد، فالأفق له معان ثلاثة. "عشر ثمن ما يبيعونه": من غير الطعام أو من الطعام في غير مكة والمدينة وما اتصل بهما من قراهما بدليل ما يأتي، وسواء كان ما قدموا به عينا أو عرضا، فإذا قدموا بعين وأخذوا بدلها عرضا فإنه يؤخذ منهم عشر العرض لا عشر قيمته هذا هو المشهور، وأما ما يشترونه فيؤخذ منهم عشر قيمته لا عشر ثمنه. قال سيدي يوسف بن عمر: في كلام المصنف إجمال، وذلك؛ لأنه إما أن يشتري من إقليمه ويبيع في غيره من بلاد المسلمين، وهذا لا يؤخذ منه شيء حين الشراء ويؤخذ منه إذا باع، وإما أن يشتري من غير إقليمه ويبيع في إقليمه فهذا يؤخذ منه في الشراء ولا يؤخذ منه إذا باع، وإما أن يشتري من غير إقليمه ويبيع في إقليم آخر فهذا يؤخذ منه حين الشراء وحين البيع، فيؤخذ منه عشر ثمن ما باع وعشر قيمة ما اشترى، بمنزلة ما إذا وقع كل واحد في إقليمه، فهذه أقسام ثلاثة، وبقي قسمان آخران أحدهما أن يتجر في إقليمه من أعلاه إلى أسفله، وهذا لا يؤخذ منه

شيء؛ لأنه في إقليمه، وشرط أخذ العشر مركب من أمرين: أحدهما انتقاله من أفق إلى آخر والثاني انتفاعه إما بالبيع أو الشراء، ثانيهما أن يتجر في غير إقليمه من أعلاه إلى أسفله، فهذا يؤخذ منه مرة واحدة حين الشراء ولا يؤخذ منه حين البيع؛ لأنه باع واشترى في إقليم واحد، ولو اشترى بعين قدم بها سلما فالمشهور أنه لا يؤخذ منه عشرها" تنبيه ": الدليل على جواز أخذ العشر قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى" 1 ولأنه إجماع الصحابة ومشى عليه الأئمة ويؤخذ العشر. "وإن اختلفوا": أي كرروا التجارة "في السنة مرارا": فيؤخذ منهم في كل مرة عشر ثمن ما باعوه خلافا لمن قال: إنما يؤخذ منهم في السنة مرة واحدة وهو الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عن الجميع، وإنما يؤخذ منهم عند التكرار لحصول النفع لهم في كل مرة، وفهم من قوله: عشر ثمن إلخ أن الغلات التي تحصل من كراء الدواب المعدة للتجارة لا يؤخذ منهم عشرها"وإن حملوا": أي أهل الذمة مطلقا "الطعام إلى مكة والمدينة خاصة" وألحق بهما القرى المتصلة بهما "أخذ منهم نصف العشر من ثمنه" لا جميع العشر ترغيبا لهم في الجلب إليهما لشدة حاجة أهلهما إلى الطعام، ومفهوم الطعام أن غيره يؤخذ من ثمنه جميع العشر كالعرض والبن" تنبيه ": ظهر مما قررنا أن المراد بالطعام جميع المقتات أو ما يجري مجراه كالقطاني والأدهان خلافا لمن خصه بالحنطة والزيت، ومقتضى التعيين أن الحربيين إذا حملوا الطعام إلى هذين الموضعين كأهل الذمة يؤخذ منهم نصف عشر الثمنولما قدم بيان ما يؤخذ من أهل الذمة شرع في بيان ما يؤخذ من الحربيين بقوله: "ويؤخذ من تجار الحربيين": وهم القادمون من دار الحرب إلينا بأمان "العشر": من نفس السلع التي قدموا بها لم يبيعوا. "إلا أن ينزلوا على أكثر من ذلك": أي العشر فإن نزلوا على أن يدفعوا أكثر من العشر فيجوز أخذه، وحاصل المعنى: أن الحربي إذا اتجر إلى بلاد الإسلام ودخل على شيء يعطيه فإنه يلزمه ولو أكثر من العشر، ولا يجوز أخذ زائد عليه، وعن عدم تعيين جزء يؤخذ منهم العشر إلا أن يؤدي الإمام اجتهاده إلى أخذ أقل فليقتصر عليه على المشهور؛ لأن النقص
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات، حديث "3046"، والترمذي، حديث "633" وأحمد "3/474" حديث "15938" وانظر: "ضعيف الجامع 2050".

والزيادة موكولان إلى اجتهاد الإمام. قال ابن القاسم: لا حد لمأخوذ منهم سواء كان قبل النزول أو بعده، فتلخص أن أهل الذمة إنما يؤخذ منهم عشر الثمن إذا اشتروا من أفق وباعوا في أفق آخر، وأما الحربيون فلا فرق بين أن يبيعوا في بلد واحد أو في جميع المسلمين، إنما يؤخذ منهم عشر الأعيان لا بشرط أكثر أو أقل، إلا في الطعام المحمول إلى مكة والمدينة فكأهل الذمة، والفرق أن بلاد الإسلام كالبلد الواحد بالنسبة لأهل الحرب، بخلاف أهل الذمة فلا يكمل النفع لهم إلا بالانتقال من أفق إلى آخر وباعوا بالفعل" تنبيه ": لم يبين المصنف مما يتعلق على الحرب إلا حكم ما قدموا به من السلع التي يحل للمسلمين تملكها لولا الأمان، ولم يبين حكم العين التي قدموا بها إلى بلاد الإسلام ليشتروا بها، والحكم أنه يؤخذ منهم عشر القيمة، وقيدنا بالتي يحل تملكها إلخ للاحتراز عما لا يحل تملكه شرعا كالخمر والخنزير، وحكمه أنه إذا كان هناك أهل ذمة يشترونه منهم فإنهم يتركون ويمكنون من الدخول به ويؤخذ منهم عشر الثمن بعد البيع، وإن لم يكن من يشتريه به في بلد المسلمين من أهل الذمة فإنهم يردون به ولا يمكنون من الدخول به، هذا ملخص ما يتعلق بما يؤخذ من أهل الذمة والحربيين، وأما المسلمون فقد قام الإجماع على عدم جواز أخذ شيء منهم لخبر: "إنما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور"1 وحينئذ فما يؤخذ في زماننا منهم عند نزول قوافل البن أو القماش فهو من المنكرات المجمع على تحريمها، فإن كان مع استحلال الأخذ فكفر، وإن كان مع الاعتراف بحرمته فهو عصيان يستحق آخذه التعزير بعد الرجوع بعينه أو مثله أو قيمته كالغاصبثم شرع في مسألة زيادة على ما ترجم له بقوله: "وفي الركاز وهو": لغة ما يوضع في الأرض وما يخرج من المعدن من القطع الخالصة من الذهب أو الورق واصطلاحا "دفن": بكسر الدال بمعنى مدفون "الجاهلية": خاصة بخلاف الكنز فإنه يطلق على دفن الجاهلية ودفن أهل الإسلام، واختلف في الجاهلية فقيل ما قبل الإسلام، وقيل الجاهلية أهل الفترة ومن لا كتاب لهم، وأما أهل الكتاب فلا يقال لهم جاهلية، وهذا الثاني كلام أبي الحسن شارح المدونة. "الخمس على من أصابه": أي وجده حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، غنيا أو فقيرا أو مدينا، سواء كان
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات، حديث "3046" والترمذي، حديث "633" وأحمد "3/474" حديث "15938" وانظر: "ضعيف الجامع 2050"، وتقدم برقم "455".

نصابا أو لا، سواء عينا أو عرضا، فالنحاس والرصاص والحديد والرخام يسمى ركازا، ولا فرق بين تحقق كونه دفن جاهلي أو شك فيه لعدم علامة تدل عليه؛ لأن الغالب في الموجود في الأرض كونه من دفن الجاهلية، وأشعر كلام المصنف أنه ليس حكمه للإمام كالمعدن بل الباقي بعد إخراج خمسه لواجده ولو عبدا أو كافرا حيث وجده في أرض لا مالك لها، كموات أرض الإسلام أو فيافي العرب التي لم تفتح عنوة ولا أسلم عليها أهلها، وأما لو وجد في أرض مملوكة فيكون ما فيه لمالك الأرض ولو جيشا، وتعبيره بدفن يوهم أن ما وجده على ظهر الأرض وليس عليه علامة مسلم أو ذمي ليس من الركاز وليس كذلك بل هو منه، فلو قال المصنف: وفي مال الجاهلي الخمس لشمل المدفون وغيره لقول المدونة: ما وجد على وجه الأرض من مال جاهلي أو بساحل البحر من تصاوير الذهب والفضة فلواجده يخمس، وأما ما وجده وعليه علامة مسلم أو ذمي فهو لقطة سواء وجد مدفونا أو على ظهر الأرض يجب على واجده تعريفه سنة، وإنما كان مال الذمي كالمسلم؛ لأنه محترم بحرمة الإسلام لدخوله تحت حكم المسلمين" تنبيهات ": الأول : لم يبين المصنف من يأخذ الخمس، والذي يأخذه الإمام العدل يصرفه فيه مصارفه، وإن لم يوجد الإمام العدل فإنه يجب على واجده التصدق به على المساكينالثاني : محل تخميسه ما لم يحتج لنفقة كثيرة وإلا فيزكىقال خليل: وفي ندرة المعدن الخمس كالركاز وهو دفن جاهلي، وإن يشك أو قل أو وجده عبد أو كافر إلا كبير نفقة أو عمل في تخليصه فالزكاة لقول مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعته من أهل العلم يقولون: إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ما لم يطلب بمال، وأما ما طلب بمال وتكلف كثيرا فليس بركاز، وإنما فيه الزكاة بعد وجود شروط الزكاة حيث استأجر على العمل لا إن عمل بنفسه أو عبيده فلا يخرج عن الركاز:
الثالث : يستثنى من الركاز الذي يخمس ما وجد مدفونا في أرض الصلح، سواء كان من دفنهم أو من دفن غيرهم، فهذا لا يخمس على المشهور ولا يكون لواجده وإنما هو لأهل الصلح جميعا، إلا أن يجده رب دار منهم بها فإنه يختص به فلو لم يكن منهم فهو لهم:
الرابع : ما طرحه البحر في جوانبه من نحو اللؤلؤ والجواهر وكل نفيس مما لم يوجد عليه علامة مسلم أو ذمي فإنه يكون لواجده بلا تخميس.

قال خليل: وما لفظه البحر كعنبر فلواجده بلا تخميس، فلو رآه جماعة فهو لمن بادر إليه، كالصيد يملكه المبادر له ولو رآه غيره قبله، وأما ما يتركه صاحبه بالبر ويعلم أنه لمسلم أو ذمي ثم يأخذه آخر فأشار ابن عرفة إلى حكمه بقوله: سمح ابن القاسم لمن أسلم دابة في سفر آيسا منها أخذها ممن أخذها وأنفق عليها وعاشت وعلى ربها دفع كلفة الذي أخذها كأجرة قيامه عليها إن قام عليها كربها، ولابن رشد كلام تركناه خوف الإطالة، وسمح ابن القاسم أيضا لمن طرح متاعه خوف غرقه أخذه ممن غاص عليه وحمله يغرم أجرهما، وأجرى فيها أيضا ابن رشد خلافا كالسابقة، ولسحنون: من أخرج ثوبا من جب وأبى من رده إلى ربه وطرحه في الجب فطلبه ربه فلم يجده فعليه إخراجه ثانيا وإلا ضمنه، محمد: إن أخرجه فله أجره إن كان ربه لا يصل إليه إلا بأجر، وسمح ابن القاسم أيضا لمن أسلم متاعه بفلاة لموت راحلته أخذه ممن احتمله بغرم أجره، ولابن رشد فيها كلام سوى هذا، وإنما ذكرنا تلك المسائل لعزة وجودها في صغار الكتبولما فرغ من الكلام على ما كان الأولى تأخيره لزيادته على الترجمة وعدم مناسبته لما اشتملت عليه، شرع في الكلام على باقي ما تجب فيه الزكاة فقال:
* * *

"باب في": بيان "زكاة الماشية"
وقدر النصاب وهي في اصطلاح الفقهاء لا تطلق إلا على الإبل والبقر والغنم وهي التي تجب فيها الزكاة، فلا تجب في خيل وبغال وحمير، وإنما وجبت فيها دون غيرها لوجود كمال النماء فيها من لبن وصف ونسل وغير ذلك من أنواع الانتفاع، بخلاف غيرها من بقية أنواع الحيوان، وكرر بيان الحكم بقوله: "وزكاة": مبتدأ أي تزكية "الإبل والبقر والغنم" وهي المرادة بالماشية وخبر المبتدأ "فريضة": بالكتاب والسنة والإجماع كما قدمنا، ولا فرق عند مالك بين المعلوفة والسائمة ولا بين العاملة والمهملة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي رضي الله عن الجميع، دليلنا عموم منطوق قوله عليه الصلاة والسلام: "في أربعين شاة شاة وفي أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم في كل خمس شاة" 1 وهو مقدم على مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "في سائمة الغنم الزكاة" 2 قيام الإجماع على تقديم المنطوق على المفهوم في باب الاحتجاج، والجواب على تقدير حجية المفهوم أن التقييد بالسائمة خرج مخرج الغالب لا للاحتراز؛ لأن الغالب في الأنعام في أرض الحجاز السوم والتقييد إذا كان بالنظر للغالب لا يكون حجة بالإجماعوبدأ الكلام على بيان فروض أنصبة الإبل اقتداء بالحديث إذ فعل ذلك صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقة المكتوب لعمرو بن حزم، وفروض زكاتها إحدى عشر فريضة: أربعة منها المأخوذ فيها من غير جنسها ويسمى المزكى بها شنقا بفتح الشين المعجمة وبالنون، وسبعة الزكاة فيها من جنسها، وبدأ بالأولى وهي الأربعة بقوله: "ولا زكاة في الإبل في أقل من خمس ذود": الرواية المشهورة المعروفة عند الجمهور إضافة خمس إلى ذود فهو من إضافة العدد إلى المعدود كقولهم: خمسة أبعرة وخمس جمال نوق، وروي بتنوين خمس وذود بدل منه، والذود بدال معجمة ودال مهملةقال الأصمعي: الذود من ثلاث إلى عشرة. قال سيبويه: تقول ثلاث ذود بحذف التاء من ثلاثة؛ لأن الذود مؤنث ولا مفرد له من لفظه كرهط وقوم على المشهور، والدليل على ما ذكر
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة، حديث "1568" والترمذي، حديث "621" سنن ابن ماجه، حديث "1805" وأحمد "3/35" حديث "11325" وانظر: الإرواء 6/101"2 صحيح "بمعناه": أخرجه بمعناه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، حديث "1454" وأبو داود، حديث "1567"، والنسائي، حديث "2447"، وأحمد "1/11" حديث "72".

المصنف قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" 1 أي زكاة فما في المصنف حديث مع تغيير لبعض ألفاظه بناء على جواز رواية الحديث بالمعنى بخلاف القرآن، ثم فسر الذود بقوله: "وهي": أي الذود "خمس من الإبل": فإذا بلغت هذا العدد. "ففيها شاة جذعة أو ثنية": وهما ما أوفى سنة ودخل في الثانية دخولا بينا، والتاء فيهما للوحدة؛ لأنه لا فرق في الإجزاء بين الذكر والأنثى وتؤخذ "من جل غنم أهل ذلك البلد من ضأن أو معز": فإن كان جلها المعز أخذ منها شاة ولا نظر إلى غنم المالك، فإن تطوع وأخرج ضائنة فتجزي؛ لأن الضائنة أفضل، لأن الضابط في هذا الباب أنه إن أخرج غير ما طلب منه فإن كان الذي أخرجه أحظ للفقراء أجزأ وإلا فلا، ويستمر أخذ الشاة "إلى تسع": إلا أن الخمس هي النصاب والأربع وقص"ثم": إن زادت على التسع "في العشر شاتان": ويستمر أخذها "إلى": أن تبلغ "أربع عشرة ثم": إذا زادت واحدة وجب عليه "في خمس عشرة ثلاث شياه إلى تسع عشرة فإذا كانت": أي صارت "عشرين فأربع شياه إلى أربع وعشرين": فالوقص في هذه كالتي قبلها أربع وليس فيها إلا الغنم بالإجماع، وكان الأصل الإخراج منها لكن الشارع خفف عن المالك رفقا به، فإذا شدد على نفسه وأخرج منها فالأصح إجزاء البعير عن الشاة الواحدة حيث ساوت قيمته قيمة الشاة، فإذا زادت الإبل بحيث زادت على الأربع والعشرين زكيت من جنسها؛ لأنه كلما عظمت النعم وزاد المال ينبغي الزيادة في القدر الواجب تعظيما لشكر المنعم، وذلك في سبع فرائض تزكى من جنسها أشار إلى أولها بقوله: "ثم": إذا زادت الإبل على أربع وعشرين يكون الواجب "في خمس وعشرين بنت مخاض": وهي التي حملت أمها بعدها"و": لذا بين سنها بقوله: "هي بنت سنتين": أي وفت سنة ودخلت في الثانية؛ لأن عادة الناقة تربي ولدها سنة وتحمل في الثانية وحين حملها يكون الجنين كمخض ببطنها فلذلك تسمى المخرجة بنت مخاض، وتشترط فيها أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء في الضحية. "فإن لم تكن": أي توجد بنت مخاض "فيها": أي الخمس والعشرين أو وجدت لكن معيبة "فابن لبون ذكر": يؤخذ عوضا عن بنت المخاض، فإن لم يوجد عنده تعينت بنت المخاض أحب أو كره قاله ابن القاسم، فجعل حكم عدم الصنفين كحكم وجودهما، فإن أتاه في تلك الحالة بابن لبون ذكر فذلك إلى الساعي إن رأى أخذه نظرا جاز وإلا لزمه بنت مخاض، فلو لم يلزم الساعي صاحب الإبل بنت مخاض
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الورق، حديث "1447" ومسلم، كتاب الزكاة، حديث "979"، وتقدم برقم "445".

حتى أتاه بابن اللبون أجبر على قبوله بمنزلة ما لو كان موجودا فيها ابتداء ويستمر أخذها "إلى خمس وثلاثين"؛ لأن الوقص في هذه الفريضة عشرة. "ثم": إن زادت على ذلك فعليه "في ست وثلاثين بنت لبون وهي بنت ثلاث سنين": أي أتمت سنتين ودخلت في الثالثة وسميت بذلك؛ لأن أمها ذات لبن، فلو لم توجد عنده أو وجدت معيبة لم يؤخذ عنها حق بخلاف ابن اللبون فتقدم أنه يؤخذ عن بنت المخاضقال في الذخيرة: والفرق أن ابن اللبون يمتنع من صغار السباع ويرد الماء ويرعى الشجر، فعادلت هذه الفضيلة فضيلة أنوثة بنت المخاض، والحق لا يختص بمنفعة وغاية أخذ ابن اللبون "إلى خمس وأربعين":؛ لأن الوقص هنا تسع "ثم": إذا زادت على ذلك فعليه "في ست وأربعين حقة": بكسر الحاء المهملة "وهي التي يصلح على ظهرها الحمل": أي استحقت أن تركب ويحمل عليها "ويطرقها الفحل": فلو دفع عنها بنتي لبون لم يجزئا خلافا للشافعي وظاهره ولو عادلت قيمتها قيمة الحقة "وهي": أي الحقة "بنت أربع سنين": المراد أتمت ثلاثة ودخلت في الرابعة ويستمر يدفعها "إلى" تمام "ستين"؛ لأن الوقص هنا أربع عشرة. "ثم": إذا زادت واحدة على الستين فعليه "في إحدى وستين جذعة وهي بنت خمس سنين": المراد دخلت في الخامسة سميت جذعة؛ لأنها تجذع أي تسقط سنها وينبت غيرها وهي آخر الأسنان التي تؤخذ في الزكاة من الإبل وغاية أخذها "إلى": تمام "خمس وسبعين":؛ لأن الوقص في هذه أربع عشرة كالتي قبلها "ثم": إذا زادت على الخمس وسبعين فعليه "في ست وسبعين بنتا لبون": يستمر أحدهما "إلى": تمام "تسعين" لأن الوقص في ذلك أربع عشرة أيضا "ثم": إذا زادت واحدة فعليه "في إحدى وتسعين حقتان": وغاية أخذهما "إلى": تمام "عشرين ومائة": فالوقص في هذه تسع وعشرون "فما زاد على ذلك": أي المائة والعشرين ولو واحدة على ما هو ظاهر لفظه. "ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون" 1: وما ذكره المصنف من أن الواجب يتغير بمطلق الزيادة على المائة والعشرين ولو واحدة هو قول ابن القاسم، فيجب عنده في المائة وإحدى وعشرين إلى تسع وعشرين ثلاث بنات لبون من غير تجبير للساعي، والذي ارتضاه مالك وهو المشهور كما قاله في المقدمات أن الزيادة التي يتغير بها الواجب هي زيادة العشرات على المائة والعشرين، وأما زيادة أقل من عشرة على المائة والعشرين فالساعي بالخيار بين أخذ حقتين أو
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، حديث "1454"، وأبو داود، حديث "1567"، والنسائي، حديث "2447"، وابن ماجه "1800".

ثلاث بنات لبون، وجرى عليه العلامة خليل حيث قال: وفي مائة وإحدى وعشرين إلى تسع حقتان أو ثلاث بنات لبون الخيار للساعي إلى أن قال: ثم في كل عشر يتغير الواجب فيتغير في مائة وثلاثين في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، فالحاصل أن الذي قال به ابن القاسم مخالفا لشيخه أن في المائة وإحدى وعشرين إلى تسع وثلاثين ثلاث بنات لبون من غير تخيير وهو قول ابن شهابقال ابن القاسم: وبه أقول، والذي قاله مالك ومشى عليه خليل أن في المائة وإحدى وعشرين، إلى تسع الخيار للساعي في أخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون، وهذه إحدى المسائل الأربع التي أخذ ابن القاسم فيها بغير قول الإمام، وباقيها في التتائي في شرح هذا الكتاب، وسبب الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم بعد أن أوجب في المائة والعشرين حقتين: "فما زاد ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون" هل هو محمول على مطلق الزيادة؟ فيتغير الفرض بالزيادة على المائة والعشرين ولو بزيادة الواحدة فيؤخذ ثلاث بنات لبون، وهو قول ابن القاسم تبعا لابن شهاب من غير تخيير للساعي أو زيادة العشرات وهو ما رواه أشهب وابن الماجشون عن مالك، فلا ينتقل الفرض حتى تصير مائة وثلاثين فالواجب حقة وبنتا لبون الحقة في خمسين وبنتا لبون في الثمانين، ثم إذا زادت عشرا بدل بنت اللبون بحقة، فإذا صار جميع الواجب حقاقا بأن بلغت مائة وخمسين ثم زادت عشرة بدل الحقاق ببنات لبون وزاد واحدة من بنات اللبون، ثم إذا زادت عشرة بدل بنت لبون بحقة ثم كذلك، ففي المائة والأربعين حقتان وبنت لبون، فإذا زادت عشرا فثلاث حقاق، فإذا زادت عشرة فأربع بنات لبون ثم كذلك، ثم لا يعمل بهذا الضابط بعد المائتين؛ لأن الواجب في مائتين وخمسين خمس حقاق، فإذا زادت عشرة فلو علمنا به لزم وجوب ست بنات لبون وقد علمت وجوبها في مائتين وأربعة، وفي مائتين من الإبل الخيار للساعي بين أربع حقاق أو خمس بنات لبون، هذا إن وجد السنان أو فقدا، فإن وجد أحدهما وفقد الآخر خير رب المال بين دفع الموجود ويتعين على الساعي أخذه، وإذا أراد أن يكلف نفسه ويشتري السن الواجب فلا حظرولما فرغ من الكلام على زكاة الإبل شرع في الكلام على زكاة البقر ونصبها ثلاث وثلاثون وأربعون وما زاد، والذي يزكى به شيئان من نوعها تبيع ومسنة، وبدأ بأقل النصب بقوله: "ولا زكاة في البقر في أقل من ثلاثين": بقرة بل لا بد من بلوغ الثلاثين. "فإذا بلغتها": وصارت ثلاثين "ففيها تبيع": بمثناة فوقية بعدها باء موحدة سمي بذلك؛ لأنه يتبع أمه أو لتبعية قرنيه أذنيه والتبيع

"عجل جذع": أي ذكر فلا تجزئ الأنثى "قد أوفى سنتين": على الصحيح خلافا لعبد الوهاب في قوله: أنه ما أوفى سنة ودخل في الثانية "ثم كذلك": يؤخذ التبيع "حتى تبلغ": أي تكمل بقر المزكى "أربعين": فإذا بلغت أربعين صار نصابا آخر "فيكون فيها مسنة": والوقص هنا تسعة "ولا تؤخذ إلا أنثى": خلافا لابن حبيب في تجويزه أخذ الذكر، والأول لمالك رضي الله تعالى عنهما "و": المسنة "هي بنت أربع سنين": أي دخلت في الرابعة وليس المراد وقتها ولذا غاير في التعبير "وهي ثنية": أي تسمى بذلك؛ لأنها زالت ثناياها. "فما زاد": على أربعين يتغير الواجب "ففي كل أربعين مسنة وفي كل ثلاثين تبيع": فيما يمكن فيه ذلك وذلك نحو سبعين فإن فيها مسنة وتبيعا، فإذا زادت عشرة ففيها مسنتان، فإذا زادت عشرة ففيها ثلاثة أتبعة، فإذا زادت عشرة ففيها تبيعان ومسنة، فإذا زادت عشرة ففيها تبيع ومسنتان، فإذا زادت عشرة بأن صارت مائة وعشرين فيخير الساعي بين أربعة أتبعة أو ثلاث مسنات إن وجدا أو فقدا، ويتعين أحدهما منفردا، كما يخير في مائتي الإبل في أخذ أربع حقاق أو خمس بنات لبون. قال العلامة خليل: وفي مائة وعشرين كمائتي الإبل"تنبيه": إذا علمت ما قررنا به كلام المصنف ظهر لك أن قوله: فما زاد ففي كل أربعين مسنة وفي كل ثلاثين تبيع ليس على ظاهره لاقتضائه أن في مائة وسبعين خمسة أتبعة، مع أن الخمسة أتبعة تجب في مائة وخمسين؛ لأنها ثلاثون خمس مرات، فيلزم أن عشرين لا زكاة فيها، وقد أجاب بعضهم بصحة هذا الضابط بأن جعل في المائة والسبعين مسنتين وثلاثة أتبعة فلم يبق منها شيء بغير زكاة، ولعل الحامل للمصنف على ارتكاب تلك الضوابط المنقوضة في بعض الأحيان مراعاة حال الطالب؛ لأنه يكتفى ببعض الأمثلة، ولا شك أن الضابط ولو كان منقوضا يصدق ببعض أمثلة صحيحةثم شرع في نصاب الغنم فقال: "ولا زكاة": واجبة "في الغنم حتى تبلغ": أي تكمل عند المخاطب بالزكاة "أربعين شاة": وهذا لفظ حديث خرجه البخاري وغيره، وورد أيضا بلفظ "في أربعين شاة شاة". "فإذا بلغتها ففيها شاة جذعة أو ثنية": ولو معزا وهي الموفية سنة على المشهور من الأقوال الواردة في تفسير الجذع، والشاة تطلق على الذكر والأنثى والضأن والمعز، فقوله: جذعة أي سنها سن الجذعة أو الثنية لا خصوص الأنثى، فقوله: أو ثنية مستغنى عنه بلفظ شاة ويستمر أخذ الشاة "إلى عشرين ومائة فإذا بلغت": أي كملت غنم المزكي وصارت "إحدى وعشرين ومائة ففيها شاتان": وتستمر الشاتان "إلى مائتي شاة": فالوقص هنا

ثمانون "فإذا زادت": غنم المزكي على المائتين "واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة": وتسعة وتسعين "فما زاد": على الثلثمائة مع التسعة والتسعين بأن كملت أربعمائة "ففي كل مائة شاة": قاله خليل، الغنم في أربعين شاة شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وشاة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع، ثم لكل مائة شاة وهو أظهر من كلام المصنف؛ لأن قوله: إلى ثلثمائة يوهم أن الثلثمائة غاية أخذ الثلاث شياه وهو قول ضعيف، المشهور الذي هو مذهب الجمهور كمالك وأبي حنيفة والشافعي خلافه، وأن الثلاث يستمر أخذها إلى ثلثمائة وتسعة وتسعين، ولا يؤخذ لكل مائة شاة إلا بعد تمام الأربعمائة كما قررنا به كلام المصنف، فالوقص في هذا للفرض الرابع مائتان غير شاتين، وعلى ظاهر كلام المصنف الضعيف تسعة وتسعون، فتلخص أن فروض الغنم أربعة وأربعون ومائة، وإحدى وعشرون ومائتان وشاة إلى ثلثمائة وتسعة وتسعين، وما زاد على ذلك كأربعمائة أو خمسمائة لكل مائة شاة كما قال المصنف، والوقص في هذا الفرض الرابع مائتان غير شاتينولما فرغ من فروض أنواع الماشية الثلاثة شرع في حكم ما بين الفرائض وهو الوقص: فقال: "ولا زكاة في الأوقاص": جمع وقص بفتح القاف وتسكينها خطأ وهذا حيث لا خلطة، فلا ينافي أنها قد تزكى عندها "وهو": في اللغة من وقص العنق الذي هو القصر لقصوره عن النصاب وفي اصطلاح الفقهاء "ما بين الفريضتين من كل الأنعام": وقوله: من كل الأنعام ليس للاحتراز؛ لأن غيرها مما يزكى كالحرث والماشية والعين لا وقص فيهاولما كانت الحبوب المتقاربة في الانتفاع يضم بعضها لبعض ليكمل النصاب بين أن الماشية كذلك بقوله: "ويجمع الضأن والمعز": وهما معروفان "في الزكاة": إذا نقص كل صنف عن النصاب، لأن الجنس جمعهما في قوله عليه الصلاة والسلام: "في أربعين شاة شاة". "و" كذلك تجمع في الزكاة "والجواميس والبقر"؛ لأن اسم الجنس جمعهما في قوله عليه الصلاة والسلام: "في كل ثلاثين من البقر تبيع". "و" كذلك تجمع "البخت": وهي الإبل ذات السنامين "والعراب" وهي الإبل ذات السنم الواحد، وإنما جمعهما لصدق لفظ الإبل على الصنفين في قوله عليه الصلاة والسلام: "في كل خمس من الإبل شاة" ولم يبين المصنف المأخوذ منه عند الاجتماع، وأشار إليه خليل بقوله: وخير الساعي إن وجبت واحدة وتساويا كعشرين ضائنة ومثلها معزا، وإن لم يتساويا فمن الأكثر كعشرين ضائنة وثلاثين معزا، أو بالعكس أخذ الشاة من الأكثر وإن وجبت شاتان، فإن استوى الصنفان كإحدى وستين ضائنة مثلها معزا أخذ من كل

صنف شاة، وكذا إن لم يتساويا حيث كان الأقل نصابا وهو غير وقص كمائة ضائنة وأربعين معزا أو بالعكس، فلو كان الأقل نصابا ولكن وقصا كمائة وإحدى وعشرين ضائنة وأربعين معزا أو بالعكس أخذت الشاتان من الأكثر، وأولى لو كان الأقل دون نصاب، وأما لو وجب ثلاث فإن تساوى الصنفان كمائة وشاة من الضأن ومثلها من المعز أخذ من كل صنف شاة، وخير الساعي في الثالثة وإن لم يتساويا، فإن كان الأقل نصابا وهو غير وقص كمائة وسبعين معزا وأربعين من الضأن أو كان وقصا أو غير نصاب، فالحكم في الجميع أخذ كل الواجب من الأكثر، وإن وجب أربع شياه فيأخذ من كل مائة شاة، والمائة الملفقة من الصنفين يأخذ واجبهما من أيهما عند التساوي ومن أكثرهما عند الاختلافثم شرع في زكاة الخلطة وهي كما قال ابن عرفة: اجتماع نصابي نوع نعم مالكين فأكثر فيما يوجب تزكيتهما على ملك واحد فقال: "وكل خليطين": في ماشية الأنعام فإنهما كالمالك الواحد فيما يجب، فإن أخذ الساعي الواجب من ماشية أحدهما "فإنهما يترادان بالسوية": فإن كان لواحد أربعون شاة ولخليطة مثلها فإن الساعي يأخذ واحدة على كل واحد نصفهاقال خليل: وراجع المأخوذ منه شريكه بنسبة عدديهما، ولو انفرد ونص لأحدهما في القيمة كأن يكون لأحدهما تسع من الإبل وللآخر ست فتقسم الثلاث شياه على خمسة عشر لكل ثلاثة خمس، فعلى صاحب التسعة ثلاثة أخماس الثلاثة، وعلى صاحب الستة خمساها، وكذا إذا انفرد أحدهما بالوقص على المشهور من أن الأوقاص مزكاة، كأن يكون لأحدهما تسع وللآخر خمس، فإن أخذ الشاتين من صاحب التسعة رجع على صاحبه بخمسة أسباع من أربعة عشر سبعا من قيمة الشاتين، أو من صاحب الخمسة يرجع على صاحبه بتسعة أسباع من قيمة الشاتين بعد جعلهما أربعة عشر سبعا، أو من كل واحد شاة رجع صاحب الخمسة على صاحبه بسبعين من قيمة الشاة التي أخذها الساعي، وكل ذلك مبني على تزكية الأوقاص، وعلى مقابله يكون على كل واحدة شاةولما كان من شروطها أن يملك كل نصابا قال: "ولا زكاة على من لم تبلغ حصته عدد الزكاة": ومن شروطها النية؛ لأنها توجب تغيير الحكم فتفتقر إلى نية كالصلاة، ومنها: أن يكون الخليطان حرين مسلمين، فلو كان أحدهما رقيقا أو كافرا زكى الحر المسلم ماشيته على حكم الانفراد، ومنها: أن يجتمعا في الأكثر من خمسة أشياء: الماء والمراح والمبيت والراعي والفحل لهما أو لأحدهما إن كان يضرب في الجميع برفق، منها أن لا يقصدا بها الفرار من

تكثير الواجب كما يأتي، ومنها أن يكون الحول مر على ماشية كل ولو وقعت الخلطة في أثنائه، ومنها اتحاد نوعها بأن يجوز جمعها في الزكاة لا بقر مع غنم أو إبل، فإن كان الفحل واحدا اشترط اتحاد الصنف، فإذا وجدت هذه الشروط صار كالمالك الواحد فيما وجد من قدر وسن وصنف، مثال الأول: لو كانوا ثلاثة لكل واحد أربعون ضأنا الواجب شاة على كل ثلثها فالخلطة أفادت التخفيفوالثاني : كاثنين لكل واحد ست وثلاثون من الإبل الواجب عليهما جذعة بعد أن كان الواجب على كل بنت لبونوالثالث : كأن يكون لواحد ثمانون من الضأن والآخر أربعون من المعز الواجب شاة من الضأن على صاحب الثمانين ثلثاها وعلى الآخر ثلثها. ولما كان من الشروط أن لا يقصد بالخلطة الفرار قال: "ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة": وهذا حديث ولفظه: "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" 1 وما كان من خليطين فإنهما يترادان بالسوية. "و": محل النهي عن "ذلك" التفريق "إذا قرب الحول": فإنه قرينة على قصد التقليل بسبب الهروب ولذلك قال بعض: ويثبت الفرار بالإفرار أو القرينة أو القرب الموجب تهمتهما على أحد أقوال خمسة" تنبيه ": قوله: خشية الصدقة مفعول لأجله منصوب ليجمع أو يفرق، ومعنى خشية الصدقة الخوف من كثرتها عند عدم التفرق إذا كانت مفيدة للتقليل، أو عند عدم الاجتماع إذا كانت تفيد التخفيف كأن يكون لكل واحد أربعون، فلا يجوز اختلاطهما للخوف من دفع كل واحد واحدة عند عدم الخلطة. ثم فرع على ما إذا ارتكبا النهي بالخلطة قوله: "فإذا كان ينقص أداؤهما": بسبب "افتراقهما": افتراقا منهيا عنه "أو": كأن ينقص أداؤهما "ب": سبب "اجتماعهما": ففرقا ما كان مجتمعا، أو جمعا ما كان مفرقا"أخذا بما كان عليه قبل ذلك": هذا جواب إذا، واسم الإشارة راجع لما ذكر من الاجتماع والافتراق، مثال النقص بالتفريق أن يكون لواحد مائة شاة ولخليطه كذلك، فيفترقان في آخر الحول ليجب عليهما شاتان، فيؤخذ منهما ثلاث معاملة لهما بنقيض قصدهما، ومثال الجمع ثلاثة رجال متفرقين لكل واحد أربعون فيجتمعون في آخر الحول ليجب عليهم شاة فيؤخذ من كل واحد واحدة، فمعنى خشية الصدقة خشية تكثيرها،
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، حديث "1572" وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود "1572".

ومفهوم خشية الصدقة أنهم لو تفرقوا أو اجتمعوا لعذر لا حرمة، ويصدقون في العذر من غير يمين إن كانوا مأمونين ظاهري الصلاح وإلا فيمين، ومثله في عدم النهي عن الافتراق أو الاجتماع لو اتحد الواجبثم شرع في بيان ما يجزئ وما لا يجزئ بقوله: "ولا": يجوز أن "تؤخذ في الصدقة السخلة": أي الصغيرة من الضأن والمعز "و": إن كانت "تعد على رب الغنم": فإذا وجد عنده عشرون من الغنم وولدت كمال النصاب ولو قرب الحول وجب شاة وسط "و": كذا "لا" يجوز أن "تؤخذ العجاجيل": جمع عجل وهو الذي لم يبلغ سن التبيع "في" صدقة "البقر ولا الفصلان في" صدقة "الإبل": والفصيل ما دون ابن المخاض. "و" إن كانت "تعد عليهم": في تكميل النصاب ولو كانت مواشيه كلها سخالا أو عجاجيل أو فصلانا لوجبت الزكاة، ويكلف شراء الوسط لقول خليل: ولزم الوسط ولو انفرد الخيار أو الشراء، إلا أن يرى الساعي أخذ المعيبة لا الصغيرة. "ولا يؤخذ تيس": وهو فحل المعز "ولا هرمة": أي هزيلة "ولا الماخض": أي الحامل "ولا فحل الغنم ولا شاة العلف ولا التي تربي ولدها ولا خيار أموال الناس": ككثيرة اللبن، والحاصل أنه لا يجوز أخذ الشرار مراعاة لحق الفقراء، ولا الجياد مراعاة لحق أرباب المواشيقال القرافي: فإن أعطى واحدة من الخيار طيبة بها نفسه جاز ذلك، وإن أعطى من الشرار فلا يجزئ، وإن كانت كلها خيارا أو شرارا لزم الوسط على المشهور، فإن امتنع أجبر على ذلك وتقدم أنه يجوز للساعي أخذ المعيبة كالعوراء والجرباء إن رأى في ذلك نظرا، وليس له أخذ الصغيرة، والفرق أن المعيبة بلغت سن الإجزاء بخلاف الصغيرة، وظاهر كلامهم عدم إجزاء الصغيرة ولو رضي الفقير بأخذها، لأن بلوغ السن في الزكاة كالضحية والهدي الواجب شرط. "ولا يؤخذ في ذلك" المذكور من السن الواجب عليه في زكاة الماشية من إبل أو بقر أو غنم. "عرض": وهو ما قابل العين ولا يجزئ إن وقع من غير خلاف"و" كذا "لا": يؤخذ "ثمن": أي قيمة السن الواجب، فإن وقع فقولان في الطوع بدفعها المشهور منهما الإجزاء مع الكراهة. "فإن أجبره": أي رب الماشية "المصدق": بتخفيف الصاد وكسر الدال أي الساعي "على أخذ الثمن في": زكاة "الأنعام أو غيرها": من الحرث والفطرة "أجزأه إن شاء الله تعالى": وشرط إجزاء الثمن عن الأنعام والحرث مشروط بكونه قدر القيمة فأكثر، وأن يكون بعد الحول، وأن يصرفه في مصارفها، وفي قوله: إن شاء الله إشارة إلى قوة الخلاف، وحاصل ما يتعلق بهذه المسألة أن إخراج العين عن الحرث والماشية يجزئ مع الكراهة على المشهور، وإخراج العرض عنهما

أو عن العين لا يجزئ من غير نزاع، وكذا إخراج الحرث أو الماشية عن العين، وكذا إخراج الحرث عن الماشية أو عكسه، واحترزنا بتخفيف الصاد في ضبط كلام المصنف للاحتراز عن المصدق بتشديد الصاد فإنه المزكي"ولا يسقط الدين": فاعل يسقط المبني للفاعل ومفعوله "زكاة حب ولا تمر ولا ماشية": ولا معدن وإنما يسقط زكاة العين، وهذا محض تكرار مع ما تقدم" خاتمة ": تشمل على مسائل تركها المصنف خوفا من التطويل، وأردنا ذكرها لشدة الحاجة إليها، منها: النية وتكون عند دفعها أو عزلها، ولو ضاعت قبل دفعها للفقير من غير تفريط، وصفتها أن ينوي إخراج ما وجب عليه، فلو دفع مالا لفقير غير ناويه الزكاة، ثم لما طلب بالزكاة أراد جعل ما أخرجه من غير نية زكاة زكاة لم يكفه، وليس له الرجوع به على الفقراء؛ لأن العطايا لوجه الله أو المعطى بالفتح تلزم بالقبول، ولا فرق بين كون ترك النية قصدا أو جهلا أو نسيانا خلافا لبعض الشيوخ، وينوي عن المجنون والصغير وليهما، وإنما أجزأت مع الإكراه على أخذها؛ لأن نية الإمام أو الفقير المكره على أخذها كافية؛ لأنها تؤخذ بعد وجوبها قهرا على صاحب المال، قال خليل: وأخذت كرها وإن بقتالومن المسائل وجوب تفرقتها بموضع الوجوب، وهو الموضع الذي فيه المال وفيه المالك والمستحقون بالنسبة للحرث، والماشية حيث كان لهما ساع، وأما النقد وعروض التجارة فهو موضع المالك كالحرث والماشية إن لم يكن ساع، وفي حكم موضع الوجوب ما قرب منه وهو ما دخل مسافة القصر، وأما الخارج عن مسافة القصر فلا يجزئ نقل الزكاة إليه إلا أن يعدم المستحق بموضع الوجوب أو قربه، أو يكون مساويا لفقراء موضع الوجوب، وأولى لو كان أعدم فتجزئ في الجميعومن المسائل أن يدفعها بعد الحول، فلا تجزئ المقدمة عنه قبل الوجوب بالإفراك وطيب الثمر ولو بقليل، بخلاف ما لو أخرجها بعدهما وقبل التصفية فلا شك في إجزائها، وأما في العين ومنها عروض التجارة ومثلها الماشية حيث لا ساعي لها فيجزئ دفعها للمستحقين قبل تمام الحول بالزمن اليسير كالشهر، وأما تسميتها للأخذ لها ففي مختصر البرزلي فتوى شيوخنا أن الزكاة لا تجزئ حتى يسميها الدافع للفقير أو يعلمه بذلك، وظاهر كلام العلامة خليل عدم اشتراط ذلك بل كرهه بعضهم لما فيه من كسر خاطر الفقيرومن المسائل التي تركها المصنف بيان مصرفها إلى من يستحقها وتصرف له وهو الأصناف

الثمانية المذكورة في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] ولا يلزم تعميم تلك الأصناف الثمانية بل يستحب خلافا لبعض الأئمة، ومنها: لو مات شخص قبل إخراجها وبعد وجوبها فإن كانت حرثا أو ماشية لا ساعي لها أخذت من رأس المال كالعين إن اعترف بحلولها وأوصى بإخراجها، وأما لو مات المالك قبل الوجوب ففي الحرث يزكيها الوارث إن خرج له نصاب أو كان عنده زرع آخر يخرج منهما نصاب، وأما في الماشية فإن كان عند الوارث نصاب ضمها إليه وزكى عند تمام الحول ولو قرب من الموت، وأما لو كان لا شيء عنده سواها أو كان عنده أقل من نصاب لاستقبل حولا كاملا من يوم كمال النصاب أو ملكه، وأما لو كان المال عينا ومات مالكه قبل مرور الحول لاستقبل الوارث به ولا يضمه لما عنده من النصاب؛ لأن فائدة العين يستقبل بها، والفرق أن العين شأنها عدم الساعي بخلاف الماشية، إنما عبرنا بشأنها للإشارة إلى فائدة الماشية تضم ولو لم يكن لها ساع، لكن إن ضمت لنصاب زكيت معه عند تمام حول النصاب، وإن كان المضمومة إليه أقل من نصاب فيستقبل بالجميع حولا كاملا من يوم الكمال، هذا إيضاح هذه المسألة وقل أن تجده في محل على هذا الوجه. ولما فرغ من الكلام على زكاة الأموال شرع في زكاة الأبدان فقال:
* * *

"باب في": حكم "زكاة الفطر":
ويقال لها صدقة الفطر، ويقال لها الفطرة بكسر الفاء أو الخلقة فتكون على حذف مضاف أي زكاة الخلقة، والفطرة لفظة مولدة لا عربية ولا معربة بل اصطلح عليها الفقهاء، والمعربة هي الكلمة الأعجمية التي استعملتها العرب فيما وضعت له عند العجم، وفرضت في ثانية الهجرة سنة فرض صوم رمضان، وسبب مشروعيتها لتكون طهرة للصائم من اللغو والرفث وللرفق بالفقراء في إغنائهم عن السؤال في هذا اليومقال ابن الأعرابي: الصوم موقوف على زكاة الفطر، فإن أخرج زكاة الفطر قبل صومه، وعرف ابن عرفة زكاة الفطر بالمعنى المصدري بقوله: إعطاء مسلم فقير لقوت يوم الفطر صاعا من غالب القوت أو جزئه المسمى للجزء والمقصود وجوبه عليه، وبالمعنى الاسمي صاعا من غالب القوت أو جزئه المسمى بالجزء إلخ، فلا تدفع إلا لمن لا يملك شيئا كما يرشد له حديث: "أغنوهم عن ذل السؤال في ذلك اليوم" هذا ما يفهم من قول ابن عرفة: فقير لقوت يوم الفطر فليس المراد فقير الزكاة، وقوله: أو جزء إلخ أشار به إلى ما يخرج عن العبد المشترك فإنه بحسب الجزء، وبدأ المصنف بحكمها بقوله: "وزكاة الفطر سنة واجبة" أي مفروضة بالسنة بدليل قوله فرضها صلى الله عليه وسلم وعبارة خليل ظاهرة ونصها: يجب بالسنة صاع أو جزؤه فضل عن قوته وقوت عياله وإن بتسلف، ففي الموطإ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل مسلم حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" 1 وحمل الفرض على التقدير بعيد خصوصا وقد خرج الترمذي: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي في فجاج مكة "ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم" 2 هكذا في التتائي والشاذليقال الأجهوري في شرح خليل: وفيه نظر فالصواب أن الذي في خبر الترمذي فجاج المدينة؛ لأن الجمهور على فرضها في السنة الثانية من الهجرة، ومن المعلوم أن مكة كانت حينئذ دار حرب فلا يبعث مناديا ينادي في أزقتها، وهذا ملخص كلام الأجهوري، فالحاصل أنها واجبة بالسنة وبالقرآن أيضا، إما بآية {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] أو بآية {وَآتُوا الزَّكَاةَ}
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مالك في الموطأ "1/284" حديث "626"2 ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الفطر، حديث "674" وقال الألباني ضعيف الإسناد "الترمذي 674".

[البقرة: 43] لعمومها، ولكن إذا تركها أهل بلد لا يقاتلون عليها كما لا يقاتلون على ترك صلاة العيد، بخلاف الأذان والجماعة فيقاتلون على تركها، ورجح بعض أنهم يقاتلون عليها بناء على وجوبها كما قاله الأجهوري، وعدم القتال على تركها على القول بسنيتها وإن كان خلاف المعتمد، ولذلك لا يكفر منكر وجوبها بخلاف منكر مشروعيتها، ولعله وجه شهرة مشروعيتها دون فرضيتها، وقوله في الحديث صاعا هكذا روي بالنصب على أنه مفعول بفعل محذوف تقديره وجعلتها صاعا، وأعربه بعضهم حالا، وروي بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي وهي صاع وليس خبر الصدقة وإنما خبرها على كل مسلم، ولعل هذا اللفظ رواية للحديث بالمعنى، وإلا فنص الموطإ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس" 1 إلخ وصلة فرضها "على كل كبير أو صغير ذكر أو أنثى حر أو عبد": كائنين "من المسلمين": ومعلوم أن الوجوب متعلق بولي الصغير وسيد العبد، ومفعول فرض "صاعا عن كل نفس بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم": وتقدم أن كل مد رطل وثلث بالبغدادي. قال في القاموس نقلا عن الداودي: الصاع الذي لا يختلف فيه أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما، إذ ليس كل مكان يوجد فيه صاع النبي صلى الله عليه وسلم، وقدر الصاع بالكيل المصري قدح وثلث كما قرره شيخ مشايخنا أبو الإرشاد علي الأجهوري، فعلى تحريره الربع المصري يجزئ عن ثلاثة أشخاص، وتكره الزيادة على الصاع إذا كانت محققة، وقصد بها الاستظهار على الشارع كالزيادة في التسبيح والتحميد والتكبير على الثلاثة والثلاثين، وأما الزيادة لا على أن الإجزاء يتوقف عليها فلا كراهة، وإنما يجب الصاع على من فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد، فإن لم يكن إلا قوت يوم العيد لم تلزمه زكاة إلا أن يجد من يسلفه مع قدرته على الوفاء في المستقبل بناء على عدم سقوطها بالدين، ويفهم من هذا أنه لو لم يقدر على كل الصاع بل على بعضه يجب عليه إخراج ما قدر عليه منهثم شرع في بيان ما تخرج منه صدقة الفطر بقوله: "وتؤدى": أي تخرج زكاة الفطر "من جل": أي غالب "عيش أهل ذلك البلد": الذي فيه المزكي أو المزكى عنه، سواء ماثل قوته أو كان أدنى من قوته أو أعلى، فإن كان قوته أعلى من قوت غالب أهل البلد استحب له الإخراج منه، وإن كان دون قوتهم وأخرج منه فإن كان اقتياته لعجزه عن قوتهم أجزأه، وإن كان لشح أو كسر نفس أو عادة فلا يجزئه، ويجب عليه شراء الصاع من قوتهم؛ لأن الإخراج من الغالب الجيد واجب
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مالك في الموطأ "1/284" حديث "626"، وتقدم برقم "462".

إلا لعجز عنه. ثم بين ما يطلب منه القوت بقوله: "من بر أو شعير": وهما معروفان "أو سلت": وهو شعير لا قشر له "أو تمر أو أقط أو زبيب أو دخن أو ذرة أو أرز": فهذه تسعة أنواع لا يجزئ غيرها مع وجود واحد منها، وزاد ابن حبيب عاشرا أشار له المصنف بصيغة التمريض بقوله: "وقيل إن كان العلس": بفتح العين واللام المخففة وبعدهما سين مهملة "قوت قوم أخرج": أي الصاع "منه وهو حب صغير يقرب من خلقة البر": وهو طعام أهل صنعاء، ويجب في هذا الصاع أن يكون على الحالة التي يطحن عليها، ولذلك تستحب غربلته إن كان غلثا إلا أن يزيد غلثه على الثلث فتجب غربلتهقال القرافي: ولا يجزئ المسوس الفارغ بخلاف القديم المتغير الطعم فيجزئ عندنا وعند الشافعي. " تنبيهات ": الأول : علم مما قررنا به كلام المصنف أنه متى وجد نوع من هذه التسعة لا يجزئ غيرها ولو اقتيت ذلك الغير، وأما عند وجودها كلها أو بعضها فيجب الإخراج من الغالب اقتياتا، فإن أخرج من غيره أجزأ إن كان أعلى أو مساويا، وكذا إن كان أدنى مع عجزه عن شراء المساوي كما مر، وأما لو لم يوجد واحد منها فإنه يجب الإخراج من أغلب ما يقتات من غيرها ولو لحما أو زيتا لكن يخرج منه مقدار عيش الصاع من القمح وزنا؛ لأن عيش الصاع من القمح أكثر، وظاهر كلامهم أنه لا يعتبر الشبعالثاني : صفة الإخراج من هذه المذكورات أن يخرج من حبها، فلا يجزئ الإخراج من خبزها ولا من دقيقها إلا أن يعتبر ما في الصاع الحب من الدقيق ويخرج ربعه مع الصاع الدقيق أو الخبزالثالث : لم يبين المصنف هل المراد عيش البلد في جميع العام أو في خصوص رمضان؟ قال ابن ناجي: وكان شيخنا يعجبه اعتباره في خصوص رمضان؛ لأن زكاة الفطر طهرة للصائمين فيعتبر ما يؤكل فيه، وأيضا إنما يقتاتون في رمضان أحسن الأقواتولما كان قول المصنف: فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل كبير أو صغير أو عبد يوهم أن الصغير والرقيق هما المخاطبان وليس كذلك قال: "و": يجب أن "يخرج عن العبد سيده": ولو مدبرا أو أم ولد أو آبقا مرجوا أو مبيعا بالخيار أو أمة مبيعة في زمن مواضعتها؛ لأن ضمانها من بائعها أو مخدمها ترجع له رقبته وإلا وجبت على من تصير له رقبته، وأما عبيد العبيد فلا يلزم السيد الأعلى ولا الأسفل الإخراج عنهم ولا يلزم الإخراج عن أنفسهم، والمشترك والمبعض بقدر الملك، ولا شيء على العبد فيما قابل جزأه الحر، كما لا يلزم العبد الإخراج عنه زوجته.

"و": كذلك الولد المسلم "الصغير": الذي "لا مال له" يجب أن "يخرج عنه والده": حتى يبلغ قادرا على الكسب، والأنثى حتى يدخل بها الزوج البالغ الموسر أو تطلبه للدخول بها مع بلوغه وإطاقتها، ومفهوم كلامه أن الصغير الذي له مال لم يلزم والده الإخراج عنه لسقوط نفقته عنه، ومفهوم الصغير أن الكبير لا يجب على أبيه الإخراج عنه ولو كان فقيرا حيث بلغ قادرا على الكسب لا إن بلغ زمنا، أو مجنونا؛ لأن الزكاة تابعة لوجوب النفقة. "و": الحاصل أنه يجب أي "يخرج الرجل": المراد المالك "زكاة الفطر عن كل مسلم تلزمه نفقته": بقرابة كأبويه دنية الفقيرين أو زوجته ولو كانت الزوجة أمة أو غنية في العصمة أو مطلقة طلاقا رجعيا لا مطلقة طلاقا بائنا ولو كانت حاملا، وكما يلزمه الإخراج عن أبيه الفقير يخرج عن زوجته وخادمه، وكما لا تتعدد نفقة خادم الزوجة لا تتعدد فطرتها إلا أن تكون ذات قدر. "و": كذا يلزم المالك أن يخرج "عن مكاتبه وإن كان لا ينفق عليه": زمن الكتابة "؛ لأنه عبد له": ما بقي عليه درهم أو؛ لأنه كان حط عنه جزءا من الكتابة في نظير النفقة، ويخرج عن كل شخص ممن ذكر من النوع الذي يأكل منه المخرج عنه، واحترز بتلزمه نفقته عن القريب الذي لا تلزمه نفقته: كالأبوين الموسرين وكالأجداد ولو فقراء والحواشي فلا يلزم الشخص الإخراج عن واحد منهم لعدم وجوب نفقتهم، كما لا يلزم الشخص إخراج فطرة من تلزمه نفقته بالالتزامثم شرع في بيان زمن إخراجها: بقوله: "ويستحب": لمن وجب عليه إخراج زكاة الفطر عن نفسه أو عن غيره "إخراجها": أي دفعها للمساكين الذين لا يملكون قوت يوم الفطر "إذا طلع الفجر من يوم الفطر": وقبل صلاة العيدوفي المدونة: وقبل الغدو، إلى المصلى ليأكل منها الفقير قبل ذهابه إلى المصلى لما في مسلم: "من أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى" 1. وفي رواية عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من أداها قبل الصلاة فهي مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"2 ويجوز إخراجها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين" تتمة ": لم يذكر المصنف وقت وجوبها وبينه خليل بقوله: وهل بأول ليلة العيد أو بفجره
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، حديث "1503" والنسائي، حديث "2504"2 حسن: أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر، حديث "1609" وابن ماجه، حديث "1827" وحسنه الألباني، صحيح سنن أبي داود "1609".

خلاف، أي هل يتعلق الخطاب بزكاة الفطر على من كان من أهلها بأول ليلة العيد وهو غروب آخر يوم من رمضان ولا يمتد وقت الوجوب أو يتعلق بفجر يوم العيد خلاف، وتظهر فائدة الخلاف فيمن كان من أهلها وقت الغروب وصار من غير أهلها وقت الفجر كالزوجة تطلق والعبد يباع أو يعتق، وعكسه كمن تزوجها أو ملكها بعد الغروب وقبل الفجر أي وبقيت للفجر إذ لو طلقت أو بيعت قبله لم تجب زكاتها على القولين، ولذا قال بعض الشيوخ: فمن ليس من أهلها وقت الغروب على الأول أو وقت الفجر على الثاني سقطت عنه ولو صار من أهلها بعد، فمن مات أو بيع أو طلقت بائنا أو أعتق قبل الغروب: سقطت عنه وعن المطلق والبائع والمعتق اتفاقا، وبعد الفجر وجبت على من ذكر اتفاقا وفيما بينهما القولان، فتجب في تركة الميت وعلى المعتق وعلى المطلق وعلى المالك هو البائع على الأول وعلى المشتري والعتيق والمطلقة، وتسقط عن الميت على الثاني، وإن ولد أو أسلم قبل الغروب وجبت اتفاقا، وبعد الفجر سقطت اتفاقا، وفيما بينهما القولان الوجوب على الثاني لا على الأول، والظاهر أن من قارنت ولادته الغروب أو طلوع الفجر أو مات أو فقد فيهما بمنزلة من ولد قبلهما أو مات أو فقد قبلهما، انظر الأجهوري في شرح خليل"ويستحب الفطر فيه": أي في عيد الفطر "قبل الغدو": أي الذهاب "إلى المصلى" ويستحب كونه على تمراتقال البغوي: ويأكلهن وترا. "وليس ذلك": أي استحباب الفطر "في الأضحى": بل المستحب فيه تأخير الفطر لخبر الدارقطني: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفطر يوم النحر حتى يرجع ليأكل من كبد الأضحية" وإنما استحب المبادرة بالفطر في عيد الفطر ليفرق بين زمان الفطر والصوم. "ويستحب في": حق كل مريد لصلاة "العيدين": الفطر والأضحى "أن يمضي": إلى المصلى "من طريق ويرجع في": طريق "أخرى" أي غير التي مضى منها إلى المصلى وتقدم هذا، فكان المصنف في غنية عن إعادته" خاتمة ": تشتمل على مسائل لها مزيد تعلق بالباب، منها: أنه يستحب لمن كان مسافرا أن يعجل الإخراج عن نفسه وعن أهله المخاطب بالإخراج عنهم: ولا يؤخر الإخراج حتى يرجع إلى بلده ونيته عنهم كافية، لكن يخرج مما يقتاته أهل بلدهم، فلو أخرج عنه أهله أجزأ بشرط الإخراج مما يأكله، وبشرط أن يكون أوصاهم أو كانت عادتهم الإخراج عنه، وإلا لم يصح لفقد النية ممن لم تجب نفقته على المخرج، بخلاف من تجب نفقته على المخرج، فنية

المخرج كافية. ومنها: أن صدقة الفطر لا تسقط عما خوطب بها بمضي زمنها بخلاف الضحية؛ لأن هذا فرض وتلك سنة، والفرض لا يسقط إلا بفعله. ومنها: أنها لا تدفع إلا لمن لا يملك قوت يوم الفطر على ما قال ابن عرفة، وقيل: تدفع لفقير لا يملك نصابا وإن كان لا يكفيه جميع عامه لحكاية اللخمي الاتفاق على أنها لا تدفع لمالك النصاب. قال خليل في بيان من تصرف له: وإنما تدفع لحر مسلم فقير، فلا تدفع لجاب ولا مفرق، ولا يشترى منها رقيق ولا غير ذلك سوى ما تقدم. ولما فرغ من الكلام على ما يتعلق بأركان الإسلام1 الأربعة شرع فيما يتعلق بالركن الخامس فقال:
* * *
ـــــــ
1 الركن في اللغة: الجانب الأقوى والأمر العظيم، وما يقوى به من ملك وجند وغيرهما، والعز، والمنعة. والأركان: الجوارح، وفي حديث الحساب: "يقال لأركانه: انطقي" أي: جوارحه، وأركان كل شيء جوانبه التي يستند إليها ويقوم بهاوركن الشيء في الاصطلاح: ما لا وجود لذلك الشيء إلا به. وهو: الجزء الذاتي الذي تتركب الماهية منه ومن غيره بحيث يتوقف تقومها عليهقال الإمام الكاساني مفرقا بين الركن والشرط: والأصل أن كل مرتكب من معان متغايرة ينطلق اسم المركب عليها عند اجتماعها، كان كل معنى منها ركنا للمركب، كأركان البيت في المحسوسات، والإيجاب والقبول في باب البيع في المشروعات، وكل ما يتغير الشيء به ولا ينطلق عليه اسم ذلك الشيء كان شرطاً، كالشهود في باب النكاح. وعلى هذا فكل من الركن والشرط لا بد منه لتحققه المسمى شرعاً، غير أن الركن يكون داخلا في حقيقة المسمى، فهو جزؤه، بخلاف الشرط فإنه يكون خارجاً عن المسمى. وقد صرح الشيخ محب الله بن عبد الشكور بأن الأركان توقيفية، قال: وإن جعل بعض الأمور ركنا وبعضها شرطاً توقيفي لا يدرك بالعقل. أنظر الموسوعة الفقهية "23/ 109".

"باب في": الكلام على "الحج والعمرة"
أما الحج فهو لغة مطلق القصد أو بقيد التكرار، وأما في الاصطلاح فقال ابن عرفة: يمكن رسمه بأنه عبادة يلزمها وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة وحده بزيارة وطواف ذي طهر أخص بالبيت عن يساره سبعا بعد فجر يوم النحر والسعي من الصفا إلى المروة ومنها إليه سبعا بعد طواف لا بقيد وقته بإحرام في الجميع، والمراد بالطهر الأخص هو ما كان من الحدث الأصغر والأكبر، أو من الحدث والخبث؛ لأن الطواف كالصلاة، ومعنى لا بقيد وقته أن الطواف الذي تتوقف عليه صحة السعي لا يتقيد بكونه بعد فجر يوم النحر، بخلاف طواف الإفاضة لا بد أن يكون بعد فجر يوم النحر، وأما العمرة فهي لغة الزيادة، واصطلاحا عبادة يلزمها طواف وسعي مع إحرام، وحدها عبادة ذات إحرام وطواف وسعي وبدأ ببيان حكم الحج بقوله: "وحج": أي قصد "بيت الله الحرام الذي ببكة": للعبادة المخصوصة التي مر حدها، وبكة بالباء الموحدة ويقال مكة بالميم فهما لغتان، وقوله: الذي ببكة وصف كاشف؛ لأن بيت الله الحرام إنما هو في مكة فقط وإضافته إلى الله تعالى للتشريف، وخبر حج الواقع مبتدأ" فريضة ": على الفور على تشهير العراقيين، وعلى التراخي على تشهير المغاربة، إلا أن يخاف الفوات فيتفق على أنه على الفور، دل على فرضيته الكتاب والسنة وإجماع الأمة حتى صار وجوبه كالمعلوم من الدين بالضرورة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وأما السنة فأحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" 1 وفي بعض الروايات زيادة: "فمن زاد فتطوع" 2 وأما الإجماع فقال ابن بشير: أجمعت الأمة على وجوبه على الجملة، فمن جحده أو شك فيه فهو كافر يستتاب فإن لم يتب قتل، ومن أقر بوجوبه وامتنع من فعله فالله حسبه، ولا يتعرض له بناء على تراخيه؛ ولأن الاستطاعة قد لا تكون موجودة في نفس الأمر، ولما كان الحج أشق أركان الإسلام قال:
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، حديث "1337" والترمذي، حديث "814"، والنسائي، حديث "2619"، وابن ماجه، حديث "2884"2 أخرجها احمد "1/370" حديث "1035".

"على كل من استطاع إلى ذلك": البيت "سبيلا": معمول استطاع على حذف مضاف أي سلوك سبيل أي طريق حالة كون ذلك المستطيع. "من المسلمين": بناء على عدم خطاب الكفار بفروع الشريعة، والمشهور خطابهم بفروعها، فالإسلام شرط في صحته فقط كسائر العبادات، وفائدة الوجوب عليهم مع عدم صحته منهم عقابهم ووصف المسلمين بقوله: "الأحرار البالغين": فلا يجب على الرقيق ولا على الصبي وإن صح منهما. قال العلامة خليل: وصحتهما أي الحج والعمرة بالإسلام، فيحرم الولي عن الرضيع والمجنون المطبق بخلاف المغمى عليه وإن أيس من إفاقته، وأما شرط الوجوب فأشار إليه خليل أيضا بقوله: وشرط وجوبه كوقوعه فرضا حرية وتكليف وقت إحرامه بلا نية نفل، ووجب باستطاعة بإمكان الوصول بلا مشقة عظمت، وأمن على نفس ومال، فتلخص أن شرط الصحة الإسلام فقط، وشرط الوجوب فقط الاستطاعة وإذن ولي السفيه، وشرط الوجوب مع وقوعه فرضا الحرية والتكليف وقت الإحرام، وشرط وقوعه فرضا فقط عدم نية النفليةثم بين ما تبرأ به الذمة من فريضة الحج بقوله: "مرة": منصوب على المفعول المطلق المبين للعدد عامله فريضة أي وحج بيت الله الحرام فريضة على المستطيع مرة "في عمره": وما زاد على ذلك ففرض كفاية على جميع المسلمين، فإن حصل القيام به من بعض الناس كان نافلة من غيره، كما أن سنة العمرة تحصل بمرة كما يأتي، وما زاد عليها يقع نافلة حيث حصلت في عام آخر، لأنه يكره تكرارها في العام الواحد إلا لعارض، كمن تكرر دخوله الحرم ودخل قبل أشهر الحجواختلف هل فرض الحج قبل الهجرة ونزل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] تأكيدا له، أو بعدها سنة خمس أو ست، وصححه الشافعي أو ثمان أو تسع وصححه في الإكمال أقوال، وحج عليه الصلاة والسلام حجة واحدة وهي حجة الوداع في السنة العاشرة، وهذا بالنسبة لما بعد الهجرة، فلا ينافي أنه حج قبلها مرات واعتمر أربع مرات كما قال أنس: "عمرة الصد عن البيت حين أحرم بها وصده المشركون، وعمرته أيضا من العام المقبل، وعمرته مع حجته، وعمرته حين قسم غنائم حنين من الجعرانة في ذي القعدة"ثم بين السبيل الذي يكون بالتمكن منه مستطيعا بقوله: "والسبيل": لا بالمعنى السابق بل بمعنى الاستطاعة بدليل عطف الزاد وما بعده عليه عبارة عن اجتماع أربعة أمور: أحدها "الطريق السابلة": أي المأمونة فإن لم يأمن فيها على نفسه أو ماله سقط عنه الحج، إلا أن يكون

الخوف من لص أو عشار يأخذ شيئا قليلا لا يجحف بمال المأخوذ منه، وعلم أنه لا يعود ثانيا فلا يسقط عنه الحج، وأما إن علم رجوعه أو شك فيه فإنه لا يجب معه الحج على المعتمد؛ لأن الاستطاعة مشروطة بالأمن، وعند الشك لا أمن، والقلة بالنظر للمأخوذ منه المال، وأشعر سقوط الحج بأخذ من ذكر على الوجه المسقط أن ما يأخذه الجند من الحجاج ليدفعوا عنهم كل يد عادية جائز لشبهه بالنفقة اللازمة في الكراع والسلاح والزاد، ذكره سند عن أبي بكر محمد بن الوليد. "و" ثاني الأمور "الزاد المبلغ": أي الموصل "إلى مكة": ولو بثمن ولد زنا من أمته، أو ما يباع على المفلس ككتبه ولو المحتاج إليها، أو ثوبي جمعته إن كثرت قيمتهما، وداره وماشيته، بل ولو كان يقدر على الزاد المبلغ من صنعة تقوم به حيث كان يظن عدم كسادها بشرط أن لا تكون تزري به، وربما يتوهم من قوله المبلغ إلى مكة أنه لا يعتبر في الاستطاعة وجود ما يرد به وليس كذلك، بل لا بد من القدرة عليه حيث كان يحتاج إليهقال خليل: واعتبر ما يرد به إن خشي ضياعا، وحينئذ فيعتبر القدرة على ما يوصله ويرد به إلى أقرب مكان يمكن التمشي فيه بما لا يزري به من الحرف، وظاهر كلام المصنف كغيره وجوب الحج على القادر على الزاد المبلغ على الوجه الذي ذكرناه، ولو كان أعزب ويحتاج إلى النكاح بما معه وهو كذلك حيث لم يخش على نفسه العنت، كما أنه يجب عليه الحج بما معه، ولو كان يحتاج إلى إنفاقه على أولاده أو أبويه أو زوجاته ولو خشي تطليقهن عليه. قال العلامة خليل: وإن بافتقاره أو ترك ولده للصدقة إن لم يخش هلاكا، وهذا كله بناء على وجوب الحج على الفور، وأما قدرته بالدين أو قبول العطية من الغير ولو من الابن لأبيه كما هو المنقول عن مالك وأبي حنيفة أو بالسؤال فلا تكون استطاعة ولو كانت عادته السؤالقال خليل: لا بدين أو عطية أو سؤال مطلقا، خلافا لابن عرفة حيث قال: وقدرة سائل بالحضر على سؤال كفايته بالسفر استطاعة، ورجح بعض شيوخ شيوخنا كلام ابن عرفة وهو المشهوروظاهر كلام خليل بل هو صريحه أنه لا يعد استطاعة، وهو الذي يقتضيه كلامهم في غير موضع فيعول عليه. "و": ثالث الأمور "القوة على الوصول إلى مكة": على الوجه المعتاد من غير مشقة عظيمة، إذ لا يشترط انتفاؤها جملة وإلا سقط الحج عن غالب الناس المستطيعين، إذ لا بد من أصل المشقة لقوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7] ولو كان صاحب القوة المذكورة أعمى يجد قائدا ويجد أجرته عند الحاجة إليهما،

ومفهوم كلامه أن من لا قوة له على الوصول جملة أو له لكن مع مشقة عظيمة لا يكون مستطيعا، وإن كان يسقط عنه الفرض إن تكلف المشقة وحج كمن فرضه الصلاة من جلوس وتكلف القيام، وقولنا على الوجه المعتاد للاحتراز عمن قدر على الوصول بنحو طيران فلا يعد مستطيعا شرعا، وإن كان يسقط عنه الحج إن فعل، وقوله إلى مكة كان الأولى إليها؛ لأن المحل للضمير والقوة المذكورة"إما": بتمكنه من الوصول "راكبا": لدابة أو سفينة "أو راجلا": أي ماشيا على رجليه لمن له قدرة؛ لأن الاستطاعة عند مالك لا يشترط فيها وجود راحلة بل القدرة على الوصول من غير عظيم مشقةورابع الأمور أن تكون تلك المذكورات "مع صحة البدن": فالمريض لا يجب عليه الحج وإن وجد الزاد والراحلة، ولو أسقط قوله: مع صحة البدن لكان أحسن؛ لأن ذكره بعد قوله: والقوة على الوصول إلى مكة يشبه التكرار. تنبيهان": الأول: علم من تفسيرنا السبيل بالاستطاعة أن في كلامه شبه استخدام؛ لأن السبيل في الأول الطريق المسلوك والسبيل الثاني بمعنى الاستطاعة التي هي أخص من ذلك، وبهذا التقرير يستقيم كلام المصنف مع كلام خليل في تفسير الاستطاعة المشترطة في وجوبه حيث قال: ووجب باستطاعة، بقوله: بإمكان الوصول بلا مشقة عظمت وأمن على نفس ومال إلخ، ويكون قول المصنف: والسبيل جملة مستأنفة قصد بها تفسير الاستطاعة فكأنه قال: والاستطاعة المفهومة من استطاع الطريق المأمونة والزاد والقوة على الوصول مع صحة البدن، وإنما أطلنا في ذلك لركاكة التركيب على من ليس له معرفة بالتراكيبالثاني: يفهم من قوله: راكبا أو راجلا أن البحر كالبر؛ لأن الركوب شامل لركوب السفينة كما ذكرنا وهو كذلكقال خليل: والبحر كالبر إلا أن يغلب عطبه، وإلا أن يكون يلزم على السفر فيه تضييع الصلاة أو ركن من أركانها، لكميد: ويفهم منه أيضا أن المرأة كالرجل لعموم من استطاع إلا أن يكون المحل بعيدا فيلزم الحج الرجل دون المرأة، كما لا يلزمها في سفر للبحر إلا أن تخص بمكان فيلزمها، وعلى كل حال لا بد في سفرها من محرم أو زوج أو رفقة مأمونة، فإنها تقوم مقام المحرم أو الزوج عند تعذرهما، لكن في حج الفرض دون النفل" فائدة ": وقع خلاف فيمن غصب مالا وحج به، فعند مالك والشافعي يسقط لصحته به، وعند أحمد لا يسقط لبطلانه عنده والله أعلمولما فرغ من الكلام على من يجب عليه الحج، وهو المستطيع وبين الاستطاعة، شرع في

بيان صفة الحج، لكن قد تقرر أن من أراد الشروع في شيء ينبغي له أن يعرف أركانه قبل الشروع في صفته، ونحن نبين المطلوب فنقول: اعلم أن أركان الحج أربعة: الإحرام وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفةويفوت الحج بفوات اثنين وهما: الإحرام والوقوف، وأما الطواف والسعي فلا يفوت الحج بفواتهما بل يأتي بهما ولو فات العام، وحقيقة الإحرام في اللغة الدخول في الحرم أو في حرمة الحج أو الصلاة، وشرعا قال خليل في مناسكه: هو الدخول بالنية في أحد النسكين مع قول أو فعل متعلقين به، فالقول كالتلبية والفعل كالتوجه إلى الطريق، وقال ابن عرفة: صفة حكمية توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء مطلقا وإلقاء الشعث والطيب، ولبس الذكر المخيط والمحيط والصيد لغير ضرورة ولا يبطل بما يمنعه فقال: "وإنما يؤمر": القادم من أفقه إلى الحج أو العمرة "أن يحرم من الميقات": المعروف لبلده الذي قدم منه الآتي بيانه، ويكره إحرامه قبله وإن كان يصح، ويحرم عليه مجاوزة الميقات بلا إحرام، ويجب عليه الرجوع ليحرم من الميقات ولا دم عليه؛ لأن برجوعه قبل إحرامه في الحرم نزل منزلة من أحرم من الميقات ابتداء، وأما لو أحرم في الحرم لوجب عليه الدم ولو رجع إلى الميقات بعد الإحرام، ومحل وجوب الرجوع على من جاوز الميقات حالا أن لا يخاف فوات الحج أو رفقته برجوعه، وإلا أحرم من الحرم ومضى في الحرم ويلزمه الدم، وإنما حرم مجاوزة الميقات بلا إحرام؛ لأن الجواز من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، واستثنى العلماء المترددين على مكة كالمتسببين بالفواكه والخضر والحطابين، والخارج من مكة رافضا سكناها ويرجع لها لحاجة نسيها وخرج منها سريعا، وكذا من خرج منها إلى محل قريب ورجع منه قبل أن يقيم زمنا كثيرا فلا إحرام على واحد من هؤلاء" تنبيه ": لم يبين المصنف إلا مكان الإحرام وسكت عن زمانه، ونحن نبينه أكمل بيان فنقول: اعلم أن وقت الإحرام بالحج الذي يكره تقدمه عليه شوال إلى طلوع فجر يوم النحر، وهذا لا يختلف باختلاف أهل الآفاق بخلاف ميقاته المكاني، فإن خالف وأحرم قبل شوال كره وانعقد، كما يكره إيقاعه قبل مكانه الآتي في كلامه، وأما إحرامه بالعمرة فوقته الزمن كله ولو في يوم النحر أو يوم عرفة، إلا من كان محرما بحج أو عمرة فلا يصح إحرامه بها إلا بعد تحليل الحج أو بعد فراغ العمرة كما سنوضحه عند الكلام عليها، ولم يبين المصنف أيضا إلا مكان إحرام القادم، ولم يبين مكان إحرام المقيم بمكة ومحله المسجد الحرام.

قال خليل: ومكانه له للمقيم مكة وندب المسجد ولو كان المقيم من غير أهلها، ومثل المقيم بها من قرب منها كالمنوي والمزدلفي وكل من منزله في الحرم، وأما لو أراد المقيم الإحرام بالعمرة أو بالحج والعمرة فيخرج إلى الحلقال خليل: ولها وللقرآن الحل والجعرانة أولى، ثم التنعيم وهو المعروف اليوم بمساجد عائشة، وتطلق عليه العامة العمرةولما كان ميقات أهل الآفاق المكاني مختلفا باختلافهم بينه بقوله: "وميقات أهل الشام و": أهل "مصر وأهل المغرب" ومن خلفهم من أهل الأندلس وأهل الروم والتكرور "الجحفة": بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة وبالفاء قرية خربت بين مكة والمدينة على خمس مراحل من مكة وثمان من المدينة، سميت بذلك؛ لأن السيل أجحفها، فيجب عليهم أن يحرموا منها حيث مروا بها. "فإن مروا": أي أهل الشام ومصر والمغرب ومن معهم "بالمدينة": المشرفة "فالأفضل لهم أن يحرموا من ميقات أهلها": وهو "من ذي الحليفة":؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحرم منها، وإنما ندب الإحرام في حق هؤلاء ولم يجب عليهم؛ لأن ميقاتهم أمامهم، ولهذا لو أرادوا أن يذهبوا إلى مكة من طريق آخر بحيث لا يمرون على ميقاتهم ولا يحازونه لوجب عليهم الإحرام من ذي الحليفة كما يجب في حق غيرهم كما يأتي في كلام المصنف، والحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام والفاء تصغير حلفة وهو في الأصل اسم ماء لبني جشم بالجيم والشين المعجمة، وهذا الميقات أبعد المواقيت من مكة؛ لأنه على عشر أو تسع مراحل من مكة، ومن المدينة على سبعة أو ستة أو أربعة أميال، ويسمى مسجدها مسجد الشجرة وقد خرب، وبها بئر تسميها العوام بئر علي، ولهذا الميقات خصوصية على غيره؛ لأن المحرم منه يحرم من حرم ويحل في حرم، ففيه شرف الابتداء والانتهاء، وأيضا هو ميقاته صلى الله عليه وسلم. "وميقات أهل العراق" وفارس وخراسان والمشرق ومن وراءهم "ذات عرق": بكسر العين المهملة موضع بالبادية كان قرية وخربت على مرحلتين من مكة، يقال إن بناءها تحول إلى جهة الكعبة فيتحرى مريد الإحرام مكان القرية القديمة ويحرم منه، لأن هذه المواقيت معتبرة بأنفسهما لا بأسمائها، فلو تحولت البلد أو تغير اسمها فالمعتبر المحل الأصلي. قال الشافعي: ومن علامات ذات عرق المقابر القديمة. "و": ميقات "أهل اليمن": والهند "يلملم": بفتح المثناة التحتية واللام الأولى والثانية والميم بينهما ساكنة وآخره ميم جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة. "و": ميقات "أهل نجد" اليمن ونجد والحجاز "قرن": بفتح القاف وسكون الراء يقال له قرن المنازل لا قرن

الثعالب، وعن الخليل أنه يقال له قرن المنازل والثعالب وهو جبل صغير منقطع عن الجبال، قال خليل في التوضيح: إنه أقرب المواقيت لمكة؛ لأنه على مرحلتين منها، وأويس القرني ليس منسوبا إليه وإنما هو منسوب إلى قبيلة قرن بفتح الراء بطن من مراد كما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والدليل على تحديد تلك المواقيت ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج، وأما العمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ الإحرام حتى أهل مكة من مكة في الحج، وأما العمرة فيخرج يحرم بها من الحل" 1قال صاحب الإكمال: هذا التحديد من معجزاته صلى الله عليه وسلم "لأنه حدد المواقيت لأهل العراق قبل أن يفتح البلاد"، ونحوه قول ابن بزيزة: علمه بالوحي في فتح المدائن والأقطار لأمته، والمذهب أنه تحديد كما قال القرافي، ولابن حبيب تقريب، ويروى أن الحجر الأسود كان له نور في أول أمره يصل آخره لهذه الحدود، فمنع الشارع مجاوزتها المريد الحج بلا إحرام تعظيما لتلك الآيات، ولما قدم أن نحو المصري والشامي إذا مر بالمدينة يندب له الإحرام من ذي الحليفة وكان غيرهم يجب عليه قال: "ومن مر من هؤلاء": الجماعة أعني أهل العراق وأهل اليمن وأهل نجد "بالمدينة": المشرفة "فواجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة": وعلل وجوب الإحرام منه بقوله: "إذ لا يتعداه إلى ميقات": بالتنوين "له": بخلاف نحو المصري إذا مر عليه يصير ميقاته أمامه، فلذا ندب له الإحرام منه ولم يجب عليه. " تنبيهات ": الأول : لم يبين المصنف محل إحرام من مسكنه بين تلك المواقيت ومكة، والحكم فيه أنه يحرم من منزله، ويندب له الإحرام من الأبعد لمكة من منزله أو المسجد، ويحرم عليه تأخير الإحرام عن منزله، كما يحرم على أهل المواقيت تأخير الإحرام عن المواقيت، ويلزم من أخر الإحرام حتى جاوز منزله وأحرم منه الدم، كما يلزم من جاوز الميقات حلالا وأحرم منه، وكل من سار من طريق غير الموصلة للميقات يجب عليه الإحرام عند محاذاته الميقات المعدلة ولو مر في البحرقال خليل: وحيث حاذى واحدا أو مر ولو ببحر، أي يجب عليه الإحرام حينئذ إلا لمصري
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة، حديث "1522"، ومسلم كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة، حديث "1181" وأبو داود، حديث "1737"، والنسائي، حديث "2653".

يمر بالحليفة فهو أولى وإن لحائضالثاني : يستحب لمريد الإحرام من ميقاته أن يبادر بالإحرام منه، كما يستحب تقديم العبادة في أول وقتها، ويستحب له أيضا إزالة شعثه كتقليم أظافره، وإزالة أدرانه وشعر ما عدا رأسه فالأفضل إبقاؤه وتلبيده بصمغ أو غاسول ليلتصق بعضه ببعض؛ لأنه يحرم عليه زمن الإحرام ستره بأي ساتر ولو غير مخيط أو مخيط، ويستحب له أيضا ترك التلفظ عن الإحرام بل يقتصر على النية، كما يكره له التلفظ بنويت في الصلاة أو الصوم إلا أن يكون موسوسا أو يقصد مراعاة الخلاف فلا حرج عليه؛ لأن مراعاة الخلاف مندوبةولما بين مكان الإحرام وبينا زمانه شرع الآن في صفته وذكر سنته بقوله "ويحرم الحاج أو المعتمر": سيأتي معنى يحرم أي ينوي ما أراد من حج أو عمرة "بإثر صلاة فريضة أو نافلة": والمعنى: أنه يسن لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة أن يوقع إحرامه عقب صلاة ركعتين، وإن أحرم عقب صلاة فريضة حصلت السنة، وإن كان الأفضل إيقاعه عقب صلاة تخصه خلافا لظاهر تخيير المصنف، فلو كان الوقت لا يصلى فيه أخر الإحرام إلا أن يخاف فوات أصحابه أو ضائقة الوقت أحرم بغير صلاة، وقوله: يحرم بإثر صلاة ليس على ظاهره من إحرامه بعد السلام، بل حتى يستوي على راحلته إن كان له راحلة يركبها، أو حتى يشرع في مشيه حالة كونه "يقول لبيك اللهم لبيك لبيك": يقولها مرة بعد أخرى اللهم "لا شريك لك لبيك": ومعنى لبيك أجبتك يا الله إجابة بعد إجابة، أو لازمت الإقامة على طاعتك، من ألب بالمكان إذا لزمه وأقام به، ولفظها مصدر كبقية أخواتها، وهي مثناة لفظا ومعناها التكثير لا خصوص الاثنين نظير كرتين في آية: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] ويداه بمعنى نعمه مبسوطتان إذ نعمه لا تحصى، والبصر لا يرجع كليلا من كرتين، خلافا ليونس في قوله: إن أصله لبى اسم مفرد مقصور قلبت ألفه بالإضافة للضمير كألف لدا وعلى في لديه وعليه، ورد عليه بقلب ألفه عند الإضافة للظاهر كما لبى يدي مسور بخلاف ألف لدا وعلى "أن الحمد": بفتح همزة أن على التعليل، ويروى بالكسر؛ لأنه ثناء وإخبار، فهو استئناف عاريا عن التعليل إشارة إلى استحقاق الحمد على كل حال وهو اختيار الجمهور، حتى قال الخطابي: إن الفتح رواية العامة؛ لأنه يلزم عليه أن الحمد إنما هو لخصوص هذا البيت، والواقع أن الباري سبحانه يستحق الحمد حتى لذاته. "والنعمة لك": بنصب لفظ النعمة على المشهور لعطفه على منصوب أن قبل الاستكمال، ومقابل المشهور جواز الرفع على الابتداء وخبره لك، وخبر أن محذوف دل عليه ما بعده، ومعنى

النعمة لك أنها منسوبة لك؛ لأنك المنعم على الحقيقة وإن وصلت لنا من يد غيرك؛ لأنك الخالق والعبد كاسب، ولا يلزم من الكسب الخلق على مذهب أهل السنة. "والملك": بالنصب ويجوز بمرجوحية الرفع بالعطف على محل اسم أنقال في الخلاصة: وجائز رفعك معطوفا على منصوب إن بعد أن تستكملا والمعنى: أن الخلق والتصرف التام في جميع الكائنات لك، واختار بعضهم الوقف على قوله: والملك يبتدئ بقوله: "لا شريك لك": أي فيه، وهذه تلبية الرسول عليه الصلاة والسلام وهي من سنن الإحرام كما جرى عليه خليل، وقيل: واجبة وهو الذي رجحه شراح المختصر للزوم الدم بتركها أو الإحرام مع الطول؛ لأن تركها أوله مع الطول ينزل منزلة تركها جملة، ولا يقال على القول الأول: كيف يلزم الدم بترك السنة؟؛ لأنا نقول: هي سنة شهر القول بوجوبها، ويطرد هذا الجواب في لزوم الدم لمن ترك سنة المشي في الطواف مع القدرة، ويستحب الاقتصار على ما ذكر لقول مالك: الاقتصار عليها أفضل، وعنه كراهة الزيادة وعنه الإباحة، وسببها أن إبراهيم عليه السلام لما أمره الله ببناء البيت فبناه فلما أتمه أمره الله أن ينادي في الناس بالحج، فقال: يا رب وأين يبلغ صوتي؟ فقال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فقيل: إنه صعد على المقام، وقيل: على جبل أبي قبيس فنادى: أيها الناس إن الله بنى بيتا فحجوه، فكانوا يجيبون من مشارق الأرض ومغاربها، ومن بطون النساء وأصلاب الرجال، فمن أجابه مرة فإنه يحج مرة، ومن أجابه أكثر فإنه يحج على عدد ما أجاب ثم بين معنى قوله فيما سبق: ويحرم الحاج أو المعتمر بقوله: "وينوي": مريد الإحرام "ما أراد من حج أو عمرة"؛ لأن الإحرام هو الدخول بالنية في أحد النسكين مع قول متعلق به كالتلبية أو فعل كالتوجه، وهذا هو الإحرام الذي لا خلاف فيه، واقتصر عليه خليل حيث قال: وإنما ينعقد بالنية وإن خالفها لفظه ولا دم وإن بجماع مع قول أو فعل تعلقا به، وأما النية بدون القول والفعل ففي انعقاده بها خلاف والمشهور انعقاده؛ لأنه ظاهر المدونة، بل قال المواق: إنه نصهاولما كان لمطلق الإحرام خمس سنن: الغسل المتصل بالإحرام ولو من الحائض والصغير والهيئة المطلوبة بعد التجرد ممن يحرم من لبس الإزار والرداء والنعلين المعروفين بالحدوة كنعال التكرور لا ما سيره عريض كالتاسومة، وهذه السنة خاصة بالرجل؛ لأن المرأة لا تتجرد عند إحرامها بل تكف وجهها وكفيها فقط، وتقليد ما معه من الهدايا وإشعاره إن كان مما يشعر وإيقاعه عقب صلاة ويندب كونها نفلا والتلبية المتصلة به، ويكفي في أدائها ولو على وجوبها

المرة، وأشار إلى بعضها بقوله: "ويؤمر أن يغتسل": مريد الإحرام على جهة السنية "عند الإحرام قبل أن يحرم": وهو سنة لكل إحرام في حق كل أحد كما قدمنا ويتدلك فيه؛ لأنه لم يحرم وهو للنظافة، ولذا يطلب من نحو النفساء ولو فقد الماء أو القدرة على استعماله لا يتيمم، وليس على تاركه كباقي الاغتسالات دم، والدليل على طلبه من نحو النفساء ما في الموطإ أن أسماء بنت عميس حين ولدت ذكر ذلك أبو بكر رحمه الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام فقال: "مرها فلتغتسل ثم لتهل" 1 وإذا جهلت الحائض أو النفساء الغسل حين أحرمت فقال مالك: تغتسل إذا علمت وكذا غيرهما، ويستحب عند غسله كما تقدم تقليم أظفاره وحلق عانته ووقص شاربه بخلاف شعر رأسه فالأفضل إبقاؤه. "و": يجب على مريد الإحرام وإن كان مكلفا وعلى وليه إن كان صغيرا أن "يتجرد من مخيط الثياب": ومن محيطها وإن بعضو أو نسج أو زر أو عقد، لقول عبد الحق: أربعة أشياء تفعل عند الميقات: التجرد أولا من مخيط الثياب، ثم الغسل، ثم الصلاة، ثم الإحرام ويلبس الإزار في وسطه ونعلين كنعال التكرور
ولما كانت اغتسالات الحج ثلاثة آكدها الغسل عند الإحرام؛ لأنه سنة في حق كل أحد وقد تقدم، والغسل لعرفة وسيأتي في كلامه، والغسل لدخول مكة أشار إليه بقوله: "ويستحب له": أي للمحرم ولو بعمرة "أن يغتسل لدخول مكة": إن كان ممن يخاطب بالصلاة؛ لأنه في الحقيقة للطواف، فلذا لا يطلب من نحو حائض لمنعها من دخول المسجد، ولا يتدلك في هذا الغسل، ويستحب فعله بذي طوى مثلث الطاء وهو مقصور، وهو واد من أودية مكة لا يقصر المسافر حتى يجاوزه فهو من أرباضها كما قال الأصمعيقال خليل: ولدخول غير حائض مكة بذي طوىقال الأجهوري: ولو قال وبطوى بحرف العطف لأفاد أنه مستحب ثان لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى فإذا صلى الصبح اغتسل، ومن لم يأت على ذي طوى اغتسل من مقدار ما بينهما"و": إذا شرع في التلبية فإنه "لا يزال": أي يستمر "يلبي دبر الصلوات" ولو نوافلقال خليل: وجددت بتغير حال وخلف صلاة. "وعند": طلوع "كل شرف": أي جبل وفي بطون الأودية. "وعند ملاقاة الرفاق": جمع رفقة بضم الراء ونقل كسرها أي الجماعة، سموا
ـــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ "1/322"، حديث "700".

بذلك؛ لأنهم يترافقون في البر ويرتفق بعضهم ببعض، وعند القيام من النوم، وعند سماع تلبية الغير، وحكم كل ذلك الندب، وقيل السنية، ويفهم من كلام المصنف كغيره أن طلب تجديد التلبية إنما هو في حق الذاهب محرما، وأما لو نسي حاجة ورجع إليها فقال مالك رضي الله عنه: لا يلبي؛ لأن هذا السعي ليس من سعي الإحرام، وقال مالك رضي الله عنه: ولا يرد الملبي سلاما حتى يفرغ، خلافا للشافعي ونظيره عندنا المؤذن، وليس في التلبية: دعاء ولا صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يفعل عليه الصلاة والسلام في تلبيته شيئا من ذلك، وأمر المناسك اتباع، وهذا لا ينافي ما ورد: "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله الرضوان والجنة"؛ لأن هذا بعد قطع التلبية، ولما كان يتوهم من طلب التلبية على الوجه السابق ملازمتها قال: "وليس عليه": أي المحرم لا وجوبا ولا ندبا"كثرة الإلحاح" أي الملازمة "بذلك": أي بالتلبية بل يكره ذلك لما يلزم على ملازمتها من الملالة، بل المستحب التوسط في التلبية بحيث لا يكثر حتى يلحقه الضجر، ولا يترك زمنا طويلا حتى تفوته الشعيرة، كما يندب له التوسط في تصويته بها، فلا يبالغ في رفعه ولا في خفضه، وهذا في حق الرجل في غير المسجد؛ لأنه لا يجوز رفع الصوت فيه إلا المسجد الحرام ومسجد منى؛ لأنهما بنيا للحج، وقيل للأمن فيهما من الرياء، وأما المرأة فتسمع نفسها بالتلبية؛ لأن صوتها عورة، وتطلب التلبية حتى من الجنب والحائض؛ لأنه. عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت: "افعلي ما يفعله الحاج غير أنك لا تطوفي بالبيت" 1ثم شرع بيان أماكن تترك فيها التلبية بقوله: "فإذا دخل": المحرم بحج مفردا أو قارنا "مكة أمسك": أي كف ندبا "عن التلبية حتى يطوف ويسعى": وظاهر كلام المصنف أنه يقطع التلبية بمجرد دخول مكة وهو ما شهره ابن بشير، ومقابله لا يقطعها حتى يبتدئ الطواف وهو مذهب المدونة، وإلى هذين الإشارة بقول خليل: وهل لمكة أو للطواف خلاف؟ وأنما ندب قطع التلبية للطواف والسعي لطلب الدعاء والابتهال والتضرع في حال فعلهما، فيكره الاشتغال في فعلهما بغير ذلك، على أن الطواف كالصلاة كما في الحديث2: "والصلاة لا تلبية فيها" وقيدنا المحرم بالحج للاحتراز عن المحرم بالعمرة فقط، سواء أحرم بها مع التمكن من الحج
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب كيف كان بدء الحيض، حديث "294" ومسلم، كتاب الحج، بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج، حديث "1211" وأبو داود، حديث "1782"، والنسائي، حديث "290"، وابن ماجه حديث "2963"، وأحمد "6/39" حديث "24155"2 صحيح: أخرجه أحمد "3/414" حديث "15461" وانظر: "الإرواء 1/154".

أو أحرم بها لفوات الحج، فإنه إنما يلبي لحرم مكة، وإليه أشار خليل بقوله: ومعتمر الميقات وفائت الحج للحرم، وليس المراد به المسجد بل المراد به مكة، واعلم أن محرم مكة يلبي بالمسجد في ابتداء أمره وينتهي إلى رواح مصلى عرفة كالمحرم من الميقات، وأما المعتمر من الميقات سواء أدرك الحج أو فاته وتحلل بفعل عمرة فإنه يلبي إلى البيوت، وأما المحرم بالحج من عرفة فإنه يلبي حتى يصل إلى محل الوقوف ثم يعاودها حتى يرمي جمرة العقبة كما قاله في الجلاب، ويدل على أن كلام المصنف في المحرم بالحج قوله: "ثم يعاودها": أي التلبية أي يأتي بها "حتى تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها": وإلى هذا أشار خليل بقوله: وعاودها بعد سعي لرواح مصلى عرفة، وأما المعتمر فلا يتأتى ذلك فيه لانقضاء عمرته بتمام سعيها، ولا يشكل على هذا قوله فيما يأتي: والعمرة يفعل فيها كما ذكرنا؛ لأن المراد من جهة الأركان، ويدل عليه لفظ يفعل والتلبية قول، وما ذكره المصنف من استمرار التلبية إلى حصول الزوال والرواح إلى المصلى هو مختار ابن القاسم ورجع إليه مالك، وقد انتهت التلبية للحج؛ لأنه لا تلبية بعد الرواح إلى المصلى حتى تكره الإجابة بالتلبية عند النداء؛ لأنه من فعل الأعاجم، وأما إجابة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن خصائصه، وأشعر قول المصنف: لم يعاودها أن الكلام فيمن كان محرما بالحج، أما من الميقات أو من مكة فهذا يلبي إلى مصلى عرفة ولا يعاودها بعد ذلك، وسكت عن حكم المحرم بالحج من عرفة والحكم فيه كما تقدم يلبي حتى يصل إلى محل الوقوف إن أحرم قبله، ثم يعاودها حتى يرمي جمرة العقبة كما قدمنا عن الجلابثم شرع في بيان الباب الذي يندب دخولها منه والخروج منها منه بقوله: "ويستحب": لكل مريد حج أو عمرة "أن يدخل مكة": نهارا وأن يدخلها "من كداء": بالفتح والمد مع الصرف وعدمه وكداء هي "الثنية": أي الطريق "التي بأعلى مكة": ويسمونها اليوم باب المعلى، ولا فرق بين كون الداخل أتى من طريق المدينة أو غيرها، بل يستحب لجميع أهل الآفاق اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده، وهذا هو المشهور كما قاله الفاكهاني، ولعل السر في دخول المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا المحل لما قيل: من أن نسبة باب البيت إليه كنسبة وجه الإنسان إليه، وأماثل الناس إنما يقصدون بالبناء للمجهول من جهة وجوههم لا من ظهورهم، وأيضا هذا الموضع دعا فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم فقيل له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] الآية، ألا ترى أنه قال: يأتوك ولم يقل يأتوني. "وإذا

خرج": أي أراد الخروج من مكة "خرج من كدى": بضم الكاف والقصر مع التنوين ولعله للرواية، والدال مهملة مع مفتوح الكاف ومضمومها وهي الثنية التي بأسفل مكة، ويعرف هذا المحل اليوم بباب شبيكة وهو باب بني سهم، والخروج منه حكمه الندب اقتداء به صلى الله عليه وسلمقال بعض العلماء: وفي ذلك مناسبة حسنة باب الدخول كداء المفتوح الكاف، وباب الخروج كدى المضموم الكاف؛ لأن المناسب للداخل الفتح وللخارج الضم. "وإن لم يفعل": ما ندب له في الدخول والخروج بل خالف "في الوجهين فلا حرج عليه" أي لا إثم عليه ولا دم وهذا من باب التصريح بما لا يتوهمولما فرغ من بيان ما يستحب دخول مكة منه من الأبواب أو الخروج شرع في بيان ندب المسارعة إلى دخول مسجدها وبيان ما يستحب الدخول منه من أبوابه بقوله: "قال": أي الإمام مالك ولعله لم يظهره للعلم به "فإذا دخل": المحرم بحج أو عمرة "مكة فليدخل المسجد الحرام": سريعا ولا يقدم عليه إلا ما لا بد منه كأكل خفيف أو حط رحله؛ لأنه المقصود بالذات، فالتأخر عنه إساءة أدب، ولما كان له أبواب عدة بين ما يندب الدخول منه بقوله: "ومستحسن": أي مستحب "أن يدخل": أي الذي دخل مكة محرما بحج أو عمرة المسجد الحرام. "من باب بني شيبة": وهو المعروف اليوم بباب السلام لدخوله صلى الله عليه وسلم منه، وإذا خرج منه فيستحب الخروج من باب بني سهم، وجرى خلاف في استحباب رفع اليدين عند رؤية البيت فاستحبه ابن حبيب ونفاه مالك، وإلى جميع ذلك قال خليل عاطفا على المندوب: ودخول مكة نهارا والبيت من كداء بالمد والفتح والمسجد من باب بني شيبة وخروجه من كدى بضم الكاف والقصرولما كانت تحية مسجد مكة الطواف بين ما يفعله مريد الطواف قبل الشروع فيه بقوله: "فيستلم": أي يقبل على جهة السنية "الحجر الأسود": بمجرد دخول المسجد "بفيه إن قدر": على ذلك وفي جواز التصويت وكراهته قولان، وأما تقبيله في غير الشوط الأول فمندوب ولا بأس بتقبيله بغير طواف، لكن ليس ذلك من شأن الناس، ونصوا هنا على كراهة تقبيل المصحف والخبز، كما يكره امتهانه أي الخبز على المعتمد، والدليل على طلب تقبيل الحجر ما في الصحيحين أن عمر رحمه الله تعالى جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"1، ويقال إن عليا رضي الله
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، حديث "1597" ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطوائف، حديث "1270".

عنه قال: بل يضر وينفع؛ لأن الله تعالى لما أخذ العهد على بني آدم كتب بذلك كتابا فألقمه الحجر الأسود فهو يشهد يوم القيامة لمن قبله. "وإلا": بأن لم يقدر على تقبيل الحجر بفمه "وضع يده عليه": أي على الحجر "ثم وضعها على فيه من غير تقبيل": على المشهور، فإن لم يقدر على وضع يده عليه فإنه يمسه بعود ثم يضعه على فيه من غير تقبيل، فإن لم يقدر على شيء مما ذكر كبر فقط، وهذا الترتيب لا بد منه، فلا يكفي العود مع إمكان اليد ولا وضع اليد مع إمكان التقبيل، وعلم مما ذكرنا أنه لا يكبر إلا عند العجز عن جميع ما ذكر، وفهم من التعبير بوضع يده أنه لا يضع خده كما يفعله بعض العوام بل نقل عن مالك كراهته. "ثم" بعد الفراغ من تقبيل الحجر "يطوف و": الحال أن "البيت على يساره سبعة أطواف": أي أشواط للرجال والنساء، وهذا الطواف يسمى طواف القدوم؛ لأنه ليس للحج طواف قبل عرفة إلا طواف القدوم وهو واجب فينجبر بالدم، ووجوبه بثلاثة شروط:
أحدها أن يكون أحرم من الحل إما وجوبا كالآفاقي القادم محرما بحج أو ندبا كالمقيم الذي معه نفس وخرج وأحرم من الحل، وسواء أحرم من الحج مفردا أو قارنا، وكذا المحرم من الحرم إن كان يجب عليه الإحرام من الحل بأن جاوز الميقات حلالا مقتحما للنهي، فمعنى إن أحرم من الحل إن طولب بالإحرام من الحل أحرم منه أو من الحرموثانيها : أن لا يراهق، وأما لو ضاق عليه الوقت وخاف فوات عرفة فإنه يسقط عنهثالثها : أن لا يردف الحج على العمرة في الحرم، فإن أردف بحرم فلا قدوم عليه ويؤخر سعيه حتى يطوف للإفاضة، لأن السعي إنما يقدم على عرفة إن طاف للقدوم، ولا دم عليه في ترك طواف القدوم عند المراهقة أو الإرداف" تنبيه ": أسقط المصنف معظم شروط الطواف وهي: الطهارة من الحدث والخبث وستر العورة، فلو طاف محدثا ولو عجزا أو نسيانا أو أحدث من حال طوافه ابتدأه ويرجع له ولو من بلده إن كان الطواف ركنا لقوله عليه الصلاة والسلام: "الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير" وجعل البيت عن يساره، وهذا الشرط يعلم من كلام المصنف، فلو طاف وجعل البيت على جهة يمينه أو قبالة وجهه أو وراء ظهره لم يصح، ويرجع له ولو من بلده إن كان ركنيا، وخروج كل البدن عن الشاذروان وهو البناء المحدودب في جدار البيت، وخروج كل البدن عن ستة أذرع من الحجر، فلو لم يترك الستة أذرع من الحجر بل طاف فيها لم يصح طوافه لما قيل من أنها من البيت، وأن يكون داخل المسجد، وأن

تكون الأشواط متوالية، فلو فرقها لم يصح طوافه، إلا أن يكون التفريق يسيرا أو لعذر ويستمر على طهارته فلا يضر، وأما لو نسي شوطا فإن ذكره بالقرب مع بقاء طهارته عاد إليه كما يبني في الصلاة مع القرب، وإن تباعد بطل كما تبطل الصلاة، وأما لو فرق لصلاة على جنازة أو لطلب نفقة ضاعت، فإن كان طلبها في المسجد أو كانت الجنازة متعينة ويخشى تغيرها فإنه يبني كما يبني عند قطعه لفريضة يلزمه الدخول فيها مع الإمام، أو لرعاف بنى أو لغسل نجاسة علم بها في صلاته أو سقطت عليه حيث لم يحصل طول، وأن تكون الأشواط سبعة، فإن نقص منها شوط أو بعضه ولو شكا من الطواف الركني رجع له، وأما لو زاد عليها فإن كانت الزيادة سهوا فلا تبطله إلا إن بلغت مثله، وأما عمدا فيبطل ولو بزيادة شوط وهو المشهور؛ لأنه كالصلاة. قاله بعض شيوخ شيوخنا، ولي فيه بحث ويظهر لي عدم البطلان بيسير الزيادة، وحرر المسألة وبنى على الأقل عند الشك إلا المستنكح كالصلاة، ويقبل إخبار الغير بالكمال ولو واحدا حيث كان عدلا، وينبغي للطائف أن يحتاط عند ابتدائه الطواف، بأن يقف قبل الركن بقليل حيث يصير الحجر الأسود عن يمين موقفه ليستوعب جملته بذلك؛ لأنه إن لم يستوعب الحجر لم يعتد بالشوط الأول فلينتبه لذلك، وقلنا معظم؛ لأن بعض الشروط يؤخذ من كلامه كما بينا" فائدة ": ابتداء الطواف من الحجر الأسود واجب يجبر بالدموبين صفة طواف من أحرم من الرجال من الميقات بحج أو عمرة بقوله "ثلاثة" بالنصب على البدلية من سبعة و "خببا": منصوب على المفعولية المطلقة عامله محذوف تقديره يخب فيها خببا، أو على الحال من فاعل يطوف؛ لأن المصدر المنكر يجوز نصبه على الحال أي خابا أي مسرعا فيها؛ لأن الخبب وهو الرمل ما فوق المشي ودون الجري بأن يمشي هازا لمنكبيه، وحكم الخبب في الأشواط الثلاثة الأول السنيةقال خليل: ورمل رجل في الثلاثة الأول، وإنما يسن فيها في حق من أحرم من الميقات بحج أو عمرة فرمل في الثلاثة الأول من طواف القدوم ومن طواف العمرة، ولو كان الطائف صبيا أو مريضا وحمل على دابة أو رجل فيرمل الحامل ويحرك الدابة كما يحركها ببطن محسر، والمطلوب عند الزحمة الرمل بقدر الطاقة فلا يكلف فوقها، ولا دم على التارك له ولو مع القدرة، وقيدنا بالرجل؛ لأنه لا رمل على النساء في طوافهن ولا هرولة في سعيهن، ولو كانت المرأة نائبة عن رجل وأحرمت عنه من الميقات، كما أن الرجل النائب عن المرأة لا يرمل، وأما من لم يحرم من الميقات وإنما أحرم بحج أو عمرة من الجعرانة أو من التنعيم: فإنه يستحب له

الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من طواف الإفاضة لمن لم يطف للقدوم ولو تركه عمدا، وأما من طاف للقدوم فلا يرمل في إفاضته ولو ترك الرمل في طواف القدوم، وأما طواف التطوع فيكره الرمل فيهما. قال خليل عاطفا على ما يندب: ورمل محرم من كالتنعيم أو بالإفاضة لمراهق لا تطوع ووداع، فتلخص أنه تارة يكون سنة، وتارة يكون مندوبا، وتارة يكون مكروها وقد بيناها. "ثم أربعة": بالنصب لعطفه على ثلاثة "مشيا": أي من غير خبب، والدليل على سنية الرمل ما ورد في الحديث: "من أنه صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أشواط"1. وورد في حديث ابن عباس: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه مكة فقال المشركون: إنه يقدم عليكم اليوم وقد أوهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا فأطلعه الله على ذلك، فأمرهم أن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأول وأن يمشوا ما بين الركنين، فلما فعلوا ذلك قالت قريش: بل هم أقوى منا"2 فزالت العلة وبقي الحكم وهذه هي السنة الأولى من سنن الطواف؛ لأن له سننا ستة وثانيها المشي في حق القادر، فإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر ولم يعده حتى رجع إلى بلده لزمه دم. وفي الأجهوري: أن المشي واجب في الطواف الواجب بدليل لزوم الدم، وأما في غير الواجب فسنة ولا يلزم الدم في تركه اختيارا، وعلل ذلك بأن السنة لا يلزم الدم بتركها، ولنا فيه بحث، فإن من تتبع أفعال الحج يجد لزوم الدم في ترك السنة في بعض المواضع فتأملهوثالثها الدعاء بلا حد أو يسبح أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. ورابعها تقبيل الحجر الأسود بفمه في الشوط الأول كما تقدم. وخامسها استلام أي لمس بغير الفم الركن اليماني في الشوط الأول. وسادسها صلاة الركعتين بعده بناء على سنية ركعتي الطواف وأشار إليها خليل بقوله: وللطواف المشي وإلا فدم لقادر لم يعده، وتقبيل حجر بفم أوله، وللزحمة لمس بيد ثم عود ووضعها على فيه وكبر، ثم الدعاء بلا حد ورمل رجل في الأشواط الثلاثة الأول، إلى أن قال: وفي سنية ركعتي الطواف أو وجوبهما خلافقال الأجهوري: والراجح الوجوب في ركعتي الطواف الواجب، والخلاف في غيرهما كما سنبينهـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة وفي الطواف، حديث "1262" والترمذي، حديث "482"، وأبو داود، حديث "1889"، ابن ماج، حديث "2950"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب كيف كان بدء الرمل، حديث "1602" ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة وفي الطواف "1266".

وأشار إلى ما يستحب فيه بقوله: "ويستلم": أي يقبل الطائف مطلقا "الركن": أي الحجر الأسود على جهة الاستحباب في غير الشوط الأول "كلما مر به كما ذكرنا": فيما تقدم بأن يقبله بفيه إن أمكن، وإلا فيمسه بيده إن أمكن، ثم يضعها على فيه من غير تقبيل، فإن لم يقدر فيمسه بعود ويضعه على فيه من غير تقبيل، فإن لم يقدر على شيء مما ذكر سقط عنه. "ويكبر": فقط من غير إشارة إليه بيد أو غيرها، فالحاصل أنه لا يكبر إلا عند العجز عن جميع ما ذكر كما هو ظاهر المدونة" تنبيه ": علم مما قررنا أن التشبيه في قوله: كما ذكرنا في الصفة لا في الحكم كما قدمنا من أن تقبيل الحجر في الشوط الأول سنة وفيما بعده مستحب، ولما كان التقبيل بالفم مختصا بالحجر الأسود وغيره يلمس بغير الفم قال: "ولا يستلم": أي لا يقبل "الركن اليماني بفيه":؛ لأن الفم لا يطلب وضعه إلا على الحجر الأسود. "ولكن": يستلمه بمعنى يلمسه "بيده": ندبا في غير الشوط الأول "ثم يضعها على فيه من غير تقبيل": فإن لم يستطع كبر ومضى، والركن اليماني هو الذي يتوسط بينه وبين الحجر ركنان، ومن مستحبات الطواف زيادة على تقبيل الحجر ولمس اليماني بعد الشوط الأول الدعاء بالملتزم بعد الفراغ من الطواف والدنو من البيت للرجال دون النساء، والملتزم ما بين الركن والباب" تنبيه ": علم مما قررنا شروط الطواف وسننه ومستحباته، ولم يتعرض لمكروهاته وتزيد على عشر: منها الطواف مع مخالطة النساء، ومنها السجود على الركن، ومنها تقبيل الركنين اللذين يليان الحجر الأسود، ومنها كثرة الكلام، ومنها قراءة القرآن، ومنها إنشاد الشعر إلا ما خف مما يشتمل على وعظ، ومنها الشرب لغير اضطرار، ومنها البيع والشراء، ومنها تغطية الرجل فمه وانتقاب المرأة، ومنها الركوب لغير عذر، ومنها حسر المنكبين، ومنها الطواف عن الغير قبل فعله عن نفسه، ابن راشد: وفي بعضها خلاف"فإذا تم": أي فرغ "طوافه": لقدومه بدليل سعيه بعده "ركع عند المقام ركعتين":. "تنبيهات": الأول: لم يعلم من كلام المصنف حكم نية الركعتين ولا حكم فعلهما عند المقام، ونحن نبين ذلك فنقول: اعلم أن أهل المذهب متفقون على عدم ركنيتهما، وإنما الخلاف في وجوبهما أو سنيتهما، والخلاف جار حتى في ركعتي طواف المتطوع، ووجه وجوب ركعتي طواف التطوع على القول بوجوبهما تبعيتهما له وهو قد تعين إتمامه بالشروع فيه، ورجح الأجهوري وجوب ركعتي الطواف الواجب والخلاف في غيرهما على السواء، وأما حكم فعلهما عند المقام

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11