الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري

سوق حمص، وتمخل في حرانشها، ثم الله أعلم بها. ثم اشزاها ذبيان، من بيت مال المسلمين، فأهداها لأبيك، فحملت بك فبثس المولود. ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا، تزعم أني من الظالمين، إذ حرمتك واهل بيتك، مال الله، الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وأن أظلم في وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لوللى، فويل لأبيك ما أكزخصماءه يوم القيامة. وكيف ينجوأبوك من خصماثه؟ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله، من استعمل الحجاج يسفك الم ويأخذ المال الحرام، وان أظلم مني وأترك لعهد الله، من استعمل قرة أعرابيا جافيا، على مصر وأذن له في المعازف واللهو والشرب، وإن أظلم مني واترك لعهحالثه، من جعل لغالية البربرية ني خمس العرب نصيبافرويدايا أبن بنانة فلو التقت حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك، ولأهل بيتك فوضحتهم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في الباطل، ومن وراء ذلك ما أرجو أق أكون رأيته من بيع رقبتك، وقسم ثمنك ب!ين اليتامى والمساكين والأرامل، فإن لكل فيك حقا. والسلام على من اتبع الهم!، ولا ينال سلام الله القوم الظالمين.
وروي أنه وقع في زمانه غلاء عظيم، فقمم عليه وفد من العرب، فاختاروأ رجلا منهم لخطابه فتقحم إليه وقال: يا أمير المؤمنين إنا وفدنا إليك من ضرورة عظيمه، وراحتنا ني بيت المال، وماله لايخلو من أن يكون لثه أو لعبالمح! أو لك، فإن كان لثه فمالفه غني عنه، ل!ان كان لعبالمحه فآتهم إياه، لان كان لك فتصمق به علينا، إن الله يجزي المتصدقينء فتغرغرت عينا عمررضى الله تعالى حكلنه بالمموع، وقال: هو كما ذكرت، وأمر بحوائجهم فقضيت فهم الأعراب بالإنصراف، فقال عمر: أيها الرجل كما أوصلت حوائج عباد الله إلمن، فأوصل حاجتي وأرفع فاقتي إلى ألثه. فقال " الأعرابي: إلهي اصنع بعمر بن عبد العزيز، كصنيعه في عباعك فما استتم كلامه حتى ارتفع غيم عظيم، وأمطرت السلى مطرا كثيرا فجاء في المطر برلمحة كبيرة، فوقعت على جرة فانكسرت، قخرج منها كاغد مكتوب فيه: هفه براعة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار. قال رجاء بن حيوه: كان عمر بن عبد العزيزرضي الله تعالى عنه، من أعظم الناس، وأجملهم ني مشيته ولبسه، فلما استخلف قومت ثيابه وع!مته، وقميصه وقباؤه، وخفاه ورداؤه، فاذا هن يعدلن إثني عشر عرهمما.
وذكر ابن عساكر وغيره، أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، كان قد شحد على أقاربه، وانتزع كثيرا مما في ايليهم، فتبرموا به وسموه، ويروى أنه دعا بخاثمه الذي اسمه، فقال له: ريحك ما حملك على أن سقيتني السم؟ قال: ألف دينارأعطيتها. قال: هاتها فجاء بها فأمر بطرحهافي بيت مال المسلمين، وقال لخاعمه: أخرج بحيث لا يراك أحد.
وعن فاطمة بنت عبد الملك، زوج عمربن عبد العزيزرضي الله تعالى عنه، أنها قالت: وافه ما اغتسل عمر من حلم ولا من جنابة منذ ولي هذا الأمر، وكان نهاره في أشغال الناس، ورد المظالم وليله في عباثة ربه تعالى. قال مصلمة بن عد الملك: دخلت على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اله تعالى عنه، أعوث! في مرضه الذي مات فيه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين، فقالت نفعل إن شاء الله تعالى، ثم عمت فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة الم آمرك أن تغسلي قميص أمير المؤمنين. ف!ن . الناس يعوثونه. فقالت: والظ ماله قميص غيره. وكان عمر رضي المحه تعالى عنه كثيرا ما يتمثل - بهنه الأبيات: نهارك يامغرور سهو وغفلة وليلك نوم والرثى لك لازم يغرك مايفنى وتفرح بالمنى كما غربالذات في النوم حالم وشغلك فيماتكره غبة كفلك في المنياتعيش البه!هلم واعلم أن مناقب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، كثيرة جدا. فمن أراد معرفة فلك فعليه بسيرة العمرين والحلية، وغيرهما. وكان مرضه رضي الله تعالى عنه، بلير سمعان من أرض حمص، ولما احتضر قال: اجلسوني فاجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، وضهيتني فعصيت، ولكن لا اله إلا الله. وتوفي رضي الله تعالى عنه، لخمس وقيل لست مضين ولحيل لعشر بقين من رجب الفرد سنة إحح! ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل وهو ابن أربعين سنة.

وكان رضي الله تعالى عنه، أبيض مليحا جميلا مهيبا، نحيف الجسم حسن اللحية، بجبهته شجة من حافر فرس ضربه وهو صغيى وكان إليه المنتهى، في العلم والفضل، والشرف والورع، والتألف ونشر العمل. جئد اله تعالى به للأمة دينها وسار فيها بسيرة جمه لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكانت لمحولته في طول ممة أي بكر الصديق رضيى الله تعالى عنهم أجمعين. وقبره رضي الله تعالى عثه، بدير سمعان ظاهر يزار. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: الخلفاء الراشمون خمسة: أبو بكر وعمر وعثلانعلي وعمر بن عبد العزيزرضي الله تعالى عنهم أجمعين. وذكر الحافظ ابن عساكر أنه لما وضع في قبره بدير سمعان هبت ريح شديحة فسقطت منها صحيفة مكتوبة بأحسن خط: بسم الله الرحمن الرحيم براعة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار. فأخفوها ووضعرها في أكفانه وكانت خلافظ رضي الله تعالى عنه سنتين وخمسة أشهر.

خلافة يزيد بن عبد الملك
ثم قام بالأمر بعمه يزيد بن عبد الملك بن مروان. بويع له بالخلافة يوم مات ابن عمه عمربن عبد العزيز، بعهدله من أخيه سليلان ذلك. ولما ولي قال: خفوا بسيىة عمربن عبد العزيز، فساروا بسيرته أربعين يوما، فدخل عليه أربعون رجلا من مثايخ ثمثق، وحلفوا له أنه ليس على الخلفاء حساب ولا عقاب في الآخرة، وخدعوه بذلك، فانخاع لهم. وكان طائفة من جهال الشامييئ يعتقمون فلك. وكالط أبيض جسيما مليح الوجه، وقال بعض المؤرخون: إن يزيد هذا هو المعروف بالفاسق وهو غلط و.إنما الفاسق ولحه الوليد كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وذكر الحاظ ابن عس!اكر رحمه اله وغيره، أن يزيد بن عبد الملك كان قد اشترى في أيام أخيه سليلا جارية من عثلا بن سهيل بن حنيف بأربعة آلاف دينار، وكان إسمها حبأبة بتشديد الباء الموحمة، وأحبها حبا شديدا، فبلغ أخاه سليلا فلك، فقال: هممت أحجر على يزيد، فبلغ فلك يزيد فباعها خوفا من أخيه سليلان فلما أفضت الخلافة اليه قالت له زوجته: يا أمير المؤمن!ين هل بقي في نفسك من المنيا شيء؟ قال: نعم. قالت: وما هو؟ قال: حبابة. فاشزتها له، وهو لا يعلم، صزينتها وأجلستها - من وراء سترلها، ثم قالت: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: أوعا أعلمتك إنها حبابة. فرفعت السز، وقالت: ها أنت وحبابة، وتركته وإياها، فحظيت عنحه، وغلبت على عقله، ولم ينتفع به في الخلافة وإنه قال يوما: إن بعض الناس يقولون أنه لن يصفو لأحد من الملوك يوم كامل من الحمر، وإني أريد أن أكنبهم في ذلك.
ثم أقبل على لذاته واختلى مع حبابة، وأمرأن يحجب عن سمعه وبصره كل ما يكره، فبينما هوعلى ظك الحالة في صفو عيشه وزياعة فرحه وسروره، إذ تناولت حبابة حبة رمان، وهي تضحك، !!صت بها فماتت، فاختل عقل يزيد، وتكمر عيثه وفمب ص وره، ووجد عليها وجدا شميدا وترمحا أيامأ، لم يمفنها بل يقبلها ويرتشفها، حتى أنتنت وجافت، فأمر بدفنها ثم نبشها من قبرها ولم يعش بعمما إلا خمسة عشريوما وكان مرضه بالسل وقال فيها: ف!ن تسل عنك النفس أو تاع الهوى فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكل خليل زارني فهو قائل من أجلك هذا هالك اليرم أرغد وسيأتي إن شاء الله تعالى قريب من هذا في باب الدال المهملة في الدابة، عن سليلا بن داود جمليهما الصلاة والسلام، وتوفي يزيد بن عبد الملك بإربل من أرض البلقاء وقيل بالجولان، رحمل كل أ!اق الر!ال إلى عض، ودفن !ن باب الجابية وباب الصغير وذلك لخمس بقين من مئ!عبان سنة خمس ومائة وله تسع وعشرون وقيل ثلانثلاثون سنة وشهر وكانت خلافته أربع سنين وشهرا.
خلافة هشام بن عبد الملك
!. ثم قام بالأمر بعحه أخوه هثام بن عبد الملك بن مروان. بويع له بالخلافة يوم مات أخوه يزيد بعهد منه إليه. ولما أتته الخلافة، كان بالرصافة فسجد وسجد أصحابه، لما بشر بها وسار إلى ثمشق، قال مصعب الزبيري: زعموا أن عبد الملك بن مروان رأى في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات، فحس من سأل سعيد بن المسيب، وكان يعبر الرؤيا، فقال: يملك من صلبه أربعة. فكان آخرهم هشاما انتهى.

وكان هشام حازما عاقلا، صاحب سياسة حسنة، أبيض جميلا، سمينا أحول، يخضب بالسواد. وكان ذا رأي وع!اء وحزم وفيه حلم وقلة شره. وقام بالخلافة أتم قيام وكان يجمع الإموال، ويوصف بالبخل والحرص، يقال: إنه جمع من الأمواد مالا ما جمعه خليفة قبله. فلما مات احتاط الوليد بن يزيد على تركته فما غسل وكفن، إلا بالقرض والعارية وكان به حول. وتوفي بالرصافة في ضهرربيع الآخر بحمثق سنة خمس وعشرين ومائة وهو ابن ثلاث وخمس!من سنة وقيل أربع وخمس!ين سنة. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وقيل عشرين عاما

خلافة الوليد بن يزيد
وهو السا!س فخلع كما سيأتي
ثم قام بالأمر بعمه ابن أخيه الوليد بن يزيد الفاسق. كان أبوه حين احتضر عهد بالأمر إلى فشام أخيه بأن يكون العهد، من بعلى لوللى الوليد بن يزيد. فلما مات هثام بويع له بالخلافة يوم موت عمه هشام وهو إذ ذاك بالبرئة فارا من عمه هشام لأنه كان بينه وبين عمه منافسة، لأجل استخفافه بالدين وشربه الخمر، واشتهاره بالفسق. فهم هشام بقتله ففر منه وصار لا يقيم بأرض خوفا من هثام، فلما كانت الليلة التي قم عليه البريد في صبيحتها بالخلافة، قلق تلك الليلة قلقا شديدا فقال لبعض أصحابه: ويحك إنه قد أخذني الليلة قلق فاركب بنا حتى ننبسط، فسارا مقدار ميلين وهما يتحدثان في أمر هثام وما يتعلق به من كتبه إليه بالتهديد والوعيد، ثم نظرا فرأيا من بعد رهجا وصوتا، ثم انكشف ذلك عن برد يطلبونه، فقال لصاحبه: ويحك إن هنه رسل هشام، اللهم اعطنا غيرهم، فلما قرب البرد منهما وأئبتوا الوليد معرفة، ترجلوا وجاؤوا فسلموا عليه بالخلافة فبهت، وقال: ويحكم أمات هشام. قالوا: نعم، ثم أعطوه الكتب فقرأها وسار من فوره إلى عمشق، فأقام في الخلافة سنة واححة، ثم أجمع أهل ثمشق على خلعه وقتله، لاشتهاره بالمنكرات وتظاهره بالكفر والزندقة.
قال الحافظ ابن عساكر وغيره: انهمك وليد في شربه الخمر ولذاته، ورفض الآخرة وراء ظهره، وأقبل على القصف واللهو والتلنذ مع النحماء والمغنين، وكان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف وكان قد انتهك محارم الله تعالى، حتى قيل له الفاسق. وكان أكمل بني أمية أدبأ، وفصاحة، وظرفأ، وأعرفهم بالنحو واللغة والحديث، وكان جوادا مفضالا. ومع ذلك لم يكن في بني أمية أكثر إثمانا للشراب والسماع، ولا أشد مجونا وتهتكا واستخفافا بأمر الأمة من الوليد بن يزيد. يقال: إنه واقع جارية له وهو سكران، وجاءه المأذنون يؤذنونه بالصلاة، فحلف أن لا يصلي بالناس إلا هي، فلبست ثيابه وتنكرت وصلت بالمسلمين وهي جنب سكرى. ويقال: إنه اصطنع بركة من خمر وكان إذا طرب ألقى ص نفسه فيها وشرب منها حتى يبيئ النقص ني أطرافها. وحكى الماورثي، في كتاب) دب الدين والدنيا، عنه أنه تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله تعالى: !واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد! فمزق المصحف وأنشأ يقول: أتوعد كل جبار عنيد فها أناذاك جبارعنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يارب مزقني الوليد فلم يلبث إلا أياما يسيرة، حتى قتل شر قتلة وصلب رأسه على قصره، ثم على أعلى مسور بللى. ا!. وسيأتي هذا أيضاً إن شاء الله تعالى في باب الطاء المهملة في الكلام على الطيرة في لفظ الطير وأخباره في مثل هذا كئيرة مشهورة في كتب التواريخ، فلا نطيل بذكرها. وقد جاء في الحديث: 9 ليكونن في هنه الأمة رجل يقال له الوليد، هو شر من فرعون " . فتأوله العلماء الوليد ابن يزيد هذا.
ولما خلعه أهل ثمشق بايعوا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فقال: من أحضر رأس الوليد فله مائة ألف ثرهم. وكان الوليد بالبحرة فحصره أصحاب يزيد، فهم أصحاب الوليد بالقتال، فنهاهم عن ذلك فانفلوا من حوله، ثم دخلوا عليه في قصره، فقالى: يوم كيوم عثمان. فقيل له: ولاسواء. فقطع رأسه، وطيف به في عمشق ونصب على قصره، ثم على أعلى سورعمشتا.
ولما قتل الوليد اضطربت البلاد واستنصر على بني أمية أعداؤهم ولم تقم لهم قائمة بعمه.

وقتل في جماثى الأولى سنة ست وعشرين ومائة. وكانت خلافته سنة واححة وقيل سنة وشهرين. وكان من أجمل الناس وأحسنهم وأقواهم وأجودهم شعرا وكان فاسقا مشتهرأ منهمكا متهتكأ فقاموا عليه لفسقه وارتكابه القبائح فخرج عليه تدينا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، الملقب بالناقص، وتغلب على ثمشق وكان الوليد بناحية تدمر في الصيد فجهزيزيد عسحكرا فحاربه إلى أن أحاطوا به بحصن البحرة من أرض تحمر، ثم تسوروا عليه وذبحوه وأتوا برأسه على رمح ثم نصبوه على سورلمحمشق.

خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
ثم قام بالأمر بعلى يزيد بن الوليد بن عبد الملك. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه الوليد بن يزيد، وهو أول خليفة كانت أمه أمة، وكان بنو أمية يتحرزون ذلك تعظيما للخلافة، ولما سقط إليهم أظ ملكهم يزود على يد خليفة كانت أمه أمة، وكانوا يتخوفون من فلك، إلى أن ولي الخلافة الوليد بن يزيد فعلموا أن ملكهم قد انق!. وكان يزيد يسمى الناقص رإنما سمي بذلك لأنه نقص أعطيات الناس، ورث! م إلى ما كانوا عليه أيام هشام، وقيل النقصان كان في أصابع رجليه، وأول من سلا بهذا مروان بن محمد. وأقام يزيد في الخلافة والأمور مضطربة عليه، وكان مظهرأ للنسك، وقراعة القرآن، وأخلاق عمر بن عبد العزيز رضي اله تعالى عنه، وكطن ذا عين وورع، إلا أنه لم يمتع وبغتته المنية. وتوفي في ثامن عشر جما!ى الآخرة من السنة المذكورة وهر ابن أربعين سنة وقيل ست رأربعين وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ولي يزيد بن عبد الملك فدعا الناس إلى القحر وحملهم عليه. وكانت خلافته خمسة أشهر ونصفا وقيل ستة أشهر والله أعلم.
خلافة ابراهيم بن الوليد
ولما مات يزيد بويع أخوه إبراهيم بن الوليد، بعهدمن أخيه يزيد بن الوليد، ولم يثبت له أمر فكان جمعة يسلم عليه بالخلافة وجمعة بالأمارة وجمعة لا يسلم عليه لا بالخلافة ولا بالإمارة، وما زالت الأمور مضطربة عليه. إلى أن قتله مروان بن محمد وصلبه. وكانت ولايته شهرين وعشرة أيام. وفي هذا نظر لأن مروان بن محمد بن مروان الح!ر، لما سمع بمبايعته، وكان نائبا على ) فربيجان وتلك النواحي، وصاحب الفتوحات سار لحينه، ودعا إلى نفسه رقمم الشام فجهز له إبراهيم بن الوليد أخويه بشرا ومسرصرا، فالتقوا وانتصر عليهم مروان فزحف حتى نزل مرج عنراء فبز إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، فانكسر فبز إليه الخليفة إبراهيم بن الوليد وعسمكر بظاهر لحمشق، فخذله جنمه وخامروا عليه بعد أن أنفق عليهم الخزائن فاختفى أمرهم. فبايع الناس مروان واستوثق له الأمر فظهر إبراهيم ودخل عليه ونزل له عن الخلافة.
خلافة مروان بن محمد
ولما قتل إبراهيم بن الوليد، بويع لمروان بن محمد المنبوز بالحمار، بالخلافة. وفي أيامه ظهر أبومسلم الخراساني صاحب الدعوة وظهر السفاح بالكوفة، وبويع له بالخلافة، وجهز عمه عبدالله بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم، لقتال مروان بن محمد فالتقى الجمعان بالزاب، زاو الموصل، واقتتلوا قتالا شديدا فافهزم مروان، وقتل من عسكره وغرق ما لا مجمى. وتبعه عبد الله 8 لى أن وصل إلى ضهر الأردن فلقي جماعة من بني أمية، وكانوا نيفا وثمانيئ رجلا، فقتلهم عن آخرهم ثم أمر عبد الد بسحبهم فسحبوا، وبسط عليهم بساطا وجلس هو وأصحابه فوقهم واستدعى بالطعام فأكلوا وهم يسمعون أنينهم من تحتهم، فقال عبد الله: يوم كيوم الحسين ولا سواء.
ئم جهز السفاح عمه صالح بن علي على طريق السماوة، فلحق بأخيه عبد الله، وقد نازل عمشق ففتحها عنوة وأباحها ثلاثة أيام، ونقض عبد الله سورها حجرا حجرا، وهرب مروان إلى مصر فتبعه صالح وقتل مروان بأبي صير، قرية من قرى الصعيد كما سيأتي في باب الهاء في لفظ الهر، وكان قد عزم على الدخوذ إلى الحبشة فبيتوه، فقال حين قتل: انقرضت لحولتنا.

وكان بطلا شحيدا شجاعا مهابا ذا هيئة أبيض ربعة أشهل ضخما، كث اللحية وكان حازما سائسا. رتمزقت بموته عولة بني أمية. وكان قتل مروان الجعل! في سنة ثلاث وثلاثيئ ومائة، وهو ابن ست وخمسين سنة، وكانت خلافته خمس سنين قيل وشهرين وعشرة أيام. وهو آخر خلفاء بني أمية وهم أربعة عشر خليفة: أولهم معاوية بز، أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وآخرهم مروان الجعمي المنبوز بالحمار وكانت ممة خلافتهم نيفاوثماني وثمان!ين سنة، وهي ألف شهرولما انقضت ثولتهم على ما قال الحسن بن علي بن أي طالب رضي الله تعالى عنهما لما قيل له: تركت الخلافة لمعاوية؟ فقال: ليلة القحر خيرمن ألف شهر. وبمولة مروان اختل النظام في أن كل ساعس يخلع، لأن العحة لم تكتمل، لأن الوليد بن يزيد المخلوع لم يل بعلى من بني أمية، سوى ثلاثة يزيد بن الوليد بن عبد الملك ثم أخوه إبراهيم ثم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وبه انقرضت ثولة بني أمية، وجاعت المولة العباسية ثبتها الله تعالى إلى قيام الساعة المولة العباسية

خلافة أبي العباس السفاح
قال المؤرخون: ولما أق الله تعالى بالمولة العباسية، كان أولهم السفاح، وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، بويع له بالخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة يوم الجمعة ثالث عشرشهر ربيع الأول واستوزر أبا سلمة حفصا الخلالي، وهو أول من لقب بالوزير واستمر اللقب لمن بعمه إلى زمن الصاحب ابن عباد. وإنما سمي بالصاحب، لأنه صحب أبن العميد واستمر على هذا الوزراء من بعمه، الى زمننا قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي وغيره أن السصاح خ!يوما فسقطت العصا من يم!، فتطيربذلك، فقام شخص من أصحابه ود - العصا وناوله إياها وأنشد : فألقت عصاها واستقر بها النوى كماقر عينا بالإياب المسافر فسزي عنه، وذكر ابن خلكان في ترجمته ، أنه نظر يوما في المرآة، وكان من أجمل الناء وجها فقال: اللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك، ولكني أقول: اللهم عمرأ طويلا في طاعتك، متمتعا بالعافية، قال: فما استتم كلامه، حتى سمع غلاما يقرل لغلام آخر الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام، فتطيرمن كلامه. وقال: حسيي اله ولا حول ولا قوة! باثه عليه توكلت وبه استعنت فما مضت الأيام المذكورة حتى أخذته الحمى فمرض ومات، ب! شهرين وخمسة أيام بالجمري، بالأنبار بمدينته التي بناها وسماها الهاشمية. وهو ابن اثنتين وثلأني سنة ونصف سنة وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر. وكان أبيض مليحا جميلا حسن الل! والهيئة.
خلافهأبي جعفر المنصور ثم قام بالأمر بعمه أخوه أبوجعفر، عبد الله بن محمد المنصور. بويع له بالخلافة يوم و أخيه، بعهد منه. وكان السفاح قد ولاه إمرة الحج فأتته الخلافة بمكان يعرف بالصافية، فقالى صفا أمرنا (ن شاء الله تعالى. فبايعه الناس وحج بهم فلما رجع ودخل الهاشمية بايعه الناس ابي العامة. وإنه حج ثانيا فلما قرب من مكة رأى على جدار سطرين مكتوبين وهما : أباجعفر حانت وفاتك وانقضت !سنوك وأمرا* لابد واقع أباجعفر هل كاهن أومنجم لك اليوم من ريب المنية دافح فلما قرأهما تيقن انقضاء أجله ف!ت بعد ثلاثة أيام وكان قد رأى في نومه قبل موته قا يقول : كأني بهذا القمرقد باد أهله وغري منه أهله ومنازله وصاررئيس القوم من بعد بهجة إلى جحث تبنى عليه جنادله وكانت وفاته في سنة ثمان وخمسين ومائة، ببئر ميمونة على أميال من مكة، وهو محرم با - وهو ابن ثلاث وستين سنة. وكانت خلافته إحمى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وأربعةء يوما. وأمه بربرية، وكان طويلا أسمر نحيفا، خفيف اللحية رحب الجبهة، كأن عينيه لسانا، ناطقا صارما مهيبا ذا ج!وت وسطوة وحزم صرأي وشجاعه، وكمال عفل ودهاء، وعلم وفقه وخبرة بالأمور، تقبله النفوس وتهابه الرجال. وكان يخلط أبهة الملك بزي النسك وكان بخيلا بالمال الا عند النوأئب.
خلافة محمد المهدي
ثم قام بالأمر بعمه ابنه أبوعبد الله محمد المهل! بالثه. بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المنصور

بعهد منه رهو يومئذ ببغداد ئم بويع له بها لإحمى عشرة من في الحجة البيعة العامة. وتوفي بقرية من قرى ما سبذان ساق خلف صيد، فدخل خربة فحق ظهره بابا الخربة، من قوة صوق الفرس فتلف لوقته، وقيل: بل سمته جاريته، قيل: إنها جعلت السم في طعام لضرتها، فدخل ومديح! فأكل، فما جسرت أن تقول له هو مسمرم.
وكانت وفاته لثلا بقين من المحرم سنة تسع وستين وماثة، ولم يوجد له نعش يحمل عليه، فحمل على باب ودفن تحت شجرة جوز، وله إثنتان وأربعون سنة ونصف، وقيل ثلاث وأربعرن سنة وكانت خلافته ع!ضر سنين وشهرا وكان جوادا ممموحا محببا إلى رعيته حسن الخلق والخلق يقال: إن أباه خلف في الخزائن مائة ألف ألف ثرهم وستين ألف ألف لحرهم ففرقها ريقال أنه أجاز شاعرا بمائه ألف عرهم.

خلافة موسى الهادي
ثم قام بالأمر بعله ابنه مومى الهاس بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، وكان مقعط بجرجان مجارب أهل طبرستان بويع له بماسبذان ثم أخذ له أخوه الرشيد البيعة ببغداد، وبعث إليه يعزيه بوالمه ويهنيه بالخلافة، فقمم بغداد على خيل البريد، فتلقاه الناس وبايعوه ثم عزم على خلع أخيه الرشيد من ولاية العهد فعاجله القضاء، وحال بينه وبين مرالمحه. وكانت وفاة افالمحي ببغداد رابع عشر شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة وله أربع وعشررن سنة وقيل نحو خمس وعشرين سنة، بقرحة أصابته. وكانت خلافته سنة واحمة وخمسة وأربع!من يوما، وقيل سنة وضهرين وكان طريلا مليحا جسعط ذا ظلم وج!وت سامحه الله تعالى.
خلافة هارون الرشيد
ثم قام بالأمر بعمه أخوه هاررن الرشيد بن عمد المهمي. وكان أبوهما قد أخذلهما ولاية العهد معا. بويع له بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخره، وولد له في تلك الليلة المأمون، وكانت ليلة عجيبة لم يرمثلها في بني العباس مات فيها خليفة وولد فيها خليفة. ولما بويع الرشيد قلد ير بن خالد بن برمك وزارته. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في لفظ العقاب ايقاع الرشيد بالبرامكة، وقتله جعفر بن يحي بن خالد بن برمك، وتخليد محي وولحه في السجن إلى أن ماتا وسبب ذلك مبينا إن شاء الله.
ومن غريب ما اتفق لهارون الرشيد، إن أخاه موسى الهاثي، لما صل! الخلافة، سأل عن خماقم عظيم القحر كان لأبيه المهلي فبلغه أن الرشيد أخنه، فطلبه منه فامتنع من إعطائه، فألح عليه فيه، فحنق عليه الرشيد ومر على جسر بغداد فرماه قي الدجلة. فلما مات الهالمحي وولي الرشيد الخلافة أق ذلك المكان بعشه، ومعه خاتم رصاص، فرماه في ذلك المكان، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه، ففعلوا فاستخرجوا الخاتم الأول. فعد ذلك من سعاثة الرشيد وإبقاء!ملكه. اونظير هذا ما حكاه ابن الأثير ني حواعث سنة ستين رخمس!مائة، قال: لما فغ السلطان الملك الناصر ملاح الدين يوسف بن أيوب، قلعة بانياس وأخذها من الفرنج، ملأها ذخاثر رعمة ورجالأ، ثم عاد إلى لمحمشق، وني يمه خاتم بفص ياقوت، قيمته ألف ومائة دينار، فسقط من يلى في شجرة بانياس، وهي كثيرة الأشجارملتفة الأغصان فلما بعد عن المكان الذي ضاع فيه الخاتم، علم ب فأعاد بعض أصحابه ني طلبه ودلهم على مكانه، وقال: أظنه هناك سقط فرجعوا إليه فوجموه. انتهى.
وكان الرشيد، مع عظم ملكه، يعتربه خوف الله تعالى، فمن فلك ما ذكره الإمام العلاط صكمد بن ظفر وغيره أن خارجيا خرج عل! فقتل أبطاله، وانتهب أمواله مرأرا، ثم إنه جهز إلي م!ة جيشأ كثيفأ، فقاتلوه فغلبوه، بعد جهد وأمصكوه وأتوابه الرشيدفجلسى مجلسا عاما، وأء بالدخاله عليه فلما مثل بين يميه قال له: يا هذا ما تريد أن أصنع بك. قال: ما تريد أن يصنع الا بك إذأ وقفت ب!ين يديه، فعفا عنه وأمر بإطلاقه. فلما خرج قال بعض جلساثه: يا أمير المؤمن! !رجل قتل أبطالك وانتهب أموالك تطلقه بكلمة راحمة تأمل هذا الأمر، فأنه مما يجرى عليك أكل الشر. فقاد الرشيد: رعوه فعلم الرجل أنه قد تكلم في امره، فقال: يا) ميرالمؤمنين لا تطعه! ءفبوأطاع افه فيك الناس ما ولاك طرفة ع!من. قال: صمقت. ئم أمر له بصلة وصرفه. وسيأتي! اث!اء افه تعالى، ما أتفق له مع الفضيل بن عياض، وسفيان الثرري في باب الباء الموححة رالفاع وتوفي الرشيد يخا سنة ثلاث وتسعين ومائة بطوس ليلة السبت لثلاث خلون من جمادا

الآخرة وهو ابن سبع وأربعيئ سنة وقيل خمسى وأربعين. وكانت خلافته ثلاثا رعشرين سنة رش! وقيل ثلاثا وعثرين فقط. وولد بالرى وكان جوادا ممحوحأ غازيأ مجاهدأ شجاعا مهيبا مليحأ أبية طويلا عبل الجسم، قد وخطه الشيب يقال إنه منذ استخلف كان يص!ي كل يوم وليلة ص ركعة ويتصلق من خالص ماله بألف لمحرهم وكان له معرفة جيمة بالعلوم.

خلافة محمد الأمين وهو السادس
فخلع وقتل كما سيأتي
ثم قام بالأمر بعمه ابنه محمد الأمين. بويع له بالخلافة يوم توني والمه بطوبر واستناب أ 81 مون على ممالك خراسان، وهو إذ ذاك ببغداد فورد جمها عليه خاتم الخلافة والبرثة والقضيب، بويع له بها البيعة العامة وفي سائر الآفاق. وكان الرشيد قد جحد البيعة بطوس جمرلايه العهد ا 81 مون بعد الأمين، وأشهد على نفس!ه أن جميع ما معه من مال وسلاح وغيرذلك، للمأمون وأوصح يكو ما معه من الجيوش مضموم!كأ إليه بخراسان. افلما مات الرشيد، نا!ى الفضل بن الربيع في محس!كر الرشيد بالرحيل إلى بغداد، وخالف وصية الرشيد فعظم ذلك على المأمون، وكتب إلى الفضل يذكره العهود التي أخذها عليه الرشيد، ويحفره البغي وشمأله الوفاء. فلم يلتفت الفضل إليه فكان هذا الأمر سبب ابتداء الوحشة بين والهأمون.
وذكر أبو حنيفة في الأخبار الطوال وغيره عن الكسائي أنه قال: إن الرشيد ولاني تأديب الأمين وا " مون فكنت أشمد عليهما في الأدب، وآخذهما به أخذا شديدا وخاصة الأمين، فأتتني حاجتي ذات يوم خالصة، جارية زبيمق وقالت: يا كسائي إن السيحة تقرأ عليك السلام، وتقول لك: حاجتي إليك أن ترفق بابني محمد فإنه قرة عيني وثمرة فؤاثي وأنا أرق عليه رقة شديحة. فقلت لخالصه: إن محمدا مرشح للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصيى في أمره. فقالت خالصة: إن لرقة هفه السيمة سببا أنا أخبرك إياه، إنها في الليلة التي ولدته فيها رأت في منامها كأن أربع نسوة أقبلن إليه، فحتنفنه عن يمينه وشماله وأمامه وورائه، فقالت التي بين يديه: ملك قليل العمر عظيم الكبى ضيق الصمر واير الأمر كبير الوزر شديد الغحر. وقالت التي من ورائه: ملك قصاف مبفر متلاف، قليل الإنصاف كثير الإسراف. وقالت التي عن يمينه.: ملك عظيم الطخم، قليل الحلم، كثيى الإثم قطوع للرحم. وقالت التي عن يساره: ملك غدار كئير العثار، سريع الممار. ثم بكت خالصة وقالت: يا كسائي وهل ينفع الحفرمن القمرا ثم إن 81 مون خلع الأمين من الحلافة، وجهز لقتاله طاهر بن الحس!ين وهرثمة بن أعين فسارا إليه وحاصراه ببغداد بعد حروب كئيرة ببغداد وتراموا بالمجانيق وجرت بينهم وقاثع في أيام متعممة، وعظم الأمر واشتد البلاء، حتى خرب بسبب ذلك منازل المدينة ووثب العيارون على أموال الناس، فانتهبوها وأقام الحصار ممة سنة فتضايق الأمر على الأمين، وفارقه أكزأصحابه وكتب طاهر إلى وجوه أهل بغداد سرا يعممم إن أعانوه، ويتوعدهم إن لم يدخلوا في طاعته، فأجابوه وصرحوا بخلع الأمين. وتفرق عنه أكزمن معه فالتجأ إلى ممينة أي جعفر، فحاصره طاهربها ومنعه من كل شيء حتى كاد هووأصحابه يمرتون جوعا وعطشا، فلما عاين الأم!ن ذلك كاتب هرثمة بن أعين، وطلب منه أن يؤمنه حتى يأتيه، فأجابه إلى ذلك. فبلغ ذلك طاهرا فشق عليه، كراهية أن يظهر الفتح لهرثمة ثونه، فلما كان يوم الخميس لخمس بقين من المحرم سنة ثان وتسعين ومائة خرج الأمين إلى هرثمة فلقيه هرثمة في حراقة فركب الأمين معه، وكان طاهر قد أكمن للأمين فلما صار الأمين في الحراقة خرج عليه كمين طاهر، ورموا الحراقة بالحجارة فغرق من فيها فشق الأمين ثيابه، وسغ إلى بستان فأثركوه وأخفوه، وحملوه على برفون، وأتوا به طاهرا، فبعث إليه جماعة وأمرهم بقتله، فهجموا عليه وبأيلجهم السيوف، فركبوا عليه وذبحوه من قفاه، وأخفوا رأسه وأتوا به طاهرا، فأمر بنصبه. فلما رآه الناس، سكنت الفتنة ثم جهزه طاهر إلى المأمون وصحبته خاتم الخلافة، وبرعة رسول الله ! وقضيب، فلما وضع الرأس بين يديه خر ساجدا شكرا لله تعالى على ما رزقه من الظفر. وأمر للرسول بألف ألف عرهم.
وذكر عن الأصمعي أنه قال: دخلت على الرشيد وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولا

فلمت عليه بالخلافة فأومأ إلي بالجلوس قريبا منه نجلست قليلأ ثم ضمضت، فأومأ إلي أن اجلس فجلست، حتى خف الناس ثم قال لي: يا أصمعي ألا تحب أن ترى محمدأ وعبد الله بني؟ قلت: بلى يا أميرالمؤمنين إني لأحب ذلك، رما أرلمحت القصد إلا أليهما لأسلم عليهما، فقال: يكفي ذلك ثم قال: ير بمحمد وعبد الله، فانطلق الرسول إليهما وقال أجيبا أميرالمؤمنين فأقبلا كأنهما قمرا أفق، قد قاربا خطاهما ورميا ببصرهما الأرض، حتى وقفا على أبيهما، فسلما عليه بالخلافة، فأومأ إليهما بالجلوس، فجلس محمد عن يمينه وعبد الله عن يساره، ثم أمرني بمطارحتها الأدب وكنت لا ألقي عليهما شيثا من فنون الأعب إلا أجابا فيه، وأصابا فقال: كيف ترى أثبهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجوعة فهمهما وفمنهما، فأطال الله تعالى بقاءهما، ورزق الأمة من رافتهما ومعطفتهما فضمهما إلى صمره وسبقته عبرته فبكى حتى تحمرت عموعه على لحيته، ثم أفن لهما في القيام فنهضا حتى إذا خرجا قال لي: يا أصمعي كيف بهما إذا ظهر تعاعيهما، وبدا تباغضهما ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك المماء. ويودكثيرمن الأحياء أنهم كانوا موق. قلت: يا أميرالمؤمنين هذا!ثيء ق! به المنجمون عند مولدهما، أوشيء أثرته العلماء في أمرهما. قال: لا بل ثيء أثرته العللى عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما. وكان المأمون يقول في خلافته: كان الرشيد سمع جميع ما يجري بيننا من موصى بن جعفر، ولذلك قال ما قال. وذكر صاحب عيون التواريخ وغيره، أن ا " مون مريوما على زبيمة أم الأمين، فرآها تحرك شفتيها بشيء لأ يفهمه، فقال لها: يا أماه أتدعين علي لكوني قتلت ابنك وسلبته ملكه؟ فقالت: لا والله يا أميرالمؤمنين. قال فما الذي قلته؟ قالت: يعفعني أميرالمؤمنين، فألح عليها وقال لا بد أن تقوليه، قالت: قلت قبح ا* الملاححة. قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأني لعبت يوما مع أميرالمؤمتين الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فنلبني فأمرني أن أتجرد من أثواي وأطوف القصر عريانة، فا!تعفيته فلم يعفني، فتجرثت من أثوابي وطفت القصر عريانة، وأنا حنقة عليه ثم عاولحنا اللعب فغلبته، فأمرته أن يفمب الى المطبخ، فيطأ أقبح جارية وأوشهها خلقة فيه فاستعفاني من ذلك فلم أعفه، فبفل إلى خراج مصر والعراق فأبيت، وقلت: والله لتفعلن نلك فأي كنألححشمليه، وأخفت بيمه وجئت به للمطبئ، فلم أر جارية أقبع ولا أقفر ولا أشؤ خلقة من أمك مراجل، فأمرته أن يطأها فوطثها، فعلقت منه بك فكنت سببا لقتل ولحي وسلبه ملكه. فولى المأمون وهويقول: لعن الله الملاححة أي التي ألح عليها حتى أخبرته بهذا الخبر.
وقتل الأمين وهو ابن ثمان وعشرين سنة وقيل سبع وعشرين وكان طويلا أبيض بديع الحسن. وكانت خلافته أربع سنين وثمان شهور وقيل ثلاثة أعوام وأياما لأنه خلع في رجب سنة ست. ومن حسب له موته فخلافته خمس سنين خلا أشهرا وكان مبفرا للأموال لعابا لا!لح للخلافة وكان مشتغلأ باللهو والقصف والإقبال على اللذات فقال فيه بعض من أبيات:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب
أما ترى الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا وهو برج اللهو والطرب

خلافة عبد الله المأمون

ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الله المأمون. بويع له بالخلافة، البيعة العامة، صبيحة الليلة التي قتل فيها الأمين بإجماع من الأمة على ذلك، خلا ما كان من أمير الأندلس فإنه كان والأمراء قبله وبعده لم يتقيدوا بطاعة العباسيين لبعد الديار. قال في الأخبار الطوال: كان المأمون شهماً بعيد الهمة أبي النفس، وكان نجم بني العباس في العلم والحكمة، وكان قد أخذ من العلوم بقسط، وضرب فيها بسهم، وهو الذي استخرج كتاب إقليدس، وأمر بترجمته وتفصيله، وعقد المجالس في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات، وكان أستاذه فيها أبا الهذيل محمد بن الهذيل البصري المعتزلي، الذي يقال له العلاف، وستأتي الإشارة إليه في باب الباء الموحدة في لفظ البرذون وفي أيامه ظهر القول بخلق القرآن. وقال غيره: إن القول بخلق القرآن ظهر في أيام الرشيد، وكان الناس فيه بين أخذ وترك، إلى زمن المأمون، فحمل الناس على القول بخلق القرآن، وكل من لم يقل بخلق القرآن عاقبه أشد عقوبة. وكان الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه إمام أهل السنة من الممتنعين من القول بخلق القرآن، فحمل إلى المأمون مقيداً، فمات المأمون قبل وصوله إليه. وسيأتي ذكر محنته في

خلافة المعتصم.
وقالوا: دخل المأمون بلاد الجزيرة والشام، وقام بها مدة طويلة، ثم غزا الروم وفتح فتوحات كثيرة وأبلى بلاء حسناً. وتوفي بنهر بردى لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وقيل لثمان مضين منه سنة ثمان عشرة ومائتين، وهو ابن تسع وأربعين سنة وقيل تسع وثلاثين والأول أصح وقيل ثمان وأربعين، وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر ودفن بطرسوس.
قال ابن خلكان: كان المأمون عظيم العفو جواداً بالمال، عارفاً بالنجوم والنحو، وغيرهما من أنواع العلوم، خصوصاً علم النجوم، وكان يقول: لو يعلم الناس ما أجد في العفو من اللذة لتقربوا إلي بالذنوب. وقال غيره: إنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون وكان يشتغل بعلم النجوم كثيراً وفي ذلك يقول الشاعر:
هل علوم النجوم أغنت عن المأ ... مون شيئاً أو ملكه المأنوس
خلفوه بساحتي طرسوس ... مثلما خلفوا أباه بطوس
وكان أبيض مليح الوجه، مربوعاً طويل اللحية، ديناً عارفاً بالعلم، فيه دهاء وسياسة.
خلافة أبي إسحق ابراهيم المعتصم
ثم قام بالأمر بعده أخوه أبو إسحق إبراهيم المعتصم بن هارون الرشيد. بويع له بالخلافة يوم موت أخيه بعهد منه فأمر بهدم ما بنوا من طوانة وغزا عمورية وأناخ عليها وحاصرها حصاراً شديداً. ولم يكن في بني العباس مثله في القوة والشجاعة والإقدام قيل إنه أصبح ذات يوم برد عظيم وثلج فلم يقدر أحد على إخراج يده ولا إمساك قوسه فأوتر المعتصم في ذلك اليوم أربعة آلاف قوس، ولم يزل يحاصرها حتى فتحها عنوة واحتوى على ما فيها من الأموال وغيرها، وأخذ أهلها أسرى.

ولما ولي طلب الإمام أحمد، وكان في سجن المأمون كما تقدم، وامتحنه بخلق القرآن كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وتلخيص ما كان من أمره أن هارون الرشيد لم يقل بخلق القرآن مدة خلافته، ولهذا السبب كان الفضيل بن عياض يتمنى طول عمر الرشيد، لأنه والله أعلم، كان قد كشف له بأن فتنة تحدث بعد موت الرشيد، ولم تحدث في أيام خلافته فتنة، ولكن كان الأمر في زمن ولايته بين أخذ وترك، كما قدمنا قريباً إلى أن ولي ابنه المأمون، فقال بخلق القرآن، وبقي يقدم رجلاً ويؤخر أخرى في دعواه الناس إلى ذلك، إلى أن قوي عزمه في السنة التي مات فيها فمل الناس على القول بخلق القرآن. وكل من لم يقل بخلقه عاقبه أشد عقوبة. وإنه طلب الإمام أحمد بن حنبل، وجماعة فحمل إليه الإمام أحمد فلما كان ببعض الطريق، توفي المأمون وعهد إلى أخيه المعتصم بالخلافة وأوصاه بأن يحمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الإمام أحمد محبوساً إلى أن بويع المعتصم، فأحضر الإمام أحمد إلى بغداد، وعقد له مجلساً للمناظر وفيه عبد الرحمن بن إسحاق، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام، ولم يزل معهم في جدال، إلى اليوم الرابع، فأمر بضربه، فضرب بالسياط ولم يزل عن الصراط، إلى أن أغمي عليه، ونخسه عجيف بالسيف، ورمي عليه بارية وديس عليه، ثم حمل وصار إلى منزله وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهراً، ولم يزل بعد ذلك يحضر الجمعة والجماعات ويفتي ويحدث إلى أن مات المعتصم وولي الواثق، فأظهر ما أظهره المأمون والمعتصم من المحنة، وقال للإمام أحمد: لا تجمعن إليك أحداً ولا تساكني في بلد أنا فيه، فأقام الإمام أحمد مختفياً، لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها، حتى مات الواثق وولي المتوكل، فرفع المحنة وأمر بإحضار الإمام أحمد وإكرامه وإعزازه وأطلق له مالاً كثيراً فلم يقبله، وفرقه على الفقراء والمساكين. وأجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف درهم، فلم يرضى الإمام أحمد بذلك رحمه الله تعالى وذكر العراقي في مجمع الأخبار وغيره أنه نوظر في الأيام الثلاثة، وأن المعتصم كان يخلو به ويقول له: ويحك يا أحمد أنا والله عليك شفيق، وإني لا شفق عليك مثل شفقتي على ابني هارون يعني الواثق فأجبني فوالله لئن أجبتني لاطلقن غلك بيدي، ولاطأن عتبتك، ولأركبن إليك بجندي. فيقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طال به المجلس، ضجر وقام ورد أحمد في الموضع الذي كان فيه. وتتردد إليه رسل المعتصم يقولون: يا أحمد، أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول في القرآن؟ فيرد عليهم كما رد أولاً. فلما كان في اليوم الثالث، طل للمناظرة فأدخل على المعتصم، وعنده محمد بن عبد الملك الزيات، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، فقال المعتصم: كلموه وناظروه فلم يزالوا في جدال إلى أن قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه أعناقنا. فرفع المعتصم يده ولطم بها وجه الإمام أحمد، فخر مغشياً عليه، فتمعرت وجوه قواد خراسان، وكان عم أحمد فيهم، فخاف الخليفة منهم على نفسه فدعا بماء ورش على وجهه، فلما أفاق من غشيته، رفع رأسه إلى عمه وقال: يا عم لعل هذا الماء الذي رش على وجهي غصب عليه صاحبه، فقال المعتصم: ويحكم أما ترون ما يتهجم به علي هذا وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا رفعت السوط عنه حتى يقول القرآن مخلوق. ثم التفت إلى أحمد وأعاد عليه القول، فرد أحمد كالأول. فلم يزل كذلك حتى ضجر وطال المجلس فعند ذلك قال: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعت فيك قبل هذا، خذوه اخلعوه اسحبوه فأخذ وسحب ثم خلع. ثم قال المعتصم: السياط. قال الإمام أحمد: وكان عندي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، قد صررتها في كم قميصي فجاء بعض القوم إلى قميصي ليحرقه فقال له المعتصم: لا تحرقوه وانزعوه عنه وإنما درىء عن القميص الحرق ببركة شعر النبي صلى الله عليه وسلم. وشدوا يديه فتخلعت. ولم يزل أحمد يتوجع منها حتى مات. ثم قال المعتصم للجلادين: تقدموا ونظر إلى السياط، فقال: ائتوا بغيرها ثم قال لأحدهم: أذمه وأوجع قطع الله يدك: فتقدم وضربه سوطين، ثم تنحى. ثم قال لآخر: أذمه وشد قطع الله يدك، فتقدم وضربه سوطين، ثم تنحى. ولم يزل يدعو رجلاً رجلاً فيضربه كل واحد سوطين ويتنحى. ثم قال

المعتصم وجاءه، وهم محدقون به، وقال: يا أحمد تقتل نفسك: أجبني حتى أطلق غلك بيدي وجعل بعضهم يقول له: يا أحمد إمامك على رأسك قائم فاجبه، وعجيف ينخسه بالسيف، ويقول أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وبعضهم يقول: يا أمير المؤمنين اجعل دمه في عنقي، فرجع المعتصم إلى الكرسي، ثم قال للجلاد: أذمه قطع الله يدك ثم جاء المعتصم إليه ثانياً، وقال: يا أحمد أجبني: فقال كالأول. فرجع المعتصم وجلس على الكرسي، ثم قال للجلاد: شد عليه قطع الله يدك. قال أحمد: فذهب عقلي فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق عني. وكل ذلك وهو صائم لم يفطر رضي الله تعالى عنه. وضرب ثمانية عشر سوطاً، فلما كان في أثناء الضرب، انحلت وزرته فهمهم بشفتيه، فخرجت يدان فربطتاها. فسئل عن ذلك بعد إطلاقه. فقال: قلت أللهم إن كنت على الحق فلا تفضحني. ثم وجه المعتصم رجلاً ينظر الضرب والجراحات ويعالجه، فنظر إليه وقال: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط، فما رأيت ضرباً أشد من هذا. ثم عالجه وبقي أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه. وقال صالح: سمعت أبي يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي. وجاءه، وهم محدقون به، وقال: يا أحمد تقتل نفسك: أجبني حتى أطلق غلك بيدي وجعل بعضهم يقول له: يا أحمد إمامك على رأسك قائم فاجبه، وعجيف ينخسه بالسيف، ويقول أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وبعضهم يقول: يا أمير المؤمنين اجعل دمه في عنقي، فرجع المعتصم إلى الكرسي، ثم قال للجلاد: أذمه قطع الله يدك ثم جاء المعتصم إليه ثانياً، وقال: يا أحمد أجبني: فقال كالأول. فرجع المعتصم وجلس على الكرسي، ثم قال للجلاد: شد عليه قطع الله يدك. قال أحمد: فذهب عقلي فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق عني. وكل ذلك وهو صائم لم يفطر رضي الله تعالى عنه. وضرب ثمانية عشر سوطاً، فلما كان في أثناء الضرب، انحلت وزرته فهمهم بشفتيه، فخرجت يدان فربطتاها. فسئل عن ذلك بعد إطلاقه. فقال: قلت أللهم إن كنت على الحق فلا تفضحني. ثم وجه المعتصم رجلاً ينظر الضرب والجراحات ويعالجه، فنظر إليه وقال: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط، فما رأيت ضرباً أشد من هذا. ثم عالجه وبقي أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه. وقال صالح: سمعت أبي يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي.
وحكي أن الشافعي رضي الله تعالى عنه، لما كان بمصر، رأى في المنام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له: بشر أحمد بن حنبل بالجنة، على بلوى تصيبه فإنه يدعى إلى القول بخلق القرآن فلا يجب إلى ذلك، بل يقول هو منزل غير مخلوق. فلما أصبح الشافعي رضي الله تعالى عنه، كتب صورة ما رآه في منامه، وأرسله مع الربيع إلى بغداد إلى أحمد فلما وصل بغداد، قصد منزل أحمد واستأذن عليه فأذن له، فلما دخل عليه قال له: هذا كتاب أخيك الشافعي، فقال له: هل تعلم ما فيه؟ قال: لا ففتحه وقرأه وبكى. وقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله. ثم أخبره بما فيه، فقال: الجائزة، وكان عليه قميصان أحدهما على جسده، والآخر فوقه. فنزع الذي على جسده ودفعه إليه. فأخذه ورجع إلى الشافعي. فقال له الشافعي: ما أجازك؟ قال: أعطاني القميص الذي على جسده. فقال: أما أنا فلا أفجعك فيه، ولكن أغسله وائتني بمائه، فغسله وأتاه بالماء، فأفاضه على سائر جسده.
وقال إبراهيم الحربي: جعل الإمام أحمد بن حنبل جميع من ضربه أو حضره أو ساعد عليه في حل، إلا ابن أبي دؤاد. وقال: لولا أنه ذو بدعة لأحللته، ولو تاب من بدعته لأحللته، وقال أحمد بن سنان: بلغنا أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حل، يوم فتح بابل أو فتح عمورية. وقال: هو في حل من ضربي. قال عبد الله بن الورد: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في المنام، فقلت له: يا رسول الله ما شأن أحمد بن حنبل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: سيأتيك موسى بن عمران، فاسأله فإذا أنا بموسى بن عمران صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا كليم الله ما شأن أحمد بن حنبل، فقال: أحمد بن حنبل بلي في السراء والضراء، فوجد صابراً صادقاً، فألحق بالصديقين.

والحكمة في إحاله النبي صلى الله عليه وسلم على موسى عليه السلام أمور: منها بيان فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم، حتى إن موسى عليه السلام يبين ذلك ويقرره. ومنها بيان فضل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه وما جعل له من الثواب العظيم في المحنة لما جرى عليه، حتى إنه شهد بعظيم فضله وعلو منزلته نبي كريم. ومنها أن محنة الإمام أحمد في كون القرآن مخلوقاً، وهو كلام الله تعالى، وموسى بن عمران عليه السلام كليم الله تعالى، كلمه الله تكليماً، وهو يعلم أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق. فناسب الإحالة ليعرف الناس ذلك، ليزداد يقينهم بأنه منزل غير مخلوق.
وذكر ابن خلكان في ترجمته أنه ولد في سنة أربع وستين ومائة وتوفي في سنة إحدى وأربعين ومائتين. وحزر من حضر جنازته من الرجال، فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفاً، وأسلم يوم موته عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس انتهى.
وقال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات: إن المتوكل أمر أن يقاس الموضع، الذي وقف الناس فيه للصلاة على الإمام أحمد، فبلغ مقام الذي ألف وخمسمائة ألف ووقع المأتم في أربعة أصناف: في المسلمين واليهود والنصارى والمجوس انتهى. قال محمد بن خزيمة: لما بلغني موت الإمام أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً، فرأيت من ليلتي في المنام، وهو يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله ما هذه المشية؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله بك. فقال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي غير مخلوق، ثم قال تبارك وتعالى: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان التي كنت تدعو بهن في دار الدنيا. قال: فقلت يا رب كل شيء أسألك بقدرتك على كل شيء، لا تسألني عن شيء، واغفر لي كل شيء. فقال جل وعلا: يا أحمد هذه الجنة قم فادخلها فدخلتها فإذا أنا بسفيان الثوري له جناحان أخضران، يطير بهما من نخلة إلى نخلة، وهو يقول: الحمد الله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين. قال: قلت ما فعل الله بعبد الوهاب الوراق؟ قال: تركته في بحر من نور، في زورق من نور، يزور ربه الملك الغفور. فقلت: فما فعل ببشر بن الحارث فقال لي: بخ بخ، ومن مثل بشر؟ تركته بين يدي الله جل جلاله، وبين يديه مائدة من الطعام، والجليل جل جلاله مقبل عليه، وهو يقول: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم.
وفي سنة سبع وعشرين ومائتين احتجم المعتصم بسر من رأى، فحم ومات، وذلك لإثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول وهو ابن ثمان و سبع وأربعين سنة. وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية شهور وثمانية أيام، وهو الثامن من خلفاء بني العباسي. وخلف من الذهب ثمانية آلاف دينار، ومن الدراهم ثمانية عشر ألف درهم، ومن الخيل ثمانية آلاف فرس، ومثلها من الجمال والبغال، ومن المماليك ثمانية آلاف مملوك، وثمانية آلاف جارية، وكان يقال له الثماني لأجل ذلك. وكان أمياً وذلك إنه كان له مملوك صغير، يذهب معه إلى الكتاب فمات فقال له الرشيد: مات مملوكك يا إبراهيم، فقال: استراح من الكتاب يا أمير المؤمنين، فقال: أو بلغ الكتاب منك إلى هذا الحد؟ اتركوا ولدي لا تعلموه. فكان أمياً لذلك وكان أبيض أصهب اللحية، مربوعاً وكان شجاعاً مهيباً، قوي البدن إلى الغاية فتح الفتوحات الكبار مثل عمورية من أقصى بلاد الروم ودانت له الأمم، وكان فيه ظلم وعنف وبذلك أرهب الأعداد سامحه الله تعالى.

خلافة هارون الواثق بالله

ثم قام بالأمر بعده ابنه هارون الواثق بالله بويع له بالخلافة بسر من رأى يوم موت أبيه، ونفذت البيعة إلى بغداد، واستقر له الأمر ببغداد وغيرها. ولما ولي قتل أحمد بن نصر الخزاعي، على القول بخلق القرآن ونصب رأسه إلى الشرق، فدار إلى القبلة فأجلس رجلا معه رمح أو قصبة، فكان كلما دار الرأس إلى القبلة أداره إلى الشرق. وروي أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ورحمني إلا أني كنت مهموماً منذ ثلاث. قيل: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر علي مرتين فأعرض بوجهه الكريم عني، فغمني ذلك، فلما مر علي صلى الله عليه وسلم الثالثة، قلت له: يا رسول الله ألست على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فما بالك تعرض عني بوجهك الكريم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حياء منك إذ قتلك رجل من أهل بيتي.
وقد رأيت حكاية تدل على أن الواثق رجع عن هذا الاعتقاد والامتحان، وذلك فيما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه في ترجمته قال: سمعت طاهر بن خلف يقول: سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتله رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فبينما نحن ذات يوم عنده إذ أتي بشيخ مصفود مقيد، فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله يعني ابن أبي دؤاد وأصحابه، وأدخل الشيخ في مصلاه، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال له: لا سلم الله عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، بئسما أدبك مؤدبك قال الله تعالى: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " والله ما حييتني بها، ولا بأحسن منها، فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين الرجل متكلم، فقال: كلمه فقال: يا شيخ ما تقول في القرآن؟ قال: انصفني في السؤال؟ فقال له: سل. فقال الشيخ: ما تقول أنت في القرآن؟ قال: مخلوق. فقال الشسيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه فقال: سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولاعثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون تعلمه أنت؟ فخجل وقال: أقلني فقال: قد فعلت. والمسألة بحالها قال: نعم قال: فما تقول في القرآن. قال: مخلوق. قال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون أم لم يعلموا. قال: علموه ولم يدعوا الناس إليه. فقال أفلا وسعك ما وسعهم؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون، تعلمه أنت! سبحان الله شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم دعا عماراً الحاجب فأمره أن يرفع القيود عنه، ويعطيه أربعمائة دينار، يأذن له في الرجوع وسقط من عينه ابن أبي دؤاد. ولم يمتحن بعد ذلك أحداً، رحمه الله تعالى عليه.

كذا وقع في هذه الرواية، أن المهتدي بالله بن الواثق إسمه محمد وبذلك سماه الحافظ أبو عبد الله الذهبي، في كتاب دول الإسلام، وذكر المؤلف بعد في ترجمته: أن إسمه جعفر، وقد جاء في رواية غير هذه ما يحل على أن إسمه أحمد، وفيها زيادة ونقص ومغايرة في بعض الألفاظ، والمعنى، وذلك فيما ذكره الحافظ أبو نعيم في حليته، قال: قال الحافظ أبو بكر الآجري بلغني عن المهتدي رحمه الله تعالى، أنه قال ما قطع أبي يعني الواثق إلا شيخ جيء به من المصيصة فمكث في السجن مدة، ثم إن أبي ذكره يوماً، فقال: علي بالشيخ فأتي به مقيداً فلما وقف بين يديه، سلم عليه فلم يرد عليه السلام، فقال له الشيخ يا أمير المؤمنين ما استعملت معي أدب الله عز وجل، ولا أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلام، فقال له أبي: وعليك السلام، ثم قال لابن أبي دؤاد: سله فقال: يا أمير المؤمنين أنا محبوس مقيد أصلي في الحبس وأتيمم للصلاة، فمر لي بحل القيد وبالوضوء، فأمر بحله وأمر بماء فتوضأ وصلى، ثم قال لابن أبي دؤاد: سله، فقال الشيخ: المسألة لي فمره أن يجيبني، فقال سل: فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد، فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بعده. قال: لا قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعدهما؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بعدهم؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بعدهم؟ قال لا. قال الشيخ: فشيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم، تدعو أنت الناس إليه؟ ليس يخلو أن تقول علموه أو جهلوه فإن قلت: علموه وسكتوا عنه، وسعني وإياك من السكوت، ما وسع القوم. وإن قلت: جهلوه وعلمته أنت! فيالكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم شيئاً وتعلمه أنت وأصحابك؟ قال المهتدي: فرأيت أبي وثب قائماً ودخل الحجرة، وجعل ثوبه في فيه وهو يضحك، ثم جعل يقول: صدق ليس يخلو من أن يقول علموه أو جهلوه فإن قلنا علموه وسكتوا عنه وسعنا من السكوت ما وسع القوم، وإن قلنا جهلوه وعلمته أنت، فيالكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً وأصحابه وتعلمه أنت وأصحابك؟ ثم قال: يا أحمد فقلت: لبيك قال: لست أعنيك إنما أعني المهتدي كان إسمه أحمد لقوله: لست أعنيك لأنه ربما قال قائل: إنما كان استجابة المهتدي لأبيه على طريق الأدب، فقوله إنما أعني ابن أبي دؤاد يبطل، لأن اسمه أحمد وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة المهتدي هذه الحكاية بطريقة أخرى، بسياق غير هذا.
وهذا الذي قاله الشيخ إلزام صحيح وبحث لازم للمعتزلة.
وكان الواثق مؤثراً الكثرة الجماع، فقال لطبيبه: اصنع لي دواء للباه، فقال له الطبيب: يا أمير المؤمنين لا تهدم بدنك بالجماع، واثق الله في نفسك فقال: لا بد من ذلك، فأمره الطبيب أن يأخذ لحم صبع فيغلي عليه سبع غليات بخل خمر، ويتناول منه إذا شرب وزن ثلاثة دراهم ولا يجاوز هذا القدر، فأمر بذبح سبع فذبح وطبخ له من لحمه، وصار يتنقل منه على شرابه فلم يكن إلا قليلاً حتى استسقى فأجمع رأي الأطباء على أن لا دواء له إلا أن يبزل بطنه، ثم يترك في تنور قد سجر بحطب زيتون، حتى يصير جمراً، ثم يجلس فيه ففعل ذلك ومنع الماء ثلاث ساعات، فجعل يستغيث ويطلب الماء، فلم يسقوه فصار في جسده نفاطات مثل البطيخ ثم أخرجوه فجعل يقول ردوني في التنور وإلا مت فردوه، فسكن صياحه، ثم انفجرت تلك النفاطات وقطر منها ماء، فأخرج من التنور وقد أسود جسده، ومات بعد ساعة ولما احتضر جعل يقول:
الموت فيه جميع الناس تشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في مقابرهم ... وليس يغني عن الملاك ما ملكوا

ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، إرحم من قد زال ملكه. ولما مات سجي بثوب. واشتغل الناس بالبيعة للمتوكل، فجاء جرذون من البستان، فاستل عينيه وذهب بهما ولم يعلموا به حتى غسلوه وهذا من أغرب ما سمع.
حكي أن ذلك له سبب، وهو أن الواثقي قال: كنت أمرض الواثق إذ لحقته غشية، فما شككت أنه قد مات فقال بعضنا لبعض: تقدموا فما جسر أحد منا، فتقدمت أنا، فلما أردت أن أضع إصبعي على أنفه، فتح عينيه فكدت أن أموت فزعاً، وتأخرت إلى خلفي، فتعلقت قبيعة السيف بالعتبة، وعثرت فاندق السيف فكاد أن يدخل في لحمي، فخرجت وطلبت سيفاً غيره، ثم رجعت فوقفت عنده، فوجدته مات بلا شك. فشددت لحييه، وغمضته وسجيته، وأخذ الفراشون تلك الفرش الثمينة، ليردوها إلى الخزانة، وترك وحده في البيت، فقال لي أحمد بن أبي دؤاد القاضي: إنا نشتغل بعقد البيعة، فاحفظه حتى يدفن، فرجعت وجلست عند الباب، فسمعت بعد ساعة حركة أفزعتني، فدخلت فإذا بجرذون قد جاء فاستل عينيه فأكلهما. فقلت: لا الله إلا الله هذه العين التي فتحها من ساعة، فعثرت واندق سيفي هيبة لها.
وتوفي الواثق بسر من رأى في رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وهو ابن ست وثلاثين سنة وأشهر وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وكان أبيض مليحاً، يعلوه اصفرار، حسن اللحية، في عينيه نكتة، عالماً أعيباً جيد الشعر، شجاعاً مهاباً حازماً، فيه جبروت كأبيه سامحهما الله تعالى.

خلافة جعفر المتوكل
ثم قام بالأمر بعده أخوه جعفر المتوكل. بويع له بالخلافة بسر من رأى، يوم موت أخيه الواثق، بعهد منه في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فرفع المحنة بخلق القرآن، وأظهر السنة، وأمر بنشر الآثار النبوية، وذكر ابن خلكان في ترجمته أنه قال: ركبت إلى دار الواثق، في مرضه الذي مات فيه لأعوده، فجلست في الدهليز أنتظر الإذن، فبينما أنا جالس إذ سمعت النياحة عليه، وإذا ايداخ ومحمد بن عبد الملك الزيات يأتمران في أمري، فقال محمد: نقتله في التنور، وقال إيداخ. بل ندعه في الماء البارد حتى يموت، ولا يرى عليه أثر القتل، فبينما هما على ذلك، إذا جاء أحمد بن أبي دؤاد القاضي، فدخل وحدثهما كلاماً لا أعقله، لما داخلني من الخوف، وشغل القلب بإعمال الحيلة في الهرب. فبينما أنا كذلك، وإذا بالغلمان يتعادون ويقولون: انهض يا مولانا، فلم أشك أني داخل لأبايع ولد الواثق ثم ينفذ في ما قدر، فلما دخلت بايعوني فسألت عن الحال فأعلمت أن ابن أبي دؤاد كان سبب ذلك.
ثم إن المتوكل قتل إيداخ بالماء البارد وابن الزيات في التنور. قال: وهذا من أغرب الاتفاق وعجيب الظفر، ومن العجب أيضاً، أن محمد بن عبد الملك الزيات، هو الذي صنع التنور ليعذب فيه الناس، فعذبه الله فيه. وكان التنور من حديد داخله مسامير غير مثنية، وكان يسجر بحطب الزيتون، حتى يصير كالجمر، ثم يدخل الإنسان فيه. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
ولما ولي المتوكل أحيى السنة، وأمات البدعة، وكتب لللآفاق برفع المحنة واظهار السنة.
وتكلم في مجلسه بالسنة وأعز أهلها، وأخمد المعتزلة، وكانوا في قوة ونماء إلى أيام المتوكل فخمدوا. ولم يكن في هذه الملة الإسلامية أهل بدعة أشر منهم، نعوذ بالله من شر مقالتهم، ونسأل الله السلامة من الزيغ والردى. وكان المتوكل يبغض علياً رضي الله تعالى عنه، ويتنقصه، فذكر علياً رضي الله عنه يوماً وغض منه فتمعر وجه ابنه المنتصر لذلك فشتمه المتوكل وأنشد مواجهاً له:
غضب الفتى لابن عمه ... رأس الفتى في حرامه
فحقد عليه، وأغراه ذلك على قتله، لما كان يغلو في بغض علي رضي الله تعالى عنه، ويكثر الوقيعة فيه والاستخفاف به. فبينما المتوكل في قصره، يشرب مع ندمائه، وقد سكر إذ دخل بغا الصغير، وأمر الندماء بالانصراف فانصرفوا، ولم يبق عنده إلا الفتح بن خاقان، فإذا الغلمان الذين عينهم المنتصر لقتل المتوكل قد دخلوا بايديهم السيوف مصلتة، فهجموا عليه فقال الفتح بن خاقان: ويلكم أمير المؤمنين ثم رمى نفسه عليه، فقتلوهما جميعاً ثم خرجوا إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة.
وكان قتل المتوكل في شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وعمره أربعون سنة. وكانت خلافته

أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وقيل خمس عشرة سنة. وكان أسمر رقيقاً، ملج العينين، خفيف اللحية، ليس بالطويل، فيه قصف وانهماك على اللهو والمكاره، لكنه أحيى السنة، وأمات بدعة القول بخلق القرآن، وله كرم زائد وكان قد عزم على خلع ولده المنتصر من ولاية العهد، وتقديم ابنه المعتز عليه، لفرط محبته لأمه، وأخذ يؤذيه ويتهدده إن لم يخلع نفسه، واتفق مصادرته لوصيف وبغا، فعملوا على قتله، فدخل عليه خمسة نصف الليل وهو في مجلس لهو ففتكوا به وضربوه بسيوفهم وقتلوا معه وزيره الفتح بن خاقان كما تقدم.

خلافة محمد المنتصر بالله
ثم قام بالأمر بعده ابنه محمد المنتصر بالله. بويع له بالخلافة في الليلة التي قتل فيها أبوه، وبويع له من الغد البيعة العامة، فلم تطل دولته، ولم يمتع بالملك. روى إنه بسط بين يديه بساطاً، فرأى عليه شيئاً مكتوباً فلم يعلم ما هو، فأمر بإحضار من قرأه، فإذا كتابته بقلم اليونان، وإذا عليه مكتوب: عمل هذا البساط للملك قباذ بن كسرى قاتل أبيه، وفرش قدامه، فلم يلبث غير ستة أشهر ومات. فتطير المنتصر واغتم لذلك وأمر برفع البساط ومات في آخر الستة أشهر. وكانت خلافته ستة أشهر وأياماً وعمره ست وعشرون سنة وأمه رومية، وكان مربوعاً سميناً أعين أقنى الأنف، مليحاً مهيباً، كامل العقل يحب الخير. قيل إن أمراء الترك خافوه، فلما حم دسوا إلى الطبيب بكيس فيه ألف دينار، ففصده بريشة مسمومة وقيل بل سم في طعامه، فقال لأمه: ذهبت عني الدنيا والآخرة عاجلت أبي فعوجلت.
خلافة أحمد المستعين بالله وهو السادس فخلع وقتل
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه أحمد المستعين بالله بن محمد المعتصم. بويع له بالخلافة ليلة الإثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، وعمره إذ ذاك ثمان وعشرون سنة، وكان كثير الجماع، مغرماً يحب النساء وكان له ابنة عم بديعة الحسن والجمال، فطلبها من أبيها فامتنع فأحضر الأصمعي والرقاشي وأبا نواس، وقال: كل من أنشد لي بطبق مرادي في ابنة عمي أعطيته الجائزة العظمى فانشد أبو نواس:
ما روض ريحانكم الزاهر ... وما شذا نشركم العاطر
وحق وجدي والهوى قاهر ... مذغبتمو لم يبق لي ناظر
والقلب لا سال ولا صابر ... قالت: ألا لا تلجن دارنا
وكابد الأشواق من أجلنا ... واصبر على مر الجفا والضنا
ولا تمرن على بيتنا ... إن أبانا رجل غائر
فقلت: إني طالب غرة ... يحظى بها القلب ولو مرة
قالت: بعيد ذاك مت حسرة ... قلت سأقضي غرتي جهرة
منك وسيفي صارم باتر ... قالت: فإن البحر من بيننا
فابرح ولا تأت إلى حينا ... واشرب بكأس الموت من هجرنا
قلت ولو كان كثيرالعنا ... يكفيك إني سابح ماهر
قالت: فإن القصر عالي البنا ... قلت: ولو كان عظيم السنا
أو كان بالجو بلغت المنى ... قالت: منيع في الورى قصرنا
قلت وإني فوقه طائر ... قالت فعندي لبوة والد
فقلت إني أسد شارد ... غشمشم مقتنص صائد
قالت: لها شبل بها لا بد ... قلت: وإني لبثها الكاسر
قالت فعندي إخوة سبعة ... جمعاً إذا ما التقوا عصبة
قلت ولي يوم اللقا وثبة ... قالت: لهم يوم الوغى سطوة
قلت: إني قاتل قاهر ... قالت: فإن الله من فوقنا
يعلم ما نبديه من شوقنا ... نمضي إلى الحق غدا كلنا
ونختشي النقمة من ربنا ... قلت: وربي ساتر غافر
قالت فكم أعييتنا حجة ... تجي بها كاملة بهجة
فيا لها بين الورى خجلة ... إن كنت ما تمهلنا ساعة
فائت إذا ما هجع الساهر ... واسقط علينا كسقوط الندى
إياك أن تظهر حرف الندا ... يستيقظ الواشي ويأتي الردى
وكن كضيف الطيف مسترصداً ... ساعة لا ناه ولا آمر

حاججتها عشراً وصافحتها ... على دنان الخمر صافيتها
رامت مواثيقاً فوافيتها ... ملتحفاً سيفي ولاقيتها
آخر ليلى والدجى عاكر ... يا ليلة قضيتها خلوة
مرتشفاً من ريقها قهوة ... تكر من قد يبتغي سكرة
ظننتها من طيبها لحظة ... يا ليت لا كان لها آخر
فلما أنشد ذلك أبو نواس بحضرة الخليفة، أعجبه ذلك وأمر له بالجائزة العظمى، ووفى بما عهد.
ثم إن المستعين أشهد على نفسه أنه قد خلعها من الخلافة، وأنه قد أحل الناس من بيعته بشروط، وخطب للمعتز بن المتوكل.
فنقل المستعين إلى قصر الحسن بن وهب فاعتقل به تسعة أشهر، ووكل به من يحفظه ثم أحضر به إلى واسط ودس عليه المعتز، سعيداً الحاجب فقتله صبراً في أول شهر رمضان سنة إثنتين وخمسين ومائتين وجيء برأسه إلى المعتز، وهو يلعب الشطرنج، فقيل له: هذا رأس المخلوع، فقال: دعوه هناك حتى أفرغ من اللعب. فلما فرغ أحضره ونظره، ثم أمر بدفنه. وكانت خلافته سنتين وتسعة أشهر، وعمره إحدى وثلاثون سنة وكان مربوعاً مليح الوجه به أثر جدري، وكان ألثغ يجعل السين ثاء وكان كريماً مبذراً للأموال رحمه الله تعالى.

خلافة أبي عبد الله محمد المعتز
بالله بن المتوكل
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه محمد المعتز بن المتوكل. بويع له بالخلافة لما خلع المستعين نفسه، في أول سنة إثنتين وخمسين ومائتين، ثم دبر عليه صالح بن وصيف حاجبه، فجاء إليه ومعه جماعة، وبعثوا إليه أن أخرج، فاعتذر بأنه تناول دواء، فأمر صالح أن يدخل إليه بعضهم، فدخلوا وجروا برجله إلى باب الحجرة، فأقيم في الشمس الحارة، فصار يرفع قدماً ويضع أخرى، وهم يلطمونه ويقولون له: اخلعها وهو يتقي بيديه ويأبى، ثم أجابهم وخلع نفسه. فتسلمه صالح بن وصيف، ومنعه من الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أنزله الى سرداب مجصص وأطبقه عليه حتى مات. ثم أخرجه وأشهد عليه أنه لا أثر به. وقيل: إنه بعد خلعه بخمسة أيام أدخله الحمام، ومنعه الماء حتى عاين التلف، ثم أتوه بماء مالح فشربه فسقط ميتاً. وذلك في رجب سنة خمس وخسين ومائتين، وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة وخلافته أربع سنين وستة أشهر وكان بديع الحسن رحمه الله تعالى.
خلافة جعفر المهتدي بالله بن هارون
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه، جعفر بن هارون المعتصم. ورأيت لا غير هذا الموضع أن المهتدي إسمه محمد بأبي إسحاق. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه المعتز بالله ولما ولي أخرج الملاهي وحرم سماع الغناء والشراب، وأمر بنفي المغنيات وطرد الكلاب، والسباع وألزم نفسه الإشراف على الدواوين، والجلوس للناس، وإزالة المظالم، وتغيير المنكرات. وقال: إني أستحيى من الله أن لا يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية. فتبرم به بابك التركي، وكان ظلوماً غشوماً، فأمر المهتدي بقتله، ولما قتل هاجت الأتراك، ووقعت الحرب بينهم وبين المغاربة، فقتل من الفريقين أربعة آلاف، وخرج المهتدي والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته، والمغاربة معه وبعض العامة، فحمل عليهم طيبغاً أخو بابك فهزمهم. ومضى المهتدي مهزماً، والسيف في يده، وقد جرح جرحين، حتى دخل دار محمد بن يزداد، فتجمعت الأتراك وهجموا عليه وأخذوه أسيراً. وحمله أحمد بن خاقان على دابة وأردف خلفه سائساً بيده خنجر، فأدخل إلى دار أحمد بن خاقان، وجعلوا يصفعونه ويقولون اخلعها، فأبى عليهم فسلم إلى رجل، فوطىء مذاكيره حتى قتله، وذلك في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت خلافته أحد عشر شهراً، رحمة الله تعالى عليه، وقيل سنة.
وكان أسمر مليح الصورة ديناً ورعاً عابداً عادلاً حازماً شجاعاً خليقاً للإمارة،، لكنه لم يجد ناصراً. يقال: إنه كان يسرد الصوم، وربما كان فطوره في بعض الليالي، على خبز وخل وزيت، وقد كان سد باب اللهو والطرب والغناء، وحسم الأمراء عن الظلم وكان يجلس لحساب الدواوين بنفسه.

ومما يحكى: من محاسنه، ما ذكره الحافظ أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي، في كتابه قال: إن أبا الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي، وكان من وجوه بني هاشم، وأهل الخلافة والسبق منهم، قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين، وقد جلس ينظر في أمور الناس، في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه، من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وإنشاء الكتب لأصحابها، فتختم وتدفع إلى أصحابها بين يديه. فسرني ذلك وجملت أنظر إليه، ففطن لي ونظر إلي، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مراراً إذا نظر إلي غضضت، وإذا اشتغل عني نظرت. فقال: يا صالح قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائماً فقال: أفي نفسك مني شيء تحب أن تقوله؟ فقلت: نعم يا سيدي. فقال لي: عد إلى موضعك، فعدت وعاد في النظر حتى قام وقال للحاجب: لا يبرح صالح فانصرف الناس. ثم أذن لي وقد أهمتني نفسي، فقمت فدخلت ودعوت له، فقال لي: اجلس فجلست، فقال: يا صالح تقول ما دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي. أنه دار في نفسك. فقلت: يا أمير المؤمنين، ما تعزم عليه وتأمر به، أطال الله بقاءك، فقال: كأني بك، وقد استحسنت ما رأيت منا فقلت: أي خليفة خليفتنا، إن لم يكن يقل القرآن مخلوق؟ فورد على قلبي أمر عظيم وأهمتني نفسي، ثم قلت: يا نفس هل تموتين إلا مرة. وهل تموتين قبل أجلك؟ وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت. ثم أطرق ملياً وقال: ويحك اسمع مني ما أقول: فوالله لتسمعن الحق فسري عني. فقلت: يا سيدي من أولى بقول الحق منك، وأنت أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين، من الأولين والآخرين. فقال لي: ما زلت أقول القرآن مخلوق صدراً من خلافة الواثق حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دؤاد شيخاً من أهل الشام، من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيداً، وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ بأحسن السلام، ودعا بأبلغ الدعاء، وأوجز. فقال له الواثق: اجلس ثم قال له: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ابن أبي دؤاد يقل ويصغر ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق، وعاد مكان الرقة له غضباً، فقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يقل ويصغر ويضعف عن مناظرتك أنت؟ فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن لي في مناظرته، فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة، فقال الشيخ: يا أحمد بن أبي دؤاد إلام دعوت الناس ودعوتني إليه؟ فقال: إلى أن تقول القرآن مخلوق لأن كل شيء من دون الله مخلوق. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إني رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول. قال: افعل. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت. قال: نعم. قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله عز وجل هل ستر شيئاً مما أمره الله به في دينه؟ قال: لا قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ له: تكلم، فسكت. فالتفت الشيخ إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين واحدة. فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن آخر ما أنزل الله من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " فقال الشيخ: أكان الله تبارك وتعالى الصادق في اكمال دينه. أم أنت الصادق في نقصانه فلا يكون الدين كاملاً، حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: أجب يا أحمد. فلم يجب فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان. فقال الواثق. اثنتان فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها. فقال الشيخ: أدعا الناس إليها فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: يا أمير المؤمين ثلاث. فقال الواثق: ثلاث. فقال الشيخ: يا أحمد فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعمت، فلم يطالب أمته بها؟ قال: نعم فقال الشيخ: واتسع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن

عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالىن، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم؟ قال ابن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين قد قدمت القول: إن أحمد يقل ويصغر و يضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك. فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطعوا قيده ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه، فجذبه الحداد إليه فقال الواثق: دع الشيخ ليأخذه فأخذه الشيخ فوضعه في كمه، فقيل للشيخ: لم جاذبت عليه؟ فقال الشيخ: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه، إذا أنا مت، أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخوتي بلا حق أوجب ذلك علي؟ وبكى الشيخ، وبكى الواثق، وبكيت.
ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله منه، فقال الشيخ، والله يا أمير المؤمنين قد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كنت رجلا من أهله. فقال الواثق: لي إليك حاجة. فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت. فقال الواثق: تقيم قبلنا فتنتفع بك فتياننا. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم، أنفع لك من مقامي عندك. وأخبرك لم ذلك: أصير إلى أهلي وولدي، فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك. فقال له الواثق أفتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لا تحل لي، أنا عنها غني وذو ثروة. فقال له: أتسأل حاجة؟ قال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: تخلي سبيلي إلى السفر الساعة، وتأذن لي. قال: قد أذنت لك. فسلم عليه الشيخ وخرج. قال صالح: فقال المهتدي بالله: فرجعت عن هذه المقالة منذ ذلك اليوم، وأظن أن الواثق بالله، كان رجع عنها من ذلك الوقت، ولي فيها طرق أخرى، وفيها بعض المغايرة فلهذه وقد سبق في ترجمة الواثق ما يدل على رجوعه والله تعالى أعلم.

خلافة أبي القاسم أحمد المعتمد
على الله بن المتوكل
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه أحمد، المعتمد على الله بن المتوكل على الله بن المعتصم بالله.
بويع له بالخلافة يوم قتل ابن عمه المهتدي بالله بسر من رأى، وكان له إسم الخلافة ولأخيه الموفق بن المتوكل تدبير الملك ولما مات الموفق، قام بتدبير الملك بعده، ابنه أحمد المعتضد بن الموفق وغلب على عمه المعتمد كما كان أبوه غالباً عليه، فكان المعتمد يطلب الشيء الحقير فلا يناله كما يكن له سوى الإسم فقال في ذلك:
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه
وتؤخذ بإسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه
قيل: إنه شرب يوماً على الشط شراباً كثيراً فتغشى ومات. وقيل: إنه اغتم ومات وهو نائم في بساط. وقيل: إنه سم في لحم وذلك في شوال سنة تسع وسبعين ومائتين وله خمسون سنة. وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وتوفي ببغداد. وكان أسمر ربعة، رقيقاً مدور الوجه مليح العينين، صغير اللحية أسرع إليه الشيب منهمكاً على اللهو واللذات يسكر ويعض يده.
خلافة أبي العباس أحمد المعتضد
بالله بن الموفق
بويع له بالخلافة يوم مات عمه المعتمد، فاستقل بالأمر وكان شجاعاً عادلاً ذا هيبة عظيمة مع سطوة وجبروت وحزم ورأي، وذكاء مفرط في أحكامه، وسيأتي ذكر شيء من ذلك. وكان كثير الجماع فاعتراه فساد مزاج وكان ذلك سبب رفاته. وكان محباً للعدل موثراً له، وله فيه حكايات نادرة توفي سنة تسعين ومائتين، لسبع بقين من شهر ربيع الآخر وهو ابن ست وأربعين سنة، وقيل أربعين سنة. وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وقيل عشر سنين وكان أسمر مهيباً معتدل الشكل.
خلافة أبي محمد علي المكتفي
بالله بن المعتضد

ثم قام بالأمر بعده ابنه علي أبو محمد المكتفي بالله بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بويع له بالخلافة يوم توفي أبوه المعتضد. وتوفي ببغداد سنة ثلاث وتسعين ومائتين وهو ابن أربع وثلاثين سنة، وقيل ثلاثين. وخلافته سنتان وثمانية أشهر. هكذا ذكروا وفاته، وعمره وخلافته والذي رأيته في كتب الذهبي أنه كانت وفاته في ذي القعدة سنة تسع وتسعين ومائتين عن إحدى وثلاثين سنة. وكانت خلافته ست سنين ونصفا. وكان وسيماً جميلاً بديع الحسن، دري اللون معتدل الطول، أسود الشعر، وكان حسن العقيدة، كارهاً لسفك الدماء.
ووطأ له أبوه المعتضد الأمر، وكان المكتفي مائلاً إلى حب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، باراً بأولاده يحكى أن يحيى بن علي الشاعر، أنشده بالرقة قصيدة يذكر فيها فضل أولاد العباس على أولاد علي، فقطع المكتفي عليه إنشاده وقال: يا يحيى كأنهم ليسوا بني عم. ما أحب أن يخاطب أهلنا بشيء من ذلك وإن كانوا خلفاء. ولم يسمع القصيدة ولا أجازه عليها رحمة الله عليه.

خلافة أبي الفضل جعفر المقتدر
بالله وهو السادس فخلع مرتين كما سيأتي
ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو الفضل جعفر المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة ببغداد يوم وفاة أخيه، وهو ابن ثلاث عشرة سنة وأربعين يوماً، ولم يل الخلافة بعده. قيل: ولا قبله أصغر منه وضعف دست الخلافة في أيامه، وذكر صاحب النشوان وغيره، عن صافي مولى المعتضد، أنه قال: مشيت يوماً بين يدي المعتضد وهو يريد دار الحرم، فلما بلغ باب دار المقتدر، وقف وتسمع وتطلع من خلل في الستر، فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها، وهو جالس وحوله قدر عشر وصائف، من أترابه في قدر سنه، وبين يديه طبق فضة وفيه عنقود عنب، في وقت فيه العنب عزيز جداً، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة على الدور حتى إذا بلغ الدور إليه، أكل واحدة مثل ما أكلوا، حتى فني العنقود، والمعتضد يتمزق غيظاً، ثم رجع ولم يدخل الدار. فرأيته مهموماً، فقلت: يا مولاي ما سبب فعلته. فقال: يا صافي والله لولا العار والنار لقتلت هذا الغلام اليوم! يعني المقتدر، فإن في قتله صلاحاً للأمة. فقلت: يا مولاي ما شأنه وأي شيء عمل؟ أعيذك بالله يا مولاي من هذا. فقال: ويحك أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأنا أعلم أن الناس بعدي لا يختارون أحداً على ولدي، وإنهم سيجلسون ابني علياً يعني المكتفي وما أظن أن عمره يطول، للعلة التي به، يعني الخنازير التي كانت في حلقه، فيتلف عن قريب ولا يرى الناس اخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده أمثل من جعفر يعني المقتدر وهو صبي وله من الطبع والسخاء هذا الذي قد رأيته من أنه أطعم الوصائف مثلما أكل، وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان غالب، فتحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب، ويبمد ارتفاع الدنيا فتضيع الثغور، وتعظم الأمور، وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس رأساً. فقلت: يا مولاي يبقيك الله، حتى ينشأ في حياة منك، ويصير كهلاً في أيامك ويتأدب بآدابك، ويتخلق بأخلاقك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فقال: ويحك احفظ عني ما أقول لك: فإنه كما قلت: قال: ومكث يومه مغموماً مهموماً.
وضرب الدهر ضرباته، ومات المعتضد وولي المكتفي فلم يطل عمره ومات. وولي المقتدر فكانت الصورة كما قال مولاي المعتضد بعينها، فكنت كلما ذكرت قوله أعجب منه، فوالله لقد وقفت يوماً على رأس المقتدر وهو في مجلس لهوه، فدعا بالأموال فأخرجت إليه ووضعت البدر بين يديه، فجعل يفرقها على الجواري والنساء، ويلعب بها ويمحقها أو يهبها. فذكرت قول مولاي المعتضد ثم إن الجند وثبوا على العباس وزيره فقتلوه، وأحضروا عبد الله بن المعتز وبايعوه وخلعوا المقتدر.
خلافة عبد الله بن المعتز المرتضي بالله
بويع بالخلافة بعد خلع المقتدر. بعد أن شرط عليهم أن لا يكون في ذلك حرب ولا سفك دم فلما بويع له كتب إلى المقتدر، يأمره بلزوم دار ابن طاهر بوالدته وجواريه، وأمر الحسن بن حمدان وابن عمرويه، صاحب الشرطة، أن يصير إلى دار المقتدر، فمضيا فخرج إليهما الغلمان

ورموهما بالحجارة، وجرى بينهم حرب شديد، آخره أن أصحاب المقتدر ظهروا عليهما فانهزما وانهزم المرتضي بالله، وتفرق أصحابه واستتر عند ابن الجصاص، ولم يتم له أمر غير يوم وليلة، ولذلك يعد المؤرخون خلافته في هذه المدة. ثم عاد المقتدر إلى ما كان عليه، ثم ظفر بالمرتضي بالله فقتله خنقاً، وأظهر أنه مات حتف أنفه، وأخرج وهو ميت من دار الخلافة، فدفنوه في خرابة بازاء داره، وكان عمره خمسين سنة.
قال ابن خلكان في ترجمته كان شاعراً ماهراً، فصيحاً مجيداً مخالطاً للعلماء والأدباء، وهو صاحب التشبيهات التي أبدع فيها ولم يتقدمه من شق غباره، وكان قد اتفق معه جماعة وخلعوا المقتدر وبايعوه ولقبوه بالمرتضي بالله فأقام يوماً وليلة، ثم إن اصحاب المقتدر تحزبوا وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم، فاستخفى ابن المعتز ثم أخذ ليلاً، فلما ادخل على المقتدر أمر به فطرح على الثلج عرياناً، وحشي سراويله ثلجاً. فلم يزل كذلك والمقتدر يشرب، إلى أن مات، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين رحمه الله.
ليس هو بمعدود في الخلفاء لأنه لم يثبت له أمر. واستمر للمقتدر الأمر إلى أن بلغ مؤنساً الخادم أن المقتدر قد عزم على اغتياله، وكان مؤنس مقدم جيش المقتدر فبلغ المقتدر ما نقل إلى مؤنس فحلف على بطلان ذلك. وأسرها مؤنس في نفسه، ثم جرى بين العامة وبين بعض مماليكه حرب، فظن أن ذلك بأمر المقتدر فوافى مؤنس دار الخلافة في اثني عشر ألف فارس، فدخل إلى المقتدر وقبض عليه وعلى والدته السيدة، وحملهما إلى قصره ونهب الجند دار الخلافة وخلع المقتدر نفسه، من الخلافة وكتب بذلك إلى الآفاق فلما كان ثاني يوم خلعه، شغب الجند وقتلوا صاحب الشرطة، وهرب ابن مقلة الوزير، وهرب الحجاب وجاء المقتدر فجلس، وأحضر أخاه القاهر وأجلسه بين يديه، وقبل ما بين عينيه، وقال: يا أخي لا ذنب لك فجعل القاهر يقول: الله الله في نفسي يا أمير المؤمنين، فقال المقتدر: والله وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جرى عليك مني سوء أبداً وعاد ابن مقلة الوزير وكتب إلى الآفاق بخلافة المقتدر، ثم جرى بين المقتدر وبين مؤنس الخادم حرب فاقتحم المقتدر نهر السكران فأحاط به جماعة من البربر فقتله رجل منهم، وأخذوا رأسه وسلبه وثيابه، ومضوا إلى مؤنس الخادم، فمر بالمقتدر رجل من الاكراد فستر عورته بحشيش ودفنه، وأخفى أثره.
وكان قتله يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة ست عشرة وثلثمائة وهو ابن ثمان وثلاثين سنة وشهر. وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وإحدى عشر شهراً خلع فيها مرتين ثم قتل كما تقدم.
وحكى الذهبي أن خلافته كانت خمساً وعشرين سنة وأنه عاش ثمانياً وثلاثين سنة، وإنه كان مسرفاً مبذراً للمال ناقص الرأي أعطى جارية له الدرة اليتيمة وكان وزنها ثلاثة مثاقيل، وما كانت تقوم وقيل: إنه محق من الذهب ثمانين ألف ألف دينار في أيامه وإنه خلف من الأولاد عدة منهم الرضي بالله المقتفي بالله وإسحاق والمطيع لله.

خلافة محمد القاهر بالله
ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو منصور محمد بن المعتضد بالله. بويع له بالخلافة ببغداد لليلتين بقيتا من شوال ولما ولي قبض على ابن أخيه المكتفي، وأمر به فأقيم في بيت وسد عليه بالآجر والجص حتى مات غماً. وقبض على السيدة أم المقتدر، وطالبها بمال لم تقدر عليه، فتهددها وضربها بيده، وعذبها بأنواع العذاب، وعلقها منكسة حتى كان يجري بولها على وجهها، وهي تقول له: ألست أمك في كتاب الله؟ وخلصتك من ابني في المرة الأولى؟ وأنت تعاقبني بهذه العقوبة! ولم يبق عندي مال. ثم إنها ماتت عقب ذلك.
ثم إن الجند شغبوا عليه، وجاؤوا إلى داره، وهجموا عليه من سائر الأبواب، فهرب إلى سطح حمام واستتر فيه، فأتو إليه وقبضوا عليه وحبسوه وخلعوه من الخلافة، وسملوا عينيه. وذلك ؤ جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. قال ابن البطريق في تاريخه: كان القاهر قد ارتكب أموراً قبيحة لم يسمع بمثلها في الإسلام، وذكر منها طرفاً طويلاً.

حكي أن رجلاً قال: صليت في جامع المنصور ببغداد فإذا أنا بإنسان عليه جبة عنابية، وقد ذهب وجهها وبقي بعض قطن بطانتها، وهو يقول: أيها الناس تصدقوا علي، بالأمس كنت أمير المؤمنين وأنا اليوم من فقراء المسلمين. فسألت عنه فقيل لي إنه القاهر بالله في هذه الحكاية أعظم عبرة. نعوذ بالله من سخطه وزوال نعمه.
وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وسبعة أيام، وكان أهوج طائشاً سفاكاً للدماء يدمن السكر، وكان له حربة يأخذها بيده، فلا يضعها حتى يقتل إنساناً ولولا وجود الحاجب سلامة لأهلك الناس.

خلافة أبي العباس أحمد الراضي
بالله بن المقتدر
ثم قام بالأمر بعده أخوه، أبو العباس أحمد الراضي بالله بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم خلع عمه القاهر. واستوزر أبا علي بن مقلة، وأطلق كل من كان في حبس القاهر، ثم استدعى بالأمير محمد بن رائق، وكان بواسط متغلباً عليها، لأن الضرورة ألجأته إلى ذلك لاضطراب الأمور عليه، ولضعف من يلي الوزارة عن القيام بها.
فقدم ابن رائق بغداد فجعله الراضي أمير الأمراء وفوض إليه تدبير المملكة، وخلع عليه وأعطاه اللواء. ومن ذلك اليوم بطل أمر الوزارة ببغداد، ولم يبق إلا إسمها والحكم للأمراء. والملوك المتغلبين. وكان قدومه لخمس بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثلثمائة ثم دخلت سنة خمس والدنيا في أيدي المتغلبين، وهم ملوك الأرض، وكل من حصل في يده بلد ملكه ومانع عنه، فالبصرة وواسط والأهواز في يد عبد الله البريدي وأخويه، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة وديار مضر في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيد بن طغج، والمغرب وافريقية في يد المهدي، والأندلس في يد بني أمية، وخراسان وما والاها في يد نصر بن أحمد الساماني، واليمامة وهجر والبحرين في يد أبي طاهر القرمطي، وطبرستان وجرجان في يد الديلم. ولم يبق في يد الراضي وابن رائق سوى بغداد وما والاها فبطلت دواوين المملكة، ونقص قدر الخلافة وضعف ملكها. وعم الخراب لذلك.
وتوفي الراضي ليلة السبت خامس عشر ربيع الأول، سنة تسع وعشرين وثلثمائة بعلة الاستسقاء والتنحنح. وكان أكبر أسباب علته من كثرة الجماع، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر، وخلافته ست سنين وعشرة أشهر. وكان سمحاً جواداً، واسع الصدر أديباً شاعراً، حسن البيان. وقيل: إن عمره كان اثنتين وثلاثين سنة وخلافته ست سنين وعشرة أيام كان قصيراً أسمر نحيفاً، وله شعر جيد مدون. وخطب بالناس في سامرا فأبلغ وأجاد، ومرض أياماً ثم قاء دماً كثيراً ومات.
خلافة إبراهيم المتقي بالله
ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو العباس إبراهيم المتقي بالله بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم موت أخيه الراضي، فصلى ركعتين وصعد على السرير. وكان ذا دين وورع، ولهذا لقبوه المتقي بالله، فكان تدبير المملكة إلى الأمير حكم التركي وليس للمتقي إلا الإسم. ثم إن نوروز استولى على بغداد وخلع المتقي بالله وسلمه لابن عمه المستكفي بالله، فأخرجه إلى جزيرة بقرب السندية، وأكحله بعد أن أشهد على نفسه بالخلع. وذلك يوم السبت لعشر بقين من صفر، سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهراً، وقيل: كانت أربع سنين وتوفي سنة سبع وسبعين وثلثمائة. وكان مولده في سنة سبع وتسعين ومائتين فأبوه أكبر بخمس عشرة سنة. وكان كثير الصوم والتهجد يدمن التلاوة في المصحف ولا يشرب مسكراً وعاش بعد خلعه أربعاً وعشرين سنة.
خلافة عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي
ثم قام بالأمر بعده، ابن عمه أبو العباس عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه المتقي بالله، ولما ولي الخلافة خلع على نوروز وفوض إليه تدبير المملكة. وفي أيامه قدم معز الدولة ابن بويه بغداد، فخلع عليه وفوض إليه ما وراء بابه، وضرب السكة بإسمه، وأمر أن يخطب له على المنابر، ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاء أبا الحسن علياً بعماد الدولة، وهو أكبر بني بوية، له خبر عجيب سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة، في لفظ الحية. ولقب أخاهم أبا الفتح بركن الدولة، وهو أوسطهم. وله خبر عجيب أيضاً يأتي إن شاء الله تعالى في باب الدال المهملة في لفظ الدابة.

وكان قدوم معز الدولة في سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، وفيها كان خلع المستكفي بالله، وسبب ذلك أن معز الدولة بلغه أن المستكفي قد دبر على هلاكه، فدخل على المستكفي وقبل الأرض ثم قبل يديه، فطرح له كرسي فجلس عليه، ثم تقدم لديه جلان من الديلم ومدا أيديهما إلى المستكفي، فظن أنهما يريدان تقبيل يده، فمدها إليهما، فجذباه من على السرير وجعلا عمامته في عنقه، ثم سحب إلى معز الدولة واعتقل ثم خلع، وسملت عيناه، وانتهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شيء. وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. وتوفي في دار معز الدولة في سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة وهو ابن ست وأربعين سنة وكانت خلافته سنة وأربعة شهور.

خلافة أبي الفضل المطيع
لله ابن المقتدر وهو السادس فخلع
ثم قام بالأمر بعده، ابن عمه أبو الفضل المطيع لله ابن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة وله يومئذ أربع وثلاثون سنة، يوم خلع ابن عمه المستكفي بالله، وتدبير المملكة إلى معز الدولة بن بويه، وفي أيامه توفي معز الدولة ببغداد فى سنة ست وخمسين وثلثمائة. وكانت مدة ملكه بالعراق إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهراً. كان ملكاً شجاعاً مقداماً قوي القلب، إلا أنه كان في أخلاقه شراسة، فا زالت التجارب تحنكه والسعادة تخدمه وترفعه، إلى أن بلغ الغاية التي لم يبلغها قبله أحد في الإسلام، إلا الخلفاء.
ولما توفي قام ولده عز الدولة بختيار بتدبير المملكة، وقلده المطيع لله موضع والده، وخلع عليه واستقل بالأمور. وفي أيامه أيضاً توفي كافور الاخشيدي صاحب مصر، في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة، وفيها قدم جوهر القائد، غلام المعز لدين الله صاحب القيروان، مصر. فأقام الدعوة بها للمعز لدين الله وبايعه بها الناس على ذلك. وانقطعت الخطبة بمصر عن بني العباس، وشرع جوهر القائد في بناء القاهرة لإسكان الجند بها، ثم دخل المعز لدين الله مصر لثمان مضين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلثمائة. وهو أول الخلفاء الفاطميين، بمصر.
ولما تغلب سبكتكين التركي على بغداد، وكان أكبر حجاب معز الدولة، ولم تزل منزلته ترتفع عند معز الدولة، حتى عظم أمره ونفذت كلمته، وخاف المطيع لله منه على نفسه، وانضاف إلى ذلك أنه لازمه مرض، فخلع نفسه من الخلافة طائعاً، وسلمها لولده عبد الكريم وقيل أبي بكر وقيل إنها كنيته، وسماه الطائع لله وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة ثلاث ستين وثلثمائة ثم توفي بدير العاقول ، سنة أربع وستين وثلثمائة وكان بين خلعه وموته شهران. وكان عمره ثلاثاً وستين سنة وكان وطيء الجانب كثير الصدقات، غير أنه كان مغلوباً على أمره وليس له من الخلافة إلا الإسم وكانت خلافته تسعاً وعشرين سنة وأربعة شهور رحمة الله تعالى عليه.
خلافة أبي بكر عبد الكريم الطائع لله
ثم قام بالأمر بعده، ولده عبد الكريم أبو بكر الطائع لله، بويع له بالخلافة يوم خلع أبوه نفسه، من الخلافة وعمره سبع وأربعون سنة، ولم يل الخلافة من بني العباس من هو أكبر سناً. قال صاحب رأس مال النديم: إنه لم يتقلد الخلافة من أبوه حي، سوء الطائع لله والصديق رضي الله تعالى عنه، وكلاهما إسمه أبو بكر. وهو السادس، فخلع كما سيأتي إن شاء الله تعالى وذلك إذا لم يعد ابن المعتز وإن عد فالمطيع هو السادس، وقد خلع نفسه لما حصل له من الفالج، ولما ولي، أعني الطائع خلع على سبكتكين التركي، وولاه ما وراء بابه.
وفي أيام الطائع استولى الملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، على بغداد وملكها، فخلع عليه الطائع لله الخلع السلطانية، وتوجه وطوقه وسوره. وعقد له لواءين، وولاه ما وراء بابه. وتسلم عضد الدولة الوزير أبا طاهر بن بقية وزير عز الدولة وصلبه، فرثاه أبو الحسن بن الأنباري بمرثيه لم يسمع في مصلوب مثلها فلنأت بها وهي هذه :
علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك إذ أقاموا ... وفود نداك أيام الصلات
كانك قائم فيهم خطيباً ... وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدكها إليهم بالهبات

ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واسعاضوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات
وتوقد حولك النيران قدما ... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأس ... تباعد عنك تعيير العداة
ولم أر قبل جذعك قط جذعاً ... تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاشتثارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنت تجيرنا من صرف دهر ... فعاد مطالباً لك بالترات
وصير دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعداً فلما ... مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي ... حقيق بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيام ... بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات
ولكني أصبر عنك نفسي ... مخافة أن أعد من الجناة
ومالك تربة فأقول تسقى ... لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى ... برحمات غواد رائحات
وتوفي الملك عضد الدولة بن بويه في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة، وهو ابن تسع وأربعين سنة وأحد عشر شهراً أو كان له ملك العراق وكرمان وعمان وخوزستان والموصل وديار بكر وحران ومنيج. وكانت مدة ملكه ببغداد خمس سنين. وكان ملكاً فاضلاً، جليلاً عظيماً، مهيباً صارماً، كريماً شجاعاً بطلاً ذكياً، وله في الذكاء أخبار عجيبة ونكت غريبة، ليس هذا موضع ذكره. وهو أول من تسمى بملك في الإسلام. ولما احتضر جعل يقول: " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " ويرددها حتى مات، ولما مات كتم موته ودفن بدار المملكة ببغداد. ثم ظهر موته وأخرج من قبره، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فدفن به. وكان عضد الدولة قد بنى المشهد قبل موته، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفهد. ومما يحكى أن عضد الدولة خرج يوماً إلى بستان له متنزهاً فقال: ما أطيب يومنا هذا لو ساعدنا فيه الغيث فجاء المطر في الوقت فقال:
ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السجر
ناعمات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
سهل الله له بغيته ... في ملوك الأرض ما دار القمر
وأراه الخير في أولاد ... ليساس الملك منهم بالغرر
فلم يفلح بعد هذه الأبيات وعوجل بقوله غلاب القدر، ولما مات عضد الدولة قام بتدبير المملكة بعده ولده بهاء الدولة، فخلع عليه الطائع لله وقلده ما كان بيد أبيه.
ثم إن بهاء الدولة أمسك الطائع لله واعتقله، ونهب دار الخلافة ثم أشهد على الطائع بخلع نفسه من الخلافة. وذلك في شهر شعبان سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وأقام مخلوعاً معتقلاً إلى أن توفي في ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وكانت خلافته سبع عشرة سنة وتسعة أشهر. وعمره ثمان وسبعون سنة وكان مربوعاً أشقر كبير الأنف شديد القوة في خلقه حدة، كريماً شجاعاً بطلاً جواداً سمحاً إلا أن يده كانت قصيرة مع ملوك بني بويه رحمة الله تعالى عليه.

خلافة أبي العباس أحمد القادر
بالله بن إسحاق
ثم قام بالأمر بعده، أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة

ليلة خلع الطائع له وعمره يومئذ أربع وأربعون سنة. وكان كثير البر والصدقات، مريداً للفقراء مؤثراً للتبرك بهم، لكنه كان مقهوراً على أمره. وتوفي في ذي القعدة، ويقال في ليلة الأضحى، ويقال ليلة الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين واربعمائة، وهو ابن ست وثمانين سنة وكانت خلافته إحدى وأربعين سنة وشهوراً قيل: هي ثلاثة، وقيل إنه كان ابن سبع وثمانين سنة. وكان أبيض طويل اللحية. كبيرها يخضبها لشيبه. وكان دائم التهجد كثير الصدقات من الديانة على عفة اشتهرت عليه. له مصنف في السنة وذم المعتزلة والروافض. وكان يقرأ القرآن في كل جمعة مرة ويحضره الناس.

خلافة أبي جعفر عبد الله القائم
بأمر الله بن القادر بالله
ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله بن القادر. بويع له بالخلافة يوم موت والده. وفي أيامه كان ابتداء دولة السلاطين السلجوقية، وانقراض دولة بني بويه، وكانت مدة ملكهم مائة وسبعاً وعشرين سنة، وذلك في سنة ثلاثين وأربعمائة. ذكر ذلك ابن البطريق في تاريخه في حوادث سنة ست وأربعين.
وكان القائم بأمر الله أبيض اللون مليح الوجه مشرباً بحمرة، ورعاً زاهداً عابداً، مريداً لقضاء حوائج المسلمين موقراً لأهل العلم، معتقداً في الفقراء والصالحين، حسن الطوية. ولم يقم أحد في الخلافة قدر إقامته، وكان كثير الصدقة، له فضل وعلم، من خيار الخلفاء لا سيما بعد عوده للخلافة، في نوبة البساسيري فإنه صار يكثر الصيام والتهجد. وما كان ينام إلا على سجادة وما تجرد من ثيابه لنوم قط. وتوفي القائم بأمر الله في سنة سبع وتسعين وأربعمائة لعشر ليال مضت من شعبان، وكانت خلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وقيل تسعة أشهر وقيل خمساً وأربعين سنة وأمه أرمنية رحمه الله تعالى.
خلافة أبي القاسم المقتدي
بأمر الله بن محمد بن القائم
ثم قام بالأمر بعده ولد ولده أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمرالله بن محمد بن القائم بأمر الله. بويع له بالخلافة يوم وفاة جده القائم بأمر الله، في ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. وذلك أن جده كان لما مرض افتصد، فانفجر فصاده، وخرج منه دم عظيم، فخارت قوته وعجر. فطلب ابن ابنه وعهد إليه بالأمر ولقبه المقتدي بأمر الله بمحضر من الأئمة والعلماء، وكان ولد بعد موت أبيه ذخيرة الدين، بستة أشهر وعمرت بغداد في أيامه، وخطب له بالحجاز واليمن والشام.
حكي: أن المقتدي قدم إليه يوماً طعام، فتناول منه وغسل يديه، وهو على أكمل حال وأحسن هيئة في نفسه وجسمه، وبين يديه قهرمانته شمس، فقال لها: ما هذه الأشخاص الذين دخلوا بغير إذن؟ فالتفتت فلم تر أحداً، ثم نظرت إليه فرأته قد تغير وجهه، واسترخت يداه وانحلت قواه وسقط إلى الأرض، فظنت أنه قد غشي عليه، فإذا هو قد مات. فأمسكت نفسها عن البكاء، واستدعت الخادم فاستدعى الوزير أبا منصور، فبكيا وأحضرا أبا العباس أحمد المستظهر بن المقتدي وكان قد عهد إليه أبوه فعزياه وهنآه. وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وأشهراً قيل: هي ثلاثة وقيل: إن عمره كان تسعاً وثلاثين سنة وكان موته في المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة ويقال: إن جاريته سمته، وقد كان السلطان صمم على إخراجه من بغداد إلى البصرة وكانت حرمته وافرة بخلاف من كان قبله من الخلفاء رحمه الله تعالى.
خلافة المستظهر بالله أبي العباس أحمد
ثم قام بالأمر بعده، ابنه المستظهر بالله أبو العباس أحمد. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بعهد منه. وكان مولده في سنة سبعين وأربعمائة، وكان المستظهر كريم الأخلاق سخي النفس محباً للعلماء، حافظاً للقرآن منكراً للظلم. وكان لين الجانب محباً للخير، جيد الآدب والفضيلة، قوي الكتابة مسارعاً في أعمال البر.
توفي لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة. وله إحدى وأربعون سنة. وقيل اثنتان وأربعون أو ثلاث بعلة التراقي وهي الخوانيق وخلف أولاداً عدة، وتوفيت جدته أرجوان بعده بيسير في خلافة ابنه المسترشد وهي سرية محمد الذخيرة. وكانت خلافته أربعاً وقيل خمساً وعشرين سنة وثلاثة أشهر رحمه الله تعالى.
خلافة أبي منصور الفضل المسترشد
بالله بن المستظهر

ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو منصور الفضل المسترشد بالله بن المستظهر بالله، بويع له بالخلافة يوم موت والده بعهد من أبيه، وسنه يومئذ سبع وعشرون سنة. وروي أنه ورد إليه رسل، فجلس لهم في جماعة من أهل بيته، فلما أحضروهم بين يديه، هجم عليهم الفداوية بالسكاكين فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه. يقال إن مسعوداً أخا السلطان محمود جهز عليه الفداوية. وذلك في سابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وكانت خلافته سبع عشرة سنة وثمانية شهور وقيل سبعة أو ستة أشهر وعاش أربعاً وأربعين سنة، وقيل خمساً وأربعين ولم يل الخلافة بعد المعتضد بالله أشهم منه. وكان بطلاً شجاعاً مقداماً شديد الهيبة ذا رأي وفطنة وهمة عالية ضبط الأمور وأحيا مجد بني العباس وجاهد غير مرة.

خلافة أبي منصور جعفر الراشد بالله
هو السادس، فخلع كما سيأتي هذا إذا لم يعد ابن المعتز، وإلا فالسادس المسترشد، وقد هجم عليه قاعدته أي الباطنة، أرسلهم إليه السلطان سنجر الملقب ذا القرنين، فقتلوه ثم قام بالأمر بعده، يعني المسترشد، ابنه أبو منصور جعفر الراشد بالله بن المسترشد بن المستظهر. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بعهد منه، فمكث ما شاء الله ثم وقع بينه وبين السلطان مسعود. فاستخدم الراشد أجناداً كثيرة وتهيأ للقائه، فكاتب السلطان مسعود أتابك زنكي واستماله، وكذلك فعل بأرتقش فأشارا على الراشد بالتوقف، وأقبل السلطان مسعود بجيوشه، فدخل بغداد في ذي القعدة، وقيل في ذي الحجة سنة ثلاثين وخمسمائة. فنهب دور الجند، ومنع من نهب البلد. واستمال الرعية وأحضر القضاة والشهود فقدحوا في الراشد بأنه صدرت منه سيرة قبيحة من سفك الدماء المحرمة، وارتكاب المنكرات، وفعل ما لا يجوز فعله، وشهدوا عليه بذلك فحكم قاضي قضاة الممالك وهو ابن الكرخي، والعلم عند الله تعالى بخلعه، فخلعوه لأربع عشرة من ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة.
وكان الراشد قد هرب هو وأتابك زنكي، إلى الموصل فطلبه السلطان مسعود، فهرب إلى فارس ثم دخل أصبهان، فحاصرها وتمرض هناك، فوثب عليه جماعة من الفداوية فقتلوه. وله إحدى وعشرون سنة وقيل ثلاثون سنة. وكانت خلافته إلى أن خلع منها سنة إلا أياماً، وكان قتله في سنة اثتنين وثلاثين وخمسمائة وهو صائم، في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان، رقيل: إنه كان قد سقي أيضاً، ودفن في جامع حيي. وخلف بضعاً وعشرين ولداً ذكرا، وخطب له بولاية العهد أكثر أيام أبيه، وكان شاباً أبيض مليحاً تام الشكل شديد البطش، شجاع النفس حسن السيرة شاعراً فصيحاً جواداً كريماً لم تطل دولته رحمة الله تعالى.
خلافة أبي عبد الله محمد المقتفي لأمر الله
ثم قام بالأمر بعده، عمه أبو عبد الله محمد بن المستظهر بن المقتدي. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن أخيه. ولقب بالمقتفي لأمر الله، وسبب لقبه بهذا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قبل خلافته بستة أشهر، وقيل بسنة، وهو يقول له: إنه سيصل إليك هذا الأمر فاقتف بي، وكان آدم اللون بوجهه أثر جدري، مليح الشيبة عظيم الهيبة، سيداً عالماً فاضلاً، ديناً حليماً شجاعاً، فصيحاً مهيباً خليقاً للإمارة، كامل السودد عظيم المملكة بيده أزمة الأمور كان لا يجري في خلافته أمر، وإن صغر إلا بتوقيعه. وكانت أمه حبشية، كتب في أيام خلافته ثلاث ربعات. وكانت وفاته بالخوانيق، في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وهو ابن ست وستين سنة، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وقيل: خمساً وعشرين سنة وقد جدد باب الكعبة، وعمل لنفسه من العقيق تابوتاً دفن فيه. وقد رأيت فيما نقلته من خط صاحبنا الحافظ صلاح الدين خليل بن محمد الآقفهسي، فيما نقله من خط الصدر عبد الكريم، العلامة ابن العلامة علاء الدين القونوي أن القائم بالأمر بعد المقتفي المستظهر. كذا ذكره ولا أعلم من هذا المستظهر فليحرر ذلك وقد ذكر الخلفاء كما هنا الذهبي على هذا الترتيب.
؟؟
خلافة أبي المظفر يوسف المستنجد
بالله بن المقتفي
شم قام بالأمر بعده، ابنه أبو المظفر يوسف المستنجد بالله بن المقتفي، وكان أبوه ولاه العهد

في سنة سبع وأربعين وخمسمائة. بويع له بالخلافة بعد موت أبيه بيوم وقيل بل يوم مات أبوه، قال ابن خلكان في ترجمته: وهنا نكتة لطيفة وهي أن المستنجد رأى في منامه، في حياة والده المقتفي أن ملكاً نزل من السماء، فكتب في كفه أربع خاآت، فطلب معبراً وقص عليه ما رآه، فقال له: تلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة فكان كذلك. وتوفي في سنة ست وسبعين وخمسمائة في ثامن شهر ربيع الثاني وحبس في حمام، وهو ابن ثمان وأربعين سنة وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وكان موصوفاً بالعمل والديانة وأبطل المكوس وقام كل القيام على المفسدين وله شعر وسط وأمه طاوس الكوفية أدركت دولته.

خلافة المستضيىء بنور الله بن المستنجد
ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو الحسن علي المستضيء بنور الله بن المستنجد. بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه، وخطب له بالديار المصرية واليمن، وكانت الدولة العباسية منقطعة منهما، من زمن المطيع، وكان جواداً كريماً مؤثراً للخير كثير الصدقات معظماً للعلم وأهله. وتوفي في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وعاش تسعاً وثلاثين. وكان سمحاً جواداً محباً للسنة، أمنت البلاد في زمنه، وأبطل مظالم كثيرة، واحتجب عن أكثر الناس ولم يكن يركب إلا مع مماليكه ولم يكن يدخل عليه غير الأمير قيماز.
خلافة أبي العباس أحمد الناصر لدين الله
ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو العباس أحمد الناصر لدين الله بن المستضيء. بويع له بالخلافة في بغداد يوم وفاة أبيه، في أول ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وعمره ثلاث وعشرون سنة فبسط العمل وأمر باراقة الخمور وكسر الملاهي وإزالة المكوس والضرائب. فعمرت البلاد، وكثرت الأرزاق، وقصد الناس بغداد، وتبركوا به. توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وهو ابن خمسين سنة وذلك في سلخ شهر رمضان، وحمل على أعناق الرجال إلى البدرية ودفن بها رحمة الله تعالى عليه.
وكانت خلافته سبعاً وعشرين سنة، وكان أبيض تركي الوجه، أقنى الأنف مليحاً خفيف العارضين، أشقر اللحية رقيق المحاسن، فيه شهامة وإقدام وله عقل وكان فيه دهاء وفطنة، وتيقظ ونهضة بأعباء الخلافة. وكان في أكثر الليل يشق الدروب والأسواق. وكان الناس يتهيبون لقاءه، وكان مستقلاً بالأمور في العراق، متمكناً من الخلافة، يتولى الأمور بنفسه. ومما زال في عز وجلالة، واستظهار وسعادة، أظهر القسي والبندق والحمام في أيامه وهو أطول بني العباس خلافة وكان له عيون على كل سلطان، يأتونه بالأخبار. ويحكى أن بعض الكبار كان يعتقد فيه أن له كشفاً، وإطلاعاً على المغيبات وفي آخر أيامه أصاله الفالج بقي معه سنتين وذهب عنه وكان فيه عسف للرعية...
خلافة الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله
ثم قام بالأمر بعده، ابنه محمد الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، فعمل عزاءه ثلاثة أيام وأحسن إلى الناس وأبطل المكوس وأزال المظالم، وأرسل الخلع إلى أولاد الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ثم إن حاجبه قرايغدي بلغه أنه يريد قتله، فهجم عليه وامسكه وأشهد عليه بالخلع، وقتله فعمل له العزاء في البلاد كلها لأجل إحسانه إليهم. وكان ذلك في سنة أربعين وستمائة، وهو ابن ثلاثين سنة. وكانت خلافته ثماني عشرة سنة. هكذا لقيت هذه الترجمة في النسخة التي نقلت منها وفيها تخليط لأنها تحتوي على بعض ترجمة الظاهر بأمر الله وبعض ترجمة المستنصر بالله وأظن أن ذلك من الناسخ. وهذه ترحمة كل واحد منهما على حدته والله الموفق..
فالظاهر بأمر الله، هو أبو النصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بنور الله حسن بن أبي الحسن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد العباسي. كان أبوه قد خطب له بولاية العهد، فلما توفي تسلم الخلافة، وبايعه الكبار في يوم موته.
وكان مولد في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ووفاته قي ثالث عشر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وله اثنتان وثلاث وخمسون سنة، وكانت خلافته تسعه أشهر، وقيل نصفاً.

وكان جميل الصورة أبيض مشرباً بحمرة، حلو الشمائل شديد القوى، فيه دين وعقل ووقار، وخير وعدل، حتى بالغ فيه ابن الأثير فقال: لقد أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين. قيل له: ألا تتفسح وتتنزه؟ فقال لقد يبس الزرع. فقيل له يبارك الله في عمرك. فقال: من فتح دكانه بعد العصر أيش يكسب؟ ثم قال: إنه أحسن الى الرعية، وبذل الأموال وأزال المظالم، وأبطل المكوس، وكان يقول: الجمع شغل التجار، أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، اتركوني أفعل الخير فيكم ما بقيت أعيش. وقد فرق ليلة العيد مائة ألف دينار على العلماء والصالحين.
والمستنصر بالله هو أبو جعفر، منصور بن الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله العباسي، أمه تركية. ولد في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه، بايعه إخوته، وكان أكبرهم، وبنو عمه، وهو إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة. مات في بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الثانية، سنة أربعين وستمائة. وكان مليح الشكل كأبيه، وكان أشقر ضخماً قصيراً، وخطه الشيب فخضب بالحناء ثم ترك قال ابن الساعي: حضرت بيعته فلما رفعت الستاره وشاهدته وقد كمل الله صورته، ومعناه كان أبيض مشرباً بحمرة أزج الحاجبين، أدعج العينين سهل الخدين، أقنى الأنف رحب الصدر، عليه ثوب أبيض، وقباء أبيض، وطرحة قصب بيضاء، فجلس إلى الظهر.
وبلغني أن عدة الخلع التي خلعها بلغت ثلاثة آلاف خلعة وخمسمائة خلعة وسبعين خلعة. وكانت خلافته وافرة الحشمة، وفيه عدل ودين وقمع للمتمردين، ونهضة بأعباء الخلافة، ووقف المدارس والمساجد وبذل الأموال ودانت له الملوك، وكان جده الناصر يحبه ويسميه القاضي لعقله ومحبته للحق. وأنشأ المدرسة التي لا نظير لها في الدنيا، واستخدم عسكراً عظيماً إلى الغاية حتى إن جريدة جيشه، بلغت نحو مائة ألف فارس استعداداً لحرب التتار، وقد خطب له بالأندلس وبعض بلاد المغرب.
وكانت خلافته سبع عشرة سنة، فالله يتغمده برحمته ومغفرته فلم يخلع هو ولا أبوه. وبهذا انقضت القاعدة إلا أن التتار كان أمرهم قد عظم في أيامهما، فأخذوا جملة مستكثرة من بلاد الإسلام، وفقد جلال الدين خوارزم شاه في أيام المستنصر في وقعة كانت بينه وبين التتار، وهذا أعظم وأطم من الخلع. ثم لم ينتظم لبني العباس في العراق أمر بحيث إن من ولي بعد هؤلاء لم يكملوا العدة المشروطة، فإن الذي جاء بعدهم واحد وهو المستعصم بالله بن المستنصر وهو الذي قتله التتار. وانقرضت الدولة العباسية من العراق سنة ست وخمسين وستمائة، فإن المستعصم قتل في الثامن والعشرين من المحرم كما ستراه في ترجمته إن شاء الله تعالى.

خلافة المستعصم بالله
ثم قام بالأمر بعده، المستعصم بالله وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر العباسي، آخر الخلفاء العراقيين، وكانت دولتهم خمسمائة سنة وأربعاً وعشرين سنة.
وكان مولد أبي أحمد في خلافة جد أبيه، قال المؤلف رحمه الله تعالى: بويع له بالخلافة يوم قتل الظاهر البيعة العامة وذلك في جمادى الأولى سنة أربعين وستمائة فظهر بهذه العبارة أن المؤلف جعل الترجمة السابقة للظاهر، ولم يجعل للمستنصر ترجمة وإن الناسخ نقل ذلك كما وجده. فالإعتماد على ما ذكرته من ترجمتهما، وهو السادس فخلع وقتل، في أيام هولاكو، لما أخذ بغداد، سنة خمس وخمسين وستمائة وكان ذلك بمواطأة وزيره ابن العلقمي، وسوء تدبير المستعصم، واشتغاله بلعب الحمام، وبما لا يليق به. وكان قد خرج إلى هولاكو ومعه الفقهاء والصوفية فقتلوا عن آخرهم وأخذ المستعصم فخلع ووضع في جوالق وضرب بالمرازب وقيل بمداق الجص إلى أن مات. ولم ينتظم لبني العباس بعده أمر، وذلك في الثامن والعشرين من المحرم سنه ست وخمسين وستمائة.
وكان السبب في قتله أن الطاغيه هولاكو بن قبلاي خان بن جنكزخان المغلي، لما كان في

أوائل سنة ست وخمسين وستمائة قصد بغداد بجيش عرمرم، فخرج إليه الدويدار بالعسكر فالتقوا بطلائع هولاكو، وعليهم تايجو فانكسروا قلتهم ثم أقبل تايجو فنزل غربي بغداد، ونزل هولاكو على شرقيها فأشار الوزير على الخليفة أن يخرج إلى هولاكو في تقرير الصلح، فخرج الكلب وتوثق لنفسه، ثم رجع فقال: إن هولاكو رغب في أن يزوج ابنته بابنك، وأن تكون الطاعة له كالملوك السلجوقية، ويرحل عنك فخرج الخليفة في أكابر الوقت، وأعيان دولته ليحضروا العقد، فضربوا رقاب الجميع، وقتل الخليفة. وكان حليماً كريماً سليم الباطن، قليل الرأي حسن الديانة، مبغضاً للبدعة وبالجملة ختم له بخير. فإن الكافر هولاكو أمر به وبولده أبي بكر فرفسا حتى ماتا. وذلك في حدود آخر المحرم، وكان الأمر أشغل من أن يوجد مؤرخ لموته أو لمواراة جسده. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبقي الوقت بلا خليفة ثلاث سنين فلما كان في شهر رجب ممنة تسع وخمسين وستمائة بايع المصريون بمصر المستنصر بالله.

خلافة المستنصر بالله أحمد
بن الخليفة الظاهر بالله
هو أحمد بن الخليفة الظاهر بالله بن محمد بن الناصر العباسي الأسود. كانت أمه حبشية وكان بطلاً شجاعاً، قدم مصر فعرفوه، وهو عم المستعصم المقتول. نهض بإقامة دولته ومبايعته السلطان الملك الظاهر ففوض أمر الأمة إليه. ثم خرجا إلى الشام ثم إن الخليفة فارقه من ثم، وسار بعسكر نحو ألف ليملك بغداد فكان القتال بينه وبين التتار في آخر السنة فعدم في الوقعة، وكان في خدمته الحاكم أبو العباس أحمد فانهزم إلى الشام.
خلافة الحاكم بأمر الله
فلما كان في ثامن المحرم، سنة إحدى وستين وستمائة، عقد مجلس عظيم لعقد البيعة للخليفة، فأحضروا أبا العباس أحمد ابن الأمير أبي علي بن أبي بكر بن المسترشد بالله بن المستظهر بالله العباسي، فأثبت نسبه فعند ذلك مد السلطان الملك الظاهر يده وبايعه بالخلافة، ثم بايعه القضاة والأمراء. ولقب بالحاكم بأمر الله فلما كان من الغد خطب خطبة أولها: الحمد لله الذي أقام لبني العباس ركناً وظهراً، ثم كتب بدعوته وإمامته إلى الأقطار وبقي في الخلافة أربعين سنة وأشهراً وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة ودفن عند السيدة نفيسة رحمة الله تعالى عليهما.
خلافة المستكفي بالله أبي الربيع
سليمان بن الحاكم بأمر الله
عهد إليه بالأمر أبوه الحاكم بأمر الله، وقرئ تقليده بعد عزائه بوالده، وخطب له على المنابر في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة واستمر في الخلافة تسعاً وثلاثين سنة. ومات بقوص في شعبان سنة أربعين وسبعمائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة رحمة الله تعالى عليه.
خلافة الحاكم بأمر الله أحمد
بن المستكفي بالله
كانت خلافته في المحرم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بويع للحاكم بأمر الله أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسي. وكان ولي عهد أبيه. هكذا ذكره الحسيني في ذيله على العبر، وذكر الذهبي في آخر ذيله عليه في سنة أربعين وسبعمائة أن المستكفي لما مات بويع لأخيه إبراهيم بغير عهد واستمر الحاكم في الخلافة إلى أن أتاه حمامه وهو بالقاهرة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
خلافة المعتضد بالله
بويع له بالخلافة، بعهد من أخيه الحاكم بأمر الله، ولقب بالمعتضد بالله وهو أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن أبي علي بن المسترشد بالله العباسي، فكانت خلافته نحواً من عشرين سنة ومات في رابع جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة بالقاهرة.
خلافة المتوكل على الله
بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه بعهد منه، في سابع جمادى الثانية سنة ثلاث وستين وسبعمائة. وكان مولده في سنة نيف وأربعين وسبعمائة أو قريب منها.

وهو أبو عبد الله محمد وقيل حمزة المتوكل على الله بن المعتضد بالله العباسي، فاستقر في الخلافة إلى أن مات في شعبان سنة ثان وثمانمائة غير أنه تخلل فيها أعوام خلع فيها، وبويع لقريبه زكريا بن إبراهيم في ثالث عشر صفر، سنه تسع وسبعين وسبعمائة ثم أعيد بعد شهر واستمر شهر رجب سنة خمس وثمانين، فخلع وحبس وبويع لعمر بن المعتضد ولقب بالواثق ثم مات فبويع لأخيه زكريا ولقب بالمستعصم واستمر المتوكل محبوساً إلى صفر سنة إحدى وتسعين، فأفرج عنه ثم ضيق عليه، ومنع الناس من الدخول إليه فلما كان في سابع عشر شهر ربيع الأول أفرج عنه، فلما كان اليوم الأول من جمادى الأولى بوبع ونزل إلى داره وفي خدمته الأمراء القضاء وكان يوماً مشهوداً واستمر إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه.

خلافة المستعين بالله
هو أبو الفضل العباس بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر سليمان بن أحمد العباسي، عهد إليه أبوه بالخلافة، وكان قد عهد قبله لولده الآخر المعتمد على الله أحمد، ثم خلعه وولى هذا واستمر أحمد مخلوعاً إلى أن مات، فلما مات المتوكل، بويع ابنه العباس، في شهر رجب سنة ثمان وثمانمائة واستمر في الخلافة إلى أن حوصر الملك الناصر فرج بن برقوق بدمشق، وقيل: بويع له بالسلطنة مضافة إلى الخلافة في يوم السبت خامس عشر المحرم، سنة خمس عشرة وثمانمائة، اجتمع أهل الحل والعقد والقضاة والأمراء ومن حضر، فسألوه في ذلك فامتنع واشتد امتناعه وصمم، ثم إنه أجابهم إلى ذلك بعد أن توثق منهم بالأيمان، ولم يغير لقبه.
وضربت سكة الذهب والفضة بإسمه وتصرف بالولاية والعزل وفي الحقيقة إنما كانت إليه العلامة والخطبة فلما توجه العسكر إلى مصر كانت الأمراء كلهم في خدمته على هيئة السلطنة ولكن الحل والعقد للأمير شيخ . فلما كان اليوم الثامن من شهر ربيع الثاني دخل مصر، فشقها والأمراء بين يديه، وكان يوماً مشهوداً فاستمر إلى القلعة فنزلها ونزل شيخ في الإصطبل بباب السلسلة فلما كان في اليوم الثامن. دخل شيخ والأمراء إلى القصر، وجلس الخليفة على تخت المملكة، وخلع على شيخ خلعة عظيمة بطراز لم يعهد مثله، وفوض إليه أمر المملكة، ولقبه بنظام الملك. فكان يدعى لهما على المنابر في الحرمين وغيرهما.
وصار الأمراء إذا فرغوا من الخدمة في القصر، نزلوا إلى خدمة شيخ في الإصطبل، فأعيدت الخدمة عنده ووقع الإبرام والنقض، ثم يتوجه دويداره إلى الخليفة، فيعلم على المناشير والتواقيع، واستمر الأمر على ذلك مدة، وكان شيخ يظن أن الخليفة يتوجه إلى بيته ويستعفي من السلطنة، فلما لم يفعل أعرض عنه، ولم يبق عنده إلا من يخدمه من حاشيته، فلما كان في يوم الإثنين مستهل شعبان أحضر شيخ أهل الحل والعقد والقضاة والأمراء والمباشرين، فبايعوه بالسلطنة ولقبوه بالملك المؤيد أبي النصر ثم إنه صعد القصر وجلس على تخت المملكة فقبل الأمراء الأرض بين يديه وصافحه القضاة وأهل الوظائف، وأرسل إلى الخليفة يسأله أن يشهد عليه بتفويض السلطنة له على عادة من تقدمه، فأجابه بشرط أن يذهب إلى بيته، فلم يوافقه على ذلك أياماً ثم إنه نقله من القصر، وأنزله في دار من دور القلعة، ومعه أهله ووكل به من يمنع الناس من الدخول إليه، فلما كان في ذي القعدة قطع الدعاء للخليفة على المنابر. وكان قبل أن يلي السلطنة يدعى له مع السلطان واستمر في الخلافة إلى أن خلع في سنة ست عشرة فلما خرج المؤيد إلى نيروز أرسله إلى الإسكندرية فعقل بها، ولم يزل؟ بها إلى أن استقر ططر في المملكة، فأرسل في إطلاقه وأذن له في المجيء إلى القاهرة فاختار الإقامة في الاسكندرية، لأنها لاقت بحاله، واستطابها وحصل له بها مال جزيل، من التجارة فاستمر إلى أن مات فيها شهيداً بالطاعون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة.
فصل: فيما يجب على من يصحب الخلفاء الراشدين، وأمراء المؤمنين، والملوك والسلاطين.

قال الشعبي: قال لي عبد الله بن عباس، قال لي العباس: اي بني إني أرى هذا الرجل، يعني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يقدمك على كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أوصيك بكلمات أربع لا تفشين لهم سراً، ولا تحدثنهم كذباً، ولا تطرين عندهم نصيحة، ولا تغتابن لديهم أحداً. قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحدة منهن خير من ألف، قال: إي والله، ومن عشرة آلاف. قال بعض الحكماء: إذا زادك السلطان إكراماً، فزده إعظاماً وإذا جعلك ولداً فاجعله سيداً، وإذا جعلك أخاً فاجعله والداً، ولا تديمن النظر إليه، ولا تكاسر من الدعاء له، ولا تتغير منه إذا سخط، ولا تغتر به إذا رضي ولا تلح في مسألته وقد قيل في المعنى:
قرب الملوك يا أخا البدر السني ... حظ جزيل بين شدقي ضيغم
قال الفضل بن الربيع: من كلم الملوك في حاجة في غير وقتها، جهل مقامه وضاع كلامه، وما أشبه ذلك إلا بأوقات الصلاة، التي لا تقبل إلا في وقتها. قال خالد بن صفوان : من صحب السلطان بالنصيحة والأمانة، كان أكبر عدو له، ممن صحبه بالفسق والخيانة، لأنه يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه، بالعداوة والحسد، فعدو السلطان يبغضه لنصيحته، وصديقه ينافسه في مرتبته. قال أفلاطون الحكيم: إذا. خدمت ملكاً، فلا تطعه في معصية ربك، فإن إحسانه إليك أفضل من إحسانه إليك، وإيقاعه بك أغلظ من إيقاعه بك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تواضع لغني لأجل غناه، ذهب ثلثا دينه " . رواه البيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود وأنس بلفظ: " من أصبح حزيناً على الدنيا، أصبح ساخطاً على ربه، ومن أصبح يشكو مصيبته فإنما يشكو ربه، ومن دخل لغني فتضعضع له، ذهب ثلث دينه " .
وأخرج الديلمي، من حديث أبي ذر: " لعن الله فقيراً يتواضع لغني من أجل ماله. من فعل ذلك فقد ذهب ثلثا دينه " . وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه " .
وروى أحمد عن بعض الصحابة مرفوعاً " إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله إلا أعطاك الله خيراً منه "

وقال افلاطون الحكيم: من لم يعتبر بالتجارب، أوقعه الله في المهالك. وقال: كفى بالتجارب تأديباً وبتقلب الأيام عظة. وقال: الملك كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغار، فإن كان عذباً عذبت، وإن كان مالحاً ملحت. وسئل عن الرجل العاقل فقال: من اجتمعت فيه خصال الأدب، ولا يقهره الغضب، لأن العقل أصله التثبت في الأمور، وثمرته السلامة. وقال: السلطان كالسوق ما راج فيه حمل إليه، وصاحب الملك كراكب الأسد تهابه الناس، وهو لمركوبه أهيب. وقال: من عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل. ومن أطلق بصره، طال أسفه، ومن طال أمله ساء عمله. ومن أطلق لسانه، قيد نفسه. ومن أصلح فاسده أرغم حاسده. ومن قاسى الأمور، فهم المستور. ومن أحب المكارم اجتنب المحارم. ومن حسنت به الظنون، رمقته الرجال بالعيون. وقال الأدب ينوب عن الحسب. العفو يفسد اللئيم، بقدر ما يصلح الكريم. من شاور ذوي الألباب، دل على الصواب. من أمل إنساناً هابه، ومن قصر عن شيء عابه. من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر عنها ظلم. ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم. من فرط في الأمانة ضدها عمل. من عرض نفسه لما قصر عنه فعله، فقد نقص في عين غيره. من جاد ساد، ومن ساد قاد، ومن قاد بلغ المراد. ظلم الأيامى واليتامى مفتاح العقر. لا يصلح للصدر إلا من يكون واسع الصدر. ما تاه إلا وضيع، ولا فاخر إلا لقيط، ولا تعصب إلا بخيل، ولا أنصف إلا كريم. الحاجة إلى الأخ المعين، كالحاجة إلى الماء المعين. الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لوطف. أقرب الناس إلى الله، أكثرهم عفواً عند القدرة. وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه. من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ. من رضي بالقضاء، صبر على البلاء. من عمر دنياه ضيع ماله. ومن عمر آخرته بلغ آماله. القناعة عز المعسر، والصدقة كنز الموسر. من سره فساده ساء معاده. الشقي من جمع لغيره، وبخل على نفسه. الخير أجل بضاعة، والإحسان أفضل صناعة. من استغنى عن الناس، أمن من عوارض الإفلاس. من رفع حاجة إلى الله، استظهر في أمره. ومن رفعها إلى الناس وضع من قدره. من أبدى سر أخيه أبى الله أسرار مساويه. أعص الجاهل تسلم، وأطع العاقل تغنم. ازدياد الأدب عند الأحمق، كازدياد الماء العذب في أصول الحنظلة، لا يزيدها إلا مرارة. مكتوب في الإنجيل: كما تدين تدان، بالكيل الذي تكيل تكال.
وكان بعض الخلفاء يتلطف في ادخال السرورعلى إخوانه، فيضع عندهم الصرة فيها ألف درهم، ويقول لبعضهم: امسكها حتى أعود إليك، ثم يرسل إليه بعض غلمانه فيقول له: أنت في حل من ذلك. وقال بعض الحكماء: أحزم الناس: من وقي نفسه بماله، ووفي دينه بنفسه، وأجود الناس: من عاش الناس في فضله. وأفضل اللذات التفضل على الإخوان. وقال: المعروف ذخيرة الأدب، والبر غنيمة الحازم، والخير عطر الأخيار من بذل ماله، استعبد أمثاله. ومن أذل فلسه، أعز نفسه. وإن صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد متكأ. وقال: إمام عادل خير من مطر وإبل. وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم. وقال: فضل الملوك في الإعطاء، وشرفهم في العفو، وعزهم في العدل. والعدل هو نظام العالم.
وقال صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل " . فبدأ بالعدل، وقال عليه الصلاة والسلام: " عدل السلطان يوماً يعدل عبادة سبعين سنة " . وقال عليه الصلاة والسلام: " عدل ساعة في الحكومة خير من عبادة ستين سنة " . وقال صلى الله عليه وسلم: " السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار كان عليه الإثم وعلى الرعية الصبر " .

خلافة المعتضد بالله أبي الفتح داود
بويع له بالخلافة في سابع عشر ذي الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة، عوضاً عن أخيه المستعين بالله، لما خلعه الملك السلطان المؤيد، فاستدعاه وأجلسه بينه وبين القاضي الشافعي صالح البلقيني وقرره في الخلافة فاستمر فيها إلى أن مات يوم الأحد الرابع من شهر ربيع الأول سنة خمسة وأربعين وثمانمائة وقد قارب السبعين بعد مرض طويل رحمة الله تعالى عليه.
خلافة المستكفي بالله

هو سليمان أبو الربيع بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن سليمان بن أحمد العباسي. بويع له بالخلافة يوم مات أخيه شقيقه المعتضد بالله بعهد منه في العشر الأول من شهر ربيع الأول من سنة خمس وأربعين وثمانمائة. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح لامية العجم. قلت: وكذلك العبيديون الذين تسموا بالفاطميين، خلفاء مصر، فأول من ملك منهم بالمغرب المهدي، ثم القائم ثم إبنه المنصور ثم المعز وهو أول من ملك مصر منهم كما تقدم، ثم العزيز ثم كان السادس الحاكم فقتلته أخته. وسيأتي له ذكر إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة لم لفظ الحمار. ثم قال: وإنها لما قتلتة ولت ابنه الظاهر، ثم كان المستنصر ثم المستعلي ثم الآمر ثم الحافظ، ثم كان السادس الظافر، فخلع وقتل، ثم ولي ابنه الفائز، ثم العاضد وهو آخرهم.
قال: وكذلك بنو أيوب في ملك مصر، فأولهم صلاح الدين الملك الناصر، ثم ابنه العزيز ثم أخوه الأفضل بن صلاح الدين ثم العادل الكبير أخو صلاح الدين، ثم الكامل ولده، ثم كان السادس العادل الصغير، فقبض عليه أرباب دولته وخلعوه، وولوا الملك الصالح نجم الدين أيوب، ثم ولده المعظم تورانشاه، وهو آخرهم.
قال: وكذلك دولة الأتراك، فأولهم: المعز عز الدين أيبك الصالحي، ثم ابنه المنصور، ثم المظفز قطز ثم الظاهر بيبرس، ثم ابنه السعيد محمد، ثم كان السادس العادل سلامش بن الظاهر بيبرس، فخلع. ثم ملك السلطان المنصور قلاوون الألفي انتهى.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى دولة العبيديين، وغيرهم من ملوك مصر، على الإجمال مختصراً. وها أنا أذكرهم مفصلاً مبيناً، وذلك أن الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله القداح، وذلك أنه كان يعالج العيون، ويقدحها ابن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قدم إلى سلمية، قبل وفاته، وكان له بها ودائع وأموال، من ودائع جده عبد الله القداح، فاتفق أنه جرى بحضرته ذكر النساء، فوصفوا له امرأة يهودي حداد، مات عنها زوجها، وهي في غاية الحسن والجمال، وله منها ولد يماثلها في الجمال، فتزوجها وأحبها وحسن موضعها منه، وأحب ولدها فعلمه فتعلم العلم، وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة، وكان الحسين يدعي أنه الوصي، وصاحب الأمر، والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه، ولم يكن له ولد، فعهد إلى ابن اليهودي الحداد، وهو عبيد الله المهدي أول من ملك من العبيديين. ونسبهم إليه، وعرفه أسرار الدعوة من قول وفعل وأمر الدعاة، وأعطاه الأموال والعلامات، وأمر أصحابه بطاعته وخدمته، وقال: إنه الإمام والوصي، وزوجه بابنة عمه، فوضع حينئذ المهدي لنفسه نسباً: وهو عبيد الله بن الحسين بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. بعض الناس يقول: إنه من ولد القداح، فلما توفي الحسين، وقام بعده المهدي، انتشرت دعوته، وأرسل إليه داعية بالمغرب يخبره بما فتح الله عليه من البلاد، وإنهم ينتظرونه فشاع خبره عند الناس، أيام المكتفي، فطلب فهرب هو وولده أبو القاسم نزار الملقب بالقائم، وهو يومئذ غلام ومعهما خاصتهما ومواليهما يريدان المغرب. فلما وصلا إلى افريقية أحضر الأموال منها، واستصحبها معه فوصل إلى رقادة في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر، سنة سبع وتسعين ومائتين ونزل في قصر من قصورها، وأمر أن يدعى له في الخطبة يوم الجمعة في جميع تلك البلاد ويلقب بأمير المؤمنين المهدي وجلس للدعاء في يوم الجمعة. فأحضر الناس بالعنف، ودعاهم الى مذهبه، فمن أجاب أحسن إليه ومن أبي حبسه.
فابتداء دولتهم سنة سبع وتسعين ومائتين، فأولهم المهدي عبيد الله ثم ابنه القائم نزار، ثم ابنه

المنصور اسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من ملك مصر من العبيديين، وكان ذلك في سابع عشر شعبان سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة. ودعي له فيها يوم الجمعة العشرين من شعبان على المنابر، وانقطعت خطبة بني العباس من الديار المصرية من يومئذ، وكان الخليفة العباسي إذ ذاك المطيع لله الفضل بن جعفر، وفي يوم الثلاثاء سادس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلثماثة، دخل المعز مصر بعد مضي ساعة من اليوم المذكور، وكل هذا جاء بطريق الاستطراد. فإن المقصود خلافه، ثم العزيز بن المعز، ثم ابنه الحاكم أبو العباس أحمد، وهو السادس من العبيديين، فقتل لأنه خرج عشية يوم الإثنين، سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وطاف على عادته في البلد، ثم توجه إلى شرقي حلوان، ومعه ركابيان، فردهما، وانتظره الناس إلى ثالث ذي القعدة، ثم خرجوا في طلبه، فبلغوا ذيل القصر، وأمعنوا في الطلب فشاهدوا حماره على ذروة الجبل مضروب اليدين بالسيف، فتتبعوا الأثر فانتهوا إلى بركة هناك، ونزل شخص فيها فوجد سبع حبات مزررة، وفيها أثر السكاكين، فلم يشكوا حينئذ في قتله، ثم ابنه الظاهر أبو الحسن علي ثم ابنه المستنصر، ثم ابنه المستعلي، ثم ابنه الآمر، ثم الحافظ عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر، ثم ابنه الظافر وهو السادس، فقتل، ولم يل الخلافة بعده منهم إلا اثنان: ابنه الفائز، ثم العاضد عبد الله بن يوسف بن الحافظ.
وانقرضت دولة العبيديين في سنة سبع وستين وخمسمائة، وذلك في أيام المسضيء بنور الله أبي محمد الحسن بن المستنجد العباسي.
وخلفهم بمصر السلطان السعيد الشهيد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم ابنه الملك العزيز عثمان ثم أخوه الأفضل، ثم الملك العادل الكبير أبو بكر بن أيوب، ثم ابنه الملك الكامل محمد، ثم ابنه الملك العادل الصغير وهو السادس فخلع، ثم الملك الصالح أيوب بن الكامل، ثم ابنه الملك المعظم تورانشاه، ثم أخوه الأشرف يوسف وهو ابن شجرة الدر، ثم المعز أيبك، ثم ابنه المنصور، علي، ثم المظفر قطز وهو السادس فقتل. ثم الظاهر بيبرس، ثم أبنه السعيد محمد بن بركة خان، ثم أخوه العادل سلامش، ثم المنصور قلاون، ثم ابنه الأشرف خليل، ثم القاهر بيدر وهو السادس أقام نصف يوم وقتل، ثم الناصر بن المنصور فخلع مرة بالعادل كتبغا، وخلع نفسه مرة أخرى فتسلطن مملوك أبيه المظفر بيبرس، ثم العادل كتبغا، ثم المنصور لاجين، ثم المظفر بيبرس، ثم المنصور أبو بكر بن الناصر بن المنصور، ثم أخوه الأشرف كجك فخلع ثم قتل وهو السادس، ثم أخوهم الناصر أحمد، ثم أخوهم الصالح إسماعيل، ثم أخوهم الكامل شعبان، ثم أخوهم المظفر حاجي، ثم أخوهم الملك الناصر حسن، ثم أخوهم الملك الصالح صالح وهو السادس فخلع وسجن، وأعيد الملك لمن كان قبله، وهو الملك الناصر حسن، ثم المنصور علي بن الصالح، ثم الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر، ثم المنصور علي بن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر، ثم أخوه الصالح حاجي بن الأشرف، ثم الظاهر برقوق، ثم أعيد حاجي ولقب بالمنصور، ثم أعيد برقوق، ثم ولده الناصر فرج، ثم أخوه العزيز، ثم أعيد فرج فخلع وقتل. ثم الخليفة المستعين بالله العباسي، ثم الملك المؤيد أبو النصر شيخ، ثم ابنه الملك المظفر أحمد فخلع، ثم الملك الظاهر ططر، ثم ولده الملك الصالح محمد فخلع، ثم الملك الأشرف برسباي، ثم ابنه الملك العزيز يوسف فخلع، ثم الملك الظاهر جقمق، ثم ولده الملك المنصور عثمان فخلع، ثم الملك الأشرف أينال، ثم ولده الملك المؤيد أحمد فخلع، ثم الملك الظاهر خشقدم، ثم الملك الظاهر بلباي فخلع، ثم الملك الظاهر تمريغا فخلع، ثم الملك الظاهر خايربك فخلع من ليلته، ثم الملك الأشرف قايتباي، ثم ولده الملك الناصر محمد فقتل، ثم الملك الظاهر قانصوه خال الملك الناصر محمد فخلع، ثم الملك الأشرف جانبلاط فخلع وقتل، ثم الملك العادل طومان باي فخلع وقتل، ثم الملك الأشرف قانصوه الغوري، ثم السلطان سليم بن محمد بن بايزيد بن عثمان، ثم ولده السلطان سليمان، ثم ولده السلطان سليم، ثم ولده السلطان مراد، نصره الله نصراً عزيزاً، وفتح له فتحاً مبيناً، بمحمد وآله صلى الله عليه وسلم والحمد لله وحده، وقد أطلنا الكلام في ذلك ولكن لا يخلو من فائدة أو فوائد.

ولنرجع الى ما قصدنا من الكتاب، والله تعالى الموفق للصواب، فنقول: وهو أي الأوز يحب السباحة في الماء، وفرخة يخرج من البيض، فيسبح في الحال، وإذا حصنت الأنثى، قام الذكر يحرسها لا يفارقها طرفة عين وتخرج فراخها في أواخر الشهر. وفي المجالسة للدينوري والأذكياء لأبي الفرج بن الجوزي عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء رجل إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فقال: يا نبي الله إن لي جيرانا يسرقون أوزي، فنادى: الصلاة جامعة، ثم خطبهم فقال في خطبته: وأحدكم يسرق أوز جاره، ثم يدخل المسجد والريش على رأسه، فمسح رجل رأسه بيده، فقال سليمان: خذوه فإنه صاحبكم.
وحكمه: حل الأكل بالإجماع.
الخواص: لحم الأوز والبط كثير الحرارة والرطوبة، وبقراط الحكيم يقول: إنه أرطب الطير الحضري، وأجودها المخاليف وهو يخصب الأبدان، لكنه يملؤها فضولا ودفع ضررها نفخ البورق في حلوقها، قبل الذبح، وهو يولد خلطاً بلغمياً، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة، ويختار أن يطلى لحمها قبل الشي بالزيت، لتذهب زهومته، وفي طبخه أن يكثر من الأبازير الحارة ليزول غلظه وزهومته، لأنه كثير الفضول غير موافق للمعدة لعسر انهضامه، وهو لتكثيره الفضول يسرع إلى توليد الحميات. قالى القزويني: إذا شويت خصية الأوز وأكلها الرجل وجامع زوجته من وقته فإنها تعلق بإذن الله تعالى. وفي جوفه حصاة تمنع من الاستطلاق، إذا شربها المبطون نفعته. ودهنه ينفع من ذات الجنب وداء الثعلب، إذا طليا به. وأكل لسانه ينفع من تقطير البول، إذا ديم عليه وغذاؤه جيد إلا أنه بطيء الهضم. وأما بيضه فمعتدل الحرارة، لكنه غليظ وأنفعه النيمبرشت لكنه يضر بأصحاب القولنج ، والرياح والدوار، وأكله بالصعتر والملح يدفع ضرره، وهو يولد دماً منتناً، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة. وهو وبيض النعام غليظان بطيآ الانهضام. فمن أحب أكلهما فليقنع بصفرتهما ويجب أن يعلم أن الصفرة، من كل بيض، ألطف من البياض، والبياض أرطب من الصفرة، وأغذى البيض وألطفه ذو الصفرة، وأقله غذاء ما كان من دجاج لا ديك لها، وهذا النوع لا يتولد منه حيوان ولا مما يباض في نقصان القمر على الأكثر، لأن البيض من الاستهلال إلى الإبدار يمتلىء، ويرطب فيصلح للكون، وبالضد من الابدار إلى المحاق وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بيض الحجل والدجاج في أماكنهما.
الإلفة: السعلاة، وقيل الذئبة، وسيأتيان إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة والذال المعجمة.
الإلق: بالكسر الذئب والأنثى القة وجمعهما الق. وربما قالوا للقردة الالقة ولا يقال للذكر الق ولكن قرد ورباح.
الأودع: اليربوع. قاله الجوهري: وسيأتي إن شاء الله في باب الياء آخر الحروف.
الأورق: من الإبل الذي لونه بياض إلى سواد. قاله الجوهري وهو أطيب الإبل لحماً وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره.
الأوس: الذئب وبه سمي الرجل. وأويس إسم للذئب جاء مصغراً مثل الكميت واللجين. قال الهذلي:
يا ليت شعري عنك والأمر أمم ... ما فعل اليوم أويس بالغنم
وقال الكميت :
كما خامرت في حضنها أم عامر ... لذي الحبل حتى عال أوس عيالها
لأن الضبع، إذا صيدت ولها ولد من الذئب، لم يزل الذئب يطعم ولدها إلى أن يكبر. قاله الجوهري. قال وقوله: لذي الحبل، أي للصائد الذي يعلق الحبل في عرقوبها. وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في العسبار أيضاً.
روى الحافظ أبو نعيم بسنده إلى حمزة بن أسد الحارثي، قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار إلى بقيع الغرقد، فإذا ذئب مفترش ذراعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أويس فافرضوا له فلم يفعلوا " انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الذال المعجمة في لفظ الذئب قصة وافد الذئاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبهذا سمي أويس بن عامر القرني أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وسكن الكوفة وهو من أكبر تابعيها.

روى مسلم عن أسيد بن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير التابعين رجل يقال له أويس القرني، يأتي عليكم في أمداد أهل اليمن لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " . فلما قدم على عمر رضي الله تعالى عنه سأله أن يستغفر له فاستغفر له الحديث بطوله. وقتل أويس يوم صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
وروى أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه في الزهد عن الحسن البصري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر " . قال الحسن: هو أويس القرني، وهو منسوب إلى قرن بفتح الراء، قبيلة من مراد. وللجوهري رحمه الله في ذلك غلط مشهور.
وخرج ابن السماك عن يحيى بن جعفر، قال: حدثنا شبابة بن سوار قال: حدثنا جرير بن عثمان عن عبد الله بن ميسرة وحبيب بن عبيد الرحبي، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل أحد الحيين ربيعة ومضر. قيل: يا رسول الله وما ربيعة من مضر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أقول ما أقول قال فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. وذكر القاضي عياض في الشفاء عن كعب أن لكل رجل من الصحابة شفاعة. وذكر ابن المبارك. قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يكون في أمتي رجل يقال له صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا " .
ايلس: قال القزويني إنه نوع من السمك عظيم جداً و حيوانات البحر كلها تصاد سواه. ومن خواصه إنه إذا شوي وأكل منه شخصان معاً بينهما عداوة وخصومة تبدلت ألفة.
الأيم والأين: الحية وقال الأزرقي في تاريخ مكة الأيم الحية الذكر ثم روى بإسناده عن طلق بن حبيب قال: كنا جلوساً مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في الحجر إذ قلص الظل وقامت المجالس، وإذا نحن ببريق أيم طالع من باب بني شيبة، فأشرأبت له أعين الناس، فطاف بالبيت سبعاً وصلى ركعتين وراء المقام. فقمنا إليه وقلنا له: أيها المعتمر قد قضى الله نسكك وإن بأرضنا عبيداً وسفهاء وإنا نخشى عليك منهم، فمر ذاهباً نحو السماء فلم نره.
وفي الحديث : " إنه أمر بقتل الأيم " .
قال ابن السكيت أصله أيم فخفف مثل لين ولين وهين وهين والجمع أيوم وسيأتي إن شاء الله تعالى في الكعيب ما ذكره الأزرقي عقب هذا مما يشابهه.
الأيل: بتشديد الياء المكسورة ذكر الأوعال والأيل لغة فية ويقال هو الذي سمي بالفارسية كوزن. وأكثر أحواله شبيه ببقر الوحش وهو إذا خاف من الصياد يرمي نفسه من رأس الجبل ولا يتضرر بذلك وعدد سني عمره عدد العقد التي في قرنه وإذا لسعته الحية أكل السرطان. ويصادق السمك فهو يمشي إلى الساحل ليرى السمك. والسمك يقرب من البر ليراه والصيادون يعرفون هذا، فيلبسون جلده ليقصدهم السمك فيصيدوا منه. وهو مولع بأكل الحيات، يطلبها حيث وجدها وربما لسعته فتسيل دموعه إلى نقرتين تحت محاجر عينيه، يدخل الإصبع فيهما فتجمد تلك الدموع، وتصير كالشمس، فيتخذ درياقاً لسم الحيات، وهو الباد زهر الحيواني. وأجوده الأصفر وأماكنه بلاد الهند والسند وفارس. وإذا وضع على لسع الحيات والعقارب نفعها، وإن أمسكه شرب السم في فيه نفعه، وله في دفع السموم خاصية عجيبة. وهذا الحيوان لا تنبت له قرون إلا بعد مضي سنتين عن عمره، فإذا نبتت قرناه، نبتا مستقيمين كالوتدين وفي الثالثة يتشعبان ولا يزال التشعب في زيادة إلى تمام ست سنين، فحينئذ يكونان كالشجرتين في رأسه ثم بعد ذلك يلقي قرنيه في كل سنة مرة، ثم ينبتان فإذا نبتا تعرض بهما للشمس ليصلبا، وقال ارسطو: إن هذا النوع يصاد بالصفير والغناء، ولا ينام ما دام يسمع ذلك، فالصيادون يشغلونه بذلك ويأتونه من ورائه، فإذا رأوه قد استرخت أذناه أخذوه. وذكره من عصب لا لحم ولا عظم، وقرنه مصمت لا تجويف فيه.

وهو في نفسه جبان دائم الرعب، وهو يأكل الحيات أكلاً ذريعاً وإذا أكل الحية بدأ بأكل ذنبها إلى رأسها. وهو يلقي قرونه في كل سنة، وذلك الهام من الله تعالى، لما للناس فيها من المنفعة، لأن الناس يطردون بقرنه كل دابة سوء وييسر عسر الولادة وينفع الحوامل، ويخرج الدود من البطن إذا أحرق منه جزء ولعق بالعسل، قاله في النعوت، ويسمن هذا الحيوان سمناً كثيراً فإذا اتفق له ذلك هرب خوفاً من أن يصاد.
تتمة: قال الزجاجي سئل ابن دريد عن معنى قول الشاعر:
هجرتك لا قلى مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجرالحائمات الورد لما ... رأت أن المنية في الورود
تغيظ نفوسها ظمأ وتخشى ... حماما فهي تنظر من بعيد
تصد بوجه ذي البغضاء عنه ... وترمقه بالحاظ الودود
فقال: الحائم الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه. ومعنى الشعر أن الأيايل تأكل الأفاعي في الصيف، فتحمى وتلتهب لحرارتها فتطلب الماء، فإذا رأته امتنعت من شربه، وحامت عليه تتنسمه، لأنها لو شربته في تلك الحالة فصادف الماء السم الذي في أجوافها هلكت، فلا تزال تمتنع من شرب الماء، حتى يطول بها الزمان فيذهب ثوران السم ثم تشربه فلا يضرها.
فيقول هذا الشاعر: أنا في تركي وصالك مع شدة حاجتي إليه بمثابة الحائمات التي تدع شرب الماء مع شدة حاجتها إليه، إبقاء على حياتها.
والزجاجي هو عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي، إمام النحو صحب أبا إسحاق الزجاج، فعرف به ونسب إليه. وصنف كتاب الجمل وطوله بكثرة الأمثلة ولم يشتغل به أحد إلا انتفع به، لأنه صنفه بمكه المشرفة وكان إذا فرغ من باب طاف أسبوعاً وسأل الله تعالى أن يغفر له وأن ينفع به قارئه. ومن كلامه ما حرم الله شيئاً إلا وأحل بازائه خيراً منه: حرم الميتة وأباح المذكي، وحرم الخمر وأباح النبيذ، وحرم السفاح وأباح النكاح، وحرم الربا وأباح البيع. توفي سنة سبع أو تسع وثلاثين وثلثمائة بدمشق، وقيل بطبرية وما أحسن قول أبي منصور موهوب الجواليقي اللغوي:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت حول الورد وقفة حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم
وكان الجواليقي إماماً في فنون الأدب، وله تصانيف مفيدة وكان إماماً للخليفة المقتفي يصلي به الصلوات الخمس. ولما دخل عليه أول دخلة، قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له الطبيب هبة الله بن صاعد بن التلميذ النصراني: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ! فلم يلتفت إليه الجواليقي، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية. وروى له خبراً في صورة السلام. ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانياً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المعتبر، لما لزمته كفارة الحنث، لأن الله تعالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختمه إلا الإيمان. فقال: صدقت وأحسنت. قال: فكأنما ألقم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه. ووجدت البيتين لابن الخشاب من أبيات. توفي الجواليقي في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ببغداد.
الحكم: يحل أكله لأنه مستطاب كالوعل. ولم يذكره الرافعي في باب الأطعمة وإنما ذكره في باب الربا. فقال: وفي لحم الظباء مع الأيل تردد للشيخ أبي محمد، واستقر جوابه على إنهما كالضأن مع المعز، أي فلا يباع أحدهما بالآخر إلا مثلاً بمثل. انتهى.
وحكى المتولي في ذلك وجهين من غير ترجيح.
الخواص: إذا بخر بقرنه طرد الهوام وكل في سم، وإذا أحرق قرنه وسحق واستيك به قطع الصفرة والحفر من الأسنان، وشد أصولها، ومن علق عليه شيء من أجزائه لم ينم ما دام عليه وإذا جفف قضيبه وسقي هيج الباه. وإذا شرب دمه فتت الحصاة التي في المثانة والله تعالى أعلم.
ابن آوى: جمعه بنات آوى وكذلك ابن عرس وابن المخاض وابن اللبون تقول بنات عرس وبنات مخاض وبنات لبون وبنات آوى ولا ينصر قال الشاعر:
إن ابن آوى لشديد المقتنص ... وهو إذا ما صيد ريح في قفص
وكنيته أبو أيوب وأبو ذئيب وأبو كعب وأبو رائل وسمي ابن آوى لأنه يأوي إلى عواء أبناء

الشجرة كقاضيان ويقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور، ولفظه مشتق من البزوان وهو طويل المخالب والأظفار يعدو على غيره، ويأكل مما يصيد من الطيور وغيرها. وخوف الدجاج منه أشد من خوفها من الثعلب، لأنه إذا مر تحتها وهي على الشجرة أو الجدار تساقطت وإن كانت عدداً كثيراً.
الحكم: الأصح تحريم أكله، لأنه يعدو بنابه ولو قيل إن نابه ضعيف فيكون كالضبع والثعلب لكان مذهباً. وملخص ما فيه عندنا وجهان: الأصح في المحرر والمنهاج والشرح والحاوي الصغيرين التحريم. والثاني وهو اختيار الشيخ أبي حامد الحل. وسئل الإمام أحمد عنه؟ فقال كل ما نهش بأنيابه فهو من السباع. وبحظره قال أبو حنيفة وصاحباه.
الخواص: إذا ترك لسانه في بيت وقعت الخصومة بين أهله. ولحمه ينفع من الجنون والصرع العارض في أواخر الشهر، وإذا علقت عينه اليمنى على من يخاف العين أمن ولم تضره عين عائن. وقلبه إذا علق على شخص أمن من سائر السباع بإذن الله تعالى والله تعالى أعلم.

باب الباء الموحدة
البابوس: الصغير من أولاد الناس وغيرهم. قال ابن أحمر:
حنت قلوصي إلى بابوسها طرباً ... وما حنينك بل ما أنت والذكر
البازي: أفصح لغاته بازى مخففة الياء، والثانية باز، والثالثة بازي بتشديد الياء، حكاهما ابن سيده، وهو مذكر لا اختلاف فيه. ويقال في التثنية بازيان، وفي الجمع بزاة كقاضيان وقضاة. وقضاة. ويقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور، ولفظه مشتق من البزوان وهو الوثب. وكنيته أبو الأشعث وأبو البهلول وأبو لاحق، وهو من أشد الحيوانات تكبراً وأضيقها خلقاً. قال القزويني في عجائب المخلوقات: قالوا إنه لا يكون إلا أنثى وذكرها من نوع آخر كالحدا والشواهين، ولهذا اختلفت أشكالها روينا عن عبد الله بن المبارك إنه كان يتجر ويقول: لولا خمسة ما اتجرت السفيانان وفضيل وابن السماك وابن علية أي ليصلهم فقدم سنة فقيل له: قد ولي ابن علية القضاء فلم يأته ولم يصله بشيء، فأتي إليه ابن علية فلم يرفع رأسه إليه، ثم كتب إليه ابن المبارك يقول:
يا جاعل العلم له بازياً ... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما ... كنت دواء للمجانين
أين رواياتك في سردها ... لترك أبواب السلاطين
أين رواياتك فيما مضى ... عن ابن عوف وابن سيرين
إن قلت أكرهت فذا باطل ... زل حمار العلم في الطين
فلما وقف إسماعيل بن علية على الأبيات، ذهب إلى الرشيد ولم يزل به إلى أن استعفاه من القضاء فأعفاه.
وعبد الله بن المبارك إمام جليل زاهد عابد جمع بين العلم والعمل. ذكر ابن خلكان في ترجمته قال: عطس رجل عند عبد الله بن المبارك فلم يحمد الله عز وجل، فقال له ابن المبارك: أي شيء يقول العاطس إذا عطس؟ قال الحمد لله. فقال ابن المبارك: يرحمك الله. فعجب الحاضرون من حسن أدبه، وقال أيضاً: قدم هارون الرشيد الرقة، فانحفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغيرة، فأشرفت أم ولد الرشيد من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت: من هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان، يقال له عبد الله بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان. وذكر غيره أن عبد الله بن المبارك استعار قلماً من الشام، فعرض له سفر فسافر إلى انطاكية، وكان قد نسي القلم معه فتذكره هناك فرجع من انطاكية إلى الشام ماشياً حتى رد القلم إلى صاحبه وعاد.
وروي أن عند ذكره تنزل الرحمة توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثمانين ومائة رحمة الله تعالى عليه.
ومن أخبار الرشيد، أنه خرج يوماً إلى الصيد فأرسل بازياً أشهب فلم يزل يحلق حتى غاب في الهواء ثم رجع بعد اليأس منه، ومعه سمكة فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك فقال مقاتل: يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان، فيه ثواب بيض تفرخ فيه شيئاً على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذوات ريش فأجاز مقاتلاً على ذلك وأكرمه.

وهو خمسة أصناف البازي والزرق والباشق والبيدق والصقر. والبازي أحرها مزاجاً لأنه قليل الصبر على العطش، ومأواه مساقط الشجر العادية الملتفة والظل الظليل وهو خفيف الجناح، سريع الطيران وإناثه أجرأ على عظام الطير من ذكوره، وهذا الصنف تصيبه الأمراض وانحطاط اللحم والهزال. وأحسن أنواعه ما قل ريشه واحمرت عيناه مع حدة فيهما كما قال الناشىء :
لو استضاء المرء في ادلاجه ... بعينه كفته عن سراجه
ودونه الأزرق الأحمر العينين والأصفر دونهما ومن صفاته المحمودة: أن يكون طويل العنق، عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين، شديد الانخراط إلى ذنبه، وأن تكون فخذاه طويلتين مسرولتين بريش، وذراعاه غليظتين قصيرتين. وفرخ البازي يسمى غطريفا ويضرب بالبازي المثل في نهاية الشرف كما قال الشاعر:
إذا ما اعتز ذو علم بعلم ... فعلم الفقه أولى باعتزاز
وكم طيب يفوح ولا كمسك ... وكم طير يطير ولاكباز
قال الشيخ الزاهد أبو العباس القسطلاني: سمعت الشيخ أبا شجاع زاهر بن رستم الأصبهاني إمام مقام إبراهيم بمكة يقول: سمعت الشيخ أحمد خادم الشيخ حماد يقول: دخل الشيخ عبد القادر على الشيخ حماد الدباس يزوره فنظر إليه الشيخ، وكان قد رأى أنه قد اصطاد بازيا فأثرت نظرة الشيخ فيه، فخرج من عنده وتجرد عن أسبابه وكان من أكابر أصحابه انتهى. ولهذا كان الشيخ عبد القادر يقول:
أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طرباً وفي العلياء باز أشهب
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقاته: كان ابن شريح يقال له الباز الأشهب. وقال الوعيظي في أول قصيدته:
ليس المقام بدار الذل من شيمي ... ولا معاشرة الأنذال من هممي
ولا مجاورة الأوباش تجمل بي ... كذلك الباز لا يأوي مع الرخم
وأما الباشق بفتح الشين وكسرها فأعجمي معرب، وكنيته أبو الآخذ وهو أيضاً حار المزاج، يغلب عليه القلق والزعارة، يأنس وقتاً ويستوحش وقتاً وهو قوي النفس، فإذا أنس منه الصغيرة بلغ صاحبه من صيده المراد وهو خفيف المحمل، ظريف الشمائل، يليق بالملوك أن تخدمه، لأنه يصيد أفخر ما يصيمه البازي وهو الدراج والحمام والورشان، وهو كثير الشبق وإذا قوي عليه صيده لا يتركه إلا أن يتلف أحدهما. وأحمد صفاته أن يكون صغيراً في المنظر ثقيلاً في الميزان، طويل الساقين قصير الفخذين.
وأما البيدق فلا يصيد إلا العصافير، وهو قليل الغناء قريب في الطبع من العقصي قال أبو الفتح كشاجم في المعنى:
حسبي من البزاة والبيادق ... ببيدق يصيد صيد الباشق
مؤدب مدرب الخلائق ... أصيد من معشوقة لعاشق
يسبق في السرعة كل سابق ... ليس له في صيده من عائق
ربيته وكنت غير واثق ... أن الفرازين من البيادق
وأما العقصي فهو أصغر الجوارح نفساً، وأضعفها حيلة، وأشدها ذعراً، وأيبسها مزاجاً يصيد العصفور في بعض الأحايين، وربما هرب منه. وهو يشبه الباشق في الشكل إلا أنه أصغر منه.
الحكم: يحرم أكله بجميع أنواعه " لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطيور " . رواه مسلم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبهذا قال أكثر أهل العلم.

وقال مالك والليث والاوزاعي ويحيى بن سعيد لا يحرم من الطير شيء واحتجوا بعموم الآيات المبيحة، ولم يثبت عند مالك حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، فكان على الإباحة. قال الأبهري: ليس في ذي المخلب عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي صحيح. وقال غيره: لم يثبت حديث الذي عن أكل كل ذي مخلب من الطير لأن ميمون بن مهران رواه عن ابن عباس وسقط بينهما سعيد بن جبير، فصار هذا علة تحطه عن رتبة الصحيح. وقال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: يكره للمحرم استصحاب البازي، وكل صائد من كلب وغيره لأنه ينفر الصيد وربما انفلت فقتل صيداً، فإن حمله فأرسله على صيد فلم يقتله ولم يؤذه فلا جزاء عليه، لكن يأثم كا لورماه بسهم فأخطأه فإنه يأثم بالرمي لقصده الحرام. ولا ضمان لعدم الإتلاف قال: وما فيه مضرة ومنفعة لا يستحب قتله لما فيه من المنفعة ولا يكره لعدوانه على الناس كالبازي والفهد والصقر والعقاب، ونحوها. ويصح بيع البازي وإجارته بلا خلاف لأنه طاهر منتفع به روى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : " ما أمسك عليك فكل " .
الأمثال: قالت العرب: " وهل ينهض البازي بغير جناح، يضرب في الحث على التعاون والوفاق قال الشاعر:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وان ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح
ومن ملح أمثال أبي أيوب سليمان بن أبي مجالد قال خالد بن يزيد الأرقط: بينما أبو أيوب في أمره ونهيه إذ طلبه المنصور فاصفر وارتعد، فلما خرج من عنده تراجع لونه وكان ذلك دأبه، كلما طلبه، فقيل له: إنا نراك مع كثرة دخولك إلى أمير المؤمنين وأنسه بك تتغير إذا دخلت عليه؟ فضرب لذلك مثلاً فقال: زعموا أن بازياً وديكاً تناظرا فقال البازي للديك: ما أعرف أقل وفاء منك! فقال: وكيف؟ قال: لأنك تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك، وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم، حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ههنا وههنا وصحت، وإن علوت حائط دار، كنت فيها سنين طرت وتركتها وصرت إلى غيرها، وأنا أؤخذ من الجبال، وقد كبر سني فأطعم الشيء القليل، وأونس يوماً أو يومين ثم أطلق، على الصيد فأطير وحدي، فآخذه وأجيء به إلى صاحبي، فقال له الديك: ذهبت عنك الحجة، أما لو رأيت بازيين في سفود ما عدت إليهم أبداً، وأنا كل يوم ووقت أرى السفافيد مملوأة ديوكا، وأقيم معهم فأنا أوفى منك لو كنت مثلك، وأنتم لو عرفتم من المنصور ما أعرف، لكنتم أسوأ حالاً مني عند طلبه إياكم، ثم إنه قتله في سنة أربع وخمسين ومائة، بعد أن عذبه وأخذ أمواله وكان قد تمكن من المنصور، غاية التمكن لاحسان فعله مع المنصور قبل خلافته ثم أبغضه، وهم أن يوقع به وتطاول ذلك، وكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به ثم يخرج سالماً.
قيل: إنه كان معه شيء من الدهن قد عمل فيه سحراً فكان يدهن حاجبيه إذا دخل على المنصور، فصار مثلاً في العامة يقولون: دهن أبي أيوب قال في الجواهر الزواهر. وكان المنصور يوده كثيراً ويبتسم إليه وأنشد على ذلك لناصح الدين سعيد بن الدهان سيبويه عصره في النحو قوله:
لا تجعل الهزل دأبا فهو منقصة ... والجد تعلو به بين الورى القيم
ولا يغرنك من ملك تبسمه ... ما سحت السحب إلا حين تبتسم
ومن محاسن شعره قوله:
بادر إلى العيش والأيام راقدة ... ولا لكن لصروف الدهر تنتظر
فالعمر كالكأس يبدو في أوائله ... صفو وآخره في قعره كدر
وله أيضاً، لقال إنه لابن طباطبا الطالبي:
تأمل نحولي والهلال إذا بدا ... لليلته في أفقه أينا أضنى
على أنه يزداد في كل ليلة ... نمواً وجسمي بالضنى دائماً يفنى
وله أيضاً:
والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا
لا عدت تفاح الخدود بنفسجا ... لثما وكافور الترائب عنبرا
وكانت وفاته سنة تسع وستين وخمسمائة قال الغزنوي: الترائب جمع تريبة وهو موضع القلادة من الصدر، وزاد الكواشي وقيل: الصدر وقيل: النحر وقيل: أطراف الرجل.

الخواص: مرارته من اكتحل بها أمن من نزول الماء في عينيه. وإن شربت امرأة من زرق البازي مدافاً بماء أعان على الحبل، وإن كانت عاقراً.
وأما الباشق فدماغه ينفع من الخفيقان العارض من السوداء، إذا سقي منه وزن درهم بماء ورد، ومرارته تنفر من ظلمة العين اكتحالاً.
التعبير: البازي في المنام يدل على سلطان لمن هو من أهل الإمارة، فإن ذهب من يديه وبقي منه ساقه، فمب ملكه وبقي ذكره. وإن بقي في يده شيء من الريش، بقي في يده شيء من المال. وذبح البازي ظفر بلص، وذبح البزاة يدل على موت الملوك، الذين يأخذون الأموال جهاراً، ولحوم البزاة أموال السلاطين، والبزاة للرجل السوقي رياسة وشرف. والباشق في المنام لص وقيل ولد ذكر.
البازل: البعير الذي فطر نابه أي انشق، ذكراً كان أو أنثى، وذلك في السنة الثامنة. والجمع: بزل وبزل وبوازل.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، " أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بكراً فرد بازلاً وقال: خيركم أحسنكم قضاء " وروى الخطابي عن ابن خزيمة قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سئل ابن عيينة عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من استجمر فليوتر " . فسكت ابن عيينة فقيل: أترضى بما قاله مالك؟ قال: وما قال مالك؟ قال: قال: الاستجمار الاستطابة بالأحجار. قال فقال ابن عيينة إنما مثلي ومثل مالك كما قال الأول:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
الباقعة: الداهية يقال رجل باقعة، إذا كان ذا دهاء. ونقل الهروي عن أبي عمرو أنه طائر حذر إذا شرب الماء يطير يمنة ويسرة. وفي حديث القبائل أن علياً قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما: لقد عثرت من الأعراب على باقعة وفي حديث آخر ففاتحته فإذا هو باقعة.
بالام: روى البخاري ومسلم عن أبي الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلا لأهل الجنة " . قال: فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن فيك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى. قال: تكون الأرض خبزة واحدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: بلى. قال: بالام ونون. قال: وما هما؟ قال: ثور ونون يأكل من زيادة كبدهما سبعون ألفاً " .
هكذا عند البخاري سبعون بتقديم السين.
وفي صحيح مسلم في كتاب الظهار من حديث ثوبان. قال: " كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة، كاد يصدع منها فقال لم تدفعني؟ فقلت لم لا تقول رسول الله فقال اليهودي: إنا ندعوه بإسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إسمي محمد الذي سماني به أهلي. فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ فقال: اسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه وقال: سل. فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في " ظلمة دون الحشر " . فقال: فمن أول الناس إجازة يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: " فقراء المهاجريين " . قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة. قال: " زيادة كبد النون " . قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: " ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها " . قال: فما شرابهم عليه؟ قال: " من عين فيها تسمى سلسبيلا " . قال: صدقت. وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: " أينفعك إن حدثتك؟ قال: اسمع بأذني. قال: سل. قال: أسألك عن الولد؟ قال صلى الله عليه وسلم: " ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فاذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة، كان ذكراً بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة مني الرجل، كان أنثى بإذن الله تعالى " . قال: صدقت إنك لنبي، ثم انصرف. فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله عز وجل " .

وفي صحيح البخاري من حديث أنس قريب من هذا، وأن اليهودي هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه هكذا جاء الحديث مفسراً.
أما النون فهو الحوت وبه سمي يونس عليه السلام ذا النون. وأما بالام، فقد تكلفوا له شرحاً غير مرضي، ولعل اللفظة عبرانية. كذا قال في النهاية، وقال الخطابي: لعل اليهودي أراد التعمية فقطع الهجاء، وقدم أحد الحرفين على الآخر وهي لام ألف وياء، يريد لأي بوزن لعي، وهو الثور الوحشي فصحف الراوي الياء بالباء، قال: وهذا أقرب ما يقع لي فيه. والصحيح أنها لفظة عبرانية. وأما زيادة كبد الحوت، فهي القطعة المنفردة المتعلقة بها، وهي أطيبها وهؤلاء السبعون ألفاً يحتمل أنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفاً عن العدد الكثير من غير إرادة حصر ورواه النسائي في عشرة النساء أيضاً.
البال: سمكة تكون في البحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعاً يقال لها العنبر، وليست بعربية قال الجواليقي: كأنها عربت. وقال في الصحاح: البال الحوت العظيم، من حيتان البحر ليس بعربي. وقال القزويني: البال سمكة طولها خمسمائة ذراع أو أكثر، تظهر في بعض الأوقات، طرف جناحها كالشراع العظيم وأهل المراكب يخافون منها أعظم خوف، فاذا أحسوا بها ضربوا بالطبول لتنفر عنهم، فإذا بغت على حيوان البحر بعث الله سمكة نحو الذراع تلصق بأذنها، فلا خلاص للبال منها، فتطلب قعر البحر وتضرب الأرض برأسها حتى تموت، وتطفو على الماء كالجبل العظيم. ولها أناس من الزنج يرصدونها، فإذا وجدوها طرحوا فيها الكلاليب وجذبوها إلى الساحل، وشقوا بطنها واستخرجوا العنبر منها وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة ذكر هذا الحيوان وما يتعلق بالعنبر من الأحكام.
الببر: بباءين موحدتين الأول مفتوحة والثانية مكسورة ضرب من السباع يعادي الأسد من العدو لا من العدوان. ويقال له: البريد، ويقال له الفرانق بضم الفاء وكسر النون. وهو هندي معرب شبيه بابن آوى، ويقال إنه متولد من الزبرقان واللبوة ومن طبعه أن الأنثى منه تلقح من الريح، ولهذا كان عدوه كالريح ولا يقدر أحد على صيده، وإنما تسرق جراؤه فتجعل في مثل القوارير من زجاج، ويركض بها على الخيول السابقة، فإذا أدركهم أبوها ألقوا إليه قارورة منها فيشتغل بالنظر إليها، والحيلة في إخراج ولده منها فيفوته بقيتها فيربى حنيئذ، ويألف الصبيان ويأنس بالأنس، وهو بألف شجرة الكافور كثيراً فإذا كان عندها لم يستطع أحد أن يأخذ منها شيئاً لكنه يفارقها في زمن معلوم، فإذا علم أهل تلك النواحي بذلك أتوا إلى الشجرة وأخذوا منها الكافور.
الحكم: يحرم أكله لأنه يتقوى بنابه.
الخواص: من أصابه سرسام أو برسام، يطلي رأسه بمرارة الببر مضروبة بالماء، ينفعه نفعاً بيناً. وإذا تحملتها المرأة لا تحمل أبدا وإذا كانت حاملاً أسقطت، وكعبه يشد على الزند فلا يتعب حامله أبداً، ولو سار كل يوم عشرين فرسخاً. وجلده يجلس عليه من به حب القرع يزول عنه. وذكر في ربيع الأبرار أن الببر على صورة الأسد الكبير وهو أبيض يلمع بصفرة وخطوط سود وقال ارسطو: الببر سبع مهيب يكون بأرض الحبشة خاصة لا بغيرها.
الببغاء: بثلاث باآت موحدات أولاهن وثالثتهن مفتوحتان والثانية ساكنة وبالغين المعجمة وهي هذا الطائر الأخضر المسمي بالمرة، بدال مهملة مضمومة، قاله في العباب وضبطها ابن السمعاني في الأنساب بباءين بفتح الأولى وبإسكان الثانية. وقال: لقب بها أبو الفرج الشاعر لفصاحته، وقال القضاعي: للثغة كانت في لسانه، وهي في قدر الحمام يتخذها الناس للانتفاع بصوتها، كما يتخذون الطاووس للانتفاع بصوته ولونه. ومن الببغاء، نوع أبيض وقد أهدي لمعز الدولة بن بويه درة بيضاء اللون، سوداء المنقار والرجلين على رأسها ذؤابة فستقية، وجميع أنواعها معدوم سوى الأخضر فهو الموجود الآن.
وهو حيوان دمث الخلق، ثاقب الفهم، له قوة على حكاية الأصوات وقبول التلقين، يتخذه

الملوك والأكابر لينم بما يسمع من الأخبار، ويتناول مأكوله برجله، كما يتناول الإنسان الشيء بيده. والناس يحتالون في تعليمه بطرق عدة: قال أرسطاطاليس: إذا أردت تعليم الببغاء الكلام، فخذ مرآة واجعلها أمامها، فترى صورتها أي صورة نفسها، ثم تكلم من ظاهر المرآة وتعاودها، فإنها تعيد الكلام. وقال ابن الفقيه : رأيت بجزيرة رانج حيوانات غريبة الأشكال ورأيت فيها صنفاً من الببغاء أحمر وأبيض وأصفر، يعيد الكلام بأي لغة كانت قال أبو إسحاق الصابي في وصفها:
أنعتها صبيحة مليحة ... ناطقة باللغة الفصيحة
عدت من الأطيار واللسان ... يوهمني بأنها إنسان
تنهي إلى صاحبها الاخبارا ... وتكشف الاسرار والاستارا
بكماء إلا أنها سميعه ... تعيد ما تسمعه طبيعة
زارتك من بلادها البعيدة ... واستوطنت عندك كالقعيدة
ضيف قراه الجوز والارز ... والضيف في اتيانه يعز
تراه في منقارها الخلوقي ... كلؤلؤ يلقط بالعقيق
تنظر من عينين كالفصين ... في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
خريدة خدورها الأقفاص ... ليس لها من حبسها خلاص
نحبسها وما لها من ذنب ... وإنما ذاك لفرط الحب
تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف
يشرك فيها شاعر الزمان ... الكاتب المعروف بالبيان
ذلك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي حادثات الدهر
فأجابه أبو الفرج بقوله:
من منصفي من محكم الكتاب ... شمس العلوم قمر الأداب
أمسى لأصناف العلوم محرزا ... وسام أن يلحق لما برزا
وهل يجارى السابق المقصر ... أو هل يبارى المدرك المغرر
إلى أن قال في وصفها:
ذات شغا تحسبه ياقوتا ... لا ترتضي غير الأرزقوتا
كأنما الحبة في منقارها ... حبابة تطفو على عقارها
وقال القاضي ابن خلكان في ترجمة الفضل بن الربيع: إن أحمد بن يوسف الكاتب كتب إلى بعض إخوانه وقد ماتت له ببغاء، وله أخ كثير التخلف يسمى عبد الحميد:
أنت تبقى ونحن طراً فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا
فلقد جل خطب دهر أتاكا بمقادير أتلفت ببغاكا
عجباً للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا
كان عبد الحميد أجمل للمو ... ت من الببغا وأولى بذاكا
شملتنا المصيبتان جميعاً ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا
قال الزمخشري: إن الببغاء تقول: ويل لمن كانت الدنيا همه.
الحكم: يحرم أكلها على الأصح في الرافعي، ونقله في البحر عن الصيمري، وأقره وعلل ذلك بخبث لحمها، وقيل: حلال لأنها تأكل من الطيبات، وليست من ذوات السموم ولا من ذوات المخلب، ولا أمر بقتلها ولا نهي عنه. وقطع المتولي بجواز استئجارها للأنس بصوتها. وحكى البغوي لا ذلك وجهين. وكذا كل ما يستأنس بصوته كالعندليب وغيره.
الخواص: من أكل لسان الببغاء، صار فصيحاً جريئاً في الكلام. ومرارتها تثقل اللسان أكلا. ودمها يجفف ويسحق وينثر بين الصديقين، تظهر بينهما العداوة. وذرقها بخلط بماء الحصرم، ينفع من الظلمة والرمد اكتحالاً.
التعبير: الببغاء في المنام رجل نحس كذاب. وقيل رجل فيلسوف، وفرخه ولد فيلسوف وقيل: وهي جارية أو غلام يتيم.
البج: من طير الماء وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الجنس أجمع في باب الطاء المهملة.
البجع: الحوصل. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء وقد أحسن الشاعر حيث قال فيه ملغزاً:
ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب
منقاره في بطنه ... والعين منه في الذنب
قال التميمي في منافع القرآن: من كتب على جلد حوصلة البجع بماء ورد أو بماء مطر قوله تعالى: " وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " ثم جعل ذلك على صدر النائم من رجل أو امرأة فإنه يخبر بكل ما عمل.

البخزج: بالباء الموحدة والزاي والجيم ولد البقرة الوحشية.
البجاق: كغراب الذئب الذكر.
البخت: من الإبل معرب. وبعضهم يقول: هو عربي الواحد الذكر بختي، والأنثى بختية، وجمعه بخاتي، غير مصروف لأنه بزنة جمع الجمع، ولك أن تخفف الياء فتقول البخاتي. وكذا كل ما أشبهها مما واحده مشدد يجوز في جمعه التشديد والتخفيف: كالعواري والسواري والعلالي والأواني والأثافي والكراسي والمهاري وشبهها. وممن ذكر هذه القاعدة ابن السكيت في إصلاحه والجوهري في صحاحه، قال ابن السكيت: والأثفية بثاء مثلثة مفرد الأثافي وهي الأعمدة الثلاثة تتخذ لوضع القدر عليها حال الطبخ ومن كلام العرب رماه الله بثالثة الأثافي يعني الجبل لأن الإنسان إذا لم يجد إلا إثنتين جعل الثالثة الجبل، فعبروا بثالثة الأثافي عن الجبل. والبخاتي جمال طوال الأعناق.
روى أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد من حديث جنادة بن أبي أمية قاد: كنا مع بسر بن أرطاة في البحر فأتي بسارق قد سرق بختية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته " .
وفي صحيح مسلم من حديث زهير عن جرير بن سهل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفة النساء، اللائي يأتين في آخر الزمان: " رؤوسهن كأسنمة البخت لا يجدن ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام " .
وفي المستدرك، من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر، حتى يأتوا أبواب مساجدهم نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات " .
وفي الكامل في ترجمة فضل بن مختار البصري عن عبيد الله بن موهب عن عصمة بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة طيراً أمثال البخاتي " . قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إنها لناعمة يارسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنعم منها من يأكلها وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر " .
البدنة: جمعها. بدن بضم الدال وإسكانها جاء القرآن وممن ذكر الضم الجوهري رحمه الله.
وهو ما أشعر من ناقة أو بقرة. سميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن. وقال النووي: هي البعير ذكراً كان أو أنثى وشرطها أن تكون في سن الأضحية عند الفقهاء وعند اللغويين، أو أكثرهم، تطلق على الإبل والبقر. وقال الأزهري: تكون في الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لعظم أبدانها ويشهد لاختصاصها بالإبل، ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة " .
وفي مسند الإمام أحمد رضي الله تعالى نما، لم!في الساعة الرابعة بطة، وفي الخامسة دجاجة، وفي السادسة بيضة " .
ووصف الكبش بالقرن لأنه أكمل وأحسن صورة وجمع البدنة بدن. قال تعالى: " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله " أي من أعلام دين الله، لكم فيها خير. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي نفع لا الدنيا وأجر في الآخرة.
حج صفوان بن سليم وليس معه إلا سبعة دنانير، فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال:

إني سمعت الله تعالى يقول : " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير " وأول من أهدى البدن إلى البيت الحرام الياس بن مضر وهو أول من وضع مقام إبراهيم عليه السلام للناس بعد غرق البيت وانهدامه، زمن نوح علبه السلام. فكان الياس أول من ظفر به فوضعه في زاوية البيت ولم تزل العرب تعظم الياس بن مضر إلى أن مات. ولما مات أسفت عليه زوجته خندف أسفاً شديداً وحرمت الرجال، والطيب ونذرت أن لا تقيم ببلدة مات فيها ولا يأويها بيت، فلم تزل سائحة حتى هلكت حزناً. وكانت وفاته يوم الخميس، فنذرت أن تبكيه كلما طلعت شمس يوم الخميس حتى تغيب الشمس. قال السهيلي: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تسبوا الياس فإنه كان مؤمناً " . وذكر أن الياس كان يسمع من صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج. وروى مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي قال: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين، قال وانطلق سنان ومعه بدنة يسوقها فأرجفت عليه بالطريق فغمني شأنها إذ هي أبدعت أي كلت، فأتينا إلى ابن عباس نسأله فقال: على الخبير سقطت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة، مع رجل وأمره فيها فقال: يا رسول الله وما أصنع بما أبدع علي منها قال صلى الله عليه وسلم: " انحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ثم اجعله على صفحتها، ولا أكل منها أنت ولا أحد من رفقتك " . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء الكلام على الهدى.
وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له : " اركبها قال: يا رسول الله إنها بدنة قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك فى الثانية أو في الثالثة وفي رواية ويلك اركبها ويلك اركبها " . وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها، ثم قل الله أكبر أللهم منك وإليك ثم سم وانحرها وكذلك في الأضحية.
وفي الصحيحين عن زياد بن جبير قال رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن قرظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعظم الأيام عند اللة يوم النحر ثم يوم القرو قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بدنات أو ست ينحرهن فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها " .
وفي ركوب البدنة مذاهب للعلماء: فذهب الشافعي إلى أنه يركبها إذا احتاج ولا يركبها من غير حاجة وإنما يركبها بالمعروف من غير اضرار بها. وبهذا قال ابن المبارك وابن المنذر وجماعة. وقال مالك وأحمد: له ركوبها من غير حاجة. وبه قال عروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه. وقال أبو حنيفة: لا يركبها إلا أن لا يجد منه بدا. وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه يجب ركوبها لظاهر الأمر ودليل الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم " أهدي ولم يركب هديه، ولم يأمر الناس بركوب الهدايا " . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ويلك، هذه الكلمة أصلها لمن وقع في هلكة فقال له ذلك لأنه كان محتاجاً قد وقع في جهد وتعب وقيل: هذه الكلمة تجري على اللسان وتستعمل من غير قصد إلى ما وضعت له أولاً وهي كقولهم لا أم له، لا أب له، تربت يداه، قاتله الله عقري حلقي وما أشبه ذلك.
البذج: بالذال المعجمة من أولاد الضأن بمنزلة العتود من أولاد المعز وجمعه بدجان قال الشاعر:
قد هلكت جارتنا عن الهمج ... وإن تجع تأكل عتوداً أو بذج

قال الجوهري ومراده بالهمج، سوء التدبير في المعاش. وفي الحديث " يخرج رجل من النار كأنه بذج ترعد أوصاله " وروى ابن المبارك عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن وقتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " يجاء برجل يوم القيامة كأنه بذج من الذل، فيوقف بين يدي الله تعالى، فيقول له: أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول: رب جمعته ونميته وتركته أكثر ما كان فارجعني آتك به، فيقول الله تعالى: أرني ما قدمت فإذا هو عبد لم يقدم خيراً فيمضي به إلى النار " . خرجه ابن العربي المالكي في سراج المريدين. وقال: حديث صحيح من مراسيل الحسن. قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، رواه الترمذي عن إسماعيل بن مسلم المكي، وهو رواه عن الحسن، والبذج بباء موحدة مفتوحة وذال معجمة ساكنة ثم جيم من أولاد الضأن شبه به هذا لما يأتي به من الذل والحقارة انتهى.
وفي مسند أبي يعلى الموصلي، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بابن آدم يوم القيامة، كأنه بذج من الذل فيقول الله تعالى: أنا خير قسيم يا ابن آدم انظر إلى عملك الذي عملت لي فأنا أجزيك به، وانظر إلى عملك الذي عملت لغيري فإن جزاءك على الذي عملت له " . ورواه الحافظ أبو نعيم في ترجمة الربيع بن صبيح مرفوعاً. والبذج كلمة فارسية تكلمت بها العرب وعن بعض الأعراب أنه وجد متعلقاً باستار الكعبة وهو يقول أللهم أمتني ميتة أبي خارجة فقيل له: وكيف مات أبو خارجة. قال: أكل بذجاً وشرب مشعلاً ونام شامساً فلقي الله تعالى شبعان ريان دفآن. المشعل أناء ينبذ فيه.
الأمثال: قالوا : " فلان أذل من بذج " لأنه أضعف ما يكون من الحملان.
البراق: الدابة التي ركبها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء وركبها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. مشتقة من البرق الذي يلمع في الغيم. كما روي في حديث المرور على الصراط. " فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح العاصف، ومنهم من يمر كالفرس الجواد " . وفي الصحيح أنه دابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض يضع خطوه عند أقصى طرفه، ويؤخذ من هذا أنه أخذ من الأرض إلى السماء في خطوة وإلى السموات السبع في سبع خطوات. وبه يرد على من استبعد من المتكلمين احضار عرش بلقيس في لحظة واحدة، وقال: إنه أعدم ثم أوجد وعلله بأن المسافة البعيدة لا يمكن قطعها لا هذه اللحظة، وهذا أوضح دليل في الرد عليه. قال السهيلي: ومما يسأل عنه شماس البراق حين ركبه صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل عليه السلام: أما تستحي يا براق فما ركبك عبد قبل محمد أكرم على الله منه؟ قال ابن بطال: إنما كان ذلك لبعد عهده بالأنبياء، وطول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ونقل النووي عن الزبيدي في مختصر العين وعن صاحب التحرير، أنها دابة كان الأنبياء عليهم السلام يركبونها. ثم قال: وهذا الذي قالاه من اشتراك جميع الأنبياء فيها يحتاج إلى نقل صحيح. وقال صاحب المقتفي: والحكمة في كونه على هيئة بغل ولم يكن على هيئة فرس، التنبيه على أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار الآية في الإسراع العجيب في دابة لا يوصف شكلها بالإسراع فإن قيل: ركب صلى الله عليه وسلم البغلة في الحرب، فالجواب أن ذلك كان لتحقيق نبوته وشجاعته صلى الله عليه وسلم.
قال: وكان البراق أبيض وكانت بغلته شهباء، وهي التي أكثرها بياض إشارة إلى تخصيصه بأشرف الألوان قال: واختلف الناس هل ركب جبريل عليه السلام معه صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: نعم، كان رديفه صلى الله عليه وسلم. قال: والظاهر عندي أنه لم يركب معه لأنه صلى الله عليه وسلم هو المخصوص بشرف الإسراء، لكن روي أن إبراهيم عليه السلام كان يزور ولده إسماعيل على البراق وأنه ركبه هو وإسماعيل وهاجر، حين أتى بهما البيت الحرام. وفي أواخر المستدرك عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

" أتيت بالبراق فركبت خلف جبريل " . إلى أن قال: تفرد به أبو حمزة ميمون الأعور، وقد اختلفوا فيه، وفيه في ذكر مناقب فاطمة الزهراء رضي الله عنها عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تبعث الأنبياء عليهم السلام يوم القيامة على الدواب ليوافوا بالمؤمنين من قومهم المحشر، ويبعث صالح على ناقته، وأبعث على البراق خطوها عند أقصى طرفها، وتبعث فاطمة أمامي " وقال أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصفهاني، في كتاب الحجة إلى بيان المحجة: إن قيل لم عرج البراق به صلى الله عليه وسلم إلى السماء ولم ينزل عند منصرفه عليه؟ فالجواب أنه عرج به عليه إظهاراً لكرامته، ولم ينزل عليه إظهاراً لقدرة الله تعالى. وقيل: دل بالصعود على النزول به عليه كقوله تعالى: سرابيل تقيكم الحر " يعني: والبرد وكقوله: بيده الخير أي والشر. وقال حذيفة: ما زايل ظهر البراق حتى رجع.
ثم إن البراق يوم القيامة يركبه النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء يحل لذلك ما رواه الحاكم قريباً وما رواه أبو الربيع بن سبع السبتي في شفاء الصدور عن سويد بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حوضي أشرب منه يوم القيامة أنا ومن استسقاني من الأنبياء عليهم السلام، ويبعث الله تعالى لصالح ناقته يحلبها ويشرب هو والذين آمنوا معه، ثم يركبها حتى يوافي بها الموقف ولها رغاء " فقال له رجل يا رسول الله وأنت يومئذ على العضباء؟ قال صلى الله عليه وسلم: " تلك تحشر عليها ابنتي فاطمة، وأنا أحشر على البراق، أخص به دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام " .
واختلف الناس في تاريخ الإسراء، فقال ابن الاثير: الصحيح عندي إنه كان ليلة الإثنين لسبع وعشرين من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وبهذا جزم شيخ الإسلام محي الدين النووي في شرح مسلم وجزم في فتاويه في كتاب الصلاة بأنه كان في شهر ربيع الآخر. وفي سير الروضة أنه كان في رجب وإنما كان ليلاً لتظهر الخصوصية بين جليس الملك نهار أو جليسه ليلاً. قال أهل التاريخ: ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأقام في بني سعد خمس سنين ثم توفيت أمه بالأبواء، وهو ابن ست سنين، وكفله جده عبد المطلب. ثم توفي وهو ابن ثمان سنين فكفله عمه أبو طالب، وخرج معه إلى الشام وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ثم خرج صلى الله عليه وسلم في تجارة لخديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وتزوجها في تلك السنة وبنت قريش الكعبة، ورضيت بحكمه فيها وهو ابن خمس وثلاثين سنة وبعث صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة. وتوفي أبو طالب وهو ابن تسع وأربعين سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً. وتوفيت خديجة رضي الله تعالى عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة رضي الله عنه بعد ثلاثة أشهر من موت خديجة رضي الله عنها، فأقام به شهراً ثم رجع إلى مكة في جوار المطعم بن عدي. فلما أتت له خمسون سنة قدم عليه جن نصيبين فأسلموا. فلما أتت له إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر أسرى به صلى الله عليه وسلم.
وهاجر إلى المدينة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وهي السنة الثالثة عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم، وقيل هاجر في الرابعة عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط. وهذه السنة عليها مبني التاريخ الإسلامي وهي سنة أحد.

وفيها آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصحابة رضي الله عنهم واتخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخا. وفيها أتمت صلاة الحضر، وقصرت صلاة السفر، وفيها تزوج علي فاطمة رضي الله تعالى عنهما وفي سنة اثنتين كانت غزوة ودان وهو إسم مكان، وغزوة بواط وهي من ناحية رضوى، وغزوة العشيرة، وغزوة بدر الأولى وكانت فى جمادى الآخرة، وغزوة بدر الكبرى وهي التي قتل فيها صناديد قريش، وأعز الله تعالى بها الدين، وكانت يوم الجمعة ثالث عشر رمضان، وغزوة بني سليم، وكانت في ذي الحجة، خرج صلى الله عليه وسلم يريد أبا سفيان فلم يلفه، وقي سنة ثلاث كانت غزوة بني غطفان وغزوة نجران، وغزوة قينقاع وغزوة أحد وغزوة حمراء الأسد. وفي سنة أربع كانت غزوة بني النضير وغزوة ذات الرقاع وفي سنة خمس كانت غزوة دومة الجندل وغزوة الخندق وغزوه بني قريظة، وفي سنة ست كانت غزوة بني لحيان وغزوة بني المصطلق، وفي سنة سبع اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وغزا غزوة خبيبر، وفيها كانت قصة فدك وهي مشهورة وكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة. وفي سنة ثمان كانت غزوة مؤتة وفتح مكة المشرفة، وغزوة حنين وغزوة الطائف، وقسمه أموال هوازن. وفي سنة تسع كانت غزوة تبوك، وفي سنة عشر كانت حجة الوداع، ونحر فيها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة، وأعتق ثلاثاً وستين رقبة هي عدد سني عمره. وفي سنة إحدى عشرة كانت وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان ابتداء الوجع في مستهل شهر ربيع الأول وتوفي في الثاني عشر منه.
وعاش صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة وكانت مدة مقامه في المدينة عشر سنين، وقد تقدم ذكر ذلك في باب الهمزة في الكلام على الاوز. وكان أولاده صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة رضي اللة تعالى عنها، إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية وهم: الطيب والطاهر والقاسم وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم وإبراهيم سلام الله ورضوانه عليهم أجمعين. فأما الذكور فماتوا كلهم أطفالاً. ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم في حياة خديجة غيرها، فلما ماتت تزوج سودة بنت زمعة رضي الله عنها وعائشة رضي اللة تعالى عنها. ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها وماتت رضي الله تعالى عنها في أيام معاوية رضي الله تعالى عنه، سنة ثمان وخمسين عن سبع وستين سنة. وتزوج صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما سنة ثلاث وتوفيت في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه. وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم لم يمت عنده من نسائه غيرها، وغير خديجة رضي الله تعالى عنهما. وتزوج صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها سنة أربع، وأمها عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت سنة تسع وخسين في أيام معاوية أيضاً رضي الله تعالى عنده، وقيل توفيت سنة إحدى وستين في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين رضي الله تعالى عنه. وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش في سنة خمس وتوفيت في سنة عشرين في أيام عمر رضي الله عنهما، وهي أول أزواجه صلى الله عليه وسلم لحوقاً به. وتزوج أم حبيبة وإسمها رملة بنت أبي سفيان وتوفيت سنة أربع وأربعين في أيام أخيها معاوية رضي الله تعالى عنهما. وتزوج جويرية بنت الحارث المصطلقية، وتوفيت سنة ست وخمسين في أيام معاوية. وتزوج ميمونة بنت الحارث في سنة سبع، وتوفيت سنة أربعين ومات عليه الصلاة والسلام عن تسع. البرذون: بكسر الباء وبالذال المعجمة، والجمع براذين والأنثى برذونة وكنيته أبو الأخطل.
كني به لخطل أذنيه وهو استرخاؤهما، بخلاف أذن الفرس العربي، وهو الذي أبو أعجميان، والأعجمى من الناس الذي لا يفصح الكلام عجمياً كان أو عربياً ألا تراهم قالوا زياد الأعجم، لعجمة كانت في لسانه، وهو عربي قال صلى الله عليه وسلم: " صلاة النهار عجماء لإخفاء القراءة فيها " . لكن قال النووي إنه حديث باطل ويطلق العجمي والأعجمي على من ليس من أهل الكلام، قال صلى الله عليه وسلم: " العجماء جرحها جبار " وهي الدابة المنفلتة. وإلا فالإجماع على تضمين السائق والقائد، وقال صاحب منطق الطيران: البرذون يقول كل يوم: أللهم إني أسألك قوت يوم بيوم.

وروى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: " كأني بالترك وقد أتتكم على براذين مجدعة الآذان حتى تربطها بشط الفرات " . وروي أيضاً عن أبي هريره رضي الله تعالى عنه أنه مر بمروان وهو يبني في داره بالمدينة، قال: فجلست إليه، والعمال يعملون فقلت ابنوا مشيداً وأملوا بعيداً وموتوا قريباً. فقال مروان إن أبا هريرة يحدث العمال فإذا تقول لهم يا أبا هريرة. قال: قلت ابنوا مشيداً وأملوا بعيداً وموتوا قريباً، يا معشر قريش ثلاث مرات اذكروا كيف كنتم أمس، وكيف أصبحتم اليوم تخدمون، أرقاؤكم فارس والروم، كلوا خبز السميذ واللحم السمين، لا يأكل بعضهم بعضاً، ولا تكادموا تكادم البراذين، وكونوا اليوم صغاراً تكونوا غداً كباراً، والله لا مرتفع رجل منكم في الدنيا درجة إلا وضعه الله يوم القيامة درجة وانشد السراج الوراق في مناهج الفكر في أوصاف الخيل المذمومة:
لصاحب الأحباس برذونة ... بعيدة العهد عن القرط
إذا رأت خيلاً على مربط ... تقول سبحانك يا معطي
تمشي إلى خلف إذا ما مشت ... كأنما تكتب بالقبطي
قال الجاحظ: سألت بعض الأعراب أي الدواب آكل؟ قال: برذونة رغوث.
وفي أواخر الجزء الخامس من الغيلانيات، وفي المستدرك في كتاب اللباس عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على برذون وعليه عمامة وقد أرخى طرفها بين كتفيه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ فقال: " هل رأيته " ؟ قلت نعم. قال : " ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة " . وقال في الكامل، في حوادث سنة خمس عشرة. لما افتتح عمر رضي الله تعالى عنه بيت المقدس، وقدم إلى الشام أربع مرات: الأولى على فرس، والثانية على بعير، والثالثة رجع لأجل الطاعون، والرابعة على حمار، وكتب إلى امراء الأجناد أن يوافوه بالجابية ، فركب فرسه فرأى به عرجاً فنزل عنه، وأتى ببزدون فركبه، فجعل يتجلجل به أي يزهو في مشيته، فنزل عنه وصرف عنه وجهه، وقال: لا علم الله من علمك هذه الخيلاء. ثم ركب ناقته ولم يركب برذوناً بعده ولا قبله أبداً.
وكان عمر رضي الله تعالى عنه لما أراد الخروج إلى الشام، استخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فقال له علي: أنت تخرج بنفسك إلى هذا العدو الكلب؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أبادر بالجهاد قبل موت العباس رضي الله تعالى عنه، إنكم إذا فقدتم العباس رضي الله تعالى عنه انتقض بكم الشر، كما ينتقض الحبل، فمات العباس رضي الله تعالى عنه لست سنين من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه وانتقض بالناس الشر كما قال عمر رضي الله تعالى عنه.
وفي وفيات الأعيان في ترجمة أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف البصري شيخ البصريين

في الاعتزال، قال: خرجت من البصرة على برذون أريد المأمون ببغداد، فسرت إلى دير هرقل، فاذا رجل مشدود في حائط الدير، فسلمت عليه فرد علي السلام، وحملق إلي وقال: أمعتزلي أنت؟ قلت: نعم. قال: وأمامي أنت. قلت: نعم. قال: أنت إذن أبو الهذيل العلاف! قلت: أنا ذاك. قال: فهل للنوم لذة؟ قلت: نعم. قال: ومتى يجدها صاحبها؟ فقلت لقلبي: إن قلت مع النوم أخطأت، فإنه ذاهب العقل، وإن قلت قبل النوم أخطأت أيضاً، لأنك أحلت على عدم، وإن قلت بعد النوم غلطت، لأنه شيء قد انقضى، قال: فتحير فهمي، وجال في الخاطر وهمي، وقلت له: قل أنت حتى أسمع منك وأنقل عنك. فقال: بشرط أن تسأل امرأة صاحب هذا الدير أن لا تضر بني يومي هذا. فسألتها فاجابت. فقال: إعلم أن النعاس داء يحل بالبدن ودواؤه النوم. فاستحسنت ذلك منه، وهممت بالإنصراف، فقال: يا أبا الهذيل قف وإسمع مسألة عظمى، قال: ما تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هو في السماء والأرض؟ قلت: نعم. قال: أتحب أن يكون الخلاف في أمته أم الوفاق؟ قلت: بل الوفاق والاتفاق: فقال: قال تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " فما باله صلى الله عليه وسلم حين مرض مرض موته ما قال: هذا خليفتكم من بعدي. وقد نص صلى الله عليه وسلم على الوصية وحث عليها وحرض. قال أبو الهذيل: فلم أحر جواباً. وسألته الجواب فتنكرت حاله، ففتلت عنان برذوني وانصرفت عنه. فوصلت إلى المأمون فاستخبرني عن طريقي، فأخبرته بما جرى، فأمر بإحضاره على حالته التي هو عليها، فأحضر فقال له المأمون، أعد السؤال الذي سألت عنه أبا الهذيل؟ فأعاده، وكان في المجلس جماعة من العلماء الأفاضل فما منهم من أجاب، فقال له المأمون: ما الجواب؟ فقال: سبحان الله أكون سائلاً ومجيباً في حالة واحدة؟ فقال المأمون: وما عليك أن تفيدنا؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إعلم أن الله عز وجل حكم في سالف أزله، وقضى وقدر في سابق علمه، وأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك على حكمه، فلم يكن له أن يتعداه ولا أن يتخطاه، فترك الأمر على ما قدره الله تعالى وقضاه إذ لاراد لأمره، ولا معقب لحكمه، فاستحسن المأمون ذلك، وعرض له شغل فقام داخلاً إلى داره فقال له المجنون: يا ابن اللخناء أخذت منفوعنا وفررت منا! فعاد المأمون وقال له: ما تشتهي؟ ففال: ألف دينار. وقال: وما تصنع بها. قال: آكل بها كسباً وتمراً، فأمر له بها وحمله إلى أهله وهو على حاله، وتوفي أبو الهذيل العلاف سنة سبع وعشرين ومائتين وذكروا أن السنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، وهو غشية ثقيلة تقع على القلب، تمنعه المعرفة بالأشياء. وقد نفى الله ذلك عن نفسه، بقوله تعالى: " لا تأخذه سنة ولا نوم " لأنه آفة، وهوسبحانه وتعالى منزه عن الآفات. ولأنه تغير ولا يجوز عليه تبارك وتعالى.
وذكرالإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الأذكياء، عن خالد بن صفوان التيمي، أنه دخل على أبي العباس السفاح، وليس عنده أحد فقال: يا أمير المؤمنين إني والله ما زلت منذ قلدك الله الخلافة، أطلب أن أصير إلى مثل هذا الموقف في الخلوة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب، حتى أفرغ فليفعل فأمر الحاجب بذلك، فقال: يا أمير المؤمنين إني فكرت في أمرك، وأجلت الفكر فيك، فلم أر أحداً له قدرة واتساع على الاستمتاع بالنساء مثلك، ولا أضيق فيهن عيشاً منك، إنك ملكت نفسك امرأة من نساء العالمين، فاقتصرت عليها، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وإن عركت عركت، وحرمت نفسك يا أمير المؤمنين التلذذ باستطراق الجواري، ومعرفة اختلاف أحوالهن، والتلذذ بما يشتهى منهن، فإن منهن الطويلة التي تشتهى لجسمها، والبيضاء التي تحب لرؤيتها، والسمراء اللعساء، والصفراء الذهبية، ومولدات المدينة، والطائف واليمامة، ذوات الألسن العذبة والجواب الحاضر، وبنات سائر الملوك، وما يشتهى من نضارتهن ونظافتهن. وتخلل خالد بلسانه فأطنب في صفات ضروب الجواري وشوقه إليهن، فلما فرغ من كلامه قال له السفاح: ويحك ملأت مسامعي بما شغل خاطري، والله ما سلك مسامعي كلام أحسن من هذا، فأعد علي كلامك فقد وقع مني موقعاً فأعاد إليه خالد كلامه بأحسن مما ابتدأه، ثم قال له انصرف فانصرف.

وبقي أبو العباس مفكراً فدخلت عليه أم سلمة زوجته، وكان قد حلف لها أن لا يتخذ عليها زوجة ولا سرية، ووفى لها بذلك، فلما رأته على تلك الحالة قالت له: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل حدث شيء تكرهه. أو أتاك خبراً رتعت له. قال لا فلم تزل حتى أخبرها بمقالة خالد، فقالت: وما قلت لابن الفاعلة. فقال لها: أينصحني وتشتمينه؟ فخرجت إلى مواليها وأمرتهم بضرب خالد.
قال خالد: فخرجت من الدار مسروراً بما ألقيت إلى أمير المؤمنين، ولم أشك في الصلة، فبينما أنا واقف، إذ أقبلوا يسألون عني فحققت أنه أمر لي بالجائزة، فقلت لهم: ها أنا ذا، فاستبق إلي أحدهم بخشبة فغمزت برذوني، فلحقني وضرب كفل البرذون، فركضت ففتهم، واستخفيت في منزلي أياماً ووقع في قلبي أني أتيت من أم سلمة. فبينما أنا ذات يوم جالس في المجلس، فلم أشعر إلا بقوم قد هموا علي وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فسبق إلى قلبي أنه الموت، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لم أر دم شيخ أضيع من دمي، فركبت إلى دار أمير المؤمنين فأصبته جالساً، ولحظت في المجلس بيتاً عليه ستور رقاق، وسمعت حساً من خلف الستر فأجلسني، ثم قال: ويحك يا خالد وصفت لأمير المؤمنين صفة فأعدها فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب إنما اشتقت إسم الضرتين من الضرر، وإن أحداً يكون عنده من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضر وتنغيص! فقال السفاح: لم يكن هذا كلامك أولا. قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الثلاث من النساء يدخلن على الرجل البؤوس، ويشبن الرؤوس! فقال السفاح: برئت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كنت سمعت هذا منك أومر في حديثك. قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الأربع مر النساء شر مجموع لصاحبهن، يشيبنه ويهرمنه. قال: والله ما سمعت هذا منك أولا. قلت: بلى والله. قال: أتكذبني؟ قلت: أفتقتلني؟ نعم والله يا أمير المؤمنين إن أبكار الإماء رجال، إلا أنهن ليس لهن خصى، قال خالد: فسمعت ضحكاً من خلف الستر ثم قلت: والله وأخبرتك أن عندك ريحانة قريش، وأنت تطمح بعينيك إلى النساء والجواري؟ فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عماه، بهذا حدثته، ولكنه غير حديثك، ونطق بما في خاطره عن لسانك، فقال له السفاح: قاتلك الله. قال خالد: فانسللت وخرجت. فبعثت إلي أم سلمة بعشرة آلاف درهم وبرذون وتخت ثياب.
الحكم: هو كعموم الخيل.
الخواص: إذا شربت امرأة دم برذون لم تحمل أبداً وزبله يخرج المشيمة والجنين الميت لخاصية فيه. وإذا جفف، وذر منه في الأنف حبس الرعاف. وإذا فر على الجراحات حبس الدم.
التعبير: البرذون في المنام خصومة، وقيل غلام، ويعبر أيضاً برجل عجمي. والبراذين رجال أعاجم، ويعبر أيضاً بامرأة فمن سرق برذونه طلق زوجته وضياعه فجور المرأة والله أعلم. البرغش: بفتح الباء والغين المعجمة نوع من البعوض. وأنشد الحافظ زكي الدين عبد العظيم لشيخه الحافظ أبي الحسن المقدسي شيخ والد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ووفاته في مستهل شعبان سنة إحدى وعشرين وستمائة بالقاهرة:
ثلاث باآت بلينا بها ... البق والبرغوث والبرغش
ثلاثة أوحش ما في الورى ... يا ليت شعري أيها أوحش
البرغن: بفتح الباء والغين المعجمة وضمهما ولد البقرة الوحشية.

البرغوث: بالثاء المثلثة واحد البراغيث. وضم بائه أشهر من كسرها وقولهم: أكلوني البراغيث لغة طيىء، وهي لغة ثابتة خرجوا عليها قوله تعالى: " وأسروا النجوى الذين ظلموا " على أحد المذاهب وقوله عز وجل " خشعا أبصارهم " ومثل: يتعاقبون فيكم ملائكة، وقوله في صحيح مسلم وغيره: " حتى احمرتا عيناه " واشباهه كثيرة معروفة. وقال سيبويه: لغة أكلوني البراغيث ليست في القرآن قال والضمير في وأسروا النجوى فاعل والذين بدل منه. وكنية البرغوث أبو طافر وأبو عدي وأبو الوثاب، ويقال له طامر بن طامر. وهو من الحيوان الذي له الوثب الشديد ومن لطف الله تعالى به، أنه يثب إلى ورائه ليرى من يصيده، لأنه لو وثب إلى أمامه، لكان ذلك أسرع إلى حمامه. وحكى الجاحظ عن يحيى البرمكي، أن البرغوث من الخلق الذي يعرض له الطيران، كما يعرض للنمل. وهو يطيل السفاد، ويبيض ويفرخ بعد أن يتولد، وهو ينشأ أولاً من التراب، لا سيما في الأماكن المظلمة، وسلطانه في أواخر فصل الشتاء وأول فصل الربيع، وهو أحدب نزاء. ويقال: إنه على صورة الفيل له أنياب يعض بها وخرطوم يمص به.
وحكمه: تحريم الأكل واستحباب قتله للحلال والمحرم، ولا يسب لما روى الإمام أحمد والبزار والبخاري في الأدب والطبراني في الدعوات عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يسب برغوثاً. فقال: لا تسبه فإنه أيقظ نبياً لصلاة الفجر.
وفي معجم الطبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال: ذكرت البراغيث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنها توقظ للصلاة أي لصلاة الفجر " . وفيه عن علي رضي الله تعالى عنه قال: نزلنا منزلاً فآذتنا البراغيث فسببناها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوها فنعمت الدابة فإنها أيقظتكم لذكر الله تعالى " .
ويعفى عن قليل دمها في الثوب والبدن لعموم البلوى به وعسر الاحتراز. وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على التجاوز والعفو عن دم البراغيث، ما لم يتفاحش. قال أصحابنا: ولا خلاف في العفو عن قليله إلا إذا حصل بفعله كما إذا قتله في ثوبه أو بدنه ففي العفو عنه وجهان: أصحهما العفو أيضاً. وكذلك كل ما ليس له نفس سائلة كالبق والبعوض وشبههما. وسئل شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام عن ثوب فيه دم البراغيث هل يجوز للإنسان أن يلبسه رطباً ثم يصلي فيه؟ وإذا عرق فيه هل يصلي فيه؟ وهل يتنجس بذلك بدنه أو يعفي عنه؟ وهل يندب له غسله قبل وقته المعتاد؟ فأجاب نعم ينجس الثوب والبدن بذلك ولا يؤمر بغسله إلا في الأوقات المعتادة وغسله في غير ذلك ورع خارج عما كان السلف عليه. وكانوا أحرص على حفظ أديانهم من غيرهم. وأما الكثير من دم البراغيث فالأصح عند المحققين، كما قاله النووي، العفو عنه مطلقاً سواء انتشر بعرق أم لا.
فائدة: مجربة صحيحة، للبراغيث وهو أن تأخذ قصبة فارسية، وتلطخها بلبن حمارة وشحم تيس وتغرسها في وسط الدار ثم تقول 25 مرة: أقسمت عليكم أيها البراغيث، إنكم جند من جنود الله من عهد عاد وثمود، وأقسصت عليكم بخالق الوجود، الفرد الصمد المعبود، أن تجتمعوا إلى هذا العود، ولكم علي المواثيق والعهود، إن لا أقتل منكم والداً ولا مولود، فإنها تجتمع فإذا اجتمعت إلى العود فخذها وارمها إلى مكان آخر ولا تقتل منها أحداً يبطل السر ثم تكنس البيت وتقول عليه 45 مرة " وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون " فإن فعل ذلك، لم يدخل البيت برغوث أبداً وهو سر لطيف مجرب.
فائدة: سئل مالك رحمة الله عليه، عن البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها. فأطرق ملياً، ثم قال ألها نفس. قالوا: نعم. قال: ملك الموت يقبض أرواحها. ثم قرأ قوله تعالى: " الله يتوفي الأنفس حين موتها " الآية. ويدل له ما يأتي في البعوض.
الأمثال: قالوا : " أطمر من برغوث " . " وأطير من برغوث " .
وخاصيته: اللسع والأذى. قال بعض الأعراب يصف البراغيث وقد سكن مصر:
تطاول في الفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الفضا ليل علي يطول
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث على سبيل
وقد أجاد مجد الدين أبو الميمون الكناني حيث قال ملغزاً في البراغيث:

ومعشر يستحل الناس قتلهم ... كما استحلوا دم الحجاج في الحرم
إذا سفكت دماً منهم فما سفكت ... يداي من دمه المسفوك غير دمي
وقال أبو الحسن بن سكرة الهاشمي في مليح يعرف بابن برغوث:
بليت ولا أقول بمن لاني ... متى ما قلت من هو يعشقوه
حبيب قد نفى عني رقادي ... فإن أغمضت أيقظني أبوه
ومن محاسن شعره:
كأن خالا لاح في خده ... للعين في سلسلة من عذار
أسود يستخدم في جنة ... قيده مولاه خوف الفرار
وله أيضاً:
وما عشقي له وحشاً لأني ... كرهت الحسن واخترت القبيحا
ولكن غرت أن أهوى مليحاً ... وكل الناس يهوون المليحا
وله أيضاً:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل أنا ظالم
فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم
وقيل: إن هذين البيتين للعباس بن الأحنف. توفي ابن سكرة سنة خمس وثمانين وثلثمائة.
فائدة: روى ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل إن عامل افريقية كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يشكو إليه الهرام والعقارب. فكتب إليه وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول " وما لنا أن لا نتوكل على الله " الآية. قال: زرعة عبد الله أحد رواته. وينفع من البراغيث وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء آية أخرى نظير هذه، ذكرها في فردوس الحكمة.
وفي كتاب الدعوات للمستغفري عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، وشرح المقامات للمسعودي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا آذاك البرغوث، فخذ قدحاً من ماء، واقرأ عليه سبع مرات " وما لنا أن لا نتوكل على الله " الآية. ثم تقول إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا، ثم ترشه حول فراشك، فإنك تبيت آمنا من شرها. وقال حسين بن إسحاق: والحيلة في طرد البراغيث أن يؤخذ شيء من الكبريت والرواند، فيدخن بها في البيت، فإنهن يهربن أو يمتن، أو يحفر في البيت حفيرة، ويلقي فيها ورق الدفلى، فإنهن يأوين إليها كلهن فيقعن فيها. وقال الرازي: يرش البيت بطبيخ الشونيز فإنه يقتل براغيثه. وقال غيره: إذا نقع السذاب في ماء ورش في بيت ماتت براغيثه. وإذا بخر البيت بمشاق الكتان القديم وقشور النارنج لا تعود البراغيث إليه أبداً. وإذا دخل البرغوث في أذن الإنسان اليمنى، فليمسك بيده اليمنى خصية نفسه اليسرى، وإذا دخل في أذنه اليسرى فليسمك بيده اليسرى خصية نفسه اليمنى، فإنه يخرج سريعاً.
التعبير: البراغيث في المنام أعداء ضعاف طعانون، وتعبر أيضاً بأوباش الناس، وقال جاماسب: من قرصه برغوث نال مالا.
البرا: بضم الباء طائر يسمى السمويل وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة. البرقانة: الجرادة المتلونة وجمعها برقان قاله ابن سيده.
البرقش: بكسر الباء الموحدة ثم راء مهملة فقاف فشين معجمة، طائر صغير مثل العصفور، ويسميه أهل الحجاز الشرشور وأما أبو براقش، فسيأتي في آخر الباب إن شاء الله تعالى. وبراقش إسم كلبة ضرب بها المثل فقالوا " على أهلها دلت براقش " . لأنها مسمعت وقع حوافر الدواب، فنبحت فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم.
البركة: بالضم طائر من طيور الماء والجمع برك. قال زهير يصف قطاة فرت من صقر إلى ماء جار على وجه الأرض:
حتى استغاثت بماء لا رشاء له ... بين الأباطح في حافاته البرك
قال ابن سيده: البركة من طير المساء، والجمع برك وأبراك وبركان. وعندي إن ابراكا وبركانا جمع الجمع، والبركة أيضاً الضفدع، وقد فسر به بعضهم قول زهير في حافاته البرك انتهى كلامه. قال: والبرك: جماعة الإبل الباركة الواحد بارك والأنثى باركة قاله في العباب.
البشر: الإنسان الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في ذلك سواء. وقد يثنى وفي التنزيل أنؤمن لبشرين مثلنا والجمع أبشر.
البط: طائر الماء الواحدة بطة، وليست الهاء للتأنيث وإنما هي للواحد من الجنس يقال: هذه بطة للذكر والأنثى جميعاً مثل حمامة ودجاجة وليس بعربي محض والبط عند العرب صغاره وكباره اوز وحكمه، وخواصه كالاوز.

وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن رويس، قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يا يوم نحر فقرب إلينا خزيرة، فقلنا: أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط. يعنون الأوز فإن الله تعالى قد أكثر الخير. فقال: يا ابن رويس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل لخليفة من مال الله تعالى إلا قصعتان: قصعة يأكلها، وقصعة يضعها بين أيدي الناس " .
وفي كامل ابن عدي في ترجمة علي بن زيد بن جدعان قال سفيان بن عيينة: سمعت علي بن زيد بن جدعان سنة سبع وستين يقول: مثل النساء إذا اجتمعن بمنزلة البط إذا صاحت واحدة صحن جميعاً.
فرع: قال الماوردي: البط الذي لا يطير من الاوز لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، لأنه ليس بصيد، وقال غيره: الطيور المائية التي تغوص في الماء، وتخرج منه محرمة على المحرم، ومثلوه بالبط. أما الذي لا يعيش إلا في الماء كالسمك فلا يحرم صيده. ولا جزاء فيه والجراد من صيد البر يجب الجزاء بقتله على الصحيح.
ومن الأمثال الساشرة بين العامة: " أو للبط تهددين بالشط " قلت: وقد أذكرني هذا ما حكاه القاضي أحمد بن خلكان رحمه الله في ترجمة السلطان نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سنان بن سليمان بن محمد الملقب براشد الدين صاحب القلاع الاسماعيلية مكاتبات، فكتب السلطان إليه كتاباً يهدده فيه فكتب سنان جوابه أبياتاً ورسالة وهما:
ياللرجال لأمر هال مفظعه ... ما مر قط على سمعي توقعه
يا ذا الذي بقراع السيف هددنا ... لا قام قائم جنبي حين تصرعه
قام الحمام إلى البازي يهدده ... واستيقظت لأسود الغاب اضبعه
أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
وقفنا على تفصيله وجمله، وعلمنا ما تهددنا به من قوله وعمله، فيالله العجب من ذبابة تطن في إذن فيل، وبعوضه تعد في التماثيل، ولقد قالها قبلك آخرون، فدمرنا عليهم وما كان لهم ناصرون، أو للحق تدحضون، وللباطل تنصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأما ما صدرت به من قولك من قطع راسي وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض. كم بين قوي وضعيف، ودني وشريف؟ وإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، قلنا اسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " ما أوذي نبي ما أوذيت " .
وقد علمتم ما جرى على عترته، وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى، إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغصوبون لا غاصبون. وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، وقد علمتم ظاهر حالنا، وكيف قتال رجالنا، وما يتمنونه من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت، قال: " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين " .
وفي أمثال العامة السائرة: " أو للبط تهددين بالشط " .
فهيء للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرن عليك منك، ولأفنينهم فيك عنك، ولا تكونن كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، وإذا وقفت على كتابنا فكن لأمرنا بالمرصاد، ومن حالك على اقتصاد، واقرأ أول النحل وآخر صاد، ثم اختتمها بهذين البيتين.
بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيه واستقر عمودها
فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى ... مغارسها قد ما وفينا جديدها
ويشبه هذا ما حكاه أيضاً في ترجمة يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب، وكان بينه وبين الأدفونش صاحب طليطلة، مكاتبات قال: بعث الأدفونش رسولاً إلى الأمير يعقوب يتوعده ويتهدده، ويطلب منه بعض الحصون، وكتب إليه رسالة من إنشاء وزيره ابن النجار وهي: بإسمك أللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح.
أما بعد: فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب، ولا في عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية

كما أني أمير الملة النصرانية، وقد عملت الآن ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل، والتواكل والتكاسل، واهمالهم أمر الرعية، واخلادهم إلى الراحة والأمنية، وأنا أسوسهم بحكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وامثل بالرجال، وأذيقهم عذاب الهون وشديد النكال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم إذا أمكنتك يد القدرة، وساعدك من عساكرك وجنودك ذو رأي وخبرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى قد فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً رحمة منه ومنا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعاً، ولا تملكون امتناعاً، وقد حدثنا عنك إنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك سنة بعد أخرى، وتقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك، أم التكذيب بوعد ربك؟ ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً، ولعله لا يسوغ لك التقدم فيه سبيلا، وها أنا أقول لك، ما فيه الراحة لك، واعتذر عنك ولك، على أن تفي بالعهود والمواثيق، والاستكثار من الرهان، وترسل إلي جملة من عبيدك بالمراكب والشواني، والطرائد والمسطحات، وإلا جزت بجملتي إليك، فأقاتلك في أعز الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت لي اليد العليا عليك، واستحقيت إمارة الملتين، والحكم على البرين، والله يوفق للسعادة، ويسهل الإرادة لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فمزق يعقوب الكتاب وكتب على قطعة منه " ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " الجواب ما ترى لا ما تسمع واستشهد ببيت المتنبي:
ولا كتب إلا المشرفية عنده ... ولا رسله إلا الخميس العرمرم
ثم أمر بكتب الاستنفار، واستدعى الجيوش من الأمصار، وضربت السرادقات من يومه بظاهر البلد، وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبته فعبر فيه إلى الأندلس، ودخل بلاد الفرنج فكسرهم كسرة شنيعة، وعاد بغنائمهم. وكان الأمير يعقوب متمسكاً بالشرع يأمر بالمعروف، ويقيم الحدود في أهل بيته، كما يقيمها في الناس أجمعين وأمر برفض فروع الفقه، وأن الفقهاء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحداً، وأن تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم، من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث، والإجماع والقياس.
وقد وصل إلينا من المغرب جماعة على تلك الطريقة منهم: أبو عمرو وأبو الخطاب ابنا دحية ومحيى الدين بن عربي الصوفي، " صاحب الفصوص " . " والفتوحات المكية " . " وعنقاء مغرب " . وغيرهم. وتوفي الأمير يعقوب في سنة تسع أو عشر وستمائة رحمة الله تعالى عليه.
ولنعد إلى ذكر السلطان محمود، قال ابن الأثير: بلغ من عدل نور الدين الشهيد، أنه أول من بنى داراً لكشف الظلامات، وسماها دار العدل، وسببه أنه لما أقام بدمشق بأمرائه وفيهم أسد الدين شيركوه، تعدى كل منهم على من جاوره، فكثرت الشكاوى إلى القاضي كمال الدين السهروردي ، فأنصف بعضهم من بعض، ولم يقدر على الإنصاف من شيركوه، لأنه كان أكبر الأمراء فبلغ ذلك نور الدين الشهيد، فأمر ببناء دار العدل، فلما سمع شيركوه قال لنوابه: ما بنى نور الدين هذه الدار إلا بسببي، وإلا فمن يمتنع على القاضي كمال الدين؟ والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه! فامضوا إلى كل من كان بينكم وبينه شيء فافصلوا الحال معه، وأرضوه، ولو أتى على جميع ما بيدي. قال: فظلم رجل بعد موت نور الدين الشهيد فشق ثوبه واستغاث: يا نور الدين فاتصل خبره بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فأزال ظلامته فبكى الرجل أشد من الأول، فسئل عن ذلك فقال: أبكي على سلطان عدل فينا بعد موته.
وتوفي نور الدين الشهيد في شوال سنة تسع وستين وخمسمائة بقلعة دمشق بعلة الخوانيق

وكان الأطباء قد أشاروا. عليه بالفصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع ودفن بالقلعة. ثم نقل إلى تربته بمدرسته التي أنشأها عند باب سوق الخواصين. والدعاء عند قبره مستجاب وقد جرب، وكان رحمه الله، ملكاً عادلاً عابداً ورعاً متمسكاً بالشريعة، مائلاً إلى أهل الخير مجاهداً، كثير الصدقات بنى المدارس بجميع بلاد الشأم، والمارستان بدمشق، ودار الحديث بها وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وبني الرباطات للصوفية والفنادق فى المنازل، وأثر في الإسلام آثاراً حسنة لم يسبق إليها وانتزع من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة، ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى.
وتوفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة بها، قال ابن خلكان: ولما مات كتب القاضي الفاضل ساعة موته بطاقة إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب، مضمونها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه، وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودعت أباك مخدومي وداعاً لا تلاقي بعده وقبلت عني وعنك خده وأسلمته إلى الله عز وجل مغلوب الحيلة، ضعيف القوة راضياً عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الأجناد المجندة والأسلحة والأعمدة ما لا يرد البلاء، ولا يملك دفع القضاء وتدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف، وأما الوصايا فلا يحتاج إليها، والآراء فقد شغلتني المصائب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع الأتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم. وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته، وهو البلاء العظيم، والسلام. وكان رحمه الله مع سعة ملكه كثير التواضع، قريباً من الناس، رحيم القلب، كثير الاحتمال والمداراة يميل لأهل الفضل ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجلسه وكان كثيراً ما ينشد قول محمد ين الحسين الحميري:
وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولي به فرحا ... وكاد يهتك سر الحب بي شغفا
ثم انتبهت وآمالي تخيل لي ... نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا
وكان رحمه الله كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين وهما:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... وللمشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أخيب
وعمر رحمه الله ستاً وخمسين سنة وشهوراً.
البطس: أنواع من السمك لها مرارات يكتب بها الكتب فإذا جففت قرئت في الظلام كما نقرأ بالنهار في ضوء الشمس ذكر ذلك صاحب المعطار.
البعوض: دويبة. قال الجوهري: إنه البق الواحدة بعوضة وهو وهم والحق أنه صنفان، وهو يشبه القراد لكن أرجله خفيفة، ورطوبته ظاهرة ويسمى بالعراق والشأم الجرجس. قال الجوهري: وهو لغة في القرقس، وهو البعوض الصغار، والبعوض على خلقة الفيل إلا أنه أكثر أعضاء من الفيل فإن للفيل أربع أرجل وخرطوماً وذنباً. وله مع هذه الأعضاء رجلان زائدتان، وأربعة أجنحة وخرطوم الفيل مصمت، وخرطومه مجوف نافذ للجوف، فإذا طعن به جسد الإنسان استقى الدم وقذف به إلى جوفه فهو له كالبلعوم والحلقوم، ولذلك اشتد عضها وقويت على خرق الجلود الغلاظ قال الراجز:
مثل السفاة دائماً طنينها ... ركب في خرطومها سكينها
ومما ألهمه الله تعالى إنه إذا جلس " على عضو من أعضاء الإنسان، لا يزال يتوخى بخرطومه

المسام التي يخرج منها العرق، لأنها أرق بشرة من جلدة الإنسان فإذا وجدها وضع خرطومه فيها، وفيه من الشره أن يمص الدم إلى أن ينشق ويموت أو إلى أن يعجز عن الطيران، فيكون ذلك سبب هلاكه. ومن عجيب أمره أنه ربما قتل البعير وغيره، من ذوات الأربع، فيبقى طريحاً في الصحراء، فتجتمع السباع حوله والطير التي تأكل الجيف فمن أكل منها شيئاً مات لوقته. وكا بعض الجبابرة من الملوك بالعراق يعذب بالبعوض، فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجرداً إلى بعض الآجام التي بالبطائح ويتركه فيها مكتوفاً، فيقتل في أسرع وقت، وأقرب زمان وما أحسن قول أبي الفتح البستي في هذا المعنى:
لا تستخفن الفتى بعداوة ... أبداً وإن كان العدو ضئيلاً
إن القذى يؤذي العيون قليله ... ولربما جرح البعوض الفيلا
وما ألطف ما قال بعضهم:
لا تحقرن صغيراً في عداوته ... إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
ونحوه قول أبي نصر السعدي :
ولا تحقرن عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن الحسام يحز الرقاب ... ويعجز عما تنال الإبر
وله أيضاً وقيل إنه لجمال الدين بن مطروح:
يا من لبست عليه أثواب الضنا ... صفراً موشحة بحمر الأدمع
أدرك بقية مهجة لو لم تذب ... أسفا عليك رميتها عن أضلعي
ومن محاسن شعره أيضاً قوله :
لما وقفنا للوداع وصارما ... كنا نظن من النوى تحقيقا
نثروا على ورق الشقائق لؤلؤا ... ونثرت من ورق البهار عقيقا
ونحوه قول إبراهيم علي القيراوني صاحب زهر الأدب وغيره وكان كلفاً بالمعذرين:
ومعذرين كأن نبت خدودهم ... أقلام مسك تستمد خلوقا
نظموا البنفسج بالشقيق ونضدوا ... تحت الزبرجد لؤلؤاً وعقيقا
وروى الترمذي، وقال حديث حسن صحيح عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء " . وكذلك رواه الحاكم وصححه.
وقال الشاعر في ذلك:
إذا كان شيء لا يساوي جميعه ... جناح بعوض عند من كنت عبده
وأشغل جزء منه كلك ما الذي ... يكون على ذا الحال قدرك عنده
ومعنى هوان الدنيا على الله تعالى أنه سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقاً موصلة إلى ما هو المقصود بنفسه. وإنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء إنما جعلها دار محنة وبلاء وإنه ملكها في الغالب الجهلة والكفرة، وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال. وحسبك بها هواناً على الله أنه سبحانه وتعالى، صغرها وحقرها وأبغضها، وأبغض أهلها ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها، إلا بالتزود منها، والتأهب للإرتحال عنها.

ويكفي في ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه أو عالم أو متعلم " وهو حديث حسن غريب. ولا يفهم من هذا اباحة لعن الدنيا وسبها مطلقاً. لما روى أبو موسى الأشعري، رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر، إن العبد إذا قال: لعن الله الدنيا قالت الدنيا لعن الله أعصانا لربه، خرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي وهذا يقتضي المنع من سب الدنيا ولعنها. ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدنيا ما كان منها مبعداً عن ذكر الله وشاغلاً عنه، كما قال بعض السلف كل ما يشغلك عن ذكر الله من مال وولد فهو مشؤوم عليك، وهو الذي نبه عليه الله تعالى بقوله: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد " وأما ما كان من الدنيا، يقرب من الله ويعين على عبادته، فهو المحمود بكل لسان المحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل يرغب فيه ويحب، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال: إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم، وهو المصرح به في قوله " نعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر " ، وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين وفي الإحياء للغزالي في الباب السادس من أبواب العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب ولا يزن عند الله جناح بعوضة " . وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " . رواه البخاري في التفسير، ومثله في التوبة. قال العلماء: معنى هذا الحديث أنهم لا ثواب لهم وأعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن عند الله شيئاً، وقيل: المراد المجاز والاستعارة كأنه قال لا قدر لهم عندنا يوم القيامة وفيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما في ذلك من تكلف المطاعم الزائدة على قدر الكفاية وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن أبغض الرجال إلى الله الحبر السمين " . قال وهب بن منبه لما أرسل الله تعالى البعوض على النمروذ، اجتمع منه في عسكره ما لا يحصى عدداً، فلما عاين النمروذ ذلك، انفرد عن جيشه ودخل بيته وأغلق الأبواب وأرخى الستور ونام على قفاه مفكراً، فدخلت بعوضة في أنفه وصعدت إلى دماغه فعذب بها أربعين يوماً حتى إنه كان يضرب برأسه الأرض وكان أعز الناس عنده من يضرب رأسه ثم سقطت منه كالفرخ وهي تقول كذلك يسلط الله رسله على من يشاء من عباده ثم هلك حينئذ. وقال محمد بن العباس الخوارزمي الطبرخزي في الوزير أبي القاسم المزني لما قبض عليه:
لا تعجبوا من صيد صعوبازيا ... إن الأسود تصاد بالخرفان
قد غرقت أملاك حمير فأرة ... وبعوضة قتلت بني كنعان
وروى جعفر الصادق بن محمد الباقر، عن أبيه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عليه السلام، عند رأس رجل من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارفق بصاحبي فإنه مؤمن " . قال: " إني بكل مؤمن رفيق وما من أهل بيت إلا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات ولو أني أردت قبض روح بعوضة ما قدرت حتى يكون من الله تعالى الأمر بقبضها " . قال جعفربن محمد بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة انتهى.
ومن هذا وما تقدم عن مالك في البراغيث، يعلم أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح والبعوضة على صغر جرمها قد أودع الله تعالى في دماغها قوة الحفظ وفي وسطه قوة الفكر وفي مؤخره قوة الذكر. وخلق لها حاسة البصر وحاسة اللمس وحاسة الشم، وخلق لها منفذاً للغذاء ومخرجاً للفضلة، وخلق لها جوفاً وأمعاء وعظاماً. فسبحان من قدر فهدى ولم يخلق شيئاً من المخلوقات سدى وأنشد الزمخشري في تفسير سورة البقرة:
يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
امنن علي بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول
وتقل ابن خلكان عن بعض الفضلاء، أن الزمخشري أوصى أن تكتب هذه الأبيات على قبره. ويروي عوض امنن علي بتوبة كما قال بعضهم:
اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول
وفي تاريخ ابن خلكان وغيره أن الزمخشري كان يعتقد الاعتزال ويتظاهر به، وكان إذا استأذن على صاحب له بالدخول، يقول: أبو القاسم المعتزلي بالباب. وأول ما صنف من الكتب الكشاف فكتب في أول خطبته: الحمد الله الذي خلق القرآن فقيل له: إن تركته على هذه الهيئة، هجره الناس فغيره، وقال: الحمد لله الذي جعل القرآن وجعل عندهم بمعنى خلق. ويوجد في كثير من النسخ الحمد الله الذي أنزل القرآن وهو من إصلاح الناس لا من إصلاح المصنف فافهم. توفي الزمخشري ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وقد تكلم في الإحياء في باب المحبة على خلق البعوضة وصفتها وما أودعه الله تعالى فيها من الأسرار.
فائدة: رأيت في كتاب الدعاء للشيخ الإمام العلامة أبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي، ويعرف بابن أبي رنده بالراء المهملة المفتوحة وتسكين النون، وهو إمام ورع أديب متقلل، وفاته بالأسكندرية سنة اثنتين وخمسمائة، عن مطرف بن عبد الله بن أبي مصعب المدني أنه قال: دخلت على المنصور فوجدته مغموماً حزيناً قد امتنع من الكلام، لفقد بعض أحبته فقال لي: يا مطرف طرقني من الهم ما لا يكشفه إلا الله الذي بلا به، فهل من دعاء أدعو به عسى يكشفه الله عني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني محمد بن ثابت عن عمر بن ثابت البصري قال: دخلت في أذن رجل من أهل البصرة بعوضة حتى وصلت إلى صماخه فأنصبته وأسهرته ليله ونهاره، فقال له رجل من أصحاب الحسن البصري: يا هذا ادع بدعاء العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا به في المفازة وفي البحر فخلصه الله تعالى. فقال له الرجل: وما هو رحمك الله؟ فقال قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: بعث العلاء بن الحضرمي في جيش، كنت فيهم، إلى البحرين فسلكنا مفازة فعطشنا عطشاً شديداً حتى خفنا الهلاك، فنزل العلاء وصلى ركعتين ثم قال: يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم اسقنا، فجاءت سحابة كأنها جناح طائر، فقعقعت علينا وأمطرتنا حتى ملأنا الانية، وسقينا الركاب ثم انطلقنا حتى أتينا على خليج من البحر، ما خيض قبل ذلك اليوم، ولا خيض بعده، فلم نجد سفناً فصلى العلاء ركعتين، ثم قال: يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم أجرنا، ثم أخذ بعنان فرسه ثم قال بسم الله جوزوا. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فمشينا على الماء فوالله ما ابتل لنا قدم ولا خف ولا حافر. وكان الجيش أربعة آلاف. قال فدعا الرجل بها فوالله ما برحنا حتى خرجت من أذنه لها طنين، حتى صكت الحائط وبرأ الرجل.
قال: فاستقبل المنصور القبلة ودعا بهذا الدعاء ساعة ثم أقبل بوجهه إلي وقال: يا مطرف قد كشف الله عني ما كنت أجده من الهم، ودعا بالطعام فأجلسني فأكلت معه. ويقرب من هذا ما حكاه ابن خلكان في ترجمة موسى الكاظم بن جعفر الصادق أن هارون الرشيد حبسه في بغداد ثم دعا صاحب شرطته ذات يوم فقال له: رأيت في منامي حبشياً أتاني، ومعه حربة، وقال: إن لم تخل عن موسى بن جعفر وإلا نحرتك بهذه الحربة فاذهب فخل عنه وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له إن أحببت المقام عندنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فامض. قال صاحب الشرطة: ففعلت ذلك وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجباً فقال: أنا أخبرك بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا موسى حبست مظلوماً، فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في السجن، قل: يا سامع كل صوت ويا سابق كل فوت ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك العظام وبإسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين يا حليماً ذا أناة لا يقدر على آناته يا ذا المعروف الذي لا ينقطع معروفه أبداً، ولا نحصي له عدداً، فرج عني. فكان ما ترى.

وتوفي موسى الكاظم في رجب سنة ثلاث وقيل سنة سبع وثمانين ومائة ببغداد مسموماً، وقيل إنه توفي في الحبس وكان الشافعي يقول قبر موسى الكاظم الترياق المجرب، وقد أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه الخطيب أبو بكر في تاريخه وابن خلكان أيضاً في ترجمة يعقوب بن داود أن المهدي حبسه في بئر وبنى عليها قبة فمكث فيها خمس عشرة سنة وكان يدلي له فيها كل يوم رغيف خبز وكوز ماء، ويؤذن بأوقات الصلاة قال فلما كان في رأس ثلاث عشرة سنة أتاني آت في منامي فقال:
قد حن يوسف إلى رب فأخرجه ... من قعر جب وبيت حوله غمم
قال: فحمدت الله تعالى وقلت: أتاني الفرج، فمكثت حولاً لا أرى شيئاً، ففي رأس الحول أتاني ذلك الآتي فأنشدني:
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم خليقته أمر
قال: ثم أقمت حولاً آخر لا أرى شيئاً، ثم أتاني ذلك الآتي في رأس الحول فأنشدني:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي الغريب
قال: فلما أصبحت نوديت فظننت أني أوذن بالصلاة فأدلي لي حبل، فربطت نفسي به ونشلت من البئر فانطلق بي، فأدخلت على الرشيد فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فقلت السلام عليك يا أمير المؤمنين المهدي فقال لي: لست به. فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي. فقال لي: لست به. فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: الرشيد، فقلت الرشيد. فقال: يا يعقوب، ما شفع فيه إلى أحد غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك وأخرجتك. وكان يعقوب يحمل الرشيد على عنقه وهو صغير يلاعبه ثم أمر له بجائزة وصرفه.
الحكم: يحرم أكلها لاستقذارها.
فائدة: روى البخاري في الأدب والترمذي في مناقب الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، من حديث عبد الرحمن بن أبي نعيم قال: كنت عند ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فسأله رجل عن دم البعوض فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق. فقال ابن عمر رضي الله عنهما أنظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول : " هما ريحانتاي من الدنيا " . قال: ولم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، من الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وروى ابن حبان والترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: " كان الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر والرأس والحسين أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك " .

فائدة أخرى: ذكر في الروض الزاهر عن الشعبي، قال: لما بلغ الحجاج أن يحيى بن يعمر يقول: إن الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحيى بن يعمر بخراسان. فكتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم والي خراسان أن ابعث إلي يحيى بن يعمر، فبعث به إليه قال الشعبي: وكنت عند الحجاج حين أتي به إليه، فقال له الحجاج: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أجل يا حجاج. قال الشعبي: فعجبت من جراءته بقوله يا حجاج! فقال له الحجاج: والله إن لم تخرج منها، وتأتني بها مبينة واضحة من كتاب الله تعالى، لألقين الأكثر منك شعراً. ولا تأتني بهذه الآية " ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم " قال: فإن خرجت من ذلك، وأتيتك بها واضحة مبينة من كتاب الله تعالى، فهو أماني؟ قال: نعم. فقال: قال الله تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا وعيسى والياس أثم قال يحيى بن يعمر: فمن كان أبا عيسى وقد ألحقه الله بذرية إبراهيم؟ وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين. ومحمد صلوات الله عليه وسلامه. فقال له الحجاج: ما أراك إلا قد خرجت، وأتيت بها مبينة واضحة، والله لقد قرأتها وما علمت بها قط، وهذا من الاستنباطات البديعة. ثم قال له الحجاج: أخبرني عني هل ألحن؟ فسكت. فقال: أقسمت عليك. فقال: أما إذ أقسمت علي أيها الأمير، فإنك ترفع ما يخفض وتخفض ما يرفع. فقال: ذاك والله اللحن السيء. ثم كتب إلى قتيبة بن مسلم: إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمر على قضائك والسلام. وقيل: إن الحجاج قال ليحيى: أسمعتني ألحن؟ قال: في حرف واحد. قال: في أي؟ قال: في القرآن. قال: ذلك أشنع ما هو! قال: تقول " قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم " إلى قوله: " أحب إليكم، فتقرأها بالرفع. فقال له الحجاج: لا جرم تسمع لي لحناً. وألحقه بخراسان. قال الشعبي: كان الحجاج لما طال عليه الكلام نسي ما ابتدأ به. وذكره ابن خلكان في ترجمة يحيى بن يعمر، وفيه بعض مخالفة. قلت: في كلام يحيى تصريح بأن الضمير في ومن ذريته، يعود على إبراهيم والذي في الكواشي والبغوي وغيرهما أن الضمير يعود إلى نوح، لأن الله تعالى ذكر من جملتهم يونس ولوطاً فقال: " وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلا فضلنا على العالمين " ويونس ولوط من ذرية نوح لا من ذرية إبراهيم، لكن استدلاله صحيح على القول الثاني أيضاً. قال ابن خلكان: كان يحيى بن يعمر تابعياً عالماً بالقرآن والنحو، وكان شيعياً من الشيعة الأول، يتشيع تشيعاً حسناً، يقول بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. قال ابن خلكان: خطب أمير بالبصرة فقال: اتقوا الله فإنه من يتق الله فلا هوارة عليه. فلم يدروا ما قال الأمير فسألوا أبا سعيد يحيى بن يعمر العدواني، فقال: الهوارة الضياع، كأنه قال من اتقى الله فلا ضياع عليه. والهورات المهالك واحدها هورة. وحدث الأصمعي بهذا الحديث، فقال: إن الغريب لواسع، لم أسمع بهذا قط. وتوفي يحيى بن يعمر سنة تسع وعشرين ومائة ويعمر بفتح الياء والميم بينهما عين مهملة ساكنة وقيل بضم الميم والأول أصح انتهى.
تتمة: قال نصر الله بن يحيى، وكان من الثقات وأهل السنة: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين ما تم فقال لي: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا. فقال: إسمعها منه. ثم انتبهت فبادرت إلى حيص بيص، فذكرت له الرؤيا فشهق وبكى وحلف بالله لم تخرج من فمه ولا خطه إلى أحد وما نظمها إلا في ليلته ثم أنشدني قوله :
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتمو قتل الأسارى وطالما ... عدونا على الأسرى فنعفو ونصفح
وحسبكمو هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح

وإسم الحيص بيص سعد بن محمد أبو الفوارس التميمي شاعر مشهور، ويعرف بابن الصيفي ولقب بالحيص بيص لأنه رأى الناس يوماً في حركة مزعجة وأمر شديد، فقال: ما للناس في حيص بيص؟ فبقي عليه هذا اللقب. ومعنى هاتين الكلمتين الشدة والاختلاط، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي وغلب عليه الأدب ونظم الشعر وكان مجيداً فيه وكان إذا سئل عن عمره يقول: أنا أعيش في الدنيا مجازفة لأنه كان لا يحفظ مولده وتوفي سنة أربع وسبعين وخمسمائة. ومن محاسن شعره:
يا طالب الرزق في الآفاق مجتهداً ... أقصر عناك فإن الرزق مقسوم
الرزق يسعى إلى من ليس يطلبه ... وطالب الرزق يسعى وهو محروم
وله أيضاً:
يا طالب الطب من داء أصيب به ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء
هو الطبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق في الماء
وله أيضاً:
إله عما استأثر الله به ... أيها القلب ودع عنك الحرق
فقضاء الله لا يدفعه ... حول محتال إذا الأمر سبق
وله أيضاً:
أنفق ولا تخش إقلالاً فقد قسمت ... على العباد من الرحمن ارزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال إنفاق
الأمثال: قالوا : " أعز من مخ البعوض " وقالوا : " كلفتني مخ البعوض " ، يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة. " وأضعف من بعوضة " .
فائدة: قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها " . قال الحسن وغيره: سبب نزولها ان الكفار أنكروا ضرب الأمثال، في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت، وقيل لما ضرب الله تعالى المثلين، في أول السورة للمنافقين، يعني قوله تعالى: " مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً " وقوله تعالى: " أو كصيب من السماء " قالوا: والله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال. فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: المعنى فما فوقها في الصغر. وقال قتادة وابن جريج وغيرهما: المعنى في الكبر. قال ابن عطية: الكل محتمل والله أعلم.
البعير: سمي بعيراً لأنه يبعر، يقال: بعر البعير بفتح العين فيهما بعراً بإسكان العين كذبح يذبح ذبحاً، قاله ابن السكيت وهو إسم على الذكر والأنثى وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، فالجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والقعود بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية، وحكي عن بعض العرب: صرعتني بعيري، أي ناقتي، وشربت من لبن بعيري. وإنما يقال له بعيراً إذا أجذع، والجمع أبعرة وأباعر وبعران. قال مجاهد في قوله تعالى: " ولمن جاء به حمل بعير " أراد بالبعير الحمار، لأن بعض العرب يقول للحمار بعير، وهذا شاذ، ولو أوصى ببعير تناول الناقة على الأصح. وهو كالخلاف في تناول الشاة الذكر، وإن كان عكسه في الصورة. وللوجه الثاني عدم التناول. وهو المحكي عن النص، والمعروف في كلام الناس خلاف كلام العرب تتزيلاً للبعير منزلة الجمل. قال الرافعي: وربما أفهمك كلامهم توسطاً بين تنزيل النص، علا ما إذا عم العرف باستعمال البعير بمعنى الجمل، والعمل بما تقتضيه اللغة إذا لم يعم لا جرم. قال الشيخ الإمام السبكي: إن تصحيح خلاف النص في مثل هذه المسائل بعيد، لأن الشافعي رضي الله عنه اعرف باللغة، فلا يخرج عنها إلا لعرف مطرد، فإن صح عرف بخلاف قوله اتبع، وإلا فالأولى اتباع قوله.

فرع: لو وقع بعيران في بئر، أحدهما فوق الآخر، فطعن الأعلى ومات الأسفل بثقله، حرم الأسفل لأن الطعنة لم تصبه، فإن أصابتها حلا جميعاً. فإذا شك هل مات بالثقل أم بالطعنة النافذة، وقد علم أنها اصابته قبل مفارقة الروح حل. وإن شك هل أصابته قبل مفارقة الروح أم بعدها؟ قال البغوي في الفتاوى: يحتمل وجهين، بناء على أن العبد الغائب المنقطع خبره هل يجزئ اعتاقه عن الكفارة أم لا؟ ومن ذلك ما لو رمى غير مقدور عليه، فصار مقدوراً عليه، ثم أصاب غير مذبحه لم يحل. ولو رمى مقدوراً عليه فصار غير مقدور عليه، فأصاب غير مذبحه لم يحل فإن أصاب مذبحه حل. وفي سنن أبي داود النسائي وابن ماجه، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى جارية أو غلاماً أو دابة، فليأخذ بناصيتها وليقل: أللهم إني أسألك خيره وخير ما جبل عليه، وأعوذ بك من شره وشر ما جبل عليه. وإذا اشترى بعيراً فليأخذ بذروة سنامه وليدع بالبركة وليقل مثل ذلك " .
فائدة: قال ابن الأثير: " خرج خلاد بن رافع وأخوه رضي الله عنهما إلى بدر على بعير أعجف، فلما انتهيا إلى قرب الروحاء، برك البعير. قال فقلنا: أللهم لك علينا، إن انتهينا إلى بدر، أن ننحره قرآناً النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بالكما " . فأخبرناه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم بزق في وضوئه ثم أمرهما ففتحا فم البعير فصب في جوفه، ثم على رأسه، ثم على عنقه، ثم على غاربه، ثم على سنامه ثم على عجزه، ثم على ذنبه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " أللهم احمل رفاعة وخلادا " . فقمنا نرحل، فأدركنا أول الركب فلما انتهينا إلى بدر برك فنحرناه وتصدقنا بلحمه.
فائدة أخرى: روى أبو القاسم الطبراني، في كتاب الدعوات، عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، قال: غزونا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا في مجمع طرق المدينة، فبصرنا بأعرابي أخذ بخطام بعير حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن حوله فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، وقال: " كيف أصبحت " ؟ فجاء رجل كأنه حرسي فقال: يا رسول الله هذا الأعرابي سرق يعيري هذا، فرغا البعير وحن ساعة، فأنصت له النبي صلى الله عليه وسلم يسمع رغاءه وحنينه، فلما هدأ البعير أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الحرسي وقال: " انصرف عنه، فإن البعير يشهد عليك أنك كاذب " . فانصرف الحرسي وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي، وقال: " أي شيء قلت حين جئتني " ؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قلت: اللهم صل على محمد حتى لاتبقى صلاة، اللهم وبارك على محمد حتى لا تبقى بركة، اللهم وسلم على محمد حتى لا يبقى سلام، اللهم وارحم محمداً حتى لا تبقى رحمة. فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى أبداها لي، والبعير ينطق بقدرته، وإن الملائكة قد سدوا أفق السماء " . وفيه أيضاً عن نافع عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال: " جاؤوا برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا عليه أنه سرق ناقة لهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فولى الرجل وهو يقول: اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من صلواتك شيء، وبارك على محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء، وسلم على محمد حتى لا يبقى من سلامك شيء فتكلم البعير وقال يا محمد إنه بريء من سرقتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من يأتي بالرجل فابتدر إليه سبعون من أهل بدر، فجاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا هذا ما قلت آنفاً؟ فأخبره بما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأجل ذلك رأيت الملائكة يخترقون سكك المدينة، حتى كادوا يحولون بيني وبينك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لتردن على الصراط ووجهك أضوأ من القمر ليلة البدر " وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في الناقة حديث رواه الحاكم في هذا المعنى.

وروى ابن ماجه عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه قال: " كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل علينا بعير يعدو حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها البعير اسكن فإن تك صادقاً فلك صدقك، وإن تك كاذباً فعليك كذبك، مع أن الله قد أمن عائذنا، وليس بخائب لائذنا " . فقلنا يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا بعير قد هم أهله بنحره وأكل لحمه، فهرب منهم واستغاث بنبيكم " . فبينما نحن كذلك، إذ أقبل أصحابه يتعادون فلما نظر إليهم البعير، عاد إلى هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أنه يشكو إلي ويبث الشكاية، فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟ قال: يقول: " إنه ربي في أمنكم أحوالاً، وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ فإذا كان الشتاء، حملتم عليه إلى موضع الدفء فلما كبراستفحلتموه، فرزقكم الله تعالى منه إبلاً سائمة، فلما أدركته هذه السنة الخصبة هممتم بنحره وأكل لحمه " . فقالوا: يا رسول الله قد والله كان ذلك: فقا ل ا لخلأفة، دعا سالم بن عبد الله بن عمرو محمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة، وقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علي؟ فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله، فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك فيها على الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين لك أباً، وأوسطهم لك أخاً، وأصغرهم لك ولداً، فبر أباك، وارحم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً، من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم متى شئت مت، وإني لأقول لك هذا، وإني لأخاف عليك أشد الخوف، يوم تزل الاقدام، فهل معك، يرحمك الله، مثل هؤلاء القوم، من يأمرك بمثل هذا. قال: فبكى هارون الرشيد بكاء شديداً حتى غشي عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه السهر، فكتب إليه عمر يقول: يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار، وخلود الآباد فيها، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائماً ويقظان، وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل، فيكون آخر العهد بك، ومنقطع الرجاء منك، والسلام. فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال له عمر: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا وليت لك ولاية أبداً حتى ألقى الله سبحانه وتعالى. فبكى هارون بكاء شديداً، ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن جدك العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم جاءه، فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة تحصيها إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل " . فبكى هارون بكاء شديداً. ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل يوم القيامة عن هذا الخلق، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة " . فبكى هارون بكاء شديداً ثم قال: أعليك دين. قال: نعم دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي. فقال: هارون إنما أعني دين العباد. فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا، وإنما أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره، فقال تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فقال له الرشيد: هذه ألف دينار، خذها فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادة ربك. فقال فضيل: سبحان الله أنا أدلك على النجاة وتكافئني بمثل هذا سلمك الله! ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فقال لي الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا فإن هذا سيد المؤمنين اليوم. ويروى أن امرأة من نسائه دخلت عليه فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال لانفرجنا به. فقال:

إن مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير، يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه وأكلوا لحمه. موتوا يا أهلي جوعاً ولا تنحروا فضيلاً. فلما سمع الرشيد ذلك، قال: ادخل بنا فعسى أن يقبل المال. قال: فدخلنا فلما علم بنا الفضيل خرج فجلس على السطح، فوق التراب. فجاء هارون الرشيد فجلس إلى جنبه، فكلمه فلم يرد عليه، فبينما نحن كذلك، إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد أذيت الشيخ منذ أتيته، فانصرف يرحمك الله راشداً. فانصرفنا. وقال القاضي ابن خلكان في ترجمة الفضيل رحمه الله: فبلغ ذلك سفيان الثوري، فجاء إليه وقال له: يا أبا علي قد أخطأت في ردك البدرة ألا أخذتها وصرفتها في وجوه البر. فأخذ بلحيته وقال: يا أبا محمد أنت فقيه بالبلد والمنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط! لو طابت لأولئك لطابت لي.
ولعل المذكور إنما كان سفيان بن عيينة لا سفيان الثوري والله أعلم.
وقال الرشيد لفضيل بن عياض: يرحمك الله ما أزهدك! فقال: أنت أزهد مني لأني أزهد في الدنيا وأنت تزهد في الآخرة والدنيا فانية والآخرة باقية! وقيل إن الفضيل، كانت له ابنة صغيرة، فوجع كفها فسألها يوماً وقال: يا بنية ما حال كفك؟ فقالت: يا أبت بخير والله لئن كان الله تعالى ابتلى مني قليلاً، فلقد عافى مني كثيراً ابتلى كفي وعافى سائر بدني فله الحمد على ذلك. فقال: يا بنية أريني كفك فأرته فقبله، فقالت: يا أبت أناشدك الله هل تحبني؟ قال: اللهم نعم. فقالت: سوأة لك من الله، والله ما ظننت أنك تحب مع الله سواه. فصاح الفضيل وقال: يا سيدي صبية صغيرة، تعاتبني في حبي لغيرك. وعزتك وجلالك لا أحببت معك سواك.
وشكا رجل إلى الفضيل بن عياض حاله فقال له: يا أخي هل من مدبر غير الله تعالى؟ فقال: لا. قال: فارض به مدبراً. وقال: إني لأعصى الله تعالى، فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي. وقال إذا أحب الله تعالى عبداً أكثر غمه. وإذا أبغضه وسع عليه دنياه وقال النووي في أذكاره: قال السيد الجليل فضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وسئل الفضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه عن المحبة فقال: هي أن تؤثر الله عز وجل على ما سواه وقال رضي الله تعالى عنه: لو كان لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا للإمام لأن الله تعالى إذا أصلح الإمام، أمن البلاد والعباد. وقال رضي الله تعالى عنه: لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه، ويحسن خلقه معهم، خير له من قيام ليله وصيام نهاره. وقال رضي الله تعالى عنه: ربما قال الرجل: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، فأخشى عليه النار. فقيل له: كيف ذلك؟ قال: يغتاب بين يديه أحد فيعجبه ذلك، فيقول: لا الله إلا الله، أو سبحان الله، وليس هذا موضعهما، وإنما هو موضع أن ينصح له في نفسه، ويقول: اتق الله. وبلغه رضي الله تعالى عنه أن ابنه علياً قال: وددت أن أكون بمكان أرى فيه الناس ولا يروني. فقال: ويح علي لو أتمها فقال: بمكان لا أرى فيه الناس، ولا يروني. وكان رضي الله تعالى عنه، قد جاور بمكة وأقام بها وتوفي في المحرم سنة سبع وثمانين ومائة.

وفي تاريخ ابن خلكان أن سفيان الثوري بلغه مقدم الأوزاعي، فخرج إلى ملتقاه فلقيه بذي طوى، فحل سفيان خطام بعيره من القطار ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ. والأوزاعي اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن بحمد أبو عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشأم. قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة. وكان يسكن بيروت وبحمد بضم الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: بضم الياء المثنات تحت وكسر الميم. والأوزاعي من تابع التابعين. قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: رأيت رب العزة في المنام، فقال لي: يا عبد الرحمن أنت الذي تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. قلت: بفضلك يا رب. ثم قلت: يا رب أمتني على الإسلام. فقال عز وجل: وعلى السنة أيضاً. وتوفي رحمه الله، في شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائة، وكان سبب موته أنه دخل حمام بيروت، وكان لصاحب الحمام شغل، فأغلق الباب عليه، وذهب ثم جاء وفتح الباب، فوجده ميتاً قد وضع يده اليمنى تحت خده، وهو مستقبل القبلة. وقيل: إن امرأته فعلت ذلك به ولم تكن عامدة لذلك. والأوزاع قرية بدمشق، ولم يكن أبو عمرو منهم، وإنما نزل فيهم، فنسب إليهم. وهو من سبي اليمن. وقال النووي: إنه ولد ببعلبك سنة ثمان وثمانين، وهو مدفون في قبلة مسجد قرية حنتوس، وهي على باب بيروت. وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون: ههنا قبر رجل صالح ينزل عليه النور، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس رحمة الله عليه.
الحكم: البعير تقدم حكمه في الإبل. ويستحب عند ركوب الإبل، أن يذكر اسم الله تعالى عليها، لما روى أحمد والطبراني عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إبل من الصدقة ضعاف للحج، فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه! فقال : " ما من بعير إلا وفي ذروته شيطان، فإذا ركبتموها، فاذكروا اسم الله عليها كما أمركم الله، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله عز وجل " . وقد أشار البخاري، في صحيحه في أبواب الزكاة، إلى بعض هذا الحديث ولم يذكره بتمامه.
الأمثال: قالوا : " أخف حلماً من بعير " . وقالوا: " هما كركبتي بعير " إشارة إلى الاستواء. كما قالوا : " هما كفرسي رهان " . والمثل لهرم بن قطية الفزاري، وقد أطال فيه الميداني وغيره. وقالوا " كالحادي وليس له بعير " . يضرب للمتشبع بما لم يعط، وأحسن من هذا وأوجز قوله صلى الله عليه وسلم: " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " .
وقال بعض المعمرين:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إذ نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
من بعدما قوة أصيب بها ... أصبحت شيخاً أعالج الكبرا
قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي، في الأذكياء وغيره، روي أن الحسن بن هانئ، الشهير بأبي نواس، قال استقبلتني امرأة في هودج على بعير، ولم تكن تعرفني، فأسفرت عن وجهها، فإذا هو في غاية الحسن والجمال، فقالت: ما اسمك. فقلت: وجهك.
فقالت: الحسن إذن. ومما يشبه هذا الذكاء، ما نقل أن المأمون غضب على عبد اللة بن طاهر، وشاور أصحابه في الإيقاع به، وكان قد حضر ذلك المجلس صديق له، فكتب له كتاباً فيه " بسم الله الرحمن الرحيم يا موسى " ، فلما فضه ووجد ذلك فعجب وبقي يطيل النظر إليه ولا يفهم معناه، وكانت له جارية واقفة على رأسه، فقالت له: يا سيدي إني أفهم معنى هذا. فقال: وما هو؟ فقالت: إنه أراد قوله تعالى: " يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " وكان قد عزم على الحضور إلى المأمون، فثنى العزم عن ذلك واعتذر للمأمون في عدم الحضور. فكان ذلك سبب سلامته وأحسن من هذا ما ذكره ابن خلكان فقال: إن بعض الملوك غضب على بعض عماله، فأمر وزيره أن يكتب إليه كتاباً يشخصه به، وكان للوزير بالعامل عناية فكتب إليه كتاباً، وكتب في آخره إن شاء الله تعالى، وجعل في صدر النون شدة، فتعجب العامل كيف وقعت هذه الحركة من الوزير، إذ من عادة الكتاب أن لا يشكلوا كتبهم، ففكر في ذلك فظهر له أنه أراد " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " ، فكشط الشدة وجعل مكانها ألفاً، وختم الكتاب وأعاده للوزير. فلما وقف عليه الوزير سر بذلك وفهم أنه أراد: (إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها " والله تعالى أعلم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12