كتاب : الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
المؤلف : أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي

قال الأجهوري : والظاهر أن حكم المد في الأول والوضع في الثاني الوجوب، وأما المومئ للسجود فأشار إليه خليل بقوله: وهل يومئ بيديه أو يضعهما على الأرض؟ أي هل يومئ بهما إلى الأرض إن أومأ إلى السجود من قيام، ويضعهما على الأرض إن أومأ إليه من جلوس والمقابل مطوي؟ أي أو لا يفعل بهما شيئا تأويلانالثالث : لم يبين المصنف حد الإيماء، وحكى فيه خليل تأويلين بقوله: وهل يجب فيه الوسع أي بذل الجهد بحيث لو قصر عن وسعه بطلت صلاته، أو يكتفي بما يعد إيماء؟ لكن لا بد من التفرقة بين الإيماء للركوع من السجودالرابع : قولنا يجب أن يكون إيماؤه للسجود أخفض إلخ هو المفهوم من كلام المصنف والمدونة، وفي التحقيق عن ابن عمر أنه على جهة الندب. ولما انقضى الكلام على الحالات الأربع وهي: حالة القيام مستقلا ومستندا، والجلوس كذلك شرع في حالات الاستلقاء بقوله: "وإن لم يقدر" المريض على الصلاة من جلوس ولو مع الاستناد "صلى" مضطجعا، ويستحب أن يكون "على جنبه الأيمن إيماء" برأسه أو غيره، والحال أن وجهه إلى القبلة كما يفعل به في لحده، فإن لم يقدر فعلى جنبه الأيسر ووجهه إلى القبلة أيضا، وإن لم يقدر إلا مضطجعا "على ظهره فعل ذلك" بأن يجعل وجهه إلى السماء ورجلاه إلى القبلة، فلو عجز عن الصلاة على الظهر صلى مضطجعا على بطنه ووجهه إلى القبلة ورجلاه إلى دبرها، وحكم الاستقبال في تلك الحالات الوجوب مع القدرة، فلو صلى لغيرها مع القدرة بطلت، والقدرة تكون بوجود من يحوله وإلا سقط، ثم وجد من يحوله بعد الصلاة استحب له إعادتها في الوقت" تنبيهان " الأول : علم مما قررنا أن الترتيب بين حالات الاستلقاء الثلاث وهي: الأيمن والأيسر والظهر مستحب، بخلاف الترتيب بينها وبين الصلاة على البطن فهو واجب، كالترتيب بينها وبين الجلوس بحالتيه والقيام بحالتيه، والحاصل أن الترتيب بين القيام مستقلا والقيام مستندا والجلوس بحالتيه فرض، وكذلك الترتيب بين القيام مستندا والجلوس بحالتيه على كلام خليل وعلى كلام غيره: أن الترتيب بين القيام مستندا والجلوس مستقلا مستحب على المشهور فقط، وكذا الترتيب بين الجلوس بحالتيه والاضطجاع فرض، كما بين حالات الاستلقاء الثلاث والصلاة على البطن كما قدمنا خلافا لما يتوهم من كلام المصنفالثاني : المصلي من اضطجاع يصلي بالإيماء، ولكن لم يعلم هل يومئ بكل أعضائه أو ببعضها، والمأخوذ من كلام بعض الشراح أنه يومئ برأسه، فإن عجز عن الإيماء برأسه أومأ

بعينيه وقلبه، فإن لم يستطع فبأصبعهقال الأجهوري: والظاهر أن ترتيب الإيماء بهذه المذكورات واجب، ولما كان يتوهم من يسر الدين سقوط الصلاة عمن لا يستطيع الإتيان بشيء من أفعالها سوى النية قال: "ولا يؤخر" المكلف "الصلاة إذا كان في عقله" المراد أنها لا تسقط عنه بوجه "وليصلها بقدر طاقته"، ولو بنية أفعالها: قال في الجلاب: ولا تسقط عنه الصلاة ومعه شيء من عقله، وصفة الإتيان بها أن يقصد أركانها بقلبه بأن ينوي الإحرام والقراءة والركوع والرفع والسجود، وهكذا إلى السلام إن كان لا يقدر إلا على الإيماء بطرفه أو غيره، وإلا أومأ بما قدر على الإيماء به، ولو بحاجب كما قال المازري، وإذا لم يستطع المريض أن يومئ إلا بطرفه وحاجبه فليومئ بهما، ويكون مصليا بهذا مع النية وهذا مقتضى المذهب" تنبيهات " الأول : سكت المصنف عن الطهارة للعلم أنه لا بد منها، ولو في حق العاجز ولو من فوق حائل ولو بالنية، فإن عجز عنها بكل وجه سقطت عنه الصلاة على مذهب مالك أداء وقضاء؛ لأن العجز عنها بقسميها المائية والترابية بمنزلة عدم الماء والصعيد، وقال خليل: وتسقط صلاة وقضاؤها بعدم ماء وصعيد، ويؤخذ من كلامه عدم سقوطها بالإكراه مع التمكن من الطهارة، بل إن أخرها في حال الإكراه وجب عليه قضاؤها. قال العلامة الأجهوري: واعلم أنه لا يتصور الإكراه على عدم الصلاة بالقصدالثاني : الأصل في صلاة المريض على الصفة المتقدمة الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أي ما في طاقتها، وآية. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وأما السنة فما في صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: "صل قائما فإن لم تستطع فجالسا فإن لم تستطع فعلى جنبك" 1 زاد ابن صخر: "فإن لم تستطع فمستلقيا"الثالث : لم يذكر المصنف حكم ما لو شرع في الصلاة فطرأ عليه ما يغير حالته التي كان عليها، ومحصله أنه لو كان يصلي مضطجعا أو جالسا وطرأ له الصحة، فإن كان بعد السلام فلا إعادة عليه ولا في الوقت، وأما لو حصلت له القدرة زيادة عن الحالة التي كان يصلي عليها في أثناء صلاته فإنه يجب الانتقال إلى الأعلى زيادة. قال خليل: وإن خف معذور وانتقل إلى
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب، حديث "1117".

الأعلى وجوبا إن كان الترتيب بين الحالتين واجبا، وندبا إن كان الترتيب بينهما مندوبا، ومفهوم خف أنه لو حصل له عذر بحيث صار لا يستطيع الحالة التي كان يصلي عليها، فإنه يتمها صلاة عجز على ما مر من جلوس مع الاستقلال أو الاستناد أو الاضطجاعالرابع : لو كان المريض يستطيع الإتيان بالصلاة على حالة من الحالات، لكن نسي بعض أقوالها وأفعالها ولكن يقدر عليها بالتلقين، فهل يجب عليه اتخاذ من يلقنه أم لا؟ قال الأجهوري نقلا عن ابن المنير من علماء المالكية: أنه يجب عليه اتخاذ من يلقنه نحو القراءة والتكبير ولو بأجرة، ولو زادت على ما يجب عليه بذله في ثمن الماء فيقول له عند الإحرام للصلاة قل: الله أكبر وهكذا إلى السلام، ويقول له بعد الفاتحة والسورة: افعل هكذا إشارة إلى الركوع أو السجود عند نسيانهماثم ذكر مسألة وعد بها في التيمم بقوله: "وإن لم يقدر" مريد الصلاة "على مس الماء لضرر به؛ أو لأنه لا يجد من يناوله إياه" مع قدرته على مسه "تيمم" أي جاز له التيمم؛ لأنه بمنزلة العادم للماء "فإن لم يجد" المريض "من يناوله ترابا" يتيمم عليه "تيمم بالحائط" القريب "إلى جانبه إن كان طينا أو عليه طين" قال خليل: ولمريض حائط لبن أو حجر، والتقييد بالمريض لا للاحتراز عن الصحيح، إذ الصحيح يصح تيممه بالحائط، وإنما قيد بالمريض بالنظر للغالب "فإن كان في جص أو جير" أو تبن "فلا" يصح أن "يتيمم عليه" صحيح أو مريض، ومثل ذلك لو كان مخلوطا بشيء نجس، وقد قدمنا في باب التيمم أن من لم يقدر على استعمال الماء ولا الصعيد لا بنفسه ولا بنيابة تسقط الصلاة وقضاؤها، كما تسقط عمن لم يجد لا ماء ولا صعيدا فراجعهثم أشار إلى مسألة مناسبة لما قبلها في العجز بقوله: "والمسافر" المراد الراكب مطلقا "يأخذه الوقت" أي يضيق عليه الوقت المختار وهو سائر "في طين خضخاض" وهو الطين الرقيق ومثله الماء الخالص، والحال أنه "لا يجد أين يصلي فيه" خوفا من الغرق أو من تلطيخ ثيابه "فلينزل عن دابته ويصلي فيه" حال كونه "قائما يومئ بالسجود أخفض من الركوع" ولا يلزمه الركوع والسجود عند مالك وأصحابه، خلا أشهب في إيجابه: الجلوس والسجود مع التخفيف وإن تلطخت ثيابه النفيسة، وإذا أومأ إلى الركوع يضع يديه على ركبتيه، وإذا رفع يرفعهما، وإذا أومأ إلى السجود يومئ بيديه إلى الأرض وينوي الجلوس بين السجدتين قائما، وكذلك جلوس التشهد إنما يكون قائما قاله ابن عمر، واحترز بالخضخاض من اليابس الذي

يمكن السجود عليه، فإنه يجب عليه النزول ويصلي فيه بالسجود على الأرض، وقوله: المسافر لا مفهوم له كما أنه لا مفهوم للراكب، المفهوم من قوله: فلينزل بل أولى من الماشي فإنه يصلي في الخضخاض بالإيماء"فإن لم يقدر" الخائف خروج الوقت وهو من طين أو ماء "أن ينزل فيه" خوفا من الغرق "صلى على دابته إلى القبلة" بأن يوقفها ويصلي إلى جهة القبلة، وقولنا: خوفا من الغرق احتراز من خوف تلطيخ الثياب فقط، فلا يبيح الصلاة على الدابةقال الأجهوري: خشية تلطيخ الثياب لا توجب صحة الصلاة على الدابة، وإنما تبيح الصلاة إيماء بالأرض، وهل يقيد بكون الغسل يفسدها أو مطلقا خلاف، وسيأتي في الرعاف ما يقتضي التقييد بكون الغسل يفسدها، واعلم أن صلاة الفرض على الدابة إنما تكون بالإيماء إلى الأرض لا إلى رحل الدابة أو شيء من جسدها، فإن أومأ إليه فصلاته باطلة قاله الأجهوري، وهذا ظاهر في الإيماء للسجود، وأما للركوع فيكون حيث القدرة، فليس له أن يسجد على ظهر الدابةوفي التتائي عن سيد ما يفيد أنه لو صلى على الدابة قائما وراكعا وساجدا من غير نقص أجزأه على المذهب، سحنون: لا يجزئه لدخوله على الضرر، ولا يقال يعارضه قول خليل: وبطل فرض على ظهرها لحمله على من لا يقدر على الصلاة عليها قائما وراكعا وساجدا، أو كلام سند في الفرض لا النفل، ولكن كلام العلامة خليل يقتضي أنه ليس للصحيح أن يصلي الفريضة على ظهر الدابة في غير الالتحام والخوف من كسبع، أو في خضخاض لا يطيق النزول به، أو لمرض ويؤديها عليها كالأرض، هذا ملخص كلام الأجهوري، في شرح خليل" تنبيه ": مثل من يأخذه الوقت في الماء أو الطين في جواز صلاته الفرض على الدابة بالإيماء الخائف من لصوص أو سباع، فإنه يصلي بالإيماء إلى جهة الأرض ويرفع العمامة عن جبهته عند الإيماء للسجودقال خليل: وبطل فرض على ظهرها أي الكعبة كالراكب إلا لالتحام أو لخوف من كسبع وإن لغيرها، وإلا لخضخاض لا يطق النزول به أو لمرض ويؤديها عليها كالأرض ثم شرع في الكلام على النافلة على الدابة فقال: "و" يجوز "للمسافر أن يتنفل على دابته" والمراد بها ما عدا السفينة، فيشمل الفرس والحمار والآدمي لمقابلتها بالسفينة، وظاهره سواء كان راكبا على ظهرها أو في شقدف أو غيره، ووقع التوقف في راكب نحو السبع هل يجوز له التنفل عليه أم لا؟ "في" مدة "سفره" ولا يلزمه استقبال قبلة بل "حيثما توجهت به" ولو سهل الابتداء بالنافلة إلى جهة القبلة لكن بشرط أشار إليه بقوله: "إن كان" سفره "سفرا تقصر

فيه الصلاة" بأن كان مباحا وأربعة برد، فلا يتنفل العاصي ولا مسافر أقل من أربعة برد، والمراد بالنفل ما قبل الفرض ولذلك قال: "وليوتر" المسافر "على دابته إن شاء" ولو تمكن من النزول بالأرض، والتخيير إنما هو في مطلق الجواز، فلا ينافي أن التنفل بالأرض أفضل. قال خليل: وصوب سفر قصر لراكب دابة فقط، وإن بمحل بدل في نفل وإن وترا وإن سهل لابتداء لها لا السفينة فيدور معها إن أمكن، وهل إن أومأ أو مطلقا تأويلان، والدليل على جواز النفل على ظهر الدابة فعله صلى الله عليه وسلم، ففي الموطإ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو على حمار وهو متوجه إلى خيبر1 وفي لفظ البخاري: ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة2 وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق السجود أخفض من الركوع3قال ابن عمر: ويومئ بالركوع والسجود إلى الأرض، ولا يسجد على ظهر الدابة، ويكون في سجوده متربعا عند الإمكان، ويرفع عمامته عند إيمائه للسجود، وله ضرب الدابة وركضها في الصلاة، وله ضرب غيرها، إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت، ووقع التوقف في طهارة السرج ونحوه مما هو راكب عليه، والذي استظهره ابن عرفة اشتراط طهارته في النافلة دون الفريضة؛ لأنه قد استحق ترك الفرض كالركوع والسجود فكيف بطهارة المحلقال الأجهوري: وما ذكره ابن عرفة في النافلة من اشتراط طهارة المحل يفيد صحة الإيماء إليه، فقول ابن عمر: ويومئ إلى الأرض ليس على طريق الوجوب، وهذا بخلاف الإيماء لصلاة الفرض في المسائل التي تصلى فيها الفريضة على ظهرها لا يكون إلا للأرض، فلا يصح في سرجها أو شيء من جسدها كما قدمناه، واحترز بالمسافر على الحاضر فلا يصح تنفله على ظهر الدابة ولا الفريضة إلا في المسائل المتقدمة، ولا يصح تنفله في السفينة أيضا حيث ما توجهت، بل لا يصلي فيها إلا للقبلة ويدور معها إن أمكن، ولو كان يصلي بالركوع والسجود على ظاهر المدونة، وقال بعض الشيوخ: محل منع بعض النفل في السفينة حيث ما توجهت إذا كان يصلي بالإيماء لعذر اقتضى ذلك، وأما لو كان يصلي بالركوع والسجود فلا منع يصلي حيث ما توجهت، ولو ترك الدوران مع التمكن منهـــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ "1/150" حديث "353"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب ينزل للمكتوبة، حديث "1098"3 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب ينزل للمكتوبة، حديث "1099".

" تنبيهات " الأول : علم مما مر أن قبلة المسافر في النفل جهة سفره، فلو انحرف عنها من غير عذر فقد أشار إليه في الذخيرة بقوله: وإذا انحرف المسافر بعد الإحرام إلى جهة سفره من غير عذر ولا سهو، فإن كانت القبلة فلا شيء عليه؛ لأنها الأصل وإلا بطلت صلاته، وإن ظن أن تلك طريقه أو غلبته الدابة فلا شيء عليه، ولو لغير جهة القبلة لأنه معذورالثاني : علم من كلام المصنف وغيره أنه ليس له أن يحرم إلى جهة دبر الدابة، ولو كان إلى جهة الكعبة، فإن فعل فالظاهر أنه إن تحول إلى جهة القبلة لم تبطل صلاته وإلا بطلتالثالث: إذا وصل منزلا وهو متلبس بصلاة النافلة، فإن كان منزل إقامة نزل وكملها بالأرض بالركوع والسجود والاستقبال، وإن لم يكن منزل إقامة خفف وأتمها على الدابة؛ لأن عزمه السفر، وهكذا كله حيث بقي منها ما له بال، وأما نحو التشهد فيفعله على ظهرها مطلقا، وأشار إلى مفهوم يتنفل بقوله: "ولا" يصح للمسافر وأولى غيره أن "يصلي الفريضة" ولو بالنذر لقيامها "وإن كان مريضا إلا بالأرض" فلو صلاها على ظهر الدابة أعادها أبدا، وظاهره ولو كان يصليها عليها قائما وراكعا وساجدا من غير نقص شيء عند سحنون لدخوله على الضرر، وقال سند: تجزيه على المذهب، وسيأتي ما يقتضي أنه مخالف للمشهور"إلا أن يكون إن نزل" عن ظهر الدابة "صلى جالسا إيماء لمرضه فليصل" الفرض "على الدابة" حينئذ إن كان يفعلها على ظهرها كفعله لها على الأرض من غير تفاوت بين الحالتين فيومئ إلى الأرض بعد رفع العمامة عن موضع السجود، وذلك الفعل "بعد أن توقف له ويستقبل بها القبلة" وأشار إليها خليل بقوله عاطفا على ما تصح فيه الفريضة على ظهر الدابة: وهي ثلاث مسائل قدمناها سوى هذه، وإلا لمرض ويؤديها عليها كالأرض فعلها، وأما لو كان يؤديها على الأرض أتم من صلاتها على ظهرها لوجب عليه صلاتها بالأرض اتفاقا، وذلك بأن يكون إن نزل على الأرض بقدر يسجد، وإن صلى على ظهرها يصلي بالإيماء، هذا هو المراد بالأتمية المقتضية لوجوب فعلها بالأرض، وأما لو كان يصلي بالإيماء على ظهرها وبالأرض لكن يزيد إن نزل على الأرض بالقدرة على التربع ونحوه مما ليس بفرض فلا يقتضي وجوب فعلها بالأرض بل الندب فقط كما يفهم من كلام الأجهوري، وبتقييد المسألة بالمريض الذي فرضه الإيماء علم الرد على تعقب ابن الفخار للمصنف حيث قال: ما قاله المؤلف مخالف لمذهب مالك، إذ لم يختلف مذهبه في المريض الذي يصلي جالسا، ويقدر على السجود أنه لا يصلي إلا بالأرض وغفل عن تقييد بحال الإيماء.

قال ابن ناجي: وما ذكره المؤلف لا يخالف ما عليه الأكثر من الكراهة لما تقرر من أن الجواز قد يكون مع الكراهة ولذا قال خليل: وفيها كراهة الأخير حيث كان له قدرة على النزول عن الدابة لكن فرضه الإيماء، وأما العاجز عن النزول عن الدابة فلا تتأتى الكراهة في حقه إذ يجب عليه فعلها على ظهرها، كمن أخذه الوقت في خضخاض أو في حال الالتحام، ويقول ابن الفخار: لم يختلف مذهب مالك في المريض الذي يصلي جالسا، ويقدر على السجود أنه لا يصلي إلا بالأرض، ضعف كلام سند المتقدم فافهم، وأيضا خليل لم يصحح الفريضة على ظهر الدابة إلا في أربع مسائل: مسألة المريض والخائف من لص أو سباع ومن في حال الالتحام، ومن يأخذه الوقت في ماء أو خضخاض، وتقدم أن الإيماء للأرض في الأربع ومع الاستقبال إلا في حال الالتحام وعند الخوف من اللصوص والسباع فقد يسقط؛ لأن معظم شروط الصلاة إنما تجب مع القدرة"تنبيه": كما اغتفر في حق المريض إيقاع صلاة الفرض على ظهر الدابة، اغتفر له الصلاة على السرير المفعول من الشريط، وشبهه مما ليس بخشب ولا حجر حيث لا يستطيع النزول بالأرض، وأما لو كان له قدرة النزول إلى الأرض فلا تصح صلاته عليه، ولو كان فرضه الإيماء حيث أومأ إليه، وأما لو أومأ إلى الأرض لصحت صلاته كما صحت على الدابة في تلك الحالةوأما الصلاة على السرير المصنوع من الخشب فقال العلامة بهرام: لا خلاف في جواز الصلاة عليه؛ لأنه شبيه بالسطحثم شرع يتكلم عن مسائل الرعاف1 وهو الدم الخارج من الأنف ومثله القيح والصديد فقال: "ومن رعف" بفتح عينه في الماضي والمضارع على الأفصح في حال صلاته "مع الإمام" وكثر رعافه بحيث سال أو قطر، ولم يتلطخ به ولم يظن دوامه لآخر الوقت المختار. "خرج" من المسجد مستمرا على صلاته إن شاء "فغسل الدم" وصفة خروجه أن يخرج ممسكا أنفه من أسفله أو أعلاه، وهو الأولى لئلا يحتبس الدم إذا مسكه من أسفله، وقيدناه بالسائل أو القاطر بحيث لا يذهبه الفتل للاحتراز عن الراشح الذي يذهبه الفتل؛ لأنه يأتي في قوله: ولا ينصرف
ـــــــ
1 الرعاف لغة: اسم من رعف رعفا، وهو خروج الدم من الأنف، وقيل: الرعاف الدم نفسه، وأصله السبق والتقدم، وفرس راعف أي سابق، وسمي الرعاف بذلك؛ لأنه يسبق علم الشخص الراعف. ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن المعنى اللغوي. انظر الموسوعة الفقيه "22/262".

لدم خفيف وليفتله، وقيدنا بقولنا: ولم يتلطخ به للاحتراز عن الكثير الذي يلطخه فتبطل به الصلاة حيث زاد على درهم واتسع الوقت لغسله، وقيدنا بعدم ظن الدوام للاحتراز عما إذا ظن الدوام لآخر الوقت المختار، فإنه يتمها ولا يخرج ولو سائلا أو قاطرا حيث كان في غير مسجد أو فيه، وفرش شيئا يلاقي به الدم أو كان محصبا أو ترابا لا حصير عليه لأن ذلك ضرورة، ويغسل الدم بعد فراغ، كما ترك عليه الصلاة والسلام الأعرابي يتم بوله في المسجدقال خليل : أو فيها وإن عيدا أو جنازة وظن دوامه له أتمها إن لم يلطخ فرش مسجد، فإن كان في مسجد مفروش أو مبلط يخشى تلويثه ولو بأقل من درهم يقع وجوبا على الإتمام يتمها بركوع وسجود، إلا أن يخشى ضررا بالركوع والسجود، أو تلطخ ثيابه الذي يفسدها الغسل فيتمها ولو بالإيماء، لا إن خشي تلطخ جسده أو ثيابه التي لا يفسدها الغسل فلا يصح له الإيماء، وقولنا: إن شاء إشارة إلى أنه يجوز له القطع بسلام أو كلام، ولكن الأفضل البقاء والبناء على ما فعل بعد غسل الدم كما أشار إليه بقوله: "ثم" بعد خروجه وغسل الدم "يبني" على ما فعل قبل خروج الدم على جهة الندب عند مالك وجمهور الصحابة والتابعين، وقول المصنف: ومن رعف مع الإمام يوهم أن غيره ليس كذلك، بل الإمام كالمأموم ولو لم يكن خلفه جماعة حيث كان راتبا لما مر من أن الراتب كجماعة، إلا أن الإمام يستحب له الاستخلاف عند خروجه إذا كان معه جماعةوأما الفذ ففي بنائه خلاف هل منشؤه رخصة البناء لحرمة الصلاة للمنع من إبطال العمل أو لتحصيل فضل الجماعة؟ فيبني على الأول دون الثاني، وما تقدم من أن من خرج لغسل الدم يندب له البناء مقيد بالعام، وأما لو كان الراعف من العوام، أو ممن لا يحسن التصرف بالعلم فالقطع في حقه أولى، هكذا قال سيدي أحمد زروق وهو حسن. وشروط البناء أربعة أشار إلى أحدها بقوله: "ما لم يتكلم" في زمن خروجه لغسل الدم، وإلا بطلت صلاته، ولو تكلم ساهيا سواء تكلم في حال الانصراف أو الرجوع والفرق لا يظهر، وأشار إلى ثاني الشروط بقوله: "أو" أي وما لم "يمش على نجاسة" فإن مشى عليها في حال انصرافه أو رجوعه بطلت صلاته، ولو يابسة حيث علم بها في حال الصلاة لا بعدها فيعيد في الوقت إلا أن تكون أرواث الدواب أو أبوالها حيث لا مندوحة لهقال الأجهوري : والحاصل أن المرور عليها مع العلم والاختيار مبطل مطلقا أي ولو يابسة ولو أرواث الدواب، وأما مع الاضطرار فلا بطلان، ولا إعادة أيضا في المرور على أرواث

الدواب ولو رطبة، وكذا في المرور على غيرها لا بطلان، لكن تستحب الإعادة في الوقت هذا كله مع العلم، وأما المرور مع النسيان فلا إعادة في أرواث الدواب وأبوالها، وكذا في غيرها إذا لم يتذكر، إلا بعد الصلاة، وأما لو تذكر فيها فإن تعلق به شيء بطلت، وإن لم يتعلق به شيء جرى على الخلاف في من سجد على نجاسة، ولم يعلم بها إلا بعد رفع جبهته ولم يتعلق به شيء منها، فابن عرفة يبطل صلاته وغيره يتحول عنها ويتم صلاته، وبقي شرطان لم يذكرهما وهما: أن لا يجد الماء في موضع ويتجاوزه إلى أبعد منه مع الإمكان، وأن لا يستدبر قبلة بلا عذر فإن استدبرها اختيارا بطلت صلاته، ومن العذر استدبارها لطلب الماء، وأشار خليل إلى تلك الشروط بقوله: فيخرج ممسك أنفه لغسل إن لم يجاوز أقرب مكان ممكن قرب، ويستدبر قبلة بلا عذر ويطأ نجسا ويتكلم ولو سهوا" فرعان " أحدهما : إذا دار الأمر بين الذهاب لماء قرب مع الاستدبار وماء بعد الاستدبار معه، فإنه يذهب إلى القريب ولو مع الاستدبار؛ لأن الاستدبار اغتفر جنسه في الصلاة في بعض الأماكن، بخلاف الفعل الكثير فتبطل به ولو سهوا. قال الأجهوري، وربما يبحث فيه بأن الفعل الكثير اغتفر جنسه أيضا، ولو عمدا في صلاة المسابقة إلا أن يقال بندور هذا بالنسبة لعذر الاستدبار" الفرع الثاني ": إذا دار الأمر بين الاستدبار ووطء النجاسة التي يبطل وطؤها فإنه يقدم الاستدبار؛ لأنه استدبار لعذر، أشار إلى هذين الفرعين العلامة الأجهوري في شرح خليل"و" إذا خرج الراعف لغسل الدم مع الشروط المتقدمة "لا يبني على ركعة لم تتم بسجدتيها" قبل رعافه "وليلغها" أي لا يعتد بشيء من أجزائها، وإنما يبني على ركعة تامة، وتمامها يكون الجلوس إن كان يقوم منها للجلوس، ويكون بالقيام إن كان يقوم منها للقيام، فلو ركع وسجد السجدتين ثم قبل الجلوس أو القيام رعف فلا يعتد بتلك الركعة، ويبتدئ القراءة من أولها بانيا على الإحرام إن كان الرعاف حصل في الركعة الأولى، أو على الركعة الكاملة السابقة على الملغية إن كان الرعاف في غير الأولى، فالمصنف أطلق البناء على الاعتداد، فمعنى قوله: لا يبني على ركعة لم تتم لا يعتد بقرينة قوله: وليلغها فلا ينافي أنه يبني ولو على الإحرامولذا قال خليل: وإذا بنى لم يعتد إلا بركعة كملت، وقد ذكرنا ما به الكمال على ما حققه العلامة الأجهوري في شرح خليل، ولما قدم أنه لا يخرج إلا لغسل الدم السائل أو القاطر، شرع في حكم ما ليس كذلك بقوله: "ولا ينصرف ل" غسل "دم خفيف" المراد لا يجوز للراعف

الخروج من الصلاة لغسل دم راشح. "وليفتله بأصابعه" أي رءوس أنامل يسراه الخمس العلياقال خليل : فإن رشح فتله بأنامل يسراه والمراد الخمس العليا، وصفة الفتل أن يلقاه برأس الخنصر ويفتله برأس الإبهام، ثم بعد الخنصر البنصر ثم الوسطى ثم السبابة، ولا يلقي الدم برأس الإبهام بل يفتل بها، فإن استمر وتلطخت الأنامل العليا انتقل للأنامل الوسطى، فإن زاد ما فيها عن درهم تحقيقا بطلت صلاته إن اتسع الوقت الذي هو فيه وإلا أتمها: كما إذا ظن الزيادة أو شك فيها، ولا ينظر ما في العليا، فلو انتقل بعد تلطيخ العليا إلى عليا اليمنى وزاد ما فيها عن درهم لم تبطل صلاته على ما استظهره شيخ مشايخنا معللا له بقوله: مراعاة لمن يقول بفتله بيديه" تنبيه ": علم من تقريرنا لكلامه أن المراد بالأصابع رءوسها، فهو مجاز مرسل علاقته الكلية والجزئية نظير: "يجعلون أصابعهم في آذانهم" وأن المراد العليا من اليد اليسرى على جهة الندب؛ لأنها معدة لمباشرة الأقذار، ولما كان فتل الدم الخفيف مشروطا باستمراره خفيفا قال: "إلا أن يسيل أو يقطر" بحيث لا يذهب بالفتل، فله أن ينصرف لغسله بالشروط المتقدمة ويبني على ما فعل، وله القطع بسلام أو كلام كالسائل ابتداء، ولا يقال هذا مكرر مع قوله أولا: ومن رعف خرج فغسل الدم، لحمل ما تقدم على السائل أو القاطر ابتداء، وهذا راشح ابتداء وطرأ له الزيادة حتى سال أو قطر، ولذلك كان الأولى التعبير بإلى موضع إلا ليكون ظاهرا فيما ذكرنا، ولما كان الخروج لغسل الدم والبناء على ما صلاه قبل الرعاف رخصة لا يقاس عليها غيرها قال: "ولا يبني" المصلي "في قيء" متنجس خرج منه في حال صلاته "ولا" يبني أيضا في "حدث" تذكره فيها أو خرج منه خلافا لأبي حنيفة في البناء مع الحدث الغالب، ولأشهب في بناء من رأى نجاسة في ثوبه أو سقط عليه شيء منها في صلاته قال خليل: ولا يبني في غيره كظنه فخرج فظهر نفيه فتبطل صلاته في كل ما ذكرنا، لكن بالحدث ولو عند ضيق الوقت، وأما القيء النجس أو سقوط النجاسة فإنما تبطل عند اتساعه، وإنما حملنا الكلام على القيء النجس؛ لأنه الذي يوجب الخروج من الصلاة، وأما الطاهر فلا تبطل به الصلاةقال خليل : ومن ذرعه قيء لم تبطل صلاته بشروط ثلاثة: طهارته ويسارته وخروجه غلبة، لا إن كان نجسا أو كثيرا أو تعمد ابتلاعه فتبطل به الصلاة، وأما لو ابتلعه غلبة ففي بطلان صلاته قولان على حد سوى، وكما لا يبني في غير الرعاف لا يبني في الرعاف المتكرر على ما قاله ابن فرحون، خلافا لابن عبد السلام في قوله بالبناء، ولو تكرر الرعاف مرتين أو أكثر في صلاة

واحدة، وليس من المتكرر الحاصل في حال رجوعه من غسل الدم قبل دخوله في إكمال الصلاة بل يستمر على صلاته" تنبيهان " الأول : إذا علمت ما قررناه من حمل كلام المصنف على الرعاف المبطل علمت أن كلام المصنف ليس على إطلاقه، ولعله رحمه الله أطلق اتكالا على ظهور المراد، لأن الكلام في حصول ما يوجب الخروج من الصلاة، وإلا فالمصنف إمام لا يخفى عليه أمور الفقه فضلا عن غيرهالثاني قول المصنف : ولا يبني في قيء، وفي بعض النسخ بإثبات الياء على جعل لا نافية، وفي بعضها بحذفها على جعلها ناهية، وفي خليل كذلكولما فرغ من الكلام على الرعاف الحاصل في أثناء الصلاة، شرع في حكم الحاصل بعد تمامها وقبل السلام بقوله: "ومن رعف" من المأمومين "بعد سلام الإمام سلم وانصرف"؛ لأن سلامه مع النجاسة أخف من خروجه لغسلها وسلامه بعد ذلك، وظاهر كلامه: ولو رعف قبل تشهده لحمل الإمام له، فلو خالف وخرج لغسل الدم قبل السلام فالظاهر عدم بطلان صلاته"و" مفهوم بعد سلام الإمام "إن رعف قبل سلامه" أي الإمام "انصرف وغسل الدم"؛ لأنه إن لم يخرج يصير حاملا للنجاسة عمدا فتبطل صلاته. "ثم رجع" بعد انصرافه لغسل الدم "فجلس" وتشهد فلو كان تشهد قبل الانصراف "وسلم"؛ لأن سنة السلام أن يكون عقب تشهدقال خليل: وسلم وانصرف إن رعف بعد سلام إمامه لا قبله، ومحل انصراف من رعف قبل سلام الإمام ما لم يسلم إمامه قبل مجاوزتين الصف والصفين وإلا جلس وسلم: " تنبيه ": علم من كلام المصنف حكم المأموم إن رعف بعد سلام إمامه من أنه يسلم ولا ينصرف لغسل الدم، ومن رعف قبل سلام إمامه يخرج قبل سلامه، وسكت عن نفس الإمام يرعف في حال جلوسه، ومثله الفذ على القول ببنائه، وقال الحطاب: لم أر فيهما نصا، والظاهر أن يقال: إن حصل الرعاف بعد أن أتى بمقدار السنة من التشهد فإنه يسلم، والإمام والفذ في ذلك سواء، وإن رعف قبل ذلك فليستخلف الإمام من يتم بهم التشهد ويخرج هو لغسل الدم، وأما الفذ فيخرج لغسل الدم ويتم مكانهثم شرع في بيان المحل الذي يتم فيه الراعف صلاته بعد غسل الدم بقوله: "وللراعف" أي

ويجب على الراعف بعد غسل الدم "أن يبني" أي يتم ما بقي من صلاته بانيا على ما فعله "في منزله" الذي غسل فيه الدم. "إذا يئس أن يدرك بقية صلاة الإمام" قال خليل: وأتم مكانه إن ظن فراغ إمامه وأمكن، وإلا فالأقرب إليه، وإلا بطلت ورجع إن ظن بقاءه أو شك ولو تشهد، والحاصل أن الراعف له بعد غسل الدم حالتان إحداهما أن يظن فراغ إمامه، والثانية أن يظن بقاءه أو يشك فيه، ففي الأولى يتم مكانه إن أمكن، وإلا ففي أقرب مكان إليه وتصح صلاته ولو تبين سلامه قبل إمامه، وفي الثانية يرجع لمكانه حيث يوقن إدراك الإمام قبل سلامه، وهذا في المأموم، ومثله الإمام بعد استخلافه؛ لأنه يلزمه بعد الاستخلاف ما يلزم المأموم ابتداء، وأما الفذ فيتم مكانه، وهذا كله في غير الراعف في صلاة الجمعة، وأما الراعف في الجمعة فلا يتم مكانه، ولو تيقن فراغ إمامه وإليه أشار بقوله: "إلا" أن يكون الراعف من إمام أو مأموم "في الجمعة" وحصل له الرعاف بعد ركعة بسجدتيها "فلا يبني إلا في" أول "الجامع" الذي ابتدأها فيه، ولو ظن فراغ إمامه؛ لأن الجامع شرط مع صحة الجمعة، ولا يتمها برحابه ولو كان ابتدأها به لضيق أو اتصال صفوف، كما استظهره الحطاب لتمكنه من الجامع، وقال ابن عبد السلام: يصح إتمامها في الرحاب، بخلاف ما لو أتمها في غير الجامع الذي ابتدأها فيه فتبطل على المشهور خلافا لابن شعبان، وإذا رجع إليه فوجده مغلوقا لا ينتقل إلى غيره ويضيف ركعة إلى ركعته لتصير له نافلة ويبتدئها ظهرا بإحراموإنما قلنا في أول الجامع للإشارة إلى أنه لا يلزمه الرجوع إلى مكانه، الذي افتتح الصلاة فيه، بل تبطل صلاته بمجاوزته أقرب مكان ممكن، وكما يجب الرجوع لأول الجامع على من أدرك ركعة بسجدتيها يجب على من يظن إدراك ركعة مع الإمام بعد رجوعه، وأما إن لم يدرك ركعة قبل الرعاف ولا يعتقد إدراك ركعة بعد رجوعه مع الإمام فإنه لا يرجع بل يقطع إحرامه ويبتدئ ظهرا بإحرام جديدقال خليل : وفي الجمعة مطلقا لأول الجامع وإلا بطلت، وإن لم يتم ركعة في الجمعة ابتدأ ظهرا بإحرامقال الحطاب: ولو خالف وبنى على إحرامه وصلى أربعا الظاهر صحة صلاته ولم أره منصوصا، ومحل ابتدائها ظهرا حيث لم يتمكن من صلاة الجمعة، وإلا فعل بأن كان البلد مصرا تتعدد فيه الجمعة فيذهب إلى جامع آخر" تنبيهات " الأول : تلخص مما ذكرنا أن من لم يظن سلام الإمام قبل رجوعه يجب عليه الرجوع، ومن يظن فراغه يتم مكانه إن أمكنه، وإن مدرك ركعة من الجمعة سواء كان أدركها

قبل الرعاف أو يعتقد إدراكها بعد رجوعه يطلب بالرجوع، ولو ظن فراغ الإمام في الصورة الأولى، وكل من خالف ما وجب عليه بطلت صلاته، ومن فعل ما وجب عليه صحت صلاته وإن أخطأ ظنهالثاني : لم يذكر المصنف حكم الرعاف قبل الدخول في الصلاة وفيه وجهان، أحدهما: أن يطمع في انقطاعه قبل خروج الوقت، بحيث يبقى منه ما يسع الطهارة وأربع ركعات أو ركعة بناء على ما يدرك به لوقت الاختياري، وفي هذا يؤخر الصلاةوثانيهما : أن يظن دوامه إلى آخر الوقت، وفي هذا يصلي من غير تأخير، كما يصلي مع نزول الدم آخر الوقت إذا لم ينقطع، بأن تخلف ظنه وضاق الوقت وهو نازل، ويصلي بركوع وسجود مع الإمكان، وأما لو تضرر بالركوع والسجود لضرر بجسمه أو للخوف على تلطخ ثيابه التي يفسدها الغسل صلى بالإيماء، وهذان الوجهان يفهمان من قول خليل: وإن رعف قبلها ودام آخر لآخر الاختياري وصلى؛ لأنه يفهم من قوله آخر أنه يرجى انقطاعه قبل خروج الوقت، ويفهم منه أنه إن لم يرج الانقطاع يصلي من غير تأخير، ولا فرق بين السائل والقاطر والراشحالثالث : لم يتعرض المصنف للمسبوق الذي يدخل مع الإمام ويحصل له الرعاف أو نحوه مما يوجب فوات ركعة أو أكثر بعد الدخول مع الإمام بحيث يجتمع في صلاته القضاء والبناء، وقد أشار إليه خليل بقوله: وإذا اجتمع قضاء وبناء لراعف أدرك الوسطيين أو إحداهما، أو الحاضر أدرك ثانية صلاة مسافر أو خوف بحضر قدم البناء وجلس في آخر الإمام ولو لم تكن ثانيته، ولما كان الرعاف مظنة لإصابة الدم ناسب التعرض لحكم غسله بقوله: "ويغسل" ندبا "قليل الدم" ولو من غير رعاف، كدم حيض أو نفاس ومثله القيح والصديد "من الثوب" أو الجسد، والمراد بالقليل أقل من درهمقال خليل: وعفا عن دون درهم من دم مطلقا وقيح وصديد، والمراد بالدرهم الدرهم البغلي وهو قدر الدائرة التي تكون بباطن ذراع البغل، ومفهوم من الثوب وما ألحق به مما يتعلق بالمصلي أنه لو أصاب طعاما لنجسه ولو قل، فالعفو في غير الطعام والشرابقال خليل : وينجس كثير طعام مائع بنجس ولو قل، وإنما قلنا ندبا لقوله: "ولا تعاد الصلاة" مع ملابسة الدم "إلا من كثيره" وهو ما كان قدر الدرهم مساحة لا وزنا، والأثر والعين سواء في

العفو عن القليل ووجوب الغسل في الكثير، فإن صلى بالكثير أعاد مع العمد أو الجهل أبدا على القول بوجوب إزالة النجاسة، وندبا في الوقت مع العجز أو النسيان أو العمد على القول بالسنية، وفي الوقت على القول بالسنية مطلقا، أو عند العجز أو النسيان على القول بالوجوب، وإنما عفي عن يسير الدم؛ لأن الإنسان لا يكاد يسلم منه؛ لأن بدن الإنسان كالقربة المملوءة ماء وهي لا تسلم غالبا من رشحوقد قال خليل: وعفي عما يعسر، وأما نحو البول أو المني فيجب غسل قليله ككثيره وإليه الإشارة بقوله: "وقليل كل نجاسة غيره" أي الدم "وكثيرها سواء" في وجوب الغسل ولو كرءوس الإبر"و" مما يعفى عنه لمشقة الاحتراز عنه "دم البراغيث" أي خرؤها ومثلها القمل والبق والبعوض. "ليس عليه غسله" لا وجوبا ولا ندبا "إلا أن يتفاحش" بحيث يستحي أن يجلس به بين أقرانه فيستحب له غسله، إلا أن يطلع على ذلك في حال الصلاة فلا يندب غسله إذ لا يقطع الفرض لمندوبقال خليل: وندب غسل ما يعفى عنه عند تفاحشه كدم براغيث إلا في صلاة، وفسرنا دم البراغيث وما ألحق بها بخرئها؛ لأن دمها الحقيقي كسائر الدماء يعفى عن يسيرها، ويجب غسل الكثير ولو من سمك وذباب"خاتمة" ذكر العلامة خليل ضابطا كليا لما يعفى عنه مما هو محقق النجاسة أو مظنونها بقوله: وعفي عما يعسر كحدث مستنكح وبلل باسور في يد أو ثوب إن كثر الدم، وثوب مرضعة تجتهد، ودون درهم من دم مطلقا، وقيح وصديد، وبول فرس لفار بأرض حرب وأثر ذباب من عذرة وموضع حجامة سطح وكطين مطر، وإن اختلف العذرة بالمصيب ولم تغلب وذيل امرأة مطال للستر ورجل بلت يمران بنجس يبس يطهران بما بعده وخف ونعل من روث دواب وأبوالها إن دلكا بغير الماء؛ لأن الخف والنعل والقدم والمخرجان وموضع الحجامة والسيف الصقيل يجزي فيها زوال النجاسة بغير الماءولما كانت سجدة التلاوة داخلة في حقيقة الصلاة لقول ابن عرفة في حقيقة الصلاة: قربة فعلية ذات إحرام وسلام أو سجود فقط. ذكرها في عقب الباب الجامع لأحكام الصلاة فقال:
* * *

"باب في" بيان مواضع "سجود القرآن"
ويترجم بسجود التلاوة وهي أولى من سجود القرآن؛ لأن التلاوة أخص من القراءة، لأن التلاوة لا تكون في كلمة واحدة، والقراءة تكون فيها، والسجود لا يكون إلا عند التلاوة لا عند مجرد قراءة كلمة أو اثنتين، ولم يتعرض لحكم السجود، وفيه خلاف، فقيل: سنة، وقيل: فضيلة، وتظهر ثمرة الخلاف في كثرة الثواب وقلته، وأما السجود في الصلاة فهو مطلوب على القولين خلافا لمن قصره على السنية، والمطلوب من السجود إيجاد ماهية السجود، وهي توجد في سجدة واحدة دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] في معرض الذم فيدل على طلبه، وأما السنة فما في الصحيحين أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فإذا مر بسورة فيها سجدة فسجدها سجدنا معه1 وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال: "إذا سجد الإنسان اعتزل الشيطان يبكي فيقول: يا ويلتاه أمر ابن آدم بالسجود فله الجنة، وأمرت أنا بالسجود فأبيت فلي النار" 2 وأجمعوا على مشروعيته عند قراءة القرآن ولو في حالة الصلاة، وإن استظهر بعض الشيوخ عدم كفر من أنكر مشروعيته؛ لأنه ليس مما علم حكمه بالضرورة، إذ لا تلازم بين الإجماع على مشروعيته وصيرورته معلوما للخاص والعام، واعلم أن الذي يؤمر بالسجود القارئ والمستمع والمعلم والمتعلم، أما القارئ فيسجد بشرط الصلاة من طهارة حدث وخبث وستر عورة واستقبال قبلة، وفي اشتراط البلوغ نزاع، والذي ارتضاه الأجهوري اشتراط البلوغوفي شرح شيخنا محمد: استحباب سجود الصبي وهو الذي يظهر لخطابه بما دون الواجبات والمحرمات، ولا يشترط في سجود القارئ صلاحيته للإمامة فيسجد الفاسق والمرأة، وأما المستمع فيسجد بشروط ثلاثة: أحدها أن يكون جلس ليتعلم القرآن أو أحكامه فلا يسجد الجالس لابتغاء الثواب عند الأكثر، كما أن السامع من غير قصد لا يسجد، ومنها أن يكون القارئ الذي جلس المستمع ليسمع قرآنا صالحا للإمامة بالفعل، فلا بد أن يكون متوضئا على ما جزم به اللخمي، واقتصر عليه أبو الحسن في شرح المدونة قال الأجهوري أو يؤخذ من هذا التقييد أن المستمع من العاجز يسجد، ولو كان المستمع قادرا لصلاحية العاجز عن ركن للإمامة لمثله، ويقتضي أن المستمع المكروه الإمامة يسجد، ومنها أن لا يكون القارئ جلس
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب من سجد لسجود القارئ، حديث "1075" ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة حديث "757"2 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، حديث "81"، وابن ماجه، حديث "1052".

ليسمع الناس حسن قراءته، فإذا وجدت هذه الشروط فيسجد المستمع ولو ترك القارئ السجود، وأما المعلم أو المتعلم فالظاهر أنهما يسجدان بشرط الصلاة كالقارئ، والمعلم والمتعلم يتكرر عليهما محل السجود فيسجدان أول مرة، ولما وقع خلاف في عدد السجدات، بين المشهور منه بقوله: "وسجدات القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء" والمراد بالمفصل ما كثر تفصيله بالبسملة لقصر سوره، وأوله على الراجح من الحجرات إلى آخر القرآن، فلا يسجد لقراءة النجم والانشقاق والقلمقال خليل: إلا ثانية الحج والنجم والانشقاق والقلم. "وهي" أي الإحدى عشرة سجدة "العزائم" أي الأوامر بمعنى المأمور بالسجود عند قراءتها، هكذا قال الأقفهسي، وقال زروق: العزائم جمع عزيمة وهي المتأكدةقال الأجهوري: وتظهر ثمرة الخلاف بين هذين التفسيرين في سجود غيرها من ثانية الحج والنجم ونحوهما مما لا يسجد له على المشهود، فعلى تفسير الأقفهسي: إن سجد عند شيء من هذه في صلاته بطلت صلاته إلا أن يكون مقتديا بمن يسجد لها، وعلى تفسير زروق لا تبطلولم يظهر لي وجه هذه التفرقة، بل الظاهر الاستواء في الحكم وهو بطلان سجود الساجد عمدا حيث لم يكن مقتديا بمن يرى السجود عندها، ويظهر أن معنى العزائم الأمور المطلوبة لا على وجه الرخصة؛ لأن العزيمة ما قابلت الرخصة، كقصر الصلاة وفطر المسافر ومسح الخف، فهذه الأفعال لا يقال لها عزائم، وإنما هي رخص جمع رخصة، وسميت بالعزائم للحث على فعلها خشية تركها وهو مكروه أولاها سجدة "في المص" الأعراف "عند قوله" تعالى: " {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} " وهو آخرها،
فإن قيل: قوله وهو آخرها غير متوهم فما باله نص عليه؟ فالجواب: نص إما لتنبيه الجاهل بأنه آخرها أو ليفرع عليه قوله: "فمن كان" في حال قراءة تلك السورة "في صلاة" فريضة أو نافلة أو قرأ آية السجدة، ولو مع تعمد قراءتها فإنه يسجدها، وإن كره تعمدها بالفريضة، بل وإن كان في وقت نهي حرمة كما قاله ابن الحاج؛ لأنها تبع للصلاة كسجود السهو المقبل "فإذا سجدها قام فقرأ" ندبا "من الأنفال أو غيرها ما تيسر عليه، ثم ركع وسجد" قال خليل: وندب لساجد الأعراف قراءة قبل ركوعه؛ لأن الركوع لا يكون إلا عقب قراءة،
فإن قيل : إذا كان كذلك فلا يختص هذا بمن قرأ سجدة الأعراف، فالجواب: أن سجدة الأعراف قد يتوهم فيها عدم جواز قراءة الأنفال أو غيرها، لما يلزم عليه من تعدد السورة في

ركعة واحدة، ومفهوم قول المصنف في صلاة: أنه لو قرأ سجدة الأعراف في غير صلاة كالتالي لحزبه مثلا لا يستحب له بعد السجود أن يقرأ من غيرها إلا بقصد التلاوة "و" ثانيتها: "في الرعد عند قوله تعالى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]" وفي هذه مدح الساجدين "و" ثالثتها: "في النحل عند قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} [النحل: 50]" أي عذاب ربهم {مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] فالفوقية فوقية قهر لاستحالة الحسية في حقه تعالى"و" رابعتها: "في بني إسرائيل" وهي سورة الإسراء عند قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] وفي هذه أيضا المدح للساجدين "و" خامستها: "في مريم" عند قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58] وفيه مدح للساجدين أيضا"و" سادستها: "في الحج أولها" بدل من الحج "عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]" ففيه ذم لمن لم يسجد ويستغنى عن قوله أولها بذكر الآية إلا أن يقال ذكرها للاحتراز عن التي في آخر السورة فإنه لا يسجد لها على المشهور كما قدمنا"و" سابعتها: "في الفرقان عند قوله تعالى: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60]" وفيه ذم للتاركين. "و" ثامنتها: "في" سورة "الهدهد عند قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26]" وفيه توحيد للباري سبحانه وتعالى"و" تاسعتها: "في الم تنزيل" السجدة "عند قوله تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]" وفيه مدح للساجدين. "و" عاشرتها: "في ص عند قوله: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24]" على المعتمد؛ لأن قوله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ} [ص: 25] كالجزاء على السجود، وهل يدل على تقديم السجود لتقدم السبب على المسبب؟ "وقيل" محله "عند قوله" تعالى: " {لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]" وفيه مدح أيضا. "و" حادي عشرتها: "في حم تنزيل" فصلت "عند قوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]" على المعتمد الذي ارتضاه خليل بقوله: وصاد وأناب وفصلت تعبدون، وهذا قول ابن القاسم، وما روي من السجود لغير هذه الإحدى عشرة فهو محمول على النسخ عند مالك، والذي استمر عليه عمل المصطفى عليه الصلاة والسلام الإحدى عشرة المذكورة، وإن صح أنه عليه الصلاة والسلام سجد عند قوله تعالى في النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] وأنها أول سجدة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرم وسجد معه المؤمنون والمشركون من الإنس والجن

سوى أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال: يكفي هذا، فإنه نسخ بدليل إجماع فقهاء المدينة وقرائها على ترك السجود فيها مع تكرر القراءة فيها ليلا ونهارا أو لا يجمعون على ترك سنةثم أشار إلى شرط السجود بقوله: "ولا يسجد" من يؤمر بالسجود "السجدة في التلاوة إلا على وضوء" أو بدله مع بقية شروط الصلاة؛ لأنها من جملة الصلاة، والطهارة شرط في صحة مطلق الصلاة، وتبطل بدونها ولو مع العجز أو النسيان، فإن قرأ سورة السجدة في وقت نهي أو على غير وضوء، فهل يحذف موضع السجود خاصة ك يشاء في الحج، وكالعظيم في النمل، أو يحذف الآية جملة تأويلان أشار إليهما خليل بالعطف على المكروه، وإلا فهل يجاوز محلها أو الآية تأويلان"و" صفة فعل السجدة أن "يكبر لها" عند الخفض والرفعقال خليل: وكبر لخفض ورفع ولو بغير صلاة، وقال في المدونة: ويكبر إذا سجدها وإذا رفع رأسه منها، وهذا في الصلاة اتفاقا، وفي غيرها فيه خلاف، والذي رجع إليه مالك التكبير في غير الصلاة أيضا، والظاهر أن حكم تكبيرها كتكبير الصلوات السنية، وفهم من كلامه إنه لا إحرام لها، وإنما يكبر عند خفضه ورفعهقال خليل : سجد بشرط الصلاة بلا إحرام، وسلام قارئ ومستمع فقط ومعلم ومتعلم، ومراد خليل بقوله: بلا إحرام أي زائد مع تكبير الخفض، بخلاف غيرها من الصلوات فلا ينافي أنه ينوي فعل السجدة عند خفضه لأنها عمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" 1 ومن قال بلا إحرام ولا نية لا يظهر كلامه، بل المنفي الإحرام المعروف بالنية مع رفع يدين وتكبيرة، فلا ينافي أنه لا بد من نية فعلها"و" إذا كبر عند فعل السجدة في الخفض والرفع "لا يسلم منها" بل يكره إلا أن يقصد الخروج من الخلاف فلا يكره. قال خليل في توضيحه: وفي النفس من عدم الإحرام والسلام شيء، ولما قدم ما يعلم منه طلب التكبير ذكر مقابله بقوله: "وفي التكبير في" حال "الرفع منها سعة وإن كبر فهو أحب إلينا" يحتمل أن هذه إشارة إلى أحد الأقوال، وهو أنه مخير في التكبير وعدمه، وقوله: وإن كبر فهو أحب إلينا اختيار منه للمشهور الذي قدمناه من تكبيره للخفض
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، حديث "1"، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال-، حديث "1907"، وأبو داود، حديث "2201"، والترمذي، حديث "1647"، والنسائي، حديث "75"، وابن ماجه، حديث "4227".

والرفع وإن نسب غيره مالك أيضا" تتمة " لم يتعرض المصنف لما يقوله الساجد في حال سجوده، ولنذكره تتميما للفائدة فنقول: قال ابن جزي في قوانينه: ويسبح الساجد في سجوده أو يدعو، فقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد وكان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام" والضمير في تقبلتها راجع لمطلق السجدة لا سجدة التلاوة؛ لأن سجدة داود لم تكن سجدة تلاوة كما قد يتوهمولما كان فعل السجدة مطلوبا حتى في الصلاة قال: "ويسجدها" أي سجدة التلاوة كل "من قرأها" ولو كان "في الفريضة" فذا كان أو إماما، لكن يطلب منه الجهر بها في الصلاة السرية ليعلم الناسقال خليل: وجهر إمام السرية، فإن لم يجهر وسجد تبعه مأمومه عند ابن القاسم؛ لأن الأصل عدم السهو، فإن لم يتبعه المأموم لم تبطل صلاته، وظاهر قوله: ويسجدها من قرأها في الفريضة، ولو تعمد قراءتها وهو كذلك، فإنه يؤمر بسجودها وإن كره له تعمد قراءتها في الفريضة، ويسجدها في الصلاة ولو كان الوقت لا تحل فيه النافلة كما قدمناه. "و" كذا يسجدها من قرأها في صلاة "النافلة" بالأولى من سجودها في صلاة الفريضة لعدم كراهة تعمد قراءتها في النافلة، وإنما كره تعمدها بالفريضة؛ لأنه إن لم يسجد يدخل في الوعيد، وإن سجد يزيد في سجود الفريضة، على أنه ربما يؤدي إلى التخليط على المأمومين" تنبيهات " الأول : مفهوم فريضة ونافلة أنه لو قرأها في حال الخطبة لا يسجد لما فيه من الإخلال بنظام الخطبة، وحكم الإقدام على قراءتها فيها الكراهة كما يكره تعمدها بالفريضة، وإن وقع أنه سجد في الخطبة لم تبطل، وإن نهى عن السجود فيها، وما ورد من نزوله عليه الصلاة والسلام وسجوده فلم يصحبه عمل وهو يدل على نسخهالثاني: لو سها المصلي عن السجود عقب قراءتها، فإن كان التجاوز يسيرا كالآية ونحوها سجد من غير إعادة قراءتها ولو كان في غير صلاة، وإن جاوزها بكثير رجع إليها فقرأها ثم سجد ورجع إلى حيث انتهى من القراءة، وسواء من في صلاة أو غيرها، لكن من في صلاة يعود لقراءتها ولو في الفرض ما لم ينحن، فإذا انحنى للركوع لا يرجع منه وتفوت السجدة في الفرض ولا يقرؤها في الركعة الثانية لكراهة تعمدها بالفريضة، ويستحب في صلاة النفل فعلها في الركعة الثانية، ولكن اختلف هل يسجدها قبل قراءة أم القرآن فتقدم بسببها، أو بعد قراءتها ثم يقوم بعد السجود يقرأ السورة قولان.

الثالث : إذا كان القارئ للسجدة إماما وتركها فإن المأموم يتركها وما تقدم من السجود، ولو ترك القارئ هذا في المستمع في غير صلاة، وإن سجدها المأموم دون إمامه فإن كان عمدا أو جهلا بطلت صلاته وأما سهوا فلا، لحمل الإمام لسهوه اليسير، كما أنه لا تبطل صلاة المأموم بترك السجود خلف إمامه الساجد ولو عمدا في الإحدى عشرة المشهورة، ولكنه أساء بعدم تبعيته الإمام، ولما كان القارئ يسجدها في الصلاة، ولو في وقت النهي؛ لأنها تبع للصلاةشرع في وقت سجودها لغير المصلي بقوله: "ويسجدها من قرأها" في غير صلاة ولو "بعد الصبح ما لم تسفر الشمس" أي يظهر الضوء، وتسفر بالسين المهملة؛ لأنه من الإسفار وهو الضوء"و" سجدها "بعد" أداء فرض "العصر ما لم تصفر الشمس" على الجدران، قال خليل: وجاز جنازة وسجود تلاوة قبل إسفار واصفراروفي المدونة: يسجدها بعد الصبح والعصر ما لم يحصل إسفار واصفرار؛ لأنها سنة مؤكدة ففارقت النوافل المحضة، ومثلها صلاة الجنازة كما تقدم عن خليلقال الفاكهاني : وتفعل في كل وقت من ليل أو نهار ما عدا وقتين: أحدهما متفق على المنع فيه، وهو إذا اصفرت الشمس بعد العصر حتى تغرب، وبعد الإسفار إلى أن تطلع الشمس وترتفع قيد رمح، والمختلف فيه بعد صلاة الصبح والعصر، والمشهور ما قدمناه من الجواز قبل الاصفرار ا هـ كلام الفاكهاني، وفي قوله: المتفق على المنع فيه إلخ تأمل، إذ الممنوع على المشهور إنما هو عند الغروب أو الطلوع، وأما عند الاصفرار أو الإسفار فالحكم الكراهة كما هو صريح عبارة خليل فافهم، إلا أن يكون مراد الفاكهاني المنع ما قابل الجواز فلا ينافي الكراهة في الإسفار" تتمة ": قد ذكرنا فيما سبق أن المعلم والمتعلم يخاطبان بالسجود؛ لأنهما لا يخرجان عن القارئ والمستمع، ولكن قد يقرأ القارئ المتعلم على المعلم سورا كثيرة في مجلس واحد، ووقع الخلاف في سجوده مرة أو يتعدد بتعدد السور، والمشهور منه أنهما يسجدان أول مرة، ولو كرر المتعلم سورا، وأما لو تعدد المتعلم والمعلم واحد فلا إشكال في سجود جميع المتعلمين كل واحد سجدة؛ لأن سجود زيد لا يغني عن سجود عمرو، وأما المعلم فإنه يسجد مع المتعلم الأول حيث قرأ ما بعد الأول السورة التي قرأها الأول، وإن قرأ الثاني غير سورة المتعلم الأول ففي سجود المعلم مع الثاني خلاف، وأما غير المعلم والمتعلم ممن له حزب يقرؤه كل ليلة مثلا فقال المازري: فيه أصل المذهب تكرير السجود عليه، والمراد بالحزب الورد الذي اعتاد قراءته لا الحزب المعروف الذي هو من تجزئة ستين.

"باب في" صفة "صلاة" الفرض في زمن "السفر"
لأن السفر ليس له صلاة تخصه، والمراد به هنا قطع مسافة مخصوصة على وجه مخصوص لقصد شرعي، فلا يقصر المسافر سفرا منهيا عنه، وأما في اللغة فهو مشتق من السفر وهو الظهور والكشف، يقال: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته وأظهرته، سمي بذلك؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ويكشفها، قال عمر رضي الله عنه لمن أراد أن يزكي رجلا عنده: هل سافرت معه؟ وأشار إلى بيان المسافة المخصوصة بقوله "ومن سافر" أي شرع في سفر "مسافة أربعة برد" ذهابا مقصودا قطعها دفعة واحدة ولو قطعها في أقل من يوم وليلة بنحو طيران؛ لأن النظر في الشرع للمسافة، والبرد بضم الباء جمع بريد وقدره أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال ولذلك قال: "وهي" أي الأربعة برد "ثمانية وأربعون ميلا" هاشمية سواء كانت في بر أو بحر أو بعضها في البر والبعض الآخر في البحر، سواء تقدم البر أو البحر، وللبعض تفصيل انظره في شرح خليل، واختلف في قدر الميل فقيل ألفا ذراع وشهره بعضهموقيل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع وصححه ابن عبد البر، والذراع ما بين طرفي المرفق إلى آخر الأصبع المتوسط وهو ستة وثلاثون أصبعا كل أصبع ست شعيرات بطن إحداهما إلى ظهر الأخرى كل شعيرة ست شعرات من شعر البرذون، وهذا بيان لأقل المسافة التي تقصر فيها الصلاة وحدها بالزمان سفر يوم وليلة بسير الحيوانات المثقلة بالأحمال المعتادة، وهذا الذي ذكره المصنف هو قول مالك الذي رجع إليه المشهور، وعن الإمام أيضا أنه يقصر في خمسة وأربعين ميلا، وقال ابن الماجشون: يقصر في أربعين، وجواب من سافر إلخ "فعليه أن يقصر" بفتح المثناة التحتية وسكون القاف وضم الصاد "الصلاة" الرباعية الوقتية أو الفائتة فيه على جهة السنية، والمراد بقوله فعليه المتأكد لا الوجوب الحقيقي خلافا لبعضهم فإن ابن رشد أنكرهقال خليل: سن لمسافر غير عاص به ولاه أربعة برد ولو ببحر ذهابا قصدت دفعة قصر رباعية وقتية أو فائتة فيه أو نوتيا بأهله، والدليل على السنية قوله صلى الله عليه وسلم: "في القصر صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 1 فهذا صريح في عدم الوجوب، وقال عليه الصلاة والسلام: "خيار
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث "686"، وأبو داود، حديث "1199"، والترمذي، حديث "1433"، وابن ماجه "1065".

عباد الله الذين إذا سافروا قصروا"1 ثم فسر القصر بقوله: "فيصلي" الرباعية الحاضرة أو الفائتة في السفر "ركعتين إلا المغرب فلا يقصرها"؛ لأنها لو قصرت صارت ركعة ونصفا ولم يعهد في الشرع، وإن كملت كتكميل طلقة العبد صارت شفعا فيفوت غرض الشارع من جعلها وترا، ومفهوم أربعة برد أن من سافر أقل منها لا يسن في حقه القصر، وليس على إطلاقه بل في مفهومه تفصيل محصله أن نحو المكي والمنوي والمزدلفي يسن في حقهم قصر الصلاة في حال خروجهم لعرفة للنسك فقط ورجوعهم منها، وأما غير هؤلاء فلا يسن في حقهم القصر في أقل من أربعة برد، ولكن إن قصر في خمسة وثلاثين ميلا فأقل لم تصح صلاته وتعاد أبدا، وإن قصر في أربعين ميلا فصحيحة ولا تعاد ولا في الوقت، وإذا قصر فيما بين الأربعين والخمسة وثلاثين ففي إعادته في الوقت وعدمها قولان هكذا فصل ابن رشدوفي التوضيح: أن من قصر في ستة وثلاثين يعيد أبدا ولعله طريقة لغير ابن رشد وتفصيل ابن رشد في الصلاة، وأما في الفطر في رمضان فلا يجوز إلا لمن سافر أربعة برد. قال العلامة الأجهوري: ولعل الفرق مشقة الصلاة بتكررها بخلاف الصوم. "تنبيه": من سافر وبه مانع كحيض أو كفر ثم زال في أثناء المسافة انتظر ما بقي منها، فإن كان أربعة برد قصر وإلا فلا، قاله الأجهوري وغيرهثم بين مبدأ القصر بقوله "ولا يقصر" أي لا يصح قصر المسافر "حتى يجاوز" أي يتعدى "البلدي بيوت المصر وتصير خلفه ليس بين يديه ولا بحذائه منها شيء" قال خليل: إن عدى البلدي البساتين المسكونة المتصلة أو ما في حكمها كالبساتين التي يرتفق أهلها ومساكنها بمرافق المتصلة من أخذ نار وطبخ وخبز وما يحتاج إلى شرائه، والمراد بالمسكونة ما تسكن ولو في بعض الأحيان، لأن اعتبار مجاوزتها أولى من اعتبار مجاوزة البناء الخراب الخالي من السكان فإنه لا يقصر حتى يجاوزه، ومثل البساتين في اعتبار المجاوزة القريتان إذا اتصلتا أو اشتد قربهما بحيث يرتفق أهل كل واحدة بأهل الأخرى فلا يقصر المسافر من إحداهما حتى يجاوز الأخرى وينفصل عن القريتين، لا إن بعدت إحداهما من الأخرى أو كان بينهما عداوة بحيث لا يرتفق أهل إحداهما بالأخرى فلا يعتبر في قصر المسافر من إحداهما مجاوزة الأخرى، وأما المزارع والبساتين المنفصلة حقيقة وحكما فلا يشترط مجاوزتها، وظاهر كلام
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه الطبراني في الأوسط "6/334"، وعبد الرزاق في مصنفه "2/566" والشافعي في مسنده "1/25" وانظر: ضعيف الجامع "2872".

المصنف كانت بلد جمعة أو غيرها على مشهور المذهب، وروى مطرف وابن الماجشون عن الإمام مالك رضي الله عنه: إن كانت قرية جمعة لا يقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال من سور البلد وإلا فمن آخر بنيانها ووجه هذا القول أن الجمعة كما تلزم من كان داخل الثلاثة أميال، فكذلك لا يقصر حتى يجاوزها؛ لأنه في حكم الحاضر، ومحل الخلاف في الزائد على البساتين للاتفاق على اعتبار مجاوزة البساتين، وأما القرية
التي لا بساتين لها فيقصر بمجرد انفصاله عن بنائها، ولا يشترط مجاوزة غيطها ومزارعها، والجبلي يقصر بمجرد انفصاله عن منزله، والعمودي بمجاوزته محلته بكسر الحاء منزل إقامته، وأما لو تفرقت بيوتها فلا بد من مجاوزة الجميع حيث جمعهم اسم الحي والدار، أو اسم الدار فقط، أو اسم الحي حيث كان يرتفق بعضهم ببعض، وإلا قصر بمجرد انفصاله عن منزله" تنبيهان " الأول : بقي من شروط القصر قصد قطع المسافة دفعة واحدة كما نبهنا عليه في المزح، لا إن نوى إقامة أربعة أيام صحاح في خلالهما أو لا نية له بقطع ولا إقامة فلا يقصر، ولذلك لا يقصر الراعي ولا التائه ولا الهائم، ومن الشروط كون السفر غير منهي عنه كما نبهنا عليه، فلا يقصر العاصي ولا اللاهي، فإن قصر فعند ابن ناجي أساء وصلاته صحيحة، وقال اللقاني. إن كان عاصيا بسفره يعيد أبدا، وإن كان سفره مكروها يعيد في الوقت. وأما العاصي في سفره فلا نزاع في جواز قصره، ومن الشروط أن لا يعدل عن مسافة قصيرة إلى طويلة لغير عذر، ومن الشروط أيضا أن لا يقتدي بمقيم أدرك معه ركعة فأكثر وإلا امتنع، وليس من الشروط البلوغ على ما يظهر؛ لأنه لم ينص أحد على التصريح باشتراطه، وإنما وقع البحث لبعض الشيوخ في ذلك، والذي يظهر جواز القصر حتى للصبيان؛ لأن رخصته شرعت للتخفيف عن المسافر، والصبي المسافر أولى بالتخفيف من البالغ، وأيضا الرباعية فرض على البالغ وحط عنه شطرها، ومندوبة في حق الصبي، فكيف يحط شطر الواجب دون المندوب؟ وأيضا قال القرافي: وألحق خطاب الصبيان بغير الفرائض والمحرمات، وإن قيل: الرخصة مختصة بالبالغ، نقول: يرده إباحة الميتة للمضطر فإنه لم يقل أحد فيما نعلم بحرمتها على الصغير المضطر وحرر الحكمالثاني : حكم السفر الإباحة وقد يعرض له الوجوب كالسفر لحجة الإسلام من المستطيع، وكسفر الغزو في حق الذكر القادر، وقد يعرض له الندب كالسفر لزيارة صالح أو طلب علم غير واجب، وقد تعرض له الحرمة كالسفر لقطع الطريق، وقد تعرض كراهية كالسفر لصيد اللهو

والإباحة كالسفر لتحصيل الربح لتكثير الأموال من غير قصد قربة به، وهذه الأقسام في سفر الطلب، وأما سفر الهرب كالسفر من البلد الذي يكثر فيه الحرام بحيث لا يسلم منه الساكن، وكالسفر من بلد يحصل له فيه الإهانة مع كونه من ذوي الفضل أو تسب فيه الصحابة أو غير ذلك فحكمه الوجوبولما بين محل بدء القصر في حال الخروج شرع في بيان منتهاه في الرجوع فقال: "ثم" بعد مجاوزة ما يشترط مجاوزته من بساتين المصر وما في حكمها يستمر يقصر و "لا يتم حتى يرجع إليها" أي في بيوت المصر التي سافر منها ويدخلها بالفعل "أو يقاربها بأقل من الميل" فإن دخلها أو قاربها بأقل من الميل وجب عليه الإتمام، لأن دخول بلد المسافر يقطع حكم السفر ولو غلبةقال خليل رضي الله عنه : وقطعه دخول بلدة وإن بريح غالبة فعلى هذا يختلف حال ابتداء القصر من انتهائه، وكلام المصنف ككلام المدونة وهو المعول عليه، خلافا لكلام العلامة خليل التابع لابن الحاجب في قوله: منتهاه في الدخول كابتدائه في الخروج فإنه قال: سن لمسافر قصر رباعية إن عدى البلدي البساتين المسكونة إلخ إلى محل البدء، وأجاب بعض الشراح عنه بدعوى حذف في الكلام ويكون التقدير في قوله: إلى محل البدء أي إلى مثل محل البدء، ويكون إشارة إلى بيان منتهاه بالنسبة إلى البلد الذي سافر إليه لا الذي خرج منه بل يكون ساكتا عنه، والحكم فيه أنه إذا رجع إلى بلده يستمر يقصر حتى يدخل بالفعل أو يقارب كما قال المصنف والمدونة، وعلى هذا يكون المصنف سكت عما بينه ابن الحاجب وخليل وهو منتهاه بالنسبة للبلد الذي سافر إليه وهو البساتين إن كان للبلدة التي يريد دخولها بساتين، أو دخول بيوتها إن كانت قرية، أو الوصول إلى الحلة في حق العمودي، فالحاصل أن المنتهى يختلف فيه المحل الذي سافر منه والذي سافر إليه، فالذي سافر إليه المنتهى كالمبتدأ، وأما الذي خرج منه فمنتهاه دخول البلدة أو مقاربتها كما قال المصنف، واستشكل ابن عمر لفظ المصنف وذلك؛ لأن أول الكلام يحمل الداخل في أقل من الميل مسافرا، وآخر الكلام يجعله فيه مقيما، وهذا لا شك في أنه تناقض، واختلف الناس في الجواب فقال بعضهم: هو إشارة إلى قولين وهو جار على قاعدة المصنف المعروفة له من إتيانه بأو إشارة إلى الخلاف، وقال بعضهم: استمرار القصر إلى الدخول في حق من استمر سائرا ولم ينزل، والإتمام في حق من

نزل بقرب البلد بأقل من الميل؛ لأنه صار في حكم الداخل بالبلد، وأجاب ابن عمر المستشكل بأن قوله: أو يقاربها تفسير لقوله: حتى يرجع، وكأنه قال: يستمر يقصر حتى يقارب بيوت المصر بأقل من الميل، وتظهر ثمرة الخلاف فيمن نزل خارج البلد بأقل من الميل وعليه العصر مثلا ولم يدخل البلد حتى غربت الشمس، فعلى الأول يأتي بها سفرية، وعلى الثاني يأتي بها حضرية، والظاهر أن الدخول في البساتين المسكونة أو ما في حكمها كالدخول في البلد، والقرب منها كالقرب من البلد بناء على أنها لا تعد من المسافة على ما ارتضاه ابن ناجي، خلافا لشيخه في عدها من المسافة، وكان الأجهوري يقرر في درسه أن الصواب كلام ابن ناجي قائلا: لا معنى لعدها من المسافة مع اشتراط مجاوزتها لجواز القصر، بل اشتراط مجاوزتها مبني على خروجها من المسافة وجعلها من جملة البلد، وأطلنا في ذلك لداعي الحاجةثم شرع في بيان ما يقطع حكم السفر بقوله: "وإن نوى المسافر" في أثناء سفره "إقامة أربعة أيام" صحاح بلياليها "بموضع" ليس وطنا له أتم صلاته، وأما الوطن فيجب الإتمام بدخوله ولا يتوقف على نية إقامة، ومثله المحل المعتاد لإقامة أربعة أيام به فأكثر كمكة للحاج فإنه يجب الإتمام بمجرد دخولها"أو" أي وكذا إن نوى إقامة "ما يصلي فيه عشرين صلاة أتم الصلاة" جواب إن نوى، وقوله: أو ما يصلي إشارة إلى طريق سحنون، وقوله أولا: وإن نوى إشارة إلى طريق شيخه ابن القاسم، فابن القاسم يعتبر الأربعة أيام، فإن نوى إقامة أربعة أيام أو ما يصلي فيه العشرين صلاة يلزمه الإتمام. "حتى يظعن" بالظاء المشالة أي يرتحل "من مكانه ذلك" الذي نوى فيه المدة المذكورةقال خليل : وقطعه دخول بلده وإن بريح غالبة أو مكان زوجة دخل بها فقط ونية دخوله وليس بينه وبين المسافة ونيته إقامة أربعة أيام صحاح ولو بخلاله إلا العسكر بدار الحرب أو العلم بها عادة لا مجرد الإقامة من غير مقاربة النية المذكورة. " تنبيه ": علم من اعتبار الصحة في الأيام إلغاء المكث الذي دخل فيه، ولكن لا يلزم من إلغائه وعدم تلفيقه مع غيره عدم الإتمام به، كمن حلف لا يكلم زيدا أربعة أيام صحاح وهو في أثناء يوم، فإنه يجب عليه ترك كلامه من وقت الحلف حتى تمضي الأيام الصحاح الزائدة على يوم الحلف. " فرع " لو نوى الإقامة وشك هل هي أربعة أو أقل منها؟ فإن كان في منتهى سفره أتم على ما ذكره ابن عرفة؛ لأن نهاية السفر محل للإقامة، وإن كان شكه المذكور في أثناء سفره فإنه لا يقطع حكم السفر ويستمر على القصر.

ثم شرع يتكلم على مسائل أربعة متعلقة بالصلاة في حال الخروج والدخول، وبيان كونهما أربعا إن مريد السفر إما أن يخرج للسفر نهارا قبل فعل المشتركتين، وإما أن يدخل للحضر نهارا قبل فعلهما، وإما أن يخرج ليلا قبل فعل المشتركتين، أو يدخل ليلا قبل فعلهما فقال: "ومن خرج" مسافرا "و" الحال أنه "لم يصل الظهر والعصر و" الحال أنه "قد بقي من النهار قدر ثلاث ركعات" فأكثر "صلاهما سفريتين" ولو كان أخرهما عمدا للقصر لكن يأثم بالتأخير عمدا، وإنما قصرهما للسفر في وقتهما، وأشار إلى مفهوم ثلاث بقوله: "فإن" لم يسافر حتى "بقي قدر ما يصلي فيه ركعتين أو ركعة صلى الظهر حضرية" لخروج وقتها "و" صلى "العصر سفرية" للسفر في وقتها، ويجب تقديم الظهر على العصر لوجوب الترتيب بين الفائتة اليسيرة والحاضرة وإن خاف خروج وقت الحاضرة، وهذه مسألة الخروج نهارا، وأشار إلى مسألة الدخول نهارا بقوله: "ولو دخل" المسافر وطنه "لخمس ركعات" فأكثر قبل الغروب وعليه الظهر والعصر حالة كونه "ناسيا لهما" أو عامدا "صلاهما حضريتين" لإدراك الأولى بأربع ويفضل للثانية ركعة، فقول المصنف ناسيا وصف طردي غير معتبر المفهوم، وأشار إلى مفهوم الخمس بقوله: "فإن كان" الدخول إنما وقع "بقدر" ما يسع "أربع ركعات فأقل إلى ركعة" قبل الغروب "صلى الظهر سفرية" لأنها ترتبت عليه في السفر فيقضيها على صفة ما فاتته. "و" صلى "العصر حضرية" لإدراك وقتها. ولما بين حكم النهاريتين في حال الخروج والدخول، وعلم أن التقدير في الخروج بالسفريتين وفي الدخول بالحضريتينشرع في حكم الليلتين بقوله: "وإن قدم" المسافر لوطنه "في ليل و" الحال أنه "قد بقي للفجر ركعة فأكثر فيما يقدر و" الحال أنه "لم يكن صلى المغرب والعشاء" ولو كان أخرهما عمدا "صلى المغرب ثلاثا" لعدم قصرها "و" صلى "العشاء حضرية" لقدومه في وقتها. قال سيدي يوسف بن عمر: اختلف في هذا التقدير هل يراعي قبله تقدير الطهارة إن لم يكن متطهرا أم لا؟ ا هـ لفظه. وقال الأجهوري في شرح خليل: واعلم أنه يقدر الطهر في مسألة الحاضر إذا سافر والمسافر إذا قدم عند اللخمي والقرافي وأبي الحسن. قال ابن عرفة: وهو خلاف ظاهر الروايات ا هـ، وأقول: والذي ينبغي اعتبار تقدير الطهر عند التأخير نسيانا لا على وجه العمد؛ لأن الطهر إنما يقدر لذوي الأعذارقال خليل : والمعذور غير كافر يقدر له الطهر، ثم ختم الباب بالمسألة الرابعة فقال: "ولو خرج" للسفر "و" الحال أنه "قد بقي من الليل" ما يسع "ركعة فأكثر صلى المغرب ثلاثا وصلى

العشاء سفرية"؛ لأنه سافر في وقتها والوقت إذا ضاق اختص بالأخيرة، ولو راعى المصنف المناسبة لقدم مسألة الخروج في الليليتين على مسألة الدخول كما فعل في النهاريتين؛ لأنه عكس في الليليتين. "خاتمة" يستحب لمن كان مسافرا وله أهل أن يعجل الأوبة لما تقرر من أن السفر قطعة من العذابقال خليل: وندب تعجيل الأوبة والدخول ضحى؛ لأنه أبلغ في السرور، ويكره الدخول ليلا والدليل على ذلك خبر: "السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وشرابه وطعامه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهته فليعجل إلى أهله ولا يطرقهم ليلا كي تستحد المغيبة وتمشط الشعثة ولئلا يجد في بيته ما يكره" 1 وقد اقتحم النهي رجلان فوجد كل في بيته رجلا، والنهمة بفتح النون وسكون الهاء بلوغ المراد، والوجهة جهة سفره، ويستحب له استصحاب هدية معه وتكون بقدر حاله. ولما كان بين صلاة السفر والجمعة مناسبة من حيث الصورة، ناسب ذكر الجمعة عقب صلاة السفر بقولهـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب السفر قطعة من العذاب، حديث "1804" ومسلم، كتاب الإمارة، باب السفر قطعة من العذاب، واستحباب تعجيل المسافر -، حديث 1927، وابن ماجه، حديث "2882".

"

باب في بيان حكم صلاة الجمعة
"
وهي بضم الميم على أشهر لغاتها وبه قرئ وبالسبع، ويجوز إسكانها وفتحها وبهما قرئ في الشواذ، ولغة رابعة بكسر الميم سميت بذلك لوجوب اجتماع الناس فيها، وقيل: لاجتماع أجزاء آدم في يومها، وقيل:؛ لأن آدم اجتمع مع حواء في يومها وأول من سماها جمعة قصي فإنه جمع قريشا في يومها وقال: هذا يوم الجمعة، وقيل: أسعد بن زرارة؛ لأنه جمع فيه أربعين رجلا وصلى بهم الجمعة وقال: هذا يوم الجمعة، وهو أول من جمعها في بياضة لما أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير أميرا على المدينة وأمره بإقامتها فنزل على أسعد المذكور وكان أحد النقباء الاثني عشر فأخبره بأمر وأمره أن يتولى الصلاة بنفسه وهي أول جمعة أقيمت بالمدينة ويومها يوم عظيم، ففي الموطإ: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه" 2 والأكثر أن تلك الساعة باقية ما لم ترفع، ولكن اختلف في وقتها فقيل: إن الله أخفاها على العباد حتى نبينا عليه الصلاة والسلام ليجتهدوا في الدعاء،
ـــــــ
2 أخرجه مالك في الموطأ "1/108" حديث "241".

كما أخفى الرجل الصالح، وكما أخفى ليلة القدر، واستمر هذا إلا في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه لم يمت حتى أطلعه الله على ما أخفاه على غيره من المغيبات كما بيناه في العقيدة فراجعه إن شئت، وبالجملة فيوم الجمعة يوم عظيم الشأن خص الله به هذه الأمة، وأعطى النصارى يوم الأحد واليهود يوم السبت وفرضت بمكة ولم يصلها صلى الله عليه وسلم حينئذ، وصلاة الجمعة كما قال ابن عرفة ركعتان يمنعان وجوب الظهر على رأي ويسقطانها على آخر، فقوله: يمنعان وجوب الظهر أي على أنها فرض يومها والظهر بدل منها وهذا هو المعتمدوقوله: ويسقطانها على آخر أي بناء على أنها بدل من الظهر وهو شاذ، إذ لو كانت بدلا ما صح فعلها مع إمكانه ولذلك قال القرافي: والمذهب أنها واجب مستقل، وجمع الفاكهاني بين القولين ليزول الإشكال الحاصل من فعلها مع التمكن من الظهر على القول بالبدلية فقال: والحق أنها بدل المشروعية، والظهر بدل منها في الفعل، ومعنى كونها بدلا في المشروعية أن الظهر شرعت في ابتداء ثم شرعت الجمعة بدلا منها، ومعنى كونها بدلا في الفعل أنها إذا تعذر فعلها أجزأت عنها الظهر، فإضافة صلاة في كلامه من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم أو من قبيل الإضافة البيانية بناء على أن الاسم عين المسمىثم شرع في بيان حكمها بقوله: "والسعي" أي الذهاب "إلى" المسجد الجامع لأجل صلاة "الجمعة فريضة"؛ لأن شرط صحتها الجامع بخلاف غيرها من الفرائض، دل على فرضيتها الكتاب والسنة وإجماع الأمةأما الكتاب فقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]قال القرافي : والأمر للوجوب فهي فرض على الأعيان خلافا لمن قال على الكفاية، فالآية دلت على وجوب الخطبة لقوله: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة: 9] والأذان لها، وتحريم البيع والشراء، وحرمة الانفضاض من خلف الإمام؛ لأن الله تعالى عاتب الذين انفضوا من خلفه عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة: 11] وذلك لما أقبلت القافلة من الشام خرجوا إليها وتركوه عليه الصلاة والسلام قائما يخطب، قيل: لم يبق معه إلا اثني عشر وهم الصحابة العشرة والحادي عشر بلال، واختلف في الثاني عشر فقيل عمار بن ياسر وقيل ابن مسعود:
واللهو هو النظر إلى صورة دحية بن خليفة الكلبي؛ لأنه كان من أجمل الناس وكان أقبل مع القافلة، ودلت الآية أيضا على طلب القيام في الخطبةوأما السنة فما رواه أحمد ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون

عن الجمعة بيوتهم" 1. وأما الإجماع فقال الفاكهاني: لا خلاف بين الأئمة في وجوب الجمعة على الأعيان، وبين زمن السعي لها بقوله "وذلك" أي السعي يكون "عند جلوس الإمام على المنبر" بكسر الميم وفتح الموحدة "و" الحال أنه "أخذ" بصيغة الماضي بمعنى شرع "المؤذنون في الأذان" وفي بعض النسخ بصيغة المصدر وجر المؤذنين بالإضافة وهو معطوف على "جلوس" بحيث لا يفرغ الأذان إلا عند اجتماع من تنعقد به الجمعة، فيحمل كلام المصنف على من قربت داره جدا بحيث يصل الساعي لها قبل فراغ الأذان كما علمت، وأما من بعدت داره فيجب عليه السعي من الزمان الذي إذا سعى فيه يدرك أول الخطبة إذا لم يكن ثم من تنعقد به سواه؛ لأن حضور من تنعقد به يجب أن يكون من أولها، فقول بعض الشراح: يؤخذ من كلام المصنف عدم وجوب حضور الخطبة من أولها غير مسلم بالنسبة لجميع المخاطبين بحضورها، وإنما يصح في الزائد على من تنعقد به كما بينا، فيتعين فهم كلام المصنف عليه، نعم يؤخذ من كلامه جواز أذان الجماعة واحدا بعد واحد وهو المشهور، كما يؤخذ منه جواز اتخاذ المنبر بل هو مستحب للخلفاء وجائز لغيرهم، والمندوب في حق من يخطب على الأرض وقوفه على يسار المحراب واستحب بعض الوقوف على يمينه، وقال الإمام مالك: وكل ذلك واسعولما كان للجمعة أذانان وأحدهما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم شرع في بيان كل بقوله: "والسنة المتقدمة" التي كانت تفعل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن يصعدوا" أي المؤذنون "حينئذ" أي حين جلوس الخطيب على المنبر "على المنار" فإذا ارتقوا عليه "فيؤذنون" على قول مالك وابن القاسم وابن حبيب وابن عبد البر وغيرهم وهو الصحيح. قال ابن حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد رقى المنبر فجلس ثم يؤذن المؤذنون وكانوا ثلاثة يؤذنون على المنار واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وكذا في زمن أبي بكر وعمر، ثم لما كثرت الناس أمر عثمان بإحداث أذان سابق على الذي كان يفعل على المنار، وأمرهم بفعله بالزوراء عند الزوال وهو موضع بالسوق ليجتمع الناس ويرتفعوا من السوق فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار، ثم إن هشام بن عبد الملك في زمن إمارته على المدينة أمر بنقل الأذان الذي كان على المنار بأن يفعل بين يديه عند جلوسه على المنبر، فصار الأمر إذا خرج
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف، حديث "652"، وأحمد 1/394"، حديث "3743".

هشام وجلس على المنبر أذن المؤذنون كلهم بين يديه فإذا فرغوا خطب؛ ولهذا قال ابن الجلاب: ولها أذانان أحدهما عند الزوال1 والآخر عند جلوس الإمام على المنبر، والثاني منهما آكد من الأول وعنده يحرم البيع والشراء. ومقابل الصحيح أن الآذان كان بين يديه صلى الله عليه وسلم فتلخص أن الأذان كان في زمانه عليه الصلاة والسلام واحدا، وإنما اختلف هل كان على المنار وهو الصحيح وهو صريح كلام المصنف، أو كان بين يديه صلى الله عليه وسلم؟ والمراد بالمنار في كلام المصنف موضع الأذان ولو لم يكن على صورته الآن. قال سيدي يوسف بن عمر ما معناه: محل تأخير صعود المؤذنين لجلوس الإمام على المنبر إذا كان المنار قريبا من الأرض، وأما إن كان بعيدا فإنهم يصعدون المنار أولا ثم يرقى الإمام المنبر ولكن لا يؤذنون؛ لأن الشرط الذي قدرناه غير جازم، واندفع به الاعتراض على المصنف في ثبوتها من توهم عطف "يؤذنون" على
ـــــــ
1 الزوال لغة : الحركة والذهاب والاستحالة والاضمحلال. وزال الشيء عن مكانه، وأزال غيره ويقال: رأيت شبحا ثم زال، أي تحرك. والزوائل: النجوم لزوالها من المشرق. والزوال: زوال الشمس، وزوال الملك ونحو ذلك مما يزول عن حاله. وزالت الشمس عن كبد السماء، وزال الظل. ولا يخرج معناه الشرعي عن معناه اللغويووردت الأحكام المتعلقة بالزوال في أماكن متعددة من كتب الفقه منها:
أ- وقت صلاة الظهر : أجمع العلماء على أن وقت صلاة الظهر يدخل حين تزول الشمس عن كبد السماء وهو ميل الشمس عن وسط السماء إلى جهة المغرب. فلو شرع المصلى في التكبير قبل ظهور الزوال ثم ظهر الزوال عقب التكبير أو في أثنائه لم يصح الظهرويعرف الزوال بزيادة الظل بعد تناهي نقصانه لأن الشمس إذا طلعت رفع لكل شاخص ظل طويل إلى جانب المغرب، ثم كلما دامت الشمس في الارتفاع فالظل ينتقص، فإذا انتهت الشمس إلى وسط السماء – وهي حالة الاستواء وانتصاف النهار – انتهى نقصان الظل ووقف، فإذا زاد الظل أدنى زيادة على الجهة الأخرى دل ذلك على الزوالقال النووي: إذا أردت معرفة زوال الشمس فانصب عصا أو غيرها في الشمس على أرض مستوية وعلم على طرف ظلها ثم راقبه فإن نقص الظل علمت أن الشمس لم تزل، ولا تزال ترقبه حتى يزيد فمتى زاد علمت الزوال. ويختلف قدر ما تزول عليه الشمس من الظل باختلاف الأزمان والأماكن، فأقصر ما يكون الظل عند الزوال في الصيف عند تناهي طول النهار، وأطول ما يكون في الشتاء عند تناهي قصر النهار. وأما بالنسبة للأماكن فكلما قرب المكان من خط الاستواء نقص الظل عند الزوالب- حكم السواك للصائم بعد الزوال : اختلف الفقهاء في حكم السواك للصائم بعد الزوال: فذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا بأس بالسواك للصائم في جميع نهاره أي قبل الزوال وبعد الزوال، للأحاديث الصحيحة الكثيرة في فضل السواك. وذهب الشافعية في المشهور عندهم والحنابلة على أنه يكره للصائم التسوك بعد الزوال سواء كان ذلك بسواك يابس أو رطب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" . والخلوف إنما يظهر غالبا بعد الزوال. انظر الموسوعة الفقهية "24/54".

"يصعدوا" المنصوب بأن، ولما كان الأذان الواقع بعد جلوس الخطيب على المنبر آكد؛ لأنه قيل بوجوبه قال: "ويحرم حينئذ" أي حين وقع الآذان والخطيب على المنبر، سواء وقع على منار كما في الزمن القديم أو بين يدي الإمام كما هو الآن "البيع والشراء" على كل من تجب عليه الجمعة مع مثله، أو مع من لا تجب عليه تغليبا لجانب الخطر، إلا من اضطر إليه كمن أحدث وقت النداء ولا يجد الماء أو الصعيد إلا بالثمن، فيجوز كل، من البيع والشراء إن كان المالك ممن لا يحرم عليه البيع كعبد أو صبيوأما إن لم يوجد الماء إلا مع من يحرم عليه وهو المخاطب بحضور الجمعة وجوبا فهل تتعدى إليه الرخصة ويجوز له البيع لضرورة المشتري؟ أو الرخصة قاصرة على المشتري؟ تردد في ذلك شيوخ ابن ناجي كالغبريني وغيره، وأقول: المأخوذ مما يأتي في بيع نحو العذرة من النجاسات عند الحاجة الشديدة ما يقتضي قصرها على المشتري، فراجع شراح خليل لقوله لا كزبل وزيت تنجس "و" لا مفهوم للبيع والشراء بل يحرم "كل ما يشغل عن السعي إليها" كالتولية والشركة والهبة والأخذ بالشفعة والصدقة والخياطة والحصاد والدراس والسفر في ذلك الوقت. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وأولى غيره؛ لأن البيع من الحاجات، فإذا نهى عنه نهى عن غيره بالأولى، وإذا وقع شيء من تلك المذكورات فإنه يفسخ كل ما فيه معاوضة مالية كالبيع والتوليةقال خليل : وفسخ بيع وإجارة وتولية وشركة وإقالة وشفعة بأذان ثان، لا نحو النكاح والهبة لغير الثواب والصدقة والعتق الناجز، وكذا الكتابة بناء على أنها عتق فلا يفسخ شيء من ذلك وإن حرم، وإذا فسخ فالفسخ بعد فواته في القيمة يوم قبضه. قال خليل بعد قوله: وفسخ بيع إلخ فإن فات فالقيمة يوم القبض كالبيع الفاسد لا نكاح وهبة وصدقة، ووقع خلاف فيما إذا وقع البيع أو غيره مما ينهى عنه بين شخصين في حال سعيهما للجمعة، فقيل يفسخ سدا للذريعة، وقيل لا؛ لأنه لم يشغلهما لما تقدم من أن الذي يفسخ العقد المحرم. وأما لو وقع بين صبيين أو عبدين أو عبد وصبي فلا سبيل لفسخه لعدم حرمته، ووقع الخلاف أيضا في فسخ البيع الواقع عند ضيق الوقت كشخصين عليهما الظهر والعصر ولم يبق للمغرب إلا قدر خمس ركعات في الحضر أو ثلاث في السفر، فقال القاضي إسماعيل وأبو عمران بالفسخ، وقال سحنون بعدمه، وصوبه ابن محرز وغيره وفرقوا بين الجمعة وغيرها بأن الجمعة لا تقضى بخلاف غيرها، وقيدنا السفر بوقت الأذان للاحتراز من السفر في غير ذلك الوقت، فإنه يجوز

قبل الفجر، وأما بعد الفجر وقبل الزوال فمكروه، فالسفر يوم الجمعة على ثلاث أقسام محلها ما لم يعلم أنه يدركها في طريقه كمروره بمحل جمعة، أو يكون له رفقة لا يستطيع التأخير عنهم للخوف على نفسه أو ماله إلا جاز له السفر بعد الزوال، ومعناه أن الرفقة لا تلزمهم جمعة وإلا حرم على الجميع السفر بعد الزوال. "وهذا الأذان الثاني" يعني الثاني في الإحداث وهو الأول اليوم في الفعل؛ لأنهم يفعلونه على المنار وبعد ذلك يعيدونه بين يدي الخطيب. "أحدثه بنو أمية" بالزوراء عند الزوال ولم يكن قبل ذلك إلا أذان واحد على المنار، ثم لما كثرت الناس أمر عثمان بإحداث أذان على الزوراء ليرتفع الناس من السوق ويحضرون المسجد وهو متقدم على الأذان فوق المنار، ثم لما تولى هشام بن عبد الملك بالمدينة أمر بنقل الذي على الزوراء إلى المنار والذي على المنار بين يديه واستمر العمل عليهقال ابن ناجي : ولو قال بدل بني أمية عثمان لكان أولى؛ لأنه أمس بالاقتداء، إن كان كان أمويا للتصريح باسمه لا سيما أنه أحد الخلفاء الأربعة، وسماه محدثا وهو سنة؛ لأن عثمان أحدثه، وليس المراد المحدث الذي يجب تركه، وإنما المراد أنه لم يكن في الزمن الأول، فلا ينافي أنه سنة؛ لأن فعل الصحابي وقول الصحابي من السنة، وأما الأذان الواقع بين يدي الخطيب الآن فهو ثان في الفعل وأول في المشروعية، فتلخص أن الذي أحدثه عثمان أول في الفعل وثان في المشروعية، والواقع بين يدي الخطيب ثان في الفعل وأول في المشروعية، والناقل له هشام بن عبد الملك فهو غير المحدث للثاني، وكل واحد منهما سنة مستقلة" تنبيهان " الأول : علم مما قررنا أن المصنف احترز بالسنة المتقدمة عن السنة المتأخرة وهي المشروعة من عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإن المحدث للأذان الأول اليوم الذي يفعل قبل الصعود على المنبر، فقوله: وهذا الأذان الثاني إشارة إلى السنة المتأخرة؛ لأن المراد بثانويته أنه ثان في المشروعية والإحداث وإن كان سابقا في الفعل، والحاصل أن الذي على المنار اليوم هو ما كان على الزوراء، والذي بين يدي الخطيب هو ما كان على المنار، ولما كان الأمر بنقله بين يدي الخطيب صادرا من هشام بن عبد الملك وهو ممن لا يقتدى به لكونه من الملوك كان مكروها وإن كان سنة، ولا تنافي بين السنة والكراهة؛ لأنه سنة من حيث إنه مشروع في الجملة والكراهة من حيث فعله في غير محله؛ لأن محله المنار، وإنما أطلنا في ذلك لزيادة الإيضاحالثاني : لم يتعرض المصنف لمنتهى وقت الجمعة، وإن فهم من كلامه أن أوله من الزوال كالظهر في الاختياري والضروري.

قال خليل : شرط الجمعة وقوع كلها بالخطبة وقت الظهر للغروب، وهل إن أدرك ركعة من العصر وصحح أولا روايتان، وممن قال إن وقتها كوقت الظهر الأجهوري، ويتوجه على كلام خليل ما تقرر من أن الوقت إذا ضاق يختص بالأخيرة وتصير الأولى فائتة يجب ترتيبها مع ما بعدها لا على وجه الشرطية، ولم ينص أحد على استثناء الجمعة مع العصر فيلزم على فعلها قبل الغروب على القول الثاني فعلها قضاء؛ لأنها تقدم على العصر؛ لأنها فائتة يسيرة مع أن الجمعة لا تقضى، فتأمل ذلك فإني لم أر من أفصح عن ذلك، ولما كانت صلاة الجمعة لا تختص بالأمصار قال: "و" صلاة "الجمعة تجب بالمصر" وجوب الفرائض العينية، والمصر هو البلد الكبير الذي به من يقيم الأحكام والحدود. "و" كذلك تجب بالقرى المتصلة البنيان ذات "الجماعة" وهذا مذهب مالك رضي الله عنه خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنها لا تجب إلا في الأمصار، وزاد بعض أصحابه أن يكون فيها إمام يقيم الحدود، ولا يشترط في القرى أن تكون مبنية بالطوب والأحجار، بل ولو كانت من أخصاص مصنوعة من خشب أو بوص ولذا قال خليل: شرط الجمعة وقوع كلها بالخطبة وقت الظهر للغروب، إلى أن قال: باستيطان بلد أو أخصاص لا خيم، وبجامع مبني متحد، فإن تعدد فالجمعة للعتيق، وإن تأخر أداء فلا تصح في المكان المحجر من غير بناء أو مبني بناء خفيفا أي دون المعتاد، وحقيقة الاستيطان نية الإقامة على التأييد مع الأمن على النفس والمال، وهو المراد بكون الجماعة تتقرى بها القرية، والحاصل أنه لا بد للجمعة من شروط صحة ويقال لها شروط أداء، وحقيقتها كل ما تتوقف عليه الصحةوشروط وجوب وهي كل ما يتوقف الوجوب عليه، فشروط الصحة وقوع الصلاة والخطبة وقت الظهر واستيطان بلدها، ووجوب الجماعة الذين تتقرى بهم القرية وحضور اثني عشر غير الإمام ذكورا أحرارا مستوطنين للخطبة والصلاة ولو في الجمعة الأولى، وكون الإمام هو الخطيب إلا لعذر، ووقوع الصلاة والخطبة في الجامع المبني على وجه العادة وأن يكون متحدا وأن يكون متصلا بالبلد أو في حكم المتصل حين بنائه، فإن خرج عنها ابتداء بأكثر من أربعين باعا والباع أربعة أذرع لم تصح فيه، وإن تعدد فالجمعة للعتيق إلا أن يكون البلد كبيرا بحيث يعسر اجتماعهم في محل ولا طريق بجواره تمكن الصلاة فيها فيجوز حينئذ تعدده بحسب الحاجة كما لو ارتضاه بعض شيوخ المذهب، ولعل الأظهر حاجة من يغلب حضوره لصلاتها ولو لم تلزمه كالصبيان والعبيد؛ لأن الكل مطلوب بالحضور ولو على جهة الندب، وينبغي أن

يلحق بذلك وجود العداوة المانعة من اجتماع الجميع في محل واحد، بل لو قيل إن هذا أولى لجواز التعدد لما بعد، والدليل على وجوب اتحاد الجامع فعله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده فإنهم لم يقيموا سوى جمعة واحدة، و؛ لأن الاقتصار على واحدة أفضى إلى، المقصود من إظهار شعار الاجتماع واتفاق الكلمة. قاله الرملي الشافعي رضي الله عنه، ومذهبنا لا يخالفه في هذا، وشروط الوجوب الحرية والذكورة والتكليف والاستيطان، وهو الإقامة على قصد التأبيد لا الإقامة المجردة فلا تجب بها إلا تبعا، والقدرة على الحضور من غير مشقة شديدة فلا تجب على مريض لا يستطيعقال خليل : ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر المتوطن وإن بقرية نائية بكفرسخ من المنار، وقولنا في شرط الصحة أنه يكفي حضور اثني عشر إلخ لا ينافي اشتراط كثرة الجماعة في محل الجمعة بحيث يمكنهم الإقامة على التأبيد مع الأمن والقدرة على الذب عن أنفسهم؛ لأن وجود من تتقرى به القرية شرط في وجوب مشروعيتها على أهل ذلك الموضع ويطالبون بحضورها، فإن لم يحضر منهم للخطبة والصلاة إلا اثني عشر غير الإمام صحت، لا فرق بين الجمعة الأولى وغيرها بشرط صحة صلاة جميعهم، لا إن أحدث واحد من الاثني عشر قبل السلام، أو كان أحدهم شافعيا لم يقلد مالكا في صلاتها،
فإن قيل : كيف يتوصل إلى العلم بكون تلك الجماعة الكائنة في البلد تتقرى بهم القرية دائما مع أن العلم بالأمر المستقبل مختص بالله تعالى؟ فالجواب أن الشرط كونها تتقرى بها القرية في أزمنة المستقبل بحسب اعتقادنا والعادة وإن كان العقل يجوز تخلف ذلك فافهم، واعلم أن الاستيطان إنما هو شرط في الجماعة لا في الإمام؛ لأنه يكفي فيه الإقامة؛ لأنه فرع الخليفة، والخليفة الذي هو السلطان تصح إمامته في الجمعة ولو لم يكن مستوطنا بل ولو كان مسافرا، ولا يقال: إذا كان مقيسا عليه تصح إمامته ولو لم يكن مقيما؛ لأنا نقول: شأن الفرع أن يكون أحط مرتبة من أصله، وبنوا على ذلك مسألة حسنة وهي صحة إمامة مسافر نوى إقامة أربعة أيام صحاح في قرية فإنه يصح أن يكون خطيبا فيها، ولا يصح أن يكون بعض الاثني عشر لكي تصح خطبته في تلك الحالة إلا الذي لم تكن نيته الإقامة لأجل الخطبة، وبنوا عليه أيضا صحة إمامة من قدم من بلد إلى بلد أخرى وبين البلدين أقل من كفرسخ من المنار أو قدر فرسخ، وأما لو كان خارجا عن كفرسخ فلا تصح إمامته إلا إذا نوى إقامة أربعة أيام على ظاهر المذهب، خلافا لمن قال بصحة إمامته حيث كان بين البلدين أقل من مسافة القصر ولو لم ينو الإقامة.

قال الأجهوري : إنه خلاف ظاهر المذهب راجع شراحه لخليل، وإنما أطلنا في، ذلك لداعي الحاجة" والخطبة فيها " أي صلاة الجمعة "واجبة"؛ لأنها منها بمنزلة الركعتين من الرباعية؛ و لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بلا خطبة، فإذا صلوا من غير خطبة أعادوها بعد الخطبة ما دام وقتها، ويشترط في تلك الخطبة أن تكون كلاما مشجعا مخالفا للنثر والشعر بحيث تسميها العرب خطبة، وأن تكون باللفظ العربي ولو كانوا عجما، وأن تكون جهرا ولو كانوا صما، وأن تكون بحضرة اثني عشر رجلا أحرارا مستوطنين باقين لسلامها، وأن تقع بعد الزوال، داخل المسجد لما عرفت من أنها كجزء من الصلاة، وتصح من محض قرآن مشتمل على تحذير وتبشير وبعض مواعظ كسورة ق، ويستحب اشتمالها على الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأل فيها للجنس فلا ينافي أنه لا بد من خطبتين يجلس بينهما ولا بد أن تقع "قبل الصلاة" فلو صلى قبل الخطبة لم تصح وتجب إعادتها بعد الخطبة، فإن خطب وصلى قبل الزوال بطلتا وأعيدتا، هذا ملخص شروط صلاة الجمعة، ونظمها علامة الزمان سيدي علي أبو الإرشاد الأجهوري بقوله: شرط وجوب الجمعة الذكورة توطن كذلك الحرية إقامة أي للوجوب تبعا وفقد عذر مثلها فاستمعا كذا دخول الوقت وألحق السبب وجوبها كغيرها مما وجب وشرط صحة وقوع الخطبتين في وقت ظهر لا سواه دون بين كمسجد متحد ذي بنية وقرية بأهلها تقرت وأن يصلي منهم اثنا عشرا لها مع الإمام من غير مرا وكونه بلا خفا من خطبا إلا لعذر ومقيما صوبا وخطبتين قبلها ويحضروا جميع هاتين اللذين عبروا ثم شرع في مندوبات الخطبة والصلاة بقوله: "و" يستحب أن "يتوكأ الإمام" أي يعتمد حال خطبته "على عصا" أو سيف "أو قوس" قاله مالك، والمراد قوس العرب لا قوس العجم، وإنما استحب ذلك لفعله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، واختلف في حكمه ذلك فقيل لئلا يعبث بيده في لحيته عند قراءته للخطبة، وقيل تخويف الحاضرين، ويضعه بيمينه خلافا للشافعي ولا يعتمد على عود المنبر. "و" يسن أن "يجلس" الخطيب "في أولها" أي الخطبة للاستراحة حتى يفرغ الأذان "و" يسن أيضا أن يجلس "في وسطها" ويقوم للخطبة الثانية، والجلوس بين الخطبتين قدر الجلوس بين السجدتين كما قال ابن القاسم، والدليل على ذلك ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد رقى المنبر فجلس وما في صحيح مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يقعد ثم يقوم فيخطب1 واستمر
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيها من، حديث "861".

العمل على ذلك في جميع الأمصار والأعصار منذ زمانه صلى الله عليه وسلم إلى الآن. قال في المدونة: وكذلك سائر الخطب في أولها وفي وسطها" تنبيه ": علم من قوله: ويجلس أنه يخطب قائما، واختلف في حكم ذلك القيام فقيل واجب على جهة الشرطية في الخطبتين جميعا، وقيل سنة، فإن خطب جالسا أساء وصحت والقول الأول عليه الأكثر كما في عز وابن عرفةقال خليل : وفي وجوب قيامه لهما تردد" فائدة ": حكمة مشروعية الخطبة مع صلاة الجمعة جلاء القلوب بسماع المواعظ. قال القرافي: لما كانت القلوب تصدأ بالغفلة والخطيئة كما يصدأ الحديد اقتضت الحكمة الإلهية جلاءها كل أسبوع بالمواعظ والاجتماع ليتعظ الغني بالفقير والقوي بالضعيف والصالح بغيره، ولذلك أمر باجتماع أهل الآفاق في الحج في العمر مرة وبالاجتماع في الصلوات المفروضات عند فعلها، ولما تقرر أن الخطبة كأولتي الرباعية فتتصل بها قال: "وتقام الصلاة" أي صلاة الجمعة "عند فراغها" أي الخطبة وهذا على جهة الوجوب، ويغتفر الفصل اليسير دون الكثير فتعاد لأجله الخطبة، ومن الفصل اليسير ما قاله الإمام مالك رضي الله عنه: لو ذكر بعد خطبته منسية فإنه يصليها ثم يصلي الجمعة بعدها ولا شيء عليهوفي كلام المصنف الإشارة إلى أن الإمام هو الخطيب، فإن طرأ ما يمنع إمامته كحدث أو رعاف فقال خليل: ووجب انتظاره لعذر قرب على الأصح، ومفهومه لو بعد لوجب استخلافه لغيره باتفاق، ويستحب استخلاف حاضر الخطبة، وظاهر المدونة أنه لا ينتظر ولو قرب زوال عذره، ويفهم من كلامه كغيره أنه لا تصح الخطبة إلا ممن فيه أهلية الإمامة"و" صفة صلاة الجمعة أن "يصلي الإمام ركعتين يجهر فيهما بالقراءة" فتبطل بتعمد زيادة كسجدة، وأما الزيادة مع السهو فتبطل بزيادة ركعتين بناء على أنها فرض يومها، وأما بزيادة أربعة بناء على أنها بدل عن الظهر، وحكم الجهر فيها كجهر الفرائض السنية. قال في المدونة: كل صلاة فيها خطبة يجهر فيها بالقراءة ما عدا خطبة الحج؛ لأنها للتعليم، وإن قرأ فيها سرا عمدا كان كتعمد ترك سنة، فقيل يستغفر الله ولا سجود عليه، وقيل تبطل صلاته، والناسي يسجد قبل السلام إن أسر في الفاتحة أو في السورة من الركعتين، وتوهم أبو يوسف صاحب أبي حنيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع صلى الجمعة؛ لأن وقفتها وقعت يوم جمعة فحاجه مالك رضي الله عنه حين ناظره عند الأمير هارون الرشيد، فقال أبو يوسف: هي

جمعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خطب وصلى ركعتين ولا تكون جمعة إلا كذلك، فقال له مالك: أجهر فيها؟ فانقطع أبو يوسف؛ لأنه لم يرو أحد أنه جهر فيها، والإجماع منعقد على الجهر في الجمعة"و" يستحب أن "يقرأ في" الركعة "الأولى" بعد الفاتحة "بالجمعة" لما اشتملت عليه من الأحكام المتعلقة بصلاة الجمعة؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على قراءتها فيها. "و" له أن يقرأ فيها "نحوها" مما هو مقارب لها في الطول، وإنما نص على ذلك للرد على من قال: إنه عليه السلام لم يقرأ في الجمعة إلا بها، ففي مسلم: "أنه عليه الصلاة والسلام قرأ في الركعة الأولى: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} "1 فلا اعتراض على المصنف في زيادة قوله: أو نحوها، ولا يقال: سبح ليست نحو الجمعة؛ لأنا نقول: القصد الرد على من نفى قراءة غير الجمعة في حق المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو يحصل بوروده مطلق قراءة سورة غير الجمعة فافهم. "و" يستحب أن يقرأ "في" الركعة "الثانية بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] ونحوها" من القصار. قال في الكافي: ويقرأ في الثانية بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أو "هل أتاك" أو "إذا جاءك المنافقون" كل ذلك حسن، والحاصل أن بعض الشيوخ استحب في الثانية قراءة: هل أتاك فقط، وبعضهم يحصل الندب في الثانية بقراءة: سبح، أو: إذا جاءك المنافقون، أو: هل أتاك، فقول المصنف في الثانية: بهل أتاك ونحوها اقتصار على أحد القولين، ولو جمع بينهما لقال: وفي الثانية بهل أتاك أو هي وسبح أو المنافقون" ويجب السعي إليها " أي إلى صلاة الجمعة "على من" هو مستوطن "في المصر" وهو البلد الكبيرقال في الجلاب: وتجب الجمعة على من في المصر قاصيهم ودانيهم، ولا مفهوم للمصر بل سائر القرى المستوطنة يجب على أهلها السعي إلى الجمعة ولو بعدت منازلهم عن محل الجمعة بأكثر من ستة أميال وتنعقد بهم لدخولهم بلد الجمعة. "و" كذا يجب السعي على "من" منزله خارج عن بلد الجمعة حيث كان "على ثلاثة أميال منه" أي من المصر، والمراد من مناره أو سوره "فأقل" فلا تجب على من خرج منزله عن الثلاثة أميال، هكذا روي عن أشهب، والذي في المدونة لابن القاسم وهو المعتمد وجوبها على من على ثلاثة أميال وربع أو ثلث ميلقال خليل : ولزمت المكلف الحر الذكر المتوطن وإن بقرية نائية بكفرسخ من المنار، خلافا لأبي حنيفة في نفيه الوجوب عن الخارج عن المصر دليلنا قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، حديث "878".

يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وهذا عام في الأمصار والقرى، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة على من سمع النداء"1 رواه أبو داود، والنداء يسمع من الصيت من ثلاث أميال مع هدوء الريح، ولكن لا تنعقد إلا بمن كان ساكنا بالبلد، وأما الخارج عنها وداخل الفرسخ تجب عليه ولا تنعقد به فلا يحسب من الاثني عشر كما قدمنا، ويصح كونه خطيباثم شرع في بيان شروط الوجوب يذكر الضد بقوله: "ولا تجب" صلاة الجمعة "على مسافر" بدليل عدم صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة عام حجة سنة الوداع بعرفة، ولو صلاها صلى الله عليه وسلم بالمستوطنين بعرفة لصحت؛ لأن الإمام لا يشترط في إمامته الاستيطان كما تقدم، والمصطفى خليفة الله في أرضه، والمراد بالمسافر من أتى من محل خارج عن بلد الجمعة بأكثر من كفرسخ ولو أقل من مسافة قصر؛ لأن المسافر لا جمعة عليه، وقولنا: من أتى إلخ للاحتراز عمن سافر من بلد وأدرك النداء قبل مجاوزة ثلاثة أميال، فهذا لا تسقط عنه الجمعة ويجب عليه أن يرجع لها حيث يعتقد إدراكها ولو بركعة، ومثل إدراك النداء تحقق الزوال قبل مجاوزة الفرسخ، إلا أن يكون يعلم أنه يصليها في محل إمامه "و" كذا "لا" تجب الجمعة "على أهل منى" الكائنين بها لرمي الجمار؛ لأنهم مسافرون، وأما المستوطنون بها فتجب عليهم حيث توفرت فيهم الشروط المتقدمة، وقد قدمنا أن من أتى قرية إلى قرية وأراد أن يخطب بها تصح خطبته وإن لم ينو الإقامة القاطعة لحكم السفر حيث كانت قريته على كفرسخ من المنار، وإن كانت قريته خارجة عن كفرسخ لا تصح إمامته في الجمعة إلا أن ينوي الإقامة، ولو كان بين البلدين أقل من مسافة القصر على ظاهر المذهب، وعدم وجوبها على المسافر لا ينافي أنه إن صلاها نابت له عن الظهر. "ولا" تجب الجمعة أيضا "على عبد"؛ لأن شرط وجوبها الحرية "ولا امرأة" ولا خنثى مشكل "ولا صبي" لحديث: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض"2 ولما كان لا يلزم من عدم الوجوب عدم ندب فعلها قال: "إن حضرها عبد أو امرأة" أو مسافر أو مريض يباح له التخلف عنها "فليصلها" وتجزئه عن الظهر، ولم ينص على حكم حضورها في حق هؤلاء، وبينه غيره وهو الندب في الصبي والمكاتب ولو لم يؤذن لهما، وأما القن والمدبر فيندب لهما مع الإذن في حضورها، وأما
ـــــــ
1 حسن: أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من تجب عليه الجمعة، حديث "1056" وحسنه الألباني "صحيح الجامع 3112"2 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الجمعة للملوك والمرأة، حديث "1067" وانظر: "صحيح الجامع "3111".

المبعض ففي يوم سيده يتوقف الندب على إذنه، وفي يومه لا يتوقف على إذن، والذي يظهر أن المعتق إلى أجل كالقن، وأما المرأة فلا يندب لها حضورها كما يأتي في كلام المصنف وإن متجالة، وحكم حضورها الحرمة في الشابة الناعمة، والكراهة في حق الشابة التي لا تميل إليها النفوس غالبا، والجواز في حق المتجالة فالأقسام ثلاثة، وأما المسافر فيندب له الحضور حيث لا مشقة عليه، وأما أصحاب الأعذار المسقطة لها فحضورهم جائز، وإن حضروها وجبت عليهم بخلاف غيرهم ممن لم تجب عليه، حكم دخوله الندب إلا النساء والعبيد الذين يحتاجون إلى الإذن ولم يؤذن لهم يكره لهم فعلها أو بخلاف الأولى، هكذا يفهم من كلام الأجهوري في شرح خليل، ولما قدم أن المرأة إذا حضرت الجمعة تصليها شرع في بيان محل وقوفها فقال: "وتكون النساء" في حال صلاتهن "خلف صفوف الرجال" كما تقدم في صلاتهن غير الجمعة، ولما كان يتوهم من بيان محل وقوفهن جواز خروجهن لصلاتها وإن كن شواب قال كالمستدرك على ما سبق: "ولا تخرج إليها" أي إلى صلاة الجمعة "الشابة" على جهة الكراهة حيث لم تكن مخشية الفتنة وإلا حرم حضورها، وأما المتجالة فيجوز حضورها، فحضورهن على ثلاثة أقسام كما بيناه سابقا. "تتمة": بقي على المصنف أشياء يسقط منها وجوب السعي إلى الجمعة أشار إليها في التحقيق بقوله: والمانع من حضورها أشياء:
منها : ما يتعلق بالنفس كالمرض الذي يشق معه الإتيان أو علة لا يمكن معها الجلوس في المسجد أو يكون مقعدا ولا يجد مركوبا أو أعمى ولا يجد قائدا عن الحاجة إليهومنها : ما يتعلق بالأهل بأن تكون زوجته أو أمته أو أحد والديه وقد اشتد به المرض أو احتضر أو مات وخشي، عليه التغير إن تركه حتى تنقضي الصلاة فله التخلف ويشتغل بجنازته، بل الاشتغال بها أولى ولو فاتته الجمعة، ولقريب المريض الخروج من المسجد في حال الخطبة إذا بلغه عنه ما يخشى منه الموتومنها : أنه يخاف على ماله أو مال غيره ممن يجب عليه حفظ ماله من سلطان أو سارق أو حرق، ومنها: المطر الشديد أو الوحل الكثيرومنها : كونه معسرا في نفس الأمر ويخاف أن يحبسه الغريم عند ظهوره، ومنها : أكل ما له رائحة كريهة كثوم أو بصل أو له رائحة كريهة ككونه مجذوماومنها : عدم ما يستر به عورته، وظاهر كلامهم ولو بغير لائق، وليس من الأعذار شهود صلاة العيد صبيحة يوم الجمعة خلافا لبعض الأئمة وإلا العرس بمعنى الزوجة.

ثم شرع في بيان ما يطلب لسماع الخطبة بقوله: "و" يجب على من شهد الجمعة من المكلفين أن "ينصت" أي يستمع "للإمام" في خطبته الأولى والثانية، وفي حال جلوس الخطيب بينهما إلى أن تفرغ الخطبة الثانية فلا يجب عليه الإنصات في حال الدعاء للسلطان، وقوله في خطبته يفيد أنه لا يجب الإنصات إلا بعد شروعه فيها، وهو كذلك؛ لأن الكلام ونحوه من كل مشغل إنما يحرم بالخطبةقال خليل مشبها في الحرمة ككلام في خطبته بقيامه وبينهما ولو لغير سامع إلا أن يلغو على المختار، وكلام ورده ونهي لاغ وحصبه أو إشارة له، وابتداء صلاة بخروجه وإن لداخل، واعلم أن الإنصات إنما يجب على من كان جالسا بالمسجد أو رحابه، وسواء كان يسمع كلام الإمام أم لا؛ لأن الواجب الإنصات والإصغاء لا السماع، وإلا لوجب على كل من شهد الجمعة الجلوس بقرب الخطيب بحيث يسمعه ولا قائل بذلك، إذ يجوز الجلوس عجز المسجد اختيارا بحيث لا يسمع الخطيب، والأصل في وجوب الإنصات قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] قيل نزلت في، الخطبة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" 1وروي: "من لغى فلا جمعة له" 2 رواه الشيخان وغيرهما، ووجه الدلالة منه أنه سمى الأمر بالمعروف فيه لغوا، واللغو الكلام الذي لا خير فيه، وما نفي عنه الخير على سبيل الاستغراق نصا أو ظهورا يقبح التكلم به بل يحرم في هذا المقام، وقولنا: جالس في المسجد أو رحابه للاحتراز عن الجالس في غيرهما، فلا يجب عليه الإنصات ولا يحرم عليه الكلام إلا مع الجالس في المسجد أو رحبته لا مع غيرهما، وينبغي أن يقيد وجوب الإنصات على الجالس في المسجد أو رحبته بما إذا كان الخطيب لم يحصل منه لغو بحيث يخرج عن الخطبة وما يتعلق بها كقراءة كتاب أو نحوه، ويفهم من وجوب الإنصات ولو على غير السامع حرمة كل ما ينافيه من أكل وشرب وتحريك شيء يحصل منه تصويت كورق أو ثوب أو فتح باب أو سبحة أو مطالعة في كراس، بل يقتضي المذهب منع الإشارة لمن لغىقال خليل : ونهي لاغ وحصبه أو إشارة له أو لرد سلام وإن جازت في الصلاة. " تنبيه ": علم
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، حديث "934"، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، حديث "851"2 أخرجه لأحمد في مسنده "1/93" حديث "719".

مما مر من حرمة التكلم وقت الخطبة بشروع الخطيب فيها عدم حرمة ما يقوله المرقى عند صعود الخطيب من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت" 1وقوله : "أنصت رحمكم الله"؛ لأنه يقوله قبل شروع الخطيب، نعم فعله بين يديه بدعة مكروهةقال الأجهوري وعلل الكراهة بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة، وإنما هو من عمل أهل الشام، ولي في دعوى الكراهة بحث مع اشتماله على التحذير من ارتكاب أمر محرم حال الخطبة فلعله من البدعة الحسنة، والحديث المذكور ليس بموضوع، وأما ما يقوله المؤذنون عند جلوس الخطيب بين الخطبتين فيجوز، كما يجوز كل من التسبيح والتهليل والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر أسبابها قاله ابن عرفة، وقال خليل: وجاز إقبال على ذكر قل سرا كتأمين وتعوذ عند السبب وكتحميد عاطس سرا. "و" يجب أن "يستقبله" أي الخطيب "الناس" بوجوههم "في الخطبة" والناس يتناول أهل الصف الأول وغيرهم ممن يسمعه ومن لم يسمعه وهو المذهب، ولكن أهل الصف الأول يحولون وجوههم إلى جهة ذاته بحيث ينظرونها، وأما أهل غير الصف الأول فيستقبلون جهته وذاته، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ارمقوه بأبصاركم واصغوا إليه بآذانكم. لأنه أبلغ في الإسماع" 2 وما حملنا كلام المصنف عليه من وجوب الاستقبال على عموم الناس لا خصوص غير الصف الأول هو مذهب المدونة، خلافا للفاكهاني، في قوله: إنه سنة، ولخليل في قوله: إن الذي يستقبله غير الصف الأول ولفظه: واستقبله غير الصف الأولثم شرع في آدابها بقوله: "والغسل لها" أي لصلاة الجمعة "واجب" وجوب السننقال خليل: وسن غسل متصل بالرواح ولو لم تلزمه وأعاد إن تغد أو نام اختيارا لا لأكل خف، فيخاطب به كل من يحضرها ولو عبدا أو صبيا أو امرأة؛ لأنه للصلاة لا للنوم، بخلاف غسل العيد وهو تعبد فيفتقر إلى مطلق نية وصفته كغسل الجنابة، ويصح اندراجه فيه عند نيته بحيث يحصل له ثوابه كما تقدم في باب الغسل، ووقته بعد الفجر فلا يجزئ قبله ولا بد من اتصاله بالرواح، فإن اشتغل خارج المسجد بعده بغداء أو نوم أعاده حيث طال زمانهما، وأما
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة، والإمام يخطب، حديث "934"، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، حديث "851"، وتقدم "356"2 لم أقف عليه.

الأكل والنوم في المسجد فلا يبطله واحد منهما ولو كثر، وظاهر كلام خليل كغيره ولو حصلا فيه مع كثرتهما لا يبطلان ثواب الغسل، بخلاف ما لو حدث له رائحة كريهة أو جنابة فيبطلان ثوابه ولو حصلا في المسجد، ومحل سنية الغسل ما لم يكن لمريد حضورها رائحة كريهة تمنع من حضورها وإلا وجب، وليس للجمعة سنة إلا الغسلوقال سيدي يوسف بن عمر: ثلاث سنن قل العمل بها: غسل الجمعة ووضوء الجنب للنوم وفعل العقيقة، وزيد عليها سنة رابعة وهي غسل العيدين وإطلاق السنة على وضوء الجنب على طريقة البغداديين الذين يطلقون لفظ السنة على كل مطلوب طلبا غير جازم، وأما بقية آداب الجمعة فهو مندوب لذلك قال المصنف: "والتهجير" وهو الذهاب إلى صلاة الجمعة وقت الهاجرة من الإمام ومأموم "حسن" أي مستحب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم كانوا يأتون المسجد لصلاة الجمعة في ذلك الوقت، واعلم أن الرواح في وقت الهاجرة وإن كان مستحبا يختلف ثوابه بدليل حديث: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" 1 وهذه الساعات الخمس أجزاء ساعة من ساعات النهار وهي الساعة السادسة التي قبل الزوال بدليل قوله في الحديث: "فإذا خرج الإمام إلخ"؛ لأن الإمام يطلب خروجه في أول السابعة وهو عقب الزوال وعقب الجزء الخامس من السادسة المقسمة للخمسة أجزاء، وبخروجه تحضر الملائكة يستمعون الذكر، فالساعة الكائنة في الحديث اعتبارية لا فلكية، ولما كانت المبادرة إلى حضور الطاعة مطلوبة في الجملة كانت مظنة توهم ندبها في أول النهار فدفعه بقوله: "وليس ذلك" أي السعي المفهوم من التهجير "في أول النهار"؛ لأن مالكا رضي الله عنه كره السعي لها بعد طلوع الشمس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أحد من الصحابة، ولخوف الرياء والسمعة، وإنما فسرنا اسم الإشارة بالسعي؛ لأن الهاجرة شدة الحر وهي لا تكون في أول النهار عند طلوع الشمسفإن قيل: كراهة التبكير المشار إليه بقول المصنف: وليس ذلك في أول النهار، ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ليسمع ولم
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، حديث "881"، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، حديث "850".

يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها" 1 فالجواب ما قاله بعضهم من أن معنى بكر أدرك باكورة الخطبة، ومعنى ابتكر قدم في أول الوقت، أو أن معنى بكر تصدق قبل خروجه لما ورد في الحديث: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها" وقوله: "ابتكر" تأكيد لسابقه على هذا التأويل، ومعنى غسل أوجب الغسل على غيره بالجماع واغتسل هو منه "والتطيب لها" حسن أيضا بمعنى: مندوب، ومعنى التطيب استعمال الطيب ولو لمؤنث، وهو ما يظهر أثره وريحه، ويقصد بذلك العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه ولا يقصد به فخرا ولا رياء" 2وفي قول المصنف "لها" إشارة إلى أنه إنما يخاطب بالتطيب من يحضر الصلاة، بخلاف العيد فإنه يستحب يومه استعمال الطيب ولو لم يحضر صلاته. "و" يستحب لمريد صلاة الجمعة أن "يلبس أحسن ثيابه" ليتجمل بها بين الناس، والمراد بأحسنها الأبيض ولو عتيقا لحديث: "أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض" 3. وقوله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم" 4. حديث حسن صحيح، وهذا بخلاف العيد فإن الحسن فيه الثياب الجديدة ولو غير بيضاء" تتمتان " الأولى : بقي من المستحب تحسين الهيئة من قص شارب وظفر ونتف إبط وحلق عانة لمن احتاج إلى شيء مما ذكر؛ لأنها لا تندب إلا عند الحاجة، وليس من الآداب المستحبة حلق الرأس وإنما حلقه مباح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يحلقه إلا في الحج، فهو من البدع المباحة أو الحسنة لمن يقبح منظره بدونه، ومن المستحبات أيضا المشي لها في الغدو لخبر: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار"الثانية: الآداب المذكورة منها ما هو مشروع في حق الرجال والنساء كالتهجير والمشي، ومنها ما هو مختص بالرجال كتحسين الهيئة والتطيب والتجمل بالثياب الحسنة، وما ذكره
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، حديث "496" وانظر: "صحيح سنن ابن ماجه 1087"2 أخرجه مالك في الموطأ "1/65" حديث "144"3 موضوع: أخرجه ابن ماجه، كتاب اللباس، باب البياض من الثياب، حديث "3568" وقال الألباني موضوع "ضعيف سنن ابن ماجه 3568"4 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الطب، باب الأمر بالكحل، حديث "3878" والترمذي، حديث "994"، والنسائي، حديث "1896"، وابن ماجه، حديث "3566"، وأحمد "1/247"، حديث "2219" وانظر: "صحيح الجامع 1236".

المصنف وغيره إنما هو مطلوب للصلاة لا لليوم بخلافها في العيد فإنها لليومقال خليل فيه: وتطيب وتزين وإن لغير مصلولما كان الشأن التنفل قبل الظهر كبعدها، وقيل: إن الجمعة بدل عنها كان مظنة توهم طلب التنفل بعدها قال: "وأحب إلينا" معاشر المالكية "أن ينصرف" مصلي الجمعة "بعد فراغها" وما يتصل بها من تسبيح وتحميد وتكبير وقراءة نحو آية الكرسي مما يطلب عقب الفرائض إلى بيته ويتنفل فيه بما أحب من النوافل "ولا يتنفل في المسجد" لكراهة التنفل إثر الجمعة في المسجد، والدليل على ذلك ما روي أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فصلى ركعتين في بيته وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وتستمر الكراهة بعد الجمعة لمن في المسجد حتى ينصرف الشخص من المسجد أو حتى يحدث سواء كان إماما أو غيره، لكن الكراهة في حق الإمام أشد هذا هو المنصوص، وقال ابن عبد السلام: ويمتد وقت الكراهة حتى ينصرف أكثر المصلين لا كلهم، أو بمعنى زمن انصرافهم وإن لم ينصرفوا، والكراهة قيدها بعضهم بأن يكون الفاعل ممن يقتدى به أو يخشى منه اعتقاد وجوبها، وأما من يفعلها مع العلم بندبها فلا كراهة كما لو فعلها مقلدا في فعلها القائل بطلبها، ولا سيما إذا كان يقع التنفل من جميع الحاضرين. "وليتنفل" المأموم في المسجد "إن شاء قبلها" أي قبل الخطبة، وقوله إن شاء يوهم أنه غير مندوب وليس كذلك، إذ ندب النفل قبل خروج الخطيب من الخلوة لغير الجالس وقت الأذان معلوم، وإنما مراده بقوله: إن شاء أنه غير منهي عنه بخلاف الجالس عند الأذانقال خليل : وكره ترك طهارة فيها والعمل يومها وبيع كعبد بسوق وقتها وتنفل إمام قبلها أو جالس عند الأذان، وأما التنفل بعد خروج الخطيب فهو حرام ولو على الداخل، والحاصل أن تنفل المأموم قبل الأذان وقبل خروج الخطيب مندوب وعند الأذان مكروه للجالس، وأما بعد خروجه فحرام. قال خليل عاطفا على الحرام: وابتدأ صلاة بخروجه وإن لداخل، ومثل خروج الخطيب دخوله ذاهبا للمنبر، فإن أحرم بعد خروجه أو عند دخوله متوجها إلى المنبر، فإن كان جالسا قبل ذلك قطع صلاته ولو ابتدأها ساهيا عن خروجه أو دخوله، وأما لو دخل المسجد حين خروجه أو دخوله وأحرم، فإن كان عالما بخروجه أو دخوله وبالحكم قطع، وإن كان ساهيا أو جاهلا خفف من غير قطع، وأما من كان محرما قبل خروج الخطيب أو دخوله فلا شك في عدم قطعه. قال خليل بعد قوله وابتدأ صلاة بخروجه: ولا يقطع إن دخل، وما ذكرناه

من حرمة الصلاة بعد خروج الخطيب ولو للداخل وهو مشهور مذهب مالك ومقابله جواز إحرامه ولو في حال الخطبة، وعليه السيوري من علمائنا وهو مذهب الشافعي أيضا قائلا: الركوع أولى؛ لأنه تحية المسجد لما في الصحيحين: أن سليكا الغطفاني دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له صلى الله عليه وسلم: "أصليت؟" فقال: لا، فقال: "قم فصل ركعتين تجوز فيهما" 1 ولخبر: "إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ثم يجلس" 2ودليلنا ما في أبي داود والنسائي: أن رجلا تخطى رقاب الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: "اجلس فقد آذيت" 3 فأمره بالجلوس دون الركوع، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وخبر: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" 4 نهي عن النهي عن المنكر مع وجوبه، فالمندوب أولى، وأما خبر سليك الغطفاني وأمره صلى الله عليه وسلم له بالركوع لما دخل المسجد وهو يخطب فيحتمل نسخه بنهيه صلى الله عليه وسلم على الصلاة حينئذ كما في الخبر السابق، وعلى تقدير معارضته وعدم نسخه فحديثنا أولى كما قال ابن العربي لاتصاله بعمل أهل المدينة ولجريه على القياس من وجوب الاشتغال بالاستماع الواجب وترك التحية المندوبة، وأما الجواب بأن سليكا كان صعلوكا ودخل يطلب شيئا فأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين ليتفطن له الناس فيتصدقون عليه فلا يدفع المعارضة، وكذا الجواب باحتمال قطعه صلى الله عليه وسلم الخطبة له، لأن الحرمة عندنا تدخل بمجرد توجه الخطيب إلى المنبر، وإنما قصرنا الكلام السابق على المأموم لقول المصنف هنا: "ولا يفعل ذلك" المذكور من التنفل قبل صلاة الجمعة "الإمام" لكراهة التنفل في حقه إذا دخل المسجد بعد الزوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك. "وليرق المنبر كما يدخل" أي ساعة دخوله ولا يجلس بعد دخوله، وأما لو دخل المسجد قبل الزوال أو بعده وقبل حضور الجماعة فإنه يطالب بتحية المسجد. ثم شرع في بيان صفة إيقاع الصلاة في الخوف فقال:
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري مختصرا، كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره حديث "930"، ومسلم، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، حديث "875"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين، حديث "444"، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل أحدكم المسجد، حديث "713"3 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، حديث "1118"، والنسائي، حديث "1399" وانظر: صحيح الجامع 155"4 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب حديث "934"، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، حديث "851"، وأبو داود، حديث "1112"، والترمذي، حديث "512"، والنسائي، حديث "1401"، وابن ماجه، حديث "1110".

"باب في" كيفية فعل "صلاة" الفرض في زمن "الخوف"
لأن الخوف ليس له صلاة تخصه بخلاف العيد، والخوف والخيفة ضد الأمن، وسيأتي للمصنف التصريح بحكمها في باب جمل حيث يقول: وصلاة الخوف سنة واجبة وجوب السنن، وممن صرح بسنيتها ابن يونس، ولا تنافي بين كونها سنة وقول خليل رخصة؛ لأن الرخصة تكون واجبة وتكون سنة وتكون مباحة، وخلاف الأولى ومكروهة، فالواجبة كأكل الميتة للمضطر، والسنة كقصر الصلاة، والمباحة كمسح الخف عند بعض الشيوخ، وخلاف الأولى كالجمع بين الصلاتين بالمنهل عند الزوال، والمكروهة كالفطر للمسافر، ولم يعرفها ابن عرفة ولا غيره، وقال البدر القرافي شيخ الأجهوري: ويمكن رسمها بأنها فعل فرض من الخمس ولو جمعة مقسوما فيه المأمومون قسمين مع الإمكان ومع عدمه، لا قسم في قتال مأذون فيه فيدخل قتال المحاربين وكل قتال جائز، والدليل على ثبوت حكمها وأنها غير منسوخة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآيةوأما السنة فقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة، وأما الإجماع فقد صلاها بعد موته صلى الله عليه وسلم جمع من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير، فالحاصل أنها مشروعة وحكمها باق لم ينسخ، ودعوى المزني نسخها مردودة، وعلى بقاء حكمها مالك وأبو حنيفة والشافعي، خلافا لابن القصار من المالكية وأبي يوسف من الحنفية في قولهما: إنها من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وتبعهما المزني من الشافعية، وهي مشروعة حضرا وسفرا وعليه الأكثر، ووقع خلاف في عدد الأماكن التي صلاها فيها عليه الصلاة والسلام، والذي استقر عند الفقهاء وهو الأصح كما في القبس أنه صلاها في ثلاث غزوات: ذات الرقاع وبطن النخيل وعسفان، وشرع في بيان صفتها سفرا بقوله: "و" صفة "صلاة" الفرض حال "الخوف في السفر إذا خافوا" أي المسلمون ضرر "العدو" الكافر أن المسلم المحارب عند صلاتهم دفعة واحدة وأمكن قسمهم "أن يتقدم الإمام ليصلي بطائفة" من المسلمين المقاتلين شطر صلاتهم. "ويدع" أي يترك "طائفة مواجهة العدو" قال خليل: رخص لقتال جائز أمكن تركه لبعضهم قسمهم قسمين وإن وجاه القبلة أو على دوابهم، ويعلمهم قبل ذلك صفة صلاة الخوف وجوبا عند الجهل وندبا عند عدمه، لأن تلك الصفة غير مألوفة للناسقال خليل : وعلمهم وصلى بأذان وإقامة استنانا حيث طلبوا غيرهم. قال في الجواهر:

وتقام هذه الصلاة في كل قتال مأذون فيه، فشمل الواجب كقتال الكفار والبغاة، والمباح كقتال مريد المال. قال البدر القرافي: ومثل الخوف من العدو في جواز القسم الخوف على المال من اللصوص أو على النفس من السباع، وأما القتال المنهي عنه كقتال المسلمين مجرد شهوة النفس كما في هذا الزمان، وقتال الإمام العادل فلا يجوز قسمهمفإن قيل : صلاة الخوف إنما شرعت في حال قتال الكفار فكيف أجزتموها في قتال المسلمين؟ فالجواب: أنه من باب قياس لا فارق للقطع بأن السبب الخوف وهو من الفريقين سواء، ثم عطف على قوله: أن يتقدم الإمام قوله: "فيصلي الإمام بكل طائفة ركعة" من غير الثلاثية؛ لأن الكلام في حال السفر، وكان الأولى أن يقول: فيصلي بها؛ لأن المحل للإضمار، لظهور أن فاعل يصلي الإمام والضمير المجرور للطائفة، إلا أن عادة المصنف في هذا الكتاب زيادة الإيضاح ونكر طائفة، وعبر بها للإشارة إلى أنه لا يشترط تساوي الطائفتين، بل الشرط كون كل طائفة فيها قدرة على رد العدو. "ثم" بعد تمام الركعة بقيامة "يثبت" أي الإمام "قائما" ساكتا أو قارئا أو داعيا بالنصر والفتح. "و" يشير لهم "يصلون لأنفسهم ركعة" وهي بقية صلاتهم لخروجهم من المأمومية فلا يحمل سهوهم، ولا تبطل صلاتهم ببطلان صلاته بعد تمام قيامه، بخلاف ما لو حصل منه مبطل قبل تمام القيام فإنه يبطل صلاتهم أيضا، إلا أن يكون المبطل حدثا غالبا أو حصل منه على جهة النسيان، فإنه يستخلف أو يستخلفون من يتم بهم القيام، فإذا قام هذا المستخلف بالفتح يثبت على حاله كالإمام الأصلي حتى تتم الطائفة الأولى وتأتي الثانية فتدخل معه ويصلي بهم ما بقي من صلاة الإمام الأول ويتمون لأنفسهم فرادى، فإن أمهم أحدهم فصلاته تامة وصلاتهم فاسدةقاله سند عن ابن حبيب خلافا لقول التتائي: أو بإمام. "ثم" بعد صلاتهم ما بقي من صلاتهم "يسلمون" على اليمين تسليمة التحليل وعلى اليسار إن كان على يسار المسلم أحد، ولا يسلم أحد منهم على الإمام؛ لأنهم يسلمون قبل سلامه فلم يسلم عليهم، وبعد سلامهم يذهبون إلى العدو "فيقفون مكان أصحابهم" قبالة العدو "ثم يأتي أصحابهم" الذين لم يصلوا "فيحرمون خلف الإمام فيصلي بهم الركعة الثانية" الباقية من صلاته. "ثم يتشهد" أي الإمام "ويسلم" ولا ينتظرهم خلافا لأحمد بن حنبل، ومن وافقه في انتظارهم حتى يسلموا معه، وفي السنة الصحيحة ما يدل للمذهبين، ولذلك لو انتظرهم حتى كملوا صلاتهم وسلم بهم لم تبطل صلاته على ما يظهر مراعاة للقائل بالانتظار. "ثم" بعد سلامه تقوم أهل الطائفة الثانية "يقضون

الركعة التي فاتتهم" للطائفة الأولى، وفهم من قوله: يقضون أنهم يقرءون فيها بالفاتحة والسورة. "ثم" بعد فراغهم وسلامهم "ينصرفون" جهة العدو مع أصحابهم. "هكذا يفعل" الإمام "في صلاة الفرائض" كلها في حال السفر "إلا" صلاة "المغرب" "فإنه" أي الإمام "يصلي بالطائفة الأولى" منها "ركعتين"؛ لأنها لا تقصر وتذهب قبالة العدو "و" يصلي "بالثانية ركعة" ثم يتشهد ويسلم، ثم يقضون لأنفسهم فرادى الركعتين اللتين صلاهما الإمام بالطائفة الأولى يقرءون فيها بالفاتحة والسورة، واختلف هل ينتظر الإمام الطائفة الثانية في غير الثنائية قائما أو جالسا على قولينقال خليل : وفي قيامه بغيرها تردد، فعلى الأول ينتظرها قائما ساكتا أو داعيا، وعلى الثاني يجلس داعيا ويكون هذا مستثنى من كراهة الدعاء في غير الجلوس الأخيرولما فرغ من الكلام على صفة صلاة الخوف في السفر شرع في صفة صلاتها في الحضر بقوله: "وإن صلى" أي أراد الإمام أن يصلي "بهم في الحضر" صلاة قسم "لشدة خوف" من عدو أو محارب أو لص كما مر "صلى" بهم "في الظهر والعصر والعشاء" عند إمكان قسمهم "بكل طائفة ركعتين" سواء كانوا طالبين أو مطلوبين، فإذا صلى بالأولى ركعتين فإنه بعد تشهده يشير إليها لتقوم تكمل صلاتها أفذاذا، ويستمر جالسا ساكتا أو داعيا، وقيل قائما على قولين قدمناهما، فإذا جاءت الثانية صلى بها ما بقي من صلاته، ثم إذا سلم قاموا لقضاء ما صلاه مع الأولى على نحو ما مروقال الأجهوري في شرح خليل : وإذا كان يوم جمعة فإنه يقسم الجماعة أيضا، وتوقف في صلاة الطائفة الأولى الركعة الثانية هل بإمام أو أفذاذا؟ واستظهر الثاني، وتوقف أيضا في عدد الطائفتين واستظهر أنه لا بد أن تكون كل طائفة اثني عشر غير الإمام وأن يحضر كل من الطائفتين الخطبة، هذا ملخص بحث الأجهوري فإنه لم يوجد لأحد سواه، ولما كان يتوهم عدم طلب الأذان والإقامة لشدة الخوف دفع هذا الإيهام بقوله: "ولكل صلاة" مفروضة أريد فعلها ولو في زمان الخوف في السفر والحضر "أذان وإقامة" بشرطه السابق وهو طلب من يحضر الصلاة المشار إليه بقول خليل: من الأذان لجماعة طلبت غيرها في فرض وقتي" تنبيهات " الأول : علم مما ذكرنا أن صحة القسم مشروطة بالإمكان بدليل قوله الآتي: وإذا اشتد الخوف إلخ، وعند إمكان القسم لا فرق بين كونهم يصلون بالركوع والسجود أو الإيماء ولو على خيولهم حيث احتاجوا إلى ذلك، وتستثنى هذه من عدم صحة اقتداء المومي

بالمومي، نبه على ذلك الأجهوري في شرح خليلالثاني : محل جواز القسم إذا لم يرج انكشاف العدو قبل خروج الوقت وإلا انتظروا ما لم يخافوا خروج الوقتالثالث : فهم مما قدمنا من أن القسم رخصة عند التمكن أنهم لو تركوه وصلوا أفذاذا أو بإمامين لصحت صلاتهم وإنما فاتهم ثواب السنة، وفهم أيضا أنه لا يجوز قسمهم أكثر من قسمين، فإن قسمهم الإمام أكثر من قسمين فقيل: تبطل صلاة الجميع حتى الإمام، وقيل: إنما تبطل صلاة من فارق الإمام في غير محل مفارقةقال خليل: وإن صلى في ثلاثية أو رباعية بكل ركعة بطلت الأولى والثالثة في الرباعية كغيرهما على الأرجح وصحح خلافه وهو القول الأول القائل ببطلان الأولى ولو في الرباعية، وكذا الثالثة في الرباعية، وتصح للثانية ولو في الثلاثية، كما تصح الرابعة من الرباعية، وللثالثة في الثلاثية
الرابع : لو ترتب على الإمام سجود سهو، فإن حصل مع الطائفة الأولى فإنها تسجد بعد كمال صلاتها القبلي قبل سلامها والبعدي بعده، وأما الطائفة الثانية فإنها تخاطب بالسجود لسهو الإمام ولو سها قبل دخولها معه، لكن تسجد القبلي معه والبعدي بعد القضاءولما فرغ من الكلام على صفة الصلاة مع قسم المأمومين شرع في الكلام على صلاة المسايفة لعدم التمكن من القسم بقوله: "وإذا اشتد" أي زاد "الخوف عن ذلك" الخوف المتقدم الممكن معه القسم أخروا الصلاة ندبا لآخر الاختياري و "صلوا وحدانا بقدر طاقتهم" ولو بالإيماء حال كونهم "مشاة أو ركبانا ماشين" على الهينة "أو ساعين" هرولة أو جريا. قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] حالة كونهم "مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" للضرورةقال خليل : وحل للضرورة مشي وركض وطعن وعدم توجه وكلام وإمساك ملطخ، فتكون هذه مستثناة من البطلان بالأفعال الكثيرة ولو سهوا، وتسمى صلاة المسايفة لجواز الضرب بالسيف حال فعلها، وفي إيقاع الصلاة مع تلك المنافيات الحث على الإتيان بالصلاة في وقتها على أي حالة يقدر عليها المصلي، ولا يحل تأخيرها عن وقتها ولو كان يلزم عليه فعلها على أكمل الأحوال. " تتمة " لم يتكلم المصنف على حكم ما إذا انجلى عنهم العدو في أثنائها بعد

افتتاحها صلاة مسايفة، والحكم أنهم يتمونها صلاة أمن بركوع وسجود لكن فرادى؛ لأنهم افتتحوها هكذا، وإن افتتحوها صلاة قسم فكيفية إتمامها: إن حصل الأمن مع الطائفة الأولى قبل مفارقتها للإمام أن تدخل الطائفة الثانية مع الإمام ويتم بالجميع، وإن حصل مع الطائفة الثانية فإنه يجب على من لم يتم صلاته من أهل الطائفة الأولى الدخول مع الإمام لكن يصبر حتى يفعل الإمام ما فعله، هذا بعد مفارقة الإمام إن كان فعل شيئا، وأما من كمل صلاته وسلم قبل حصول الأمن فلا يطالب برجوع لتمام صلاته، هذا حكم من حصل له الأمن في صلاة الخوف سواء كانت مسايفة أو غيرها، وأما لو طرأ الخوف على صلاة الأمن فالحكم أنهم يكملونها على حسب طاقتهم ولو بالإيماء مع التفرق ولا يقطعونها، وإذا تمكن الإمام من قسمهم على تفصيل بيانه إن فجأهم العدو قبل فعل شطر الصلاة أشار إلى طائفة بالقطع تذهب قبالة العدو ويكمل شطر الصلاة بالطائفة التي معه، فإذا فرغ منه أشار إليها فتتم صلاتها وتذهب قبالة العدو وتأتي التي قطعت تصلي معه ما بقي من صلاته، وإن فجأهم بعد تمام شطرها وعقد ركوع من الشطر الثاني قطعت طائفة وأتم بالباقية فإذا سلم وسلمت معه تذهب مكان التي قطعت وتصلي التي قبالة العدو فرادى أو بإمامقال خليل : وإن أمنوا بها أتمت صلاة أمن، وأما لو لم يحصل الأمان إلا بعد كمال الصلاة فإنها لا تعاد لا في الوقت ولا غيرهقال خليل : وإن أمنوا بها أتمت صلاة أمن وبعدها لا إعادة كسواد ظن عدوا فظهر نفيهولما كانت صلاة العيدين مشبهة بصلاة الخوف في السنية ناسب ذكرها عقبها فقال:

باب في كلام على صلاة العيدين
"باب في" الكلام على "صلاة العيدين"
حكما وصفة ومن يخاطب بها وبيان وقتها ومحلها التي تفعل فيه "و" في الكلام على "التكبير أيام منى" وهي أيام الرمي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وإنما خصت بالذكر مع أن التكبير يقع في يوم النحر أيضا؛ لأن التكبير فيها أكثر، لأنه إن أراد التكبير عقب الفرائض فإنه فيها يقع عقب جميعها، وأما في يوم النحر فإنه لا يقع عقب صلاة الصبح؛ لأن ابتداءه فيه من الظهر، وإن أراد التكبير عقب الرمي فإنه يقع فيها عقب الجمرات الثلاث، وفي يوم النحر عقب رمي جمرة العقبة فقط؛ لأنها التي ترمى فيه، والعيدان هما اليومان المعروفان أول شوال وعاشر الحجة، والعيد مشتق من العود وهو الرجوع خص بذلك مع أن نحو عرفة والجمعة يعودان؛ لأنه لا يلزم اطراد وجه التسمية، وقيل: سمي بذلك لعوده بالفرح والسرور على الناس وهو من

ذوات الواو أصله عود قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كميزان وإنما جمع بالياء، وقيل: أعياد مع كونه من ذوات الواو والجمع كالتصغير يردان الأشياء لأصلها للفرق بين جمع العيد المعروف وعود الخشب، وأول عيد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وشاركها في ذلك الصوم والزكاة وأكثر الأحكام واستمر مواظبا عليها إلى أن ماتثم بين حكمها بقوله: "وصلاة العيدين" الفطر والأضحى كل واحدة "سنة واجبة" أي مؤكدة على الأعيان، والدليل على سنيتها مواظبته صلى الله عليه وسلم إلى أن فارق الدنيا، وخبر الأعرابي: "هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع" وخبر: "خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة" فإنه يعلم منه أن غير الخمس ليس بفرض، وإنما تسن في حق من يؤمر بالجمعة وجوبا وهو الذكر الحر المتوطن، وتستحب في حق من لم تلزمه الجمعة، كما تستحب لمن فاتته ممن يخاطب بها. قال في المدونة: ويستحب للنساء أن يصلين أفذاذا إذا لم يخرجن، وإذا خرجن ففي ثياب البذلة ولا يتطيبن، والعجوز وغيرها في ذلك سواء، والمراد بمن يؤمر بالجمعة من تلزمه ولو لم تنعقد به فيشمل الخارج عن البلد الداخل في كفرسخ، فلا تسن في حق الخارج عن تلك الأميال، ولا تشرع في حق الحاج لا استنانا ولا ندبا لوقوفهم بالمشعر الحرام، وكذا المقيم بمنى ولو غير حاج" تنبيهات " الأول : صلاة العيد كصلاة الجمعة في اشتراط الجماعة حتى تقع سنة، وأما من فاتته فيندب له فقط، وفي أنها لا تتعدد جماعتها في البلد الواحدة قال مالك رحمه الله تعالى: ويؤتى للعيدين من ثلاثة أميال، ولا تصلى العيدان في موضعين، ويفترقان في اشتراط الجامع في الجمعة دون العيدالثاني : كما يشترط في إمام الفريضة كونه غير معيد لها كذلك العيد، فلا يصح لمن صلاها في محل إماما أو مأموما ثم جاء إلى محل آخر أن يصلي إماما بأهله على ما يظهر، فإن اقتدوا به أعيدت ما لم يحصل الزوال، لما تقرر من أن شرط الإمام مساواة صلاته لصلاة المأموم زمنا وشخصا ووصفاالثالث : إذا ترك أهل البلد صلاة العيد لا يقاتلون عليها. وفي التوضيح يقاتلون، وعلى الأول فالفرق بينها وبين الأذان تكرره دونها، وأيضا الأذان واجب في الأمصارثم بين زمن صلاتها بقوله: "يخرج لها" أي صلاة العيد "الإمام والناس ضحوة" أي بعد طلوع الشمس ولو قبل حل النافلة بقرينة قوله: "بقدر ما إذا وصل" إلى محل الصلاة "حانت" أي حلت "الصلاة" أي صلاة النافلة بأن ترتفع الشمس قيد رمح من أرماح العرب وهو اثنا عشر شبرا

بالأشبار المتوسطة وهذا لمن قرب مكانه، وأما من بعد مكانه عن مصلى العيد فإنه يخرج قبل ذلك بحيث يدرك الصلاة مع الإمام، وفسرنا الضحوة ببعد طلوع الشمس لقول الصحاح: "ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعد الضحوة الضحى بالقصر حين تشرق الشمس، ثم بعد الضحاء بالمد وهو عند ارتفاع النهار الأعلى"تنبيهان " الأول : علم من كلام المصنف أول وقت صلاتها وهو حل النافلة، ولم يعلم منه آخره وهو الزوالقال خليل: سن لعيد ركعتان لمأمور الجمعة من حل النافلة للزوال، وهذا مذهب مالك وأحمد والجمهور، وقال الشافعي: وقتها ما بين طلوع الشمس وزوالها، ولكن يسن عنده تأخيرها لحل النافلة، فالمالكي المصلي خلفه بعد الطلوع وقبل ارتفاعها قيد رمح مصل في وقت الكراهة ينبغي له التقليد حتى يخرج من الكراهةالثاني : علم من كلام المصنف عدم صلاتها في بيته ولا يلزم من ذلك بيان محلها والمندوب منه المصلىقال خليل: وإيقاعها به أي بالمصلى إلا بمكة فالمستحب إيقاعها في الصحراء ولو في المدينة المنورة لإظهار شعيرة الإسلام وزينته وإرهاب العدو، وأما في مكة فأفضل فعلها في المسجد الحرام لمعاينة الكعبة وهي عبادة مفقودة في غيرها، ولخبر: "ينزل على هذا البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة، ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين إليه""وليس فيها أذان ولا إقامة" لاختصاصهما بالفرائض ويكرهان في غيرها، كما تكره الصلاة جامعة لعدم ورود شيء من ذلك فيها، فقد قال جابر: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد بلا أذان ولا إقامة قال ابن عبد البر: وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، فإذا قيل: إذا كان إجماع المسلمين على أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤذن لها ولم يقم فما المحوج إلى النص من المصنف على ذلك؟ فالجواب: أن القصد من ذكرهما الرد على من أحدثهما بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو أمية، والمحدث لهما أولا منهم معاوية على الصحيح، والتنبيه على عدم العمل بذلك، وأقول: ينبغي أن محل كراهة النداء بالصلاة جامعة ما لم يتوقف الإعلام بالدخول من الإمام في الصلاة على ذلك كما في الأمصار في هذا الزمان، وإلا كان من البدع الحسنة؛ لأن محل الكراهة إذا فعل على وجه أنه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عطف على قوله: يخرج لها الإمام إلخ قوله: "فيصلي" أي الإمام "بالناس" بمجرد وصوله المصلى أو المسجد بعد حل النافلة واجتماع الناس "ركعتين يقرأ فيهما

جهرا"؛ لأنها صلاة ذات خطبة للوعظ لا للتعليم كخطبة عرفة "بسبح اسم ربك الأعلى" في الأولى "و" يقرأ في الثانية سورة "الشمس وضحاها ونحوها" مع أم القرآن. قال خليل عاطفا على المندوب: وقراءتها بكسبح والشمس وضحاها. "و" صفة افتتاحها أن "يكبر في الأولى سبعا" ويسن أن يكون "قبل القراءة يعد فيها تكبيرة الإحرام و" إذا شرع "في" قيام الركعة "الثانية" يكبر "خمس تكبيرات لا يعد فيها تكبيرة القيام" قال خليل: وافتتح بسبع تكبيرات بالإحرام ثم بخمس غير القيام موالي إلا بقدر تكبير المؤتم بلا قول وتحراه مؤتم لم يسمع، فالتكبير الزائد على تكبير الركعتين في غير العيد إحدى عشرة تكبيرة فتصير اثنتين وعشرين تكبيرة على قول مالك والأصحابقال ابن عبد البر: روي عنه صلى الله عليه وسلم من طرق حسان كثيرة: "أنه كبر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا" 1 وفي الموطإ عن نافع: "شهدت الأضحى والفطر فكبر في الأولى سبع تكبيرات وفي الأخيرة خمس تكبيرات قبل القراءة" 2 فالزيادة على السبع والنقص عنها وتأخيرها عن القراءة من الخطأ الذي لا يتبع فيه المخالف، ولا يرفع يديه عند شيء من التكبير سوى الإحرام كغيرها من الصلوات على المشهور، وعن مالك استحبابه مع كل تكبيرة" تنبيهات " الأول : لم يبين حكم التكبير وبينه شراح خليل بأن كل تكبيرة سنة مؤكدة يسجد الإمام والمنفرد للواحدة منها؛ لأن المأموم لا شيء عليه في ترك السنن ولو عمدا حيث أتى بها الإمام أو سجد لتركها سهوا وتبعه المأموم، وكذا لو ترك الإمام السجود ليكون مذهبه لا يرى السجود لتركها كالشافعي، وتكون هذه مستثناة من قولهم: إن القبلي يسجده المأموم ولو تركه الإمام، كما أفتى بذلك بعض شيوخنا حين نسي إمام الأزهر تكبيرة العيد ولم يسجد له لكونه شافعيا وتركه المالكي المصلي خلفه، والفتوى ظاهرة؛ لأن طلب المأموم بالسجود فرع طلب الإمام، ولم يبين أيضا حكم تقديم التكبير على القراءة، وقد قدمنا أنه سنة كما استظهره شيخ شيوخنا الأجهوري؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقدم التكبير على القراءة، وتقدم عن خليل أنه يكون مواليا إلا بقدر تكبير المأموم فيندب للإمام أن يسكت حتى يكبر المأمومالثاني : لم يذكر حكم من خالف السنة وقدم القراءة على التكبير، والحكم فيه أنه يعيد
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في التكبير في العيدين، حديث "536" وابن ماجه، حديث "1277"، وانظر: صحيح ابن ماجه "1379"2 أخرجه مالك في الموطأ "1/180" حديث "434".

القراءة بعد التكبير استنانا حيث لم يركع، ويسجد قبل السلام لتركه في السهو، ويأتي الخلاف في ترك السنة عمدا في الإمام والفذ إذا تركه عمدا قاله خليل، وكبر ناسيه إن لم يركع وسجد بعده وإلا تمادى وسجد غير المؤتم قبله، فلو رجع إلى إعادة القراءة بعد الانحناء فالظاهر عدم البطلان قياسا على من رجع بعد استقلاله للجلوس، وكذا تبطل على الظاهر بعدم إعادة القراءة بعد التكبيرالثالث : لم يذكر حكم من سبقه الإمام وفيه تفصيل محصله: إن وجده في حال القراءة يكبر سبعا إن وجده في الركعة الأولى وخمسا غير الإحرام في الثانية، ويقوم بعد سلام الإمام يقضي الأولى بسبع تكبيرات بالقيام، ولا يقال: مدرك ركعة يقوم بغير تكبير؛ لأنا نقول: خولفت القاعدة هنا لتحصيل عدة تكبير الرباعية في ركعتي العيد؛ لأن تكبيرة الجلوس للتشهد مع الإمام لم يعتد بها في تحصيل هذا العدد؛ لأن الإتيان بها إنما كان لموافقة الإمام، وإن وجد المأموم الإمام في القراءة ولم يدر أهي الركعة الأولى أو الثانيةقال الحطاب : لا نص والظاهر أنه يكبر سبعا؛ لأن نقص التكبير من حيث هو يقتضي السجود بخلاف زيادته، وإن أدرك الإمام في التشهد يكبر للإحرام ويجلس، وبعد سلام الإمام يقوم يقضي الأولى بست، واختلف هل يكبر للقيام أو لا يكبر استغناء عن تكبيره؟ المطلوب ممن أدرك دون ركعة بتكبير العيد تأويلان عن المدونة. "و" يسجد "في كل ركعة سجدتين" والتصريح بهذا غير ضروري، فالأحسن ما في بعض النسخ "وفي كل ركعة سجدتين وركعة واحدة" على أن المراد بالركعة الركوع، ويكون قصد بذلك التنبيه على أنها ليست كصلاة الكسوف؛ لأنها بزيادة قيامين وركوعين. "ثم" بعد إتمام الركعتين يسجد في الأخيرة "يتشهد ويسلم" كتسليم الفريضة "ثم" بعد السلام "يرقى المنبر" أي يصعد عليه "ويخطب" ندبا خطبتين كخطبتي الجمعة في كونهما باللفظ العربي وجهرا، لكن خطبة العيد يفتتحها بالتكبير، وخطبة الجمعة بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن تكون الخطبة الثانية مشتملة على بيان ما يتعلق بصدقة الفطر في عيد الفطر من بيان من يطلب بإخراجها والقدر المخرج والمخرج منه وزمن إخراجها، وفي عيد النحر على بيان ما يتعلق بالضحية ومن يؤمر بها وما تكون منه والسن المجزي منها وزمن تذكيتها" تنبيه " رقي بكسر القاف في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى صعد؛ لأنه من باب علم يعلم، بخلاف رقى من الرقية فبالعكس "ويجلس" ندبا "في أول خطبته" على المشهور لتأخذ

الناس مجالسهم "و" كذا ندب أن يجلس في "وسطها" اقتداء به عليه الصلاة والسلام، وللفصل في الخطبتين وللاستراحة من تعب القيام، ويكون قدر الجلوس بين السجدتينقال خليل: بالعطف على المندوب وخطبتان كالجمعة وسماعها واستقباله وبعديتهما وأعيدتا إن قدمتا واستفتاح بتكبير وتخللهما به بلا حد، وإذا أحدث في الخطبة تمادى؛ لأنها بعد الصلاة كخطبة الاستسقاء؛ ولأن الطهارة مستحبة في الخطبة ولو خطبة جمعة. "ثم" بعد فراغه من الخطبتين "ينصرف" من غير جلوس إن شاء؛ لأن المراد أنه لا يتنفل قبلها ولا بعدها إذا فعلها في الصحراءقال خليل : وكره لمصلي العيد تنفل بمصلى قبلها وبعدها لا بمسجد فيهما لما في الصحيحين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم الأضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما" 1 وأما إن أوقعهما في المسجد فلا يكره لإمام ولا مأموم تنفل قبلها ولا بعدها؛ لأن الحديث إنما كان في الصحراء"ويستحب" للإمام إذا انصرف "أن يرجع من طريق غير الطريق التي أتى" إلى الصلاة "منها والناس كذلك" في ندب الرجوع من غير الطريق الأولى خلافا لمن خصه بالإمام، والدليل على ذلك ما في الصحيحين: من "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد من طريق رجع من غيره" 2 واختلف في علة ذلك فقيل لأجل الصدقة على أهل الطريقين، وقيل لتشهد له الطريقان"وإن كان" خروج الإمام لصلاة العيد "في الأضحى خرج" ندبا "بأضحيته إلى المصلى" إن كان بلده كبيرا وكان له أضحية "فذبحها أو نحرها ليعلم ذلك" المذكور من ذبح ونحر "الناس" فإذا علموا "فيذبحون" أو ينحرون "بعده"؛ لأن ذبحهم معه أو قبله غير مجز على هذا الوجهقال خليل : وأعاد سابقه إلا المتحري أقرب إمام، قال شراحه: وكذا مصاحبه فلو نص على المصاحب لفهم حكم السابق بالأولى، وأما لو لم يخرج الإمام أضحيته إلى المصلى فليتحر الناس ذكاته بعد رجوعه إلى منزله ويذبحون ويجزيهم، وإن أخطئوا في تحريهم بأن تبين ذبحهم قبل الإمام لكونه توانى بلا عذر، وأما لو حصل له عذر بعد رجوعه إلى بيته منعه من الذبح
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد صلاة العيد، حديث "1159" وانظر: "صحيح سنن أبي داود"2 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى العيد، حديث "541" وانظر: "صحيح الجامع 4710".

سرعة فإنه يجب انتظاره لقرب الزوال، والفرق بين إجزاء الضحية إذا تبين الخطأ بعد التحري وعدم إجزاء ركعتي الفجر مع الخطأ بعد التحري لطلوع الفجر المشار إليه بقول خليل، ولا تجزي إن تبين تقدم إحرامها على الفجر، وإن ينحر. مشقة إعادة الضحية دون ركعتي الفجر، وأشعر قول المصنف: وإن كان في الأضحى خرج بأضحيته إلخ أن صلاة العيد بالمصلى أفضل وهو كذلكقال خليل عاطفا على المندوب : وإيقاعها به إلا بمكة أن يستحب إيقاع صلاة العيد مطلقا في "المصلى ولو في المدينة المنورة، والمراد بالمصلى الصحراء والفضاء، وصلاتها بالمسجد من غير ضرورة داعية بدعة لم يفعلها عليه الصلاة والسلام ولا الخلفاء بعده، وأما في مكة ففعلها في المسجد أفضل لمشاهدة الكعبة وهي عبادة مفقودة في غيرها لخبر: "ينزل على هذا البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة"1 الحديث، وقيدنا ندب خروج الضحية إلى المصلى بالبلد الكبير للاحتراز عن القرية الصغيرة، فلا يندب له إخراج أضحيته لعلمهم غالبا بذبحه وإن لم يخرج أضحيته، وعلم من كلام المصنف أن المراد بالإمام في، كلامه إمام الصلاة لا الإمام الأكبر فيكون مقتصرا على أحد القولين لأرجحيته عنده، ويبقى الكلام إذا تعدد إمام الصلاة في المصر، ويظهر أن المعتبر إمام حارته؛ لأنه الذي يعلم ذبحه ويؤمر باتباعه، وسيأتي في باب الضحية أن من لا إمام لهم يتحرون ذبح أقرب الأئمة إليهم ويذبحون وتجزيهم ولو تبين خطؤهم قال خليل وأعاد سابقه إلا المتحري أقرب إمام كأن لم يبرزها وتوانى بلا عذر قدره وبه انتظر للزوال" تنبيه ": علم من جعلنا قوله: فيذبحون جوابا لشرط مقدر غير جازم الجواب عن اعتراض بعض الشراح لكلام المصنف قائلا: الصواب إسقاط نون يذبحون لعطفه على يعلم المنصوب بأن المضمرة بعد لام التعليلثم شرع في بيان صفة خروج الإمام بصلاة العيد بقوله: "وليذكر" الإمام على جهة الندب "الله في خروجه من بيته" المراد محله الذي كان فيه للصلاة "في الفطر والأضحى" خلافا لأبي حنيفة في عدم التكبير في حال خروجه لصلاة عيد الفطر دليلنا قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [بالبقرة: 185] والعدة صوم رمضان، وما رواه الدارقطني: "أنه
ـــــــ
1 ضعيف: اخرجه الطبراني والحاكم في الكنى، اوبن عساكر عن ابن عباس أكنز العمال "3463" وانظر: "ضعيف الجامع 1760".

عليه الصلاة والسلام كان يكبر في يوم الفطر حين يخرج من بيته حتى يأتي إلى المصلى" 1 وهو عمل أهل المدينة خلفا عن سلف، وصفة هذا الذكر كصفته عقب الصلوات، وأن يكون بالمد الطبيعي كسائر الأذكار، ويستحب أن يكون "جهرا" بحيث يسمع نفسه ومن يليه وفوق ذلك قليلا "لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى رافعا صوته بالتكبير" وحكمة الجهر به إيقاظ الغافل وتعليم الجاهل، ويستمر تكبير الإمام "حتى يأتي المصلى" أي مكان الصلاة "الإمام والناس كذلك" أي كالإمام في طلب الذكر حال الخروج، ويكبر كل واحد وحده في الطريق وفي المصلى، ولا يكبرون جماعة؛ لأنه بدعةقال العلامة ابن ناجي: افترق الناس بالقيروان فرقتين بمحضر أبي عمران الفاسي وأبي بكر بن عبد الرحمن، فإذا فرغت إحداهما من التكبير وسكتت أجابت الأخرى، فسئلا عن ذلك فقالا: إنه لحسن، ثم قال: قلت واستمر عمل الناس عندنا على ذلك بأفريقية بمحضر غير واحد من أكابر الشيوخ ا هـ، ولا يشكل على استحسانهما فعله جماعة كون ذلك بدعة؛ لأن البدعة قد تكون حسنة. "فإذا دخل الإمام الصلاة قطعوا ذلك" التكبير وقيل يقطعون بمجرد مجيئه إلى المصلىقال خليل: وجهر به وهل لمجيء الإمام أو لقيامه للصلاة تأويلان" تنبيهان ": الأول : علم من قول المصنف: وليذكر الله في خروجه أنه لا يكبر قبل الخروج وهو المشهور، ومقابله يقول: يدخل زمن التكبير بغروب الشمس ليلة العيد، وعليه فعل أهل الأرياف فإنهم يكبرون على المنار ليلة العيد، والظاهر أنه لا بأس بذلك إذا قصدوا بفعله الإعلام بثبوت العيدالثاني : قد صرح فيما تقدم زمن الخروج لصلاة العيد بأنه ضحوة، والمراد الخروج في الزمن الذي إذا خرج فيه يدرك الصلاة ولو قبل الشمسقال خليل: وخروج بعد الشمس وتكبير فيه حينئذ لا قبله وصح خلافه ويكبرون بتكبير الإمام في خطبته "ويكبرون" أي الناس "بتكبير الإمام في" خلال "خطبته" على جهة الندب لما قيل من أن مالكا سئل عن الإمام يكبر في خطبته على المنبر أتكبر الناس؟ فقال: نعم. "وينصتون" أي يستمعون "له" استحبابا "فيما" أي له في زمن "سوى ذلك" وحاصل المعنى: أنه يستحب استماع خطبتي العيد إلا في حال تكبير
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه الدار قطني في سننه "2/44" حديث "6" وانظر: "الإرواء 3/122".

الإمام أو صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره، أو تعوذ من النار عند سماع ذكرها، أو تأمينه عند دعائه كما في خطبة الجمعةثم شرع في صفة التكبير إثر الصلوات المفروضة فقال: "فإن كانت" أي دخلت "أيام النحر فليكبر" جميع "الناس" الإمام وغيره حتى النساء والفذ والحاضر والمسافر على جهة الندب "دبر الصلوات" المفروضات الوقتيات التي عدتها خمس عشرة فريضة أولها "من صلاة الظهر من يوم النحر" لا ظهر عرفة وانتهاؤها "إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه" أي من النحر "وهو آخر أيام منى" والغاية داخلة فابتداؤه من ظهر يوم النحر وآخره صبح الرابع، ولما كان يتوهم من التعبير بإلى خلاف المراد قال: "يكبر إذا صلى الصبح ثم يقطع"تنبيهات : الأول : أشعر قوله دبر أنه يكبر قبل التسبيح وقيل قراءة آية الكرسي، وأصرح منه قول خليل: وتكبيرة إثر خمس عشرة فريضة وسجودها البعدي من ظهر يوم النحر لا نافلة ولا مقضية فيها مطلقاالثاني : إذا سلم المصلي من الفريضة ونسي التكبير، فإنه يأتي به مع القرب، وأخرى لو تعمد تركه قال في الجلاب: من ترك التكبير خلف الصلوات أيام التشريق كبر إن كان قريبا، والقرب هنا كالقرب في البناء كما ذكره سندالثالث : إذا تركه الإمام فإن المأموم ينبهه ولو بالكلام، فلو لم ينبهه أو لم يتنبه كبر ولا يتركه"و" عدة "التكبير دبر الصلوات" أن يقول المكبر: "الله أكبر الله أكبر" ثلاثا بالإعراب إلا أن يقف، وتقدم أنه لا بد من التلفظ والمد الطبيعي، وظاهر كلام المصنف كخليل حيث قال: ولفظه وهو: الله أكبر ثلاثا أن يخرج من عهدة الطلب بقوله: الله أكبر ثلاثا وإن لم يزد الله أكبر كبيرا ونحوها مما يذكرونه عند التكبير وهو كذلك على المعتمد كما يدل عليه قوله: "وإن جمع مع التكبير تهليلا" بأن قال: لا إله إلا الله "وتحميدا" بأن قال: ولله الحمد "فحسن" أي أفضل؛ لأنه ذكر، وبين صفة الجمع بقوله: "يقول إن شاء ذلك" أي إن أراد الجمع "الله أكبر الله أكبر" مرتين "لا إله إلا الله" مرة واحدة "والله أكبر الله أكبر" مرتين "ولله الحمد" وإلى هذا أشار خليل بقوله: وإن قال بعد تكبيرتين: لا إله إلا الله ثم تكبيرتين ولله الحمد فحسن "وقد روي عن مالك هذا" اسم الإشارة راجع إلى الجمع "والأول" أيضا فكل من الجمع وعدمه مروي عن الإمام ولكن المذهب الأول؛ لأنه بلاغ ابن القاسم عن مالك ولذلك صدر به المصنف كخليل،

والثاني رواية ابن عبد الحكم عن مالك، ولما لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين شيء من هاتين الصيغتين قال: "والكل واسع" وعن مالك أنه قال: وإن زاد أو نقص فلا حرج، ولما قدم أنه يكبر ندبا في خروجه للصلاة لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ناسب بيان الأيام المعلومة والمعدودة بقوله: "والأيام المعلومات" في الآية المراد بها "أيام النحر الثلاثة" الأول وتالياه سميت بذلك؛ لأنها معلومة للذبح. "والأيام المعدودات" المذكورة في الآية هي "أيام منى وهي ثلاثة أيام" أيضا "بعد يوم النحر" ثاني النحر وتالياه، وسميت معدودات؛ لأن الجمار تعد فيها، والحاصل أن اليوم الأول معلوم للنحر غير معدود للرمي؛ لأنه إنما يرمى فيه جمرة العقبة، والرابع عكسه معدود للرمي غير معلوم للنحر لفوات زمن التضحية بغروب الثالث كما يأتي، واليومان المتوسطان معلومان ومعدودان؛ لأنهما للنحر والرميولما فرغ مما يتعلق بالصلاة والخطبة شرع في الكلام عن آداب تطلب من الشخص يوم العيد فقال: "والغسل للعيدين حسن" أي مندوب ولذلك قال: "وليس بلازم" وصفة كصفة غسل الجنابة، والدليل على حسنه فعله صلى الله عليه وسلم، ويطلب من كل مميز وإن لم يكن مكلفا ولا مريدا للصلاة. قال الجزولي: يؤمر به من يؤمر بالخروج ومن لا يؤمر؛ لأن الغسل لليوم لا للصلاة بخلاف غسل الجمعة، ويدخل وقته بأول السدس الأخير من الليل، ولكن الأفضل فعله بعد صلاة الصبحقال خليل : وندب إحياء ليلته وغسل بعد الصبح، فمن اغتسل قبل السدس الأخير لم يجزه، والحاصل أن غسل العيد يخالف غسل الجمعة من وجوه أحدها: أنه يطلب على جهة الندب وغسل الجمعة يطلب على جهة السنية. وثانيها: أن غسل العيد لليوم فإنه للصلاة ولذلك لا بد من اتصاله بالرواحوثالثها: لا يدخل وقته إلا بعد الفجر بخلاف غسل العيد"ويستحب فيهما" أي في يومي العيد استعمال "الطيب" ولو لم يرد الخروج للصلاة "و" يستحب فيهما أيضا لبس "الحسن من الثياب" قال خليل عاطفا على المندوب: وتطيب وتزين وإن لغير مصل، والمراد بالحسن من الثياب في العيد الجديد ولو أسود إلا النساء فإنهن إن أردن الخروج للصلاة لا يقربن طيبا ولا زينة وإن كن عجائز، وأما في منزلهن فلا حرج، وينبغي في زماننا أو يتعين أو يلحق بالنساء من تتشوق النفوس إلى رؤيته من الذكور، فيجب على ولي الصغير الجميل وسيد المملوك أن يجنبه اللباس الحسن ولو في غير العيد، والدليل على ذلك

خبر معاذ: "كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا غدونا إلى المصلى أن نلبس أجود ما نقدر عليه من الثياب لما في ذلك من إظهار النعمة والفرح والسرور" فلا ينبغي لأحد ترك الزينة والطيب يوم العيد تقشفا مع القدرة عليهما، ومن ترك ذلك رغبة عنه فهو مبتدع"ويستحب" أيضا "الأكل قبل الغدو" أي الذهاب إلى المصلى "يوم" عيد "الفطر" ويستحب كونه على تمرات وترا إن أمكن ليقارن أكله إخراج زكاة فطر؛ لأنه يؤمر بإخراجها قبل الصلاة، وليحصل التمييز بين الحالتين؛ لأنه كان صائما، وأما يوم النحر فالأفضل فيه تأخير الفطر ليفطر على كبد أضحيتهقال خليل : وفطر قبله في الفطر وتأخيره في النحر، والأصل في ذلك فعله صلى الله عليه وسلم، قال خليل مشيرا إلى جميع المندوبات بقوله: وندب إحياء ليلته وغسل بعد الصبح وتطيب وتزين وإن لغير مصل ومشي في ذهابه وفطر قبله في الفطر وتأخيره في النحر، وإنما استحب إحياء ليلة العيد لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا ليلة العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب"1 وفي حديث: "من أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة"2 وهي: ليلة الجمعة وليلة عرفة وليلة الفطر وليلة النحر، ومعنى لم يمت قلبه لم يتحير عند النزع ولا على القيامة، وقيل لم يمت في حب الدنيا والإحياء يحصل بالذكر والصلاة ولو في معظم الليل، وكثيرا ما يقع السؤال عن الإحياء هل يشترط كونه لمجرد ابتغاء الثواب الأخروي أو ولو خالطه قصد الدنيا كقراءة ليلة العيد أو ليلة الجمعة، والأنسب بمقام الكريم عدم اشتراط ذلك، وإن كان ثواب الأول أعظم كما قالوه في المجاهد وغيره" خاتمة " تشتمل على مسائل حسان منها: ما سئل عنه الإمام مالك رضي الله تعالى عنه من قول الرجل لأخيه يوم العيد: تقبل الله منا ومنك، يريد الصوم وفعل الخير الصادر في رمضان، غفر الله لنا ولك فقال: ما أعرفه ولا أنكره. قال ابن حبيب: معناه لا يعرفه سنة ولا ينكره على من يقوله؛ لأنه قول حسن؛ لأنه دعاء، حتى قال الشيخ الشبيبي يجب الإتيان به لما يترتب على تركه من الفتن والمقاطعة، ويدل لذلك ما قالوه في القيام لمن يقدم عليه، ومثله قول الناس لبعضهم في اليوم المذكور: عيد مبارك، وأحياكم الله لأمثاله، ولا شك في جواز كل ذلك، بل
ـــــــ
1 موضوع: رمز السيوطي بتخريجه عند الطبراني عن عبادة، ولم أقف عليه، وقال الألباني موضوع "ضعيف الجامع 5361"2 موضوع: أخرجه نصر المقدس في جزء من الأمالى "2/186" وقال الألباني موضوع "الضعيفة 2/12".

ولو قيل بوجوبه لما بعد؛ لأن الناس مأمورون بإظهار المودة والمحبة لبعضهم، ومنها: ما سئل عنه ابن سحنون من اجتماع الناس بأطعمتهم عند كبيرهم ويفعلونه كثيرا في الأرياف عند الفطر كل ليلة ويوم العيد فقال: مكروه وعلل الكراهة بما يحصل منهم غالبا من الغيبة وبالرياء لإمكان أكل بعضهم من طعام غيره أكثر مما يأكل من طعامه، وأقول: الذي يظهر أو يتعين الجزم به جواز ذلك لما فيه من إظهار المحبة وجلب المودة المطلوبين بين المسلمين، وأما دعوى الرياء فلا تظهر؛ لأنه لم يقصد أحد المبايعة والمعارضة في مثل هذا الوقت، وما أحسن قول الجزولي: والصحيح الجواز، وأما الغيبة فليست بلازمة ولا مظنونة والأصل السلامة منها. ثم شرع فيما يشبه صلاة العيد في حكمه بقوله:

"باب في" صفة وحكم "صلاة الخسوف"
للشمس والقمر؛ لأنه جمعهما في باب واحد، ويقال الكسوف بدل الخسوف، واختلف هل هما مترادفان أو متباينان، فعلى الترادف معناهما ذهاب الضوء من الشمس والقمر، وعلى التباين قيل وهو الأجود الكسوف التغير والخسوف الذهاب بالكلية، والذي عليه الأكثر الأول وهو ذهاب ضوئهما كله أو بعضه إلا أن يقل الذاهب جدا بحيث لا يدركه إلا الحاذق من أهل المعرفة فلا يصل له لتنزله منزلة العدموسبب خسوف الشمس ما قاله ابن حبيب: من أن الله تعالى إذا أراد أن يخوف عباده ويظهر لهم شيئا من عظمته وسلطانه فتقع الشمس في البحر المكفوف بين السماء والأرض، فإذا سقطت كلها غابت كلها أو بعضها غاب ذلك البعض، فالحاصل أن الغائب من الضوء بقدر الساقط، وبالجملة فالخسوف آية من آيات الله تعالى يخوف بها عباده ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بالدعاء والصلاة عند ذلك رجاء لظهور الضوء، وبدأ ببيان حكم صلاة كسوف الشمس بقوله: "وصلاة الخسوف" للشمس "سنة واجبة" أي مؤكدة على الأعيان يخاطب بها كل من يؤمر بالصلاة ولو ندبا، فتخاطب بها النساء والعبيد والصبيان والمسافر والحاضر في ذلك سواء، وتصليها المرأة في بيتها؛ لأن الجماعة غير شرط فيها بل مستحبة للرجال في المساجدقال خليل: سن وإن لعمودي ومسافر لم يجد سيره لكسوف الشمس ركعتان سرا بزيادة قيامين وركوعين، دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع، فالكتاب قوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] قال الفاكهاني: يحتمل أن يكون المراد بها صلاة خسوف الشمس، وأن يكون المراد بها عبادة الله دون عبادتهما، وأما

السنة فما في الحديث: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله" وفي رواية "فافزعوا إلى الصلاة" 1 وأما الإجماع فقد قال القرافي: أجمعت الأمة على مشروعيتها دون صفتها، وقال الأقفهسي: من جحدها فهو كافر يستتاب فإن لم يتب قتل ا هـ، وأقول: لي في قوله من جحدها يقتل إن لم يتب بحث لما تقرر من أن جاحد المجمع عليه لا يقتل إلا إذا عرفه الخاص والعامقال صاحب الجوهرة: ومن لمعلوم ضرورة جحد من ديننا يقتل كفرا ليس حد وصلاة الكسوف ليست كذلك إذ لم يعرفها إلا العالم، فلعل كلام الأقفهسي من باب المبالغة، ثم بين صفتها بقوله: "إذا خسفت الشمس" بمعنى ذهب ضوءها ولو البعض إلا ما قل جدا كما قدمنا "خرج الإمام" ندبا "إلى المسجد"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرو أنه خرج لصلاتها في المصلى بمعنى الصحراء، بخلاف العيد والاستسقاء فالمستحب فعلهما في الصحراء لكثرة الحاضرين لفعلها، بخلاف صلاة الخسوف ووقت صلاة الجميع من حل النافلة إلى الزوال، فلو طلعت الشمس مكسوفة انتظر بفعلها حل النافلة، ولو كسفت بعد الزوال لم يصل لها، كما لا يصلي العيد والاستسقاء بعد الزوال؛ لأن الأوقات مستحقة للفرائض، إلا ما كان من حل النافلة للزوال فهو للسنن الراتبة. "فافتتح الصلاة بالناس"؛ لأن الجماعة في صلاة الكسوف مستحبة على المعتمد، وينوي الإمام والناس سنة الكسوف، ولا حد في جماعة الكسوف بخلاف صلاة الجمعة، ويفتتحها الإمام بمجرد دخوله المسجد في وقت حل النافلة "بغير أذان ولا إقامة"؛ لأنهما من شعائر الفرائض، لكن صح أنه عليه الصلاة والسلام نادى فيها: الصلاة جامعة، ويكبر في افتتاحها كسائر الصلوات. "ثم" بعد الإحرام وقراءة الفاتحة "قرأ قراءة طويلة سرا" على جهة الندب؛ لأنها نهاية، هكذا فعلها صلى الله عليه وسلم واستمر عليه عمل أهل المدينة، وهذا ما لم تتضرر الناس بتطويلها، وإلا تركه الإمام وصلاها بزيادة قيامين وركوعين لكن غير تطويل، وفسر القراءة الطويلة بقوله "بنحو سورة البقرة" بعد أم القرآن في القيام الأول من الركعة الأولى؛ لأنها مشتملة على زيادة قيامين وركوعين، وإنما قال بنحو سورة البقرة إشارة إلى أن الندب لا يختص بهذه السورة، بل المراد هي أو قدرها كما في المدونة، ونصها يقوم قياما طويلا نحوا من سورة البقرة. "ثم" بعد تمام القراءة "يركع ركوعا طويلا نحو ذلك" أي يقرب منه في الطول لا أنه يساويه ويسبح في ركوعه "ثم" بعد ركوعه "يرفع رأسه" حالة كونه "يقول سمع الله لمن
ـــــــ
1 صحيح: اخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الصدقة في الكسوف حديث "1044" ومسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، حديث "901"، والنسائي، حديث "1487"، وأحمد "1/298" حديث "2711".

حمده" وتقول الناس خلفه: ربنا ولك الحمد. "ثم" بعد رفع رأسه من الركوع يستمر قائما القيام الثاني "يقرأ" فيه بعد الفاتحة قراءة طويلة لكنها "دون قراءته الأولى" في الطول بأن يقرأ آل عمران أو نحوها. "ثم" بعد قراءة نحو آل عمران "يركع" الركوع الثاني "نحو" أي يقارب "قراءته الثانية" في القيام الثاني "ثم" بعد الركوع الثاني "يرفع رأسه" حالة كونه "يقول سمع الله لمن حمده" والمأموم خلفه يقول: ربنا ولك الحمد، ولا تطويل في حالة الرفع من الركوع. "ثم" بعد رفعه من الركوع الثاني "يسجد سجدتين تامتين" يطول فيهما تطويلا قريبا من الركوع الكائن قبلهماقال خليل : وركع كالقراءة وسجد كالركوع، أي يفعل كل ركوع كالقراءة التي قبله، والمراد أن كل واحد قريب مما قبله في الطول ولا يساويه، ويسجد كل سجود قريبا من الركوع الذي قبله خلافا لظاهر كلام المصنف، بل ظاهر كلامه أن التطويل في السجدتين مستو وليس كذلك بل السجدة الثانية أقصر من الأولى، كما أن الركوع قريب من زمن القراءة التي قبله. "ثم" بعد السجدتين "يقوم" للركعة الثانية "فيقرأ" بعد فاتحة الكتاب قراءة "دون" أي أقصر زمنا من زمن "قراءته التي تلي ذلك" أي زمن قراءته الكائن في القيام الثاني من الركعة الأولى، فيستحب أن يقرأ فيه بنحو سورة النساء، واستشكل بعض الشيوخ قولهم يقرأ في القيام الأول من الركعة الثانية سورة النساء مع ما نقل عن مالك من أن القيام الأول في الركعة الثانية أقصر من القيام الثاني من الركعة الأولى وقراءة النساء تنافي ذلك، وأجيب بأنه لا يلزم من كثرة المقروء طول زمن قراءته لإمكان الإسراع مع الترتيب حتى يصير زمن قراءة النساء أقصر من زمن قراءة سورة آل عمران. "ثم" بعد تمام القيام الثالث "يركع نحو" أي قريبا من "قراءته" في القيام الذي قبله "ثم" بعد ذلك "يرفع رأسه كما ذكرنا" في رفعه من ركوع ما قبل هذه الركعة من قوله: سمع الله لمن حمده، وقول المأموم خلفه: ربنا ولك الحمد، من غير تطويل زائد على ذلك"ثم يقرأ" بعد رفعه من ذلك الركوع "دون" أي أقصر من "قراءته هذه" التي في القيام الثالث بأن يقرأ بعد الفاتحة من سورة المائدة. "ثم" بعد الفراغ من قراءة القيام الرابع "يركع نحو" أي قريبا من "ذلك" أي من زمن القيام الرابع "ثم يرفع" رأسه "كما ذكرنا" أي حالة كونه قائلا: سمع الله لمن حمده إن كان إماما، والمأموم: ربنا ولك الحمد. "ثم" بعد تمام الرفع من الركوع "يسجد سجدتين كما ذكرنا" في الركعة الأولى من كونهما تامتين طويلتين كل سجدة قريبة مما قبلها في الطول.

قال خليل : وركع كالقراءة وسجد كالركوع أي الثاني، وتقدم أن المراد كل واحد قريب مما قبله في الطول. "ثم" بعد تمام السجدتين "يتشهد ويسلم" وحصلت السنةقال خليل : وتدرك الركعة بالركوع ولا تكرر على جهة الكراهة، وقيل المنع ولعل المراد بالمنع الكراهة فلا مخالفة إلا إذا انجلت ثم كسفت مرة أخرى بعد صلاتها وقبل الزوال فإنها تكرر لاختلاف السبب، وأما لو كسفت في أيام لطلبت صلاتها بعدد الأيام، قال خليل: ووقتها كالعيد ولا تكررقال شراحه: معناه في اليوم الواحد عند اتحاد السبب، ولما كان يتوهم من قوله يخرج لها الإمام والناس شرطية الجماعة فيها رفع هذا الإيهام بقوله: "ولمن شاء أن يصلي" صلاة الكسوف "في بيته مثل ذلك" الوصف الذي قدمناه من زيادة قيامين وركوعين مع الطول في القراءة والركوع والسجود "فليفعل" ويكون مؤديا للسنة لما عرفت من أن الجماعة ليست شرطا فيها بل مندوبة فيسن للمنفرد فعلها وإن تمكن من الجماعة، وإنما يفوت على نفسه ثواب فعلها في الجماعة بخلاف صلاة العيد شرط وقوعها سنة فعلها مع الجماعة، فمن فاتته مع جماعتها في البلد ندبت له فقط، وإن فعلها مع جماعة لم تقع له سنة؛ لأن السنة تحصل بالجماعة الأولى لما تقدم من أنها لا تتعدد في البلد الواحد إلا إذا كانت مصرا" تنبيهات " الأول : لم يعلم من كلام المصنف حكم تطويل القراءة، ولا حكم تطويل القيام ولا السجود ولا حكم الركوع الأول، ولا تدرك به الركعة من الركوعين، وملخص القول في ذلك: أن في تطويل القيام والركوع والسجود قولين المعتمد منهما الندب ومقابله السنية، وعلى المعتمد لا سجود في تركه سهوا ولا بطلان في تركه عمدا ولو من الثلاث، بأن قرأ في القيام الأول بسبح، وفي الثاني بهل أتاك، وفي الثالث بألم نشرحوفي الرابع بإنا أنزلناه، وركع كالقراءة وسجد كالركوع، وعلى مقابله السجود في السهو والبطلان في العمد ولو من واحد من الثلاث على أحد القولين، وأما نفس القيام الأول فحكمه السنية، وكذا الركوع الأول الزائدين، فمن صلاها بقيام واحد وركوع واحد كبقية الصلوات، فإن كان ساهيا سجد قبل السلام، وإن كان عامدا أجرى الخلاف في بطلان صلاته المشار إليه بقول خليل: وهل يتعمد ترك سنة أو لا؟ ولا سجود خلاف، وتدرك ركعتها بالركوع الثاني من الركوعين، فمن دخل مع الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأخيرة فقد أدرك الصلاة مع الإمام ويقضي الثانية بقيامين وركوعينالثاني : ظاهر كلام المصنف أن الفاتحة تكرر في كل قيام وهو كذلك على مشهور المذهب.

الثالث : لم يذكر المصنف حكم ما لو شرع في صلاة الكسوف ثم انجلت وفيه تفصيل بينه شراح خليل ومحصله: إن انجلت بعد تمام شطرها فقيل يتمها بقيامين وركوع على سنيتها لكن من غير تطويل، وقيل يتمها كالنافلة بقيام واحد وركوع واحد، وإن انجلت قبل تمام شطرها فقيل يقطعها وقيل يتمها كالنوافل وهذا هو الراجحالرابع : لم يبين كخليل حكم ما لو زالت في أثنائها وتردد فيه شيخ مشايخنا الأجهوري وأقول الذي يظهر من كلام أهل المذهب أنه يتمها كالنافلة ولا يقطعها؛ لأن العبادة إذا افتتحت بوجه جائز ثم تبين خروج وقتها أو تبين براءة الذمة منها يخفف في فعلها وتممت نافلة ولا تقطع، وإن كان الوقت وقت نهي؛ لأن النفل إنما يحرم في وقت النهي إذا كان مدخولا عليه، ولا فرق بين كون الزوال قبل تمام شطرها أو بعده، وليس الزوال كالتجلي لوجود السبب هنا في الجملة وحرر ذلكالخامس : لم يبين المصنف حكم ما لو ضاق الوقت عن صلاتها على تلك الصفة، والذي يظهر أنها تفعل على ما يمكن ولو على غير هيئتها؛ لأن السنن قد تترك عند ضيق الوقت كالسورة مثلا لمن خاف بقراءتها خروج الوقت وعدم إدراكه، وأشار إلى صفة صلاة خسوف القمر بقوله: "وليس في صلاة خسوف القمر جماعة وليصل الناس عند ذلك أفذاذا"؛ لأنها مستحبة على المعتمد ففعلها في البيوت أفضل. "والقراءة فيها جهرا"؛ لأنها نافلة ليلية فيها الجهر "كسائر ركوع النوافل" الليلية وأشار خليل إليها بقوله: وركعتان ركعتان لخسوف قمر كالنوافل جهرا بلا جمع، فأشار إلى أن الأفضل فيها الانفراد وتكره فيها الجماعة ويجوز تكرارها، وأفاد بقوله كالنوافل أنها تصلى ركعتين من غير زيادة في القيام ولا في الركوع، وأنها مستحبة وليست سنة، ومقابل المعتمد قول ابن عطاء الله: أنها سنة وقتها الليل كله فإن طلع مكسوفا صلوا المغرب قبلها، ويفوت فعلها بطلوع الفجر فلا تفعل بعده ولو تعمدوا تأخيرها حتى طلع الفجر، ومن باب أولى في عدم صلاتها لو لم يخسف إلا بعد الفجر، ووقع الخلاف لو خسف ليلا وأخروا الصلاة حتى غاب فعندنا لا تصلى وعند الشافعي تصلى، والدليل على ما قاله المصنف ما في الموطإ: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس إلا في خسوف الشمس، ولم أسمع أنه جمع لخسوف القمر، ولكن يصلون أفذاذا ركعتين كسائر النوافل"وليس في إثر" أي عقب "صلاة خسوف الشمس خطبة مرتبة" بحيث يجلس في أولها وفي وسطها؛ لأن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي بن أبي طالب والنعمان بن بشير وابن عباس وجابر وأبو هريرة نقلوا صفة صلاة الكسوف ولم يذكر أحد منهم أنه عليه الصلاة

والسلام خطب فيها، وما صدر من تسمية عائشة لما صدر منه خطبة فمحمول على أنه أتى بكلام يشبه الخطبة. "و" لكن "لا بأس" بمعنى أنه يستحب "أن يعظ" الإمام "الناس" بعدها "ويذكرهم" تفسير للوعظقال خليل عاطفا على المندوب: ووعظ بعدها؛ لأن الوعظ إذا ورد بعد الآيات يرجى تأثيره، وكما يستحب للإمام وعظ الناس يستحب له تحريضهم وحثهم على بذل الصدقات والعتق والصيام، والأصل في ذلك ما في الحديث: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله" . وأما ما يفعله الناس من نقر النحاس عند الخسوف فهو بدعة من عمل فرعون "خاتمة" لم يذكر المصنف حكم الصلاة أو السجود عند شيء من الآيات غير الخسوف من نحو الزلزلة والريح الشديد ونحوهماوالنص عن مالك: "لا يصلي عند الزلزلة ولا عند شدة الريح ولا شدة الظلمة" والمراد الكراهة، وقال مالك أيضا: "ولا يسجد عند البشرى" وقال عمر بن عبد العزيز: يسجد وقد سجد شكرا حين بلغه موت الحجاج، والمعتمد الكراهة قال خليل: شكرا أو زلزلة نعم قد روي عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أيضا: "ولكن أرى أن يفزع للصلاة عند الأمر يحدث مما يخاف أن يكون عقوبة كالزلازل والظلمات والريح الشديدة" وهو قول أشهب، فتخلص أن المكروه عند تلك المذكورات خصوص السجود، وأما الصلاة فتطلب عند ذلك ويدل لذلك ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من قوله لبلال عند حصول الأمر المهم: "أرحنا بالصلاة"

"باب في" بيان "صلاة الاستسقاء"
بالمد وهو لغة طلب السقي، وشرعا طلب السقي من الله تعالى لقحط نزل بهم أو بدوابهم، وهي مشروعة عند جمهور الأئمة خلافا لأبي حنيفة في قوله: لا تصلى؛ لأنها بدعة وحمل ما ورد مما يدل على فعلها على الدعاء ودليل المشهور قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60] وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10] الآية، وما في الصحيحين: من "أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى واستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين"1وفي رواية البخاري: "جهر فيهما بالقراءة" والإجماع على
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب تحويل الرداء في الاستسقاء، حديث "1012"، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، حديث "894".

ذلك، وتشرع عند تأخير النيل والمطر، وقد احتاج الزرع أو الآدمي أو الحيوان البهيمي إلى الماء فيأمر الإمام الناس بالتوبة والاستغفار والإتيان بما يجب عليهم؛ لأن تغير الحال إنما يكون غالبا لارتكاب الذنوب. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وأشار إلى بيان حكمها بقوله: "وصلاة الاستسقاء سنة" على الأعيان يتأكد أن "تقام" أي تصلىقال خليل : سن الاستسقاء لزرع أو شرب بنهر أو غيره وإن بسفينة ركعتان جهرا وكرر إن تأخر، وحاصل المعنى: أنها إنما تسن للمحل بفتح الميم والحاء وهو احتياج الزرع والجدب بالدال المهملة ضد الخصب بكسر الخاء أو لشرب الآدمي أو الدواب، وأما من لم يكن في محل ولا جدب ولا يحتاج إلى الشرب وقد أتاهم من الغيث الكفاية لا مع سعة فإنه يجوز في حقهم من غير استنان ولا ندب إلا أن يكون يترتب على السعة فعل خير فيندب، وأما من كان في خصب ورخاء وأراد أن يطلب به الرخاء أو الخصب لغيره فيندب؛ لأنه إعانة على الخير، والحاصل أن فعل الاستسقاء على ثلاثة أحوال وتفعل صلاة الاستسقاء في الحضر والسفر، ثم بين وقتها بقوله: "يخرج لها الإمام" إلى المصلى "كما يخرج للعيدين" وذلك عند "ضحوة" النهار وهي من حل النافلة إلى الزوالقال خليل : وخرجوا ضحى مشاة ببذلة وتخشع مشايخ وصبية لا من لا يعقل منهم ولا بهيمة ولا حائض. "فيصلي بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة" ندبا كما يندب أن "يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى" في الركعة الأولى وفي الثانية بسورة "والشمس وضحاها" اقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قرأ في صلاتها بهاتين السورتين "وفي كل ركعة سجدتان وركعة واحدة" أي ركوع واحد فليست كصلاة كسوف الشمس. "ويتشهد ويسلم" وتحصل، السنة بفعل الركعتين من الذكور البالغين؛ لأنهم الذين تسن في حقهم، وأما الصبيان والمتجالات من النساء فتندب في حقهم، فإن لم يحصل المراد من غيث أو نيل كررت على توالي الأيامقال خليل : وكرر إن تأخر لا في اليوم الواحد، قال ابن حبيب: لا بأس به أياما متواليةقال أصبغ: استقي عندنا بمصر خمسة وعشرون يوما متوالية على سنة صلاة الاستسقاء وحضر ذلك ابن القاسم وابن وهب ورجال صالحون فلم ينكروه.

" تنبيهان " الأول : أجمل المصنف في الناس مع أنهم ثلاثة أقسام: قسم يخرج اتفاقا وهم الرجال والمتجالات من النساء ومن يعقل في القرية من الصبيان، وقسم لا يخرج اتفاقا وهن الشابات المخشيات الفتنة، وقسم اختلف فيه وهو من لا يعقل في القرية والشابات غير المخشيات والبهائم، والذي اقتصر عليه خليل عدم خروجهم فإنه قال: لا من لا يعقل منهم وبهيمة وأما أهل الذمة فأباح في المدونة خروجهم مع الناس ولكن يقفون على جهة ولا ينفردون بيوم آخر، قال خليل: ولا يمنع ذمي وانفرد لا بيوم آخرالثاني : لم يبين المصنف صفة خروج الإمام والناس وبينه خليل بقوله: ببذلة وتخشع أي متواضعين وجلين لابسين ثياب البذلة، والظاهر كما قدمنا بيانه أن فعلها في المصلى في غير أهل مكة كالعبد، وأما أهل مكة فيستسقون في المسجد الحرام كما يصلون فيه العيد نص على ذلك الأجهوري "ثم" إذا سلم الإمام "يستقبل الناس" ندبا "بوجهه فيجلس" على الأرض قبل خطبته "جلسة" بفتح الجيم؛ لأن المراد مرة كجلسته قبل الخطبة على المنبر والناس يجلسون كذلك. "فإذا اطمأن الناس" جالسين "قام" حالة كونه "متوكئا على قوس أو عصا" أو سيف لئلا يعبث بلحيته "فخطب" بالأرض الخطبة الأولى "ثم جلس" قدر ما بين السجدتين "ثم قام فخطب" الخطبة الثانية كخطبة العيد لكن يبدل التكبير بالاستغفارقال خليل: ثم خطب كالعيد لكن يبدل التكبير بالاستغفار، ثم قال: وندب خطبة بالأرض فلا يخطب على منبر ففي المدونة يمنع، ولعل المراد بالمنع الكراهة لأن هذه الحالة يطلب فيها التواضع، ويدعو في خطبته بكشف ما نزل بهم ولا يدعو لأمير المؤمنين ولا لأحد من الخلفاء، وتستحب المبالغة في آخر الخطبة الثانية حالة كونه مستقبلا بأن يكثر من الدعاء ويأتي بأجوده وهو ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم في استسقائه وهو: "اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت" ويجهر بالدعاء ويؤمن على دعائه من يقرب منه" تنبيهان " الأول : ما ذكره المصنف من أن صلاة الاستسقاء بخطبتين كالعيد هو المذهب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خطب خطبتين وجلس بينهما والمطلوب توسطهاالثاني : ما ذكره المصنف من كون الخطبة بعد الصلاة هو المشهور من قول مالك، ودليله ما خرجه أصحاب الصحاح أنه عليه الصلاة والسلام قدم الاستسقاء؛ ولأن تقديم الصلاة أنجح في الدعاء فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد حاجة توضأ وصلى ثم يسأل الله؛ لأنها حق الله والدعاء حق العبد فيقدم حق الله، كما قدم الثناء في الفاتحة وفي التشهد قبل الدعاء وقياسا على العيدين

واستماعهما مندوب وكل من حضر والإمام يخطب يجلس ولا يصلي وبعد الخطبة يخير في الصلاة؛ لأنها صارت نافلة كمن فاتته صلاة العيد مع الإمام قاله القرافي" فإذا فرغ " الإمام من الخطبة "استقبل القبلة" ندبا "فحول رداءه" بأن "يجعل ما على منكبه الأيمن على الأيسر و" يجعل "ما على الأيسر على" منكبه "الأيمن" والسر في التحول المذكور التفاؤل بأن الله تعالى يحول ساعة الجدب بساعة الخصب وساعة العسر بساعة اليسر "ولا يقلب ذلك" الرداء بأن يجعل الحاشية السفلى عليا والعليا سفلى. "وليفعل الناس" أي الرجال بأرديتهم "مثله" أي مثل الإمام اقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأما النساء فلا يحولن، وقولنا بأرديتهم للاحتراز عن البرانس فلا تحول، ثم بين زمن التحويل من الإمام بقوله "وهو قائم وهم قعود ثم يدعو كذلك" قال خليل عاطفا على المندوب: ثم حول رداءه يمينه يساره بلا تنكيس وكذلك الرجال فقط قعودا، ومن الأدعية ما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت"وروي عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجللا عاما طبقا سحا دائما، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنه قد نزل بالعباد والبلاد من الأذى والضنك والجهد ما لا يشكى إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك فإنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا" ويرفع يديه في حال الدعاء وبطونهما إلى الأرض وقيل إلى السماء، وورد أنه بعد الدعاء يضع يديه على وجهه ويمسحه بهما لكن من غير تقبيل، والحاصل أن الدعاء متأخر عن التحويل؛ لأنه يخطب ثم يستقبل القبلة ثم يحول ثم يدعو على هذا الترتيب، والناس مثل الإمام إلا في حال الخطبة والدعاء فإن الإمام يكون قائما وهم جلوس. "ثم" بعد فراغ الدعاء "ينصرف" أي الإمام "وينصرفون ولا يكبر" أحد "فيها" أي صلاة الاستسقاء. "ولا في" صلاة "الخسوف غير تكبيرة الإحرام" وتكبيرة "الخفض والرفع" كما أنه لا يكبر في الخطبة؛ لأنه يبدل التكبير المطلوب في خطبة العيد فيها بالاستغفار كما قدمنا "ولا أذان فيها ولا إقامة" كما تقدم في صلاة الخسوف؛ لأنهما من شعائر الفرائض"خاتمة" لم يتكلم المصنف على ما لو استجاب الله الدعاء وأنزل الغيث وتوقعنا منه الضرر

لكثرته، والحكم فيه أنه لا يدعي برفعه وإنما يدعي برفع ضرره، ومما ورد في الدعاء لرفع ضرره ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على منابت الشجر وبطون الأودية وطهور الآكام والآجام والظراب" 1؛ لأن المعنى: اللهم أنزله حوالينا ولا تنزله علينا، والآكام جمع أكمة وهي التل وهو ما اجتمع من الحجارة والآجام مثلها والأجمة من القصب، والظراب بكسر الظاء هي البوادي الكبار والجبال الصغار، ولا يقول ارفعه عنا؛ لأنه رحمة في الجملة ونعمة لا يطلب رفعها، ولذلك وقع الاضطراب في جواز الدعاء برفع الطاعون. قال البدر القرافي: شيخ شيخ بعض شيوخنا الأجهوري وقد كثر السؤال عنه وأفتى علماء عصره بأنه شهادة والشهادة لا يسأل رفعها إلا البكري، لم أقف للمالكية على نص صريح فيه، غير أن سيدي أحمد زروق والقلشاني استعملا أدعية للحفظ منه وهي تدل على الحوازة، دعوات سيدي، أحمد زروق: تحصنت بذي العزة والجبروت، واعتصمت برب الملكوت، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، اصرف عنا الأذى إنك على كل شيء قدير، يقول ذلك ثلاثاودعوات القلشاني: اللهم سكن فتنة صدمت قهرمان الجبروت، بألطافك الخفية الواردة النازلة من باب الملكوت، حتى نتشبث بألطافك ونعتصم بك عن إنزال قدرتك، يا ذا القدرة الكاملة والرحمة الشاملة، يا ذا الجلال والإكرام. ومما يدل على الجواز أيضا ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تتمنوا لقاء العدو" 2 مع أن لقاءه يستلزم الشهادة. قال أبو عمران: تم ثلث الرسالة، ونسأل الله المنان بفضله الإقدار على تمام شرح البقية مع الإخلاص وحسن النية بحق سيدنا ومولانا محمد خير البرية. ولما كان سبب الاستسقاء ربما يتوقع منه الموت ناسب ذكر باب الجنائز عقبه بقوله:
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، حديث "933"، ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، حديث "897"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم -، حديث "2966"، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني كفاء العدو والأمر بالصبر، حديث "1741" وا[و داود، حديث "2631"، والترمذي، حديث "714"، وأحمد "2/400" حديث "9187".

باب بيان مايفعل بالمحتضر
"باب" بيان "ما يفعل بالمحتضر"
بفتح الضاد أي الذي حضر أجله. "وفي" بيان حكم "غسل الميت" ولم يضمر بأن يقول وفي غسله؛ لأنه إنما يغسل بعد موته، وفي تلك الحالة لا يسمى محتضرا إلا على طريق المجاز نحو: "وآتوا اليتامى" أي الذين كانوا يتامى. "و" في بيان حكم "كفنه" بسكون الفاء أي إدراجه

في الكفن بفتح الفاء. "و" في بيان "تحنيطه" أي ما ذكر من الكفن والميت. "و" في بيان "حمله" إلى المصلى أو إلى القبر؛ لأنه وإن لم يصرح بذلك يعلم من وجوب دفنه المشار إليه بقوله: "ودفنه" أي وضعه في قبره وستره. وبدأ بما صدر به فقال: "ويستحب" لمن ظهرت له علامات قرب الموت "استقبال القبلة بالمحتضر" أي تقبيله فالسين زائدة؛ لأن القبلة أفضل الجهات وفيه التفاؤل بأنه من أهلها، ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لابنه: إذا حضرتني الوفاة فاصرفني إلى القبلة، ومثله عن علي رضي الله عنه، والمستحب في صفة الاستقبال أن يجعل على جنبه الأيمن وصدره إلى القبلة، كما يستحب أن يوضع في قبره على جنبه الأيمن مستقبلا، وهذا بخلاف وضعه للغسل فيستحب وضعه على جنبه الأيسر ليبدأ بغسل الجنب الأيمن، ومقدمات الموت إحداد بصره وشخوصه إلى السماءفقال خليل عاطفا على المندوب: وتقبيله عند إحداده على أيمن ثم ظهر ويكره أن يستقبل به القبلة قبل ظهور علامات الموت كما يفعله العوام فإن ذلك يؤذي المريض. "و" يستحب لمن حضره "إغماضه" أي إغلاق عينيه "إذا قضى" أي مات بالفعل ولذلك عبر بإذا المفيدة للتحقيق، كما يستحب شد لحييه بعصابة عريضة ويربطها من فوق رأسه لينطبق فاه، وإنما استحب إغماضه؛ لأن فتح عينيه بعد موته يقبح به منظره، كما أن فتح فيه كذلك، ومن علامات تحقق الموت انقطاع نفسه وإحداد بصره وانفراج شفتيه وسقوط قدميه، والأصل في ذلك ما في مسلم عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقق بالبناء للفاعل بصره فأغمضه وقال: "الروح إذا قبض تبعه البصر" 1 ويقال عند ذلك: بسم الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم يسر عليه أمره وسهل عليه موته وأسعده بلقائك واجعل ما خرج إليه خيرا مما يخرج منه، ويستحب أن يتولى إغماضه من هو أرفق به من أوليائه، ومن مات ولم يغمض وانفتحت عيناه وشفتاه يجذب شخص عضديه وآخر إبهامي رجليه فإنهما ينغلقان، كما يستحب تليين مفاصله برفق عقب موته تسهيلا على الغاسل، ورفعه عن الأرض بأن يوضع على سرير خوف الهوام، ويستحب ستره بثوب زائد على ما كان عليه قبل الموت؛ لأنه ربما يظهر منه ما لا يجب أن يطلع عليه غيره، ويستحب الإسراع بتجهيزه إلا الغريق، وأما تأخير تجهيز المصطفى عليه الصلاة والسلام فللأمن من تغيره وللاهتمام بعقد الخلافة، ولذلك دفنت فاطمة رضي الله تعالى عنها ليلا، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه وغيرهما ممن مات ليلا، حتى استثني تجهيز الميت من ذم
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر حديث "920".

العجلة وأنها من الشيطان، ومثله التوبة والصلاة في أول وقتها، وإنكاح البكر إذا بلغت، وتقديم الطعام للضيف، وقضاء الدين إذا حل، وتعجيل الأوبة من السفر، وإخراج الزكاة عند حلولها، فكل ذلك المطلوب فيه العجلة، وأما الغريق ومن به مرض السكتة ومن يموت فجأة أو تحت هدم فلا يسرع بتجهيزهم. "و" يستحب أن "يلقن" المحتضر بأن يقول الجالس عنده بحيث يسمع: "لا إله إلا الله" محمد رسول الله ولو لم يقل أشهد، ولا بد من جمع محمد رسول الله مع لا إله إلا الله إذ العبد لا يكون مسلما إلا بهما ومحل ذلك "عند" ظهور علامات "الموت" ليتذكرهما بقلبه فيموت وهو معترف بهما، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" 1 فإن المراد به من حضره الموت ليكون ذلك آخر كلامه، و لأن ذكر الله يطرد الشيطان، وينبغي أن يلقنه غير وارثه ممن له به محبة وإلا فأرأفهم به، ولا يلح عليه ولا يقول له قل لئلا يوافق ذلك قوله لا لرد فتنة الفتانين أو إبليس؛ لأنهم يحضرون للمحتضر على صفة من تقدم موتا من أحب الناس إليه من أقاربه فيقولون له: مت على دين كذا فإنه خير الأديان، ولا يشكل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمه أبي طالب عند احتضاره: "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" ؛ لأن أبا طالب لم يكن سبق منه التلفظ بها، وإذا قالها المحتضر لا تعاد عليه إلا أن يتكلم بكلام أجنبي فتعاد عليه لتكون آخر كلامه فيدخل الجنة، ولا يضجر الملقن من عدم قبول المحتضر لما يلقنه؛ لأنه يشاهد من عظائم الموت في ذلك الوقت ما لا نطلع عليه، ومن خرس لسانه أو ذهب عقله فلم ينطق بالشهادتين حتى مات ولم يخطر الإيمان بقلبه مات مؤمنا ولا يضره ذلك، كما أن الكافر إذا مات كذلك يحكم له بالكفر؛ لأن المعتبر ما كان عليه الشخص قبل موته، حيث لم يصدر منه في حال كمال عقله ما ينافي ذلك كما قدمناه في صدر الكتاب من أن الميت المؤمن إيمانه باق حكما بعد موته" تنبيهان " الأول : ظاهر كلام المصنف تلقين المحتضر ولو كان صبيا مميزا، خلافا للنووي حيث قال: لا يلقن إلا البالغ، وظاهر كلامه أيضا أنه لا يلقن بعد دفنه. قال العز بن عبد السلام: وليس العمل عند مالك على التلقين بعد الدفن، وجزم النووي بندبه، وقال ابن الطلاع من المالكية: هو الذي نختاره ونعمل به، وقد روينا فيه حديثا ليس بالقوي لكن اعتضد
ـــــــ
1 صحيح: اخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله، حديث "916"، وأبو داود، حديث "3117"، والترمذي، حديث "976"، والنسائي، حديث "1826"، وابن ماجه، حديث "1444"، وأحمد "3/3"، حديث "11006".

بالقواعد وبعمل أهل الشام، وممن وافق على ندبه صاحب المدخل والقرطبي والثعالبي وغير واحد، حتى قال الأبي: ولا يبعد حمل: "لقنوا موتاكم" على التلقين بعد الدفن ولعل وجه عدم البعد صريح لفظ الحديث حيث قال: موتاكم والأصل عدم التأويل، ووجه المشهور التعليل بصيرورتها آخر كلامه فافهمالثاني : لم يتكلم المصنف على حكم ملازمة المحتضر ولا على من يطلب منه، ومحصله أنها تجب على أقاربه، فإن لم يكونوا فعلى أصحابه ملازمته. فإن لم يكونوا فعلى جيرانه، فإن لم يكونوا فعلى عموم المسلمين على جهة الكفاية، فقد ترك ابن عمر حضور صلاة الجمعة حين دعي لحضور سعيد بن زيد، ومحل طلب الحضور عند المريض عند اشتداد مرضه ما لم يكن يكره ذلك لكونه صار على حالة لا يحب أن يراه أحد عليها فيسقط طلب حضوره بمنعه. ومما يستحب في حق المحتضر ما أشار إليه بقوله: "وإن قدر" بالبناء للمفعول "على أن يكون" جسم المحتضر "طاهرا وما عليه طاهر فهو أحسن" أي مستحب كما يستحب وضع الروائح الطيبة عنده "ويستحب" أيضا "أن لا يقربه" أي المحتضر "حائض ولا جنب" ولا صبي يعبث، ولا يكف إذا نهي، ولا كلب غير مأذون في اتخاذه وقيل مطلقا، ولا تمثال ولا آلة لهو، ونحو ذلك مما تكرهه الملائكة، والمراد بتجنب ما ذكر أن لا يكون مع المحتضر في محل واحد. "وأرخص" بالبناء للفاعل أي استحب "بعض العلماء" وهو ابن حبيب "في القراءة عند رأسه" أو رجليه والضمير للمحتضر "بسورة يس" لخبر: "إذا قرئت، عليه سورة يس بعث الله ملكا لملك الموت أن هون على عبدي الموت" وحديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ميت تقرأ عنده سورة يس إلا هون الله عليه". وقال أيضا: "اقرءوا على موتاكم يس". وقال ابن حبيب: أراد به بعض من حضره الموت لا أن الميت يقرأ عليه. "ولم يكن ذلك" أي المذكور من القراءة عند المحتضر "عند مالك أمرا معمولا به" بل تكره عنده قراءة يس ~ أو غيرها عند موته أو بعده أو على قبرهقال ابن عرفة وغيره من العلماء: ومحل الكراهة عند مالك في تلك الحالة إذا فعلت على وجه السنية، وأما لو فعلت على وجه التبرك بها ورجاء حصول بركة القرآن للميت فلا، وأقول: هذا هو الذي يقصده الناس بالقراءة فلا ينبغي كراهة ذلك في هذا الزمان وتصح الإجارة عليهاقال القرافي: والذي يظهر حصول بركة القرآن للأموات كحصولها بمجاورة الرجل الصالح، وبالجملة فلا ينبغي إهمال أمر الموتى من القراءة ولا من التهليل الذي يفعل عند الدفن،

والاعتماد في ذلك كله على الله تعالى وسعة رحمته، وذكر صاحب المدخل أن من أراد حصول بركة قراءته وثوابها للميت بلا خلاف فليجعل ذلك دعاء فيقول: اللهم أوصل ثواب ما أقرؤه لفلان أو ما قرأته، وحينئذ يحصل للميت ثواب القراءة وللقارئ ثواب الدعاء ولما كان الموت يتسبب عنه البكاء والتفجع بين حكمه بقوله: "ولا بأس بالبكاء" بالمد وهو ما كان "بالدموع حينئذ" أي حين الاحتضار، وكذا بعد الموت حيث لم يصحبه رفع صوت ولا قول قبيحقال خليل: بالعطف على الجائز وبكاء عند موته وبعده بلا رفع صوت وقول قبيح شرعا، فقد بكى صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب" فالمراد بلا بأس الجواز المرجوح بدليل قوله: "و" لكن "حسن التعزي و" هو "التصبر" والتجلد والرضى بما حكم الجبار "أجمل" أي أفضل وأحسن من البكاء بالدموع "لمن استطاع" قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال ذلك وقال معه: اللهم أجرني على مصيبتي وأعقبني خيرا منها فعل الله به ذلك قالت أم سلمة: قلت ذلك حين مات أبو سلمة، وقلت: من هو خير من أبي سلمة، فأعقبني الله رسوله صلى الله عليه وسلم فتزوجته" 1، والصبر إنما يكون عند الصدمة الأولىفإن قيل: إذا كان التصبر أحسن من البكاء فلم أهمله عليه الصلاة والسلام وبكى على ولده إبراهيم؟ فالجواب: أن كلام المصنف بالنسبة للأمة، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فيؤمر بفعل خلاف الأفضل في حقنا للتشريع ويثاب عليه، ولما قدم أن البكاء المحدود وهو مجرد إرسال الدموع جائز صرح بمحترزه بقوله: "وينهى" قريب المحتضر وكل من يتأثر بفقده "عن الصراخ والنياحة" وسائر الأقوال القبيحة، فالنهي للتحريم حيث استلزم أمرا محرما لخبر: "ليس منا من ضرب الخدود ولا من شق الجيوب" 2 وروي: "أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق" 3 والصلق الصياح في البكاء وقبح القول. وروي "أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، حديث "918" والترمذي، حديث "977" والنسائي، حديث "1825"، وأحمد "6/309"
2 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، حديث "103"، والترمذي حديث "999"، وابن ماجه حديث "1584"3 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الإيمان باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية حديث "104"، وأبو داود، حديث "3130" والنسائي، حديث "1861"، وابن ماجه، حديث "1586".

تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" 1 وحمله العلماء على ما إذا أوصاهم، واعلم أن البكاء على ثلاثة أقسام: جائز مطلقا وهو ما كان بمجرد إرسال الدموع من غير صوت، وحرام مطلقا، وهو ما كان بالصوت والأقوال القبيحة، وجائز عند الموت لا بعده وهو ما كان بالصوت من غير قول قبيح معه" خاتمة " مشتملة على ما يندب فعله مع أهل الميت منها: تعزيتهم وحملهم على الصبر وعلى الرضى بمصيبتهم لما فيه من البر وإظهار المحبة لأهل الميت حتى قال ابن رشد: إن التعزية سنة وقد جاء فيها ثواب كثير، فقد روي "أن الله يلبس الذي عزى مصابا لباس التقوى"، وجاء: "من عزى مصابا فله أجر مثل أجره"2 وصفتها أن يقول المعزي للمصاب: أعظم الله أجرك، وأحسن الله عزاءك، وغفر لميتك، وعزى صلى الله عليه وسلم امرأة في أبيها فقال: "إن لله ما أخذ وله ما أبقى، ولكل أجل مسمى وكل إليه راجعون، واحتسبي واصبري فإن الصبر عند أول صدمة" 3 وتكون التعزية قبل الدفن وبعده وعند القبر وكونها في المنزل وبعد الدفن أحسن، ولا فرق في الميت بين الصغير والكبير، ولا بين الحر والعبد، ولا في المعزى بفتح الزاي بين كونه ذكرا أو أنثى مسلما أو كافرا حيث كان جارا فيعزى الكافر بالكافر لحق الجوار ويقال له: ألهمك الله الصبر وعوضك خيرا منه، إلا الشابة والذي لا يميز فلا يعزيان، ويعزى الشخص في كل من يتأثر بفقده أما أو غيرها على المعتمد، وتنتهي التعزية إلى ثلاثة أيام إلا أن يكون المعزي أو المعزى غائباومنها : أنه يستحب أن يصنع لهم طعام أو يبعث إلى محلهم لاشتغالهم بميتهم، فقد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهله حين جاء نعي جعفر بن أبي طالب: "اصنعوا لآل جعفر طعاما
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب -، حديث "1288"، ومسلم بنحوه، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، حديث "927"2 ضعيف: أخرجه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في أجر من عزى مصابا، حديث "1073" وابن ماجه، حديث "1602" وانظر:، حديث "5696"3 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت..."، حديث "1284" ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، حديث "923" وأبو داود، حديث "3125"، والنسائي، حديث "1868"، وابن ماجه، حديث "1588"، وأحمد "5/204"، حديث "21824". وأخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث "7154"، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، حديث "926"، وأبو داود، حديث "3124".

وابعثوا به إليهم فقد جاءهم ما يشغلهم" لما فيه من إظهار المحبة والاعتناء، وأما ما يصنعه أقارب الميت من الطعام وجمع الناس عليه فإن كان لقراءة قرآن ونحوها مما يرجى خيره للميت فلا بأس به، وأما لغير ذلك فيكره، ولا ينبغي لأحد الأكل منه إلا أن يكون الذي صنعه من الورثة بالغا رشيدا فلا حرج في الأكل منه، وأما لو كان الميت أوصى بفعله عند موته فإنه يكون في ثلثه ويجب تنفيذه عملا بفرضه، وأما عقر البهائم وذبحهم على القبر وحمل الخبز ويسمونه بعشاء القبر فإنه من البدع المكروهة ومن فعل الجاهلية لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عقر في الإسلام" 1 ولأدائه إلى الرياء والسمعة، والمطلوب في فعل القرب الإخفاء، والصواب في فعل هذا التصدق به في المنزل حيث سلم من قصد المباهاة، هذا ملخص كلام الحطاب في شرح خليلولما فرغ من الكلام على المحتضر شرع في الكلام عليه بعد موته بقوله: "وليس في غسل الميت" أي الذي يطلب تغسيله "حد" واجب بحيث يمنع الزيادة والنقص عنه بقرينة قوله: "ولكن" المطلوب أن "ينقى" من القذر ويعم جسده بالماء، ونفي الحد الواجب لا ينافي ندب التحديد بالوتر كما يأتي، وقولنا: الذي يطلب تغسيله احترازا عن شهيد المعترك وعن الكافر وعن السقط وعن من فقد أكثره فإنه لا يغسل واحد منهم بل يحرم تغسيل الكافر وشهيد الحرب، ويكره تغسيل السقط ومن غاب أكثره، ويكفي في وجوب الغسل الإسلام الحكمي فيدخل المحكوم بإسلامه تبعا لإسلام صاحبه أو أبيه، والحاصل أن للغسل شروطا: استقرار الحياة وعدم الشهادة في الحرب ووجود كل الميت أو جله وإسلامه ولو حكما كنية إسلام سيدي المجوسي أي المجوسي غير المميز وإن كان يجبر على الإسلام إلا أنه إن مات قبل الجبر فلا يغسل ولا يصلى عليه حتى يحصل منه الإسلام بالفعل، هذا ما يدل عليه تقرير عبق على المختصر، وهذا التفصيل جار في سيدي، المجوسي وأبيه معا. "و" يستحب أن "يغسل وترا" ثلاثا أو خمسا أو سبع غسلات "بماء" مطلق فإن لم يحصل الإنقاء بالسابعة فلا إيتار لانتهاء ندب الإيتار بالسبع، وإنما يطلب الإنقاء، وتقدم الجواب عن اعتراض بعض الشراح كلام المصنف بأنه كيف ينفي التحديد ثم يقول: ويغسل وترا بأن المراد نفي التحديد في الزيادة على تعميم الجسد وهو الواجب، فلا ينافي أن الوتر لا يتجاوز السبع، أو أن الغسل الوتر لا
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب كراهية الذبح عند القبر، حديث "3222" وانظر: "صحيح الجامع 7535".

يحد بثلاث بل يجوز أن يكون خمسا أو سبعا، وسيأتي في باب جمل حكم الغسل قبل الوجوب وقبل السنيةقال خليل مشيرا إلى صفته بقوله : وغسل كالجنابة تعبدا بلا نية فصفته كصفة غسل الجنابة الإجزاء كالإجزاء والكمال كالكمال إلا ما يختص به غسل الميت من التكرار، ولا يكرر وضوءه على الراجح، فيبدأ بغسل يدي الميت أولا ثم يزيل الأذى إن كان ثم يوضئه مرة مرة، ويثلث رأسه، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن ثم على الأيسر، ولا يحتاج إلى نية وإن كان تعبدا؛ لأنه في الغير، وسيشير المصنفإلى صفة وضوئه بقوله: وإن وضئ وضوء الصلاة فحسن، وبين خليل أن المعتمد القول بوجوب غسله؛ لأنه صدر به حيث قال في وجوب غسل الميت بمطهر ولو بزمزم وعلى الوجوب الأكثر، وإذا تعذر الماء يجب تيممه حتى يصلى عليهقال خليل : وتلازما أي الغسل والصلاة، ومعلوم أن التيمم يقوم مقام الغسل عند تعذر الماء أو استعماله. "و" يستحب بعد غسل الميت بالماء القراح أن يغسل مرة أخرى بماء مع "سدر" وهو ورق النبققال خليل : وللغسل سدر وصفته أن يطحن ويذاب بالماء ثم يعرك به بدن الميت ويدلك به، ولا يقال يلزم على إذابته في الماء إضافته لما عرفت من أن الغسل الواجب حصل بالماء القراح وهذه الغسلة للنظافة، ولذلك لو لم يوجد السدر فالصابون ونحوه؛ لأن هذه الزيادة للنظافة فلا يشترط أن يكون مطلقا"و" يستحب للغاسل أن "يجعل في" الغسلة "الأخيرة كافورا" فالحاصل أن الغسلة الأولى تكون بالماء القراح للتطهير الواجب أو المسنون، والثانية بالماء والسدر للتنظيف، والثالثة بالماء والكافور للتطييب لأمره عليه الصلاة والسلام بذلك؛ لأنه يشد جسد الميت ويحفظه عن مسارعة الفساد، وتقدم أن المشهور كونه لمحض التعبد، وقيل معلل بالاستعداد لسؤال الملكين، وأيضا ورد أن آدم عليه السلام لما توفي أتي بحنوط وكفن من الجنة ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه ودفنوه في لحد ونصبوا عليه اللبن وابنه شيث حاضر معهم، فلما فرغوا قالوا له: اصنع هكذا بوالدك وإخوتك فإنها سنتكم. "و" يجب أن "تستر" بالبناء للمفعول ونائب الفاعل "عورته" قال خليل: وستر الغاسل من سرته لركبته عنه وعن غيره من الأجانب عند تجريده للتغسيل، ومحل الوجوب إذا كان الغاسل غير سيد وغير زوج وإلا ندب فقط، والأصل في

ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا ينظر لفخذ حي ولا ميت" 1 وصفة سترها أن تلف خرقة ويضعها على قبله ثم يجعل ثوبا آخر بدبره، وأما غسل المرأة للمرأة فإنها تستر من سرتها إلى ركبتها، ولا يطلع على المغسول غير غاسله والمعين له. "ولا تقلم" بالبناء للمفعول ونائب الفاعل "أظفاره ولا يحلق له شعر" والمعنى أنه يكره للغاسل قلم أظافر الميت وكذلك حلق شعر رأسه، وكذا يكره للمريض فعل ذلك إذا قصد به الموت على تلك الحالة، لا إن قصد به الإراحة بإزالة نحو الظفر والشعر كراهةقال خليل : وكره حلق شعره وقلم ظفره وهو بدعة وضم معه إن فعل على جهة الندب؛ لأن هذه الأجزاء لا تجب مواراتها، وكذا يكره أن تنقى قروحه وإنما يزال ما سال منها بخرقة أو نحوها ولو كان السائل دون درهم قصدا للنظافة. "و" يستحب للغاسل أن "يعصر بطنه" أي الميت قبل الشروع في بيان غسله "عصرا رفيقا" مخافة أن يخرج منه شيء حال الغسل أو بعده مما ليس بصدد الخروج وفيه أذية للميت. ثم شرع في بيان صفة الغسل المطلوبة للميت على الوجه الكامل بقوله: "وإن وضئ" بالبناء للمفعول ونائب الفاعل ضمير عائد على الميت "وضوء الصلاة فحسن وليس بواجب" غير ضروري الذكر مع قوله فحسن، والمعنى أنه يندب للغاسل توضئة الميت بعد إزالة الأذى مثل ما يندب للجنب عند إرادة غسله للجنابة المشار إليه بقول خليل: وندب ندبا بإزالة الأذى، ثم أعضاء وضوئه كاملة مرة، فيبدأ بغسل يدي الميت ثم يزيل الأذى ثم يوضئه ويتفقد أسنانه وأنفه بخرقة مبلولة لإزالة ما يكره ريحه ويميل رأسه عند المضمضةقال خليل : توضئة وتعهد أسنانه وأنفه بخرقة وإمالة رأسه لمضمضة. "و" أن "يقلب" الميت "لجنبه في الغسل أحسن" أي يضجع على جنبه الأيسر حال التغسيل ليبدأ بغسل الميامن قبل المياسر، ولا يقلبه على ظهره ولا بطنه؛ لأن في ذلك تشويها له، وأشار إلى مقابل الأحسن، بقوله: "وإن أجلس" أي الميت حال غسله "فذلك واسع" أي جائز، فقوله أحسن أي من إجلاسه أو قلبه على ظهره، وأما ما يفعله الغاسل من وقوفه على الدكة ويجعل الميت بين رجليه فذلك مكروه، بل المطلوب وقوفه بالأرض ويضجع الميت على جنبه الأيسر ثم يقلبه على الأيمن كما قدمنا. "تتمة" بقي من مستحبات الغسل تجريد الميت من ثيابه التي مات فيها إلا ساتر عورته ووضعه على مرتفع؛ لأنه أمكن للغاسل، وليس من سننه استقبال القبلة به، ومن المستحبات وضع ما له رائحة طيبة عنده حال التغسيل، ومن المستحبات اشتغال الغاسل حال
ـــــــ
1 لم أقف عليه.

التغسيل بالتفكر والاعتبار، وإذا حصل من الميت بعد تغسيله ما لو حصل من الحي لأبطل غسله لم يبطله وإنما ينظف دون إعادة غسلهقال خليل: ولم يعد كالوضوء لنجاسة وغسلت النجاسة التي خرجت منه في الصورتينولما فرغ من الكلام على الغسل شرع في الكلام على من هو أحق بالتغسيل مع أنه كان الأنسب تقديم الكلام عليه قبل الكلام على الغسل فقال: "ولا بأس بغسل" أي تغسيل "أحد الزوجين صاحبه من غير ضرورة" والمعنى: أن الحي من أحد الزوجين يقدم في تغسيل صاحبه بالقضاء على أقارب الميت وعلى من أوصاه الميت أيضا، ويندب له القيام بأخذ حقه، فلا بأس هنا لما هو خير من غيره إلا أن يكون الحي محرما فينهى عن التغسيل على جهة الكراهة، فإن فعل أهدى إن أمذى، والمراد بالزوجين الصحيحي النكاح ولو بفوات الفاسدقال خليل: وقدم الزوجان إن صح النكاح إلا أن يفوت فاسده بالقضاء وإن رقيقا أذن سيده أو قبل بناء أو بأحدهما عيب أو وضعت بعد موته، والأحب نفيه إن تزوج أختها أو تزوجت غيره لا مطلقة ولو رجعيا، بخلاف المولى منها والمظاهر منها فلهما التغسل بالقضاء لقيام السبب، والكتابية تغسل زوجها المسلم بحضرة مسلم عارف بصفة الغسل بخلاف العكس، والدليل على ما ذكر أن أسماء بنت عميس غسلت زوجها أبا بكر وهو أمير المؤمنين، وأن أبا موسى الأشعري غسلته زوجته، وأوصت فاطمة عليا أن يغسلها، فكان يصب الماء على أسماء المذكورة وهي تغسلها، وما هذا إلا لثبوت حق الحي في التغسيل" تنبيهات " الأول : لو مات الزوج وتعددت زوجاته وطلبن التغسيل لا نص فيمن تقدم منهن، وقال شيخ مشايخنا الأجهوري: الظاهر القرعة وأول الظاهر اشتراك الجميع في المباشرة لاستواء الجميع في الاستحقاق، والقرعة إنما تكون عند تعذر الاشتراك في الفعل، وينبغي أن يجزي مثل ذلك في كل محل يتعدد فيه المستحق المستوي في المرتبة لغيره وحررهالثاني : نص المصنف كخليل على تقديم أحد الزوجين في تغسيل صاحبه وسكتا عما لو طلبا الحي إنزال صاحبه القبر وبينه غيرهما فقال: إن كان الحي الزوج فإنه يقدم في إنزال زوجته قبرها على أوليائها بالقضاء، وأما الزوجة فلا تقدم في إنزال زوجها بل الحق لأوليائه. قال ابن عرفة: والزوج أحق بإدخال زوجته قبرها، فإن لم يكن فأقرب محارمها، فإن لم يكونوا فقيل النساء، وقيل أهل الفضل.

الثالث : قال في التوضيح: وفي حكم الزوجين السيد مع أمته وأم ولدهقال خليل: وإباحة الوطء للموت برق تبيح الغسل من الجانبين: بخلاف المكاتبة والمبعضة والمعتقة لأجل والمشتركة فلا يحل للحي منها تغسيله لحرمة الاستمتاع بهن، وتقديم السيد على أولياء الأمة بالقضاء، بخلاف الأمة فلا يقضى لها بالتقديم على أولياء سيدها اتفاقا ثم شرع في حكم من لا زوج له ولا سيد بقوله: "والمرأة" المسلمة "تموت في السفر" أو في الحضر ولا زوج لها ولا سيد و"لا نساء معها" لا أقارب ولا أجانب "ولا ذو محرم" لها "من الرجال" لا بالنسب ولا بالرضاع ولا بالصهر "فلييمم رجل" أجنبي "وجهها وكفيها" أي كوعيها ويدخلهما في المسح؛ لأنهما كالكفين ليسا بعورة يباح النظر لهما لغير شهوة، وأما غير الوجه والكفين فإنه عورة لا يحل للأجنبي النظر إليه، من الأجنبية فضلا عن لمسه"و" أما "لو كان الميت رجلا" في حال سفر أو حضر لوجب أن "ييمم النساء" الأجانب "وجهه ويديه إلى المرفقين" بشرط أشار إليه بقوله: "إن لم يكن معهن رجل يغسله" ولو أجنبيا "ولا امرأة من محارمه فإن كانت" أي حضرت "امرأة من محارمه غسلته وسترت عورته" من سرته إلى ركبته؛ لأنها تنظر منه ما ينظره الرجل من مثله وهو ما عدا ما بين السرة والركبة، وقيل تستر جميع جسده وكذا لو كان معهن رجل يغسله، قال خليل بعد قوله: يقدم أحد الزوجين ثم أقرب أوليائه ثم أجنبي ثم امرأة محرم، وهل يستره أو عورته تأويلان فيقدم ابن الميت ثم ابنه ثم أبوه ثم أخوه ثم ابنه ثم جده ثم عمه ثم ابنه والشقيق وعاصب النسب على غيره، وينبغي عند مشاحة المتساويين في المرتبة الاجتماع من غير قرعة كما قدمنا، فإن لم يوجد قريب فالرجل الأجنبي المسلم أو الذمي لكن بحضرة مسلم عارف بصفة الغسل حيث لم يرض بالتغسيل أو لا قدرة له عليه، فإن لم يوجد أحد من الرجال فالمرأة المحرم ولو بالصهارة كأم زوجته أو زوجة ابنه، ويقدم محرم الرضاع على محرم الصهارة عند التنازع،
فإن قيل : ما الفرق بين الرجل والمرأة حيث جاز لها أن تيمم الرجل الأجنبي إلى مرفقيه ولا يجوز له أن ييممها إلا لكوعيها مع شدة ميل النساء إلى الرجال؟ فالجواب أن عورة الأجنبي مع الأجنبية ما عدا الوجه والأطراف كما قدمنا في مبحث العورة، وأيضا شدة حياء المرأة دون الرجل ولا سيما إذا مات الرجل يضعف الأنثى إليه" تنبيه " اعلم أن الترتيب الذي ذكرناه بين الأقارب كما يجري في الغسل يجري في الصلاة والنكاح، ويقضى به عند التنازع بين من يتقدم ومن يتأخر عنه لما عرفت بين المتساويين من

الاجتماع في المباشرة عند الإمكان، واعلم أيضا أن المرأة إذا غسلت محرمها لا تباشر بيدها ما يجب عليها ستره وهو عورته فقط أو جميع الجسد بل تجعل على يدها خرقة، بخلاف ما لا يجب عليها ستره وهو بقية الجسد على أحد التأويلين فلا حرج عليها في مباشرته، وأشار إلى مفهوم قوله فيما تقدم: والمرأة تموت ولا نساء معها ولا محرم بقوله: "ولو كان مع الميتة" المذكورة وهي التي لا نساء معها رجل "ذو محرم" ولو بالصهر "غسلها من فوق ثوب يستر جميع جسدها" بأن يجعله الغاسل بينه وبين المرأة من السقف إلى أسفل بحيث يصير نظره إلى الثوب لا إلى جسدها، ويصل الماء من خلف الثوب ويجعل خرقة على يده غليظة، فكما لا ينظر إلى جسدها لا يباشره بيده، وإياك أن تفهم أن معنى ستر جسدها جعل الثوب على جسدها، والحاصل أنه يجوز للمحرم مباشرة جميع جسد المرأة المحرم بعد تعليق الثوب المانع من نظره إلى جسدها، وبعد جعل خرقة غليظة على يده، وأنه يجوز للمرأة إذا غسلت محرمها الذكر مباشرة جميع جسده حيث لفت على يدها خرقة كثيفة، وأما من غير خرقة فلا يجوز لها مباشرة ما يجب عليها ستره وهو العورة فقط أو جميع الجسد على أحد التأويلين في كلام خليلوأما لو غسلت امرأة امرأة لجاز لها مباشرة جميع جسدها ولو بغير حائل، والدليل على ما ذكره المصنف ما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ماتت امرأة مع الرجال ليس معهم امرأة غيرها أو الرجل مع النساء ليس معهن رجل غيره فإنهما ييممان ويدفنان" 1وتقدم أن المرأة تيمم الرجل الأجنبي للمرفقين والرجل إنما ييممها إلى كوعيها، وظاهر كلام المصنف أن كلا إذا يمم غيره يمس وجهه، وتوقف فيه ابن عبد السلام حيث قال: وانظر كيف جاز للرجل والمرأة الأجنبيين لمس وجه الآخر بيده مع أنه لا يجوز في حالة الحياةفإن قلت: يحمل على أن يجعل على يده خرقة ويضعها على التراب، قلت: لو كان كذلك لما اقتصر في التيمم على الكوعين ا هـ، وأقول: يمكن الجواب بأنه لا بد من وضع الخرقة ولا يلزم ما ادعاه؛ لأن الأصل عدم الجواز، وإنما جاز ما ذكر مع الخرقة للضرورة ولا محوج إلى مجاوزة كوعي المرأة؛ لأن ما عداهما سنة، ولا يستباح المحرم بفعل سنة وتأمله" تنبيهات " الأول : تكلم المصنف على حكم الأنثى المحققة وعلى الذكر المحقق وسكت عن الخنثى المشكل يموت ولا محرم له من الذكور والإناث إلا سيد ذكر، والحكم أنه يشتري له جارية من ماله تغسله، فإن لم يكن له مال فمن بيت المال، ثم ترجع إلى بيت المال ولا
ـــــــ
1 لم أقف عليه.

تورث، فإن لم يوجد بيت مال أو لا وصول إليه فإنه ييمم ويدفن، وينبغي إذا يممه رجل أن ييممه إلى كوعيه احتياطا، وإن يممته امرأة يممته إلى مرفقيه بالأولى من الرجل المحققالثاني : لو يممن النساء الميت الذكر ثم جاء رجل فإن كان قبل الشروع في الصلاة غسله وصلى عليه والنساء خلفه، وإن كان بعد الشروع في الصلاة لم يبطل تيممه، هذا ما ارتضاه شيخ مشايخنا الأجهوريالثالث : لو يمم الميت لعدم الماء ثم وجد الماء بعد التيمم قال الطخيخي: إن كان قبل الدخول في الصلاة غسل قولا واحدا وإلا فلا ا هـ، وظاهر قوله: وإلا فلا ولو كان مع النسيان وهو مخالف لصلاة الفرض العيني المشار إليه بقول خليل في مبطلات التيمم: وبوجود الماء قبل الصلاة لا فيها إلا ناسيه إلا أن يفرق بانحطاط رتبة أمر صلاة الجنازة مع طلب الإسراع بدفن الأموات وحررهالرابع : لو تعذر التغسيل والتيمم يدفن من غير صلاة على ظاهر قول خليل وتلازما وارتضاه الأجهوري، وقال شيخ شيخنا اللقاني بالصلاة عليه، وأجاب عن خليل بأن مراده تلازما أي غالبا، وأما لو صلى عليه من غير تغسيل مع تيسر الغسل بل لسهو ونحوه فإنه يغسل ويصلى عليه إلا أن يدفن ففيه قولان: أحدهما يخرج ويغسل ويصلى عليه حيث لم يخش تغيره وهو المشهور كما في عبق، والثاني يفوت تغسيله بتمام دفنه كما لو دفن بغير صلاة، إلا أن هذا يصلى على قبره لقول خليل: ولا يصلى على قبره إلا أن يدفن بغيرهاولما فرغ من الكلام على الغسل وعلى من هو أحق به، شرع في الكلام على التكفين وما يكفن فيه الميت بقوله: "ويستحب أن يكفن الميت" الذي يجب تغسيله المتقدم بيانه "في وتر" من الثياب وأقل مراتبه "ثلاثة أثواب" وهي: القميص والعمامة للرجل والخمار للمرأة والأزرة فهذه ثلاثة والأفضل في الواحد ولذلك قلنا: وأقل مراتب الوتر ثلاثة؛ لأن الاثنين أفضل من الواحد وإن كانا شفعا لزيادة الستر، والثلاثة أفضل من الأربعة لما في الثلاثة من الستر والوترية. "أو خمسة" وهي القميص والعمامة والخمار والأزرة ولفافتان يدرج فيهما الميت وتجعل العليا أوسع من السفلى، والخمسة أفضل من الستة ولا يزاد الرجل على خمس فقوله: "أو سبعة" بالنسبة للمرأة فيزاد لها على الخمس السابقة لفافتان. "وما جعل له من أزره" بضم الهمزة وكسرها ما يتزر به. "و" من "قميص وعمامة" للرجل "فذلك" المذكور من الثلاثة "محسوب في عدد الأثواب الوتر" وفهم من قول المصنف: وما جعل له إلخ أن نحو الخرق والعصائب التي

تشد على الوجه والوسط وغيرهما لا يحسب شيء منها من السبع، واستدل على استحباب إيتار الكفن بقوله: "وقد كفن" بالبناء للمفعول ونائب الفاعل "رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية أدرج" أي لف "فيها إدراجا" مصدر مؤكد لعامله "صلى الله عليه وسلم" وصفة الإدراج أن تبسط الوافية أولا ويجعل عليها الحنوط ثم تجعل التي تليها في القصر عليها ويجعل عليها الحنوط ثم يوضع الميت عليها بعدما يجفف بخرقة، فإذا وضع على ذلك فقال ابن القاسم: يقلب عليه الذي من ناحية اليمنى، وقال أشهب: يقلب أولا الذي من ناحية اليسار ويخاط عليه لئلا يسقط عنه ولا يحتاج إلى ذلك على قول ابن القاسم، وهذا إشارة إلى أن ما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة"1واختلف العلماء في قولها : ليس فيها قميص ولا عمامة فحمله الشافعي على أن ذلك ليس بموجود في الكفن وقال: فيسن للرجل ثلاثة أثواب خاصة ليس فيها قميص ولا عمامة، وحمله أبو حنيفة ومالك على أنه ليس بمعدود بل يحتمل أن تكون الثلاثة أثواب زيادة على القميص والعمامة فنقل عنهما استحباب زيادة القميص والعمامة وسحولية بفتح السين وضمها فعلى الفتح النسبة إلى السحول وهو القصار الذي يسحلها أي يقصرها ويغسلها، ويحتمل أن تكون النسبة إلى سحولة القرية المعروفة باليمن، وعلى الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي ولا يكون إلا من قطن، والذي يظهر من الحديث أن المراد المضموم، كما أن الظاهر أنه لم يبق عليه الثوب الذي غسل فيه، ولما كان يتوهم من ظاهر الحديث أن الاقتصار على الثلاثة أثواب أفضل قال: "ولا بأس" أي يندب "أن يقمص الميت" أي يلبس قميصا "ويعمم" أي يوضع على رأسه عمامة، كما يندب تخمير رأس المرأة كما قدمنا "وينبغي" أي يندب "أن يحنط" أي يطيب الميت بمسك أو غيره وإن محرما ومعتدة ولا يتولياه. "و" أن "يحمل الحنوط" بفتح الحاء وهو ما يتطيب به "بين أكفانه وفي" منافذ "جسده" كعينيه وأنفه وأذنيه بأن يدر منه على قطن ويلصق على عينيه وفي أذنيه وعلى مخرجه من غير إدخال. "و" يجعل "في مواضع السجود منه" كالجبهة واليدين والركبتين ونحوها، ثم يلف الكفن عليه بعد تبخيره بنحو العود ويربط الكفن من عند رأسه ورجليه، وقيل يخاط ويحل عند الدفنـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن، حديث "1264" ومسلم، كتاب الجنائز، باب في كفن الميت، حديث "941".

" تتمات " الأولى : لم يبين المصنف حكم التكفين ولا القدر الواجب وإن نص على ندب إيتاره، ونص عليه خليل بقوله: وهل الواجب ثوب يستره أو ستر العورة والباقي سنة خلاف والراجح الأول وهو ستر جميع الجسد والخلاف في الذكر، وأما المرأة فيجب ستر جميع جسدها قولا واحدا، وأما التكفين وهو إدراج الميت في الكفن فواجب اتفاقا كمواراته في الترابالثانية : لم يبين المصنف هنا من يلزمه تكفين الميت ومؤن تجهيزه، وسيأتي في آخر الكتاب أن ذلك من رأس المال وليس على إطلاقه، ولذلك قال خليل: وهو على المنفق بقرابة أو رق لا زوجية والفقير من بيت المال وإلا فعلى المسلمين وهذا بالنسبة لمن لا مال له، وإلا فمن ماله ولو صغيراالثالثة : الأفضل في الكفن البياض لموافقة كفنه صلى الله عليه وسلم ويجوز بالملبوس حيث كان طاهرا ساترا لقول الصديق رضي الله عنه: الحي أولى بالجديد إنه للمهنة والصديد، ويكره التكفين في الحرير ولو للرجال في حال الاختيار، كما يكره التكفين بالنجس أو المتنجس أو الأسود أو الأزرق، بخلاف المصبوغ بما فيه طيب كالمزعفر والمورس وهذا في غير الضرورة، وأما عندها فيجوز التكفين في كل ساتر ولو نجسا أو حشيشاثم أشار إلى بعض شروط التغسيل بذكر ضده بقوله: "ولا يغسل الشهيد" بقتله "في المعترك" لما قدمنا من أن شرط التغسيل أن لا يكون الميت شهيد حربقال خليل: ولا يغسل شهيد معترك فقط ولو ببلد الإسلام أو لم يقاتل وإن أجنب على الأحسنوالمراد أنه يحرم تغسيله سواء قاتل لإعلاء كلمة الله أو للغنيمة، سواء غزا المسلمون العدو أو عكسه، سواء قاتل أو لم يقاتل بأن كان غافلا حتى قتله العدو، أو قتله مسلم بظنه كافرا، أو داسته الخيل، أو رجع بسيفه عليه، أو سقط عن دابته، أو حمل على العدو فتردى في بئر، راجع شراح خليل. "و" كما لا يغسل "لا يصلى عليه" لقول خليل وتلازما؛ ولأن الصلاة شفاعة لأصحاب الذنوب والشهيد مستغن عنها لرفع درجته وكثرة ثوابه، والدليل على عدم طلب تغسيله قوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: "زملوهم في ثيابهم بكلومهم ودمائهم فإني قد شهدت عليهم وقدموا أكثرهم قرآنا" 1 وفي رواية: "زملوهم بدمائهم فإنه ليس من كلم
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أحمد "5/431" حديث "2379" وانظر: الإرواء "3/168".

ويكلم في الله إلا هو يأتي يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك" 1فإن قيل : لم غسلت الأنبياء وصلي عليهم وهم أكمل من الشهداء؟ فالجواب: أن حرمة غسل الشهداء مزية وهي لا تقضي الأفضلية، ألا ترى أن الشيطان إذا سمع المؤذن أدبر وله ضراط، وإذا شرع الشخص في الصلاة يقبل عليه ويوسوس له، مع أن الصلاة أعظم من الأذان، وأيضا الشهيد إنما حذر من تغسيله استبقاء للدم ليشهد له يوم القيامة، ولا يرد على حرمة تغسيل الشهداء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتله كافر مع أنه غسل وصلي عليه؛ لأن قاتل عمر رضي الله عنه غير حربي بل رقيق نصراني يلزم قاتله قيمته. واحترز المصنف بقوله: في المعترك عن شهيد الآخرة كالغريق والمبطون والغريب ونحوهم من شهداء الآخرة فإنهم يغسلون ويصلى عليهم، وسمي الشهيد شهيدا؛ لأن روحه شهدت دار السلام ودخلتها قبل يوم القيامة، بخلاف روح غيره لا تدخل الجنة إلا بعد دخول صاحبها وهو بعد القيامة والصراط؛ ولأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وتقدم أن كلا من شهيد الحرب والآخرة لا يسأل. "و" يجب أن "يدفن بثيابه" قال خليل: ودفن بثيابه إن سترته وإلا زيد بخف وقلنسوة ومنطقة قل ثمنها وخاتم قل فصه لا درع وسلاح لقوله صلى الله عليه وسلم: "زملوهم في ثيابهم بكلومهم" "و" يجب أن "يصلى على قاتل نفسه"؛ لأن عصيانه بقتل نفسه لا يسقط طلب الصلاة عليه ما دام مسلما. "و" كذا يجب أن "يصلى على من قتله الإمام في حد" موجب للقتل كرجم أو حرابة أو ترك صلاة كسلا. "أو" قتله في "قود" لقتله مكافئا له للحكم بإسلام الجميع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" أي ومحمد رسول الله"2وأشار إلى أن الذي يباشر الصلاة على أرباب المعاصي غير أهل الفضل والصلاح بقوله: "ولا يصلي عليه" أي من ذكر من قاتل نفسه وما بعده "الإمام" ولا غيره من أهل الفضل والمراد يكرهقال خليل عاطفا على المكروه: وصلاة فاضل على بدعي أو مظهر كبيرة، والإمام على من حده القتل بحد أو قتل وإن تولاه الناس دونه وإن مات قبله فتردد، وقال في المدونة: ولا يصلى على المبتدعة ولا تعاد مرضاهم ولا تشهد جنائزهم أدبا لهم، فإن خيف ضيعتهم غسلوا وكفنوا وصلى عليهم غير أهل الفضل، وإنما أفرد الإمام بالذكر مع عدم قصر الكراهة عليه للرد
ـــــــ
1 صحيح أخرجه النسائي، كتاب الجنائز، باب مواراة الشهيد في دمه، حديث "2002" وانظر: "صحيح الجامع 3573"2 ضعيف: أخرجه الطبراني في الكبير "12/447" حديث "13622" والدراقطني "2/56" حديث "3" وانظر: "ضعيف الجامع 3483".

على ابن عبد الحكم في قوله بجواز صلاة الإمام على الميت بالرجم محتجا بأنه صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز والغامدية، ورد عليه بأنه عليه الصلاة والسلام لم يصل على من ذكر على الصحيح، ومقتضى كلام المصنف أن من قتل في تعزير أو في حد غير القتل لا تكره صلاة الإمام ولا من في حكمه عليه وهو كذلك حيث لم يكن مشتهرا بالمعاصي، ومحل الكراهة من الإمام ومن ألحق به ما لم يترتب على عدم صلاتهم ترك الصلاة جملة على من ذكر، وإلا وجبت صلاته حتى الفاضل لوجوب صلاة الجنازة على كل محكوم له بالإسلامثم شرع في بعض المكروهات بقوله: "ولا يتبع الميت بمجمر" بكسر الميم الأولى وفتحها، والمراد أنه يكره اتباع الميت بالشيء الذي يوضع فيه الجمر المعروف عندنا بالمبخرة؛ لأنه من فعل النصارىقال خليل: وإتباعه بنار والأصل في ذلك خبر: "لا يتبع الميت بصوت ولا نار" قال أبو الحسن: فإن كان فيه طيب فكراهة ثانية، وهذه المسألة زائدة عن الترجمة، وكذا قوله: "والمشي أمام الجنازة" في حال الذهاب إلى الصلاة والدفن "أفضل" من المشي خلفها لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام الجنازة" 1 والخلفاء بعده؛ ولأنه شافع وحق الشافع أن يتقدم، فالماشي أمامها محصل لفضيلتين المشي والتقدم، ويكره الركوب إلا بعد الدفن فلا بأس به، وهذا الذي ذكره المصنف في حق الرجال الماشين، وأما النساء والراكبون فالمندوب في حقهم التأخرقال خليل: ومشي مشيع وإسراعه وتقدمه وتأخر، راكب وامرأة، وإنما استحب الإسراع بالجنازة لخبر: "أسرعوا بجنائزكم فإنما هو خير تقدمونهم إليه وشر تضعونه عن رقابكم" 2. وندب الإسراع لا ينافي ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "عليكم بالسكينة عليكم بالقصد في المشي بجنائزكم"؛ لأن المراد بالإسراع ما فوق المشي المعتاد دون الخبب وهذا هو المراد بالقصدـــــــ
1 صحيح: أبو داود، كتاب الجنائز، باب المشي أمام الجنازة، حديث "3179" والترمذي، حديث "1007"، والنسائي، حديث "1944"، وابن ماجه، حديث "1482" وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه "1482"2 أخرجه بلفظ المؤلف موقوفا من قول أبي هريرة مالك في الموطأ "1/243" حديث "576"، وأحمد "2/240" حديث "7265" وله حكم الرفع.

"تنبيه": الذي يطلب منه الخروج لتشييع الجنائز والصلاة عليها هم الرجال والقواعد من النساء من غير فرق بين قريب وأجنبي، وأما النساء المخشيات الفتنة فلا يحل خروجهن ولو لجنازة ولد أو زوج، وأما الشابة غير المخشية فتخرج لجنازة من يشق عليها فقده كابنها وزوجها وأخيها ويكره لغيرهثم شرع في بيان صفة وضع الميت في قبره بقوله: "و" يستحب أن "يجعل الميت" أي يضجع "في قبره على شقه الأيمن" ووجهه إلى القبلة؛ لأنها أشرف الجهات، وتحل عقد كفنه، وتمد يده اليمنى على جسده، ويعدل رأسه بالتراب ورجلاه برفق، ويجعل التراب خلفه وأمامه لئلا ينقلب، فإن لم يمكن وضعه على جنبه الأيمن فعلى ظهره مستقبل القبلة بوجهه. قال العلامة خليل: وضجع فيه على أيمن مقبلا وتدورك إن خولف بالحضرة، ولا مفهوم لقول المصنف في قبره بل ميت البحر إن لم يرج البرء قبل تغيره يغسل ويصلى عليه ويرمى على شقه الأيمن ووجهه إلى القبلة، واختلف هل يثقل بشيء في رجليه أو لا قولان"تنبيه" هذا كله في الميت المسلم، وأما الكافر يموت وخفنا عليه الضيعة لعدم كافر يواريه فيجب علينا مواراته ولا يستقبل به قبلتنا ولا قبلته. "و" يستحب أن "ينصب عليه اللبن" بكسر الباء وهو الطوب النيءقال خليل: وسده بلبن ثم لوح ثم قرمود ثم آجر ثم قصب، وستره بالتراب أولى من التابوت، والأصل في ذلك ما ورد من "أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد ابنه إبراهيم ونصب اللبن على لحده"1 وفعل به عليه الصلاة والسلام كذلك، وكذلك أبو بكر عمر. قال ابن حبيب: فهو أفضل ما يسده به، فإن لم يوجد شيء من ذلك خلا التراب فالسد به وصبه على الميت أفضل من وضعه في التابوت وهو الخشبة التي توضع كالصندوق. "و" يستحب للواضع للميت في حال إضجاعه له أن "يقول حينئذ" أي حين سد القبر عليه "اللهم إن صاحبنا قد نزل بك" ضيفا "وخلف" بشد اللام أي ترك "الدنيا وراء ظهره وافتقر إلى ما عندك" من الرحمة؛ لأنه قدم وحيدا فريدا وإن كان في الدنيا متعززا بقومه وماله، وظاهر كلام المصنف ولو كان الميت صغيرا أو أبا "اللهم ثبت" بكسر الموحدة وشدها "عند المسألة" أي سؤال الملكين "منطقه" أي نطقه والمعنى: أسألك يا رب أن تعطي هذا الميت قوة على فهم ورد جواب الملكين؛ لأنهما يسألانه في تلك الحالة بعد إقعاده ورد الحياة في جميعه وقيل نصفه الأعلى وإعطائه من العقل ما يتوقف
ـــــــ
1 لم أقف عليه.

عليه الفهم، والحال أنه يسمع قرع نعال الحاضرين للدفن. قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] والمراد بالحياة الدنيا عند خروج روحه، والمراد بالآخرة وقت سؤال الملكين في القبر كما تقدم بسطه في العقيدة. "ولا تبتله" أي لا تختبره "في قبره بما لا طاقة له به" أي لا قدرة له على رد جوابه لما ورد من أن صفة السؤال مختلفة بالصعوبة والسهولة. "وألحقه بنبيه صلى الله عليه وسلم" أي اجعله في جواره ومشمولا بشفاعته، واختار هذا الدعاء؛ لأنه مروي عن بعض السلف لا أنه يتعين دون غيره، إذ قد ورد أنه يقول: "بسم الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم تقبله بأحسن قبول". قال الإمام أشهب: عقب هذا الدعاء إن دعا بغيره فحسن، وهذا الذي ذكره المصنف من الدعاء مما زاده المصنف على خليل فرحم الله الجميع ولما فرغ من الكلام على دفن الميت شرع يتكلم على حكم إظهار قبره فقال: "ويكره البناء على القبور" وكذا تحويز مواضعها بالبناء حولها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولم يأمر به، وإنما صدر منه صلى الله عليه وسلم أنه وضع بيده الكريمة حجرا عند رأس عثمان بن مظعون وقال: "أعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهله" 1 ومحل الكراهة للبناء إذا عرى قصد المباهاة وإلا حرم، كما إذا كان يترتب عليه مفسدة كصيرورته مأوى للصوص أو غيرهم، ومحلها أيضا إذا كان في أرض مملوكة للباني أو مباحة كموات، وأما في أرض محبسة فحرام كالقرافة بمصر، ومحلها أيضا ما لم يقصد به مجرد تمييز القبر وإلا جازقال خليل: وجاز للتمييز، قال شراحه: أي البناء أو التجويز، كما يجوز وضع خشبة أو حجر عليه بلا نقش وإلا كره إلا أن يكون النقش بقرآن فتظهر الحرمة خوف الامتهان، والحاصل أن البناء على القبر على ثلاثة أحوال، وهي في البناء على خصوص القبر؛ لأنه حبس على الميت، وأما القبب ونحوها مما يضرب على القبر فلا شك في حرمتها في الأرض المحبسة على دفن الأموات لما في ذلك من التحجير على ما هو حق لعموم المسلمين. "و" كما يكره البناء على القبور على الوجه المذكور يكره "تجصيصها" أي تبييضها خلافا لأبي حنيفة لنا ما رواه مسلم وغيره من نهيه عليه الصلاة والسلام عن تجصيص القبر والبناء عليه، وما ورد أيضا من أن الملائكة تكون على القبر تستغفر لصاحبه ما لم يجصص فإن جصص تركوا الاستغفار، وعلى هذا كله الإشارة بقول خليل عاطفا على المكروه: وتطيين قبر وتبييضه وبناء عليه وتحويز فإن بوهي به حرم، وجاز للتمييز كحجر أو خشبة بلا نقش إلا كره، ولما كان
ـــــــ
1 حسن أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في جمع الموتى في قبر يعلم، حديث "3206"، وحسنه الألباني "الأحكام 155".

يتوهم من حرمة الأبوة وجوب مواراة الأب على ولده المسلم ولو كان أبوه كافرا وتغسيله قال: "ولا يغسل" بالبناء للفاعل وهو "المسلم أباه الكافر" وأولى غير الأب كالأخ والعم "ولا يدخله قبره"؛ لأن وجوب البر سقط بموته وقبره حفرة من حفر النار بل يتركه إلى أهل دينه "إلا أن يخاف" عليه "أن يضيع" بترك مواراته "فليواره" وجوبا بكفنه ودفنه لما يلحقه من المعرة ولا يستقبل به قبلتنا ولا قبلته، والنهي عما ذكر للتحريم، والكافر يتناول الحربي خلافا لبعض، والأصل في ذلك ما ورد "أن أبا طالب لما مات جاء ولده علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال: "اذهب فواره"، والمقام يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمره بمواراته إلا عند عدم من يباشر ذلك من أهل ملته" تنبيه " ظاهر كلام المصنف أن الكافر غير القريب لا تجب مواراته عند خوف ضيعته وليس كذلك، بل وجوب مواراته عند خوف الضيعة عليه عام حتى في الأجنبي، ويمكن الجواب بأن المصنف وغيره كخليل حيث قال: ولا يغسل مسلم أبا كافرا ولا يدخله قبره إلا أن يضيع فليواره إنما نص المتوهم فلا ينافي أن غيره كذلك بل أولى؛ لأن الأب إذا كانت مواراته لا تجب إلا عند خوف الضيعة فالأجنبي أحرى؛ لأن الأصل وجوب مواراة الآدمي فافهمثم شرع في بيان الأفضل في محل الدفن فقال "واللحد أحب إلى أهل العلم من الشق" بفتح الشين، وإنما كان اللحد أحب لخبر: "اللحد لنا والشق لغيرنا" و؛ لأن الله تعالى اختاره لنبيه عليه الصلاة والسلام لما ورد من أنه "كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر يشق فقالت الصحابة: أيهما جاء يعمل عمله فجاء الذي يلحد فلحد المصطفى صلى الله عليه وسلم" وأفعل التفضيل ليس على بابه كما تقتضيه الأدلة، وفسر اللحد بقوله: "وهو أن يحفر" بالبناء للمفعول ونائب الفاعل "للميت تحت الجرف في حائط قبلة القبر" أي في جانب الحائط الكائن في القبلة. "وذلك" أي ما ذكر من أحبية اللحد على الشق "إذا كانت" المقبرة "تربة صلبة" أي "تتهيل" كالرمل "و" لا "تتقطع" أي تسقط شيئا فشيئا وإلا كان الشق أفضل، وحقيقته أن يحفر حفرة في وسط القبر ويبني جانباها باللبن أو غيره ويوضع الميت فيها ويسد عليه باللبن فوق الجانبين كالسقف بحيث لا يمس الميت "وكذلك" أي ولأجل فضل اللحد "فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم". "خاتمة" لم يبين المصنف غاية القبر وبينها خليل بقوله: وأقله ما منع رائحته وحرسه، ويستحب عدم عمقه وكونه في أرض غير سبخة لسرعة البلاء فيها، والتي لا تبلى أفضل عندنا من غيرها خلافا للشافعي رضي الله عنه. ولما فرغ من الكلام على الغسل والكفن شرع فيما يكون بعدهما وهو الصلاة بقوله:

"باب في" كيفية "الصلاة على الجنائز"
بفتح الجيم اتفاقا وهو جمع جنازة بكسرها على الأفصح؛ لأن فعالة بالفتح أو الكسر أو الضم تجمع على فعائل بفتح الفاءقال في الخلاصة: وبفعائل اجمعن فعاله وشبهه ذا تاء أو مزاله كسحابة ورسالة وكناسة وعجوز وصحيفة، فهذه كلها تجمع على فعائل بفتح الفاء، وتطلق على الميت وحده وعلى النعش وعلى الميت، والمقصود هنا خصوص الميت؛ لأنه الذي يصلى عليه. "و" في ذكر "الدعاء للميت" واستشكل ذكر الدعاء بعد الصلاة مع أنه بعضها؛ لأنها عبادة مشتملة على نية وتكبير ودعاء بين التكبيرات وسلام وقيل وقيام، وأجيب بأن ذكره بعد الصلاة من باب عطف الجزء على الكل وهو جائز، وليس من عطف الخاص على العام كما لا يخفى، ولا يقال: كان الأولى أن يقول والدعاء لها بدل قوله للميت ليكون الضمير مطابقا للجنائز المتقدم ذكرها جمعا؛ لأنا نقول: لما كانت الجنائز تطلق على الأموات فقط وعلى النعوش والأموات عليها ربما يتوهم على بعد عود الضمير على النعوش مع الأموات، مع أن الصلاة إنما تكون على الأموات ولو لم تكن على نعوش، وأفرد الميت إشارة إلى أن أل في الجنائز للجنس، وسيأتي في باب جمل أن حكم الصلاة على الجنائز فرض كفاية وقيل سنة، ودليل الفريضة مفهوم قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة: 84] بناء على أن الذي يفيده المفهوم ضد الحكم المنطوق وهو وجوب الصلاة على المؤمنين" تنبيهان ": الأول : لم ينبه المصنف على من هو أحق بالصلاة على الجنازة إماما، وبينه خليل بقوله: والأولى بالصلاة وصي رجي خيره، ثم الخليفة لا فرعه إلا أن يكون صاحب خطبة، ثم أقرب العصبة كالنكاح كما قدمناهوالثاني : شروطها كشروط الصلاة ذات الأركان، ولا تجب إلا على من غسل أو يمم على ظاهر كلام خليل، وتجب قبل دفنه فإن دفن قبل الصلاة فيصلى على القبر حيث لم يتيقن ذهابه ولو بأكل السبع كما تأتي الإشارة إليه، ولا تشترط فيها جماعة بل تستحب فقط، وإذا حصل للإمام موجب الاستخلاف استخلف، وإذا ذكر فائتة تمادى عليها لسهولة أمرها، وطلب الإسراع بالجنائز وأركانها المتفق عليها أربعة: النية والتكبير والدعاء بعد كل تكبيرة ولو من المأموم وتسليمة خفيفة، والمختلف فيه القيام إلا لعذر، فإن صلى عليها من جلوس أو ركوب

اختيارا أعيدت، هكذا قاله عياض وابن الحاج وزروق والقرافي وسند بناء على فرضيتها، والمصنف لم يذكر من تلك الأركان إلا التكبير والدعاء والسلام حيث قال: "و" عدد "التكبير على الجنازة أربع تكبيرات" على كل مصل ولو مأموما، وتمنع الزيادة على الأربع كما قاله عياض لانعقاد الإجماعفي زمن عمر على أربع، واستقر فعله عليه الصلاة والسلام على الأربع، ومضى عليه عمل الصحابة، فلو زاد الإمام على الأربع لم ينظره مأمومه بل يسلم قبله سواء زاد عمدا أو سهوا، وسواء كان يرى الزيادة مذهبا أم لا، وأما لو نقص الإمام فإن كان عامدا فالظاهر بطلان صلاة المأموم تبعا لبطلان صلاة إمامه ولو أتى المأموم بالرابعة، وأما لو نقص الإمام ساهيا سبح له المأموم فإذا لم يرجع كمل صلاته، وتبطل صلاة الإمام إذا سلم وطال إلا أن تذكر بالقرب فيبني بأن يرجع بغير تكبير يكملها بتكبير الرابعة إن سلم بعد ثلاث، ومثله المنفرد يسلم بعد تكبيرتين أو ثلاث، ولا يتأتى هنا سجود سهو في زيادة كلام أو سلام؛ لأنه إنما شرع في ذات الركوع والسجود. "و" يستحب له أن "يرفع يديه في أولاهن" أي التكبيرات "وإن رفع في كل تكبيرة فلا بأس" به إذ غاية ما حصل منه ترك المندوب؛ ولأنه قد روي عن الإمام الرفع عند كل تكبيرة فلا بأس لما غيره أفضل منه؛ لأن الراجح الأول، واقتصر عليه خليل حيث قال: ورفع يديه في أولاهن" تنبيهان " الأول : قال سيدي أحمد زروق: اختلف هل التكبيرة الأولى إحرام لصلاة الجنازة أو لا إحرام لها؟ فعلى الأول: لو حضرت جنازة بعد التكبيرة الأولى لم يجز إدخالها في الصلاة بل يستأنف لها صلاة بعد السلام من الأولى، فقد قال في التهذيب: لو حضرت جنازة ثانية بعد التكبيرة الأولى والشروع في الدعاء فلا يشرك الإمام الثانية مع الأولى في الدعاء، وقيل يجوز إدخالها في الدعاء مع الأولى، ونقله الزناتي في شرحه لهذا الكتاب، ولعل المعتمد عدم جواز إدخالها، بل يجب أن يستأنف لها صلاة مستقلة وهو كلام التهذيبالثاني : لم يبين المصنف النية وهي أحد أركانها، ولعله لم ينبه عليها؛ لأن ركنيتها ضرورية؛ لأن الصلاة من أعظم الأعمال وصحتها بالنية. قال العلامة خليل: وركنها النية وأربع تكبيرات والدعاء وتسليمة خفيفة وسمع الإمام من يليه وصبر المسبوق للتكبير، ودعا إن تركت وإلا والى، والمصنف أشار إلى الدعاء فيما يأتي عند بيان صفة الصلاة في قوله: ويقال في الدعاء على الميت بغير شيء محدود، وصفة النية أن يقصد بقلبه الصلاة على هذا الميت الحاضر مع استحضار أنها فرض كفاية، فإن غفل عن هذا الأخير لم يضر وتصح صلاته كما

تصح لو صلى عليها مع اعتقاد أنها أنثى فتبين أنها ذكر أو بالعكس، أو أنها فلان ثم تبين أنها غيره؛ لأن مقصوده الشخص الحاضر بين يديه، بخلاف ما لو كان في النعش اثنان أو أكثر واعتقد أن ما فيه واحد فإنها تعاد على الجميع حيث كان الواحد غير معين، وإلا أعيدت على غير المعين الذي نواه، وأما لو نوى واحدا بعينه ثم تبين أنهما اثنان أو أكثر وليس فيهما أو فيهم من عينه فإنها تعاد على الجميع، وأما لو نوى الصلاة على من في النعش مع اعتقاد أنه جماعة ثم تبين أنه واحد أو اثنان صحت الصلاة؛ لأن الواحد أو الاثنين بعض الجماعة، وسيأتي أن الدعاء واجب بعد كل تكبيرة ولو على المأموم فليس كقراءة أم القرآن خلف الإمام بل تعاد الصلاة لتركه؛ لأن كل واحد شافع مطلوب بالدعاء، وإنما اختلف في الدعاء بعد التكبيرة الرابعة وإليه الإشارة بقوله: "وإن شاء" المصلي على الجنازة "دعا بعد الأربع" تكبيرات بما كان يدعو به بين التكبيرات أو بغيره "ثم يسلم وإن شاء سلم بعد الرابعة مكانه" من غير دعاء وهذا مذهب الجمهور، ووجهه أن الدعاء فيها كالقراءة في الصلاة ذات الركوع والسجود، فكما لا قراءة بعد ركوع الرابعة مثلا لا دعاء بعد التكبيرة الرابعة هنا ومقابله يدعو وهو قول سحنون واختاره اللخمي، قال خليل: ودعا بعد الرابعة على المختار"و" صفة الوقوف المندوب في صلاة الجنازة أن "يقف الإمام" ومثله المنفرد "في" الصلاة على "الرجل عند وسطه وفي" الصلاة على "المرأة عند منكبيها" قاله خليل: ووقوف إمام بالوسط ومنكبي المرأة كما تقف المرأة في صلاتها عليه لئلا يتذكر كل إن وقف عند وسط الميت ما يشغله، ولا يشكل على هذا ما في حديث سمرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة ووقف عند وسطها" 1 لعصمته صلى الله عليه وسلم عن قصد ما يشغله، وأما وقوف المأموم فعلى صفة وقوفه في صلاة الجماعة، ويظهر أن الصلاة على الخنثى المشكل كالصلاة على الرجل، وكذا وقوفه عند صلاته منفردا على جنازة سواء كانت رجلا أو امرأة، وأما المرأة إذا صلت على امرأة فتقف حيث شاءت، ويستحب جعل رأس الميت على يمين المصلي إلا فيمن يصلى عليه في الروضة الشريفة فإنه يجعل رأس الميت على يساره لتكون رجلاه لغير جهة قبره عليه الصلاة والسلام؛ لأن الذي يصلي في الروضة يصير قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه على يساره؛ لأنه مع قبر الخلفاء والزوجات في طرف المسجد على يسار المصلى فيها أسأل الله تعالى أن يريه لمن لم يرهـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب الصلاة على النفساء وسننها، حديث "332"، ومسلم، كتاب الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه، حديث "964".

"و" عدة "السلام من الصلاة على الجنازة تسليمة واحدة خفيفة" وروي خفية "للإمام والمأموم" لكن الإمام يندب له أن يسمع من يليهقال خليل: وتسليمة خفيفة وسمع الإمام من يليه، ومعنى، خفيفة أو خفية عدم الجهر بها من المأموم، وليس هنا رد على الإمام لعدم ورود ذلك؛ ولأن المطلوب المسارعة للدفن، وتقدم أن السلام من أركانها وصفته كصفة سلام الصلاة معرفا بالألف واللامثم شرع في بيان الثواب المترتب على الصلاة بقوله: "وفي الصلاة على الميت قيراط من الأجر وقيراط في حضور دفنه" لما في صحيح البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: "من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط" 1. وهذه الرواية صريحة في القيراطين، خلافا لمن توهم من لفظ مسلم أنها ثلاثة وأن أحد القيراطين لا يتوقف على الآخر، وظاهر المصنف حصول ثواب قيراط الصلاة ولو لم يتبعها في الطريق، وهو مخالف لحديث البخاري المذكور فإنه يقتضي توقفه. على اتباعها وعلى البقاء معها حتى يفرغ من دفنها، وعلى كل حال فثواب من اتبعها ولازمها للدفن أعظم "وذلك" القيراط "في التمثيل مثل جبل أحد ثوابا" تمييز لمثل على معنى أنه لو كان جبل أحد من ذهب أو فضة وتصدق به لكان ثواب هذا القيراط كثوابه، وقيل معنى المماثلة لو جعل هذا الجبل في كفة وجعل القيراط في كفة مقابلة لها لساواها، وأحد جبل بالمدينة المنورة قال فيه صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الجبل يحبنا ونحبه" 2 وخصه بالتمثيل إما لذلك وإما؛ لأنه أكبر الجبال؛ لأنه بلغ إلى الأرض السابعة ومتصل بجميع الجبال" تنبيهات " الأول : القيراط المترتب على الصلاة أو الدفن قد علمت أنه لا يتوقف ثواب أحدهما على الآخر كما يفهم من حديث البخاريالثاني : لو تعددت الأموات لتعدد قيراط الصلاة والدفن بتعددهم. قال الفقيه أبو عمران وسيدي يوسف بن عمر: يحصل له بكل ميت قيراط؛ لأن كل ميت انتفع بدعائه وحضورهالثالث : المقسم إلى هذه القراريط هو الأجر المترتب على الأفعال المتعلقة بالميت من تغميضه وتقبيله وشد لحييه ونزع ثيابه التي مات فيها ووضعه على مرتفع وتغسيله وحمله
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب إتباع الجنائز من الإيمان، حديث "74"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الخدمة في الغزو، حديث "2889".

والمشي معه والصلاة عليه وحضوره ودفنه وحفر قبره وسده عليه وإهالة التراب، فهذه خمسة عشر أمرا بل أربعة عشر فقط، ولعله بقي منها تليين مفاصله برفق، فمن أتى بالصلاة فله قيراط من خمسة عشر، والخمسة عشر هي جملة الأجر، ومن حضر الدفن فله قيراط منها، ولا شك أنها متفاوتة بتفاوت ما ترتبت عليه، وليس القيراط منسوبا إلى أربعة وعشرين قيراطا، نبه على جميع ذلك العلامة ابن العماد ناقلا له عن بعض المالكيةالرابع: حضور الجنازة إما رغبة في أهلها أو خوفا منهم، وإما رغبة في الأجر وإما مكافأة، وعلى كل حال يحصل به القيراط المترتب على الصلاة أو على حضور الدفن، وقصد أهلها والمكافأة لا يضر لما في ذلك من صلة الحي والميت كما قال محمد بن سيرين: ولا يشكل على هذا حديث البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: "من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا" 1 إلخ الإمكان حمله على حصول الأجر الكامل، ولما كان من أركان الصلاة الدعاء وأنه يحصل ولو بعفا الله عنه أو رحمه الله نبه على ذلك بقوله: "و" يجزي أن "يقال في الدعاء" في الصلاة "على الميت غير شيء محدود" أي أو معين، فلو قال: اللهم اغفر له، أو اللهم ارحمه حصل الواجب لعدم اختصاصه بلفظ أو قدر ولذلك قال: "وذلك كله واسع" في تحصيل الواجب "ومن مستحسن ما قيل في ذلك" أي الدعاء على الميت "أن يكبر" عند شروعه وجوبا؛ لأن التكبير ركن كما بينا. "ثم" الأولى الفاء بدل ثم عدم التراخي "يقول الحمد لله الذي أمات وأحيا والحمد لله الذي يحيي الموتى" وهذا مأخوذ من قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] فأطلق الموت على عدمه قبل إنشائهم، وقيل: الحمد لله الذي أمات من أراد إماتته، وأحيا من أراد حياته، والحمد لله الذي يحيي الموتى في الآخرة، وقيل: الحمد لله الذي أمات بالكفر وأحيا بالإيمان، وقيل غير ذلك. "له العظمة والكبرياء" مترادفان "و" له "الملك" بضم الميم استحقاق التصرف في سائر الكائنات من غير توقف على سبب باعث بل فاعل بالاختيار. "و" له "القدرة" التامة المتعلقة بجميع الممكنات. "و" له "السناء" بالسين المهملة والمد العلو والرفعة في الشرف والمنزلة لا في المكان، وأما بالقصر فهو الضوء فلا تصح إرادته هنا. "وهو على كل شيء" من الممكنات "قدير اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت ورحمت وباركت" البركة الخير والمنفعة "على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد" أي محمود "مجيد" أي معظم ومشرف وكريمـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإيمان باب إتباع الجنائز من الإيمان، حديث "47".

قال ابن عمر وغيره: هذه صيغة الصلاة الكاملة وهي أحسن من التي ذكرها في التشهد؛ لأنه زاد في التشهد: وارحم محمدا، ولم تأت في طريق صحيح، وليس فيها هنا لفظ في العالمين وزاد هناك، وحذفأيضا لفظ: وبارك على محمد وعلى آل محمد وإن كان الاعتراض إنما هو في زيادة وارحم محمدا فقط، والأفضل الاقتصار على الوارد وترك ما لم يثبت وروده، وتقدمت المناقشة في هذا الكلام فراجع ما تقدم؛ لأن المصنف إمام عظيم نفعنا الله ببركاته. "اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك" ظاهره ولو كان من زناوقيل : يقتصر في ولد الزنا على قوله: إنه عبدك، واختلف أيضا في ندائه في الآخرة فقيل: ينادى باسم أمه، وقيل: باسم أبيه. "أنت خلقته و" أنت "رزقته وأنت أمته" في الدنيا "وأنت تحييه" في الآخرة "وأنت أعلم بسره وعلانيته جئناك شفعاء له فشفعنا فيه" أي اقبل دعاءنا له؛ لأنه روي: من صلى عليه أربعون رجلا قبل الله شفاعتهم" ولذلك ينبغي لولي الميت الاجتهاد في إحضار العدد المذكور، وظاهر كلام المصنف التعبير بهذا اللفظ، ولو كان المصلي أدنى من الميت، وقال بعض الشيوخ: إنما يقول جئناك شفعاء له إذا كان المصلي مساويا أو أرفع رتبة، وأما الأدنى فإنما يقول: جئنا مع الشفعاء له. "اللهم إنا نستجير" أي نطلب الإجارة والأمن من عذابك حال كوننا متمسكين "بحبل جوارك" بكسر الجيم أي أمانك "له" وفي كلامه استعارة؛ لأن الأشياء المتفرقة لا يجمع بعضها إلى بعض إلا بالحبل، وبيان الاستعارة هنا أن العبد بعيد من الله بإساءته محجوب عنه فلا ينضاف إلى رحمته إلا بحبل عفوه وفضله فالاستعارة تصريحية، فإضافة حبل إلى جوار بيانية. "إنك ذو" أي صاحب "وفاء وذمة" أي عهد، وقد
ـــــــ
1 الإيمان: مصدر آمن وآمن. أصله من الأمن ضد الخوف. يقال: ىمن فلان العدو يؤمنه إيماناً، فهو مؤمن، ومن هنا يأتي الإيمان بمعنى: جعل الإنسان في مأمن مما يخاف. جاء في اللسان: قرئ في سورة براءة {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ} [التوبة: 12] من قرأه بكسر الألف معناه: أنهم إن أجاروا وأمنوا المسلمين لم يفوا وغدروا، والإيمان هنا: الإجارة. والغالب أن يكون الإيمان لغة بمعنى التصديق ضد التكذيب. يقال: آمن بالشيء إذا صدق به، وآمن لفلان إذا صدقه فيما يقول. ففي التنزيل: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] وفيه {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان: 21] والإيمان في الاصطلاح مختلف فيه: فقيل هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، مع إظهار الضوع والقبول لما أتى به. فهو اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان. والمراد بالاعتقاد: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، على ما ورد في حديث جبريل عليه السلام. والمراد بقول اللسان: النطق بالشهادتين. والمراد بالعمل بالجوارح: فعلها وكفها تبعا للأمر والنهي. قال ابن حجر العسقلاني: هذا قول السلف، وهو ايضا قول المعتزلة، إلا أن المعتزلة جعلوا الأعمال شرطا في صحة الإيمان، والسلف جعلوها شرطا في كماله. وقيل: الإيمان هو: التصديق بالقلب واللسان فقط، وهو قول بعض الفقهاء بناء على أن هذا هو الوضع اللغوي =

وعد سبحانه وتعالى من مات على الإيمان1 بالمغفرة"اللهم قه" أي نجه "من فتنة القبر" بأن تثبته لجواب سؤال الملكين في القبر، أو تجعله ممن لا يسأل كالشهداء، وأما ضمة القبر فلا بد منها، وإن كانت تختلف باختلاف الدرجات لما قاله بعض العلماء: لو نجا أحد منها سوى الأنبياء لنجى منها سعد بن معاذ الذي اهتز العرش لموته وحضر جنازته سبعون ألفا من الملائكة. وفي الحديث "لو أفلت منها أحد لأفلت منها هذا الصبي" وأما الأنبياء فقال بعضهم: ولا يعلم أن للأنبياء في قبورهم ضمة ولا سؤال لعصمتهم. "و" قه "من عذاب جهنم اللهم اغفر له" بستر ذنوبه "وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله" بسكون الزاي أي الطف به حين وضعه في قبره وحيدا فريدا بأن تريه فيه ما يؤنسه، لأن النزل يطلق على حلوله في قبره وإكرامه فيه برؤية ما يسره من العمل، ويطلق النزل على ما يهيأ للنزيل "ووسع مدخله" أي قبره فهو بفتح الميم "واغسله بماء وثلج وبرد" بفتح الموحدة والثلج والبرد ماءان منعقدان ينزلان من السماء ثم يذوبان، والمعنى: امح ذنوبه ولا تبقي منها شيئا بقرينة. "ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض" الوسخ "من الدنس" وإنما مثل بالثوب الأبيض؛ لأنه الذي يظهر فيه أثر الغسل، وهذا تمثيل للمخلوق وإلا فقد قال الزناتي: الله تعالى منزه عن ضرب الأمثال، ولولا ورود تلك الألفاظ من الشارع لما جازتويحتمل أن المعنى: حتى يصير في نظرنا كالثوب الأبيض الذي نشاهده خالصا من كل مناف للبياض وهو كناية عن الخلوص من الذنوب. "وأبدله دارا خيرا من داره" بأن تجعل داره الجنة "و" أبدله "أهلا" أي قرابة في الآخرة "خيرا من أهله" في الدنيا "و" أبدله "زوجا خيرا من زوجه" لما يأتي من أن زوجته في الدنيا قد تكون له في الجنة إذا كانت من أهل الجنة مثله، وإلا عوض خيرا منها، أو كانت في الدنيا ذات أزواج وصحت لغيره فيبدله خيرا منها، أو لم يزوج في الدنيا فيعوضه خيرا من التي كان يريد زواجها. "اللهم إن كان محسنا" في الدنيا لغيره "فزد في
ـــــــ
= للفظ "الإيمان" وأن الأصل عدم النقل. وليست الأعمال عندهم داخلة في مسمى الإيمان. فإذا وجد لدى الإنسان الإيمان وجد كاملا، وغن زال زال دفعة واحدة. أما على قول السلف المتقدم، فإن الإيمان درجات بحسب قوة التصديق لوضوح الأدلة وجودة الفهمويزيد الإيمان بالطاعات، وينقص بالمعاصي، ويفاضل الناس فيه. واستشهد لهم بقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة: 124] وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان". انظر الموسوعة الفقهية "7/314 – 315"، ومعجم المصطلحات والألفاظ الفقهية "1/346 – 348" ومن مصادره: المفردات، ص "552، 553"، والتوقيف، ص "751".

إحسانه" أي في الإحسان إليه في الآخرة. "وإن كان مسيئا فتجاوز عنه اللهم إنه قد نزل بك" ضيفا "وأنت خير" جواد "منزول به" فالضمير ليس لله "فقير إلى رحمتك" حال من فاعل نزل "وأنت غني عن عذابه" لاستغنائك عن كل ما سواك. "اللهم ثبت عند المسألة" أي سؤال الملكين "منطقه ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به اللهم لا تحرمنا أجره" أي أجر الصلاة عليه وأجر مصيبته؛ لأن المؤمن مصاب في أخيه المؤمن "ولا تفتنا بعده" بسبب مصيبته "تقول هذا" الدعاء وجوبا "بأثر كل تكبيرة" من التكبيرات الثلاث الأول، وأما الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فمندوبان والواجب الدعاء ولو في حق المأموم كما قدمنا. "وتقول بعد الرابعة" وجوبا على ما اقتصر عليه خليل "اللهم اغفر لحينا وميتنا وحاضرنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم منقلبنا ومثوانا و" اغفر "لوالدينا" بكسر الدال "ولمن سبقنا بالإيمان وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات اللهم من أحييته منا فأحيه" مواظبا "على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه" بضم الهاء من توفه وبكسرها من أحيه؛ لأنهما مبنيان على حذف حرف العلة وهي الياء من أحيه والألف من توفه. "على الإسلام" وجمع بينهما تفننا؛ لأنهما متلازمان شرعا أو لاتحاد ما يرام منهماقال بعض العارفين: من أراد أن يموت ولسانه رطب بذكر الله فيلزم ستة أشياء أو سبعة، أن يقول عند ابتداء كل عمل: بسم الله، وعند فراغه من كل شيء: الحمد لله، وإذا استقبله مكروه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا عزم على فعل أو أمر في غد قال: إن شاء الله، وإذا أذنب ذنبا قال: أستغفر الله. "و" تقول "أسعدنا بلقائك" أي بدخول الجنة "وطيبنا للموت" بأن توفقنا للتوبة النصوح حتى نموت عليها. "وطيبه لنا" بأن ينزل بنا وأنفسنا راضية به"واجعل فيه راحتنا ومسرتنا" بحيث توسع لنا القبر وتنعمنا فيه وتدخلنا بعد خروجنا منه الجنة وترزقنا فيها النظر إلى وجهك الكريم، ولا يقال: في هذا تمني الموت وهو منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي" 1؛ لأنا نقول: لا يلزم من الدعاء بما ذكر التمني؛ لأن المراد بعد حصوله، لأن كل واحد لا بد له من الموت، على أن ابن العربي يجوز تمني الموت إذا بشر بالجنة للخروج من دار الشقاء إلى دار الراحة، أو
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة، حديث "6351" ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، حديث "2680".

يكون الشخص ملابسا للمعاصي ولا يمكن احترازه عنها أو يندرس الحق وينتشر الباطل كزماننا هذا. "ثم" بعد الفراغ من الدعاء "تسلم" على سبيل الوجوب تسليمة خفيفة؛ لأنه أحد الأركانقال ابن ناجي: وما ذكره المصنف من هذا الدعاء لا عمل عليه لطوله، بل العمل والأحسن ما استحبه مالك من دعاء أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأنه كان يتبع الجنازة من حمل أهلها، فإذا وضعت كبر وحمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. قال مالك: هذا أحسن ما سمعته من الدعاء على الجنازة" تنبيهان " الأول : علم مما ذكرنا أن ابتداء الصلاة بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الندب والواجب إنما هو الدعاء حتى على المأموم. قال خليل في المستحبات: وابتدأ بحمد وصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم وإسرار دعاءالثاني : سكت المصنف عن قراءة أم القرآن، وحكمها الوجوب عند الشافعي في صلاة الجنازة، وعند مالك الكراهة إلا إذا قصد المصلي مراعاة الخلاف فيأتي بها بعد شيء من الدعاء حتى تصح الصلاة عندنا وعند الشافعي، والعبادة المتفق عليها خير من المختلف فيها، ولذلك قال القرافي: ومن الورع مراعاة الخلاف، ومن فوائد المراعاة صحة صلاة الشافعي خلف المالكي؛ لأنه إن لم يقرأ الفاتحة تكون الصلاة باطلة عند الشافعي فلا يصح اقتداؤه بالمالكي فيها، وقولنا بعد شيء من الدعاء؛ لأنه واجب عندنا كوجوب الفاتحة عند الشافعي فلا بد منهما حتى تصح الصلاة على المذهبين، وما تقدم من التذكير في الدعاء إذا كان الميت ذكرا. "وإن كانت" الجنازة "امرأة قلت" بعد الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إنها أمتك ثم تتمادى بذكرها على التأنيث" فتقول: وبنت أمتك وبنت عبدك أنت خلقتها ورزقتها إلخ "غير أنك لا تقول وأبدلها زوجا خيرا من زوجها؛ لأنها تكون زوجا في الجنة لزوجها في الدنيا" وعبر بقد الدالة على التوقع لدخولها على المضارع؛ لأن دخول الجنة متوقع لتوقفه على الموت على الإيمان وهو غير مقطوع به، وأما لو كانت تزوجت بمتعدد في الدنيا لدخلها الخلاف المقرر عند أهل المذهب فيمن تكون له، إلا أن تموت في عصمة واحد فإنها تكون له من غير نزاع إن كانا من أهل الجنة.

" تنبيهان " الأول : سكت المصنف عما لو لم يعلم الميت هل هو ذكر أو أنثى؟ والحكم فيه أن ينوي المصلي الصلاة على من حضر ويقطع النظر عن كونه ذكرا أو أنثى، كما أنه إذا لم يعلم هل هو واحد أو متعدد ينوي الصلاة على من في هذا النعش، ويتمادى في الدعاء على التذكير في تحقق الإفراد، ويجمع عند اعتقاد الجمع، ويفرد عند الشك على معنى من حضر في هذا النعش؛ لأن من تقع على الذكر والأنثى وعلى المتعدد المحقق والمشكل فتقول في الدعاء على المثنى: اللهم إنهما عبداك أو أمتاك، وفي الجمع: اللهم إنهم عبيدك وأبناء عبيدك، وفي الجمع المؤنث: اللهم إنهن إماؤك وبنات إمائك وبنات عبيدك، وإن اجتمع مذكر ومؤنث غلب المذكر على المؤنثالثاني : سكت المصنف كخليل عن ما لو ظن الإمام وحدة الجنازة وظن المأمومون التعدد فتبين أنهم جماعة على اعتقاد المأمومين، والحكم أنه إن كان ما نواه الإمام غير معين أعيدت الصلاة على الجميع، وإن كان معينا أعيدت على من عداه؛ لأن العبرة بما ظنه الإمام، ولذلك لو اعتقد الإمام أن الذي في النعش جماعة واعتقد المأمومون أنه منفرد وتبين مطابقة اعتقاد الإمام صحت الصلاة ولا تعاد، كما لا تعاد إذا ظن الإمام أو المنفرد أن من يصلى عليه جماعة فتبين أنهم أقل مما نوى، وقد قدمنا فيما سبق ما يغني عن الإعادة فراجعهثم أكد تعليل النهي السابق بقوله: "ونساء الجنة مقصورات" أي محبوسات "على أزواجهن لا يبغين" أي لا يرضين "بهم بدلا"؛ لأن الجنة لا إكراه فيها ولا حزن، وإنما الفرح والسرور ونيل ما تشتهيه الأنفس، وأفضل خصال المرأة حبها لزوجها وهي صفة أهل الجنة فلا يتعلق قلبها فيها بغير حب زوجها، ولما ذكر أن نساء الجنة مقصورات على أزواجهن كان مظنة سؤال تقديره: وأما الرجل فهل كذلك؟ قال في الجواب: "والرجل" ليس كالمرأة فإنه "قد يكون له زوجات كثيرة في الجنة" زيادة على ما كان يحل له في الدنيا، ولا يقال: يلزم على هذا كثرة النساء في الجنة على الرجال وهو مخالف لحديث: "اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها الرجال، واطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء" 1؛ لأنا نقول: المراد بالأزواج في كلام المصنف ما يشمل الحور العين، ولا يضر في هذا خبر أبي نعيم من أنه يزوج كل رجل من أهل
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث "3241"، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء، حديث "2737"، وأحمد "4/443" حديث "19996".

الجنة أربعة آلاف بكر وثمانية آلاف أيم ومائة حوراء لإمكان حمل كل في كلامه على الكل المجموعي لا الجميعي، وإن جعلت قد في كلام المصنف للتقليل فلا يتأتى الإشكال. "ولا يكون للمرأة" "في الجنة أزواج" بل ولا اثنان؛ لأنه ليس فيها ما ينفر منه الطبع لا لحرمة ذلك لانقطاع التكليف بالموت، ولذلك لا يتزوج الإنسان بنحو أمه وأخته لكراهة النفس ذلكثم شرع في بيان الأفضل عند تعدد الأموات في الصلاة على الجميع دفعة واحدة بقوله: "ولا بأس" أي يستحب على المشهور "أن تجمع الجنائز في صلاة واحدة" لفعل جمع من الصحابة، وقد ماتت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زوج عمر بن الخطاب وولدها زيد بن عمر رضي الله عن الجميع في فور واحد، وصلي عليهما صلاة واحدة، وكان الموالي للإمام زيد والمتولي للصلاة إماما عبد الله بن عمر وهو أخو زيد لأبيه، وكان هناك الحسن والحسين وهم أخوا أم كلثوم ولم يكن الإمام منهما، فدل ذلك على أن الأولى بالإمامة ولي الذكر، هكذا قال بعد شراح هذا الكتاب، والذي ارتضاه العلامة خليل خلاف ذلك، وأن الذي يلي الإمامة الأفضل ولو كان ولي المرأةقال خليل عاطفا على المندوب: وأفضل ولي ولو ولي المرأة، قال الأجهوري: وبالغ بقوله: ولو ولي المرأة للرد على من قال بتقديم ولي الرجل على ولي المرأة ولو مفضولا، متمسكا بقضية أم كلثوم وولدها زيد لما ماتا وصلى ولي زيد إماما. قال ابن رشد: ولا حجة بتلك القضية لاحتمال أن الحسين إنما قدم ابن عمر لسنه ولإقراره بفضله لا؛ لأنه أحق قاله المواق، ولما قدم هو الأفضل جمع الجنائز في الصلاة ذكر هنا كيفية وضعهم أمام الإمام بقوله: "و" يندب أن "يلي الإمام" في حال الصلاة "لرجال" فاعل يلي وظاهره غير صالحين "إن كان فيهم" أي الجنائز "نساء وإن كانوا رجالا" ونساء ومعهم أطفال "جعل أفضلهم مما يلي الإمام وجعل من دونه" في الفضل من "النساء والصبيان من وراء ذلك" الفاضل مترتبين صفا واحدا "إلى القبلة" بحيث يصير الجميع أمام الإمام، يلي الإمام الرجل، والطفل خلفه، والمرأة خلف الجميعقال خليل: يلي الإمام رجل فطفل فعبد فخصي فخنثى كذلك، وأشار إلى كيفية أخرى بقوله: "ولا بأس أن يجعلوا صفا واحدا" ممتدا من الشرق إلى الغرب. "ويقرب إلى الإمام أفضلهم" وعن يمينه من يليه في الفضل، وعن يساره من يليه رجلا المفضول عند رأس الفاضل، ومن دونهما في الفضل كذلك. قال العلامة ابن ناجي: ظاهر كلام الشيخ التخيير بين

جعل الجنائز صفا من الإمام إلى القبلة أو صفا من المشرق، إلى المغرب وهو قول مالك من رواية أشهب وغيره، وقيل: الأفضل الصفة الأولى وقالها مالك أيضا، ولذلك قال الفاكهاني: ظاهر كلام المصنف ترجيح الصفة الأولى لتقديمه لها؛ ولقوله في الثانية: ولا بأس المشعرة غالبا بالتمريض. "تنبيه": هذا إذا كانت الجنائز صنفا واحدا، فإن تفاوتوا في الخصال الحميدة يلي الإمام الأعلم ثم الأفضل ثم الأسن، وقال في الجواهر: ويقدم بالخصال الدينية التي ترغب في الصلاة عليه، فإن تساووا في الفضل رجح بالسن، فإن تساووا أقرع بينهم، إلا أن تتراضى الأولياء على خلاف ذلك، وقد قدمنا أن القراريط تتعدد بتعددهم، وانظر هل تتفاوت بتفاوتهم في الفضل أم لا؟ ويظهر التفاوت وحرره"وأما" كيفية "دفن الجماعة في قبر واحد" عند الضرورة الحاملة على ذلك كضيق المحل أو عدم الحافر"فيجعل أفضلهم مما يلي القبلة" قال خليل عاطفا على الجائز: وجمع أموات بقبر لضرورة وولى القبلة الأفضل، وأما جمعهم في قبر لغير ضرورة فمكروه وإن كانوا محارم، ولكن يتأكد ندب جعل شيء من التراب بينهم، وقال أشهب: يكفي الكفن، وكما يجوز جمع الأموات في القبر للضرورة ولو أجانب، يجوز جمعهم في كفن للضرورة ويكره لغيرهما، والدليل على ما ذكر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في قبر واحد ثم يقول: أيهما كان أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير إلى واحد قدمه في اللحد" 1. "تنبيه": ما ذكره المصنف من جواز جمع الأموات في قبر واحد للضرورة ويكره لغيرها محله إذا كان حصل دفنهم في وقت واحد، وأما لو أردنا دفن ميت على آخر بعد تمام دفنه فيحرم؛ لأن القبر حبس. لا يمشى عليه ولا ينبش ما دام به إلا لضرورة فلا يحرم"ومن دفن" بعد الغسل "و" الحال أنه "لم يصل عليه ووري فإنه يصلى على قبره" قال خليل: ولا يصلى على قبر إلا أن يدفن بغيرها فيصلي على القبر ظاهره ولو كان عدم الصلاة عمدا، كما أن ظاهره أن مجرد تمام الدفن مجوز للصلاة على القبر وليس كذلك، بل يجب إخراجه ولو تم دفنه إلا أن يخشى تغيرهقال ابن رشد: والفوات يمنع إخراج الميت من قبره للصلاة عليه خشية تغيره، قاله ابن القاسم وسحنون وعيسى، ومحل طلب الصلاة على القبر عند خشية تغيره
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، حديث "1343" وا[و داود، حديث "3138"، والترمذي، حديث "1036"، والنسائي، حديث "1955"، وابن ماجه، حديث "1514".

إذا ظن بقاؤه أو شك فيه، وأما لو تيقن ذهابه ولو بأكل سبع فإنه لا يصلى عليه، وقولنا بعد الغسل للاحتراز عما لو دفن قبل غسله فإنه لا يصلى على قبره ويجب إخراجه للغسل إلا أن يخشى تغيره فيسقطان لتلازمهما. قال العلامة الأجهوري في شرح خليل: المفهوم من كلام ابن رشد أن المدفون من غير غسل أو من غير صلاة يخرج ما لم يخف تغيره"ولا يصلى" على جهة الكراهة "على من قد صلى عليه" جماعة قال خليل: ولا تكرر وأما لو صلى عليه منفرد لندب صلاة الجماعة عليه "و" من ذهب بعضه يجب أن "يصلى على أكثر الجسد" منه كالثلثين بعد تغسيله وتكفينه؛ لأن الحكم للأكثر وينوي المصلي الصلاة على الجميع. "واختلف في الصلاة على مثل اليد والرجل" وأما دون الجل والمشهور عدم الصلاةقال خليل: ولا ما دون الجل ولو كان معه الرأس. قال العلامة الأجهوري: وإنما لم يصل على ما دون الثلثين لأدائه إلى الصلاة على الغائب وهي غير جائزة عند مالك رضي الله عنه وأصحابه، واغتفر غيبة اليسير؛ لأنه تبع، وبهذا التوجيه اندفع استشكال التونسي بأن عدم الصلاة على ما دون الجل يؤدي إلى عدم الصلاة على الميت بالكلية، ووجه الدفع أن الصلاة على ما دون الجل تؤدي إلى الصلاة على الغائب وهي غير جائزة، والصلاة قيل إنها سنة ولا يرتكب غير الجائز لسنة، وبحث بعض الشيوخ في ذلك قائلا: إنما يتم هذا الكلام إذا كانت الصلاة على الغائب محرمة، وأما على القول بكراهتها فلا كيف، وقد قيل بوجوب الصلاة على الميت، فلعل هذا مبني على القول بحرمتها وفيه شيء لاحتجاج المخالف بصلاة المصطفى صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهو غائب عنه، وأجاب عنه بعض أئمتنا بأن هذا من خصوصيات المصطفى صلى الله عليه وسلم أو أن الأرض رفعته له ورآه ونعاه لأصحابه فأمهم في الصلاة عليه قبل أن يوارى، ويدل على الخصوصية أنه لم يفعله أحد من الصحابة ولا صلى أحد على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ووري، الحال أن في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أعظم رغبة.

"باب في" صفة "الدعاء للطفل"
وهو من لم يبلغ من الذكور والإناث. "و" في حكم "الصلاة عليه وغسله" وإنما أفرده عما قبله للرد على من قال بعدم الصلاة عليه؛ لأنها شفاعة وهو غير محتاج إليها، ورد كلامه بأن الشفاعة قد تكون لمحض رفع درجات فلا تتقيد بالمذنبين وصفتها أن "تثني على الله تبارك وتعالى" بأن تقول: الحمد لله رب العالمين ندبا "وتصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم" كذلك "ثم" بعدهما "تقول اللهم إنه عبدك وابن عبدك" وفي نسخة بالتثنية، وقيل تقول في ولد الزنا "وابن

أمتك" بدل، وابن عبدك "أنت خلقته ورزقته" ولو مات بعد الاستهلال؛ لأن الله رزقه في بطن أمه. "وأنت أمته وأنت تحييه" في الآخرة "اللهم فاجعله لوالديه" بكسر الدال "سلفا" أي مقدما بين أيديهم "وذخرا" بالذال المعجمة؛ لأن المراد في الآخرة بخلافه بالدال المهملة فإنه في الدنيا وقيل بالإهمال مطلقا"وفرطا" ذكره تأكيدا لسلفا لمرادفته له قاله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض" 1 أي متقدمكم. "وأجرا" أي جزاء عظيما لما روي في الخبر: "لا يموت لأحد ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار" ، قالت امرأة: واثنان يا رسول الله؟ قال: "واثنان" 2وورد: "لم تمسه النار إلا تحلة القسم" وهذا مع الصبر عند الصدمة الأولى، وفي الصبر على المصيبة من الثواب ما ليس في الصبر على الطاعة. "وثقل به موازينهم وأعظم" بكسر الظاء المشالة أي أكثر "به أجورهم ولا تحرمنا وإياهم أجره" أي أجر الصلاة عليه أو أجر المصيبة. "ولا تفتنا وإياهم بعده" قال بعض الشيوخ: والظاهر أنه يقول ذلك الدعاء ولو كان المصلي أبا أو أما للطفل؛ لأن هذا الدعاء هو المأثور، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال في أذانه: "أشهد أن محمدا رسول الله" وأما قوله: فاجعله لوالديه سلفا يجب تقييده بالمسلم الأصلي، وأما من أسلم من أولاد الكفار أو حكم بإسلامه تبعا للسابي فلا يقول ذلك عليه وإنما يقول: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده ويسقط وإياهم"اللهم ألحقه بصالح سلف" أولاد "المؤمنين في كفالة" أي حضانة أبينا "إبراهيم" عليه الصلاة والسلام في الجنة، وذلك لأن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ليلة الإسراء شيخا في السماء في قبة خضراء وحوله صبيان فقال عليه الصلاة والسلام لجبريل: "من هذا"؟ فقال: أبوك إبراهيم وهؤلاء أولاد المؤمنينوفي هذا دليل على أن الجنة في السماء، والتقييد بأولاد المؤمنين لا ينافي أن غيرهم في كفالته أيضا بناء على دخول أولاد غيرهم الجنة. "وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله" بأن تجعله مجاورا لنحو الأنبياء والصالحين "وعافه من فتنة القبر" وهذا يقتضي أن الأطفال تسأل في القبر. "و" عافه "من عذاب جهنم" وهذا بناء على أن الأطفال تحت المشيئة وهو خلاف المشهور، بل أنكر بعضهم وجود الخلاف من كونهم في الجنة، والأولى في توجيه الدعاء بالمعافاة من الفتنة وما بعدها ما تقرر من أنه تعالى له تعذيب الطائع. "تقول ذلك" الدعاء "في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: في الحوض، حديث "6575" ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، حديث "2289"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب قو الله تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]، حديث "6656"، ومسلم، كتاب البر والصلة.

كل تكبيرة" أي بعد كل تكبيرة حتى الرابعة. "و" قيل "تقول بعد الرابعة" بناء على أنه يدعو بعدها: "اللهم اغفر لأسلافنا وأفراطنا ولمن سبقنا بالإيمان اللهم من أحييته منا فأحيه" بكسر الهاء "على الإيمان" الكامل "ومن توفيته منا فتوفه" بضم الهاء "على الإسلام" وهو السعادة العظمى. "واغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ثم تسلم" تسليمة خفيفة ويسمع الإمام جميع من يليه، وهذا الدعاء اختاره المصنف لما قيل أن بعضه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضه عن بعض الصحابة والتابعين، فلا ينافي أنه غير متعين بل الأفضل دعاء أبي هريرة كما قدمنا، وإن كان يكفي مطلق دعاء كما قال المصنف فيما سبق، بل لو قال: اللهم اعف عنه كفى وإن صغيرا" تنبيه " لم يذكر حكم اجتماع كبار وأطفال، والمطلوب تقديم الدعاء للكبار على الأطفال أو يجمعهم في دعاء واحد، ويقول عقب ذلك: اللهم اجعل الأولاد سلفا لوالديهم وفرطا وأجرا، وهكذا على جهة الندب، فلا ينافي أنه لو جمع الجميع في دعاء أجزأ، كما لو جهل كون الميت كبيرا أو طفلا فيدعو بنحو دعاء أبي هريرة وغيره"ولا يصلى" على جهة الكراهة "على من لم يستهل صارخا" بأن نزل من بطن أمه ميتاقال خليل عاطفا على المكروه: ولا سقط لم يستهل ولا تحرك أو عطس أو بال أو رضع إلا أن تتحقق الحياة وغسل دمه ولف بخرقة ووري، وحكم غسل الدم الندب، وحكم المواراة واللف بخرقة الوجوب، ولا يسأل ولا يبعث ولا يشفع إن لم تنفخ فيه الروح. "و" كما لا يصلى عليه لعدم استهلاله "لا يرث ولا يورث"؛ لأن شرط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت مورثه واستهلاله قبل موته إلا الغرة فتورث عنه وإن نزل علقة أو مضغة؛ لأنها مأخوذة عن ذاته، والشرط لما يورث عنه مما في يده "ويكره أن يدفن السقط في الدور" وحقيقته من لم يستهل صارخا وهو مثلث السين المهملة، وإنما كره دفنه في الدور خوف امتهانه عند سقوط الحائط، وإن اشترى شخص دارا فوجد فيها قبر سقط لا خيار له؛ لأن قبره ليس حبسا بخلاف قبر المستهل وهو المراد بالكبير، قال ابن عرفة: قبر غير السقط حبس على الدفن بمجرد وضع الميت فيه ثم شرع في بيان شروط المباشر للتغسيل بقوله: "ولا بأس" أي يجوز "أن يغسل النساء" الأجانب "الصبي الصغير ابن ست سنين أو سبع" قال خليل: وجاز غسل امرأة ابن سبعقال شراحه: وابن ثمان، وروى ابن وهب: وابن تسع ولو مع حضور الرجال، ولا تكلف الغاسلة بستر عورته؛ لأنه يجوز نظرهن إلى بدنه حيث

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11