الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري

وحكى القزويني أن الهدهد قال لسليمان عليه السلام: أريد أن تكون في ضيافتي قال: أنا وحدي، قال: بل أنت وأهل عسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا فحفر سليمان عليه السلام بجنوده فطار الهدهد فاصطاد جرادة فخنقها ورمى بها في البحر، وقال: كلوا، يا نبي الله من فاته اللحم، ناله المرق. فضحك سليمان وجنوده من ذلك حولاً كاملاً. وفي ذلك قيل:
جاءت سليمان يوم العرض هدهدة ... أهدت له من جراد كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائلة ... إن الهدايا على مقدار مهديها
لو كان يهدى إلى الإنسان قيمته ... لكان يهدى لك الدنيا وما فيها
قال عكرمة: إنما صرف سليمان عليه السلام عن ذبح الهدهد، لأنه كان باراً بأبويه، ينقلا الطعام إليهما فيزقهما في حال كبرهما.
قال الجاحظ: وهو وفاء حفوظ ودود، وذلك أنه إذا غابت أنثاه، فلم يأكل ولم يشرب، ولم يشتغل بطلب طعم ولا غيره، ولا يقطع الصياح حتى تعود إليه، فإن حدث حادث أعدمه إياها لم يسفد بعدها أنثى أبداً، ولم يزل صائحاً عليها ما عاش، ولم يشبع بعدها أبداً بطعم، بل يأل منه ما يمسك رمقه، إلى أن يشرف على الموت، فعند ذلك ينال منه يسيراً.
وفي الكامل، وشعب الإيمان للبيهقي، أن نافع بن الأزرق، سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: سليمان عليه السلام، مع ما خوله الله من الملك وأعطاه، كيف عنى بالهدهد مع صغره؟ فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد كانت الأرض له كالزجاج كما تقدم. فقال ابن الأزرق لابن عباس: قف يا وقاف كيف يبصر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا غطى له بقدر أصبع من تراب. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا نزل القضاء عمي البصر وأنشدوا في ذلك لأبي عمرو الزاهد:
إذا أراد الله أمراً بامرئ ... وكان ذا عقل ورأي وبصر
وحيلة يفعلها في دفع ما ... يأتي به محتوم أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله ... وسله من ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... رد عليه عقله ليعتبر
ونافع ابن الأزرق هو رأس فرقة من الخوارج، يقال لها الأزارقة، يكفرون علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ حكم، وهو قبل التحكيم عندهم إمام عدل، ويكفرون الحكمين أبا موسى وعمراً. ويرون قتل الأطفال ولا يقيمون الحدود على من قذف محصناً، ويقيمونها على قذف المحصنات وغير ذلك من الأقوال. وأنشد أبو الشيص في صفة الهدهد:
لا تأمنن على سري وسركم ... غيري وغيرك أو طي القراطيس
أو طائر سوف أجليه وأنعته ... ما زال صاحب تنقير وتدريس
سود براثنه ميل ذوائبه ... صفر حمالقه في الحسن مغموس
البراثن بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة وبالنون في آخره: أظفاره، والذوائب ريشه، والحمالق الأجفان.
قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، صاحب دمية القصر، وهي ذيل يتيمة الدهر، قتل سنة سبع وستين وأربعمائة:
لا تنكري يا عز إن ذل الفتى ... ذو الأصل واستعلى خسيس المحتد
إن البزاة رؤوسهن عواطف ... والتاج معقود برأس الهدهد
قيل: إن الإمام الحافظ أبا قلابة، واسمه عبد الملك بن محمد الرقاشي، رأت أمه وهي حامل به، كأنها ولدت هدهداً. فقيل لها: إن صدقت رؤياك، فإنك تلدين ولداً ذكراً كثير الصلاة فولدته، فلما كبر كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة، وحدث من حفظه ستين ألف حديث، ومات سنة ست وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى.
الحكم: الأصح تحريم أكله لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكله، لأنه منتن الريح، ويقتات الدود.
وقيل: يحل أكله، لأنه يحكى عن الشافعي وجوب الفدية فيه، وعنده لا يفدى إلا المأكول. الأمثال: قال: أسجد من هدهد، يضرب لمن يرمى بالأبنة، وقالوا: أبصر من هدهد، لما تقدم من رؤيته الماء تحت الأرض.

الخواص: إذا بخر البيت بريشة من ريشه طرد الهوام عنه، وعينه إذا علقت على صاحب النسيان ذكر ما نسيه، وكذلك يفعل قلبه إذا شوي وأكل مع سذاب، وهو نافع للحفظ والذكاء، ولا ينسى شيئاً، وهو أنفع من حب الفهم وأسلم. ومن أخذ عشرة هداهد ونزع ريشها وتركها في دار أو دكان خرب ذلك المكان، ولم يعمر أبداً.
ومن أخذ مصران الهدهد وعلقه على من به النزيف نفعه، ومن أخذ منقاره وهو ميت، وخرز عليه جلدة لم يتلف له شيء ما دام عليه. وإن دخل به على سلطان رحب به وأكرمه وقضى حوائجه، ومن أخذ تراب عش الهدهد وتركه في سجن خرج من فيه من وقته، وإن أخذ من مخالب رجليه مخلباً واحداً وعلقه على صبي أو غيره لم يلحقه عين ولا يزال في عافية ما دام معلقاً عليه.
ومن أخذ ذنبه وشيئاً من دمه وعلقه على شجرة لم تحمل أبداً، وإن علق على دجاجة بياضة لم تبض، وإن علق على من به نزف الدم سكن عنه، ومن أخذ لسانه وألقاه في شيء من دهن السمسم وجعله تحت لسانه، وسأل إنساناً حاجة قضاها له، وإذا حمل ريشه إنسان وخاصم غلب خصمه، وقضيت حاجته، وظفر بما يريد ولحمه إذا أكل مطبوخاً نفع من القولنج، ودماغ الهدهد إذا أخرج وعمل في دقيق وعجن منه قرصة، وجففت في الظل، وأطعمت الإنسان ويقول المطعم: أطعمتك يا فلان بن فلان هدهداً، وجعلتك تسمع قولي وتطيعني، وتشهد لي كما شهد الهدهد لسليمان عليه السلام فإن المطعوم يحب المطعم حباً شديداً.
وإن أخذت قشرته وشددتهها على عضدك الأيسر، وأخذت منقاره ولسانه وكتبت هذه الأسماء في رق ظبي وجعلتهما فيه، وشددته بخيط صوف كحلي أو أسود أو أحمر ودفنته تحت باب من تريد موضع دخوله وخروجه فإنك تبلغ ما تريده منه من المحبة والعطف والقبول. وهي هذه الأسماء التي تكتبها: فطيطم مارنورمانيل وصعانيل.
ودم الهدهد إذا أخذ في صدفة وقطر في عين يطلع فيها الشعر أزاله، وإذا ذبحت هدهداً، وأخذت دماغه وجففته، وسحقته ببعض من المصطكى، ودققت معه إحدى وعشرين ورقة آس، وخلطته وأشممته لمن تريد، فإنه يحبك. وعينه اليمنى إذا علقتها عليك في خرقة جديدة وشددتها على عضدك الأيمن، ودخلت على من شئت فإنه لا يراك أحد إلا أحبك، وإذا أردت سواد الشعر، فخذ مصران الهدهد وجففه ثم اسحقه بدهن سمسم وادهن به رأس من تريد أو لحيته ثلاثة أيام فإن شعره يسود سواداً عظيماً. ودمه وهو حار، إذا قطر على البياض العارض، في العين أذهبه، وإن بخر بمخه برج الحام لم يقر به شيء يؤذيه، وإن علق هدهد مذبوح بجملته في بيت أمن أهله من السحر، ومن علق عليه لحيه الأسفل أحبه الناس، وإن بخر المجنون بعرفه أبرأه، ولحمه إذ بخر به معقود عن الباه، أو مسحوراً أبرأه.
وقال جابر رحمه الله: إن قلب الهدهد إذا شوي وأكل مع سذاب فإنه ينفع للحفظ جداً. ومصران الهدهد إذا علق على من بها نزف الدم، انقطع عنها. وإن أخفت ثلاث ريشات من الجناح الأيسر من الهدهد، وكنس بها باب دار ثلاثة أيام، قبل طلوع الشمس، ويقول الكانس: كما انقطع هذا التراب من هذا المكان، كذلك ينقطع فلان بن فلانة من هذا المكان، فإنه يخرج منه ولا يعود إليه أبداً وإن أحرقت جناحه الأيسر، ونثرت رماده على طريق من تريد فإنه إذا وطئه أحبك حباً شديداً. ومنقار الهدهد وريشه من جناحه الأيمن إذا خرز في جلد وعلقت ذلك عليك باسم من تريد، واسم أمه، أحبك حباً شديداً. وأطول ريشة في جناحيه الأيسر قبول.
التعبير: الهدهد في المنام، رجل عالم غني يثنى عليه بالقبيح لنتن ريحه، فمن رآه نال عزاً ومالاً فإن كلمه فإنه يأتيه خير من قبل السلطان لقوله تعالى: " وجئتك من سبأ بنبأ يقين " وقال ابن سيرين: من رأى هدهداً، قدم له مسافر، وقيل: الهدهد رجل حاسب صاحب دهاء يخبر السلطان بما يحدث من الأمور، لأنه أخبر سليمان عليه السلام بأمر بلقيس، وكان صادقاً في قوله، وربما كانت رؤيته أماناً للخائف، وقال ابن المقري: إن رؤيته تدل على هدم الدار العامرة، أو الشيء العامر مأخوذ من اسمه هدهد، وربما دلت على الرسول الصادق، والقرب من الملوك والجاسوس، أو الرجل العالم الكثير الجدال، وربما دل على النجاة من الشدائد والعذاب، وربما دل على المعرفة بالله تعالى، وبما شرعه من الدين والصلاة، وإن رآه ظمآن، اهتدى إلى الماء، والله تعالى أعلم.

الهدي: هو ما يهدى إلى الحرم من النعم، والهدى أيضاً مثله وقرئ " حتى يبلغ الهدي محله " بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان الواحدة هدية وهدية. وكان الهدي الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ونحره مائة بدنة. وقال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: سبعين بدنة والناس سبعمائة. فكانت البدنة عن عشرة وهذا غريب.
وعن مصعب بن ثابت، قال: والله لقد بلغني أن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه حضر يوم عرفة ومعه مائة رقبة ومائة بدنة ومائة بقرة ومائة شاة، فقال: هذا كله لله تعالى، فأعتق الرقاب، وأمر بتلك فنحرت، رواه الطياني مرسلاً.
وفي الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنماً، وفيه استحباب تقليد الغنم، وقال مالك وأبو حنيفة، لا يستحب، بل خصاً التقليد بالإبل والبقر فرع: اتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً فللمهدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع. لما روى جابر أنه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بيده ثلاثاً وستين، وأمر علياً فنحر ما بقي منها، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ من كل بدنة بضعة، فتجعل في قدر فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها.
واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع، مثل دم التمتع والقران والواجب بافساد الحج وفواته وجزاء الصيد، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئاً وبه قال الشافعي، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر، ويأكل مما عداهما، وبه قال الإمام أحمد وإسحاق. وقال مالك: يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه، إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر. وقال أصحاب الرأي: يأكل من دم التمتع والقران، ولا يأكل من كل واجب سواهما، والله تعالى أعلم.
الهديل: ذكر الحمام قد تقدم ما في الحمام في باب الحاء المهملة، قال جران العود:
كان الهديل الظالع الرجل وسطها ... من البغي شريب يغرد منزف
والهديل صوت الحمام، يقال: هدل القمري يهدل هديلاً، والهديل فرخ كان على عهد نوح عليه الصلاة والسلام، فصاده جارح من الطير، فليس من حمامة إلا وتبكي عليه إلى يوم القيامة.
قال نصيب :
فقلت أتبكي ذات طوق تذكرت ... هديلاً وقد أودى وما كان تبع
يقول لم يخلق تبع بعد.
الهرماس: بكسر الهاء من أسماء الأسد، وقيل: هو الشديد من السباع، والهرماس بن زياد الباهلي من الصحابة سكن البصرة وطال عمره، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث من أحدهما عن أبي داود والآخر رواه النسائي. والهرميس بكسر الهاء أيضاً الكركدن عند ابن سيده. قال: وهو أكبر من الفيل قال الشاعر:
والفيل لا يبقى على الهرميس
الهر: السنور، والجمع هررة، كقرد وقردة، والأنثى هرة وتقدمت في خواص الأسد في كلام

على الفأرة، أن الهرة خلقت من عطسة الأسد. روى الإمام أحمد والبزار ورجال الإمام أحمد ثقات، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً فقال صلى الله عليه وسلم: " قه أيسرك أن يشرب معك الهر " قال: لا. قال: " فقد شرب معك الشيطان " . وفي تاريخ ابن النجار، في ترجمة محمد بن عمر الحنبلي، عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كنت جالساً عند عائشة رضي الله تعالى عنها أبشرها بالبراءة، فقالت: والله لقد هجرني القريب والبعيد، حتى هجرتني الهرة، وما عرض علي طعام ولا شراب، فكنت أرقد وأنا جائعة، فرأيت الليلة في منامي فتى فقال: ما لك حزينة؟ فقلت: مما ذكر الناس. فقال: ادعي بهذه الكلمات يفرج عنك. فقلت: وما هي؟ فقال: قولي: دعاء الفرج يا سابغ النعم، ويا دافع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كاشف الظلم، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظلم، ويا أول بلا بداية، ويا آخر بلانهاية، ويا من له اسم بلا كنية، أجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً. قالت: فانتبهت وأنا ريانة شبعانة، وقد أنزل الله براءتي وجاءني الفرج. وفي الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن الشيطان عرض للنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، قال عبد الرزاق: في صورة هر، قال صلى الله عليه وسلم: " فشد علي يقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فذعته أي خنقته ولقد هممت أن أوثقه في سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه. فذكرت قول أخي سليمان: رب أغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي فرده الله خاسئاً " .
وروى ابن أبي خيثمة، عن ميمونة بنت سعيد، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الاستيعاب، عن سليمان الفارسي، خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالهر، وقال: " إن امرأة عذبت في هرة ربطتها " الحديث، وهو في الصحيحين.
وفي الزهد للإمام أحمد: رأيتها في النار وهي تنهش قبلها ودبرها. والمرأة المعذبة كانت كافرة، كما رواه البزار في مسنده، والحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان، ورواه البيهقي في البعث والنشور، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فاستحقت التعذيب بكفرها وظلمها.
وقال القاضي عياض في شرح مسلم: يحتمل أن تكون كافرة. ونفى النووي هذا الاحتمال، وكأنهما لم يطلعا على نقل في ذلك.
وفي مسند أبي داود الطيالسي، من حديث الشعبي، عن علقمة قال: كنا عند عائشة رضي الله تعالى عنها، ومعنا أبو هريرة، فقالت: يا أبا هريرة أنت الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة عذبت بالنار من أجل هرة؟ قال أبو هريرة: نعم سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت عائشة: المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة، إنما كانت المرأة مع ذلك كافرة يا أبا هريرة، إذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر كيف تحدث. وقد تقدم في الفرس، ما أنكرته عائشة على أبي هريرة.
وروى ابن عساكر، في تاريخه عن بعض أصحاب الشبلي، أنه رآه في النوم، بعد موته فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا أبا بكر أتدري بماذا غفرت لك؟ فقلت: بصالح عملي. فقال: لا. قلت: باخلاصي في عبوديتي، قال: لا. قلت: بحجي وصومي وصلاتي. قال: لم أغفر لك بذلك. فقلت: بهجرتي إلى الصالحين، وإدامة أسفاري في طلب العلوم. فقال: لا. فقلت: يا ربي هذه المنجيات التي كنت أعقد عليها خنصري، وظني أنك بها تعفو عني وترحمني. فقال: كل هذه لم أغفر لك بها، فقلت: إلهي فبماذا؟ قال: أتذكر حين كنت تمشي في دروب بغداد، فوجدت هرة صغيرة، قد أضعفها البرد، وهي تنزوي من جدار إلى جدار من شدة البرد والثلج، فأخذتها رحمة لها، فأدخلتها في فرو كان عليك وقاية لها من ألم البرد؟ فقلت: نعم. فقال: برحتمك لتلك الهرة رحمتك.
وأبو بكر الشبلي اسمه دلف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس الخراساني، كان سيداً صالحاً محدثاً، مالكي المذهب، صحب الجنيد رضي الله تعالى عنه، وكان في ابتداء أمره والياً على دنبارند، فتاب في مجلس خير النساج، وكانت له خطفات وسكرات وغرقات توجب تلك الغرقات شطحات، فقام عفره فيها ودخل على الجنيد يوماً فوقف بين يديه وصفق وأنشد يقول:
عودوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصد والصد صعب

زعموا حين أزمعوا أن ذنبي ... فرط حبي لهم وما ذاك ذنب
لا وحق الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحب ألا يحب
فأجابه الجنيد رحمه الله تعالى:
وتمنيت أن أرا ... ك فلما رأيتكا
غلبت دهشة السرو ... ر فلم أملك البكا
ومن شعر الشبلي رحمه الله تعالى:
مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى ... دمعان في الأجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودعين وليس لي قلبان
توفي الشبلي، رحمه الله في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وله سبع وثمانون سنة.
وفي كامل ابن عدي، في ترجمة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، أنه روى عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم تمر به الهرة فيصفي لها الإناء فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها. قال: وكان أبو يوسف يقول: من طلب غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر، ومن طلب الدين بالكلام تزندق.
وفي آخر كتاب مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه، للحاكم أبي عبد الله، بإسناده إلى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول: اختصم رجلان إلى بعض القضاة، في هرة ادعى كل منهما أنها له، وأن عنده أولادها، فحكم القاضي أن توسط بين داريهما ثم ترسل فأي دار دخلت فهي لصاحبها. قال الشافعي: فانجفل الناس، وانجفلت معهم، فلم تدخل الهرة دار واحد منهما. قال الشافعي: فبطل قضاؤه.
غريبية: ذكر أن مروان الجعدي المنبوز بالحمار، آخر خلفاء بني أمية، لما ظهر السفاح بالكوفة، وبويع له بالخلافة، وجهز العساكر إليه، فانهزم منهم، حتى وصل إلى أبي صير، وهي قرية عند الذيوم.. قال: ما اسم هذه القرية؟ قيل: أبو صير. قال: فإلى الله المصير، ثم دخل الكنيسة التي بها، فبلغه أن خادماً له نم عليه، فأمر به فقطع رأسه، وسل لسانه وألقي على الأرض، فجاءت هرة فأكلته. ثم بعد أيام، هجم عل الكنيسة التي كان نازلا بها عامر بن إسماعيل، فخرج مروان من باب الكنيسة، وفي يده سيف، وقد أحاطت به الجنود، وخفقت حوله الطبول، فتمثل ببيت الحجاج بن الحكم السلمي وهو:
متقلدين صفائحاً هندية ... يتركن من ضربوا كأن لم يولد
ثم قاتل حتى قتل، فأمر عامر برأسه فقطع في ذلك المكان، وسل لسانه وألقي على الأرض، فجاءت تلك الهرة بعينها فخطفته فأكلته. فقال عامر: لو لم يكن في الدنيا عجب إلا هذا، لكان كافياً، لسان مروان في فم هرة! وقال في ذلك شاعرهم:
قد يسر الله مصراً عنوة لكم ... وأهلك الكافر الجبار إذ ظلما
فلاك مقوله هر يجر جره ... وكان ربك من ذي الظلم منتقما
ودخل عامر بعد قتله الكنيسة، فقعد على فرش مروان، وكان مروان، حين الهجوم على الكنيسة، يتعشى، فلما سمع الوجبة، وثب عن عشائه، فأكل عامر ذلك الطعام، ودعا بابنة مروان، وكانت أسن بناته، فقالت: يا عامر إن دهراً أنزل مروان عن فرشه، وأقعدك عليه، حتى تعشيت بعشائه، واستصبحت بمصباحه، ونادمت ابنته، لقد أبلغ في موعظتك، وأجمل في إيقاظك. فاستحيا عامر وصرفها وكان قتل مروان في سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
الحكم: يحرم أكل الهر على الصحيح، والثاني، وبه قال الليث بن سعد، يحل أكله. واختاره أبو الحسن البوشنجي، وهو من أئمة أصحابنا، وهو حيوان طاهر لما روى الإمام أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم فأجاب، ودعي إلى دار آخرين فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال: " إن في دار فلان كلباً " . فقيل له: وإن في دار فلان هرة، فقال صلى الله عليه وسلم: " الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين عليكم والطوفات " .
قال الإمام النووي، في شرح المهذب: وبيع الهرة الأهلية جائز بلا خلاف عندنا، إلا ما حكاه البغوي، في شرح مختصر المزني، عن ابن القاص، أنه قال: لا يجوز، وهذا شاذ باطل مردود، والمشهور جوازه وبه قال جماهير العلماء.
قال ابن المنذر: أجمعت الأمة على جواز اتخاذها، ورخص في بيعها ابن عباس والحسن وابن سيرين والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو حنيفة، وسائر أصحاب الرأي. وكرهت طائفة بيعها منهم: أبو هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد.

وقال ابن المنذر: إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيعه، فبيعه باطل، وإلا فجائز.
احتج من منعه بحديث ابن الزبير، قال: سألت جابراً رضي الله تعالى عنه عن ثمن الكلب والسنور، فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. رواه مسلم.
وفي سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن ثمن الهر " .
واحتج أصحابنا بأنه طاهر منتفع به ووجد فيه جميع شروط البيع، فجاز بيعه كالحمار والبغل، والجواب عن الحديثين من وجهين أحدهما: جواب أبي العباس بن القاص والخطابي والقفال وغيرهم، أن المراد الهرة الوحشية، فلا يصح بيعها، لعدم الانتفاع بها، إلا على الوجه الضعيف القائل بجواز أكلها، والثاني أن المراد نهي تنزيه. فهذان الجوابان هما المعتمدان. وأما ما ذكره الخطابي وابن عبد البر، أن الحديث ضعيف فغلط منهما لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح كما تقدم بيانه، في باب السين المهملة.
وفي السنن الأربعة، من حديث كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة، أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه، دخل فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه، فأصفى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي. فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " . والطوافون الخدم، والطوافات الخادمات، جعلها بمنزلة المماليك في قوله تعالى: " ويطوف عليهم ولدان مخلدون " . ومنه قول إبراهيم النخعي: إنما الهرة كبعض أهل البيت. كذا نقله الزمخشري.
وفي المستدرك وسنن ابن ماجه وكامل بن عدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الهرة لا تقطع الصلاة إنما هي من متاع البيت " .
فرع: إذا كان للإنسان هرة تأخذ الطيور، وتقلب القدور، فأفلتت وأتلفت، فهل على صاحبها ضمان ما أتلفت؟ وجهان، أصحهما: نعم. سواء أتلفت ليلا أو نهاراً، لأن مثل هذه الهرة ينبغي أن تربط ويكف شرها. وكذا الحكم في كل حيوان يولع بالتعدي، أما إذا لم يعهد منها ذلك، فالأصح لا ضمان، لأن العاثة جرت بحفظ الطعام عنها، لا بربطها. وأطلق إمام الحرمين في ضمان ما تتلفه الهرة أربعة أوجه: أحدها يضمن، والثاني لا، والثالث يضمن ليلا لا نهاراً، والرابع عكسه: لأن الأشياء تحفظ عنها ليلا.
وإذا أخذت الهرة حمامة أو غرها وهي حية، جاز فتل أذنها وضرب فمها، لترسلها فإذا قصدت الحمام فأهلكت بالدفع، فلا ضمان فإذا كانت الهرة ضارية بالإفساد فقتلها إنسان في حال إفسادها دفعاً جاز ولا ضمان عليه، كقتل الصائل دفعاً، وينبغي تقييد ذلك، بما إذا لم تكن حاملا لأن في قتل الحامل قتل أولادها، ولم يتحقق منهم جناية.
وأما قتلها في غير حالة الإفساد، ففيه وجهان: أصحهما عدم الجواز ويضمنها. وقال القاضي حسين: يجوز قتلها ولا ضمان عليه فيها، وتلحق بالفواسق الخمس فيجوز قتلها، ولا يختص بحال ظهور الشر، وسؤرها طاهر لطهارة عينها، ولا يكره، فلو تنجس فمها ثم ولغت في ماء قليل، فثلاثة أوجه: الأصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء يطهر فمها، ثم ولغت لم تنجسه، والثاني تنجسه مطلقاً، والثالث عكسه وغير الماء من المائعات كالماء.
الأمثال: قالوا: أبر من هرة، أرادوا بذلك أنها تأكل أولادها من شدة الحب لهم قال الشاعر:
أما ترى الدهر وهذا الورى ... كهرة تأكل أولادها
وقالوا: فلان لا يعرف هر من بر، قال ابن سيده: يعني لا يعرف الهر من الفار. وقال الزمخشري: لا يعرف من يكرهه ممن يبره، وما أحسن قول أحمد بن فارس صاحب المجمل في اللغة، وكانت وفاته سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة:
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وأنيس نفسي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج

قال شيخنا اليافعي رحمه الله تعالى: أخبرني بعض الصالحين من أهل اليمن، أن هرة كانت تأتي الشيخ العارف الأهدل بالدال المهملة، فيطعمها من عشائه، وكان اسمها لؤلؤة، فضربها خادم الشيخ ذات ليلة فماتت، فرمى بها الخادم في خرابة، لئلا يعلم الشيخ بذلك، فلما جاء الشيخ سكت عنه ليلتين أو ثلاثاً، ثم قال: أين لؤلؤة؟ فقال: ما أدري، فقال الشيخ: ما تدري، ثم ناداها لؤلؤة لؤلؤة، فجاءت تجري إليه، فأطعمها على العادة. والخواص تقدمت في باب السين في لفظ السنور.
تتمة: قال الصاحب بن عباد أنشدني أبو الحسن بن أبي بكر الحسن بن علي العلاف البغدادي المقري الأديب قصيدة والده في الهر الذي كنى به عن ابن المعتز حين قتله المقتدر، فخشي من المقتدر ونسبها إلى الهر، وعرض به في أبيات منها.
وقيل: إنما كنى بالهر عن المحسن بن الوزير أبي الحسن علي بن الفرات أيام محنته لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه، وقيل: كان له هر يأنس به، فكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بقصيدة. وقال ابن خلكان: وهي من أحسن الشعر وأبدعه. وعددها خمسة وستون بيتاً، وطولها يمنع من الإتيان بجميعها، فنأتي بمحاسنها، وفيها أبيات مشتملة على حكم فنأتي بها وأولها:
يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت عندي بمنزلة الولد
فكيف ننفك عن هواك وقد ... كنت لنا عدة من العدد
تطرد الأذى وتحرسنا ... بالغيب من حية ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السد
يلقاك في البيت منهمو مدد ... وأنت تلقاهمو بلا مدد
لا عدد كان منك منفلتا ... منهم ولا واحد من العدد
لا ترهب الصيف عند هاجرة ... ولا تهاب الشتاء في الجمد
وكان يجري ولا سداد لهم ... أمرك في بيتنا على سدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الردى لظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبي عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد
تدخل برج الحمام متئدا ... وتبلغ الفرخ غير متئد
وتطرح الريش في الطريق لهم ... وتبلع اللحم بلع مزدرد
أطعمك الغي لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرشد
حتى إذا داوموك واجتهدوا ... وساعد النصر كيد مجتهد
كادوك دهراً فما وقعت وكم ... أفلت من كيدهم ولم تكد
فحين أخفرت وانهمكت وكا ... شفت وأسرفت غير مقتصد
صادوك غيظاً عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد
ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يرعووا على أحد
فلم تزل للحمام مرتصدا ... حتى سقيت الحمام بالرصد
ومنها:
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد
أذاقك الموت ربهن كما ... أذقت أفراخه يدا بيد
كأن حبلا حوى بجودته ... جيدك للخلق كان من مسد
كأن عيني تراك مضطرباً ... فيه وفي فيك رغوة الزبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد
فما سمعنا بمثل موتك إذ ... مت ولا مثل عيشك النكد
فجدت بالنفس والبخيل بها ... أنت ومن لم يجد بها يجد
عشت حريصاً يقوده طمع ... ومت ذا قاتل بلا قود
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالغدد
ألم تخف وثبة الزمان كما ... وثبت في البرج وثبة الأسد
عاقبة الظلم لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر كل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما ... أعزه في الدنو والبعد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد

كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
ما كان أغناك عن تسؤرك ال ... برج ولو كان جنة الخد
ومنها:
قد كنت في نعمة وفي دعة ... من العزيز المهيمن الصمد
تأكل من فأر بيتنا رغدا ... وأين بالشاكرين للرغد
وكنت بددت شملهم زمنا ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد
فلم يبقوا لنا على سبد ... في جوف أبياتها ولا لبد
وفرغوا قعرها وما تركوا ... ما علقته يد على وتد
وفتتوا الخبز في السلال وكم ... تفتتت للعيال من كبد
ومزقوا من ثيابنا جددا ... فكلنا في المصائب الجدد
وكان ابن العلاف ينادم المعتضد بالله، فبات ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فجاء خادم ليلا فقال: إن أمير المؤمنين يقول لكم: أرقت الليلة فقلت:
ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذ الدار قفرى والمزار بعيد
وقد ارتج علي تمامه فمن أجازه بما يوافق غرضي أجزته، فارتج على الجماعة، وكانوا كلهم أفاضل، فقال ابن العلاف:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالا طارقاً سيعود
فعاد الخادم إلى المعتضد، ثم رجع إلى ابن العلاف، وقال: يقول أمير المؤمنين: أحسنت، وأمر لك بجائزة سنية وكانت وفاة ابن العلاف سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وعمره مائة سنة.
التعبير: الهر في الرؤيا خادم حافظ، فان خطف شيئاً فهو لص الدار، وخدشه وعضه خيانة الخادم، وقال ابن سيرين: عض الهر مرض سنة، وكذلك خدشه، والهر إذا لم يكن يأمو فهو سنة فيها راحة لمن رآه، والهر الوحشي سنة فيها تعب ونصب، ومن باع هرة فإنه ينفق ماله، وقالت اليهود: الهر يعبر بالغمازين واللصوص لأن فيها المنفعة والمضرة.
وقال أرطاميدورس: الهر في المنام امرأة خداعة صخابة، وعض الهر مرض في تلك السنة.
ومن الرؤيا المعبرة أن ابن سيرين أتته امرأة فقالت: رأيت كأن سنوراً أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال ابن سيرين: قد سرق لزوجك ثلاثمائة درهم وستة عشر درهماً، قالت: صدقت، فمن أين لك هذا؟ قال: من هجاء حروفه في حساب الجمل فالسين ستون والنون خمسون والواو ستة والراء مائتان، فصار المبلغ ثلاثمائة وستة عشر درهماً، فاتهموا عبداً كان في جوارهم، فضربره فأقر بالمال، ومن رأى كأنه أكل لحم سنور، فإنه يتعلم السحر والله تعالى أعلم.
الهرنصانة: بالكسر دودة تسمى السرفة، وقد تقدمت، في باب السين المهملة.
هرثمة: من أسماء الأسد، حكاه ابن سيده وغيره.
الهرهير: نوع من السمك، وقال المبرد: إنه مركب من السلحفاة، ومن أسود سالح، قال: وهو من أخبث الحيات، ينام ستة أشهر ثم لا يسلم سليمه انتهى. والظاهر أنه مشترك بين الحية والسمك.
الهرزون والهرزان: الظليم، وقد تقدم في باب الظاء.
الهزار: بفتح الهاء العندليب، وقد تقدم في باب الصاد المهملة في الكلام على الصعوة قول الشاعر:
الصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم
الهزبر: بكسر الهاء وفتح الزاي وإسكان الباء الموحدة وبالراء المهملة في آخره الأسد، كذا حكاه الجوهري. وقال غيره: إنه حيوان على شكل السنور الوحشي، وفي قده إلا أن لونه يخالف لونه وهو من ذوات الأنياب، ويوجد في بلاد الحبشة كثيراً، لكن يؤيد ما حكاه الجوهري ما قاله بشر بن أبي عوانة لما قتل الأسد:
أفاطم لو شهدت ببطن جب ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشراً
إذا لرأيت ليثاً رام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبراً
تبهنس إذ تقاعس عنه مهري ... فقلت له: عقرت اليوم مهراً
أنل قدمي بطن الأرض إني ... وجدت الأرض أثبت منك ظهراً
وقلت له وقد أبدى نصالا ... محددة ولحظا مكفهراً
يدل بمخلب وبحد ناب ... وباللحظات تحسبهن جمراً
وفي يمناي ماضي العزم أبغي ... بمضربه قراع الموت أثراً
فأنت تروم للأشبال قربا ... ومطلبي لبنت العم مهراً
فلما ظن أن النصح غش ... وخال مقالتي زوراً وهجراً

مشى ومشيت من أسدين راما ... مراما كان يطلباه وعراً
هززت له الحسام فخلت أني ... سللت به لدى الظلماء فجراً
وجدت بضربة جاءته شفعاً ... بساعد ماجد تركته وتراً
فخز مجندلا فحسبت أني ... هدمت له بناء مشمخراً
وقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلداً وقهراً
ولكن رمت شيئاً لم يرمه ... سواك فلم تطق يا ليث صبراً
فلا تجزع فقد لاقيت حراً ... يحافر أن يعاب فمت حراً
وأبو الهزبر الملك المؤيد صاحب اليمن داود بن الملك المظفر يوسف بن عمر، كانت دولته بضعاً وعشرين سنة، وكان عالماً فاضلا شجاعاً، وكان عنده من الكتب نحو مائة ألف مجلد، وكان يحفظ التنبيه وغيره وأبوه الملك المظفر، وولده الملك المجاهد كانا في العلم أرفع منه درجة، وأذكر قريحة، وأشهر فضلا، تغمدهم الله برحمته.
الهرعة: القملة، قيل: مكتوب على عرش بلقيس:
ستأتي سنون هي المعضلات ... يراع من الهرعة الأجدل
وفيها يهين الصغير الكبير ... وذو العلم يسكته الأجهل
الهف: جنس من السمك صغار، وهو الحساس المتقدم ذكره في باب الحاء المهملة.
الهقل: بكسر الهاء الفتى من النعام، وبه لقب محمد بن زياد الهقل الدمشقي، كاتب الأوزاعي، وكان يسكن بيروت، فغلب عليه هذا اللقب. قال ابن معين: ما كان بالشام أوثق منه، وكان أعلم الناس بمحاسن الأوزاعي وفتياه، توفي سنة تسع وسبعين. وروى له الجماعة سوى البخاري وفي المثل قالوا: أشم من هقل.
الهقلس: كعملس الذئي، وقد تقدم الكلام على الذئب في باب الذال المعجمة مستوفى قال الكميت:
ونسمع أصوات الفراعل حوله ... يعاوين أولاد الذئاب الهقالسا
يعني حول الماء الذي ورده.
الهمج: جمع همجة وهو ذباب صغار كالبعوض، يسقط على وجوه الغنم والحمير وأعينها، اشتقوا من اسمه ما يؤكد به. فقالوا: همج هامج كقولهم: ليل لائل، وصيف صائف، ووتد واتد، ويوم أيوم، وجاهلية جهلاء، ويقال للرعاع من الناس الحمقى إنما هم الهمج.
قال علي رضي الله تعالى عنه: سبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة. وقال لكميل بن زياد: يا كميل القلوب أوعية، وخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.
والرباني الراسخ في العالم بعلمه. وقال صاحب قوت القلوب، في تفسير قول علي كرم الله وجهه: هذا الهمج الفراش الذي يتهافت في النار، لجهله واحدته همجة، والرعاع الخفيف الطياش الذي لا عقل له، يستفزه الطمع، ويستخفه الغضب، ويزدهيه العجب، ويستطيله الكبر. قال: ثم بكى علي وقال: هكذا يموت العلم بموت حامله انتهى كلامه.
الهمع: بفتح الهاء والميم: الصغير من الظباء خاصة.
الهمل: بالتحريك الإبل بلا راع، مثل النفش إلا أن النفش لا يكون إلا ليلا، والهمل يكون ليلا ونهاراً. ويقال: إبل همل وهاملة وهمال وهوامل، وتركتها هملا أي سدى، إذا أرسلتها ترعى ليلا ونهاراً بلا راع. وفي المثل: اختلط المرعي بالهمل. والمرعى الذي له راع. قاله الجوهري. وما أحسن ما صنع الطغرائي في ختمه لاميته بقوله:
ترجو البقاء بدار لاثبات لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل
قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
أشار به إلى قوله تعالى: " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " أي معطلا لا يؤمر ولا ينهى. يقال: أسديت حاجتي أي ضيعتها وابل سدى، أي ترعى حيث شاءت بلا راع كذا فسره الثعلبي وغيره.
الهملع: بالتحريك مع تشديد اللام الذئب قال الشاعر.
والشاء لا تمشي مع الهملع

أي لا تنمو مع رؤية الذئب، والمشاء هو نماء المال وزيادته. يقال: مشى الرجل وأمشى، إذا نما ماله وكثرت ماشيته، وقيل في قوله تعالى: " أن امشوا واصبروا على آلهتكم " إنه من المشاء لا من المشي. قاله السهيلي، قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وأفاد بعده بسطرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله تعالى عنه: " إن الله أعلمني أن سيزوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون " . فقالت: بالرفاء والبنين. وذكر أيضاً في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة رضي الله تعالى عنها، من عنب الجنة.
الهمهم: الأسد قاله ابن سيده، وقد تقدم ما في الأسد.
الهنبر: مثل الخنصر، ولد الضبع. قال أبو زيد من أسماء الضبع أم هنبر في لغة فزارة، قال الشاعر القتال الكلابي:
يا قاتل الله صبياناً تجيء بهم ... أم الهنيبر من زندلها واري
وقال أبو عمرو: الهنبر الجحش، ومنه قيل للأتان: أم الهنبر.
وقالوا في المثل: أحمق من أم الهنبر.
الهودع: بفتح الهاء والدال المهملة وبالعين المهملة في آخره: النعامة وقد تقدم ما فيها.
الهوذة: بفتح الهاء وسكون الواو وبعدها ذال معجمة ضرب من الطير، وقال قطرب: هي القطاة، والجمع هوذ وبذلك سمي هوذة بن علي الحنفي، الذي أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري فأكرمه وأنزله وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا خطيب قومي وشاعرهم، فاجعل لي بعض الأمر، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم. ولما قدم سليط على هوذة ومعه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي. سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك.
فلما قرأ الكتاب، أنزله وحياه، ورده رداً دون رد، وأجاز سليط بن عمرو بجائزة، وكساه أثواباً من نسج هجر. وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، جاءه جبريل فأخبره أنه قد مات على نصرانيته، والله تعالى أعلم.
الهوزن: بفتح الهاء وإسكان الواو وفتح الزاي. طائر، قاله ابن سيده، وبإبدال الواو ياء رجل من أعراب فارس، وهو القائل فيما حكى الله عنه " قالوا: ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم " في قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ورميه في النار. وهو الذي جاء فيه الحديث الذي انفرد به مسلم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رجل يمشى قد أعجبته جمته وبرداه، إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة " .
الهلابع: بضم الهاء الذئب، من قولهم: رجل هلابع أي حريص على الأكل.
الهلال: بكسر الهاء الحية مطلقاً، وقيل: الذكر من الحيات، والهلال أيضاً الجمل الذي جرب حتى أداه ذلك إلى الهزال، والهلال الهلال المعروف.
الهيثم: بفتح الهاء فرخ الحبارى، ومنه سمي الرجل هيثماً، وقال الجوهري: إنه فرخ العقاب، وقيل: فرخ النسر أيضاً، قاله في كفاية المتحفظ.
الهيجمانة: الذر، وقد تقدم لفظ الذر في باب الذال المعجمة.
الهيطل: الثعلب، وقد تقدم لفظ الثعلب في باب الثاء المثلثة.
الهيعرة: الغول والمرأة الفاجرة والخفة والطيش.
الهيق: بفتح الهاء وسكون الياء المثناة تحت قبل القاف: ذكر النعام وكذلك الهيقم، والميم زائدة قال الراجز:
أشم من هيق وأهدى من جمل
وقال آخر:
وهو يشم كاشتمام الهيق
الهيكل: بفتح الهاء الفرس الطويل الضخم.
أبو هارون: طير في حنجرته أصوات شجية تفوق النوائح، وتروق فوق كل مغن، لا يسكت بالليل البتة، يصيح إلى وقت الصباح، ويجتمع عليه الطير لالتذاذها بسماع صوته، وربما يمر به العاشق فلا يستطيع المرور بل يقعد ويبكي على صوته الشجي، والله أعلم.

باب الواو
الوازع: الكلب لأنه يزع الذئب عن الغنم، أي يطرده. وقد تقدم ما فيه في باب الكاف.
الواق واق: تقم في بابا السين مهملة، في الكلام على السعلاة عن الجاحظ، أنه نتاج ما بين بعض النبات وبعض الحيوان، والله تعالى أعلم.

الواقي: كالقاضي: الصرد ويقال له: الواق بكسر القاف، سمي بذلك لحكاية صوته، وأنشد ابن قتيبة لبعض الشعراء، وهو المرقش السدوسي:
ولقد عدوت وكنت لا ... أعدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم
لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم
قد خط ذلك في السطو ... ر الأوليات القدائم
الواقي الصرد، والحاتم الغراب، وقال خيثم بن عدي: وليس بهياب إذا شد رحله يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدماً ... إذا صد عن تلك الهناة الخثارم
يعني بالخثارم العاجز الضعيف الرأي المتطير، والواق أيضاً طير من طير الماء أبيض ينطق بهذه الحروف.
وفي حله الخلاف في طير الماء الأبيض، وقد تقدم أن الأصح حلها، إلا اللقلق كما قاله الرافعي.
الوبر: بفتح الواو وتسكين الباء الموحدة دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون لا ذنب لها تقيم في البيوت، وجمعها وبورو وبارو وبارة، والأنثى وبرة، وقول الجوهري: لا ذنب لها أي لا ذنب طويل، وإلا فالوبر له ذنب قصير جداً والناس يسمون الوبر بغنم بني إسرائيل، ويزعمون أنها مسخت لأن ذنبها مع صغره، يشبه ألية الخروف، وهو قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعول عليه.
فائدة: روى البخاري، في كتاب الجهاد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحوها، فقلت: يا رسول الله أسهم لي، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هذا قاتل ابن قوقل. فقال ابن سعيد بن العاص: واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضان، ينعي علي قتل رجل مسلم، أكرمه الله على يدي، ولم يهنى على يديه. قال: فلا أدري أسهم له أم لم يسهم له. وابن سعيد المذكور هو أبان، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال بعض شراح البخاري: الوبر دويبة يقال إنها تشبه السنور، وأحسب أنها تؤكل. وضان اسم جبل ويروى ضال باللام. قوله: ينعى معناه يعيب، يقال: نعيت على فلان فعله إذا عبته عليه، وخرجه البخاري أيضاً في غزوة خيبر، فقال: إن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه فقال أبو هريرة: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل، فقال أبان لأبي هريرة: واعجبا لك وبر تردى من قدوم ضان ينعي علي امرءاً أكرمه الله تعالى بيدي ومنعه أن يهينني بيده.
قال بعض الشارحين: قدوم جبل لدوس، وهي قبيلة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قال البكري، في معجمه: هكذا رواه الناس عن البخاري قدوم ضان بالنون إلا الهمداني فإنه رواه من قدوم ضال بالكلام، وهو الصواب إن شاء الله تعالى، والضال السدر البري. وأما إضافة هذه النسبة إلى الضان فلا أعلم لها معنى، وكذلك قال شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام.
وقال ابن الأثير، في النهاية: والوبر دويية على قدر السنور وجمعها وبر و بار، وإنما شبهه بالوبر تحقيراً له. ورواه بعضهم بفتح الباء من وبر الإبل تحقيراً له أيضاً. والصحيح الأول. وابن قوقل بقافين مفتوحين، اسمه النعمان رجل مسلم قتله أبان بن سعيد في حال كفره وكان إسلام أبان بين الحديبية وخيبر، وهو الذي أجار عثمان رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
وحكمه: حل الأكل لأنه يفدى في الإحرام والحرم، وهو كالأرنب يعتلف النبات والبقول. وقال الماوردي والروياني: إنه حيوان في عظم الجرذ إلا أنه أنبل منه وأكبر، والعرب تأكله. وقيل: هو دويبة سوداء على قدر الأرنب وأكبر من ابن عرس، وعبارة الرافعي قريبة من ذلك. وقال مالك: لا بأس بأكله، وبه قال عطاء ومجاهد وطاووس وعمرو بن دينار وابن المنذر وأبو يوسف. وكرهه الحكم وابن سيرين وحماد وأبو حنيفة والقاضي من الحنابلة، وقال ابن عبد البر: لا أحفظ في الوبر شيئاً عن أي حنيفة وهو عندي مثل الأرنب لا بأس بأكله، لأنه يقتات البقول والنبات والله أعلم.
الوج: كوج الطائف، القطا والنعام وقد تقدم ما فيهما في بابيها القاف والنون.
الوحرة: بفتح الواو والحاء والراء دويبة حمراء تلزق بالأرض كالعظاء، والجمع وحر، قاله الجوهري.

وقال غيره: هي بفتح الحاء وسكونها وهي وزغة شبيهة بسام أبرص تلصق بالأرض، أو ضرب من العظاء لا تطأ طعاماً ولا شراباً إلا سمته، وهي على شكل سام أبرص. روى الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدور لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة " . ثم قال: غريب من هذا الوجه، وقوله: " لا تحقرن جارة لجارتها " إلى آخره رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً بزيادة " يا نساء المسلمات " ووحر الصدر غشه ووساوسه. وقيل: الحقد والغيظ، وقيل: العداوة، وقيل: أشد الغضب، وقيل: الغل اللاصق به كما تلصق الوحرة بالأرض. وكذلك رواه البخاري، في كتاب الأدب، والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تهادوا تحابوا فإنه يضعف الحب ويذهب بغوائل الصدور " . وفي حديث الملاعنة " إن جاءت به أحمر قصيراً مثل الوحرة فقد كذب عليها " . وفي الحديث: " من أحب يذهب كثيراً من وحر صدره فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر " .
الوحش: كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس، والجمع وحوش، يقال: حمار وحش وثور وحش، وكل فيء لا يستأنس من الناس فهو وحش. وقد تقدم في أول الباب الذي قبله، الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله عز وجل مائة رحمة، قسم منها رحمة بين جميع الخلائق، فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها تعطف الوحش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عبادة يوم القيامة " ؛ وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الوحش بالذكر، لنفورها وعدم استئناسها. وروي أن النيي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله سبحانه وتعالى: ابن آدم وعزتي وجلالي لئن رضيت بما قسمت لك أرحتك وأنت محمود، وإن لم ترض بما قسمت لك سلطت عليك الدنيا تركض فيها كركض الوحش ثم لا يكون لك إلا ما قسمت لك وأنت مذموم " . وروى الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: " من سعادة ابن آدم رضاه بما قسم الله " .
وفي الإحياء: أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: يا داود تريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد. وقال أبو القاسم الأصبهاني، في الترغيب والترهيب: قال قيس بن عبادة: بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء، وقال الفتح بن سخرب، وكان من الزهاد: كنت أفتت للنمل خبزاً في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله.
تتمة مشتملة على فوائد حسنة: قال شيخ الإسلام محي الدين النووي، في الأذكار، في باب أذكار المسافر، عند إرادة الخروج من بيته: يستحب له عند إرداته الخروج من بيته أن يصلي ركعتين، لحديث المقطم بن المقداد الصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد السفر " . رواه الطبراني. قال بعض أصحابنا: يستحب أن يقرأ في الأولى منهما بعد الفاتحة قل أعوذ برب الفلق، وفي الثانية قل أعوذ برب الناس، وإذا سلم قرأ آية الكرسي، فقد جاء أن من قرأ آية الكرسي، قبل خروجه من منزله، لم يصبه شيء يكرهه حتى يرجع ويستحب أن يقرأ سورة لإيلاف قريش فقد قال السيد الجليل، أبو الحسن القزويني، الفقيه الشافعي صاحب الكرامات الظاهرة والأحوال الباهرة، والمعارف المتظاهرة: إنه أمان من كل سوء. وقال أبو طاهر بن جحشويه: أردت سفراً، وكنت خائفاً منه فدخلت على القزويني، أسأله الدعاء، فقال لي ابتداء من قبل نفسه: من أراد سفراً ففزع من عدو أو وحش، فليقرأ لإيلاف قريش، فإنها أمان من كل سوء. فقرأتها فلم يعرض لي عارض حتى الآن انتهى. قوله المقطم الصحاي وهم، لا يعرف في الصحابة من اسمه المقطم.
والحديث المذكور مرسل، فإن راويه إنما هو المقطم بن المقدام الصنعاني رواه الطبراني في كتاب المناسك، وقد وقع هذا الاسم في الأذكار مصحفاً كما ترى صحف الصنعاني فجعله

الصحابي وربما ظن أن ذلك تصحيف من النساخ، حتى وجد كذلك بخط الشيخ محي الدين النووي. هكذا أفادنا هذه الفائدة شيخنا الحافظ العلامة زين الدين بن عبد الرحيم العراقي رحمه الله وأحسن إليه قال: والصنعاني المذكور نسبة إلى صنعاء الشام لا إلى صنعاء اليمن.
تتمة أخرى: قوله تعالى: " وإذا الوحوش حشرت " أي جمعت وقوله تعالى: " ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون " اختلف العلماء في حشر البهائم والوحش والطير؛ فقال عكرمة: حشرها موتها. وقال أبي بن كعب: حشرت أي اختلطت. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشر كل شيء الموت، غير الجن والإنس فإنهما يوفيان يوم القيامة. وقال الجمهور: الجميع تحشر وتبعث حتى الذباب ويقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقول الله تعالى: كوني تراباً فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون تراباً فذلك قوله عز وجل حكاية عن الكافر: " يا ليتني كنت تراباً، قاله أبو هريرة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله تعالى عنهم في إحدى الروايات والحسن البصري ومقاتل وغيرهم.
ورأيت في بعض التفاسير أن المراد بالكافر هنا إبليس لعنه الله وذلك أنه عاب آدم عليه السلام كونه خلق من تراب، وافتخر عليه كونه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والراحة والرحمة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أن يكون تراباً كالبهائم والوحش والطير.
قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فيقول التراب للكافر: لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي، ثم يجول ذلك التراب في وجوه الكفار فذلك قوله تعالى: " ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة " أي ظلمة وكآبة وكسوف وسواد، فإن قيل: ما الفرق بين الغبرة والقترة؟ قيل: إن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض قاله ابن زيد.
روى الجماعة: من حديث رافع بن خديج، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فند منا بعير، فرماه رجل بسهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا " .
تتمة أخرى: قال الشيخ قطب الدين القسطلاني: مما حفظت من دعاء والدتي أم محمد آمنة، ووفاتها في صفر سنة ست وخمسين وستمائة، وهو ينفع للوقاية من الأعداء، وممن يخاف شره: اللهم بتلألؤ نور بهاء حجب عرشك من أعدائي احتجبت، وبسطوة الجبروت ممن يكيدني استترت، وبطول حول شديد قوتك من كل سلطان تحصنت، وبديموم قيوم دوام أبديتك من كل شيطان استعذت، وبمكنون السر من سرسرك من كل هم وغم تخلصت، يا حامل العرش عن حملة العرش، يا شديد البطش يا حابس الوحش، احبس عني من ظلمني. واغلب من غلبني، " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " .
وقد فكرت في معنى قولها يا حابس الوحش، فظهر لي فيه أنها أرادت قوله صلى الله عليه وسلم، في قصة الحديبية، " حبسها الفيل " ، والقصة في ذلك مشهورة، وقد تقدمت.
وقال الشيخ قطب الدين أيضاً: ومما حفظته من دعاء والدتي، وهو من الأدعية التي تنفع في الحجب من الأعداء: اللهم إني أسألك بسر الذات بذات السر، هو أنت أنت هو لا إله إلا أنت احتجبت بنور الله، وبنور عرش الله، وبكل اسم من أسماء الله، من عدوي وعدو الله، ومن شر كل خلق الله، بمائة ألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله، ختمت على نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي، وجميع ما أعطاني ربي، بخاتم الله القدوس المنيع، الذي ختم به أقطار السموات والأرض، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ومما جرب في الحجب عن الأعداء أيضاً ويمنع من شر كل سلطان وشيطان، وسبع وهامة، أن يقول: سبع مرات عند طلوع الشمس: أشرق نور الله وظهر كلام الله وأثبت أمر الله ونفذ حكم الله استعنت بالله وتوكلت على الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، تحصنت بخفي لطف الله، وبلطيف صنع الله، وبجميل ستر الله، وبعظيم ذكر الله، وبقوة سلطان الله، دخلت في كنف الله، واستجرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، برئت من حولي وقوتي، واستعنت بحول الله وقته، اللهم استرني في نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي، بسترك الذي سترت به ذاتك، فلا عين تراك، ولا يد تصل إليك، يا رب العالمين احجبني عن القوم الظالمين بقدرتك يا قوي يا متين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين، والحمد رب العالمين.
الودع: واحدته ودعة وهو حيوان في جوف البحر، إذا قذف إلى البر مات، وله بريق ولون حسن، وتصلب كصلابة الحجر، فيثقب ويؤخذ منه القلائد، يتحلى بها النساء والصبيان. وفي داله الفتح والسكون قال الشاعر:
إن الرواة بلا فهم لما حفظوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع
لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع
واسمها مشتق من ودعته أي تركته، لأن البحر ينضب عنها ويدعها، فهي ودع بالتحريك وإذا قلت الودع بالتسكين، فهو من باب ما سمي بالمصدر.
الوراء: ولد البقرة وقد تقدم ما في البقرة في باب الباء الموحدة.
الورد: الأسد قيل له ذلك تشبيهاً بلون الورد الذي يشم، ولذلك قيل للفرس ورد، وهو بين الكميت الأشقر. والأنثى ورثة والجمع ورد بالضم مثل جون وجون.
ومن الأحاديث الموضوعة، ما ذكره ابن عدي وغيره، في ترجمة الحسن بن علي بن زكريا بن صالح العدوي البصري، الملقب بالذئب، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليلة أسري بي إلى السماء سقط إلى الأرض من عرقي فنبت منه الورد، فمن أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد " .
الورداني: بالراء المهملة طائر متولد بين الورشان والحمام، وله غرابة لون وظرافة قد قاله الجاحظ.
الورشان: بالشين المعجمة هو ساق حر المتقدم في باب السين المهملة، وهو ذكر القمارى، والجمع وراشين ويجمع أيضاً على ورشان بكسر الراء ككروان جمع للطائر، وقيل: إنه طائر يتولد بين الفاختة والحمامة وبعضهم يسميه الورشين وفي ذلك يقول ابن عنين ملغزاً:
يا علماء القريض إني ... أعجزني في القريض كشف
فخبروني عن اسم طير ... النصف ظرف والنصف حرف
وكنيته أبو الأخضر وأبو عمران وأبو النائحة. وهو أصناف منها: النوب وهو أسود حجازي، إلا أنه أشجى صوتاً منه، ومزاجه بارد رطب بالنسبة إلى مزاج الحجازيات، وصوته بين أصواتها كصوت العود بين الملاهي، والورشان يوصف بالحنو على أولاده، حتى إنه ربما قتل نفسه إذا رآها في يد القانص. قال عطاء: إنه يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب. وهذه لام العاقبة مجازاً قال الشاعر:
له ملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب
حكى القشيري، في رسالته، في باب كرامات الأولياء، أن عتبة الغلام كان يقعد فيقول: يا ورشان إن كنت أطوع لله مني فتعال فاقعد على كفي فيجيء الورشان فيعقد على كفه.
وحكمه: حل الأكل لأنه من الطيبات.
تتمة: كان عثمان بن سعيد أبو سعد، لمقرئ المصري المعروف بورش، قصيراً سميناً أشقر أزرق العينين، شديد البياض، حسن الصوت بالقراءة، ولذلك لقبه شيخه نافع بالورشان، فكان يقول له: اقرأ يا ورشان افعل يا ورشان وكان لا يكرهه ويعجبه، ويقول: استاذي نافع سماني به فغلب عليه، ثم حذف بعض الاسم فقيل له ورش. قال ورش: خرجت من مصر لأقرأ على نافع فلما دخلت المدينة، فإذا به لا يطيق أحد القراءة عليه لكثرة الطلبة، وكان لا يقرئ أحداً إلا ثلاثين آية.
قال: فتوسلت إليه ببعض أصحابه، فجئت إليه معه، فقال: هذا رجل جاء من مصر ليقرأ

عليك خاصة، لم يجئ تاجراً ولا حاجاً، فقال له نافع: أنت ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار، فقال: أريد أن تحتال له في وقت، فقال لي نافع: يا أخي يمكنك أن تبيت في المسجد؟ قلت: نعم. فبت فيه. فلما كان الفجر جاء نافع فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: نعم ها أنا يرحمك الله. فقال: اقرأ فقرأت، وكنت حسن الصوت بالقراءة، فاستفتحت أقرأ فملا صوتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهيت إلى رأس الثلاثين آية، أشار إلي أن أسكت، فسكت، فقام إليه شاب من الحلقة فقال: يا معلم الخير نحن معك بالمدينة، وهذا هاجر إليك ليقرأ عليك، وقد وهبته من نوبتي عشر آيات، وأنا أقتصر على عشرين. فقال: اقرأ، فقرأتها. ثم قام فتى أخر فقال كقول صاحبه، فقرأت عشر آيات وقعدت حتى إذا لم يبق أحد ممن له قراءة، قال لي: اقرأ فقرأ خمسين آية حتى قرأت عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة.
وتوفي ورش بمصر سنة سبع وتسعين ومائة ومولده سنة عشرين ومائة.
الأمثال: قالوا: بعلة الورشان يأكل رطب المشان بالإضافة، ولا تقبل الرطب المشان وهو نوع من التمر، والمشان ضرب من الرطب، والسبب في ذلك أن قوماً استحفظوا عبداً لهم رطب نخلهم، فكان يأكله، فإذا عوتب على سوء الأثر فيه يقول: أكله الورشان، فقيل ذلك يضرب لمن يظهر شيئاً، والمراد منه شيء آخر.
الخواص: دمه يقطر في العين التي أصابتها طرفة أو ضربة فيحلل دمها المجتمع، وكذا يفعل الحمام أيضاً وقال هرمس: من داوم على أكل بيضه زاد جماعه وأورثه العشق.
التعبير: الورشان رجل غريب مهين، ويدل على أخبار ورسل، لأنه أخبر نوحاً عليه الصلاة والسلام بنقص الماء، لما كان في السفينة. وقيل: الورشان امرأة صدوق والله أعلم.
الورقاء: الحمامة التي يضرب لونها إلى خضرة، والورقة سواد في غبرة، ومنه قيل للرماد أورق وللذئبة ورقاء والجمع ورق كأحمر وحمر.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل لك من إبل؟ " قال: نعم. قال: " فما ألوانها؟ " قال: حمر. قال: " فهل فيها من أورق؟ " قال: إن فيها الورقاء قال: " فأني أتاها ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: " هو ذاك " .
قال السهيلي، قي قصة سواد بن قارب: ومن هذا الباب خبر سوداء بنت زهرة بن كلاب وذلك أنها حين ولدت ورآها أبوها ورقاء، أمر بوأدها، وكانوا يئدون من البنات ما كان على هذه الصفة، فأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك. فلما حفر لها الحافر، وأراد دفنها سمع هاتفاً يقول: تدفن الصبية وخلها في البرية، فالتفت فلم ير شيئاً فعاد لدفنها، فسمع الهاتف فعاد إلى أبيها وأخبره بما سمع، فقال: إن لها لشأناً وتركها. فكانت كاهنة قريش. فقالت يوماً: يا بني زهرة إن فيكم نذيرة تلد نذيراً، فاعرضوا في بناتكم. فعرضوا عليها، فقالت في كل واحدة منهن قولاً ظهر عليها بعد حين، حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب، فقالت: هذه النذيرة وستلد نذيراً. وهو خبر طويل ذكر الزبير بن بكار منه يسيراً. وقال الغزالي، في الإحياء: روي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوة فجرت بينهم مسألة في العلم، وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم:
رب ورقاء هتوف في الضحي ... ذات شجو هتف في فنن
ذكرت إلفاً وخدنا صالحاً ... فبكت حزناً فهاجت حزني
فبكاي ربما أرقها ... وبكاها ربما أرقني
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً بالجوى تعرفني
قال: فما بقي أحد من القوم، إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم، الني خاضوا فيه وإن كان العلم حقاً، وقد شبه بها الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن سينا النفس حيث قال:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع

وأظنها نسيت عهوداً بالحمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذالت الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع
تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقلع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفغ كل من لم يرفع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
فهبوطها إذا كان ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع
فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
أو عاقها الشرك الكثيف وصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع
فكأنها برق تأنق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وكان الرئيس أبو علي نادرة عصره وعلامة دهره وهو أحد فلاسفة المسلمين وله وصايا في الطب، كثيرة، نظماً ونثراً فمن المنسوب إليه من ذلك:
اسمع بني وصيتي واعمل بها ... فالطب معقود بنص كلامي
لا تشربن عقيب أكل عاجلاً ... فتقود نفسك للأذى بزمام
واجعل غذاءك كل يوم مرة ... واحذر طعاماً قبل هضم طعام
واحفظ منيك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام
وينسب إليه أيضاً:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفاً بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
قال الشيخ كمال الدين بن يوسف: إن مخدومه سخط عليه، فاعتقله ومات في السجن سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
الورل: بفتح الواو والراء المهملة وباللام في آخره، دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه، والجمع أورالد وورلان والأنثى ورلة. كذا قاله ابن سيده.
وقال القزويني: إنه العظيم من الوزغ، وسام أبرص طويل الذنب سريع السير، خفيف الحركة. وقال عبد اللطيف البغدادي: الورل والضب والحرباء، وشحمة الأرض والوزغ، كلها متناسبة في الخلق، فأما الورل وهو الحرذون فليس في الحيوان أكثر سفاداً منه، وبينه وبين الضب عداوة، فيغلب الورل الضب ويقتله، لكنه لا يأكله كما يفعل بالحية، وهو لا يتخذ بيتاً لنفسه ولا يحفر له جحراً بل يخرج الضب من جحره صاغراً، ويستولي عليه، وإن كان أقوى براثن منه لكن الظلم يمنعه من الحفر، ولهذا يضرب بالورل المثل في الظلم، ويكفي في ظلمه أنه يغصب الحية جحرها ويبلعها، وربما قتل فوجد في جوفه الحية العظيمة، وهو لا يبتعلها حتى يشدخ رأسها ويقال إنه يقاتل الضب.
والجاحظ يقول: إن الحرذون غير الورل، ووصفه بأنه دابة تكون غالباً بناحية مصر، مليحة موشاة بألوان كثيرة، ولها كف ككف الإنسان مقسومة أصابعها إلى الأنامل، وهو يقوى الحيات ويأكلها أكلاً ذريعاً، ويخرجها من جحرها ويسكن فيه وهو أظلم ظالم.
فائدة: قال أهل اللغة: لا تلتقي الراء مع اللام إلا في أربع كلمات: الورل، وهو الحيوان المذكور، وأرل اسم جبل، وغرلة وهي القلفة، وجرل وهو ضرب من الحجارة.
الحكم: مقتضى ما تقدم من أكله الحيات أنه يحرم، وهذا هو الظاهر من قول الأقدمين ورجع الرافعي أنه يرجع فيه إلى استطابة العرب وعدمها، لقوله تعالى: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ، وليس المراد الحلال وإن كان قد ورد الطيب بمعنى الحلال، الحمل عليه يخرج الآية عن الإفادة، والعرب أولى باعتبار ذلك لأن الدين عربي والنبي صلى الله عليه وسلم عربي وإنما يرجع في ذلك إلى سكان البلاد والقرى دون آجلاف البوادي، الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز، مع اعتبار حالة اليسار والثروة دون المحتاجين. وأصحاب الضرورات، وحالتي الخصب والرفاهية دون حالتي الجدب والشدة.

وقال بعضهم: المعتبر هنا العرب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الخطاب كان لهم. وقال ابن عبد البر، في التمهيد: ذكر عبد الرزاق قال: أخبرني رجل من ولد سعيد بن المسيب قال: أخبرني يحيى بن سعيد قال: كنت عند سعيد بن المسيب، فجاءه رجل من غطفان، فسأله عن الورل فقال: لا بأس به، وإن كان معكم منه شيء فاطعمونا منه. قال عبد الرزاق: والورل يشبه الضب.
وقد ذكر في كتاب رفع التمويه فيما يرد على التنبيه، ما حاصله أنه فرخ التمساح، وقال: لأن التمساح يبيض في البر فإذا خرجت فراخه نزل بعضها في البحر، وبقي بعضها في البر فما نزل إلى البحر صار تمساحاً، وما بقي في البر صار ورلاً. قال: فعلى هذا يكون في حله الوجهان كما في التمساح.
وهذا الذي قاله لا أعتقد صحته، وذلك لأن الورل ليس على صفات التمساح، لأن جلده يخالف جلده في النعومة وأيضاً فإنه لو كان من التمساح لأخذ في الكبر حتى يصير في حجمه، والورل في المقدار لا يزيد على ذراع ونصف أو ذراعين، والتمساح يبلغ عشرة أذرع وأكثر.
تنبيه مهم: إعلم أنه تقدم في هذا الكتاب حيوانات لم تتعرض الأصحاب لها بالحل ولا بالحرمة، وذلك نحو البلنصى والدبل والقرعبلان والقرز والقنفشة والورل وغير ذلك، إلا أنهم أعطوا قواعد كلية عامة وقواعد خاصة، وذلك لما أيسوا من الطمع في حصر أنواع الحيوانات. فمن قواعدهم الخاصة: تحريم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وكل ما يقتات من النجاسات والخبائث، وكل ما نهي عن قتله أو أمر بقتله، أو تولد بين مأكول وغيره، وكل نهاش والحشرات بأسرها، إلا الضب واليربوع والقنفذ وابن عرس والدلدل.
ومن قواعدهم الخاصة أيضاً تحليل كل ذات طوق ولقاط وطيور الماء كلها، إلا اللقلق كما تقدم. ومن هذه القواعد يؤخذ تحريم الورل لأنه من الحشرات، ولم يستثنوه. وكذا غيره من الحشرات كالخلد والربارب وفأرة البيش والإبل ومما يدل على منع أكل الورل قول الجاحظ وغيره: إن الورل يقوي على الحيات ويأكلها أكلاً ذريعاً ويخرجها من جحرها ويسكن فيه قال: وبراثن الورل أقوى من براثن الضب إلا أن الورل يخرج الحية من جحرها، ولا يحفر خوفاً منه على براثنه.
ثم المعنى بقولهم ما أمر بقتله لمعنى فيه كالفواسق الخمس أما ما أمر بقتله لمعنى في غيره فلا يحرم، ومن ذلك الدابة المأكولة إذا وطئت فإنه يجب ذبحها ولا يحرم أكلها على الصحيح، وإن ورد الأمر بقتلها لأن ذلك ليس لمعنى فيها، بل هو في غيرها وهو تعبير الزاني وتذكره الفاحشة برؤيتها. وقد أمر عمر رضي الله تعالى عنه بقتل الديكة لأنهم كانوا يتهارشون بها وأمر بقتل الحمام لأنهم كانوا يلعبون بها، ويؤذون الناس بصعودهم الأسطحة والرمي بالأحجار.
وقولهم: ما نهي عن قتله فحرام، يعنون به ما نهي عن قتله إكراماً له. قال: الخطابي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الهدهد كرامة له، لأنه أطاع نبياً لا أنه حرام ونقله عنه العبادي وقضيته ترجيح وجه القائل بحل الصرد لأن النهي عن قتله لأمر خارج عنه لا لمعنى فيه، ولما كانت هذه القواعد غير تامة لجميع الحيوان، ذكر الأصحاب قاعدة عامة وهي الاستطابة والاستخباث وعليها مدار الباب. قال الرافعي: من الأصول المرجوع إليها في التحريم والتحليل الاستطابة والاستخباث. ورآه الشافعي والأصل العظيم المعتمد فيه قوله تعالى: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " وليس المراد بالطيب هنا الحلال. وإن كان قد يرد الطيب بمعنى الحلال، لأن الحمل عليه يخرج الآية عن الإفادة.
قال الأئمة: ويبعد الرجوع إلى طبقات الناس، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبونه يستخبثونه، لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحلال والحرام، وذلك يخالف موضوع الشرع في حمل الناس على شرع واحد، ورأوا العرب أولى الأمم بأن يؤخذ باستطابتهم واستخبائهم لأنهم المخاطبون أولاً والدين عربي والنبي صلى الله عليه وسلم عري، وإنما يرجع إلى سكان البلاد والقرى دون أجلاف سكان البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز، مع اعتبار حالة اليسار والثروة المحتاجين وأصحاب الضرورات، وحالتي الخصب والرفاهية دون حالتي الجدب والشدة وقال بعضهم: المعتبر الرجوع إلى عادة العرب الذين كانوا في عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب كان لهم.

ويشبه أن يقال: يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه. ويدل لهذا التوجيه ما تقدم في باب العين المهملة، في لفظ العضاري، عن أبي عاصم العبادي، أنه حكى عن الأستاذ أبي طاهر الزيادي أنه قال: كنا نرى العضاري حراماً ونفتي بتحريمه، حتى ورد علينا الأستاذ الحسن الماسرجيني فقال: إنه حلال، فبعثنا منه جواباً إلى البادية وسألنا العرب عنه فقالوا: هذا الجراد المبارك، فرجعوا إلى قول العرب فيه. وإذا اختلف المرجوع إليهم فاستطابته طائفة واستخبثته طائفة اتبعنا الأكثرين، فإن استوت الطائفتان، قال المارودي في الحاوي، وأبو الحسن العبادي: إنه يتبع قريش، لأنهم قطب العرب وفيهم النبوة، فإن اختلفت قريش أو لم يحكموا بشيء، اعتبر أقرب الحيوانات شبهاً به. والشبه يكون تارة في الصورة وتارة في الطبع من السلامة والعدوان، وأخرى في طعم اللحم، فإن تساوى الشبه أو لم يوجد ما يشبه ففيه وجهان انتهى.
زاد في الحاوي هما من اختلاف أصحابنا في أصول الأشياء، قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو الحظر؟ أحد الوجهين أنها على الإباحة حتى يرد الشرع بالحظر انتهى. قال أبو العباس: إذا وجد حيوان لا يعرف حاله عرض على العرب، فإن سموه باسم ما يحل حل، وإن سموه باسم ما يحرم حرم، وإن لم يكن له اسم عندهم اعتبر بأقرب الأشياء شبهاً من الذي يحل يحرم. وعلى هذا نص الشافعي، رحمه الله تعالى.
وقال الرافعي: وفي استصحاب حكم ما ثبت تحريمه في شرع من قبلنا قولان أحدهما: نعم وأخذاً بما كان إلى أن يظهر ناسخ، والثاني لا بل اعتماد ظاهر الآية المقتضية للحل أولى، والخلاف على ما ذكر الموفق بن طاهر رحمه الله تعالى، مبني على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا فيه اختلاف أصولي، والأوفق لسياق كلام الأصحاب أنه لا يستصحب حكم شرع من قبلنا، وعلى لذا فلا تفريع. وعلى القول بالاستصحاب فذلك إذا ثبت بالكتاب أو السنة، أنه كان حراماً في شرع من قبلنا، أو شهد به اثنان أسلما منهم، ممن يعرف التبديل، ولا يعتمد فيه قول أهل الكتاب انتهى كلام الرافعي.
قال في الحاوي: ولو كان الحيوان ببلاد العجم، اعتبر في أقرب بلاد العرب عند من جمع الأوصاف المعتبرة فإن اختلفوا فيه اعتبر حكمه فيا أقرب بلاد الشرائع للإسلام، وهي النصرانية فإن اختلفوا فيه فعلى ما ذكرناه من الوجهين يعني في الأشياء قبل ورد شرع انتهى.
قلت: ولا بد من التنبيه هنا على أمرين: أحدهما أنا إذا قلنا باستصحاب شرع من قبلنا، كما هو اختيار ابن الحاجب وغيره من الأصوليين، فله شرطان أحدهما: ألا يختلف في تحريمه وتحليله شريعتان، فإن اختلفتا بأن كان حراماً في شريعة إبراهيم عليه السلام وحلالاً في شريعة غيره، فيحتمل أن نأخذ بالشريعة المتأخرة، ويحتمل التخيير، إن لم نقل بأن الثانية ناسخة للأولى، وإن ثبت كون الثانية ناسخة للأولى، وجهل كونه حراماً في الشريعة السابقة أو اللاحقة، وقف. ويحتمل الرجوع إلى الإباحة الأصلية فيأتي الوجهان السابقان. الأمر الثاني أن يكون التحريم أو التحليل ثابتاً قبل تحريفهم وتبديلهم، فإن استحلوا أو حرموا بعد النسخ، فلا عبرة به والله أعلم. الأمثال: قالوا: أجبر من ورل وأسرع من تملظ الورل وهو الأكل بطرف اللسان، كذلك يأكل الورل وقالوا: أشرد وأضل وأظلم من ورل.
الخواص: شعره إذا شد على عضد امرأة لم تحمل ما دام ذلك عليها، ولحمه وشحمه يسمن النساء، وفيه قوة جذب الشوك من البدن، وجلده يحرق ويخلط رماده بدردي الزيت ويطلى به عضو الخدر يذهب خدره، وزبله ينفع من الكلف والنمش طلاء.
التعبير: الورل في المنام يدل على عدو خسيس الهمة ذي مهانة وقصور حجة الله تعالى أعلم.
الوزغة: بفتح الواو والزاي والغين المعجمة دويبة معروفة، وهي وسام أبرص جنس، فسام أبرص كباره واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذيات، وجمع الوزغة وزغ وأوزاغ ووزغان وازغان على البدل حكاه ابن سيده.
روى البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، عن أم شريك رضي الله تعالى عنها، أنها استأمرت النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الوزغان، فأمرها بذلك. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقاً. وقال: كان ينفخ النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده.

وفي الحديث الصحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل وزغة من أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية، فله كذا وكذا حسنة دون الأولى، ومن قتلها في الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الثانية " . وفيه أيضاً " إن من قتلها في الأولى فله مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أقتلوا الوزغة ولو في جوف الكعبة " لكن في إسناده عمر بن قيس المكي، وهو ضعيف. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، لما أحرق بيت المقدس وكانت الأوزاغ تنفخه.
وفي سنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه كان في بيتها رمح موضوع، فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ فقالت: أقتل به الوزغ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اخبرنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ عليه النار، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله. وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده.
وفي تاريخ ابن النجار في ترجمة عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم الفقيه الشافعي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قتل وزغة محا الله عنه سبع خطيآت " .
وفي الكامل، في ترجمة وهب بن حفص، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل وزغة فكأنما قتل شيطاناً " .
وروى الحاكم في كتاب الفتن والملاحم من المستدرك، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم فيدعو له، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: هو الوزغ ابن الوزغ المعلون ابن الملعون. ثم قال: صحيح الإسناد. وروى بعده بيسير عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر! فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك والذي قال لوالديه أف لكما! فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: كذب والله ما هو به، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعن أبا مروان ومروان في صلبه.
ثم روى الحاكم عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله تعالى عنه، وكانت له صحبة، قال: إن الحكم بن أبي العاص استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته فقال صلى الله عليه وسلم: " ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم يشرفون في الدنيا، ويضيعون في الآخرة ذوو مكر وخديعة يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق " قال ابن ظفر. وكان الحكم بن أبي العاص يرمى بالداء العضال وكذلك أبو جهل.
وأما تسمية الوزغ فوسقاً، فنظيره الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم، وأصل الفسق الخروج، وهذه المذكورات خرجت عمن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى.
وأما تقييد الحسنات في الضربة الأولى بمائة، وفي الثانية بسبعين، كما في بعض الروايات، فجوابه أنه كقوله في صلاة الجماعة بسبع وعشرين وبخمس وعشرين، وأن مفهوم العدد لا يعمل به فذكر السبعين لا يمنع المائة فلا تعارض بينهما. أو لعله صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً بالسبعين، ثم تصحف الله تعالى بالزيادة علينا، فأعلم به صلى الله عليه وسلم حين أوحى الله إليه بعد ذلك، أو أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ، بحسب نياتهم وإخلاصهم، وكمال أحوالهم ونقصها، فتكون المائة للأكمل منهم والسبعون لغيره.
قال يحيى بن يعمر: لأن أقتل مائة وزغة أحب إلي من اعتق مائة رقبة، وإنما قال ذلك لأنها

دابة سوء، زعموا أنها تسقى من الحيات وتمج في الإناء فينال الإنسان المكروه العظيم بسبب ذلك، وسبب كثرة الحسنات في المبادرة أن تكرر ضربات في القتل، يدل على عدم الاهتمام بأمر صاحب الشرع، إذ لو قوي عزمه واشتدت حميته، لقتلها في المرة الأولى لأنه حيوان لطيف لا يحتاج إلى كثرة مؤن في الضرب، فحيث لم يقتلها في المرة الأولى دل ذلك على ضعف عزمه، فلذلك نقص أجره من المائة إلى السبعين. وعلل عز الدين بن السلام كثرة الحسنات في الأولى بأنه إحسان في القتل فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة " . أو أنه مبادرة إلى الخير فيدخل تحت قوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات " قال: وعلى كلا المعنيين فالحية والعقرب أولى بذلك لعظم مفسدتهما.
وذكر أصحاب الآثار أن الوزغ أصم قالوا: والسبب في صممه ما تقدم من نفخه النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فصم لأجل ذلك وبرص. ومن طبعه أنه لا يدخل بيتاً فيه رائحة الزعفران، وتألفه الحيات كما تألف العقارب الخنافس، وهو يلقح بفيه ويبيض كما تبيض الحيات، ويقيم في جحره زمن الشتاء، أربعة أشهر لا يطعم شيئاً.
وقد تقدم في حرف السين المهملة ما يتعلق بأحكامها وخواصها وقد أحسن في وصف الوزغة وغيرها الأدب الشاعر كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى، صاحب المقامة البحرية، ووفاته في المحرم سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وكان والده خطيب بيت المقدس حيث قاد يذم دار سكناه:
دار سكنت بها أقل صفاتها ... أن تكثر الحشرات في حجراتها
الخير عنها نازح متباعد ... والشر دان من جميع جهاتها
من بعض ما فيها البعوض عدمته ... كم أعدم الأجفان طيب سناتها
وتبيت تسعدها براغيث متى ... غنت لها رقصت على نغماتها
رقص بتنقيط ولكن قافه ... قد قدمت فيه على أخواتها
وبها ذباب كالضباب يسد ع ... ين الشمس ما طربي سوى غناتها
أين الصوارم والقنا من فتكها ... فينا وأين الأسد من وثباتها
وبها من الخطاف ما هو معجز ... أبصارنا عن حصر كيفياتها
تغشى العيون بمرها ومجيئها ... وتصم سمع الخلد من أصواتها
وبها خفافيش تطير نهارها ... مع ليلها ليست على عاداتها
شبهتها بقنافذ مطبوخة ... نزع الطهاة بنضجها شوكاتها
فاقت على سمر القنا في لونها ... وسماتها وشياتها وصفاتها
وبها من الجرذان ما قد قصرت ... عنه العتاق الجرد في حملاتها
فترى أبا غزوان منها هارباً ... وأبا الحصين يروغ عن طرقاتها
وبها خنافس كالطنافس أفرشت ... في أرضها وعلت على جنباتها
لو شم أهل الحرب منتن فسوها ... أردى الكماة الصيد عن صهواتها
وبنات وردان وأشكال لها ... مما يفوت العين كنه ذواتها
متزاحم متراكم متحارب ... متراكب في الأرض مثل نباتها
وبها قراد لا اندمال لجرحها ... لا يفعل المشراط مثل أداتها
أبدا تمص دماءنا فكأنها ... حجامة لبدت على كاساتها
وبها من النمل السليماني ما ... قد قل ذر الشمس عن ذراتها
لا يدخلون مساكناً بل يحطمو ... ن جلودنا فالعفو من سطواتها
ما راعني شيء سوى وزغاتها ... فنعوذ بالرحمن من نزغاتها
سجعت على أوكارها فظننتها ... ورق الحمام سجعن في سحراتها
وبها زنابير تظن عقاربا ... لا برء للمسموم من لدغاتها
وبها عقارب كالأقارب رتعاً ... فينا حمانا الله لدغ حماتها
وكأنما حيطانها كغرابل ... أطلعن أرؤسهن من طاقاتها
كيف السبيل إلى النجاة ولا نجا ... ة ولا حياة لمن رأى حياتها
السم في نفساتها والمكر في ... لفتاتها والموت في لسعاتها

منسوجة بالعنكبوت سماؤها ... والأرض قد نسجت ببراقاتها
فلقد رأينا في الشتاء سماءها ... والصيف لا تنفك من صعقاتها
فضجيجها كالرعد في جنباتها ... وترابها كالوبل من حسياتها
والبوم عاكفة على أرجائها ... والآل يلمع في ثرى عرصاتها
والنار جزء من تلهب حرها ... وجهنم تعزى إلى لفحاتها
قد رممت من قبل يلقى آدم ... مع أمنا حواء في عرفاتها
شاهدت مكتوباً على أرجائها ... ورأيت مسطوراً على عتباتها
لا تقربوا منها وخافوها ولا ... تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها
أبداً يقول الداخلون ببابها ... يا رب نج الناس من آفاتها
قالوا: إذا ندب الغراب منازلاً ... يتفرق السكان من ساحاتها
وبدارنا ألفا غراب ناعق ... كذب الرواة فأين صدق رواتها
دار تبيت الجن تحرس نفسها ... فيها وتنفر باختلاف لغاتها
صبراً لعل الله يعقب راحة ... للنفس إذ غلبت على شهواتها
كم بت فيها مفرداً والعين شو ... قاً للصباح تسح من عبراتها
وأقول: يا رب السموات العلا ... يا رازقاً للوحش في فلواتها
أسكنتني بجهنم الدنيا ففي ... أخراي هب لي الخلد في جناتها
واجمع بمن أهواه شملي عاجلاً ... يا جامع الأرواح بعد شتاتها
والوزغ في الرؤيا رجل معتزلي يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف، خامل الذكر، وكذلك العظاء. وربما دل الوزغ على العدو المجاهر بالشر، والكلام السوء، والتنقل من الأمكنة.
الوصع: بفتح الواو والصاد المهملة، وبالعين المهملة في آخره الصعوة، وقد تقدم الكلام عليها، في باب الصاد المهملة. وقيل: هو طائر أصغر من العصفور.
وفي الحديث أن إسرافيل عليه الصلاة والسلام له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإن العرش على منكب إسرافيل، وإنه ليتضاءل الأحيان من عظمة الله تعالى، حتى يصير مثل الوصع. يروى بفتح الصاد المهملة وسكونها. وقال ابن الأثير: إنه أصغر من العصفور والجمع وصعان.
وفي أول التعريف والاعلام للسهيلي، أن أول من سجد من الملائكة لآدم إسرافيل عليه الصلاة والسلام، ولذلك جوزي بولاية اللوح المحفوظ. قاله محمد بن الحسن النقاش.
الوطواط: الخفاش وقد تقدم ما فيه في باب الخاء المعجمة.
وروى الحافظ بن عساكر، في تاريخه بسنده إلى حماد بن محمد، أنه قال: كتب رجل إلى ابن عباس، يسأله عن شيء ليس له لحم ولا دم تكلم، وعن شيء ليس له لحم ولا دم سعى، وعن شيء ليس له لحم ولا دم تنفس، وعن اثنين ليس لهما لحم ولا دم خوطبا وأجابا، وعن رسول الله ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة، وعن نفس ماتت ثم عاشت بها نفس غيرها وعن موسى عليه السلام كم أرضعته أمه قبل أن تلقيه في اليم، وفي أي بحر، وفي أي يوم ألقته وكم كان طول آدم عليه السلام، وكم عاش، ومن كان وصيه، وعن طير لا يبيض ويحيض. فقال: الأول النار قالت: " هل من مزيد " ، والثاني عصا موسى عليه السلام، والثالث الصبح، والرابع السماء والأرض، " قالتا أتينا طائعين " ، والخامس الغراب الذي بعثه الله إلى ابن آدم، والسادس البقرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن، وأرضعت موسى أمه قبل أن تلقيه في اليم ثلاثة أشهر، وألقته في بحر القلزم، وكان ذلك يوم الجمعة، وكان طول آدم عليه السلام ستين ذراعاً، وعاش ألف سنة إلا ستين سنة، وكان وصيه شيث. والطير الوطواط الذي نفخ فيه عيسى عليه السلام، فكان طائراً بإذن الله عز وجل.
وحكمه: تحريم الأكل للنهي عن قتله كما تقدم في باب الخاء المعجمة.
الأمثال: قالوا: أبصر من الوطواط بالليل أي أعرف ويسمون الجبان وطواطا.
التعبير: الوطواط تدل رؤيته على الغي والضلالة عن الحق، وربما دلت رؤيته على ولد الزنا

لأنه من الطير، وليس بطائر، وهو يرضع كما يرضع الآدمي، وربما دلت رؤيته على زوال النعم، والبعد من المألوفات، لأنه من الممسوخين، وهذا بعيد. وربما دلت رؤيته على إقامة الحجة والبينة لقوله تعالى: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها " الآية. وهذا أظهر الأقاويل عندي والله أعلم.
الوعوع: وبقال له أيضاً الوع، ابن آوى، وقد تقدم الكلام عليه في أواخر باب الهمزة.
الوعل: بفتح الواو وكسر العين المهملة، الأروى المتقدم في باب الهمزة وهو التيس الجبلي، والأنثى تسمى أروية وهي شاة الوحش، والجمع أوعال ووعول.
وذكر ابن عدي، في كامله، في ترجمة محمد بن إسماعيل بن طريح، أنه قال: حدثني أبي، عن جدي، أنه حضر أمية بن أبي الصلت حين حضرته الوفاة، فأغمي عليه ثم أفاق فرفع رأسه فنظر حيال باب البيت، وقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا عشيرتي تحميني، ولا مالي يفديني، ثم أغمي عليه ثم أفاق فرفع رأسه وقال:
كل حي وإن تطاول دهراً ... آيل أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
ثم فاضت نفسه.
وعن شهر بن حوشب، قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة، قال له ابنه: يا أبتاه إنك كنت تقول لنا: ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيباً عند نزول الموت به، حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت، فقال: يا بني والله كأن السماء قد أطبقت على الأرض، وكأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سم إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي، ثم أنشأ يقول:
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
ومن غريب ما اتفق. أن عبد الملك بن مروان لما احتضر، وكان قصره يشرف على بردى، فنظر إلى غسال يغسل الثياب، فقال: ليتني كنت مثل هذا الغسال، أكتسب ما أعيش به يوماً بيوم، ولم أل الخلافة. وتمثل بقول أمية بن أبي الصلت:
كل حي وإن تطاول دهراً.
البيتين المتقدم ذكرهما.
فاتفق له كما اتفق لأمية من الموت عقب ذلك، فلما بلغ ذلك أبا حازم، قال: الحمد لله الذي جعلهم في وقت الموت يتمنون ما نحن فيه، ولم يجعلنا نتمنى ما هم فيه.
وفي الاستيعاب، في ترجمة الفارعة بنت أبي الصلت، أخت أمية بن أبي الصلت، أنها قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فتحه للطائف، وكانت ذات لب وعفاف وجمال، وكان صلى الله عليه وسلم يعجب بها، فقال لها صلى الله عليه وسلم يوماً: " هل تحفظين من شعر أخيك شيئاً؟ " فأخبرته خبره، وما رأت منه، وقصت قصته في شق جوفه، وإخراج قلبه، ثم عوده إلى مكانه وهو قائم، وأنشدت له شعره الذي أوله:
باتت همومي تسري طوارقها ... أكف عيني والدمع سابقها
نحو ثلاثة عشر بيتاً منها قوله:
ما أرغب النفس في الحياة وإن ... تحيا طويلا فالموت لاحقها
يوشك من فر من منيته ... يوماً على غرة يوافقها
من لم يمت غبطة يمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها
ثم قالت: وإنه قال عند وفاته:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك ما ألما
ثم قال:
كل حي وإن تطاول دهراً
البيتين ثم مات. فقال صلى الله عليه وسلم: " إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " .
وفي طباع الوعل أنه يأوي إلى الأماكن الوعرة الخشنة، ولا يزال مجتمعاً، فإذا كان وقت الولادة تفرق، وإذا اجتمع في ضرع أنثى لبن امتصته. والذكر إذا ضعف عن النزو أكل البلوط فتقوى شهوته، وإذا لم يجد الأنثى انتزع المني بالامتصاص بفيه، وذلك إذا جد به الشبق، وفي طبعه أنه إذا أصابه جرح، طلب الخضرة التي في الحجارة فيمتصها ويجعلها على الجرح فيبرأ. وإذ أحس بالقناص، وهو في مكان مرتفع، استلقى على ظهره ثم يزج نفسه فينحدر، ويكون قرناه، وهما في رأسه، إلى عجزه يقيانه ما يخشى من الحجارة ويسرعان به لملوستهما على الصفا.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال عن المدينة: " لو رأيت الوعول تجرش ما بينها ما هجتها " . أراد لو رأيتها ترعى كلأها ماهجتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم صيدها.

وفي الترغيب والترهيب، وغريب أبي عبيدة وغيره من حديث أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ويخون الأمين ويؤتمن الخائن وتهلك الوعول وتظهر التحوت " . قالوا: يا رسول الله ما الوعول وما التحوت؟ قال: " الوعول وجوه الناس وأشرافهم والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم " وبعضه في الصحيح، وإنما شبههم بالوعول وضرب بها المثل لأنها تأوي رؤوس الجبال والله تعالى أعلم.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي. عن العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، قال: كنا جلوساً بالبطحاء، في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت سحابة، فنظر إليها فقال صلى الله عليه وسلم: " أتدرون ما اسم هذه؟ " قلنا: نعم، هذا السحاب. قال صلى الله عليه وسلم: " وهو المزن والعنان " . ثم قال عليه الصلاة والسلام. " أتدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟ " قلنا: لا. قال صلى الله عليه وسلم: " إما واحدة، وإما اثنتان، وإما ثلاث وسبعون سنة، والسماء فوقها، كذلك " . حتى عد عليه الصلاة والسلام سبع سموات، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، وفوق البحر ثمانية أوعال بين أضلافها وركبها، كما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش، من أسفله إلى أعلاه، مثل ما بين سماء إلى سماء " ، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قال الجاحظ الذهبي: وهو كما قال الترمذي حسن غريب، وقد أخرجه الحافظ الضياء أيضاً، في كتاب المختار له، ورواه الحاكم في المستدرك عن سماك بن حرب، وقرأ " إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " .
وفي التمهيد لابن عبد البر، عن أسد ب؟ن موسى، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان، والثاني على صورة ثور، والثالث على صورة نسر، والرابع على صورة أسد. وفي تفسير الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة آخرين " .
وفي سنن أبي داود، من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " .
وحكمه: الحل بالإجماع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في الوعل إذا قتله المحرم، أو قتل في الحرم شاة. وذكر القزويني، في الأشكال عن ابن الفقيه، أنه قال: رأيت بجزيرة رانج حيوانات غريبة الأشكال، من ذلك وعول كالتيوس الجبلية، ألوانها حمر منقطعة ببياض، ولحمها حامض انتهى.
فإن صح هذا القول، فالذي يظهر الحل إلحاقاً بمماثله من المأكول، عملا بالمشاكلة الصورية، والله تعالى أعلم.
الأمثال: قالوا: أزهى من وعل وأحمق من ناطح الصخرة أي الوعل، وأنشدوا قول الأعشى:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
أراد كوعل ناطح، فحذف الموصوف وأبقى الصفة.
وخواصه: تقدمت في باب الهمزة، في لفظ الأروى، لكن منها أيضاً أن مخه جيد للمرأة التي بها نزف الدم، تتحمل به في صوفة. ولحمه وشحمه يسحقان ويلقى عليهما صبر وسعد وقرنفل وزعفران وعسل، يخلط الجميع ويسقى منه وزن مثقال، بماء الكرفس لمن به حصاة في مثانته يبرأ بإذن الله تعالى.
الوقواق: كفطفاط طائر حكاه ابن سيده ولعله القاق المتقدم في باب القاف.
بنات وردان: بفتح الواو وتسمى فالية الأفاعي، وهي دويبة تتولد في الأماكن الندية وأكثر ما تكون في الحمامات والسقايات، ومنها الأسود والأحمر والأبيض والأصهب، وإذا تكونت تسافدت وباضت بيضاً مستطيلا، وهي تألف الحشوش واحدها حش بفتح الحاء المهملة وضمها. قال الجاحظ: أصل الحش القطعة من النخل، وهي الحشان بكسر الحاء المهملة وتشديد الشين، وذلك أن أهل المدينة، كانوا إذا أراد أحدهم قضاء الحاجة، دخل النخل. فكنوا عن مكان الخراء بالحش، كما كنوا عنه بالخلاء، وقالوا لمن يذهب إلى الخراء: ذهب إلى البزار، وذهب إلى المستراح وإلى الحش والخلاء والمخرج والمتوضأ والمذهب والغائط وقضاء الحاجة. وقالوا: ذهب ينجو، كما قالوا: ذهب يتغوط كل ذلك هرباً من أن يقولوا ذهب إلى الخراء. وقد وصف بعض الشعراء بنات وردان حيث قال:

بنات وردان جنس ليس ينعته ... خلق كنعتي في وصفي وتشبيهي
كمثل أنصاف بسر أحمر تركت ... من بعد تشقيقه أقماعه فيه
وحكمها: تحريم الأكل لاستقذارها، ولا يصح بيعها كسائر الحشرات التي لا ينتفع بها، لكنها إذا وقعت في الماء الطهور لا تنجسه، ويعفى عن ذلك، وكذا كل ما ليست له نفس سائلة أي دم يسيل عند قتله وقد تقدم في الذباب هذا الحكم.
فرع: قال الأصحاب: ما لا يظهر فيه منفعة ولا مضرة، كبنات وردان والخنافس والجعلان والدود والسرطان والرحم والنعامة والعصافير والذباب يكره قتله ولا يحرم، وعد الرافعي رحمه الله منه: الكلب غير العقور، قال: ولا يجوز قتل النمل والنحل والخطاف والضفدع، وقد تقدم شيء من هذا الحكم في أماكنه.
الخواص: قال ارسطاطاليس: إذا طبخت بنات وردان بزيت وقطر منه في الأذن الوجعة سكن ألمها وتبرأ من ذلك، وينفع هذا الزيت من القروح، التي في الساقين، وفي جميع الأعضاء، والله تعالى أعلم.

باب الياء
يأجوج ومأجوج: يهمزان ولا يهمزان، لغتان قرئ بهما، فمن همزهما جعلهما مشتقين من أجة الحر وهي شدته وقوته، ومنه أجيج النار وهو توقدها وحرارتها، والتقدير في ياجوج يفعول، وفي ماجوج مفعول إذا ترك همزهما، قاله الأزهري. ويحتمل أن يكونا مفعولين، وإنما لم يصرفا للتعريف والتأنيث، لأنهما اسما القبيلتين، والأكثرون على أنهما اسمان أعجميان غير مشتقين، ولذلك لا يهمزان ولا يصرفان للعجمة والتعريف.
قال سعيد الأخفش: ياجوج من يج وماجوج من مج، وقال قطرب: من لم يهمز فياجوج فاعول مثل داود وجالوت، ويكون من يج، وماجوج فاعول من مج، والأسماء الأعجمية مثلها لا تهمز نحو هاروت وماروت وجالوت وطالوت وقارون. قال: ويجوز أن يكون الأصل الهمز، فخففا إذا لم يهمزا كسائر ما يهمز، وإن كانا أعجميين، فإن العرب تلفظ بألفاظ مختلفة، ويجوز أن يكونا من الأجة، وهي الاختلاط كما قال تعالى في صفتهم: " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " جاء في تفسيره: أي مختلطين، ولعل يج الذي ذكره الأخفش وقطرب مخفف الهمز من أج وإلا فإن يج لا يعرف في كلام العرب لعزة مخرج الجيم والياء، والحاصل أنه يجوز همزهما وتركه كما تقدم. وبهما قرئ في السبع والأكثرون على ترك الهمز كما تقدم.
وسموا بذلك لكثرتهم وشدتهم وقيل: من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة، قال مقاتل: هم من ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام. وقال الضحاك: هم من الترك، وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك.
قلت: وفيه نظر، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يحتلمون.
وروى الطبراني، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يأجوج أمة لها أربعمائة أمير، وكذلك مأجوج، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده، صنف منهم كالأرز طولهم مائة وعشرون ذراعاً، وصنف منهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا خنزير إلا أكلوه، ويأكلون من مات منهم، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، ويمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس " .
ومال وهب بن منبه: يأجوج ومأجوج يأكلون الحشيش والشجر والخشب، وما ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس. وقال علي رضي الله تعالى عنه: يأجوج ومأجوج صنف منهم في طول الشبر وصنف منهم مفرط الطول، لهم مخالب الطير، وأنياب كأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعراء الذئب، وشعورهم تقيهم الحر والبرد، ولهم آذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، يحفرون السد الذي بناه ذو القرنين، حتى إذا كادوا ينقبونه يعيده الله كما كان، حتى يقولوا: ننقبه غدا إن شاء الله، فينقبونه ويخرجون وتتحصن الناس منهم بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد إليهم السهم ملطخاً بالدم، ثم يهلكهم الله بالنغف في رقابهم. والنغف هو الدود كما تقدم.
فائدة: سئل شيخ الإسلام محي الدين النووي رحمه الله تعالى عن يأجوج ومأجوج هل هم من ولد آدم وحواء، وكم يعيش كل واحد منهم؟ فأجاب أنهم أولاد حواء وآدم عند أكثر العلماء، وقيل: إنهم من ولد آدم من غير حواء، فيكونون أخوتنا من الأب، ولم يثبت في قدر أعمارهم شيء انتهى.

وقد تقدم في الكركند ما نقله الحافظ أبو عمر بن عبد البر، من الإجماع على أنهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن يأجوج ومأجوج، هل بلغتهم دعوتك، فقال صلى الله عليه وسلم: " جزت عليهم ليلة أسري بي فدعوتهم فلم يجيبوا " .
وروى الشيخان والنسائي، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك الخير في يديك، فيقول عز وجل: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة. قال: ففلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد " ، قال: فاشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم رجل، الحديث.
قال العلماء إنما خص آدم عليه السلام بالذكر لأنه أب للجميع.
وروى الجماعة إلا أبا داود، من حديث زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فزعاً محمراً وجهه الشريف، يقول: " لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث " . أشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى أن الذي فتحوا من السد قليل، وهم مع ذلك لا يلهمهم الله أن يقولوا غدا نفتحه إن شاء الله تعالى، فإذا قالوها خرجوا. وقوله صلى الله عليه وسلم: " ويل للعرب " كلمة تقولها العرب، لكل من وقع في هلكة.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويل واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره " وقيل الويل الشر، وقوله صلى الله عليه وسلم: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج " .
الردم هم الحاجز الحصين المتراكم الذي جعل بعضه فوق بعض، والمراد به الردم الذي عمله الإسكندر بين الصدفين وهما الجبلان. وقوله في هذا الحديث إن زينب رضي الله تعالى عنها قالت: أنهلك؟ هو بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكي فتحها وهو ضعيف أو فاسد، قاله النووي رحمه الله وقوله صلى الله عليه وسلم: نعم لأن ما استفهم عنه بإثبات كان جوابه نعم، استفهم عنه بنفي كان جوابه بلى. ولذلك كانت " بلى " فى جواب " ألست بربكم " " ونعم " في جواب هل وجدتم فلذلك قال صلى الله عليه وسلم لزينب رضي الله تعالى عنها: " نعم " حين قالت: أنهلك وفينا الصالحون.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا كثر الخبث " هو بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة. وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد به الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أن المراد به المعاصي مطلقاً ومعناه أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون، والله تعالى أعلم.
وروى البزار، من حديث يوصف ابن مريم الحنفي قال: بينما أنا قاعد مع أبي بكرة، إذا جاء رجل فسلم عليه ثم قال: أما تعرفني؟ فقال أبو بكرة: ومن أنت؟ قال: تعلم رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه رأى الردم؟ فقال له أبو بكرة: أنت هو؟ وقال: نعم. فقال: اجلس فحدثنا، قال رضي الله تعالى عنه: انطلقت إلى أرض ليس لأهلها إلا الحديد يعملونه، فدخلت بيتاً فاستلقيت فيه على ظهري، وجعلت رجلي على جداره، فلما كان غروب الشمس، سمعت صوتاً لم أسمع مثله، فرعبت فقال لي رب البيت: لا تذعرن فإن هذا لا يضرك، هذا صوت قوم ينصرفون هذه الساعة من عند هذا السد، أفيسرك أن تراه؟ قلت: نعم. قال: فغدوت إليه، فإذا لبنه من حديد، كل واحدة مثل الصخرة، وإذا كأنه البرد المحبرة، وإذا المسامير مثل الجذوع فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " صفه لي " . فقلت: كأنه البرد المحبرة. فقال صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى رجل قد أتى الردم فلينظر إلى هذا " . فقال أبو بكرة: صدق انتهى.

وهذا الردم هو الذي بناه الإسكندر على يأجوج ومأجوج كما تقدم، وذلك أنه لما بلغ الجبلين وجد من دونهما قوماً، كما قال الله تعالى: " لا يكادون يفقهون قولا، بفتح الياء والقاف أو يفقهون بفتح الياء وكسر القاف على اختلاف القراءتين، فعلى الأول لا يفقهون عن أحد لغته ولا يعرفون غير لغتهم، وعلى الثانية لا يفهم لغتهم غيرهم، فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض، وذلك أنهم كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء المساكين، فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه.
وقيل: إنهم كانوا يلوطون، وقيل: إنهم كانوا يأكلون الناس، فقالوا له: نحن نجعل لك خرجاً، أي جعلا من أموالنا، على أن تجعل بيننا وبينهم سداً فرد عليهم جعلهم، وطلب منهم المعونة بالعمل بأبدانهم، ثم انصرف إلى ما بين الصدفين، فقاس ما بينهما فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ، فأمر بحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً، وجعل حشوه الصخر، وطبقه بالنحاس المذاب، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض.
وقيل إنه حشا ما بين الصدفين قطع الحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم ووضع المنافيخ، فلما حمي الحديد أفرغ عليه النحاس المذاب، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلا صلداً من حديد وقطر، وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عرقاً من نحاس أصفر، فصار كأنه بردة محبرة من صفرة النحاس وحمرته، وسواد الحديد، فلم يطيقوا الظهور عليه لملاسته ولا قدروا على نقبه لشدته وتماسكه. ومن وراء السد البحر، فهم بين السد والبحر محصورون وهم يمطرون التنانين في أيام الربيع، كما يمطرنا الغيث لحينه فيأكلونها إلى مثله من القابل وتعمهم على كثرتهم والله تعالى أعلم.
اليامور: قال ابن سيده: هو جنس من الأوعال أو شبيه به له قرن واحد متشعب في وسط رأسه. وقال غيره: إنه الذكر من الأيل له قرنان كالمنشارين، أكثر أحواله تشبه أحوال البقر الوحشي يأوي إلى المواضع التي التفت أشجارها، وإذا شرب الماء ظهر به نشاط فيعدو ويلعب بين الأشجار، وربما ينشب قرناه في شعب الأشجار فلا يقدر على خلاصهما فيصيح، والناس، إذا سمعوا صياحه ذهبوا إليه وصادوه، وقد تقدم ما فيه. وهو حلال كالأيل، ومن خواص جلده أنه إذا جلس عليه صاحب البواسير زالت عنه.
اليؤيؤ: طائر كنيته أبو رياح، وهو الجلم وهو من جوارح الطير يشبه الباشق، وقد تقدم الكلام عليه، في باب الصاد المهملة، في لفظ الصقر والجمع اليآيئ وكذا جاء في الشعر قال أبو نواس في طريدته:
حفظ المهيمن يؤيؤي ورعاه ... ما في اليآيئ يؤيؤ شرواه
كذا استدل به الجوهري واعترض عليه بأنه مولد.
وكان محمد بن زياد الزيادي يلقب باليؤيؤ، وهو من أئمة أهل البصرة، روى عن حماد بن زيد وغيره، وروى له ابن ماجه والبخاري كالمقرون بغيره توفي في حدود سنة خمسين ومائتين، وضعفه ابن منده، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يؤيؤ الحديث.
وهذا بناء غريب، لم يحفظ منه إلا خمسة: اليؤيؤ والجؤجؤ وهو صدر السفينة والطائر واليؤيؤ وهو الأصل يقال: فلان يؤيؤ الكرم أي أصله، والدؤدؤ ليلة خمس وست وسبع وعشرين. واللؤلؤ وفيه أربع لغات قرئ بهن في السبع لؤلؤ بهمزتين، ولولو بغير همز، وبهمز أوله دون ثانيه، وعكسه.
وحكمه: تحريم الأكل كما تقدم.
الخواص: دماغه يجفف ويسحق مع السكر الطبرزذي، ويخلط معه بعر الضب ويكتحل به، يزيل البياض الذي في العين بإذن الله تعالى. ومرارته تداف بماء الشهدانج، ويسعط بها من به الصداع ينفعه نفعاً بيناً إن شاء الله تعالى.
اليحبور: ولد الحبارى، وقد تقدم ما في الحبارى، وفي باب الحاء المهملة.
اليحمور: دابة وحشية نافرة، لها قرنان طويلان كأنهما منشاران، ينشر بهما الشجر، فإذا عطش وورد الفرات، يجد الشجر ملتفة، فينشرها بهما. وقيل: إنه اليامور نفسه، وقرونه كقرون الأيل يلقيها في كل سنة وهي صامتة لا تجويف فيها، ولونه إلى الحمرة، وهو أسرع من الأيل وقال الجوهري: اليحمور حمار الوحش.
وحكمه: الحل كيف كان.
الخواص: دهنه ينفع من الاسترخاء الحاصل في أحد شقي الإنسان إذا استعمل مع دهن البلسان.

فائدة: في كتاب العرائس، للإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي قال: إن بعض طلبة العلم خرج من بلاده، فرافق شخصاً في الطريق، فلما كان قريباً من المدينة التي قصدها قال له ذلك الشخص: قد صار لي عليك حق وذمام، وأنا رجل من الجان، ولي إليك حاجة، فقال: وما هي؟ قال: إذا أتيت إلى مكان كذا وكذا، فإنك تجد فيه دجاجاً بينها ديك، فاسأل عن صاحبه واشتره منه واذبحه، فهذه حاجتي إليك. فقال له: يا أخي، وأنا أيضاً أسألك حاجة، قال: وما هي؟ قال: إذا كان الشيطان مارداً لا تعمل فيه العزائم، وألح بالآدمي منا، ما دواؤه؟ قال: دواؤه أن يؤخذ له وتر قدر شبر من جلد يحمور، ويشد به إبهاما المصاب من يديه شداً وثيقاً، ثم يؤخذ له من دهن السذاب البري فيقطر في أنفه الأيمن أربعاً وفي الأيسر ثلاثاً، فإن الماسك به يموت ولا يعود إليه أحد بعده.
قال: فلما دخلت المدينة، أتيت ذلك المكان فوجدت الديك لعجوز فسألتها بيعه، فأبت فاشتريته منها بأضعاف ثمنه، فلما اشتريته وملكته، تمثل لي من بعيد، وقال لي بالإشارة: اذبحه فذبحته. فعند ذلك خرج علي رجال ونساء، فجعلوا يضربونني ويقولون: يا ساحر! فقلت: لست بساحر. فقالوا: إنك منذ ذبحت الديك، أصيبت عندنا شابة بجني، وأنه منذ مسكها لم يفارقها، فطلبت منهم وتراً قدر شبر من جلد يحمور، وشيئاً من دهن السذاب البري، فأتوا بهما فشددت إبهامي يدي الشابة شداً وثيقاً، فلما فعلت بها ذلك صاح، وقال: أنا علمتك على نفسي! ثم قطرت من الدهن في أنفها الأيمن أربعاً، وفي الأيسر ثلاثاً، فخر ميتاً من وقته وساعته، وشفى الله تلك الشابة، ولم يعاودها بعده شيطان انتهى.
اليحموم: طائر حسن اللون، يشبه لون الحبرة الموشاة، وهو كثير بنخلة من أرض الحجاز، وأظنه من نوع اليعاقيب والحجل.
وحكمه: حل الأكل، لأنه مستطاب، واليحموم أيضاً اسم فرس النعمان بن المنذر، واليحموم أيضاً الدخان الأسود، وقيل: هو المراد بقوله تعالى: " وظل من يحموم " تقول العرب: أسود يحموم، إذا كان شديد السواد، وقيل: اليحموم جبل في جهنم يستظل به أهل النار لا بارد ولا كريم، أي لا بارد الثرى ولا كريم المنظر، وقيل: اليحموم اسم من أسماء النار. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود، وكل شيء فيها أسود نعوذ بالله من شرها.
اليراعة: طائر صغير إذا طار بالنهار كان كبعض الطير، وإذا طار بالليل كان كأنه شهاب ثاقب، أو مصباح طيار، وقال أبو عبيدة: اليراع الهمج بين البعوض والذباب، يركب الوجه ولا يلدغ واليراعة أيضاً النعامة.
الأمثال: قالوا: أخف من يراعة، فيجوز أن يراد به الطائر الذي يطير بالليل، وأن يراد به القصبة، والجمع يراع فيهما.
اليربوع: بفتح الياء المثناة تحت، ويسمى الدرص، بفتح الدال وكسرها وإسكان الراء المهملتين وبالصاد المهملة آخره، وذا الرميح كما تقدم في آخر باب الراء المهملة، حيوان طويل الرجلين قصير اليدين جداً، وله ذنب كذنب الجرذ يرفعه صعداً في طرفه شبه النوارة، لونه كلون الغزال. قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: إن كل دابة حشاها الله خبثاً في قصيرة اليدين، لأنها إذا خافت شيئاً، لاذت بالصعود، فلا يلحقها شيء وهذا الحيوان يسكن بطن الأرض، لتقوم رطوبتها له مقام الماء، وهو يؤثر النسيم ويكره البحار أبداً، يتخذ جحره في نشز من الأرض، ثم يحفر بيته في مهب الرياح الأربع ويتخذ فيه كوى، وتسمى النافقاء والقاصعاء والراهطاء، فإذا طلب من إحدى هذه الكوى نافق أي خرج من النافقاء، وإن طلب من النافقاء خرج من القاصعاء، وظاهر بيته تراب وباطنه حفر، وكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر.
قال الجاحظ وغيره: واسم المنافق لم يكن في الجاهلية لمن أسر الكفر وأظهر الإيمان، ولكن الباري جل وعلا اشتق له هذا الاسم من هذا الأصل من نافقاء اليربوع، لأنه لما أبطن الكفر وأظهر الإيمان وورى بشيء عن شيء، ودخل في باب الخديعة، وأوهم الغير خلاف ما هو عليه، أشبه في ذلك فعل اليربوع انتهى.

وفي طبعه، أنه يطأ في الأرض اللينة، حتى لا يعرف أثر وطئه كما يفعل الأرنب، وهو يجتر ويبعر، وله كرش وأسنان وأضراس، في الفك الأعلى والأسفل، قال الجاحظ والقزويني: اليربوع من نوع الفأر. زاد القزويني: هو من الحيوان الذي له رئيس مطاع ينقاد إليه، وإذا كان فيها يكون من بينها في مكان مشرف، أو على صخرة ينظر إلى الطريق، من كل ناحية، فإن رأى ما يخافه عليها صر بأسنانه وصوت، فإذا سمعته انصرفت إلى أجحرتها، فإن قصر الرئيس حتى أدركها أحد وصاد منها شيئاً، اجتمعت على الرئيس فقتلته وولت غيره. وهي إذا خرجت لطلب المعاش، خرج الرئيس أولا يتشوف، فإن لم ير شيئاً يخافه، صر بأسنانه وصوت إليها فتخرج. والواو والياء في اليربوع زائدتان، فكان ينبغي أن يكتب في باب الراء المهملة، لكنه قد يخفى على بعض الناس فكتب هنا.
الحكم: يحل أكله لأن العرب تستطيبه وتحله، قال عطاء وأحمد وابن المنذر وأبو ثور وقال أبو حنيفة: لا يؤكل لأنه من الحشرات، دليلنا أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا فيه جفرة إذا قتله أو أصابه المحرم، وأن الأصل الإباحة إلا ما خص بالتحريم.
الأمثال: قالوا: أضل من ولد اليربوع وقالوا: كالمشتري القاصعاء باليربوع يضرب للذي يدع العين ويتبع الأثر، لأن القاصعاء جحر اليربوع الذي يقصع فيه أي يدخل والجمع قواصع.
الخواص: دم اليربوع يؤخذ فيطلى على الشعر الذي ينبت في الجفن، بعد أن ينتف يذهب بإذن الله تعالى.
التعبير: اليربوع في الرؤيا يدل على رجل حلاف كذاب، فمن نازعه نازع إنساناً كذلك. اليرقان: هو عود يكون في الزرع ثم ينسلخ، فيكون فراشاً، يقال: زرع ميروق قاله ابن سيده.
اليسف: الذباب، وقد تقدم في باب الذال المعجمة مستوفى.
اليعر: بفتح الياء المثناة تحت، وبالعين المهملة الجدي يشد عند زبية الأسد، وعند مأوى الذئب ويغطي رأسه، فإذا سمع الضبع صوته جاء في طلبه فوقع في الزبية، ومنه قولهم: " فلان أذل من اليعر " ، واليعر أيضاً دابة تكون بخراسان تسمن على الكد، وقيل: هي بالغين المعجمة.
قالوا في أمثالهم: أسمن من يغر. ذكره حمزة وغيره.
اليعفور: الخشف وولد البقرة الوحشية أيضاً، وقال بعضهم: اليعافير تيوس الظباء، قال بشر بن أبي حازم:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
وفي حديث سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج على حماره يعفور ليعوده. قيل: سمي يعفور للونه، وهي العفرة، كما قيل في أخضر يخضور، وقيل: سمي به تشبيهاً في عدوه باليعفور وهو الظبي والله تعالى أعلم.
اليعقوب: ذكر الحجل قال الجواليقي: وهو عربي صحيح، وأما يعقوب اسم نبي الله صلى الله عليه وسلم فهو أعجمي كيوسف ويونس واليسع. وقال الجوهري: يعقوب اسم رجل لا ينصرف في المعرفة للعجمة والتعريف، واليعقوب ذكر الحجل مصروف، لأنه عربي لم يغير، وإن كان مزيداً في أوله فليس على وزن الفعل، ويوصف اليعقوب بكثرة العدو وشدته قال الشاعر:
عاد يقصر دونه اليعقوب
والجمع اليعاقيب، قال الشاعر:
أودى الشباب الذي مجد عواقبه ... فيه نلذ ولا لذات للشيب
ويروى أيضاً:
أودى الشباب حميداً ذو التعاجيب ... أودى وذلك شأو غير مطلوب
ولى حثيثاً وهذا الشيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب
يروى ركض بالرفع والنصب، فمن رفعه جعله فاعل يدركه، وأراد به أن هذا الطائر، على سرعة طيرانه لا يدرك الشباب إذا ولى، فكيف يدركه غيره؟ ومن نصبه نصبه بفعل مضمر تقديره ولى يركض ركض اليعاقيب، وجعله من جملة صفة الشباب، وجعل فاعل يدركه ضمير الشيب المستتر فيه، ويصير في البيت تقديم وتأخير، وتقديره: ولى الشباب حثيثاً يركض ركض اليعاقيب، وهذا الشيب يطلبه لو كان يدركه، والمراد باليعاقيب: ذكور القبج، وقال بعضهم: إنه هنا العقاب، والمشهور الأول. واليعقوب والقبج والحجل راجع إلى نوع واحد، ووصفه أبو علي بن رشيق بأبيات منها:
ما أغربت في زيها ... إلا يعاقيب الحجل
جاءتك مثقلة الترا ... ئب بالحلى وبالحلل
صفر العيون كأنها ... باتت بتبر تكتحل
وتخالها قد وكلت ... بالنوت والصوت الزجل

وكأنما باتت أصا ... بعها بحناء تعل
من يستحل لصيدها ... فأنا امرؤ لا أستحل
ومن حكمه: أنه يجب الجزاء بقتل المتولد بين اليعقوب والدجاج، قاله الرافعي، في الحج وهذا يرد قول من قال: إن المراد في البيتين الأولين هو العقاب، فإن التناسل لا يقع بين الدجاج والعقاب، وإنما يقع التناسل بين حيوانين بينهما تشاكل وتقارب في الخلق كالحمار الوحشي والأهلي والظبي والشاة، فإذا عرف هذا فالمراد الدجاج البري، وهو في الشكل واللون قريب من الدجاج الإنسي.
اليعملة: الناقة النجيبة المطبوعة على العمل، والجمع يعملات، ومنه قول عبد الله بن رواحة لزيد بن أرقم رضي الله تعالى عنهما:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل هديت فانزل
وقيل: بل قال ذلك في غزوة مؤتة لزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
اليمام: قال الأصمعي: هو الحمام الوحشي، الواحدة يمامة، وقال الكسائي: هي التي تألف البيوت، واليمامة اسم جارية زرقاء، كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، قال الجاحظ: إنها كانت من بنات لقمان بن عاد، وأن اسمها عنز، وكانت هي زرقاء، وكانت الزباء زرقاء، وكانت البسوس زرقاء، وهي أول من اكتحل بالإثمد من العرب وهي التي ذكرها النابغة في قوله:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
وقد تقدم في حرف الحاء.
فائدة: قال في ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار: النساء اللاتي يضرب بهن المثل خمس وهي: زرقاء اليمامة والبسوس ودغة وظلمة وأم قرفة. أما الزرقاء فيقال: أبصر من زرقاء اليمامة، وهي امرأة من بني نمير، كانت باليمامة تبصر الشعرة البيضاء في الليل، وتنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تنذر قومها بالجيوش إذا غزتهم، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له، فاحتال عليها بعض من غزاهم، فأمر أصحابه فقطعوا شجراً وأمسكوها بأيديهم، أمام معسكره فنظرت الزرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبلت إليكم! فقال لها قومها: قد خرفت، وذهب عقلك، ورق بصرك، كيف تأتي الشجر؟ قالت: هو ما أقول لكم. فكذبوها فصبحتهم الخيل، وأغاروا عليهم، وقتلوا الزرقاء، وقوروا عينيها، فوجدوا عروق عينيها قد غرقت في الإثمد من كثرة ما تكتحل به.
وأما البسوس فيقال: أشأم من البسوس، وهي خالة جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان، ولها كانت الناقة التي قتل من أجلها كليب بن وائل، وبها ثارت حرب بكر وتغلب التي يقال لها حرب البسوس.
وأما دغة فيقال: أحمق من دغة وهي امرأة من بني عجل تزوجت من بني العنبر.
وأما ظلمة فيقال: أزنى من ظلمة وهي امرأة من هذيل زنت أربعين سنة، وقادت أربعين عاماً، فلما عجزت عن الزنا والقيادة، اتخذت تيساً وعنزاً، فكانت تنزي التيس على العنزة، فقيل لها: لم تفعلين ذلك. قالت: لأسمع أنفاس الجماع بينهما.
وأما أم قرفة، فيقال: أمنع من أم قرفة، وهي امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكانت تعلق في بيتها خمسين سيفاً، كل سيف منها لذي محرم لها.
وقد سئل ابن سيرين عن النساء فقال: مفاتيح أبواب الفتن ومخازن الحزن، إن أحسنت المرأة إليك منت عليك، تفشي سرك وتهمل أمرك، وتميل إلى غيرك. وقيل: النساء ريحان بالليل شوك بالنهار. وقيل لبعض الحكماء: مات عدوك! فقال: وودت أنكم قلتم تزوج. وقيل: العجز في ثلاث خصال: قلة اكتراثه في مصلحته، وقلة مخالفته لشهوته، وقبوله من امرأته فيما لا يعلمه. وقال بعض الحكماء: لا تأمنن قارئاً على صحيفة، ولا شاباً على امرأة. وقال غيره: لا مصيبة أعظم من الجهل، ولا شر أشر من النساء انتهى.
الحكم: يحل أكل اليمام وبيضه بالاتفاق، وقد تقدم في باب الحاء المهملة في الحمام.
الأمثال: قالوا: كن مع الناس يمامة يعني أرفق بهم ولا تنفرهم. وخواصه وتعبيره كالحمام.
اليهودي: حوت في البحر، وقد تقدم الكلام عليه في باب الشين المعجمة.
اليوصي: بفتح الياء والواو وكسر الصاد المهملة المشددة، طائر بالعراق أطول جناحاً من الباشق، وأخبث صيداً وهو الحر.
وحكمه: الحرمة كما تقدم، في باب الحاء المهملة.

اليعسوب: اسم مشترك يقع على طائر نحو الجرادة، له أربعة أجنحة لا يقبض له جناحاً أبداً ولا يرى أبداً يمشي إنما يرى واقفاً على رأس عود، أو طائراً وقال الجوهري: هو أطول من الجرادة لا يضم جناحه، إذا وقع شبهت به الخيل المضمرة قال بشير:
أبو ظبية شعث تطيف بشخصه ... كوالح أمثال اليعاسيب ضمرا
ثم قال: والياء فيه زائدة، لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق.
وذكر ابن خلكان، في ترجمة الحسن بن عبد الله العسكري، قال: مرض صخر بن عمرو بن الشريد، وطال مرضه وكانت أمه وزوجته سليمى يمرضانه فسئلت زوجته يوماً عن حاله، وكانت قد ضجرت منه، فقالت: لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، فسمعها صخر فأنشد قائلا:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغز بالحدثان
لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
وأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقا وهوان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
فللموت خير من حياة كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان
وفي حديث مصعب: " لولا ظمأ الهواجر ما باليت أن أكون يعسوباً " . قال ابن الأثير: المراد هاهنا فراشة مخضرة تطير في الربيع، وقيل: وهو طائر أعظم من الجرادة، ولو قيل: إنه النحل لجاز، واليعسوب اسم فرس للنبي صلى الله عليه وسلم وأخرى للزبير رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنها إحدى الأفراس الثلاثة التي كانت للمسلمين يوم بدر على اختلاف فيه. واليعسوب يطلق على الغرة المستطيلة في وجه الفرس، وعلى دائرة عند مربض الفرس، وعلى ضرب من الحجلان، حكاه الدمياطي، في كتاب الخيل. والمربض بكسر الميم وبالضاد المعجمة مكان الفرس.
وفي الحديث: " صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل " . والمرابض المبارك، وربض الأسد أي رقد. وقال الجاحظ: اليعاسب هي كبار الذباب انتهى.
واليعسوب ملك النحل وأميرها الذي لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة بأمره سامعة له مطيعة، وله عليها تكليف وأمر ونهي وهي منقادة لأمره، متبعة لرأيه، يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته، حتى إنها إذا أوت إلى بيوتها، وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم أخرى، ولا تتقدم عليها، في العبور بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم، ولا تراكم كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزه إلا واحد بعد واحد. وأعجب من ذلك أن أميرين منهما، لا يجتمعان في بيت، ولا يتأمران على جمع واحد، بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا أحد الأميرين وقطعوه واتفقوا على الأمير الواحد من غير معاداة منهم، ولا أذى من بعضهم لبعض، بل يصيرون يداً واحدة.
روى ابن السني، في عمل اليوم والليلة، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أحدكم إذا أراد أن يخرج من المسجد، تداعت جنود إبليس واجتمعت كما تجتمع النحل على يعسوبها، فإذا قام أحدكم على باب المسجد، فليقل: اللهم إني أعوذ بك من إبليس وجنوده، فإنه إذا قالها لم تضره " .
ومن لفظ اليعسوب، قيل للسيد يعسوب قومه. وقال علي رضي الله تعالى عنه، لما رأى عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد مقتولا، يوم الجمل: هذا يعسوب قريش، ثم قال: جدعت أنفي وشفيت نفسي. وكان عبد الرحمن يقاتل ذلك اليوم ويقول:
أنا ابن عتاب بسيف ولول ... والموت دن الجمل المجلل
وقاتل قتالا شديداً في ذلك اليوم، وقطعت يده يومئذ، وكان فيها خاتم، فاختطفها نسر فطرحها باليمامة، فعرفت بخاتمه فصلوا عليه. وبالجملة، فقد اتفقوا على أن يده احتملها طائر في وقعة الجمل، فألقاها بالحجاز، فصلوا عليها ودفنوها.
واختلفوا في الطائر ما هو وفي أي مكان ألقاها؟ فقيل: حملها نسر وألقاها باليمامة في ذلك اليوم كما تقدم. وقال ابن قتيبة: حملتها عقاب، فألقتها في ذلك اليوم باليمامة. وقال الحافظ أبو موسى وغيره: ألقاها بالمدينة. وقال الشيخ، في شرح المهذب: ألقاها بمكة.

وفي صحيح مسلم، من حديث النواس بن سمعان الطويل، أن الدجال تتبعه كنوز الأرض، كيعاسيب النحل أي تظهر له وتجتمع عنده كما تجتمع النحل على يعسوبها.
ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، على باب البيت الذي هو مسجى فيه، فقال: كنت والله يعسوباً للمؤمنين، وكنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف. فمثله علي كرم الله وجهه باليعسوب في سبقه للإسلام غيره، لأن اليعسوب يتقدم النحل إذا طارت فتتبعه، والعواصف الريح المهلكة في البر، والقواصف الريح المهلكة في البحر. قال الله تعالى: " ولسليمان الريح عاصفة " وقال الله تعالى: " فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم " .
وفي كامل ابن عدي، في ترجمة عبد الله بن واقد الواقفي، وفي ترجمة عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله تعالى عنه: " أنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكفار " . وفي رواية: يعسوب الظلمة وفي رواية: يعسوب المنافقين، أي يلوذ بك المؤمنون، ويلوذ الكفار والظلمة والمنافقون بالمال كما تلوذ النحل بيعسوبها. ومن هنا قيل لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أمير النحل.
وهذا ما انتهى إليه الغرض، مما يحصل به في هذا الشأن الاكتفاء، وختم بملك النحل الذي استخرج الله من لعابه الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء وابتدئ بملك الوحش الذي منه الشجاعة تقتفى. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المصطفى، ورضي الله عن آله وعترته وصحبه أهل الفضل والوفا، وحسبنا الله وكفى.
قال مؤلفه، فقير رحمة الله تعالى: وكان الفراغ من مسودته في شهر رجب الفرد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة جعل الله ذلك خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً للفوز في دار النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12