الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري

وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مثله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه الإمام أحمد في الزهد والبزار، وفيه رجل لم يسم، وقد تقدم في باب الحاء المهملة، في لفظ الحية، ما رواه الدارقطني عن أبي أمامة قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بخفيه ليلبسهما فلبس أحدهما ثم جاء غراب فاحتمل الآخر ورمى به فخرجت منه حية فقال صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما " وفي إسناده هشام بن عمر، وذكره ابن حبان في الثقات وهو حديث صحيح إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في الأسود السالخ حديث نظير هذا.
وروى الإمام أحمد في الزهد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه كان إذا نعب الغراب قال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك. وروينا عن ابن طبرزذ، بإسناده إلى الحكم بن عبد الله بن حطان عن الزهري، عن أبي واقد عن روح بن حبيب قال: بينما أنا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه، إذ أتي بغراب، فلما رآه بجناحين حمد الله تعالى ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما صيد قط صيد إلا بنقص من تسبيح، ولا أنبت الله تعالى نابتة إلا وكل بها ملكاً يحمي تسبيحها حتى يأتي به يوم القيامة، ولا عضدت شجرة ولا قطعت، إلا بنقص من تسبيح، ولا دخل على امرئ مكروه إلا بذنب، وما عفا الله عنه أكثر " . يا غراب اعبد الله، ثم خلى سبيله. وسيأتي نظير هذا في لفظ القسورة، من كلام عمر رضي الله تعالى عنه.
فائدة أخرى: قال أبو الهيثم: يقال: إن الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره. والحكمة في أن الله تعالى بعث إلى قابيل، لما قتل أخاه هابيل، غراباً ولم يبعث له غيره من الطير، ولا من الوحش أن القتل كان مستغرباً جداً، إذ لم يكن معهوداً قبل ذلك فناسب بعث الغراب. قال الله تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً " الآيات. قال المفسرون: كان قابيل صاحب زرع، فقرب أرذل ما عنده وأدناه، وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أفضل كباشه فقربه. وكان دليل القبول أن تأتي نار تأكل القربان، فأخذت النار الكبش الذي قربه هابيل، فكان ذلك الكبش يرعى في الجنة، حتى أهبط إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في فداء ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام. وكان قابيل أسن ولد آدم عليه الصلاة والسلام.
وروي أن آدم حج إلى مكة وجعل قابيل وصياً على بنيه فقتل قابيل هابيل فلما رجع آدم قال: أين هابيل؟ فقال: لا أدري. فقال آدم: اللهم العن أرضاً شربت دمه! فمن ذلك الوقت لم تشرب الأرض دماً " .
ثم إن آدم بقى مائة عام لا يبتسم، حتى جاءه ملك الموت، فقال له: حياك الله يا آدم وبياك، قال: وما بياك؟ قال: أضحكك. وروي أن قابيل حمل أخاه هابيل ومشى به حتى أروح، ولم يدر ما يصنع به، فبعث الله غرابين، فقتل أحدهما الآخر، ثم بحث في الأرض بمنقاره ودفنه، فاقتدى به قابيل، فكان بعث الغراب حكمة كبرى ليرى ابن آدم كيف المواراة، وهو معنى قوله تعالى: " ثم أماته فأقبره " وروى أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " امتن الله تعالى على ابن آدم بالريح بعد الروح ولولا ذلك ما دفن حبيب حبيباً " .
وقابيل أول من يساق إلى النار من ولد آدم قال الله تعالى: " ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس " وهما قابيل وإبليس.
وروى أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن يوم الثلاثاء، فقال: " يوم الدم فيه حاضت حواء، وفيه قتل ابن آدم أخاه " . قال مقاتل: وكان قبل ذلك السباع والطيور تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل، هربت منه الطير والوحش، وشاكت الأشجار، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرت الأرض. وروى أبو داود، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، أنه قال: يا رسول الله إن دخل علي إنسان في الفتنة، وبسط إلي يده فقال: " كن كخير ابني آدم " . وتلا هذه الآية.

عجيبة: نقل القزويني عن أبي حامد الأندلسي أن على البحر الأسود، من ناحية الأندلس، كنيسة من الصخر، منقورة في الجبل، عليها قبة عظيمة وعلى القبة غراب لا يبرح، وفي مقابل القبة مسجد يزوره الناس، يقولون: إن الدعاء فيه مستجاب، وقد شرط على القسيسين ضيافة من يزور ذلك المسجد من المسلمين، فإذا قدم زائر، أدخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبة، وصاح صيحة، وإذا قدم اثنان صاح صيحتين، وهكذا كلما وصل زوار صاح على عددهم، فتخرج الرهبان بطعام يكفي الزائرين. وتعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب، وزعم القسيسون أنهم مازالوا يرون غراباً على تلك القبة، ولا يدرون من أين يأكل أو يشرب.
عجيبة أخرى: قال أبو الفرج المعافى بن زكريا، في كتاب الجليس والأنيس له: كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسن فجئنا على العادة فجلسنا عند بابه، وإذا أعرابي جالس كانت له حاجة، إذ وقع غراب على نخلة في الدار فصرخ ثم طار، فقال الأعرابي: إن هذا الغراب يقول: إن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام، قال: فزجرناه فقام وانصرف، ثم خرج الإذن من القاضي إلينا فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتماً، فقلنا له: ما الخبر؟ فقال: رأيت البارحة في النوم شخصاً يقول:
منازل آل عباد بن زيد ... على أهليك والنعم السلام
وقد ضاق صدري لذلك، فدعونا له وانصرفنا. فلما كان في اليوم السابع من ذلك اليوم دفن. قال القاضي أبو الطيب الطبري: سمعت هذه الحكاية من لفظ شيخنا أبي الفرج المذكور.
عجيبة أخرى: قال يعقوب بن السكيت: كان أمية بن أبي الصلت في بعض الأيام يشرب، فجاء غراب فنعب نعبة، فقال له أمية: بفيك التراب، ثم نعب أخرى، فقال له أمية: بفيك التراب. ثم أقبل على أصحابه، فقال: أتدرون ما يقول هذا الغراب؟ زعم أني أشرب هذا الكأس فأموت، وأمارة ذلك أنه يذهب إلى هذا الكوم فيبتلع عظماً فيموت. قال: فذهب الغراب إلى الكوم فابتلع عظماً فمات ثم شرب أمية الكأس فمات من حينه.
قلت: وأمية بن أبي الصلت الكافر مذكور في مختصر المزني والمهذب وغيرهما، في كتاب الشهادات. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم شعره الذي فيه حكمة واقراره بالوحدانية والبعث. واسم أبي الصلت عبد الله بن ربيعة بن عوف وكان أمية يتعبد في الجاهلية، ويؤمن بالبعث وينشد في ذلك الشعر الحسن وأدرك الإسلام ولم يسلم. وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن الشريد بن سويد رضي الله تعالى عنه، قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: " هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء " قلت: نعم. فقال: " هيه " فأنشدته بيتاً، فقال: " هيه " ثم أنشدته بيتاً. فقال: " هيه " حتى أنشدته مائة بيت فقال صلى الله عليه وسلم: " إن كاد ليسلم " . وفي رواية: " لقد كاد أن يسلم بشعره " وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لما سمع قوله:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ... فلا شيء أعلى منك حمداً وأمجد
وفي مسند الدارمي، من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: صدق النبي صلى الله عليه وسلم أمية بن أبي الصلت في أبيات من شعره في قوله:
زحل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال صلى الله عليه وسلم: " صدق " . قال:
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد
فقال صلى الله عليه وسلم: " صدق " . قال:
تأبى فما تطلع لنا في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد
فقال صلى الله عليه وسلم: " صدق " . قال السهيلي، في التعريف والإعلام، في قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " الآية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها نزلت في بلعام بن باعورا، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: إنها نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي.
وكان قد قرأ التوراة والإنجيل في الجاهلية، وكان يعلم أنه سيبعث نبي من العرب فطمع أن يكون هو، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وخرجت النبوة عن أمية حسده وكفر. وهو أول من كتب باسمك اللهم، ومنه تعلمت قريش، فكانت تكتب به في الجاهلية.

ولتعلم أمية هذه الكلمة نبأ عجيب ذكره المسعودي، وذلك أن أمية كان مصحوباً تبدو له الجن، فخرج في عير من قريش، فمرت بهم حية فقتلوها، فاعترضت لهم حية أخرى تطلب بثأرها، وقالت: قتلتم فلاناً! ثم ضربت الأرض بقضيب، فنفرت الإبل فلم يقدروا عليها، إلا بعد عناء شديد، فلما جمعوها، جاءت فضربت ثانية فنفرت، فلم يقدروا عليها إلا بعد نصف الليل، ثم جاءت فضربت ثالثة فنفرتها، فلم يقدروا عليها حتى كانوا أن يهلكوا بها عطشاً وعناء، وهم في مفازة لا ماء فيها. فقالوا لأمية: هل عندك من حيلة؟ قال: لعلها. ثم ذهب حتى جاوز كئيباً، فرأى ضوء نار على بعد فاتبعه حتى أتى على شيخ في خباء، فشكا إليه ما نزل به وبصحبه، وكان الشيخ جنياً، فقال: اذهب فإن جاءتكم فقولوا: باسمك اللهم سبعاً. فرجع إليهم وقد أشرفوا على الهلكة فأخبرهم بذلك فلما جاءتهم الحية قالوا ذلك، فقالت: تباً لكم من علمكم هذا؟ ثم ذهبت. وأخذوا إبلهم وكان فيهم حرب بن أمية بن عبد شمس، جد معاوية بن أبي سفيان، فقتله الجن بعد ذلك بثأر الحية المذكورة وقالوا فيه:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر
وقد أسلمت عاتكة أخت أمية بن أبي الصلت هذا، وأخبرت عنه بخبر، ذكره عبد الرزاق في تفسيره. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في هذا الكتاب، في باب النون، في الكلام على النسر ما يوافق ذلك.
الحكم: يحرم أكل الغراب الأبقع الفاسق، وأما الأسود الكبير وهو الجبلي، فهو حرام أيضاً، على الأصح، وبه قطع جماعة، وغراب الزرع حلال على الأصح. وقد تقدم حكم العقعق والغداف. وقال أبو حنيفة: الغربان كلها حلال. روى البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خمس من الدواب ليس على قاتلهن جناح: الغراب والحدأة والفأرة والحية والكلب العقور " . وفي سنن ابن ماجه والبيهقي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحية فاسقة، والفأرة فاسقة، والغراب فاسق " . وفي سنن ابن ماجه أيضاً قيل لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أيؤكل الغراب قال: ومن يأكله بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إنه فاسق؟. وهذه الفواسق الخمس لا ملك لأحد فيها ولا اختصاص، كذا نقله الرافعي في كتاب ضمان البهائم، عن الإمام وأقره. وعلى هذا فلا يجب ردها على غاصبها.
الأمثال: قال الشاعر:
ومن يكن الغراب له دليلا ... يمر به على جيف الكلاب
وقالوا: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، أي لا أفعل أبداً، لأن الغراب لا يشيب أبداً. روى الحافظ أبو نعيم في حليته، في ترجمة سفيان بن عيينة، عن مسعر بن كدام، أن رجلا ركب البحر فانكسرت السفينة فوقع في جزيرة، فمكث ثلاثة أيام لم ير أحداً، ولم يأكل ولم يشرب، فتمثل بقول القائل:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب
فأجابه صوت مجيب لا يراه:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فنظر فإذا سفينة قد أقبلت، فلوح إليهم فأتوه فحملوه، فأصاب خيراً كثيراً. وقالوا: أبصر من غراب. زعم ابن الأعرابي أن العرب تسمي الغراب الأعور لأنه يغمض أبداً إحدى عينيه، ويقتصر على النظر بإحداهما من قوة بصره. وقال غيره: إنما سموه أعور لحدة بصره على طريق التفاؤل قال بشار بن برد الأعمى:
وقد ظلموه حين سموه سيداً ... كما ظلم الناس الغراب بأعورا
وقد تقدم عن أبي الهيثم، أن الغراب يبصر من تحت الأرض، بقدر منقاره. وقالوا: أخيل من غراب أو أزهى وأبكر من غراب، فإنه أشد الطير بكوراً. وقالوا: أبطأ من غراب نوح. وذلك أن نوحاً عليه الصلاة والسلام أرسله لينظر هل غرقت البلاد ويأتيه بالخبر، فوجد جيفة طافية على وجه الماء فاشتغل بها، ولم يأته بالخبر، فدعا عليه فعقلت رجلاه، وخاف من الناس. وقالوا: كأنهم كانوا غراباً واقعاً، يضرب فيما ينقضي سريعاً، فإن الغراب، إذا وقع لا يلبث أن يطير. وقالوا: كالغراب والذئب يضرب للرجلين بينهما موافقة فلا يختلفان، لأن الذئب إذا أغار على غنم تبعه الغراب ليأكل ما فضل منه. وقالوا: الغراب أعرف بالتمر وذلك أن الغراب لا يأخذ إلا الأجود منه، ولذلك يقال: اوجد تمرة الغراب، إذا وجد شيئاً نفيساً.

وقالوا: أشأم من غراب البين، وإنما لزمه هذا الاسم لأنه إذا بان أهل الدار للنجعة، وقع في موضع بيوتهم يلتمس ويتقمقم فيتشاءموا به، ويتطيروا منه، إذ كان لا يعتري منازلهم إلا إذا بانوا، فلذلك سموه غراب البين. وقال فيه شاعرهم:
وصاح غراب فوق أعواد بانة ... بأخبار أحبابي فهيمني الفكر
فقلت: غراب باغتراب وبانة ... ببين النوى تلك العيافة والزجر
وهبت جنوب باجتنابي منهم ... وهاجت صبا قلت: الصبابة والهجر
وقالوا: أحذر من غراب. حكى المسعودي، عن بعض حكماء الفرس، أنه قال: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه، حتى انتهى بي ذلك إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب، قيل له: فما أخذت من الكلب؟ قال: ألفه لأهله، وذبه عن صاحبه. قيل: فما أخذت من الهرة؟ قال: حسن تأنيها، وتملقها عند المسألة. قيل: فما أخذت من الخنزير. قال: بكوره في حوائجه. قيل: فما أخذت من الغراب؟ قال: شدة حذره. وقالوا: أغرب من غراب، وأشبه بالغراب من الغراب.
غريبة: رأيت في كتاب الدعوات، للإمام أبي القاسم الطبراني، وفي تاريخ ابن النجار، في ترجمة أبي يعقوب يوسف بن الفضل الصيدلاني، وفي الإحياء، في كتاب آداب السفر، عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: بينما عمر رضي الله تعالى عنه جالس يعرض الناس، إذ هو برجل معه ابنه فقال له: ويحك ما رأيت كراباً أشبه بغراب من هذا بك قط! قال: يا أمير المؤمنين، هذا ما ولدته أمه إلا وهي ميتة! فاستوى عمر جالساً وقال له: حدثني حديثه، قال: يا أمير المؤمنين خرجت لسفر، وأمه حامل به، فقالت: تخرج وتتركني على هذا الحال حاملا مثقلة؟ فقلت: استودع الله ما في بطنك. ثم خرجت فغبت أعواماً ثم قدمت فإذا بابي مغلق. فقلت: ما فعلت فلانة، قالوا: ماتت. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم انطلقت إلى قبرها، فبكيت عندها، ثم رجعت فجلست إلى بني عمي، فبينما أنا كذلك، إذ ارتفعت لي نار من بين القبور، فقلت لبني عمي: ما هذه النار؟ فقالوا: ترى على قبر فلانة كل ليلة! فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كانت صوامة قوامة عفيفة مسلمة، انطلقوا بنا إليها فانطلقنا، فأخرت الناس وأتيت القبر فإذا القبر مفتوح، وإذا هي جالسة، وهذا الولد يدور حولها، وإذا مناد ينادي: أيها المستودع ربه وديعته خذ وديعتك. أما والله لو استودعت أمه لوجدتها! فأخذته وعاد القبر كما كان والله يا أمير المؤمنين. قال أبو يعقوب: فحدثت بهذا الحديث في الكوفة، فقالوا: نعم هذا الرجل كان يقال له خزين القبور.
وقريب من هذا الخبر في غريب اتفاقه، ولطيف مساقه، ما حكاه الحافظ المزني في تهذيبه، في ترجمة عبيد بن واقد الليثي البصري، أنه قال: خرجت أريد الحج، فوقفت على رجل بين يديه غلام من أحسن الغلمان صورة، وأكثرهم حركة، فقلت: من هذا. ومن يكون؟ قال: ابني. وسأحدثك عنه. خرجت مرة حاجاً، ومعي أم هذا الغلام، وهي حامل به، فلما كنا في بعض الطريق، ضربها الطلق فولدت هذا الغلام وماتت. وحضر الرحيل، فأخذت الصبي، فلففته في خرقة، وجعلته في غار، وبنيت عليه أحجاراً، وارتحلت وأنا أرى أنه يموت من ساعته. فقضينا الحج، ورجعنا فلما نزلنا ذلك المنزل، بادر بعض أصحابي إلى الغار فنقض الأحجار فإذا هو بالصبي يلتقم إبهاميه فنظرنا فإذا اللبن يخرج منهما. فاحتملته معي فهو الذي ترى.
الخواص: إذا علق منقار الغراب على إنسان حفظ من العين، وكبده تذهب الغشاوة اكتحالا، وإذا علق طحاله على إنسان هيج الشبق، وإذا سقي إنسان من دمه مع نبيذ أبغض النبيذ حتى لا يرجع يشربه، وبيضه إذا طرح في النورة نفع مستعمله. ودمه إذا جفف وحشي به البواسير أبرأها. وقلبه ورأسه إذا طرحا في النبيذ وسقي الإنسان منه من يريد محبته، فإن الشارب يحب الساقي محبة عظيمة. ولحم المطوق إذا أكل مشوياً، نفع القولنج. ومرارة الغراب إذا طلي بها إنسان مسحور بطل عنه السحر. وإذا غمس الغراب الأسود بريشه في الخل وطلي به الشعر سوده. وزبل الغراب الأبلق الذي يسمى اليهودي ينفع الخنازير والخوانيق. وإن صر في خرقة وعلق على الصبي الذي لم يبلغ الحلم، نفعه من السعال المزمن وقطعه. وإذا أكل الغراب الكتلة سقط ولم يقدر على الطيران، لا سيما في زمن الصيف.

التعبير: الغراب في المنام يحل على رجل مخامر غدار واقف مع حظ نفسه، وربما عل على الحرص في المعاش، وربما كان حفاراً. وممن يستحل قتل النفس، وربما عل على الحفر في الأرض ودفن الأموات، لقوله تعالى: " فبعث الله غراباً يبحث في الأرض " الآية. وربما دل الغراب على الغربة والتشاؤم بالأخبار، والغموم والأنكاد، وطول السفر، وعلى ما يوجب الدعاء عليه من أهله وأقاربه، أو سلطانه لسوء تدبيره.
وغراب الزرع يدل على ولد الزنا، والرجل الممزوج بالخير والشر، والغراب الأبقع يدل على رجل معجب بنفسه كثير الخلاف، وهو من الممسوخ. فمن صاد غراباً نال مالا حراماً في ضيق بمكابدة. ولحم كل طير وريشه وعظمه مال لمن حواه في المنام. وإذا رأى الغراب على زرع أو شجر فإنه شؤم، ومن رأى غراباً في داره فإن فاسقاً يخونه في امرأته، ومن رأى غراباً يحدثه فإنه يرزق ولداً خبيثاً. وقال ابن سيرين: بل يغتم غماً شديداً، ثم يفرج عنه، ومن رأى كأنه يأكل لحم غراب، فإنه يأخذ مالا من قبل اللصوص، ومن رأى غراباً على باب الملك، فإنه يجني جناية يندم عليها، أو يقتل أخاه ثم يندم على ذلك، لقوله تعالى: " فأصبح من النادمين " فإن رأى الغراب يبحث فالدليل قوي على قتل الأخ، ومن رأى غراباً خدشه، فإنه يهلك في البرية أو يناله ألم ووجع، ومن رأى كأنه أعطي غراباً، نال سروراً. وقال أرطاميدورس: الغراب الأبقع يدل على طول الحياة وبقاء المتاع، وربما دل على العجائز، وذلك لطول عمر الغراب وهن رسل النساء. ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا رأى كأن غراباً سقط على الكعبة، فقصها على ابن سرين فقال: رجل فاسق يتزوج بامرأة شريفة، فتزوج الحجاج بابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
الغر: بضم الغين ضرب من طير الماء أسود الواحدة غرة الذكر والأنثى في ذلك سواء قاله ابن سيده.
الغرنيق: بضم الغين وفتح النون قال الجوهري والزمخشري: إنه طائر أبيض طويل العنق، من طير الماء، وقال في نهاية الغريب: إنه الذكر من طير الماء، ويقال له: غرنيق وغرنوق. وقيل هو الكركي. وعن أبي صبرة الأعرابي أنه إنما سمي بذلك لبياضه. قال الهذلي يصف غواصاً:
أجاز إليهما لجة بعد لجة ... أزل كغرنيق الضحول عموج
وإذا وصف به الرجال، فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون فيهما وغرنوق بالضم فيهما. وقيل: الغرانيق والغرانقة طيور سود في قدر البط.
روى الطبراني بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير أنه قال: مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف، فشهدنا جنازته، فجاء طائر لم ير مثله على خلقة الغرنيق، حتى دخل في نعشه ثم لم ير خارجاً منه. فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لم ندر من تلاها " يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي، ثم روى مسلم عن عبد الله بن ياسين نحوه. إلا أنه قال: جاء طائر أبيض يقال له الغرنوق. وفي رواية كأنه قبطية. والقبطية ثياب بيض من كتان نسج مصر، تنسب إلى القبط بالضم فرقاً بين الأيام والثياب والجمع القباطي.
قال القزويني: الغرنوق من الطيور القواطع وهي إذا أحست بتغير الزمان عزمت على الرجوع إلى بلادها، فعند ذلك تتخذ قائداً حارساً، ثم تنهض معاً فإذا طارت ترتفع في الهواء حتى لا يعرض لها شيء من السباع، فإذا رأت غيماً أو غشيها الليل أو سقطت للطعم أمسكت عن الصياح كي لا يحس بها العدو، وإذا أرادت النوم، أدخل كل واحد منها رأسه تحت جناحه، لعلمه أن الجناح أحمل، للصدمة من الرأس، لما فيه من العين التي هي أشرف الأعضاء، والدماغ الذي هو ملاك البدن، وينام كل واحد منها قائماً على إحدى رجليه، حتى لا يكون نومه ثقيلا، وأما قائدها وحارسها فلا ينام، ولا يدخل رأسه في جناحه ولا يزال ينظر في جميع الجوانب، فإذا أحس بأحد صاح بأعلى صوته.

ثم حكى عن يعقوب بن إسحاق السراج أنه قال: رأيت رجلا من أهل رومية قال: ركبت بحر الزنج فألقتني الريح إلى بعض الجزائر، فوصلت منها إلى مدينة أهلها أناس قامتهم قدر ذراع، وأكثرهم عور، فاجتمع علي منهم جمع فأخذوني وانتهوا بي إلى ملكهم، فأمر بحبسي، فحبست في شبه قفص، ثم رأيتهم في بعض الأيام يستعدون للقتال، فسألتهم فقالوا: لنا عدو يأتينا في مثل هذه الأيام، فلم نلبث إلا وقد طلعت عليهم عصابة من الغرانيق، وكان عورهم من نقرها أعينهم، فأخذت عصا وشددت عليها فطارت وهربت فأكرموني لذلك.
فائدة: قال القاضي عياض وغيره: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة والنجم وقال: " أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى " قال: " تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى " فلما ختم السورة سجد، وسجد من معه من المسلمين والكفار لما سمعوه أثني على آلهتهم. ثم أنزل الله تعالى عليه: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " الآية. وأجابوا عنه بضعف الحديث، فإنه لم يخرج أحد من أهل الصحيح ولا رواه ثقة بإسناد صحيح سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون لكل صحيح وسقيم.
والذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم وهو بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهيمه من جهة النقل، وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة، على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، ولم يجعل الله تعالى للشيطان عليه، ولا على أحد من الأنبياء سبيلا. وعلى تقدير صحة ما رووه، وقد أعاذنا الله من صحته، فالراجح في تأويله عند المحققين أنه عليه الصلاة والسلام كان كما أمره الله تعالى يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآيات تفصيلا في قراءته، فمن ثم ترصد الشيطان لتلك السكتات، ودس كلاماً في تلك الكلمات محاكياً نغمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقدح ذلك عند المسلمين.
بل روى محمد بن عقبة أن المسلمين لم يسمعوها وإنما ألقاها الشيطان في أسماع الكفار وعقولهم. وأيضاً فمجاهد والكلبي فسر الغرانيق العلا بأنها الملائكة، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله تعالى. كما حكاه جل وعلا عنهم ورده عليهم في السورة بقوله تعالى: " ألكم الذكر وله الأنثى " فأنكر الله تعالى كل ذلك من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوله المشركون على أن المراد به ذكر آلهتهم، ولبس عليهم الشيطان ذلك وزينه في قلوبهم، وألقاه إليهم، نسخ الله تعالى ما ألقى الشيطان، وأحكم آياته، ورفع تلاوة ما حاوله الشيطان، كما نسخ كثير من القرآن ورفعت تلاوته وكان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة. وفي نسخه حكم ليضل به من يشاء ويهدي به من يشاء، وما يضل به إلا الفاسقين، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذي أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

فائدة أخرى: روى الإمام محمد بن الربيع الجيزي، في مسند من دخل مصر من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أخدمه، فإذا أنا برجال من أهل الكتاب معهم مصاحف أو كتب، فقالوا: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرفت إليه فأخبرته بمكانهم فقال صلى الله عليه وسلم: " ما لي ولهم يسألونني عما لا أدري إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي عز وجل أ ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ابغني وضوءاً " فتوضأ. ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين، فلم ينصرف حتى عرفت السرور في وجهه والبشر. ثم قال صلى الله عليه وسلم: " اذهب فأدخلهم ومن وجدت من أصحابي بالباب فأدخله معهم " قال: فأدخلتهم، فلما رفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن شئتم أخبرتكم عما أردتم أن تسألوني قبل أن تتكلموا، وإن شئتم تكلموا له وأخبركم " . فقالوا: بل أخبرنا قبل أن نتكلم قال صلى الله عليه وسلم: " جئتم تسألونني عن ذي القرنين، وسأخبركم عما تجدونه مكتوباً عندكم إن أول أمره أنه غلام من الروم أعطي ملكاً، فسار حتى بلغ ساحل أرض مصر، فابتنى عنده مدينة يقال لها الإسكندرية، فلما فرغ من بنائها، أتاه ملك فعوج به حتى استقله، فرفعه ثم قال له: انظر ماذا ترى تحتك، قال: أرى مدينتي وأرى مدائن معها، ثم عرج به وقال: انظر ماذا تحتك قال: قد اختلطت مدينتي مع المدائن فلا أعرفها، ثم زاد فقال: انظر فقال: أرى مدينتي وحدها لا أرى معها غيرها فقال له الملك: إنما تلك الأرض كلها، والذي ترى محيطاً بها هو البحر. وإنما أراد ربك عز وجل أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطاناً. وسوف يعلم الجاهل ويثبت العالم، فسار حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس، ثم أتى السدين، وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، فبنى السد، ثم جاء يأجوج ومأجوج ثم قطعهم فوجد قوماً وجوههم وجوه الكلاب، يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم قطعهم فوجد قوماً قصاراً يقاتلون القوم الذين وجوههم وجوه الكلاب، ثم مضى فوجد أمة من الغرانيق يقاتلون القوم القصار، ثم مضى فوجد أمة من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة، ثم أفضى إلى البحر المحيط بالأرض " فقالوا: نشهد أن أمره كان هكذا كما ذكرت وإنا نجده هكذا في كتبنا.
وروي أن ذا القرنين، لما بنى السد وأحكمه، انطلق يسير حتى وقع على أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون، مقسطة مقتصدة يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، ويتراحمون حالهم واحدة وكلمتهم واحدة، وأخلاقهم مستقيمة، وطريقتهم مستوية، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليس لبيوتهم أغلاق، وليس عليهم أمراء، ولا بينهم قضاة، ولا بينهم أغنياء ولا فقراء، ولا أشراف ولا ملوك، لا يختلفون ولا يتفاضلون، ولا يتنازعون ولا يتسابون، ولا يقتتلون ولا يضحكون، ولا يحزنون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعماراً، وليس فيهم مسكين ولا فقير، ولا فظ غليظ.

فلما رأى ذلك ذو القرنين، عجب من أمرهم وقال: خبروني أيها القوم خبركم فإني قد أحصيت الدنيا كلها، برها وبحرها، شرقها وغربها، فلم أر أحداً مثلكم، فخبروني خبركم، قالوا: نعم فسل عما تريد، فقال: خبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم. قالوا: عمداً فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت، ولئلا يخرج ذكره من قلوبنا. قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أغلاق؟ قالوا: ليس فينا متهم وليس منا إلا أمين. قال: فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لا حاجة لنا بذلك. قال: فما بالكم ليس عليكم حكام؟ قالوا: لأنا لا نختصم قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لأننا لا نتكاثر بالأموال. قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك. قالوا: لأنا لا نرغب في ملك الدنيا. قال: فما بالكم ليس فيكم أشراف؟ قالوا: لأنا لا نتفاخر. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من صلاح ذات بيننا. قال: فما بالكم لا تقتتلون؟ قالوا: من أجل أنا سسنا أنفسنا بالحلم. قال: فما بال كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً. قال: فأخبروني من أي شيء تشابهت قلوبكم واعتدلت سرائركم؟ قالوا: صحت نياتنا فنزع بذلك الغل من صدورنا، والحسد من قلوبنا. قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير. قالوا: من قبل إنا نقتسم بالسوية. قال: فما بالكم ليس فيكم فظ غليظ؟ قالوا: من قبل الذل والتواضع لربنا. قال: فلأي شيء أنتم أطول الناس أعماراً؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطى بالحق ونحكم بالعمل. قال: فلأي شيء لا تضحكون؟ قالوا: لئلا نغفل عن الاستغفار. قال: فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا: من أجل أنا وطنا أنفسنا للبلاء، مذ كنا أطفالا، فأحببناه وحرصنا عليه. قال: فلأي شيء لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا: لأنا لا نتوكل على غير الله تعالى، ولا نعمل بالأنواء والنجوم.
قال: حدثوني هكذا وجدتم آباءكم. قالوا: نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون على من جهل عليهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلواتهم، ويوفون بعهودهم، ويصدقون في مواعيدهم، فأصلح الله بذلك أمرهم، وحفظهم ما داموا أحياء، وكان حقاً عليه أن يخلفهم بذلك في عقبهم. فقال ذو القرنين: لو كنت مقيماً عند أحد، لأقمت عندكم، ولكن لم أؤمر بالإقامة. وقد ذكرنا الاختلاف بين العلماء في نسبه واسمه ونبوته في باب السين المهملة في السعلاة.
الحكم: يحل أكل الغرانيق لأنها من الطيبات.
الخواص: زبل الغرنيق يسحق بالماء وتبل فيه فتيلة ويجعل في الأنف ينفع من كل قرحة تكون فيها والله أعلم.
الغرغر: بالكسر الدجاج البري، الواحدة غرغرة وأنشد أبو عمرو لابن أحمر:
ألفهم بالسيف من كل جانب ... كما لفت العقبان حجلي وغرغرا
وفي كتاب الغريب، قال الأزهري: كان بنو إسرائيل، من أهل تهامة، أعز الناس على الله، فقالوا قولا لم يقله أحد، فعاقبهم الله تعالى بعقوبة ترونها الآن بأعينكم، جعل رجالهم القردة، وبرهم الذرة، وكلابهم الأسود، ورمانهم الحنظل، وعنبهم الأراك، وجوزهم السرو، ودجاجهم الغرغر، وهو دجاج الحبش لا ينتفع بلحمه لرائحته.
وحكمه: حل الأكل، لأن العرب لا تستخبثه والله أعلم.
الغرناق: بالكسر طائر حكاه ابن سيده.
الغزال: ولد الظبية إلى أن يقوى ويطلع قرناه، والجمع غزلة وغزلان، مثل غلمة وغلمان، والأنثى غزالة. كذا قاله ابن سيده وغيره. واستعمله الحريري في آخر المقامة الخامسة، كذلك في قوله: فلما ذر قرن الغزالة طمر طمور الغزالة أراد بالأول الشمس، وبالثاني الأنثى من أولاد الظباء، وقد غلطه في ذلك بعضهم. والصواب عدم تغليطه، فإنه مسموع مستعمل نظماً ونثراً. قال الصلاح الصفدي، في شرح لامية العجم: وما أحسن قول القائل:
غدوت مفكراً في سر أفق ... إذا ما العلم مبدؤه الجهاله
فما طويت له سبل الدراري ... إلى أن أظفرته بالغزاله
قال: وأنشدني لنفسه العلامة أبو الثناء محمود في وصف العقاب:
ترى الطير والوحش في كفها ... ومنقارها ذا عظام مزاله
فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمت غزاله

قال: وقد غلطوا الحريري في قوله: فلما ذر قرن الغزالة طمر طمور الغزالة، قالوا: لم تقل العرب الغزالة إلا للشمس، فلما أرادوا تأنيث الغزال، قالوا: الظبية. ثم هي بعد ذلك ظبية والذكر ظبي، قاله في التحرير، وقال: اعتمده، فقد وقع فيه تخليط في كتب الفقهاء.
قلت: وقد وقع هو في ذلك، في باب محرمات الإحرام. ووقع للرافعي أيضاً بعض اختلاف تقدم التنبيه على بعضه، في الكلام على حكم الظبي، وقد تنازع جمال الدين يحيى بن مطروح، وأبو الفضل جعفر ابن شمس الخلافة في بيت كل منهما ادعاه وهو هذا:
وأقول: يا أخت الغزال ملاحة ... فتقول: لا عاش الغزال ولا بقى
وبها سميت المرأة غزالة، وهي امرأة شبيب بن يزيد الشيباني الخارجي، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان، والحجاج أمير العراق يومئذ، وخرج بالموصل وهزم عساكر الحجاج وحصره في قصر الكوفة، وضرب باب القصر بعموده فنقبه، وبقيت الضربة فيه إلى أن خرب قصر الإمارة، وكانت زوجته غزالة، نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين، تقرأ فيهما بسورة البقرة وآل عمران، ففعلت وكانت شجيعة وقيل فيها:
وفت غزالة نذرها ... يا رب لا تغفر لها
وهرب الحجاج في بعض حروبه مع شبيب من غزالة، فعيره عمران بن قحطان السدوسي بقوله:
أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا كررت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
وحكي أن الحجاج، لما برز له شبيب الخارجي، في بعض أيام محاربته، أبرز إليه غلاماً له ألبسه لباسه المعروف به، وأركبه فرسه الذي لم يكن يقاتل إلا عليه، فلما رآه شبيب غمس نفسه في الحرب إلى أن خلص إليه، فضربه بعمود، وكان بيده، وهو يظنه الحجاج، فلما أحس الغلام بالضربة، قال: أخ بالخاء المعجمة، فعرف شبيب منه بهذه اللفظة، أنه عبد فانثنى عنه، وقال: قبح الله ابن أم الحجاج، أيتقي الموت بالعبيد؟.
قال الجوهري: والعرب إنما تنطق بهذه اللفظة بالحاء المهملة، ولما عجز الحجاج عن شبيب، بعث إليه عبد الملك عساكر كثيرة من الشام، فتكاثروا على شبيب فهرب فلما حصل على جسر دجلة بالأهواز، نفر به فرسه وعليه الحديد الثقيل، من درع ونحوه فألقاه في الماء، فقال له بعض أصحابه: أغرقاً يا أمير المؤمنين. قال: ذلك تقدير العزيز العليم، فلما غرق ألقاه دجلة إلى الساحل، فحملوه إلى الحجاج فشق بطنه واستخرج قلبه، فإذا هو كالحجر، إذا ضربت به الأرض نبا عنها، فشق فكان داخله قلب صغير كالكرة، فشق فأصيب فيه علقة من الدم. وكان شبيب إذا صاح على الجيش لا يلوي أحد على أحد. ولما غرق أحضر عبد الملك عتبان الحروري، وهو يرى رأي الخوارج، فقال: يا عدو الله ألست القائل:
فإن يك منكم كابن مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال: لم أقل ذلك يا أمير المؤمنين، وإنما قلت: ومنا أمير المؤمنين شبيب، فقبل قوله وعفا عنه. وهذا الجواب في نهاية الحسن، فإنه إذا كان قوله ومنا أمير المؤمنين شبيب مرفوعاً كان مبتدأ فيكون شبيب أمير المؤمنين، وإذا نصب، كان معناه ومنا يا أمير المؤمنين شبيب.
ولم يخرج عليهم أحد مثل شبيب، فإن أيامه طالت وهزم عساكر كثيرة وجبى الخراج وقال أبو يوسف الجوهري:
وإذا الغزالة في السماء ترفعت ... وبدا النهار لوقته يترجل
أبدت لقرن الشمس وجهاً مثله ... تلقى السماء بمثل ما تستقبل
أراد بالغزالة الشمس وقت ارتفاعها فيقال: طلعت الغزالة، ولا يقال غربت الغزالة. وقد أبدع الصفي الحلي في غلام قلع ضرسه وأجاد حيث قال:
لحى الله الطبيب تعدى ... وجاء لقلع ضرسك بالمحال
أعاق الظبي في كلتا يديه ... وسط كلبتين على غزال

وفي سنن أبي داود، ومن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قوم وهنتهم الحمى، فلما كان الغد جلسوا مما يلي الحجر، " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين، ليرى المشركون جلدهم " ، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء كأنهم الغزلان، فإن قيل: هذا الحديث يعارضه ما في صحيح مسلم، عن ابن عمر وجابر رضي الله عنهم قالا: " إن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف " ، فالجواب أن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، كان في عمرة القضاء، سنة سبع قبل فتح مكة وكان أهلها مشركين حينئذ وحديث ابن عمرو جابر رضي الله تعالى عنهم كان في حجة الوداع، فيكون متأخراً فتعين الأخذ به، وهو الصحيح من المذهب.
وحكم الغزال الحل كما تقدم في باب الظاء، في لفظ الظبي، وفيه إذا قتله المحرم أو في الحرم عنز. كذا في المحرر والمنهاج والتنبيه والمناسك وغيرها. واستدلوا لذلك بقضاء الصحابة رضي الله عنهم فيه بذلك. والذي في زوائد الروضة، وصححه في شرح المهذب تبعاً للإمام أن الغزال اسم للصغير من ولد الظباء ذكراً كان أو أنثى إلى أن يطلع قرناه، ثم الذكر ظبي والأنثى ظبية، ففي الغزال ما في الصغار، فإن كان ذكراً فجدي وإن كان أنثى فعناق.
الأمثال: قالوا: أنوم من غزال لأنه إذا رضع أمه فروى امتلأ نوماً، وقالوا: تركت الشيء ترك الغزال لظله وظله كناسه الذي يستظل به من شدة الحر، وهو إذا نفر منه لا يعود إليه البتة، وقالوا: أغزل من غزال، ومغازلة النساء محادثتهن، ويوصف بالغزل غير الغزال من الحيوان كما قيل:
قد ألبستني في الهوى ... ملابس الصب الغزل
إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل
إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل
وقد تقدم في الظبي قولهم ترك الغزال لظله ومن محاسن شعر المتنبي:
بدت قمراً ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
وأنشد الثعالبي لبعض شعراء عصره:
رنا ظبيا وغنى عندليبا ... ولاح شقائقا ومشى قضيبا
الخواص: دماغ الغزال، يداف بدهن الغار ويغلى، ثم يؤخذ منه فيداف بماء الكمون، ويشرب منه قدر جرعة، ينفع للسعال، ومرارته تخلط بقطران وملح، ويشرب منها صاحب السعال، الذي يقذف القيح والدم جزءاً بماء حار يبرأ بإذن الله تعالى. وشحمه إذا طلى به إنسان إحليله، وجامع امرأته لم تحب سواه. وقد تقدم في خواص الظبي، أن لحم الغزال حار يابس وأنه ينفع في القولنج والفالج، وأنه أصلح لحوم الصيد والله أعلم.
الغضارة: القطاة قاله ابن سيده وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف.
الغضب: الثور والأسد، وقد تقدما في باب الهمزة والثاء المثلثة.
الغضف: القطا الجوني شكل معروف عند العرب.
الغضوف: الأسد والحية الخبيثة، وقد تقدما في باب الهمزة والحاء المهملة.
الغضيض: ولد البقرة الوحشية، وقد تقدم لفظ البقرة الوحشية في باب الباء الموحدة.
الغطرب: الأفعى، عن كراع، وقال بعضهم: هذا تصحيف إنما هو بالعين المهملة والظاء المعجمة.
الغطريف: فرخ البازي، والذباب، والسيد الشريف والسخي، الجمع غطارفة.
الغطلس: كمعملس، الذئب وقد تقدم في باب الذال المعجمة.
الغطاطا: بالفتح ضرب من القطا غبر الظهور والبطون والأبدان سود بطون الأجنحة، طوال الأرجل والأعناق، لطاف لا تجتمع أسراباً، وأكثر ما تكون ثلاثاً أو اثنتين، الواحدة غطاطة، كذا قاله الجوهري. وقال ابن سيده: الغطاط القطا. وقيل: القطا ضربان فالقصار الأرجل الصفر الأعناق السود القوادم الصهب الخوافي، هي الكدرية والجونية، والطوال الأرجل البيض البطون الغبر الظهور الواسعة العيون هي الغطاط. وقيل: الغطاط ضرب من الطير ليس من القطا.
الغفر: بالضم، ولد الأروية، والجمع أغفار. والغفر بالكسر ولد البقرة الوحشية.
الغماسة: مشددة طائر ينغمس في الماء كثيراً، ولذلك عدوه من طير الماء، والجمع غماس. الغنافر: بالضم الضبعان الكثير الشعر، وقد تقدم لفظ الضبع في باب الضاد المعجمة.

الغنم: الشاء لا واحد له من لفظه، والجمع أغنام وغنوم وأغانم وغنم مغنمة أي كثيرة، هذه عبارة المحكم. وقال الجوهري: الغنم اسم مؤنث موضوع للجنس، يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعاً، وإذا صغرتها ألحقتها الهاء فقلت: غنيمة، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، يقال: له خمس من الغنم ذكور فتؤنث العدد، وإن عنيت الكباش إذا كان يليه من الغنم ذكور لأن العدد يجري في تذكيره وتأنيثه على اللفظ، لا على المعنى. والإبل كالغنم في جميع ما ذكرناه، وقد أجاد الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه حيث يقول:
سأكتم علمي عن ذوي الجهل طاقتي ... ولا أنثر الدر النفيس على الغنم
فإن يسر الله الكريم بفضله ... وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيداً واستفدت ودادهم ... وإلا فمخزون لدي ومكتتم
فمن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
روى عبد بن حميد بسنده إلى عطية، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: افتخر أهل الإبل وأهل الغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: " السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الإبل " . وهو في الصحيحين بألفاظ مختلفة منها السكينة والوقار في أهل الغنم والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر. وفي لفظ الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أصحاب الشاء. أراد بالسكينة السكون، وبالوقار التواضع، وأراد بالفخر التفاخر بكثرة المال والجاه، وغير ذلك من مراتب أهل الدنيا، وبالخيلاء التكبر والتعاظم. ومنه قوله تعالى: " إن الله لا يحب كل مختال فخور " ومراده بالوبر أهل الإبل لأنه لها كالصوف للضأن والشعر للمعز، ولذلك قال الله تعالى: " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين " وهذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن أكثر حال أهل الغنم وأهل الإبل وأغلبه. وقيل: أراد به عليه الصلاة والسلام أي بأهل الغنم أهل اليمن، لأن أكثرهم أهل غنم، بخلاف ربيعة ومضر، فإنهم أصحاب إبل.
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا فوالله إن محمداً ليعطي عطاء رجل لا يخاف الفقر.
وقد تقدم في باب الدال المهملة في الكلام على الدجاج، الحديث الذي رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر الأغنياء باتخاذ الغنم، وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج " ، وقال عند اتخاذ الأغنياء الدجاج: " يأذن الله بهلاك القرى " . وقد بينا معناه، في شرح سنن ابن ماجه، وبينا أن في إسناده علي بن عروة الدمشقي، وأن ابن حبان قال: كان يضع الحديث.
والغنم على ضربين ضائنة وماعزة، قال الجاحظ: اتفقوا على أن الضأن أفضل من المعز. قلت: وصرح الأصحاب بذلك في الأضية وغيرها واستدلوا على أفضليته بأوجه منها: أن الله تعالى بدأ بذكر الضأن في القرآن، فقال: " ثمانية أزواج من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين " ، ومنها قوله تعالى، حكاية على الخصمين: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " ولم يقل تسع وتسعون عنزاً، ولي عنز واحدة. ومنها قوله تعالى: " وفديناه بذبح عظيم " وأجمعوا كما قال الحافظ أنه كبش. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف.

ومنها أن الضأن تلد في السنة مرة وتفرد غالباً، والمعز تلد مرتين وقد تثنى وتثلث والبركة في الضأن أكثر. ومنها أن الضأن إذا رعت شيئاً من الكلأ فإنه ينبت وإذا رعت المعز شيئاً لا ينبت، وقد تقدم، لأن المعز تقلعه من أصوله والضأن ترعى ما على وجه الأرض. ومنها أن صوف الضأن أفضل من شعر المعز وأعز قيمة، وليس الصوف إلا للضأن. ومنها أنهم كانوا إذا مدحوا شخصاً قالوا: إنما هو كبش، وإذا ذموه قالوا: إنما هو تيس، وإذا أرادوا المبالغة في الذم قالوا: إنما هو تيس في سفينة. ومما أهان الله به التيس، أن جعله مهتوك الستر مكشوف القبل والدبر، بخلاف الكبش. ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم المحلل بالتيس المستعار. ومنها أن رؤوس الضأن أطيب وأفضل من رؤوس المعز، وكذلك لحمها فإن أكل لحم الماعز يحرك المرة السوداء، ويولد البلغم ويورث النسيان، ويفسد الدم، ولحم الضأن عكس ذلك انتهى.
فائدة: قال أبو زيد: يقال لما تضعه الغنم من الضأن والمعز حال وضعه سخلة، ذكراً كان أو أنثى. والجمع سخل بفتح السين، وسخال بكسرها، ثم لا يزال اسمه ذلك ما دام يرضع اللبن، ثم يقال للذكر والأنثى، بهمة بفتح الباء والجمع بهم بضمها، ويقال لولد المعز حين يولد سليل وسليط، فإذا بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه وأكل من البقل، فإذا كان من أولاد المعز فهو جفر. والأنثى جفرة والجمع جفار.
وذكر في كفاية المتحفظ، أن الجفر والجفرة يقعان على الطفل والطفلة من بني آدم حين يأكلان الطعام انتهى. فإذا قوي وأتى عليه حول فهو عريض بفتح العين المهملة وكسر الراء والياء المثناة التحتية، وبالضاد المعجمة في آخره وجمعه عرضان بكسر العين والعتود نوع منه وجمعه أعتدة وعتدان. وقال يونس: جمعه أعتدة وعتدة، وهو في كل ذلك جدي والأنثى عناق إذا كان من أولاد المعز، ويقال له إذا اتبع أمه تلو لأنه يتلو أمه، ويقال للجدي أمر بضم الهمزة وتشديد الميم وبالراء المهملة في آخره، ويقال له هلع وهلعة بضم الهاء وتشديد اللام، والبكرة العناق أيضاً، والعطعط الجدي، فإذا أتى عليه حول، فالذكر تيس والأنثى عنز، ثم يكون جذعاً في السنة الثانية والأنثى جذعة، فإذا طعن في السنة الثالثة فهو ثني، والأنثى ثنية، فإذا طعن في السنة الرابعة كان رباعياً والأنثى رباعية، ثم يكون خماسياً والأنثى خماسية، ثم يكون سداسياً والأنثى سداسية، ثم يكون ضالعاً والأنثى كذلك. ويقال ضلع يضلع ضلوعاً والجمع الضلع بتشديد الضاد واللام.
قال الأصمعي: الحلان والحلام من أولاد المعز خاصة. وفي الحديث " في الأرنب يصيبها المحرم حلان " . قال الجاحظ: وقد قالوا في أولاد الضأن، كما قالوا في أولاد المعز إلا في مواضع. قال الكسائي: هو خروف في العريض من أولاد المعز، والأنثى خروفة. ويقال له حمل والأنثى رخل بفتح الراء المهملة وكسر الخاء المعجمة وجمعه رخال بضم الراء المهملة. وهو مما جمع على غير قياس كما قالوا في المرضع ظئر وظؤار، وفي ولد البقرة الوحشية فرير وفرار، وللشاة القريبة العهد بالنتاج ربى ورباب، وللعظم الذي عليه بقية من اللحم عرق وعراق، وللمولود مع قرينه توأم وتؤام، والبهمة للذكر والأنثى من أولاد الضأن والمعز جميعاً، ولا يزال كذلك حتى يأكل ويجتر، ثم هو قرقر بقافين مكسورتين والجمع قرقار وقرقور. وهذا كله حين يأكل ويجتر. والجلام بكسر الجيم، الجدي أيضاً والبذج بفتح الباء الموحدة والذال المعجمة وبالجيم في آخره من أولاد الضأن خاصة، والجمع بذجان.
روى ابن ماجه وشيخه ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح عن أم هانئ رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " اتخذي غنماً فإن فيها بركة " وشكت إليه امرأة أن غنمها لا تزكو، فقال لها صلى الله عليه وسلم: " ما ألوانها " . قالت: سود. فقال: " عفري " ، أي استبدلي، " أغناماً بيضاً فإن البركة فيها " . وفي الحديث: " صلوا في مرابض الغنم وامسحوا رغامها " . والرغام ما يسيل من الأنف وقد تقدم، في البهيمة ما رواه أبو داود في أبواب الطهارة، عن لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، كانت له مائة شاة لا يريد أن تزيد، وكانت كلما ولدت سخلة ذبح مكانها شاة.

وروى مالك والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " . شعف الجبال، بفتح الشين المعجمة والعين المهملة رؤوسها وشعف كل شيء أعلاه قال ابن بطال: قال أبو الزناد: خص النبي صلى الله عليه وسلم الغنم من بين سائر الأشياء حضاً على التواضع، وتنبيهاً على إيثار الخمول، وترك الاستعلاء والظهور، وقد رعى الأنبياء والصالحون الغنم. وقال صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبياً إلا رعى غنماً " . وأخبر صلى الله عليه وسلم " أن السكينة في أهل الغنم " . وروى الطبراني والبيهقي في الشعب، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه خرج في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له، فوضعوا له السفرة فمر بهم راعي غنم، فسلم فقال له ابن عمر: هلم يا راعي فكل معنا، فقال: إني صائم. فقال له ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أتصوم في هذا اليوم الشديد الحر، وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم؟ فقال له: إني والله أبادر أيامي هذه الخالية. فقال له ابن عمر يريد أن يختبر ورعه: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونطعمك من لحمها فتفطر عليه؟ فقال: إنها ليست لي، إنها غنم سيدي. فقال له ابن عمر: وما عسى سيدك فاعلا إذا فقدها؟ وقلت: أكلها الذئب! فولى الراعي عنه وهو يقول: فأين الله يرفع بها صوته ويشير بإصبعه إلى السماء! فجعل ابن عمر يردد قول الراعي ذلك. فلما قدم المدينة، اشترى العبد الراعي والغنم، وأعتق العبد ووهب منه الأغنام، وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي اليسر عمرو بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: والله إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر عشية، إذ أقبلت غنم لرجل من اليهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يطعمنا من هذه الغنم " قلت: أنا يا رسول الله. قال: " فافعل " . قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال: " اللهم أمتعنا به " فأدركت الغنم، وقد وصل أوائلها الحصن، فأخذت شاتين من آخرها، فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء، حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذبحوهما وأكلوهما.
وكان أبو اليسر رضي الله تعالى عنه من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتاً، وكان إذا حدث بهذا الحديث بكي، ثم قال: امتعوني بعمري حتى صرت آخرهم موتاً انتهى. وكان أبو اليسر آخر البدريين موتاً رضي الله تعالى عنهم.
وفي الاستيعاب وغيره قصة إسلام الأسود الحبشي الذي كان يرعى غنماً لعامر اليهودي، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه الغنم فقال: يا رسول الله أعرض علي الإسلام فعرضه عليه فأسلم. ثم قال: يا رسول الله إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع فيها؟ فقال: " اضرب في وجوهها فسترجع إلى ربها " . فقام الأسود، فأخذ حفنة من حصى، ورمى بها في وجوهها، وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك بعدها أبداً، فرجعت الغنم مجتمعة، كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم يقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سجي بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعرض عنه. فقالوا: يا رسول الله لم أعرضت عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن معه الآن زوجتيه من الحور العين، ينفضان التراب عن وجهه، ويقولان: ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك " . قال أبو عمرو: إنما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم إلى الحصن، لأن ذلك كان مصالحاً عليه، أو كان قبل حل الغنائم.
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ما من نبي إلا وقد رعى الغنم " . قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: " وأنا " . وثبت في صحيح البخاري، وسنن ابن ماجه، واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم " . فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: " وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط " . قال سويد: يعني كل شاة بقيراط.

وفي غريب الحديث للقعنبي، " بعث موسى عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم، وبعث داود عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم أهلي بأجياد " . وفي الحديث " آجر موسى عليه الصلاة والسلام نفسه بعفة فرجه، وشبع بطنه. فقال له ختنه شعيب عليه السلام: إن لك في غنمي ما جاءت به قالب لون " . جاء تفسيره في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها، كأن لونها قد انقلب.
والحكمة في أن الله تعالى جعل الرعي في الأنبياء تقدمة لهم، ليكونوا رعاة الخلق، ولتكون أممهم رعايا لهم. وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت غنماً سوداً دخلت فيها غنم كثير بيض " . قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: " العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم " . قالوا: العجم؟ يا رسول الله قال: " لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من العجم " . وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: " رأيت في المنام غنماً سوداً، يتبعها غنم عفر. يا أبا بكر عبرها " قال: هي العرب تتبعك ثم يتبعها العجم. فقال صلى الله عليه وسلم: " هكذا عبرها الملك سحرا " .
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزع في قليب وحوله أغنام سود وغنم عفر، ثم جاء أبو بكر فنزع نزعاً ضعيفاً، والله يغفر له، ثم جاء عمر فاستحالت غرباً يعني الدلو، فلم أر عبقرياً يفري فريه. فأولها الناس بالخلافة لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، ولولا ذكر الغنم السود والعفر لبعدت الرؤيا عن معنى الخلافة والرعاية، إذ الغنم السود والعفر عبارة عن العرب والعجم. وأكثر المحدثين لم يذكروا الغنم في هذا الحديث. وذكره الإمام أحمد والبزار في مسنديهما وبه يصح المعنى.
ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية، فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقالوا: قل: السلام عليك أيها الأمير. فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقالوا: قل: السلام عليك أيها الأمير. فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال لهم معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول. فقال أبو مسلم: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها، وقال سيدها. وإن أنت لم تهنأ جرباها، ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها، عاقبك سيدها.
وفي رسالة القشيري، في باب الدعاء، أن موسى عليه الصلاة والسلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال موسى: إلهي لو كانت حاجته بيدي لقضيتها! فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وله غنم، وقلبه عند غنمه، وأنا لا أستجيب لعبد يدعوني وقلبه عند غيري. فذكر موسى للرجل ذلك، فانقطع إلى الله تعالى بقلبه فقضيت حاجته.
وفي المجالسة للدينوري، من حديث حماد بن زيد، عن موسى بن أعين الراعي، قال: كانت الغنم والأسد والوحش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك. قال: فحسبناه فوجدناه قد مات في تلك الساعة.
وعن عبد الواحد بن زيد، قال: سألت الله ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل لي: يا عبد الواحد رفيقك في الجنة ميمونة السوداء. فقلت: وأين هي؟ فقيل لي: هي في بني فلان في الكوفة. فذهبت إلى الكوفة أسأل عنها، فإذا هي ترعى غنماً، فأتيت إليها، فإذا غنمها ترعى مع الذئاب، وهي قائمة تصلي، فلما فرغت من صلاتها قالت: يا ابن زيد ليس هذا الموعد، إنما الموعد الجنة. فقلت لها: وما أدراك أني ابن زيد؟ فقالت: أما علمت أن الأرواح جنود مجنحة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. فقلت لها: عظيني. فقالت: واعجباً لواعظ يوعظ؟ فقلت لها: ما لي أرى أغنامك ترعى مع الذئاب؟ قالت: إني أصلحت ما بيني وبين الله، فأصلح ما بيني وبين غنمي والذئاب.
فائدة: في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وزيد بن خالد الجهني رضي الله

تعالى عنه، قالا: إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: اقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله تعالى، وقال الآخر: وكان أفقههما: أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي أن أتكلم. فقال له: " تكلم " فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديته من غنمي بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته. فقال صلى الله عليه وسلم: " أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ويجلد ابنك مائة ويغرب عاماً " . وأمر صلى الله عليه وسلم أنيساً الأسلمي " أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت فرجمها فاعترفت فرجمها " . وهذا الحديث مذكور في الصحيحين.
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، وأخشى إن طال على الناس زمان، أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله.
والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف، والرجم نسخت تلاوته وبقي حكمه. وقال أبو حنيفة: التغريب منسوخ في حق البكر، وعامة أهل العلم على أنه ثابت لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب. والمحصن من اجتمعت فيه أربعة أوصاف: العقل والبلوغ والحرية والإصابة، فإن زنى فحده الرجم مسلماً كان أو ذمياً. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان، فلا رجم على الذي عندهم. ودليلنا أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين كانا قد أحصنا. وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف الأربعة، نظر إن كان غير بالغ أو كان مجنوناً، فلا حد عليه، وإن كان حراً بالغاً عاقلا، غير أنه لم يصب بنكاح صحيح، فعليه جلد مائة وتغريب عام وإن كان عبداً، فعليه جلد خمسين. وفي تغريبه قولان: فإن قلنا يغرب فقولان: أصحهما نصف سنة، كما يجلد خمسين. ولهذه المسألة تتمات مذكورة في كتب الفقه.
وذكر المفسرون في قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " الآية. عن ابن عباس وقتادة والزهري أن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إن هذا تفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فأفسدته ولم تبق منه شيئاً. فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث. فخرجا من عنده، فمرا على سليمان عليه السلام، فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه، فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا. فدعاه داود فقال له: بحق النبوة والأبوة يا بني إلا ما حدثتني بالذي هو أرفق بالفريقين. فقال سليمان: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بحرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث، مثل حرثه فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل، دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه. فقال داود: القضاء كما قضيت.
وكان عمر سليمان يوم حكم بهذا الحكم إحدى عشرة سنة. والنفش الرعي بالليل، والهمل الرعي بالنهار. وهما الراعي بلا راع.
ونختم الكلام على الغنم بما في أول عجائب المخلوقات عن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، أنه اجتاز بعين ماء، في سفح جبل، فتوضأ منها ثم ارتقى الجبل ليصلي، إذا أقبل فارس فشرب من ماء العين، وترك عندها كيساً فيه دراهم، وذهب ماراً، فجاء بعده راعي غنم فرأى الكيس فأخذه ومضى. ثم جاء بعده شيخ عليه أثر البؤس، وعلى رأسه حزمة حطب، فوضعها هناك ثم استلقى ليستريح، فما كان إلا قليل حتى عاد الفارس يطلب كيسه فلم يجده، فأقبل على الشيخ يطالبه به فأنكر، فلم يزالا كذلك حتى ضربه ولم يزل يضربه حتى قتله. فقال موسى: يا رب كيف العدل في هذه الأمور؟ فأوحى الله تعالى إليه إن الشيخ كان قد قتل أبا الفارس، وكان على الفارس دين لأبي الراعي مقدار ما في الكيس، فجرى بينهما القصاص وقضى الدين وأنا حكم عدل.

قال في كتاب المحكم والغايات: قال أصحاب التجارب: ومما يورث الغم المشي بين الأغنام، والتعمم جالساً ولبس السراويل قائماً، وقص اللحية بالأسنان، والقعود على أسكفة الباب، والأكل بالشمال، ومسح الوجه بالأذيال، والمشي على قشور البيض، والاستنجاء باليمين والضحك في المقابر.
الحكم: يحل أكل الغنم وبيعها بالنص والإجماع. ويجب في سائمتها الزكاة، ففي كل أربعين شاة شاة جذعة ضأن أو ثنية معز. وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه، ثم في كل مائة شاة شاة والسنة أن تقلد إذا جعلت هدياً إلى البيت العتيق، لما روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: كنت أفتل قلائد الهدى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقلد الغنم. وهذا الحديث حجة للشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور في مشروعية ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم، والظاهر أن الحديث لم يبلغهما.
فرع: فتح إنسان مراح غنم، فخرجت ليلا ورعت زرعاً فإن كان الذي فتحه المالك، ضمن الزرع، وإن كان غير المالك لم يضمن. والفرق أن المالك يلزمه حفظها في الليل فإذا فتح عليها ضمن، وغير المالك لا يلزمه حفظها، فإذا فتح عليها لم يضمن. قاله في البحر وسيأتي في باب الميم، الإشارة إلى إتلاف الماشية.
وأما الأمثال: فقد تقدم بعضها في باب الجيم، وبعضها في باب الشين المعجمة، وكذلك الخواص وسيأتي طرف منها في المعز في باب الميم، إن شاء الله تعالى.
التعبير: الغنم في الرؤيا رعية صالحة طائعة، وتدل على الغنيمة والأزواج والأولاد والأملاك والزرع والأشجار الحافلة فالثمار، فذوات الصوف نساء كريمات جميلات ذوات مال وعرض مستور. والشعاري نساء صالحات فقيرات، ذوات عرض مبذول بكشف عوراتهن، خلافاً لذوات الصوف فإن عوراتهن مستورة بالألية. قاله ابن المقري.
وقال المقدسي: من رأى أنه يسوق معزاً وضأناً، فإنه يلي على عرب وعجم، فإن أخذ من ألبانها وأصوافها فإنه يجبي منهم أموالا، ومن رأى غنماً واقفة في مكان، فإنهم رجال يجتمعون في ذلك الموضع، في أمر من الأمور. ومن رأى غنماً استقبلته فإنهم أعداء يظفر بهم، ومن رأى شاة تمشي أمامه، وهو يمشي ولا يحركها، تعطلت عليه معيشته، وربما تبع امرأة ولا تحصل له. وألية الغنم مال المرأة، ومن رأى كأنه يجز شعر الغنم فليحذر من الخروج من داره ثلاثة أيام، وقال جاماسب: من رأى قطيع غنم سر دائماً. ومن رأى شاة واحدة سر سنة. والنعجة امرأة، فمن ذبح نعجة افتض امرأة مباركة، لقوله تعالى: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " ومن رأى أن صورته تحولت على صورة غنمه نال غنيمة.
الغواص: طائر تسميه أهل مصر الغطاس وهو القرلي الآتي في باب القاف إن شاء الله تعالى.
قال القزويني في الأشكال: هو طائر يوجد بأطراف الأنهار، يغطس في الماء ويصطاد السمك، فيتقوت منه، وكيفية صيحه أنه يغوص في الماء منكوساً بقوة شديدة، ويمكث تحت الماء، إلى أن يرى شيئاً من السمك فيأخذه، ويصعد به ومن العجائب لبثه تحت الماء، ويوجد كثيراً بأرض البصرة انتهى.
قال بعضهم: رأيت غواصاً غاص فطلع بسمكة، فغلبه غراب عليها، فأخذها منه، فغاص مرة أخرى وطلع بسمكة أخرى، فأخذها منه الغراب، ثم الثالثة كذلك، فلما اشتغل الغراب بالسمكة. وثب الغواص فأخذ برجل الغراب، وغاص به تحت الماء حتى مات الغراب، ثم خرج هو من الماء.
الحكم: قال القزويني: إن أكله حلال وهو المفهوم من كلام الرافعي وغيره.
الخواص: دمه يجفف ويسحق مع شعر إنسان، فإنه ينفع من الطحال، وكذلك عظمه يفعل به مثل ذلك والله أعلم.

الغوغاء: الجراد إذا احمر وبدت أجنحته، وهو يذكر ويؤنث ويصرف ولا يصرف، واحدته غوغاءة وغوغاوة، وبه سميت سفلة الناس المنتسبو إلى الشر المسرعو إليه. قال أبو العباس الروياني: الغوغاء من يخالط المفسدين والمجرمين، ويخاصم الناس بلا حاجة، ولذلك قالوا: أكثر من الغوغاء. وفي تاريخ ابن النجار عن ابن المبارك، قال: قدمت على سفيان الثوري بمكة، فوجدته مريضاً شارب دواء فقلت له: إني أريد أن أسألك عن أشياء، قلت: أخبرني من الناس؟ قال: الفقهاء. قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قلت: فمن الأشراف. قال: الأتقياء. قلت: فمن الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الحديث، يريدون أن يأكلوا به أموال الناس. قلت: فمن السفلة؟ قال: الظلمة انتهى. والغوغاء أيضاً شيء يشبه البعوض، إلا أنه لا يعض ولا يؤذي.
الغول: بالضم، أحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين، وهم سحرتهم. قال الجوهري: هو من السعالي والجمع أغوال وغيلان، وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول، والتغول التلون. قال كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله تعالى عنه:
فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول
ويقال: تغولت المرأة إذا تلونت. ويقال: غالته غول، إذا وقع في مهلكة. والغضب غول الحلم. فائدة: سأل رجل أبا عبيدة عن قوله تعالى: " طلعها كأنه رؤوس الشياطين " وإنما يقع الوعد والإيعاد، بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف فأجابه بأن الله تعالى كلم العرب على قدر كلامهم أما سمعت امرأ القيس كيف قال:
أتقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان يهولهم أوعدوا به، قال أبو عبيدة: ومن يومئذ عملت كتابي الذي سميته المجاز. وأبو عبيدة كنيته، واسمه معمر بن المثنى البصري النحوي العلامة، كان يعرف أنواعاً من العلوم، وكانت العربية وأخبار العرب وأيامها أغلب عليه، وكان مع معرفته يكسر الشعر إذا أنشده، ويلحن إذا قرأ القرآن، وكان يرى رأي الخوارج، وكان لا يقبل شهادته أحد من الحكام، لأنه كان يتهم بالميل إلى الغلمان. قال الأصمعي: دخلت يوماً أنا وأبو عبيدة إلى المسجد، فإذا على الأسطوانة التي يجلس إليها أبو عبيدة مكتوب:
صلى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله آمينا
قال: فقال لي: يا أصمعي امح هذا. فركبت ظهره ومحوته. ثم قلت: بقيت الطاء فقال: هي شر الحروف، الطامة في الطاء، امحها. وقيل: إنه وجدت ورقة في مجلس أبي عبيدة فيها هذا البيت وبعده:
فأنت عندي بلا شك بقيتهم ... منذ احتلمت وقد جاوزت تسعينا
وروي أن أبا عبيدة خرج إلى بلاد فارس قاصداً موسى بن عبد الرحمن الهلالي، فلما قدم عليه، قال لغلمانه: احترزوا من أبي عبيدة فإن كلامه كله دق، ثم حضر الطعام فصب بعض الغلمان على ذيله مرقاً، فقال له موسى: قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشرة أثواب، فقال أبو عبيدة: لا عليك فإن مرقكم لا يؤذي، أي ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت.
توفي أبو عبيدة في سنة تسع ومائتين، وهذا أبو عبيدة بالهاء والقاسم بن سلام أبو عبيد بغير هاء، وكلاهما من أهل اللغة. ومعمر بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة وآخره راء مهملة. وكان والد أبي عبيدة من قرية من أعمال الرقة، يقال لها باجروان، وهي القرية التي استطعم أهلها موسى والخضر عليهما السلام، كذا قاله ابن خلكان وغيره، وتقدم في باب الحاء المهملة، في الحوت عن السهيلي أن القرية المذكورة في القرآن برقة، والله تعالى أعلم.
وروى الطبراني، في الدعوات والبزار برجال ثقات، من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا تغولت لكم الغيلان، فنادوا بالأذان، فإن الشيطان إذا سمع النداء، أدبر وله جصاص " . أي ضراط. قال النووي، في الاذكار: إنه حديث صحيح، أرشد صلى الله عليه وسلم إلى دفع ضررها بذكر الله تعالى. ورواه النسائي، في آخر سننه الكبرى، من حديث الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل فإذا تغولت لكم الغيلان فبادروا بالأذان " .

قال النووي رحمه الله تعالى: ولذلك ينبغي أن يؤذن أذان الصلاة، إذا عرض للإنسان شيطان، لما روى مسلم عن سهيل بن أبي صالح أنه قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة، ومعي غلام لنا أو صاحب لنا، فناداه مناد من حائط باسمه، فأشرف الذي معي على الحائط، فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك ترى هذا ما أرسلتك، ولكن إذا سمعت صوتاً فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الشيطان إذا نودي بالصلاة أدبر " .
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله، أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا عدوى ولا طيرة ولا غول " . قال جمهور العلماء: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين، تتراءى للناس وتتغول تغولا أي تتلون تلوناً، فتضلهم عن الطريق وتهلكهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال آخرون: ليس المراد بالحديث نفي وجود الغول، وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب، من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها، قالوا: ومعنى لا غول، أي لا تستطيع أن تضل أحداً. ويشهد له حديث آخر: " لا غول ولكن السعالي " ، قال العلماء: السعالي بالسين المهملة المفتوحة والعين المهملة سحرة الجن كما تقدم.
ومنه ما روى الترمذي والحاكم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كانت لي سهوة فيها تمر، فكانت تجيء الغول كهيئة السنور، فتأخذ منه فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اذهب فإذا رأيتها فقل بسم الله أجيبي رسول الله " . قال: فأخذها فحلفت أن لا تعود فأرسلها، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما فعل أسيرك " . قال: حلفت أن لا تعود. قال صلى الله عليه وسلم: " كذبت وهي معاودة للكذب " . قال: فأخذها مرة أخرى فحلفت أن لا تعود فأرسلها، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما فعل أسيرك " ؟ قال: حلفت أن لا تعود، قال صلى الله عليه وسلم: أكذبت وهي معاودة للكذب " قال: فأخذها، وقال: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: " إني ذاكرة لك شيئاً آية الكرسي، اقرأها في بيتك فلا يقربك شيطان ولا غيره. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ما فعل أسيرك " ؟ فأخبره بما قالت، فقال صلى الله عليه وسلم: " صدقت وهي كذوب " . قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وهذا روى مثله البخاري، فقال: قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر القصة، وفيها فقلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله. فقال صلى الله عليه وسلم: " ما هي " ؟ قلت: قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي كلها فإنه لا يزال عليك عن الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال صلى الله عليه وسلم: " وأما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة " . قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: " ذلك الشيطان " . قال النووي رحمه الله: وهذا الحديث متصل، فإن عثمان بن الهيثم أحد شيوخ البخاري الذين روى عنهم في صحيحه.
وأما قول أبي عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين إن البخاري أخرجه تعليقاً، فغير مقبول، فإن المذهب الصحيح المختار عند العلماء، والذي عليه المحققون، أن قول البخاري وغيره قال فلان، محمول على سماعه منه، واتصاله إذا لم يكن مدلساً. وكان قد لقيه، وهذا من ذلك، وإنما المعلق ما أسقط البخاري فيه شيخه أو أكثر، بأن يقول: في مثل هذا الحديث قال عوف أو قال محمد بن سيرين أو قال أبو هريرة.

وروى الحاكم في المستدرك وابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه كان له جرين تمر، وكان يجده ينقص فحرسه ليلة فإذا هو بمثل الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد علي السلام، فقلت: من أنت ناولني يدك؟ فناولني، فإذا يد كلب وشعر كلب! فقلت: أجني أم إنسي؟ فقال: بل جني. فقلت: إني أراك ضئيل الخلقة أهكذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن ما فيهم أشد مني! فقلت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة، فأحببت أن أصيب من طعامك، فقلت: فما يجيرنا منكم؟ قال: تقرأ آية الكرسي، فإنك إن قرأتها غدوة، أجرت منا حتى تمسي، وإن قرأتها حين تمسي أجرت منا حتى تصبح. قال: فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال: " صدقك الخبيث " . ثم قال: صحيح الإسناد.
وروى الحاكم أيضاً عن أبي الأسود الدؤلي، قال: قلت لمعاذ بن جبل: حدثني عن قصة الشيطان، حين أخذته. فقال: جعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقة المسلمين، فجعلت التمر في غرفة، فوجدت فيه نقصاناً، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا الشيطان يأخذ منه، قال: فدخلت الغرفة وأغلقت الباب علي، فجاءت ظلمة عظيمة، فغشيت الباب ثم تصور في صورة أخرى، ثم دخل لي من شق الباب، فشددت إزاري علي، فجعل يأكل من التمر فوثبت عليه فضبطته فالتفت يداي عليه، فقلص: يا عدو الله ما جاء بك هاهنا؟ فقال: خل عني فإني شيخ كبير ذو عيال، وأنا فقير وأنا من جن نصيبين، وكانت لنا هذه القرية قبل أن يبعث صاحبكم، فلما بعث أخرجنا منها فخل عني فلن أعود إليك، فخليت عنه. وجاء جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال.
قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم نادى مناديه أين معاذ؟ فقمت إليه. فقال صلى الله عليه وسلم: " ما فعل أسيرك يا معاذ " ؟ فأخبرته، فقال: " أما أنه سيعود " . قال: فعدت فدخلت الغرفة، وأغلقت علي الباب، فجاء الشيطان، فدخل من شق الباب فجعل يأكل من التمر، فصنعت به كما صنعت في المرة الأولى، فقال: خل عني فإني لن أعود إليك. فقلت: يا عدو الله ألم تقل في المرة الأولى لن أعود ثم عدت؟ قال: فإني لن أعود، وآية ذلك أن لا يقرأ أحد منكم خاتمة سورة البقرة، فيدخل أحد منا في بيته تلك الليلة. ثم قال: صحيح الإسناد.
وفي مسند الدارمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن، فقال له: هل لك أن تصارعني؟ فإن صرعتني علمتك آية، إذا قرأتها، حين تدخل بيتك، لم يدخله شيطان، فصارعه فصرعه الإنسي. وقال: إني أراك ضئيلا شخيتاً، كأن ذراعيك ذراعا كلب، أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم أم أنت من بينهم؟ فقال: إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثانية، فإن صرعتني علمتك، فصرعه الإنسي. فقال: تقرأ آية الكرسي، فإنها لا تقرأ في بيت إلا خرج منه الشيطان له حبج كحبج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح. فقيل لعبد الله: أهو عمر؟ قال: ومن عسى أن يكون إلا عمر! قوله: الضئيل، معناه الدقيق النحيف، والشخيت الهزيل الخسيس المجفر الجنبين، والضليع الوافر الأضلاع، والحبج الضراط. وقوله إلا عمر بالرفع بدل من محل من، ومحله الرفع بالابتداء. وقد تقدم في باب الجيم في الكلام على لفظ الجن حديث في مسند الدارمي بهذا المعنى. والذي ذهب إليه المحققون أن الغول شيء يخوف به ولا وجود له كما قال الشاعر:
الغول والخل والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم توجد ولم تكن
ولذلك سموا الغول خيتعورا وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة ويضمحل كالسراب وكالذي ينزل من الكوى في شدة الحر كنسج العنكبوت قال الشاعر:
كل أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحب حبها خيتعور
وقال قوم: الغول ساحرة الجن، وهي تتصور في صور شتى. وأخفوا ذلك من قول كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله تعالى عنه:
فما تكون على حال تدوم بها ... كما تلون في أثوابها الغول
وقد تقدم ذلك قريباً، وفي دلائل النبوة للبيهقي، في أواخره، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا تغولت لأحدكم الغيلان، فليؤذن، فإن ذلك لا يضره. وتزعم العرب، أنه إذا انفرد الرجل في الصحراء ظهرت له في خلقة الإنسان، فلا يزال يتبعها حتى يضل عن الطريق، فتحنو منه وتتمثل له في صور مختلفة، فتهلكه روعاً.

وقالوا: إذا أرادت أن تضل إنساناً، أوقدت له ناراً فيقصدها فتفعل به ذلك. قالوا: وخلقتها خلقة إنسان، ورجلاها رجلا حمار. قال القزويني: ورأى الغول جماعة من الصحابة، منهم عمر رضي الله تعالى عنه، حين سافر إلى الشام، قبل الإسلام، فضربها بالسيف. وذكر عن ثابت بن جابر الفهري أنه لقي الغول وذكر أبياته النونية في ذلك.
الأمثال: قالت العرب: " فلان أقبح من الغول " ومن زوال النعمة، ومن قول بلا فعل، والله تعالى أعلم.
الغيداق: بفتح الغين، ولد الضب، وهو أكبر من الحسل، وقال خلف الأحمر: الغياديق الحيات.
الغيطلة: بالفتح أيضاً البقرة الوحشية. قاله ابن سيده. ويقال لجماعة البقر الوحشي الربرب، بباءين موحدتين وراءين مهملتين، وكذلك الإجد، بكسر الهمزة والجيم قاله في الكفاية.
الغيلم: كديلم ذكر السلاحف، وقد تقدم ذكر السلاحف، في باب السين المهملة.
الغيهب: ذكر النعام، والغيهب: الذي لا عقل له. قاله السهيلي، في تفسير شعر مكرز بن حفص، في أوائل غزوة بدر والله تعالى أعلم.

باب الفاء
الفاختة: واحدة الفواخت، من ذوات الأطواق، وهي بفتح الفاء وكسر الخاء المعجمة وبالتاء المثناة، في آخرها، قاله في الكفاية، ويقال للفاختة: الصلصل أيضاً بضم الصادين المهملتين انتهى.
وزعموا أن الحيات تهرب من صوتها، ويحكى أن الحيات كثرت في أرض فشكوا ذلك إلى بعض الحكماء، فأمرهم بنقل الفواخت إليها، ففعلوا ذلك، فانقطعت الحيات عنها. وهي عراقية وليست بحجازية، وفيها فصاحة وحسن صوت، وصوتها يشبه المثلث، وفي طبعها الإنس بالناس وتعيش في الدور، والعرب تصفها بالكذب، فإن صوتها عندهم، هذا أوان الرطب، وتقول ذلك والنخل لم يطلع، قال الشاعر:
أكذب من فاختة ... تقول وسط الكرب
والطلع لم يبدلها ... هذا أوان الرطب
قلت: ويحتمل أنها إنما وصفت بالكذب، لما قاله الغزالي رحمه الله تعالى، في الإحياء، في أواخر كتابي الصبر والشكر، إن كلام العشاق الذين أفرط حبهم يستلذ بسماعه، ولا يعول عليه، كما حكى أن فاختة كان يراودها زوجها، فمنعته نفسها، فقال لها: ما الذي يمنعك عني؟ ولو أردت أن أقلب لك ملك سليمان ظهراً لبطن لفعلت لأجلك؟ فسمعه سليمان عليه الصلاة والسلام، فاستدعاه وقال: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا نبي الله إني محب، والمحب لا يلام وكلام العشاق يطوى ولا يحكى، وهو كما قال الشاعر:
أريد وصاله ويريد هجري ... فاترك ما أريد لما يريد
وقد تقدم في العصفور نظير هذا.
فائدة: اعلم أن الناس قد كثر كلامهم، في وصف المحبة، ونعت العشق، فسلك كل منهم مذهباً أداه إليه نظره واجتهاده، وسأختصر من أقوالهم قدراً يسيراً كافياً.
قال عبد الرحمن بن نصر: أهل الطب يجعلون العشق مرضاً، يتولد من النظر والسماع، ويجعلون له علاجاً كسائر الأمراض البدنية، وهو مراتب ودرجات بعضها فوق بعض.
فأول مرتبة منه تسمى الاستحسان، وهي المتولدة من النظر والسماع، ثم تقوى هذه المرتبة بطول الذكر في محاسن المحبوب وصفاته الجميلة، فتصير مولدة، وهي الميل إليه والتألف بشخصه، ثم تتأكد المودة فتصير محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني، فإذا قويت هذه المرتبة صارت خلة، والخلة من الآدميين هي تمكن محبة أحدهما من قلب صاحبه، حتى تسقط بينهما السرائر، فإذا قويت هذه المرتبة صارت هوى، والهوى هو أن المحب لا يخالطه في محبة محبوبه تغير، ولا يداخله تلون، ثم يزيد الحال فيصير عشقاً، والعشق هو إفراط المحبة حتى لا يخلو المعشوق من تخيل العاشق، وفكره وذكره لا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك تشتغل النفس عن تنبيه القوى الشهوانية، فيمتنع من الطعام والشراب لاشتغال النفس عن تنبيه القوى الشهوانية، ويمتنع من الفكر والذكر والتخيل والنوم، لاستضرار الدماغ، فإذا قوي العشق صار تيماً، وفي هذه الحالة لا يوجد في قلبه فضل لغير صورة المعشوق، ولا ترضى نفسه سواها، فإذا تزايد الحال صار ولهاً، والوله هو الخروج عن الحدود والترتيب، فتتغير صفاته، ولا تنضبط أحواله، ويصير موسوساً لا يدري ما يقول، ولا أين يذهب فحينئذ تعجز الأطباء عن مداواته، وتقصر آراؤهم عن معالجته، لخروجه عن الحد الضابط. وقد أجاد القائل حيث قال: يقول أناس لو نعت لنا الهوى ووالله ما أدري لهم كيف أنعت

فليس لشيء منه حد أحده ... وليس لشيء منه وقت موقت
إذا اشتد ما بي كان آخر حيلتي ... له وضع كفي فوق خدي وأصمت
وأنضح وجه الأرض طور بعبرتي ... وأقرعها طوراً بظفري وأنكت
وقد زعم الواشون أني سلوتها ... فما لي أراها من بعيد فأبهت
قال جالينوس: العشق من فعل النفس، وهو كامن في الدماغ والقلب والكبد، وفي الدماغ ثلاثة مساكن: التخيل في مقدمه، والفكر في وسطه، والذكر في مؤخره، فلا يكون أحد عاشقاً، إلا إذا كان بحيث إذا فارق معشوقه لم يخيل من تخيله وفكره وذكره، فيمتنع من الطعام والشراب لاشتغال قلبه وكبده، ومن النوم لاشتغال الدماغ بالتخيل والفكر للمعشوق، فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به، ومتى لم يكن كذلك لم يكن عاشقاً، فإذا لها العاشق خلت هذه المساكن، فرجع إلى حال الاعتدال.
وقال أبو علي الدقاق: العشق تجاوز الحد في المحبة، ولهذا لا يوصف الله تعالى بالعشق، لأنه لا يوصف بأن يجاوز الحد في محبة العبد، وإنما يوصف بالمحبة. كما قال تعالى: " يحبهم ويحبونه " فمحبة الله تعالى للعبد هي إرادته لإنعام مخصوص عليه، كما أن رحمته إرادة الإنعام. وقال قوم: محبة الله تعالى للعبد مدحه وثناؤه عليه، وقيل: بل محبة الله لعبده صفة من صفات فعله، فهي إحسان مخصوص يليق بالعبد، وأما محبة العبد لله تعالى فحالة يجدها في قلبه يحصل منها التعظيم له، وايثاره رضاه، وقلة الصبر عنه والاحتياج إليه والاستئناس بذكره.
وقد اختلف في اشتقاق المحبة والعشق، فقال بعضهم: الحب اسم لصفاء المودة، لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب، وقيل: هو مشتق من حباب الماء بفتح الحاء، وهو معظمه، لأن المحبة معظم ما في القلوب من المهمات وقيل: اشتقاقه من اللزوم والثبات، يقال: أحب البعير إذا برك فلم يقم، فكأن المحب لا ينزع قلبه عن ذكر محبوبه. وأما العشق فاشتقاقه من العشقة، وهو نبات يلتف بأصول الشجر التي يقاربها في منبتها، فلا تكاد تتخلص منه إلا بالموت، وقيل: إن العشقة نبات أصفر متغير الأوراق فسمي العاشق به لاصفراره وتغير حاله. وقيل: أعم حالات الحب وأشهرها وأعظم صفات الهوى وأظهرها ثلاثة أوصاف، ملازمة لا يستطيعون دفعها، وهي النحول والسقم والذبول، والله أعلم.
وهدا الطائر يعمر كثيراً، وقد ظهر منه ما عاش خمساً وعشرين سنة، وما عاش أربعين سنة، كما حكاه أبو حيان التوحيدي وأرسطو قبله.
الحكم: يحل أكلها وبيعها بالاتفاق.
الأمثال: قالوا: " أكذب من فاختة " . وقالوا: " فلان الفاختة عنده أبو ذر " .
الخواص: دمها ودم الحمام الأسود، إذا طلي بهما البرص غير لونه. وزبلها، إذا علق على صبي بصرع أبرأه. ودمها، إذا قطر في العين أذهب الآثار المزمنة من ضربة أو قرحة أو غيرهما.
التعبير: قال ابن المقري: الفواخت والقماري والدبسي وما أشبهها، يدل ملكها في الرؤيا على العز والجاه وظهور النعم، لأنها لا تكون في الغالب إلا عند المتنعمين، وربما دلت على أهل العبادة، والانقطاع والقراءة والتسبيح والتهليل. قال الله تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " وربما دلت على المطربين، وأصحاب اللهو والغناء والرقص، وربما دلت على الزوجات والإماء. وقال المقدسي: الفاختة في المنام ولد كذاب، وقيل: الفاختة امرأة كذابة غير ألفة، وفي دينها نقص. وقال ارطاميدورس: الفاختة امرأة صاحبة مروءة وشكل، والله أعلم.
الفأر: بالهمز جمع فأرة ومكان فترأى: كثير الفأر، وأرض فئرة أي ذات فأر، وكنية الفأرة: أم خراب وأم راشد، وهي أصناف: الجرذ والفأر المعروفان وهما كالجاموس والبقر والبخاتي والعراب، ومنها: اليرابيع والزباب والخلد، فالزباب صم والخلد عمي، وفأرة البيش، وفأرة الإبل وفأرة المسك، وذات النطق، وفأرة البيت وهي الفويسقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها في الحل والحرم.

وأصل الفسق الخروج عن الاستقامة والجور، وبه سمي العاصي فاسقاً، وإنما سميت هذه الحيوانات فواسق على الاستعارة لخبثهن، وقيل: لخروجهن عن الحرمة في الحل والحرم، أي لا حرمة لهن بحال، وقيل: سميت بذلك لأنها عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، فقطعتها، روى الطحاوي في أحكام القرآن بإسناده عن يزيد بن أبي نعيم، أنه سأل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه لم سميت الفأرة الفويسقة؟ فقال: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، وقد أخذت فأرة فتيلة السراج لتحرق على رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فقام إليها وقتلها وأحل قتلها للحلال والمحرم. وفي سنن أبي داود، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة، فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعداً عليها، فأحرقت منها موضع درهم. الخمرة: السجادة التي يسجد عليها المصلي، سميت بذلك لأنها تخمر الوجه، أي تغطيه.
ورواه الحاكم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة، فذهبت الجارية تزجرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعيها " . فجاءت بها فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، على الخمرة التي كان قاعداً عليها، فأحرمت منها موضع درهم، فقال عليه الصلاة والسلام: " إذا نمتم فأطفؤا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم " . ثم قال: صحيح الإسناد. وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر بإطفاء النار عند النوم " وعلل ذلك بأن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم ناراً. وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون حتى تطفؤوها " . قال النووي رحمه الله تعالى: هذا عام، يدخل فيه نار السراج وغيرها. وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها، فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر بالإطفاء، وإن أمن ذلك كما هو الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بتركها، لانتفاء العلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا انتفت العلة زال المنع، وقد تقدم في باب الصاد المهملة، في لفظ الصيد الكلام على الفواسق الخمس، وما ألحق بها مما يباح قتله للمحرم، وفي الحرم.
والفأر نوعان: جرذان وفئران، وكلاهما له حاسة السمع والبصر، وليس في الحيوانات أفسد من الفأر ولا أعظم أذى منه، لأنه لا يبقي على حقير ولا جليل، ولا يأتي على شيء إلا أهلكه وأتلفه، ويكفيه ما يحكى عنه في قصة سد مأرب، وقد تقدمت في باب الخاء المعجمة، في لفظ الخلد، ومن شأنه أنه يأتي القارورة الضيقة الرأس، فيحتال حتى يدخل فيها ذنبه، فكلما ابتل بالدهن أخرجه وامتصه حتى لا يدع فيها شيئاً. ولا يخفى ما بين الفأر والهر من العداوة، والسبب في ذلك ما تقدم في أول خواص الأسد من حديث زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه، أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حمل في السفينة، من كل زوجين اثنين شكا أهل السفينة الفأرة وأنها تفسد طعامهم، ومتاعهم فأوحى الله تعالى إلى الأسد، فعطس فخرجت منه الهرة فتخبأت الفأرة منها.
تذنيب: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اتخذ نوح السفينة في سنتين، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد. وروي أن الطبقة السفلى، كانت للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطير. فلما كثرت أرواث الدواب، أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الذيل، ففعل فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث. فلما وقع الفأر بحرف السفينة جعل يقرضها وحبالها، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب، فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر.
وعن الحسن قال: كان طول السفينة ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع. والمعروف ما

روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن طولها ثلاثمائة ذراع. وقال قتادة رضي الله تعالى عنه: كان بابها في عرضها، وقال زيد بن أسلم: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها، ومائة عام يعمل الفلك. وقال كعب الأحبار: مكث نوح عليه السلام، في عمل السفينة ثلاثين سنة. وقيل: غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة.
وزعم أهل التوراة، أن الله تعالى أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج، وأن يضعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله ومن خارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً، وعرضه خمسين ذراعاً، وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً. والذراع إلى المنكب، وأن يجعله ثلاث أطباق: سفلى ووسطى وعليا، وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمر الله تعالى.
وأما الزباب والخلد: فتقدما.
وأما اليربوع: فسيأتي في بابه، وقد تقدم في باب العين المهملة في لفظ العقعق، عن سفيان بن عيينة، أنه قال: ليس شيء من الحيوان يخبأ قوته إلا الإنسان والنملة والفأرة والعقعق، وبه جزم في الإحياء في باب التوكل. وعن بعضهم قال: رأيت البلبل يحتكر. ويقال إن للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها. وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فقدت أمة من بني إسرائيل، ولا يدري ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر ألا تراها إذا وضع لها لبن الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها لبن الشاة شربته " . قال النووي وغيره: ومعنى هذا أن لحوم الإبل وألبانها، حرمت على بني إسرائيل دون لحوم الغنم وألبانها، فدل امتناع الفأرة من لبن الإبل، دون لبن الغنم، على أنها مسخ من بني إسرائيل.
وأما فأرة البيش: وهو بكسر الباء الموحدة، وبالياء المثناة تحت وبالشين المعجمة في آخره وهو السم، فدويبة تشبه الفأرة، وليست بفأرة ولكن هكذا يسمى، وتكون في الغياض والرياض وهي تتخللها طلباً لمنابت السموم؟ فتأكلها فلا تضرها، وكثيراً ما تطلب البيش وهو سم قاتل كما تقدم هنا. وفي باب السين المهملة في لفظ السمندلي، قاله القزويني، في الأشكال.
وأما ذات النطاق: فهي فأرة منطقة ببياض، وأعلاها أسود، شبهوها بالمرأة ذات النطاق، وهي التي تلبس قميصين ملونين وتشد وسطها، ثم ترسل الأعلى على الأسفل. قاله القزويني أيضاً.
وأما فأرة المسك: فهي غير مهموزة، لأنها من فار يفور، وهي النافجة كذا قاله الجوهري.
وفي التحرير، فارة المسك مهموزة كفأر الحيوان، ويجوز ترك الهمز كما في نظائره. وقال الجوهري وابن مكي: ليست مهموزة وهو شذوذ منهما. وقول الشاعر:
كأن بين فكها والفك ... فارة مسك ذبحت في سك
مراده شقت، والذبح أصله الشق والقطع، والسك ضرب من الطيب يركب من مسك وغيره. وقال الجاحظ: فارة المسك نوعان: النوع الأول دويبة تكون في بلاد التبت تصاد لنوافجها وسررها فإذا صيدت شدت بعصائب، وتبقى متدلية فيجتمع فيها دمها، فإذا أحكم ذلك ذبحت فإذا ماتت قورت السرة التي عصبت، ثم تدفن في الشعير حيناً حتى يستحيل ذلك الدم المختنق هناك الجامد بعد موتها، مسكاً ذكياً، بعد أن كان لا يرام نتناً. وما أكثر من يأكلها أي الفأرة عندنا! قلت: وتعجبه من كثرة آكليها يدل على استطابتها، والفقهاء لم يتعرضوا لهذا النوع. ثم قال: والنوع الثاني جرذان سود، تكون في البيوت، ليس عندها إلا تلك الرائحة اللازمة، وهذا النوع رائحته كرائحة المسك، إلا أنه لا يؤخذ منه المسك، وقد تقدم في باب الظاء المشالة في لفظ الظبي، ذكر المسك وحكمه. قلت: والمشهور أن فأرة المسك سرر الظباء كما تقدم.
وأما فأرة الإبل فقال في الصحاح: هي أن تفوح منها ريح طيبة، وذلك إذا رعت العشب وزهره، ثم شربت وصدرت عن الماء نديت جلودها، ففاحت منها رائحة طيبة فيقال لتلك الرائحة: فأرة الإبل. عن يعقوب، قال الراعي يصف إبلا:
لها فأرة زفراء كل عشية ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه
وأما الفأرة التي خربت سد مأرب: فهي الخلد، وقد تقدم ذكر قصتها، في باب الخاء المعجمة. وروى الحاكم والبيهقي عن مجاهد، في تفسير قوله تعالى: " حتى تضع الحرب أوزارها " يعني حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فيسلم كل يهودي وكل نصراني وكل صاحب ملة، وتأمن الفأرة الهر والشاة الذئب ولا تقرض فأرة جراباً، وتذهب العداوة من الأشياء كلها وذلك ظهور الإسلام على الدين كله.

الحكم: يحرم أكل جميع أنواع الفأر إلا اليربوع، كما سيأتي في بابه، إن شاء الله تعالى، ويكره أكل سؤر الفأر، وقال ابن وهب عن الليث: كان ابن شهاب يعني الزهري يكره أكل التفاح الحامض، وسؤر الفأر، ويقول: إنهما يورثان النسيان، وكان يشرب العسل، ويقول إنه يورث الذكاء. وقد جمع الشيخ علم الدين السخاوي ما يورث النسيان في أبيات فقال:
نوق خصالا خوف نسيان ما مضى ... قراءة ألواح القبور تديمها
وأكلك للتفاح ما كان حامضا ... وكزبرة خضراء فيها سمومها
كذا المشي ما بين القطار وحجمك ال ... قفاء ومنها الهم وهو عظيمها
ومن ذاك بول المرء في الماء راكدا ... كذلك نبذ القمل لست تقيمها
ولا تنظر المصلوب في حاله صلبه ... وأكلك سؤر الفأر وهو تميمها
تتمة: روى البخاري عن ابن عباس، عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: " ألقوها وما حولها وكلوه " . ورواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بمعناه. ورواه الترمذي عنه، ثم قال: وهو غير محفوظ. سمعت البخاري يقول: إنه خطأ، يعني من طريق أبي هريرة.
قلت: والصواب أنه صحيح، ورواه الطحاوي في بيان المشكل عنه، بلفظ: " إن كان جامداً فخذوها وما حولها فألقوه، وإن كان ذائباً فاستصبحوا به " . وإنما لم يدخل البخاري في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " وإن كان مائعاً فأريقوه " ، لأنه من رواية معمر عن الزهري، فاستراب بانفراد معمر بها.
والعلماء مجمعون على أن حكم السمن الجامد، تقع فيه الميتة أنها تلقى وما حولها، ويؤكل بقيته. وأما المائع، كالخل والزيت والسمن المائع واللبن والشيرج والعسل المائع، فلا خلاف أنه لا يؤكل، والمشهور جواز الاستصباح به لكن يكره، وقيل: لا يجوز، لقوله تعالى: " والرجز فاهجر " . قال أبو العالية والربيع: الرجز بالضم والكسر: النجاسة والمعصية، وكل هذا في غير المساجد. فأما المساجد فلا يستصيح به فيها جزماً. ويحل دهن السفن به، وأن يتخذ صابوناً يغسل به ولا يباع. وقال أبو حنيفة والليث: يجوز بيع الدهن النجس، إذا بين نجاسته. وقال أهل الظاهر: لا يجوز بيع السمن، ولا الانتفاع به، إذا وقعت فيه الفأرة، ويجوز بيع الزيت والخل والعسل وجميع المائعات، إذا وقعت فيها. قالوا: لأن النهي إنما ورد في السمن دون غيره. الأمثال: قالوا: ألص من فأرة وأكسب من فأرة وأسرق من ذبابة. وهي الفأرة البرية، تسرق كل ما تحتاج إليه وما تستغني عنه.
الخواص: قال في كتاب عين الخواص: رأس الفأرة يشد في خرقة كتان، ويعلق على رأس صاحب الصداع الشديد، يزول صداعه، وينفع من الصرع، وعين الفأر تشد في قلنسوة إنسان يسهل المشي عليه، وإن بخر البيت بزبل ذئب أو زبل كلب، هربت منه الذيران. وإن خلط العجين بزبل حمام وأكله الفأر، أو أي حيوان كان مات. وإن دق بصل الفأر وجعل على أبواب حجرتهن فأي فأر شم رائحته مات. وإن جعل على باب جحر الفأر ورق الدفلى مع القلقند لم تبق فيه فأرة. وإن دق عظم ساق الجمل دقاً ناعماً، وديف بماء وسكب في جحرة الذيران، فإنه يقتلهن. وإن أخفت فأرة وقطع ذنبها ودفنت وسط البيت، لم يدخل ذلك البيت فأر ما دامت فيه، وإذا بخر بكمون ولوز ونطرون عند جحرتهن متن من ساعتهن، وإن بخر البيت بحافر بغل أسود هرب منه الفأر. وإن علقت عين فأرة على من به حمى الربع أبرأته. وذنب الفأر إذا جعل في جلد حمار، وجعلا في خرقة حرير وعلق على اليد اليسرى، فمن يكون له حاجة فإنها تقضى عند الملوك وغيرهم. وبول الفأر يقلع الكتابة من الورق، وطريق أخذ بوله أن يصاد في مصيدة بحديدة، ويوضع إناء وتجعل المصيدة من ناحية الحديدة، على فم الإناء، ويرى الفأر السنور، فإنه يبول من ساعته لشدة خوفه، ويكتب للفأر على أربع صفائح قصدير، وتجعل في أوكار الفأر وهو هذا: يا ربيق يا سلويرا.

قلت: وقد أذكرني هذا ما يقلع الزيت وغيره، من الأدهان من القرطاس والجلد والريش، وغير ذلك أن يؤخذ التراب الذي يجعله النساء في رؤوسهن في الحمام الأزرق المحترق فيلق ناعماً كالكحل، ويوضع على القرطاس الذي أصابه الزيت، أو غيره ويثقل تثقيلا جيداً يوماً وليلة، ثم يرفع، فإن القرطاس يصير نقياً ليس به أثر، وهو سر عجيب مجرب. وأما سم الفأر فهو التراب الهالك عند أهل العراق، وهو السك، يؤتى به من خراسان من معادن الفضة، وهو نوعان: أبيض وأصفر، إن جعل في عجين وطرح في البيت، وأكل منه الفأر مات. وكذلك كل فأرة تجد ريح تلك الفأرة حتى يموت الجميع.
التعبير: قال المعبرون: الفأرة في الرؤيا امرأة فاسقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقتلوا الفويسقة " وقيل: الفأرة امرأة يهودية نائحة ملعونة، أو رجل يهودي فاسق، أو لص نقاب. وربما دل الفأر على الرزق، فمن رأى فأراً في بيته كثيراً، كثر رزقه لأنه لا يكون إلا في مكان فيه رزق، ومن خرج الفأر من منزله، قلت بركته ونعمته، ومن ملك فأراً ملك خادماً، لأن الفأر يأكل مما يأكل الإنسان، وكذلك الخادم يأكل مما يأكل سيده. ومن رأى فأراً يلعب في داره نال خصباً في تلك السنة، لأن اللعب لا يكون إلا من الشبع، وأما الفأر الأبيض والأسود، فإنه يدل على الليل والنهار، فمن رآه يغدو ويروح فإنه يدل على طول حياته، ومن رأى الفأر كأنه يقرض في ثيابه، فهو معلن بما يمر من أجله، ومن رأى فأراً ينقب فإنه لص نقاب فليحذره والله تعالى أعلم.
الفادر: المسن من الأوعال.
الفازر: بالزاي قبل الراء، نمل أسود فيه حمرة.
الفاشية: الماشية، وجمعها فواش، وهي التي تفشو من المال كالإبل والبقر والغنم السائمة، لأنها تفشو أي تنتشر في الأرض. ويقال: أفشى الرجل، إذا كثرت مواشيه. روى مسلم في الأشربة، وأبو داود في الجهاد، من حديث أبي خيثمة عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء " . زاد أبو داود: " فإن الشياطين تعبث إذا غابت الشمس " . وفحمة العشاء ظلمتها واسوداها، شبه سوادها بالفحم، وفسرها بعضهم بإقبال أول ظلامه. وفي الحديث: " ضموا مواشيكم إذا دخل الليل " . وسيأتي، في باب الميم، إن شاء الله تعالى ذكر هذا الكلام.
الفاعوس: كجاموس، الحية والوعل والأفعى. قاله ابن الأعرابي. وأنشد في ذلك:
قد يهلك الأرقم والفاعوس ... والأسد المدرع الهوس
قال: ولم يأت في الكلام فاعول لام الفعل منه سين، إلا الفاعوس، وهو الحية والوعل، والبابوس وهو الصبي الرضيع، والراموس وهو القبر، والقاموس وهو وسط البحر، والقابوس وهو الجميل الوجه، والعاطوس هو دابة يتشاءم بها، والفانوس وهو النمام، والجاموس وهو ضرب من البقر، والجاروس وهو الكثير الأكل.
وقال ابن دريد: والكابوس وهو الذي يقع على الإنسان في نومه، والناموس وهو صاحب سر الخير، والجاسوس وهو صاحب سر الشر. وفي الصحيحين أن ورقة بن نوفل قال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم.
قال النووي وغيره: اتفقوا على أن المراد به هنا جبريل عليه الصلاة والسلام. وسمي بذلك لأن الله تعالى خصه بالوحي وعلم الغيب، وسيأتي هذا أيضاً في باب النون، إن شاء الله تعالى، في لفظ الناموس. والله تعالى أعلم.
الفاطوس: سمكة عظيمة تكسر السفن، والملاحون يعرفونها، فيتخذون خرق الحيض ويعلقونها على السفينة، فإنها تهرب منهم. قال القزويني: ولعل هذا هو حوت الحيض، وقد تقدم ذكره في باب الحاء المهملة.
الفالج: بالجيم في آخره الجمل الضخم ذو السنامين يحمل من الهند، وهو الدهانج بفتح الدال وبالجيم في آخره، كما تقدم في باب الدال المهملة، وفي الحديث " أن فالجاً تردى في بئر " .
فالية الأفاعي: بنات وردان، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في آخر باب الواو. وقيل هي ضرب من الخنافس رقط تألف العقارب في جحرة الضب.
الأمثال: قالت العرب: آيتكم فالية الأفاعي. وجمعها الفوالي لأنها إذا خرجت، يعلم أن الضب خارج لا محالة، وإذا رؤيت في الجحر علم أن وراءها العقارب والحيات والأفاعي، يضرب لأول شر ينتظر بعده شر منه والله تعالى أعلم.
فتاح: كصياح طائر يكنى أم عجلان، تقدم في آخر باب العين المهملة.

الفتع: عود أحمر يأكل الخشب قال الشاعر:
غداة غادرتهم قتل كأنهم ... خشب تقصف في أجوافها الفتع
الواحدة فتعة قاله ابن سيده.
الفحل: الذكر من ذي الحافر والظلف والخف وغير ذلك من في الروح، وجمعه: أفحل وفحول وفحولة وفحال وفحالة. قال البخاري، في الجهاد: وقال راشد بن سعد: كان السلف يستحبون الفحولة من الخيل، لأنها أجرى وأجرأ. أي أسرع وأجسر.
وروى الحافظ أبو نعيم من طريق غيلان بن سلمة الثقفي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره، فرأينا منه عجباً جاء رجل فقال: يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيشي وعيش عيالي، ولي فيه ناضحان فحلان وقد منعاني أنفسهما، وحائطي وما فيه فلا يقدر أحد أن يدنو منهما، فنهض نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الحائط، فقال لصاحبه: " افتح " . فقال: إن أمرهما عظيم! فقال صلى الله عليه وسلم: " افتح " فلما حرك الباب أقبلا ولهما رغاء وجلبة، فلما انفرج الباب ونظرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بركا ثم سجدا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برؤوسهما، ثم دفعهما إلى صاحبهما، وقال: " استعملهما وأحسن علفهما " . فقال القوم: تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا بالسجود لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن السجود لا ينبغي إلا للحي القيوم، الذي لا يموت ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .
ورواه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ورجاله ثقات، وروى الحافظ الدمياطي، في كتاب الخيل، عن عروة البارقي أنه قال: كانت لي أفراس، وفيها فحل شراؤه عشرون ألف درهم، ففقأ عينه دهقان، فأتيت عمر رضي الله تعالى عنه، فأخبرته، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه؟ أن خير الدهقان بين أن يعطيه عشرين ألفاً ويأخذ الفحل وبين أن يغرم ربع الثمن. فقال الدهقان: ما أصنع بالفحل؟ وغرم ربع الثمن. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، في باب الحاء المهملة، في لفظ الحيوان. وفي الصحيحين وغيرهما: " يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل " . وفي السنن: " يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل " .
وروى الشافعي رحمه الله تعالى في مسنده بإسناد على شرط مسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن لبن الفحل لا يحرم، ومعناه أن حرمة الرضاع لا تثبت بين المرتضع وبين زوج المرضعة الذي اللبن منه، وإنما تنتشر الحرمة إلى أقارب المرضعه لا غير. وروي هذا عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وبه قال داود الأصم، وهو اختيار عبد الرحمن ابن بنت الشافعي.

والذي ذهب إليه الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الأمة، أن حرمة الرضاع تثبت بين المرتضع وبين المرضعة، وبين زوجها الذي منه اللبن فتكون المرضعة أمال وزوجها أباً له كما إذا ولدته من مائة، وكانا أبوين له، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها المتفق على صحته في قصة فلح بن أبي القعيس، وحديثها أيضاً المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " . وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين: أحدهما أن يكون قبل استكمال المولود حولين، لقوله تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحرم من الرضاع إلا ما يفتق الأمعاء " . وفي رواية " لا رضاع إلا ما أنشر العظر وأنبت اللحم " . وإنما يكون هذا في حال الصغر. وعند أبي حنيفة مدة الرضاع ثلاثون شهراً لقول تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " . والشرط الثاني أن يكون خمس رضعات متفرقات، كل رضعة إلى الشبع. روي ذلك عن عائشة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وبه قال مالك والشافعي وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم، وهو قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. وروي عن سعيد بن المسيب، وإليه ذهب الثوري ومالك في إحدى الروايات، والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة، فإن كان للرجل خمس بنات أو زوجات، أمهات أولاد، فأرضعت كل واحدة رضعة واحداً جنيناً واحداً، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يقع التحريم، والثاني يصير ابناً له ولا يصير ابناً للمرضعات، والثالث يصير ابنا له وللمرضعات، فإذ وصل اللبن إلى جوفه بحقنة، ففيه قولان: وإن اختلط اللبن بمائع ووصل إلى جوفه ثبتت الحرمة، وإن كان مغلوباً على أصح القولين. وللمسألة فروع مبسوطة في كتب الفقه.
قلت: وقد أذكرني اللبن حديثاً رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا أخاف على أمتي إلا اللبن فإن الشيطان بين الرغوة والضرع " . وروى أيضاً من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سيهلك من أمتي أهل اللبن " . قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: " أناس يحبون اللبن فيخرجون من الجماعات ويتركون الجمعات. قال الحربي: أظنه أراد يتباعدون عن الأمصار وعن صلاة الجماعة، ويطلبون مواضع اللبن، في المراعي والبراري والبوادي. وقال غيره: أراد قوماً أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
وفي صحيح البخاري، من حليث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن عسب الفحل " . والأشهر في تفسيره أنه ضراب الفحل كما قال الشاعر:
ولولا عسبه لرددتموه ... وشر منيحة فحل يعار
وقيل: المراد ثمن مائه، ففي رواية الشافعي وأحمد وأبي داود، في بعض نسخه، نهى عن ثمن عسب الفحل، وقيل: العسب أجرة ضرابه، فيحرم ثمن مائه. وكذا أجرته في الأصح. الأمثال: قال العسكري: ومن الأمثال المستحسنة قولهم: أذلك الفحل لا يقدع أنفه " . وقد تمثل به ورقة بن نوفل في النبي صلى الله عليه وسلم حين خطب خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها. ويقال: بل تمثل به أبو سفيان بن حرب حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم ابنته حبيبة رضي الله تعالى عنها. قال: وأصحاب الحديث يرونه " الفحل لا يقرع أنفه " بالراء، انتهى. قال الشماخ:
إذ ما استافهن ضربن منه ... مكان الرمح من أنف القدوع
قوله: استافهن يعني حماراً يستاف أنثى، فيرمحنه إذا استافهن، والسوف الشم. وقوله: مكان الرمح من القدوع أراد بالقدوع المقدوع، وهذا من الأضداد. يقال: طريق ركوب إذا كانت تركب، ورجل ركوب للدواب إذا كان يركبها، وناقة رغوث إذا كانت ترضع، وحوار رغوث إذا كان يرضع، وشاة حلوب إذا كانت تحلب، ورجل حلوب إذا كان يحلب الشاة، والقدوع هنا البعير قدع أنفه، وهو أن يريد الناقة الكريمة، ولا يكون كريماً فيضرب أنفه بالرمح حتى يرجع. يقال: قدع أنفه عن كذا، أي منع عنه، وأنشد الشيخ شرف الدين الدمياطي في أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب لعبد الله بن يزيد الهلالي:
ما أنجبت نجيبة من فحل ... بجبل نعلمه أو سهل
كسته من بطن أم الفضل ... زوجة المصطفى في الفضل

خاتم الأنبياء وخير الرسل ... أكرم بها من كهلة وكهل
وقالوا: الفحل يحمي شوله معقولا، والشول تقدم في باب الشين المعجمة أنها النوق، التي جف لبنها وارتفع ضرعها، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، الواحدة شائلة، والشول: جمع على غير قياس. ومعقولا نصب على الحال، أي أن الحر يحتمل الأمر الجليل في حفظ أهله وحريمه، وإن كان به علة، وقد تمثل بذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص أخي سعد بن أبي وقاص، حين فقئت عينه باليرموك، وهو الذي افتتح جلولا من بلاد فارس، وهزم الفرس. وكانت جلولا تسمى فتح الفتوح، وبلغت غنائمها ثمانية عشر ألف ألف، وشهد صفين مع علي رضي الله عنه، وكانت معه الراية وهو على الرجالة وقتل يومئذ وهو يقول:
أعوز يبغي أهله محلا ... قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
فقطعت رجله يومئذ، وهو يقاتل من دنا منه وهو بارك، ويقول: الفحل يحمي شوله معقولا. وفيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه:
يا هاشم الخير جزيت الجنه ... قاتلت في الله عدو السنه
ومن أحكام الفحل، أن من غصب فحلا وأنزاه على شاته، فالولد للغاصب، ولا شيء عليه للإنزاع، لكن إذا نقص الفحل بذلك، غرم أرش نقصه. وإن غصب شاة وأنزى عليها فحلا فالولد لصاحب الشاة.
تذنيب: قال يونس: جميع الألبان معتدلة، وقال الرازي: الحلو حار، وأجوده ما كان من ضأن فتى، وهو ينفع الصدر والرئة، ويضر أصحاب الحميات، وهو يولد غذاء جيداً، ويوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة والصبيان وأجود أكله في الربيع. وأما اللبن الحامض، فبارد رطب، وأجوده الكثير الزبد، وهو ينفع لتسكين العطش، ويضر بالأسنان واللثة، ويدفع ضرره التمضمض بماء العسل، ويولد خلطاً محموداً، يوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة والغلمان، وأجود استعماله في الصيف ويختار اللبن بعد الولادة بأربعين يوماً، ويختلف بحسب صفته، فالمطبوخ مع الحنطة والأرز، يوافق أصحاب الأمزجة الحارة، وما نزع زبده ومائيته، ويقال له الودع ينفع الأمزجة الحارة، وإذا ألقى في اللبن الحصا المحمى حتى تذهب مائيته نفع من الذرب، والذي أخرج غلظه بالأنفحة، إذا خلط بالسكنجبين السكري نفع من الحكة والجرب، ولبن الاتن ينفع من السل والدق، ولبن اللقاح نافع من الاستسقاء إذا خلط مع أبوالها، وما خثر من اللبن فهو بارد يمسك الطبع، ويولد خلطاً غليظاً وسدداً، وحجارة في الكلى انتهى.
تتمة: اللبن في المنام فطرة الإسلام، وهو مال حلال يناله بلا تعب لقوله تعالى: " لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " وأما الرائب فهو مال حرام لحموضته، وخروج دسومته، ولبن الغنم مال شريف، ولبن البقر غنى، ولبن الخيل ثناء حسن، ولبن الثعلب شفاء من مرض، ولبن البغل عسر وهول، ولبن النمر عدو يظهر، ولبن الأسد مال من سلطان، ولبن حمار الوحش شك في الدين، ولبن الخنزير مصيبة في العقل والمال لمن شربه في المنام، وقيل: إصابة مال عظيم، لكن يخشى على عقل شاربه، ولبن ابن آدم زيادة في المال، إذ هو زاد في الثدي، ولا يحمد لمن رضعه فإنه يدل على داء مكروه. قال محمد بن سيرين: لا أحب الراضع ولا المرضع، فإن شربه المريض، شفي من مرضه، لأن به كان نشؤه وقوته ومن بدد اللبن فقد ضيع دينه، ومن رأى اللبن يخرج من الأرض، فإنها فتنة يراق فيها الدم على قدر ذلك اللبن، ولبن الكلاب والذئاب والسنانير خوف أو مرض. وقيل: إن لبن الذئب مال من سلطان، ورياسة على قوم. ولبن الهوام، من شربه فإنه يصالح أعداءه، والله تعالى أعلم.
الفدس: بالضم العنكبوت، والجمع فدسة كفردة.

الفرأ: الحمار الوحشي، والجمع الفراء، مثل جبل وجبال، وفي المثل " كل الصيد في جوف الفرا " . قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث. وقيل: لأبي سفيان بن حرب، كذا قاله أبو عمر بن عبد البر، وقال السهيلي: الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قاله لابن حرب يتألف به، وذلك أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فحجب قليلا ثم أذن له، فلما دخل قال: ما كدت تأذن لحجارة الجلهمتين، وهما جانبا الوادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا سفيان أنت كما قيل: " كل الصيد في جوف الفرا " ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يتألفه عن الإسلام، يعني إذا حجبتك منع كل محجوب، وقال صلى الله عليه وسلم كلامه على فتح مكة، الأصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لأبي سفيان بن الحارث، وكان رضيع النبي صلى الله عليه وسلم أرضعتهما حليمة، وكان آلف الناس له قبل النبوة لا يفارقه، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كان أبعد الناس وأهجاهم له، إلى أن أسلم، فكان أصح الناس إيماناً، وألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا المثل أن جماعة ذهبوا إلى الصيد، فصاد أحدهم ظبياً، والآخر أرنباً، والآخر حمار وحش، فاستبشر صاحب الأرنب وصاحب الظبي بما نالا، وتطاولا على الثالث فقال الثالث: " كل الصيد في جوف الفرا " ، أي الذي رزقت وظفرت به مشتمل على ما عندكما، وذلك أنه ليس فيما يصيده الناس أعظم من حمار الوحش. ثم اشتهر ذلك المثل واستعمل في كل حاو لغيره وجامع له قال الشاعر:
يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هي إلا واحد غير ممتري
إذا صح كاف الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد في جوف الفرا
الفراش: دواب مثل البعوض، واحدتها فراشة، وهي التي تطير وتتهافت في السراج لضعف أبصارها، فهي بسبب ذلك تطلب ضوء النهار، فإذا رأت فتيلة السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم، وأن السراج كوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فلا تزال تطلب الضوء ولرمي بنفسها إلى النار، فإذا جاوزتها ورأت الظلام ظنت أنها لم تصب الكوة، ولم تقصدها على السداد، فتعود إليها مرة بعد مرة، حتى تحترق.
قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: ولعلك تظن أن هذا لنقصان فهمها وجهلها، ثم قال: فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الإنسان في الاكباب على الشهوات، والتهافت فيها، أعظم جهالة منها، لأنه لا يزال يرمي بنفسه فيها إلى أن ينغمس فيها ويهلك هلاكاً مؤبداً. فليت جهل الآدمي كان كجهل الفراش، فإنها باغترارها بظاهر الضوء، إن احترقت، تخلصت في الحال، والآدمي يبقى في النار أبد الأباد، أو مدة مديدة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم " . انتهى. ولقد أجاد مهلهل بن يموت في قوله:
جلت محاسنه عن كل تشبيه ... وجل عن واصف في الحسن يحكيه
انظر إلى حسنه واستغن عن صفتي ... سبحان خالقه سبحان باريه
النرجس الغض والورد الجني له ... والأقحوان النضير الغض في فيه
دعا بألحاظه قلبي إلي عطبي ... فجاءه مسرعاً طوعاً يلبيه
مثل الفراشة تأتي إذا ترى لهبا ... إلى السراج فتلقي نفسها فيه
وقال عون الدين العجمي:
لهيب الخد حين بدا لطرفي ... هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي

فائدة: قال الله تعالى: " يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي، من كل جانب كما يتطاير الفراش. روى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو ينبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتفلتون من يدي " وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سمرة المنتهى، وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به ومن فوقها، فيقبض منها، قال تبارك وتعالى: " إذ يغشى السمرة ما يغشى " قال: فراش من ذهب. وروى البيهقي، في الشعب عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما لي أراكم تتهافتون في الكذب، تهافت الفراش في النار، كل الكذب مكتوب إلا الكذب في الحرب، والكذب في إصلاح ذات البين، وكنب الرجل على امرأته ليرضيها " .
الحكم: تحريم الأكل.
الأمثال: قالوا: أطيش من فراشة وأضعف وأذل وأجهل وأخف وأخطأ من فراشة، لأنها تلقي نفسها في النار، كما قالوا: أخطأ وأجهل من ذباب، لأنه يلقي نفسه في الطعام الحار وفيما يهلكه، قال الشاعر:
سفاهة سنور وحلم فراشة ... وأنك من كلب المهارش أجهل
التعبير: الفراش في المنام عدو ضعيف مهين عظيم الكلام، وقال ارطاميدروس: الفراش للفلاحين يدل على البطالة والله أعلم.
الفرافصة: بالضم اسم للأسد، وبالفتح اسم لرجل وقيل: كل فرافصة في العرب، فهو بالضم إلا فرافصة أبا نائلة صهر عثمان رضي الله تعالى عنه، فإنه بالفتح، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، في أبواب الصلاة عن يحيى بن سعيد عن ربيعة بن عبد الرحمن عن القاسم بن محمد أن الفرافصة بن عمير الحنفي قال: ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في الصبح من كثرة ما كان يرددها.
الفرخ: ولد الطائر، هذا الأصل وقد استعمل في كل صغير من الحيوان والنبات، والأنثى فرخة وجمع القلة أفرخ وأفراخ، والكثرة فراخ. روى أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً ثم أتاهم فقال: " لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ادعوا إلى بني أخي " . فجيء بنا كأننا أفرخ، فقال صلى الله عليه وسلم: " ادعوا إلي الحلاق " ، فأمره فحلق رؤوسنا.
وروى البزار، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان في بعض مغازيه فبينما هم يسهون، إذ أخذوا فرخ طير فأقبل أحد أبويه، حتى سقط على أيدي الذين أخذوا الفرخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا تعجبون لهذا الطير أخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم " ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: " والله لله أرحم بعباده من هذا الطير بفرخه " .
وفي سنن أبي داود، في أوائل كتاب الجنائز، من حديث عامر الرام أخي الخضر بضم الخاء وإسكان الضادين المعجمتين، وهو فرد في الأسماء، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد لف عليه طرف كسائه، فقال: يا رسول الله إني لما رأيتك أقبلت، فمررت بغيضة شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن، فلففتها معهن، وها هن فيه معي. فقال صلى الله عليه وسلم: " ضعهن عنك " . فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أتعجبون لرحمة أم الفراخ فراخها " . قالوا: نعم يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: " فوالذي بعثني بالحق نبياً لله أرحم بعباده من أم هؤلاء الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن " . فرجع بهن وأمهن ترفرف عليهن.

وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله مائه رحمة قسم منها رحمة في دار الدنيا فبها يعطف الرجل على ولده، والطير على فراخه، فإذا كان يوم القيامة صيرها مائة رحمة فعاد بها على الخلق " . قال أبو أيوب السجستاني: إن رحمة الله قسمها في دار الدنيا وأصابني منها الإسلام، وإني لأرجو من تسع وتسعين رحمة، ما هو أكثر من ذلك.
وروى مسلم أيضاً والنسائي والترمذي، عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت، وفي رواية الترمذي: قد جهد فصار مثل الفرخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه " ؟ قال: نعم. كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " . قال: فدعا الله به فشفاه.
ومعنى قوله: مثل الفرخ أنه ضعف ونحل جسمه، وخفي كلامه. وتشبيهه له بالفرخ يدل على أنه تناثر أكثر شعره، ويحتمل أن يكون شبهه به لضعفه، والأول أوقع في التشبيه. ومعلوم أن مثل هذا المرض لا يبقى معه شعر ولا قوة. وفي هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وفيه جواز التعجب بقول: سبحان الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنك لا تطيقه " ، يعني أن عذاب الآخرة لا يطيقه أحد في الدنيا لأن نشأة الدنيا ضعيفة لا تحتمل العذاب الشديد، والألم العظيم، بل إذا عظم على الإنسان هلك ومات. وأما نشأة الآخرة، فهي للبقاء إما في النعيم أو العذاب، إذ لا موت، كما قال الله تعالى: في حق الكفار " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب " نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أحسن ما يقال لأنها من الدعوات الجوامع التي تتضمن خير الدنيا والأخرة، وذلك أن النكرة في سياق الطلب عامة، فكأنه يقول: اعطني كل حالة حسنة في الدنيا والآخرة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في الآية اختلافاً يدل على عدم التوفيق، وعلى قلة التأمل لوضع الكلمة، فقيل: الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة والمغفرة، وقيل: العافية، وقيل: المال وحسن المآل، وقيل: المرأة الصالحة والحور العين.
والصحيح الحمل على العموم، قال النووي: وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة أنها في الدنيا العبادة والعافية وفي الآخرة الجنة والمغفرة. وقيل: الحسنة نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
وفي تاريخ ابن النجار وعوالي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة وعالمها ومسندها، وهو من كبار شيوخ البخاري، من حديث الحسن بن أبي الحسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن قبلكم رجل يأتي وكر طائر، كلما أفرخ أخذ فراخه فشكا ذلك الطائر إلى الله تعالى ما يفعل به، فأوحى الله تعالى إليه إن عاد فسأهلكه، فلما أفرخ ذلك الطير، خرج ذلك الرجل كما كان يخرج، فبينما هو في بعض الطريق سأله سائل فأعطاه رغيفاً كان معه يتغذاه، ثم مضى حتى أتى الوكر ووضع سلمه ثم صعد فأخذ الفرخين وأبواهما ينظران إليه، فقالا: ربنا إنك لا تخلف الميعاد، وقد وعدتنا أنك تهلك هذا إذا عاد، وقد عاد وأخذ فرخينا ولم تهلكه، فأوحى الله إليهما، ألم تعلما أني لا أهلك أحداً تصدق بصدقة في يومه بموتة سوء وقد تصدق " .
فائدة: كانت رؤية فرخ الطائر سبباً لتمني حنة امرأة عمران الولد، وذلك أنها كانت عاقر لم

تلد إلى أن عجزت، فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يزق فرخاً فتحركت نفسها للولد وتمنته " فقالت: رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " ، أي السميع لدعائي العليم بضميري، فنذرت أن تتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدمته، وكان ذلك في شريعتهم جائزاً فحملت بمريم، وهلك عمران وهي حامل " فلما وضعتها، قالت: رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً " ووصفها بأنها أحصنت فرجها. قال الزمخشري: إحصاناً كلياً عن الحلال والحرام جميعاً. كما قال تعالى: " ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً " وقال السهيلي: أحصنت فرجها، يريد فرج القميص، أي لم يتعلق بثوبها ريبة، فهي طاهرة الأثواب، وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل فلا يذهبن فكرك إلى غير هذا، وهذا من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى وأوجز لفظاً، وألطف إشارة، وأحسن عبارة، من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من روح القدس، بأمر القدوس، فأضف القدس إلى القدوس، ونزه المقدسة عن الظن الكاذب والحدس وبالله التوفيق.
فرع: ومن أحكام الفرخ أنه إذا غصب إنسان بيضاً فحضنه دجاجه، كانت الفراخ لصاحب البيض لأنها من عين المغصوب، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يضمن البيض ولا يرد الفراخ، واستدل على ذلك بأنه خلق سوى البيض، قال تعالى في سورة المؤمنون: " ثم أنشأناه خلقاً آخر " .
وفي كتاب التحفة المكية للقاضي نصر العمادي، عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى أنه قال: بلغني أنه كان رجل من بني إسرائيل ذبح عجلا بين يدي أمه فأيبس الله يده، فبينما هو ذات يوم جالس وإذا بفرخ طائر سقط من وكره فجعل ينظر ويبصبص إلى أبويه، وأبواه ينظران ويبصبصان إليه، فأخذه ذلك الرجل ورده إلى وكره رحمة له فرحمه الله لرحمته لذلك الفرخ، ورد عليه يده بما صنع والله تعالى أعلم.
التعبير: الفراخ المشوية في المنام مال ورزق بتعب لمسه النار، فمن رأى أنه أكل لحم فرخ نيئاً فإنه يغتاب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف الناس، ومن أكل لحم فراخ السباع من الطير كالشاهين والصقر والعقاب ونحوها، فإنه يغتاب أولاد الملوك أو ينكحهم، ومن اشترى فرخاً مشوياً فإنه يستأجر أجيراً والله تعالى أعلم.
الفرس: واحد الخيل، والجمع أفراس الذكر والأنثى في ذلك سواء، وأصله التأنيث، وحكى ابن جني والفراء فرسة. وقال الجوهري: هو اسم يقع على الذكر والأنثى، ولا يقال للأنثى فرسة، وتصغير الفرس فريس، وإن أردت الأنثى خاصة لم تقل إلا فريسه بالهاء، ولفظها مشتق من الافتراس، لأنها تفترس الأرض بسرعة مشيها. وراكب الفرس فارس، وهو مثل لابن وتامر أي صاحب لبن وصاحب تمر، وفارس أي صاحب فرس، ويجمع على فوارس، وهو شاذ لا يقاس عليه. روى أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمي الأنثى من الخيل فرساً، قال ابن السكيت: يقال لراكب في الحافر من فرس أو بغل أو حمار فارس. قال الشاعر:
وإني امرؤ للخيل عندي مزية ... على فارس البرذون أو فارس البغل
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: لا أقول لصاحب البغل فارس، ولكن أقول بغال، ولا أقول لصاحب الحمار فارس، ولكن أقول خمار. وكنية الفرس: أبو شجاع، وأبو طالب، وأبو محرك، وأبو مضي، وأبو المضمار، وأبو المنجي. والفرس أشبه الحيوان بالإنسان، لما يوجد فيه من الكرم وشرف النفس، وعلو الهمة. وتزعم العرب أنه كان وحشياً، وأول من ذلله وركبه إسماعيل عليه السلام. ومن الخيل ما لا يبول ولا يروث، ما دام راكبه عليه. ومنها ما يعرف صاحبه، ولا يمكن غيره من الركوب عليه. وكان لسليمان عليه السلام خيل ذوات أجنحة.

والخيل نوعان: هجين وعتيق، والفرق بينهما أن عظم البرذون أعظم من عظم الفرس، وعظم الفرس أصلب وأثقل من عظم البرذون، والبرذون أحمل من الفرس، والفرس أسرع من البرذون، والعتيق بمنزلة الغزال والبرذون بمنزلة الشاة، فالعتيق من الخيل ما أبواه عربيان، سمي بذلك لعتقه من العيوب، وسلامته من الطعن فيه بالأمور المنقصة، والعتيق الكريم من كل شيء، والخيار من كل شيء التمر والماء والبازي والشحم. وسميت الكعبة البيت العتيق لسلامتها من عيب الرق، لأنها لم يملكها ملك من الملوك الجبابرة قط. وسمي أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عتيقاً لجماله، ويقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " أنت عتيق الرحمن من النار " . ولم يزل بعين الرضا من الله. ويقال لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما عاش سمته عتيقاً لأنه عتق من الموت.
فائدة: قال الزمخشري، في تفسير سورة الأنفال: وفي الحديث " أن الشيطان لا يقرب صاحب فرس عتيق، ولا دار فيها فرس عتيق " . وروى الحافظ شرف الدين الدمياطي، في كتاب الخيل، حديثاً عزاه إلى ابن منده في كتاب الصحابة وإلى ابن سعد في الطبقات، وإلى ابن قانع في معجم الصحابة، من حديث عبد الله بن عريب المليكي، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان لا يخبل أحداً في دار فيها فرس عتيق " انتهى. وكذلك رواه الحارث بن أبي أسامة، عن المليكي، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الطبراني في معجمه، وابن عدي في كامله، في ترجمة سعيد بن سنان، ثم ضعفه.
وروى القاضي أبو القاسم علي بن محمد النخعي، في كتاب الخيل، وهو كتاب لطيف نسخته موقوفة بالفاضلية، قال: حدثنا الحسن بن علي بن عفان، قال: حدثنا الحسن بن عطية، عن طلحة بن زيد عن الوضين بن عطاء عن سليمان بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في هذه الآية " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " قال: هم الجن لا يدخلون داراً فيها فرس عتيق. وقال مجاهد، في تفسير هذه الآية: هم بنو قريظة. وقال السدي: هم أهل فارس. وقال الحسن: هم المنافقون. وقيل: هم كفار الجن، كما تقدم. قال ابن عبد البر، في التمهيد: الفرس العتيق هو الفاره عندنا. وقال صاحب العين: هو السابق.
وفي المستدرك، من حديث معاوية بن حديج، بالحاء المهملة المضمومة، والدال المهملة المفتوحة، وبالجيم في آخره، وهو الذي أحرق محمد بن أبي بكر بمصر رضي الله تعالى عنهما، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من فرس عربي إلا يؤذن له كل يوم بدعوتين: يقول اللهم كما خولتني من خولتني فاجعلني من أحب ماله إليه " . ثم قال: صحيح الإسناد.
ولهذا الحديث قصة، ذكرها النسائي، في كتاب الخيل من سننه، فقال: قال أبو عبيدة: قال معاوية بن حديج: لما افتتحت مصر، كان لكل قوم مراغة يمرغون فيها دوابهم، فمر معاوية بأبي ذر رضي الله تعالى عنهما، وهو يمرغ فرساً له، فسلم عليه ثم قال: يا أبا ذر ما هذا الفرس؟ فقال: هذا فرس لا أراه إلا مستجاب الدعاء، قال: وهل تدعو الخيل وتجاب؟ قال: نعم، ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه، فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده. فمنها المستجاب، ومنها غير المستجاب، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً. وروى الحاكم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً، قال: إذا أردت أن تغزو، فاشتر فرساً أدهم محجلا طلق اليمين، فإنك تغنم وتسلم. ثم قال: صحيح على شرط مسلم. والهجين الذي أبوه عربي وأمه عجمية، والمقرف، وهو بضم الميم وإسكان القاف، وبالراء المهملة والفاء في آخره عكسه. وكذلك في بني آدم، وأنشد أبو عبيد القاسم بن سلام لهند ابنة النعمان بن بشير:
وهل هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تحللها بغل
فإن نتجت مهراً كريماً فبالحري ... وإن يك أقراف فمن قبل الفحل
قال البطليوسي في شرحه: هكذا رويناه: فمن قبل الفحل. والرواية الأخرى:
وإن يك أقراف فما أنجب الفحل
وقال: قد روي هذا الشعر لحميدة بنت النعمان بن بشير، وأنها قالته في الفيض بن عقيل الثقفي. فمن رواه لحميدة روى:
وما أنا إلا مهرة عربية

وكانت حميدة في أول أمرها تحت الحارث بن خالد المخزومي فتركته وقالت فيه:
فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه
ترى زوجة الشيخ مغمومة ... وتمسي لصحبته قاليه
فطلقها الحارث وتزوجها روح بن زنباع فتركته وقلته وهجته فقالت فيه:
بكى الخز من روح وأنكر جلده ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف
وقال العباء نحن كنا ثيابهم ... وأكسية مطروحة وقطائف
فطلقها روح، وقال: ساق الله إليك فتى يسكر ويقيء في حجرك، فتزوجها الفيض بن عقيل الثقفي، فكان يسكر ويقيء في حجرها. فكانت تقول: أجيبت في دعوة بن زنباع، وكانت تهجوه وتقول:
سميت فيضاً وما شيء تفيض به ... إلا بسلحك بين الباب والدار
فتلك دعوة روح الخير أعرفها ... سقى الإله ثراه الأوطف الساري
قال البطليوسي: قد أنكر كثير من الناس رواية بغل بالباء، لأن البغل لا ينتج. قالوا: والصواب نغل بالنون، وهو الخسيس من الدواب.
وفي سنن البيهقي، في كتاب البيوع، وأن عبد الرحمن بن عوف اشترى من عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، فرساً بأربعين ألفاً. والفرس الذي اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعرابي وشهد له به خزيمة اسمه المرتجز، واسم الأعرابي سواد بن الحارث المحاربي وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه منه، فاستتبعه ليقبض ثمنه منه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فساومه رجال لا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه منه، فنادى الأعرابي إن كنت مبتاعاً هذا الفرس، وإلا بعته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أو ليس قد ابتعته منك " ؟ فقال الأعرابي: لا والله. وطفق الأعرابي يقول: هلم بشهيد! فقال خزيمة: أنا أشهد، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: " بم تشهد " قال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " شهادة خزيمة بشهادة رجلين " . أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم.
وفي رواية في الحديث " هل حضرتنا يا خزيمة " ؟ قال: لا. قال: " فكيف تشهد بذلك " ؟ فقال خزيمة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أصدقك على أخبار السماء، وما يكون في غد ولا أصدقك في ابتياعك هذا الفرس! فقال عليه الصلاة والسلام: " إنك لذو الشاهدتين يا خزيمة " . وفي رواية صحيحة عند الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه " . وقال السهيلي: وفي مسند الحارث زيادة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد الفرس على ذلك الأعرابي، وقال: " لا بارك الله لك فيها " . فأصبحت من الغد شائلة برجليها، أي ماتت.
ومن أغرب ما اتفق لخزيمة رضي الله تعالى عنه، ما رواه الإمام أحمد من عدة طرق، برجال ثقات أنه رأى في النوم أنه سجد على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فاضطجع له النبي صلى الله عليه وسلم فسجد خزيمة على جبهته.
وفي مسند الإمام أحمد، عن روح بن زنباع أنه روى عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نقى لفرسه شعيراً ثم جاء حتى يعلفه كتب الله له بكل شعيرة حسنة " . ورواه ابن ماجه بمعناه.
وفي كتب الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل يحب الرجل القوي المبدي المعيد على الفرس " . أي المبدي المعيد الذي أبدى في غزوه وأعاد، فغزا مرة بعد مرة، أي جرب الأمور طوراً بعد طور. والفرس المبدي المعيد الذي غزا عليه صاحبه مرة بعد أخرى، وقيل: هو الذي قد ريض وأدب وصار طوع راكبه. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب فرساً معروراً لأبي طلحة، وقال: " إن وجدناه لبحراً " . وفي الفائق، إن أهل المدينة فزعوا مرة فركب صلى الله عليه وسلم فرساً مقرفاً وركض في آثارهم، فلما رجع قال: " إن وجدناه لبحراً " . قال حماد بن سلمة: كان هذا الفرس بطيئاً. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، صار سابقاً لا يلحق.

وروى النسائي والطبراني من حديث عبد الله بن أبي الجعد أخي سالم بن أبي الجعد، عن جعيل الأشجعي رضي الله تعالى عنه، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، وأنا على فرس عجفاء، فكنت في آخر الناس، فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " سر يا صاحب الفرس " ، فقلت: يا رسول الله إنها فرس عجفاء ضعيفة، قال: فرفع صلى الله عليه وسلم مخفقة كانت معه فضربها بها، وقال: " اللهم بارك فيها " . فلقد رأيتني ما أملك رأسها حتى صرت قدام القوم، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفاً.
وروي عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها. قال ابن محيريز: كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات.
وروى البخاري عن سعيد المقبري، أنه قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من احتبس فرساً في سبيل الله تعالى إيماناً بالله عز وجل واحتساباً وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة " . يعني حسنات.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر " ، فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله تعالى، فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفاً أو شرفين كانت أبوالها وأرواثها له حسنات، ولو أنها مرت بهر فشربت منه ولم يرد أن تسقى منه كان ذلك له حسنات، فهي لذلك أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله تعالى في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر.
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: " ما أنزل الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقد تقدم قريب من ذلك. وروى ابن حبان، في صحيحه عن أبي عامر الهوزني، عن ابن كبشة الأنماري، واسمه عمرو بن سعد، أنه أتاه فقال: أطرقني فرسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أطرق فرساً فعقب له كان له كأجر سبعين فرساً حمل عليها في سبيل الله تعالى، وإن لم يعقب كان كأجر فرس حمل عليها في سبيل الله " .
وفي طبع الفرس الزهو والخيلاء والسرور، بنفسه والمحبة لصاحبه، ومن أخلاقه الدالة على شرف نفسه وكرمه أنه لا يأكل بقية علف غيره، ومن علو همته أن أشقر مروان كان سائسه، لا يدخل عليه إلا بإذن وهو أن يحرك له المخلاة، فإن حمحم دخل، وإن دخل ولم يحمحم شد عليه، والأنثى من الخيل ذات شبق شديد، ولذلك تطيع الفحل من غير نوعها وجنسها. قال الجاحظ: والحيض يعرض للإناث منهن لكنه قليل، والذكر ينزو إلى تمام أربعين سنة، وربما عمر إلى تسعين. والفرس يرى المنامات كبني آدم، وفي طبعه أنه لا يشرب الماء إلا كدراً، فإذا رآه صافياً كدره. ويوصف بحدة البصر، وإذا وطئ على أثر الذئب خدرت قوائمه حتى لا يكاد يتحرك، ويخرج الدخان من جلده. قال الجوهري: ويقال إن الفرس لا طحال له، وهو مثل لسرعته وحركته. كما يقال: البعير لا مرارة له أي لا جسارة له.
وأفاد الإمام أبو الفرج بن الجوزي أن من واظب على البداءة في لبس النعل باليمين، والخلع باليسار أمن من وجع الطحال. وأفاد غيره أن سورة الممتحنة، إذا كتبت وغسلت أو سقي المطحول ماءها فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. ومما جرب أيضاً فوجد نافعاً أن تكتب هذه الحروف على قطعة فرو، وتعلق على الجانب الأيسر وتترك بطول الجمعة وهذه صورة ما يكتب: ا د ا ح ح هم مامل ملما محد الى راى 18973 صالح صح وصح م له صالح دون مانع من الى ان تنصره ومره ومما جرب للطحال أيضاً أن يكتب ويعلق على العضد الأيسر وهو هذا: 259481923 ح ح د د صوع ومما جرب أيضاً، أن يكتب في ورقة ويحرق في ملعقة على الطحال: وعلم بضميرهم.
ومما جرب أيضاً أن يكتب في يوم السبت، قبل طلوع الشمس، ويربط بخيط صوف، ويعلق على الجانب الأيمن مثل تعليق السيف وهو هذا كما ترى: ح ح ه د م ص ها ا ص ا ح ا ا ح ماتت الى الابد

وروينا في كتاب المجالسة للدينوري المالكي، في آخر الجزء العاشر عن إسماعيل بن يونس.
قال: سمعت الرياشي يقول عن أبي عبيدة وأبي زيد، أنهما قالا: الفرس لا طحال له، والبعير لا مرارة له، والظليم لا مخ له. قال أبو زيد: وكذلك طير الماء، وحيتان البحر لا ألسنة لها، ولا أدمغة. والسمك لا رئة له، ولذلك لا يتنفس وكل في رئة يتنفس. وروى الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث مالك عن الزهري، عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن يكن الخير في شيء ففي ثلاث: المرأة والدار والفرس " . وفي رواية " الشؤم في ثلاث: المرأة والدار والفرس " وفي رواية " الشؤم في أربع: المرأة والدار والفرس والخادم " .
قلت: وقد اختلفت العلماء في معنى الحديث، فقيل: معناه على اعتقاد الناس في ذلك لا أنه خبر من النبي صلى الله عليه وسلم عن إثبات الشؤم. وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها ففي مسند أبي داود الطيالسي، عنها أنه قيل لها: إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس " . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس " . فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله انتهى.
قال البطليوسي: وهذا غير منكر أن يعرض لأنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر في مجالسة الأخيار حكاية ويتكلم بما لا يريد به أمراً ولا نهياً، ولا أن يجعله أصلا في دينه، وذلك معلوم من فعله، مشهور من قوله. وهذا نظير ما اتفق في قوله صلى الله عليه وسلم " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " . وفي الصحيحين لكن قالت عائشة رضي الله تعالى عنها إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية، وهم يبكون عليها فقال عليه الصلاة والسلام " إنهم يبكون وإنها لتعذب ببكاء أهلها عليها " . وقال مالك وطائفة: قوله صلى الله عليه وسلم " الشؤم في ثلاث " الحديث. على ظاهره، فإن الدار قد يجعل الله سكناها سبباً للضرر والهلاك، وكذلك المرأة والفرس والخادم، يجعل الله الهلاك أو الضرر عند وجودهم بقضاء الله وقدره.
وقال ابن القاسم: سئل مالك عن هذا، فقال: كم من دار سكنها قوم فهلكوا، ثم سكنها آخرون فهلكوا. يعني أنه عام على ظاهره. وقال الخطابي: وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة، أي أن الطيرة منهي عنها، إلا أن يكون له دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم يكره إقامتهما، فليفارق الجميع بالبيع ونحوه، وطلاق المرأة. وقال آخرون: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها. وقيل: حرانها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوى خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه، وقيل: المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة.

واعترض بعض الملحدة بحديث " لا طيرة " على هذا، وأجاب ابن قتيبة وغيره بأن هذا مخصوص من حديث لا طيرة، أي لا طيرة إلا في هذه الثلاثة. قال الحافظ الدمياطي: ومن أغرب ما وقع لي في تأويله، ما رويناه بالإسناد الصحيح عن يوسف بن موسى القطان، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عن سالم، عن أبيه رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البركة في ثلاث: في الفرس والمرأة والدر " . قال يوسف: سألت سفيان بن عيينة عن معنى هذا الحديث، فقال سفيان: سألت عنه الزهري، فقال الزهري: سألت عنه سالماً، فقال سالم: سألت عنه أبي عبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر: سألت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إذا كان الفرس ضروباً فهو مشؤوم، وإذا كانت المرأة قد عرفت زوجاً غير زوجها فحنت إلى الزوج الأول فهي مشؤومة، وإذا كانت الدار بعيدة عن المسجد فلا يسمع فيها الأذان والإقامة فهي مشؤومة، وإذا كن بغير هذه الصفات فهن مباركات " . وفي الموطأ أن رجلا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سكنوا داراً وعددهم كثير، ومالهم وافر فقل العدد وذهب المال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعوها ذميمة " . وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالخروج منها، لاعتقادهم ذلك فيها، وظنهم أن الذهاب للعدد والنفاد للمال، إنما كان منها، وليس كما ظنوا ولكن الباري سبحانه وتعالى جعل ذلك وقتاً لظهور قضائه وقدره، فيجهل الخلق ذلك، فينسبونه إلى الجماد الذي لا ينفع ولا يضر، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: " لا عدوى ولا طيرة ولا يورد ممرض على مصح " . لأن الله تعالى يخلق الجرب في الصحيح فيعتقد المصح أن ذلك من الجرب فيتأذى قلبه ودينه. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، وهذه الدار كانت دار الأسود بن عوف أخي عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وهو السائل.
وفي سنن أبي داود، من حديث فروة بن مسيك رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله، أرض عندنا يقال لها أرض أبين، هي أرض ريفنا وميرتنا، وإنها وبيئة، أو قال: وباؤها شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعها عنك فإن من القرف التلف " . قال ابن الأثير: القرف ملابسة الداء ومداناة المرض، والتلف الهلاك وليس هذا من باب العدوى، وإنما هو من باب الطب، فإن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان، وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام.
فائدة: قال السهيلي في الكلام على غزوة في قرد: في الفرس عشرون عضواً، كل عضو منها يسمى باسم طائر، فمنها النسر والنعامة والهامة والباز والسمامة والسعدانة، وهي الحمامة، والقطاة والذباب والعصفور والغراب والصرد والخرب، وهو ذكر الحبارى، والناهض، وهو فرخ العقاب، والخطاف، ذكرها وبقيتها الأصمعي. وروى فيها شعراً لجرير.
تتمة: روى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن أبي الطفيل، أن رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ عليه الصلاة والسلام ببشرة جبهته و " دعا له بالبركة " ، فنبتت شعرة جبهته كهيئة غرة الفرس، وشب الغلام، فلما كان زمن الخوارج أحبهم، فسقطت الشعرة من جبهته، فأخذه أبوه فقيده وحبسه، مخافة أن يلحق بهم. قال: فدخلنا عليه فوعظناه، وقلنا له: ألم تر إلى بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وقعت من جبهتك؟ فما زلنا به حتى رجع عن رأيهم، فرد الله عز وجل الشعرة بعد في جبهته، وتاب ولم تزل إلى أن مات.
وروى الطبراني عن عائذ بن عمرو رضي الله تعالى عنه، قال: أصابتني رمية وأنا أقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر في وجهي فلما سالت الدماء على وجهي ولحيتي وصدري، سلت رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء عني، ثم دعا لي فكان ذلك الموضع الذي أصابته يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري له غرة سائلة كغرة الفرس.
وذكر ابن ظفر، في أعلام النبوة، أن حبراً يهودياً، أوطن مكة فأتى ذات غدوة إلى مجلس فيه

ملأ من بني عبد مناف وبني مخزوم، فقال: هل ولد الليلة فيكم مولود؟ فقالوا: ما نعلمه. فقال: أما إذا أخطأكم، فاحفظوا ما أقول لكم: ولد الليلة نبي هذه الأمة الآخرة، وآيته أن بين كتفيه شامة صفراء، حولها شعرات متتابعات، كأنهن عرف فرس، يمتنع من الرضاع ليلتين. فتصدع القوم من مجلسهم يتعجبون لقوله، فلما صاروا إلى منازلهم، أخبرهم نساؤهم أنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام، فلما التقوا في ناديهم، تحدثوا بذلك، وجاءهم اليهودي فأخبروه، فقال: اذهبوا بي إليه حتى أراه، فخرجوا به فدخلوا على آمنة، وقالوا: أخرجي إلينا ابنك، فأخرجته لهم، فكشفوا عن ظهره فرأوا خاتم النبوة، فأغمي على اليهودي، فلما أفاق سألوه، فقال: خرجت النبوة من بني إسرائيل. ثم قال: لا تفرحوا به فوالله ليسطون عليكم سطوة، يخرج خبرها إلى المشرق والمغرب.
وذكر الكلبي، في تفسير قوله تعالى: " وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم " الآية، أن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة، بعدما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام يصلون إلى القبلة، ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، وكان قتل جملة من أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال يوماً لليهود: إن كان الحق مع عيسى فكفرنا به فالنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، ولكن سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار، وكان له فرس يقال له العقاب، يقاتل عليه، فعرقب فرسه وأظهر الندامة، ووضع على رأسه التراب، فقالت له النصارى: من أنت؟ فقال: بولس عدوكم، وقد نوديت من السماء أن ليس لك توبة إلا أن تتنصر، وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة، فدخل بيتاً فيها، فأقام سنة لا يخرج منه لا ليلا ولا نهاراً، حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج، فقادت نوديت أن الله تعالى قد قبل توبتك، فصدقوه وأحبوه.
ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور، وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت، وقال لهم: لم يكن عيسى بإنس ولا بجن ولكنه ابن الله، وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب، ثم دعا رجلا يقال له يعقوب، ثم دعا رجلا يقال له ملكان، وقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً، وقال لكل واحد منهم: أنت خالصتي وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني. وقال لكل واحد منهم: إني غداً أذبح نفسي فادع الناس إلى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه، وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى. فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة من الناس، فافترقت النصاري ثلاث فرق: نسطورية ويعقوبية وملكية، فاختلفوا واقتتلوا، فقال الله تعالى: " وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم " الآية. قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولا مقروناً بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زوراً.
وذكر الإمام ابن بليان والغزالي وغيرهما، أن الرشيد لما ولي الخلافة زاره العلماء بأسرهم، إلا سفيان الثوري فإنه لم يأته، وكان بينه وبينه صحبة، فشق عليه ذلك، فكتب إليه الرشيد كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون أمير المؤمنين، إلى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري، أما بعد يا أخي، فقد علمت أن الله آخى بين المؤمنين، وقد آخيتك في الله مؤاخاة لم أصرم فيها حبلك، ولم أقطع منها ودك، وإني منطو لك على أفضل المحبة، وأتم الإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله تعالى، لإتيتك ولو حبواً لما أجد لك في قلبي من المحبة، وأنه لم يبق أحد من إخواني وإخوانك، إلا زارني وهنأني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت الأموال، وأعطيتهم المواهب السنية ما فرحت به نفسي، وقرت به عيني، وقد استبطأتك، وقد كتبت كتاباً مني إليك، أعلمك بالشوق الشديد إليك، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي هذا فالعجل العجل. ثم أعطى الكتاب لعباد الطالقاني، وأمره بإيصاله إليه وأن يحصي عليه بسمعه وقلبه، دقيق أمره وجليله، ليخبره به.

قال عباد: فانطلقت إلى الكوفة، فوجدت سفيان في مسجده، فلما رآني على بعد، قام وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال: فنزلت عن فرسي بباب المسجد، فقام يصلي ولم يكن وقت صلاة، فدخلت وسلمت فما رفع أحد من جلسائه رأسه إلي، قال: فبقيت واقفاً وما منهم أحد يعرض علي الجلوس، وقد علتني من هيبتهم الرعدة، فرميت بالكتاب إليه، فلما رأى الكتاب، ارتعد وتباعد منه، كأنه حية عرضت له في محرابه، فركع وسجد وسلم، وأدخل يده في كمه، وأخذه وقلبه بيده، ورماه إلى من كان خلفه، وقال: ليقرأ بعضكم فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم بيده. قال عباد: فمد بعضهم يده إليه، وهو يرتعد كأنه حية تنهشه، ثم قرأه فجعل سفيان يبتسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته، قال: اقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة، فلو كتبت إليه في بياض نقي لكان أحسن، فقال: اكتبوا للظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا! فقيل له: ما نكتب إليه؟ قال: اكتبوا له: بسم اله الرحمن الرحيم، من العبد الميت سفيان، إلى العبد المغرور بالآمال هارون، الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذة قراءة القرآن، أما بعد، فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وإنك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك، بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته بغير حكمه ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك، فأما أنا قد شهدت عليك، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة غداً بين يدي الله الحكم العدل، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن، وأهل العلم يعني العاملين، أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل، أم رضي بذلك خلق من رعيتك. فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً، واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل، فاتق الله في نفسك، إذ سلبت حلاوة العلم والزهد، ولذة قراءة القرآن، ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً، وللظالمين إماماً، يا هارون قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت ستوراً دون بابك، وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون، ويشربون الخمر ويحدون الشارب، ويزنون ويحدون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق، ويقتلون ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم، قبل أن يحكموا بها على الناس! فكيف بك يا هارون غداً إذا نادى المنادي من قبل الله: أحشروا الظلمة وأعوانهم!؟ فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك، لا يفكهما إلا عدلك وانصافك، والظالمون حولك وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار، وكأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيآت غيرك في ميزانك، على سيآتك بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيتك، واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته، واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا، تفعل بأهلها واحداً بعد واحد، فمنهم من تزود زاداً نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإياك ثم إياك، أن تكتب إلي بعد هذا فإني لا أجيبك، والسلام.

وألقى الكتاب منشوراً من غير طي ولا ختم، فأخذته وأقبلت به إلى سوق الكوفة، وقد وقعت الموعظة بقلبي فناديت يا أهل الكوفة من يشتري رجلا هرب إلى الله؟ فأقبلوا إلي بالدراهم والدنانير، فقلت: لا حاجة لي بالمال ولكن جبة صوف وعباءة قطوانية، فأتيت بذلك فنزعت ما كان علي من الثياب، التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين، وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي، إلى أن أتيت باب الرشيد حافياً راجلا، فهزأ بي من كان على الباب، ثم استؤذن لي، فلما رآني على تلك الحالة قام وقعد وجعل يلطم رأسه ووجهه، ويدعو بالويل والحرب، ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل! ما لي وللدنيا والملك يزول عني سريعاً! فألقيت الكتاب إليه مثل ما دفع إلي فأقبل يقرؤه ودموعه تتحدر على وجهه، وهو يشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين قد اجترأ عليك سفيان، فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن، فجعلته عبرة لغيره، فقال هارون: اتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه، والشقي والله حقاً من جالستموه، إن سفيان أمة وحده. ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه دبر كل صلاة ويبكي حتى توفي رحمه الله تعالى.
وذكر ابن السمعاني وغيره أن المنصور كان يبلغه عن سفيان الإنكار عليه في عدم إقامة الحق، فتطلبه المنصور فهرب إلى مكة، فلما حج المنصور بعث بالخشابين أمامه، وقال: حيثما وجدتم سفيان فاصلبوه، فوصل الخشابون ونصبوا الخشب فأتى الخبر بذلك وسفيان نائم، ورأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر سفيان بن عيينه، فقالا له خوفاً عليه وشفقة: لا تشمت بنا الأعداء، فقام ومشى إلى الكعبة والتزم أستارها عند الملتزم، ثم قال: ورب هذه البنية لا يدخلها يعني المنصور، فزلقت راحلته في الحجون، فوقع من على ظهرها، فمات لوقته. فخرج سفيان وصلى عليه. وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر شيء من مناقبه ووفاته في باب الحاء المهملة، في لفظ الحمار.
الحكم: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ما لزم اسم الخيل من العراب والمقاريف والبراذين، فأكلها حلال، وهو قول القاضي شريح والحسن وابن الزبير وعطاء وسعيد بن جبير وحماد بن زيد والليث بن سعد وابن سيرين والأسود بن يزيد وسفيان الثوري وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وجماعة من السلف. وقال سعيد بن جبير: ما أكلت أطيب من معرقة برذون، ودليل هذا ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: " نهى رسول الله في يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأرخص في لحوم الخيل " وذهب أبو حنيفة ومالك والأوزاعي إلى أنها مكروهة، إلا أن كراهتها عند مالك كراهة تنزيه لا كراهة تحريم. واستدلوا بما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير " ، لقوله تعالى: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، وقال صاحب الهداية من الحنفية: فإن قلت الآية خرجت مخرج الامتنان، والأكل من أعلى منافعها، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها.
قلت: الجواب أن الآية خرجت مخرج الغالب لأن الغالب في الخيل إنما هو الزينة، والركوب دون الأكل، كما خرج قوله صلى الله عليه وسلم: " وليستنج بثلاثة أحجار " ، مخرج الغالب لأن الغالب أن الاستنجاء لا يقع إلا بالأحجار انتهى.
وقال الشافعي ومن وافقه: ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، وأما الحديث الذي استدل به أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما، فقال الإمام أحمد: ليس له إسناد جيد وفيه رجلان لا يعرفان ولا ندع الأحاديث الصحيحة لهذا الحديث.
وقد روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل " . وفي لفظ " أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية " . رواه الترمذي وصححه. وفي لفظ " سافرنا، يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكنا نأكل لحوم الخيل، ونشرب ألبانها " .
وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أنها قالت: نحرنا

فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناها. وفي رواية: ونحن بالمدينة. وفي مسند الإمام أحمد: نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناها نحن وأهل بيته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن الفرس إذا التقت الفئتان تقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ولذلك كان له من الغنيمة سهمان.
وكذلك رواه عبد الله بن عمر بن حفص بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يعطى إلا لفرس واحد عربياً كان أو غير عربي، لأن الله سبحانه وتعالى قال: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل " ولم يفرق بين عربي وغيره، ولم يرد في شيء من الأحاديث تفرقة، بل الجمع مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " الأجر والغنيمة. وقال الإمام أحمد: لما سوى العربي سهم وللعربي سهمان لأثر ورد في ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه لكنه لم يصح عنه. ولا يعطى لفرس أعجف وما لا غناء به، لأنه كل على صاحبه.
ويتعهد الإمام الخيل إذا دخل دار الحرب، ولا يدخل إلا فرساً شديدا، ويسهم للفرس المستعار والمستأجر، ويكون ذلك للمستعير والمستأجر. والأصح أنه يسهم للفرس المغصوب لحصول النفع به، والأصح أنه للراكب، وقيل للمالك ولو كان القتال في ماء أو حصن وأحضر فرس أسهم له، لأنه قد يحتاج إليه ولو أحضر اثنان فرساً مشتركاً بينهما فقيل: لا يعطيان سهم الفرس، لأنه لم يحضروا واحد منهما بفرس تام.
وقيل يعطى كل واحد منهما سهم فرس لأن معه فرساً قد يركبها، وقيل يعطيان سهم فرس مناصفة ولعل هذا هو الأصح. ولو ركب اثنان فرساً، وشهدا الوقعة، فعن بعض الأصحاب أنهما كفارسين لهما ستة أسهم، وعن بعضهم أنهما كراجلين لتعذر الكر والفر، وقيل لهما أربعة أسهم: سهمان لهما، وسهمان للفرس. واختار ابن كج وجهاً رابعاً حسناً، وهو أنه إن كان فيه قوة الكر والفر مع ركوبهما فأربعة أسهم، وإلا فسهمان.
فائدة أجنبية: قال في شرعة الإسلام: إن مقدم العسكر ينبغي له أن يتشبه بأصناف من الخلق فيكون في قلب الأسد، لا يجبن ولا يفر وفي كبر النمر لا يتواضع للعدو، وفي شجاعة الدب يقاتل بجميع جوارحه، وفي الحملة كالخنزير لا يولى دبره إذا حمل، وفي الغارة كالذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح الثقيل كالنملة تحمل أضعاف وزن بدنها، وفي الثبات كالحجر لا يزول عن مكانه، وفي الصبر كالحمار، إذ أثقله ضرب السيوف، وطعن الرماح، ونصول السهام، وفي الوفاء كالكلب إذا دخل سيده النار تبعه، وفي التماس الفرصة كالديك، وفي الحراسة كالكركي، وفي التعب كاليعر، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والكد والشقاء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الياء.
فرع: حمار نزا على فرس فأحبلها يكون لبن الفرس حلالا طاهراً ولا حكم للفحل في اللبن في هذا الموضع بخلاف الأناسي لأن لبن الفرس حادث من العلف، فهو تابع للحمها ولم يسر وطء الفحل إلى هذا اللبن، فإنه لا حرمة هناك تنتشر من جهة الفحل، إلا إلى الولد خاصة، فإنه يكون منه ومن الأم فغلب عليه التحريم. وأما اللبن فلم يتكون بوطئه وإنما تكون من العلف لم يكن حراماً.

فائدة: كان للنبي صلى الله عليه وسلم أفراس: السكب: اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشرة أواق بالمدينة، وكان أدهم وكان اسمه عند الأعرابي الضرس فسماه النبي صلى الله عليه وسلم السكب، وهو من سكب الماء، كأنه سيل، والسكب أيضاً شقائق النعمان وهو أول فرس غزا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبحة هو الذي سابق عليه صلى الله عليه وسلم فسبق ففرح بذلك. والمرتجز الذي تقدم ذكره، سمي بذلك لحسن صهيله. ولزاز، قال السهيلي: ومعناه أنه لا يسابق شيئاً إلا لزه أي أثبته. والظرب، واللحيف، قال السهيلي: كأنه يلحف الأرض بجريه، ويقال فيه اللخيف بالخاء المعجمة ذكره البخاري في جامعه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والورد أهداه له تميم الداري فأعطاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه في سبيل الله تعالى وهو الذي وجده يباع برخص هذه السمعة متفقه عليها. وقيل: كان له صلى الله عليه وسلم غيرها، وهي الأبلق وذو العقال والمرتجل وذو اللمة والسرحان واليعسوب والبحر وكان كميتاً، والأدهم وملاوح والطرف بكسر الطاء المهملة والسحا والمراوح والمقدام ومندوب والضرير ذكره السهيلي في أفراسه صلى الله عليه وسلم. فهذه خمسة عشر فرساً مختلف فيها، وقد بسط الكلام عليها الحافظ الدمياطي وغيره.
الأمثال: قال صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كفرسي رهان، كادت تسبق إحدهما الأخرى بأذنها " . وقالوا: هما كفرسي رهان يضرب للاثنين يستويان في الشيء، وهذا التشبيه يقع في الابتداء لا في الانتهاء، لأن النهاية تجلى عن سبق أحدهما لا محالة. وقالوا: أبصر من فرس وأطوع وأشد. وقالوا: فلان كالأشقر إن تقدم نخر وإن تأخر عقر. لأن العرب تتشاءم من الأفراس بالأشقر.
تتمة: ذكر في الإحياء، في الباب الثالث من كتاب أحكام الكسب، روي عن بعض الغزاة في سبيل الله، قال: حملت على فرسي لأقتل علجاً فقصر بي فرسي فرجعت، ثم دنا مني العلج فحملت ثانية فقصر بي فرسي، ثم حملت الثالثة فقصر بي فرسي، وكنت لا أعتاد منه ذلك فرجعت حزيناً، وجلست منكس الرأس منكسر القلب، لما فاتني من العلج، وما ظهر لي من خلق الفرس، فوضعت رأسي على عمود الفسطاط، وفرسي قائم فرأيت في المنام كأن الفرس يخاطبني، ويقول لي: بالله عليك أردت أن تأخذ العلج على ثلاث مرات، وأنت بالأمس اشتريت لي علفاً، ودفعت في ثمنه درهماً زائفاً لا يكون هذا أبداً. فانتبهت فزعاً وذهبت إلى العلاف وأبدلت له ذلك الدرهم.
تتمة أخرى: روى ابن بشكوال، في كتاب المستغيثين بالله عز وجل، عن عبد الله بن المبارك المجمع على دينه وعلمه وورعه، أنه قال: خرجت إلى الجهاد ومعي فرس فبينما أنا في بعض الطريق إذ صرع الفرس، فمر بي رجل حسن الوجه طيب الرائحة، فقال: أتحب أن تركب فرسك. قلت: نعم. فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره، وقال: أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله وبعظمة عظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان سلطان الله وبلا إله إلا الله وبما جرى به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا انصرفت. قال: فانتفض الفرس وقام، فأخذ الرجل بركابي وقال: اركب فركبت ولحقت بأصحابي، فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا، فقلت: ألست صاحبي بالأمس؟ قال: بلى. فقلت: سألتك بالله من أنت؟ فوثب قائماً فاهتزت الأرض تحته خضراء، فإذا هو الخضر عليه السلام. قال ابن المبارك رضي الله تعالى عنه: فما قلت هذه الكلمات على عليل إلا شفي بإذن الله تعالى.
الخواص: إذا علقت سن الفرس العربي على صبي سهل طلوع أسنانه بلا ألم، وإن وضعت سنه تحت رأس من يغط في النوم انقطع غطيطه، ولحمه يطرد الرياح، وعرقه يطلى به عانة الصبي وإبطه فلا ينبت فيهما شعر، وهو سم قاتل للسباع والثعابين جميعاً، وإذا أخذت شعرة من

ذنب الفرس، وجعلت على باب بيت ممدودة، لم يدخل ذلك البيت بق ما دامت الشعرة كذلك، وإن شربت امرأة دم برذون لم تحبل أبداً. ورماد حافر الفرس إذا خلط بزيت، وجعل على الخنازير أبرأها، وإذا سقيت امرأة لبن فرس، وهي لا تعلم أنه لبن فرس، وجامعها زوجها من ساعتها، حملت منه بإذن الله تعالى، وإن شربته بالعسل صارت مجامعتها لذيذة، وإذا سحق بصل الفأر ومسح به أسنان الفرس الحرون لان وذهبت صعوبته، وزبل الفرس إذا جفف وسحق وذر على الجراحات قطع دمها، وإن كحل به البياض العارض في العين أزاله وإن دخن به أخرج الولد من البطن.
فصل في صبغ البراذين: قال صاحب عين الخواص: إذا سخن الماء تسخيناً شديداً بحيث يذهب الشعر، وصب على البرذون فإنه يحلق شعره ذلك، وينبت له شعر مخالف لما ذهب عنه من اللون. قال: ومما يصير الأشهب أدهم أن يؤخذ مردارسنج وعفص وزنجار ونورة وزاج الأساكفة وطين خوري بالسوية، يدق الجميع ويعجن بماء حار ويصبغ به الفرس البرذون ويترك يوماً وليلة، ثم يغسل من الغد، فيصير أدهم. وإن طلي بعض جسده بذلك وترك بعضه كان أبلق، ومما يصير به الأدهم أبرش الحرض إذا طبخ مع ورق الدفلى، وصفي ماؤه ثم طبخ أيضاً مع القلى ومخ جوز سائل ثم يغسل به البراذين فتصير شهباء. ومما يصير الأشهب أدهم أيضاً، أن يؤخذ قشور الجوز الرطب وتطبخ مع الآس، ووسخ الحديد ثم يغسل به البرذون غسلا نقياً ويطلى بذلك فيصير أدهم، ويبقى سواده ستة أشهر والله أعلم.
التعبير: الفرس في الرؤيا تعبر بالحامل بولد ذكر فارس، وتعبر برجل وتجارة وشريك وامرأة، فمن رأى فرساً مات في يده فذلك موت من ينسب إليه الفرس من الولد أو المرأة أو الشريك، والفرس الأبلق في الرؤيا أمير مشهور، وقد تقدم ذكره في باب الخاء المعجمة، في لفظ الخيل، والفرس الأسود والأدهم يدلان على المال، والأصفر والمريض يدلان على المرض لمن ركب أحدهما أو كليهما، والأشقر يدل على دين وحزن، وقيل فتنة.
وقال ابن سيرين رحمه الله: لا أحب الأشقر لشبهه بالدم، والأشهب يعبر برجل صاحب قلم، كذا عبره ابن سيرين وقال: ألا تراه سواداً في بياض؟ والكميت يدل على القوة واللهو وربما دل على الحرب والضرب، ومن ركب فرساً وأجراه حتى عرق فإنه يركب أمراً فيه هوى نفس، وتلف مال لمكان العرق، والعرق أيضاً تعب، وأما الركض فإنه ارتكاب هوى لقوله تعالى: " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " ومن نزل عن فرسه، ولم يكن له نية في الرجوع، فإنه يعزل إن كان والياً.
والفرس الجموح رجل مجنون، والحرون متهاون بطيء بطر. ومن رأى شعر ذنب فرسه كثيراً زاد ماله وأولاده، وإن كان سلطاناً كثر جيشه، ومن قطع ذنب فرسه فإنه لا يخلف ولداً، وإن كان له أولاد فإنهم يموتون وإن كان سلطاناً ذهب جيشه، وكذلك إذا كان منتوفاً تفرق الجيش الذي يتبع صاحب الفرس، ومن ركب فرساً وكان ممن يليق به ركوب الخيل، نال عزاً وجاهاً ومالا، لقوله عليه الصلاة والسلام: " الخيل معقود في نواصيها الخير " . وربما صادف رجلا جواداً، وربما سافر لأن السفر مشتق من الفرس، فإذا كان حصاناً تحصن من عدوه، وإن كان مهراً رزق ولداً جميلا، وإن كان اكديشاً ربما عاش زماناً، وإن كان برذوناً توسط حاله وعاش لا يستغني ولا يفتقر، وإن كان الفرس حجراً تزوج إن كان أعزب امرأة ذات جمال ومال ونسل، والأصيل شريف بالنسبة إلى غير الأصيل، وربما علت الفرس على الدار الحسنة البناء. وقال ابن المقري: من رأى أنه ركب فرساً أشهب، نال عزاً ونصراً على العدا، لأنه من خيل الملائكة. والأدهم هم، والأغر المحجل علم وورع ودين، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنكم ستردون على يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء " . ومن ركب كميتاً ربما شرب خمراً لأنه من أسمائها ومن ركب فرساً لغيره، نال منزلته أو عمل بسنته خصوصاً إن كان مركوباً معروفاً يليق به انتهى.
ومن رأى أنه يقود فرساً، فإنه يطلب خدمة رجل شريف، ولا خير في ركوب الفرس في غير

محل الركوب كالسطح والحائط والحبس، وربما دل الفرس الخصي على خادم واعتبر بكل مركوب ما يليق فالسرج للفرس، والكور للجمل وكذلك المحمل والهودج والمحفة للبغال والبراح للحمير، فمن ركب حيواناً بما لا يليق به من العدة، تكلف أو كلف غيره ما لا يطيق، والدابة بلا لجام ولا مقود امرأة زانية، لأنها كيفما أرادت مشت. وكذلك الفرس العائز، ومن رأى أنه يأكل لحم فرس نال ثناء حسناً واسماً صالحاً، وقيل إنه مرض لصفرته، ومن نازعه فرسه خرج عليه عبده وإن كان تاجراً خرج عليه شريكه، ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا أتى ابن سيرين رحمة الله تعالى عليه، فقال: رأيت كأني راكب على فرس قوائمه من حديد، فقال له ابن سيرين رحمه الله: توقع الموت والله تعالى أعلم.
فرس البحر: حيوان يوجد في نيل مصر، له ناصية كناصية الفرس، ورجلاه مشقوقتان كالبقر، وهو أفطس الوجه، له ذنب قصير، يشبه ذنب الخنزير، وصورته تشبه صورة الفرس، إلا أن وجهه أوسع وجلده غليظ جداً وهو يصعد إلى البر، فيرعى الزرع وربما قتل الإنسان وغيره. وحكمه: حل الأكل لأنه كالخيل المتوحشة التي تعدو في غالب أحيانها.
الخواص: إذا أحرق جلده وخلط بدقيق كرسنة، وطلي به داء السرطان أبرأه في ثلاثة أيام. ومرارته إذا تركت في الماء ثلاثين يوماً ثم سحق واكتحل بها أربعة عشر يوماً، أو أربعة وعشرين يوماً بعسل لم تصبه النار، أذهبت الماء الأسود من العين. وسنة نافعة لوجع البطن، إذا علقت على من أشرف على الموت، من وجع المعدة من التخمة والامتلاء، يبرأ بإذن الله تعالى. وجلده إذا دفن في وسط قرية لم يقع فيها شيء من الآفات، وإذا أحرق وجعل على الورم أذهبه وسكن وجعه.
التعبير: الفرس البحري في الرؤيا يدل على كذب وأمر لا يتم.
فصل: والبحر في الرؤيا يعبر بملك وحبس لمن وقع فيه، ولم يمكنه الخروج منه وبرجل عالم وكريم، فيقال بحر علم وبحر كرم، ويعبر بالمنيا، فمن رأى كأنه قاعد على متن المجر أو مضطجع عليه فإنه يداخل ملكاً ويكون منه على خطر، لأن الماء لا يؤمن من الغرق فيه، ومن رأى أنه شرب من ماء البحر، نال مالا من الملك فإن شربه كله ناد مال الملك كله ومن رأى البحر من بعيد ولم يخالطه فإن ذلك أمر يفوته، ومن رأى أنه يشرب من مائه وله شريك، فإنه يفارقه لقوله تعالى: " وإذ فرقنا بكم البحر " ، ومن رأى كأنه يمشي في البحر، وفي طريق يابس، فإنه يأمن من الخوف لقوله تعالى: " فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى " . ومن رأى أنه غاص في البحر، ليخرج شيئاً من الدر، فإنه يدخل في غامض العلم، ومن قطع البحر سبحاً إلى الجانب الآخر، فإنه ينجو من هول وغم، ومن سبح في البحر في زمن الشتاء، ناله هم من قبل ملك أو أصابه مرض أو يحبس أو يناله وجع من الرياح، وإذا دخل البحر إلى درب الناس، وبل القماش أو أكل وحشه طعام الناس، فإن الملك يظلم أهل تلك الناحية. وربما دل على طول الشقاء في تلك السنة، لا سيما إذا كان مضطرباً كثير الموج فإنه يدل على مضار كثيرة. والبحيرة في الرؤيا تدل على القضاة والولاة والموالي الذين يفعلون الأشياء بالأمر، والبحيرة الصغيرة تدل على امرأة غنية، والبحر إذا كان هادئاً دل على البطالة، والبحيرة للمسافر تدل على تعذر السفر.
تتمة: وأما النهر في الرؤيا فإنه يدل على رجل جليل، فمن دخل في نهر فإنه يخالط رجلا من الأكابر، ولا يحمد الشرب من النهر، وقيل: إنه يدل على سفر لمن دخله لأن ماءه منتقل مسافر، ومن رأى أنه وثب من النهر إلى الجانب الآخر، فإنه ينجو من هم وينصر على عدوه، والدخول في النهر دخول في عمل السلطان، وإذا جرى الماء في الأسواق، والناس يتوضؤون منه وينتفعون به، فذلك عدل من سلطان، فإن جرى فوق الأسطحة وبل قماش الناس في دورهم، فذلك جور من السلطان أو عدو يطغى على الناس، ومن رأى نهراً خرج من داره ولم يضر أحداً، فإنه معروف منه يصل إلى الناس، ومن رأى أنه صار نهراً فإنه يموت بنزف الدم.

فصل: وأما رؤية عين الماء، فإنها كرامة ونعمة وبلوغ أمنية إذا كان الرائي مستوراً، ومن رأى كأن عيناً نبعت من داره، دل على مشتري جارية، فإن خرجت من الدار إلى ظاهرها فإنه مال قد ذهب، والماء الراكد في الدار هم باق فإن كان صافياً فهم مع صحة جسم، ولا يكره من العيون إلا ما ركد ماؤه ولم يجر، ومن شرب من ماء عين أصابه هم، فإن كان بارداً فلا بأس به والله تعالى أعلم.
الفرش: صغار الإبل، وقيل: هو من الإبل والبقر والغنم ما لا يصلح إلا للذبح ومنه قوله تعالى: " حمولة وفرشاً " قدم الحمولة على الفرش، لأنها أعظم في الانتفاع إذ ينتفع بها في الأكل والحمل. قال الفراء: ولم أسمع للفرش بجمع. قال: ويحتمل أن يكون مصدراً سمي به من قولهم فرشها الله تعالى، فرشاً أي بثها بثاً.
الفرانق: بضم الفاء الببر البريد وهو الذي ينذر بالأسد، وقد تقدم في باب الباء الموحدة.
الفرفر: كهدهد طير من طيور الماء صغير الجثة على قدر الحمام.
الفرفور: كعصفور طائر، قاله الجوهري ولعله الذي قبله.
الفرع: بفتح الفاء والراء المهملة وبالعين المهملة في آخره أول نتاج البهيمة. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا فرع ولا عتيرة " . وذلك أنهم كانوا يذبحونه ولا يأكلونه رجاء البركة في الأم وكثرة نسلها. والعتيرة بفتح العين المهملة ذبيحة كانوا يذبحونها في اليوم الأول من شهر رجب ويسمونها الرجبية.
الحكم: في كراهتهما وجهان الصحيح الذي نص عليه الشافعي واقتضته الأحاديث، أنهما لا يكرهان بل يستحبان. وروى أبو داود بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن معاقرة الأعراب " . وهي مفاخرتهم فإنهم كانوا يتفاخرون بأن يعقر كل واحد منهم عمداً من إبله فأيهم كان عقره أكثر كان غالباً، فكره النبي صلى الله عليه وسلم لحمها لئلا يكون مما أهل به لغير الله تعالى.
وروى أبو داود أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن طعام المتبارين " .
فائدة: حكى الإمام العلامة أبو الفرج الأصبهاني وغيره، أن الفرزدق الشاعر المشهور، واسمه همام بن غالب كما تقدم، كان أبوه غالب رئيس قومه، وأن أهل الكوفة أصابتهم مجاعة فعقر غالب أبو الفرزدق المذكور لأهله ناقة وصنع منها طعاماً، وأهدى إلى قوم من بني تميم جفاناً من ثريد، ووجه جفنة منها إلى سحيم بن وثيل الرياحي رئيس قومه وهو القائل:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وقد تمثل بذلك الحجاج في خطبته يوم قدم الكوفة أميراً، فكفأها سحيم وضرب الذي أتى بها وقال: أنا مفتقر إلى طعام غالب إذ نحر هو ناقة نحرت أنا أخرى، فوقعت المعاقرة بينهما فعقر سحيم لأهله ناقة، فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين، فعقر سحيم لأهله ناقتين، فلما كان اليوم الثالث عقر غالب لأهله ثلاثاً، فعقر سحيم لأهله ثلاثاً، فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة فلم يكن عند سحيم هذا القدر فلم يعقر شيئاً، وأسرها في نفسه. فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة، قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر: هلا نحرت مثل ما نحر غالب، وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين، فاعتذر بأن إبله كانت غائبة. ثم عقر ثلاثمائة ناقة! وقال للناس: شأنكم والأكل وكان ذلك في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه، فاستفتي في حل الأكل منها فقضى بحرمتها. وقال: هذه ذبحت لغير مأكلة ولم يكن المقصود منها إلا المفاخرة والمباهاة فألقيت لحومها على كناسة الكوفة. فأكلها الكلاب والعقبان والرخم.
الفرعل: كقنفذ ولد الضبع والجمع الفراعل. روى البيهقي عند عبد الله بن زيد قال: سألت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه، عن ولد الضبع، فقال: ذاك الفرعل فيه نعجة من الغنم قال أبو عبيد: الفرعل عند العرب ولد الضبع والذي يراد من هذا الحديث قوله نعجة من الغنم يعني أنها حلال بمنزلة الغنم. قال الكميت:
وتسمع أصوات الفراعل حوله ... يعاوين أولاد الذئاب الهقالسا
يعني حول الماء الذي وردوه.

الأمثال: قالوا: أغزل من فرعل وهو من الغزل والمراودة. وقال الميداني: هو من الغزل بمعنى الخرق، يقال: غزل الكلب إذا تبع الغزال، فإذا أدركه ثغا الغزال في وجهه ففتر ودهش. ولعل الفرعل يفعل ذلك إذا تبع صيده. فقالوا: أغزل من فرعل انتهى.
وقال ابن هشام: إن عكرمة بن أبي جهل، ألقى رمحه يوم الخندق وانهزم، فقال فيه حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
وفر وألقى لنا رمحه ... لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظلي ... م ما أن يجوز عن المعدل
ولم تبق ظهرك مستأنساً ... كان قفاك قفا فرعل
الفرقذ: ولد البقرة وأبو فرقد كنية الثور الوحشي.
الفرنب: بكسر الفاء قال ابن سيده: هو الفأر وقيل ولد الفأر من اليربوع.
الفرهود: كجلمود. ولد السبع وقيل: ولد الوعل ويقال أيضاً للغلام الغليظ وصرفوه. فقالوا تفرهد إذا سمن.
الفروج: الفتي من الدجاج والضم فيها لغة حكاها اللحياني والجمع الفراريج. أنشد الجوهري عن الأصمعي:
أقبلن من بئر ومن سواج ... والقوم قد ملوا من الإدلاج
يمشون أفواجاً على أفواج ... مشي الفراريج مع الدجاج
وحكمه وخواصه: كالدجاج.
وأما تعبيره: فالفراريج في الرؤيا هي أولاد السبي، لأن الدجاج جوار ومن سمع أصوات الفراريج، فإنه يسمع كلام قوم فسقة، ومن أكل لحم الفراريج، أكل مالا من رجل كريم. والفراريج تدل على أمر يتألف عاجلا بلا تعب، لأن الفراريج لا تحتاج إلى كلفة التربية، والله تعالى أعلم.
الفرير والفرار: ولد النعجة والماعزة والبقرة، ويقال: هو من أولاد المعز ما صغر جسمه. وقيل: الفرير واحد والفرار جمع قاله ابن سيده.
فسافس: كخنافس حيوان كالقراد شديد النتن، قاله ابن سينا. وقال القزويني: يشبه أن يكون البق، إذا سحقت وجعلت في ثقبة الإحليل نفعت من عسر البول. وقد تقدم في باب الباء الإشارة إلى هذا.
الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن رضاع أمه، وهو فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول، والجمع فصلان بضم الفاء وفصال بكسرها. روى الإمام أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال صلى الله عليه وسلم: " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " . وهو أن تحمى الرمضاء، وهو الرمل، فتبرك الفصال من شدة حرها وإحراقها أخفافها. وروى الإمام أحمد أيضاً وأبو داود من حديث دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أربعون وأربعمائة راكب نسأله الطعام فقال عليه الصلاة والسلام: " يا عمر اذهب فأطعمهم " . فقام عمر وقمنا معه فصعد بنا إلى غرفة فأخرج المفتاح ففتح الباب، فإذا في الغرفة من التمر شبه الفصيل الرابض، فقال: شأنكم فأخذ كل منا ما شاء من ذلك التمر، ثم التفت وإني لمن آخرهم فكأنما لم نرزأ منه تمره. وقال ابن عطية، في تفسير سورة الفلق: حدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر، وقد عقدت فيه عقد على فصلان فمنعت بذلك رضاع أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع.
فرع: دخل فصيل رجل في بيت رجل، ولم يمكن إخراجه إلا بنقض البناء، فإن كان بتفريط صاحب البيت، بأن غصبه وأدخله نقض، ولم يغرم صاحب الفصيل شيئاً، وإن كان بتفريط صاحب الفصيل، نقض البناء ولزمه أرش النقض، وإن دخل بنفسه نقض أيضاً، ولزم صاحب الفصيل أرش النقض على المذهب، وبه قطع العراقيون، وقيل: وجهان ثانيهما لا أرش عليه.
الأمثال: قالوا: أتخم من فصيل لأنه يرضع أكثر مما يطيق، ثم يتخم، وقالوا: كفضل ابن المخاض على الفصيل. أي الذي بينهما من الفضل قليل يضرب للمتقاربين في رجوليتهما. وقالوا: استنت الفصال حتى القرعى. يضرب للذي يتكلم، مع الذي لا ينبغي له أن يتكلم بين يديه، لجلالة قدره، والقرعى: جمع قريع كمريض ومرضى، وهو الذي به قرع بالتحريك، وهو بثر أبيض يطلع في الفصال، ودواؤه الملح وحباب ألبان الإبل والله تعالى أعلم.
التعبير: الفصيل في المنام ولد شريف، وكل صغير من الحيوان إذا مسه الإنسان فهو هم والله تعالى أعلم.

الفلحس: كجعفر: الدب والكلب المسن، وفلحس رجل من رؤساء بني شيبان، كان إذا أعطي سهمه من الغنيمة، سأل سهماً لامرأته، وسهماً لناقته، فقيل: اسأل من فلحس الفلو: والفلو بضم الفاء وفتحها وكسرها المهر الصغير، والجمع أفلاء. قال سيبويه: لم يكسروه على فعل كراهة الإخلال، ولا كسروه على فعلان كراهة الكسرة قبل الواو، وإن كان بينهما حاجز، لأن الساكن ليس بحاجز حصين. قاله ابن سيده، وقال الجوهري: الفلو بتشديد الواو المهر لأنه يفتلي عن أمه أي يفطم. وقد قالوا للأنثى: فلوة، كما قالوا عدو وعدوة والجمع أفلاء مثل عدو وأعداء وفلاوى، مثل خطايا. وأصله فعائل. وقال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرت خففت. فقلت: فلو مثال جرو، وفلوته عن أمه وافتليته إذا فطمته، وفرس مفل ومفلية ذات فلو.
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب، إلا أخذه الرحمن بيمينه، وإن كان تمرة فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم " . وفي رواية " فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل " . قال الماوردي وغيره: هذا الحديث وشبهه إنما عبر به النبي صلى الله عليه وسلم على ما اعتاده في خطابهم ليفهموا، فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها بالكف، وعن تضعيف أجرها بالتربية. قال القاضي عياض: لما كان الشيء الذي يرتضى ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا، واستعير للقبول والرضا إذ الشمال بضد ذلك في هذا. قال: وقيل: المراد بكف الرحمن هنا وبيمينه كف الذي يدفع إليه الصدقة ويمينه، واضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص، لتوضع هذه الصدف فيها لله عز وجل. قال: وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل، أن المراد بذلك تعظيم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها، ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان. وهذا الحديث نحو قوله تعالى: " يمحق الله الربا ويرب الصدقات " وفي سنن أبي داود، من حديث الزبير بن العوام أنه حمل على فرس يقال له غمر أو غمرة، فرأى مهراً أو مهرة من أفلائها تباع تنسب إلى فرسه فنهي عنها، أي نهي عن ابتياعها، وعن إدخالها في ملكه، بعد أن تصدق بها والله تعالى أعلم.
الفناة: البقرة والجمع فنوات.
الفنك: كالعسل دويبة يؤخذ منها الفرو، قال ابن البيطار: إنه أطيب من جميع الفراء يجلب كثيراً من بلاد الصقالبة، ويشبه أن يكون في لحمه حلاوة، وهو أبرد من السمور، وأعدل وأحر من السنجاب يصلح لأصحاب الأمزجة المعتدلة.
وحكمه: الحل، لأنه من الطيبات، ونقل الإمام أبو عمر بن عبد البر في التمهيد، عن أبي يوسف أنه قال في الفنك والسنجاب والسمور: كل ذلك سبع مثل الثعلب وابن عرس.
الفنيق: الفحل الكريم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم، وجمعه فنق وأفناق، ومنه حديث الحجاج لما حاصر ابن الزبير بمكة، ونصب المنجنيق عليها، وقال: خطاؤه كالجمل الفنيق.
الفهد: واحد الفهود، وفهد الرجل أشبه الفهد في كثرة نومه وتمرده، وفي حديث أم زرع: " إن دخل فهد. وزعم أرسطو أنه يتولد بين نمر وأسد، ومزاجه كمزاج النمر، وفي طبعه مشابهة لطبع الكلب في أدوائه ودوائه. ويقال: إن الفهدة إذا أثقلت بالحمل حن عليها كل ذكر يراها من الفهود، ويواسيها من صيده، فإذا أرادت الولادة هربت إلى موضع قد أعدته لذلك. ويضرب بالفهد المثل في كثرة النوم، وهو ثقيل الجثة يحطم ظهر الحيوان في ركوبه. ومن خلقه الغضب، وذلك أنه إذا وثب على فريسة لا يتنفس حتى ينالها، فيحمى نذلك وتمتلئ رئته من الهواء الذي حبسه فإذا أخطأ صيده رجع مغضباً وربما قتل سائسه.
قال ابن الجوزي: إن الفهد يصاد بالصوت الحسن قال: ومتى وثب على الصيد ثلاث مرات، ولم يدركه غضب. ومن خلقه أنه يأنس لمن يحسن إليه. وكبار الفهود أقبل للتأديب من صغارها، وأول من اصطاد به كليب بن وائل، وأول من حمله على الخيل يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأكثر من اشتهر باللعب بها أبو مسلم الخراساني.

فائدة: سئل الكيا الهراسي الفقيه الشافعي عن يزيد بن معاوية هل هو من الصحابة أم لا وهل يجوز لعنه أم لا؟ فأجاب أنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه، وأما قول السلف ففيه لكل واحد من أبي حنيفة ومالك وأحمد قولان: تصريح وتلويح. ولنا قول واحد: التصريح دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك وهو المتصيد بالفهد واللاعب بالنرد ومدمن الخمر؟ ومن شعره في الخمر قوله:
أقول لصحب ضمت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... فكل وإن طال المدى يتصرم
وكتب فصلاً طويلاً أضربنا عن ذكره ثم قلب الورقة وكتب: ولو مددت ببياض لأطلقت العنان وبسطت الكلام في مخازي هذا الرجل. وقد أفتى الغزالي في هذه المسألة بخلاف ذلك، فإنه سئل عمن يصرح بلعن يزيد بن معاوية هل يحكم بفسقه أم يكون ذلك مرخصاً فيه؟ وهل كان يريد قتل الحسين، أم كان قصده الدفع؟ وهل يسوغ الترحم عليه أم السكوت عنه أفضل؟ فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلاً ومن لعن المسلم فهو المعلون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " المسلم ليس بلعان " . وكيف يجوز لعن المسلم وقد ورد النهي عن ذلك؟ وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، بنص من النبي صلى الله عليه وسلم ، ويزيد صح إسلامه وما صح قتله للحسين رضي الله تعالى عنه ولا أمره ولا رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك عنه لم يجز أن يظن ذلك به فإن إساءة الظن أيضاً بالمسلم حرام. قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء " . ومن أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله لم يقدر على ذلك، وإذا لم يعلم وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به. ومع هذا لو ثبت على مسلم أنه قتل مسلماً، فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر بل هو معصية، وإذا مات القاتل، فربما مات بعد التوية، والكافر لو تاب من كفره لم يجز لعنه، فكيف من تاب من قتل. ولم يعرف أن قاتل الحسين مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فإذا لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة: لم لم تلعن إبليس؟ ويقال للاعن: لم لعنت ومن أين عرفت أنه ملعون؟ والملعون هو المبعد من الله عز وجل، وذلك لا يعرف إلا فيمن مات كافراً فإن ذلك علم بالشرع، وأما الترحم عليه فجائز بل مستحب، بل داخل في قولنا: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنه كان مؤمناً.
والكيا الهراسي هو أبو الحسن عماد الدين علي بن محمد الطبري، كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين وثاني الغزالي، وتوفي في المحرم سنة أربع وخمسمائة ببغداد، وحضر دفنه الشريف أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني مقدماً الطائفة الحنفية، وكان بينهما وبينه في حال الحياة منافسة، فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال ابن الدامغاني:
وما تغني النوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس
وأنشد الزينبي:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم
وقد تقدم في باب الحاء المهملة، في الحمام ذكر شيء من مناقب الإمام الغزالي ووفاته رحمه الله تعالى.
وذكر ابن خلكان أن الرشيد خرج مرة إلى الصيد، فانتهى به الطرد إلى موضع قبر علي بن

أبي طالب رضي الله تعالى عنه الآن، فأرسل فهوداً على صيد فتبعت الصيد إلى موضع قبره، ووقفت الفهود عند موضع القبر الآن، ولم تتقدم على الصيد، فتعجب الرشيد من ذلك! فجاءه رجل من أهل الخبرة وقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن دللتك على قبر ابن عمك علي بن أبي طالب ما لي عندك؟ قال: أتم مكرمة. قال: هذا قبره. فقال له الرشيد: من أين علمت بذلك. قال: كنت أجيء مع أبي فيزور قبره، وأخبرني أنه كان يجيء مع جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه فيزوره، وأن جعفراً كان يجيء مع أبيه محمد الباقر فيزوره، وأن محمداً كان يجيء مع أبيه علي زين العابدين فيزوره، وأن علياً كان يجيء مع أبيه الحسين فيزوره، وكان الحسين أعلمهم بمكان القبر. فأمر الرشيد أن يحجر الموضع، فكان أول أساس وضع فيه، ثم تزايدت الأبنية فيه، في أيام السامانية، وبني حمدان وتفاقم في أيام الديلم أي أيام بني بويه. قال: وعضد الدولة هو الذي أظهر قبر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعمر المشهد هناك وأوصى أن يدفن فيه، وللناس في هذا القبر اختلاف متباين حتى قيل إنه قبر المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله تعالى عنه. وأصح ما قيل إنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة انتهى.
قلت: وعلي رضي الله تعالى عنه لا يعرف قبره على الحقيقة.
وعضد الدولة اسمه فناخسر وأبو شجاع بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه الديلمي.
وكان عضد الدولة أعظم بني بويه مملكة دانت له العباد والبلاد، وأطاعه كل صعب القياد، وهو أول من خوطب بالملك في الإسلام كما تقدم، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة، ويلقب بتاج الملة أيضاً وكان محباً للعلوم وأهلها، وكان يحسن إليهم ويجلس معهم، ويفاوضهم في المسائل، فقصده العلماء والشعراء من كل بلد، وصنفوا له الكتب وامتدحوه وقد تقدم ذكر وفاته في باب الهمزة في لفظ الأوز.
الحكم: يحرم أكله لأنه ذو ناب فأشبه الأسد لكنه يجوز بيعه للصيد به ولا خلاف في جواز إجارته.
الأمثال: قالوا: أثقل رأساً من الفهد وأنوم من فهد، وأوثب من فهد، وأكسب من فهد وذلك أن الفهود الهرمة التي تعجز عن الصيد لأنفسها تجتمع على فهد فتي، فيصيد لها في كل يوم شبعها.
الخواص: أكل لحمه يورث حدة الذهن وقوة البدن، ومن سقي من دمه غلبت عليه البلاهة، وبرثنه إذا ترك في موضع هرب منه الفأر. وقال صاحب عين الخواص: قرأت في بعض الكتب، أن بول الفهد إذا تحملت به امرأة لم تحبل، وربما تصير عاقراً.
التعبير: الفهد في المنام عدو مذبذب، لا يظهر العداوة ولا الصداقة، فمن نازعه نازع إنساناً كذلك. وقال ابن المقري: إن رؤيته تدل على العز والرفعة والدلال مع الصخب والعياط، وربما دل على ما يدل عليه الجارح من الوحش والله تعالى أعلم.
الفور: بالضم الظباء وهو جمع لا واحد له من لفظه، يقال: لا أفعل كذا ما لألأت بأذنابها، أي حركتها، ويروى ما لألأت العفر بأذنابها وهي الظباء أيضاً.
الفولع: طائر أحمر الرجلين كأن رأسه شيب مصبوغ، ومنها ما يكون أسود الرأس وسائر خلقه أغبر حكاه ابن سيده.
الفيصور: كقيطون الحمار النشيط.
الفويسقة: الفأرة روى البخاري وأبو داود والترمذي، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خمروا الآنية، وأوكئوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، وكفوا صبيانكم، فإن للجن سيارة خطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة ربما أخذت الفتيلة وأحرقت أهل البيت " . قيل: سميت فويسقة لخروجها عن الناس، واغتيالها إياهم في أموالهم بالفساد، وأصل الفسق الخروج، ومن هذا سمي الخارج عن الطاعة فاسقاً. يقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت عنه.
الفياد: كصياد، ذكر البوم ويقال الصدى.
الفيل: معروف وجمعه أفيال وفيول وفيلة، قال ابن السكيت: ولا تقل أفيلة، وصاحبه فيال. قال سيبويه: يجوز أن يكون أصل فيل فعل، فكسر من أجل الياء كما قالوا: أبيض وبيض وكنيته أبو الحجاج وأبو الحرمان وأبو غفل وأبو كلثوم وأبو مزاحم، والفيلة أم شبل. وفي ربيع الأبرار كنية فيل أبرهة ملك الحبشة أبو العباس واسمه محمود، وقد ألغز بعضهم في اسمه فقال:
ما اسم شيء تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربع تعالى الإله
قيل تصحيفه ولكن إذا ما ... عكسوه يصير لي ثلثاه

والفيلة ضربان: فيل وزندبيل، وهما كالبخاتي والعراب والجواميس والبقر والخيل والبراذين والجرذ والفأر والنمل والذر، وبعضهم يقول: الفيل الذكر، والزندبيل الأنثى، وهذا النوع لا يلاقح إلا في بلاده ومعادنه ومغارس أعراقه، وإن صار أهلياً. وهو إذا اغتلم أشبه الجمل في ترك الماء والعلف حتى يتورم رأسه، ولم يكن لسواسه إلا الهرب منه، وربما جهل جهلاً شديداً، والذكر ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين، وزمان نزوه الربيع، والأنثى تحمل سنتين، وإذا حملت لا يقربها الذكر ولا يمسها ولا ينزو عليها إذا وضعت إلا بعد ثلاث سنين.
وقال عبد اللطيف البغدادي: إنها تحمل سبع سنين ولا ينزو إلا على فيلة واحدة، وله عليها غيرة شديدة، فإذا تم حملها وأرادت الوضع دخلت النهر حتى تضع ولدها، لأنها لا تلد إلا وهي قائمة، ولا فواصل لقوائمها فتلد، والذكر عند ذلك يحرسها وولدها من الحيات. ويقال: إن الفيل يحقد كالجمل، فربما قتل سائسه حقداً عليه، وتزعم الهند أن لسان الفيل مقلوب ولولا ذلك لتكلم. ويعظم ناباه وربما بلغ الواحد منهما مائة من، وخرطومه من غضروف وهو أنفه ويده التي يوصل بها الطعام والشراب إلى فيه، ويقاتل بها ويصيح، وليس صياحه على مقدار جثته لأنه كصياح الصبي، وله فيه من القوة بحيث يقلع به الشجرة من منابتها، وفيه من الفهم ما يقبل به التأديب ويفعل ما يأمره به سائسه، من السجود للملوك وغير ذلك من الخير والشر، في حالتي السلم والحرب وفيه من الأخلاق أن يقاتل بعضه بعضاً، والمقهور منهما يخضع للقاهر، والهند تعظمه لما اشتمل عليه من الخصال المحمودة، من علو سمكه وعظم صورته، وبديع منظره، وطول خرطومه، وسعة أذنيه، وثقل حمله، وخفة وطئه، فإنه ربما مر بالإنسان فلا يشعر به لحسن خطوه واستقامته. ويطول عمره، فقد حكى أرسطو أن فيلاً ظهر أن عمره أربعمائة سنة، واعتبر ذلك بالوسم. وبينه وبين السنور عداوة طبيعية، حتى إن الفيل يهرب منه، كما أن السبع يهرب من الديك الأبيض، وكما أن العقرب متى أبصرت الوزغة ماتت.
وذكر القزويني أن فرج الفيلة تحت إبطها، فإذا كان وقت الضراب، ارتفع وبرز للفحل، حتى يتمكن من إتيانها، فسبحان من لا يعجزه شيء.
وفي الحلية، في ترجمة أبي عبد الله القلانسي ، أنه ركب البحر في بعض سياحاته، فعصفت عليهم الريح، فتفرع أهل السفينة إلى الله تعالى ونذروا النذور، إن نجاهم الله تعالى، وألحوا على أبي عبد الله في النذر، فأجرى الله على لسانه أن قال: إن خلصني الله تعالى مما أنا فيه، لا آكل لحم الفيل. فانكسرت السفينة وأنجاه الله تعالى وجماعة من أهلها إلى الساحل. فأقاموا به أياماً من غير زاد، فبينما هم كذلك، إذا هم بفيل صغير فذبحوه وأكلوا لحمه، سوى أبي عبد الله، فلم يأكل منه وفاء بالعهد الذي كان منه. قال: فلما نام القوم، جاءت أم ذلك الذيل تتبع أثره وتشم الرائحة، فكل من وجدت منه رائحة لحمه داسته بيديها ورجليها إلى أن تقتله. قال: فقتلت الجميع، ثم أتت إلي فلم تجد مني رائحة اللحم، فأشارت إلي أن أركبها، فركبتها فسارت بي سيراً شديداً الليل كله، ثم أصبحت في أرض ذات حرث وزرع، فأشارت إلى أن أنزل، فنزلت عن ظهرها فحملني أولئك القوم إلى ملكهم، فسألني ترجمانه، فأخبرته بالقصة. فقال لي: إن الفيلة قد سارت بك في هذه الليلة مسيرة ثمانية أيام. قال: فلبثت عندهم إلى أن حملت ورجعت إلى أهلي.

وفي كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي، قال: حدثني الأصبهاني من حفظه، قال: قرأت في بعض أخبار الأوائل، أن الإسكندر لما انتهى إلى الصين ونازلها، أتاه حاجبه ذات ليلة وقد مضى من الليل شطره، فقال له: إن رسول ملك الصين بالباب، يستأذن بالدخول عليك، فقال: ائذن له، فلما دخل وقف بين يديه وقبل الأرض ثم قال: إن رأى الملك أن يخليني فليفعل، فأمر الإسكندر من بحضرته بالانصراف، فانصرفوا ولم يبق سوى حاجبه، فقال له الرسول: إن الذي جئت له، لا يحتمل أن يسمعه غير الملك، فأمر الإسكندر بتفتيشه، ففتش فلم يوجد معه شيء من السلاح، فوضع الإسكندر بين يديه سيفاً مصلتاً، وقال له: قف مكانك. وقل ما شئت، وأمر حاجبه بالانصراف، فلما خلا المكان قال له الرسول: اعلم أني أنا ملك الصين لا رسول له، وقد حضرت بين يديك، لأسألك عما تريد مني، فإن كان مما يمكن الانقياد له، ولو على أصعب الوجوه، أجبت إليه واغتنيت أنا وأنت عن الحرب. فقال له الإسكندر: وما آمنك مني؟ قال: لعلمي بأنك رجل عاقل، وأنه ليس بيننا عداوة متقدمة، ولا مطالبة بدخل، ولعلمي أيضاً أنك تعلم أن أهل الصين، متى قتلتني لا يسلمون إليك ملكهم، ولا يمنعهم عدمهم إياي أن ينصبوا لأنفسهم ملكاً غيري، ثم تنسب أنت إلى غير الجميل وضد الحزم. فأطرق الإسكندر مفكراً في مقالته، ثم رفع رأسه إليه، وقد تبين له صدق قوله، وعلم أنه رجل عاقل. فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك ثلاث سنين عاجلاً، ونصف ارتفاعه في كل سنة. فقال له ملك الصين: هل غير هذا شيء؟ قال: لا. قال: قد أجبتك إلى ذلك. قال: فكيف يكون حالك حينئذ؟ قال: أكون قتيل أول محارب، وأكلة أول مفترس. قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف يكون حالك؟ قال: أصلح ما يكون ذلك مذهباً لجميع لذاتي. قال: فإن قنعت منك بالسدس. قال: يكون السدس موفراً، والباقي للجيش ولأسباب الملك. قال: قد اقتصرت منك على هذا، فشكره وانصرف. فلما أصبح الصباح وطلعت الشمس، أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض كثرة، وأحاط بجيش الإسكندر، حتى خافوا الهلاك، فتواثبوا إلى خيولهم فركبوها واستعدوا، فبينما هم كذلك، إذ ظهر ملك الصين على فيل عظيم وعليه التاج، فلما رأى الإسكندر، ترجل ومشى إليه، وقبل الأرض بين يديه، فقال الإسكندر: أغدرت؟ قال: لا والله. فقال: ما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلة ولا ضعف، وأن ترى هذا الجيش، وما غاب عنك أكثر منه، لكني رأيت العالم الأكبر مقبلاً عليك ممكناً لك، ممن هو أقوى مني ومنك. وأكثر عدداً، فعلمت أنه من حارب الإله غلب وقهر، فأردت طاعته بطاعتك، والذلة لأمره بالذلة لك. فقال له الإسكندر: ليس ينبغي أن يؤخذ من مثلك شيء، وما رأيت أحداً يستحق التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك. فقال له ملك الصين: أما إذ فعلت ذلك فإنك لا تخسر، ثم قدم له ملك الصين من الهدايا والتحف والألطاف، أضعاف ما قرره معه، ورحل الإسكندر عنه.
قلت: وقد أذكرتني هذه الحكاية، ما حكاه صاحب ابتلاء الأخبار، عن الإسكندر مع ملكة الصين الأقصى، قال: إن الإسكندر لما سار في الأرض، وفتح البلاد سمعت به ملكة الصين، فأحضرت من أبصر صورة الإسكندر، ممن يعرف التصوير، وأمرتهم أن يصوروا صورته، في جميع الصنائع، خوفاً منه، فصوروه في البسط والأواني والرقوم، ثم أمرت بوضع ما صنعوه بين يديها، وصارت تنظر لذلك، حتى أثبتت معرفته، فلما قدم عليها الإسكندر ونازل بلدها، قال الإسكندر للخضر يوماً: قد خطر لي شيء أقوله لك، قال: وما هو؟ قال: أريد أ أدخل هذه البلدة متنكراً، وأنظر كيف يعمل فيها؟ قال: افعل ما بدا لك.

فلما دخلها الإسكندر، نظرت إليه الملكة من حصنها، فعرفته بالصور التي عندما، فأمرت بإحضاره فلما مثل بين يديها، أمرت به فوضع في مطمورة، لا يعرف الليل فيها من النهار، فبقي فيها ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، حتى كادت قوته أن تسقط، واختبط عسكره لأجل غيبته والخضر يسكنهم ويسليهم، فلما كان اليوم الرابع، مدت ملكة الصين سماطاً نحو مائة ذراع ووضعت فيه أواني الذهب والفضة والبلور، وملأت أواني الذهب باللؤلؤ والزبرجد، وأواني الفضة بالدر والياقوت الأحمر والأصفر، وأواني البلور بالذهب والفضة، وما في ذلك شيء يؤكل إلا أنه مال لا يعلم قدره إلا الله تعالى. وأمرت فوضع في أسفل السماط، صحن فيه رغيف خبز البر وشربة من الماء، وأمرت بإخراج الإسكندر، وأجلسته على رأس السماط، فنظر إليه فأبهره ذلك! وأخذت تلك الجواهر ببصره ولم ير فيه شيئاً للأكل، ثم نظر فرأى في أدنى السماط إناء فيه طعام، فقام من مكانه ومشى إليه وجلس عنده، وسمى وأكل، فلما فرغ من أكله، شرب من الماء كفايته، ثم حمد الله تعالى وقام وجلس مكانه أولا، فخرجت عليه، فقالت له: يا سلطان بعد ثلاثة أيام أما صد عنك هذا الذهب والفضة والجوهر سلطان الجوع؟ وقد أغناك عن هذا كله ما قيمته درهم واحد؟ فمالك والتعرض إلى أموال الناس، وأنت بهذه المثابة؟ فقال لها الإسكندر: لك بلادك وأموالك، ولا بأس عليك بعد اليوم، فقالت له: أما إذا فعلت هذا فإنك لا تخسر، ثم إنها قدمت له جميع ما كانت قد أحضرته، وكان شيئاً يحير الناظر، ويذهل الخاطر، ومن المواشي شيئاً كثيراً. فنزل إلى عسكره، وقبل هديتها ورحل عنها. وذكر غيره أنه كان في الهدية ثلاثمائة فيل، وأنه دعاها إلى الله تعالى فآمنت وآمن أهل مملكتها.
غريبة: ذكر صاحب النشوان أن خارجياً خرج على ملك الهند، فأنفذ إليه الجيوش، فطلب الأمان فأمنه فسار الخارجي إلى الملك، فلما قرب من بلد الملك، أمر الملك الجيش بالخروج إلى لقائه، فخرج الجيش بآلات الحرب، وخرجت العامة تنتظر دخوله، فلما أبعدوا في الصحراء، وقف الناس ينتظرون قدوم الرجل، فأقبل وهو راجل في عدة رجال، وعليه ثوب ديباج ومئزر في وسطه، جرياً على زي القوم، فتلقوه بالإكرام، ومشوا معه حتى انتهى إلى فيلة عظيمة، قد أخرجت للزينة، وعليها الفيالون، وفيها فيل عظيم يختصه الملك لنفسه، ويركبه في بعض الأوقات، فقال له الفيال لما قرب منه: تنح عن طريق فيل الملك، فلم يبد له جواباً، فأعاد عليه القول، فلم يبد له جواباً، فقال له: يا هذا احذر على نفسك وتنح عن طريق فيل الملك، فقال له الخارجي: قل لفيل الملك يتنحى عن طريقي، فغضب الفيال وأغرى الفيل به بكلام كلمه به، فغضب الفيل وعدا إلى الخارجي، ولف خرطومه عليه، وشاله الفيل شيلا عظيماً، والناس يرونه ثم خبط به الأرض، فإذا هو قد وقع منتصباً على قدميه قابضاً على خرطوم الفيل، فزاد غضب الفيل فشاله الثانية، أعظم من الأولى، وعدا ثم رمى به الأرض فإذا هو قد حصل مستوياً على قدميه، منتصباً قابضاً على الخرطوم، ولم ينح يده عنه فشاله الفيل الثالثة، وفعل به مثل ذلك فحصل على الأرض منتصباً قابضاً على الخرطوم، وسقط الفيل ميتاً، لأن قبضه على الخرطوم تلك المدة منعه من التنفس فقتله. فأخبر الملك بذلك، فأمر بقتله، فقال له بعض وزرائه: يجب أيها الملك أن يستبقى مثل هذا، ولا يقتل فإن فيه جمالا للمملكة، ويقال إن للملك خادماً، قتل فيلا بقوته وحيله، من غير سلاح، فعفا عنه واستبقاه.

وذكر الطرطوشي وغيره أن الفيل دخل دمشق، في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، فخرج أهل الشام لينظروه لأنهم لم يكونوا رأوا الفيل قبل ذلك، وصعد معاوية سطح القصر للفرجة، فلاحت منه التفاتة، فرأى رجلا مع بعض حظاياه في بعض حجر القصر، فنزل مسرعاً إلى الحجرة، فطرق بابها فكيل: من؟ قال: أمير المؤمنين، ففتح الباب، إذ لا بد من فتحه طوعاً أو كرهاً، فدخل أمير المؤمنين معاوية فوقف على رأس الرجل وهو منكس رأسه، وقد خاف خوفاً عظيماً، فقال له معاوية: يا هذا ما الذي حملك على ما صنعت من دخولك قصري، وجلوسك مع بعض حرمي؟ أما خفت نقمتي؟ أما خشيت سطوتي؟ أخبرني يا ويلك، ما الذي حملك على ذلك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، حملني على ذلك حلمك. فقال له معاوية: أرأيت إن عفوت عنك تسترها علي، فلا تخبر بها أحداً؟ قال: نعم. فعفا عنه ووهب له الجارية، وما في حجرتها وكان شيئاً له قيمة عظيمة. قال الطرطوشي: فانظر إلى هذا الدهاء العظيم والحلم الواسع كيف طلب الستر من الجاني انتهى.
فائدة: لما كان أول المحرم سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حملا في بطن أمه، حضر أبرهة الأشرم ملك الحبشة يريد هدم الكعبة، وكان قد بنى كنيسة بصنعاء، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من بني كنانة، فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك، وحلف ليهدمن الكعبة، فخرج ومعه جيش عظيم، ومعه فيله محمود، وكان قوياً عظيماً، واثنا عشر فيلا غيره، وقيل: ثمانية. فلما بلغ المغمس، وهو على ثلثي فرسخ من مكة، مات دليلة أبو رغال هناك، فرجمت العرب قبره. والناس يرجمونه إلى الآن. وروى أبو علي بن السكن، في سننه الصحاح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان بمكة، وأراد أن يقضي حاجة الإنسان، خرج إلى المغمس.
ثم إن أبرهة بعث خيلا له إلى مكة، فأخنت مائتي بعير لعبد المطلب، فهم أهل الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوه. وبعث أبرهة إلى أهل مكة يقول لهم: إني لم آت لحربكم وإنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم! فقال عبد المطلب لرسوله: والله لا نريد حربه، وما لنا من حاجة، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم فهو يحميه ممن يريد هدمه.
ثم خرج عبد المطلب إلى أبرهة، وكان عبد المطلب جسيماً وسيماً ما رآه أحد إلا أحبه، وكان مجاب الدعوة، فقيل لأبرهة: هذا سيد قريش الذي يطعم الناس في السهل، ويطعم الوحش والطير في رؤوس الجبال، فلما رآه أجله وأجلسه معه على سريره. ثم قال لترجمانه: قل له: سل حاجتك. فقال: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي. فلما قال ذلك، قال له أبرهة: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مائتي بعير وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه فلم تكلمني فيه؟ فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه منك. قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني. فقال عبد المطلب: أنت وذاك. فرد أبرهة على عبد المطلب إبله، ثم انصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ودعا الله تعالى ثم قال:
لا هم أن المرء يم ... ع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصلي ... ب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبداً محالك
ثم أرسل حلقة الباب، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال، ينظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، فحينئذ جاءت قدرة الواحد الأحد القادر المقتدر، فأصبح أبرهة متهيئاً لدخول مكة وهدم البيت، وقدم فيله محموداً أمام جيشه، فلما وجه الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب، كذا في سيرة ابن هشام.

وقال السهيلي: نفيل بن عبد الله بن جزء بن عامر بن مالك، فأخذ بأذن الفيل وقال: ابرك محموداً وارجع راشداً فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل فضربوه بالحديد حتى أدموه ليقوم فأبى! فوجهوه إلى اليمن فقام يهرول، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، فوجهوه إلى مكة فبرك. فعند ذلك أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل منهل، وأصيب أبرهة حتى تساقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصاع قلبه عن صدره، وانفلت وزيره وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر، فخر ميتاً بين يديه. وإلى هذه القصة أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: " إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين " .
وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والنسائي، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله تعالى عنهما، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل " . الخلاء في الإبل كالحران في الخيل، والمعنى في التمثيل بحبس الفيل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لو دخلوا مكة لوقع بينهم وبين قريش قتال في الحرم، وأريق فيه دماء وكان منه الفساد ولعل الله سبحانه وتعالى قد سبق في علمه، ومضى في قضائه، أنه سيسلم جماعة من أولئك الكفار، وسيخرج من أصلابهم قوم مؤمنون، فلو استبيحت مكة لانقطع ذلك النسل وتعطلت تلك العواقب والله أعلم.
قيل: كان أبرهة المذكور جد النجاشي الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، بعد هلاك أصحاب الفيل بخمسين يوماً، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان الناس بمكة.
وروي أن عبد الملك بن مروان، قال لقباث بن أشيم الكناني: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه، ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل وهو أخضر، وأنا أعقله. قال السهيلي: قوله فبرك الفيل، فيه نظر، لأن الفيل لا يبرك، فيحتمل أن يكون فعل فعل البارك، الذي يلزم موضعه، ولا يبرح، فعبر بالبروك عن ذلك. ويحتمل أن يكون بروكه سقوطه إلى الأرض، لما دهمه من أمر الله سبحانه وتعالى.
قال: وقد سمعت من يقول: إن في الفيلة صنفاً يبرك كما يبرك الجمل، فإن صح، وإلا فتأويله كما قدمناه. قال: وقول عبد المطلب: لاهم... الخ. إن العرب تحذف الألف واللام من اللهم وتكتفي بما بقي. والحلال متاع البيت، وأراد به سكان الحرم. ومعنى محالك كيمك وقوتك. والكنيسة التي بناها أبرهة بصنعاء تسمى القليس، مثل القبيط سميت بذلك لارتفاع بنائها وعلوها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس، يقال: تقلس الرجل وتقلنس إذا لبس القلنسوة، وتقلس طعاماً إذا ارتفع من معدته إلى فيه.
وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنائها، وكلفهم فيها أنواعاً من السخر وكان ينقل إليها الرخام المجزع، والحجارة المنقوشة بالذهب والفضة، من قصر بلقيس صاحبة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، ونصب فيها صلباناً من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس، وكان يشرف منها على عدن.
وكان حكمه في العامل فيها إذا طلعت عليه الشمس، قبل أن يعمل قطع يده، فنام رجل من العمال ذات يوم حتى طلعت الشمس، فجاءت أمه معه، وهي امرأة عجوز، فتضرعت إليه تستشفع لابنها، فأبى إلا قطع يده، فقالت: اضرب بمعولك اليوم، فاليوم لك وغداً لغيرك! فقال: ويحك ما قلت؟ قالت: نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك، فهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك! فأخذته موعظتها، وعفا عن ولدها وأعفى الناس من السخر فيها.

فلما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق، أقفر ما حول هذه الكنيسة، وكثر حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئاً أصابته الجن، فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير مقنطرة من الأموال إلى زمن أبي العباس السفاح. فذكروا له أمرها وما يتهيب من جنها، فلم يرعه ذلك، وبعث إليها أبا العباس بن الربيع عامله على اليمن، ومعه أهل الحزم والجلادة، فخربها واستأصلها، وحصل منها مالا كثيراً، وباع منها ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها. فخفي بعد ذلك رسمها وانقطع خبرها ودرست آثارها. وكان الذي يصيبهم من الجن، ينسبونه إلى كعيب وامرأته وهما صنمان كانت الكنيسة بنيت عليهما، فلما كسر كعيب وامرأته، أصيب الذي كسرهما بالجذام، فافتتن بذلك رعاع اليمن وطغامهم، وذكر أبو الوليد الأزرقي أن كعيباً كان من خشب وكان طوله ستين ذراعاً. وإلى قصة أبرهة أشرت بقولي في المنظومة في أول كتاب السير:
فجاءهم أبرهة بالفيله ... وبجيوش أقبلت محتلفه
وأمهم في عسكر كالليل ... مستظهراً برجله والخيل
وقد أتى الأسود نحو الحرم ... واستاق ما كان به من نعم
فأم ذاك الوقت عبد المطلب ... أبرهة والسعي في الخير طلب
فمذ رأى أبرهة وجها سما ... مهابة عظمه رب السما
انحط عن سريره منهبطا ... وقعدا على بساط بسطا
وقال: سل ما شئت من أمور ... فقال رد مائتي بعير
قد أخذت من جملة الأموال ... فقال: قد هونت في السؤال
لو قلت لي لا تهدمن البيتا ... وارجع وعد من حيثما أتيتا
قابلت ما قلت بالامتثال ... من غير إمهال ولا إهمال
فقال: هذي إبلي وهذا ... بيت له خالقه أعاذا
لا أسأل اليوم سواء فيه ... إن له رباً علا يحميه
ثم أتى شيبة باب الكعبة ... فقال: إذ يسأل فيه ربه
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع عنهم حماك
إن عدو البيت من عاداك ... فامنعهم أن يخربوا قراكا
فأجلبوا برجلهم والخيل ... وأقبلوا كقطع من ليل
محموده من فوقه مذموم ... بهيمة سواده بهيم
يروم هدم البيت ذي الأركان ... وقتل ما فيه من السكان
ويستحل الجرم المعظما ... ويستبيح البلد المحرما
فقام يدعو الله عبد المطلب ... بدعوات جيشهن ما غلب
في يده حلقته الوثقى التي ... ما خاب من أمسكها في أزمة
فأنجز الله له ما طلبه ... وأنجح الرب العظيم مطلبه
وفيلهم محمود ليل داج ... وكان يكنى بأبي الحجاج
وقال قوم بأبي العباس ... وكان معروفاً بعظم الباس
أمسكه بأذنه نفيل ... قال له وشاع هذا القيل:
ابرك أو ارجح راشداً محمود ... فإن هذا بلد محمود.
فأوجعوه بالحديد ضربا ... للسير نحو البيت وهو يأبى
وأن يوجه لسواه يبتدر ... ثم عليه أحد لم يقتدر
فأرسل الله على الذي فجر ... طيراً أبابيل رمت جنس الحجر
مهيئاً للقوم من سجيل ... فهم كعصف بعدها مأكول
والملك المطاع عضواً عضوا ... مزق ثم لم ينل مرجوا
وكان عام الفيل عام المولد ... لأحمد خير الورى محمد
فائدة أخرى: إذا دخل إنسان على من يخاف شره فليقرأ: كهيعص حم عسق، وعدد حروف الكلمتين عشرة، يعقد لكل حرف أصبعاً من أصابعه، يبدأ بإبهام يده اليمنى، ويختم بإبهام يده اليسرى، فإذا فرغ عقد جميع الأصابع، قرأ في نفسه سورة الفيل، فإذا وصل إلى قول تعالى " ترميهم " كرر لفظ ترميهم عشر مرات، يفتح في كل مرة إصبعاً من الأصابع المعقودة، فإذا فعل ذلك، أمن شره وهو عجيب مجرب.

ومن الفوائد المجربة: ما أفادنيه بعض أهل الخير والصلاح، أن من قرأ سورة الفيل، ألف مرة، في كل يوم مائة مرة، عشرة أيام متوالية، وبقصد من يريده بالضمائر، وفي اليوم العاشر، يجلس على ماء جار، ويقول: اللهم أنت الحاضر المحيط بمكنونات الضمائر، اللهم عز الظالم وقل الناصر، وأنت المطلع العالم، اللهم إن فلاناً ظلمني وأذاني، ولا يشهد بذلك غيرك، اللهم إنك مالكه فأهلكه، اللهم سربله سربال الهوام، وقمصه قميص الردى، اللهم اقصفه. يكرر هذه اللفظة عشر مرات، ثم يقول: " فأخذهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق " فإن الله يهلكه ويكفيه شره. وهو سر لطيف مجرب.
وروي أن عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه حمل يوم القادسية على رستم، وهو الذي كان قدمه يزدجرد ملك الفرس يوم القادسية على قتال المسلمين، فاستقبل عمرو رستم وكان رستم على فيل عظيم، فحذف عمرو قوائمه بضربة، فسقط رستم وسقط الفيل عليه، مع خرج كان عليه، فيه أربعون ألف دينار، فقتل رستم وانهزمت العجم. وهذه الضربة لم يسمع بمثلها في الجاهلية ولا في الإسلام. وروي أن الروم حملت القوائم المذكورة، وعلقوها في كنيسة لهم. فكانوا إذا عيروا بانهزام، يقولون: لقينا قوماً هذه ضربتهم، فيترجل أبطال الروم فيرونها، ويتعجبون من ذلك. وذكر أبو العباس المبرد، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال يوماً: من أجود العرب؟ قيل له: حاتم. قال: فمن فارسها؟ قيل: عمرو بن معد يكرب. قال: فمن شاعرها؟ قيل: امرؤ القيس. قال: فأي سيوفها أمضى؟ قيل: صمصامة عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه.
وأفاد السهيلي أن صمصامة عمرو بن معد يكرب كانت حديدة، وجدت عند الكعبة، من دفن جدهم أو غيره، وأن ذا الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من تلك الحديدة أيضاً. قال: وإنما سمي ذا الفقار لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، وكان قبله صلى الله عليه وسلم للعاص بن منبه، سلبه منه يوم بدر.
الحكم: يحرم أكل الفيل على المشهور، وعلله في الوسيط، بأنه ذو ناب مكادح أي مغالب مقاتل. وفي وجه شاذ حكاه الرافعي عن أبي عبد الله البوشنجي، وهو من أئمة أصحابنا أنه حلال. وقال الإمام أحمد: ليس الفيل من أطعمة المسلمين، وقال الحسن: وهو منسوخ، وكرهه أبو حنيفة، ورخص في أكله الشعبي، ويصح بيعه لأنه يحمل عليه ويقاتل به وعليه، وراكبه يرضخ له من الفيء أكثر من راكب البغل. ولا يطهر الفيل عندنا بالذبح، ولا يطهر عظمه بالتنقية، سواء أخذ منه بعد ذكاته، أو بعد موته، ولنا وجه شاذ أن عظام الميتة طاهرة، وهو قول أبي حنيفة، ومن وافقه لكن المذهب نجاستها مطلقاً.
وعند مالك أن عظمه يطهر بصقله، كما تقدم في باب السين المهملة، في لفظ السلحفاة. ولا يجوز بيعه ولا يحل ثمنه، وبهذا قال طاوس وعطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز ومالك وأحمد. وقال ابن المنذر: خص فيه عروة بن الزبير وابن سيرين وابن جريج. وفي الشامل أن جلد الفيل لا يؤثر فيه الدباغ لكثافته.
وفي صحة المسابقة على الفيل وجهان: وقيل قولان أصحهما أنها تصح لما روى الشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان، وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل " والسبق بفتح الباء ما يجعل للسابق على سبقه من جعل، وجمعه أسباق، وأما السبق بإسكان الباء، فهو مصدر سبقت الرجل أسبقه، والرواية الصحيحة في هذا الحديث لا سبق بفتح الباء، وأراد به أن الجعل والعطاء لا يستحق إلا في سباق الخيل والإبل والنصال، لأن هذه الأمور عدة في قتال العدو، وفي بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد ولم يذكر الشافعي الفيل، وقال أبو إسحاق: تجوز المسابقة عليه لأنه يلقي عليه العدو كما يلقي على الخيل، ولأنه ذو خف والصورة النادرة تدخل في العموم، على الأصح عند الأصوليين.
ومن الأصحاب من قال: لا تصح المسابقة عليه، وبه قال أحمد وأبو حنيفة، لأنه لا يحصل الكر والفر عليه، فلا معنى للمسابقة عليه، فإن قال قائل: فالإبل كالفيل في هذا المعنى، فالجواب أن العرب تقاتل على الإبل أشد القتال، وذلك لهم عادة غالبة والفيل ليس كذلك. ومن قال بالأول، قال: إنه يسبق الخيل في بلاد الهند والله أعلم.

تذنيب: في سنة تسعين وخمسمائة سار نيارس أكبر ملوك الهند، وقصد بلاد الإسلام فطلبه الأمير شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، فالتقى الجمعان على نهر ماجون، قال ابن الأثير: وكان مع الهندي سبعمائة فيل ومن العسكر ألف ألف نفس، فصبر الفريقان، وكان النصر لشهاب الدين الغوري، وكثر القتل في الهنود حتى جافت منهم الأرض، وأخذ شهاب الدين تسعين فيلا، وقتله ملكهم نيارس، وكان قد شد أسنانه بالذهب، فما عرف إلا بذلك. ودخل شهاب الدين بلاد نيارس، وأخذ من خزائنه ألفاً وأربعمائة حمل من المال، وعاد إلى غزنة. قال: وكان من جملة الفيلة التي أخذها شهاب الدين الغوري فيل أبيض، حدثني بذلك من رآه انتهى.
الأمثال: قالوا: آكل من فيل وأشد من فيل وأعجب من خلق فيل. روي أنه كان في مجلس الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، جماعة يأخذون عنه العلم، فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحابه كلهم للنظر إليه إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، فإنه لم يخرج، فقال له مالك: لم لم تخرج لترى هذا الخلق العجيب فإنه لم يكن ببلادك؟ فقال: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك رضي الله تعالى عنه، وسماه عاقل أهل الأندلس، ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس، وانتهت إليه الرياسة بها. وبه اشتهر مذهب مالك في تلك البلاد، وأشهر روايات الموطأ وأحسنها رواية يحيى وكان معظماً عند الأمراء، وكان مجاب الدعوة. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقبره بمقبرة ابن عباس بظاهر قرطبة يستسقى به.
ونظير هذه الحكاية ما اتفق لأبي عاصم النبيل، واسمه الضحاك بن مخلد بن الضحاك، فإنه كان بالبصرة فقدمها فيل، فذهب الناس ينظرون إليه، فقال له ابن جريج: ما لك لا تخرج تنظر إلى الفيل؟ فقال: لأني لا أجد منك عوضاً! فقال له: أنت النبيل. فكان إذا أقبل، يقول ابن جريج: جاء النبيل. قال البخاري: سمعت أبا عاصم يقول: منذ عقلت أن الغيبة حرام، ما اغتبت أحداً قط. وقالوا: أثقل من فيل. قال الشاعر:
أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل ثقيل
أنت في المنظر إنسا ... ن وفي الميزان فيل
الخواص: من سقي من وسخ أذن الفيل ينام سبعة أيام، ومرارته يطلى بها البرص ويترك ثلاثة أيام، فإنه يذهب. وعظمه يعلق على رقاب الصبيان يدفع عنهم الصرع، وإذا علق العاج، الذي هو عظمه، على شجرة لم تثمر تلك السنة. وإذا بخر الكرم والزرع والشجر بعظمه لم يقرب ذلك المكان عود، وإن دخن به في بيت فيه بق مات البق. ومن سقي من نشارة العاج في كل يوم، وزن درهمين بماء وعسل جاد حفظه، وإن شربتها المرأة العاقر سبعة أيام، ثم جومعت بعد ذلك حبلت بإذن الله تعالى. وجلده إذا شد منه قطعة على من به حمى نافض تزول عنه، وإذا نام عليه صاحب التشنج يزول عنه، وإذا أحرق زبله وسحق بعسل وطلي به الأجفان التي سقط شعرها نبت، وإذ شربت المرأة بوله، وهي لا تعلم، ثم جومعت لم تحبل. وزبله إذا علق عليها لم تحبل أيضاً، ما دام عليها. ودخان جلده يبرئ البواسير.

التعبير: الفيل في المنام ملك أعجمي مهاب، بليد القلب حامل الأثقال عارف بالحرب والقتال، فمن ركب فيه فيلا أو ملكه أو تحكم عليه، اتصل بسلطان ونال منه منزلة سنية، وعاش عمراً طويلا في عز ورفعة، وقيل: إن الفيل رجل ضخم أعجمي، فمن ركب فيلا وكان ذا طوع له، فإنه يقهر رجلا ضخماً أعجمياً شحيحاً. ومن ركب فيلا في نومه بالنهار فإنه يطلق زوجته، لأنه كان في الزمن المتقدم في بلاد الفيلة من طلق زوجته أركب فيلا، وطيف به حتى يعلم الناس، ومن ركب من الملوك فيلا وهو في حرب فإنه يهلك لقوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " إلى آخر السورة، ومن ركب فيلا بسرج، تزوج بنت رجل ضخم أعجمي، وإن كان تاجراً عظمت تجارته، ومن افترسه فيل نزلت به آفة من سلطان، وإن كان مريضاً مات ومن رعى فيلة فإنه يواخي ملوك العجم وينقادون له، ومن حلب فيلة فإنه يمكر برجل أعجمي. وينال منه مالا، وقالت اليهود: الفيل في المنام ملك كريم لين الجانب ذو مدارة صبور، ومن ضربه فيل بخرطومه نال خيراً، ومن ركبه نال وزارة وولاية، ومن أخذ شيئاً من ورثة استغنى. ويحل أيضاً على قوم صالحين. وقيل: من يرى الفيل يرى أمراً شديداً، ثم ينجو منه. وقالت النصارى: من رأى فيلا ولم يركبه أصابه نقصان في بدنه أو خسران في ماله. ومن رأى فيلا مقتولا في بلدة، مات ملكها، أو يقتل رجل مذكور. ومن قتل فيلا قهر رجلا أعجمياً، ومن ألقاه الفيل تحته ولم يفارقه، فإنه يموت، وإذا رؤي الفيل في غير بلاد النوبة، فإنه يدل على فتنة، وذلك لقبح لونه وسماجته. وإن رؤي في البلاد التي يوجد فيها فهو رجل من أشراف الناس. والمرأة إذا رأت الفيل فلا يحمد لها ذلك، على أي صفة رأته. وتعبر الفيلة بالسنين كالبقر، وخروج الفيل من بلد فيه طاعون دليل خير لهم وزوال الطاعون عنهم، وإذا ركب الفيل في بلد فيه بحيرة فهو ركوب سفينة، والله تعالى أعلم.

فصل في فضل العقل وزينه، وقبح الجهل وشينه
قال بعض الحكماء: العقل ما عقل به عن السيئات، وحض القلب على الحسنات، والعقل معقل عن الدنيات، ونجاة من المهلكات، والنظر في العواقب قبل حلول المصائب، والوقوف عند مقادير الأشياء، قولا وفعلا، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أعقلها وتوكل " . وقد أجمع الحكماء والعلماء والفقهاء، أن جميع الأمور كلها، قليلها وجليلها، محتاجة إلى العقل، والعقل محتاج إلى التجربة، وقالوا: العقل سلطان وله جنود، فرأس جنوده التجربة، ثم التمييز ثم الفكر ثم الفهم ثم الحفظ ثم سرور الروح، لأن به ثبات الجسم والروح سراج نوره العقل.
وفي الحديث: " ما قسم الله لعباده خيراً من العقل " وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام، أتى آدم عليه السلام فقال: إني أتيتك بثلاث: فاختر واحدة منها، فقال: وما هي. فقال: الحياء والعقل والدين. فقال آدم عليه السلام: قد اخترت العقل. فخرج جبريل عليه الصلاة والسلام إلى الحياء والدين، فقال: ارجعا فقد اختار العقل عليكما. فقالا: إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان. وقال بعضهم: من استرشد إلى طريق الحزم بغير دليل العقل فقد أخطأ منهاج الصواب. والعقل مصباح يكشف به عن الجهالة، ويبصر به الفضل من الضلالة، ولو صور العقل لأظلمت معه الشمس، ولو صور الجهل لأضاء معه الليل، وما شيء أحسن من عقل زانه أدب، ومن علم زانه ورع، ومن حلم زانه رفق، ومن رفق زانه تقوى.
وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أتيتك بمكارم الأخلاق كلها في الدنيا والآخرة. فقال: " وما هي " ؟ فقال: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " ، وهو يا محمد عفوك عمن ظلمك، واعطاء من حرمك، وصلة من قطعك، وإحسانك إلى من أساء إليك، واستغفارك لمن اغتابك، ونصحك لمن غشك، وحلمك عمن أغضبك. فهذه الخصال قد تضمنت مكارم الأخلاق، في الدنيا والآخرة. وأنشد بعضهم في معنى ذلك فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين
ومن طرق العقل الحميدة: القناعة وهي كنز لا يفنى، والصدقة وهي عز باق، وتمام عز الرجل استغناؤه عن الناس. ومن طرقه أيضاً الحياء، وقد قيل:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قل ماؤه

ومن طرقه أيضاً حسن الخلق. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " . وروي أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لقي عيسى ابن مريم عليهما السلام فتبسم عيسى في وجهه، فقال يحيى: ما لي أراك لاهياً كأنك آمن! فقال عيسى: ما لي أراك عابساً كأنك آيس! فقالا: لا نبرح حتى ينزل علينا وحي. فأوحى الله تعالى إليهما: أحبكما إلي أحسنكما خلقاً.
تتمة: ذكر الغزالي وابن بلبان وغيرهما، أن أبا جعفر المنصور حج ونزل في دار الندوة، وكان يخرج سحراً فيطوف بالبيت، فخرج ذات ليلة سحراً فبينما هو يطوف، إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فهرول المنصور في مشيته حتى ملأ مسامعه، ثم رجع لدار الندوة، وقال لصاحب الشرطة: إن بالبيت رجلا يطوف فائتني به. فخرج صاحب الشرطة فوجد رجلا عند الركن اليماني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فلما دخل عليه، قال: ما الذي سمعتك آنفاً تشكو إلى الله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني! فقال له: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله، وامتلأت بلاد الله بذلك بغياً وفساداً أنت! فقال المنصور: ما هذا؟ أو قال: ويحك كيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء ببابي، وملك الأرض في قبضتي؟! فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك؟ استرعاك الله أمور المؤمنين وأموالهم، فأهملت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، واتخذت بينك وبين رعيتك حجاباً من الجص والأجر، وحجبة معهم السلاح، وأمرت أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، نفراً استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الجائع ولا العاري ولا أحد إلا وله في هذا المال حق! فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، تجمع الأموال ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان الله ورسوله، فما لنا لا نخونه؟ فأجمعوا على أن لا يصل إليك من أمور الناس إلا ما أرادوا، فصار هؤلاء شركاءك في سلطانك، وأنت غافل عنهم، فإذا جاء المظلوم إلى بابك، وجدك قد أوقفت ببابك رجلا ينظر في مظالم الناس، فإن كان الظالم من بطانتك، علل صاحب المظالم بالمظلوم، وسوف به من وقت إلى وقت، فإذا جهد وظهرت أنت، صرخ بين يديك، فيضرب ضرباً شديداً ليكون نكالا لغيره! وأنت ترى ذلك ولا تنكر، ولقد كانت الخلفاء قبلك، من بني أمية، إذا انتهت إليهم الظلامة أزيلت في الحال.
ولقد كنت أسافر الصين يا أمير المؤمنين فقدمته مرة، فوجدت الملك الذي به قد فقد سمعه فبكى، فقال له وزراؤه: ما يبكيك أيها الملك لا أبكى الله لك عيناً؟ فقال: والله ما بكيت لمصيبة نزلت بي، وإنما أبكي لمظلوم يصرخ بالباب، فلا أسمع صوته. ثم قال: إن كان صمعي قد ذهب فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس أحداً ثوباً أحمر إلا مظلوماً. وكان يركب الفيل طرفي النهار، ويدور في البلد لعله يجد أحد لابساً ثوباً أحمر، فيعلم أنه مظلوم فينصفه، هذا يا أمير المؤمنين رجل مشرك غلبت رأفته على شح نفسه بالمشركين! فكيف لا تغلب رأفتك على شح نفسك بالمؤمنين وأنت مؤمن بالله وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! يا أمير المؤمنين: إنما تجمع المال لإحدى ثلاث: إن قلت: إنما أجمع المال للولد، فقد أراك الله عبرة فيمن تقدم ممن جمع المال للولد، فلم يغن ذلك عنه، بل ربما مات فقيراً ذليلا حقيراً، إذ قد يسقط الطفل من بطن أمه وليس له مال، ولا على وجه الأرض من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلم يزل يلطف الله تعالى بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس فيه، ويحوي ما حوته تلك اليد الشحيحة، ولست بالذي تعطي، وإنما الله المعطي. وإن قلت: إنما أجمعه لمصيبة تنزل بي، فقد أراك الله سبحانه وتعالى عبرة في الملوك والقرون الذين خلوا من قبلك، ما أغنى عنهم ما أعدموا من الأموال والرجال والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت: إنما أجمعه لغاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق منزلتك إلا منزلة، لا تدرك إلا بالعمل الصالح.

فبكى المنصور بكاء شديداً ثم قال: كيف أعمل والعلماء قد فرت مني، والعباد لم تقرب مني، والصالحون لم يدخلوا علي؟ فقال: يا أمير المؤمنين افتح الباب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم، وخذ من المال ما حل وطاب، وأقسمه بالحق والعمل، وأنا ضامن من هرب منك أن يعود إليك! فقال المنصور: نفعل إن شاء الله تعالى. وجاءه المؤذنون فآذنوه بالصلاة، فقام وصلى. فلما قضى صلاته طلب الرجل فلم يجده. فقال لصاحب الشرطة: علي بالرجل الساعة فخرج يتطلبه، فوجده عند الركن اليماني، فقال له: أجب أمير المؤمنين. فقال له: ليس إلى ذلك سبيل. فقال: إذا يضرب عنقي! فقال: لا، ولا إلى ضرب عنقك من سبيل. ثم أخرج من مزود كان معه رقاً مكتوباً، فقال: خذه فإن فيه دعاء الفرج، من دعا به صباحاً، ومات من يومه مات شهيداً، ومن دعا به مساء، ومات من ليلته مات شهيداً، وذكر له فضلا عظيماً وثواباً جزيلا. فأخذه صاحب الشرطة، وأتى المنصور فلما رآه قال له: ويلك أو تحسن السحر! قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قص عليه فأمر المنصور بنقله، وأمر له بألف دينار. وهو هذا: اللهم كما لطفت في عظمتك وقدرتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك ما فوق عرشك، فكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل غم وهم أصبحت أو أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً، اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، مما قصرت فيه فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً، فإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي، فيما بيني وبينك تتودد إلي بالنعم، وأتبغض إليك بالمعاصي، فلم أجد كريماً أعطف منك على عبد لئيم مثلي، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فجد اللهم بفضلك وإحسانك علي، إنك أنت الرؤوف الرحيم. وروي أن الرجل المذكور كان الخضر عليه السلام.
الفينة: طائر يشبه العقاب، إذا خاف البرد انحدر إلى اليمن، قاله ابن سيده. والفينات الساعات يقال لقيته الفينة بعد الفينة، أي الحين بعد الحين، وإن شئت حذفت الألف واللام، فقلت: لقيته فينة بعد فينة، فكأن هذا الطائر لما كان في حين ينحدر إلى اليمن، وفي حين آخر يذهب عنها سمي باسم الزمان.
أبو فراس: كنية الأسد، يقال: فرس الأسد فريسته يفرسها فرساً وافترسها، أي دق عنقها وأصل الفرس هذا ثم كثر حتى قيل لكل قتل فرس، وبه سمي أبو فراس بن حمدان، أخو سيف الدولة بن حمدان، وكان ملكاً جليلا وشاعراً مجيداً حتى قيل: بدئ الشعر بملك، وختم بملك: بدئ بامرئ القيس واسمه حندج، وختم بأبي فراس. ونظير ذلك قولهم: بدئت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد والله تعالى أعلم.

باب القاف
القادحة: الدودة، يقال: قدح الدود في الأسنان والشجر قدحاً. قاله الجوهري.
القارة: الدبة.
القارية: كسارية، هذا الطائر القصير الرجلين، الطويل المنقار، الأخضر الظهر، تحبه العرب وتتيمن به، ويشبهون به الرجل السخي. وهي مخففة قال الشاعر:
أمن ترجيع قارية تركتم ... سباياكم وأبتم بالعناق
قال ابن الأعرابي: معنى البيت أفزعتم لما سمعتم ترجيع هذا الطائر وتركتم سباياكم ورجعتم بالخيبة؟ فالعناق هنا الخيبة، والجمع القواري. قال يعقوب: والعامة تقول: قارئة بالتشديد. كذا قاله الجوهري. وقال البطليوسي، في الشرح: العرب تتيمن بالقواري وتتشاءم بها، فأما تيمنهم بها فإنها تبشر بالمطر، إذا جاءت. والسماء خالية من السحاب. قال النابغة الجعدي:
ولا زال يسقيها ويسقي بلادها ... من المزن زحاف يسوق القواريا
وأما تشاؤمهم بها، فإن أحدهم إذا لقي منها واحدة من غير غيم ولا مطر خاف ورجع. وقال ابن سيده: القارية طير خضر يحبها الأعراب، ويشبهون الرجل السخي بها، وذلك لأنها تنذر بالمطر.
قال بعضهم: ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس قواري الله في الأرض " . أي شهوده، لأن بعضهم يتبع أحوال بعض، فإذا شهدوا الإنسان بخير أو شر فقد وجب، والقواري واحدها قار وهو جمع شاذ.
قلت: ويدل لصحة هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: " أنتم شهداء الله في الأرض " .

وحكمها: الحل لأن العرب كانت تأكلها، قاله الصيمري وغيره، وقالوا في كتاب الحج: الحمام يفدى بشاة، وما دونه من القواري وغيرها يفدى بالقيمة. وهذا دليل على حل أكلها، وتصريح بأن القارية ليست من الحمام. وكلام أهل اللغة لا يساعده. فقد قال ابن السكيت، في إصلاح المنطق: القواري طيور خضر لها ترجيع. وقد تقدم تفسير هدير الحمام بالترجيع في صوته، وتقدم أن غير الحمام يشاركه في اللعب وإذا كان غير الحمام يشاركها في اللعب ألغى اعتباره، ووجب اعتبار الهدير وهو الترجيع، فوجب أن تكون القارية من الحمام، وأنها تفدى بشاة دون القيمة، كسائر الحمام وللنظر في هذا التعارض مجال.
القاق: طائر مائي طويل العنق.
وحكمه: حل الأكل كما تقدم.
القاقم: دويبة تشبه السنجاب، إلا أنه أبرد منه مزاجاً وأرطب، ولهذا هو أبيض يقق، ويشبه جلده جلد الفنك، وهو أعز قيمة من السنجاب.
وحكمه: الحل لأنه من الطيبات.
القانب: الذئب العواء والمقانب الذئاب الضاربة، وقد تقدم لفظ الذئب في باب الذال المعجمة.
القاوند: طائر يتخذ وكره على ساحل البحر، ويحضن بيضه سبعة أيام في الرمل، ويخرج أفراخه في اليوم السابع، ثم يزقها سبعة أيام أيضاً، والمسافرون في البحر يتيمنون بهذه الأيام، ويوقنون بطيب الوقت وحلول أوان السفر. وقيل: إن الله تعالى إنما يمسك البحر عن هيجانه في زمن الشتاء، عن بيض هذا الطائر وفراخه، لبره بأبويه، عند كبرهما، وذلك أنهما إذا كبرا حمل إليهما قوتهما، وعالهما حياتهما إلى أن يموتا. وهذا الطائر المتخذ منه شحم القاوند المعروف، وهو يقيم المقعد ويحلل البلاغم المزمنة. وفي المفردات: دهن القاوند معروف كالسمن، يؤتى به من بلاد اليمن، ومن الحبشة والهند، ويقال إنه يستخرج من ثمر شجرة كالجوز، ويطحن في المعاصر، ويستخرج، ينفع الأمراض الباردة وأوجاع الأعصاب.
القبج: بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة، وبالجيم في آخره، واحدة قبجة الحجل، والقبجة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى، حتى تقول: يعقوب، فيختص بالذكر، وكذلك الدراجة حتى تقول حيقطان، والبومة حتى تقول صدي أوفياد، والحبارى حتى تقول خرب، وكذا النعامة حتى تقول ظليم، والنحلة حتى تقول يعسوب، ومثله كثير.
وقال كراع في المجرد: القبج فارسي معرب، لأن القاف والجيم أو الكاف لا يجتمعان في كلام العرب، كالجوالق وجلق والقبج والكليجة وهو مكيال صغير، وما كان نحو ذلك. وفراخ القبج تخرج كما الفراريج، كما تقدم، وإناثه تبيض خمس عشرة بيضة، والذكر يوصف بالقوة على السفاد، كما يوصف الديك والعصفور، ولكثرة سفاده يقصد موضع البيض، فيكسره لئلا تشتغل الأنثى بحضنه عنه، ولهذا، الأنثى إذا أتى أوان بيضها، تهرب وتختبئ رغبة في الفراخ، وهي إذا هربت بهذا السبب ضاربت الذكور بعضها بعضاً، وكثر صياحها، ثم إن المقهور يتبع القاهر، ويسفد القوي الضعيف، والقبج يغير أصواته بأنواع شتى، بقدر حاجته إلى ذلك، ويعمر خمس عشرة سنة، ومن عجيب أمرها ما حكاه القزويني: أنها إذا قصدها الصياد، خبأت رأسها تحت الثلج، وتحسب أن الصياد لا يراها، وذكورها شديدة الغيرة على إناثها، والأنثى تلقح من رائحة الذكر، وهذا النوع كله يحب الغناء والأصوات الطيبة، وربما وقعت من أوكارها عند سماع ذلك فيأخذها الصياد.
وحكمها: حل الأكل لأنها من الطيبات.
الخواص: قال عبد الملك بن زهر: مرارة الذكر منها، إذا اكتحل بها تنفع من نزول الماء، وإن خلطت مع ماء الرازيانج واكتحل بها أبرأت من العشى بالليل، وشحمه ينفع السكتة واللوقة سعوطاً، وقال أرسطو: مرارة القبج، إذا خلطت بدهن زئبق وسعط بها المحموم ساعة يحم، فإنه يبرأ. قال: وصفة صيدهن أن يعجن لهن دقيق الشعير بالخمر، ويوضع لهن حتى يأكلن، فإذا أكلنه سكرن. فيصيدن.
القبرة: بضم القاف وتشديد الباء الموحدة واحدة القبر، قال الجوهري: وقد جاء في الشعر قنبرة كما تقوله العامة، وقال البطليوسي، في شرح أدب الكاتب: وقنبرة أيضاً بإثبات النون، قال: وهي لغة فصيحة، وهو ضرب من الطير يشبه الحمرة، وكنية الذكر منه أبو صابر وأبو الهيثم، والأنثى أم العلعل قال طرفة وكان يصطادها:
يا لك من قبرة بمعمر ... خلالك الجو فبيضي واصفري
قد رفع الفخ فماذا تحذري ... ونقري ما شئت أن تنقري

قد ذهب الصياد عنك فابشري ... لا بد من أخذك يوماً فاحذري
والسبب في قوله ذلك أنه كان مع عمه في سفر وهو ابن سبع سنين فنزلوا على ماء، فذهب طرفة بفخ له، فنصبه للقنابر وبقي عامة يومه لم يصد شيئاً ثم حمل فخه وعاد إلى عمه، فحملوا ورحلوا من ذلك المكان، فرأى القنابر يلقطن ما نثر لهن عن الحب، فقال ذلك. قال أبو عمرو: والمراد بالجو هنا ما اتسع من الأودية، وحذف طرفة النون من قوله: فماذا تحذري، لو فاق القافية أو لالتقاء الساكنين، قال أبو عبيدة: يروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال لابن الزبير، حين خرج الحسين رضي الله تعالى عنه إلى العراق:
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ولطرفة بن العبد، قصة عجيبة مع عمرو بن المنذر بن امرئ القيس، لما كتب له وللمتلمس صحيفتين، ويقال له عمرو بن هند، وكان لا يبتسم ولا يضحك، وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة لشدة ملكه، فإنه ملك ثلاثاً وخمسين سنة، وكانت العرب تهابه هيبة شديدة. وقال السهيلي: إنه هو عمرو بن المنذر بن ماء السماء، وهند أمه وسمي أبوه المنذر بابن ماء السماء لشدة جماله، وهو المنذر بن الأسود، ويعرف عمرو بمحرق، لأنه حرق مدينة يقال لها ملهم، وهي عند اليمامة، وقال العتبي والمبرد: سمي محرقاً لأنه حرق مائة من بني تميم. ملك ثلاثاً وخمسين سنة.
وكان طرفة غلاماً معجباً فجعل يتخلج في مشيته بين يديه، فنظر إليه نظرة كادت تبتلعه من مجلسه، فقال له المتلمس حين قاما: يا طرفة إني أخاف عليك من نظرته إليك، فقال طرفة: كلا. ثم إنه كتب لهما كتابين إلى المكعبر وكان عامله على البحرين وعمان، فخرجا من عنده وسارا حتى إذا هبطا بأرض قريبة من الحيرة، فإذا هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرز ويقصع القمل، فقال له المتلمس: بالله ما رأيت شيخاً أحمق وأضعف وأقل عقلا منك! فقال له: وما الذي أنكرت علي؟ فقال: تتبرز وتأكل وتقصع القمل! قال: إني أخرج خبيثاً، وأدخل طيباً، وأقتل عدواً! ولكن أحمق مني والأم حامل حتفه بيمينه، لا يدري ما فيه! فتنبه المتلمس، وكأنما كان نائماً، فإذا هو بغلام من أهل الحيرة يسقي غنيمة له من نهر الحيرة، فقال له المتلمس: يا غلام أتقرأ؟ قال: نعم. قال: اقرأ هذه، فإذا فيها باسمك اللهم، من عمرو بن هند إلى المكعبر، إذا أتاك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً. فألقى الصحيفة في النهر، وقال: يا طرفة معك والله مثلها. فقال: كلا، ما كان ليكتب لي مثل ذلك. ثم أتى طرفة إلى المكعبر، فقطع يديه ورجليه ودفنه حياً. فضرب المثل بصحيفة المتلمس، لمن يسعى في حتفه بنفسه، ويغرر بها. وستأتي الإشارة إلى هذه القصة، في باب الكاف، في لفظ الكروان.
وكان سبب إحراق عمرو بن هند لبني تميم، كما قاله العتبي والمبرد أن عمراً كان له أخ، وهو أسعد بن المنذر، وكان مسترضعاً في بني دارم، فانصرف ذات يوم من صيده وبه نبيذ، فمر بابل لسويد بن ربيعة التميمي، فنحر منها بكرة فرماه سوبد بسهم فقتله. فلما سمع عمرو بن هند بقتل أخيه حلف ليحرقن منهم مائة رجل، فأخذ منهم تسعة وتسعين رجلا، فقذفهم في النار، ثم أراد أن يبر قسمه بعدوز منهم ليكمل العدد، فقالت: هلا فتى يفدي هذه العجوز بنفسه؟ ثم قالت: هيهات صارت الفتيان حمماً! ومر وافد البراجم، فاشتم رائحة اللحم، فظن أن الملك قد اتخذ طعاماً، فعرج إليه فأتى به إليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا وافد البراجم، فقال له عمرو: إن الشقي وافد البراجم، فذهبت مثلا ثم أمر به فقذف في النار، وقد أشار إلى ذلك ابن دريد في مقصورته بقوله:
ثم ابن هند باشرت نيرانه ... يوم أوارات تميماً بالصلى
وأورات موضع، وهو جمع واحدة أوارة، وتميم قبيلة، والصلى وهج النار. والقبرة غبراء كبيرة المنقار كأنما على رأسها قبرة، وهذا الضرب من العصفور قاسي القلب، وفي طبعه أنه لا يهوله صوت صائح، وربما رمي بالحجر، فاستخف بالرامي ولطأ بالأرض، حتى يتجاوز الحجر، وبهذا السبب لا يزال مأخوذاً أو مقتولا، لأن الرامي يحمله الحنق عليه على مداومة ضربه حتى يصيبه، وهو يضع وكره على الجادة حباً للأنس.

روى الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، بإسناده عن داود بن أبي هند، قال: صاد رجل قبرة، فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك وآكلك! فقالت: والله إني لا أسمن ولا أغني من جوع، وما أشفي من قرم، ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أما الواحدة فأعلمك إياها وأنا على يدك، والثانية إذا صرت على الشجرة، والثالثة إذا صرت على الجبل. قال: نعم. فقالت وهي على يده: لا تأسفن على ما فاتك، فخلى عنها، فلما صارت على الشجرة قالت: لا تصدقن بما لا يكون، فلما صارت على الجبل، قالت: يا شقي لو ذبحتني لوجدت في حوصلتي درة وزنها عشرون مثقالا. قال: فعض على شفته وتلهف، ثم قال: هاتي الثالثة. فقالت: قد نسيت الثنتين الأوليين، فكيف أعلمك الثالثة. قال: وكيف؟ قالت: ألم أقل لك لا تأسفن على ما فاتك وقد تأسفت علي، وقلت لك: لا تصدقن بما لا يكون؟ وقد صدقت فإنه لو جمعت عظامي وريشي ولحمي لم تبلغ عشرين مثقالا، فكيف يكون في حوصلتي درة وزنها عشرون مثقالا.
وحكى القشيري في رسالته، عن ذي النون المصري رحمه الله، أنه سئل عن سبب توبته، فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى فنمت في بعض الصحارى، ثم فتحت عيني فإذا أنا بقبرة عمياء سقطت من وكرها، فانشقت لها الأرض، وخرج منها سكرجتان إحداهما فضة وللأخرى ذهب، في إحداهما سمسم والأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذه وتشرب من هذه، قال: فتبت ولزمت الباب إلى أن قبلني، وعلمت أن من لم يضيع القبرة لا يضيعني.
وحكمها: حل الأكل بالإجماع، ووجوب الجزاء على المحرم بقتلها.
الخواص: لحمها يحبس البطن ويزيد في الباه، وبيضها يفعل ذلك، وإذا ديف زبلها بريق إنسان وطلي به الثآليل قطعها، وإذا كرهت المرأة زوجها، فليطل ذكره بشحمها ويجامعها، فإنها تحبه.
تتمة: في الأسماء قنبر، بضم القاف وإسكان النون وفتح الباء الموحدة، جد سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر، وسيبويه لقب له، وهي لفظة أعجمية معناها رائحة التفاح وقنبر بضمتين جد إبراهيم بن علي بن قنبر البغدادي، عن نصر الله القزاز وجد أبي الفتح محمد بن أحمد بن قنبر البزاز وغيرهما، وأما قنبر بفتح القاف والباء فأبو الشعثاء قنبر، وهو يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره ذكره ابن حبان في الثقات وقنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال ابن أبي حاتم: روي عن علي كرم الله وجهه ورضي عنه، وكان حاجبه.
قال الشيخ في المهذب، في كتاب القضاء: ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجباً، لأن يرفأ كان حاجب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، والحسن كان حاجب عثمان رضي الله تعالى عنه، وقنبر كان حاجب علي رضي الله تعالى عنه. قال محمد بن السماك: من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المداراة ترك المماراة. قيل: جلس أبو يوسف يعقوب بن السكيت يوماً مع المتوكل، وكان يؤدب أولاده، فجاءه المعتز والمؤيد ولدا المتوكل فقال له: يا يعقوب أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فقال: والله إن قنبراً خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل للأتراك: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك، فمات في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين. ثم إن المتوكل أرسل لولده عشرة آلاف درهم، وقال: هذه دية والدك. كذا حكاه ابن خلكان في ترجمته . ومن العجب أنه كان قبل ذلك بيسير أنشد لولدي المتوكل وهو يعلمهما:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته بالقول تذهب رأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل
ومن محاسن شعر ابن السكيت:
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكارة واستقرت ... وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك عفو ... يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها فرج قريب
وعرف أبوه بالسكيت، لأنه كان كثير السكوت، طويل الصمت، وكل ما كان على فعيل أو فعليل فإنه مكسور الأول. وكان ابن السكيت، رحمه الله، إماماً في اللغة، مكثراً من نقل الغريب، وله تصانيف مفيدة.

القبعة: بضم القاف وتخفيف الباء الموحدة، والعين المهملة المفتوحتين، طير أبقع مثل العصفور، يكون عند حجرة الجرذان، فإذا فزع أو رمي بحجر انقبع فيها. ذكره ابن السكيت المذكور قبله. وقوله: انقبع فيها أي دخل الجحر فالتجأ فيه.
القبيط: كحمير طائر معروف.
القتع: بفتح القاف والتاء المثناة والعين المهملة، دود يكون في الخشب يأكله، الواحدة قتعة ينزو ثم يقع.
ابن قترة: ضرب من الحيات لا يسلم من لدغته، وقيل: هو ذكر الأفعى، وهو نحو من الشبر، وأبو قترة كنية إبليس قاله ابن سيده وغيره.
القدان: بكسر القاف وبالدال المهملة المشددة. البراغيث، قاله ابن سيده. وقال غيره: هو دويبة تقرب من البرغوث تقرص قال الراجز:
يا أبتا أرقني القدان ... فالنوم لا تطعمه العينان
قاله أبو حاتم في كتاب الطير، وقيل: القدان يوجد كثيراً بالبلاد والطرق الرملة، والناس يسمونه الدلم يقرص الإبل وغيرها.
القراد: واحد القردان، يقال قرد بعيرك أي انزع منه القراد، وقد تقدم الكلام عليه في الحلم. وقد ذكرنا أن مذهبنا استحباب قتل القراد في الإحرام وغيره، وقال العبدري: يجوز للمحرم عندنا أن يقرد بعيره، وبه قال ابن عمر وابن عباس وأكثر الفقهاء، وقال مالك: لا يقرده. قال ابن المنذر: وممن أباح تقريد البعير عمر وابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وكرهه ابن عمر ومالك. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في المحرم يقتل قرادة: يتصدق بتمرة أو تمرتين. قال ابن المنذر: وبالأول أقول. وتقريد البعير أن سينزع القراد منه، وفسره ابن الأثير وغيره بأنه الطبوع الذي يلصق بجسمه. وفي تصديق كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه:
يمشي القراد عليها ثم يزلقه ... عنها لبان وأقراب زهاليل
اللبان الصدر، والأقراب الخواصر، والزهاليل الملس. وفي حديث أبي جهل، أن محمداً نزل يثرب وأنه حنق عليكم، نفيتموه نفي القراد عن المسامع. يعني الآذان أي أخرجتموه من مكة إخراج استئصال، لأن أخذ القراد عن الدابة قلعه بالكلية، والأذن أخف الأعضاء شعراً، بل أكثرها لا شعر عليه، فيكون النزع منها أبلغ.
الأمثال: قالوا: أسمع من قراد ، وذلك أنه يسمع وطء أخفاف الإبل من مسيرة يوم، فيتحرك لها، قال أبو زياد الأعرابي: ربما رحل الناس عن عيارهم بالبادية وتركوها قفاراً، والقردان منتشرة في أعطان الإبل، ثم لا يعودون إليها عشر سنين وعشرين سنة، ولا يخلفهم فيها أحد سواهم، ثم يرجعون إليها فيجدون القردان في تلك المواضع أحياء، وقد أحست بروائح الإبل قبل أن توافي فتتحرك لها، ولذلك قالت العرب: أعمر من قراد. وقال حمزة: العرب تزعم أن القراد يعيش سبعمائة سنة، وهذا من أكاذيبهم، وإنما الضجر منهم به دعاهم إلى هذا القول فيه.
وهو في الرؤيا: يدل على الأعداء والحساد الأخساء، وإن رأى الدلم منتشراً في الأرض والرمل، فهو كذلك أيضاً والله تعالى أعلم.
القرد: حيوان معروف، وكنيته أبو خالد وأبو حبيب وأبو خلف وأبو ربة وأبو قشة، وهو بكسر القاف وسكون الراء، وجمعه قرود، وقد يجمع على قردة، بكسر القاف وفتح الراء المهملة، والأنثى قردة بكسر القاف وإسكان الراء، وجمعها قرد بكسر القاف وفتح الراء، مثل قربة وقرب. وهو حيوان قبيح مليح ذكي سريع الفهم يتعلم الصنعة.
حكي أن ملك النوبة أهدى إلى المتوكل قرداً خياطاً، وآخر صائغاً. وأهل اليمن يعلمون القردة القيام بحوائجهم حتى إن القصاب والبقال يعلم القرد حفظ الدكان حتى يعود صاحبه، ويعلم السرقة فيسرق.
نقل الشيخان عن القاضي حسين أنه قال: لو علم القرد النزول إلى الدار وإخراج المتاع، فنقب وأرسل القرد فأخرج المتاع، ينبغي أن لا يقطع لأن للحيوان اختياراً. ونقل البغوي في باب حد الزنا أن المرأة لو مكنت من نفسها قرداً فوطئها. فعليها ما على واطئ البهيمة فتعزر في الأصح، وتحد في قول، وتقتل في قول.

فائدة: قال ابن عباس وعكرمة رضي الله تعالى عنهم في قوله تعالى: " الذي أحسن كل شيء خلقه، أي أتقنه وقالا: ليست است القرد حسنة، ولكنها متقنة محكمة، فجميع المخلوقات حسنة، وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن. قال الله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " . والقردة تلد في البطن الواحد العشرة، والإثني عشر، والذكر ذو غيرة شديدة على الإناث. وهذا الحيوان شبيه بالإنسان في غالب حالته، فإنه يضحك ويطرب ويقعى ويحكي، ويتناول الشيء بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر، ويقبل التلقين والتعليم، ويأنس بالناس، ويمشي على أربع مشيه المعتاد ويمشي على رجليه حيناً يسيراً، ولشفر عينيه الأسفل أهداب، وليس ذلك لشيء من الحيوان سواه.
وهو كالإنسان، وإذا سقط في الماء غرق كالآدمي الذي لا يحسن السباحة، ويأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الإناث، وهما خصلتان من مفاخر الإنسان وإذا زاد به الشبق، استمنى بفيه، وتحمل الأنثى أولادها، كما تحمل المرأة، ومن سر هذا الحيوان أن الطائفة من هذا النوع، إذا أرادت النوم ينام الواحد في جنب الآخر، حتى يكونوا سطراً واحداً، وإذا تمكن النوم منها، نهض أولها من الطرف الأيسر، فإذا قعد صاح فينهض من كان يليه، ويفعل كفعله حتى يكون هذا إلى آخرهم، يفعلون ذلك في الليل كله مراراً، وسبب ذلك أنه يبيت في أرض ويصبح في أخرى، وفيه من قبول التأديب والتعليم ما لا يخفى. ولقد درب قرد ليزيد على ركوب الحمار، وسابق به مع الخيل، وفيه يقول يزيد لما سبق بأتان ركبها فارساً:
من مبلغ القرد الذي سبقت به ... جواد أمير المؤمنين أتان
تعلق أبا قش بها إن ركبتها ... فليس عليها إن هلكت ضمان
روى ابن عدي، في كامله، عن أحمد بن طاهر بن حرملة بن أخي حرملة بن يحيى، أنه قال: رأيت بالرملة قرداً يصوغ، فإذا أراد أن ينفخ، أشار إلى رجل حتى ينفخ له. وفيه، في ترجمة محمد بن يوسف بن المنكدر عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا رأى القرد خر ساجداً " .
وهو في المستدرك، قبيل كتاب الجمعة. ذكره شاهداً، وفيه في ترجمة ضمام بن إسماعيل، أنه روى عن أبي قنبل، أن معاوية صعد المنبر يوم جمعة، فقال في خطبته: أيها الناس إن المال مالنا، والفيء فيؤنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يجبه أحد. فلما كان في الجمعة الثانية، قال كذلك فلم يجبه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال كذلك، فقام إليه رجل فقال: كلا يا معاوية، ألا إن المال مالنا، والفيء فيؤنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله تعالى بأسيافنا. فنزل معاوية، وأرسل إلى الرجل، فأدخل عليه، فقال القوم: هلك الرجل، ثم فتح معاوية الأبواب، فدخل عليه الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير! فقال معاوية: أيها الناس إن هذا الرجل أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة " ، وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد شيئاً، فخشيت أن كون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد علي أحد شيئاً، فقلت في نفسي أنت من القوم، فتكلمت في الجمعة الثالثة، فقام إلي هذا الرجل، فرد علي فأحياني، أحياه الله، فرجوت أن يخرجني الله منهم. ثم أعطاه وأجازه. ورواه ابن سبع، في شفاء الصدور كذلك، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي ورجاله ثقات.
وذكر القزويني في عجائب المخلوقات، أن من تصبح بوجه قرد، عشرة أيام، أتاه السرور ولا يكاد يحزن، واتسع رزقه وأحبته النساء حباً شديداً، وأعجبن به. وفيما قاله نظر ظاهر. فائدة أخرى: روى الإمام أحمد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجلا حمل معه خمراً في سفينة ليبيعه، ومعه قرد قال: فكان الرجل إذا باع الخمر، ثابه بالماء ثم باعه، قال: فأخذ القرد الكيس، فصعد به فوق الدقل، فجعل يطرح ديناراً في البحر وديناراً في السفينة حتى قسمه " .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12