كتاب : الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
المؤلف : أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي

فمندوب، والمراد بالمقام الحجر الذي وقف عليه إبراهيم حين بنى البيت وغرقت قدماه فيه، أو حين أمره الله أن يؤذن للناس بالحجالثاني : أفهم قوله: فإذا تم طوافه ركع أنه يطلب اتصالهما بالطواف لدلالة الفاء على التعقيب، فلو انتقضت طهارته بعد الطواف وقبل صلاة الركعتين تطهر وأعاد الطواف لصلاتهما متصلين به، فإن تطهر وصلاهما وسعى من غير إعادة الطواف فإنه يعيد الطواف والركعتين والسعي ما دام بمكة أو قريبا منها، فإن تباعد من مكة فليركعهما بموضعه ويبعث بهدي، وظاهر كلامهم ولو انتقضت طهارته قهراالثالث : أفهم قوله: فإذا تم طوافه ركع عند المقام ركعتين أنه لا يجزئ عنهما الفرض، وأنه لا يصح أن يجمع أسابيع ويصلي لجميعها ركعتين بل يكره، وإن وقع صلى لكل سبعة أشواط ركعتين على المشهور، انظر الأجهوري في شرح خليل"ثم": بعد الفراغ من ركعتي الطواف "استلم الحجر": الأسود استنانا "إن قدر": وهذا التقبيل الواقع بعد تمام الطواف توديع للبيت، ويستحب له أن يمر بزمزم ليشرب منها ويدعو بما أحب، وإنما كان هذا التقبيل توديعا للبيت؛ لأنه يخرج من المسجد بعد الفراغ من الطواف والركعتين للسعي خارج المسجد كما أشار إليه بقوله: "ثم": بعد استلام الحجر "يخرج": من المسجد من باب الصفا الذي هو باب بني مخزوم ذاهبا "إلى الصفا": بالقصر وهو جبل بمكة وبقي منه محل صغير قريب على باب الصفا، فإذا وصل إليه يسن أن يرقاه "فيقف عليه للدعاء": بما تيسر ولا يدعو على الأرض إلا من علة، وحكم الوقوف والدعاء السنية؛ لأن الركن إنما هو السعي بين الصفا والمروة. "ثم": بعد النزول من على الصفا "يسعى": أي يمشي ذاهبا "إلى المروة": بفتح الميم وسكون الراء جبل بمكة أيضا منه خال من البناء محل صغير كالباقي من الصفا. "و": يسن أن "يخب": أي يسرع إن كان رجلا "في بطن المسيل": في السبعة أشواط، والمراد ببطن المسيل ما بين الميلين الأخضرين، فيمشي بالسكينة والوقار في حال سعيه حتى يصل إلى هذا المحل فيسرع فيهقال خليل: وإسراع بين الأخضرين فوق الرمل، وإنما يسن الإسراع للرجال لا للنساء كالرمل في الطواف، ولا يخب في غير هذا الموضع، فلو ترك الخبب المطلوب لا دم عليه، كما لا دم على من ترك الرمل في الطواف؛ لأن كلا سنة خفيفة لم يقل أحد بفرضيتها فلا يرد أن التلبية سنة، وإذا تركها يلزمه الدم، والمشي في الطواف للقادم كما تقدم. "فإذا أتى المروة

وقف عليها": استنانا بحيث يرى البيت "للدعاء": كما يقف على الصفا، والوقوف المذكور سنة للرجال مطلقا، وللنساء إن خلا المكان من مزاحمة الرجال، وعند الزحمة تقف النساء للدعاء أسفلها"ثم": بعد الدعاء بما تيسر "يسعى إلى الصفا": الذي ابتدأ منه "بفعل ذلك": المذكور من السعي والوقوف "سبع مرات": ثم فرع على ما قدمه من تكرير السعي سبع مرات قوله: "فيقف بذلك أربع وقفات": بفتح القاف لفتح فائه "على الصفا وأربعا على المروة": وبيان ذلك أنه يبدأ من الصفا ثم ينتهي إلى المروة ويرجع إلى الصفا فتحصل من وقوفه مرتين على الصفا ومرة على المروة طوافان، ولذلك يختم بالمروة، ويحصل له من ذلك أربع وقفات على الصفا وأربع وقفات على المروة" تنبيهات ": الأول : لم يبين المصنف حكم السعي بين الصفا والمروة، والحكم فيه أنه ركن في الحج والعمرة ولا يجبر بالدم دل على ركنيته الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة: 158] أي لا إثم عليه أن يطوف بهما أي يسعى بينهما سبعا، نزلت لما كره المسلمون ذلك؛ لأن الجاهلية كانوا يطوفون بهما وعليهما صنمان يمسحونهما، وعن ابن عباس أن السعي غير فرض لما أفاده رفع الإثم من التخيير، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا" 1 رواه البيهقي. غيره وقال: "ابتدئوا بما بدأ الله به" يعني الصفا رواه مسلم، وقال الشافعي وغيره من بعض الأئمة: إنما أخذت الفريضة من هذا الحديث، وأما الإجماع فقد أجمع مجتهدو أمة نبينا عليه الصلاة والسلام على فرضيته، خلافا لابن عباس لما أفاده: رفع الإثم من التخيير، والجواب عنه ما تقدم من أنها نزلت ردا لما كان يعتقده المسلمون فلا ينافي الفرضيةالثاني : علم من ذكر المصنف السعي بعد الطواف أنه لا بد في صحته من تقدم طوافقال خليل: وصحته بتقدم طواف ونوى فرضيته أي علم أنه واجد أو اعتقد أنه يلزم الدم بتركه، وهذا معنى نية الفرضية كما يؤخذ من كلام الحطاب على خليل وهو ظاهر، إذ لا معنى لنية فريضة الشيء مع علمه فرضا لما تقرر من أن نية الصلاة المعينة تتضمن فرضيتها وإيقاعها في وقتها يتضمن كونها أداء، والمراد بالفرض في قول خليل نوى فرضيته ما قابل التطوع فيشمل الواجب كطواف القدوم، فإن سعى من غير تقدم طواف أعاده، وإن سعى بعد طواف تطوع أو واجب ولكن لا يعلم أنه واجب بل يعتقد أنه تطوع لجهله فيلزمه الرجوع إن كان
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البيهقي "5/98" حديث "9150" وانظر: صحيح الجامع "1798".

بالقرب ويعيده بعد طواف يعلم وجوبه إن كان قبل عرفة، وإلا أعاده بعد طواف الإفاضة، وإن بعد لزمه دم من غير رجوع، فالحاصل أن صحة السعي التي لا دم معها أن يقع بعد طواف واجب يلاحظ الساعي وجوبه، فلا ينافي أنه يصح بعد طواف غير واجب، ولكن يلزمه الدم حيث بعد بحيث يتعذر إعادته بعد طواف يلاحظ وجوبه، كما يؤخذ ذلك من شراح خليلومن شروطه أيضا الموالاة بين أشواطه، فلو اشتغل ببيع أو شراء أو صلى على جنازة غير متعينة: فإن طال بحيث يعد تاركا له ابتدأه وإلا فلا شيء عليه، بخلاف الطواف يقطعه لجنازة غير متعينة فيبتدئه ولو لم يطل، ولعل وجه الفرق ما قيل من أن الطواف كالصلاة، ولذا لو أصابه حقن في السعي توضأ وبنى، والكلام فيه أخف من الكلام في الطواف، وإن أقيمت عليه الصلاة تمادى إلا أن يضيق الوقت فليصل ثم يبني على ما مضى له كما يبني في الطواف، ومن شروطه كمال السبعة أشواط، فلو ترك شوطا أو بعضه: لم تبرأ ذمته منه بل لا بد منه إن كان بالقرب، وإلا ابتدأ السعي لبطلانه بعدم الموالاة ويرجع له ولو من بلده؛ لأنه جزء من ركنالثالث : علم مما قررنا أن من سنن السعي الرقي على الصفا والمروة للرجال مطلقا كالنساء إن خلا المكان، ومن سننه أيضا تقبيل الحجر الأسود بعد فراغه من طواف كما تقدم ومن اتصاله بالطواف، ومن سننه المشي إلا لعذر، فإن ركب من غير عذر أعاد سعيه إن قرب، وإن تباعد أجزأه وأهدى، ومن سننه الدعاء في حال سعيه وفي حال وقوفه على الصفا والمروة، ومن سننه الإسراع بين الميلين الأخضرينالرابع : علم مما قررنا شروط صحة السعي، وأما سننه فخمسة: المشي فإن ركب فيه ولم يعده لغير عذر لزمه دم، وتقبيل الحجر قال خليل: وللسعي تقبيل الحجر ورقيه عليهما كامرأة إن خلا، وإسراع بين الأخضرين فوق الرمل ودعا، فهذه خمسة فإن تركها أو شيئا منها لا دم عليه إلا في المشي فإنه فيه كالطواف كما ذكرنا، وأما مندوباته فأشار إليها خليل بقوله: وللسعي شروط: الصلاة من طهارة حدثية وخبثية وستر عورة إلا لاستقبال فلو انتقضت طهارته أو حصل له حقن توضأ وبنى على ما فعل من السعي، لأن اشتغاله بالوضوء غير مخل بالموالاة لقصر زمن الوضوء فلا يخل بالموالاة الواجبة" فائدة ": قال في المقدمات: أصل السعي وسبب مشروعيته بين الصفا والمروة في الحج ما جاء في الصحيحين: "أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ترك ولده إسماعيل مع أمه بمكة وهو رضيع نفد ماؤها وعطش ولدها معها وصارت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط، فانطلقت كراهة أن

تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي لتنظر هل ترى أحدا فلم ترى أحدا، فنهضت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت فلم تر أحدا سبع مرات" 1 ويقال: إن الصفا أفضل؛ لأن السعي منه أربعا ومن المروة ثلاثا، وإن كان الوقوف على كل أربعا، وما كانت العبادة فيه أكثر فهو أفضل"ثم": بعد الفراغ من السعي "يخرج": الحاج من مكة إذا قرب زمن الوقوف بعرفة "يوم التروية": بتخفيف الياء وهو ثامن الحجة سمي بذلك؛ لأنهم يستعدون فيه بالماء ليوم عرفة حالة كونه ذاهبا "إلى منى": وهو محل معروف بينه وبين مكة سبعة أميال، سمي بذلك؛ لأن إبراهيم عليه السلام تمنى فيه كشف ما نزل به من ذبح ولده. "فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح": أو يستحب أن يخرج في زمن بحيث يجب عليه فيها صلاة الظهر، ويقيم فيها حتى يصلي الصبح يوم عرفة، فيكره خروجه لمنى قبل ذلكقال خليل: وخروجه لمنى قدر ما يدرك بها الظهر وبياته بها وسيره لعرفة بعد الطلوع ونزوله بنمرة، والأصل في هذا كله فعله عليه الصلاة والسلام" تنبيه ": لم يتكلم المصنف على ما يفعله في السابع من ذي الحجة قبل خروجه لمنى والذي يستحب له إتيان المسجد الحرام، فإذا دخل وقت الظهر صلاها بالناس ثم صعد المنبر وخطب خطبة واحدة يفتتحها بالتكبير كالعيد ويخللها به ويذكر فيها فضل الحج، ويبين فيها للناس كيفية خروجهم من مكة إلى منى يوم التروية وصلاتهم بها تلك الصلوات ومبيتهم بها ليلة عرفة، ويحرضهم عند وصول عرفة على النزول بنمرة وهي آخر الحرم وأول الحل، وهذه أولى الخطب وقد تركت في هذا الزمان، والثانية يوم عرفة بعد الزوال يبين للناس فيها كيفية الوقوف وزمنه والذهاب للمزدلفة بعد الغروب مع البيات بها والتوجه منها إلى منى طلوع الشمس لرمي جمرة العقبة فقط والذبح والحلق ثم التوجه إلى مكة لطواف الإفاضة، والخطبة الثالثة في حادي عشر ذي الحجة يبين للناس فيها مبيتهم بمنى وكيفية الرمي وما يلزم بتركه وحكم التعجيل ونحو ذلك، فتلخص أن خطب الحج ثلاث"ثم": بعد صلاة الصبح يوم التاسع في منى "يمضي": أي يخرج منها بعد طلوع الشمس ذاهبا
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا [النسائي: 125]، حديث 3364.

"إلى عرفات": وهو موضع الوقوف، وقيل عرفات جمع عرفة؛ لأن كل جزء منه يسمى عرفة، ولهذا يجوز فيه الصرف وعدمه كما قيل في أذرعاتقال الزجاج: والأوجه الصرف عند جميع النحويين؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف، وسميت بذلك قيل:؛ لأن جبريل عليه السلام كان يعلم إبراهيم المناسك فيها ويريها له ويقول له: عرفت؟ فيقول: عرفت، وقيل:؛ لأن جبريل عرف فيها آدم مناسك الحج، وقيل:؛ لأن آدم عرف حواء فيها. "ولا يدع": أي لا يترك "التلبية في هذا كله": أي في الزمن الذي مر بعد سعيه؛ لأنه يعاود التلبية بعد الفراغ من سعيه. "حتى تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها": وهو مسجد نمرة. "وليتطهر": أي يغتسل استنانا، وقيل ندبا وهو المعتمد "قبل رواحه": إلى المصلى بعد الزوال ولا يتدلك، وهذا الاغتسال للوقوف لا للصلاة فيطلب من الحائض، وهذا ثالث اغتسالات الحج التي أولها الإحرام، وثانيها لدخول مكة، وثالثها هذا إذا وصل إلى المصلى. "فيجمع": على جهة السنية "بين الظهر والعصر": بمسجد نمرة جمع تقديم ولو كان من أهل عرفة "مع الإمام": بعد فراغه من الخطبة، وبعد الأذان والإقامة والإمام على المنبر، وكما يسن جمع هاتين الصلاتين يسن قصرهما إلا لمن كان من أهل عرفة؛ لأن أهل كل محل يتم بمحله، وإن كان يجمع تبعا للإمام في محله، ولا ينبغي لأحد ترك ذلك الجمع، ويصلي الإمام بالناس في عرفة الظهر ولو وافق يوم جمعة على الصواب، فقد قال في الذخيرة: جمع هارون الرشيد خليفة زمانه مالكا وأبا يوسف، فسأله أبو يوسف عن إقامة الجمعة بعرفة، فقال مالك: لا يجوز؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها في حجة الوداع، فقال أبو يوسف: قد صلاها؛ لأنه خطب خطبتين وصلى بعدهما ركعتين وهذه جمعة، فقال مالك: أجهر فيهما كما يجهر بالجمعة؟ فسكت أبو يوسف وسلم للإمام" تنبيه ": علم مما قررنا أن الجمع المذكور مشروع ولو لأهل عرفة بخلاف القصر، وكذا يقال في أهل منى ومزدلفة، والضابط أن أهل كل محل يتمون به، فأهل عرفة تجمع بها ولا تقصر، وأهل المزدلفة كذلك تجمع بها ولا تقصر، والمنوي يجمع فيها ويقصر. "ثم": بعد الفراغ من الصلاتين مع الإمام "يروح معه إلى موقف عرفة": الذي وقف فيه الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه المستحب، وهو عند الصخرات العظام المفروشة في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط عرفة، هذا هو الذي استحبه العلماء كما قاله ابن المعلى وإن كان يصح الوقوف في كل جزء منها لقوله عليه الصلاة والسلام: "عرفة كلها موقف" وارتفعوا عن بطن عرنة. "فيقف

معه": أي مع الإمام "إلى غروب الشمس": ويندب أن يكون على وضوء وراكبا إلا لتعب، ويدعو ويسبح أو يهلل في حالة وقوفه، وأشعر كلامه أنه لا يقف بعرفة قبل الزوال وهو كذلك، وحكم الوقوف الوجوب ويتمادى ولو بجزء من النهار بعد الزوال، ويلزم الدم بتركه اختيارا، وأما الوقوف الركني فزمنه بعد الغروب ومنتهاه طلوع الفجر، والتعبير بالوقوف بيان للوجه الكامل، فلا ينافي أنه إذا مر بعرفة ليلا ولم يقف فيها يجزئه بشرطين: أن يكون عالما بأن هذا المحل عرفة، وأن ينوي الحضور بعرفة، لا المار الجاهل بأن هذا المحل عرفة، ولكن يلزم المار على الوجه المجزئ الدم لوجوب الطمأنينة بعرفة" تنبيهات ": الأول : إذا عرفت ما قررناه لك من أن الوقوف بعرفة جزء من النهار بعد الزوال واجب ينجبر بالدم، وأن الوقوف الركني الوقوف بها جزء من الليل بعد غروب الشمس ظهر لك ما في كلام المصنف من الخفاء بواسطة التعبير بإلى الدالة على خروج ما بعدها، ويمكن الجواب عنه بأن في كلامه حذف عاطف ومعطوف تقديره فيقف معه إلى غروب الشمس ومضي جزء من الليلالثاني : علم مما ذكرنا في الشروط اعتبار الحرية والتكليف وقت الإحرام، وأن من جن أو أغمي عليه أو سكر بحلال بعد الإحرام ووقف به وليه على هذا الوجه المطلوب أجزأ ويسقط عنه حجة الإسلام، بخلاف المجنون المطبق يحرم عنه وليه ويقف به فيصح حجه ولا تسقط عنه حجة الإسلام لعدم تكليفه وقت الإحرامالثالث : فهم من قولنا إن في كلام المصنف حذف عاطف ومعطوف تقديره ومضي جزء من الليل، أنه لو نفر قبل غروب الشمس ولا يكفيه الوقوف وهو كذلك حيث انفصل من عرفة قبل غروب الشمس، وأما لو غربت عليه قبل انفصاله من عرفة فإنه يجزئه ويلزمه الهديالرابع : لو أخطأ أهل الموقف ليلة الثلاثين من القعدة بأن خفي عليهم الهلال فجعلوا الليلة الثانية من الشهر هي الأولى ووقفوا يوم العاشر لزعمهم أنه التاسع فإنه يجزئه حيث خفي الهلال على الجميع، وسواء ظهر لهم الخطأ بعد انقضاء العاشر أو في حال وقوفهم أو قبله، وإن وقفوا يوم الثامن ولم يتبين لهم الخطأ إلا بعد غروب شمس التاسع فيجب عليهم الذهاب إلى عرفة ليقفوا يوم العاشر، بخلاف ما لو وقفوا في الحادي عشر أو كان الخطأ من بعض الحجاج ولو المعظم فلا يجزئهم وقوفهم ولو بالعاشر، وإذا وقفوا بالعاشر على الوجه الصحيح فإن أفعالهم تنقلب كحال من لم يخطئ فيتأخر النحر والرمي.

" فرع ": قال السيوري حين سئل عمن شك في هلال الحجة: ينبغي عندي أن يقف يومين احتياطا، وأجاب اللخمي: المذهب لا يقف إلا يوما واحدا لطرح يوم الشك والاعتداد بما سواه"ثم": بعد الغروب من اليوم التاسع ومضي جزء من ليلة العاشر "يدفع": أي يسير "بدفعه": أي الإمام "إلى المزدلفة": ويسير الحاج مع الإمام من عرفة، قيل على جهة السنية، وقيل على جهة الندب، والمزدلفة هي المحل المعروف، وتسمى جمعا بجيم مفتوحة وميم ساكنة وعين مهملة. "فيصلي معه": أي مع الإمام "بالمزدلفة المغرب والعشاء": مجموعتين على جهة السنية جمع تأخير؛ لأنه في وقت الثانية. واعلم أنه لا يجمع الحاج مع الإمام بالمزدلفة إلا إذا وقف معه وسار مع الناس أو تأخر لغير عذر، فإن لم يقف مع الإمام بأن لم يقف أصلا أو وقف بعده فإنه يجتمع بالمزدلفة ولا بغيرها، ويصلي كل صلاة لوقتها بمنزلة غير الحاج، وإن وقف مع الإحرام وتأخر عن النفور معه لعجز فإنه يصليهما بعد الشفق في المزدلفة أو غيرها، فتلخص أن من وقف مع الإمام ونفر معه يجمع معه بالمزدلفة من غير إشكال، ومن وقف معه وتأخر عنه فإنه يجمع في أي محل شاء، فإن وقف معه وتأخر اختيارا لا يجمع إلا في المزدلفة، ومن لم يقف مع الإمام فلا يجوز جمعه مطلقا بل يصلي كل صلاة في وقتها، لأن الجمع لمن وقف مع الإمام" تنبيه ": علم مما قررنا أن الجمع سنة بالمزدلفة كعرفة، كما يسن القصر فيهما لكن لغير أهل كل محل به، وأما البيات بالمزدلفة فمندوب، ويستحب إكثاره من التهجد والذكر فيها، وأما المكث بها قدر حط الرحال فهو واجب يلزم بتركه دم إلا لعذر يفعله، وربما يفهم ندب البيات بها من قول المصنف "و" يصلي "الصبح": بالمزدلفة مع الإمام"ثم": بعد فراغه من الصلاة وسيره مغلسا "يقف معه بالمشعر الحرام": مستقبلا مكبرا على جهة الاستحباب إلى الإسفار "يومئذ": أي يوم النحر فيوم ظرف ليصلي الصبح المقدر أو ليقف والضمير في "بها": للمزدلفة؛ لأن المشعر جبل بها سمي بذلك؛ لأن الجاهلية كانت تشعر فيه هداياها، والمراد باليوم قطعة من الزمان؛ لأن وقوفه ينتهي بالإسفار بدليل قوله: "ثم": بعد انتهاء وقوفه بالمشعر "يدفع بقرب طلوع الشمس": وهو الإسفار ذاهبا "إلى منى" قال خليل عاطفا على المندوب: وارتحاله بعد الصبح مغلسا، ووقوفه بالمشعر الحرام يكبر ويدعو للإسفار واستقباله به، ولا وقوف بعده إلى الإسفار خلافا للمشركين فإنهم كانوا يقفون لطلوع الشمس،

فمن وقف للطلوع أساء ولا دم عليه. "و": يستحب للدافع من المشعر إلى جهة منى وكان رجلا أن "يحرك دابته ببطن محسر": إن كان راكبا ويسرع في مشيه إن كان راجلا، وبطن محسر واد بين المزدلفة، ومنى قدر رمية الحجر ليس من واحد منها، سمي بذلك لحسر أصحاب الفيل فيه ونزول العذاب عليهم به، وأما النساء فلا يطلب منهم إسراع كما لا يطالبن بالرمل"فإذا وصل": السائر من المزدلفة "إلى منى": يوم النحر "رمى جمرة العقبة بسبع حصيات": وجوبا ويستحب أن يرميها حين وصولهقال خليل: ورميه العقبة حين وصوله وإن راكبا؛ لأنه تحية الحرم والتحية يبدأ بها الداخل، لكن إن وصل قبل طلوع الشمس يندب تأخيره حتى تطلع الشمس، وإن كان يدخل وقت رميها بطلوع الفجر، ويمتد وقت أدائها إلى غروب الشمس والليل قضاء، والمراد بجمرة العقبة البناء، وما تحته الكائن في آخر منى من ناحية مكة في رأس وادي المحصب عن يمين الماشي إلى مكة، سميت جمرة باسم ما يرمى فيها وهي الحجارة، إلا أن الرمي في أسفل البناء أفضل منه على نفس البناء وإن أجزأ، ولا فرق في الإجزاء بين كون الرامي واقفا أمام البناء أو تحته أو خلفه، لأن القصد إيصال الحصيات إلى أسفل البناء، فإن وقف في شقوق البناء ففي الإجزاء ترددقال خليل: وفي إجزاء ما وقف بالبناء تردد وتلك الحصيات في القدر. "مثل حصى الخذف": بخاء وذال معجمتين آخره فاء وحصى الخذف هو الذي يرمى بالأصابع كانت الجاهلية تفعل ذلك، يجعل الشخص الحصاة على السبابة أو على الوسطى ويدفعها بالإبهام وهو مكروه للنهي في خبر: "إياكم والخذف فإنه يكسر السن ويفقأ العين ولا يجزئ شيئا" واختلف في قدره على أقوال: فقيل كالفولة، وقيل كالنواة، وقيل غير ذلك، ولا يجزئ ما صغر جدا كالحمصة بخلاف الكبير فإنه يكره مع الإجزاء، وصفة الرمي لجمرة العقبة أن يعجل برميها ولو راكبا كما قدمنا، ويستقبل الجمرة في حال الرمي ومنى عن يمينه ومكة عن يساره، بخلاف الجمرات الثلاث، فإن الأفضل فيها المشي، ويجعل الحصاة بين إبهامه وسبابته، وقيل يمسكها بإبهامه والوسطى. "ويكبر": ندبا "مع كل حصاة": كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم كما يندب تتابعها ولقطها" تنبيهات ": الأول : لم يتعرض لشروط الرمي ومحصلها أنها على قسمين: شرائط صحة: وشرائط كمال، فشرائط الصحة كون المرمي حجرا كرخام أو برام فلا يصح بطين ولا معدن، وكون إيصال الحصاة إلى الجمرة بواسطة الرمي وكون الرمي باليد، فلا يصح بقوس ولا برجل

ولا بفم، وأن يرمي كل حصاة بانفرادها، فإن رمى بالسبع مرة واحدة اعتد بواحد، وترتب الجمرات الثلاث في أيام الرمي، وشرائط الكمال: المبادرة برمي العقبة يوم العيد قبل حط الرحل وإثر الزوال قبل الظهر في غير اليوم الأول والتكبير حال الرمي كما قاله المصنف، وتتابع الحصيات فيما بينها ولقط الحصيات فلا يكسر حجرا كبيرا ويرمي به، وطهارة الحصيات فيكره الرمي بمتنجس، كما يكره الرمي بما رماه الغير، ومن المستحبات الرمي في بطن الواديالثاني : اعلم أن جمرة العقبة تختص بأربعة أمور: صحة رميها بعد طلوع الشمس قبل الزوال بخلاف رمي غيرها لا يصح إلا بعد الزوال، ولا يرمى في اليوم الأول إلا هي، ولا يوقف عند رميها للدعاء بخلاف غيرها ورميها من أسفلهاالثالث : اعلم أنه قد تقرر أن للحج تحللين أصغر وأكبر، فالأكبر طواف الإفاضة؛ لأنه يحل به كل ما كان محرما على المحرم، والأصغر رمي جمرة العقبة؛ لأنه إنما يحل به غير النساء والصيد ويكره معه مس الطيب، ومثل رميها بالفعل فوات وقت أدائها وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لأن الليل قضاء"ثم": بعد رمي جمرة العقبة "ينحر": أو يذبح "إن كان معه هدي": بمنى وجوبا وقيل ندبا لكن بشرط إن كان مسوقا في إحرام حج ولو لنقص في عمرة أو تطوعا أو كان جزاء صيد، وأن يكون قد وقف به هو أو نائبه بعرفة ساعة ليلة النحر في أيام منى، فإن انخرم شرط من هذه الشروط فينحره بمكةقال خليل: والنحر بمنى إن كان في حج ووقف به هو أو نائبه وكان الذبح بأيامها، وإلا فمكة ومنى كلها محل للنحر إلا ما وراء جمرة العقبة مما يلي مكة؛ لأنه ليس من منى، ولا ينتظر بنحر الهدي نحر الإمام؛ لأنه ليس في منى صلاة عيد، وسيأتي هذا في كلامه وإنما قدمناه للمناسبة" تنبيه ": لو خالف الشخص بأن ذبح أو نحر في منى ما محله مكة أو عكسه ففيه تفصيل، فإن نحر في مكة ما يطلب نحره في منى أجزأ ولو على القول بوجوب النحر في منى عند استيفاء الشروط، وأما لو نحر في منى ما يطلب فعله في مكة فلا يجزئ لقوله صلى الله عليه وسلم في المروة: "هذا النحر وكل فجاج مكة وطرقها منحر" 1ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع، حديث "1937" وابن ماجه، حديث "3048"، وانظر "صحيح الجامع 4225".

"ثم": بعد النحر أو الذبح "يحلق": ولو بنورة إن عم رأسه بالمزيل؛ لأن إزالة بعض الشعر بمنزلة العدم، ويجزئ التقصير إلا أن الحلق أفضل في حق الرجال، وأما النساء فسيأتي أنه يتعين في حقهن التقصير ولو بنت تسع سنين"ثم": بعد الحلق في منى "يأتي البيت": الشريف "فيفيض و": معنى يفيض أنه "يطوف": به "سبعا": ويسمى ذلك الطواف طواف الإفاضة لقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] ولا رمل في هذا الطواف إلا أن يكون ترك الرمل في طواف القدوم، فيستحب له أن يرمل في الثلاثة الأول، وتقدمت شروط الطواف مطلقا. "و": يطلب منه بعد الفراغ من طوافه أن "يركع": قبل نقض طهارته ركعتين، وتقدم الخلاف في تلك الركعتين"تنبيهان": الأول: لم يبين المصنف حكم طواف الإفاضة، وقد ذكرنا في صدر الباب أنه ركن بل أعظم أركان الحج لقربه من البيت، ولا يشكل بالحج عرفة؛ لأنه من جهة فوات الحج بفواته، فلا ينافي أن طواف الإفاضة أفضل منه، ووقته بعد فجر يوم النحر وهو آخر أركان الحج لمن قدم السعي، وأما لو كان باقيا لسعى بعد الإفاضة، وبالفراغ من طواف الإفاضة أو السعي لمن لم يكن قدمه يحل كل ما كان محرما عليه كالنساء والصيد وكراهة الطيبالثاني: علم مما مر في كلام المصنف أنه يفعل في اليوم الأول من أيام النحر أربعة أشياء: مرتبة الرمي فالنحر فالحلق فالطواف، لكن الثلاثة الأول في منى والرابع في مكة، والدليل على ذلك حديث جابر الصحيح: "أنه صلى الله عليه وسلم رمى ثم نحر ثم حلق ثم ركب إلى البيت فأفاض وصلى بمكة الظهر"1 لكن حكم هذا الترتيب مختلف، فتقديم الرمي على الحلق وعلى الإفاضة واجب، فإن حلق قبل الرمي أو طاف للإفاضة قبله لزمه دم، بخلاف تأخير الذبح عن الرمي أو تأخير الحلق عن الذبح فمندوب، كتأخير الإفاضة عن الذبح، وما ورد: "من أنه صلى الله عليه وسلم حين وقف في حجة الوداع صاروا يسألونه فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: "اذبح ولا حرج" ، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: "ارم ولا حرج" 2 فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج، لا يخالف ما ذكرنا؛ لأن الذي سئل عنه
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر وهم يتلقون عير القريش، حديث "4361"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الذبح قبل الحلق، حديث "1722" ومسلم، مختصراً، كتاب الحج، باب من خلق البحر أو نحر قبل الرمي، حديث "1307".

عليه الصلاة والسلام غير ما قدمنا أن ترتيبه واجب، والذي قال فيه افعل ولا حرج خاص بما سئل عنه، ومعنى افعل مع وقوع الفعل اعتد بفعلك الصادر منك ولا تطالب بإعادته. "ثم": بعد طواف الإفاضة وصلاة الركعتين لمن قدم سعيه يرجع من مكة إلى منى بحيث يدرك البيات بها و "يقيم بمنى ثلاثة أيام": بلياليها إن لم يتعجل، ويومين إن تعجلقال خليل: وعاد للمبيت بمنى فوق العقبة ثلاثا وليلتين إن تعجل، فلو ترك جل ليلة من لياليها لزمه دم، وظاهر كلام أهل المذهب ولو ترك ذلك لضرورة كخوفه على متاعه، ويستثنى رعاة الإبل فإنهم يرخص لهم بعد رمي جمرة العقبة أن ينصرفوا إلى المرعى ثم يأتوا في ثالث النحر فيرموا لليوم الماضي وهو ثاني النحر، ولليوم الذي حضروا فيه وهو ثالث النحر، ثم إن شاءوا تعجلوا فيسقط عنهم رمي الرابع، وإن شاءوا أقاموا اليوم الرابع فيرموه مع الناس، ومثل الرعاة في عدم لزوم المبيت ليالي منى أهل السقاية فيجوز لهم البيات بمكة لأجل الماء، لكن أهل السقاية يرمون في كل يومثم بين ما يفعله المقيم بمنى بقوله: "فإذا زالت الشمس من كل يوم منها": أي من أيام منى الثلاث وهي الأيام المعروفة بأيام الرمي وهي ثاني النحر وثالثه ورابعه. "رمى": أي المقيم بمنى وجوبا "الجمرة": الأولى وهي الكبرى "التي تلي": مسجد "منى بسبع حصيات": في سبع مرات كما قدمنا، ويستحب كون الرمي إثر الزوال وقبل صلاة الظهر، ويستحب أيضا أن "يكبر مع كل حصاة": تكبيرة واحدة ويرفع صوته بها. "ثم": بعد الفراغ من رمي الأولى "يرمي الجمرتين": يثني بالوسطى وهي التي في السوق، ثم يختم بجمرة العقبة، فالترتيب بين الثلاث شرط صحة، فإن نكس بطل رمي المقدمة عن محلها ولو سهوا، ويرمي الوسطى من فوقها والعقبة من أسفلها، فإن لم يكن من أسفلها فمن فوقها، ويرمي "كل جمرة": منها "بمثل ذلك": المذكور في رمي الأولى من كونه بسبع حصيات كل حصاة في مرة "ويكبر مع": رمي "كل حصاة": وتندب المبادرة برمي الثانية عقب الأولى وبالثالثة عقب الثانية؛ لأنه لا يلزم من حصول الترتيب. بينها المبادرة لكل واحدة عقب رمي ما قبلها" تنبيه ": تلخص مما مر أن أول يوم إنما يرمى فيه بسبع حصيات وهي جمرة العقبة، وأن الثاني والثالث والرابع وهي أيام الرمي ويقال لها الأيام المعدودات يرمى في كل يوم الثلاث جمار كل واحدة بسبع حصيات، الجملة ثلاث وستون، وحصيات العقبة سبعة الجملة سبعون حصاة لمن لم يتعجل؛ لأن المتعجل يسقط عنه رمي الرابع. "و": يستحب أن "يقف للدعاء"

والتهليل والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "بإثر الرمي في الجمرة الأولى": وهي الكبرى التي تلي مسجد منى. "و": كذا بإثر "الثانية": التي هي الوسطىقال خليل: ووقوفه إثر الأوليين قدر إسراع قراءة سورة البقرة في الأولى والثانية مستقبل القبلة"ولا يقف عند": رمي "جمرة العقبة": ولذا قال: "ولينصرف": سريعا عقب رميها من غير دعاء لفعله عليه الصلاة والسلام. "تنبيه": علم مما قررنا أن الجمرات الثلاث مرتبة، وإن رمى غير العقبة لا يدخل إلا بالزوال، وينتهي الأداء إلى غروب كل يوم وما بعده قضاء له، ويفوت الرمي كله بغروب الرابع، ولذا قالوا: لا قضاء للرابع لانقضاء أيام التشريق بغروب شمس الرابع، ويلزمه دم واحد في ترك حصاة أو في ترك الجميع، إلا إذا كان قد أخر كتأخير شيء منها إلى الليل. قال خليل عاطفا على ما يوجب الدم: وتأخير كل حصاة أو الجميع لليل "فإذا رمى": الجمرات الثلاث على ترتيبها السابق رميا صحيحا "في اليوم الثالث": من أيام منى. "وهو رابع يوم النحر":؛ لأن يوم العيد ليس من أيام الرمي؛ لأنه إنما يرمى فيه جمرة العقبة. "انصرف": من منى "إلى مكة": ويرخص له في ترك النزول بالمحصب إن كان غير مقتدى به، لأن المقتدى به يستحب له النزول به ليصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم يدخل مكة ليلا لفعله عليه الصلاة والسلام، ومحل استحباب النزول به للمقتدى به إذا لم يصادف يوم الانصراف من منى يوم الجمعة، وإلا استمر سائرا ليصلي الجمعة بأهل مكة. "و": بعد فعل الصفة المتقدمة من الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة والرمي. "قد تم حجه": بفرائضه وسننه وفضائلهفإن قيل: قد بقي عليه طواف الوداع كما يأتي في كلامه، فالجواب: أن طواف الوداع عبادة مستقلة يستحب فعلها لتوديع البيت لكل خارج من مكة لكالجحفة لا كالتنعيم وليس من أركان الحج ولا من سننه، ولما كان قوله فيما مر: ثم يقيم بمنى ثلاثة أيام يوهم الوجوب للثلاثة مطلقا، بين أن محل الوجوب إن لم يتعجل بقوله: "وإن شاء تعجل في يومين": أي بعد يومين "من أيام منى": بأن ينصرف في ثالث أيام النحرقال خليل: ثم عاد للمبيت بمنى فوق العقبة ثلاثا، أو ليلتين إن تعجل "فرمى": أي اليوم الثاني "وانصرف": فيسقط عنه رمي الثالث وهو رابع النحر، وشرط التعجيل مجاوزة جمرة العقبة قبل غروب الثاني من أيام الرمي، فإن غربت عليه الشمس قبل مجاوزتها لزمه البيات بمنى؛ لأن الليلة إنما أمر بالمقام فيها لأجل الرمي في النهار، فإن غربت عليه الشمس وجب

عليه البيات لأجله وكأنه التزم رمي الثالث؛ ولأن من غربت عليه شمس الثاني لم يصدق عليه أنه تعجل في يومين. "تنبيهان": الأول: ظاهر قول المصنف: وإن شاء تعجل مساواة التعجيل لعدمه، مع أن عدم التعجيل فيه كثرة عمل، ويدل على هذا الظاهر أيضا قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] لترك رخصة التعجيلفإن قيل: عدم الإثم في التأخير لا يتوهم حتى ينفيه في الآية، فالجواب: أنه رد على الجاهلية الذين كانوا يقولون بالإثم على المتأخرين مع تعجيل غيره لتوهمهم وجوب العمل برخصة التعجيلالثاني: ظاهر كلامه أيضا أن رخصة التعجيل عامة في حق كل حاج وليس كذلك بل هي خاصة بغير أمير الحاج، وأما هو فيكره له التعجيل لقول مالك: لا يعجبني لأمير الحاج أن يتعجل"فإذا خرج": أي أراد الخروج من كان بمكة "من مكة" لكالجحفة ولو لم يكن في أحد النسكين "طاف للوداع": على جهة الندب سبعة أشواط "وركع": أي صلى ركعتين كما تقدم لكل طواف "وانصرف": قال خليل عاطفا على المندوب: وطواف الوداع إن خرج لكالجحفة لا كالتنعيم، ولا ينصرف من المسجد بعد الركعتين حتى يقبل الحجر ولا يرجع القهقرى، وإذا فعل الطواف وأقام بمكة ولو بعض يوم أعاده، والدليل على ندب طواف الوداع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف" 1" تنبيهات ": الأول : إنما جعلنا فاعل خرج من كان بمكة لا الحاج، إشارة إلى أن طواف الوداع مندوب لكل خارج من مكة لكالجحفة أو غيرها من بعد المواقيت، سواء كان مكيا أو غيره، قدم بنسك أو تجارة، سواء كان كبيرا أو صغيرا، حرا أو عبدا، خرج على نية العود أم لا، وأما الخارج من مكة لمحل قريب فلا يندب له طواف الوداع إلا إذا خرج على نية الانتقال، وممن لا يندب في حقه طواف الوداع المتردد في الخروج كالحطاب والبياع وكذلك المتعجلالثاني : علم مما مر أن الطواف على ثلاثة أقسام: واجب ينجبر بالدم كطواف القدوم، وركن لا يسقط فرض الحج إلا به كطواف الإفاضة، ومستحب كطواف الوداعالثالث : قال بعض الفضلاء: من أتى بأعمال الحج القولية والفعلية على الوجه المطلوب
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض، حديث "1327"، والترمذي، حديث "944"، وابن ماجه، حديث "3070" وأحمد "1/222" حديث "1936".

الذي بينه المصنف وهو يعلم أن بعضها فرض وبعضهما غير فرض ولكن لا يميز الفرض من غيره فإن حجه صحيح على المشهور في المذهب، وإن اعتقد أن جميعها فرض فإن حجه لا يصح، كذا ذكره بعض المتأخرين وحكي عليه الاتفاق، وظاهر كلام غيره أن حجه صحيح وهو الظاهرقال ذلك الأجهوري نقلا عن جده، وبقي ما لو لم يعتقد فرضية شيء منه وأتى به على الوجه المطلوب: ويفهم من اشتراط عدم نية النفل في وقوعه فرضا أن من نوى فعل العبادة التي أمر الله بها تقع صحيحة ويدخل فيه من توضأ لأجل الصلاة الوضوء الذي أمر الله به أو نوى فعل الصلاة التي أمر الله بها، ولم يخل بشيء من فرائضه ولا بشيء من أركانها ولا فعل فيها ما يبطلها، فإن فعله صحيح ولو اعتقد فرضية إجزاء العبادة لا يورث بطلانا، ومثلها الطهارة وكذا يصح فعله، ولو اعتقد فرضية جميع أفعال جميع العبادة؛ لأن نية فرضية غير الفرض تعد مقوية لغير الفرض لا منافية، بخلاف ما لو اعتقد أن الفرض سنة أو نافلة أو نوى بالفرض غيره لا يشك في عدم إجزائه عن الفرض؛ لأن غير الفرض لا يجزئ عن الفرض للمنافاة، والضعيف لا يؤكد القوي بخلاف العكس وحرر الحكم في كل ذلك فإني لم أجده، والموجود في كلام بعض الشيوخ ما سبق والله أعلمولما فرغ من الكلام على صفة الحج شرع في الكلام على العمرة فقال: "العمرة": لغة الزيادة واصطلاحا عبادة يلزمها طواف وسعي بعد إحرام. "يفعل فيها": الطواف والسعي بعد الإحرام. "كما ذكرنا أولا": في أول الحج بأن يتجرد ويغتسل ويلبس الإزار والرداء والنعلين ويصلي الركعتين، ثم إذا استوى على راحلته أو مشى يحرم مع القول أو الفعل ويمضي في أفعالها. "إلى تمام السعي بين الصفا والمروة":؛ لأن أركانها الإحرام والطواف والسعي ولها ميقاتان: زماني ومكاني كالحج، فالزماني الوقت كله ولو يوم النحر أو عرفةقال خليل: وللعمرة أبدا إلا من كان محرما بحج أو عمرة فلا يصح إحرامه بها إلا بعد تحلله بطواف الإفاضة، ورمي الرابع بعد الزوال لمن كان محرما بحج ولم يتعجل أو يمضي قدر زمن رمي الرابع إن تعجل، فإن أحرم قبل ذلك لم يصح إحرامه، وأما لو أحرم بعد ما ذكر صح إحرامه لكن مع الكراهة إن كان قبل غروب الرابع، ولكن لا يفعل شيئا منها قبل الغروب، فإن فعل شيئا لم يعتد به، وأما لو أحرم بها بعد ما ذكر بعد غروب الرابع صح من غير كراهة، وأما لو كان محرما بعمرة وأراد أن يحرم بعمرة أخرى فلا يصح إحرامه إلا بعد تحلله منها إذا لا

تدخل عمرة على أخرى، وأما لو أحرم بعمرة قبل الحلاق من الحج لمن كان محرما بحج، أو قبل الحلاق من العمرة لمن كان محرما بعمرة فإنه صحيح كما قاله الحطاب، وأما ميقاتها المكاني فهو الحل سواء كان آفاقيا أو مقيما بمكة، ومثل الإحرام بالعمرة الإحرام بهما معا، فيجب أن يخرج للحل وهو ما جاوز الحرم، فيخرج إلى مساجد عائشة ويحرم بهما أو بالعمرةقال خليل: ولها وللقران الحل ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، فلو أحرم بالعمرة من مكة أو بالقران لم يجمع في إحرامه بين الحل والحرم بالنسبة للعمرة؛ لأن أفعالها تنقضي في الحرم؛ لأن الخروج لعرفة إنما هو للحج، فإذا خالف وأحرم من الحرم فإن أحرم للعمرة فإنه ينعقد إحرامه ولكن لا يطوف ولا يسعى لها حتى يخرج إلى الحل، فإن طاف وسعى قبل خروجه أعادهما بعدهقال خليل: وإن لم يخرج أعاد طوافه وسعيه بعده، وأما لو أحرم قارنا فإنه يلزمه الخروج أيضا إلى الحل، وإن كان لا يطوف ولا يسعى للعمرة لاندراج طوافها وسعيها في طواف وسعي الحج، فلو لم يخرج القارن إلى الحل حتى خرج إلى عرفة فطاف للإفاضة وسعى فالظاهر أنه يجزئه. قاله الأجهوري في شرح خليل، وسيأتي أن حكمها السنة المؤكدة"ثم": بعد تمام عمرته يجب أن "يحلق رأسه": ولو بنورة "وقد تمت عمرته": والمراد بتمام العمرة كمالها، فلا ينافى تمامها بالفراغ من طوافها وسعيها؛ لأن الحلاق من واجباتها ولا دخل له في حقيقتها، ولما كان الحلاق غير متعين في التحلل قال: "والحلاق أفضل في": التحلل من "الحج والعمرة والتقصير يجزئ": والدليل على أفضلية الحلاق حديث: "رحم الله المحلقين" 1 والدليل على إجزاء التقصير ما في الصحيحين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع وأناسا من أصحابه وقصر بعضهم"2 ومحل إجزاء التقصير إذا لم يكن شعره مضفورا أو معقوصا أو ملبدا، وإلا تعين الحلاق لعدم التمكن من تقصير جميع الشعر، ومحل أفضلية الحلاق على التقصير لغير المتمتع، وأما المتمتع فالأفضل في حقه عند التحلل من عمرته التقصير استبقاء للشعر حتى يتحلل من الحج. "و": صفة "التقصير" أن يجز "من جميع
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، حديث "1727" ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، حديث "1301" والترمذي، حديث "913"، وابن ماجه، حديث "3044"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، حديث "4411" ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، وحديث "1301".

شعره": طويله وقصيره من قرب أصله، فلو اقتصر على جز بعضه لم يجزه. قال في المدونة: وليس تقصير الرجل أن يأخذ من أطراف شعره ولكن يجزه جزا، وليس كالمرأة فإن أخذ من أطرافه أخطأ ويجزئه فكونه من قرب أصله على جهة الندب أو الوجوب الغير الشرطيولما كان الحلاق قاصرا على الرجال قال: "وسنة المرأة التقصير: ولا يجوز لها الحلاق": ولو بنت عشر سنين، وأما الصغيرة جدا فيحوز لوليها حلق رأسها، وإنما حرم الحلق على الكبيرة؛ لأنه مثلة في حقها إلا إن كان برأسها أذى فيجوز للضرورة إذ يجوز لها ما كان محرما، وصفة تقصيرها أن تأخذ من أطراف شعر رأسها قدر الأنملة من جميعه طويله وقصيره، لكن بعد زوال عقصه أو ضفره أو تلبيده لمنعه التقصير كما مر، والمراد بالسنة في كلام المصنف الطريقة؛ لأن التقصير واجب فيحرم عليها الحلاققال خليل: ثم حلقه ولو بنورة إن عم رأسه والتقصير مجز، ويكره الجمع بين الحلق والتقصير لغير ضرورة وهو سنة المرأة. "و": بين صفة التقصير للمرأة بقوله: "تأخذ المرأة من أطراف شعرها قدر الأنملة من جميعه طويله وقصيره": ولو أدخل الكاف على الأنملة لكان حسنا لقول ابن عرفة: روي عن ابن حبيب قدر الأنملة أو فوقها بيسير أو دونها، ورواية الطراز قدر الأنملة لا أعرفها. "و": صفة تقصير "الرجل" أن يأخذ من جميع شعر رأسه "من قرب أصله": استحبابا فلو أخذ من أطراف شعر رأسه أجزأه"خاتمة": الحلاق والتقصير تحلل ونسك أي عبادة تطلب في الحج والعمرة. قال مالك: فمن لم يقدر على حلق رأسه ولا تقصيره لوجع به: فعليه هدي بدنة أو بقرة أو شاة، فإن عجز صام عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع من منى، فهذا دليل على كونه نسكا، ويدل على كونه تحللا منع الوطء قبله ولو بعد طواف العمرة أو الإفاضة. وفي سماع ابن القاسم: ولو نسيت المرأة التقصير فذكرته ببلدها بعد سنين قصرت وعليها دمولما فرغ من بيان صفة الحج والعمرة شرع في بيان ما يحرم على المحرم وما لا يحرم من التعرض للحيوان البري وغيره من مخالطة النساء والطيب ولبس الثياب أو غيرها فقال: "ولا بأس": أي يجوز جوازا مستوى الطرفين "أن يقتل المحرم الفأرة": بالهمزة وتركه "والحية والعقرب وشبهها": أي المذكورات في الأذية من نحو ابن عرس والثعبان والرتيلاء والزنبور، ولا فرق في هذه الأنواع الثلاثة بين الصغير والكبير لاستواء كل في الإيذاء. "و": كذا لا بأس بقتل "الكلب العقور و": المراد به في الحديث باتفاق الشيوخ كل "ما يعدو من الذئاب والسباع ونحوهما" من

أسد وفهد، ولا يدخل الكلب الإنسي؛ لأنه ليس على قاتله شيء ولو غير عقور؛ لأنه ليس من الصيد، والدليل على ما اتفق عليه الشيوخ من أن المراد بالكلب على ما يعدو من السباع حديث الترمذي من دعائه صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي لهب: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" 1 فعدا عليه الأسد فقتله، ومحل جواز قتل العادي من السباع أن يكون كبيرا أي بلغ حد الإيذاء، فإن كان صغيرا فإنه يكره قتله ولا جزاء فيه، وأما نحو القرد والخنزير فلا يدخل في عادي السباع إلا أن يحصل منه ضرر. "و": كذا يجوز للمحرم أن "يقتل من الطير ما يتقى": أي يخشى "أذاه": وبين عموم ما يقوله: "من الغربان والأحدية فقط":؛ لأن الغراب يؤذي الدواب وغيرها، والحدأة تخطف الأمتعة، ولذلك اتفقوا على قتل كبيرها، وجرى الخلاف في صغيرها، فمن نظر إلى الحال منع، ومن نظر إلى المآل أجاز، وعلى المنع لا جزاء في قتلها مراعاة للجواز، والدليل على جواز قتل هذه المذكورات ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس لا جناح على من قتلهن في الإحلال والإحرام: الفأرة والغراب والحدأة والعقرب والكلب العقور" 2وفي رواية: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا" 3 فأسقط في هذه الرواية العقرب وزاد الحية، فوجب الجمع لصحة الحديثين، وتردد بعض الشيوخ في لفظ الغراب، فمنهم من قيده بالأبقع عملا بالرواية ومنهم من أطلق. " تنبيهات ": الأول : جواز ترك هذه المذكورات مقيد بقصد دفع أذيتها بقتلها، وأما قتلها بقصد تذكيتها ليأكلها أو بغير قصد فلا يجوز ولا تؤكل، والظاهر أن عليه الجزاءالثاني : ظاهر قول المصنف في الطير من الغربان والأحدية فقط يوهم أن غيرهما من الطير ليس كذلك بل كذلك، فكان الأولى إسقاط لفظ فقط إلا أن يقال إن كلامه على حذف مضاف تقديره من نحو الغربان إلخ، ولذلك أطلق خليل حيث قال: كطير خيف إلا بقتله، فإنه صريح في عموم الطير الذي يخاف منه على النفس أو المال حيث لا يندفع أذاه إلا بقتلهالثالث: قول المصنف: الأحدية خلاف اللغة والصواب الحدأة بالهمزة والقصر وكسر الحاء
ـــــــ
1 حسن: أخرجه الحاكم في المستدرك "2/588" حديث "3984" والبيهقي في الكبرى "5/211" حديث "9832" وحسنه الحافظ ابن حجر "فتح الباري 39/4"2 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "1828" أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب حديث "1199"3 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، حديث "3314"، ومسلم كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب، حديث "1198".

وفتح الدال كعنبة، والجماعة حدأ بكسر الحاء مع الهمزة والقصر. وفي الأجهوري ما يفيد جواز تسكين الدال؛ لأنه قال بعد تصويب ابن العربي فهو كسدرة وسدر. ولما فرغ من الكلام على ما يجوز للمحرم فعله شرع فيما يحرم عليه بقوله: "ويجتنب": المحرم وجوبا "في حجه وعمرته النساء": فلا يقربهن بجماع ولا بمقدماته ولو علم السلامة، بخلاف الصوم فتكره المقدمات مع علم السلامة، ولعل الفرق يسارة الصوم وعظم أمر الحج، وتستثنى قبلة الوداع والرحمة" تنبيه ": بالغ المصنف في الاختصار إذ لم يبين حكم ما إذا جامع أو تسبب في خروج منيه: ولم يبين أيضا كيف ما يفعل من أفسد ما هو فيه، ومحصله إن جامع قبل تحلله أو استدعى المني حتى خرج ولو بنظر سواء فعل ما ذكر عالما بإحرامه أو ناسيا عالما بالحكم أو جاهلا، جامع في قبل أو دبر من آدمي أو غيره، أنزل أم لا، كان الجماع موجبا للغسل أم لا، فيفسد حج الفاعل، ولو الصبي بوطئه، ذكر ذلك الأجهوري في شرح خليل، ولي في ذلك بحث، إذ كيف يفسد حجه بوطئه ولا ينتقض وضوءه؟ ويشترط في حصول الفساد بخروج المني إن كان بغير لمس الاستدامة بأن كان بالنظر أو الفكر، وأما لو خرج بقبلة أو غيرها من أنواع اللمس فيفسد مطلقا، وأما الخارج بمجرد النظر أو الفكر فلا يحصل به فساد، وإنما يوجب الهدي، واعلم أنه لا يفسد الحج بما ذكر إلا إذا وقع المفسد قبل الوقوف بعرفة مطلقا أي فعل شيئا من أفعال الحج أو لا، أو بعد الوقوف بشرط أن يقع قبل طواف الإفاضة وقبل رمي جمرة العقبة في يوم النحر، أو قبل يوم النحر وهو يوم الوقوف، وأما لو وقع بعد رمي جمرة العقبة ولو قبل طواف الإفاضة أو بعد الإفاضة: ولو قبل الرمي للعقبة أو بعدها يوم النحر أو قبلهما بعد يوم النحر فلا فساد وإنما عليه هدي، ويلزمه أيضا عمرة إن وقع قبل ركعتي الطواف ويأتي بها بعد أيام منى ليأتي بطواف وسعي لا ثلم فيهما، وأما العمرة فإن حصل المفسد قبل تمام سعيها ولو بشرط فسدت ويجب قضاؤها بعد إتمامها؛ لأن ما فسد من حج أو عمرة يجب عليه إتمامه وعليه هدي، وأما لو وقع بعد تمام سعيها وقبل حلاقها فلا شيء عليه إلى الهدي، وإذا فسد الحج أو العمرة وجب إتمامهما وقضاؤهما، وإنما يجب إتمام الحج الفاسد حيث تمكن من الوقوف عام الفساد وإلا تحلل منه بفعل عمرة"و": يجب على المحرم ولو أنثى اجتناب "الطيب": المؤنث وهو ما يظهر ريحه وأثره بالبدن أو بالثوب كالورس والمسك والعنبر، فلو لم يجتنب الطيب المحرم عليه بأن مسه وجب الفدية

ولو أزاله سريعا ولو لم يعلق أو كان في طعام حيث لم يمته الطبخ، بخلاف مذكر الطيب وهو ما يظهر ريحه ويخفى أثره كالورد والياسمين فإنه يكره مسه ولا فدية، وأما حمله في قارورة مسدودة أو أكله مطبوخا في طعام فلا كراهة فيه ولو صبغ الفم، واستثنى أهل المذهب الباقي مما قبل الإحرام، والمصيب من إلقاء الريح أو غيره، والمصيب من خلوق الكعبة فإنه لا حرمة فيه ولا فدية حيث كان يسيرا، وأما كثيره ففيه الفدية إلا أن ينزعه سريعا"و": كذا يجب على الذكر أن يجتنب في إحرامه لبس "مخيط": أو محيط "الثياب" ولو بنسج أو زر أو عقد لما ورد في حديث الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر: "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أن لا يجد نعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران ولا ورس" 1 وقيدنا بالذكر لإخراج الأنثى فسيأتي الكلام عليها"و": كذا يجب على كل من أحرم بحج أو عمرة أو دخل الحرم اجتناب "الصيد" وهو الحيوان البري ولو غير مأكول اللحم ولو متأنسا فرخا أو بيضا سوى ما تقدم استثناؤه من الفواسق. قال تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] أي محرمين أو في الحرمقال خليل: وحرم به وبالحرم من نحو المدينة أربعة أميال أو خمسة للتنعيم، ومن العراق ثمانية للمنقطع، ومن عرفة تسعة، ومن جدة عشرة لآخر الحديبية، إلى قوله: تعرض بري وإن تأنس أو لم يؤكل أو طير ماء أو جزء وليرسله بيده أو رفقته وزال ملكه عنه فلا يستحدث ملكه ولا يقبله وديعة من غيره، وأما البحري فلا خلاف في جوازه للحلال والمحرم، والحاصل أن المحرم يحرم عليه التعرض لصيد البر ولو في الحل، كما يحرم على كل من في الحرم التعرض له ولو حلالا، وما صاده المحرم أو صيد له ميتة يحرم أكله على كل أحد"و": كذا يجب على كل محرم اجتناب جميع "قتل الدواب" كالقمل والبراغيث والبعوض، فإن قتل شيئا منها لزمه إطعام حفنة من طعام وهي ملء اليد الواحدة، إلا أن يكثر ما قتله بأن يزيد على العشرة وما قاربها فتلزمه الفدية، ومفهوم القتل لو طرح شيئا من الدواب من غير قتل: فإن
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة، حديث "1838"، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج او عمرة وما لا يباح، حديث "1177".

كان قملا أو قرادا مما لا يعيش في طرحه فكالقتل فيلزمه حفنة في قليله وفدية في كثيره، وأما طرح نحو العلقة والبرغوث مما يعيش في الأرض فلا شيء فيه"و": كذا يجب على المحرم اجتناب "إلقاء": أي إزالة "التفث" بالمثلثة أي الوسخ عن نفسه، فلا يقص أظفاره لغير كسر ولا يغتسل ولا يتدلك لغير جنابة ولا ينتف إبطه ولا يحلق عانته، فإن أزال شيئا من شعره أطعم حفنة إذا كان المزال شيئا قليلا كعشر شعرات وما قاربها حيث أزالها لا لإماطة الأذى، وإلا بأن زاد المزال على العشرة وما قاربها أو كانت الإزالة لإماطة الأذى فتجب الفدية؛ لأنها تجب في فعل كل ما يترفه به أو يزيل أذى" تنبيه ": يستثنى مما ذكر إزالة الشعر عند الوضوء أو الركوب وقتل بعض الدواب وإزالة الأوساخ في غسل الجنابة وقلم الظفر المكسور: حيث اقتصر على محل الكسر، ومثل الواحد الاثنان والثلاثة، فإن هذه المذكورات لا شيء فيها، وأما قلمه لغير كسر فإن قلمه لا لإماطة الأذى ففيه فدية وإلا فحقنة وهذا في غير الواحد، وأما ما زاد ففي قلمه الفدية مطلقا، وأما قلم ظفر الغير فلغو"و": كما يجب على المحرم اجتناب ما سبق يجب عليه أن "لا يغطي رأسه في" حال "الإحرام" إن كان رجلا، فإن غطى وجهه أو رأسه ولو بطين كلا أو بعضا افتدى لما يأتي من أن إحرام الرجل في وجهه ورأسه. "و": كما لا يغطي رأسه "لا يحلقه": استبقاء للشعث "إلا من ضرورة": تلحقه في حال إحرامه فيجوز له فعل ما يزيل ضرورته من تغطية رأسه أو حلقه. "ثم يفتدي بصيام ثلاثة أيام": ولو متفرقة؛ لأن الضرورة إنما تسقط الإثم. "أو إطعام ستة مساكين": أحرار مسلمين ويجب عليه أن يعطي "مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم": وهما نصف صاع يكونان من غالب القوت "أو ينسك": أي يفتدي "بشاة": فأعلى؛ لأن الفدية كالضحية الأفضل فيها طيب اللحم، ويجوز له أن "يذبحها حيث شاء من البلاد": قال خليل: الفدية فيما يترفه به أو يزيل أذى كقص الشارب وظفر وقتل قمل كثر وخضب بكحناء وإن رقعة إن كبرت واتحدت إن ظن الإباحة وتعدد موجبها بفور أو نوى التكرار أو قدم الثوب على السراويل، وشرطها في اللبس انتفاع من حر أو برد إن نزع الثوب مكان اللبس، والدليل على ذلك كله قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] الآية؛ لأن المعنى فليفعل ما يزيل أذاه وعليه فدية" تنبيهات " الأول : علم من كلام المصنف أن الفدية تجب مع الضرورة؛ لأنها لم تسقط إلا

الإثم كما ذكرنا، وعلم منه أن الفدية مخيرة كجزاء الصيد كما يأتيالثاني : علم من كلامه أيضا أن إخراجها لا يختص بزمان ولا مكانقال خليل: ولم تختص بزمان ولا مكان إلا أن ينوي بالذبح الهدي بأن يقلده أو يشعره، فيكون حكمه حكم الهدي يذكيه بمنى إن ساقه في إحرام حج ووقف به هو أو نائبه جزءا من الليل وإلا فمكة، وأما جزاء الصيد فمحله منى أو مكة كما يأتي في كلامهالثالث : عبر المصنف بإطعام بمعنى تمليك إشارة إلى أنه لا يجزئ في الفدية الغداء والعشاء إلا أن يستوفي كل مسكين مدين ولو في غداء أو عشاءثم شرع في بيان ما يحرم على المرأة والرجل ستره في حال الإحرام وما لا يحرم بقوله: "وتلبس المرأة": وكذا الخنثى المشكل "الخفين": ولو مع وجود النعلين. "والثياب": والحلي "في": حال "إحرامها": بالحج أو العمرة "و": يجب عليها أن "تجتنب ما سوى ذلك مما يجتنبه الرجل": من الجماع ومقدماته وإلقاء التفث ومس الطيب والتعرض للصيد، والحاصل أن المرأة كالرجل في كل ما يجتنبه في الإحرام، سوى لبس المخيط والمحيط وتغطية الرأس ولبس الخفين مع وجود النعلين، وسوى رفع الصوت بالتلبية والرمل في الأشواط الثلاثة الأول، والخبب في بطن المسيل بين الصفا والمروة، والإسراع في بطن محسر وحلق الرأس. "و": اعلم أن "إحرام المرأة": حرة أو أمة وكذا الخنثى المشكل "في وجهها وكفيها": ومعنى كلامه أن أثر الإحرام إنما يظهر في وجهها وكفيهاقال خليل: وحرم بالإحرام على المرأة لبس قفاز وستر وجه إلا لستر بلا غرز ولا ربط فلا تلبس نحو القفاز، وأما الخاتم فيجوز لها لبسه كسائر أنواع الحلي، ولا تلبس نحو البرقع ولا اللثام إلا أن تكون ممن يخشى منها الفتنة فيجب عليها الستر بأن تسدل شيئا على وجهها من غير غرز ولا ربط، فإن فعلت شيئا مما نهيت عنه بأن لبست نحو القفازين أو سترت وجهها ولو بطين لغير ستر بل فعلته ترفها، أو لحر أو برد أو لأجل الستر لكن مع الغرز أو الربط لزمتها الفدية، وأما ستر الكفين بغير نحو القفازين مما ليس معدا لسترهما فلا يحرم؛ لأن تجريدهما من غير نحو القفازين مندوب، والقفاز كرمان ما يعمل على صفة الكف من قطن أو كتان ونحوه ليقي الكف الشعث"وإحرام الرجل في وجهه ورأسه": والمعنى: أن أثر إحرام الرجل إنما يظهر في وجهه

ورأسه، فيحرم عليه سترهما بكل شيء ولو طينا قال خليل: بالعطف على ما يحرم وستر وجهه أو رأس بما يعد ساترا كطين، فإن ستر وجهه أو رأسه أو بعض أحدهما وانتفع به افتدى، ولو فعل ناسيا أو جاهلا أو مضطرا، إلا إن أزال الساتر سريعا: فلا فدية؛ لأن شرطها في اللبس الانتفاع من الحر أو البرد، ويستثنى من التعميم حمل ما لا بد له من حمله على رأسه: كخرجه وجرابه لغير تجارة أو لها لتمعشه وإلا افتدى؛ لأن الأصل أن كل ما حرم فيه الفدية إلا حمل السيف في رقبته بلا عذر فيحرم ولا فديةقال خليل: ولا فدية في سيف ولو بلا عذر، وأما غير الوجه والرأس من الرجل فلا يحرم ستره إلا بالمخيط، فيجوز له الاتزار بالحرام والارتداء بالدلق، ولا يضر ما فيه من الخياطة؛ لأنه ليس محيطا بعضو من أعضائه بشرط أن لا يعقد طرفيه ولا يغرزهماولما كان المحرم عليه في بقية جسده إنما هو المحيط قال: "ولا يلبس الرجل الخفين في الإحرام إلا أن لا يجد نعلين": أو يجدهما لكن بثمن زائد على المعتاد "فليقطعهما أسفل من الكعبين": قال خليل: وجاز خف قطع أسفل من كعب لفقد نعل أو غلوه فاحشا بأن يزيد على الثمن المعتاد الثلث، ولا فرق بين كون القطع منه أو من بائعه، والظاهر أن مثل القطع ثنية أسفل من كعب ولا فدية في لبسهما على هذا الوجه، بخلاف لبسهما لمرض أو دوا: فعليه الفدية ولو قطعهما أو ثناهما" تنبيه ": إذا علمت ما قررناه ظهر لك أن قول المصنف: إحرام المرأة في وجهها وكفيها وإحرام الرجل في وجهه ورأسه مشكل؛ لأن إحرام الرجل في جميع جسده لا في خصوص وجهه ورأسه، والجواب عن هذا الإشكال أنه لما كان تعلق الإحرام بالوجه والرأس أشد من تعلقه ببقية الجسد إذ يحرم سترهما بكل ساتر بخلاف بقية الجسد، إنما يحرم ستره بالمحيط جعل إحرامه مختصا بوجهه ورأسه على سبيل المبالغة، والحاصل أن إحرام الرجل على قسمين: خاص وعام، فالخاص هو المتعلق ببعض الأعضاء، والعام هو المتعلق بجميع أعضائه، والمرأة إنما لها إحرام خاص فقط، والمنقسم بين الرجل والمرأة إنما هو الخاص المتعلق ببعض الأعضاء" تنبيه آخر ": لم يبين المصنف حكم ما إذا فعل المحرم شيئا مما هو محرم عليه ومحصله أنه يفتدي ولو لبس جميع ثيابه، وكذا تلزمه الفدية ولو لبس جميع ثيابه لضرورة، وتتحد إن ظن الإباحة أو تعدد موجبها بفور أو نوى التكرار أو قدم الثوب على السراويل وإلا تعددت،

وشرطها في اللبس الانتفاع من الحر أو البرد، وأما لو نزع ما لبسه قبل انتفاعه به فلا فدية عليه، وأما غير اللبس كمس الطيب أو حلق الشعر فلا يشترط له شيء والله أعلمولما كان فعل الحج على ثلاثة أوجه بين الأفضل منها: بقوله: "والإفراد بالحج أفضل عندنا": معاشر المالكية "من التمتع ومن القران": وصفة الإحرام أن يحرم بالحج وحده، ثم إذا فرغ يسن له أن يحرم بعمرة، وإن شاء أخر العمرة؛ لأن الإفراد لا يتوقف على عمرة لا قبله ولا بعده، بخلاف القران والتمتع فلا بد في تحققهما من فعل عمرة، وسيأتي بيان حقيقة القران والتمتع في كلام المصنف، وكان حقه أن يقدم بيان صفتها على صفة الإحرام تحاشيا عن تقديم التصديق على التصور؛ لأنه حكم على الإفراد بالأفضلية وعلى التمتع والقران بالمفضولية قبل بيانهما، وإن كان يمكن الجواب بأن الذي في كلامه إنما هو تقديم الحكم على التصوير لا على التصور والممنوع الثاني فقط، وإنما كان الإفراد أفضل لما في الصحيح وغيره "أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إنما حج مفردا"1 واتصل عمل الخلفاء والأئمة بذلك، فقد أفرد الصديق في السنة الثانية، وعمر بعده عشر سنين، وعثمان بعده اثنتي عشرة سنة، وأيضا حج الإفراد لا هدي فيه، بخلاف القران والتمتع والهدي ينشأ عن النقص، وما جاء من "أنه صلى الله عليه وسلم قرن أو تمتع" فأجاب عنه الإمام يحمل على أن المراد أنه أمر بعض الصحابة بالقران وأمر بعضا بالتمتع، فنسب ذلك إليه عن طريق المجاز، ولم يعلم بذلك هل الأفضل القران أو التمتع، والمشهور أن القران أفضلقال خليل: وندب إفراد ثم قران ثم ذكر علة مفضولية القران والتمتع بقوله:
"فمن قرن أو تمتع من غير أهل مكة": المقيمين بها وقت الإحرام "فعليه هدي": قال خليل: وشرط دمها عدم إقامة بمكة أو ذي طوى وقت فعلهما وإن بانقطاع بها أو خرج لحاجة، ومفهوم كلامه أن المقيم بمكة أو ما في حكمها لا يلزمه قران ولا تمتع لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وسيأتي في كلام المصنف. ثم بين محل تزكية الهدي بقوله: "يذبحه أو ينحره بمنى": وكلها تصح الزكاة فيها إلا أن الأفضل عند الجمرة الأولى، ولا يجوز دون جمرة العقبة مما يلي مكة؛ لأنه خرج عن منى وشرط ذبحه أو نحره بمنى "إن أوقفه بعرفة": هو أو نائبه بإذنه ساعة ليلة النحر، وبقي شرطان آخران: أحدهما: أن يكون مسوقا في إحرام حج ولو كان النقص في عمرة أو كان تطوعا أو جزاء صيد، وثانيهما أن يكون الذبح في أيام منى فتخلص أن الشروط ثلاثةـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة "1231".

قال خليل: والنحر بمنى إن كان في حج ووقف به هو أو نائبه كهو بأيامها. "و": مفهوم كلامه "إن لم يوقفه بعرفة": أو كان غير مسوق في إحرام حج أو كان بعد أيام منى "فلينحره": أو يذبحه "بمكة": والمراد البلد وما يليها من منازل الناس ولكن الأفضل أن يكون "بالمروة": لقوله صلى الله عليه وسلم عند المروة: "هذا المنحر وكل فجاج مكة وطرقها منحر" 1. فإن نحر خارجا عن بيوتها فإنه لا يجزئ ولو بلواحقها، فقد نص ابن القاسم على أنه لا يجزئ الذبح أو النحر بذي طوى، ولما كان الهدي لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم قال: فيما يذبح بمكة وقد اشتراه من الحرم "بعد أن يدخل به من الحل": وأما لو كان قد اشتراه من الحل فالجمع حاصل فيه قطعا، ولا فرق في ذلك كله بين الهدي الواجب والتطوع" تنبيهان ": الأول : لم يبين المصنف حكم تذكية الهدي في منى مع الشروط المتقدمة، ولم يبين حكم ما إذا خالف المطلوب، وقد قدمنا ما يفيد أن ذكاته في منى مع الشروط فيها قولان بالوجوب والندب، وعلى كليهما لو خالف وذبحه أو نحره في مكة مع الشروط فإنه يجزئ، بخلاف ما لو ذبح أو نحر في منى ما يطلب ذبحه أو نحره في مكةالثاني : لم يبين المصنف أيضا سن الهدي و لا ما الأفضل فيه، وبينه خليل بقوله: وسن الجميع وعيبه كالضحية والمعتبر السلامة من العيوب المانعة الإجزاء وقت التقليد والإشعار، فلا يضر العيب الطارئ بعد ذلك بخلاف لو قلد أو أشعر معيبا فلا يجزئ ولو سلم بعد ذلك، وهذا في الهدي الواجب ومنه النذر المضمون، وأما المتطوع به ومثله المنذور المعين فهذا يجب تقديمه بتقليده ولو معيبا بعيب يمنع الإجزاء، راجع الأجهوري في شرح خليل، والنهار شرط في ذكاة الهدي كالضحية أيضا فلا تجزئ ذكاته ليلا، والأفضل في الهدي ما كثر لحمه، فالأفضل الإبل ويليها البقر وأدناها الغنمولما كان غير الفدية وجزاء الصيد مرتبا قال: "فإن لم يجد": من حصل منه نقص في حجه "هديا" ولو يتسلف ثمنه من الغير "فصيام ثلاثة أيام في الحج": قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] وبين دخول وقتها بقوله: "يعني": أي الله تعالى أو الشارع أو الإمام مالك أي يريد أنه يدخل زمن صومها "من وقت يحرم إلى يوم عرفة": والمعنى: أن النقص الموجب للهدي إن كان سابقا على الوقوف بعرفة فإنه يدخل زمن
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع، حديث "1937"، وابن ماجه، حديث "3048"، وانظر: "صحيح الجامع 4225" وتقدم برقم "478".

صوم الثلاثة من إحرامه ويمتد إلى يوم عرفة؛ لأن له أن يصومه."فإن فاته ذلك": أي صوم الثلاثة في الحج "صام أيام منى": وهي ثاني العيد وثالثهقال خليل: وصام أيام منى بنقص في حج إن تقدم على الوقوف، وحكم تأخير الثلاثة إلى أيام منى الحرمة إن أخرها عمدا وعدمها إن أخرها لعذر "و": صيام "سبعة": أيام أي بقية العشرة "إذا رجع": من منى المشار إليها بقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وفسره مالك بالرجوع من منى، والمراد أن يكون بعد الفراغ من الرمي ليشمل أهل منى أو من أقام بها، فلو قدم السبعة على وقوفه بعرفة لم تجزه، وكذا لو صام شيئا من السبعة بمنى؛ لأن الرجوع شرط في صومها، وإذا صام العشرة قبل رجوعه: فالظاهر أنه يجتزئ منها بثلاثة" تنبيهات " الأول : علم من كلام المصنف أن المترتب من الدماء إن كان لنقص في حج أو عمرة فإنه يسمى هديا وهو مرتب، فلا يصوم العشرة أيام إلا عند العجز عن الهدي، ولا يصح الإطعام في الهدي بخلاف الفدية وجزاء الصيد:الثاني : علم من قول المصنف: من وقت يحرم أن النقص الموجب للهدي سابق على الوقوف كالتمتع والقران أو تعدي الميقات كما أشرنا إليه فيما سبق، وأما لو كان متأخرا عن الوقوف أو كان من يوم عرفة كترك الوقوف نهارا أو ترك النزول بالمزدلفة أو البيات بمنى فإنه يصوم العشرة أيام متى شاء، كما أنه يصوم الثلاثة متى شاء إذا لم يصمها في أيام منىالثالث : لم يبين حكم ما إذا شرع في الصوم للعجز عن الهدي ثم أيسر، ومحصله: إن أيسر بعد الشروع فيه وقبل إكمال اليوم يجب عليه الرجوع للهدي، وإن أيسر بعد إتمام اليوم وقبل كمال الثالث يستحب له الرجوع، وإن أيسر بعد إتمام الثالث لا يندب له الرجوع بل يجوز له التمادي على الصوم والرجوع، وهذا فيمن شرع في الصوم عند تيقن العجز عن الهدي وإلا وجب عليه الرجوع مطلقاولما قدم أن الإفراد أفضل من التمتع والقران شرع في بيان صفتهما فقال: "وصفة التمتع أن يحرم بعمرة": فقط ولو قبل أشهر الحج "ثم يحل منها في أشهر الحج ثم يحج من عامه": بأن يحج "قبل الرجوع إلى أفقه": بضم الهمزة والفاء وسكونها أي بلده، فإن رجع بعد فعل عمرته إلى أفقه "أو إلى مثل أفقه في البعد": عن مكة وأحرم بالحج لم يكن متمتعا ولو كان بلده بأرض الحجاز، وأما لو رجع إلى أقل من بلده حج فإنه يكون متمتعا.

قال خليل: وللتمتع عدم عود إلى بلده أو مثله ولو بالحجاز لا أقل إلا أن يكون بلده بعيدا كإفريقية، فإن هذا إذا رجع إلى مصر بعد فعل عمرته قبل حجه وعاد وأحرم بالحج لا يكون متمتعا مع كونه رجع إلى أقل من بلده، وهذا التقييد للمصنف في غير هذا الكتاب وقبله ابن عرفة، فمفهوم أقل ليس على إطلاقه بل محله إذا كان يدرك أفقه إذا رجع ويعود يدرك الحج في ذلك العام، وإنما سمي المحرم بالعمرة المتمم لها قبل فعل الحج متمتعا لتمتعه بكل ما لا يجوز للمحرم فعله أو لإسقاطه أحد السفرين"و": يجوز "لهذا": الذي حل من عمرته في أشهر الحج "أن يحرم": بالحج "من مكة إن كان": مقيما "بها": سواء كان آفاقيا أو مستوطنا، وإنما جاز له الإحرام بالحج من مكة:؛ لأنه لا بد من خروجه للحل في عرفة فيحصل في إحرامه الجمع بين الحل والحرم، ولما كان كل إحرام لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم وكانت أفعال العمرة تنقضي في الحرم "ولا يحرم منها": أي من مكة "من أراد أن يعتمر حتى يخرج إلى الحل": وهو ما جاوز الحرم والأولى منه الجعرانة وهو موضع بين مكة والطائف لاعتماره صلى الله عليه وسلم منها، ثم يليها في الفضل التنعيم وهو مساجد عائشة، فلو أحرم بالعمرة من الحرم فإنه ينعقد إحرامه لكن يخرج قبل طوافه وسعيه، فإن طاف وسعى قبل الخروج لم يعتد بهما، قال خليل: وإن لم يخرج أعاد طوافه وسعيه بعده وافتدى إن حلقولما فرغ من الكلام في صفة التمتع شرع في بيان صفة القران فقال: "وصفة القران أن يحرم بحجة وعمرة معا و": يجب أن "يبدأ": أي يقدم "العمرة في نيته": قال خليل: ثم قران بأن يحرم بهما وقدمها وجوبا في نيته وندبا في تلفظه، وأشار إلى صفة أخرى للقران بقوله: "وإذا": أحرم بالعمرة أولا، و "أردف الحج على العمرة قبل أن يطوف ويركع فهو قارن": وكذا لو أردف الحج عليها في أثناء طوافها، ولكن يجب عليه أن يتم ذلك الطواف وينقلب تطوعا ولا يسعى بعده لاندراج أفعالها في أفعال الحج، وشرط الإرداف المذكور صحة العمرة، قال خليل: أو يردفه بطوافها إن صحت وكمله ولا يسعى، فلو أردف حجة على عمرة فاسدة لم يصح إردافه بل هو باق على عمرته ولا يحج حتى يقضيها، فإن أحرم قبل قضائها فإن كان بعد إتمامها صح إحرامه" تنبيه ": إذا علمت ما قررناه ظهر لك أن قوله قبل طوافه مراده قبل إتمام طوافه فيصدق بإحرامه قبل الشروع فيه أو في أثنائه، وأما لو أردف بعد إكمال الطواف: فظاهر كلامه أنه لا يصح إردافه ولا يكون قارنا وليس كذلك بل فيه تفصيل، فإن كان قبل صلاة الركعتين صح

الإرداف وإن كره، وأما لو كان بعد الركعتين فلا يصح الإرداف" تنبيهات ": الأول : إذا أردف الحج على العمرة على الوجه الصحيح اندرجت أفعالها في أفعال الحج، وإن لم يستحضر أركانها عند الإتيان بطواف وسعي الحج بل يقعان للحج والعمرةالثاني : ربما يفهم من اشتراط تقدم العمرة على الحج في الإرداف عدم صحة إرداف العمرة على الحج وهو كذلك، ووجه الفرق كثرة أفعال الحج على العمرة، فلذلك صح إرداف الحج على العمرة بخلاف العكس، وكما لا يصح إرداف العمرة على الحج لا يصح إرداف عمرة على عمرة ولا حج على حجالثالث : لم يبين المصنف محل الإحرام للقران وبينه خليل بقوله: ولها وللقران الحل الجعرانة أولى ثم التنعيم، فلو خالف وأحرم في مكة بالعمرة أولهما انعقد إحرامه في الصورتين، لكن العمرة لا تصح أركانها إلا بعد أن يخرج للحل كما قدمنا، وأما القارن فيجب عليه الخروج للحل وإن كان يؤخر السعي والطواف لإردافه بالحرم، فلو لم يخرج للحل قبل عرفة فالظاهر أنه يجزئه طوافه وسعيه الواقعين للحج بعد عرفة ويكفيه خروجه لعرفة؛ لأنها حل، وأفعال العمرة اندرجت في أفعال الحج نص على ذلك الأجهوري في شرح خليلالرابع : علم من كلام المصنف أن الإحرام بالحج على ثلاثة أحوال: إفراد وقران وتمتع، وبقي لو أحرم وأبهم أو أحرم بما أحرم به زيد، والحكم المبهم أنه يخير في صرفه لأحد الثلاثة، والأحب عند مالك صرفه للإفراد والقياس للقران، وأما الإحرام بما أحرم به زيد فقيل يصح ويكون محرما بما أحرم به زيد، وقيل لا يصح لعدم الجزم بالنية، وعلى الصحة لو تبين عدم إحرام زيد يكون كمن أحرم مبهما، وكذا لو مات ولم يعلم ما أحرم به أو وجده محرما على الإبهامثم ذكر مفهوم قوله فيما مر من قرن أو تمتع من غير أهل مكة فعليه هدي بقوله: "وليس على أهل مكة هدي في تمتع ولا": في "قران" قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]وقال خليل: وشرط دمهما عدم إقامة بمكة أو ذي طوى وقت فعلهما، وللتمتع عدم عودة لبلده أو مثله ولو بالحجاز وقدمنا ما فيه الكفاية، وإنما سقط عنهم الهدي؛ لأنه إنما يجب

لمساكين مكة فلا يجب عليهم، وبقي لو كان للمتمتع أهلان أهل بمكة وأهل بغيرها والمذهب استحبابه ولو غلبت إقامته في أحدهماقال خليل: وندب لذي أهلين وأهل إلا أن يقيم بأحدهما أكثر فيعتبر تأويلان وقد علمت المذهب منهماولما قدم أن شرط التمتع أن يحل من عمرته في أشهر الحج صرح بمفهوم ذلك بقوله: "ومن حل من عمرته": بأن فرغ من أركانها "قبل أشهر الحج": ولو أخر حلاقه إلى أشهر الحج "ثم حج من عامه": الذي اعتمر فيه وأولى لو حج في عام بعده "فليس بمتمتع": لما مر من أن المتمتع من تحلل في أشهر الحج من عمرته وحج من عامهولما قدم أن المحرم يجتنب التعرض للصيد بين هنا ما يترتب عليه بقوله: "ومن أصاب صيدا": في إحرامه أو في الحرم وقتله أو جرحه ولم يتحقق سلامته "فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم": ولو قتله لمخمصة أو لجهل أو نسيان، إلا ما تقدم استثناؤه من الفواسق، والنعم الإبل والبقر والغنم، والمراد بالمثل المقارب للصيد في قدره وصورته، فمثل النعامة بدنة والفيل بدنة خراسانية ذات سنامين، وإن لم توجد فقيمته طعاما بأن يوزن بطعام ويخرج ما يعادله، وكيفية ذلك أن يجعل الفيل في مركب وينظر إلى الحد الذي نزل في الماء من المركب ثم يخرج الفيل ويوضع مكانه الطعام حتى تبلغ المركب في الماء ما بلغته من الفيل، وقيل يوزن بالقباني وأظن أن هذا كله حيث لا إمكان وإلا فالتحري كاف، وينبغي إذا تعذر الإطعام فالصوم، ومثل البقرة الوحشية أو ما قاربها وهو الأيل والأيل بالمثناة التحتية حيوان وحشي أو حمار الوحش بقرة إنسية، ومثل الضبع والثعلب والظبي شاة إنسية، ويجب في صغير الصيد ما يجب في كبيره1، كما يجب في المعيب منه ما يجب في الصحيح من كونه سليما من العيوب، وبلغ
ـــــــ
1 الصيد : لغة مصدر صاد يصيد، ويطلق على المعنى المصدري أي: فعل الاصطياد، كما يطلق على المصيد، يقال: صيد الأمير، وصيد كثير، ويراد به المصيد، كما يقال: هذا خلق الله أي مخلوقه سبحانه وتعالى. والصيد هنا بمعنى المصيد: يقول الله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائد: 95]
وفي الاصطلاح : عرفه الكاساني على الإطلاق الثاني "أي المصيد" بأنه اسم لما يتوحش وميتنع، ولا يمكن اخذه إلا بحلية، إما لطيرانه أو لعدوه. وعرفه البهوتي بالإطلاقين: المعنى المصدري والمصيد" فقال: الصيد بالمعنى المصدري: اقتناص حيوان متوحش طبعا غير مملوك ولا مقدور عليه – أي المصيد – فعرفه بقوله: الصيد حيوان مقتنص حلال متوحش طبعاً، غير مملوك ولا مقدور عليه فخرج الحرام كالذئب، والإسني كالإبل ولو توحشتوالصيد نوعان: بري وبحري. فالصيد البري: ما يكون توالده في البر، ولا عبرة بالمكان الذي يعيش =

سن الضحية كما قدمنا من أن سن الهدايا والفدية والجزاء كسن الضحية وفي العيب كذلك، وأما نحو الضب والأرنب واليربوع مما لا مثل له من الأنعام فالواجب فيه القيمة طعاما، فإن لم يقدر عليه صام عن كل مد يوما وكمل لكسره، وكذا جميع الطيور خلا حمام مكة والحرم ويمامهما؛ لأن الواجب في الواحدة شاة بلا حكم، فإن لم يجدها صام عشرة أيام، ولا يخرج طعاما؛ لأن الواجب في حمام مكة، والحرم بمنزلة الهدي لا يجزئ فيه الإطعام، وإنما شدد في حمام مكة والحرم ويمامهما؛ لأن الناس تبادر إلى قتلهما لكثرتهما وعدم نفورهما من الناس. وفي جنين الصيد الغير المستهل، وفي البيضة الغير المذرة عشر دية الأم، وفي الصيد المعلم منفعة شرعية المملوك للغير ويقتله المحرم أو الحلال في الحرم قيمتان: إحداهما لربه على الحالة التي هو عليها من كونه معلما صغيرا أو كبيرا سليما أو معيبا، والثانية لمساكين محل الصيد فجزاؤه كجزاء الكبير فيكون سنه كسن الضحية وسالما من العيوب، ولما كان جزاء الصيد مخالفا للهدي والفدية بين ما انفرد به الجزاء: بقوله: "يحكم به ذوا عدل من فقهاء المسلمين"قال خليل: والجزاء بحكم عدلين فقيهين بذلك مثله من النعم أو إطعام بقيمة الصيد يوم التلف بمحله وإلا فبقربه ولا يجزئ بغيره، فالنعامة بدنة والفيل بذات سنامين وحمار الوحش وبقرة والضبع والثعلب شاة كحمام مكة والحرم ويمامه بلا حكم والواجب في حمام الحل وفي الضب والأرنب واليربوع وجميع الطير القيمة طعاما والصغير من الصيد كالكبير والمريض كالسليم والجميل كالوحش؛ لأنه دية، واشتراط العدالة يستلزم الحرية والبلوغ ومعرفة ما يحكم به، ولا بد من لفظ الحكم ومن علمهما بباب الجزاء، كما يؤخذ من قوله: من فقهاء المسلمين ولا يشترط علمهما بغيره لأن كل من ولي في أمر إنما يشترط معرفته بما ولي فيه ولو جهل سواه، وإنما خرج عن اشتراط الحكم حمام مكة والحرم للدليل وهو قضاء عثمان رضي الله عنه بالشاة في الواحدة، ومذهب المدونة إلحاق القمري والفواخت وشبهها بالحمامثم بين محل إخراج الجزاء المترتب على الحاج بقوله: "ومحله": أي الجزاء والمراد موضع تذكيته
__________
= فيهأما الصيد البحري: فهو ما يكون توالده في الماء، ولو كان مثواه في البر، لأن التوالد أصل، الكينونة بعده عارض. فكلب الماء والضفدع، ومثله السرطان والتمساح والسلحفاة بحري يحل اصطياده للمحرم، لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]. وأما البري: فحرام عليه إلا ما يستثنى منه. الموسوعة "28/113".

"منى إن وقف": الذي أصاب الصيد "به": أي بالجزاء "بعرفة": جزءا من الليل وأن تكون تذكيته في يوم النحر أو تالييه لا الرابع "وإلا": بأن لم يقف به ولا نائبه بعرفة أو فاتت أيام النحر الثلاثة "فمكة": محل تذكيته والمراد بمكة البلد وما يليها من منازل الناس وأفضلها المروة. "و": الجزاء كالهدي "يدخل به": مكة "من الحل": ليجمع فيه بين الحل والحرم إن كان اشتراه من الحرم، وقيدنا المترتب على الحاج للاحتراز عن الجزاء المترتب على المحرم بعمرة أو على الحلال بقتل صيد في الحرم فإن محل تذكيته في حقهما مكة، لأن محل ذكاة الجزاء محل ذكاة الهدايا، بخلاف محل الفدية يذبحها كيف شاء إلا أن يقلدها ويشعرها فتصير كالهدي ولما كان جزاء الصيد والفدية وكفارة الصيام غير مرتبة قال: "وله": أي قاتل الصيد "أن يختار ذلك": أي إخراج المثل من النعم "أو": أي وله أن يختار "كفارة": بالنصب لعطفه على اسم الإشارة "طعام مساكين": ويجوز في طعام الحر لإضافة كفارة إليه وتكون بيانية وبالنصب على البدل من كفارة عند تنوينها، وقوله أن ينظر خبر لمبتدأ محذوف تقديره وصفة إخراج الطعام "أن ينظر": القاتل للصيد إن كان عارفا "إلى قيمة الصيد طعاما": أي من الطعام وتعتبر القيمة يوم التلف بمحل الإتلاف، ويكون ذلك الطعام من جل عيش أهل محل التلف فيقال: كم يساوي هذا الطير من هذا الطعام؟ فيلزم إخراجه ولو زاد على إطعام ستين، فإن لم يكن للصيد قيمة بمحل التلف اعتبر قيمته في أقرب المواضع إليه. "فيتصدق به": على مساكين ذلك الموضع فيعطي كل مسكين مدا واحدا لا أكثر، وإن لم يكن بموضع التلف مساكين فعلى مساكين أقرب مكان إليه، فلو لم يطعم حتى رجع إلى بلده وأراد الإطعام فإنه يحكم اثنين ممن يجوز تحكيمهما ويصف لهما الصيد ويذكر لهما سعر الطعام بموضع الصيد، فإن تعذر عليهما تقويمه بالطعام قوماه بالدراهم، ويبعث بالطعام إلى موضع الصيد كما يبعث بالهدي إلى مكة" تنبيه ": علم من قول المصنف: قيمة الصيد طعاما أنه لا يقوم بالدراهم وهو الأصوب عند مالك فلو قوم بالدراهم أجزأ، وعلم أيضا أن المقوم نفس الصيد لا مثله من النعم، ويفهم من تنويع الجزاء إلى كونه من النعم أو الطعام أو الصوم أنه لا يصح فيه التلفيق، وقيدنا بمحل التلف؛ لأنه لا يجزئ بغيره كما لا يجزئ الإطعام بغيره مع الإمكان به، ولا إعطاء المساكين دراهم ولا عرضا، وعلم من كون الإطعام بمحل التلف أنه لا يتقيد بمكة أو منى بخلاف المثل من النعم كما مر "أو": أي وله أن يختار "عدل ذلك": الطعام "صياما": وصفة ذلك "أن يصوم عن كل مد يوما و": يجب أن يصوم "لكسر المد يوما كاملا":؛ لأنه لا يمكن إلغاؤه والصوم لا

يتبعض كالأيمان في القسامة" تنبيهات " الأول : ما ذكره المصنف من التخيير بين الجزاء والإطعام والصيام إذا كان للصيد مثل من النعم كما يشعر به لفظ القرآن، وأما إن لم يكن له مثل كالأرنب والطير فإنه يخير فيه بين الإطعام والصيام، سوى حمام مكة والحرم ويمامهما فإن الواجب في كل واحد شاة ولا يصح الإطعام فإن لم يجد شاة صام عشرة أيام، ومعلوم أنه لا يحتاج إلى حكم فيهماالثاني : لا منافاة بين اشتراط الحكمين وتخيير القاتل للصيد؛ لأن الحكمين إنما يطلبان بعد اختيار القاتل أحد الأنواع الثلاثة فيما فيه ثلاثة، فإذا اختار أحدها طلب له الحكمان ليجتهدا فيه وإن روي فيه شيء عن الشارع، وإذا أراد الانتقال عما حكم عليه به فله الانتقال عنه ولو التزم إخراجه على المعتمد، وإذا اختلفا فيما وقع به الحكم فإنه يعاد ولو من غيرهما كما يعاد إن تبين الخطأولما فرغ من الكلام على بيان صفة ما يفعل في الحج وفي العمرة شرع في بيان حكمهما: بقوله: "والعمرة سنة مؤكدة": والعمرة لغة الزيادة وشرعا عبادة ذات إحرام وطواف وسعي وتحصل السنة بفعلها "مرة في العمر": وتندب الزيادة عليها لكن في عام آخر؛ لأنه يكره تكرارها في العام الواحد، إلا أن يتكرر دخوله مكة من موضع يجب عليه معه الإحرام، كما لو خرج مع الحج ورجع إلى مكة قبل أشهر الحج فإنه يحرم بعمرة؛ لأن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه بخلاف العمرة ميقاتها الزماني الأبد، وما ذكره المصنف من سنة العمرة هو المشهور لخبر جابر: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج أفريضة؟ قال: نعم، فقيل: والعمرة؟ قال. لا، ولأن تعتمر خير لك" 1 ولخبر ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الحج جهاد والعمرة تطوع"2 ولا يشكل على المشهور قوله تعالى: لقوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ لأن الأمر بالإتمام يقتضي الشروع في العبادة، ويجب الإتمام بعد الشروع ولو كانت العبادة مندوبة لقوله تعالى: لقوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وقدمنا من أحكامها ما فيه الكفاية. "تنبيه": لفظ مرة منصوب على المفعولية المطلقة المبينة للعدد، وقيل في توجيه النصب غير ذلكـــــــ
1 أخرجه أحمد "3/316" حديث "14437" وفيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف، قاله الحافظ "القتح 3/579"2 ضعيف: أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب العمرة، حديث "2989"، وانظر: الضعيفة "1/358".

ولما فرغ من الكلام على صفة الحج والعمرة شرع فيما يطلب من الشخص عند انصرافه من مكة بقوله: "ويستحب لمن انصرف من مكة": بعد فراغه "من حج أو عمرة أن يقول": عند الانصراف "آيبون": من الإياب أي راجعون بالموت إلى الله تعالى. "تائبون": إلى الله من الذنوب "عابدون": محسنون في أعمالنا لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله" 1 الحديث. "لربنا": صلة "حامدون": قدم المعمول على العامل للحصر، والمعنى: حامدون لربنا على أقداره لنا على أداء ما طلبه منا من حج أو عمرة، وأما صلة الأوصاف المتقدمة فمحذوفة كما بينا. "صدق الله وعده": أي ما وعد نبيه عليه الصلاة والسلام به في نصره له بالرعب من مسيرة شهر، وأنجز له ما وعده به من دخوله مكة بقوله تعالى: لقوله {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] "ونصر عبده": عليه السلام "وهزم الأحزاب": أي المشركين حين تحزبوا عليه بالمدينة أرسل عليهم الريح وهي الشرقية ويقال لها الصبا. قال صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" 2 وهي الغربية، وقوله: "وحده": بالنصب على الحال من فاعل نصر أو هزم وهو الضمير المستتر العائد على الله، ولا يصح كونه متنازعا فيه لهما؛ لأن التنازع لا يقع في الحال" خاتمة ": تشتمل على فوائد منها: بيان فائدة الحج والعمرة المترتبة عليهما المشار إليها بما ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" 3 والرفث الجماع وقيل الفحش من القول والفسوق المعاصي، وفي الصحيحين أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" 4. قال الحافظ المبرور: الذي لم يتعمد فيه صاحبه معصية،
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، حديث "50"، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، حديث "8"، وأبو داود، حديث "5964"، والترمذي، حديث "2610"، والنسائي، حديث "4990"، وابن ماجه، حديث "63"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا"، حديث "1035"، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب ريح الصبا والدبور، حديث "900"، وأحمد "1/223" حديث "1955"3 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، حديث "1521"، ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث "1350"4 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب العمرة وفضلها، حديث "1773" ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث "1349".

وقال عياض: هو الذي لم يخالطه شيء من المأثم، ويتعذر وقوعه بهذين المعنيين ولا سيما في هذا الزمان كما شاهدناه، وقيل المقبوضومن علامات القبول أن يزداد الشخص بعد فعله خيرا، وقوله: "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" قال الحافظ ابن حجر: أي صار بلا ذنب وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وقال الأبي قال القرطبي: أما الحج والعمرة فلا يهدمان إلا الصغائر وفي هدمهما للكبائر نظر. قال الأبي: قلت الأظهر هدمها ذلك، وذكر القرافي أن الذي يسقطه الحج إثم مخالفة الله تعالى فإن التشبيه بيوم الولادة يقتضي سقوط تبعات العباد وقضاء الصلوات والكفارات وليس كذلك، وأجاب بأن لفظ الذنوب لا يتناولها؛ لأن حقوق الله وحقوق عباده في الذمة ليست ذنبا إنما الذنب المطل فيه، فيتوقف حق الآدمي على إسقاط صاحبه، فالذي يسقطه الحج إثم مخالفة الله فقط، وإيضاح ذلك أن الأعيان المغصوبة ليست ذنبا، وإنما الذنب أخذها من مالكها بغير اختياره وحبسها عنه، وكذا أعيان الصلوات والزكوات ليست ذنوبا، وإنما الذنب تأخيرها عن وقتها، والحاصل أن الحج يسقط الصغائر اتفاقا وكذا الكبائر على ما قاله الحافظ والأبي، وأما التبعات كالغيبة والقذف والقتل: فعند الحافظ تسقط وعند القرافي لا تسقط، وأما الصلوات المترتبة في الذمة والكفارات والديون والودائع ونحوها من الأعيان المستحقة للغير فلا تسقط بالحج ولا غيره بإجماع الشيوخ، نعم إذا عجز عن استحلال المستحق لموته أو للخوف منه فليلجأ إلى الله تعالى فإنه يرجى من كرمه أن يرضي خصمه عنه يوم القيامةومن الفوائد أنه ينبغي لمريد الحج إخلاص النية في سفره لتكون جميع حركاته للهومنها : أنه يستحب له أن يكتب وصيته قبل شروعه في السفر، ثم ينظر في أمر الزاد وما ينفقه فيكون من أطيب جهة؛ لأن الحلال يعين على الطاعة ويكسل عن المعصيةومنها : أنه يستحب تكثير الزاد ليواسي منه المحتاج إليه لما ورد: أن النفقة في الحج كالنفقة في الجهاد بسبعين ضعفا، ولهذا يستحب عدم المشاركة في الزاد؛ لأن شريكه ربما يمتنع من فعل المعروفومنها : أنه يستحب له أن يطلب رفيقا صالحا يعينه على الخير ويرى له عليه الفضل، فإن تغير حاله معه فينبغي أن يفارقه ليذهب من بينهما الحقد والغل، والحاصل أنه ينبغي التفتيش على الرفيق الصالح الحافظ لدينه المتحري في عمله.

ومنها: أنه يستحب أن يسافر يوم الخميس فإذا فاته فيوم الاثنين والتبكير أحسن لما ثبت في الصحيحين: "أنه عليه الصلاة والسلام ما خرج من سفره إلا يوم خميس أو اثنين" 1ومنها: أنه يستحب إذا خرج أن يصلي ركعتين لما في الطبراني عنه عليه الصلاة والسلام: "ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا"2 أو يستحب أن يقرأ بعد سلامه من الركعتين آية الكرسي ولإيلاف قريش ثلاثا للأخبار الواردة عن السلف، ويدعو مع حضور قلبه بحصول ما يطلبه من أمور الدنيا والآخرة وبالتوفيق والإعانة في سفرهومنها: أنه يستحب له أن يودع أهله وجيرانه فيقول كل منهما للآخر: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، زودك الله التقوى وغفر لك ذنبك ويسر لك الخير حيثما كنت، ويقول عند خروجه من منزله: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام: "أنه يقال له: هديت وكفيت ووقيت" 3 وكان عليه الصلاة والسلام يقول أيضا عند خروجه من منزله: "اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي" 4ويستحب له أن يتصدق ولو بالقليل عند خروجه؛ لأن المطلوب عند الشروع في الأمور ولا سيما حج بيت الله الحرام إظهار الانكسار والتضرع إلى الله بالأدعية الصالحة، ويستحب الإكثار من دعاء الكرب هنا وفي كل موطن وهو ما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرضين رب العرش الكريم" 5 وفي الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا كربه أمر قال "يا
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري بمعناه، كتاب الجهاد والسير، باب من اراد غزوة فورى بغيرها ومن أحب الخروج، حديث "2950"، ولم أجده عند مسلم2 ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه "1/424" حديث "4879" ولم أجده عند الطبراني، وانظر: "الضعيفة 1/549"3 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته، حديث "5095"، والترمذي، حديث "3426"، وانظر: "صحيح الجامع 449"4 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته، حديث "5094"، والنسائي، حديث "5486"، وابن ماجه، حديث "3884" وانظر: ابن ماجه 3884"5 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الكرب، حديث "6345" ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب دعاء الكرب، حديث "2730".

حي يا قيوم برحمتك أستغيث" 1قال الحاكم: إسناده صحيحومنها: أنه يطلب منه أن يترك ما يفعله جهلة العوام من تزيين الجمال والمحمل بالحريرومنها: أنه يستحب له أن يريح دابته ولا سيما عند العقبات، ولا يكثر النوم عليها ولا يحملها ما لا تطيق للإجماع على حرمة ذلكومنها: أنه يستحب له عدم زيادة التنعم في المأكل والمشرب؛ لأن الحاج أشعث أغبر ليتذكر ما يئول إليه ويطلب منه الرفق في أمره كله، ويجتنب ما يفعله الجهلة من المخاصمة والمشاتمة عند المياه، ويحرم ما يفعله بعض الجبارين من منعهم غيرهم حتى تمضي جمالهم، كما يحرم ما يفعله بعضهم من تقطيع جمال الناس بعضها من بعض، وليستحضر قوله صلى الله عليه وسلم: "من حج ولم يرفث" 2 الحديث المتقدمومنها: أنه يكره استصحاب الكلاب أو الجرس لما صح أن الملائكة لا تصحب رفقة فيها ذلك. قال ابن الصلاح: وإن وقع شيء من ذلك فليقل: اللهم إني أبرأ إليك مما يفعله هؤلاء فلا تحرمني ثمرة صحبة ملائكتكومنها: أنه يستحب إذا أشرف على محل النزول أو على قرية أن يقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، وإذا نزل فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه عليه الصلاة والسلام قال: من قال ذلك لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك، وإذا انفلتت دابته قال: يا عباد الله احبسوا مرتين أو ثلاثا فإن الله عز وجل حاضر، وإذا جن عليه الليل فليقل: يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، والحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد، رواه أبو داود وغيرهوالأسود الشخص كما قال أهل اللغة، وساكن البلد الجن، والبلد الأرض التي صارت مأوى للحيوانات وإن لم يكن فيها بناء، والمراد بالوالد إبليس، وبما ولد الشياطين، وليكثر من الدعاء له ولوالديه ولأصحابه في السفر لما صح
ـــــــ
1 حسن: أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب منه-، حديث "3524" وحسنه الألباني، صحيح الجامع "4777"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، حديث "1521" ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، حديث "1350".

عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده" . وليحذر مما يفعله بعض الجهلة من التيمم مع وجود الماء الكثير معه لظنه أن مجرد السفر مسح للتيمم، بل إن كان معه ماء فإن كان في الرفقة من يضطر له ويعجز عن الشراء يجب عليه بذله له ويتيمم، فإن لم تسمح نفسه استعمله مع إثمه بترك المواساة، وإنما أطلنا في ذلك تحصيلا للفائدة ولما فرغ من الكلام على أركان الإسلام الخمس وما يتعلق بها شرع في أمور لا غنى للشخص عنها عادة فقال:
* * *

باب في أحكام الضحايا
ومن يخطب بها، وما يجزئ منها، ومكانها وزمانها، وهي جمع ضحية، وعرفها ابن عرفة بقوله: ما تقرب بذكاته من جذع ضأن أو ثني سائر النعم سليمين من بين عيب مشروطا بكونه في نهار عاشر ذي الحجة أو تالييه بعد صلاة إمام عيده له، وقدر زمن ذبحه لغيره ولو تحريا لغير حاضره، وقوله: مشروطا حال من المتقرب لإخراج العقيقة والهدي والنسك لعدم اختصاصها بالوقت المذكور، والضمير في عيده يرجع لعاشر ذي الحجة، والضمير في له عائد على الإمام. وقوله: بعد صلاة إمام عيده له كان الواجب أن يقول وخطبته؛ لأن الإمام لا يذبح إلا بعد خطبته. "و" في أحكام "الذبائح" جمع ذبيحة، وهي كما قال ابن عرفة: لقب لما يحرم بعض أفراده من الحيوان لعدم ذكاته أو سلبها عنه، وما يباح بها مقدورا عليه، وقوله: لعدم ذكاته أي مما يقبلها، وقوله: أو سلبها عنه أي لكونه مما لا يقبلها كالخنزير. "و" في أحكام "العقيقة والصيد والختان، وما يحرم من الأطعمة1 والأشربة"، وما لا يحرم، واعترض بعض الشيوخ قوله: والأشربة؛ لأنه لم يبينها، وأجاب بعض آخر بأنه أراد بالأشربة المائعات المشار إليها
ـــــــ
1 الأطعمة: جمع طعام، وهو في اللغة: كل ما يؤكل مطلقاً، وكذا كل ما يتخذ منه القوت من الحنطة والشعير والتمر. ويطلقه أهل الحجاز والعراق الأقدمون على القمح خاصة. ويقال: طعم الشيء يطعمه "بوزن: غنم يغنم" طعما "بضم فسكون" إذا أكله أو ذاقه. وإذا استعمل هذا الفعل بمعنى الذواق جاز فيما يؤكل وفيما يشرب، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي الأولوقد يطلق الفقهاء لفظ "الأطعمة" على "كل ما يؤكل وما يشرب، سوى الماء والمسكرات"ومقصدهم: ما يمكن أكله أو شربه، على سبيل التوسع، ولو كان مما لا يستساغ ولا يتناول عادة، كالمسك وقشر البيض. وإنما استثني الماء لأن له بابا خاصا باسمه، واستثنيت المسكرات أيضاً، لأنها يعبر اصطلاحا عنها بلفظ "الأشربة"ثم عن موضوع الأطعمة هو عنوان يدل به على ما يباح وما يكره وما يحرم منهاوأما آداب الأكل والشرب فإنها يترجم لها بكلمة "الأدب"وتنقسم الأطعمة إلى نوعين: حيوانية، وغير حيوانية. ثم إن الحيوان ينقسم على قسمين رئيسين: مائي، وبري. وفي كل من القسمين أنواع فيها ما يؤكل وفيها ما لا يؤكل. وينقسم المأكول من الحيوان: "أولا" إلى: مباح، ومكروهويجب التنبه على أن الحيونات غير الماكول يعبر الفقهاء عادة عن عدم جواز أكلها بإحدى العبارات التالية: "لا يحل أكلها"، "يحرم أكلها"، غير مأكول"، "يكره أكلها"، وهذه العبارات الأخيرة تذكر في كتب الحنفية في أغلب الأنواع، ويراد بها الكراهة التحريمية عندما يكون دليل حرمتها في نظرهم غير قطعي. الموسوعة "5/123، 124".

بقوله الآتي: وما ماتت فيه فأرة من سمن أو زيت أو عسل، وإن بحث فيه. ثم شرع في تفصيل ما ترجم له، وإن لم يلتزم الترتيب فقال: "والأضحية"1 حكمها أنها "سنة واجبة" أي مؤكدة لقوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت بالأضحية فهي لكم سنة" ، وإنما تسن "على من استطاعها"، وهو من لا يحتاج إلى ثمنها في عامهقال خليل: سن لحر غير حاج بمنى ضحية لا تجحف، وإطلاق الحر يتناول الصغير والأنثى المقيم والمسافر، ولذا قال: وإن يتيما؛ لأن مالكا رضي الله تعالى عنه لما سئل عن التضحية عن يتيم له ثلاثون دينارا قال: يضحي عنه ورزقه على الله، وبقوله: غير حاج يعلم طلبها من غيره ولو مقيما بمنى؛ لأن سنة الحاج الهدي، وفهم من قوله: على من استطاعها أنه لا يطالب غير المستطيع بتسلفها بخلاف صدقة الفطر؛ لأن تلك فرض والضحية سنة، وإطلاق الحر
ـــــــ
1 الأضحية : بتشديد الياء وبضم الهمزة أو كسرها، وجمعها الأضاحي بتشديد الياء أيضاً، ويقال لها: الضحية بفتح الضاد وتشديد الياء، وجمعها الضحايا، ويقال لها أيضاً: الأضحاة بفتح الهمزة وجمعها الأضحى، وهو على التحقيق اسم جنس جمعي، وبها سمي يوم الأضحى، أي اليوم الذي يضحي فيه الناسوقد عرفها اللغويون بتعريفين: " أحدهما ": الشاة التي تذبح ضحوة، أي وقت ارتفاع النهار والوقت الذي يليه، وهذا المعنى نقله صاحب اللسان عن ابن الأعرابي" وثانيهما " الشاة التي تذبح يوم الأضحى، وهذا المعنى ذكره صاحب اللسان أيضاًأما معناها في الشرع: فهو ما يذكى تقربا على الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصةوقد شرعت التضحية في السنة الثانية من الهجرة النبوية، وهي السنة التي شرعت فيها صلاة العيدين وذكاة المالأما حكمة مشروعيتها، فهي شكراً لله تعالى على نعمة الحياة، وإحياء سنة سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين أمره الله عز اسمه بذبح الفداء عن ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام في يوم النحر، وأن يتذكر المؤمن أن صبر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإيثارهما طاعة الله ومحبته على محبة النفس والوالد كانا سبب الفداء ورفع البلاء، فإذا تذكر المؤمن ذلك اقتدى بهما في الصبر على طاعة الله وتقديم محبته عز وجل على هوى النفس وشهوتهاوقد يقال: أي علاقة بين إراقة الدم وبين شكر المنعم عز وجل والتقرب إليه؟ والجواب من وجهين:
" أحدهما " أن هذه الإراقة وسيلة للتوسع على النفس وأهل البيت، وإكرام الجار والضيف، والتصدق على الفقير، وهذه كلها مظاهر للفرح والسرور بما أنعم الله به على الإنسان، وهذا تحدث بنعمة الله تعالى كما قال عز اسمه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]" ثانيهما " المبالغة في تصديق ما أخبر به الله عز وجل من أنه خلق الأنعام لنفع الإنسان، وأذن في ذبحها ونحرها لتكون طعاما له. فإذا نازعه في حل الذبح والنحر منازع تمويها بأنهما من القسوة والتعذيب لذي روح تستحق الرحمة والإنصاف، كان رده على ذلك أن الله عز وجل الذي خلقنا وخلق هذه الحيوانات، وأمرنا برحمتها والإحسان إليها، أخبرنا وهو العليم بالغيب أنه خلقها لنا وأباح تذكيها، وأكد هذه الإباحة بأن جعل هذه التذكية قربة في بعض الأحيان. الموسوعة "5/74، 75".

يشمل الكافر بناء على المشهور من خطابه، وإن لم تصح لفقد الإسلام" تنبيهات " الأول : في قول المصنف: على من استطاعها إجمال؛ لأنه لم يبين هل يخاطب بها عن نفسه فقط أو عن نفسه وعن غيره ممن تلزمه نفقته كصدقة الفطر؟ ولم يبين أيضا زمن الخطاب بها، ونحن نبين ذلك بفضل الله - تعالى - فنقول: لا شك في خطابه عن نفسه، وكذا عن أولاده. قال ابن حبيب: وعلى الرجل أن يضحي عن أولاده الصغار الفقراء الذكور حتى يحتملوا، والإناث حتى يدخل بهن الأزواج، وقال ابن المواز: ويضحي عن أبويه الفقيرين، ولا يخاطب بها الرجل عن زوجته، وإن خوطب بزكاة فطرها؛ لأنها تبع للنفقة ولقوله عليه الصلاة والسلام: "أد الزكاة عمن تمونه" 1 وزمن الخطاب بها هو زمن فعلها، وهو الثلاثة أيام، فكل من وجد أو أسلم فيها مع الاستطاعة تسن في حقه ولأجله فليست كصدقة الفطر. وفي الحطاب: ويقاتل أهل البلد على تركها كما يقاتلون على ترك الأذان والجماعة بخلاف صدقة الفطر، وكذلك صلاة العيد لا يقاتلون على تركها، وعندي وقفة في كلام الحطاب إذ يبعد قتالهم على ترك الضحية وعدم قتالهم على ترك صدقة الفطر لسنة الضحية وفرضية صدقة الفطرالثاني : فهم من كلامه أن كل مستطيع يطلب بضحية مستقلة، فلا يجوز التشريك فيها كما يفعله بعض العوام في الأرياف من شرائهم نحو الجاموسة ويذبحونها ضحية عن جميعهم فهذه لا تجزئ، وأجازه أبو حنيفة والشافعي حيث لم يزد عددهم على سبع، وأما التشريك في الأجر فلا بأس به، وله صورتان إحداهما أن يشرك المضحي جماعة معه، وهذه لا بد فيها من شروط:
أحدها أن يكون الذي أشركه معه قريبا له ولو حكما لتدخل الزوجة وأم الولد، وأن يكون في نفقته، وأن يكون ساكنا معه، وإن كان ينفق عليه تبرعا كأخيه أو جده أو عمه، وأما لو كان ينفق عليه وجوبا فيكفي الشرطان الأولانثانيهما : أن يشرك جماعة في ضحية ولا يدخل نفسه معهم، وهذه جائزة من غير شرط، ولا يشترط في الصورتين عدد بل ولو أكثر من سبعة، وفائدة التشريك سقوط الضحية عن الجميع، ولو كان المشرك بالفتح مليا، ولكن لا حق للمشرك بالفتح في اللحم، وأما لو شرك معه من لم
ـــــــ
1 لم أقف عليه.

يجز تشريكه فإنها لا تجزئ عن واحد منهماالثالث : كثيرا ما يقع السؤال عن جماعة مشتركين في المؤنة، والحكم فيهم أن يضحي كل واحد عن نفسه، ولا تجزئ واحدة عن الجميع؛ لاشتراكهم في ذاتها، ولا يشرك واحد منهم غيره فيها، وإن كانت من خالص ماله؛ لعدم إنفاقه عليه، نعم لكل واحد إن استقل بضحية أن يشرك صغار أولاده وزوجاته في أجر ضحيته، وينبغي إن شح الجميع في تضحية كل واحد شاة عن نفسه أن يقلد الشافعي أو أبا حنيفة، وتجزئ واحدة عنهم إن لم يزيدوا عن سبعةالرابع : لفظ أضحية في كلامه ليس مفرد الضحايا كما قد يتوهم من ذكره بعد لفظ الضحايا، بل هو مفرد لجمع آخر؛ لأن فيه أربع لغات: إحداها أضحية بضم الهمزة، وكسرها مع سكون الضاد، وكسر الحاء وشد الياء فهاتان لغتان والجمع فيهما أضاحي بشد الياء. وثالثها ضحية بفتح الضاد والياء مشددة وجمعها ضحايا. ورابعتها أضحاة بفتح الهمزة، وإسكان الضاد كأرطاة وأرطى وجمعها أضاح وأضحى، وسميت بذلك؛ لأنها تذبح يوم الأضحى وقت الضحى، وسمي اليوم يوم الأضحى؛ لأجل صلاة العيد في ذلك الوقت، وإنما أطلنا في ذلك لداعي الحاجةولما فرغ من بيان حكمها شرع في بيان ما يضحي منه وبيان سنه فقال: "وأقل ما يجزئ فيها" أي الضحية "من الأسنان الجذع من الضأن" وبينه بقوله: "وهو ابن سنة" بأن وفاها ودخل في الثانية دخولا تاما، وهذا هو المشهور واقتصر عليه العلامة خليل. "وقيل ابن ثمانية أشهر" ويروى عن مالك. "وقيل" هو "ابن عشرة أشهر"، وهو قول ابن وهب ولسحنون ابن ستة أشهر، فجملة الأقوال أربعة أرجحها أولها كما قررنا "و" أما أقل ما يجزئ من غير الضأن فهو "الثني من المعز، وهو ما أوفى سنة ودخل في الثانية" دخولا بينا كالشهر "و" الحاصل أنه "لا يجزئ في الضحايا من المعز والبقر والإبل إلا الثني" هذا على سائر المذاهب المعول عليها لما في مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا المسنة فإن عسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن" 1 والمسنة هي الثنيةقال العلماء: والسر في إجزاء الجذع من الضأن يصح دون غيره من بهيمة الأنعام أن الجذع من الضأن أن يلقح أي يحمل، ولا يصح في جذع غيره. قال سيدي يوسف بن عمر: يؤخذ من
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية، حديث "1963"، وا[و داود، حديث "2797"، والنسائي، حديث "4378"، وابن ماجه، حديث "3141".

إجزاء الجذع من الضأن أحروية إجزاء الثني، ومن إجزاء ثني المعز عدم إجزاء جذعها، ولما كان الثني يختلف سنه باختلاف أنواع الحيوان قال:."والثني من البقر ما" أوفى ثلاث سنين و "دخل في السنة الرابعة والثني من الإبل ابن ست سنين" والمراد تم خمس سنين، ودخل في السادسة" تنبيهان " الأول : فهم من حصر المصنف الضحية في تلك الأنواع عدم إجزائها من الحيوانات الوحشية، ولا من المتولد بين الوحشي والإنسي، سواء كانت الأم وحشية، والأب إنسي أو عكسه على المذهب، كما لا زكاة في المتولد بين الإنسي والوحشي والهدايا والجزاء والفدية مثل الضحايا في اشتراط ذلك وفي اشتراط السن المذكورالثاني : قد قدمنا ما يعلم منه أن حكمة اختلاف الأسنان، وهو اختلاف أمد الحمل، والمراد السنون القمرية لا الشمسيةثم شرع في بيان الأفضل من تلك الأنواع بقوله: "وفحول الضأن في الضحايا أفضل" أي أكثر ثوابا "من خصيانها" لطيب لحم الفحل، وقيل لبقاء كمال خلقته، ومحل الفضل ما لم يكن الخصي أسمن، وإلا كان أفضل. "وخصيانها" أي الضأن "أفضل من إناثها" لفضل الذكور على الإناث، وهذا في الخصي المقطوع الذكر قائم الأنثيين، وأما مقطوع الذكر والأنثيين فتكره التضحية كالمخلوق بغيرهما. "وإناثها" أي الضأن "أفضل من ذكور المعز، و" أولى "من إناثها" لطيب لحم الضأن، وفحول المعز أفضل من خصيانها، وخصيانها أفضل من إناثها. "وإناث المعز أفضل من" جميع "الإبل والبقر في الضحايا" وذكرهما أفضل من إناثهما على نسق ما مر، فالمراتب اثنتا عشرة أعلاها فحل الضأن وأدناها أنثى الإبل والبقر على الخلاف في الأفضل من نوعي الإبل والبقر المبني على الأطيب لحما منهماثم بين محترز قوله في الضحايا بقوله: "وأما في الهدايا فالإبل أفضل"؛ لأن المطلوب فيها كثرة اللحم بخلاف الضحايا المطلوب فيها طيب اللحم "ثم" يلي الإبل في الفضل "البقر ثم" يلي البقر "الضأن ثم المعز" والدليل على ذلك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده"1. وفي مسلم وغيره: "أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإضاحي، باب التكبير عند الذبح، حديث "5565" ومسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل، حديث "1966".

وينظر في سواد"1 زاد النسائي: "ويأكل في سواد"2. وروي أن هذه كانت صفة الكبش الذي فدى به سيدنا إبراهيم ولده عليهما السلام من الذبح، وأفضل الضحايا الأبيض الأقرن الأعين الذي يمشي في سواد، والعفر المذكورة في بعض الأحاديث هي البيضاء، والأعين المراد به الواسع العين، والأملح الذي بياضه أكثر من سواده أو الذي لونه كلون الملح، ومعنى يطأ في سواد ويأكل في سواد وينظر في سواد أن قوائمه وبطنه، وما حول عينيه أسودولما بين السن المجزئ شرع في بيان العيوب التي تمنع الإجزاء بقوله: "ولا تجزئ في شيء من ذلك" المذكور من الضحايا والهدايا "عوراء" بالمد، وهي فاقدة جميع أو معظم نور إحدى عينيها، ولو بقيت الحدقة، وأحرى في عدم الإجزاء العمياء، ولو كانت سمينة. "ولا" يجزئ في شيء من ذلك أيضا "مريضة" مرضا بينا، وهو الذي لا تتصرف معه تصرف غيرها؛ لأن المرض البين يفسد اللحم، ومنه الجرب الكثير؛ لأنه يضر بالأكل "ولا" يجزئ أيضا "العرجاء" بالمد "البين" أي الفاحش "ضلعها" يروى بالضاد والظاء أي عرجها بحيث لا تلحق الغنم "ولا" يجزئ أيضا "العجفاء" بالمد وفسرها بقوله: "التي لا شحم فيها" لشدة هزالها والأكثر تفسيرها بأنها التي لا مخ في عظامها؛ لأنه إذا كان في عظامها مخ تجزئ، ولو لم يكن فيها شحم، وهذه العيوب الأربعة مجمع على وجوب اتقائها لما في الموطإ وغيره عن البراء بن عازب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عما يتقى في الضحايا فأشار بيده"3، وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم العرجاء البين ضلعها والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى أي لا مخ في عظامها لشدة هزالهاقاله أهل اللغة، ولما كان المطلوب سلامة الضحية ونحوها من عقيقة، وهدي وجزاء وفدية من كل عيب لا خصوص ما سبق قال: "و" كذلك "يتقى فيها" أي المذكورات من الضحايا والهدايا "العيب كله" وجوبا حيث كان فاحشا كالجنون، وهو فقد الإلهام، والبشم، وهو التخمة التي تحصل للحيوان من كثرة الأكل، وكذا نقص جزء غير خصيه، ومنه صغر الأذن الفاحش، وهي الصماء، ويقال لها عند العامة الملصاء بخلاف صغر الأذن الخفيف، وتعرف عند العامة بالكرتاء فلا يمنع الإجزاء. ومثله لو قطع من أذنها الثلث فأقل بخلاف الزائد على
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل، حديث "1967"2 صحيح: أخرجه النسائي، كتاب الضحايا، باب الكبش3 لم أقف عليه.

الثلث فإنه يمنع الإجزاء، ومما يمنع الإجزاء البتر، وهو عدم الذنب كله أو بعض منه إن كان له بال، ولو الثلث فأقل من الثلث لا يمنع الإجزاء، والفرق بين ثلث الذنب وثلث الأذن أن الذنب مشتمل على لحم وشحم، بخلاف الأذن فإنها محض جلد، وهذا في ذنب الغنم التي لها لية كبيرة، وأما نحو الثور والجمل والغنم في بعض البلاد مما لا لحم، ولا شحم في ذنبه فالذي يمنع الإجزاء منه ما ينقص الجمال، ولا يتقيد بالثلث، ومما يمنع الإجزاء البخر، وهو تغير رائحة الفم لتنقيصه الجمال وتغييره اللحم حيث كان عارضا لا ما كان أصلياووجه الفرق أن العارض نشأ عن مرض بباطن الحيوان، ومما يمنع أيضا الإجزاء البكم، وهو فقد الصوت من الحيوان إلا لعارض كالناقة بعد حملها فلا يضر، ومما يضر أيضا عدم اللبن بخلاف قلته فلا تمنع، ومما يمنع الإجزاء شق الأذن، وإليه الإشارة بقوله: "ولا المشقوقة الأذن إلا أن يكون" الشق "يسيرا" بأن يكون الثلث فأقل فلا يمنع الإجزاء، ولما كان القطع أشد من الشق فربما يتوهم منعه الإجزاء مطلقا قال: "وكذلك القطع" مثل الشق في منعه الإجزاء إن كثر بأن زاد على الثلث، والحاصل أن شق الأذن كقطعها فإن كان المشقوق أو المقطوع زائدا على الثلث منع الإجزاء، وإلا فلا؛ لأن الثلث في الأذن من حيز اليسير، بخلاف الذنب فإن الثلث كثير، وقد قدمنا الفرق، ومما يمنع الإجزاء كسر القرن، وإليه الإشارة بقوله: "و" كذلك "مكسورة القرن إن كان" قرنها "يدمي" أي لم يبرأ "فلا يجوز" ذبحها ضحية، ولا هديا. "و" مفهوم يدمي "إن لم يدم" بأن برئ "فذلك" المذكور من تضحية أو غيرها "جائز"، ولو انكسر من أصله بحيث لم يبق منه شيء، ومن لازم الجواز الإجزاء؛ لأن ذهاب القرن ليس نقصا في الخلقة، ولا في اللحم، إذ لا خلاف في إجزاء الجماء التي لا قرن لها بالأصالة ومفهوم القرن أن كسر نحو الرجل يمنع الإجزاء بالأولىوأما مكسورة السن أو مقلوعتها ففيها تفصيل محصله أن فقد الواحدة وأولى كسرها لغير إثغار، ولغير كبر لا يمنع الإجزاء، وذهاب الاثنين كغيرهما يمنع الإجزاء على الراجح، وإما لإثغار أو كبر فلا يمنع الإجزاء، ولو الجميع، وأما العيوب غير الفاحشة فالسلامة منها مندوبة في الهدايا والضحايا بأن لا تكون خرقاء حيث كان الثلث فأقل، وأن لا تكون مقابلة، وهي المقطوعة بعض الأذن ويترك المقطوع معلقا قبل وجهها فإن كان مؤخرا فهي المدابرة، وأن لا يكون شرقاء، وهو المشقوقة الأذن، ويستحب أن تكون حسنة الصورة، كما يستحب أن تكون سمينة، وأن تكون بيضاء وقرناء كما يفهم مما قدمنا.

ثم شرع في بيان ما يتعلق بتذكيتها بقوله: "وليل الرجل" أي المضحي مطلقا على جهة الندب "ذبح" المراد تذكيته "أضحيته" أو هديه أو فديته "بيده"، ولو كان صغيرا فإن لم يطق إلا بمعين فلا بأس بذلك، وإنما ندبت مباشرة الذكاة اقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه كان يذبح أضحيته بيده، ولما فيه من التواضع، ولذلك تكره الاستنابة على ذلك مع القدرة، فإن لم يستطع المباشرة صح إنابته مسلما صالحا، فإن، وكل تارك الصلاة صحت ضحيته مع الكراهة، وإن، وكل كافرا لم تصح، ولو كتابيا وتصير شاة لحم، فإن لم يكن كتابيا لم تؤكل، وإن كان كتابيا حل أكلها على أحد قولينقال خليل: وصح إنابة بلفظ إن أسلم، ولو لم يصل أو نوى عن نفسه أو بعادة كقريب، وإلا فتردد لا إن غلط فلا تجزئ عن أحدهماثم بين زمن ذبح الضحية في اليوم الأول بقوله: "بعد ذبح الإمام" ما يذبح "أو نحره" ما ينحر حيث كان الذبح "في" أول "يوم" من أيام "النحر ضحوة"، وهو وقت حل النافلة، وهذا أول وقتها لغير الإمام، وأما أول وقتها بالنسبة إليه فبعد فراغه من صلاته وخطبته، والراجح أن المراد بالإمام إمام الصلاة، إلا أن يكون إمام الطاعة أخرج أضحيته فيكون المعتبر ذبحه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] فإن الحسن البصري قال: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم، وقيدنا بالضحية للاحتراز عن الهدي فلا يتقيد بكونه بعد ذبح إمام؛ لأن الحاج لا يصلي العيد، ومفهوم قولنا أول يوم أن ما عداه من اليوم الثاني والثالث لا يراعى قدر زمن ذبح الإمام، بل يدخل وقت الذبح أو النحر من طلوع الفجر، ولكن يستحب التأخير لحل النافلة" تنبيه " إذا علم أن ذبح غير الإمام مشروط بكونه بعد ذبح الإمام فيستحب له حينئذ أن يبرز أضحيته للمصلى ليرى الناس ذبحه فإن لم يبرزها فسيأتي بيان حكمهثم فرع على ما قبله قوله: "، ومن ذبح قبل أن يذبح الإمام أو" قبل أن "ينحر أعاد أضحيته" لشرطية تأخير ذبحه بعد ذبح الإمام، سواء كان صلى العيد مع الإمام أم لا، وهذا إذا كان الإمام أخرج الضحية إلى المصلى، سواء علم الذي ذبح قبله بإبرازها أو لا، وأما لو لم يكن الإمام أخرج أضحيته إلى المصلى فإن غيره يتحرى قدر ذبحه بمنزلة ويذبح ويجزئه ذبحه، ولو تبين أنه ذبح قبله حيث كان عدم ذبح الإمام بعد وصوله إلى منزله لغير عذر، وأما لو كان عدم مبادرته إلى الذبح لعذر كاشتغاله بقتال عدو ونحوه فإنه ينتظر ذبحه إلى أن يبقى للزوال قدر ذبحه

فيذبح" تنبيهات " الأول : تلخص أن التحري لذبح الإمام إنما هو حيث لم يبرز أضحيته، وأما لو أبرزها فلا يعتبر التحري من أحد، ولا بد من إعادة الضحية حيث بان السبق صلى السابق مع الإمام أم لا، علم إبراز الإمام أم لاالثاني : مفهوم قوله: ومن ذبح قبل إلخ يقتضي أن الذابح معه يصح ذبحه، وليس كذلك، إذ المساواة كالسبق، ومثل كلام المصنف قول خليل وأعاد سابقه إلا المتحري أقرب إمام فإن لم يبرزها وتوانى بلا عذر قدره وبه انتظر للزوال، فالحاصل أن الواجب التأخير عن فعل الإمام كوجوب تأخير الإحرام والسلام، فلو قال المصنف وخليل: ومن ذبح مع الإمام أعاد لفهم منه إعادة من ذبح قبله بالأولىولما فرغ من الكلام على ذبح من له إمام شرع في وقت ذبح من لا إمام له بقوله: "ومن لا إمام لهم" في صلاة العيد "فليتحروا صلاة أقرب الأئمة إليهم وذبحه" بعد خطبته، وإذا تحروا وبان سبقهم له أجزأهمقال خليل: وأعاد سابقه إلا المتحري أقرب إمام أي فلا يعيد، وحد بعضهم القرب بثلاثة أميال من المنار؛ لأنه الذي يأتي لصلاة العيد منه، وأما ما بعد عن الثلاثة أميال فلا يلزمه اتباعه؛ لأن الضحية تبع للصلاة" تنبيه " بقي على المصنف من لهم إمام، وليس له أضحية ويظهر أن يتحروا وقت فراغ ذبحه بعد خطبته وصلاته أن لو كان له أضحية، وكذا من ليس لهم إمام، وليس هناك من يتحروا ذبحه يجب عليهم أن يتحروا ذبح إمامهم إن لو كان لهم إمام بل هو الأولى بالتحري،
فإن قيل: لم اكتفى بذبح من تحرى في محله وتبين سبقه، ولم يكتف بصلاة أو صوم من تحرى وتبين سبقه للفجر أو لزمن الصوم؟ فالجواب: أن الوقت للصلاة والصوم شرط والمشروط لا يصح بدون شرطه، وقيل؛ لأن الضحية مال، وإخراجه مما يشق على النفس غالباولما كان النهار شرطا في ذبح الضحية، وما ماثلها في الشروط من الهدايا والجزاء قال: "ومن ضحى" أي ذبح "بليل أو أهدى" أو ذبح الجزاء "لم يجزه"؛ لأن النهار شرط فيها، والمراد بالليل هنا من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وبالنهار ما بعد الفجر إلى غروب

الشمس، وهذا بالنسبة إلى ثاني النحر وثالثه، وأما اليوم الأول فأوله بعد ذبح الإمام أو تحري ذبحه على ما مر، فمن ضحى في اليوم الثاني أو الثالث بعد طلوع الفجر أجزأه، وإن كان الأفضل التأخير لحل النافلة، بخلاف اليوم الأول، والدليل على شرطية النهار ما قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن ضحى بليل فليعد"1، ولم يرو عنه أيضا الذبح لهدي، ولا غيره من القرب في غير النهار، ولأن القصد إظهار الشعائر، وأيضا لو ذبح الهدي أو الجزاء ليلا قد لا يجد المساكين فيفسد اللحم بتأخيرهثم شرع في بيان عدة أيام النحر بقوله: "وأيام النحر" أي الذبح للضحية "ثلاثة" اليوم الأول وتالياه يجوز أن "يذبح فيها أو ينحر إلى غروب الشمس من آخرها" على قول مالك وجماعة من الصحابة والتابعين، ورد بقوله ثلاثة على الشافعي حيث قال: أيام النحر أربعة، وقولنا للضحية احترازا من الهدايا، وما في حكمها فإن وقت ذبحها بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد كما تقدم في باب الحج" تنبيه " تعرض المصنف لغاية الذبح، ولم يتعرض هنا لوقت الابتداء؛ لأنه لم يعلم مما سبق، وقد وضحناه بالنسبة للإمام، ولغيره ممن له إمام، ومن لا إمام له فراجعه، ولما كان يتوهم أن الذبح في الثلاثة مستوفى الفضل قال: "وأفضل أيام النحر أولها" اقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ولأن فيه المبادرة للقربة، وقد تقدم أن ابتداءه في حق الإمام بعد فراغه من خطبته بعد صلاته وفي حق غيره بعد ذبح الإمام،
ولما جرى خلاف بين أفضلية أول الثاني وآخر الأول قال: "ومن فاته الذبح" أو النحر لأضحيته "في اليوم الأول إلى" دخول "الزوال فقد قال بعض أهل العلم"، وهو ابن حبيب "يستحب له أن يصبر" من غير ذبح "إلى ضحى اليوم الثاني" وقيل: لا يستحب لفضل جميع الأول على أول الثاني، وهو المعروف من المذهب، ورجحه العلامة خليل بقوله عاطفا على المندوب: واليوم الأول فجزم بأن الأول بتمامه أفضل من الثاني حتى أنكر القابسي رواية ابن حبيب" تنبيه " علم مما قررنا أن الراجح أفضلية أول يوم بتمامه على تالييه، وضعف قول بعض أهل العلم، ويعلم من كلام خليل أن أول الثاني من فجره إلى زواله أفضل من بقية أيام النحر من غير
ـــــــ
1 لم أقف عليه.

نزاع، وإنما الخلاف بين آخر الثاني وأول الثالث المشار إليه بقول خليل: وفي أفضلية أول الثالث على آخر الثاني ترددولما كانت الضحية قربة، وما كان كذلك لا يجوز دفعه بعوض قال: "ولا" يحل أن "يباع شيء من الأضحية جلد، ولا غيره"، ولا يشتري بشيء منها نحو ماعون لخروجها قربة، وهي لا يعاوض عليها، وإنما أباح الله الانتفاع بها من أكل وصدقة، ولو تبين أنها ذبحت قبل الإمام بحيث لا تجزئقال خليل: ومنع البيع، وإن ذبح قبل الإمام أو تعيبت حالة الذبح أو قبله أو ذبح معيبا جهلا، ومثل الضحية الهدي والفدية والعقيقة" تنبيهات " الأول : بنى يباع للمجهول، وهو يوهم حرمة بيعها، ولو من المتصدق عليه، وليس كذلك بل يجوز للمتصدق عليه بيعها، ولو علم المتصدق بالكسر أن المسكين يبيعها، وهو المشهور من المذهب، وكذلك المهدى له لوجهه فلا مفهوم للمتصدق عليه في كلام خليل كما قال الأجهوريالثاني : لم يعلم من كلام المصنف حكم البيع بعد وقوعه والحكم فيه الفسخ إن كان الشيء المباع قائما، وأما لو فات فإنه يجب التصدق بالعوض أو ببدله إن فات حيث كان البائع هو المضحي أو غيره بإذنه أو بغير إذنه حيث صرف العوض فيما يلزم المضحي، وأما لو كان البائع غيره بغير إذنه وصرفه البائع في مصالح نفسه فلا شيء على المضحي، وإنما يجب على البائع كما قاله ابن عبد السلام، وكما يجب على المضحي التصدق بالعوض كما ذكرنا يجب عليه التصدق بأرش عيب رجع به على بائع الضحية بعد تعيينها بنذر أو ذبح حيث كان لا يمنع الإجزاء لظهور كونها خرقاء أو شرقاء، وأما أرش عيب يمنع الإجزاء فالتصدق به مستحب؛ لأن عليه بدلهاالثالث : لو فعل بأضحيته سنة عرسه أجزأته بخلاف لو عق بها عن مولود لم يجزه، ولعل الفرق أن الوليمة لا يشترط فيها ذبح أصلا، بل يكفي فيها مجرد طعام، بخلاف العقيقة فإنها يشترط فيها ما يشترط في الضحية، فلا تجزئ ضحيته إلا إذا ذبحها بنية الضحيةولما فرغ من الكلام على أحكام الضحية شرع في صفة ذبحها كغيرها بقوله: "وتوجه الذبيحة عند الذبح" على جهة الندب "إلى القبلة" كما يستحب إضجاعها على جنبها الأيسر؛

لأنه أعون للذبح، إلا أن يكون أعسر فيضجعها على شقها الأيمن. قال في المدونة: السنة أخذ الشاة برفق وتضجع على شقها الأيسر ورأسها مشرف بالفاء وتأخذ بيدك اليسرى جلدة حلقها من اللحي الأسفل بالصوف أو غيره فتمده حتى تبين البشرة وتضع السكين في المذبح حتى تكون الجوزة في الرأس، ثم تسمي الله وتمر السكين مرا مجهزا من غير ترديد ثم ترفع، ولا تنخع، ولا تضرب بها الأرض، ولا تجعل رجلك على عنقها فإن خالف تلك الصفة المستحبة أساء وتؤكل، ولا يشكل على ما ذكرنا ما ورد في الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام: "وضع رجله على عنقها"، لأن الدميري قال فيه. إنه لم يثبت، وعلى فرض ثبوته يمكن حمله على أنه من خصوصيات المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومفهوم الذبيحة غير معتبر بل يندب توجيه المنحور للقبلة أيضا"وليقل الذابح" أو الناحر على جهة الوجوب عند شروعه "بسم الله والله أكبر" قال خليل: ووجب نيتها وتسمية إن ذكر أو قدر، واشتراط الذكر يؤخذ من كلامه فيما يأتي، وما ذكره المصنف في صفة التسمية إنما هو بيان للوجه الأكمل؛ لأنه لو قال. بسم الله فقط أو الله أكبر أو لا حول، ولا قوة إلا بالله أو سبحان الله أو لا إله إلا الله أجزأه، بل في كلام سند ما يفيد أنه لو قال الله مقتصرا على لفظ الجلالة أجزأه وظاهره، ولو لم يلاحظ له خبرا؛ لأن الواجب ذكر الله وأما لو قال: بسم الرحمن أو العزيز أو الخالق فلا يكفي، وقيدنا بالذكر للاحتراز عن الناسي، فإن ذكاته تؤكل كما يأتي، وقيدنا بالقادر للاحتراز عن غير القادر كالأخرس فإن التسمية ساقطة عنه كسقوط قراءة الفاتحة عنه في صلاته، فلو عجز عن التسمية باللفظ العربي وقدر عليها بغير العربية قال الأجهوري: الظاهر سقوطها، وظاهر كلام الأجهوري صحة ذبح العاجز عن التسمية، ولو مع وجود القادر وحرر المسألة"وإن زاد" الذابح على التسمية "في" ذبح "الأضحية" أو غيرها من القرب "ربنا تقبل منا فلا بأس بذلك" أي مباح، وقال ابن شعبان: إنه مندوب، وأما قوله: اللهم منك، وإليك في ذبح الضحية فيكره عند مالك؛ لأنه بدعة، وقيده ابن رشد بما إذا كان قائله يعتقد أنه من لوازم التسمية، وإلا فلا كراهة"ومن نسي التسمية في" حال "ذبح أضحية أو غيرها" واستمر ناسيا حتى فرغ من ذكاتها "فإنها تؤكل"؛ لأن وجوب التسمية مقيد بالذكر كما قدمنا"وإن تعمد ترك التسمية" إما ابتداء واستمر على تركها حتى أنفذ مقتل الحيوان أو بعد قطع

بعض الحلقوم والودجين إن نسيها ابتداء وتذكرها في الأثناء وتركها. "لم تؤكل" لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] لحمله على الترك عمدا، ومن التعمد تركها متهاونا. وأما لو تعمد ترك التسمية ابتداء ثم قبل قطع تمام الحلقوم والودجين سمى فينبغي الإجزاءقال الأجهوري: ويظهر لي أن محل الإجزاء إن أتى بالتسمية قبل إنفاذ مقتل الحيوان؛ لأن الذكاة لا تعمل في منفوذ الزمن، وهذا بخلاف لو ترك التسمية نسيانا وتذكرها في أثناء الفعل فإنه يطالب بها وتؤكل ذبيحته، ولو كان التذكرة بعد إنفاذ المقاتل، والفرق لا يخفى على عاقل، ولما كانت التسمية مطلوبة حتى في الصيد قال: "وكذلك" ترك التسمية "عند إرسال الجوارح" أو السهم "على الصيد" فإن كان نسيانا أكل، وإن كان عمدا لم يؤكل" تنبيهات " الأول : نص المصنف على حكم تركها عمدا ونسيانا، وسكت عن تركها جهلا وتهاونا، ومنه من يكثر نسيانه لها، والحكم أنها لا تؤكل كتركها عمدا وأما تركها عجزا أو مكرها فتؤكل إلحاقا لهما بالنسيانالثاني : ذكر المصنف ما يعلم منه حكم التسمية، وهو الوجوب، وسكت عن نية الذكاة وحكمها الوجوب من غير قيد مما قيدت به التسمية، والمراد نية الفعل، وإن لم يلاحظ التحليل، ولا التقرب، وعليه فمن رمى صيدا بسكين فقطع رأسه مثلا ناويا باصطياده أكل، وإن لم ينو الاصطياد بأن نوى قتله أو رمى حجرا من غير رؤية الصيد فأصابه فقتله لم يؤكل، ومثله من رمى حيوانا بمدية فقطعت حلقومه وودجه أكل مع قصد ذبحه فقط لا مع قصد زجره عنه أو قتله أو لا قصد لهالثالث : ظاهر كلام المصنف كغيره طلب التسمية والنية عند الذكاة من المسلم والكافر، وليس كذلك، فقد قال الأجهوري: محل الوجوب فيهما إذا كان المذكي مسلما، وأما إن كان كافرا فلا يعتبر في أكل ذكاته نية، ولا تسمية، وقال الشيخ إبراهيم اللقاني: إن نية الذكاة لا بد منها حتى في حق الكافر، وأما نية التقرب فتطلب من المسلم دون الكافر، ولكن قد علمت أن نية الفعل كافية على الصواب، ولو لم يلاحظ التقرب، وما ذكرناه من صحة ذكاة الكتابي، ولو لم يسم الله قيده بعض الشيوخ بما إذا لم يكن ذكاه باسم الصنم، وإلا وجبت التسمية عليه حتى يحل أكله، وما ذكرناه من عدم افتقار ذكاة الكتابي إلى تسمية أو نية فيما ذكاه إلى نفسه ويحل لنا أكله، وأما ما ذكاه لمسلم ففي صحته قولان.

قال خليل: وفي ذبح كتابي لمسلم قولان في جواز الأكل وعدمه في غير الضحية، وأما الضحية فلا تصح ضحيته إذا ويخلى الكتابي اتفاقا ويجري في أكلها القولان"و" قوله و "لا يباع شيء من الأضحية والعقيقة والنسك" أي الفدية "لحم، ولا جلد، ولا ودك، ولا عصب، ولا غير ذلك" مستغنى عنه بما مر إلا أن يقال ما سبق في خصوص، وهذا أعمثم شرع في بيان ما يندب لصاحب الأضحية بقوله: "ويأكل الرجل" المراد المضحي مطلقا "من أضحيته ويتصدق منها" على الفقراء ويهدي منها لبعض أصحابه "أفضل له" من أكل جميعهاقال خليل: وجمع أكل وصدقة، وإعطاء بلا حد، وإنما ندب ذلك لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] وقال أيضا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] والقانع من لا يسأل بل يقنع بما يحصل له في منزله، والمعتر الدائر المتعرض له يعطى من غير سؤال، والبائس الفقير الزمن الذي لا يسأل ويكره التصدق بجميع الضحية؛ "لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر مائة من الإبل وأمر من كل واحدة بقطعة فطبخت ليكون قد أكل من الجميع"، وهذا يدل على فضل الجمع، وقول خليل: بلا حد لا ينافي أن المختار أكل الأقل، وإطعام الأكثر، ويستحب للمضحي أن لا يأكل يوم النحر حتى يفطر على كبد أضحيته، وكره مالك إطعام الجار النصراني، وأما أكله في بيت ربها فلا يكره. "وليس" الأكل مع التصدق "بواجب عليه" غير محتاج إليه مع قوله أفضلولما كان يتوهم من مشاركة الفدية والهدي للضحية في أحكام كثيرة مشاركتها لهما في جواز الأكل قال: "ولا" يجوز لمن لزمته فدية أن "يأكل من فدية الأذى" المنوي بها الهدي بأن قلدها أو أشعرها "و" لا من "جزاء الصيد و" لا من "نذر المساكين" الذي لم يعين لا بلفظ، ولا نية إذا وصلت هذه الثلاثة لمحل ذكاتها، وهو منى إن وقف بها، وكان في أيام النحر، أو مكة إن لم يكن وقف بها أو خرجت أيام النحر، وإنما حرم الأكل مع المذكورات بعد الوصول؛ لأن الله سمى الفدية والجزاء كفارة، والإنسان لا يأكل من صدقته، ولا كفارته، وأما لو عطبت هذه الثلاثة قبل وصولها إلى محلها لجاز له الأكل منها؛ لأن عليه البدل "و" عكس هذه الثلاثة "ما عطب من هدي التطوع" أو نذر معين لا بقيد المساكين "قبل محله" فإنه يحرم أكله لاتهامه على إرادة أكله، والواجب عليه حينئذ أن ينحره ويخلي بينه وبين الناس ويلقي قلادته بدمه، وأما نذر

المساكين المعين والفدية التي لم تجعل هديا، وهدي التطوع المجعول للمساكين باللفظ أو بالنية فلا يجوز الأكل منها لا قبل المحل، ولا بعد المحل. "و" يجوز أن "يأكل مما سوى ذلك" المذكور قبل المحل وبعده كهدي التمتع أو القران أو تعدي الميقات ونحوها من كل هدي وجب لنقص شعيرة، ومثلها في الجواز مطلقا الهدي المضمون الذي لم يعين للمساكين لا بلفظ، ولا نية، والحاصل أن الأقسام أربعة: قسم لا يؤكل منه لا قبل، ولا بعد، وهو ثلاثة أشياء: نذر المساكين المعين، والفدية التي لم تجعل هديا، وهدي التطوع والمجعول للمساكين، وقسم يؤكل منه مطلقا، وهو ما وجب لنقص شعيرة المشار إليه بقول خليل عكس الجميع، وقسم يؤكل منه بعد ويحرم قبل، وهو هدي التطوع والنذر المعين لا بقيد المساكين، وقسم يؤكل منه قبل ويحرم بعد، وهو نذر المساكين غير المعين، والفدية المجعولة هديا، والجزاء هذا هو التحرير، وعبارة التتائي فيها بعض تغيير يظهر من تحريرنا، وقد أشار خليل إلى هذه الأقسام الأربعة بقوله: ولم تؤكل من نذر المساكين عين مطلقا عكس الجميع فله إطعام الغني والقريب، وكره لذمي إلا نذرا لم يعين، والفدية والجزاء بعد المحل، وهدي تطوع إن عطب قبل محله فتلقى قلادته بدمه ويخلى للناس كرسوله، وانظر ما يتعلق بأكله منه أو أمره غيره بالأكل في المطولات. وقوله: "إن شاء" أشار به إلى أن الأصل في الهدايا عدم الأكل منها خلاف الضحيةولما فرغ من الكلام على أحكام الضحايا شرع يتكلم على الذكاة فقال: "والذكاة" في اللغة التمام، يقال: ذكيت الذبيحة إذا أتممت ذكاتها، وأما في الشرع فهي كما قال ابن وضاح السبب الذي يتوصل به إلى إباحة الحيوان البري، وتحت هذا أربعة أنواع: ذبح ونحر في إنسي أو وحشي مقدور عليه، وعقر في وحشي معجوز عنه، وما يعجل الموت في نحو الجراد، وحقيقة الذكاة بمعنى الذبح. "قطع" جميع "الحلقوم"، وهو القصبة التي يجري فيها النفس. "و" قطع جميع "الأوداج" جمع ودج، وهو العرق الكائن في صفحة العنق ويتصل بالودج أكثر عروق البدن ويتصل بالدماغ والحيوان له ودجان، وإنما جمع على طريق من يطلق الجمع على ما زاد على الواحد، ولا يشترط على المشهور قطع المريء، وهو العرق الأحمر الذي تحت الحلقوم، ومتصل بالفم وبرأس المعدة والكرش يجري فيه الطعام منه إليها ويسمى البلعوم، ثم أكد ما سبق بقوله: "ولا يجزئ أقل من ذلك"، ولو بقي بعض ودج على المعتمد، وإن شهر القول بالاكتفاء بقطع نصف الحلقوم وتمام الودجين قال خليل: الذكاة قطع مميز يناكح تمام

الحلقوم والودجين من المقدم بلا رفع قبل التمام، فلو ذبحه من القفا أو من إحدى صفحتي العنق أو أدخل السكين من تحت العروق وقطعها إلى فوق لم تؤكل، سواء أدخل السكين من تحت العروق ابتداء أو قطع بعض الحلقوم من المقدم ابتداء ثم لم تساعده السكين فأدخلها من تحتها وقطعها إلى فوقه؛ لقول ابن رشد أيضا:
والقطع من فوق العروق بته ... وإن يكن من تحتها فميته
وسواء فعل ما ذكر عمدا أو خطأ، وسيشير المصنف إلى بعض ذلك فيما يأتي، وفهم من قوله: قطع الحلقوم أن المغلصمة لا تؤكل، وهو المعتمد، والمراد بها التي حيزت حوزتها لبدنها؛ لأنها الغلصمة آخر الحلقوم من جهة الرأس، فلو بقي من الجوزة مع الرأس قدر حلقة الخاتم أكلت، وأما لو بقي لجهة الرأس قدر نصف حلقة فلا تؤكل على مشهور المذهب، وقولنا: حقيقة الذكاة بمعنى الذبح للاحتراز عن الذكاة بمعنى النحر فإنها طعن بلبةقال خليل: والنحر طعن بلبة، ومعنى الطعن الدك، واللبة محل القلادة من الصدر، ولو لم يحصل قطع لشيء من الحلقوم والودجين؛ لأن وضع الآلة في اللبة موجب للموت سريعا لوصولها للقلب، وحكمة الذكاة إزهاق الروح بسرعة واستخراج الفضلات، ولما قضى الله - سبحانه وتعالى - على خلقه بالفناء وشرف بني آدم بالعقل أباح لهم أكل الحيوان قوة لأجسادهم وتصفية لمرآة عقولهم ليستدلوا بطيب لحمها على كمال قدرته، وينتبهوا بذلك على أن للمولى بهم عناية لإيثارهم بالحياة على غيرهم أي من الحيوانات المأكولةولما كان يشترط في الذكاة الفورية وعدم رفع المذكي يده قبل تمام الذكاة بين محترز ذلك بقوله: "وإن رفع" المذكي "يده بعد قطع بعض ذلك" المذكور من الحلقوم والودجين "ثم أعاد يده فأجهز" أي تم الذكاة "فلا تؤكل" ذبيحته حيث كان رفع يده بعد إنفاذ مقتلها وعاد عن بعد، ولو كان رفع يده على جهة الاضطرار، وأما لو كان رفع يده قبل إنفاذ شيء من مقاتلها فإنها تؤكل، ولو عاد عن بعد؛ لأن الثانية ذكاة مستقلة، وكذا تؤكل مع إنفاذ مقتلها حيث عاد عن قرب، والحاصل أنه إن لم ينفذ مقتلها تؤكل مطلقا، وكذا إن أنفذ حيث عاد من قرب، والقرب والبعد بالعرف ويجب مع البعد النية والتسمية، ولو كان المتمم للذكاة هو الأول لتعليلهم بأن الثانية ذكاة مستقلة، وكذا مع القرب حيث كان المتمم للذكاة غير الأول، ولو كان المذكي حصل له إنفاذ مقتل من فعل الأول لا بد من نيتهما حيث تممها غير الأول، كاشتراك شخصين في الذكاة لا بد من النية والتسمية من كل.

"تنبيه" مثل الرفع في التفصيل إبقاء الشفرة على محل الذكاة من غير إمرار، والله أعلمولما عبر بقطع الحلقوم والودجين خشي توهم عدم جواز أكل مبان الرأس فدفعه بقوله: "وإن تمادى" الذابح "حتى قطع" أي أبان "الرأس" من الجسد "أساء" أي أثم بتعمد ذلك. "ولتؤكل" مع الكراهة على المعتمد. قال خليل عاطفا على المكروه: وتعمد إبانة رأس وتؤولت أيضا على عدم الأكل إن قصده، وإذا كانت تؤكل مع التعمد فأحرى مع الغلبة والسهو، ولهذه المسألة نظائر: منها غسل الرأس في الوضوء بدل المسح، ومنها من بجبهته قروح تمنع السجود فتكلف السجود على الأنف، ولم يقتصر على الإيماءولما كان شرط الذكاة القطع من المقدم قال: "ومن ذبح من القفا" أو من إحدى صفحتي العنق "لم تؤكل" ذبيحته، ولو فعل ذلك سهوا أو جهلا؛ لأن الذبح من المقدم واجب، فلو أدخل السكين من تحت الحلقوم والودجين وقطعهما لأعلى لم تؤكل على المذهب كما قاله سحنون. قال ابن رشد في مقدمته:
والقطع من فوق العروق بته ... وإن يكن من تحتها فميته
وقال خليل أيضا من المقدم، وصريح هذا أنه لا فرق بين كون القطع من تحتها ابتداء أو بعد ابتدائه من المقدم خلافا لمن فصل" تنبيهات " الأول : لم يبين المصنف من تصح ذكاته، ومن لا تصح، ونحن نبين ذلك فنقول: شرطه التمييز، وكونه ممن يصح لنا وطء نسائه سواء كان ذكرا أو أنثى أو خنثى، حرا أو عبدا، ولو خصيا أو فاسقا، أو مجوسيا حيث تنصر أو تهود وإن كرهت من الخصي والفاسق والأغلف والخنثى، بخلاف المرأة والصبي المميز فغير المميز لا تصح ذكاته سواء كان عدم تميزه لصغر أو جنون أو سكر، ولو أصاب وجه الذكاة، وكذا من شك في تمييزه حين تذكيته؛ لأن الشرط يحقق تمييزه حين الذكاة، فلا تؤكل ذبيحة متقطع الجنون حيث لم يتحقق ذبحه في حال إفاقته. وإذا ادعى أنه ذبح في حال صحوه لم يقبل بالنسبة لغيره ويدين بالنسبة لنفسه إلا أن يكون مشهورا بالصلاح فينبغي تصديقه، ولو في حق غيره؟ وقولنا: ولو مجوسيا تنصر أي تصح ذكاته ويؤكل كما يأتي في كلام المصنف على طعام أهل الكتاب، وأما لو وكله مسلم ليذبح له ففي صحة ذبحه قولانالثاني : لم يبين آلة الذبح، وهي كل ما له حد بحيث يقطع ما يشترط قطعه، ولو لم يكن

حديدا، وإن استحب الحديد. قال في المدونة: ومن احتاج إلى أن يذبح بمروة أو عود أو حجر أو عظم أو غيره أجزأه، ولو ذبح بذلك، ومعه سكين فإنها تؤكل إذا أفرى الأوداج، أبو محمد: وقد أساءقال ابن حبيب: ولا بأس بالذبح بشفرة لا نصاب لها والرمح والقدوم والمنجل الأملس الذي يؤبر به، فأما المضرس الذي يحصد به فلا خير فيه؛ لأنه يتردد، ولو قطع كقطع الشفرة فلا بأس به، ولكن ما أراه يفعل ذلك. قاله العلامة بهرام في كبيره. وتناول ما قدمناه السن والظفر على أحد أقوال أربعة ذكرها خليل، وما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر" . فلعله محمول على الكراهة أو على حالة الاختيار، فلا ينافي الجواز في حال الضرورة أو على من لا يحسن الذبح بهماالثالث : لم نر من شرط اتحاد المذكي بل المفهوم من كلامهم على من رفع يده قبل إتمام جواز التعدد بأن يضع كل يده على مدية واحدة ناويا مسميا، أو يضع كل واحد مدية مستقلة ويحصل القطع دفعة واحدة مع نية كل وتسميته. الرابع: إذا وجدت الذكاة على الصفة المطلوبة شرعا أكلت الذبيحة، ولو ذكيت ورأسها في الماء، ولو مع التمكن من إخراجها من الماء حيث تحقق أن موتها من الذكاةثم شرع في بيان ما يذبح وينحر، وما يجب فيه أحدهما بقوله: "والبقر تذبح" ندبا بدليل "فإن نحرت" أي طعنت في ليتها "أكلت"، ولو في حال الاختيار "والإبل تنحر" وجوبا بدليل "فإن ذبحت" اختيارا "لم تؤكل" هذا هو المعتمد بدليل قوله: "وقد اختلف في أكلها" فإن هذا يفهم منه ضعف المقابل، وقيدنا باختيارا للاحتراز عن حالة الضرورة فإنه يجوز ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح. "والغنم" وسائر الحيوانات سوى الإبل والبقر والطير، ولو نعاما "تذبح" وجوبا بدليل "فإن نحرت" اختيارا، ولو سهوا "لم تؤكل" على مشهور المذهب، ومقابله المشار إليه بقوله: "وقد اختلف في ذلك أيضا" ضعيف فتلخص أن الإبل تنحر والغنم، وما شابهها تذبح، والبقر يجوز فيها الأمران. قال خليل عاطفا على الواجب: ونحر إبل وذبح غيره إن قدر وجاز للضرورة إلا البقر فيندب الذبح، ومن الضرورة وقوع الجمل في مهواة بحيث لا يتوصل إلى محل النحر، ووقوع الغنم في مهواة بحيث لا يتمكن من ذبحها، وجزم في الشامل بأن عدم الآلة من الضرورة فإنه قال: فإن عكس في الأمرين لعذر كعدم ما ينحر به صح، ولا يعذر بنسيان، ولا بجهل بالحكم، وفي جهل الصفة بمعنى عدم معرفة الذبح فيما يذبح والنحر فيما

ينحر قولانولما كانت الذكاة الحكمية كالحقيقة بالنسبة للجنين يخرج من بطن أمه ميتا بسبب ذكاتها قال: "وذكاة ما" أي الجنين المستقر في البطن "ذكاة أمه" بشرطين أشار لهما بقوله: "إذا تم خلقه ونبت شعره" وفي شرط آخر، وهو محقق موته بذكاة أمه لا إن لم تعلم حياته عند ذبح أمه فلا يؤكل كما قال في التحقيق عن الفاكهاني، ولعله أظهر من قول الأجهوري في شرح خليل: أن المشكوك في حياته قبل موت أمه مثل محققها، والمراد بالشعر المشترط أيضا نباته شعر الجسد لا شعر عينيه، والمراد بتمام خلقه تناهي خلقته ووصولها إلى الحد الذي ينزل عليه من بطن أمه، لا كمال أطرافه فيؤكل ناقص رجل، وبقي شرط أيضا لا بد منه، وهو أن يكون من جنس ما يؤكل، ولو من غير نوع الأم فيؤكل جنين البقرة بالشروط المتقدمة، ولو كان شاة، وعكسه بخلاف لو نزل جنين البقرة أو الشاة كلبا أو حمارا فلا يؤكل لحرمة نوعه، كما لا يؤكل جنين الحمارة أو الفرس، ولو كان من نوع ما يؤكل لخبر: "كل ذات رحم فولدها بمنزلتها" وظاهر كلامهم، ولو نزل حيا حياة مستقرة وتمكنا من ذكاته، وأشعر كلامه على ما قررنا أنه لو خرج حيا بعد ذكاة أمه ثم مات لم يؤكل بذكاة أمه، وليس على إطلاقه بل فيه تفصيل محصله إن كان محقق الحياة أو مشكوكها وجبت ذكاته، وإن كان متوهما ندبت ذكاته فلو بادرنا إلى ذكاته فمات قبلها لم يؤكل في القسمين الأولين، ويؤكل ما كانت حياته متوهمة، والأصل في ذلك ما في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام حين سئل عن البقرة والناقة ينحرها أحدنا فيجد في بطنها جنينا أيأكله أم يلقيه؟: "كلوا إن شئتم ذكاة الجنين ذكاة أمه" روي برفع ذكاة في الموضعين من قاعدة حصر المبتدأ في الخبر أي ذكاته محصورة في ذكاة أمه فلا يحتاج لذكاة ثانية. وبرواية الرفع أخذ مالك والشافعي، ويروى بالنصب في ذكاة الثانية على المفعولية المطلقة والعامل محذوف تقديره أن يذكى ذكاة مثل ذكاة أمه، وأخذ بها أبو حنيفة فاشترط في حل أكله ذكاة مستقلة. قال بعض الفضلاء: والحذف خلاف الأصل ورواية النصب منكرة" تنبيه " علم من كلام المصنف حكم الخارج من بطن المذكى، وأما الخارج من جوف الحي أو من جوف الميت حتف أنفه فالحكم فيه أن الخارج ميتا لا يؤكل في الصورتين، وأما الخارج حيا فإن كان مثله يحيا فإنه يذكى ويؤكل، وإلا فلاقال خليل: وذكى الزلق إن حيي مثله ولم يعلم من كلامه أيضا حكم الخارج مع الجنين المأكول بذكاة أمه من نحو المشيمة ويقال لها السلا، وهي وعاء الولد فيها ثلاثة أقوال: الأكل

مطلقا عدمه مطلقا، ثالثها يتبع الولد في الأكل وعدمهولما كانت الذكاة عندنا لا تعمل في منفوذ المقتل وتعمل في غيره، وإن أيس من حياته قال: "والمنخنقة بحبل ونحوه والموقوذة" أي المضروبة "بعصا وشبهها" محجر "والمتردية" أي الساقطة من علو إلى أسفل"والنطيحة" أي التي نطحتها أخرى "وأكيلة السبع" ونحوه "إن بلغ ذلك" الفعل المتقدم من خنق أو غيره"منها" أي المنخنقة أو غيرها مما بعدها "في هذه الوجوه" الخمسة "مبلغا لا تعيش معه" بأن أنفذ مقتلها بأن قطع نخاعها أو نثر دماغها أو نثر حشوها "لم تؤكل بذكاة" هذا خبر المنخنقة، وما بعدها، وإنما لم تؤكل لشبهها بالميتة، والذكاة لا تعمل في الميتة، وأما لو كان يمكن أن تعيش مع الخنق ونحوه بأن لم يحصل بالفعل المذكور إنفاذ مقتل فإنها تؤكل، وبهذا التقرير يصح في الاستثناء الواقع في الآية أن يكون متصلا على معنى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] منها وذلك إن لم ينفذ مقتلها، ومنقطعا على معنى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] من غيرها، ويحمل على ما أنفذ مقتلها، وهذا هو التقرير الوجيه؛ لأنه لا يجزم بالانقطاع إلا بدعوى الملازمة بين هذه الأفعال، وإنفاذ المقاتل، والواقع خلاف ذلك أو بدعوى عدم صحة ذكاة المذكورات، ولو من غير إنفاذ مقتل، وهو خلاف المصنف الذي هو مذهب مالك" تنبيه " الحيوان الذي يراد ذكاته على قسمين: إما غير منفوذ المقاتل، وهذا تعمل فيه الذكاة، وإن كان ميئوسا من حياته بشرط أن يوجد فيه دليل الحياة بأن يتحرك حركة قوية عند الذبح، أو يشخب دمه؛ لأنه بمنزلة الحركة القوية، وأما سيلانه من غير شخب فلا يكفي في المريضة ويكفي في الصحيحةقال خليل: وأكل المذكى، وإن أيس من حياته، وقال: وكفى سيل دم إن صحت، وأما منفوذ المقاتل فلا تعمل فيه الذكاة عندنا لو تحرك حركة قوية أو شخب دمه، وإنفاذ المقتل يكون بقطع النخاع، وهو المخ الأبيض الذي في عظم الرقبة والصلب وقطع الأوداج وخرق المصران من أعلاه ونثر الحشوة من الجوف عند شقه بحيث لا يقدر على ردها، والحشوة ما حواه البطن من كبد وطحال وقلب، والمراد بنثرها تفرقتها بعد اتصالها لا خروجها من البطن مع اتصالها؛ لأنها إذا ردت إلى البطن يمكن أن يعيش وينثر الدماغ، وهو الدهن الذي تحوزه الجمجمة، وأما ثقب الكرش، وكذا شق القلب، ومثله الكبد، وكسر الرأس أو خرق خريطة الدماغ أو رض الأنثيين أو كسر عظم الصدر أو غير ذلك من المتالف فليس شيء من هذه

بمقتل، ولذلك أفتى ابن رزق بأكل ثور ذكي ووجد كرشه مثقوبا، ومما تعمل فيه الذكاة الحيوان الذي ينتفخ من أكل خلفة البرسيم مثلا، ويسقط ويحصل اليأس من حياته، والحيوان الذي يبلع شيئا ويقف في حلقه، ويحصل اليأس من حياته حيث لم يحصل له شيء مما ذكر إنفاذ مقتلولما قدم أن إباحة الحيوان البري مشروطة بذكاته لحرمة أكل الميتة بالإجماع بين أن محل حرمة أكلها في حالة الاختيار بقوله: "ولا بأس" أي يؤذن "للمضطر أن يأكل الميتة" غير الآدمي، ومثلها ضالة الإبل، وله أن يشرب كل مائعقال خليل: وللضرورة ما يسد غير آدمي وخمر. "و" يجوز له أن يأكل حتى "يشبع" على المعتمد خلافا لقول خليل: يقتصر على ما يسد الرمق أي يحفظ الحياة، والمراد بالاضطرار خوف الهلاك، ولو ظنا، ولا يشترط الوصول إلى حد الإشراف؛ لأنه قد لا ينتفع بالأكل بعده. "و" يجوز له "أن يتزود" منها حيث غلب على ظنه عدم وجود شيء مما يقدم على أكل الميتة في مدة سفره. "فإن استغنى عنها طرحها" وقيدنا بغير الآدمي؛ لأن النص عدم جوازه للمضطر، ولو كافرا مما لا حرمة له كالمرتد والحربي، والمحض إما؛ لأنه يؤذي أكله أو لمحض التعبد، وقولنا: ومثلها ضالة الإبل لقول ابن القاسم: ولا يقرب المضطر ضالة الإبل، وقيدنا المشروب بغير الخمر؛ لاستمرار حرمة الخمر لعدم إزالتها العطش بل ربما تزيده، وأما شربها للغصة فيجوز عند خليل ويحرم عند ابن عرفة" تنبيهات " الأول : ظاهر كلام المصنف كغيره جواز أكل الميتة للمضطر، ولو مسافرا عاصيا بسفره، وهو كذلك؛ لأن تلك الرخصة لا تتقيد بالسفرالثاني : محل جواز أكل الميتة للمضطر حيث لم يجد طعام الغير، وإلا قدمه عليها حيث لم تكن ضالة إبل، ولم يخف القطع فيما فيه القطع أو الضرب الشديد فيما لا قطع فيه، فإذا أكل من طعام الغير عند عدم خوف القطع أو الضرب فقيل: يقتصر على سد الرمق من غير شبع وتزود وعليه المواق، وقيل: يشبع، ولا يتزود وعليه الحطاب. وفي الذخيرة: إذا علم طول سفره فله أن يتزود من مال المسلم لوجوب مواساته في تلك الحالة، وإذا امتنع صاحب الطعام من مواساة المضطر، ولم يكن معه من الميتة ما يكفيه فله أن يقاتله عليه بعد إعلامه بالاضطرار وبالمقاتلة إن منعه فدم صاحب الطعام هدر، بخلاف المضطر، وحيث أكل طعام الغير لزمه قيمته، ولو لم تكن معه حيث كان ممنوعا من أكله بأن خاف القطع أو الضرب، وكان معه من الميتة ما يغنيه عنه، فإن لم يكن معه ميتة أكل منه، ولو خاف القطع لوجوب حفظ النفس،

ولصاحبه الثمن إن وجد، وأما لو كان معه ميتة، ولم يخف القطع فقيل لا ثمن عليه مطلقا، وقيل يلزمه إن وجد راجع الأجهوري في شرح خليلالثالث : الظاهر من تعبير المصنف بلا بأس إباحة أكل الميتة، وجرى عليه خليل، وقيل إنها من باب النجس المعفو عنه، وعلى الأول فهي طاهرة، وعلى الثاني هي باقية على نجاستها، هكذا قال البدر القرافي وفيه تأمل، إذ الضرورة ليست مما يرفع حكم الخبث، غايتها رفع الحرج عند التناول كما في المعفوات، فظهر أنها من النجس المعفو عنهولما كان يتوهم من حرمة أكل الميتة عند الاختيار حرمة الانتفاع بسائر أجزائها قال: "ولا بأس بالانتفاع بجلدها" أي الميتة، وهي كل ما مات بغير ذكاة شرعية "إذا دبغ" أي فعل به ما يزيل الريح والرطوبة ويحفظه من الاستحالة كما تحفظه الحياة. قال العلامة خليل: ورخص فيه مطلقا إلا من خنزير بعد دبغه في يابس، وماء، ومعنى الإطلاق كان مما يحل أكله أو يحرم؛ لأن اليابس لا يتحلل منه شيء، والماء له قوة الدفع عن نفسه فيخزن في الجلود نحو القمح والفول، ولا يطحن عليه لئلا ينفصل منه شيء، ويدخل في الانتفاع به لبسه والجلوس عليه في غير وقت الصلاة، ولا يجوز وضع نحو السمن والعسل والزيت فيه لضعف تلك المذكورات بخلاف الماء، ومفهوم دبغ أن غير المدبوغ لا يستعمل في شيء، ولو يابسا" تنبيهان " الأول : إذا علمت ما قررناه ظهر لك أن في كلام المصنف الإجمال من وجهين. أحدهما إطلاقه في الانتفاع مع تقييده باليابس والماء. والثاني شموله لجلد الخنزير والآدمي مع أنهما لا يجوز الانتفاع بهما مطلقا لقذارة الأول وشرف الثانيالثاني : إنما قصر الانتفاع بجلود الميتة على اليابس والماء لعدم طهارتها عندنا بالدباغ. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب" أي جلد "دبغ فقد طهر" 1 فالمراد الطهارة اللغوية بمعنى النظافة لا الشرعية، وقد أسلفنا ما يعرف به حقيقة الدباغ، ولا يشترط فيه إزالة الشعر على أظهر القولينولما كان جلد الميتة لا يطهر عندنا بالدباغ قال: "ولا يصلى عليه"، ولا فيه إلا أن لا يجد مريد الصلاة سواه فيجب عليه الستر به؛ لأن طهارة الخبث إنما تجب في الصلاة مع الذكر والقدرة، وأفهم فرض الكلام في الجلد أنه لو كان عليه شعر طويل بحيث يستر الجلد سترا قويا بحيث لا يظهر منه شيء وأيقن بطهارته فإنه تجوز الصلاة عليه، ولو جلد كلب أو خنزير؛ لأن
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في الجلود الميتة إذا دبغت، حديث "1728"، والنسائي، حديث "4241"، وانب ماجه، حديث "3609" وانظر: صحيح الجامع "2711".

الشعر عندنا طاهر فيشبه في تلك الحالة الحصير المتصل بأسفله نجاسة"و" كذا "لا يباع" جلد الميتة؛ لأنه يشترط في صحة البيع عندنا طهارة المعقود عليه ثمنا أو مثمنا، وكما لا يجوز بيعه لا تجوز إجارته، ولا دفعه قيمة الشيء، ويكون ذلك جرحة في شهادة الفاعل إذا لم يكن مدبوغا، وأما لو كان مدبوغا فلا يجرح للخلاف فيه بعد الدبغ، وعلى كل حال يرد البيع ما لم يفت، وإلا يرد الثمن وغرم المشتري القيمة على تقدير جواز بيعه، ولا تنافي بين حرمة البيع وغرم القيمة؛ لأنه لا تلازم بين حل البيع وغرم القيمة، بدليل كلب الصيد وأم الولد وجلد الأضحية فإنها لا تباع وعلى متلفها قيمتهاولما فرغ من الكلام على جلود الميتة شرع في الكلام على جلد المذكى فقال: "ولا بأس بالصلاة على جلود السباع" ونحوها من كل حيوان مكروه الأكل ليشمل الفيل والذئب والثعلب والضبع والهر، وبين شرط الجواز بقوله: "إذا ذكيت"، ولو بالعقر عند عدم القدرة على ذبحها سواء ذبحت لجلدها أو للحمها بناء على عدم تبعض الذكاة، وارتضاه البرهان اللقاني، وأما على ما ارتضاه الأجهوري. من أن المذهب أنها تتبعض فلا يصلى عليها إلا إذا ذكيت لأخذ جلدها، وأولى لو ذكيت لهما، ومفهوم السباع أمران: أحدهما جلد مباح الأكل بعد ذكاته تجوز الصلاة عليه بالأولى، وثانيهما محرم الأكل يذكى لأكله عند الضرورة، ولا يجوز الصلاة على جلده؛ لأن محرم الأكل عندنا لا يطهر بتذكيته. قال خليل عاطفا على الطاهر: وما ذكي وجزؤه إلا محرم الأكل. "و" كما لا بأس بالصلاة على جلود السباع إذا ذكيت "لا بأس ببيعها" ولو كانت على ظهور السباع قبل ذكاتها، بخلاف جلود الغنم فإنه لا يجوز بيعها على ظهورها على المعتمد، ويصح عطف بيعها على الصلاة، ويكون الضمير للسباع لا لجلودها، ويقيد بما إذا كان شراؤها لجلدها أو عظمها قال خليل: وجاز هو وسبع للجلد، وأما بيعها للحمها أو للحمها وجلدها فمكروه، وإذا ذكيت لجلدها فقط فيؤكل لحمها على عدم تبعيض الذكاةولما كان الشعر عندنا طاهرا، ولو من ميتة قال: "و" يجوز أن "ينتفع بصوف الميتة وشعرها" المنزوع منها بعد الموت. "و" كذا "ما" أي الصوف والشعر الذي "ينزع منها في حال الحياة" قال خليل عاطفا على الطاهر: وصوف ووبر وزغب ريش وشعر، ولو من خنزير، وإن جزت، والمراد بالجز ما قابل النتف، والحكم بطهارة تلك المذكورات من الميتة لا ينافي وجوب بيان حالها عند البيع إن جزت من الميتة لضعف قوة المأخوذ من الميتة دون غيرها. "وأحب إلينا" معاشر المالكية إذا شككنا في حل الشعر أو الصوف بعد الجز "أن يغسل"، ولو جز من حي،

وأما عند تحقق النجاسة فلا شك في وجوب غسله، وعند تحقق الطهارة الندب فالصور ثلاث في المجزوز، وأما المنتوف من غير المذكى فيجب أن يجز ما تعلق به من أجزاء الميتة. "و" مفهوم الصوف والشعر أنه "لا ينتفع بريشها" أي بقصبة الريش "ولا بقرنها وأظلافها وأنيابها" لنجاستهاقال خليل عاطفا على الأعيان النجسة: وما أبين من حي وميت من قرن وعظم وظلف وعاج وظفر وقصبة ريش، ومفهوم من حي، وميت أن المبان عن المذكى ذكاة شرعية من هذه المذكورات طاهر؛ لأنه جزء طاهر" تنبيه " عبر المصنف بالانتفاع وسكت عن الطهارة لفهمها من حل الانتفاع في حال الاختيار؛ لأن نجس العين لا ينتفع بهقال خليل: وينتفع بمتنجس لا نجس في غير مسجد وآدمي إلا الجلد بعد دبغه على ما مر فينتفع به مع نجاسته فهو مستثنى، وعكس مع الأشياء النجسة فسلب الانتفاع بقوله: ولا ينتفع بريشها لفهم نجاستها من حرمة الانتفاع بهاولما كان قوله: وأنيابها شاملا لناب الفيل مع أن فيه خلافا قال: "وكره الانتفاع بأنياب الفيل وقد اختلف في ذلك" المذكور من الكراهة فبعضهم حمل الكراهة على التنزيه، وبعضهم حملها على التحريم، وصريح المدونة القريب من كلام المصنف أن الكلام في الباب المأخوذ من ميتة؛ لأن لفظ المدونة: وأكره الأدهان في أنياب الفيل والتمشط بها والتجارة فيها؛ لأنها ميتة فتحمل الكراهة على التحريم، ومثل ناب الميتة المنفصل من الفيل حال حياته، وأما ناب الفيل المذكى، ولو بالعقر فإنه مكروه والكراهة على التنزيه، ووقع الخلاف بين الشيوخ في نجاسة الزيت الموضوع في إناء العاج، والذي تحرر من كلام أهل المذهب أنه إن كان لا يتحلل منه شيء يقينا فإنه باق على طهارته كعظم الحمار البالي فإنه لا ينجس ما وقع فيه، وإن كان يمكن أن يتحلل منه شيء فلا شك في نجاسته، وقس على ذلك سائر الأعيان النجسة الجافةثم شرع يتكلم في حكم الطعام إذا حلت فيه نجاسة بقوله: "وما ماتت فيه فأرة" بالهمز على الصواب "من سمن أو زيت أو عسل ذائب" راجع للسمن والزيت، وكل مائع من غيرها كذلك. "طرح، ولم يؤكل" لنجاسة الطعام عندنا بمجرد الملاقاة قال خليل: ينجس كثير طعام مائع بنجس قل كجامد إن أمكن السريان، وإلا فبحسبه، وللماء المضاف حكم الطعام في التنجيس بمجرد ملاقاة النجاسة التي يمكن تحلل شيء منها، ولا يشترط التغير إلا في الماء المطلق؛

لقوله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" 1، ولأن الماء له قوة الدفع عن نفسهومفهوم ماتت أنها لو أخرجت حية لا يطرح ويؤكل لطهارة الحي إلا أن يكون على جسدها نجاسة، ومفهوم فأرة أنه لو مات فيه شيء مما لا نفس له سائلة كالعقرب والخنفساء فلا يطرح مطلقا، بل إن أمكن إزالته أزيل، وأكل نحو السمن أو غيره، وأما لو تعذر تمييزه فإن كان أقل من الطعام أكل مع الطعام، وإن ساوى الطعام فقولان المعتمد منهما حرمة أكله؛ لأن نحو الخنفس مما لا نفس له سائلة لا يحل أكله إلا بذكاة، وهي مفقودة هنا، واغتفر أكل القليل تبعا للطعام كسوس الفول والعدس والتمر، وما ورد من أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يفتشه فلإعافة النفس لا لحرمة أكله، وإنما وجب طرحه عند الإمكان، وإن كان طاهرا لما تقرر من أنه لا يلزم من طهارة ميتة الحيوان البري الذي لا نفس له سائلة جواز أكله من غير ذكاة كما قدمنا، وأما حيوان البحر فلا يفتقر إلى ذكاة، ولما قال: طرح، ولم يؤكل علم منه أن المحرم أكله فقط فلذا قال: "ولا بأس" أي يجوز "أن يستصبح" أي يوقد "بالزيت وشبهه" مما لا يقبل التطهير "في غير المساجد" كالبيوت، ومثلها المساجد حيث كان الدخان يخرج عنها. "و" يجب على المستصبح به أن "يتحفظ منه؛ لأنه نجس" أي متنجس، ولذا لا يوقد به المسجد حيث كان ينعكس الدخان فيه، وكذا لا يبنى بمونة عجنت بزيت متنجس، ولا بطوب متنجس، ولا يسقف بخشب متنجس؛ لأن المساجد يجب تنزيهها عن النجاسات، فإن وقع وبني المسجد بطين أو مونة مخلوطة بنجاسة فإنه يهدم، وإنما تلبس الأشياء المتنجسة بشيء طاهرقال خليل: وينتفع بمتنجس لا نجس في غير مسجد وآدمي فيعمل الزيت المتنجس صابونا، وتغسل به الثياب وتغسل بعده بمطلق، ويدهن به الحبل والعجلة والطاحون والدلاء، ويعلف العسل للنحل، ويطعم الطعام للدواب، ولو مأكولة اللحم، واقتصر المصنف على المساجد؛
ـــــــ
1 لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن أخرج أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، حديث "66"، والترمذي، حديث "66"، والنسائي، حديث "326" بلفظ: "الماء طهور لا ينجسه شيء" وقد روى بلفظ: "أنزل الله الماء طهوراً" و"جعل الله الماء طهوراً" كما في سنن الدار قطني "1/29"، حديث "8" وسنن البيهقي الكبرى "1/259"، حديث "1155" والمصنف لعبد الرزاق "1/61" حديث "181"، والمصنف لابن أبي شيبة "1/132"، حديث "1518". أما باقي الرواية: "إلا ما غير...." فأخرجها الدارقطني في سننه "1/28" حديث "2"، والطبراني في الأوسط "1/226" حديث "744" والبيهقي في الكبرى "1/260" حديث "1160"، وقد تقدم برقم "155".

لأن الآدمي أحرى في عدم جواز أكله أو ادهانه بالزيت المتنجس، ويفهم من نجاسة ما ذكر عدم حل بيعهقال خليل: وشرط للمعقود عليه طهارة لا كزبل وزيت تنجس؛ لعدم قبولها الطهارة، فأشبهت تلك المذكورات ما نجاسته أصلية، وكذلك يجوز بيع الثوب المتنجس مع وجوب بيانه، ولو كان المشتري غير مصل، ولو لم يفسده الغسل لكراهة النفوس، ذلك لا فرق بين الجديد والملبوس، وفهم من فرض المسألة في الزيت، وما أشبهه من كل ما أصله طاهر وتطرأ عليه النجاسة، أن الأعيان النجسة لا يحل الانتفاع بها لا في مسجد، ولا غيره إلا الميتة للكلاب أو الإيقاد بها أو بعظمها على طوب لحرقه، أو لتخليص نحو الفضة أو دهن نحو الطاحون أو الساقية بشحم الميتة، أو جعل العذرة في الماء لسقي الزرع أو الشجر، أو التبخير بلحم ميتة السبع إذا لم يعلق دخانها بالثياب، والاصطياد بها حيث كانت غير خمر، فإن هذه المذكورات جائزة، وأما الخمر فلا يحل الانتفاع به في شيء، ويجب إراقة الخمر، ولو قصد الإراقة فتح بالوعة خلافا لبحث الحطاب، راجع شرح الأجهوري على خليل"و" مفهوم السمن أو العسل أو الزيت الذائب أنه "إن كان" الذي ماتت فيه الفأرة "جامدا طرحت" منه "و" طرح "ما حولها" مما يظن فيه سريان النجاسة "وأكل" أو بيع "ما بقي" منه "قال سحنون"، ومحل الاكتفاء بطرح ما حولها "إلا أن يطول مقامها فيه" بحيث يظن السريان بجميعه "فإنه يطرح كله" قال خليل: وينجس كثير طعام مائع بنجس قل كجامد إن أمكن السريان، وإلا فبحسبه، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامدا فألقوها، وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه" 1. ومن ذلك مسألة ابن القاسم، وهي: من فرغ عشر قلال سمن في زقاق ثم وجد بقلة منها فأرة يابسة لا يدري في أي الزقاق فرغها حرم أكل جميع الزقاق وبيعها، وهو كذلك على المشهور، وقول خليل: ينجس مثله لمتنجس ولابن عرفة مسألة وهي: من أدخل يده في آنية زيت أكثر من ثلاثة ثم بان بأولها فأرة ميتة فالثلاثة نجسة وفي الرابع فما فوقه خلاف، نقل ابن الحارث عن ابن عبد الحكم قائلا: ولو كانت مائة وقول أصبغ. ا هـ." تنبيهان " الأول : مثل موت الفأرة في الطعام سقوط شيء من أنواع النجاسة فيه، ولو كانت
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه أبو داود، كتاب الأطعمة، باب في الفأرة تقع في السمن، حديث "3842" وضعفه الألباني،ضعيف الجامع "725".

من أنواع ما يعفى عنه كيسير الدم، وظاهر المصنف كخليل، ولو كانت الفأرة يعسر الاحتراز منها، وهو كذلك، وأما فتوى ابن عرفة بأكل طعام طبخ فيه روث الفأرة إذا كانت كثيرة ويعسر الاحتراز منها بحيث يغلب سقوط روثها فيه، فأجاب عنه البرزلي بأنه إما للضرورة كفتوى سحنون في العفو عن بول الدواب على الزرع في حال درسها، أو للخلاف الواقع في طهارة فضلتهاالثاني : مثل الزيت في صيرورته نجسا بمجرد سقوط مائع النجاسة فيه، وعدم قبوله التطهير اللحم المطبوخ بالنجس، والبيض المسلوق به والزيتون يملح بهاقال خليل: ولا يطهر زيت خولط، ولحم طبخ وزيتون ملح وبيض سلق بنجس وفخار بغواص، ومثل سلق البيض بالماء النجس أو المتنجس وجود واحدة مذرة فيه بعد السلق، ومثل الزيتون المملح بالنجاسة الجبن المتحولم مع النجاسة، ومثل طبخ اللحم مصاحبا للنجاسة وضعه نيا فيها بحيث يظن سريانها فيهومفهوم ما ذكر أن سقوط النجاسة على اللحم بعد تناهي طبخه، أو على الزيتون بعد تناهي تمليحه، أو على الجبن بعد تحولمه لا يكون حكمه كذلك يل يغسل ويؤكل، وإن كان اللحم في طبيخ تنجس الطبيخ ويغسل اللحم كما يتنجس الزيت أو مش الجبن، ويغسل الزيتون والجبنة غير القريشة، كما أن الرأس والأكارع إذا شويت بدمها على النار لا تنجس بل تغتسل وتؤكل على المشهور، وأما وضع الفراخ في الماء السخن أو في محل الخبز بعد بلها وبعد ذبحها وقبل غسل دمها ليسهل نتف ريشها فلا ينجسها فيكفي غسلها قبل طبخها، راجع الأجهوري في شرح خليلثم شرع في الكلام على حكم تناول طعام أهل الكتاب بقوله: "ولا بأس بأكل طعام أهل الكتاب" والمعنى أنه يجوز لنا معاشر المسلمين أكل ذبيحة أهل الكتاب وهي المرادة بطعامهموفي بعض النسخ: لا بأس بطعام أهل الكتاب وذبائحهم، وعليه يكون عطف ذبائحهم على طعامهم عطف تفسير، وأهل الكتاب اليهود والنصارى الصغير منهم والكبير والحر والعبد لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] الآيةقال الأجهوري: حملوا طعامهم على ذبائحهم فلا بأس هنا للإباحة، ولا بد للجواز من شروط أشار إليها خليل بقوله: إن ذبح لنفسه مستحلة، وإن أكل الميتة إن لم يغب عليه بأن يذبحه بحضرة مسلم يعرف صفة الذكاة، وبقي شرط آخر، وهو أن لا يذبحه باسم نحو الصنم فإن ذبحه باسم الصنم فقط حرم علينا أكله، كما يحرم علينا أكل ما ذبحه، وهو محرم عليه في

شرعنا كذوات الظفر، بخلاف ما لو ذبح ما هو حلال له بشرعنا، وإن حرم عليه في شرعه فقط كالطريفة فلا يحرم علينا أكله بل يكره فقط، فجملة الشروط ثلاثة: أن يذبح ما هو ملك له، وأن يكون مذبوحه حلالا له بشرعنا، وأن لا يذبحه باسم الصنم، وتقدم أنه لا يشترط في إباحة أكل ما ذكاه مع الشروط نية، ولا تسمية، وأما لو استنابه مسلم وذبح له فحكى فيه خليل قولين حيث قال: وفي ذبح كتابي لمسلم قولان"وكره" للمسلم "أكل شحوم" ذبائح "اليهود منهم" أي من أهل الكتاب مما هو محرم عليهم بشرعنا، كشحم البقر والغنم الخالص كالثرب بالمثلثة الشحم الرقيق الذي يغشاه الكرش والأمعاء، ولما خشي من حمل الكراهة على التحريم قال: "من غير تحريم"
فإن قيل: الشحم المذكور محرم على اليهود بشرعنا فلم لم يكن حراما؟ فالجواب أنه جزء مذكى حلال له لكن لحرمته عليه كره لنا أكله، وأيضا لما لم يقصد الشحم بالتذكية أشبه الدم الذي لم يقصده المسلم"و" مفهوم أهل الكتاب أنه "لا يؤكل ما ذكاه المجوسي" وغيره ممن ليس من أهل الكتاب، ولو ذكى ما هو ملك له، اللهم إلا أن يتنصر أو يتهود أو يأمره المسلم بالذبح ويقول له قل: بسم الله ويقولها فإن ذكاته تؤكل من غير خلاف قاله ابن عمر، فالحاصل أنه يحرم علينا أكل ما ذكاه المجوسي سواء ذكى ما يملكه أو ذبح ملك مسلم نيابة عنه من غير خلاف، بخلاف الكتابي فإنه يحل لنا أكل مما ذكاه لنفسه بالشروط المتقدمة. وفي جواز أكل ما ذكاه لمسلم نيابة عنه خلاف، ولعله ما لم يأمره المسلم بالتسمية ويسمي الله فيحل أكله بالأولى من أكل ما ذكاه المجوسي مع التسمية على ما قاله ابن عمر، وربما يبحث في كلام العلامة ابن عمر بمفهوم آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فإن المراد ذبائحهم، وبصريح المصنف وخليل، ولا يؤكل ما ذكاه المجوسي وباشتراطهم في صحة الذكاة كون المذكي ممن توطأ نساؤه، ولو كان مجرد التسمية كاف في جواز أكل مذكى المجوسي لجعلت الفقهاء الشرط تسمية الذابح فقط، ولو كان مجوسيا وحرر المسألة"تنبيه" مثل المجوسي في عدم أكل ذبيحته من لا تمييز عنده لصبى أو جنون أو سكر، ومثلهم المرتد، ولو كان صبيا، والكتابي إذا ذبح شيئا باسم الصنم كما أشرنا له فيما سبق"و" أما "ما كان مما ليس فيه ذكاة من طعامهم" كالخبز والعسل والزيت "فليس بحرام" والضمير في طعامهم للمجوسيين وغيرهم بالأولى، فيجوز لنا أكل خبز المجوسيين وزيتهم

حيث تيقنت طهارته، لا إن شك في طهارته فيحرم علينا أكله حيث غلب مخالطته للنجاسة كجبنهم؛ لأن ابن رشد حمل الكراهة الواقعة في العتبية على التحريم؛ لما فيه من المنفعة المأخوذة من ذبائحهم، حتى قال خليل في توضيحه المحققون على تحريمه حتى قال: لا ينبغي الشراء من حانوت فيه جبنهم لتنجيسه الميزان ويد بائعهولما فرغ من الكلام على ذكاة الحيوان الإنسي، ومثله الوحشي المقدور عليه، شرع في الكلام على الوحشي قبل القدرة عليه، وهو الصيد، وحقيقته بالمعنى المصدري كما قال ابن عرفة أخذ مباح أكله غير مقدور عليه من وحش طير أو بر أو حيوان بحر بقصد أي نية الاصطياد، وأما بالمعنى الاسمي فهو ما أخذ من وحش طير أو بر إلخ، وحكمه الأصلي الجواز، وقد يعرض له الوجوب والحرمة والكراهة والندب فأحكامه خمسة، فالمكروه ما أشار إليه بقوله: "والصيد للهو" بقصد الذكاة "مكروه" كراهة تنزيه. "و" أما حكم "الصيد لغير اللهو"، ولغير ما يقتضي الوجوب أو الندب أو الحرمة فهو "مباح" وأما لو لم يجد ما ينفقه على نفسه أو غيره ممن تلزمه نفقته فالوجوب، وأما لقصد التصدق بذاته أو ثمنه أو التوسيع على نفسه أو عياله فالندب، وأما لقصد حبسه للفرجة عليه فالحرمة دل على حكمه الأصلي الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فالكتاب: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] والسنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك" 1، وإنما قلت بقصد الذكاة للاحتراز عن الاصطياد لا بنية الذكاة فإنه حرامقال خليل: وحرم اصطياد مأكول لا بنية الذكاة، وللصيد أركان وشروط، فأركانه ثلاثة: صائد، ومصيد، ومصيد به، وشرط الصائد الإسلام والتمييز فلا يؤكل ما صاده غير المسلم، ولو كتابيا، ولا ما صاده غير المميز إلا أن يدركه غير منفوذ المقاتل فيذكيه المسلم، ولو كان الصائد له مجوسيا، وشرط الصيد أن يكون وحشيا مرئيا للصائد، أو يكون في مكان محصور كغار أو غيضة، وأن يكون غير مقدور عليه جملة أو في القدرة عليه مشقة، ككونه في شاهق جبل أو على شجرة، ولا يتوصل إليه إلا بأمر يخاف عليه من العطب، أو كان في جزيرة كبيرة فلا يؤكل الإنسي بالعقر، ولو في حال العجز عنه كفحل الجاموس عند كبره، ولا الوحشي
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان وكان عطاء-، حديث "175"، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة، حديث "1929".

المقدور عليه من غير مشقة فادحة، وشرط المصيد به أن يكون سلاحا محدودا، وإن كان غير حديد، أو حيوانا معلما، وإن كان كلبا، وتعليمه بأن يكون بحيث إذا أرسل أطاع، وإذا زجر انزجر، إلا أن يكون طيرا فيكفي فيه الإطاعة عند إرادة إرساله، ولا يشترط قبوله الانزجار بعد الإرسال كما قاله بعض الشيوخ، فأشار خليل إلى تلك الشروط المتقدمة عاطفا على الذكاة بمعنى الذبح أو العقر بقوله: وجرح مسلم مميز وحشيا، وإن تأنس عجز عنه إلا بعسر لا نعم شرد أو تردى بكهوة بسلاح محدد أو حيوان علموأشار المصنف إلى ما يفيد شروط المصيد به بقوله: "وكل" أي جميع "ما قتله كلبك المعلم" قد مر معنى التعليم "أو" قتله "بازك المعلم فجائز أكله" فاعل جائز الواقع خبر كل؛ لأنه مبتدأ، وقرن الخبر هنا بالفاء لشبه المبتدأ هنا بالشرط في العموم، وما يقال: الخبر الذي يقرن بالفاء يكون جملة، وما هنا مفرد فالجواب أن يقال: المفرد هنا شبيه بالجملة؛ لأنه وصف مع مرفوعه، والمعنى أن جميع ما مات بجرح الحيوان المعلم أو السلاح المحدد بعد النية والتسمية ووجود ما يشترط من الشروط يحل أكله، ولو تعدد حيث نوى الجميع، ويشترط في صيد الحيوان "إذا أرسلته" أي الجارح "عليه" وذهب إليه بإرسالك من غير ظهور ترك. قال: خليل: بإرسال من يده بلا ظهور ترك، ولو تعدد مصيده، وقولنا حيث نوى الجميع احترازا مما إذا نوى معينا، فلا يؤكل إلا ذلك المعين إذا قتله أولا وعلم أنه الأول، فإن لم يعلم الأول أو قتل غيره قبله فلا يؤكل هو ولا غيره، وأما لو رأى جماعة ونوى واحدا لا بعينه فلا يؤكل إلا الأول حيث علم أنه الأول، ومفهوم قوله: إذا أرسلته أنك لو لم ترسله لا يؤكل ما جرحه أو أرسله، لكن لم يذهب بإرساله بأن أظهر الترك بأن وجد جيفة في الطريق فاشتغل بالأكل منها ثم ذهب إلى الصيد فإنه لا يؤكلقال خليل: بإرساله من يده بلا ظهور ترك ثم قال في محترزه لا إن أغرى في الوسط، وإنما قلنا يجرحه للاحتراز عما لو مات بمجرد العض أو الصدم من غير جرح فإنه لا يؤكل"و" كما يجوز أكل ما قتله الكلب أو الباز بالشروط المذكورة "كذلك" يجوز أكل "ما أنفذت الجوارح" أو الكلاب شيئا من "مقاتله قبل قدرتك على ذكاته"، ولو أدركته حيا حيث لم تتراخ في اتباعه إلا أن يتحقق أنه لم يلحقه قبل إنفاذها، ولو لم يتراخ فإنه يؤكل، لكن يستحب الإجهاز على ما أدركه حيا بعد إنفاذ شيء من مقاتله. قال خليل بالعطف على المندوب: وفري ودجي صيد أنفذ مقتله، وأشار إلى مفهوم قوله: أنفذت الجوارح بقوله: "وما أدركته" أو أدركه

غيرك ممن تصح ذكاته وتمكن من ذكاته "قبل إنفاذها" أي الجوارح "لمقاتله لم يؤكل إلا بذكاة" حيث تمكن من تخليصه من الكلب أو الباز قبل قتله أو إنفاذ مقتله؛ لأنه بعد التمكن من تخليصه صار من المقدور على ذكاته، فلو تركه حتى قتله الجارح لم يؤكلقال خليل: أو ينهشه ما قدر على خلاصه منه، وقولنا: أو أدركه غيرك إشارة إلى أن كل من مر على صيد قبل إنفاذ الجارح شيئا من مقاتله يجب عليه تذكيته، فإن تركها مع التمكن منها ضمن قيمته، قال خليل: وضمن مار أمكنته ذكاته وترك؛ لأنه فوته على ربه، فيضمن قيمته مجروحا للصائد لحرمة أكله لما عرفت من أن مرور غير ربه بمنزلة مرور ربه، وربه إذا مر به قبل إنفاذ شيء من مقاتله، وتركه حتى قتله الجارح يصير ميتةولما فرغ من المصيد به الحيوان شرع في السلاح المحدد بقوله: "وكل" أي جميع "ما صدته بسهمك أو رمحك" أو غيرهما من كل محدد، ولو غير حديد وقتله السهم أو الرمح أو جرحه، ومات قبل قدرتك على ذكاته "فكله" حيث نويت وسميت عند رمي السهم أو الرمح "فإن أدركت ذكاته" قبل إنفاذ شيء من مقاتله "فذكه" وجوبا، وأما إن أدركته حيا بعد إنفاذ شيء من مقاتله ندب لك تذكيته كما قدمنا. "و" مفهوم أدركت ذكاته "إن مات بنفسه" بأن أدركته ميتا "فكله إذا قتله سهمك" أو رمحك "ما لم يبت عنك"، وإلا حرم عليك أكله، ولو بات عنك بعض الليل، ولو وجدت السهم في مقاتله مع إنفاذها، ولو مع الجد في اتباعه، ولا مفهوم للسهم في عدم جواز أكل ما بات عنك. قال في المدونة: إذا بات الصيد عن الصائد ووجده منفوذ المقاتل لم يؤكل، والكلب والسهم في ذلك سواء، ووجه المنع أن الليل تكثر فيه الهوام بخلاف النهار؛ لأن الصيد يمنع نفسه فيه، وجاء في الحديث: "أن رجلا يصيد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رميته من الليل فأعياني ووجدت سهمي فيه من الغد وعرفت سهمي، فقال: " الليل خلق من خلق الله عظيم لعله أعانك عليه شيء أنفذها عنك" 1وحديث ابن عباس: "كل ما أصميت ودع ما أنميت"2 والإصماء ما حضرت موته،
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه البيهقي في الكبرى "9/241" حديث "18678"، وابن أبي شيبة في مصنفه "4/242" حديث "19678"، وأبو داود في المراسيل "1/281" حديث "383" وانظر: ضعيف الجامع "4969"2 ضعيف: اخرجه البيهقي في الكبرى "9/241" حديث "18676"، وانب أبي شيبة في مصنفه "4/242" حديث "19681"، عبد الرزاق "4/459" حديث "8453"، والطبراني في الكبير "12/27" حديث "12370" وانظر: ضعيف الجامع "4196".

والإنماء ما غاب عنك موته، وهذا التعليل يفيد أنه لو رماه نهارا، وغاب عنه يوما كاملا ووجده ميتا بجرح السهم أنه يؤكل، وهو كذلك حيث لم يتراخ في اتباعه، ثم إن ما ذكره المصنف كخليل من حرمة أكل ما بات هو قول ابن القاسم، ونسبه بعضهم فيه إلى الوهم ورجح القول بأكله حيث وجد منفوذ المقاتل، ومحل الخلاف ما لم ير الصائد إنفاذ السهم أو الجارح إنفاذ مقتله قبل البيات، وإلا أكل اتفاقا، وما تقدم عن المدونة من مساواة الجارح للسهم في الأحكام هو قول ابن القاسم، ومقابله ما أشار إليه بقوله: "وقيل" أي وقال ابن المواز "إنما حرمة ذلك" أي أكل ما مات "فيم بات عنك مما قتله الجوارح وأما" الصيد الذي يضرب "بالسهم فيوجد في مقاتله فلا بأس بأكله" أي يجوز أكله، ووجه تفرقة ابن المواز أن السهم إذا وجد في مقاتله وقد أنفذها يغلب معه الظن بأن الموت للصيد من السهم، بخلاف الجارح كالكلب أو الصقر يجرح الصيد ويبيت عند ربه ويوجد الصيد منفصلا عن الجارح" تنبيهات " الأول : قيدنا السهم والرمح بالمحدد للاحتراز عن غير المحدد، كالبندق والشرك والشبكة والعصا التي لا حد لها، فلا يؤكل ما صيد بشيء من هذه المذكورات، ولو وجد حيا بعد إنفاذ مقتله، وأما لو أدرك حيا قبل إنفاذ شيء من مقاتله فإنه يؤكل بالذكاة، وما قيل من أن الذي يدرك حيا، ولو بعد إنفاذ مقتله بالبندق مثلا تعمل فيه الذكاة ليس مذهبا لناالثاني : قد قدمنا أنه لا بد في أكل الصيد أن يجرحه الكلب أو السهم، ولا يكفي موته بمجرد العض، والمراد بالجرح ما يشمل قطع الرجل أو الأذن. وفي كلام الأجهوري في شرح خليل: المراد بالجرح سيلان الدم، وإن لم يشق الجلد، وحكى قولين في شق الجلد من غير سيلان دم، وأقول: مقابلتهم للجرح بالصدم والعض صريحة في أن شق الجلد يكفي في جواز أكل الصيد، وإن لم يسل معه دم وحرره، بل شق الجلد أولى من سيلان الدم من غير شقالثالث : لم يتكلم المصنف على حكم أكل ما ينفصل من الصيد عند الاصطياد وفيه تفصيل محصله: إن انفصل شيء وحصل به إنفاذ مقتل أكل سواء كان نصفا أو أقل، وإن لم يحصل به إنفاذ مقتل أكل إن كان نصفا لا أقل. قال خليل. ودون نصف أبين ميتة إلا الرأسولما قدمنا أن الصيد مختص بالوحشي شرع هنا في بيان محترزه بقوله: "ولا تؤكل" الذات "الإنسية" أصالة، وإن توحشت "بما يؤكل به الصيد" من الجرح قال خليل: لا نعم شرد أو تردى بكهوة فلا يؤكل الفحل الجاموس الذي نفر، ولا الجمل الشارد، ومثل النعم الحيوان الوحشي إذا تأنس أو صار مقدورا عليه كالغزالة وبقر الوحش يصادان من غير جرح فلا يؤكل

شيء منهما بالعقر، وإنما يؤكلان بما يؤكل به الحيوان الإنسي، وهو الذبح" تنبيه " ليس من الإنسي الذي يذبح نحو الجراد بل ذكاته عند العجز عنه أو القدرة عليه ما يعجل موته، بل سائر حشرات الأرض ذكاتها ما يعجل موتهاقال خليل: وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به، ولو لم يعجل كقطع جناح أو إلقاء في نار، فمراد المصنف بالإنسي بهيمة الأنعام، وما شابهها من نحو الدجاج، والحاصل أن الذكاة على أربعة أقسام: ذبح ونحر وعقر، وما يعجل الموت وقد بيناها فيما سبق أتم بيانثم شرع في بقية ما ترجم له بقوله: "والعقيقة"1 في اللغة القطع فهي فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأن المراد بها الذبيحة التي تفعل في سابع ولادة المولود، وعرفها ابن عرفة بقوله: ما تقرب بذكاته من جذع ضأن أو ثني سائر النعم سليمين من بين عيب مشروطا بكونه في نهار سابع ولادة آدمي حي عق عنه فليست قاصرة على الغنم خلافا لابن شعبان، وبين حكمها بقوله: "سنة مستحبة" مراده أنها سنة خفيفة غير مؤكدة أو أراد بالسنة الطريقة فلا ينافي الوصف بمستحبةفإن قيل: المستحب فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما أن المسنون فعله أيضا فما وجه التفرقة؟ فالجواب ما تقدم من أن التفرقة اصطلاح فقهي لمعظم الفقهاء من أن الذي فعله وداوم عليه وأظهره في جماعة يعبرون عنه بالسنة، وما سواه مما لم يظهره في جماعة إن حض على فعله يسمى رغيبة،
ـــــــ
1 العقيقة : بفتح العين المهملة، وهو اسم لما يذبح عن المولود. واختلف في اشتقاقها، فقال أبو عبيد والأصمعي: أصلها الشعر الذي يخرج على رأس المولود، وتبعه الزمخشري وغيره. وسميت الشاة التي تذبح عنه في تلك الحالة عقيقة؛ لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبحوعن أحمد أنها مأخوذة من العق وهو الشق والقطع، ورجحه ابن عبد البر وطائفةقال الخطابي: العيقة اسم الشاة المذبوحة عن الولد، سميت بذلك لأنها تعق مذابحها أي تشق وتقطع. قال: وقيل هي الشعر الذي يحلقوقال ابن فارس: الشاة التي تذبح والشعر كل منها يسمى عقيقة، يقال عق يعق إذا حلق عن ابنه عقيقته وذبح للمساكين شاةوقال القزاز : أصل العق الشق، فكأنها قيل لها عقيقة بمعنى معقوقة، ويسمى شعر المولود عقيقة باسم ما يعق عنه، وقيل باسم المكان الذي انعق عنه فيه، وكل مولود من البهائم فشعره عقيقة، فإذا سقط وبر البيعر ذهب عقه. ويقال: أعقت الحامل نبتت عقيقة ولدها في بطنهاقلت: ومما ورد في تسمية الشاة عقيقة ما أخرجه البزار من طريق عطاء عن ابن عباس رفعه – للغلام عقيقتان وللجارية عقيقة – وقال: لا نعلمه بهذا إلا بهذا الإسناد اهـ. ووقع في عدة أحاديث – عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة-. فتح الباري "9/586".

وما لم يحض على فعله يسمى مستحبا، ومقابل المعظم من الفقهاء يسمون غير الواجب بالسنة، وهم البغداديون؛ لأن الجميع فعله عليه الصلاة والسلاموالذي ارتضاه خليل أن العقيقة مندوبة فإنه قال: وندب ذبح واحدة تجزئ ضحية في سابع الولادة نهارا، والدليل على مشروعيتها ما رواه أحمد بسند جيد أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كل غلام مرهون بعقيقته" 1 وبين زمنها بقوله: "ويعق" بالبناء للمجهول "عن المولود يوم سابعه" فلا يعق عنه قبل السابع اتفاقا، ولا بعده على المشهور لسقوطها بمضي زمنها كالضحية، بخلاف صدقة الفطر لا تسقط بمضي زمنها؛ لأنها واجبة بخلافهما، وإطلاق المولود يشمل الذكر والأنثى والخنثى والحر والعبد، لكن ابن العبد يعق عنه أبوه بإذن سيده، وظاهر المصنف كالحديث أن العقيقة لا تتعدد، بل الواحدة كافية في كل مولود الذكر كالأنثى، خلافا للشافعي وتلميذه ابن حنبل حيث قال: يعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة، لنا ما رواه أبو داود بسند صحيح: "أنه عليه الصلاة والسلام عق عن الحسن بكبش، وكذا عن الحسين"2 ومال ابن حبيب لما قاله الشافعي وأحمد؛ لأنه روي عن عائشة فهو حسن لمن فعلهحتى قال ابن رشد: من عمل بما قاله الشافعي وأحمد ما أخطأ، ولقد أصاب لخبر الترمذي وصححه: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعق عن الغلام بشاتين متكافئتين وعن الجارية بشاة"3، ولم نطلع لمشهور مذهبنا على جواب، ويمكن الجواب بأن أمره صلى الله عليه وسلم بالعق عن الغلام بشاتين إنما هو من باب الزيادة في القربة لا لتوقف حصول الندب عليه، بدليل اقتصاره على شاة حين عق عن الحسن والحسين" تنبيه " بنى يعق للمجهول، ولم يبين الفاعل للعقيقة وبينه غيره بقوله: والمخاطب بها الأب، ولو كان للمولود مال، وأما اليتيم فعقيقته من ماله، ولا يخاطب بها الأخ، ولا العم، والظاهر أن الأب إذا لم يكن له مال لا يسلفها؛ لأنها ليست بأوكد من الضحية، ثم بين ما يجزئ فيها بقوله: "بشاة" أو ثني بقر أو إبل، ويشترط أن تكون الشاة أو الثني من سائر النعم. "مثل ما ذكرنا من سن الأضحية وصفتها" لما تقدم من أن الهدايا والضحايا والنسك والعقيقة والجزاء في السلامة من بين العيب والسن المتقدم من بلوغ الشاة سنة ودخولها في الثانية، ودخول ثني البقر
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه احمد في مسنده "5/7" حديث "20095"، وانظر:، صحيح الجامع "4541"2 أخرجه أبو داود، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، حديث "2841"3 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب الأضاحي باب ما جاء في العقيقة، حديث "1513" وقال حسن صحيح.

في السنة الرابعة والإبل في السنة السادسة، ولما كان يشترط كمال السبعة أيام قال: "ولا يحسب في السبعة أيام اليوم الذي ولد فيه" حيث سبق بطلوع الفجرقال خليل: وألغى يومها إن سبق بالفجر، وأما لو ولد قبل طلوع الفجر حسب من غير خلاف، ويشترط حياة الولد في السابع لا إن مات يوم السابع قبل فعلها، ويدخل زمن ذكاتها بطلوع فجر السابع"و" لكن المستحب أن "تذبح ضحوة"، وهذا على أظهر الأقوال إلحاقا لها بالهدايا؛ لأنها ليست تابعة لصلاة حتى تلحق بالضحايا، فإن فعلت بعد الفجر وقبل طلوع الشمس أجزأت مع مخالفة المستحب"ولا يمس الصبي بشيء من دمها" لكراهة ذلك خلافا لما كانت تفعله الجاهلية. قال خليل عاطفا على المكروه: ولطخه بدمه ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى" 1 وفسر بعضهم إماطة الأذى بترك التلطيخ المذكور، والظاهر أن الأنثى تساوي الذكر في كراهة ما ذكر؛ لأن النجاسة يكره التلطخ بها لكل أحد"و" يستحب أن "يؤكل" أي يطعم "منها" أهل البيت والجيران "ويتصدق" منها بعد الطبخ وقبله، ويكره جعلها وليمة ويدعو لها الناس كما تفعله الناس من جعلهم لها كالعرس، وإنما كره لمخالفة فعل السلف، ولخوف المباهاة والمفاخرة، بل المطلوب إطعام كل أحد في محله، فلو وقع عملها وليمة أجزأت، وإن كرهت، ولا يطالب بإعادتها، والله أعلم، وتحرم المعاوضة بها كسائر القرب، فلا يباع جلدها، ولا شيء من لحمها، ولا يعطى الجزار في نظير جزارته، ولا القابلة في نظير ولادة المرأة بل على وجه الصدقة، وتقدم أن المتصدق عليه بشيء من الضحية يجوز له بيعه، ويظهر هنا أو أولى كذلك. "و" يجوز أن "تكسر عظامها" هذا هو المشهور، وقيل يستحب مخالفة للجاهلية في عدم كسرها، وإنما كانوا يقطعونها من المفاصل مخافة إصابة الولد فنسخه الإسلام"و" أما "أن حلق" بالبناء للمفعول ونائب الفاعل "شعر رأس المولود"، ولو أنثى يوم السابع قبل ذبح العقيقة إن عق عنه "وتصدق بوزنه من ذهب أو فضة فذلك مستحب" على المشهور فقوله: "حسن" لمجرد التأكيدـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب العقيقة، باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة، حديث "5471".

قال خليل: وتصدق بزنة شعره والدليل على ذلك ما في الموطإ: "وزنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر الحسين والحسن وزينب وأم كلثوم وتصدقت بزنة ذلك فضة"1، وما في الترمذي من حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن بكبش وقال: "يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة" 2ولما قدم كراهة تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة خلافا للجاهلية بين المستحب بقوله: "و" أما "إن خلق" بالبناء للمجهول وشد اللام أي طيب "رأسه" أي المولود "بخلوق" بفتح الخاء أي طيب كزعفران معجون بورد أو غيره من أنواع الطيب "بدلا من الدم الذي كانت تفعله الجاهلية فلا بأس بذلك"، ولو قيل بندبه لما بعد لعموم طلب مخالفة الجاهلية" خاتمة " بقي أشياء يستحب فعلها يوم السابع، منها: تسميته إن عق عنه، وإلا سمى قبل ذلك، وإن مات من أريد العق عنه قبل العقيقة ففي تسميته قولان: مالك لا يسمى وابن حبيب يسمى يوم موته؛ لأنه ولد ترجى شفاعته، وإن كان المشهور عدم تسمية السقط، والتسمية حق للأبقال ابن ناجي: بعض شيوخنا، ومقتضى القواعد وجوب التسمية فيختار له أفضل الأسماء. قال الباجي: أفضل الأسماء ذو العبودية لخبر: "أحب أسمائكم إلي عبد الله وعبد الرحمن" 3 "وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن وحسين". قال الباجي: وتمنع بما قبح كحرب وحزن وبما فيه تزكية كبركة، وقال أيضا: وتحرم بملك الأملاكوفي سماع أشهب: لا ينبغي بياسين أو حكيم أو عزيز، ووقعت التسمية بعلي، ولم ينكر، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم كاف في الجواز، وكره مالك التسمية بجبريل، وكرهها الحارث بأسماء الملائكة، ومما يستحب عند الولادة الأذان والإقامة في أذان المولود، وكذا يستحب أن يسبق إلى جوفه الحلاوةولما كان الختان والخفاض من مناسبات الضحية والعقيقة لاشتراك الجميع في الطلب الغير
ـــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ "2/506" حديث "1067"2 صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب العقيقة بشاة، حديث "1519" وانظر:، صحيح الجامع "7960"3 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الآداب، النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب -، حديث "2132" بلفظ: "أحب أسمائكم إلى الله...." الحديث.

الجازم ذكرهما عقبهما فقال: "والختان في الذكر"، وهو قطع الجلدة الساترة للحشفة بحيث ينكشف جميعها. "سنة واجبة" أي مؤكدة من تركها لغير عذر لم تجز إمامته، ولا شهادته، بل قال ابن شهاب: لا يتم الإسلام إلا بالختان، والدليل على سنيته ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط" 1 وزمن الختان المستحب عند مالك الإثغار، وهو زمن الأمر بالصلاة ويكره يوم السابع، وأحرى يوم الولادة؛ لأنه من باب فعل اليهود إلا إذا كان يخاف على الصبي منه عند تأخره لزمن الأمر بالصلاة، واختلف فيمن ولد مختونا هل يجري عليه الموسى أو لا؟ وانظر لم لم يجزم بإجرائها كما قيل فيمن تحلل من الإحرام فإنه يمر الموسى على محل الشعر إلا أن يفرق بوجوب الحلاق عند الإحلال دون الختان"الخفاض" المطلوب "في النساء"، وهو إزالة ما بالفرج من الزيادة "مكرمة" أي خصلة مستحبة كما جزم به بعض شيوخ شيوخنا واعتمده، وهو الظاهر من المصنف هنا لمغايرته بين اللفظين، وقيل إنه سنة كختان الذكور، ويظهر لي أنه وجيه؛ لأن النساء شقائق الرجال، وللحديث: كان بالمدينة امرأة يقال لها أم عطية تخفض الجواري فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أم عطية اخفضي، ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج" 2، ومعنى لا تنهكي لا تبالغي في القطع" خاتمة " سكت المصنف عن بيان حال الخنثى الذي له ذكر، وله فرج هل يختن أو يخفض؟ قال الفاكهاني: لم أر في ذلك لأصحابنا نصا، وللشافعية في ذلك قولان: يختن بعد البلوغ وينظر حينئذ من يتولى ختانه قبل اتضاحه، وقيل لا حتى يتبين، وهو الأظهر عندهم، ابن ناجي: لا يختن لما علمت من قاعدة تغليب الحظر على الإباحة أي؛ لأن الختان سنة، والنظر لعورة الكبير المراهق أو البالغ حرام لقول اللخمي: المراهق ككبير، ولا يرتكب محرم لفعل سنة، ويظهر لي أنه يؤمر بختن نفسه؛ لأن المكلف مأمور بفعل ما يكمل به إسلامه، وقد تقدم أن به كمال الإسلام، ويقال مثل ذلك فيمن اشترى رقيقا بعد بلوغه أو مراهقة؛ لأنها سنة يمكن
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب قص الشارب، حديث "5889"، ومسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، حديث "257"2 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في الختان، حديث "5271" وانظر: صحيح الجامع "236".

المكلف تحصيلها من غير ضرورة تقتضي إسقاطها وحرر ذلك، فإني لم أره لكن القواعد تقتضيه، وسكت أيضا عن الخاتن والخافض لوضوح الأمر في ذلك، ففي المدونة: يختن الرجال الصبيان ويخفض النساء الجواري لمنع اطلاع الرجال على ذلك، والمصنف رحمه الله تعالى صرح بحكم الختان والخفاض، والعلامة خليل أهملها، فكم من كتاب صغير كهذا الكتاب يوجد فيه ما ليس في أكبر منهولما فرغ المصنف من الكلام على الواجبات العينية، وما معها من السنن والمندوبات شرع في الكلام على الواجبات الكفائية وبدأ بأهمها فقال:
* * *

"باب في" أحكام "الجهاد" 1
وهو لغة : التعب والمشقة لأخذه من الجهد بفتح الجيم، وشرعا قال ابن عرفة: قتال مسلم
ـــــــ
1 الجهاد مصدر جاهد، وهو من الجهد – بفتح الجيم وضمها – أي الطاقة والمشقة، وقيل: الجهد – بفتح الجيم – هو المشقة، وبالضم الطاقة. والجهاد القتال مع العدو كالمجاهدة، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]. وفي الحديث الشريف: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". يقال: جاهد العدو مجاهدة وجهاداً إذا قاتلهوحقيقة الجهاد كما قال الراغب: المبالغة واستفراغ الوسع في مدافعة العدو باليد أو اللسان. أو ما أطاق من شيءوهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، والشطان، والنفس. وتدخل الثلاثة في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]وقال ابن تيمية: الجهاد إما ان يكون بالقلب كالعزم عليه، أو بالدعوة على الإسلام وشرائعه، أو بإقامة الحجة على المبطل، أو ببيان الحق وإزالة الشبهة، أو بالرأي والتدبير فيما فيه نفع المسلمين، أو بالقتال بنفسه. فيجب الجهاد بغاية ما يمكنهقال البهوتي: ومنه هجو الكفار. كما كان حسان رضي الله عنه يهجو أعداء النبي صلى الله عليه وسلموالجهاد اصطلاحا: قتال مسلم كافر غير ذي عهد بعد دعوته للإسلام وإبائه، إعلاء لكلمة اللهوالجهاد مشروع بالإجماع، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] إلى غير ذلك من الآيات، ولفعله صلى الله عليه وسلم وأمره به، ولقوله: "من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق" وقد كان الجهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة غير مأذون فيه؛ لأنه الذي أمر به صلى الله عليه وسلم أول الأمر هو التبليغ والإنذار، والصبر على أذى الكفار، والصفح والإعراض عن المشركين، وبدأ الأمر بالعدوة سراً ثم جهراً. قال الله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وقال أيضا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقال أيضاً: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ثم أذن الله بعد ذلك للمسلمين في القتال إذا ابتدأهم الكفار بالقتال، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة. وذلك في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]. ثم شرع الله الثانية بالقتال على الإطلاق بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] وقوله {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وتسمى هذه آية السيف، وقيل: هي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم من ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" والفقهاء على انه ينبغي ألا يترك الجهاد كل سنة مرة على الأقل. ومعنى ذلك أن يوجه الإمام كل سنة طائفة، ويزج بنفسه معها أو يخرج بدله من يثق به؛ ليدعو الكفار للإسلام ويرغبهم فيه، ثم يقاتلهم إذا أبوا؛ لأن في تعطيله أكثر من سنة ما يطمع العدو في المسلمين. فإن دعت الحاجة في السنة إلى أكثر من مرة وجب؛ لأنه فرض على الكفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه، فإن دعت الحاجة على تأخيره لضعف المسلمين، أو قلة ما يحتاج إليه في قتالهم من العدة أو المدد الذي يستعين به، أو يكون الطريق إليهم فيها مانع، أو ليس هنا مؤن، أو للطمع في إسلامهم ونحو ذلك من الأعذار، جاز تأخيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً عشر سنين، وأخر قتالهم حتى نقضوا الهدنة، وأخر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة؛ ولأنه إذا كان يرجى من النفع بتأهخيره أكثر مما يرجى من النفع بتقديمه وجب تأخيره. فإذا لم يوجد ما يدعو على الجهاد فإنه يستحب الإكثرا منه. الموسوعة "16/124، 125".

كافرا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله أو حضوره له أو دخوله أرضه له، فيخرج قتال الذمي إذا حارب على المشهور من أنه غير نقض، وقوله: أو حضوره أو دخوله بالرفع عطف على قتال، فأو للتنويع والضمير في حضوره ودخوله للمسلم، وفي له في الموضعين للقتال، وأشار به إلى أن الجهاد أعم من المقاتلة فيسهم لمن حضر المناشبة، ولو لم يقاتل، وقوله: لإعلاء كلمة الله يقتضي أن من قاتل للغنيمة أو لإظهار الشجاعة لم يكن مجاهدا فلا يستحق الغنيمة حيث أظهر ذلك، ولا يجوز تناولها حيث علم من نفسه ذلك. قاله الأجهوري، وانظره مع قول خليل، وقسم الأربعة لحر مسلم بالغ عاقل حاضر كتاجر وأجير إن قاتلا أو خرجا بنية غزو فإنه يقتضي عدم اشتراط كونه قاتل لإعلاء كلمة الله، إذ لو كان شرطا لزادوه على تلك الشروط المعتبرة في الجهاد حتى يسهم له، إلا أن يكون الشرط في كلام ابن عرفة معتبرا بالنظر للثواب المترتب على الجهاد الذي وردت فيه الأحاديث، فلا ينافي أنه يسهم له وحرر المسألة، فإن الفقه نقلي لا عقلي، وعلى مقتضى كلام ابن عرفة يكون شهيد الحرب أعم من المجاهد لوجهين:
أحدهما أن شهيد الحرب يشمل من قاتل لخصوص الغنيمة ويقال له شهيد دنيا فقطوثانيهما: أنه يشمل من قتله الحربي في بلاد الإسلام، ولو لم يقاتل، انظر شراح خليل عند قوله: ولا يغسل شهيد معترك فقط، ولو ببلد الإسلام أو لم يقاتل. والجهاد من العبادات العظيمة، فقد ورد: "أن الشهيد يود أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى في الجهاد لما يراه من فضل الشهادة" 1وروي أيضا: "ما جميع أعمال البر في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر"2، وإنما كان الجهاد من العبادات العظيمة، وإن كان فيه قتل عباد الله وتعذيبهم وتخريب بلاد الله، لما فيه من إعزاز الدين؛ لأن الكافر عدو لله وللمسلمين، فشرع إعداما للكافرين، وإحياء لدين الإسلامواعلم أن الجهاد من حيث هو على أربعة أقسام: جهاد بالقلب، وهو مجاهدة الشيطان
ـــــــ
1 صحيح "بمعناه": أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا، حديث "2817"، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، حديث "1877"2 ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة ابي معن صاحب الإسكندرية، الإصابة "7/4505".

والنفس عن الشهوات المحرمة. وجهاد باللسان، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجهاد باليد، وهو زجر الأمراء أهل المناكر بالأدب والضرب باجتهادهم، ومنه إقامة الحدود. وجهاد بالسيف، ولا ينصرف حيث أطلق إلا إليه، وهو مراد المصنف بقوله: "والجهاد" أي الخروج لقتال الكفار الحربيين "فريضة" في كل سنة على كل ذكر عاقل بالغ حر، ولو غير مسلم على المشهور من خطابهم مستطيع للقتال وواجد لما يحتاج إليه من المال. "يحمله" أي الجهاد "بعض الناس عن بعض"؛ لأنه فرض كفاية وحقيقته مهم يقصد حصوله من غير نظر إلى فاعله بالذات مع الإثم بتركه، فيخرج فرض العين؛ لأنه منظور بالذات إلى فاعله حيث قصد الشارع حصوله من كل واحد من المكلفين بعينه، أو من عينه الشارع بخصوصه كالنبي صلى الله عليه وسلم فيما فرض عليه دون أمتهوالمعنى: أنه يجب على الإمام أو على عموم الناس - إن لم يكن إمام - إخراج طائفة لقتال الكفار في كل سنة ويتوجهون إلى الجهة التي كثر العدو فيها دون غيرها، وإن تساوت الجهات خوفا، فالنظر للإمام في الخروج في أي جهة إن لم يمكن سد الجميع، وإلا وجب سد الجهات كلها بالمجاهدينقال خليل: الجهاد في أهم جهة كل سنة، وإن خاف محاربا، كزيارة الكعبة فرض كفاية، ولو مع وال جائر؛ لأن ضرر الكفار لا يعادله ضرر، ولكن لا يجب الجهاد إلا بشروط كما قدمنا، وهي: البلوغ والعقل والحرية والذكورة والاستطاعة بصحة البدن ووجود ما يحتاج إليه من المال، وفي الإسلام خلاف ويسقط بأضدادهاقال خليل: وسقط بمرض وصبى وجنون وعمى وعرج وأنوثة وعجز عن ما سيحتاج ورق ودين حل مع القدرة على أدائه، ولكن لا يتمكن من إيصاله إلى ربه لغيبته، ولا وكيل من قاض أو غيره لا ما لا يحل في غيبته ويوكل في قضاء ما يحل ويخرج مع العجز عن الوفاء قهرا على صاحبه" تنبيهات " الأول : ظاهر كلام المصنف كخليل فرضية الجهاد، ولو سد المسلمون ثغورهم وحصونهم، خلافا لعبد الوهاب وصاحب المقدمات من أنه إذا حميت أطراف بلاد المسلمين وسدت ثغورهم سقط فرض الكفاية عن سائرهم ويستحب فقط، ولعل وجه المشهور أن عدم الجهاد يؤدي إلى قيام الحربيين في المستقبل كما هو ظاهرالثاني : يشارك الجهاد في الفرضية الكفائية إقامة الموسم أي الوقوف بعرفة في كل سنة،

ومثله القيام بعلوم الشرع كالفقه، وما يتوقف عليه من تفسير وحديث وأصول، وكلام ونحو والفتوى والقضاء والشهادة ورد السلام، وفك الأسارى وتجهيز الأموات، ودفع الضرر عن المسلمين، والإمامة الكبرى على من توفرت فيه شروطها، ولا يجوز تعدد السلطان إلا إذا تناءت الأقطار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرف المهمة كالحياكة والخبازة وغيرهما مما يتوقف عليه صلاح العامةالثالث : الدليل على فرضية الجهاد على جهة الكفاية قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] أي الجنة، فلما وعد الله - تعالى - القاعد والمجاهد بالحسنى، علم أن الخطاب به للجميع على سبيل البدلية، وأنه يسقط بفعل البعض، ولو كان على الأعيان لكان القاعد بلا ضرورة عاصيا، وما تواتر في السنة من "إرساله عليه الصلاة والسلام قوما دون آخرين"الرابع: فرض الكفاية قبل الشروع فيه مخاطب به الجميع حتى يقوم به البعض، واختلف هل لمن لم يفعل أجر قولان، هكذا قال بعض، ولا يعارضه آية: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]؛ لأن الخلاف في الأجر المرتب على الفعلالخامس: محل كون الجهاد فرض كفاية بحسب الأصل، فلا ينافي أنه قد يكون واجبا على الأعيان إذا غزا العدو على قوم كما يأتي آخر الباب، فيتعين على كل أحد حتى النساء وعلى من بقربهم إن عجزوا وبتعيين الإمام وبالنذرقال خليل: وتعين بفجأ العدو، وإن على امرأة أو عبد وعلى من بقربهم إن عجزوا أو بتعيين الإمامولما كان يتوهم من فرضية الجهاد جواز قتال الكفار بمجرد القدرة عليهم، بين أنه لا يجوز قتالهم ابتداء بقوله: "وأحب إلينا" معاشر أهل المذهب "أن لا يقاتل" بالبناء للمفعول والنائب عن الفاعل "العدو" عند القدرة على قتالهم "حتى يدعوا إلى دين الله عز وجل" أي يطلب منهم أن يقولوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [آل عمران]، وما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" 1 وقصة سليمان مع بلقيس بنت
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الزكاة باب أخذ الصدقة من الأغنياء، وترد في الفقراء حديث "1496"، وأبو داود، حديث "1584" والترمذي، حديث "625"، والنسائي، حديث "2435".

شرحبيل ملكة سبأ، وكتابه إليها مع الهدهد: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] وصفة الدعوى مختلفة بحسب كفر الكافر، فمن أنكر الإله يدعى إلى الإقرار به، ومن اعتقد الشركاء يدعى إلى الاعتراف بالتوحيد، ومن أنكر عموم الرسالة يدعى إلى الاعتراف بعمومها، ومن أنكر البعث يدعى إلى الإيمان به، والحاصل أن كل من كفر بشيء يدعى إلى الرجوع عنه، ولا تفصل له أحكام الشريعة إلا أن يسأل عن تفصيلها. ووجوب الدعوى مقيد بقيدين: أحدهما أشار له بقوله: "ما لم يعاجلونا" بالقتال، وإلا قوتلوا. والقيد الثاني أن يكونوا بمحل تؤمن غولتهم، وإلا قوتلواقال خليل: ودعوا للإسلام ثم جزية بمحل يؤمن، وإلا قوتلوا وقتلوا إلا المرأة والصبي، وما معهما مما يأتي في قول المصنف: ولا تقتل النساء إلخ" تنبيهان " الأول : ظاهر قول المصنف: وأحب إلينا إلخ أن الدعوة مستحبة مع أنه ضعيف، والمذهب أنها واجبة، ويمكن الجواب عن المصنف بأنه أراد الأحب بالمعنى الأعم؛ لأن الواجب محبوب، كما أن الجائز بالمعنى الأعم يصدق بالواجب لا الأحب بمعنى المندوب حتى يعترض عليه، ومحل الخلاف فيمن بلغته الدعوة، ولم يجب، وأما من لم تبلغه دعوة فلا خلاف في وجوبها في حقه، ولا فرق بين من قربت داره أو بعدتالثاني : لم يبين المصنف هل تكرر الدعوة أو لا، وبينه الفاكهاني بقوله: وأقلها ثلاثة أيام متوالية كالمرتد، ويفهم من التشبيه بالمرتد أنها ثلاث مرات في ثلاثة أيام، وإذا دعوا "فإما أن يسلموا" فيجب كفنا عنهم لعصمة دمائهم كأموالهم بالإسلام. "أو" يرضوا بأن "يؤدوا الجزية" فيجب كفنا عنهم أيضا. "وإلا" يسلموا أو يؤدوا الجزية "قوتلوا" وقتلوا بالفعل بجميع أنواع القتال، ولو بقطع الماء ورمي النار إن لم يمكن غيرها، ولم يكن فيهم مسلم. والحاصل أن الواجب دعوتهم إلى الإسلام فقط قبل الشروع في قتالهم، فإن أبوا منه يدعوا إلى الجزية لا أنا نخيرهم ابتداء بين الإسلام والجزية، ولذا قال خليل: ودعوا للإسلام ثم جزية بمحل يؤمن، وإلا قوتلوا وقتلوا إلا ما استثناه الشارع ويأتي في قول المصنف: ولا تقتل النساء والصبيان إلى آخر المستثنيات"وإنما تقبل منهم الجزية" عند رضاهم بدفعها "إذا كانوا" في محل قريب "بحيث تنالهم أحكامنا" وتمضي عليهم بحيث يدفعون الجزية عن يد، وهم صاغرون. "فأما إن بعدوا منا فلا

تقبل منهم الجزية" لتعذر أخذها منهم "إلا أن يرتحلوا إلى بلادنا، وإلا قوتلوا"، ولا يقبل منهم الرضا بالجزية، وهذا بالنسبة إلى الجزية العنوية؛ لأنها ما لزم الكافر من مال لأمنه باستقراره تحت حكم الإسلام وصونه، وأما الصلحية، وهي ما التزم الكافر الذي منع نفسه أداءه على إبقائه ببلده تحت حكم الإسلام بحيث تجري عليه أحكامه فتقبل منهم، ولو بعدت أماكنهم؛ لأنهم صالحونا على البقاء فيها" تنبيهات " الأول : فهم من جواز أخذ الجزية منهم بشرطه جواز المهادنة، ويقال لها المسالمة والمتاركة على ترك القتال مدة بالأولى، لكن بشرط أن يكون عقدها من الإمام، وأن يكون فيه مصلحة للمسلمين بأن يكون عندهم عجز عن قتال الكفار في تلك الحالة، وأن يخلوا عقدها عن ارتكاب أمر محرم، كشرطهم بقاء أسير مسلم تحت أيديهم، أو قرية للمسلمين تبقى تحت أيديهم، إلا أن يعظم الخوف منهم فيجوزالثاني : لم يبين المصنف حكم من أسلم من الحربيين، هل يجوز له البقاء في دار الحرب أو يهاجر منها إلى بلاد الإسلام؟ وبينه غيره بقوله: ولو أسلم قوم كفار فإن كانوا حيث تنالهم أحكام الكفار وجب عليهم الارتحال منه، وإن لم يرتحلوا منه يكونوا عاصين لله ورسوله، وإسلامهم صحيح؛ لأن الهجرة إنما كانت من شرط صحة الإسلام قبل فتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "لا هجرة بعد الفتح" 1، وكان في أول الإسلام لا يتم إسلام من أسلم حتى يرتحل إلى المدينة، فلما فتح مكة قال: "لا هجرة بعد الفتح"ولما كان للجهاد فرائض يجب الوفاء بها، وهي طاعة الإمام وترك الغلول، والوفاء بالأمان، والثبات عند الزحف، وأن لا يفر أحد من اثنين أشار إليهما بقوله: "والفرار" بكسر الفاء أي الهروب "من العدو" أي الكافر معدود "من الكبائر"؛ لأن الذنوب عند أهل السنة قسمان، والفرار من الموبقات السبع المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا الموبقات السبع" 2 أي المهلكات وشرط كونه من الذنوب الكبائر"إذا كانوا" أي الكفار المعبر عنهم بالعدو "مثل عدد المسلمين فأقل" قال خليل عاطفا على الحرام: وفرار إن بلغ المسلمون النصف لقوله
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والسير، حديث "2783"، ومسلم، كتاب الإمارة، باب البايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، حديث "1864"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10]-، حديث "2767"، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، حديث "89"، وأبو داود، حديث "2874"، والنسائي، حديث "3671".

تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، وهذه الآية ناسخة لآية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65]؛ لأنه كان أول الأمر يحرم الفرار من الكفار مطلقا، ثم نسخ بقوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الآية. ثم نسخ بآية: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الآية. فتكرر فيه النسخ، وظاهر كلام المصنف أن المراعى العدد، ولو كان المسلمون أضعف قوة من الكفار، وهو كذلك على مشهور المذهب وظاهر الآية، لكن ينبغي التقييد بما إذا كان مع المسلمين سلاح، وكان في ثباتهم نكاية للعدو، وبأن لا يتصل مدد الكفار مع انقطاع مدد المسلمين، وبأن لا تختلف كلمة المسلمين، فإن فقد شرط من هذا جاز الفرار. ثم بين مفهوم قوله مثلي عدد المسلمين بقوله: "فإن كانوا" أي الكفار "أكثر من ذلك" بأن زادوا على مثلي المسلمين "فلا بأس بذلك" أي يجوز الفرار، وظاهره ولو بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا، وليس كذلك بل يقيد الجواز بأن لا يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا، وإلا حرم الفرار مطلقا، وما أحسن قول خليل: وفرار إن بلغ المسلمون النصف، ولم يبلغوا اثني عشر ألفا إلا تحرفا وتحيزا، فإن قوله: ولم يبلغوا راجع إلى مفهوم إن بلغ المسلمون النصف كما هو ظاهر للعارف بكلام خليل وغيره، وحرمة الفرار عند بلوغهم الاثني عشر ألفا مقيدة أيضا بالقيود السابقة" تنبيهات " الأول : قد ذكرنا لك أن المعتبر في بلوغ المسلمين نصف الكفار أو الاثني عشر ألفا العدد لا القوة على قول ابن القاسم والجمهور، ويكفي بلوغهم هذا العدد، ولو مع الشك أو الوهم كما يفيده كلام القرطبي، ولعل وجهه لما يلزم على الفرار من وهن الإسلام، ولأن الأصل حرمة الفرار من غير مراعاة عددالثاني : لا يشترط في العدد المذكور من المسلمين كون الجميع ممن توفرت فيهم شروط الجهاد، بل ولو كان فيهم عبيد أو صبيان، لكن ينبغي أن يكون فيهم قدرة على الجهاد. قال جميعه الأجهوريالثالث : قال الأجهوري أيضا: وهذا التفصيل جار في الجهاد، ولو كان مندوبا، وذلك فيما إذا سدت ثغور المسلمين وحميت أطرافهم. قال في المقدمات: إذا حميت أطراف بلاد المسلمين وسدت ثغورهم سقط فرضه عن سائرهم، نقله الثنائي، ولكن قدمنا أن ظاهر كلام المصنف كخليل الوجوب مطلقا، وهو ظاهرالرابع : حكم الفرار من الزحف أنه في حال عدم جوازه كبيرة تجب منه التوبة فورا كسائر

الكبائر، وتوبته كغيره على المذهب، وقال ابن عرفة: لا تعرف توبته إلا بتكرر جهاد مع عدم فرار، واعترضه بعض الشيوخ بقوله غير منقول، وأقول: الظاهر أن كلامه غير مخالف لكلام غيره لحمل قوله: لا تعرف توبته على معنى لا تظهر بحيث تعلم توبته إلا بتكرر جهاد مع ثباته، ويدل على هذا أنه لم يقل لم تصح توبته؛ لأن مثل ابن عرفة لا تخفى عليه التقول، وإن كان فوق كل ذي علم عليمالخامس : إذا وقع الفرار على الوجه الممنوع تعلق الإثم بالجميع إذا وقع من جميعهم دفعة واحدة، وإلا اختصت الحرمة بمن فر مع بقاء العدو الذي يحرم معه الفرار لا من فر بعد النقص عنهثم ذكر مسألة كان الأولى ذكرها أول الباب عند بيان حكمه بقوله: "و" يجب أن "يقاتل العدو مع كل" إمام "بر وفاجر من الولاة" قال خليل: الجهاد فرض كفاية في كل سنة، ولو مع وال جائر، والبار هو العادل والفاجر هو الجائر الذي لا يضع الخمس في موضعه، ولا يفي بعهد؛ ارتكابا لأخف الضررين، إعانتهم على جورهم وترك الغزو معهم؛ لأن فيه وهنا للدين، والولاة جمع وال والمراد به أمير الجيش، والدليل على وجوب الجهاد مع الجائر خبر: "الجهاد ماض منذ بعث الله نبيه إلى آخر عصابة تقاتل الدجال لا ينقضه جور من جار ولا غدر من غدر" 1 وقول الصحابة رضي الله عنهم حين أدركوا ما حدث من الظلم: اغز معهم على حظك من الآخرة، ولا تفعل ما يفعلون من فساد وخيانة وغلول" تنبيه " علم من تفسيرنا للجائر شموله لمن كان جوره بالغدر الذي هو عدم الوفاء بالعهد، خلافا لما عليه بعض العلماء من أنه لا يقاتل مع الإمام الغادر بخلاف الفاسق والذي لا يعدل في الخمس، ودليل المشهور الحديث المتقدم، وهذا كله في الجهاد الواجب، ولو كفاية، وأما المندوب على القول بندبه بعد حماية أطراف البلاد وسد الثغور فلا وجه للقتال مع الجائرولما قدم أنه يجوز للإمام، ومن معه قتال من أبى الإسلام والجزية، وكان من الكفار من يجوز قتله، ومن لا يجوز، شرع في بيان ذلك بقوله: "ولا بأس بقتل من أسر" أي أخذ وصار في أيدينا "من الأعلاج" جمع علج، وهو الرجل الأعجمي الكافر، ومحل جواز قتله إذا كان في قتله مصلحة. قال ابن الحاجب: وإن أسروا عجما أو عربا فالإمام مخير في خمسة أوجه:
ـــــــ
1 أخرجه الديلمي في مسند الفردوس "2/122" وحديث "2639".

القتل والاسترقاق وضرب الجزية والمفاداة والمن بنظر الإمام وذلك قبل قسم الغنيمة، فينظر ما فيه مصلحة للمسلمين، ولا ينظر للهوى، فإن كان الأسير من أهل النجدة والفروسية والنكاية للمسلمين قتله، وإن لم يكن على هذه الصفة وأمنت غائلته، وله قيمة استرق للمسلمين وقبل فيه الفداء إن بذل فيه أكثر من قيمته، وإن لم يكن له قيمة، ولا فيه قدرة على أداء جزية كالأعمى والزمن والشيخ الفاني أعتقه حيث لا رأي، ولا تدبير، والذي يقتل يحسب من الغنيمة على القول بملكها بمجرد الأخذ، والذي يمن عليه ويخلى سبيله من غير شيء يحسب من الخمس، وكذا ما فدي، وكان فداؤه بأسارى المسلمين الذي كانوا عندهم. قال الحطاب: ومن يمن عليه أو يفدى أو تضرب عليه الجزية إنما يكون من الخمس بناء على ملك الغنيمة بمجرد أخذها، والقتل من رأس المال، والاسترقاق راجع إلى جملة الغانمين، فتلخص أن الذي يمن عليه أو يفدى أو تضرب عليه الجزية تجعل قيمته فيما يخمس؛ لأنها من جملة الغنيمة، ولكنها تحسب من الخمس الذي لآله عليه الصلاة والسلام ثم للمصالح، وخالف ابن رشد في ذلك وقال: الذي يمن عليه، ومن تضرب عليه الجزية لا تجعل قيمته من الغنيمة، ولا تؤخذ من الخمس، وأما الفداء المأخوذ فيجعل من جملة الغنيمة، والنظر بين الوجوه الخمسة إنما هو في الأسرى المقاتلةوأما الذراري والنساء فليس إلا الاسترقاق أو المفاداة، ولا فرق في كل ما تقدم بين كفار قريش وغيرهم على مشهور المذهب خلافا لابن وهبثم شرع في بيان من لا يجوز قتله بقوله: "ولا" يجوز أن "يقتل أحد" من الكفار "بعد أمان" من الإمام أو غيره؛ لأن قتله بعد الأمان خيانة، وقال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وقال صلى الله عليه وسلم: "ينصب للغادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان" 1. "و" كذا "لا يخفر" أي لا يترك "لهم" أي العدو الوفاء "بعهد" والمعنى أن العدو إذا أعطوا أسيرا عهدا على أن لا يخون، ولا يهرب فلا يجوز له نقض عهدهقال خليل: وحرم خيانة أسير اؤتمن طائعا، ولو على نفسه، ولا يجوز له الهروب، ولا أخذ شيء من أموال الكفار، وسواء حلف لهم أم لا على المعتمد، وأما إن لم يؤتمن فله الخيانة اتفاقا، وكذا لو أمن مكرها سواء كان على وجه المعاهدة بأن أعطاهم عهدا كقوله لهم: لكم علي عهد أن لا أخون أو لا أهرب، أو لا على وجه المعاهدة بأن قالوا له: أمناك على كذاـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يدعى عن الناس بآبائهم، حديث "6177" ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، حديث "1735".

" تنبيه " يكثر السؤال عما لو اقترض الأسير من بعض الحربيين مالا من غير إكراه له على الاقتراض ليدفعه في خلاص نفسه فيقرضه الحربي على شرط الإتيان بضامن من المسلمين أو غيرهم فيفعل، فهل للضامن الطلب على المقترض بما ضمنه؛ لأن المقترض ائتمنه على ما أقرضه له طائعا أم لا؟ استظهر الأجهوري أن له الطلب على المقترض، وأفتى بعض الشيوخ بأن المقترض لا يلزمه شيء مما اقترضه من أهل الحرب؛ لأنه مال غير معصوم، وبه أفتى بعض الحنفية، وعلى فتوى بعض الشيوخ ليس للضامن طلب على المقترض والله أعلم" فرع " ذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أن الأسير إذا أطلقه العدو على أن يأتيه بفدائه فله بعث المال دون رجوعه، وإن لم يجد فداء فعليه أن يرجع، وأما لو عوهد على أن يبعث بالمال فعجز عنه فليجتهد فيه أبدا، ولا يرجع، وقال أصبغ: ولما ذكر المصنف أن الحربي إذا امتنع من الإسلام أو من أداء الجزية يجوز قتاله وقتله، وكان الشارع استثنى أفرادا لا يجوز قتلها أشار إليها بقوله: "ولا" يجوز أن "تقتل النساء والصبيان" اللذان لم يقاتلا؛ لأنه "عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل الصبيان والنساء"، وكذا لا تؤخذ منهما جزية، ويخير فيهما الإمام بين الاسترقاق والفداء، وسيأتي محترز قولنا اللذان لم يقاتلا"و" كذا يجب أن "يجتنب" بالبناء للمجهول "قتل الرهبان" بالأديرة أو الصوامع إذا لم يكن لهم رأي، ولا تدبير، بخلاف رهبان الكنائس قتلهم في الحرب فإنهم يقتلون لمخالطتهم أهل دينهم، ولو لم يكن لهم رأي، ولا تدبير، وإنما لم تقتل الرهبان المذكورة؛ لأن انقطاعهم بالأديرة والصوامع ألحقهم بالنساء، أما لو كان لهم رأي أو تدبير لجاز قتلهم"و" كذا يجب أن يجتنب قتل "الأحبار" جمع حبر بكسر الحاء على اللغة الفصيحة، وهم علماء الكفار، ويوجد في بعض النسخ الأجراء جمع أجير أي لا يجوز قتلهم، ففي الشيخ زروق المشهور عدم جواز قتل الفلاح والأجير والصانع إذا لم يقاتلوا وقدر عليهم، وهذا عند ابن حبيب، وعند سحنون يقتلون، وهو المفهوم من كلام خليل إذ لم يستثنهم ممن يجوز قتله، ويدله على جواز قتلهم أيضا ما يوجد في بعض النسخ من قوله: "وقد قال سحنون إنه لم يثبت الحديث الذي ذكر فيه النهي عن قتل الأجير ويقتل هو وغيره" وقال بعض الشراح: وأكثر النسخ إسقاط قوله وقد قال إلخ، ومحل عدم جواز قتل من ذكر من الرهبان والأحبار والأجراء والصناع. "إلا أن يقاتلوا"، وإلا جاز قتلهم وظاهره، ولو لم يقتلوا أحدا"وكذلك المرأة" يجوز أن "تقتل إذا قاتلت" على تفصيل محصله: إن قتلت أحدا قتلت، وإن بعد أسرها، وأما إن

لم تقتل أحدا فإن قاتلت بالسلاح ونحوه كالرجال قتلت أيضا، ولو بعد الأسر، وإن قاتلت بالحجارة لم تقتل، وإن أخذت في حال المقاتلة على الراجح، ويجري هذا التفصيل في الصبي، وأشار خليل إلى ما يحل قتله ممن ذكر بقوله: إلا المرأة إلا في مقاتلتها، والصبي والمعتوه كشيخ فان وزمن وأعمى وراهب منعزل بدير أو صومعة بلا رأي، وترك لهم الكفاية فقط واستغفر قاتلهم كمن لم تبلغه دعوة أي فلا شيء على قاتله إلا التوبة، وكل من قتل من لا يجوز قتله سوى الراهب والراهبة بعد حوزه في أيدي الغانمين لزمه قيمته يجعلها الإمام في الغنيمة كما أشار إليه خليل بقوله: وإن خيروا فقيمتهم، وقاتل الراهب والراهبة يلزمه الدية لأهل دينهما" تنبيهان " الأول : اعلم أن كل من نهى عن قتله من نحو صبي أو امرأة وشيخ فان أو زمن أو أعمى يجوز أسره ويرى الإمام فيه رأيه إلا الراهب والراهبة فإنهما حران لا يسترقان؛ لأنهما لا يؤسرانالثاني : من لا يجوز قتله من الراهب، ومن معه ممن ذكر فإنه يترك له قوته من ماله أو مال غيره من الكفار، وإلا وجب على المسلمين مواساته بما يعيش به، وقدمنا عن خليل أنه لا شيء على من قتل منهم أحدا قبل الحوز إلا التوبة وبعده يلزمه غرم القيمة إلا الراهب والراهبة فيلزمه ديتهما تدفع لأهل دينهماثم شرع في حكم الأمان، وهو كما قال ابن عرفة: رفع استباحة دم الحربي ورقه، وماله حين قتاله مع العزم عليه مع استقراره تحت حكم الإسلام مدة ما بقوله: "ويجوز أمان" أي تأمين "أدنى" وأدلى أشرف "المسلمين" بعض الكفار حيث كان عدلا عارفا بمصلحة الأمان، ولو لم يكن عدل شهادة بأن يكون خسيسا لا يسأل عنه إن غاب، ولا يشاور إن حضر، وهو المراد بأدنى المسلمين، ولو خارجا عن طاعة الإمام، وفائدة جواز الأمان من بعض المسلمين وجوب الوفاء بذلك الأمان حتى "على يقينهم" أي المسلمين فلا يجوز لأحد التعرض لذلك الحربي لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" 1 فأمان مصدر مضاف إلى فاعله، والمفعول محذوف تقديره بعض الكفار كما قدمنا" تنبيه " إنما جعلنا مفعول المصدر لفظ بعض الذي هو العدد المحصور؛ لأن العدد غير
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر، حديث "2751"، والنسائي، حديث "4746" وابن ماجه، حديث "4746" وانظر: الإرواء "7/265".

المحصور كالإقليم إنما يقع تأمينه مع الإمام، فإن أمنه غيره كان له النظر فيه، كما ينظر في التأمين الواقع من غير العدل أو الجاهل فإن رآه صوابا أمضاه، وإلا رده. ومفهوم كلامه أن أمان الذمي لبعض الحربيين لا يجوز. "و" كما يجوز أمان أدنى المسلمين من الرجال "كذلك" يجوز أمان "المرأة والصبي" المسلمين "إذا عقل" كل مصلحة "الأمان" والمراد بعقله الأمان كما قال بعض الشيوخ أن يعلم ثبوته إن وقع، وأن فاعله يثاب عليه إن وفى به، وإن نقضه يأثم، وقولنا: كل إشارة إلى أن قيد العقل بمصلحة الأمان لا يختص بالصبي، وما صدر به من جواز أمان المرأة والصبي مع عقلهما مصلحة الأمان هو الأكثر، ولا يتوقف على إذن الإمام، وأشار إلى مقابله بقوله: "قيل" لا يجوز منهما ابتداء من غير إذن بل "إن أجاز ذلك الإمام جاز" أي مضى، وإلا رد، فتلخص أن الأمان إن وقع من الحر المسلم البالغ العارف بمصلحة الأمان الغير الخائف ممن أمنه يكون جائزا ماضيا اتفاقا، ولو وقع من أدنى المسلمين، ولو كان خارجا عن طاعة الإمام حين تأمينه حيث أمن دون الإقليم، وأما لو أمن البالغ إقليما لنظر فيه الإمام. وأما إن وقع الأمان من امرأة أو عبد أو صبي عاقلي مصلحة الأمان فقيل: يجوز ابتداء ويمضي وعليه الأكثر، وقيل: يتوقف إمضاؤه على إجازة الإمام" تنبيهات " الأول : إنما قلنا المسلم الغير الخائف؛ لأن أمان الذمي، ومثله المسلم الخائف لا يمضي، ولا يجب الوفاء به؛ لأن المخالفة في الذمي تحمل على عدم مراعاة المصلحة، وأمر الخائف ظاهرالثاني: ثمرة الأمان العائدة على المؤمن حرمة قتله واسترقاقه وعدم ضرب الجزية عليه إن وقع الأمان قبل الفتح، وأما لو كان بعد الفتح فإنما يسقط به القتل فقط ويرى الإمام رأيه في غيرهالثالث : لم يذكر المصنف صيغة التأمين للإشارة إلى أنه يقع بكل ما يدل عليه، ولو الإشارة من القادر على النطق، وأحرى الكتابة، ولو لم يفهم المؤمن منه الأمانالرابع : سكت المصنف عن تأمين الإمام لوضوحه؛ لأنه يؤمن حتى القبيلة والإقليم، ويصير من أمنه الإمام في أمان في سائر البلادقال خليل: بالعطف على وجوب الوفاء وبأمان الإمام مطلقا. قال شراحه: ومثل الإمام أمير الجيش، ومعنى الإطلاق كان في بلد السلطان الذي أمنه أو غيره من بلاد المسلمين فماله ودمه معصومان كان تأمينه قبل الفتح أو بعده، وعلى كل حال لا بد أن لا يكون فيه ضرر على

المسلمين، وإلا وجب على الإمام رد ما فيه ضرر على المسلمين إلا ما فيه ضرر في الحال، وتترتب عليه مصلحة في المستقبلثم شرع في الكلام على الأموال المأخوذة من الكفار، وهي إما فيء، وإما غنيمة، وإما مختص، فالغنيمة ما أخذ بالقتال، ولذلك تخمس، والفيء ما لم يوجف عليه بأن انجلى عنه أهله، وهذا لا يخمس بل يوضع جميعه في بيت المال، والمختص كالمال الذي يهرب به الأسير أو التاجر أو المتلصص فإنه يختص بهقال خليل بعد قوله والمستند للجيش كهو، وإلا فله كمتلصص: وخمس مسلم، ولو عبدا على الأصح لا ذمي، وابتدأ بالغنيمة فقال: "وما غنم المسلمون"1 من أموال الحربيين فإن كان "بإيجاف" أي تحريك وتعب في السير للقتال "فليأخذ الإمام خمسه" أي جزءا من خمسة أجزاء قال - تعالى -: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ويأخذه الإمام بالقرعة كما يأخذ خمس ندرة المعدن، وكما يأخذ جميع الفيء والجزية بقسميها وعشور أهل الذمة وخراج الأرض، ويضع كل ذلك في بيت المال يصرفه باجتهاده في مصالح المسلمين كبناء القناطر والمساجد، ولكن يستحب أن يبدأ منه بالدفع لآل النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم لا يعطون من الزكاة، ثم بعد الدفع لهم يصرف على ما فيه مصلحة لعموم الناس كالمساجد والقناطر والغزو، وعمارة الثغور، وأرزاق القضاة والفقهاء، وقضاء الديون وعقل الجراح، وتزويج الأعزبقال اللخمي: يبدأ منه بسد مخاوف ذلك البلد الذي جبي منه المال، وإصلاح حصون سواحله، ويشتري منه السلاح والكراع إذا كانت لهم حاجة إلى ذلك، وغزاة ذلك البلد الذي جبي منه المال وعامليه وفقهائه وقضاته، فإن فضل شيء أعطي للفقراء، فإن وقف شيء وقف
ـــــــ
1 الغنيمة والمغنم والغنيم والغنم بالضم في اللغة: الفيء، يقال: غنم الشيء غنماً: فاز به، وغنم الغازي في الحرب: ظفر بمال عدوهوالغنيمة في الاصطلاح: اسم للمأخوذ من أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة، غما بحقيقة المنعة أو بدلالتها، وهي إذن الإمام، وهذا عند الحنفية. وعند الشافعية: هي اسم للمأخوذ من اهل الحرب الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقيروالفرق بين الغنيمة والفيء: أن الغنيمة ما أخذ من أهل الحرب عنوة والحرب قائنة، والفيء ما أخذ من أهل الحرب بغير قتال ولا إيجاف خيل. وثمة فرق آخر بين الغنيمة والفيء، هو أن الفيء لا يخمس كما تخمس الغنيمةوالصلة بين الفيء والغنيمة: أن اسم كل واحد منهما يقع على الآخر إذا أفرد بالذكر جمع بينهما افترقا كاسمي الفقير والمسكين. الموسوعة "31/302".

عشره لنوائب المسلمين، ووقع خلاف هل للإمام أن يبدأ من الخمس بنفقة نفسه وعياله أو لا؟ قال ابن عبد الحكم: ليس له، وقال عبد الوهاب: يبدأ بنفقته ونفقة عياله من غير تقدير، ولو أتى على جميعه. "و" يجب أن "يقسم" الإمام باقي ما غنمه المسلمون، وهو "أربعة أخماسه بين أهل الجيش" أي المجاهدينقال خليل: وقسم الأربعة لحر مسلم عاقل بالغ حاضر للمناشبة كتاجر وأجير إن قاتلا أو خرجا بنية غزو أي وحضر القتال لا ضدهم، فلا يسهم لعبد، ولو قاتل، ولا لغير عاقل إلا الصبي ففيه إن أجيز وقاتل خلاف، ووقع خلاف في المقسوم فقيل الأثمان وقيل الأعيانقال خليل: وهل يبيع ليقسم قولان، وعلى قسم الأعيان يفرد كل صنف فيقسم خمسة أقسام إن أمكن شرعا وحسا، فالإمكان الشرعي بألا يفرق بين والدة وولدها، والإمكان الحسي بأن يكون كل صنف يقبل القسمة، وإلا ضم إلى غيره، كما تباع الأم مع ولدها إلى مالك واحد، ويقسم ثمنها وعند القسمة تضرب القرعة ويكتب على سهم الخمس: هذا لله، وما قدمناه من الخلاف في المقسوم هل الأثمان أو الأعيان جار حتى في الخمس على المعتمد كما نص على ذلك شراح خليلثم بين المحل الذي يطلب فيه قسم الغنيمة بقوله: "وقسم" بلفظ المصدر مبتدأ "ذلك" أي ما غنمه المسلمون بالقتال "ببلد الحرب أولى" خبر قسم الواقع مبتدأقال خليل: والشأن القسم ببلدهم، ومعنى أولى أنه مندوب، وقيل سنة لكراهة مالك تأخيره إلى بلاد المسلمين إلا لخوف فيؤخر، وإنما طلب القسم في أرض الحرب لفوائد: منها نكاية العدو، ومنها تطييب قلوب المجاهدين لما فيه من إدخال السرور عليهم، ومنها زيادة الحفظ؛ لأن كل من تميز نصيبه يشتد حرصه عليه" تنبيه " لم يبين المصنف هل يشترط الحاكم عند القسم أم لا؟ وقد نص ابن فرحون على أنه لا بد منه، إذ لو فوض ذلك لجميع الناس لدخل الطمع وأحب كل لنفسه من كرائم الأموال ما يطلبه غيره، وهو مؤد للفتن كما لا يخفىثم أشار إلى تفسير ما غنمه المسلمون بإيجاف بقوله: "وإنما يخمس ويقسم" بين المجاهدين "ما أوجف" أي حمل "عليه بالخيل والركاب" أي الإبل "وما غنم بقتال" أي بسببه هذا تفسير لما قبله أو من عطف العام على الخاص، وأما ما لم يوجف عليه من أموالهم بأن

انجلى عنه أهله فهذا هو المسمى بالفيء1 يوضع جميعه في بيت المال، وأما ما يهرب به الأسير أو التاجر أو يأخذه المتلصص فيختص به، وهو المسمى بالمختص؛ لأنه يختص به حائزه، ولا يقسم، ولا يوضع في بيت المال لكن المسلم يخرج خمسه كما قدمناه" تنبيه " يستثنى مما أخذ بسبب القتال، وهو المسمى بالغنيمة أرض الزراعة المفتوح بلدها عنوة أي بالقهر كأرض مصر والشام والعراق لصيرورتها وقفا بمجرد فتح بلدها، ولا تحتاج إلى صيغة وقف، ولا إلى رضا الجيش، وهذا كالتخصيص لقول خليل: بحبست ووقفتقال خليل: ووقفت الأرض كمصر والشام والعراق وخمس غيرها إن أوجف عليه. فخراجها والخمس والجزية يوضع كل منها في بيت مال المسلمين كبقية الأموال التي تجعل في
ـــــــ
1 من معاني الفيء في اللغة: الظل، والجمع أفياء وفيوء، وتفيأ فيه: تظلل، والفيء: ما بعد الزوال من الظل. ومنها: الرجوع، يقال: فاء إلى الأمر يفيء وفاءً وفيئاً وفيوءٍا: رجع إليه، ويقال: فئت على الأمر فيئاً: إذا رجعت إليه النظر، وفاء من غضبه: رجع. منها: الغنيمة والخراج، وما رد الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالف دينه بلا قتالوالفيء في الاصطلاح له معنيان:
"المعنى الأول - وهو المراد هنا -": اسم لما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، نحو الأموال المبعوثة بالرسالة إلى غمام المسلمين، والأموال الماخوذة على موادعة أهل الحرب"المعنى الثاني": رجوع الزوج إلى جماع زوجته الذي منع نفسه منه باليمين عند القدرة عليه أو الوعد به عند العجز عنهوالفيء مشروع بالكتاب والأثر. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6] وقوله جل شأنه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. وأما الأثر فما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت للنبي صلى الله علي وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح"موارد الفيء":
"1" ما جلا عنه الكفار خوفاً من المسلمين من الأراضي والعقارات"2" ما تركه الكفار وجلوا عنه من المنقولات"3" ما أخذ من الكفار من خراج أو أجرة عن الأراضي التبي ملكها المسلمون، ودفعت بالإجارة لمسلم أو ذمي، أو عن الأراضي التي أقرت بأيدي أصحابها من أهل الذمة صلحا أو عنوة على أنها لهم، ولنا عليها الخراج. "4" الجزية. "5" عشور أهل الذمة. "6" ما صولح عليه الحربيون من مال يؤدونه إلى المسلمين. "7" مال المرتد إن قتل أو مات. "8" مال الذمي عن مات ولا وارث له وما فضل من ماله عن وارثه فهو فيء"9" الأراضي المغنومة بالقتال وهي الأراضي الزراعية عند من يرى عدم تقسيمها بين الغانمين الموسوعة "32/ 227، 228".

بيت المال، ومثل أرض الزراعة في الوقفية بمجرد الفتح دور الكفار فلا يجوز قسمها إلا أن الأرض تزرع ويجوز كراؤها، بخلاف دورهم لا يجوز أن يؤخذ لها كراء، وهذا كله في الدور التي صادفها الفتح، وأما لو تهدم بناؤهم وجدد غيره فإنه يكون ملكا، وحيث قال مالك: لا تكرى دور مكة أراد ما كان في زمانه باقيا من بنائهمقال الأجهوري في فتواه: وقيدنا بأرض الزراعة للاحتراز عن موات أرض العنوة فلا يصير وقفا، بل كل من أحيا منه شيئا يملكه. والدليل على استثناء أرض الزراعة من أرض العنوة ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: "أنه غنم غنائم كثيرة وأراضي، ولم يثبت أنه قسم منها شيئا إلا خيبر"، وأيضا عمر بن الخطاب والخلفاء بعده امتنعوا عن قسمها حين سئلوا في ذلك، فلو وقع أن الإمام قسمها لا يمضي قسمه إلا أن كان ممن يرى قسمهاولما كان يتوهم من اشتراك المجاهدين في الغنيمة عدم جواز أخذ شيء منها لبعضهم قبل قسمها، ولو محتاجا قال: "ولا بأس" أي يجوز "أن يؤكل" ويعلف "من الغنيمة قبل أن يقسم الطعام والعلف إن احتاج" مريد الأكل والعلف "إلى ذلك" قال العلامة خليل: وجاز أخذ محتاج نعلا أو حزاما أو إبرة أو طعاما، وإن نعما علفا كثوب وسلاح ودابة ليرد، ورد الفضل إن كثر فإن تعذر تصدق به، ولا يتوقف المحتاج إلى إذن الإمام بل، ولو نهاهم عن ذلك، ومفهوم إن احتاج أن الغني لا يجوز له أخذ شيء منها، ومطلق الحاجة كاف فلا يتوقف على الضرورةثم شرع في بيان من يسهم له بقوله: "وإنما يسهم لمن حضر القتال" من الذكور والأحرار البالغينقال خليل: وقسم الأربعة لحر مسلم بالغ عاقل حاضر كتاجر وأجير إن قاتلا أو خرجا بنية غزوقال الأجهوري : أي وحضر القتال فلا يسهم لمن مات قبل المناشبة للقتال. "أو" لم يحضر القتال، ولكن "تخلف عن القتال في شغل المسلمين" الكائن "من أمر جهادهم" ككشف عن طريق أو طلب جماعة أو حاجة أو غير ذلك فإنه يسهم له كمن حضر القتال. قال خليل مشبها في عدم الإسهام كميت قبل اللقاء أو أعمى أو أعرج وأشل، ومتخلف لحاجة إن لم تتعلق بالجيش وضال ببلدنا، وإن بريح بخلاف بلدهموفي الأجهوري في شرح خليل: إن من ضل من المجاهدين عن الطريق، ولم يجتمع بهم إلا بعد حوز الغنيمة يسهم له مطلقا أي سواء تاه وضل في بلاد الكفار أو المسلمين، وأما من رد لبلدنا فإن كان بريح أسهم له، وإن كان بغير

ريح، فإن كان بغير اختياره أسهم له، وإن كان باختياره فلا يسهم له. "و" كذا "يسهم للمريض" الذي شهد القتال مريضا "و" كذا "الفرس الرهيص" يسهم لهقال خليل عاطفا على ما يسهم له: ومريض شهد كفرس رهيص، والمتبادر من كلام المصنف كخليل أن المريض شهد القتال من أوله مريضا واستمر كذلك إلى أن انهزم العدو، وعليه جماعة من شراح خليل ولعله الصواب. لأن حضوره القتال من أوله إلى آخره صيره كالصحيح؛ لأنه لا يشترط القتال بالفعل، وإن كان الحطاب حمل قول خليل: ومريض شهد على أن معناه شهد أوله صحيحا ثم مرض واستمر مريضا إلى تمام القتال، وإنما أسهم للفرس الرهيص، وهو الذي بباطن حافره وقرة من ضربة حجر مثلا؛ لأنه بصفة الصحيح، فإن لم يشهد المريض القتال فلا يسهم له إلا أن يكون من ذوي الرأي، وإلا أسهم له، ومثله المقعد والأعمى والأعرج والأشل فإنه يسهم لهم حيث كانوا من ذوي الرأي، وقيدنا كلام المصنف بالمريض الذي شهد القتال جميعه مريضا تبعا لخليل، ومن باب أولى في الإسهام لو خرج الشخص صحيحا، ومرض بعد الإشراف على الغنيمة كما قال خليل أيضا، وأما لو مرض وانقطع قبل الإشراف على الغنيمة ففيه قولان، وهو شامل لمن خرج صحيحا، ومرض قبل دخول أرض العدو أو بعد دخول أرض العدو وقبل ابتداء القتال، ولو بيسير، وأما من خرج من بلده مريضا واستمر مريضا حاضرا حتى انقضى القتال فعلى كلام الحطاب فيه قولان، وأما على ظاهر كلام خليل وجماعة من شراحه فيسهم له من غير خلاف كما بيناهقال الأجهوري رحمه الله تعالى: ويجري في مرض الفرس ما يجري في مرض الآدمي من التفصيل، والفرق بين من شهد القتال جميعه، وهو مريض يسهم له من غير خلاف على ظاهر كلام خليل والمصنف أيضا، وبين من فيه القولان أن الأول شهد القتال، والذي فيه القولان لم يشهد جميعه بل انقطع عنه في الأثناء، وبهذا علمت ما في كلام المصنف من الإجمال، فتلخص أن المجاهد الذي حصل له المرض إن استمر مع المجاهدين حتى انقضى القتال يسهم له، وإن انقطع قبل الإشراف على الغنيمة ففيه قولان" تنبيه " لم يتكلم المصنف كخليل على من خرج من بلده مريضا ثم صح قبل الإشراف على الغنيمة، وهذا يسهم له من غير خلاف، ولعل عدم كلامهما عليه لظهور أمره فافهم راجع شراح خليلثم شرع في بيان قدر سهم الفرس بقوله: "ويسهم للفرس سهمان و" يسهم "سهم لراكبه"

قال خليل: وللفرس مثلا فارسه، وإن بسفينة أو برذونا، وهجينا وصغيرا يقدر بها على الكر والفر، وإنما وجب للفرس سهمان لعظم مؤنته، وإما لقوة المنفعة به، وظاهر كلام المصنف كخليل، ولو كان الفرس لأمير الجيش، وهو كذلك كما قاله أشهب، حيث كان أمير الجيش غير الإمام الأكبر فلا يسهم لفرسه، كما لا يسهم له في الذي يقسم بين المجاهدين، وهو الأربعة أخماس لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم". وأما النبي عليه السلام ويتبعه سائر السلاطين فلا يأخذ أحد منهم شيئا من الأربعة أخماس، وإنما يأخذون من الخمس ما يحتاجون إليه، ولو جميعه كما تقدم عن عبد الوهاب" تنبيهان " الأول : علم من الإسهام للفرس، ولو كان بسيفه أن قول المصنف لراكبه غير قيد، أو أن المراد براكبه من أعده لركوبه إن خرج إلى البر، ولعل هذا هو المتعين، ويفهم من ذكر الفرس أن نحو الحمار والبغل لا يسهم له، ولو كان المجاهد يركبه، وعلم من قول خليل: يقدر بها على الكر والفر أن العجوز الذي لا قدرة له على الكر لا يسهم له، وهو كذلك، ولذا قال خليل: لا أعجف أو كبيرا لا ينتفع به وبغل وبعير أو أتانالثاني : إنما قال المصنف لراكبه، ولم يقل لمالكه ليشمل المالك لذاته أو منفعته أو غاصبه من الغنيمة أو من غير الجيش، ولكن عليه أجرته للجيش في الأولى، ولربه في الثانية، والمغصوب من الغنيمة شامل لما إذا أخذه من خيل العدو وقبل القتال وقاتل عليه، وأما لو كان مغصوبا أو هاربا من رجل من الجيش لكان سهماه لربه لا للمقاتل عليه حيث لم يكن مع ربه غيره، وإلا كان المفروض للفرس لمن قاتل عليه وعليه أجرته لربه، بخلاف ما إذا كان السهمان لربه فلا أجرة عليه لربه. قاله شيخنا في شرح خليل، ولم يذكر أن على ربه أجرة للراكب، ولعل وجهه أنه متعد، وأما للفرس المعار للجهاد عليه فقيل سهماه للمقاتل عليه، وقيل للمغيرولما قدم أن من شهد القتال يسهم له، ولم يكن الكلام على عمومه بين هنا من يسهم بقوله: "ولا يسهم لعبد، ولا لامرأة"، ولو قاتلا على المشهور لما في مسلم عنه عليه الصلاة والسلام: "أنه لم يسهم لعبد، ولا امرأة؛ لأنهما ليسا من أهل الجهاد". "ولا" يسهم أيضا "لصبي إلا أن يطيق الصبي"، وهو عرفا "الذي لم يحتلم القتال ويجيزه الإمام ويقاتل فيسهم له" على أحد قولين أشار إليهما خليل بقوله: إلا الصبي ففيه إن أجيز وقاتل خلاف، والدليل على ذلك ما

روى سمرة بن جندب أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه غلمان الأنصار فيلحق من أراد منهم فعرضت عليه عاما فألحق غلاما وردني فقلت: يا رسول الله ألحقته ورددتني، ولو صارعني صرعته. قال: فصارعني فصرعته فألحقني" واقتصار المصنف على الإسهام للصبي المذكور يقتضي أرجحية هذا القول، وقال التتائي: وهو الظاهر من المذهب، ونقله في النوادر والموازية، وقال ابن القاسم: لا يسهم، وهو ظاهر المدونة، قال ابن عبد السلام: وهو المشهور، ولما اختلف التشهير قال خليل خلاف" تنبيه " علم من كلام المصنف حكم المحقق الذكورة والأنوثة وسكت عن الخنثى المشكل إذ قاتل بعد بلوغه الثماني عشرة، وقاتل أو حضر القتال، وفيه خلاف. فقيل: له ربع سهم الذكر، ولا وجه له، وقيل: له نصف سهم الذكر، وهو الظاهر؛ لأنه إن قدر أنثى لا شيء له، وإن قدر ذكرا فله سهم، فيستحق نصف نصيبه كالميراث إذا كان يرث بتقدير دون آخر. "و" كذا "لا يسهم للأجير"، ولو كانت منفعته لجميع المجاهدين "إلا أن يقاتل"، ومثله التاجر. قال خليل مشبها في استحقاق السهم: كتاجر وأجير إن قاتلا أو خرجا بنية غزو؛ لأنهما كثرا سواد المسلمين، لكن قال الأجهوري بعد قوله: وخرجا بنية غزو بشرط حضورهما القتال لاشتراط الحضور في حق من خرج ابتداء للجهاد فأولى هما، ولا فرق بين كون نية الغزو تابعة أو متنوعة، وسواء كانت التجارة متعلقة بالجيش أم لا، والسهم للأجير لا لمستأجره، لكن قال سحنون: يبطل من أجرته بقدر ما عطل قاله التتائي" تنبيه " علم مما تقدم أنه لا يسهم إلا للذكور الأحرار البالغين أو الصبيان على الوجه المتقدم، المسلمين الحاضرين للقتال، ومن في حكمهم كالمتخلف لحاجة متعلقة بالجيش، وكالضال مطلقا أو المردود إلى بلاد المسلمين بالريح أو لغيرها بغير اختياره. ومعنى الإطلاق كان في بلاد الإسلام أو بلاد العدو على ما رجحه العلامة الأجهوري وقدمناه أيضا، وكل من لا يسهم له لا يرضخ له، والرضخ شرعا مال يعطيه الإمام من الخمس كالنفل مصروف قدره لاجتهاد الإمام" تنبيه " ظاهر كلام المصنف أو صريحه وقول خليل أيضا أنه يشترط في استحقاق السهم لمن قاتل أو حضر القتال كون خروجه من بلده بنية الجهاد، وهو مخالف لقول التتائي، واعلم أنه لا يسهم إلا لمن اشتمل على ثمانية أوصاف، وهي: الذكورة والحرية والإسلام والبلوغ العقل وحضور القتال، ومن في حكمه وأن يخرج بنية الجهاد مستطيعا، فلا يسهم لامرأة، ولا عبد

إلى أن قال: ولا لمن خرج تاجرا، فإن ظاهره، ولو قاتل أو حضر القتال، وليس كذلك، بل متى قاتل الأجير أسهم له، ولو لم يقصد الجهاد حين خروجه، ومثله التاجر، ومن خرج مع عدم الاستطاعة وقاتل وحرر المسألةولما فرغ من الكلام على أموال الكفار التي استولى عليها المسلمون من قسم ما أخذ غنيمة، وما أخذ لا بالقتال يكون فيئا يوضع في بيت المال، وما أخذه اللص يختص به بعد تخميسه إن كان مسلما، شرع في الكلام على ما يوجد من أموال المسلمين تحت يدا الكافر من سرقة أو غصب ويسلم، وهو بيده بقوله: "ومن أسلم من العدو" الحربي حالة كونه مستوليا "على شيء في يده من أموال المسلمين" أو من في حكمهم كأهل الذمة "فهو له حلال" إن كان المال المذكور يملكه بالأمان، بأن كان أخذه قبل دخوله إلينا بأمان لا ما أخذه من أموال المسلمين بعد الدخول إلينا بأمان، فإنه يكون سرقة ينزع منهم قهرا عليهم، ولو لم يعودوا إلينا به، فقول خليل: وانتزع ما سرق ثم عيد به لا مفهوم له، وأشار خليل إلى تلك المسألة بقوله: وملك بإسلامه غير الحر المسلم، قال شراحه: سواء قدم بها أو أقام ببلده، ومثل الحر المسلم في عدم ملكه اللقطة والحبس حيث ثبت أنه حبس؛ لأن ما ثبت تحبيسه لمسلم لا يبطل تحبيسه بغنم الكفار له قاله الأجهوري، وإنما ملك بإسلامه غير ما ذكر تأليفا له على الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم على شيء فهو له" 1ومفهوم قول خليل: غير الحر المسلم أنهم يملكون ما بأيديهم من أهل الذمة، وهو كذلك على الأصح؛ لأن الذمة حق علينا لا على أهل الحرب، وأما ما كان بيده مما لا يملكه بالأمان بأن أخذه من أموال المسلمين بعد الأمان فإنه لا يملكه بإسلامه لما قدمناه من أنه ينزع منه مع بقائه على كفره. وأولى لو أسلم لما قدمنا من أنه لا يملك بالإسلام شيئا من أموال المسلمين إلا ما يملكه بالأمان، وذلك فيما أخذه قبل الدخول إلينا؛ لأنه غنيمة له يتحقق ملكه له بأمانه، وأولى بإسلامه. ووجه الفرق أنه بعد الأمان التزم شرع المسلمين، وشرع المسلمين لا يجوز فيه أخذ مال المسلم أو غيره من أهل الذمة بغير سبب شرعي" تنبيهات " الأول : يدخل في أموال المسلمين منافع الرقيق الذي فيه شائبة حرية، كأم الولد والمدبر والمعتق لأجل والمكاتب، لكن أم الولد قوي شبهها بالحرة فيجب على سيدها أن يفديها ممن أسلم عليها بقيمتها على أنها قن ويغرمها سيدها حالا من ماله إن كان مليا، وإلا
ـــــــ
1 لم أقف عليه.

اتبعت ذمته إلا أن تموت هي أو سيدها، والمدبر يخدم من أسلم، وهو بيده أو يؤجره مدة حياة السيد الذي دبره، فإذا مات سيده عتق إن حمله الثلث كله أو بعضه، وما رق يكون ملكا لمن أسلم، والمعتق لأجل يخدم حتى ينقضي الأجل ويخرج حرا بعد ذلك قهرا على من أسلم عليه، والمكاتب يؤدي ما عليه لمن أسلم عنده ويخرج حرا، وإن عجز رق لمن أسلم وولاه الذي يخرج حرا ممن ذكر لمن عقد فيه الحريةالثاني : مفهوم أسلم أن الحربي، ولو بقي على دينه ودخل عندنا بأمان وبيده أموال المسلمين أو بعض أهل الذمة فليس حكمه كذلك، وفيه تفصيل محصله إن كان أخذه قبل الدخول إلينا بأمان فإنه يكون غنيمة له يملكه بالأمان، مثاله سواء كان أخذه منا في الإسلام أو بلاد الكفر، ولا يوصف بأنه سرقة، ولا وصول لربه إليه إلا بالثمن بعد رضا الحربيقال خليل: وكره لغير المالك شراؤه من الحربي الداخل إلينا بأمان، وأما ما يأخذه من أموال المسلمين أو أهل الذمة بعد الدخول إلينا بأمان فإنه لا يملكه بل ينزع منه ثم عاد به أم لا، ولا يكون له إذا أسلم كما بيناهقال خليل: وانتزع ما سرق ثم عيد به على الأظهر ولا مفهوم لعيدالثالث : مفهوم أموال أن غيرها من الأحرار المسلمين لا يملكها بالإسلام كما قدمنا عن خليل، وأما الذمي فلا ينزع منه، وأما لو دخل إلينا بأمان وبيده أحرار مسلمون فحكمهم حكم الأموال، فإن كان أخذهم قبل الدخول إلينا بأمان فلا ينزعون منهم على أحد قولين أشار إليهما خليل بقوله: لا أحرار مسلمون قدموا بهم، والمعتمد من القولين أنهم ينزعون منهم بالقيمة على ما عليه جميع أصحاب مالك وبه العمل؛ لأنا إنما أعطيناهم الأمان على إقامة شرعنا، وشرعنا لا يقضي بتملك الحر المسلم، وحينئذ فما اقتصر عليه خليل خلاف المعتمد،
فإن قيل: كيف لا ينزعون من الداخل بالأمان على ما مشى عليه خليل بقوله: لا أحرار مسلمون قدموا بهم، لأن المراد قدموا بأمان وينزعون مما أسلم اتفاقا، وكان القياس العكس أو النزع في الجميع؟فالجواب: أن من أسلم التزم اتباع شرع المسلمين فلم يبقوا بيده،
فإن قيل: الداخل بأمان التزم اتباع شرع المسلمين أيضا، فالجواب: أن الداخل بالأمان يطلب ترغيبه في الإسلام بدليل استحقاقه مال المسلم الذي أخذه منا قهرا لا ما أخذه بعد الأمان.

الرابع : مثل من أسلم على شيء في يديه من ضربت عليه الجزية أو هو دون أو اشتري منه شيء من ذلك ببلد الحربولما كانت دار الحرب تملك قال: "ومن اشترى شيئا منها" أي من أموال المسلمين "من العدو" بأرض الحرب ثم قدم بلاد المسلمين بما اشتراه "لم يأخذه ربه" من مشتريه "إلا بالثمن" الذي بذله المشتري للحربي إن كان يحل تملكه، لا إن اشتراه بنحو خمر فإنه يأخذه ربه مجانا" تنبيهات ". الأول : أجمل في قوله بالثمن، والمراد به المثل إن كان عينا، وإن كان مقوما فبقيمته بموضع أخذه، وأما إن كان مكيلا أو موزونا فإن أمكنه الرجوع إلى بلد الحرب أعطاه المثل هناك، وإلا أعطاه القيمة بموضع افتكاكه لتعذر المثل، ويصدق المشتري في قدر الثمن إن أشبه ويأخذه، ولو جبرا على المشتري كالمأخوذ من يد المشتري من المقاسمالثاني : مفهوم اشترى أن من وهبه الحربي شيئا من أموال المسلمين أو الذميين ليس حكمه كذلك، ومحصل الكلام فيه أن الهبة إن كانت للثواب فكالبيع، وإن كانت لغيره فيأخذه صاحبه مجاناقال خليل: ولمسلم أو ذمي أخذ ما وهبوه بدراهم مجانا، وبعوض به إن لم يبع فيمضي، ولمالكه الثمن أو الزائدالثالث : إنما قيدنا الشراء بدار الحرب للاحتراز عن الشراء من الحربيين بدار الإسلام فيه تفصيل بين وقوع الشراء قبل إعطائه الأمان، فيكون كالبيع الواقع في دار الحرب فلا وصول لربه إليه إلا بالثمن فيأخذه، ولو جبرا على مشتريه، وإن كان بعد إعطائه الأمان فإنها تفوت على ربها، ولا وصول له إليها إلا بالشراء بعد رضا المشتري لها، إذ لا جبر له إلا في المشتري بدار الحرب أو الإسلام قبل إعطائه الأمانقال خليل: وكره لغير المالك اشتراه سلعة وفاتت به وبهبتهم لهاالرابع : مفهوم قول المصنف: من العدو الحربي أن من اشترى شيئا من أيدي اللصوص المسلمين ثم تبين أنه ملك لغير بائعه فليس حكمه كذلك، بل يأخذه صاحبه مجانا ويرجع المشتري على بائعه، إلا أن يكون إنما اشتراه ليرده إلى مالكه، فإنه يأخذه منه بالثمن إن لم يمكن شراؤه بأقل منه، وإليه أشار خليل بقوله: والأحسن في المفدى من لص أخذه بالفداء حيث فداه؛ ليرده إلى ربه لا على نية تملكه، وأن لا يمكن أخذه إلا بالفداء لكون اللص لا تناله

الجيش فيرغبهم بذلك في القتال، فإن استووا فيما يقتضي التنفيل جاز تنفيلهم جميعا، والحصر في قوله: ولا نفل إلا من الخمس يقتضي أنه لا يجوز له التنفيل من نحو الجزية أو غيرها مما يوضع في بيت المال مع أن له ذلك، ويمكن الجواب بأن الحصر إضافي أي لا من الأربعة أخماس الباقية للمجاهدينقال الفاكهاني: ويستحب أن يكون النفل مما يظهر أثره على المنفل كالفرس والثوب والعمامة والسيف؛ لأنها أعظم في النفوس، ويجب أن يكون المنفل من السلب المعتاد لا سوار، ولا صليب، ولا غيره لعدم اعتيادها"ولا يكون" أي لا يجوز التنفيل "قبل" أخذ "الغنيمة" بأن يكون بالوعد المشار إليه بقول خليل: ولم يجز إن لم ينقض القتال من قتل قتيلا فله سلبه؛ لأن ذلك يؤدي إلى إبطال نيتهم، ويحملهم على اتباع صاحب المال وترك قتال الشجاع، ومفهوم كلامه أنه لو قال ذلك بعد الاستيلاء على الغنيمة لجاز، وللقاتل إن كان مسلما سلب كل من قتله، وإن تعدد أو لم يسمع قول الإمام قال خليل: وللمسلم فقط سلب اعتيد لا سوار، ولا صليب، ولا عين، ولا دابة، وإن لم يسمع أو تعدد" تنبيهات " الأول : لم يبين المصنف حكم ما لو ارتكب المنهي عنه ونفل قبل الاستيلاء على الغنيمة بأن قال: من قتل قتيلا فله سلبه، وبينه خليل بقوله: ومضى إن لم يبطله قبل المغنم؛ لأنه بمنزلة حكم بمختلف فيه، فللقاتل سلب كل من قتله، وإن تعدد مقتوله حيث لم يكن الإمام عين قاتلا، وأما لو عين بأن قال: يا زيد إن قتلت قتيلا فلك سلبه فقتل جماعة فليس له إلا سلب الأول إن عرف، فإن جهل فقيل له سلب أقلهم، وإلا شارك بنسبة واحد لهم، فإن كانا اثنين فله النصف، وهكذا. وهذا إذا قتل واحدا بعد آخر، وأما لو قتل المعين اثنين دفعة واحدة فقيل له سلبهما معا، وقيل له سلب أكثرهما، ويشترط في ذلك المقتول أن يكون ممن يجوز قتله لا نحو امرأة أو صبي إلا أن يقاتلالثاني : وهذا الذي يتعين مستحقه يسمى السلب الكلي؛ لأن السلب ينقسم إلى كلي وجزئي، فالجزئي ما يتعين آخذه، ومنه ما تقدم بأن يعطي الإمام شخصا معينا شيئا، وأما الكلي فهو الذي لم يتعين آخذه بأن يقول الإمام: من قتل قتيلا فله سلبهالثالث : تلخص مما قدمناه أن كل من قتل قتيلا بعد قول الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه، فله أخذ سلب مقتوله، وإن تعدد، وإن كان القاتل الإمام بناء على أن المتكلم يدخل في عموم

كلامه، إلا أن يكون الإمام قال منكم أو يخص نفسه، وإلا فلا شيء له في الصورتين لإخراجه نفسه في الأولى، ولمحاباته في الثانيةالرابع : بقي لو تعدد القاتل واتحد المقتول أو تعدد فالسلب بينهم على الشركة، ولو كان بعضهم راجلا وبعضهم راكبا، ووقع خلاف في الذي يأتي برأس شخص ويدعي أنه قتله، فقيل يصدق، وله سلبه، وقيل لا يصدق إلا ببينة، بخلاف من قدم بسلب شخص ويدعي أنه قتله، فإنه لا يصدق إلا ببينة من غير خلاف. والفرق بين الصورتين أن وجود الرأس معه في الصورة الأولى يرجح جانبه في الخلاف، بخلاف الثانية. قال ابن سحنون: ولو قال لعشرة: إن قتلتم هؤلاء فلكم أسلابهم، لم يختص القاتل منهم بسلب قتيله بل تكون أسلابهم شركة بينهم بالسوية، ولو قتل تسعة منهم تسعة أعلاج وقتل عاشر الأعلاج عاشر المسلمين فالأسلاب للقاتلين فقط، ولو بقي عاشر المسلمين شركهم. قال ابن عرفة قلت: فيلزم لو مات بعض القاتلين لم يكن لوارثه شيء، وإلا فلا شيء للحي العاشر، راجع التتائي"والسلب" بفتح اللام، وهو ما يسلبه القاتل من الحربي مما يعتاد أخذه في الحرب كفرسه ودرعه وسيفه ورمحه، ومنطقته، ويدخل في فرسه الممسوك بيده أو بيد غلامه للقتال، وسمي سلبا لسلبه منهم فهو مصدر بمعنى المفعول، ويستحقه كل من قتل قتيلا بعد قول الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه، وإن لم يسمعه أو تعدد كما قدمناه وخبر السلب كائن. "من النفل" الذي مر تعريفه بأنه مال موكول علم قدره للإمام فلا يكون إلا محسوبا من الخمس، وهذا مستغنى عنه بقوله فيما مر: ولا نفل إلا من الخمس، والسلب من جملة النفلولما كان الرباط شبيها بالجهاد ذكره عقبه بقوله: "والرباط" بكسر الراء لغة: مطلق الإقامةوشرعا: الإقامة في ثغر من الثغور لحراسة من بها من المسلمين، والثغر بالمثلثة الموضع الذي يخاف فيه من الكفار كدمياط وعسقلان، وإسكندرية من البلاد القريبة من بلاد الكفرة بساحل البحر الملح، وخبر الرباط كائن. "فيه فضل" أي ثواب "كثير" بالمثلثة، ولم يبين المصنف حكمه هنا، وسيأتي في باب جمل ينص على أنه واجب بقوله: والرباط في ثغور المسلمين وحياطتها واجب يحمله من قام به فهو كالجهاد، وورد في فضله أحاديث كثيرة فمنها ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" 1. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير باب فضل رباط يوم في سبيل الله، حديث "2892"، ومسلم، كتاب الإمارة باب فضل الرباط في سبيل الله،حديث "1913".

"حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله" 1. ومنها: "رباط ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة تقوم ليلها فلا تفتر وتصوم نهارها فلا تفطر" 2وغير ذلك من الأحاديث الدالة على كثرة ثوابه، وظاهر تلك الأحاديث أن ذلك الفضل إنما يحصل لمن رابط لمجرد سد الثغر لا من سكن بأهله، وأقام فيه لمجرد التجارة، لقول ابن حبيب: من سكن الثغر بأهله وولده لم يكن مرابطا، اللهم إلا أن تكون سكناه تبعا للرباط، ولولاه لما سكنه، كما أشار إليه الباجي ورجحه بعض الفضلاء، وجرى خلاف في تفضيله على الجهاد، ويظهر لي فضل الجهاد على الرباط لمزية من ذهب للقتال على من مكث في محل الخوف، وأفضل العبادات أحمزها أي أشقها" تنبيه " الأنسب التعبير بعظيم بدل كثير، لما تقرر من أن الكثرة والقلة من عوارض الكميات، وأما العظمة والحقارة فمن عوارض الكيفيات، فيقال: الله ذو الفضل العظيم والثواب العظيم، ولكن المصنف رحمه الله لم يقصد في هذا الكتاب إلا العبارة المألوفة، ثم بين أن فضله يختلف باختلاف شدة الخوف وقلته بقوله: "وذلك" الفضل بمعنى الثواب متفاوت بالقلة والكثرة. "بقدر" أي بحسب "كثرة خوف أهل ذلك الثغر" الواقع فيه الرباط "و" بقدر "كثرة تحرزهم من عدوهم"، وإذا كان الخوف بمحل ثم زال فلا يندب الرباط؛ لأن المقصود منه التحصن والتحفظ من سطوة العدو، وإذا حصل الأمن منه فلا حاجة للرباطولما كانت طاعة الوالدين من الفروض العينية قال: "ولا يغزى" بالبناء للمجهول أي يحرم على الولد الغزو "بغير إذن الأبوين" أي القريبين لا الجد والجدة؛ لأن الغزو الأصل فيه الوجوب كفاية، وإطاعتهما عينية، وظاهر كلامه، ولو كانا كافرين، وليس كذلك، إذ ليس للأبوين الكافرين منع ولدهما من الجهاد، ولذا قال خليل رحمه الله: والكافر كغيره في غيره، لكن قيده المواق بما إذا علم أن منعهما منه إنما هو لكراهتهما إعانة الإسلام ونصرته وإلا كانا كالمسلمين، ولا مفهوم للغزو، بل سائر فروض الكفاية لا يجوز للولد الخروج إلى شيء منها بغير إذن الأبوين. قال خليل في مسقطات الجهاد: وسقط بمرض وصبى وجنون وعمى وعرج
ـــــــ
1 أخرجه أحمد "4/134"، حديث "17252"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، حديث "2892"، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله، حديث "1913".

وأنوثة وعجز عن محتاج له ورق ودين حل كوالدين في فرض كفاية، وكتجر ببحر أو خطر على ما صوبه بعضهم، فشمل الخروج لطلب العلم الزائد على العينيقال الأجهوري: وإنما يمنع الوالدان أو أحدهما الولد من الخروج لفرض الكفاية إذا كان علما إذا كانا في محلهما من يقوم بفرض الكفاية. وأما إذا خلا عن ذلك فلا يمنعانه من ذلك؛ لأن فرض الكفاية قبل الشروع فيه يخاطب به كل أحد فيشبه الفرض العيني، وهما لا يمنعان الولد منه، وقال الطرطوشي: لو منعه أبواه من الخروج للفقه والكتاب والسنة، ومعرفة الإجماع والخلاف، ومراتبه، ومراتب القياس، فإن كان ذلك موجودا في بلده لم يخرج إلا بإذنهما، وإلا خرج، ولا طاعة لهما في منعه؛ لأن تحصيل درجات المجتهدين فرض كفاية، وقيدنا بالزائد على العيني؛ لأنهما لا يمنعان الولد من الخروج لمعرفته كمعرفة أحكام الصلاة والصوم وعقائد الإيمان وغير ذلك من الفروض العينية" تنبيهان " الأول : وإذا خرج بإذنهما فالمعتبر منه الإذن باللسان والباطن، فلا يجوز له الخروج بمجرد إذنهما باللسان حتى يكون القلب كذلك، فلا يخرج إذا أذنا بلسانهما، وهما يبكيان، وإذا اختلفا في الإذن وعدمه فلا يجوز الخروج حتى يتفقا عليه، كما يفهم من قوله الأبوينالثاني : علم مما قدمنا من كلام خليل أن مثل الغزو كل سفر مخوف؛ لقول المصنف: يغزى، ومثل الوالدين أو أحرى منهما السيد مع عبده إذ له منعه من بعض المباحات، وكذا صاحب الدين له منع من عليه الدين من مطلق السفر إذا كان يحل في غيبته، وأولى الحال بشرط القدرة على أدائه حتى يؤديه أو يوكل من يؤديه إذا كان لا يتمكن من أدائه في تلك الحالة أو يأذن له الدين في السفر؛ لأن أمر الدين شديد، فقد قال الأقفهسي: الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين لما روي: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من مات مقبلا غير مدبر أي مات على كلمة الإيمان أيكفر الله عنه خطاياه؟ فقال: "نعم"، فولى الرجل، فدعاه وأمر من دعاه فقال : "أعد علي مقالتك"، فأعاد عليه، فقال له: "نعم إلا من عليه دين" 1. انتهى. لكن قال الفاكهاني: قد قيل إن ذلك كان في أول الإسلام لما روي: أن الله - عز وجل - يقضي عن دينه، وورد أيضا: أنه يجب على السلطان وفاء دين من مات معسرا بعد أن كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، ولما كان
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، حديث "1885".

النهي من الغزو بغير إذن الأبوين، وإنما هو في الغزو الواجب كفاية قال: "إلا أن يفجأ العدو" أي بغير أن ينزل، وإن لم يغز "مدينة قوم ويغيرون عليهم" تفسير ليفجأ، ولذا كان الواجب حذف النون من يغيرون؛ لأن مفسر الشيء يعرب بإعرابه "ففرض عليهم" أي على جميع أهل المدينة "دفعهم" أي العدو "ولا" يجب أن "يستأذن" بالبناء للمفعول ونائب الفاعل "الأبوان في مثل هذا"، ولا الرجال، ولا الساداتقال خليل: وتعين بفجأ العدو، وإن على امرأة. قال شراحه: أو عبد وعلى من بقربهم إن عجزوا، والحاصل أنه يجب في تلك الحالة الجهاد على كل من له قدرة، ولو امرأة أو عبدا أو مديانا، وعلى هذا فيسهم للعبد لخطابه إذ ذاك، ومحل التعيين وحرمة الفرار إن بلغ أهل المدينة، ومن في حكمهم النصف أو اثني عشر ألفا، وإلا جاز الفرار كما تقدم. والقيود المتقدمة تأتي هنا، ولا يقال: إن ما تقدم في الجهاد الكفائي، وهذا عيني؛ لأنا نقول: إذا حصل الشروع في القتال صار عينا في الموضعين بدليل حرمة الفرار فافهم. "خاتمة" لم يتعرض المصنف كخليل لحكم ما إذا ترك الناس القتال مع أهل تلك المدينة التي فجأ العدو على أهلها، هل يضمنون لتركهم الواجب عليهم ويصيرون من أفراد من ترك تخليص المستهلك المشار إليه بقول خليل بعد قوله: وضمن مار، إلى قوله: كترك تخليص مستهلك من نفس أو مال أم لا؟ ويظهر لي أن هؤلاء كذلك، حيث تمكنوا من تخليصهم وزجر العدو عنهم وحرر المسألة. ولما فرغ من الكلام على ما أراد ذكره من فروع الجهاد شرع في أحكام الأيمان بقوله:
* * *

باب في بيان الأيمان ومايتعلق بها
"باب في" بيان "الأيمان"1، وما يتعلق بها
وهي جمع يمين مؤنثة، ويرادفها الحلف والإيلاء، وهي أهم من القسم، وسمي الحلف يمينا لما تقرر من عادة العرب إذا حلف شخص صاحبه يضع يمينه في يمينه وقيل غير ذلك، وقسمها ابن عرفة ثلاثة أقسام بقوله: اليمين قسم أو التزام مندوب غيره مقصود به القربة أو ما يجب بإنشاء لا يفتقر لقبول تعلق بأمر مقصود عدمه فيخرج نحو: إن فعلت كذا فلله علي طلاق فلانة أو عتق عبدي فلان، ابن رشد: لا يلزم الطلاق؛ لأنه غير قربة، ويلزم العتق، ولا يجبر عليه، وإن كان معينا؛ لأنه نذر لا وفاء به إلا بنيته، وما يكره عليه غير منويقال العلامة بهرام: النذر كيف ما صدقت أحواله لا يقضى به، وإن وجب الوفاء به، ومقتضى ذلك أن: إن فعلت كذا فلله علي عتق عبدي أو التصدق بهذا الدينار غير يمين، مع أن التعريف يقتضي أنها يمين؛ لأن قائلها لم يقصد بها القربة بل قصد الامتناع من أمر، وقد قال ابن عرفة في تعريف النذر: لا لامتناع من أمر هذا يمين. وصريح كلام العلامة الأجهوري يقتضي أنها ليست يمينا مع أنها معلقة على أمر مقصود عدمه، وعلل ذلك بأنها صيغة صريحة في النذر لا تخرج عنه، ولو علقتإذا علمت هذا ظهر لك أن اليمين أعم من القسم؛ لأن القسم لا يكون إلا بالله أو صفته الذاتية، واليمين تشمل هذا وتشمل: إن فعلت كذا فعلي صوم سنة أو صدقة، وهو التزام المندوب. وتشمل: إن دخلت الدار فأنت طالق أو حر من كل ما يجب بإنشاء، وعلق على أمر مقصود عدمه، ولو بحسب المعنى نحو: إن لم أدخل الدار فأنت طالق؛ لأن الطلاق تعلق في المعنى على عدم العدم، وعدم العدم إثبات، وقيد ابن عرفة الذي يجب بإنشاء بقوله: لا يفتقر
ـــــــ
1 الأيمان: جمع يمين، وهي مؤنثة وتذكر. وتجمع أيضاً على "أيمن" ومن معاني اليمين لغة: القوة والقسم، والبركة، واليد اليمنى، والجهة اليمنى. ويقابلها: اليسار، بمعنى: اليد اليسرى، والجهة اليسرىأما في الشرع، فقد عرفها صاحب غاية المنتهى من الحنابلة بأنها: توكيد حكم بذكر معظم على وجه مخصوصمن أساليب التأكيد المتعارف في جميع العصور أسلوب التأكيد باليمين، إما لحمل المخاطب على الثقة بكلام الحالف، وأنه لم يكذب فيه إن كان خبراً، ولا يخلفه عن كان وعداً أو وعيداً أو نحوهما، وإما لتقوية عزم الحالف نفسه على فعل شيء يخشى إحجامها عنه، أو ترك شيء إقدامها عليه، وإما لتقوية الطلب من المخاطب أو غيره وحثه على شيء أو منعه عنه. فالغاية العامة لليمين قصد توكيد الخبر ثبوتا أو نفياً. الموسوعة "7/245".

لقبول للاحتراز عما يجب بالإنشاء، ويفتقر لقبول فإنه ليس بيمين نحو: بعت وأنكحت ووهبت لمعين وسائر صيغ العقود. وأما قول العلامة خليل: اليمين تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته فإنه قاصر على أحد الأقسام، وهي اليمين التي تكفر التي تسمى قسما، وإنما أطلنا في ذلك إفادة للطالب؛ لأنه قل أن يجدها على هذا الإيضاح"و" باب في بيان أحكام "النذور" جمع نذر، وهو لغة: الالتزام والوجوب وشرعا. قال ابن عرفة: النذر الأعم من الجائز إيجاب امرئ على نفسه لله أمر. الحديث: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" 1 فأطلق على المحرم نذرا، والأخص الذي يجب الوفاء به التزام طاعة بنية قربة لا لامتناع من أمر هذا يمين حسبما مر، فيخرج بطاعة التزام المكروه والمباح والحرام، وخرج بقوله: بنية قربة التزام الطاعة لأجل الامتناع من أمر فإنه يكون يمينا نحو: إن فعلت كذا فعلي صوم أو صلاة أو صدقة دينار، وإطلاقه في الامتناع من أمر يتناول ما كان بصيغته الصريحة نحو: إن كلمت فلانا فلله علي عتق عبدي أو صوم سنة، وقد قدمنا عن الأجهوري ما يعين أنها لا تخرج عن النذر، ولو قصد بها الامتناع من أمروكلام ابن عرفة يقتضي أنها يمين إذا قصد بها الامتناع من أمر، فانظر أي الكلامين هو الصواب. ثم شرع في أحد أقسام اليمين، وهو القسم بقوله: "ومن كان حالفا" أي مريد الحلف "فليحلف بالله" أي بذكر اسم الله نحو: بالله أو العليم أو الخالق أو الرزاق أو الصبور من كل ما دل على الذات، أو بذكر صفة من صفاته الذاتية كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والكلام، أو بذكر الصفة الجامعة كجلال الله أو عظمته، والصفة النفسية كالوجود أو السلبية كالوحدانية والقدم، ونظر العلامة الأجهوري في الصفات المعنوية "أو ليصمت" أي لا يحلف، إذ لا يجوز الحلف بغير ذلك كالنبي والكعبة وحياة الأب أو تربته أو نعمه أو رأس السلطان مما يحلف به الجهلة فإنه حرام لخبر: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" 2 فما ذكره المصنف بعض حديث الموطإ، ومسلم فبين
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة، حديث "6696" والترمذي، حديث "1526"، والنسائي، حديث "3806"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً، حديث "6108"، ومسلم، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله، حديث "1646"، وأبو داود، حديث "3249"، والترمذي، حديث "1533"، والنسائي، حديث "3765"، وابن ماجه، حديث "2094".

رحمه الله الدليل والحكم" تنبيهات " الأول : إنما قيدنا الصفات بما مر للاحتراز عن صفات الأفعال كالخلق والرزق والإحياء والإماتة فلا تنعقد بها يمين بلا خلاف لرجوعها للحلف بغير اللهالثاني : لم يعلم من كلام المصنف كغيره اشتراط ذكر الاسم أو الصفة باللفظ العربي وفيه خلاف، والذي لصاحب الوقار عدم الاشتراط فإنه قال: ومن حلف بالله بشيء من اللغات وحنث فعليه الكفارة، ومن حلف بوجه الله وحنث كفر، ومن حلف بعرش الله وحنث فلا كفارة عليه، وأقول: مما لا كفارة في الحلف به الحلف بالعلم الشريف مرادا به علم الشرائع أو أطلق؛ لأنه لم يحلف بالله، ولا بصفة من صفاتهالثالث : إنما قدرنا بذكر اسم الله إشارة إلى أن اليمين لا تنعقد بالنية، ولا بلفظ مباين مراد به اسم الله كقوله: بزيد ما فعلت كذا يريد به بالله، ومثل ذلك من أسقط الهاء من لفظ الجلالة، ويظهر لي إلا أن يسقطها عجزا وحررهالرابع : المفهوم من كلام المصنف والحديث أيضا جواز الإقدام على الحلف بالأيمان الشرعية، وهو كذلك عند أكثر الشيوخ، ولذا قال ابن رشد: اليمين على ثلاثة أقسام: مباحة كالحلف بالله أو غيره مما يجوز الحلف به. ومكروهة كالحلف بالآباء والمسجد والرسول، ومكة والصلاة والزكاة. ومحظورة كالحلف باللات والعزى، وإن اعتقد تعظيم هذه فإنه يكفر، هذا ملخص كلام ابن رشد، وما قال فيه: إنه مكروه استظهر العلامة خليل في توضيحه حرمته، وما قيل من أنه عليه الصلاة والسلام حلف بالمخلوق بعض الأحيان فغير صحيح أو منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا" 1 الحديثالخامس:
فإن قيل: يشكل على حصر الاسم في اليمين بالله وصفاته ما في القرآن من نحو: والنجم والشمس والليل وغير ذلك، فهذا أقسام ببعض المخلوقات فالجواب: أن كلام المصنف والحديث بالنسبة إلى إقسامات البشر، وما في القرآن أقسام من الله على بعض خلقه ببعض ما يعظمونه من المخلوقات، وله - تعالى - أن يقسم بما شاء على من يشاء من مخلوقات، وإن أجاب بعض الشيوخ بأنه يمكن أن يكون المقسم به محذوفا تقديره: ورب النجم أو خالق النجم
ـــــــ
1 صحيح: انظر السابق.

فخلاف الظاهر؛ لأنه لو كان كذلك لصرح في بعض المواضع، ولم يثبتثم ذكر ما هو كالدليل على حرمة الحلف بغير الله وصفاته بقوله: "ويؤدب" باجتهاد الحاكم كل "من حلف" من المكلفين "بطلاق أو عتاق" لخبر: "لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق فإنهما من أيمان الفساق" وظاهر كلام المصنف كان الحالف متزوجا، ومالكا أم لا؟ أكثر من الحلف بذلك أم لا؟. وهو كذلك؛ لأن الإمام يجب عليه أن يعزر كل من ارتكب معصية كررها أم لا، إلا أن يكون جاهلا فينهى، ولا يؤدب، وقولنا باجتهاد الإمام لاختلاف أحوال الناس، ولأن التعازير ليس لها حد، فإن منهم من تأديبه بالضرب، ومنهم من تعزيره بقلع العمامة، والمحدود بحد إنما هو الحد كحد الزنا للبكر، وكحد الشرب والقذف، ومثل الحلف بالطلاق كنايته كالحلف بالحرام أو بالأيمان اللازمة، ويلزمه في الحلف بالأيمان اللازمة ما نواه أو جرى به العرف، وحيث لا نية، ولا عرف لأهل بلده أو له فلا شيء عليه سوى الأدب" تنبيه " لم يتكلم المصنف على أدب من حلف بحياة الأب أو رأس السلطان، والذي يظهر أنه يؤدب على القول بحرمة الحلف بها لا على القول بالكراهة وحرر الحكمولما كان يتوهم من النهي عن الحلف بالطلاق والعتاق عدم اللزوم قال: "ويلزمه" أي الحالف بالطلاق أو العتاق حيث حنث في الطلاق واحدة إلا بنية أكثر، وفي العتق عتق من حلف بعتقه، وإن أطلق، وكان ذا عبيد اختار واحدا، وإن لم يكن له عبيد وقت الحلف لم يلزمه كالحالف بالطلاق، ولا زوجة له لا يلزمه شيء؛ لأن ركن الطلاق المحل المملوك للزوج وقت الحلف تحقيقا أو تقديرا، كقوله لامرأة حين عرضها عليه: إن تزوجتك فأنت طالقثم شرع في حكم الاستثناء بإن شاء الله بقوله: "ولا ثنيا، ولا كفارة" مفيدتان "إلا في اليمين بالله عز وجل أو بشيء من أسمائه" كالعليم والسميع فهو من عطف العام على الخاص"أو بشيء من صفاته" أو بالنذر المبهم، والمعنى: أن الحالف إذا حلف على شيء واستثنى بأن قال بأثر اليمين: إن شاء الله، أو قضى الله، أو أراد، أو إلا أن يشاء الله أو يقضي أو يريد أو وفعل المحلوف عليه، فإن كانت يمينه بطلاق أو عتق أو نذر معين لا يفيده شيئا، وإن كانت يمينه بالله أو صفته أو نذر مبهم لا شيء عليه، والمراد بالنذر المبهم الذي لم يسم الناذر له مخرجا بأن لم يعين الشيء المنذور، فإذا قال: والله إن فعلت كذا أو إن فعلت كذا فعلي نذر وفعل الشيء المحلوف عليه فلا شيء عليه إن قال عقب يمينه أو نذره إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله، بخلاف لو قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله، أو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، أو إلا أن يشاء

الله، أو يريد، أو قال: إن كلمت زيدا فعلي التصدق بهذا الدينار إلا أن يشاء الله، ثم فعل المحلوف عليه فإنه يلزمه اليمين، ولم يفده الاستثناء، وعلم من تقريرنا أنه لا فرق بين كون الطلاق أو العتق منجزا أو معلقا بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو قال للعبد: إن دخلت الدار فأنت حر إن شاء الله ثم حصل المعلق عليه فإنه يحنث، ولو استثنى، والمنجز كقوله لزوجته: أنت طالق إن شاء الله، أو لعبده: أنت حر إن شاء الله، لم يفده، ولا ينفعه الاستثناء، ولو صرف المشيئة للمعلق عليه على المشهور عند ابن القاسم؛ لقول خليل في باب الطلاق بالعطف على ما ينجز فيه الطلاق: أو صرف المشيئة على معلق عليه" تنبيهات " الأول : قد عرفت مما ذكرنا أن المراد بالثنيا الاستثناء بإن شاء الله، أو أراد، أو قضى، على ما قال ابن رشد، وإطلاق الاستثناء على التعليق بالمشيئة مجاز بحسب اللغة؛ لأن الاستثناء لغة مطلق الإخراج والتقييد بالشرط بقولنا: إن شاء الله مخرج لبعض أحوال الشروط، والاستثناء في الاصطلاح هو الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها، فالعلاقة بين اللغوي والاصطلاحي مطلق الإخراجالثاني : شرط ابن الحاجب في إفادة الاستثناء في اليمين بالله، وما ألحق به من النذر المبهم كونه في أمر مستقبل حيث قال: الاستثناء بإن شاء الله لا ينفع في غير اليمين بالله على مستقبل. قال ابن عبد السلام في شرحه: إنما اختصت المشيئة بالمستقبل؛ لأن اليمين على ماض إما لغو أو غموس، ولا تكون الكفارة لواحد منهما، ووضح ذلك الأجهوري في شرح خليل حيث قال: واعلم أن اليمين المتعلقة بالماضي لا تكفر؛ لأنها إما لغو أو غموس أو صادقة، وأن المتعلقة بالمستقبل تكفر، ولو لغوا أو غموسا، وأن المتعلقة بالحال تكفر إن كانت غموسا، ولا تكفر إن كانت لغواالثالث : قدمنا أن مثل اليمين بالله في إفادة الاستثناء واللغو النذر المبهم، وهو الذي لم يعين فيه الشيء المنذور، وهو كذلك عند مالك. قال في المدونة: ولا ثنيا، ولا لغو في طلاق، ولا مشي ولا صدقة، ولا غيرها إلا في اليمين بالله أو نذر لا مخرج له، وزاد الأجهوري: كل ما فيه كفارة يمين كحلفه بالكفارةثم فرع على مفهوم، ولا ثنيا، ولا كفارة إلا في اليمين بالله وقوله: "ومن حلف واستثنى" بأن قال: والله لا أفعل كذا إن شاء الله أو إلا أن يشاء أو يريد أو يقضي ثم فعله اختيارا. "فلا كفارة عليه" لوجود الاستثناء الموجب لعدم الكفارة بشروط أحدها. "إذا قصد" بقوله: إن شاء

الله "الاستثناء" أي حل اليمين لا إن قصد التبرك أو لا قصد له بأن جرى على لسانه. "و" ثانيها إن تلفظ به بأن "قال إن شاء الله"، وإن سرا بحركة لسانه فلا تكفي النية من غير تلفظ. "و" ثالثها أن يكون قد "وصلها" أي كلمة إن شاء "الله بيمينه قبل أن يصمت"، ولا يضر الفصل الاضطراري لعطاس أو سعالقال خليل: وأفاد أي الاستثناء بكإلا في الجميع إن اتصل إلا لعارض ونوى الاستثناء وقصد ونطق به، وإن سرا بحركة لسانه. "وإلا" بأن لم يقصد الاستثناء أو لم يتلفظ أو فصل اختيارا بين قوله بالله وبين قوله إن شاء الله. "لم ينفعه ذلك" الاستثناء وتلزمه الكفارة، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على شيء ثم رأى خيرا منه فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" 1. فلو كان الاستثناء ينفعه بعد حين لما كان للكفارة فائدة؛ لأن أمره المخالف بالتكفير بعد مضي مدة من الحلف دليل على عدم صحة الاستثناء بعد الفصل الاختياري، ولا يشترط في الاستثناء أن يكون المستثنى منوي الخروج قبل الفراغ من اليمين، بل لو طرأت نيته بعد تمام اليمين واتصلت باللفظ نفعت على المشهور، بخلاف المحاشاة فيشترط تقدم نيتها قبل التلفظ باليمينقال الأجهوري: والحاصل أنه في المحاشاة لا بد أن تسبق النية لفظه بالحلف، وأما في الاستثناء فتنفعه النية الوالية لتمام الحلف، ولو حكما؛ لأنه لا يضر الفصل الاضطراري، ولعل وجه الفرق بين الاستثناء والمحاشاة أن الاستثناء لا بد فيه من التلفظ، وأما المحاشاة فلا تحتاج إلى التلفظ بما نوى إخراجه، فلذا اشترط تقدم نية إخراجه قبل التلفظ باليمين، فإذا قال الحلال عليه حرام بعد إخراج الزوجة من الحلال بنيته لم تطلق عليه وتفيده نيته. ولو قامت عليه بينة بالحلف بالحلال عليه حرام وفعل المحلوف عليه لكن يحلف على ما ادعاه من المحاشاة، وإنما لم يشترط التلفظ بما حاشاه وأخرجه؛ لأنه لما أخرجه ابتداء لم يدخل في لفظ الحلال حتى يحتاج إلى إخراجه. والحاصل أن المحاشاة تخالف الاستثناء في أمرين. أحدهما: اشتراط التلفظ بالمستثنى في الاستثناء في نحو قولك: قام القوم إلا زيدا بخلاف المحاشاة. والثاني: عدم اشتراط نية إخراجه قبل التلفظ بالمستثنى منه، فالمحاشاة من باب العام الذي
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيراً منها، حديث "1650"، والترمذي، حديث "1530"، والنسائي، حديث "3781"، وأحمد "2/361"، حديث "8719".

أريد به الخصوص والاستثناء من قبيل العام المخصوص، وإيضاح الفرق أن العام الذي أريد به الخصوص يستعمل اللفظ العام مرادا به بعض أفراده من أول الأمر، فعمومه لم يرد تناولا، ولا حكما، بل لفظ الكلي مستعمل في بعض جزئياته، بخلاف العام المخصوص عمومه مراد تناولا أي لفظا لا حقيقة بدليل الاستثناء، فالحلال من قول الحالف الحلال عليه حرام محاشيا الزوجة مستعمل في غير الزوجة، فاللفظ العام في المحاشاة من قبيل المجاز، وفي الاستثناء من قبيل الحقيقة فافهم" تنبيهات " الأول : محل إفادة الاستثناء بإن شاء الله ما لم تكن اليمين في وثيقة حق فقد قال صاحب الكافي: الاستثناء في وثيقة الحق لا ينفع، ولو جهر به. وفيه أيضا: أن نية الحالف لا تعتبر، ولو لم يكن من المحلف نية تخالفها، وهو واضح لاشتراط التلفظ بصيغة الاستثناء، وأما المحاشاة فوقع خلاف في إفادتها، إذا كانت اليمين في وثيقة حق فقيل تنفع وقيل لا تنفع، والذي صرح به العلامة بهرام في شامله أن الأصح عدم إفادتهاالثاني : وقع خلاف في الاستثناء، هل هو رافع للكفارة أو حل لليمين؟ وتظهر ثمرة الخلاف فيمن حلف واستثنى ثم حلف أنه لم يحلف أو حلف لا يحلف وحلف واستثنى، فإنه يحنث فيهما على الأول لا الثاني، بخلاف لو حلف لا يكفر فحلف واستثنى فلا شيء عليه على القولين، هكذا قاله الأجهوري وغيره، وعندي وقفة في قولهم أنه لا يحنث على الثاني إذا حلف لا يحلف فحلف واستثنى إذ قد فعل المحلوف عليه، ولو انحل بالاستثناء، ألا ترى أنه لو لم يستثن لحنث؟ فتأمله منصفاثم شرع في بيان ما يكفر من الأيمان، وما لا يكفر بقوله: "والأيمان بالله" أو بصفة من صفاته "أربعة" وفي نسخة أربع، وكل صحيح لحذف المعدود، بخلاف لو ذكر لوجب حذفها؛ لأن المعدود مؤنث، وهو اليمين، وإن أردت تفصيلها. "فيمينان تكفران" بالتاء؛ لأن اليمين مؤنثة والتاء تلزم المضارع المسند إلى المؤنث الحقيقي الغائب المظهر والمضمر المفرد وغيره من مثنى وجمع. "وهو" أي أحد اليمينين اليمين المنعقدة على بر. "أن يحلف بالله إن فعلت كذا" أي لا فعلت كذا أو لا فعلت كذا، فالمنعقدة على بر لها صيغتانقال خليل: والمنعقدة على بر بأن فعلت أو لا فعلت ثم يفعل المحلوف عليه فإنه يلزمه الكفارة، فإن نافية إن لم يذكر لها جواب، وشرطية إن ذكر لها جواب نحو: والله إن فعلت كذا ما جلست في الدار، أو: والله إن قام زيد ما قمت. "أو" أي والثاني منهما "يحلف" بالله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11