الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري

بضم الدال وفتح الراء المهملتين كنيته أبو الحجاج وأبو خطار وأبو ضبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الضاد المعجمة الساقطة واحدته دراجة، هو طائر مبارك، كثير النتاج، مبشر بالربيع، وهو القائل: " بالشكر تدوم النعم " وصوته مقطع على هذه الكلمات، وتطيب نفسه على الهواء الصافي، وهبوب الشمال، ويسوء حاله بهبوب الجنوب، حتى إنه لا يقدر على الطيران، وهو طائر أسود باطن الجناحين، وظاهرهما أغبر على خلقة القطا إلا أنه الطف. والدراج إسم يطلق على الذكر والأنثى، حتى تقول الحيقطان: فيختص بالذكر، وأرض مدرجة أي ذات دراج. كذا قاله الجوهري. وقال سيبويه: واحدة الدراج درجوج، والديلم ذكر الحراج وقال ابن سيده: الدراج طائر شبيه بالحيقطان، وهو من طير العراق قال ابن دريد أحسبه مولداً وهو الحرجة مثل الرطبة. وأما الجاحظ فجعله من أقسام الحمام لأنه يجمع فراخه تحت جناحيه، كما يجمع الحمام من شأنه أنه لا يجعل بيضه في موضع واحد، بل ينقله لئلا يعرف أحد مكانه ولا يتسافد في البيوت وإنما يفعل ذلك في البساتين قال أبو الطيب المأموني يصف دراجة:
قد بعثنا بذات حسن بديع ... كنبات الربيع بل هي أحسن
في رداء من جلنار وآس ... وقيص من ياسمين وسوسن
وسيأتي إن شاء الله تعالى في القبج زيادة في نعتها في باب القاف، قال الجاحظ: وهو من الخلق الذي لا يسمن بل يعظم وإذا عظم لم يحمل اللحم.
وحكمه: الحل لأنه إما من الحمام أو من القطا وهما حلالان.
الأمثال: قالوا : " فلان يطلب الدراج من خيس الأسد " يضرب لمن يطلب ما يتعذر وجوده.
الخواص: يؤخذ شحمه فيذوب بدهن كادي ويقطر في الأذن الوجعة ثلاث قطرات، يسكن وجعها بإذن الله. تعالى. قال ابن سينا: لحمه أفضل من لحم الفواخت، واعدل والطف. وأكله يزيد في الدماغ والفهم والمني.
التعبير: الدراج في المنام مال، وقيل امرأة أو مملوك. فمن ملكه أو رآه عنده فإنه يملك مالاً أو سرية أو مملوكاً أو يتزوج والله أعلم.
الدراج: بفتح الدال والراء المهملتين القنفذ، صفة غالبة عليه لأنه يدرج ليله كله. قاله ابن سيده.

فائدة أجنبية
استدراج الله تعالى العبد، أنه كلما جدد خطيئة. جدد الله له نعمة وأنساه الاستغفار وأن يأخذه قليلاً قليلاً ولا يباغته.
روى: أحمد في الزهد عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد، من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج " ثم قوله تعالى: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " قال ابن عطية: روي عن بعض العلماء أنه قال: رحم الله امرءاً تدبر هذه الآية " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " ، وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة وقال الحسن. والله ما أحد من الناس بسط الله تعالى له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص في عمله وعجز في رأيه ما أمسكها الله تعالى عن عبد، فلم يظن أنه خير له فيها، إلا كان قد نقص في عمله، وعجز في رأيه. وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام، إذا رأيت الفقر مقبلاً إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين. وإذا رأيت الغنى مقبلاً إليك فقل: ذنب عجلت عقوبته.
الدرباب: طائر مركب من الشقراق والغراب، وذلك بين في لونه، وهو كما قال أرسطاطاليس في النعوت: إنه طائر يحب الأنس، ويقبل التأديب والتربية، وفي صفيره وقرقرته أعاجيب، وذلك أنه ربما أفصح بالأصوات وقرقر كالقمري وربما حمحم كالفرس وربما صفر كالبلبل وغذاؤه من النبت والفاكهة واللحم وغير ذلك، ومألفه الغياض والأشجار الملتفة. انتهى قلت وهذه صفة الطائر المسمى عند الناس بأبي زريق فإنه على هذا النعت الذي ذكره. ويقال له القيق أيضاً وسيأتي إن شاء الله تعالى له مزيد بيان في باب القاف.
الدرحرج: قال القزويني: إنها دويبة مبرقشة بحمرة وسواد يقال إنها سم، من أكلها تقرحت مثانته، وسد بوله وأظلم بصره، وتورم قضيبه وعانته، ويرض له اختلاط في عقله.
وحكمها: التحريم لضررها بالبدن والعقل.

الدرص: بكسر الدال ولد القنفذ والأرنب واليربوع والفأرة والهرة والذئبة ونحوها والجمع ادراص ودرصة. قال السهيلي في التعريف والإعلام: العرب تقول للأحمق أبو دراص للعبه بالأدراص، وهو جمع درص، وهو ولد الكلبة وولد الهرة ونحو ذلك. وكنية اليربوع أم أدراص قاله الأصمعي.
الأمثال: قالت العرب: " ضل دريص نفقه " أي جحره يضرب لمن لا يعبأ بأمره قال طفيل :
فما أم أدراص بأرض مضلة ... بأغدر من قيس إذا الليل أظلما
الدرة: بضم الدال المهملة الببغاء المتقدمة في باب الموحدة. حكى الشيخ كمال الدين جعفر الأدفوي في كتابه الطالع السعيد في ترجمة محمد بن محمد النصيبي القوصي الفاضل المحدث الأديب، أنه أخبره أنه حضر مرة عند عز الدين بن البصراوي الحاجب بقوص، وكان له مجلس يجتمع فيه الرؤساء والفضلاء والأدباء، فحضر الشيخ علي الحريري، وحكى أنه رأى ذرة تقرأ سورة يس، فقال النصيبي: وكان غراب يقرأ سورة السجدة فإذا جاء إلى السجدة سجد ويقول سجد لك سوادي واطمأن بك فؤادي.
الدساسة: بفتح الدال حية صماء تندس تحت التراب اندساساً أي تندفن وقيل: هي شحمة الأرض. وستأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة.
الدعسوقة: بفتح الدال دويبة كالخنفساء وربما قيل ذلك للصبية والمرأة القصيرة تشبيهاً بها قاله في المحكم وفي مختصر العين للزبيدي أيضاً إلا أنه ضبطه بالقلم بفتح الدال في نسخة صحيحة.
الدعموص: بضم الدال دويبة تغوص في الماء، والجمع الدعاميص، كبرغوث وبراغيث، وقال السهيلي: الدعموص سمكة صغيرة كحية الماء، ودعيميص إسم رجل كان داهياً سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأمثال، ويقال: " هذا دعيميص هذا الأمر " أي عالم به انتهى. روى مسلم عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قد مات لي اثنان من الولد، فهل أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم. " صغاركم دعاميص الجنة " أي لا يمنعون من بيت، فيلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بيده أو بثوبه كما آخذ أنا ببعض ثوبك هذا فيقول: هذا فلان فلا يتناهى حتى يدخل هو وأبوه الجنة. وفي الحديث أن رجلاً زنى فمسخه الله تعالى دعموصاً. وبعضهم يقول الدعموص هو الآذن على الملك المصرف بين يديه قال أمية بن أبي الصلت:
دعموص أبواب الملو ... ك و حاجب للخلق فاتح
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، في الكلام على هذا الحديث: الدعاميص بفتح الدال جمع دعموص بضمها، وهي دويبة صغيرة يضرب لونها إلى سواد تكون في الغدران، شبه الطفل بها في الجنة لصغره وسرعة حركته. وقيل: هو إسم للرجل الزوار للملوك، الكثير الدخول عليهم. والخروج، لا يتوقف على أذن منهم، ولا يخاف أين يذهب من ديارهم، شبه طفل الجنة به لكثرة ذهابه في الجنة حيث شاء، لا يمتنع من بيت فيها ولا موضع، وهذا قول ظاهر انتهى. قال الجاحظ: إذا كبر الناموس صار دعاميص وهو يتولد من الماء الراكد، وإذا كبر صار فراشاً، ولعل هذا هو عمدة من جعل الجراد بحرياً. والدعموص من الخلق الذي لا يعيش في ابتداء أمره إلا في الماء، ثم بعد ذلك يستحيل بعوضاً وناموساً.
فائدة: في فتاوى القاضي حسين، أن دود الماء لو انشق أو ذاب، فخر منه ماء، كان ذلك الماء طهوراً يجوز منه التوضؤ، وعلله بأن هذا الدود ليس بحيوان، بل هو منعقد من بخار يصعد من الماء، فيشبه الدود، وهذا منه صريح في جواز شرب الدعاميص مع الماء، لأنها ماء منعقد ويحتمل أن يكون منه اختيار الأن دود الخل والفاكهة يعطى حكم ما يتولد منه حتى يجوز أكله منفرداً. كما هو وجه في المذهب موجهاً بأنه يشبهه طعماً وطبعاً. والظاهر أن هذا لا يوافق عليه والمشهور خلاف ما قاله تفسيراً و حكماً. وإن الدعموص محرم الأكل لاستقذاره لأنه من الحشرات.
الأمثال: قالوا: " أهور من دعيميص الرمل " . وهو عبد أسود كان داهية خريتا لم يكن يدخل في بلاد وبار غيره فقام في الموسم وقال:
فمن يعطني تسعا وتسعين بكرة ... هجاناً راد ما أهدها الوبار
فقام رجل عن مهرة وأعطاه ما سأل وتحمل معه بأهله وولده، فلما توسطوا الرمل طمست الجن عين دعيميص، فتحير وهلك هو ومن معه في تلك الرمال، وفي ذلك يقول الفرزدق.
كهلاك ملتمس طريق وبار.

الدغفل: كجعفر ولد الفيل، وذكر الثعالب أيضاً. وكان دغفل بن حنظلة النسابة، بني شيبان يسمى بذلك. روى عنه الحسن البصري شيئاً من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخولف فيه ويقاد: إن له صحبة ولم يصح، ولم يعرفه أحمد بن حنبل، وروى عنه الحسن أنه قال: " كان على النصارى صوم شهر رمضان فولي عليهم ملك، فمرض فنذر، إن شفاه الله أن يزيد الصوم عشراً، ثم كان عليهم ملك بعده، يأكل اللحم، فمرض فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل اللحم ويزيد الصوم ثمانية أيام، ثم كان ملك بعده فقال: ما ندع هذه الأيام إلا أن نتمها خمسين ونجعلها في الربيع فصارت خمسين يوما " . قال البخاري: لا يتابع دغفل على ذلك ولا يعرف للحسن سماع منه. وقال ابن سيرين: كان دغفل رجلاً عالماً، لكن اغتلمته النساء. أرسل إليه معاوية رضي الله تعالى عنه، يسأله عن أنساب العرب وعن النجوم وعن العربية وعن أنساب قريش فأخبره، فإذا هو رجل عالم فقال له من أين حفظت هذا يا دغفل؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول، فأمره أن يعلم ولم يزيد.
الدغناش: طائر صغير من أنواع العصافير أصغر من الصرد مخطط الظهر بحمرة مطوق بالسواد والبياض، وهو شرير الطبع شديد المنقار. يوجد كثيراً بسواحل البحر الملح وغيره. وحكمه: الحل لأنه من أنواع العصافير.
الدقيش: بضم الدال وفتح القاف، طائر صغير أصغر من الصرد وتسميه العامة الدقناس. وحكمه: كالذي قبله ولعله هو، ولكن تلاعبوا به فسموه تارة كذا وتارة كذا. وفي الصحاح قيل لأبي الدقيش الشاعر ما الدقيش؟ فقال: لا أدري إنما هي أسماء نسمعها فنتسمى بها! الدلدل: عظيم القنافذ. والدلدال الاضطراب، وقد تدلدل السحاب أي تحرك متدلياً، وبه سميت بغلة النبي صلى الله عليه وسلم التي أهداها له المقوقس. وفي حديث أبي مرثد الآتي إن شاء الله تعالى في باب العين، قالت " عناق البغي: يا أهل الخيام هذا الدلدل الذي يحمل أسراكم " وإنما شبهته بالقنفذ لأنه أكثر ما يظهر في الليل ولأنه يخفي رأسه في جسده ما استطاع. وقال الجاحظ: الفرق بين الدلدل والقنفذ، كالفرق بين البقر والجواميس والبخاتي والعراب والجرذ والفأر وهو كثير ببلاد الشام والعراق وبلاد المغرب في قدر الثعلب القلطي. وقال الإمام الرافعي: الدلدل على حد السخلة، ومن شأنه أن يسفد قائماً وظهر الأنثى لاصق بظهر الرجل. والأنثى تبيض خمس بيضات وليس هو بيضاً في الحقيقة، إنما هو على صورة البيض يشبه اللحم. ومن شأنه أن يجعل لجحره بابين: أحدهما في جهة الجنوب، والآخر في جهة الشمال. فإذا هبت ريح سد باب جهتها، وإذا رأى ما يكرهه القبض، فيخرج منه شوك كالمسال يجرح من أصابه، والشوك الذي على ظهره نحو الذراع، وزعم بعض المتكلمين على طبائع الحيوان، أن الشوك الذي على ظهره نحو الذراع شعر، وأنه لما غلظ البخار، واشتد غلظه، وغلب عليه اليبس، عند صعوده من المسام، صار شوكاً.
الحكم: نص الشافعي على حله، رواه عنه ابن ماجة وغيره. وقال الرافعي: قطع الشيخ أبو محمد بتحريمه في الوسيط أنه كان يعده من الخبائث. وقال ابن الصلاح: هذا غير مرضي وكأنه لم يعرف ما الدليل، واعتقد ما بلغنا عن الشيخ أبي أحمد الأشنهي أنه قال: الدلدل كبار السلاحف. وهذا غير مرضي، والمحفوظ أنه ذكر القنافذ وقطع بحله الماوردي والروياني وغيرهما وهو الصواب.
الأمثال: قالوا " أسمع من دلدل " .
وخواصه وتعبيره: كالقنافذ وستأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف.
الدلفين: الدخس وضبطه الجوهري في باب السين المهملة بضم الدال فقال: الدخس مثال الصرد دابة في البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين به على السباحة. ويسمى الدلفين وقال غيره: إنه خنزير البحر. وهو دابة تنجي الغريق وهو كثير بأواخر نيل مصر من جهة البحر الملح، لأنه يقذف به البحر إلى النيل وصفته كصفة الزق المنفوخ، وله رأس صغير جداً وليس في دواب البحر ماله رئة سواه فلذلك يسمع منه النفخ والنفس، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب في نجاته لأنه لا يزال يدفعه إلى البر حتى ينجيه، ولا يؤذي أحداً ولا يأكل إلا السمك. وربما ظهر على وجه الماء كأنه ميت وهو يلد ويرضع، وأولاده تتبعه حيث ذهب، ولا يلد إلا في الصيف، من طبعه الأنس بالناس وخاصة بالصبيان وإذا صيد جاءت دلافين كثيرة لقتال

صائده، وإذا لبث في العمق حينا حبس نفسه، وصعد بعد ذلك مسرعاً مثل السهم لطلب النفس، فإن كانت بين يديه سفينة وثب وثبة ارتفع بها عن السفينة، ولا يرى منها ذكر إلا مع أنثى.
الحكم: يحل أكله لعموم حل السمك إلا ما استثني منه، وليس هذا من المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الخواص: إذا غلي شحمه في حنظلة فارغة وقطر في الأذن نفع من الصمم، ولحمه بارد بطيء الهضم. وإذا علقت أسنانه على الصبيان يفزعوا. وأكل شحمه ينفع من أوجاع المفاصل. وشحم كلاه إذا أذيب بالنار، ودهن به مع دهن الزنبق وجه امرأة أحبها زوجها وطلب مرضاتها. وكفاه يعلقان على من يفزع فيذهب فزعه. وإذا وضع نابه الأيمن في دهن ورد سبعة أيام ومسح به وجه إنسان كان محبوباً عند عامة الناس ونابه الأيسر بالضد من ذلك.
التعبير: الدلفين تدل رؤيته على ما دلت عليه رؤية التمساح، وربما دلت رؤيته على المكايد، والاختفاء بالأعمال، وعلى التلصص واستراق السمع، وربما دلت رؤيته على كثرة الدعاء والمطر، قاله ابن الدقاق. وقال المقدسي: من رآه في المنام، وكان خائفاً، أمن ونجا لأنه ينجي الغرقي. وكل حيوان يرى مما يخشى منه في اليقظة كالتمساح ونحوه، إذا كان خارج الماء فهو عدو عاجز لا يقدر على مضرة من رآه في المنام، لأن قوته وبطشه في الماء فإذا خرج منه زالت قوته والله أعلم.
الدلق: بالتحريك فارسي معرب، وهو دويبة تقرب من السمور. قال عبد اللطيف البغدادي: إنه يفترس في بعض الأحايين ويكرع الدم. وذكر ابن فارس، في المجمل، إنه النمس، وفيه نظر. قال الرافعي: والدلق يسمى ابن مقرس وقال القزويني: إنه حيوان وحشي عدو الحمام إذا دخل البرج لا يترك فيه واحداً أو تنقطع الثعابين عند صوته، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في باب الميم على ابن مقرص وما وقع فيه للرافعي والنووي.
وفي رحلة ابن الصلاح، عن كتاب لوامع الدلائل، في زوايا المسائل للكيا الهراسي أنه قال: يجوز أكل الفنك والسنجاب والدلق والقاقم، والحوصل والزرافة كالثعلب. ثم إن ابن الصلاح كتب بخطه: الدلق النمس. فاستفدنا من هذا حل النمس والزرافة. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانهما في بابيهما.
الخواص: عينه اليمنى تعلق على من به حمى الربع تزول عنه بالتدريج، وإذا علق اليسرى عليه عادت. وشحمه إذا بخر به برج الحمام هربت كلها. وهو يزيل الكلال الحاصل للإنسان من أكل الحامض. ودمه يقطر في أنف المصروع منه نصف دانق ينفعه، وجلده يجلس عليه صاحب القولنج والبواسير ينفعه.
الدلم: نوع منا القراد، قالت العرب في أمثالها: " فلان أشد من الدلم " .
الدلهاما: قال القزويني: هو شيء يوجد في جزائر البحار، على هيئة إنسان راكب على نعامة، يأكل لحوم الناس الذين يقذفهم البحر، وذكر بعضهم أنه عرض لمركب في البحر فحاربهم وحاربوه، فصاح بهم صيحة خروا على وجوههم فأخذهم.
الدم: بكسر الدال السنور، حكاه في المحكم عن النضر في كتاب الوحوش.
الدنة: بتشديد النون دويبة كالنملة قاله ابن سيده.
الدنيلس: معروف وهو نوع من الصدف والحلزون، قال جبريل بن بختيشوع: إنه ينفع من رطوبة المعدة والاستسقاء.
وحكمه: حل الأكل لأنه من طعام البحر، ولا يعيش إلا فيه. ولم يأت على تحريمه دليل.

كذا أفتى به الشيخ شمس الدين بن عدلان وعلماء عمره وغيرهم. وما نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام من الافتاء بتحريم أكله لم يصح. فقد نص الشافعي على أن حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه يؤكل لعموم الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " . ووراء ذلك وجهان، وقيل قولان أحدهما يحرم لأنه صلى الله عليه وسلم خص السمك بالحل، والثاني ما أكل شبهه في البر، كالبقر والشاء حلال. وما لا كخنزير الماء وكلبه حرام وعلى هذا لا يؤكل ما أشبه الحمار وإن كان في البر الحمار الوحشي حلالاً. قال في كتاب التبيان: فيما يحل ويحرم من الحيوان للشيخ عمار الدين الاقفهسي، وقد نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه كان يفتي بتحريم الدنيلس، قال: وهذا مما لا يرتاب فيه سليم الطبع. قلت: وقد ذكر ارسطاطاليس، في كتابه نعوت الحيوان، أن السرطان لا يخلق بتولد ونتاج، وإنما يستحيل في الصدف أي يتخلق فيه ثم يخرج، ومنه ما يتولد ثم ينشق عنه الصحف ويخرج، كما أن البعوض يتولد من أوساخ المياه ونتنها. فقد استفدنا من كلام ارسطاطاليس أن ما في داخل الدنيلس وغيره، من الأصداف يستحيل سرطانات، وإذا كان الحيوان غير مأكول، فأصله كذلك إلا على القول الضعيف. وسمعت عن بعض الفقهاء أنه كان يفتي بحل الدنيلس، ويأخذه من كلام الأصحاب ما أكل مثله في البر، أكل مثله في البحر. وقال بن الدنيلس له نظير في البر، وهو الفستق، وهذه غباوة منه لأن مراد الأصحاب ما أكل في البر من حيوان أكل مثله في البحر. ثم هل يجب مع ذلك ذبحه أم لا؟ فيه وجهان: وليس مرادهم تشبيه حيوان بحري بحمار بري حتى يصح القياس. وبالجملة فهذا القائل، قد قاس الخبيث بالطيب، ويلزمه أن يقول بحل سائر المحار والأصداف لأن الدفيلس محار صغير، ثم يأخذ بعد ذلك في الكبر، والدليل على ذلك أنه يوجد منه صغير وكبير فإذا تكامل بقي محاراً، فينبغي القطع بتحريم الدنيلس لأنه من أنواع الصدف، والصدف مستخبث كالسلحفاة والحلزون. قال الجاحظ: والملاحون يأكلون البلبل، وهو ما في جوف الصدفة، وهذا يدل على أنه غير مستطاب وإلا لما عده من خواص الملاحين. وأهل مصر يعيبون أهل الشام بأكلهم السرطان، وأهل الشام يعيبون أهل مصر بأكلهم الدنيلس ولم أجد لهم مثلاً إلا قول الشاعر:
ومن العجائب والعجائب جمة ... أن يلهج الأعمى بعيب الأعمش
انتهى كلام الأقفهسي، وهو مخالف لما ذكره المؤلف والله أعلم.
الدهانج: بضم الدال الجمل الضخم ذو السنامين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في الفالج.
الدوبل: الحمار الصغير الذي لا يكبر وكان الأخطل يلقب به ومنه قول جرير:
بكى دوبل لا يرقىء الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل
الدود: جمع دودة وجمع الدود ديدان، والتصغير دويد، وقياسه دويدة وداد الطعام يداد وأداد ودود. إذا وقع فيه السوس قال الراجز:
قد أطعمتني دفلا حوليا ... مسوساً مدوداً حجريا
والدود أيضاً صغار الدود. ودويد بن زيد عاش أربعمائة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام وهو لا يعقل، وارتجز وهو محتضر:
اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى ابليته
أو كان قرني واحداً كفيته ... يا رب نهب صالح حويته
ورب غيل حسن لويته ... ومعصم مخضب ثنيته
وفي تاريخ ابن خلكان، إنه سعى بأبي الحسن الهادي، بن محمد الجواد، بن علي الرضا إلى المتوكل بأن في منزله سلاحاً وكتباً من شيعته، وأنه يطلب الأمر لنفسه، فبعث المتوكل إليه جماعة فهجموا عليه في منزله فوجدوه على الأرض مستقبل القبلة يقرأ القرآن، فحملوه على حاله إلى المتوكل والمتوكل يشرب، فأعظمه وأجله وقال له: أنشدني فقال: إني قليل الرواية للشعر. فقال له المتوكل: لا بد فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم ... وأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا ... أين الأسرة والتيجان والحلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا ... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا
فبكى المتوكل والحاضرون. ثم قال له المتوكل: يا أبا الحسن هل عليك دين. قال: نعم أربعة آلاف درهم، فأمر له بها وصرفه مكرماً. فلما كثرت السعاية به عند المتوكل أحضره المدينة، وأقره بسر من رأى، وتدعى العسكر لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره، فقيل لها: العسكر، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، ولهذا قيل له العسكري. وتوفي في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين، وهو أحد الأئمة الأثني عشر على مذهب الإمامية رضي الله تعالى عنه وعن آبائه الكرام. والدود أنواع كثيرة يدخل فيها الأساريع والحلم والأرضة ودود الخل والزبل، ودود الفاكهة ودود القز والدود الأخضر الذي يوجد في شجر الصنوبر، وهو في القوة والفعل كالذراريح، وكله معروف ومنه ما يتولد في جوف الإنسان. وروى ابن عدي بسند فيه عصمة بن محمد بن فضالة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلوا التمر على الريق فإنه يقتل الدود " . وقالت الحكماء: شرب الوخشيرق يرمي الدود من البطن، وورق الخوخ إذا ضمدت السرة به قتل ديدان البطن. روى البيهقي في الشعب، عن صدقة بن يسار أنه قال: دخل داود عليه الصلاة والسلام في محرابه، فأبصر دودة صغيرة فتفكر في خلقها، وقال: ما يعبأ الله بخلق هذا الدودة، فأنطقها الله فقالت: يا داود أتعجبك نفسك؟ لأنا على قدر ما آتاني الله، أذكر لله وأشكر له منك، على ما آتاك الله. قال الله تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " وأما دود الفاكهة فذكر الزمخشري في تفسير قوله تعالى: " وإني مرسلة إليهم بهدية " ، الآية أنها بعثت خمسمائة غلام، عليهم ثياب الجواري وحليهن، وخمسمائة جارية على زي الغلمان، كلهم على سروج الذهب والخيل المسومة، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت والمسك والعنبر، وحقاً فيه درة يتيمة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، وبعثت برجلين من أشراف قومها المنذر بن عمرو وآخر في رأي وعقل. وقالت: إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقباً مستوياً، وسلك في الخرزة خيطاً ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان، فهو ملك فلا يهولنك أمره، وإن رأيت شيئاً لطيفا فهو نبي، فأعلم الله نبيه سليمان بذلك، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشت في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطاً، شرفة من ذهب وشرفة من فضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها، عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن، وهم خلق كثير، فأقيموا على اليمين واليسار، ثم قعد على كرسيه، والكراسي عن يمينه ويساره، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ، والجن صفوفاً فراسخ، والإنس صفوفاً فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم، نظروا فرأوا الدواب تروث على لبنات الذهب والفضة، فرموا بما معهم منها، فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهم بوجه طلق، ثم قال: أين الحق الذي فيه كذا وكذا. فقدموه بين يديه فأمر الأرضة، فأخذت شعرة ونفدت فيها، فجعل رزقها في الشجر، وأخذت دودة بيضاء بفيها الخيط، ونففت فيها فجعل رزقها في الفواكه، ودعا بالماء، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها، فتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم ردا الهدية، وقال للمنذر: ارجع إليهم. فلما رجع وأخبرها الخبر قالت: هو نبي وما لنا به طاقة فشخصت إليه في أثني عشر ألف قيل تحت يدكل قبل ألوف.

وأما دود القز فيقال لها الدودة الهندية، وهي من أعجب المخلوقات، وذلك إنه يكون أولاً بزراً من قدر حب التين، ثم يخرج من الدود عند فصل الربيع، ويكون عند الخروج أصغر من الذر، وفي لونه ويخرج من الأماكن الدافئة من غير حضن، إذا كان مصروراً مجعولاً في حق، وربما تأخر خروجه فتصره النساء وتجعله تحت ثديهن، وإذا خرج أطعم ورق التوت الأبيض، ولا يزال يكبر ويعظم إلى أن يصير في قدر الإصبع، وينتقل من السواد إلى البياض أولاً فأولاً، وذلك في مدة ستين يوماً على الأكثر، ثم يأخذ في النسج على نفسه بما يخرجه من فيه إلى أن ينفد ما في جوفه منه. ويكمل عليه ما يبنيه إلى أن يصير كهيئة الجوزة، ويبقى فيه محبوساً قريباً من عشرة أيام، ثم ينقب عن نفسه تلك الجوزة، فيخرج منها فراش أبيض له جناحان، لا يسكنان من الاضطراب، وعند خروجه يهيج إلى السفاد، فيلصق الذكر ذنبه بذنب الأنثى ويلتحمان مدة، ثم يفترقان، وتبزر الأنثى البزر الذي تقدم ذكره على خرق بيض، تفرش له قصداً إلى أن ينفد ما فيها منه، ثم يموتان هذا إن أريد منهما البزر وإن أريد الحرير ترك في الشمس بعد فراغه من النسج، بعشرة أيام يوماً بعض يوم فيموت. وفيه من أسرار الطبيعة أنه يهلك من صوت الرعد، وضرب الطست والهاون ومن شم الخل والدخان ومس الحائض والجنب. ويخشى عليه من الفأر والعصفور والنمل والوزغ وكثرة الحر والبرد وقد ألغز فيه بعض الشعراء فقال:
وبيضة تحضن في يومين ... حتى إذا دبت على رجلين
واستبدلت بلونها لونين ... حاكت لها خيساً بلا نيرين
بلا سماء وبلا بابين ... ونقبته بعد ليلتين
فخرجت مكحولة العينين ... قد صبغت بالنقش حاجبين
قصيرة ضئيلة الجنبين ... كأنها قد قطعت نصفين
لها جناح سابع التبردين ... ما نبتا إلا لقرب الحين
إن الردى كحل لكل عين
قال الإمام أبو طالب المكي ، في كتابه قوت القلوب: وقد مثل بعض الحكماء ابن آدم بدود القز، لا يزال ينسج على نفسه، من جهله حتى لا يكون له مخلص، فيقتل نفسه ويصير القز لغيره، وربما قتلوه إذا فرغ من نسجه، لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج عنه فيشمس، وربما غمز بالأيدي حتى يموت لئلا يقطع القز ليخرج القز صحيحاً. فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلكه أهله وماله وتتنعم ورثته بما شقي هو به فإن أطاعوا به، كان أجره لهم، وحسابه عليه، وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياها به، فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم إذهابه عمره لغيره، أو نظره إلى ماله في ميزان غيره؟ انتهى.
وقد أشار إلى ذلك أبو الفتح البستي بقوله:
ألم تر أن المرء طول حياته ... معنى بأمر لا يزاله يعالجه
كدود كدود القز ينسج دائماً ... ويهلك غما وسط ما هو ناسجه
وله أيضاً وأجاد:
لا يغرنك أنني لين اللم ... س فعزمي إذا انتضيت حسام
أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام
وقال آخر في المعنى:
يفنى الحريص بجمع المال مدته ... وللحوادث ما يبقى وما يدع
كدودة القز ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
لما أخذت دودة القز تنسج، أقبل العنكبوت يتشبه بها، وقال: لي نسج ولك نسج. فقالت دودة القز: إن نسجي ملابس الملوك ونسجك ملابس الذباب، وعند مس الحاجة يتبين الفرق ولذلك قيل:
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى

تتمة: شجرة الصنوبر تثمر في كل ثلاثين سنة مرة، وشجرة الدبا تصعد في كل أسبوعين، فتقول لشجرة الصنوبر: إن الطريق التي قد قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين. ويقال: لك شجرة ولي شجرة، فتقول شجرة الصنوبر لها: مهلاً إلى أن تهب رياح الخريف، فحينئذ يتبين لك اغترارك بالإسم. وقال المسعودي في ترجمة الراضي إن دودة بطبرستان، تكون من المثقال إلى ثلاثة مثاقيل، تضيء في الليل كما يضيء الشمع، وتطير بالنهار فترى لها أجنحة، وهي خضراء ملساء لا جناحين لها في الحقيقة، غذاؤها التراب، لم تشبع قط منه خوفاً أن تفنى تراب الأرض فتهلك جوعاً. قال: وفيها منافع كثيرة وخواص واسعة انتهى. وسيأتي عن الجاحظ قريب من هذا.
الحكم: يحرم أكله بجميع أنواعه، لأته مستخبث إلا ما تولد منا مأكول فعندنا فيه ثلاثة أوجه: أصحها جواز أكله معه لا منفرداً، والثاني يجب تمييزه ولا يؤكل أصلاً، والثالث يؤكل معه ومنفرداً. وعلى الأصح ظاهر اطلاقهم أنه لا فرق بين أن يسهل تمييزه أو يشق. ولا يجوز بيع الدود إلا القرمز الذي يصبغ به وهو دود أحمر يوجد في شجر البلوط في بعض البلاد صدفي يشبه الحلزون. تجمعه نساء تلك البلاد بأفواههن. وأما دود القز فيجوز بيعه، ويجب إطعامه ورق الفرصاد، وهو التوت الأبيض، ويجوز تشميسه، وإن هلك لتحصيل فائدته. ويجوز بيع الفيلج وفي باطنه الدود الميت لأن بقاءه فيه من مصلحته، فيجوز بيعه وزناً وجزفاً، كما صرح به القاضي حسين وقال الإمام: إن باعه جزافاً كما صرح به القاضي حسين وقال الإمام إن باعه جزافاً جاز، وإن باعه وزناً لم يجز. قلت: وهذا هو الصحيح المعتمد، لأن الدود الذي فيه، يمنع معرفة مقدار ما فيه من المقصود. وهو القز وقد جزم به الشيخان، في آخر كتاب السلم وجزم به ابن الرفعة وغيره. وفي روثه الخلاف في روث ما لا نفس له سائلة. وفي بزره الوجهان في بيض ما لا يؤكل والأصح الطهارة. وقال الفوراني والمتولي: إن قلنا دود القز طاهر، بعد الموت فبزره طاهر، وإن قلنا إنه نجس فالبزر كالبيض لأن له نماء مثله. وفي فتاوى القفال: إن بزر القز لا مثل له، ولا يجوز السلم فيه، لأن أهل الصنعة لا يعرفون أنه هذا البزر يكون نسجه أحمر أو أبيض، فهو كالسلم في الجواهر.
الأمثال: قالوا: " أصنع من دود القز " . وربما قالوا: " أكثر من الدود وأضعف من الدود " . قال ابن رشد، في جامع البيان والتحصيل: سأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، عن البحر، فقال: خلق قوي يركبه خلق ضعيف، دود على عودان ضاعوا هلكوا، وإن بقوا فرقوا. فقال عمر: لا أحمل فيه أحداً أبداً.
الخواص: إذا أخذ دود القز، وخلط بالزيت ولطخ به بدن إنسان نفع من نهش الهوام وذوات السموم ودودة القز إن أخرجت منه وأكلها الدجاج حصل له سمن كثير، ودود الزبل الأصفر الذي يخلق منه، إذا طبخ في زيت عتيق حتى ينضج ويدهن بذلك الزيت داء الثعلب، فإنه يبرئه، وهو في ذلك عجيب مجرب إذا داوم عليه.
التعبير: الدود في المنام عدو من الأهل " ودود القز زبون للتاجر، ورعية للسلطان، فمن أخذ منه شيئاً نال منفعة منهم، وربما دلت رؤية الدود على مال حرام. ويعبر أيضاً بالضر فمن زال عنه زال ذلك عنه، وربما عبر الدود بالأولاد القصيري الأعمار، وأصحاب التركات السنية، وربما دلت رؤيته على قرب الأجل ونهاية العمر، وربما دلت على الحاكة من الرجال والنساء، والمحاكين للصور والله أعلم.
دؤالة: كنخالة من أسماء الثعلب، سمي بذلك لنشاطه وخفة مشيه والدألان مشية النشيط.
الدودمس: ضرب من الحيات محرنفش الغلاصيم، ينفخ فيحرق ما أصاب والجمع دودمسات ودواميس قاله ابن سيده.
الدوسر: الجمل الضخم والأنثى دوسرة وجمل دوسري كأنه منسوب إليه.
الديسم: بالفتح ولد الدب قال الجوهري: قلت لأبي الغوث: يقال إنه ولد الذئب من الكلبة فقال: ما هو إلا ولد الدب. وقال في المحكم: إنه ولد الثعلب. وقال الجاحظ: إنه ولد الذئب من الكلبة. وهو أغبر اللون وغبرته ممتزجة بسواد. وحكمه: تحريم الأكل على كل تقدير.

الديك: ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكة، وتصغيره دويك، وكنيته أبو حسان، وأبو حماد وأبو سليمان، وأبو عقبة، وأبو مدلج، وأبو المنذر، وأبو نبهان وأبو يقظان، وأبو برائل والبرائل الذي يرتفع من ريش الطائر في عنقه، وينفشه الديك للقتال، وقيل: إن للديك خاصة. ويسمى الأنيس والمؤانس، ومن شأنه أنه لا يحنو على ولده، ولا يألف زوجة واحدة، وهو أبله الطبيعة، وذلك أنه إذا سقط من حائط لم يكن له هداية ترشده إلى دار أهله. وفيه من الخصال الحميدة أنه يسوي بين دجاجه، ولا يؤثر واحدة على واحدة إلا نادراً، وأعظم ما فيه من العجائب، معرفة الأوقات الليلية فيقسط أصواته عليها تقسيطاً، لا يكاد يغادر منه شيئاً سواء طال أو قصر. ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده، فسبحان من هداه لذلك. ولهذا أفتى القاضي حسين والمتولي والرافعي بجواز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات. ومن غريب أمره، إذا كانت الديكة بمكان، ودخل عليها ديك غريب سفدته كلها، وقد أجاد أبو بكر الصنوبري في مدحه حيث قال : مغرد الليل ما يألوك تغريدا مل الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا
لما تطرب هز العطف من طرب ... ومد للصوت لما مده الجيدا
كلابس مطرفا مرخ ذوائبه ... تضاحك البيض من اطرافه السودا
حالى المقلد لو قيست قلائده ... بالورد قصر عنها الورد توريدا
وفي تاريخ ابن خلكان في ترجمة محمد بن معن بن محمد بن صلاح، المنعوت بالمعتصم، من قصيدة مدحه بها أبو القاسم الأسعد بن بليطة في صفة الديك:
كأن أنوشروان أعطاه تاجه ... وناط عليه كف مارية القرطا
سبى حلة الطاووس حسن لباسه ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطا
قال الجاحظ: ويدخل في الديك الهندي والجلاسي والنبطي والسندي والزنجي، وزعم أهل التجربة أن الديك الأبيض الأفرق من خواصه أن يحفظ الدار التي هو فيها، وزعموا أن الرجل إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق، لم يزل ينكب في أهله وماله.
وروى عبد الحق بن قانع بإسناده إلى جابر بن أثوب، بسكون الثاء المثلثة وفتح الواو، وهو أثوب بن عتبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الديك الأبيض خليلي " . وإسناده لا يثبت. ورواه غيره بلفظ: " الديك الأبيض صديقي وعدو الشيطان، يحرس صاحبه وسبع دور خلفه " . قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتنيه في البيت والمسجد. وفي التهذيب في ترجمة البزي الراوي عن ابن كثير، وهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة المكي، وهو ضعيف الحديث، عن الحسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الديك الأبيض الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي جبريل يحرس بيته وستة عشر بيتاً من جيرانه " . وروى الشيخ محب الدين الطبري " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له ديك أبيض وكان الصحابة رضي الله عنهم يسافرون بالديكة لتعرفهم أوقات الصلوات " .

وفي الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطاناً " . قال القاضي عياض: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء، واستغفارهم وشهادتهم له بالإخلاص والتضرع والابتهال. وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم وإنما أمرنا بالتعوذ من الشيطان عند نهيق الحمير، لأن الشيطان يخاف من شره عند حضوره فينبغي أن يتعوذ منه انتهى. وفي معجم الطبراني وتاريخ أصبهان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن لله سبحانه ديكاً أبيض جناحاه موشيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء، يؤذن في كل سحر فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض، إلا الثقلين، الإنس والجن، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض فإذا دنا يوم القيامة يقول الله تعالى: ضم جناحيك، وغض صوتك. فيعلم أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت. وروى الطبراني والبيهقي في الشعب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله ديكاً رجلاه في التخوم، وعنقه تحت العرش منطوية، فإذا كان هنة من الليل، صاح: سبوح قدوس، فتصيح الديكة " . وهو في كامل ابن عدي في ترجمة علي بن أبي علي اللهبي. قال: وهو يروي أحاديث منكرة عن جابر رضي الله عنه. وفي كتاب فضل الذكر، للحافظ العلامة جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله عز وجل ديكاً رجلاه في الأرض السفلى، وعنقه مثنية تحت العرش، وجناحاه في الهواء يخفق بهما في السحر كل ليلة، يقول: سبحان الملك القدوس ربنا الملك الرحمن لا إله غيره " . وروى الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى. صوت الديك، وصوت قارىء القرآن، وصوت المستغفرين بالأسحار " . وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة " . إسناده جيد وفي لفظ " فإنه يدعو إلى الصلاة " قال الإمام الحلمي في قوله صلى الله عليه وسلم " فإنه يدعو إلى الصلاة " . دليل على أن كل من استفيد منه خير، لا ينبغي أن يسب ويستهان به، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان، وليس معنى دعاء الديك إلى الصلاة أنه يقول بصراخه حقيقة: الصلاة أو قد حانت الصلاة، بل معناه أن العادة قد جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة، عند طلوع الفجر، وعند الزوال، فطرة فطرة الله عليها فيتذكر الناس بصراخه الصلاة، ولا يجوز لهم أن يصلوا بصراخه، من غير دلالة سواه إلا من جرب منه ما لا يخلف فيصير ذلك له إشارة والله أعلم انتهى. وروى الحاكم في المستدرك في أوائل كتاب الإيمان والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك، قال: فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً " . وروى الإمامان أبو طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي، عن ميمون بن مهران، أنه قال: بلغني أن تحت العرش ملكاً في صورة ديك، براثنه من لؤلؤة وصيصته من زبرجد أخضر، فإذا مضى ثلث الليل الأول ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم القائمون، فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم المصلون، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم ومعنى زقا صاح.

نكتة: كان سهل بن هارون بن راهويه، في خدمة المأمون، وكان حكيماً فصيحاً شاعراً فارسي الأصل شيعي المذهب، شديد التعصب على العرب، وله مصنفات عديدة في الأدب وغيره، وكان الجاحظ يصف براعته وحكمته وشجاعته في كتبه، وكان إليه النهاية في البخل وله فيه حكايات عجيبة: فمن ذلك قال دعبل: كنا عنده يوماً فأطلنا القعود، حتى كاد يموت جوعاً، ثم قال: ويحك يا غلام غدنا! فأتاه بقصعة فيها ديك مطبوخ، فتأمله ثم قال أين الرأس يا غلام؟ قال: رميت به. فقال: إني والله لأمقت من يرمي برجله، فكيف برأسه؟ ولو لم يكن فيما فعلت إلا الطيرة والفأل لكراهته، أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء، ومنه يصرخ الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه عرفه الذي يتبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء، فيقال: " شراب كعين الديك " . ودماغه عجب لوجع الكليتين، ولم ير عظم أهش تحت الأسنان منه، وهب أنك ظننت أني لا آكله أو ليس العيال كانوا يأكلونه؟ فإن كان قد بلغ من نبلك أنك لا تأكله، فعندنا من يأكله، أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح، ومن رأس العنق؟ انظر لي أين هو؟ فقال: والله ما أدري أين هو، ولا أين رميت به. فقال: رميته في بطنك قاتلك الله.
الحكم: يحل أكله لما تقدم في الدجاج، ويكره سبه لما تقدم في حديث زيد بن خالد الجهني، ويجوز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات كما تقدم قريباً. قال أصبغ بن زيد الواسطي: كان لسعيد بن جبير ديك يقوم في الليل بصياحه، فلم يصح ليلة حتى أصبح فلم يصل سعيد تلك الليلة فشق ذلك عليه، فقال: ماله قطع الله صوته؟ فلم يسمع له صوت بعد ذلك. وفي مناقب إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى، أن رجلاً سأله عن رجل خصى ديكاً له، فقال: عليه أرشه. وفي الكامل. في ترجمة عبد الله بن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: " نهى عن خصاء الديك والغنم والخيل " . وقال : " إنما النماء في الخيل " . وتحرم المناقرة بالديكة. وسيأتي ما ورد في ذلك من النهي في باب الكاف، في المناطحة بالكباش، في لفظ الكبش إن شاء الله تعالى.
الأمثال: قالوا : " أشجع من ديك " أو " أسفد من ديك " .
فائدة: روى مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوماً فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: إني رأيت رؤيا لا أراه إلا لحضور أجلي وهي أن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، وفي لفظ رأيت كأن ديكاً أحمر نقرني نقرة أو نقرتين. فحدثتها أسماء بنت عميس رضي الله عنها فحدثتني بأن يقتلني رجل من الأعاجم. وكان هذا القول منه يوم الجمعة فطعن يوم الأربعاء رضي الله عنه. وروى الحاكم عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال على المنبر: رأيت في المنام كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات فقلت: أعجمي يقتلني، وإني جعلت أمري إلى هؤلاء الستة، الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض: عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. فمن استخلف فهو الخليفة. وذكر ابن خلكان وغيره، أن عمر رضي الله عنه، لما طعن، اختار من الصحابة ستة نفر، وهم المتقدم ذكرهم. وكان سعد بن أبي وقاص غائباً، وجعل عبد الله ابنه مشيراً، وليس له من الأمر شيء وأقام المسور بن مخرمة، وثلاثين نفساً من الأنصار، وقال: إن اتفقوا على واحد إلى ثلاثة أيام، وإلا فاضربوا رقاب الكل فلا خير للمسلمين فيهم، وإن افترقوا فرقتين، فالفرقة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. وأوصي أن يصلي صهيب بالناس ثلاثة أيام، فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الشورى، واختار عثمان فبايعه الناس. ونقل أن العباس بن عبد المطلب قال لعلي: يا ابن أخي لا تدخل نفسك في الشورى مع القوم، فإني أخاف أن يخرجوك منها فتبقى وصمة فيك فلم يقبل منه.

وكان عمر قد بويع له بالخلافة يوم مات الصديق بعهد منه له في ذلك كما سبق في باب الهمزة في لفظ الأوز. وضربه أبو لؤلؤة فيروز الفارسي غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسياً، وقيل: كان نصرانياً، ثلاث ضربات أحداهن تحت سرته، فقال: قتلني الكلب. وخرج من المحراب ودخل عبد الرحمن بن عوف، فأتم الصلاة بالناس. ومر أبو لؤلؤة هارباً في يده خنجر يضرب به يميناً وشمالاً فطرح عليه رجل من الأنصار رداءه، فلما علم أنه مأخوذ، نحر نفسه. وكان بعض الذين في المسجد لم يشعروا بذلك لشغلهم بالصلاة إلا أنهم فقدوا صوت عمر ولم يعلموا ما سببه. وإنه لما طعن، قيل له: ما أحب الأشربة إليك يا أمير المؤمنين. قال: النبيذ فسقوه نبيذاً، فخرج من جرحه، فقال قوم: نبيذ وقال قوم: دم فسقوه لبناً فخرج من جرحه. فقيل له: أوص يا أمير المؤمنين، فأوصى بالشورى كما تقدم. وكان قتله في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وبقي ثلاثة أيام، وتوفي لأربع بقين من ذي الحجة. وقيل لليلتين وقد تقدم بعض ذلك في الأوز.
ويقال إن عبيد الله بن عمر وثب على الهرمزان فقتله، وقتل معه رجلاً نصرانياً، يعرف بحفنة من أهل نجران، كانا قد اتهما بإغراء أبي لؤلؤة بعمر رضي الله عنه. وقتل بنتاً لأبي لؤلؤة طفلة. ووداهم عثمان رضي الله عنه. ولحق عبيد الله بمعاوية في خلافه علي رضي الله عنه.
وكان في أيام عمر الفتوحات العظام، وهو الذي سمى الغزوات الشواتي والصوائف، وهو أول من أرخ التاريخ بعام الهجرة، وأول من دعي بأمير المؤمنين وأول من ختم الكتب، وكان في يده خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر. وأول من ضرب بالدرة وحملها. وأول من قال: أطال الله بقاءك، قالها لعلي رضي الله عنهما، وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقاً بالبيت، وهو أول من جمع الناس على إمام واحد في التراويح. وحج بالناس عشر سنين متوالية آخرها سنة ثلاث وعشرين، ومعه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوادج ورجع إلى المدينة فرأى الرؤيا المتقدم ذكرها، وتزوج عمر أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه، وأصدقها أربعين ألف درهم، وكان أي عمر رضي الله عنه قد حد ابنه عبيد الله على الشراب، فقال له وهو يحده: قتلتني يا أبتاه. فقال له: يا بني إذا لقيت ربك فأخبره أن أباك يقيم الحدود. والذي في السير أن المحدود في الشراب ابنه الأوسط أبو شحمة، وإسمه عبد الرحمن، وأمه أم ولد يقال لها الهيبة. وقتل عبيد الله الرجلين مشكل وقتله الطفلة أشكل والله أعلم. وذكر غير واحد من الثقات، أنه كان لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عثمان، ولد يقال له عبد الله، وبه كان يكنى، بلغ سبع سنين نقره ديك في وجهه فمات بعد أمه في جمادى سنة أربع. ولم يولد له غيره من بنات النبي صلى الله عليه وسلم. ولما هاجرت رقية إلى الحبشة كان فتيان الحبشة يتعرضون لرؤيتها ويتعجبون من جمالها، فآذاها ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعاً. وقالوا: " ما كلمته إلا كحسو الديك " يريدون السرعة قال الشاعر:
ويوماً كحسو الديك قد بات صحبتي ... ينالونه فوق القلاص العياهل
يريد قلته وسرعته وضربوا المثل بصفاء عينه فقالوا: " أصفى من عين الديك " .
ومن المشهور في ذلك قصيدة عدي بن زيد العبادي التي يقول فيها:
بكر العاذلون في وضح الص ... بح يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موهوق
لست أدري إذا أكثروا العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين ال ... ديك صفي سلافها الراووق
ولهذه الأبيات حكاية حسنة مشهورة مذكورة في درة الغواص. وفي تاريخ ابن خلكان، في

ترجمة حماد الراوية قال: كنت منقطعاً إلى يزيد بن عبد الملك، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك في أيامه، فلما مات يزيد، وأفضت الخلافة إلى هشام، خفتة فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به، من إخواني سراً، فلما لم أسمع أحداً ذكرني في السنة، أمنت فخرجت يوماً، وصليت الجمعة بالرصافة، وإذا شرطيان قد وقفا علي وقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، وكان والياً على العراق، فقلت في نفسي: من هذا كنت أخاف. ثم قلت للشرطين: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي، فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبداً، ثم أسير معكما إليه؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل. فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر، وهو في الايوان الأحمر، فسلمت فرد علي السلام، ورم إلي كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر الثقفي، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به، من غير ترويع، وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً، يسير عليه لإثنتي عشرة ليلة إلى دمشق. قال: فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول فجعلت رحلي في الغرز وسرت إثنتي عشرة ليلة حتى وافيت دمشق، فنزلت على باب هشام، فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب من ذهب، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخز، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت عليه فرد علي السلام، واستدناني فدنوت إليه حتى قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل واحدة منهما حلقتان، فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين. فقال: أتدري فيم بعثت إليك. قلت: لا. قال: بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر قائله! قلت: وما هو؟ قال:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها ابريق
فقلت: يقوله عدي بن زيد العبادي في قصيدة له فقال: أنشدنيها فانشدته:
بكر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موهوق
لست أدري إذا أكثروا العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق
قال حماد فانتهيت فيها إلى قوله:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها ابريق
قدمته على عقار كعين ال ... ديك صفي سلافها الراووق
مرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق
وطفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سحاب ... لاصرى آجن ولا مطروق
قال: فطرب هشام، ثم قال لي: أحسنت يا حماد والله، يا جارية اسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي، فقال: أعده فاعدته فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه فسقتني، شربة ذهبت بثلث آخر من عقلي، ثم قال: سل حاجتك يا حماد. فقلت: كائنة ما كانت. قال: نعم. قلت: إحدى هاتين الجاريتين، فقال: هما لك بما عليهما، ثم قال للجارية الأولى: اسقيه فسقتني شربة، فسقطت منها فلم أعقل حتى أصبحت، والجاريتان عند رأسي، فإذا عشرة من الخدم، ومع كل واحد منهم بدرة فيها عشرة آلاف درهم. فقال أحدهم: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه وانتفع بها في سفرك فأخذتها والجاريتين وعدت إلى أهلي انتهى. هكذا ساقها الحريري في كتابه درة الغواص، وفيه اعترضان: أحدهما قوله: يا جارية اسقيه، فإن هشام لم يكن يشرب الخمر، اللهم إلا أن كان يشرب بحضرته. والثاني قوله: إن هشاماً بعث إلى يوسف بن عمر الثقفي، فإنه في هذا التاريخ، لم يكن متولياً على العراق، وإنما كان والياً عليه في التاريخ المذكور خالد بن عبد الله القسري حسبما ذكره أهل التاريخ.

الخواص: لحم الديوك حار يابس، باعتدال أجوده عند اعتدال أصواتها، وهو ينفع أصحاب القولنج، ويستحب كدها قبل ذبحها، وأكل لحمها يولد غذاء محموداً ويوافق من الأمزجة الباردة ومن الأسنان الشيوخ، ومن الزمان الشتاء. والديوك العتيقة تنحل منها قوة في الطبخ، ولحمها يطلق البطن، وينفع المفاصل، والرعشة والحمى العتيقة، ذات الأدوار، ولا سيما إذا عمل بملح كثير وماء كرنب، ولبان القرطم والإسفاناخ. وأما الفراخ فغذاؤها موافق لجميع الناس حين تبتدىء بالصياح. والدجاج قبل أن يبيض. وينبغي أن يواصل أكلها دائماً. وأما خواص أجزائه فدم الديك أو دماغه إذا طلي به على لسع الهوام أبرأه، والاكتحال بدمه ينفع البياض في العين، وعرف الديك إذا أحرق وسقي منه من يبول في فراشه أزال عنه ذلك وأبرأه. وإذا طليت جبهة الديك وعرفه بدهن لم يصح. وإذا نتف الريش الطويل الذي في ذنبه، عند ركوبه على الدجاجة وهو يسفدها، وجعل في مجرى الحمام، فمن اغتسل من ذلك الماء أنعظ. وفي طرف جناحيه عظمتان، إذا علقت اليمنى على من به الحمى الدائمة أبرأته، وإذا علقت اليسرى على من به حمى الربع أبرأته. وهاتان العظمتان يمنعان الإعياء والنعاس إذا علقتا على بهيمة. وخصيته إذا شويت وأكلتها المرأة التي لا تحبل، في حيضها قبل الطهر بثلاثة أيام، وجامعها زوجها حبلت. وإذا أخذ هذا العضو من يريد الجماع الكثير، وصره في قرطاس وعلقه على عضده الأيسر، أنعظ انعاظاً شديداً عجيباً، فإذا حله سكن ذلك عنه. وعرف الديك الأبيض أو الأحمر إذا بخر به المجنون نفعه نفعاً عجيباً. ومرارة تخلط بمرق ضأن وتؤكل على الريق تذهب النسيان، وتذكر ما نسي. ودمه يخلط بعسل ويعرض على النار، ويطلى به الذكر يقوي الذكر والباه. وخصية الديك تعلق على الديك المهارش لا يغلبه ديك.
التعبير: الديك تدل رؤيته على الخطيب والمؤذن، والقارىء المطرب، وربما دلت رؤيته على الرجل الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه، لأنه يذكر بالصلاة ولا يصلي، وربما دلت رؤيته على الرجل الكثير النكاح، أو السمار الكثير العياط، أو الزمار الذي يأوي إلى النساء، أو الحارس، وربما دلت رؤيته على الرجل الكريم المؤثر على نفسه بما يحتاج إليه، أو القانع بما يجد أو الناقص الحظ، والعائل أو الكثير الوقوع في الشدائد، وربما تدل رؤيته على رب الدار كما أن الدجاجة ربة البيت، ويعبر أيضاً بمملوك، لأنه ضمن المدرج لنوح عليه الصلاة والسلام لما أنفذه، يكشف خبر الماء إن كان نقص فغدر ولم يأت، فبقي الديك رهيناً كالمملوك من ذلك الزمان وامتنع من الطيران. وقيل: الديك في المنام رجل محارب من قبل المماليك. وقيل: الديك إذا كان أبيض أفرق فإنه مؤذن، فمن ذبحه في المنام، فإنه لا يجيب المؤذن، وقيل: رؤية الديك تدل على مصاحبة العلماء وأولي الحكمة. روي أن رجلاً أتى ابن سيرين، فقال له: رأيت كأن ديكاً دخل منزلي فلقط حبات شعير كانت فيه، فقال له ابن سيرين: إن سرق لك شيء فأعلمني. فما كان إلا أيام إذ أتى الرجل إليه فقال: سرق لي بساط من سطح منزلي، فقال ابن سيرين: المؤذن أخذه، فكان كذلك. وقال آخر لابن سيرين: رأيت كأني أخنق ديكاً، فقال ابن سيرين. هذا رجل ينكح يده. وقال له آخر: رأيت كأن ديكا يصيح بباب بيت إنسان وينشد:
قد كان من رب هذا البيت ما كانا ... هيوا لصاحبه يا قوم أكفانا
فقال يموت صاحب الدار بعد أربعة وثلاثين يوماً، فكان كذلك. وهي عدد حروف الديك بالجمل، وجاءه آخر فقال: رأيت كأن ديكاً يقول: الله الله الله فقال له: بقي من أجلك ثلاثة أيام فكان كذلك.
ديك الجن: دويبة توجد في البساتين، إذا ألقيت في خمر عتيق حتى تموت، وتترك في محارة

وتسد رأسها وتدفن في وسط الدار، فإنه لا يرى فيها شيء من الأرضة أصلاً قاله القزويني. وديك الجن لقب لأبي محمد بن عبد السلام الحمصي الشاعر المشهور من شعراء الدولة العباسية، كان يتشيع تشيعاً حسناً وله مراث في الحسين رضي الله عنه، وكان ماجناً خليعاً عاكفاً على القصف واللهو متلافاً لما ورثه. مولده سنة إحدى وستين ومائة وعاش بضعاً وسبعين سنة، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين. ولما اجتاز أبو نواس بحمص، قاصداً مصر لامتداح الخصيب، جاءه إلى بيته فاختفى منه، فقال لامته: قولي له: اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك :
موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
فلما سمع ذلك ديك الجن خرج إليه واجتمع به وأضافه. وفي تاريخ ابن خلكان أن دعبلاً الخزاعي ، لما اجتاز يحمص سمع ديك الجن بوصوله فاختفى منه، خوفاً أن يظهر لدعبل، لأنه كان قاصراً بالنسبة إليه، فقصده في داره، فطرق الباب واستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو هنا، فعرف قصده، فقال لها: قولي له: اخرج فأنت أشعر الإنس والجن بقولك:
فقام تكاد الكأس تحرق كفه ... من الشمس أو من وجنتيه استعارها
موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
فلما بلغ ذلك ديك الجن خرج إليه وأضافه.
الديلم: ذكر الدراج وحكمه وخواصه وأمثاله وتعبيره كالدراج.
ابن دأية: الغراب الأبقع سمي بذلك لأنه إذا رأى دبرة في ظهر بعير، أو قرحة في عنقه نزل عليه ونقرها إلى الديات.
فائدة: الديات بتشديد الدال وبالياء المثناة تحت والتاء المثناة فوق في آخره هي عظام الرقبة، وفقار الظهر. قال ابن الأعرابي في نوادره: فقار البعير ثمان عشرة فقرة، وأكثرها إحدى وعشرون فقرة، وفقار الإنسان سبع عشرة فقرة. وقال جالينوس: خرز الظهر من لدن منبت النخاع من الدماغ، إلى عظم العجز أربع وعشرون خرزة، سبع منها في العنق، وسبع عشرة في الظهر، ثنتا عشرة في الصلب، وخمس في البطن، وهو العجز. قال: والاضلاع أربع وعشرون: اثنتا عشرة في كل جانب، وجملة العظام التي في جسم الإنسان مائتان وثمانية وأربعون عظماً، حاشا العظم الذي في القلب والعظام التي حشي بها خلل المفاصل، وتسمى السمسمية، وإنما سميت بالسمسمية لصغرها قال: وجميع الثقب التي في بدن الإنسان اثنتا عشرة: العينان والأذنان، والمنخران، والفم، والثديان، والفرجان، والسرة، حاشا الثقب الصغار التي تسمي المسام، وهي التي يخرج منها العرق فإنها لا تكاد تنحصر.
روي: أن عتبة بن أبي سفيان، ولى رجلاً من أهله على الطائف، فظلم رجلاً من الأزد، فأتى الأزدي عتبة، فمثل بين يديه، فقال: أصلح الله الأمير إنك قد أمرت من كان مظلوماً أن يأتيك، فقد أتاك مظلوم غريب الديار، ثم ذكر ظلامته بضجة وجفاء فقال له عتبة: أني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم فرض الله عليك من ركعة بين يوم وليلة! فقال الأزدي: أرأيتك إن أنبأتك بها أتجعل لي عليك مسألة. قال عتبة: نعم. قال :
إن الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهن أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيع.
فقال عتبة: صدقت ما مسألتك. قال: كم فقار ظهرك. قال عتبة: لا أدري. فقال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك. فقال عتبة: أخرجوه عني، وردوا عليه غنيمته. والإبل تعرف من الغراب ذلك فهي تخافه وتحذره وهو الذي تسميه العرب الأعور وتتشاءم به. وسيأتي الكلام عليه، في باب الغين المعجمة إن شاء الله تعالى.
الدئل: بضم الدال وكسر الهمزة دابة شبيهة بابن عرس، وكان من حقه أن يكتب في أول الباب، وإنما أخرناه لأنه يكتب في الرسم بالياء قال كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه:
جاؤوا بجيش لو قيس معرسه ... ما كان إلا كمعرس الدئل

أراد موضع نزولهم ليلاً كبيت ابن عرس. قال أحمد بن يحيى: ما نعلم إسماً جاء على فعل غير هذا. قال الأخفش: وإليه ينسب أبو الأسود الدئلي، قاضي البصرة، إلا أنهم فتحوا الهمزة، على مذهبهم في النسبة، استثقالاً لتوالي الكسرتين مع ياء النسب، كما نسبوا إلى نمرة نمري وإلى ملك ملكي. وإسم أبي الأسود ظالم بن عمرو بن سليمان بن عمرو وفي إسمه ونسبه اختلاف كثير، وكان من سادات التابعين وأعيانهم. يروي عن علي وأبي موسى وأبي ذر وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وصحب علياً رضي الله عنه، وشهد معه وقعة صفين، وهو بصري، وكان من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء والمحدثين والبخلاء والفرسان والبخر والعرج والمفاليج والنحويين. وهو أول من وضع النحو، فقيل: إن علي رضي الله تعالى عنه، وضع له: الكلام كله ثلاثة أضرب: إسم وفعل وحرف، ثم دفعه إليه، وقال له: تمم على هذا وسمي النحو نحواً، لأن أبا الأسود قال: استأذنت على علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، في أن أضع نحو ما وضع، فسمي لذلك نحواً. وهو القائل لبنيه: لا تجاودوا الله عز وجل، فإنه أجود وأمجد، ولو شاء أن يوسع على الناس كلهم لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسعة على الناس فتهلكوا هزالاً. وهو صاحب نوادر، فمنها: أنه سمع رجلاً يقول: من يعشي الجائع؟ فدعاه وعشاه، فلما ذهب السائل ليخرج، قال له: هيهات إنما أطعمتك على أن لا تؤذي المسلمين الليلة. ثم وضع رجله في الأدهم حتى أصبح. والأدهم القيد. ومنها أنه قال له رجل: إنك ظرف علم، ووعاء حلم، غير أنك بخيل. فقال: لا خير في ظرف لا يمسك ما فيه. ومنها أنه اشترى حصاناً بتسعة دنانير، واجتاز به على رجل أعور، فقال: بكم اشتريته؟ فقال: قومه. فقال: قيمته أربعة دنانير ونصف. فقال: معذور أنت لأنك نظرته بعين واحدة فقومته بنصف قيمته، ولو نظرته بالعين الأخرى، لو كانت صحيحة، لقومته ببقية القيمة. ومضى إلى داره ونام، فلما استيقظ سمعه يقضم، فقال: ما هذا. قالوا: الفرس يأكل شعيره، فقال: لا أترك في مالي من أنام وهو يمحقه ويتلفه، ولا أترك إلا ما يزيده وينميه فباعه واشترى بثمنه أرضاً للزراعة. ومنها أن جيرانه بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد ويؤذونه ويرجمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى فيقول لهم: كذبتم لو رجمني الله لأصابني وأنتم ترجموني فلا يصيبني. ثم باع الدار. فقيل له: بعت دارك؟ فقال: بل بعت جاري فأرسلها مثلاً. وهذا عكس ما جرى لأبي الجهم العدوي، فإنه باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص. فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا علي داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل إن فقدت سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألته أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرج عني. فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بمائة ألف درهم. ومنها أنه دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه يوماً فبينما هو يخاطبه إذا ضرط أبو الأسود، فضحك معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين لا تخبر بها أحداً، فلما خرج من عنده، دخل عمرو بن العاص، فأخبره معاوية بما كان من أبي الأسود، فلما رآه عمرو قال له: يا أبا الأسود ضرطت بين يدي أمير المؤمنين؟ فلما دخل على معاوية قال له: ألم أسألك أن لا تخبر بها أحداً؟ فقال له معاوية: ما علم بها إلا عمرو، فقال: إياه كنت أحذر، ولكن فأنت لا تصلح للخلافة! قال: كيف. قال: إذا لم تكن لك أمانة على ضرطة فكيف تؤمن على أموال المسلمين ودمائهم. فضحك معاوية ووصله. ومنها أنه قيل له: هل شهد معاوية بدراً؟ قال: نعم. لكن من ذلك الجانب. وكان أبو الأسود يعلم أولاد زياد ابن أبيه، والي العراقين فخاصمته امرأته إلى زياد في ولدها، وقالت: إنه يريد أن يغلبني على ولدي، وقد كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري له وطاء. فقال: أبو الأسود: بهذا تريدين أن تغلبيني على ولدي وقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولا سواء إنك حملته خفاً وحملته ثقلاً، ووضعته شهوة ووضعته كرهاً. فقال له زياد: إني أرى امرأة عاقلة فادفع ابنها إليها فأخلق أن تحسن أدبه. توفي أبو الأسود بالبصرة في طاعون الجارف سنة تسع وستين، وعمره خمس وثمانون سنة، وهذا الطاعون كان

بالبصرة مات فيه سراة الناس. قيل إنه مات فيه لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ثلاثون ولداً والله تعالى أعلم. مات فيه سراة الناس. قيل إنه مات فيه لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ثلاثون ولداً والله تعالى أعلم.

باب الذال المعجمة
ذؤالة: إسم للذئب كأسامة للأسد، وهو معرفة سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته من الذألان، وهو المشي الخفيف، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية سوداء ترقص صبياً لها وتقول:
ذؤال يا ابن القرم يا ذؤال.
فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تقولي ذؤالة فإنه شر السباع " . وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد.
الذباب: معروف واحدته ذبابة ولا تقل ذبانة. جمعه في القلة أذبة وفي الكثرة ذبان بكسر الذال وتشديد الباء الموحدة وبالنون في آخره كغراب وأغربة وغربان وقراد وأقردة وقردان قال النابغة:
يا واهب الناس بعيراً صلبه ... ضرابة بالمشفر الأذبه
ولا يقال ذبابات إلا في الديون قال الراجز: أو يقضى الله ذبابات الديون.
وأرض مذبة بفتح الميم والذال أي ذات ذباب. وقال الفراء: أرض مذبوبة، كما يقال أرض موحوشة، أي ذات وحوش. وسمي ذباباً لكثرة حركته واضطرابه، وقيل لأنه كلم ذب آب، وكنيته أبو حفص وأبو حكيم وأبو الحدرس والذباب أجهل الخلق لأنه يلقي نفسه في الهلكة. قال الجوهري: يقال ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت قول افلاطون: إن الذباب أحرص الأشياء ولم يخلق للذباب أجفان لصغر أحداقها، ومن شأن الأجفان أن تصقل مرآة الحدقة من الغبار، فجعل الله لها عوضاً من الأجفان يدين تصقل بهما مرآة حدقتها، فلهذا ترى الذباب أبداً يمسح بيديه عينيه، وهو أصناف كثيرة متولدة من العفونة. قال الجاحظ: الذباب عند العرب يقع على الزنابير والنحل والبعوض بأنواعه، كالبق والبراغيث والقمل والصؤاب والناموس والفراش والنمل. والذباب المعروف عند الاطلاق العرفي وهو أصناف النعر والقمع والخازباز والشعراء وذباب الكلاب وذباب الرياض وذباب الكلا والذباب الذي يخالط الناس يخلق من الفساد، وقد يخلق من الأجساد، ويقال: إن

الباقلا إذا عتق في موضع استحال كله ذباباً، وطار من الكوى التي في ذلك الموضع ولا يبقى فيه غير القشر انتهى. روى الحاكم عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أنه قال، وهو على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تدور في جوها، فالله الله في إخوانكم من أهل القبور، فإن أعمالكم تعرض عليهم " . ومعنى تمور تذهب وتجيء، والجو ما بين السماء والأرض. وفي مسند أبي يعلى الموصلي، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار، إلا النحل " وهو في الكامل في ترجمة عمرو بن شقيق عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الذباب كله في النار إلا النحل. قيل كونه في النار ليس بعذاب له، وإنما ليعذب به أهل النار بوقوعه عليهم " . وروى النسائي والحاكم عن أبي المليح عن أبيه أسامة بن عمير بن عامر الأقيش الهذلي البصري قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثر بعيرنا فقلت: تعس الشيطان. فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي، ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يصير مثل الذبابة " ورواه أبو داود عن أبي المليح عن رجل قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثرت دابته فقلت: الخ ورواه ابن السني كما رواه النسائي والحاكم، وصرح فيه بأن أبا المليح رواه عن أبيه أسامة بن مالك. وكلتا الروايتين صحيحة فإن الرجل المجهول في رواية أبي داود صحابي والصحابة كلهم عدول، لا تضر الجهالة بأعيانهم. وقال الإمام العلامة الذهبي: الرجل المجهول المبهم أبو عزة. ورواه خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي عن أبيه خالد قال: كنت رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فعثرت الناقة، فقال إلى آخره. كذا هو في أسد الغاية، في ذكر المنسوبين إلى القبائل. وأما قوله: تعس، فقيل: معناه هلك، وقيل: سقط وقيل: عثر، وقيل لزمه الشر. وتعس بفتح العين وكسرها والفتح أشهر، ولم يذكر الجوهري غير الفتح. وروى الطبراني وابن أبي الدنيا، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه ما لم يقدر عليه، فمن ذلك سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، في اليوم الصائف ولو بدوا لكم لرأيتموهم على كل سهل وجبل كل باسط يديه فاغر فاه، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " . والعرب تجعل الذباب والفراش والنحل والدبر ونحوها كلها واحداً كما تقدم. وجالينوس يقول: إنه ألوان فللإبل ذباب، وللبقر ذباب. وأصله دود صغار يخرج من أبدانهن فيصير ذباباً وزنابير. وذباب الناس يتولد من الزبل ويكثر الذباب إذا هاجت ريح الجنوب ويخلق في تلك الساعة، وإذا هبت ريح الشمال خف وتلاشى. وهو من ذوات الخراطيم كالبعوض. انتهى. ومن عجيب أمره أنه يلقي رجيعه على الأبيض أسود، وعلى الأسود أبيض، ولا يقع على شجرة اليقطين. ولذلك أنبتها الله على نبيه يونس عليه الصلاة والسلام، لأنه حين اخرج من بطن الحوت لو وقعت عليه ذبابة لآلمته فمنع الله عنه الذباب بذلك، فلم يزل كذلك حتى تصلب جسمه. ولا يظهر كثيراً إلا في الأماكن العفنة، ومبدأ خلقه منها ثم من السفاد، وربما بقي الذكر على الأنثى عامة اليوم. وهو من الحيوانات الشمسية، لأنه يخفي شتاء ويظهر صيفاً، وبقية أنواعه كالناموس والفراش والنعر والقمع وغيرها، ستذكر في أبوابها إن شاء الله تعالى وما أحسن قول أبي العلاء المعري، ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة:
يا طالب الرزق الهني بقوة ... هيهات أنت بباطل مشغوف
رعت الأسود بقوة جيف الفلا ... ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف
ولمحمد الأندلسي في المعنى:
مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا ... وإذا وليت عنه تبعك
وفي المعنى أيضاً لأبي الخير الكاتب الواسطي:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين

وقد أجاد الأمير سيف الدين علي بن فليح الظاهري في التحذير من احتقار العدو بقوله:
لا تحقرن عدواً لأن جانبه ... وإن تراه ضعيف البطش والجلد
فللذبابة لا الجرح المديد يد ... تنال ما قصرت عنه يد الأسد
وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة الإمام يوسف بن زهرة الهمذاني الزاهد، صاحب المقامات والكرامات والأحوال الظاهرات، أنه جلس يوماً للوعظ فاجتمع إليه العالم، فقام من بينهم فقيه يعرف بابن السقاء وآذاه، وسأله عن مسألة، فقال له الإمام يوسف: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الإسلام فقدم رسول ملك الروم إلى الخليفة فخرج ابن السقاء مع الرسول إلى القسطنطينية فتنصر ومات نصرانياً. وكان ابن السقاء قارئاً للقرآن، محموداً في تلاوته. وحكى من رآه بالقسطنطينية قال: رأيته مريضاً ملقى على دكة، وبيده مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه، فقلت له: هل القرآن باق على حفظك؟ فقال: ما أذكر منه إلا آية واحدة وهي " وربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " ، والباقي أنسته. اه نعوذ بالله من سخطه وخذلانه، ونسأله حسن الخاتمة. فانظر يا أخي كيف هلك هذا الرجل، وخذل بالانتقاد، وترك الاعتقاد. نسأل الله السلامة، فعليك يا أخي بالاعتقاد، وترك الانتقاد على المشايخ العارفين، والعلماء العاملين، والمؤمنين الصالحين، فإن حرابهم مسمومة. فقل من تعرض لهم وسلم، فسلم تسلم ولا تنتقد تندم، واقتد بإمام العارفين، ورأس الصديقين، وعلامة العلماء العاملين في وقته الشيخ محي الدين عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى، لما عزم على زيارة قطب الغوث بمكة، وقال رفيقاه ما قالا فقال: أما أنا فذاهب على قدم الزيارة والتبرك، لا على قدم الإنكار والامتحان، فآل أمره إلى أن قال: قدمي هذا على رقبة كل ولي، وآل أمر أحد رفيقيه إلي الكفر، وترك الإيمان بالانتقاد، وترك الاعتقاد. كما اتفق في هذه الحكاية. وآل أمره الآخر إلى اشتغاله بالدنيا، وتركه خدمة المولى لقلة التوفيق. فنسأل الله التوفيق والهداية والأمانة على الإيمان به وبرسوله، والاعتقاد الحسن في أوليائه وأصفيائه، بمحمد وآله. حدث يحيى بن معاذ أن أبا جعفر المنصور كان جالساً، فألح على وجهه ذباب حتى أضجره، فقال: انظروا من بالباب فقالوا: مقاتل بن سليمان فقال: علي به، فلما دخل عليه، قال له: هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال: نعم. ليذل به الجبابرة، فسكت المنصور. ومقاتل بن سليمان مشهور بتفسير كتاب الله العزيز، وأخذ الحديث عن جماعة، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الناس كلهم عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الفقه. قعد مقاتل بن سليمان يوماً فقال: سلوني عما دون العرش. فقال له رجل: آدم عليه الصلاة والسلام لما حج أول حجة حجها من حلق رأسه، فقال ليس هذا من علمكم ولكني ابتليت لما أعجبتني نفسي. وقيل إنه قيل له الذرة أو النملة أمعاؤها في مقدمها أو مؤخرها؟ فلم يدر ما يقول فكانت عقوبة عوقب بها وأنشد أبو عمرو بن العلاء في هذا المعنى :
من تحلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان
والعلماء مختلفون فيه، فمنهم من وثقه ومنهم من كذبه، وترك حديثه. قيل: إنه كان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه. وقيل: إنه كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبهاً. قال ابن خلكان وغيره: وهذا لا أعتقد صحته. وتوفي مقاتل بن سليمان في سنة خمس وخمسين ومائة وفي مناقب الإمام الشافعي أن المأمون سأله فقال: لأي شيء خلق الله الذباب؟ فقال: مذلة للملوك. فضحك المأمون وقال: رأيته وقد وقع على جسدي فقال: نعم. ولقد سألتني عنه وما عندي جواب. فلما رأيته قد سقط منك بموضع لا يناله منك أحد فتح الله لي فيه بالجواب. فقال لله درك. وفي شفاء الصدور وتاريخ ابن النجار مسنداً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقع على جسمه ولا ثيابه ذباب أصلاً.
الحكم: كل أنواعه يحرم أكلها، وفيه وجه أنه يحل حكاه الرافعي. وقال الماوردي: ومن الفقهاء من أباح الذباب المتولد من مأكول كالفول ونحوه، ولعل قائل هذا القول هو الذي يقول بإباحة المتولد من الفواكه.

فرع: قال في الأحياء في أول كتاب الحلال والحرام: لو وقعت ذبابة أو نملة في قدر طبيخ وتهرت أجزاؤها لم يحرم أكل ذلك الطبيخ، لأن تحريم أكل الذباب والنمل ونحوهما إنما للاستقذار ولا يعد هذا مستقذراً. قال: ولو وقع فيه جزء من لحم آدمي ميت، لم يحل أكل ذلك الطبيخ، حتى لو كان لحم الآدمي وزن دانق، حرم الطبيخ لا لنجاسته فإن الآدمي الميت طاهر على الصحيح، خلافاً لأبي حنيفة، ولكن لأن أكل لحم الآدمي حرام لحرمته لا لاستقذاره، بخلاف الذباب. هذا كلام الغزالي رحمه الله تعالى. قال في شرح المهذب المختار أنه لا يحرم أكل الطبيخ في مسألة لحم الآدمي لأنه صار مستهلكاً، فهو كالبول وغيره إذا وقع في قلتين من الماء فإنه يجوز استعمال جميعه لأن البول صار باستهلاكه كالعدم. وروى البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وإنه يتقى بجناحه الذي فيه الداء " . وفي رواية النسائي وابن ماجة " أن أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فامقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء " . قال الخطابي: وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له، وقال: كيف يكون هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي ذبابة؟ وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء، وما أداها إلى ذلك. قال: وهذا سؤال جاهل، أو متجاهل فإن الذي يجد نفسه، ونفس سائر الحيوانات، قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت ثم يرى أن الله قد ألف بينها وقهرها على الإجتماع وجعل منها قوى الحيوان التي منها بقاؤه وصلاحه لجدير أن لا ينكر إجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوان واحد. وإن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وتعسل فيه، وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحاً وتؤخر جناحاً لما أراده من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان، الذي هو مضمار التكليف، وله في كل شيء حكمة وعنوان، وما يذكر إلا أولو الألباب. انتهى. وقد تأملت الذباب فوجدته يتقي بجناحه الأيسر وهو مناسب للداء، كما أن الأيمن مناسب للدواء. وقد استفيد من الحديث أنه إذا وقع في المائع لا ينجسه لأنه ليس له نفس سائلة، هذا هو المشهور وفي قول ينجسه، كسائر الميتات النجسة، وفي ثالث مخرج أن ما يعم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس، وما لا يعم كالخنافس والعقارب ينجس. وهو متجه لا محيد عنه ومحمل الخلاف في ميتة أجنبية أما الناشىء منه كدود الفواكه والجبن والخل، فلا ينجس ما مات فيه بلا خلاف. كذا قاله الشيخان وابن الرفعة وحكى الدارمي في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها الفرق بين الكثير والقليل ومحل ذلك ما لم يتغير به لكثرته فإن كثر وتغير به فالأصح أنه ينجسه، ومحله أيضاً إذا وقع فيه بنفسه فإذا طرح فيه ضر.
فرع: لو وقع الزنبور أو الفراش أو النحل وأشباه ذلك في الطعام، هل يؤمر بغمسه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم " . الحديث وهذه الأنواع كلها يقع عليها إسم الذباب في اللغة كما تقدم نقله عن الجاحظ وغيره. وقد قال علي رضي الله تعالى عنه في العسل إنه مذقة ذبابة. وروي الذباب كله في النار إلا النحل كما سبق. فسمي الكل ذباباً وإذا كان كذلك فالظاهر وجوب حمل الأمر بالغمس على الجميع إلا النحل فإن الغمس قد يؤدي إلى قتله وهو حرام.

الأمثال: قال الله تعالى: " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له " الآية. معنى ضرب أثبت وألزم، نحو ضربت عليه الذلة وضربت عليهم الجزية، ويحتمل أن يكون من الضريب الذي هو المثل، وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أن الشيطان خدعهم، حيث وصفوا بالآلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والاحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل وأدل من ذلك على عجزهم، وانتفاء قدرتهم، أن هذا الخلق الأذل الأقل، لو اختطف منهم شيئاً، فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأصنام كانت ثلثمائة وستين صنماً حول الكعبة، وكانوا يضمخونها بأنواع الطيب ويطلون رؤوسها بالعسل، وكان الذباب يذهب بذلك، وكانوا يتألمون من هذه الجهة. فجعلت مثلاً وقالوا: " أجرأ من ذبابة وأهون من ذبابة " . " واطيش وأخطأ من الذباب " لأنه يلقي نفسه في الشيء الحار، والشيء الذي يلتصق به ولا يمكنه التخلص وقالوا: " أوغل من ذباب: قال الشاعر:
أوغل في التطفيل من ذباب ... على طعام وعلى شراب
لو أبصر الرغفان في السحاب ... لطار في الجو بلا حجاب
قال أبو عبيد كان رجل من أهل الكوفة يقال له طفيل بن دلال من بني عبد الله بن غطفان، وكان يأتي الولائم من غير أن يدعي إليها، وكان يقال له طفيل الأعراس، وكان أول رجل لابس هذا العمل في الأمصار فصار مثلاً ينسب إليه كل من يقتدي به. وقالوا : " أزهى من ذبابة " . وقالوا: " أصابه ذباب لادغ " يضرب لمن نزل به شر عظيم يرق له من سمعه، وقالوا ما يساوي متك ذباب يضرب للشيء الحقير، والمتك العرق الذي في باطن الذكر، وهو كالخيط في باطنه على خلقة العجان. وفي كتاب النصائح لابن ظفر قال: رأيت في أخبار بعض الملوك أن وزيره أشار عليه بجمع الأموال وأدخارها وقال: إن الرجال، وإن تفرقوا عنك اليوم، في احتجتهم عرضت عليهم الأموال فتهافتوا عليك، فقال: هل لهذا من شاهد؟ قال: نعم. هل بحضرتنا الساعة ذباب؟ قال: لا. فأمر الوزير بجفنة فيها عسل، فأحضرت فتساقط عليهم الذباب، فاستشار الملك بعض خواص أصحابه، فنهاه عن ذلك، وقال: لا تغير قلوب الرجال فليس كل وقت أردتهم يحضرون، فقال: فهل لذلك من دليل؟ قال: نعم. إذا أمسينا أخبرتك فلما أظلم الليل. قال للملك: أحضر جفنة العسل، فأحضرت فلم تحضر ذبابة، فرجع الملك عن رأيه الأول.
الخواص: قال الجاحظ: إذا ضرب اللبن بالكندس ونضح به البيت لم يدخله ذباب، وإذ أخذت ذبابة وفصلت رأسها ودلكت بها قرصة الزنبور سكنت، وإذا أحرق الذباب وسحق وخلط بعسل وطلي به داء الثعلب فإنه ينبت فيه الشعر، وإذا ماتت الذبابة، فنثر عليها خبث الحديد عاشت من وقتها، وإذا بخر البيت بورق القرع أو كندس أو سليخة ذهب منه الذباب، وإذا طبخ ورق القرع ورش به البيت أو الحيطان لم يقع فيه ذباب انتهى.
صفة طلسم لمنع الذباب: يؤخذ كندس جديد وزرنيخ أصفر أجزاء متساوية، يسحقان ويعجنان بماء بصل الفار، ويدهن ويعمل منه تمثال ويوضع على المائدة، فلا يقربها ذباب ما دام عليها وإذا وضع على باب البيت باقة من الحشيشة التي يقال لها سادريون، فلا يدخل البيت ذباب ما دامت الباقة معلقة على الباب، وإذا أخذت الذباب الكبير فقطعت رؤوسهن، وحككت بجسدهن موضع الشعرة التي تنبت في الجفن، حكاً شديداً فإنه يذهبها أصلاً، وهو عجيب مجرب، وإذا أخذت ذبابة وجعلت في خرقة كتان وربطت بخيط ووسع الربط عليها وعلقت على من يشتكي عينه سكن ألمه، وتعلق في عنقه أو عضده. وإن شدخ الذباب وضمد به العين الوارمة أبرأها. وقال محمد بن زكريا القزويني: رأيت في كتب الطبيعيات الرومية إذا علقت ذبابة حية على من يشتكي ضرسه برىء. ومن عضه كلب فليستر وجهه عن الذباب، فإن ذلك مما يؤذيه والله أعلم التعبير: الذباب في المنام خصم ألد وجيش ضعيف، وربما دل اجتماعه على الرزق الطيب، وربما دل على الداء والدواء للحديث المتقدم. وربما دلت رؤيته على الأعمال السيئة والوقوع فيما يوجب التقريع لقوله تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له " إلى قوله: " ضعف الطالب والمطلوب " .

الذر: النمل الأحمر الصغير واحدته ذرة. قال تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " أي لا يبخس ولا ينقص أحداً من ثواب عمله مثقال ذرة، أي وزن ذرة. سئل ثعلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن حبة. والذرة واحدة منها وقيل: إن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلاً وضع خبزاً حتى علاه الذر وستره ثم وزنه فلم يزد شيئاً. وقيل: الدر أجزاء الهباء في الكوة، وكل جزء منه ذرة ولا يكون لها وزن. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: " ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " . صحفها شعبة بن بسطام، وقال: مثقال ذرة بضم الذال وتخفيف الراء وقال العبدري: إنما قال درة بالدال المهملة وتشديد الراء واحدة الدر وهو تصحيف التصحيف. قال ابن بطة من الحنابلة في تفسير الآية: مثقال مفعال من الثقل، والذرة النملة الصغيرة الحمراء، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول لأنها تصغر وتحرى كما تفعل الأفعى. تقول العرب أفعى حارية وهي أشدها سماً قال امرؤ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الأتب منها الأثرا
المحول الذي أتى عليه حول والأتب ثوب تلقيه المرأة في عنقها بلا كم ولا جيب وقال حسان:
لو يدب الحولي من ولد الذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم

أي لو دبت الحولية من الذر عليها لأثرت بها الكلوم. وقال السهيلي وغيره: أهلك الله تعالى جرهم بالذر والرف، حتى كان آخرهم موتاً امرأة رؤيت تطوف بالبيت بعدهم بزمان، فتعجبوا من طولها وعظم خلقها، حتى قال لها قائل: أجنية أنت أم إنسية؟ فقالت: بل إنسيه من جرهم، ثم اكترت من رجلين من جهينة بعيراً إلى أرض خيبر، فلما أنزلاها استخبراها عن الماء فأخبرتهما، فوليا فأتاها الذر فتعلق بها إلى أن انتهى إلى خياشيمها، ثم نزل إلى حلقها فهلكت. وعبر عن الذرة يزيد بن هارون بأنها دودة حمراء وهي عبارة فاسدة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الذرة رأس النملة. وقال بعض العلماء لأن تفضل حسناتي سيأتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها قال الله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " انتهى. وهذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها الجامعة الفاذة، أي المنفردة في معناها. وروى البيهقي في الشعب، من حديث صالح المري عن الحسن عن أنس أن سائلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه تمرة فقال السائل: سبحان الله نبي من أنبياء الله يتصدق بتمرة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أو ما عملت أن فيها مثاقيل ذر كثير " . " ثم أتاه آخر فسأله فأعطاه تمرة فقال: تمرة من نبي من الأنبياء لا تفارقني هذه التمرة ما بقيت، ولا أزال أرجو بركتها أبداً فأمر له بمعروف. وفي رواية قال للجارية: إذهبي إلى أم سلمة فمريها فلتعطه الأربعين درهماً التي عندها قال أنس: فما لبث الرجل أن استغنى. وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة " وأعطى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سائلاً تمرتين، فقبض السائل يده فقال له سعد: يا هذا إن الله قد قبل منا مثاقيل الذرة. وفعلت عائشة رضي الله تعالى عنها هذا في حبة عنب. وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التميمي عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حسبي لا أبالي أن لا أسمع آية غيرها. وسمعها رجل عند الحسن البصري فقال: انتهت الموعظة. فقال الحسن: فقه الرجل. وروى الحاكم في المستدرك عن أبي أسماء الرحبي، أن هذه السورة نزلت وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فترك أبو بكر الأكل وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أما يبكيك " . فقال: يا رسول الله أو نسأل عن مثاقيل الذر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير إلى الآخرة " . قال: والذرة نملة صغيرة حمراء لا يرجح بها ميزان. وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي هريرة رضي الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجاء بالجبارين والمتكبرين يوم القيامة رجال على صور الذر يطؤهم الناس، من هوانهم على الله، حتى يقضي بين الناس، قال: ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار. قيل: يا رسول الله وما نار الأنيار؟ قال عصارة أهل النار " . ورواه صاحب الترغيب والترهيب وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يغشاهم الصغار من كل مكان، ويساقون إلى سجن من النار يقال له بولس، تعلوهم نار الأنيار، ويسقون من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار " . رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الأصمعي قال: مررت بأعرابية في البادية في كوخ فقلت لها يا أعرابية من يؤنسك ههنا. قالت: يؤنسني مؤنس الموتى في قبورهم. قلت: ومن أين تأكلين؟ قالت: يطعمني مطعم الذرة وهي أصغر مني. وفي المدهش للإمام العلامة أبي الفرج بن الجوزي أن رجلاً من العجم طلب الأدب حيناً فبينما هو في بعض الطريق سائر إذ مر بصخرة ملساء فتأملها فإذا ذر يدب عليها، وقد أثر عليها من كثرة دبيبه ففكر وقال: مع صلابة هذا الحجر، وخفة هذا الذر قد أثر فيه هذا الأثر، فأنا أحرى على أن أدوم على الطلب فلعلي أظفر ببغيتي. فراجع الإثبات على الأدب، فلم يلبث أن خرج مبرزاً. وهكذا يجب أن يكون طالب فائدة دينية أو دنيوية، لا سيما طالب التوحيد والمعرفة، أن يكون كراراً غير فرار، فإما الظفر

والغنيمة وإما القتل والشهادة. وسئل أبو زيد البسطامي رحمه الله تعالى، عن العارف. فقال: هو أن يكون وحداني التدبير، فرداني المعنى، صمداني الرؤية، رباني القوة، وحداني العيش، نوراني العلم خلداني العجائب، سماوي الحديث، وحشي الطلب ملكوتي السر، عنده مفاتح الغيب، وخزائن الحكم وجواهر القدس، وسرادقات الأبرار، فإذا جاوز الحد وارتفع إلى أعلى فهو غير مدرك وحاله غير موصوف. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " . فقال رجل: إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، فقال:والغنيمة وإما القتل والشهادة. وسئل أبو زيد البسطامي رحمه الله تعالى، عن العارف. فقال: هو أن يكون وحداني التدبير، فرداني المعنى، صمداني الرؤية، رباني القوة، وحداني العيش، نوراني العلم خلداني العجائب، سماوي الحديث، وحشي الطلب ملكوتي السر، عنده مفاتح الغيب، وخزائن الحكم وجواهر القدس، وسرادقات الأبرار، فإذا جاوز الحد وارتفع إلى أعلى فهو غير مدرك وحاله غير موصوف. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " . فقال رجل: إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، فقال: " إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس " . ورواه الترمذي، وقال: حسن غريب. وقيل: المراد بالكبر ههنا الكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلاً إذا مات عليه. وقيل لا يكون في قلبه كبر حين دخول الجنة. كما قال الله تعالى: " ونزعنا ما في صدورهم من غل " الآية وهذان التأويلان فيهما بعد، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف، وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم، والظاهر فيه ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين، أنه لا يدخلها دون مجازاة، أو لا يدخلها مع أول الداخلين، وأما قوله، " فقال رجل " . فذلك الرجل هو مالك بن مرارة الرهاوي، قاله القاضي عياض، وأشار إليه ابن عبد البر. وحكى أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال في إسمه أقوالاً: أحدها أنه أبو ريحانة، وإسمه شمعون، وقيل: ربيعة بن عامر، وقيل: سواد بالتخفيف بن عمرو، وقيل: معاذ بن جبل. ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع. وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاص. ومعنى قوله إن الله جميل: أي إن كل أمره سبحانه حسن وجميل، فله الأسماء الحسنى، وصفات الجمال والكمال، وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع. وقال أبو القاسم القشيري: معناه جميل: وقيل معناه ذو النور والبهجة أي مالكهما وقيل: معناه جميل الأفعال بكم، والنظر إليكم يكلفكم اليسير ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل سبحانه ما أكرمه قال شيخ الإسلام يحيى النووي رحمه الله تعالى: هذا الإسم ورد في الحديث الصحيح وورد في الأسماء الحسنى. وفي إسناده مقال والمختار جواز اطلاقه على الله تعالى، ومن العلماء ومن معه. وقال إمام الحرمين أبو المعالي: ما ورد به الشرع جوزنا إطلاقه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتجويز ولا منع، فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحريم أو تحليل لكنا مثبتين حكماً بغير الشرع، ثم لا يشترط في جواز الاطلاق ورود ما نقطع به في الشرع، ولكن ما يقتضي العمل، وإن لم يوجب العمل فإنه كاف إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بها في تسمية الله تعالى وصفته. قال النووي: وقد اختلف أهل السنة في تسميته تعالى ووصفه، من أوصاف الكمال والجلال والمدح، بما لم يرد به الشرع ولا منعه، فأجازه طائفة ومنعه آخرون، إلا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب، أو سنة متواترة، أو إجماع على اطلاقه، فإن ورد به خبر واحد فقد اختلفوا فيه، فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل. وذلك جائر بخبر الواحد، ومنعه آخرون لكونه راجعاً إلى اعتقاده ما يجوز أن يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع، قال القاضي: والصواب جوازه لاشتماله على العمل، ولقوله تعالى: " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " وهو كما قال. وأما قوله وغمط الناس كذا في نسخ صحيح مسلم، وكذلك ذكره أبو داود في مصنفه، وذكره الترمذي وغيره غمص بالصاد المهملة وهما بمعنى واحد وهو احتقارهم.

وأما رؤيته في المنام، فإنها تعي بالنسل لقوله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " والذر أيضاً يعبر بالضعفاء من الناس. وقيل: الذر جند لأنه من النمل والله تعالى أعلم.
الذراح: قال الجوهري: الذراح والذروح بالضم دويبة حمراء منقطة بسواد تطير وهي من السموم والجمع الذراريح. وقال سيبويه: واحد الذراريح ذرحرح، وليس عنده في الكلام فعول بواحدة. وكان يقول: سبوح قدوس بفتح أوائلهما. والذراح أنواع فمنه ما يتولد من الحنطة ومنه دود الصنوبر ومنه ما في أجنحته خطوط صفر ولونه مختلف وأجسامها كبار طوال ممتلئة قريبة الشبه من بنات وردان.
الحكم: يحرم أكلها لاستخبائها.
الخواص: الذراريح تنفع الجرب، والعلة التي ينقشر معها الجلد. ويخلط في الأدوية الموافقة للأورام، كالسرطان والقوابي الرديئة، قال الرازي: الاكتحال منها ينفع الطرفة في العين، وإذا طلي بها مسحوقة قتلت القمل، وإذا طبخت في زيت أبرأ ذلك الزيت داء الثعلب وزعم القدماء من الأطباء: أنه إذا جعل شيء منها من خرقة حمراء وعلقت على من به حمى أبرأته بخاصية عجيبة.
الذرع: بالتحريك ولد البقرة الوحشية تقول منه أذرعت البقرة فهي مذرع.
الذعلب: والذعلبة الناقة السريعة، وفي حديث سواد بن مطرف الذعلب الناقة الوجناء .
الذئب: يهمز ولا يهمز وأصله الهمزة والأنثى ذئبة، وجمع القلة أذؤب، وجمع الكثرة ذئاب وذؤبان. ويسمى الخاطف والسيد والسرحان وذؤالة والعملس والسلق، والأنثى سلقة والسمسام، وكنيته أبو مذقة لأنه لونه كذلك قال الشاعر:
حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
ومن كناه الشهيرة أبو جعدة. قال عبيد بن الأبرص للمنذر بن ماء السماء ملك الحيرة حين أراد قتله:
وقالوا: هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعدة
ضربه مثلاً أي تظهر لي الإكرام وأنت تريد قتلي. كما أن الخمرة، وإن سميت طلاء وحسن إسمها، فإن فعلها قبيح. وكذلك الذئب، وإن حسنت كنيته فان فعله قبيح. والجعدة الشاة وقيل: نبت طيب الريح ينبت في الربيع ويجف سريعاً وسئل ابن الزبير عن المتعة؟ فقال: الذئب يكني أبا جعدة. يعني أن المتعة حسنة الإسم قبيحة المعنى، كما أن الذئب حسن الكنية قبيح الفعل. ومن كناه أبو ثمامة وأبو جاعد وأبو رعلة وأبو سلعامة وأبو العطلس وأبو كاسب وأبو سبلة. ومن أصحابه الشهيرة أويس مصغراً، ككميت ولحيف. قال الشاعر الهذلي:
يا ليت شعري عنك والأمر عمم ... ما فعل اليوم أويس بالغنم
ومن أوصافه الغبش، وهو لون كلون الرماد يقال: ذئب أغبث وذئبة غبشاء. وروى الإمام أحمد وأبو يعلي الموصلي وعبد الباقي بن قانع أن الأعشى الشاعر المازني الحرمازي، وإسمه عبد الله بن الأعور، كانت عنده امرأة يقال لها معاذة، فخرج في شهر رجب يمير أهله من هجر، فهربت امرأته ناشزة عليه، فعاذت برجل منهم يقال له مطرف بن بهصل بن كعب بن قميع بن دلف بن أهصم بن عبد الله بن الحرماز، فجعلها خلف ظهره، فلما قدم لم يجدها في بيته فأخبر بخبرها فطلبها منه، فلم يدفعها إليه وكان مطرف أعز منه في قومه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فعاذ به وأنشأ يقول:
يا سيد الناس وديان العرب ... أشكو إليك ذرية من الذرب
كالذئبة الغبشاء في ظل السرب ... خرجت أبغيها الطعام في رجب
فخالفتني بنزاع وهرب ... وقذفتني بين عيص مؤتشب
أخلفت العهد ولطت بالذنب ... وهن شر غالب لمن غلب

فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: " وهن شر غالب لمن غلب " . كنى عن فسادها وخيانتها بالذربة، وأصله ومن ذرب المعدة وهو فسادها. وقيل: أراد سلاطة لسانها وفساد منطقها مأخوذة من قولهم: ذرب لسانه، إذا كان حاد اللسان لا يبالي بما يقول، والعيص بالعين والصاد المهملتين أصل الشجر والمؤتشب الملتف وقوله لطت بالذنب، وهو بالطاء المهملة، أراد به أنها منعته بضعها من لطت الناقة بذنبها، إذا سدت فرجها به، إذا أرادها الفحل. وقيل: أراد توارت وأخفت شخصها عنه، كما تخفي الناقة فرجها بذنبها، وكان الأعشى المذكور شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم امرأته وما صنعت، وأنها عند رجل منهم يقال له مطرف بن بهصل، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مطرف: " انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه " . فأتاه بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه عليه، فقال لها: يا معاذة هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك وأنا دافعك إليه. فقالت: خذ لي العهد والميثاق وذمة النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يعاقبني فيما صنعت، فأخذ لها ذلك ودفعها مطرف إليه فأنشأ يقول:
لعمرك ما حبي معاذة بالذي ... يغيره الواشي ولا قدم العهد
ولا سوء ما جاءت به إذ أزلها ... غواة رجال اذينا جونها بعدي
وقال الزمخشري في تفسيره قوله تعالى: " إن كيدكن عظيم " استعظم كيد النساء على كيد الشيطان، لأنه، وإن كان في الرجال كيد، إلا أن النساء ألطف كيدا، وأنفذ حيلة، ولهن في ذلك رفق وبذلك يغلبن الرجل. ومنه قوله تعالى: " ومن شر النفاثات في العقد " والنفاثات من بينهن اللاتي لهن ما ليس لغيرهن من البوائق. وعن بعض العلماء أنه قال: أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان، لأن الله تعالى يقول : " إن كيد الشيطان كان ضعيفاً " وقال في النساء: " إن كيدكن عظيم " وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة عمر بن أبي ربيعة، قال: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت، إذ رأى امرأة تطوف بالبيت، فأعجبته فسأل عنها فإذا هي من البصرة، فكلمها مراراً، فلم تلتفت إليه وقالت: إليك عني فإنك في حرم الله في موضع عظيم الحرمة، فلما ألح عليها ومنعها من الطواف، أتت محرماً لها، وقالت له تعالى معي أرني المناسك فحضر معها فلما رآها عمر بن أبي ربيعة عدل عنها، فتمثلت بشعر الزبرقان بن بدر السعدي:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الضاري
فبلغ المنصور خبرهما، فقال: وددت أن لم تبق فتاة في خدرها إلا سمعته. وكانت ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكان الحسن البصري يقول، إذا جرى ذكر ولادته: أي حق رفع وأي باطل وضع، وغزا في البحر فأحرقوا السفينة فاحترق، وذلك في سنة ثلاث وثمانين.
وللأسد والذئب في الصبر على الجوع ما ليس لغيرهما من الحيوان، لكن الأسد شديد النهم حريص رغيب شره، وهو مع ذلك يحتمل أن يبقى أياماً لا يأكل شيئاً والذئب وإن كان أقفر منزلاً، وأقل خصباً وأكثر كداً، إذا لم يجد شيئاً اكتفى بالنسيم، فيقتات به وجوفه يذيب العظم المصمت، ولا يذيب نوى التمر، ولا يوجد الالتحام عند السفاد إلا في الكلب والذئب. ومتى التحم الذئب والذئبة، وهجم عليهما هاجم قتلهما كيف شاء، إلا أنهما لا يكادان يوجدان كذلك، لأنهما إذا أرادا السفاد توخيا موضعاً لا يطؤه الإنس، خوفاً على أنفسهما ويسفد مضطجعاً على الأرض، وهو موصوف بالانفراد والوحدة، وإذا أراد العدو فإنما هو الوثب والقفز، ولا يعود إلى فريسة شبع منها أبداً. ومن عجيب أمره أنه ينام بإحدى مقلتيه والأخرى يقظى حتى تكتفي العين النائمة من النوم، فيفتحها وينام بالأخرى ليحترس باليقظى ويستريح بالنائمة قال حميد بن ثور في وصفه، في أبيات مشهورة منها:
ونمت كنوم الذئب في ذي حفيظة ... أكلت طعاماً دونه وهو جائع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع
وهو أكثر الحيوان عواء إذا كان مرسلاً فإذا أخذ وضرب بالعصي والسيوف حتى يتقطع أو

يهشم لم يسمع له صوت إلى أن يموت. وفيه من قوة حاسة الشم، أنه يدرك المشموم من فرسخ. وأكثر ما يتعرض للغنم في الصبح وإنما يتوقع فترة الكلب ونومه وكلاله، لأنه يظل طول ليله حارساً متيقظاً. ومن غريب أمره أنه إذا إجتمع جلده مع جلد شاة تمغط جلد الشاة، وأنه متى وطىء ورق العنصل مات من ساعته. والذئب إذا كده الجوع عوى فتجتمع له الذئاب، ويقف بعضها إلى بعض. فمن ولى منها وثب إليه الباقون وأكلوه، وإذا عرض للإنسان، وخاف العجز عنه، عوى عواء استغاثة فتسمعه الذئاب، فتقبل على الإنسان إقبالاً واحداً، وهم سواء في الحرص على أكله، فإن أدمى الإنسان واحداً منها، وثب الباقون على المدمى فمزقوه، وتركوا الإنسان. وقال بعض الشعراء يعاتب صديقاً له وكان قد أعان عليه في أمر نزل به:
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
روى البيهقي في الشعب، عن الأصمعي، قال: دخلت البادية فإذا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب مقع، فنظرت إليها فقالت: أتدري ما هذا. قلت: لا. قالت: جرو ذئب أخذناه وأدخلناه بيتنا، فلما كبر قتل شاتنا. وقد قلت في ذلك شعراً قلت لها: ما هو؟ فأنشدته:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي ... وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذيت بدرها وربيت فينا ... فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع فيها الأديب
وهو إذا خافه إنسان طمع فيه، وإذا طمع الإنسان فيه خافه، ويقطع العظم بلسانه ويبريه بري السيف، ولا يسمع له صوت، ويقال: عوى الذئب، كما يقال عوى الكلب قال الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
وقال آخر:
ليت شعري كيف الخلاص من النا ... س وقد أصبحوا ذئاب اعتداء
قلت لما بلاهم: صدق خبري ... رضي الله عن أبي الدرداء
أشار إلى قول أبي الدرداء: إياكم ومعاشرة الناس فإنهم ما ركبوا قلب امرىء إلا غيروه ولا جواد إلا عقروه، ولا بعيراً إلا أدبروه. وروى السهيلي، في الكلام على غزوة أحد، في حديث مسند، أنه قال: لما ولد عبد الله بن الزبير نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " هو هو ورب الكعبة " . فلما سمعت أمه أسماء ذلك أمسكت عن ارضاعه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أرضيه ولو بماء عينيك كبش بين ذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو يقتلن دونه " . وروى ابن ماجه والبيهقي عن كعب بن مالك، وقال: حديث صحيح حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم، بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه وقد نص الله تعالى على ذم الحرص بقوله: " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة " ، وروى ابن عمي عن عمرو بن حنيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئباً، فقلت أذئب في الجنة؟ فقال: أكلت ابن شرطي " . قال ابن عباس: هذا وإنما أكل ابنه فلو أكله رفع في عليين. وقد رأيته كذلك في تاريخ نيسابور للحاكم في ترجمة شيخه علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي وهو حديث موضوع.
وروى الحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: بينما راع يرعى بالحرة، إذ عدا الذئب على شاة فحال الراعي بينه وبينها فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: يا عبد الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي! فقال الرجل: واعجبا ذئب يكلمني! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب مني، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، فزوى الراعي شياهه إلى زاوية من زوايا المدينة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدق والذي نفسي بيده " .

فائدة: قال ابن عبد البر وغيره: كلم الذئب من الصحابة ثلاثة: رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع وأهبان بن أوس الأسلمي رضي الله تعالى عنهم. قال: ولذلك تقول العرب: هو كذئب أهبان يتعجبون منه، وذلك أن أهبان بن أوس المذكور كان في غنم له فشد الذئب على شاة منها فصاح به أهبان فأقعى الذئب وقال: أتنزع مني رزقاً رزقنيه الله تعالى؟ فقال أهبان: ما سمعت ولا رأيت أعجب من هذا ذئب يتكلم، فقال الذئب: أتعجب من هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات وأومأ بيده إلى المدينة يحدث بما كان وبما يكون، ويدعو الناس إلى الله وإلى عبادته وهم لا يجيبونه، قال أهبان بن أوس: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالقصة وأسلمت، فقال لي: " حدث به الناس " . قال عبد الله بن أبي داود السجستاني الحافظ فيقال لأهبان: مكلم الذئب ولأولاده أولاد مكلم الذئب، ومحمد بن الأشعث الخزاعي من ولده واتفق مثل ذلك لرافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع انتهى. وقال البخاري : أنبأنا شعيب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بينما راع في غنمه إذا عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب، وقال: من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري. وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه وكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث. فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، وبقرة تتكلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر؟ قال ابن الأعرابي: السبع بسكون الباء الموضع الذي عنده المحشر يوم القيامة. أراد من لها يوم القيامة. وقيل: هذا التفسير يفسد بقول الذئب في تمام الحديث يوم لا راعي لها غيري، والذئب لا يكون لها راعياً يوم القيامة. وقيل أراد من لها يوم الفتن حين يتركها الناس هملاً لا راعي لها نهبة للسباع والذئاب، فجعل السبع لها راعياً إذ هو منفرد بها. ويكون حينئذ بضم الباء. وهذا إنذار ربما يكون من الشدائد والفتن التي تأتي حتى يهمل الناس فيها مواشيهم وتتمكن منها السباع بلا مانع. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى يوم السبع عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون فيه بلهوهم ولعبهم وأكلهم فيجيء الذئب فيأخذها وليس هو بالسبع الذي يفترس الناس. قال: وأملاه أبو عامر العبدي الحافظ بضم الباء وكان من العلم والاتقان بمكان. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كانت امرأتان معهما ابناهما إذ جاء الذئب فذهب بابن أحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود عليه الصلاة والسلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان فأخبرتاه بذلك فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين فقالت الصغرى: لا ويرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى " . قال أبو هريرة

رضي الله تعالى عنه والله ما سمعت بالسكين قط، إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية واستدل بهذا الحديث من جوز أن المرأة تستلحق اللقيط، وأنه يلحقها لأنها أحد الأبوين. ونقله صاحب التقريب عن ابن سريج والأصح أنه لا يلحقها إذا استلحقته لإمكان إقامة البينة على الولادة بطريق المشاهدة بخلاف الرجل. وفيه وجه ثالث يلحق الخلية دون المزوجة، لتعذر الإلحاق بها دونه، وإذا قلنا يلحقها بالإستلحاق. وكان لها زوج لم يلحقه في الأصح وليس المراد بالزوج من هي في عصمته، بل كونها فراشاً، لشخص لوثبت نسب اللقيط منها بالبينة، لحق صاحب الفراش سواء كانت في العصمة أو في العدة. وروى الإمام أحمد والطبراني بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاسية إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد " . وفي تاريخ ابن النجار عن وهب بن منبه قال: بينما امرأة من بني إسرائيل، على ساحل البحر تغسل ثيابها، وصبي لها يدب بين يديها، إذ جاء سائل فأعطته لقمة من رغيف كان معها، فما كان بأسرع من أن جاء ذئب فالتقم الصبي، فجعلت تعدو خلفه وتقول: يا ذئب ابني يا ذئب ابني، فبعث الله ملكا فنزع الصبي من فم الذئب ورمى به إليها. وقال: لقمة بلقمة. وهو في الحلية عن مالك بن دينار وقال: أخذ السبع صبياً لامرأة فتصدقت بلقمة فرماه السبع فنوديت لقمة بلقمة. وروى الإمام أحمد في الزهد عن سالم بن أبي الجعد، قال: خرجت امرأة وكان معها صبي لها، فجاء الذئب فاختلسه منها فخرجت في أثره وكان معها رغيف، فعرض لها سائل فأعطته الرغيف، فجاء الذئب بصبيها فرده عليها وقد تقدم نظير ذلك عنه في باب الهمزة في الأسود السالخ. قال ابن سعد كان موسى بن أعين راعياً بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الذئاب والشاه والوحش ترعى في موضع واحد فبينما نحن ذات ليلة إذ عرض الذئاب لشاة، فقلنا ما نرى الرجل الصالح إلا قد مات، فنظرنا فإذا عمر بن عبد العزيز قد مات تلك الليلة، وذلك لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة كما تقدم في الأوز وكانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر. وروى الإمام أحمد في الزهد أيضاً عن مالك بن دينار قال: لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس، قال رعاة الشاة: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟ قيل لهم: وما أعلمكم بذلك قالوا إنه إذا ولي على الناس خليفة عدل كفت الذئاب والأسد عن شياهنا.
الحكم: يحرم أكله لتقويته بنابه.
الأمثال: وصفته العرب بأوصاف مختلفة فقالوا : " أغدر من ذئب " . واختل وأخبث وأخون وأجول وأعتى وأعوى وأظلم وأحرأ وأكسب وأجوع وأنشط وأوقح وأجسر وأيقظ وأعق وألأم من ذئب " . وقالوا: " أخوك، أم الذئب " وقالوا : " أخف رأساً من الذئب " . لأنه ينام بإحدى مقلتيه كما تقدم. وسيأتي له ذكر في أمثال الغراب. وقالوا في الدعاء على العدو: رماه الله بداء الذئب أي الجوع، وقالوا: الذئب يكنى أبا جعدة كما تقدم، وقالوا: " من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم " . أي ظلم الغنم، ويجوز أن يراد به ظلم الذئب، حيث كلفه ما ليس في طبعه، وأول من قال ذلك أكثم بن صيفي، وقاله عمر رضي الله تعالى عنه في قصة سارية بن حصن المشهورة، وذلك أنه كان يخطب يوم الجمعة بالمدينة فقال في خطبته: " يا سارية بن حصن الجبل الجبل من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم. فالتفت الناس بعضهم إلى بعض، ولم يفهموا مراده فلما قضى صلاته، قال له علي كرم الله وجهه: ما هذا الذي قلته؟ قال: أو سمعته؟ قال: نعم. أنا وكل من في هذا المسجد. قال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه، قاتلوا من وجدوا وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا فخرج مني هذا الكلام، فجاء البشير بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، في تلك الساعة حين جاوزوا الجبل، صوتاً يشبه صوت عمر رضي الله تعالى عنه يقول: يا سارية بن حصن الجبل الجبل! فعدلوا إليه ففتح الله عليهم. كذا نقله في تهذيب الأسماء واللغات، وفي طبقات ابن سعد وأسد الغابة أنه سارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر. وأنشدوا في معنى هذا المثل البيت:
وراعي الشام يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب!

كان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى يقول لعلماء الدنيا في زمانه: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية، وأثوابكم طالوتية، وأخفافكم جالوتية، وأوانيكم فرعونية، ومراكبكم قارونية، وموائدكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين المحمدية.
الخواص: إذا علق رأس الذئب في برج حمام لم يقر به سنور ولا شيء يؤذي الحمام. وكعب الذئب الأيمن إذا علق على رأس رمح، ثم إجتمع عليه جماعة لم يصلوا إليه ما دام الكعب معلقاً على رمحه. وعينه اليمنى من علقها عليه لم يخف لصاً ولا سبعاً. وخصيته إذا شقت وملحت بملح وسقي منها وزن مثقال بماء الجرجير من به وجع الخاصرة أبرأه، وهو نافع أيضاً لذات الجنب إذا شرب منها بماء حار وعسل. ودمه ينفع من الصمم إذا ديف بدهن الجوز وقطر في الأذن. ودماغه يداف بماء السذاب والزيت ويدهن به الجسد ينفع من كل علة ظاهرة وباطنة في البدن من البرد.
وأنيابه وجلده وعينه إذا حملها الإنسان معه غلب خصمه، وكان محبباً إلى الناس جميعا وكبده تنفع من وجع الكبد. وقضيبه إذا شوي في الفرن ومضغت منه قطعة هيجت الباه، وإذا خلطت مرارته بالعسل أو بالماء ولطخ بها الذكر وقت الجماع أحبت المرأة الرجل حبا شديداً. وإذا علق ذنب الذئب على معلف بقر لم تقرب إليه ما دام معلقاً، وإن أجهدها الجوع. وإن بخر موضع بزبله لم يقربه الفأر. وقيل: يجتمع إليه الفأر، وإذا إجتمع جلده وجلد شاة في موضع واحد تجرد جلد الشاة كما تقدم. ومن أدمن الجلوس على جلده أمن من القولنج، وإذا علق وتر من ذنبه على شيء من الملاهي وضرب بها تقطعت جميع أوتار الغنم التي تكون على الملاهي، ولم يسع لها صوت، وإذا بخر بجلد الذئب حانوت من يعمل الدفوف التي تلعب بها النساء، تشققت وإن اتخذ طبل من جلده وضرب به بين طبول تشققت الطبول كلها. وشحمه ينفع من داء الثعلب، وشرب مرارته ينفع من استرخاء البطن، وإذا لطخ بها على الإحليل جامع الرجل ما شاء، وإذا طلي بمرارته مع مرارة نسر ودهن الزئبق هيج الباه وأنعظ. وربما أنزل من لذة ذلك وإذا ديفت مرارته بدهن ورد ودهن بها الرجل حاجبيه أحبته المرأة إذا مشي بين يديها. وإذا خلطت مرارته بورس وطلي بها الوجه أذهب البهق. وعين الذئبة إذا علقت على من يصرع تمنع من الصرع، وإن أخذ عظم من العظام التي توجد في ذيل الذئب، وخدش بها الضرس الوجع أبرأه من وقته. وقال جالينوس: يسعط بمرارة الذئب ودهن البنفسج من به الشقيقة المزمنة، فإنه يبرأ. وإن سعط بذلك المولود أمن من الصرع ما عاش. وعيناه إذا علقتا على صبي لم يصرع وإن أخذ جزء من مرارة الذئب وجزء من عسل لم تصبه النار واكتحل به نفع من ظلمة العين وضعف البصر. وإن عقد ذنب الذئب بإسم امرأة، لم يقدر عليها أحد من الرجال، حتى تحل العقدة. وأن خلطت مرارة الذئب بعسل، وطلي به الذكر، وجامع امرأة، فإنها تحب ذلك الرجل حباً شديداً، ودم الذئب ينضج الجراحات.
صفة طلسم لجمع الذئاب: يعمل تمثال ذئب من نحاس ويجوف داخله، ويوضع فيه قضيب ذئب ويصفر به فتجتمع الذئاب التي تسمع صوته إليه.
صفة طلسم تهرب منه الذئاب: يعمل تمثال ذئب من نحاس، ويحشى من خرء ذئب، ويدفن في أي موضع أردت فإن الذئاب تهرب من ذلك الموضع.
التعبير: تدل رؤيته على الكذب والحيلة والعداوة للأهل والمكر بهم. وقيل: الذئب في الرؤيا لص غشوم ظلوم وجروه ولد لص، فمن رأى جرو ذئب فإنه يربي لصاً لقيطاً، وإن تحول الذئب حيواناً أنسياً كالخروف وشبهه فإنه لص يتوب ومن رأى ذئباً دخل داره فليحذر اللصوص، ومن رأى ذئباً فإنه يتهم إنساناً ويكون المتهم بريئاً لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام. ومن رأى ذئباً وكلباً واجتمعا على النفاق والمكر والخديعة والله أعلم.
ذؤالة: إسم للذئب كأسامة للأسد وهو معرفة. سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته وهي المشية الخفيفة.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية سوداء ترقص صبياً لها وتقول ذؤال يا ابن القرم يا ذؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقولي ذؤال فإنه شر السباع، وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد " .
الذيخ: بكسر الذال ذكر الضباع الكثير الشعر والأنثى ذيخة والجمع ذيوخ وأذياخ وذيخة.

روى البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي التفسير عن إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني أخي عبد الحميد، وعن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يلقى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام: ألم أقل لك أن لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أن يكون أبي في النار؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، فيقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " . ورواه النسائي والبزار والحاكم في آخر المستدرك. عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة يريد أن يدخله الجنة قال: فينادي إن الجنة لا يدخلها مشرك لأن الله حرم الجنة على كل مشرك، قال: فيقول: " أي رب أبي فيحول في صورة قبيحة، وريح منتنة فيتركه " . قال: فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون أنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولم يزدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ثم روى الحاكم عن حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول: يا أبت أي ابن كنت لك فيقول: خير ابن فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول خذ بازرتي فيأخذ بازرته ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض الخلق، فيقول: يا عبدي إدخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني. قال: فيمسخ الله أباه ضبعاً ثم يلقى في النار فيؤخذ بأنفه، فيقول الله تعالى: يا عبدي أبوك هو فيقول لا وعزتك " . ثم قال: صحيح على شرط مسلم، وفي حديث خزيمة بن ثابت أو ابن حكيم السلمي البهزي وليس بالأنصاري: " والذيخ محرنجم أي كالح منقبض من شدة الجذب " . وهو حديث طويل شرحه ابن الأثير في أوائل كتاب مثال الطالب، والحكمة في كونه مسخ ضبعاً، دون غيره من الحيوان أن الضبع أحمق الحيوان، كما سيأتي إن شاء الله، في أمثال الضبع. ومن حمقه أنه يغفل عما يجب التيقظ له. ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. لا أكون كالضبع تسمع اللدم فتخرج حتى تصاد. والدم الضرب الخفيف، فلما لم يقبل آزر النصيحة من أشفق الناس عليه، وقبل خديعة عدوه الشيطان أشبه الضبع الموصوفة بالحمق. لأن الصياد إذا أراد أن يصيدها رمي في جحرها بحجر فتحسبه شيئاً تصيده، فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك. ويقال لها وهي في جحرها: أطرفي أم طريق خامري أم عامر أبشري بجراد عطلى وشاة هزلى، فلا يزال يقال لها ذلك، حتى يدخل عليها الصائد، فيربط يديها ورجليها، ثم يجرها. ولأن آزر لو مسخ كلباً أو خنزيراً لكان فيه تشويه الخلقة، فأراد الله تعالى إكرام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بجعل أبيه على هيئة متوسطة. قال في المحكم: يقال ذيخته أي ذللته فلما خفض إبراهيم لأبيه جناح الذل من الرحمة، فلم يقبل حشر، بصفة الذل يوم القيامة. وهذه الحكمة هي أحد الأسباب الباعثة على تأليف هذا الكتاب كما تقدم في خطبته والله أعلم.
؟

باب الراء المهملة
الراحلة: قال الجوهري: هي الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول ويقال الراحلة المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى انتهى. والهاء فيها للمبالغة كالتي في داهية وراوية وعلامة. وإنما سميت راحلة لأنها ترحل أي يشد عليها الرحل فهي فاعلة بمعنى مفعولة كقوله تعالى: " فهو في عيشة راضية " ، أي مرضية. وقد ورد فاعل بمعنى مفعول في عدة مواضع من القرآن العظيم. كقوله تعالى: " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " أي لا معصوم وكقوله تعالى: " ماء دافق " أي موفوق. وكقوله تعالى: " حرما آمنا " أي مأموناً. وفيه جاء أيضاً مفعول بمعنى فاعل، كقوله تعالى: " حجاباً مستوراً أي ساتراً " ، و " كان وعده مأتياً " ، أي آتياً. قال الحريري : وقد يكنى عن النعل بالراحلة، لأنها مطية القدم وإليها أشار الشاعر بقوله ملغزاً:
رواحلنا ست ونحن ثلاثة ... نجنبهن الماء في كل مورد

روى البيهقي في الشعب، في أواخر الباب الخامس والخمسين، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من مشى عن راحلته عقبة فكأنما أعتق رقبة " . قال أبو أحمد: العقبة ستة أميال، وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الناس كابل مائة لا تجد فيها راحلة " . وقال البيهقي في سننه في باب إنصاف الخصمين في الدخول على القاضي والاستماع منهما والإنصاف لهما هذا الحديث يتأول على أن الناس في أحكام الدين سواء، لا فضل فيها الشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع، كالإبل المائة لا يكون فيها راحلة، وهي الذلولة التي ترحل وتركب. وذكر قبله عن ابن سيرين أنه قال: كان أبو عبيدة بن حذيفة قاضياً، فدخل عليه رجل من الأشراف، وهو يستوقد ناراً، فسأله حاجة فقال له أبو عبيدة: أسألك أن تدخل أصبعك في هذه النار، قال سبحان الله. قال: أبخلت في بإصبع من أصابعك أن تدخله في هذه النار، وتسألني إدخال جسمي كله في نار جهنم. وقال ابن قتيبة: الراحلة النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره، وهي كاملة الأوصاف، فإذا كانت في ابل عرفت. قاد: ومعنى الحديث أن الناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب بل هل أشباه كالإبل المائة. وقال الأزهري: الراحلة عند العرب، الجمل النجيب والناقة النجيبة قال: والهاء فيها للمبالغة، كما يقال: رجل نسابة وداهية. قال: والمعنى الذي ذكره ابن قتيبة غلط، بل معنى الحديث أن الزاهد في الدنيا الكامل في الزهد فيها الراغب في الآخرة قليل جداً، كقلة الراحلة في الإبل هذا كلام الأزهري. قال الإمام النووي وهو أجود من كلام ابن قتيبة. وأجود منهما قول آخرين: أن المرضى الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل فيهم جداً كقلة الراحلة في الإبل. قالوا: والراحلة البعير الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار. وقال الإمام العلامة الحافظ أبو العباس القرطبي، شيخ المفسرين في زمانه: الذي يقع لي أن الذي يناسب التمثيل بالراحلة، إنما هو الرجل الكريم الجواد الذي يتحمل كل الناس وأثقالهم، بما يتكلف من القيام بحقوقهم والغرامات عنهم وكشف كربهم. فهذا هو القليل الوجود بل قد يصدق عليه إسم المفقود. قلت: وهذا أشبه القولين والله أعلم.
الرأل: ولد النعام والأنثى رألة والجمع رئال ورئلان. وسيأتي ذكر النعام في باب النون إن شاء الله تعالى.
الراعي: بالراء والعين المهملتين طائر متولد بين الورشان والحمام وهو شكل عجيب. قاله القزويني وقال الجاحظ: إنه متولد بين الحمام والورشان وهو كثير النسل، ويطول عمره وله فضل وعظم في البدن والفرخ عليهما زلة في الهدير قرقرة ليست لأبويه، حتى صارت سبباً للزيادة في ثمنه وعلة للحرص على اتخاذه وقد ضبطه بعض مصنفي العمر بالزاي والغين المعجمتين وهو وهم.
الربى: على وزن فعلى بالضم: الشاة التي وضعت حديثاً، وإن مات ولدها فهي أيضاً ربى وقيل: ربابها ما بينها وبين عشرين يوماً، وقيل: هي ربى ما بينها وبين شهرين من وضعها، وخصها أبو زيد بالمعز وغيره بالضأن وقيل: الربى من المعز والرعوث من الضأن وجمعها رباب بالضم. قلت: وقد جاء الجمع على فعال في خمس عشرة كلمة رباب جمع ري، ورخال الآتي في الباب. ورذال جمع رذل، وبساط جمع بسط، وناقة بسيطة أي هزيلة وتؤام تقول هذا در تؤام أي من التوأمين ونذال جمع نذل، ورعاة جمع راع، وقماء جمع قميء أي حقير، وجمال مع جمل، وسحاح جمع سح، المطر أي كثرة أنصبابه، وعراق جمع عرق. قال علي كرم الله وجهه: الدنيا أهون على الله من عراق خنزير بيد أجذم. وظؤار جمع ظئر وهي الدابة وثناء جمع ثني واحد أثناء الشيء، وعزاز جمع عزيز وفرار جمع فرير وهو الظبي.

الرباح: بفتح الراء الموحدة المخففة: دويبة كالسنور، وهي التي يجلب منها الزباد ، وهذا هو الصواب في التعبير ووهم الجوهري فقال في النسخة التي بخطه: الرباح إسم دويبة يجلب منها الكافور وهو وهم عجيب. فإن الكافور صمغ شجر بالهند والرباح نوع منه فكأن الجوهري لما سمع أن الزباد يجلب من الحيوان سرى ذهنه إلى الكافور، فذكره. وسيأتي ذكره في باب الزاء المعجمة، فلما رأى ابن القطاع هذا الوهم، أصلحه فقال: والرباح بلد يجلب منه الكافور، وهو أيضاً وهم، لأن الكافور صمغ شجر يكون داخل الخشب ويتخشخش فيه إذا حرك فينشر ويستخرج وقد أجاد ابن رشيق بقوله:
فكرت ليلة وصلها في صدها ... فجرت بقايا أدمعي كالعندم
فطفقت أمسح مقلتي في نحرها ... إذ عادة الكافور إمساك الدم
الرباح: بضم الراء المهملة وتشديد الباء الموحدة ذكر القرود وسيأتي حكمه.
الأمثال: قالوا: أجبن من رباح.
الربح: بضم الراء المهملة وفتح الباء الموحدة الفصيل كأنه لغة في الربيع والربح أيضاً طائر قاله الجوهري.
الربية: دويبة بين الفأر وأم حبين قاله ابن سيده وقال غيره هي الفأر.
الرتوت: الخنازير. قاله الجوهري بعد أن قال: الرت الرئيس وهؤلاء رتوت البلد. وقال في المحكم: الرت شيء يشبه الخنزير البري، وجمعه رتوت. وقيل هي الخنازير الذكور وقد تقدمت في باب الخاء المعجمة.
الرثيلا: بضم الراء المهملة وفتح الثاء المثلثة جنس من الهوام ويمد أيضاً وسيأتي ذكرها في آخر الصيد وقال الجاحظ: الرثيلا نوع من العناكب وتسمى عقرب الحيات، لأنها تقتل الحيات. والأفاعي انتهى. وقال أبو عمر وموسى القرطبي الإسرائيلي: الرثيلا إسم يقع على أنواع كثيرة من الحيوان. وقيل: إنها ستة أنواع، وقيل: ثمانية وكلها من أصناف العنكبوت. وذكر حذاق الأطباء أن أعظم هذه الأنواع شراً: المصرية، أما النوعان الموجودان في البيوت، في أكثر البلاد، فهما العنكبوت ونكايتهما قليلة. وأما بقية الأنواع الأخرى من الرثيلات فإنها توجد غالباً في الأرياف، ومنها نوع له زغب، وأهل مصر يسمونه أبا صوفة. ونهش هذه الأنواع كلها قريب من لسع العقرب وسيأتي ذكرها في الصاد في الصيدان إن شاء الله تعالى. ومن خواصها أن شرب دماغهما مع شيء من الفلفل ينفع من سمها.
وهي في الرؤيا تدل على امرأة مؤذية مفسدة لما يصلحه الناس من نسج ناقضة لما يبرمونه منه. وقيل: هي في الرؤية عدو قتال حقير المنظر شديد الطعنة والله أعلم.
الرخل: الأنثى من ولد الضأن والجمع رخال كما تقدم.
الرخ: بالخاء المعجمة في آخره طائر في جزائر بحر الصين يكون جناحه الواحدة عشر آلاف باع، ذكره الجاحظ وأبو حامد الأندلسي قال: وقد كان وصل إلى أرض المغرب رجل من التجار ممن سافر إلى الصين وأقام بها مدة وكان عنده أصل ريشة من جناحه، كانت تسع قربة ماء وكان يقول: إنه سافر مرة في بحر الصين فألقتهم الريح إلى جزيرة عظيمة فخرج إليها أهل السفينة ليأخذوا الماء والحطب، فرأوا قبة عظيمة أعلى من مائة ذراع، ولها لمعان بريق فعجبوا منها فلما دنوا منها إذا هي بيضة الرخ، فجعلوا يضربونها بالخشب والفؤوس والحجارة حتى انشقت عن فرخ كأنه جبل، فتعلقوا بريشة من جناحه فجروه، فنفض جناحه، فبقيت هذه الريشة معهم وخرج أصلها من جناحه، ولم يكمل بعد خلقه فقتلوه وحملوا ما قدروا عليه من لحمه وقد كان بعضهم طبخ بالجزيرة قدراً من لحمه، وحركها بعود حطب ثم أكلوه. وكان فيهم مشايخ فلما أصبحوا إذ هم قد اسودت لحاهم ولم يشب بعد ذلك من أكل من ذلك الطعام. وكانوا يقولون: إن ذلك العود الذي حركوا به القدر من عود شجرة النشاب، قال: فلما طلعت الشمس، إذا بالرخ قد أقبل في الهواء كأنه سحابة عظيمة في رجله حجر كالبيت العظيم أكبر من السفينة فلما حاذى السفينة ألقى ذلك الحجر بسرعة فوقع الحجر في البحر وسبقت السفينة ونجاهم الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته. والرخ من أدوات الشطرنج والجمع رخاخ ورخخة قال ابن سيده وقد أجاد سري الرفاء حيث قال:
وفتية زهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين
راحوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا ... والراح يمشي بهم مشي البراذين
ومن مستحسن شعره قوله :

بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام
وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حد الحسام
التعبير: الرخ في المنام يدل على أخبار غريبة، وأسفار بعيدة، وربما دل على الهذر في الكلام الصحيح والسقيم. وكذلك العنقاء والله أعلم. وسيأتي حكمها في باب العين المهملة.
الرخمة: بالتحريك طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، وكنيتها أم جعفران وأم رسالة وأم عجيبة وأم قيس وأم كبير، ويقال لها الأنوق والجمع رخم والهاء فيه للجنس قال الأعشى:
يا رخماً قاظ على مطلوب ... يعجل كف الخارىء المطيب
مطلوب إسم جبل، والمطيب معناه الذي يطلب طيب النفس بالاستنجاء. ومنه الاستطابة وتسمى الرخمة بالأنوق كما تقدم. ويقال لها ذات الإسمين لذلك، وهي تحمق مع تحرزها. قال الكميت:
وذات إسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيسة الحويل
أي الحيلة، وذكر عند الشعبي الروافض، فقال: لو كانوا من الدواب لكانوا حمراً، ولو كانوا من الطير لكانوا رخماً. ومن طبع هذا الطائر أنه لا يرضى من الجبال إلا بالموحش منها ولا من الأماكن إلا باسحقها وأبعدها من أماكن أعدائه، ولا من الهضاب إلا بصخورها. ولذلك تضرب العرب المثل بالامتناع ببيضه فيقولون: " أعز من بيض الأنوق " كما تقدم. والأنثى منه لا تمكن من نفسها غير ذكرها، وتبيض بيضة واحدة وربما أتأمت وهي من لئام الطي، وهي ثلاثة: البوم والغراب والرخمة.
وحكمها: تحريم الأكل كما تقدم. روى البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الرخمة " . وإسناده ليس بالقوي وقال الإمام العلامة القرطبي، في تفسير آخر سورة الأحزاب: " كالذين آذوا موسى بقولهم أنه قتل أخاه هارون، فتكلمت الملائكة بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخمة فلذلك جعله الله أصم أبكم " وكذلك رواه الحاكم في المستدرك وفي كتاب تواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال الزمخشري: تقول في صياحها سبحان ربي الأعلى.
الأمثال: قالوا: " أحمق من رخمة وأموق " . وإنما خصت من بين الطير بذلك، لأنها ألأم الطير وأظهرها حمقاً وموقاً، وأقذرها طعماً، لأنها تأكل العذرة. وقالوا: إنطقي يا رخم فإنك من طير الله أصله أن الطير صاحت فصاحت لرخمة، فقيل لها: يهزأ بها إنك من طير الله فانطقي يضرب للرجل الذي لا يلتقت إليه ولا يسمع منه.
الخواص: إذا بخر البيت بريشها طرد الهوام وزبلها يداف بخل خمر ويطلى به البرص يغير لونه وينفعه. وكبدها تشوى وتسحق وتداف ويسقى ذلك لمن به جنون، كل يوم ثلاث مرات ثلاثة أيام متوالية يشفى. وإن علق رأسها على المرأة التي عسرت ولادتها، وضعت سريعاً، والجلد الأصفر الذي على قانصة الرخمة إذا أخذ وسحق بعد تجفيفه، وشرب بشراب العسل نفع من كل سم. وعظم رأس الرخمة ينفع من وجع الرأس تعليقاً.
التعبير: الرخمة في الرؤيا إنسان أحمق قذر، فمن رأى أنه أخذ رخمة فإنه يقع في حرب يسفك فيه دم كثير. وقيل: من أخذ رخمة مرض مرضاً شديداً. وقالت النصارى: الرخم الكثير يدل على عسكر يحل في ذلك المكان، وهم سفلى يأكلون الحرام. وقال ارطاميدروس الرخم دليل خير لمن صنعته خارج البلد كالكلاسين وصناع الآجر، لأن الرخم لا يدخل البلد، والرخم في المنام يدل على ناس يغسلون الموتى، ويسكنون المقابر، لأن الرخم يأكل الجيفة ولا يدخل المدن، ومن رأى رخمة في دار وكان فيها مريض، فإنه يموت. وإن لم يكن في الدار مريض خشي على صاحب الدار من الموت أو المرض الشديد. والله أعلم.
الرشأ: بفتح الراء الظبي إذا قوي وتحرك ومشى مع أمه والجمع أرشأ. أنشدنا شيخنا الإمام العلامة جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي رحمه الله تعالى قال: أنشدنا شيخنا الشيخ أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدنا شيخنا أبو جعفر بن الزبير قال: أنشدنا أبو الخطاب بن خليل قال: أنشدنا شيخنا أبو جعفر عمر بن عمر قاضي أشبيلية لنفسه، وقد أهديت إليه جارية، فتبين له أنه قد كان وطىء أمها فردها ومعها هذه الأبيات:
يا مهدي الرشا الذي ألحاظه ... تركت جفوني نصب تلك الأسهم
ريحانة كل المنى في شمها ... لولا المهيمن واجتناب المحرم

ما عن قلى صرفت إليك وإنما ... صيد الغزالة لم يبح للمحرم
يا ويح عنترة يقول وشفه ... ما شفني وجد وإن لم أكتم
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم
وقال أبو الفتح البستي وأجاد:
من أين للرشا الغرير الأحور ... في الخد مثل عذارك المتحدر
رشأ كأن بعارضيه كليهما ... مسكاً تساقط فوق ورد أحمر
الرشك: بضم الراء وإسكان الشين المعجمة، وهو بالفارسية إسم للعقرب. ذكر القاضي الإمام أبو الوليد ابن الفرضي في كتاب الألقاب، في أسماء نقلة الحديث، والخطيب أبو علي الغساني، في كتاب تقييد المهمل، والقاضي أبو الفضل عياض بن موسى، في كتاب مشارق الأنوار، والحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وغيرهم: أن يزيد بن أبي يزيد واسمه سنان الضبعي، مولاهم البدري الدارد المعروف بالرشك، أنه لقب بذلك لكبر لحيته قيل: إن العقرب دخل في لحيته، فأقامت ثلاثة أيام وهو لا يدري بها لعظم لحيته، وطولها، قال ابن دحية في كتابع العلم المنشور: والعجب كيف لا يحس بها وكيف لا تسقط عند وضوئه للصلاة، ولعله كان لا يخلل لحيته لكبرها، أو كانت العقرب صغيرة جداً، فاختبأت بين الشعر، وأما كونها مقدرة بثلاثة أيام فهذا التقدير كيف يصح؟ لأنه لو علم بها في أول وجودها في لحيته ما تركها فمن أين تعلم هذه المدة؟ انتهى. والذي عندي في ذلك أنه يحتمل أن يكون في منتزه، أو كان في مكان فيه العقارب كثيرة، وكانت مدة إقامته في ذلك المكان ثلاثة أيام، فلما أصابها بعد ذلك، علم أن مبدأ وجودها كان من ذلك الوقت، وهذا أولى من تكذيب من رواه من الأئمة الأعلام. فقد روى الحاكم أبو عبد الله في كتاب علوم الحديث، له عن يحيى بن معين أنه قال: كان يزيد يسرح لحيته فخرج منها عقرب، فلقب بالرشك انتهى.
والمشهور أن الرشك هو القسام بلغة أهل البصرة، سمي بذلك لأنه كان يقسم الأرض والدور وغير ذلك. مات بالبصرة سنة ثلاثين ومائة وروى له الجماعة. قال الترمذي أبو عيسى في باب ما جاء في صوم ثلاثة من كل شهر. حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن يزيد الرشك، قال: سمعت معاذا يقول: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. قالت: نعم. قلت: من أيها كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيها صام. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ويزد الرشك هو يزيد بن أبي يزيد الضبعي، وهو يزيد القاسم، وهو القسام. والرشك هو القسام بلغة أهل البصرة كما تقدم.
الرفراف: طائر يقال له ملاعب ظله، ويقال له خاطف ظله، وسيأتي الكلام عليه في باب الميم والظليم أيضاً يقال له رفراف، لرفرفته عند عدوه والرفرف ضرب من السمك قاله ابن سيده.
الرق: بكسر الراء بالقاف ضرب من دواب الماء يشبه التمساح، والرق أيضاً العظيم من السلاحف وجمعه رقوق. وفي غريب الحديث كان فقهاء المدينة يشترون الرق ويأكلونه. رواه الجوهري بفتح الراء والأكثرون بكسرها.
الركاب: بكسر الراء الإبل، واحدتها راحلة وجمعها ركائب. وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً، عليهم قيس بن سعد بن عبادة، فجهد وانتحر لهم قيس تسع ركائب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت " . ويجمع أيضاً على ركب ومنه قيل: زيت ركابي، لأنه يحمل على ظهور الإبل. والركوبة ما يركب، يقال: ما له ركوبه، حلوبة ولا حمولة، أي ما يركبه ويحلبه. ويحمل عليه. وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها فمنها ركوبتهم. وجمع الركوبة ركائب انتهى. وقال السهيلي، قبيل الكلام على ما أنزل الله تعالى، في غزوة بدر: والركوبة ركائب. انتهى. ولو أراد الجمع بغير هاء لقال: ركب كعجز. كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إن الجنة لا يدخلها العجز " . قالها ممازحاً لعمته صفية رضي الله عنها، وقيل: بل قالها لامرأة من الأنصار. ذكر ذلك هناد بن السري في كتاب الرقائق له.
الركن: الفأر ويسمى ركيناً على لفظ التصغير قاله ابن سيده.

الرمكة: بالتحريك الأنثى من البراذين والجمع رماك ورمكات وأرماك أيضاً عن الفراء مثل ثمار وأثمار ووقع في الوسيط في الباب الثاني من أبواب البيع لو قال: بعتك هذه النعجة فإذا هي رمكة ففي قول يعول على الإشارة وفي قوله آخر يعول على العبارة قال ابن الصلاح: هذا تصحيف، إنما هو هذه البغلة فإن الرمكة لا تشتبه بالنعجة.
الرهدون: والرهدنة بفتح الراء، طائر يشبه الحمرة يرهدن في مشيته كأنه يستدبر وجمعه رهادن، وهو كثير بمكة خصوصاً بالمسجد الحرام وهو يشبه العصافير إلا أنه أدبس.
الروبيات: هو سمك صغير جداً أحمر.
الخواص: إن طرحت رجل الروبيان في شراب من يحب الشراب أبغضه، ورقبته ينحر بها فيسقط الجنين وإذا دق الروبيان وهو طري، وضمد به موضع الشوك أو السهم الغائص في البدن أخرجه بسهولة. وإن سلق مع الحمص الأسود وضمد به السرة أخرج حب القرع. وإن جفف وسحق واكتحل به صاحب الغشاوة نفعه. وإن سحق مع سكنجبين وشرب أخرج حب القرع من الجوف. قاله عبد الملك بن زهر.
الريم: ولد الظبي والجمع آرام قال الشاعر:
بها العير والآرام يمشين خلفه ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج. وقال الأصمعي: الآرام الظباء البيض الخالصة البياض، الواحدة ريم. قال: وهي تسكن الرمال وهذا النوع من الظباء، يقال إنه ضأنها لأنه أكثرها شحماً ولحماً. وكان زكي الدين بن كامل القطيعي أبو الفضل يعرف بقتيل الريم، وأسير الهوى. توفي سنة ست وأربعين وخمسمائة. ومن شعره:
لي مهجة كادت بحر كلومها ... للناس من فرط الجوى تتكلم
لم يبق منها غير أرسم أعظم ... متحدثات للهوى تتظلم
أم رباح: بفتح الراء تخفيف الباء الموحدة وحاء مهملة طائر أغبر أحمر الجناحين والظهر يأكل العنب قاله في المرصع.
أبو رباح: بكسر الراء وتخفيف الباء المثناة تحت اليؤيؤ وسيأتي في آخر الكتاب.
ذو رميح: مصغر اليربوع، ورمحه ذنبه. وقيل: هو ضرب من اليرابيع طويل الرجلين قاله ابن سيده.

الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الزاي
الزاغ: من أنواع الغربان، يقال له الزرعي وغراب الزرع، وهو غراب أسود صغير، وقد يكون محمر المنقار والرجلين، ويقال له غراب الزيتون، لأنه يأكله. وهو لطيف الشكل حسن المنظر لكن وقع في عجائب المخلوقات، أنه الأسود الكبير وأنه يعيش أكثر من ألف سنة، وهو وهم، والصواب الأول.
عجيبة: رأيت في المنتقى، من انتخاب الحافظ السلفي، وفي آخر ورقة من عجائب المخلوقات، عن محمد بن إسماعيل السعدي، أنه قال: وجه إلى يحيى بن أكثم، فتوجهت إليه، فلما دخلت عليه، إذا عن يمينه قمطر فأجلسني، وأمر أن يفتح، فإذا شيء خرج منه رأسه كرأس إنسان، ومن أسفله إلى سرته على هيئة زاغ، وفي صدره وظهره سلعتان، قال: ففزعت منه ويحيى يضحك، فقلت له: ما هذا أصلحك الله؟ فقال لي: سل عنه منه! فقلت له: ما أنت؟ فنهض وأنشد بلسان فصيح:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحان ... والقهوة والنشوه
فلا عدوى يدي تخشى ... ولا يحفر لي سطوه
ولي أشياء تستظرف ... يوم العرس والدعوه
فمنها سلعة في الظه ... ر لا تسترها الفروه
وأما السلعة الأخرى ... فلو كان لها عروه
لما شك جميع النا ... س فيها أنها ركوه
ثم صاح ومد صوته زاغ زاغ، وانطرح في القمطر. فقلت: أعز الله القاضي وعاشق أيضاً فقال: هو مما ترى لا علم لي بأمره، إلا أنه حمل إلى أمير المؤمنين، مع كتاب مختوم فيه ذكر حاله، لم أقف عليه، انتهى. وهذا الخبر قد رواه الحافظ أبو طاهر السلفي على غير هذه الطريقة، وهو ما أخبر به موسى الرضي قال: قال أبو الحسن علي بن محمد: دخلت على أحمد بن أبي داؤد، وعن يمينه قمطر فقال لي: اكشف وانظر العجب، فكشفت فخرج علي رجل طوله شبر من وسطه إلى أعلاه رجل، ومن وسطه إلى أسفله صورة زاغ ذنبا ورجلا، فقال لي: من أنت؟ فانتسبت له ثم سألته عن اسمه فقال:
أنا الزاغ أبو عجوه ... حليف الخمر والقهوه

ولي أشياء لا تنكر ... يوم القصف في الدعوه
فمنها سلعة في الظه ... ر لا تسترها الفروه
ومنها سلعة في الصد ... ر لو كان لها عروه
لما شك جميع النا ... س حقا أنها ركوه
ثم قال أنشدني شيئاً في الغزل فأنشدته:
وليل في جوانبه فضول ... من الإظلام أطلس غيهبان
كأن نجومه دمع حبيس ... ترقرق بين أجفان الغواني
فصاح وأبي وأمي ورجع إلى القمطر وستر نفسه، فقال ابن أبي دؤاد: وعاشق أيضاً!.
قال ابن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم: إنه لما ولي البصرة، كان سنه نحو عشرين سنة، فاستصغره أهل البصرة، وقالوا له: كم سن القاضي؟ فعلم أنهم استصغروه، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي عليه الصلاة قاضياً على مكة يوم الفتح، ومن معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على اليمن، ومن كعب بن سور الذي وجه به عمر رضي الله تعالى عنه قاضياً على البصرة، فجعل جوابه احتجاجاً. قيل: لما أراد المأمون أن يولي رجلا القضاء، وصف له يحيى بن أكثم فاستحضره، فرآه دميم الخلق فاستحقره، فعلم يحيى ذلك فقال: يا أمير المؤمنين سلني إن كان القصد علمي لا خلقي. فسأله فأجابه، فقلده القضاء. قال: ولم يعلم أحد غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد المعتزلي وكان حنفياً، ولم يكن على الإمام أحمد رحمه الله تعالى في محنته أشد منه. وسيأتي ذكر طرف من محنته في باب الكاف، في لفظ الكلب إن شاء الله تعالى. قال: وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها، وكان ليحيى يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله، وهو أن المأمون كان في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة ولم يستطع أحد أن يحتج عليه في تحريمها غير يحيى، فقرر عنده تحريم المتعة، فقال المأمون: أستغفر الله تعالى، نادوا بتحريم نكاح المتعة.
وروي أن رجلا قال ليحيى: أيها القاضي كم آكل. فقال: فوق الجوع، ودون الشبع. قال: فكم أضحك. قال: حتى يسفر وجهك، ولا يعلو صوتك. قال: فكم أبكي. قال: لا تمل من البكاء من خشية الله. قال: فكم أخفي عملي؟ قال: ما استطعت. قال: فكم أظهر منه؟ قال: ما يقتدى بك البر، ويؤمن عليك قول الناس. فقال الرجل: سبحان الله قول وعمل ظاعن. قال: ولم يكن في يحيى ما يعاب به سوى ما كان يتهم به مما هو شائع عنه من محبة الصبيان، وحب العلو. وكان إذا رأى فقيهاً سأله عن الحديث، أو محدثاً سأله عن النحو، أو نحوياً سأله عن الكلام ليخجله ويقطعه، فدخل عليه يوماً رجل من أهل خراسان، فناظره فرآه متفنناً حافظاً، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم. قال: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن شريك عن أي إسحاق عن الحارث، أن علياً رضي الله تعالى عنه رجم لوطياً فأمسك ولم يكلمه. وتوفي بالربذة ودفن هناك سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائتين.
ونقل أنه رؤي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، إلا أنه وبخني وقال لي: يا يحيى خلطت على نفسك في دار الدنيا. فقلت: يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك قلت إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة مسلماً بالنار " . فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي إلا أنك خلطت على نفسك في دار الدنيا.
الذمامة بالذال المعجمة رداءة الخلق بضم اللام وبالدال المهملة رداءة الخلق بإسكان اللام، وأكثم بالثاء المثلثة، والربذة بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة، قرية من قرى المدينة، على طريق الحاج، وهي التي نفى عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري رضي الله تعالى عنهما إليها، فأقام بها حتى مات، وقبره ظاهر هناك يزار كما تقدم.
الحكم: يحل أكل الزاغ، وهو الأصح عند الرافعي، وبه قال الحكم وحماد ومحمد بن الحسن، وروى البيهقي في شعبه قال: سألت الحكم عن أكل الغربان قال: أما السود الكبار فكره أكلها، وأما الصغار التي يقال لها الزاغ فلا بأس بها. والأمثال تأتي إن شاء الله تعالى، في باب الغين المعجمة، في لفظ الغراب.

الخواص: لسان الزاغ يجفف ويأكله العطشان يذهب عطشه، ولو في وسط تموز، وكذلك قلبه إذا جفف وسحق وشربه إنسان لا يعطش في سفره، فإن هذا الطائر لا يشرب ماء في تموز، ومرارته تخلط بمرارة الديك ويكتحل بها تذهب ظلمة العين وتسود الشعر إذا طلي بها سواداً عجيباً وحوصلته تمنع نزولي الماء عند مباديه.
التعبير: الزاغ الذي في منقاره حمرة تدل رؤيته على رجل في سطوة ولهو وطرب. وقال ارطامدورس: الزاغ في المنام يدل على ناس يحبون المشاركة، وربما دل على أناس فقراء، وقيل: إنه يدل على الولد من الزنا والرجل الممزوج بالخير والشر والله أعلم.
الزاقي: الديك والجمع الزواقي، يقال: زقا يزقو إذا صاح، وكل صائح زاق. وفي حديث هشام بن عروة أنت أثقل من الزواقي يريد أنها إذا زقت سحراً تفرق السمار والأحباب. والزقو والزقي مصدر وقد زقا الصدى يزقو ويزقى زقا أي صاح وكل زاق صائح، قاله الجوهري وقد تقدم في البومة قول توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الصاد المهملة، في لفظ الصدى.
الزامور: قال التوحيدي: إنه حوت صغير الجسم ألوف لأصوات الناس، يستأنس باستماعها، ولذلك يصحب السفن متلذذاً بأصوات أهلها، وإذا رأى الحوت الأعظم، يريد الاحتكاك بها وكسرها، وثب الزامور ودخل أذنه، ولا يزال يزمر فيه حتى يفر الحوت إلى الساحل يطلب جرفاً أو صخرة. فإذا أصاب ذلك فلا يزال يضرب به رأسه حتى يموت. وركاب السفن يحبونه ويطعمونه ويتفقدونه ليدوم ألفه لهم وصحبته لسفنهم ليسلموا من ضرر السمك العادي وإذا ألقوا شباك الصيد، فوقع الزامور أطلقوه لكرامته.
الزبابة: بفتح الزاي والباءين الموحدتين، بينهما ألف: الفأرة البرية تسرق ما تحتاج إليه وما تستغني عنه. وقيل: هي فأرة عمياء صماء، وجمعها زباب ويشبه بها الرجل الجاهل قال الحارث بن كلدة:
ولقد رأيت معاشراً ... جمعوا مالاً وولدا
وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا
أي لا يسمعون شيئاً يعني موتى. وصف الزباب بالتحير، والتحير إنما يحصل للأعمى وأراد بذلك أن الأرزاق لم تقسم على قدر العقول، والولد بضم الواو وللواحد والجمع وقوله لا تسمع الآذان رعداً أي لا. تسمع آذانهم، فاكتفى بالألف واللام عن الإضافة كقوله تعالى: " فإن الجنة هي المأوى " وبين أن آذانهم لشدة صممهم لا يسمعون بها الرعد. قال الإمام الثعالبي، في فقه اللغة، يقال: في آذانه وقر، فإن زاد فهو صمم، فإن زاد فهو طرش، فإن زاد حتى لا يسمع الرعد، فهو صلخ بالصاد المهملة والخاء المعجمة في آخره. انتهى. واختصت هذه الفأرة بالصمم، كما اختص الخلد بالعمى وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر حكمها، في باب الفاء، في لفظ الفأر.
الأمثال: قالوا: أسرق من زبابة لأنها تسرق ما تحتاج إليه وما تستغني عنه.
الزبزب: دابة كالسنور، قاله في العباب. وفي كامل ابن الأثير، في حوادث سنة أربع وثلاثمائة، قال: وفيها خافت العامة ببغداد من حيوان كانوا يسمونه الزبزب، ويقولون إنهم يرونه في الليل على أسطحتهم وأنه يأكل أطفالهم وربما عض يد الرجل أو يد المرأة فيقطعها، وكان الناس يتحارسون منه ويتراعون ويضربون بالطسوت والصواني وغيرها ليفزعوه، وارتجت بغداد لذلك. ثم إن أصحاب السلطان صادوا حيواناً في الليل أبلق بسواد، قصير اليدين والرجلين، فقالوا: هذا هو الزبزب، وصلبوه على الجسر فسكن الناس انتهى.
الزخارف: جمع زخرف وهو ذباب صغار ذات قوائم أربع يطير على الماء قال أوس بن حجر:
تذكر عيناً من عمان وماؤها ... له حدب تستن فيه الزخارف
الزرزور: بضم الزاي طائر من نوع العصفور سمي بذلك لزرزرته أي تصويته قال الجاحظ: كل طائر قصير الجناح كالزرازير والعصافير، إذا قطعت رجلاه لم يقدر على الطيران، كما إذا قطعت رجل الإنسان، فإنه لا يقدر على العدو. وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، في باب العين المهملة، في العصفور.

فائدة: روى الطبراني وابن أبي شيبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه قال : أرواح المؤمنين في أجواف طيور خضر، كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة، وما أحسن قول شيخنا الشيخ برهان الدين القيراطي رحمة الله تعالى عليه:
قد قلت لما مر بي معرضاً ... وكفه يحمل زرزورا
يا ذا الذي عذبني مطله ... إن لم يزر حقاً فزرزورا
وفي مناقب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، لعبد المحسن بن عثمان بن غانم، قال الشافعي: من عجائب الدنيا، طلسم على صفة الزرزور من نحاس في رومية، يصفر في يوم واحد من السنة فلا يبقى طائر من جنسه إلا أتى رومية وفي منقاره زيتونة، فإذا اجتمع ذلك عصر، وكان منه زيتهم في ذلك العام. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في السودانية، في باب السين المهملة.
وحكمه: الحل لأنه من أنواع العصافير.
ومن خواصه: أن لحمه يزيد في الباه، ودمه إذا وضع على الدماميل نفعها وإذا ذر رماد الزرزور على الجرح فإنه يختم بإذن الله تعالى.
التعبير: الزرزور دال على التردد في الأسفار، في البر والبحر، وربما دل على رجل مسافر يسافر كثيراً كالمكاري الذي لا يلبث في مكان، ونحوه وطعامه حلال لأنه حرم على نفسه الطعام والشراب لما أهبط الله آدم عليه السلام من الجنة، فلم يتناول شيئاً من ذلك حتى تاب الله تعالى عليه. وربما دل على التخليط في الأعمال الصالحة أو السيئة، أو على رجل ليس بغني ولا فقير، ولا شريف ولا وضيع، وربما دل على المهانة والقناعة، بأدنى العيش واللعب وربما كان كاتباً والله أعلم.
الزرق: طائر يصاد به، بين البازي والباشق، قاله ابن سيده. وقال الفراء: هو البازي الأبيض. والجمع الزراريق وهو صنف من البازي لطيف، إلا أنه أحر وأيبس مزاجاً، ولذلك هو أشد جناحاً وأسرع طيراناً وأقوى إقداماً، وفيه ختل وخبث، وخير ألوانه الأسود الظهر، الأبيض الصدر، الأحمر العين، قال الحسن بن هانئ في طريدته يصفه:
قد اغتدي بسفرة معلقه ... فيها الذي يريده من مرفقه
مبكرا بزرق أو زرقه ... وصفته بصفة مصدقه
كأن عينه لحسن الحدقه ... نرجسة نابتة في ورقه
ذو منسر مختضب بعلقه ... كم وزة صدنا به ولقلقه
سلاحه في لحمها مفرقه
الحكم: تحريم الأكل كما تقدم في البازي.
الزرافة: كنيتها، وهي بفتح الزاعي المخففة وضمها، وهي حسنة الخلق، طويلة اليدين، قصيرة الرجلين، مجموع يديها ورجليها نحو عشرة أذرع، ورأسها كرأس الإبل، وقرنها كقرن البقرة، وجلدها كجلد النمر، وقوائمها وأظلافها كالبقر، وذنبها كذنب الظبي، ليس لها ركب في رجليها، وإنما ركبتاها في يديها، وهي إذا مشت، قدمت الرجل اليسرى واليد اليمنى، بخلاف ذوات الأربع كلها فإنها تقدم اليد اليمنى والرجل اليسرى، ومن طبعها التودد والتأنس، وتجتر وتبعر ولما علم الله تعالى أن قوتها من الشجر، جعل يديها أطول من رجليها لتستعين بذلك على الرعي منها بسهولة. قاله القزويني في عجائب المخلوقات. وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة محمد بن عبد الله العتبي البصري الإخباري الشاعر المشهور أنه كان يقول: الزرافة بفتح الزاي وضمها الحيوان المعروف وهي متولدة بين ثلاث حيوانات، بين الناقة الوحشية والبقرة الوحشية والضبعان وهو الذكر من الضباع، فيقع الضبعان على الناقة فتأتي بولد بين الناقة والضبع، فإن كان الولد ذكراً، وقع على البقرة فتأتي بالزرافة، وذلك في بلاد الحبشة، ولذلك قيل لها الزرافة، وهي في الأصل الجماعة، فلما تولدت من جماعة، قيل لها ذلك. والعجم تسميها اشتركا، ويلنك لأن اشتر الجمل وكاو البقرة ويلنك الضبع.
وقال قوم: إنها متولدة من حيوانات مختلفة، وسبب ذلك اجتماع الدواب والوحوش في القيظ، عند المياه، فتتسافد فيلقح منها ما يلقح، ويمتنع منها ما يمتنع، وربما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة، فتختلط مياهها فيأتي منها خلق مختلف الصور والألوان والأشكال. والجاحظ لا يرضى هذا القول، ويقول: إنه جهل شديد، لا يصدر إلا ممن لا تحصيل لديه، لأن الله تعالى يخلق ما يشاء، وهو نوع من الحيوان قائم بنفسه، كقيام الخيل والحمير، ومما يحقق ذلك أنه يلد مثله وقد شوهد ذلك وتحقق.

وفي حكمها وجهان: أحدهما التحريم، وبه جزم صاحب التنبيه وفي شرح المهذب للنووي أنها محرمة بلا خلاف، وأن بعضهم عدها من المتولد بين المأكول وغيره وقال بتحريمها القاضي أبو الخطاب من الحنابلة، والثاني الحل، وبه أفتى الشيخ تقي الدين بن أبي الدم الحموي، ونقله عن فتاوي القاضي حسين وذكر أبو الخطاب ما يوافق الحل فإنه حكى في فروعه قولين في أن الكركي والبط والزرافة، هل تفدى بشاة أو تفدى بالقيمة؟ والفداء لا يكون إلا للمأكول. قال ابن الرفعة: وهو المعتبر، كما أفتى به البغوي قال: ومنهم من أول لفظها وقال: ليست الزرافة بالفاء بل بالقاف. قال الشيخ تقي الدين السبكي: هذا التعليل ليس بشيء لأنه لا يعرف. واختار في الحلبيات حلها كما أفتى به ابن أبي الدم، ونقله عن القاضي حسين وتتمة التتمة قال: وما ادعاه النووي ممنوع وما ادعاه أبو الخطاب الحنبلي يجوز حمله على جنس يتقوى بنابه، وأما هذا الذي شاهدناه فلا وجه للتحريم فيه. وما برحت أسمع هذا بمصر وقال ابن أبي الدم، في شرح التنبيه: وما ذكره الشيخ في التنبيه غير مذكور في كتب المذهب.
وقد ذكر القاضي حسين أنها تحل ثم قال: قلت هذا مع أنها أقرب شبها بما يحل، وهو الإبل والبقر، وذلك يمل على حلها ويمكن أن يقال: إنما ذكر الشيخ ذلك اعتماداً على ما ذكر أهل اللغة أنها من السباع، وتسميتهم لها بذلك تقتضي عدم الحل، وإذا كان كذلك فقد ذكر صاحب كتاب العين أن الزرافة بفتح الزاي وضمها من السباع ويقال لها بالفارسية اشتركا ويلنك. وقد ذكر في موضع آخر أن الزرافة متولدة بين الناقة الوحشية والضبع، فيجيء الولد في خلقة الناقة والضبع، فإن كان الولد ذكراً عرض للأنثى من بقر الوحش فيلحقها، فتأتي بالزرافة. وسميت بذلك لأنها جمل وناقة، ولما كان كذلك وسمع الشيخ أنها من السباع اعتقد أنها من السباع حقيقة ولم يكن رآها فاستحل بذلك على تحريم أكلها انتهى. وقد تقدم أن الجاحظ لم يرتض هذا القول، وقال إن هذا القول جهل بين، وإن الزرافة نوع من الحيوان قائم بنفسه كقيام الخيل والحمير.
قلت: وهذا الذي قاله الجاحظ معارض لما نقله ابن أبي الدم عن صاحب كتاب العين، من كونها متولدة بين مأكولين، وما تمسك به ابن أبي الدم من الشبه بالإبل والبقر شبه بعيد، لما يشاهد من طول يحيها وقصر رجليها، ولو كان الشبه البعيد كافياً لحل أكل الصرارة لشبهها بالجرادة ولجاز أكله، لأن خفه يشبه خف الجمل. وقد ذكر في شرح المهذب، أن بعضهم عد الزرافة من المتولد بين مأكول وغير مأكول، واستدل به على تحريمها وكلام الجاحظ ينفي هذا، ويقتضي الحل وهو المختار في الفتاوى الحلبيات كما سبق، وهو مذهب الإمام أحمد ومقتضى مذهب مالك، وقواعد الحنفية تقتضيه وإذا تعارضت الأقواد، وتساقط اعتبار مدلولها، رجعنا إلى الإباحة الأصلية، والتحقت هذه بما لا نص فيه بالتحريم والتحليل. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ذكرما لا نص فيه بالتحريم والتحليل في باب الواو في الورل.
ومن خواصها: أن لحمها غليظ سوداوي رديء الكيموس.
التعبير: الزرافة في المنام تدل على الأفة في المال، وربما دلت على المرأة الجليلة أو الجميلة أو الوقوف على الأخبار الغريبة من الجهة المقبلة منها، ولا خير فيها إن دخلت البلد من غير فائدة، فإنها تدل على الآفة في المال، وما تأنس من ذلك كان صديقاً أو زوجاً أو ولداً لا تؤمن غائلته. وربما تعبر بالمرأة التي لا تثبت مع الزوج، لأنها خالفت المركوبات في ظهورها، والله أعلم.
الزرياب: قال في كتاب منطق الطير: إنه أبو زريق. قال: وحكي أن رجلا خرج من بغداد، ومعه أربعمائة درهم لا يملك غيرها، فوجد في طريقه أفراخ زرياب فاشتراها بالمبلغ الذي كان معه، ثم رجع إلى بغداد، فلما أصبح فتح دكانه وعلق الأفراخ عليها، فهبت ريح باردة فماتت كلها إلا فرخاً واحداً، وكان أضعفها وأصغرها، فأيقن الرجل بالفقر ولم يزل يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء ليله كله ويقول: يا غياث المستغيثين أغثني! فلما أصبح زال البرد، وجعل ذلك الفرخ ينفش ريشه ويصيح بصوت فصيح، يا غياث المستغيثين أغثني فاجتمع الناس عليه يستمعون صوته فاجتازت به أمة لأمير المؤمنين فاشترته بألف درهم انتهى.

فانظر كيف فعل الصدق مع الله تعالى، والإقبال بكنه الهمة في التضرع بين يديه وحضور القلب وعدم الالتفات إلى غيره من الغنى من الجهة الميؤوس منها! فما ظنك بمن ترك الأسباب والوسايط، وأقبل على الله تعالى إقبالا لا يشغله عنه شاغل، ولا يحجبه حاجب، لأن حجابه نفسه وقد فني عنها فهناك لذ الخطاب وطاب الشراب، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، وهو العزيز الوهاب.
الزغبة: دويبة تشبه الفأرة، قاله ابن سيده قال: وقد سمت العرب زغبة، وأشار بذلك إلى عيسى بن حماد البصري زغبة روى عن رشد بن سعد وعبد الله بن وهب والليث بن سعد وروى عنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومات سنة ثمان وأربعين ومائتين.
الزغلول: بضم الزاي فرخ الحمام ما دام يزق يقال: أزغل الطائر فرخه إذا زقه والزغلول أيضاً اللاهج بالرضاع من الغنم والإبل والزغلول أيضاً الخفيف من الرجال.
الزغيم: طائر وقيل بالراء غير المعجمة، قاله ابن سيده.
الزقة: طائر من طير الماء يمكث حتى يكاد يقبض عليه ثم يغوص في الماء فيخرج بعيداً قاله ابن سيده.
الزلال: بضم الزاي دود يتربى في الثلج، وهو منقط بصفرة يقرب من الإصبع، يأخذه الناس من أماكنه ليشربوا ما في جوفه لشدة برده، ولذلك يشبه الناس الماء البارد بالزلال، لكن في الصحاح ماء زلال أي عذب. وقال أبو الفرج العجلي، في شرح الوجيز: الماء الذي في دود الثلج طهور، والذي قاله يوافق قول القاضي حسين فيما تقدم في الدود. والمشهور على الألسنة أن الزلال هو الماء البارد قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث أمة وحده:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذباً زلالاً
وما أحسن قول أبي فراس بن حمدان واسمه الحارث:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا خان الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
وقال الآخر:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا
وما أحسن قول وجيه الدولة أبي المطاع بن حمدان ويلقب بذي القرنين وكان شاعراً مجيداً ووفاته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة:
قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال: أبصرته لو ما من ظمأ ... وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
ومن محاسن شعره:
ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحياناً فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاصرها ... والبحر في كل وقت طالع فيها
وقال آخر:
لا تعجبوا من بلا غلائله ... قد زر أزراره على القمرا
وهذا وما قبله يستشهد بهما على أن نور القمر يبلى ثياب الكتان كما قاله حذاق الحكماء، لا سيما إذا طرحت الثياب في الماء عند اجتماع النيرين الشمس والقمر، فإنها تبلى سريعاً في غير وقتها واجتماعهما من الخامس والعشرين إلى الثلاثين. ومن هنا يقال: ثوب حام إذا تفصد سريعاً وسببه ما ذكرناه، وقد أشار إلى ذلك الرئيس ابن سينا في أرجوزته بقوله:
لا تغسلن ثيابك الكتانا ... ولا تصد فيها كذا الحيتانا
عند اجتماع النيرين تبلى ... وذا صحيح فاتخذه أصلا
فينبغي الاحتراس على ثياب الكتان من نور القمر ومن غسلها عند اجتماع النيرين كما ذكرناه. الحكم: قال أبو الفرج العجلي، في شرح الوجيز: الماء الذي في دود الثلج طهور، والذي قاله يوافق قول القاضي حسين فيما تقدم في الدود والمشهور على الألسنة أن الزلال الماء البارد كما تقدم عن الجوهري وغيره.
الزماج: كرمان طائر كان يقف بالمدينة في الجاهلية على أطم ويقول شيئاً لا يفهم وقيل: كان يسقط في مربد، لبعض أهل المدينة، فيأكل ثمره فيرمونه فيقتلونه، ولم يأكل أحد من لحمه إلا مات. قال الشاعر:
أعلى العهد أصبحت أم عمرو ... ليت شعري أم غالها الزماج
قاله ابن سيده وغيره

الزمج: مثال الخرد طائر معروف يصيد به الملوك الطير وأهل البزدرة يعدونه من خفاف الجوارح، وذلك معروف في عينه وحركته وشدة وثبه، ويصفونه بالغدر وقلة الوفاء والألفة لكثافة طبعه، وهو يقبل التعليم لكن بعد بطء. ومن عادته أنه يصيد على وجه الأرض، والمحمود من خلقه أن يكون لونه أحمر وهو أحد نوعي العقاب. وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. قال الجواليقي: الزمج جنس من الطير يصاد به وقال أبو حاتم: إنه ذكر العقاب والجمع الزمامج. وقال الليث: الزمج طائر دون العقاب حمرته غالبة تسميه العجم دو برادران وترجمته أنه إذا عجز عن صيده أعانه أخوه على أخذه وحكمه: تحريم الأكل كسائر الجوارح.
الخواص: إدمان أكل لحم الزمج ينفع من خفقان القلب، ومرارته إذا جعلت في الأكحال نفعت من الغشاوة، وظلمة البصر نفعاً بليغاً، وزبله يزيل الكلف والنمش طلاء.
زمج الماء: وهو الطائر الذي يسمى بمصر النورس وهو أبيض في حد الحمام أو أكبر، يعلو في الجوثم يزج نفسه في الماء ويختلس منه السمك ولا يقع على الجيف ولا يأكل غير السمك. وحكمه: حل الأكل، لكن حكى الروياني عن الصيمري أن طير الماء الأبيض حرام، لخبث لحمه. قال الرافعي: والأصح أن جميع طير الماء حلال إلا اللقلق وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب اللام.
الزنبور: الدبر وهي تؤنث والزنابير لغة فيها وربما سميت النحلة زنبوراً، والجمع الزنابير. قال ابن خالويه، في كتاب ليس: ليس أحد سمعته يذكر كنية الزنبور إلا أبا عمر والزاهد فإنه قال: كنيته أبو علي وهو صنفان جبلي وسهلي: فالجبلي يأوي الجبال ويعشش في الشجر ولونه إلى السواد وبدء خلقه دود، ثم يصير كذلك، ويتخذ بيوتاً من تراب كبيوت النحل، ويجعل لبيته أربعة أبواب لمهاب الرياح الأربع، وله حمة يلسع بها، وغذاؤه من الثمار والأزهار. ويتميز ذكورها منه إناثها بكبر الجثة. والسهلي لونه أحمر ويتخذ عشه تحت الأرض، ويخرج منه التراب كما يفعل النمل ويختفي في الشتاء لأنه متى ظهر فيه هلك، فهو ينام من البرد طول الشتاء كالميتة ولا يدخر القوت للشتاء بخلاف النمل، فإذا جاء الربيع وقد صارت الزنابير من البرد وعدم القوت كالخشب اليابس، نفخ الله تعالى في تلك الجثث الحياة فتعيش مثل العام الأول، وذلك دأبها. ومن هذا النوع صنف مختلف اللون مستطيل الجسد، في طبعه الحرص والشره، يطلب المطابخ ويأكل ما فيها من اللحوم، ويطير منفرداً ويسكن بطن الأرض والجدران، وهذا الحيوان بأسره مقسوم من وسطه ولذلك لا يتنفس من جوفه البتة ومتى غمس في الدهن سكنت حركته، وإنما ذلك لضيق منافذه، فإذا طرح في الخل عاش وطار. قال الزمخشري في تفسير سورة الأعراف: قد يجعل المتوقع الذي لابد منه بمنزلة الواقع. ومنه ما روي أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري دخل على أبيه وهو يبكي، وهو إذ ذاك طفل، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة فقال حسان: يا بني قلت الشعر ورب الكعبة! أي ستقوله. فجعل المتوقع كالواقع. وما أحسن قول الأول :
وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزنبور فرق
وقد أجاد الشيخ زهير الدين بن عسكر قاضي السلامية بقوله:
في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه سوء تغيير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ذممت فقل قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما غيرت من صفة ... سحر البيان يرى الظلماء كالنور
وقال شرف الدولة بن منقذ ملغزاً في الزنبور والنحل:
ومغردين ترنما في مجلس ... فنفاهما لأذاهما الأقوام
هذا يجود بما يجود بعكسه ... هذا فيحمد ذا وذاك يلام

روى ابن أبي الدنيا، عن أبي المختار التيمي، قال: حدثني رجل قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنهيناه فلم ينته، فخرج يوماً لبعض حاجاته فاجتمع عليه الزنابير فاستغاث فأغثناه فحملت علينا فتركناه فما أقلعت عنه حتى قطعته قطعاً. وكذلك رواه ابن سبع في شفاء الصدور، وزاد: فحفرنا له قبراً فتصلبت الأرض فلم نقدر على حفرها فألقيناه على وجه الأرض، وألقينا عليه من ورق الشجرة والحجارة، وجلس رجل من أصحابنا يبول فوقع على ذكره زنبور من تلك الزنابير فلم يضره. فعلمنا أن تلك الزنابير كانت مأمورة. قال يحيى بن معين: كان يعلى بن منصور الرازي من كبار علماء بغداد، روى عن مالك والليث وغيرهما قال: فبينما هو يصلي يوماً إذ وقع عليه كور الزنابير، فما التفت ولا تحرك حتى أتم صلاته، فنظروا فإذا رأسه قد صارت هكذا من شدة الانتفاخ.
الحكم: يحرم أكله لاستخباثه، ويستحب قتله لما روى ابن عدي في ترجمة مسلمة بن علي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل زنبوراً اكتسب ثلاث حسنات " ، لكن يكره إحراق بيوتها بالنار قاله الخطابي في معالم السنن. وسئل الامام أحمد عن تدخين بيوت الزنابير فقال: إذا خشي أذاها فلا بأس به وهو أحب إلي من تحريقها. ولا يصح بيعها لأنها من الحشرات.
الخواص: إذا طرح الزنبور في الزيت مات، فإن طرح في الخل عاش كما تقدم. وفراخ الزنابير تؤخذ من أوكارها وتغلى في الزيت، ويطرح عليها سذاب وكراويا، وتؤكل تزيد في الباه وشهوة الجماع. وقال عبد الملك بن زهر: عصارة الملوخيا إذا طليت على لسعة الزنبور أبرأتها. التعبير: الزنبور في المنام عدو محارب، وربما دل على البناء والنقاب والمهندس وعلى قاطع الطريق وذي الكسب الحرام وعلى المطرب الخارج الضرب، وربما دلت رؤيته على أكل السموم أو شربها. وقيل: تدل رؤيته على رجل مخاصم مهيب ثابت في القتال، سفيه خبيث المأكل. والزنابير إذا دخلت مكاناً فإنها جنود لهم هيبة وسرعة وشجاعة، يحاربون الناس جهاراً. وقيل: الزنبور رجل مجادل بالباطل وهو من الممسوخ وقالت اليهود: الزنبور والغراب يدل على المقامرين وسفاكي الدماء، وقيل الزنابير في المنام قوم لا رحمة لهم والله أعلم.
الزندبيل: الفيل الكبير أنشد يحيى بن معين:
وجاءت قريش البطاح ... إلينا هم الدول الجاليه
يقودهم الفيل والزندبيل ... وذو الضرس والشفة العاليه
الزندبيل كبير الفيلة وقال يحيى: أراد بالفيل والزندبيل عبد الملك وأبان ابني بشر بن مروان قتلاً مع ابن هبيرة الأصغر وأراد بذي الفرس والشفة العالية خالد بن مسلمة المخزومي المعروف بالفأفاء الكوفي، روى له مسلم والأربعة وروى عن الشعبي وطبقته، وروى عنه شعبة بن الحجاج والسفيانان وكان مرجئاً يبغض علياً رضي الله تعالى عنه، أخذ مع ابن هبيرة فقطع أبو جعفر المنصور لسانه ثم قتله.
الزهدم: زاي مفتوحة ثم هاء ساكنة ثم دال مهمة مفتوحة الصقر ويقال فرخ البازي وبه سمي زهدم بن مضرب الجرمي، روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. والزهدمان أخوان من بني عبس زهدم وكردم وفيهما يقول قيس بن زهير:
جزاني الزهدمان جزاء سوء ... وكنت المرء يجزى بالكرامة
أبو زريق: القيق الآتي ذكره في باب القاف إن شاء الله تعالى. والزرياب المتقدم قبل بورقة، وهو ألوف للناس يقبل التعليم سريع الإدراك لما يعلم، وربما زاد على الببغاء وذلك أنه أنجب وإذا تعلم جاء بالحروف مبينة حتى لا يشك سامعه أنه إنسان وقد تقدم ذكره في الزرياب. وحكمه: حل الأكل لعدم استخباثه لكن قيل إنه متولد من الشقراق والغراب، فعلى هذا يتخرج فيه وجه بالتحريم ولم يذكروه.
أبو زيدان: ضرب من الطير.
أبو زياد: الحمار. قال الشاعر:
زياد لست أدري من أبوه ... ولكن الحمار أبو زياد
وأبو زياد أيضاً الذكر قال الشاعر:
تحاول أن تقيم أبا زياد ... ودون قيامه شيب الغراب
وهو الزهدباج أيضاً قاله في المرصع.
؟؟

باب السين المهملة.
سابوط: دابة من دواب البحر قاله ابن سيده وغيره.
ساق حر: هو بالسين المهملة وبالقاف بينهما ألف وحر بالحاء والراء المهملتين الورشان وهو

ذكر القمارى لا يختلفون في ذلك قال الكميت :
تغريد ساق على ساق يجاوبها ... من الهواتف ذات الطوق والعطل
عنى بالأول الورشان، وبالثاني ساق الشجرة وقال حميد بن ثور الهلالي:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر نزهة وترنما
مطوقة غراء تسجع كلما ... دنا الصيف وانحال الربيع فأنجما
محلاة طوق لم تكن من تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما
تغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة من نوحها متألما
إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تثغر بمنطقها فما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً هاجه صوت أعجما
قال ابن سيده: إنما سمي ذكر القمارى ساق حر لحكاية صوته، فإنه يقول: ساق حر ساق حر، ولذلك لم يعرب ولو أعرب لصرف، فيقال ساق حران كان مضافاً وساق حران كان مركباً فتصرفه لأنه نكرة، فترك إعرابه دليل على أنه حكى الصوت بعينه وهو صياحه، وقد يضاف أوله إلى آخره، وذلك كقولهم خاز باز لأنه في اللفظ أشبه بباب دار انتهى. والنزهة الشوق، والترنم الغناء وهما مصدران واقعان موقع الحال من الضمير الفاعل في دعت ساق حر الواقع في موضع الصفة لحمامة وسيأتي في باب القاف إن شاء الله تعالى في القمري.
السالخ: الأسود من الحيات وقد تقدم ذكره في الأفعى في باب الهمزة.
سام أبرص: بتشديد الميم قال أهل اللغة: وهو من كبار الوزغ وهو معرفة إلا أنه تعريف جنس وهما اسمان جعلا واحداً، ويجوز فيه وجهان أحدهما أن تبنيهما على الفتح كخمسة عشر، والثاني أن تعرب الأول وتضيفه إلى الثاني مفتوحاً، لكونه لا ينصرف ولا ينثني ولا يجمع على هذا اللفظ، بل تقول في التثنية: هذان ساما أبرص وفي الجمع هؤلاء سوام أبرص، وإن شئت قلت: هؤلاء السوام ولا تذكر أبرص. وإن شئت قلت: هؤلاء البرصة والأبارص، ولا تذكر سام قال الشاعر:
والله لو كنت لهذا خالصاً ... ما كنت عبداً آكل الأبارصا
ولك على الثاني أن تقول: أبرصان وأبارص كما صنع الشاعر، فإنه جمع على الثاني إنما سمي هذا النوع بسام أبرص لأنه سم أي جعل الله فيه السم، وجعله أبرص. وسيأتي في باب الواو إن شاء الله تعالى، في ذكر الوزغ. ومن شأن هذا الحيوان، أنه إذا تمكن من الملح، تمرغ فيه فيصير مادة لتولد البرص.
وحكمه: تحريم الأكل لاستقذاره وللأمر بقتله، وعدم جواز بيعه كسائر الحيوانات التي لا منفعة لها والله أعلم.
الخواص: دمه إذا طلي به داء الثعلب أنبت الشعر، وكبده يسكن وجع الضرس، ولحمه يوضع على لسعة العقرب ينفعها، وجلده يوضع موضع الفتق يذهبه، وهو لا يدخل بيتاً فيه رائحة الزعفران.
التعبير: سام أبرص والعظاية في التأويل: فاسقان يمشيان بالنميمة. وقال أرطاميدورس: سام أبرص يدل على فقر وهم والله أعلم.
السانح: وما والاك ميامنه من ظبي أو طائر أو غيرهما تقول سنح الظبي لي سنوحاً إذا مر من مياسرك إلى ميامنك. والعرب تتيمن بالسانح وتتشاءم بالبارح. وفي المثل: من لي بالسانح بعد البارح، قال أبو عبيدة: سأل يونس رؤية عن السانح والبارح، فقال: السانح ما والاك ميامنة، والبارح ما والاك مياسرة، وكان ذلك يصد الناس عن مقاصدهم فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الطيرة وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر قال لبيد:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
والطيرة سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، في الطير واللقحة، في بابي الطاء المهملة واللام. السبد: بضم السين وفتح الباء طائر لين الريش، إذا قطرت عليه قطرة من ماء جرت عليه من لينه وجمعه سبدان قال الراجز:
أكل يوم عرشها مقيلي ... حتى ترى المئزرذا الفضول
مثل جناح السبد الغسيل
والعرب تشبه الفرس به إذا عرق قال طفيل العامري:
كأنه سبد بالماء مغسول
ولم أر لأصحابنا في حكمه كلاماً.

السبع: بضم الباء وإسكانها الحيوان المفترس والجمع أسبع وسباع وأرض مسبعة أي كثيرة السباع قرأ الحسن وابن حيوة وما أكل السبع بإسكان الباء، وهي لغة لأهل نجد قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في عتيبة بن أبي لهب:
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع
وقرأ ابن مسعود: وأكيلة السبع، وقرأ ابن عباس رضي تعالى عنهما: وأكيل السبع. قيل: سمي سبعاً لأنه يمكث في بطن أمه سبعة أشهر، ولا تلد الأنثى أكثر من سبعة أولاد، ولا ينزو الذكر على الأنثى إلا بعد سبع سنين من عمره. قال أبو عبد الله ياقوت الحموي، في كتاب المشترك، وضعاً في باب الغين المعجمة والباء الموحدة: الغابة موضع، بينه وبين المدينة أربعة أميال من ناحية الشام، له ذكر في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وفدت إليه، فيه السباع تسأله أن يفرض لها ما تأكله. وفي طبقات ابن سعد عن عبد الله بن حنطب قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة، إذ أقبل ذئب، فوقف بين يديه وعوى، فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا وافد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئاً لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحرزتم منه، فما أخذ فهو رزقه " . فقالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا بشيء، فأومأ إليه بأصابعه الثلاث أي خالسهم فولى. وقد تقدم في باب الذال المعجمة في لفظ الذئب طرف من ذلك.
ووادي السباع بطريق الرقة مر به وائل بن قاسط على أسماء بنت رويم، فهم بها حين رآها منفردة في الخباء فقالت: والله لئن هممت بي لأدعون أسبعي! فقال: ما أرى في الوادي سواك! فصاحت ببنيها يا كلب يا ذئب يا فهد يا دب يا سرحان يا أسد يا سبع يا ضبع يا نمر فجاؤوا يتعادون بالسيوف، فقال: ما هذا إلا وادي السباع! وفي الصحيحين " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع " . وروى الترمذي والحاكم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، يحدثه بما أحدث أهله من بعده " . ثم قال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفاضل، وهو ثقة عند أهل الحديث وثقه يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي.
فائدة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال: " وبما أفضلت السباع " خرجه الدارقطني قال السهيلي: يريد " نعم وبما أفضلت السباع " قال: ومثله قوله تعالى: " سبعة وثامنهم كلبهم " قالوا: إنها واو الثمانية وليس كذلك بل تدل على تصديق القائلين بأنهم سبعة لأنها عاطفة على كلا، مضمر مصدق تقديره نعم. وثامنهم كلبهم كما إذا قال قائل: زيد شاعر. فقلت له: وفقيه أيضاً أي نعم وفقيه أيضاً. وفي التنزيل " وارزق أهله من الثمرات " الآية قال الزمخشري: هذه الواو آذنت بأن الذين قالوا " سبعة وثامنهم كلبهم " قالوا ذلك عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كغيرهم انتهى. وحكى القشيري، في أوائل الرسالة، عن بنان الجمال، وكان عظيم الشأن صاحب كرامات، أنه ألقي بين يدي سبع فجعل السبع يشمه ولا يضره، فلما خرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع؟ قال: كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سور السبع.

قيل: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي رضي الله تعالى عنهما فعرض لهما سبع، فقال سفيان لشيبان: أما ترى هذا السبع؟ فقال: لا تخف، ثم أخذ شيبان أذنه فعركها فبصبص وحرك ذنبه، فقال سفيان: ما هذه الشهرة؟ فقال: لولا مخافة الشهرة لوضعت زادي على ظهره، حتى آتي مكة. وذكر الحافظ أبو نعيم في الحلية قال: كان شيبان الراعي إذا أجنب، وليس عنده ماء دعا ربه فتجيء سحابة فتظله، فيغتسل منها ثم تذهب، وكان إذا ذهب للجمعة، خط حول غنمه خطاً فإذا جاء وجدها على حالها لم تتحرك، وذكر أبو الفرج بن الجوزي وغيره أن الإمام أحمد والشافعي مرا يوماً بشيبان الراعي فقال الإمام أحمد: لأسألن هذا الراعي وأنظر جوابه، فقال له الشافعي: لا تتعرض له، فقال: لابد من ذلك، فقال له: يا شيبان ما تقول فيمن صلى أربع ركعات فسها في أربع سجدات ماذا يلزمه؟ قال له: على مذهبنا أم على مذهبكم. قال: أهما مذهبان؟ قال: نعم، أما عندكم فيلزمه أن يصلي ركعتين ويسجد للسهو، وأما عندنا فهذا رجل مقسم القلب يجب أن يعاقب قلبه حتى لا يعود. قال: فما تقول فيمن ملك أربعين شاة وحال عليها الحول ماذا يلزمه؟ قال: يلزمه عندكم شاة وأما عندنا فالعبد لا يملك شيئاً مع سيده. فغشي على الإمام أحمد فلما أفاق انصرفا انتهى. قلت: وقد ذهب جماعة من علماء الآخرة إلى من سها فسدت صلاته، أخذا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للمرء من صلاته إلا ما عقله منها فعلا ولفظاً " . قالوا: ولا تفسد الصلاة إلا بترك واجب، وإلا فأي معنى للركوع والسجود، والمقصود منهما التعظيم والحضور لا الغفلة والذهول؟! وهو حسن، وإنما أفتت العلماء رضي الله تعالى عنهم بصحة الصلاة بذلك لعجزهم عن الاطلاع على أسرار القلوب، وسلموها إلى أربابها ليستفتوا نفوسهم، ليدفع الفقهاء كيد الشيطان وشقشقته عمن يقول لا إله إلا الله، وليقيموا الصلاة، ولم يفتوا بأن ذلك نافع لهم في الآخرة، ما لم يطابق عليه القلب اللسان مع الإخلاص لله والإخلاص لله واجب في سائر الأعمال. والاخلاص هو ما صفا عن الكدر، وخلص من الشوائب. قال تعالى: " من بين فرث ودم لبناً خالصاً " فكما أن خلوص اللبن من الفرث والدم، فكذلك إخلاص الأعمال من الرياء وحظوظ النفس جميعاً وقد تكلمت على ذلك كلاماً طويلا في الجوهر الفريد فلينظر هناك وبالله التوفيق. ورأيت في بعض المجاميع أن الشافعي رضي الله تعالى عنه كان يجلس إلى شيبان الراعي ويسأله عن مسائل فقيل له: مثلك يسأل هذا البدوي فيقول لهم: هذا وفق لما علمناه. وكان شيبان أمياً وإذا كان محل الأمي منهم من العلم هكذا فما ظنك بأئمتهم وقد كان الأئمة المجتهدون كالشافعي وغيره رضي الله تعالى عنهم يعترفون بوفور فضل علماء الباطن وقد قال الإمامان الجليلان الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما: إذا لم يكن العلماء أولياء الله تعالى، فليس لله ولي. وقد حكى غير واحد من الحفاظ أن أبا العباس بن شريح، كان إذا أعجب الحاضرين ما يبديه لهم من العلوم، يقول لهم: أتدرون من أين لي هذا؟ إنما حصل من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه. وكان من دعاء شيبان: يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا مبدئ يا معيد، يا فعالا لما يريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يزول، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وبقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك، أن تكفيني شر الظالمين أجمعين. وقد ذكر بعضهم قصيدة ذكر فيها أسماء جماعة من الأولياء قدس الله أسرارهم فمنها:
شيبان قد كان راعي ... وسر سره ما اختفى
فاجهد وخل الدعاوى ... إن كان لك شيء بان
وفي الرسالة، في باب كرامات الأولياء، أن سهل بن عبد الله التستري، كان في داره بيت تسميه الناس بيت السباع، كانت السباع تجيء إليه فيدخلهم ذلك البيت، ويضيفهم ويطعمهم اللحم ثم يخلي سبيلهم.

وفي كفاية المعتقد في ذكر ما زوي لهم من الأرض من غير حركة، وهو أفضل من الطيران في الهواء، والمشي على الماء، عن سهل بن عبد الله التستري، قال: توضأت يوم جمعة ومضيت إلى الجامع، وذلك في أيام البداية، فوجدته قد امتلأ بالناس، وقد هم الخطيب أن يرقى المنبر، فأسأت الأدب ولم أزل أتخطى رقاب الناس حتى وصلت إلى الصف الأول فجلست، وإذا عن يميني شاب حسن المنظر طيب الرائحة عليه أطمار الصوف، فلما نظر إلي قال: كيف نجدك يا سهل قلت: بخير أصلحك الله وبقيت مفكراً في معرفته لي وأنا لم أعرفه، فبينما أنا كذلك إذ أخذني حرقان بول فكربني، فبقيت على وجل خوفاً أن أتخطى رقاب الناس، وإن جلست لم يكن لي صلاة فالتفت إلي وقال: يا سهل أخذك حرقان بول؟ فقلت: أجل فنزع حرامه عن منكبيه فغشاني به، ثم قال: اقض حاجتك وأسرع لتلحق الصلاة. قال: فأغمي علي فلما فتحت عيني، وإذا بباب مفتوح فسمعت قائلا يقول: لج الباب يرحمك الله، فولجت فإذا أنا بقصر مشيد عالي البنيان شامخ الأركان، وإذا بنخلة قائمة وإلى جانبها مطهرة مملوءة أحلى من الشهد ومنزل لإراقة الماء، ومنشفة معلقة وسواك، فحللت لباسي وأرقت الماء ثم اغتسلت وتنشفت بالمنشفة فسمعت منادياً: يا سهل إن كنت قضيت أربك فقل: نعم، فقلت: نعم. فنزع الحرام عني فإذا أنا جالس مكاني ولم يشعر بي أحد. فبقيت مفكراً في نفسي وأنا مكذب نفسي فيما جرى فقامت الصلاة فصليت ولم يكن لي شغل إلا الفتى لأعرفه، فلما فرغت تتبعت أثره، فإذا به قد دخل إلى درب، فالتفت إلي وقال: يا سهل كأنك ما أيقنت بما رأيت؟ قلت: كلا، قال: فلج الباب يرحمك الله، فنظرت الباب بعينه فولجت القصر فنظرت المطهرة والنخلة والحال بعينه، فمسحت عيني وفتحتهما، فلم أجد الفتى ولا القصر.
وإنما ذكرت هذه الحكاية لأنها من جملة العجائب عند غير هذه الطائفة، ولا يكاد يؤمن بها كثير من الناس ولها احتمالات منها: أنه يحتمل أنه نقل من مكانه لما أغمي عليه إلى حيث شاء الله من غير شعور منه، ثم أعيد إلى مكانه لطفأ من الله تعالى وكرامة لأوليائه.
قال شيخنا اليافعي رحمه الله: ومن المحكي عن سهل رضي الله تعالى عنه أيضاً، أن أمير خراسان يعقوب بن الليث أصابته علة أعيت الأطباء، فقيل له: في ولايتك رجل صالح يقال له سهل بن عبد الله ولو استحضرته ليدعو لك رجونا لك العافية فأحضره وسأله الدعاء، فقال: كيف يستجاب دعائي لك وأنت مقيم على الظلم. فنوى يعقوب التوبة والرجوع عن المظالم وحسن السيرة في الرعية وأطلق من في سجنه من المظلومين فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة وفرج عنه، فنهض كأنما نشط من عقال وعوفي من ساعته، فعرض على سهل مالا جزيلا فأبى قبوله فلما رجع إلى تستر قيل له بأثناء الطريق: لو قبلت المال الذي عرض عليك، وفرقته على الفقراء؟. فنظر إلى الحصباء فإذا هي جواهر، فقال: خذوا ما أردتم. ثم قال: من أعطى مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ ونظير ذلك من قلب الأعيان ما روي عن الشيخ عيسى الهتار وهو بكسر الهاء وتخفيف التاء المثناة فوق، أنه مر على امرأة بغي فقال لها: بعد العشاء آتيك ففرحت بذلك وتزينت، فلما كان بعد العشاء دخل عليها البيت فصلى ركعتين ثم خرج. فقالت: أراك خرجت؟ قال: حصل المقصود، فورد عليها وأراد أزعجها عما كانت عليه فخرجت بعد الشيخ، وتابت على يده فزوجها بعض الفقراء. وقال: اعملوا الوليمة عصيدة ولا تشتروا لها إداماً ففعلوا ذلك وأحضروه، وحضر الفقراء والشيخ كالمنتظر لشيء يؤتى به فوصل الخبر إلى أمير كان رفيقاً لتلك المرأة فأخرج قارورتين مملوأتين خمراً وأرسل بهما إلى الشيخ وأراد بذلك الاستهزاء، وقال للرسول: قل للشيخ: قد سرني ما سمعت، وبلغني أن ما عندكم إدام، فخذوا هذا فائتدموا به. فلما أقبل الرسول قال له الشيخ: أبطأت. ثم تناول إحداهما فخضها ثم صب منها عسلا مصفى، ثم فعل كذلك بالأخرى وصب منها سمناً عربياً، وقال للرسول: اجلس فكل فأكل فطعم سمناً وعسلا لم ير مثلهما طعماً ولوناً وريحاً. فرجع الرسول وأخبر الأمير بذلك فجاء الأمير فأكل. وتحير مما رأى وتاب على يد الشيخ.
ويشبه هذا ما حكي عن بعضهم، أنه قال: بينما أنا أسير في فلاة من الأرض، إذا برجل

يدور بشجرة شوك، ويأكل منها رطباً جنياً فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال: تقدم فكل، قال: فتقدمت إلى الشجرة، فصرت كلما أخذت منها رطباً عاد شوكاً، فتبسم الرجل وقال: هيهات لو أطعته في الخلوات أطعمك الرطب في الفلوات. وحكاياتهم في مثل هذا كثيرة، وإنما نبهت على قطرة من بحار عميقة، وعلى الجملة فالدنيا تتصور لهم في صورة عجوز تخدمهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريباً في هذا الباب، والرجوع في ذلك كله إلى أصل يجب الإيمان به، وهو أن الله على كل شيء قدير، وليس الخرق للعوائد بمستحيل في العقل والله التوفيق.
وحكى: عن الشيخ أبي الغيث اليمني رضي الله تعالى عنه، أنه خرج يوماً يحتطب فبينما هو يجمع الحطب إذ جاء السبع وافترس حماره، فقال له: وعزة المعبود ما أحمل حطبي إلا على ظهرك، فخضع له السبع فحمل الحطب على ظهره، وساقه إلى البلد، ثم حط عنه وخلاه. ونقل أن شعوانة رزقت ولداً فربته أحسن تربية، فلما كبر ونشأ قال لها: يا أماه سألتك بالله إلا ما وهبتني لله فقالت له: يا بني أنه لا يصلح أن يهدى للملوك إلا أهل الأدب والتقى وأنت يا ولدي غمر لا تعرف ما يراد بك ولم يأن لك ذلك فأمسك عنها فلما كان ذات يوم، خرج إلى الجبل ليحتطب، ومعه دابة، فنزل عنها وربطها، وذهب فجمع الحطب ورجع، فوجد السبع قد افترسها، فجعل يده في رقبة السبع، وقال له: يا كلب الله تأكل دابتي وحق سيدي لأحملنك الحطب كما تعديت على دابتي، فحمل على ظهره الحطب وهو طائع لأمره حتى وصل به إلى دار أمه فقرع عليها الباب ففتحت له وقالت لما رأت ذلك: يا بني أما الآن فقد صلحت لخدمة الملك اذهب لله عز وجل فودعها وذهب.
روى صاحب مناقب الأبرار عن شاه الكرماني أنه خرج إلى الصيد وهو ملك كرمان، فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا شاب راكب على سبع وحوله سباع كثير فلما رأته السباع، ابتدرت نحوه فنحاها الشاب عنه فبينما هو كذلك، إذ أقبلت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب ودفع باقيه إلى شاه فشرب وقال: ما شربت شيئاً ألذ منه ولا أعذب، ثم غابت العجوز فقال الشاب: هذه الدنيا وكلها الله تعالى بخدمتي فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إلى حين يخطر ببالي، فعجب شاه من ذلك، فقال له: أبلغك أن الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها: يا دنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. ثم وعظه وعظاً حسناً، فكان ذلك سبب توبته.
وفي الإحياء في عجائب القلب عن إبراهيم الرقي قال: قصدت أبا الخير الديلمي التيناني مسلماً عليه فصلى صلاة المغرب، ولم يقرأ الفاتحة مستوياً فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي فلما أصبح الصباح خرجت إلى الطهارة فقصحني السبع فعدت إليه وقلت: إن السبع قد قصدني فخرج وصاح على الأسد وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لأضيافي؟ فتنحى الأسد فتطهرت فلما رجعت قال: أنتم اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد، ونحن اشتغلنا بتقويم الباطن فخافنا الأسد وقد أنشدنا شيخنا الإمام العلامة جمال الدين بن عبد الله بن أسد اليافعي لنفسه:
هم الأسد ما الأسد الأسود تهابهم ... وما النمر ما أظفار فهد ونابه
وما الرمي بالنشاب ما الطعن بالقنا ... وما الضرب بالماضي الكمي ما ذبابه
لهم هميم للقاطعات قواطع ... لهم قلب أعيان المراد انقلابه
لهم كل شيء طائع ومسخر ... فلا قط يعصيهم بل الطوع دائه
من الله خافوا لا سواه فخافهم ... سواه جمادات الورى ودوابه
لقد شمروا في نيل كل عزيزة ... ومكرمة مما يطول حسابه
إلى أن جنوا ثمر الهوى بعد ما جنى ... عليهم وصار الحب يطول عذباً عذابه

وفي الخبر قيل: أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري، معناه خفني لا وصفاً في المخوفة من العزة والعظمة والكبرياء والجبروت والقهر وشدة البطش، ونفوذ الأمر، كما تخاف السبع الضاري لشدة بدنه وعبوسة وجهه، وشبوك أنيابه، وقوة براثنه، وجراءة قلبه، وسرعة غضبه، وبغتات وثبه، وفظيع بطشه، ودواعي ضراوته، لا أجلب عليه شراً ولا عصيت له أمراً، فيا أخي خف الله حق خوفه، واترك السوى فمن خاف الله حق خوفه خافه كل شيء، ومن أطاع الله حق طاعته أطاعه كل شيء.
وحكمه: تقدم في باب الهمزة لكن يكره ركوب السباع لما روى ابن علي في ترجمة إسماعيل بن عياش عن بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب السباع " . ولا يصح بيع السباع التي لا تنفع وقيل يجوز بيعها لأجل جلودها وأما التي تنفع كالفهد والفيل والقرد فيجوز بيعه.
السبنتي والسبندي: النمر الجريء والأنثى سبنداة قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ناحت الجن على عمر رضي الله تعالى عنه قبل أن يموت بثلاثة أيام فقالت:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسوق
جزى الله خيراً من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق
المطرق الحنق الذي أرخى عينيه إلى الأرض، وقد يمد السبنتي. ونسب الجوهري هذه الأبيات إلى الشماخ، وقال في الاستيعاب: لما مات عمر رضي الله تعالى عنه نحل الناس هذه الأبيات إلى الشماخ بن ضرار ولأخويه، وكانوا أخوة ثلاثة كلهم شعراء، وسيأتي ذكر النمر في باب النون إن شاء الله تعالى.
السبيطر: بفتح السين وفتح الباء الموحدة والطاء المهملة، بينهما ياء مثناة من تحت، وبالراء المهملة في آخره، مثل العميثل: طائر طويل العنق جداً يرى أبداً في الماء الضحضاح، ويكنى بأبي العيزار. كذا قاله الجوهري وابن الأثير، والظاهر أنهما أرادا به مالكاً الحزين، وقال في المحكم: الكركي يكنى أبا العيزار وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر العميثل في باب السين المهملة.
السحلة: كالهمزة الأرنب الصغيرة التي قد ارتفعت عن الخرنق وفارقت أمها.
السحلية: بضم السين العظاية. قال ابن الصلاخ: هي دويبة أكبر من الوزغ وقد عد في الروضة العظاية من نوع الوزغ، وقال: إنها محرمة، وقال ابن قتيبة وصاحب الكفاية: وذكر العظاية يسمى العضر فوط بفتح العين المهملة وتسكين الضاد المعجمة وبالفاء والواو والطاء في آخره. وذكر الجاحظ أن العضر فوط بلغة قيس هي العظاية وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة قول الأزهري: هي دويبة ملساء تعدو وتتردد كثيراً تشبه سام أبرص إلا أنها لا تؤذي وهي أحسن منه.
السحا: بفتح السين والحاء المهملتين الخفاش الواحدة سحاة مفتوحتان مقصورتان قاله النضر بن شميل وقد تقدم لفظ الخفاش في باب الخاء المعجمة.
سحنون: بفتح السين وضمها طائر حديد الذهن يكون بالمغرب، يسمونه سحنوناً لحدة ذهنه وذكائه وبه سمي سنون بن سعيد التنوخي القيرواني وهو لقب فرد واسمه عبد السلام، وهو تلميذ ابن القاسم وهو مصنف المدونة وكان قبل ذلك كتبها أسد بن الفرات عن ابن القاسم غير مرتبة ثم بخل بها ابن الفرات على سحنون فدعا عليه ابن القاسم أن لا ينفع الله بها ولا به وكذلك كان، فهي متروكة والعمل على مدونة سحنون ووفاته في شهر رجب سنة أربعين ومائتين وولد في شهر رمضان سنة ستين ومائة رحمة الله عليه.
السخلة: ولد الشاة من الضأن أو المعز ذكراً كان أو أنثى والجمع سخل وسخلة وسخال قال الشاعر:
فللموت تغدو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدور تبنى المساكن
وهذه لام العاقبة كقول الآخر:
أحوالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
ولم يبنوها للخراب ولكن إليها مآلها كقول الآخر:
فإن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالده

وقال تعالى: " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً " وقال تعالى: " ربنا إنك آتيت فرعون وملاة زينة وأموالا في الحياة الدنيا " الآية.
فائدة: قال أبو زيد: يقال لأولاد الغنم ساعة وضعها من الضأن والمعز جميعاً ذكراً كانت أو أنثى سخلة، ثم هي بهمة بفتح الباء الموحدة للذكر والأنثى جميعاً وجمعها بهم، فإذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها فما كان من أولاد المعز فهو جفار واحدها جفر، والأنثى جفرة فإذا رعى وقوي فهو عريض وعتود وجمعهما عرضان وعتدان، وهو في ذلك كله جدي والأنثى عناق ما لم يأت عليها الحول وجمعها عنوق. الذكر تيس إذا أتى عليه الحول، والأنثى عنز ثم تجزع في السنة الثانية، فالذكر جذع والأنثى جذعة. روى مالك عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: " اعتد عليهم في الزكاة بالسخلة " . وبه استدل الشافعي وغيره على أن ما نتج من النصاب يزكى بحول الأصل، لأن الحول إنما اعتبر للنماء والسخال في نفسها نماء، حتى لو نتجت قبل الحول بلحظة تزكى بحول النصاب، وإن ماتت الأمهات كلها قبل انقضاء حولها، على الأصح. وقيل: يشترط بقاء نصاب من الأمهات، وقيل: يشترط بقاء شيء منها ولو واحدة. وروى الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي، من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسخلة جرباء قد أخرجها أهلها فقال: " والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على أهلها " . وروى البزار في مسنده عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بدمنة قوم، فيها سخلة ميتة، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما لأهلها فيها حاجة " ؟ فقالوا: يا نبي الله لو كان لأهلها فيها حاجة ما نبذوها! قال صلى الله عليه وسلم " فوالله للدنيا أهون على الله من هذه السخلة على أهلها فلا الفينها أهلكت أحدكم " . وفي سيرة ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما خرج هو وأصحابه إلى غزوة بدر، لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجموا عنده خبراً، فقال له الناس: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم فسلم عليه. ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له سلمة بن سلامة بن وقش، وكان غلاماً حدثاً: لا تسأل رسول الله وأقبل علي فأنا أخبرك بذلك! ففي بطنها منك سخلة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مه " فخشيت على الرجل ثم أعرض عن سلمة. ورواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بزيادة وهو أنه قال لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أهل البادية وهو متوجه إلى بدر، لقيه بالروحاء فسأله القوم عن خبر الناس، فلم يجدوا عنده خبراً، فقالوا له: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم فسلم عليه ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه. فقال له سلمة بن سلامة بن وقش، وكان غلاماً حدثاً: لا تسأل رسول الله وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك! نزوت عليها ففي بطنها سخلة منك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مه " . فخشيت على الرجل ثم أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلمه كلمه واحدة حتى قفلوا واستقبلهم المسلمون بالروحاء يهنونهم فقال سلمة: يا رسول الله ما الذي يهنئونك والله إن رأينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعتقلة فنحرناها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل قوم فراسة، وإنما يعرفها الأشراف " . ثم قال: هذا صحيح مرسل.
ويتصل بذكر الفراسة ما رواه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عند أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه. والمرأة التي رأت موسى عليه السلام، فقالت لأبيها: يا أبت استأجره. وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. قال الحاكم: فرضي الله تعالى عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم بهذا الإسناد الصحيح.

فرع: السخلة المرباة بلبن كلبة، لها حكم الجلالة، يكره أكلها كراهة تنزيه على الأصح في الشرح الكبير، والروضة والمنهاج. وبه جزم الروياني والعراقيون. وقال أبو إسحاق المروزي والقفال: كراهة تحريم، ورجحه الإمام والغزالي والبغوي والرافعي في المحرر. والجلالة هي التي تأكل العذرة والنجاسات سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو الدجاج أو الأرز أو السمك، أو غير ذلك من المأكول.
وقد تقدم في باب الدال المهملة، في الدجاج، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياماً ثم يأكلها بعد ذلك " . وروى الدارقطني والحاكم والبيهقي، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس " .
قال الحاكم: صحيح الإسناد وقال البيهقي: ليس بالقوي. ثم إن لم يظهر بسبب ذلك تغير في لحمها، فلا تحريم ولا كراهة. واختلفوا فيما يناط به الحرمة والكراهة، فنقل الرافعي عن تتمة التتمة، أنه إن كان أكثر أكلها الطاهرات فليست بجلالة، والأصح أنه لا اعتبار بالكثرة بل بالرائحة فإن كان يوجد في عرقها أو فيها أدنى ريح النجاسة وإن قل فالموضع موضع النهي، وإلا فلا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن موضع النهي، ما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو كانت تقرب من الرائحة فأما إذا كانت الرائحة توجد يسيرة، فلا اعتبار بها. والصحيح الأول إلحاقاً لها بالتغير اليسير بالنجاسة في المياه فإن علفت الجلالة علفاً طاهراً مدة حتى طاب لحمها، وزالت النجاسة زالت الكراهة. ولا تقدر مدة العلف عندنا بزمن بل المعتبر زوال الرائحة بأي وجه كان. قال الرافعي، رحمه الله: وعن بعض العلماء تقدير العلف في الإبل والبقر بأربعين يوماً، وفي الغنم بسبعة أيام وفي الدجاج بثلاثة أيام. قال: وهو محمول عندنا على الغالب. فإن لم تعلف لم يزل المنع بغسل اللحم بعد الذبح ولا بطبخه وشيه وتجفيفه في الهواء، وإن زالت الرائحة وكذا إن زالت الرائحة، بمرور الزمان عند صاحب التهذيب. وقيل: بخلافه وكما يمنع لحمها يمنع لبنها وبيضها ويكره الركوب عليها من غير حائل بين الراكب وبينها ويطهر جلدها بالدباغ والأصح أنه كاللحم ولا يطهر بالذكاة عند القائل بالتنجيس.
وسئل: سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة، فقال: لا بأس بأكله. قال الطبري: العلماء مجمعون على أن الجدي إذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيرة، لا يكون حراماً، ولا خلاف في أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة. وقال غيره: المعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك في الخروف إذا ذبح بفوق ولا شم رائحة فقد نقله الله تعالى وأحاله كما يحيل الغذاء، وإنما حرم الله تعالى أكل أعيان النجاسات المدركات بالحواس. كذا قاله أبو الحسن علي بن خلف بن بطال القرطبي في شرح البخاري. ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة وهو أحد شيوخ أبي عمر بن عبد البر رحمة الله تعالى عليه.
السرحان: بكسر السين الذئب. والجمع سراح وسراحين، والأنثى سرحانة بالهاء، والجمع كالجمع والسرحان الأسد بلغة هذيل قال أبو المثلم يرثي ميتاً:
هباط أودية حمال ألوية ... شهاد أندية سرحان فتيان
وقال سيبويه: نون سرحان زائدة وهو فعلان والجمع سراحين. قال الكسائي: والأنثى سرحانة. حكى القزويني، عن بعض الرعاة، أنه نزل وادياً بغنمه فسلب سرحان شاة من غنمه فقام ورفع صوته ونادى: يا عامر الوالي، فسمع صوتاً: يا سرحان رد عليه شاته، فجاء الذئب بالشاة وتركها وذهب، وقد تقدم حكمه وخواصه وتعبيره.
الأمثال: قالوا: " سقط العشاء به على سرحان " . قال أبو عبيدة: أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء، فسقط على ذئب فأكله الذئب. وقال الأصمعي: أصله أن دابة خرجت تطلب العشاء فلقيها ذئب فأكلها. وقال ابن الأعرابي: أصله أن رجلا يقال له سرحان، كان بطلا تتقيه الناس، فقال رجل يوماً: والله لأرعين إبلي في هذا الوادي ولا أخاف سرحان بن هزلة فأتى إليه فقتله وأخذ إبله وقال:
أبلغ نصيحة أن راعي إبلها ... سقط العشاء به على سرحان
سقط العشاء به على متنمر ... طلق اليدين معاود لطعان
يضرب في طلب الحاجة تؤدي صاحبها إلى التلف.

السرطان: بفتح السين والراء المهملتين وبالنون في آخره، حيوان معروف ويسمى عقرب الماء، وكنيته أبو بحر وهو من خلق الماء وعيش في البر أيضاً وهو جيد المشي سريع العدو، ذو فكين ومخاليب وأظفار حداد، كثير الأسنان صلب الظهر من رآه رأى حيواناً بلا رأس ولا ذنب، عيناه في كتفيه وفمه في صدره وفكاه مشقوقان من الجانبين، وله ثماني أرجل، وهو يمشي على جانب واحد، ويستنشق الماء والهواء معاً، ويسلخ جلده في السنة ست مرات، ويتخذ لجحره بابين: أحدهما شارع في الماء، والآخر إلى اليبس، فإذا سلخ جلده سد عليه ما يلي الماء خوفاً على نفسه من سباع السمك، وترك ما يلي اليبس مفتوحاً ليصل إليه الريح فتجف رطوبته ويشتد، فإذا اشتد فتح ما يلي الماء وطلب معاشه. وقال ارسطاطاليس في النعوت: وزعموا أنه إذا وجد سرطان ميت في حفرة مستلقياً على ظهره في قرية أو أرض تأمن تلك البقعة من الآفات السماوية، وإذا علق على الأشجار يكثر ثمرها وفي وصفه قال الشاعر:
في سرطان البحر أعجوبة ... ظاهرة للخلق لا تخفى
مستضعف المشية لكنه ... أبطش من جاراته كفا
يسفر للناظر عن جملة ... متى مشى قدرها نصفا
ويقال: إن ببحر الصين سرطانات متى خرجت إلى البر استحجرت، والأطباء يتخذون منها كحلا يجلو البياض، والسرطان لا يتخلق بتوالد ولا نتاج، إنما يتخلق في الصدف ثم يخرج منه ويتولد.
وفي الحلية عن أبي الخير الديلمي أنه قال: كنت عند خير النساج فجاءته امرأة وطلبت أن ينسج لها منديلا، وقالت له: كم الأجرة؟ فقال لها: درهمان فقالت: ما معي الساعة شيء وغداً أتيك بها إن شاء الله تعالى، فقال لها: إذا أتيتني ولم تريني فارمي بهما في الدجلة فإني إذا رجعت أخذتها منها إن شاء الله تعالى، فقالت: حباً وكرامة. قال أبو الخير: فجاءت المرأة من الغد وخير غائب، فقعدت ساعة تنتظره ثم قامت وألقت خرقة في الدجلة، فيهما الدرهمان، فإذا سرطان قد تعلق بالخرقة، وغاص في الماء. ثم جاء خير بعد ساعة، ففتح باب حانوته وجلس على الشط يتوضأ، وإذا بسرطان خرج من الماء يسعى نحوه والخرقة على ظهره، فلما قرب من الشيخ أخذها وذهب السرطان إلى حال سبيله. فقلت له: رأيت كذا وكذا، فقال: أحب أن لا تبوح بهذا في حياتي فأجبته إلى ذلك.
الحكم: يحرم أكله لاستخبائه كالصدف قال الرافعي: ولما فيه من الضرر، وفي قول أنه يحل أكله، وهو مذهب مالك رحمة الله تعالى عليه.
الخواص: كل السرطان ينفع وجع الظهر ويصلبه. قال في النعوت: من علق عليه رأس سرطان لم ينم إذا كان القمر محترقاً، فإن كان غير محترق نام، وإن أحرق السرطان وحشي به البواسير كيف كانت أبرأها، وإن علقت رجله على شجرة مثمرة سقط ثمرها من غير علة ولحمه نافع للمسلولين جداً. وإذا وضع السرطان على الجراحات أخرج النصل وينفع من لسع الحيات والعقارب.
التعبير: السرطان في المنام تدل رؤيته على رجل كثير الكيد، لكثرة سلاحه، عظيم الهمة بعيد المأخذ عسر الصحبة، ومن رأى أنه أكل لحم سرطان في منامه، فإنه يصيب خيراً من أرض بعيدة. وقال جاماسب: لحم السرطان في الرؤيا مال حرام والله أعلم.
السرعوب: بضم السين وسكون الراء وبالعين المهملة ابن عرس ويقال له: النمس قاله في كفاية المتحفظ.
السرفوت: بفتح السين والراء المهملتين وضم الفاء دويبة تعشش في كور الزجاج في حال اضطرامه، وتبيض فيه وتفرخ، ولا تعمل بيتها إلا في موضع النار المستمرة الدائمة. كذا قاله ابن خلكان، في ترجمة يعقوب بن صابر المنجنيقي. وهذه الدويبة تشارك السمندل في هذا الوصف كما سيأتي في موضعه.
السرفة: بضم السين واسكان الراء المهملتين وبالفاء الأرضة قال ابن السكيت: إنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر، تتخذ لنفسها بيتاً مربعاً من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها على مثال الناموس، ثم تدخل فيه وتموت. ويقال سرفت السرفة، وتسرفها بالكسر سرفاً إذا أكلت ورقها، فهي شجرة مسروفة انتهى.

وفي الحديث أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لرجل: إذا أتيت إلى منى، وانتهيت إلى موضع كذا وكذا، فإن هناك شجرة لم تعبل ولم تجرد ولم تسرف ولم تسرح، قد نزل تحتها سبعون نبياً فأنزل تحتها. ومعنى لم تعبل لم يسقط ورقها، ولم تجرد لم يصبها الجراد، ولم تسرف لم تصبها السرفة، ولم تسرح لم يصبها السرح أي الإبل والغنم السارحة.
الحكم: يحرم أكلها لأنها من الحشرات.
الأمثال: قالوا: أصنع من سرفة " وقد تقدم الكلام عليها في باب الهمزة.
السرمان: دويبة كالحجر والسرمان أيضاً ضرب من الزنابير أصفر وأسود ومجزع.
السروة: الجرادة أول ما تكون وهي دودة وأصله الهمز والسروة لغة فيها.
السرماح: الجراد. قاله ابن سيده.
السعدانة: الحمامة.
السعلاة: أخبث الغيلان وكذلك السعلاء تمد وتقصر، والجمع السعالي. واستسعلت المرأة، أي صارت سعلاة أي صارت صخابة وبذية، قال الشاعر:
لقد رأيت عجباً مذ أمسا ... عجائزاً مثل السعالي خمسا
يأكلن ما أصنع همسا همسا ... لا ترك الله لهن ضرسا
وأنشد أبو عمر:
يا قبح الله بني السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات
ليسوا أعفاء ولا أكيات
قلب السين تاء وهي لغة بعض العرب.
قال الجاحظ: يقال إن عمرو بن يربوع كان متولداً من السعلاة والإنسان. قال: وذكروا أن جرهماً كان من نتاج الملائكة وبنات آدم عليه السلام. قال: وكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبط إلى الأرض في صورة رجل، كما صنع بهاروت وماروت فوقع بعض الملائكة على بعض بنات آدم عليه السلام فولدت جرهماً ولذلك قال شاعرهم:
لا هم أن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا
قال: ومن هذا الضرب كانت بلقيس ملكة سبا. وكذلك كان ذو القرنين، كانت أمه آدمية وأبوه من الملائكة ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا ينادي رجلا: يا ذا القرنين، قال: أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟ انتهى.
والحق في ذلك أن الملائكة معصومون من الصغائر والكبائر كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قاله القاضي عياض وغيره. وأما ما ذكروه من أن جرهماً كان من نتاج الملائكة وبنات آدم، وكذلك ذو القرنين وبلقيس فممنوع، واستدلالهم بقصة هاروت وماروت ليس بشيء، فإنها لم تثبت على الوجه الذي أوردوه، بل قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هما رجلان ساحران كانا ببابل. وقال الحسن: كانا علجين يحكمان بين الناس ويعلمان الناس السحر ولم يكونا من الملائكة لأن الملائكة لا يعلمون السحر. وقرأ ابن عباس والحسن البصري وما أنزل على الملكين بكسر اللام. وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف في الكلب.
وقد اختلف في ذي القرنين ونسبه واسمه، فقال صاحب ابتلاء الأخيار: اسم ذي القرنين الاسكندر، قال: وكان أبوه أعلم أهل الأرض بعلم النجوم، ولم يراقب أحد الفلك ما راقبه، وكان قد مد الله تعالى له في الأجل فقال ذات ليلة لزوجته: قد قتلني السهر، فدعيني أرقد ساعة وانظري إلى السماء، فإذا رأيت قد طلع في هذا المكان نجم وأشار بيده إلى موضع طلوعه فنبهيني حتى أطأك فتعلقي بولد يعيش إلى آخر الدهر، وكانت أختها تسمع كلامه ثم نام أبو الاسكندر فجعلت أخت زوجته تراقب النجم فلما طلع النجم أعلمت زوجها بالقصة فوطئها فعلقت منه بالخضر فكان الخضر بن خالد الاسكندر ووزيره فلما استيقظ أبو الاسكندر، رأى النجم قد نزل في غير البرج الذي كان يرقبه، فقال لزوجته: لم لم تنبهيني؟ فقالت: استحييت والله فقال لها: أما تعلمين أني أراقب هذا النجم منذ أربعين سنة والله لقد ضيعت عمري في غير شيء. ولكن الساعة يطلع في أثره نجم فأطؤك فتعلقين بولد يملك قرني الشمس فما لبث أن طلع، فواقعها فعلقت بالاسكندر، وولد الاسكندر وابن خالته الخضر في ليلة واحدة. ثم إن الاسكندر فتح الله عليه، بتمكينه في الأرض، وفتح البلاد وكان من أمره ما كان.

وروي عن وهب بن منبه أنه قال: كان ذو القرنين رجلا من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، وكان اسمه الاسكندر وكان عبداً صالحاً، فلما بلغ أشده، قال الله تعالى: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة وهم أصناف منهم أمتان بينهما طول الأرض ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض وأمم في وسط الأرض فقال ذو القرنين: إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم، لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي ندبتني إليها بأي قوة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ وكيف لي أن أفقه لغاتهم؟ وبأي سمع أسمع قولهم؟ وبأي بصر أنقدهم؟ وبأي حجة أخاصمهم. وبأي عقل أعقل عنهم. وبأي قلب وحكمة أدبر أمرهم؟ وبأي قسط أعدل بينهم؟ وبأي معرفة أفصل بينهم؟ وبأي يد أسطو عليهم؟ وبأي رجل أطؤهم. وبأي طاقة أحصيهم. وبأي جند أقاتلهم؟ وبأي رفق أتألفهم؟ وليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ويقوى عليهم ويطيقهم، وأنت الرؤوف الرحيم الذي لا يكلف نفساً إلا وسعها ولا يحملها إلا طاقتها. قال الله عز وجل: إني سأطوقك وأحملك وأشرح لك صدرك، فتسمع كل شيء، وأقوي لك فهمك فتفقه كل شيء، وأبسط لك لسانك فتنطق بكل شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء، وأمد بصرك فتنقد كل شيء، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأقوي لك قلبك فلا يروعك شيء، واحفظ لك عقلك فلا يعزب عنك شيء، وأبسط لك ما بين يديك فتسطو فوق كل شيء، وأشد لك وطأتك فتهد كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يهولنك شيء، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما جنداً من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك، وذلك قوله تعالى: " وآتيناه من كل شيء سبباً " وقال ابن هشام: ذو القرنين هو الصعب بن ذي مرثد الحميري من ولد وائل بن حمير. وقال ابن إسحاق: اسمه مرزبان بن مردويه، كذا وقع في السيرة له، وذكر أنه الاسكندر.
وقيل: إنه رجل من ولد يونان بن يافث، واسمه هرمس ويقال له هرديس، والظاهر من علم الأخبار والسير أنهما اثنان أحدهما كان على عهد إبراهيم ويقال إنه الذي قضى لإبراهيم حين خاصم إليه في بئر السبع بالشام، والثاني كان قريباً من عهد عيسى عليه السلام وقيل إنه افريدون الذي قتل الملك الطاغي الذي كان على عهد إبراهيم أو قبله بزمن.
واختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين، فقال بعضهم: لأنه ملك فارس والروم وقيل: لأنه كان في رأسه شبه القرنين وقيل: لأنه رأى في المنام كأنه آخذ بقرني الشمس، وكان تأويل رؤياه أنه طاف المشرق والمغرب، وقيل: إنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن، ثم دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر، وقيل: إنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل: لأنه كان إذا حارب قاتل بيديه وركابيه جميعاً، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه كان له ذؤابتان حسنتان والذؤابة تسمى قرناً. قال الراعي:
فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف لبرد ماء الحشرج

وقيل: لأنه أعطى علمي الظاهر والباطن. وهو رجل من الاسكندرية يقال له اسكندر بن فيلبش الرومي وكان في الفترة بعد عيسى عليه الصلاة والسلام. قال مجاهد: ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران: نمرود وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس وهو المهدي. واختلف في نبوته فقال بعضهم: كان نبياً لقوله تعالى: " قلنا يا ذا القرنين " وقال آخرون: كان ملكاً صالحاً عادلا، ولعله الأصح. فالقائلون بنبوته قالوا: إن الملك الذي كان ينزل عليه، اسمه رقيائيل وهو ملك الأرض الذي يطوي الأرض يوم القيامة وينقصها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة. قاله ابن أبي خيثمة. قال السهيلي: وهذا يشاكل توكله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها، كما أن قصة خالد بن سنان العبسي وهو نبي بين عيسى ومحمد عليهما السلام، في تسخير النار، مشاكلة لحال الملك الموكل به، وهو مالك خازن النار. وسيأتي ذكر خالد ونبوته في باب العين المهملة في العنقاء، إن شاء الله تعالى. قال الجاحظ: وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس لقوله تعالى: " وشاركهم في الأموال والأولاد " وهذا ظاهر، وذلك أن الجنيات إنما تتعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق في طلب السفاد، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس، ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء، قال تعالى: " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " ولو كان الجان لا يفتض الآدميات، ولم يكن ذلك في تركيبه لما قال الله تعالى هذا القول.
وذكروا أن الواق واق نتاج من بعض النباتات وبعض الحيوانات، وقال السهيلي: السعلاة ما يتراءى للناس بالنهار، والغول ما يتراءى للناس بالليل. وقال القزويني: السعلاة نوع من المتشيطنة مغايرة للغول. قال عبيد بن أيوب:
وساحرة عيني لو أن عينها ... رأت ما ألاقيه من الهول جنت
أبيت وسعلاة وغول بقفرة ... إذا الليل وارى، الجن فيه أرنت
قال: وأكثر ما توجد السعلاة في الغياض وهي إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر. قال: وربما اصطادها الذئب بالليل فأكلها، وإذا افترسها ترفع صوتها وتقول: أدركوني فإن الذئب قد أكلني، وربما تقول: من يخلصني ومعي ألف دينار يأخذها والقوم يعرفون أنه كلام السعلاة فلا يخلصها أحد فيأكلها الذئب.
السفنج: بضم السين واسكان الفاء وضم النون وبالجيم في آخره، قال أبو عمر: وهو الظليم الخفيف وهو ملحق بالخماسي بتشديد الحرف الثالث منه، كذا قاله الجوهري، والسفنج أيضاً طائر كثير الاستنان قاله في العباب.
السقب: ولد الناقة أو ساعة يولد والجمع أسقب وسقوب وسقبان والأنثى سقبة وأمها مسقب ومسقاب.
الأمثال: قالوا: أذل من السقبان بين الحلائب، أرادوا بالحلائب جمع حلوبة وهي التي تحلب.
السقر: قال القزويني: إنه من الجوارح في حجم الشاهين، إلا أن رجليه غليظتان جداً ولا يعيش إلا في البلاد الباردة، ويوجد في بلاد الترك كثيراً، وهو إذا أرسل على الطير أشرف عليها، ويطير حولها على شكل دائرة، فإذا رجع إلى المكان الذي ابتدأ منه تبقى الطيور كلها في وسط الدائرة، لا يخرج منها واحد ولو كانت ألفاً وهو يقف عليها وينزل يسيراً يسيراً وتنزل الطيور بنزوله حتى تلتصق بالتراب فيأخذها البزادرة فلا يفلت منها شيء أصلا.

السقنقور: نوعان: هندي ومصري، ومنه ما يتولد في بحر القلزم، وهو البحر الذي غرق فيه فرعون وهو عند عقبة الحاج. ويتولد أيضاً ببلاد الحبشة وهو يغتذي بالسمك في الماء وبالقطا في البر يسترطه كالحيات، أنثاه تبيض عشرين بيضة تدفنها في الرمل فيكون ذلك حضناً لها وللأنثى فرجان، وللذكر ذكران كالضب. قاله التميمي. وقال ارسطو: السقنقور حيوان بحري وربما تولد في البحر في مواضع الصواعق. ومن عجيب أمره أنه إذا عض إنساناً وسبقه الإنسان إلى الماء، واغتسل منه مات السقنقور، وإن سبق السقنقور إلى الماء مات الإنسان. وبينه وبين الحية غداوة حتى إذا ظفر أحدهما بصاحبه قتله. والفرق بينه وبين الورل من وجوه منها أن الورل بري لا يأوي إلا البراري، والسقنقور لا يأوي إلا بالقرب من الماء أو فيه، ومنها أن جلد السقنقور ألين وأنعم من جلد الورل، ومنها أن ظهر الورل أصفر وأغبر، وظهر السقنقور مدبج بصفرة وسواد. والمختار من هذا الحيوان الذكر فإنه أفضل وأبلغ في النفع المنسوب إليه من أمر الباه قياساً وتجربة، بل كاد أن يكون هو المخصوص بذلك والمختار من أعضائه ما يلي ذنبه من ظهره، فهو أبلغ نفعاً وهذا الحيوان نحو ذراعين طولا ونصف ذراع عرضاً قال في المفردات: لا يعرف اليوم في عصرنا السقنقور لا الديار المصرية إلا ببلاد الفيوم، ومنها يجلب إلى القاهرة لمن عني بطلبه، وإنما يصاد في أيام الشتاء لأنه إذا اشتد عليه البرد يخرج إلى البر فحينئذ يصاد.
الحكم: يحل أكله لأنه سمك ويحتمل أن يأتي فيه وجه بالحرمة، لأن له شبهين في البر أحدهما حرام وهو الورل، والآخر يؤكل وهو الضب تغليباً للتحريم. وأما الذي تقدم في باب الهمزة فهو حرام لأنه متولد من التمساح كما تقدم فهو حرام كأصله.
الخواص: لحم السقنقور الهندي ما دام طرياً فهو حار رطب في الدرجة الثانية، وأما مملوحه المجفف فإنه أشد حرارة وأقل رطوبة لا سيما إذا مضت عليه بعد تعليقه مدة طويلة ولذلك صار لا يوافق استعماله أصحاب الأمزجة الحارة اليابسة، بل أرباب الأمزجة الباردة الرطبة ولحمه إذا أكل منه اثنان بينهما عداوة، زالت وصارا متحابين. وخاصية لحمه وشحمه إنهاض شهوة الجماع وتقوية الانعاظ والنفع من الأمراض الباردة التي بالعصب وإذا استعمل بمفرده كان أقوى فعلا من أن يخلط بغيره من الأدوية، والشربة منه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بحسب مزاج المستعمل له وسنه ووقته وبلده. وقال ارسطو: لحم السقنقور الهندي، إذا طبخ باسفيذاج، نفخ اللحم وأسمن، ولحمه يذهب وجع الصلب ووجع الكليتين ويدر المني، وخرزته الوسطى إذا علقت على صلب إنسان، هيجت الإحليل وزادت الجماع.
التعبير: هو في الرؤيا يدل على الإمام العالم الذي يهتدى به في الظلمات فإن جلده يولد ولحمه ينعش القوة ويثير حرارتها والله أعلم.
السلحفاة البرية: بفتح اللام، واحدة السلاحف. قاله أبو عبيدة وحكى الرواسي: سلحفية مثل بلهنية، وهي بالهاء عند الكافة وعند ابن عبدوس: السلحفا، بغير هاء. وذكرها يقال له غيلم، وهذا الحيوان يبيض في البر فما نزل منه في البحر كان لجأة، وما استمر في البركان سلحفاة، ويعظم الصنفان جداً إلى أن يصير كل واحد منهما حمل جمل. وإذا أراد الذكر السفاد، والأنثى لا تطيعه، يأتي الذكر بحشيشة في فيه، من خاصيتها أن صاحبها يكون مقبولا، فعند ذلك تطاوعه وهذه الحشيشة لا يعرفها إلا القليل من الناس. وهي إذا باضت صرفت همتها إلى بيضها بالنظر إليه ولا تزال كذلك حتى يخلق الله تعالى الولد منها، إذ ليس لها أن محضنه حتى يكمل بحرارتها، لأن أسفلها صلب لا حرارة فيه وربما تقبض السلحفاة على ذنب الحية فتقطع رأسها وتمضغ من ذنبها والحية تضرب بنفسها على ظهر السلحفاة وعلى الأرض حتى تموت. ولها حيلة عجيبة في التوصل إلى صيدها، وذلك أنها تصعد من الماء فتتمرغ في التراب، وتأتي موضعاً قد سقط الطير عليه لشرب الماء فتختفي عليه لكدورة لونها، التي اكتسبتها من الماء والتراب، فتصيد منها ما يكون لها قوتاً وتدخل به الماء ليموت فتأكله. ولذكرها ذكران وللأنثى فرجان، والذكر يطيل المكث في السفاد، والسلحفاة مولعة بأكل الحيات، فإذا أكلتها بعدها سعترا. والترس الذي على ظهرها وقاية لها وقد أجاد الشاعر حيث قال في وصفها:

لحا الله ذات فم أخرس ... تطيل من السعي وسواسها
تكب على ظهرها ترسها ... وتظهر من جلدها رأسها
إذ الحذر أقلق احشاءها ... وضيق بالخوف أنفاسها
تضم إلى نحرها كفها ... وتدخل في جلدها رأسها
الحكم: حكى البغوي في حلها وجهين: وصحح الرافعي التحريم لاستخباثها، لأن غالب أكلها الحيات. وقال ابن حزم: البرية والبحرية حلال، وكذلك بيضها لقوله تعالى: " كلوا مما في الأرض حلالا طيباً " مع قوله: " وقد فضل لكم ما حرم عليكم " ولم يفصل لنا تحريم السلحفاة فهي حلال. قال: وكذلك يحل اليربوع والسرطان والجراذين وأم حبين والورل والطير كله. قال: وقد روينا عن عطاء، أنه قال بإباحة أكل السلحفاة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نهى المحرم عن قتل الرخمة وجعل فيها الجزاء وقد قال أبو زيد المروزي من أصحابنا، بعدم تحريم المخاط والبزاق والمني ونحوها وكأنه استغنى بنفرة الطباع عنها فلم يزجر عنها.
وفي الأمثال: قالوا: أبلد من سلحفاة.
الخواص: ذكر صاحب الفلاحة والقزويني أن البرد، إذا كثر وقوعه على الأرض، وأضر بذلك المكان، تؤخذ سلحفاة وتقلب فيه على ظهرها بحيث تبقى قوائمها شائلة نحو السماء، فإن البرد لا يضر ذلك المكان وإذا لطخت الأيدي والأقدام بدمها، نفع من وجه المفاصل، وإذا أديم التمسح بدمها نفع من الكزاز والتشنج، وأكل لحمها يفعل ذلك. وإذا جفف دمها وسحق وطلي به على مسرجة فمن أسرجها ضرط وهو سر عجيب مجرب. وأي عضو من الإنسان حصل له وجع، يعلق عليه نظيره من أعضائها فإن الوجع يسكن بإذن الله تعالى. وطرف ذنب الذكر منها وقت هيجانه من علقه عليه هيج الباه، وإذا اتخذ من ظهرها مكبة وغطى بها رأس قدر، لم يغل ما دامت عليه.
التعبير: السلحفاة في المنام امرأة تزين وتتعطر وتعرض نفسها على الرجل. وقيل: إنها تعبر بقاضي القضاة، لأنها أعلم ما في البحر. وقيل: السلحفاة رجل عالم فمن رأى سلحفاة تكرم في مكان فإن العلماء يكرمون هناك. ومن رأى أنه أكل لحم سلحفاة استفاد علماً، وقالت النصارى: إنه ينال مالا وعلماً والله أعلم.
السلحفاة البحرية: اللجأة وستأتي في باب اللام إن شاء الله تعالى. قال الجوهري: وزعموا أن ابنة جندي وضعت قلادتها على سلحفاة فانسابت في البحر، فقالت: يا قوم نزاف نزاف، لم يبق في البحر غير غراف! وهو جمع غرفة من الماء، والسلحفاة البحرية جلدها الذبل الذي يصنع منه الأمشاط وخاصية التسريح بمشط الذبل اذهاب الصيبان من الشعر. وإذا أحرق الذبل وعجن رماده ببياض البيض، وطلي به شقاق الكعبين والأصابع نفعه. وقيل: الذبل جلد السلحفاة الهندية.
فائدة: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مشط من العاج والعاج الذبل، وهو شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية يتخذ منه الأمشاط والأساور. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر ثوبان رضي الله تعالى عنه أن يشتري لفاطمة رضي الله تعالى عنها سوارين من عاج " أما العاج الذي هو عظم الفيل، فنجس عند الشافعي، وطاهر عند أبي حنيفة، وعند مالك يطهر بصقله فيجوز التسريح بمشط العاج، وهو الذبل وعليه يحمل ما وقع للنووي في شرح المهذب من جواز التسريح به. فمراده بالعاج الذبل لا العاج الذي هو ناب الفيل.
السلفان: بكسر السين أولاد الحجل الواحدة سلف مثل صرد وصردان قال أبو عمر: ولم يسمع سلفة للأنثى ولو قيل سلفة كما قيل سلكة لواحدة السلكان لكان جيداً.
السلق: بالكسر الذئب والأنثى سلقة وربما قيل للمرأة السلطة سلقة ومنه قوله تعالى: " فإذا جاء الخوف سلقوكم بألسنة حداد " أي بسطوا ألسنتهم فيكم. والسالقة الرافعة صوتها عند المصيبة.
السلك: فرخ القطا وقيل: فرخ الحجل، والأنثى سلكة، والجمع سلكان، مثل صرد وصردان. وقيل واحدته سلكانة. وقد ضربت العرب المثل بسليك بن سلكة في العدو وهو تميمي من بني سعد وسلكة أمه، وكانت سوداء وكان يقال له سليك المقانب قال الشاعر:
إلى الهول أمضى من سليك المقانب.
وهو أحد أغربة العرب الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة.
السلكوت: طائر قاله في المحكم في رباعي السين.
السلوى: قال ابن سيده: إنه طائر أبيض مثل السماني واحدته سلوة والسلوى العسل قال خالد بن زهير الهذلي:

وقاسمها بالله جهداً لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
قال الزجاج: أخطأ خالد، إنما السلوى طائر. وقيل: السلوى اللحم. قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: وسمي سلوى لأنه يسلي الإنسان عن سائر الإدام، والناس يسمون قاطع الشهوات. وقال القزويني وابن البيطار: إنه السماني وقال غيرهما: إنه طائر قريب من السماني. وقال الأخفش: لم يسمع له بواحد ويشبه أن يكون واحده سلوى كدفلى للواحد والجمع، وهو طائر يعيش دهره في قلب اللجة فإذا مرضت البزاة بوجع الكبد، طلبته وأخذته وأكلت كبده فتبرأ، وهو الذي أنزله الله تعالى على بني إسرائيل على القول المشهور وغلط الهذلي فظنه العسل فقال:
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وفي صحيح البخاري لا أحاديث الأنبياء وفي مسلم في النكاح من حديث محمد بن رافع، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه وذكر أحاديث، منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر أبدا " . ومعناه أنه لم يتغير اللحم أبداً ولم ينتن. قال العلماء: معناه أن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المن والسلوى، نهوا عن ادخارهما فادخروا ففسد وأنتن واستمر من ذلك الوقت. وروى ابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم " . وعنه رضي الله تعالى عنه: " ما أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم لحم إلا قبله، ولا دعي إلى لحم إلا أجاب " . وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أطيب اللحم لحم الظهر " . وما أحسن ما قال شيخنا برهان الدين القيراطي:
لما رأيت سلوى عز مطلبه ... عنكم وعقد اصطبارى صار محلولا
دخلت بالرغم مني تحت طاعتكم ... ليقضي الله أمراً كان مفعولا
الحكم: يحل أكله بالإجماع.
الخواص: قال ابن زهر: إذا علقت عينه على الأرمد شفي، وإن اكتحل بها نفع من وجع الكبد. ومرارته تخلط بزعفران مداف، ويطلى به على البهق الأسود، يقطعه. وزبله يسحق ويذر على القروح المتأكلة ينفعها، وإذا دفن رأسه في برج حمام، زال عنه سائر الهوام ورأسه إذا بخر به مكان أزال الأرضة منه.
التعبير: السلوى تدل رؤيته على رفع النكد والنجاة من العدو، ونجاز الوعد والخير والرزق الهنيء بلا تعب ولا عناء لمن رآه أو ملكه. وربما دلت رؤيته على سلوى عن عشيق لأجل اسمه وربما دلت رؤيته على كفران النعم وزوال المنصب وضنك العيش لقوله تعالى: " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " والله أعلم.
السماني: قال الزبيدي: هو بضم السين وفتح النون على وزن الحبارى، اسم لطائر يلبد بالأرض ولا يكاد يطير إلا أن يطار والسماني طائر معروف. ولا تقل سماني بالتشديد، والجمع سمانيات ويسمى قتيل الرعد من أجل أنه إذا سمع الرعد مات ويقال: إن فرخه عندما يخرج من البيض يطير من ساعته. ومن عجيب أمره أنه يسكت في الشتاء، فإذا أقبل الربيع يصيح ويغتذي بالبيش والبيشاء، وهما سم ناقع قاتل. وهو من الطيور القواطع لا يدري من أين يأتي حتى إن بعض الناس يقول: إنه يخرج من البحر المالح فإنه يرى طائراً عليه وأحد جناحيه منغمس فيه، والآخر منشور كالقلع. ولأهل مصر به عناية ويتغالون في ثمنه.
الحكم: يحل أكله بالإجماع.
الخواص: لحمه حار يابس، وأجوده المخاليف الطرية، وأكله ينفع من وجع المفاصل من برد، لكنه يضر بالكبد الحار، ويدفع ضرره الكسبرة والخل، وهو يولد دماً حاراً وهو موافق لذوي الأمزجة الباردة والمشايخ ويكره مشوي السماني ليبسه وتجفيفه. قال ابن عبدون وقال غيره: مزاج لحمه بين الدجاج والحجل، وهو إلى مزاج الدجاج أميل. وهو جيد الكيموس، وأكله يفتت الحصا ويدر البول وإذا قطر دمه في الأذن سكن وجعها، وإذا أديم أكله ألان القلب القاسي ويظل: إن هذه الخاصية موجودة في قلبه فقط.
التعبير: السماني تدل رؤيته على الفوائد والأرزاق من جهة الزرع والفلاحة. وهو لمن يقصد سماعه دليل على الأرزاق من الشبهات، وربما دل على اللعب واللهو والتبذير، وربما دلت رؤيته على الجرم بما يوجب الحبس والصلب والله أعلم.

السمحج: الأتان الطويلة الظهر، والجمع سماحج. وكذلك الفرس، ولا يقال للذكر.
السمع: بكسر السين وإسكان الميم وبالعين المهملة في آخره، ولد الذئب من الضبع، وهو سبع مركب، فيه شدة الضبع وقوتها، وجراءة الذئب وخفته، ويزعمون أنه كالحية لا يعرف العلل ولا يموت حتف أنفه، وأنه أسرع عدواً من الريح. وقال الجوهري: السمع الأزل: الذئب الأرسح وهو القليل لحم الفخذين، وكل ذئب أرسح فإن هذه الصفة لازمة له كما يقال للضبع المرجاء انتهى.
وقد قال بعض الأعراب فيه:
تراه حديد الطرف أبلج واضحا ... أغر طويل الباع أسمع من سمع
ويقال: إن وثبته تزيد على عشرين أو ثلاثين ذراعاً وفي كتاب " خبر البشر بخير البشرى " خبر لابن ظفر عن ربيعة ابن أبي نزار، لآل: أخبرني خالي قال: لما أظهر الله علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، أشعبنا في كل شعب لا يلوي حميم على حميم، فبينما أنا في بعض الشعاب، إذ رأيت ثعلباً قد تحوى عليه أرقم، والثعلب يعدو عدواً شديداً، فانتحيت إليه بحجر فما أخطأه، فانتهيت إليه فإذا الثعلب قد سبقني بنفسه، وإذا الأرقم قد تقطع وهو يضطرب، فقمت أنظر إليه فهتف بي هاتف، ما سمعت أفظع من صوته، يقول: تعساً لك وبؤساً قد قتلت رئيساً ووترت بئيساً؟؟؟؟؟؟!؟؟ ثم قال: يا داثر يا داثر، فأجابه مجيب من العدوة الأخرى: لبيك لبيك، فقال: بادر بادر إلى بني الغدافر، فأخبرهم بما صنع الكافر، فناديت أني لم أشعر وأنا عائد بك فأجرني. فقال: كلا والحرم الأمين لا أجير من قاتل المسلمين، وعبد غير رب العالمين. قال: فناديت أني أسلم. فقال: إن أسلمت سقط عنك القصاص، وفزت بالخلاص، والإفلات حين مناص. قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال: نجوت وهديت، ولولا ذلك لرديت، فارجع من حيث جيت. قال: فرجعت أقفو أدراجي فإذا هو يقول:
امتط السمح الأزل ... يعل بك التل
فهناك أبو عامر ... يتبع بك الفل
قال: فالتفت، فإذا سمع كالأسد النهد، فركبته فمر ينسل حتى انتهى إلى تل عظيم، فتوقل فيه إلى أن تسنمه فأشرفت منه على خيل المسلمين، فنزلت عنه وصوبت في الحدور نحوهم، فلما دنوت منهم خرج إلي فارس كالفالج الهائج، فقاك: ألق سلاحك لا أم لك، فألقيت سلاحي فقال لي: من أنت؟ قلت: مسلم. قال: فسلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقلت: وعليك السلام والرحمة والبركة. من أبو عامر؟ قال: أنا هو قلت: الحمد لله. فقال: لا بأس عليك، هؤلاء إخوانك المسلمين. ثم قال: إني رأيتك بأعلى التل فارساً فأين فرسك؟ قال: فقصصت عليه القصة فأعجبه ما سمع مني، وسرت مع القوم أقفو بهم أثر هوازن، حتى بلغوا من الله ما أرادوه. قال محمد بن ظفر: قوله: تحوى عليه أرقم، أي استدار عليه، والأرقم الحية التي فيها خطوط كالرقم. وتزعم الأعراب أن الثعالب مطايا الجن، ويكرهون اصطيادها، ويقولون: إن من صاد ثعلباً أصيب ببعض ماله. وقوله: سبقني بنفسه أي هلك قبل أن أصل إليه. وقوله: لولا ذلك لرديت، أي هلكت. والردى الهلاك. وقوله: أقفو أدراجي أي أتبع طرقي التي جئت فيها والأدراج السبل وقوله: الفل هم المنهزمون، وقوله: النهد هو العظيم الخلق. وقوله: ينسل أي يعدو، والنسلان عدو الذئب والكلب وكل ما أشبه ذلك في العدو فهو نسلان. وقوله: كالفالج هو البعير العظيم ذو السنامين انتهى.
الحكم: تحريم الأكل. واختلفوا في وجوب الجزاء على المحرم بقتله كالمتولد بين الحمار الوحشي والأهلي فقال ابن القاص: لا جزاء في ذلك. وغلط فيه والمذهب أنه يحرم على المحرم التعرض له ويجب فيه الجزاء.
الأمثال: قالوا: " أسمع من سمع ومن سمع الأزل " . لأن هذه الصفة لازمة له، كما يقال للضبع: العرجاء.
وهو في الرؤيا يدل على في الأصل الرديء. ونقل ما سمعه من كلام جيد ورديء، وذلك مأخوذ من اسمه والله أعلم.
السمائم: بالفتح جمع سمامة وهو ضرب من الطير، كالخطاف لا يقدر على بيضه. وقيل: هو السنونو الآتي قريباً إن شاء الله تعالى وهو الطير الأبابيل الذي أرسله الله تعالى على أصحاب الفيل.
الأمثال: قالت العرب: " كلفتني بيض السمائم " ويروى بيض السماسم وهو جمع سمسمة وهي النملة وستأتي إن شاء الله تعالى. يضرب للشيء العزيز الوجود.
السمسم: بالفتح الثعلب.

السمسمة: بكسر السين، النملة الحمراء. وجمعها سماسم. وقال ابن فارس، في مجمله: هو النمل الصغار. وبها فسر الحديث، الذي رواه مسلم، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر " الجهنميين وأن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس " . قال الإمام النووي قوله: كأنهم عيدان السماسم هو بالسينين المهملتين الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة وهو جمع سمسم وهو السمسم المعروف الذي يستخرج منه الشيرج. وقال أبو السعادات بن الأثير: السماسم جمع سمسم وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت ليؤخذ حبها دقاقاً سوداً كأنها محترقة قال: وطالما تطلبت هذه اللفظة وسألت عنها، فلم أجد فيها شيئاً شافياً وما أشبه أن تكون اللفظة محرفة وربما كانت عيدان السماسم وهو خشب أسود كالآبنوس قال القاضي عياض: لا يعرف معنى السماسم ولعل صوابه السأسم وهو عود أسود. وقيل: هو الآبنوس. وقيل: هو نبت صغير ضعيف كالكسبرة وقال آخرون: لعله السأسم مهموزة وهو الآبنوس شبههم به لسواده.
السمك: من خلق الماء، الواحدة سمكة، وجمعه أسماك وسموك، وهو أنواع كثيرة ولكل نوع اسم خاص وقد تقدم في آخر الجراد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل خلق ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر " .
ومن أنواع السمك ما لا يدرك الطرف أولها وآخرها لكبرها وما لا يدركها الطرف لصغرها، وكل يأوي الماء ويستنشقه كما يستنشق بنو آدم، وحيوان البر الهواء، إلا أن حيوان البر يستنشق الهواء بالأنوف ويصل بذلك إلى قصبة الرئة، والسمك يستنشق بأصداغه فيقوم له الماء في تولد الروح الحيواني في قلبه مقام الهواء. وإنما استغنى عن الهواء في إقامة الحياة ولم نستغن نحن وما أشبهنا من الحيوان عنه، لأنه من عالم الماء والأرض دون عالم الهواء، ونحن من عالم الأرض والماء والهواء. قال الجاحظ: السمك يسبح الله في غمر الماء ولا يسبح في أعلاه. ونسيم البر الذي يعيش به الطير، لو دام على السمك ساعة قتله قال الشاعر:
تغمه النشوة والنسيم ... ولا يزال مغرقاً يعوم
في البحر والبحر له حميم ... وأمه الوالدة الرؤوم
تلهمه جهراً وما يريم
وقوله: وأمه الوالدة فيه شاهد على أن الأم في غير الآدميين تسمى أيضاً والدة. وقوله تلهمه أي تأكله لأن السمك يأكل بعضه بعضاً، وذلك قوته، ولذلك قال الغزالي: السمك أكثر خلق الله تعالى. وقوله: وما يريم أي لا يبرح عن ذلك الموضع الذي يأكل فيه وما ذكره الجاحظ من كون النسيم يضر بالسمك فليس على إطلاقه فإن الغزالي قد استثنى منه نوعاً لا يضره النسيم، فقال: ومن السمك نوع يطير على وجه البحر مسافة طويلة ثم ينزل انتهى.
قال ابن التلميذ في تشبيه السمك:
لبسن الجواشن خوف الردى ... عليهن من فوقهن الخوذ
فلما أتيح لها أهلكت ... ببرد النسيم الذي يستلذ

وهو بجملته شره كثير الأكل لبرد مزاج معدته وقربها من فمه وإنه ليس له عنق ولا صوت ولا يدخل إلى جوفه هواء البتة، ولذلك يقول بعضهم: إن السمك لا رئة له، كما أن الفرس لا طحال له، والجمل لا مرارة له، والنعامة لا مخ لها وصغار السمك تحترس من كباره، ولذلك تطلب ماء الشطوط والماء القليل الذي لا يحمل الكبير، وهو شديد الحركة لأن قوته المحركة للإرادة، تجري في مسلك واحد لا ينقسم في عضو خاص، وهذا بعينه موجود في الحيات. ومن السمك ما يتولد بسفاد، ومنه ما يتولد بغيره إما من الطين أو من الرمل، وهو الغالب في أنواعه، والغالب يتولد من العفونات. وبيض السمك ليس له بياض ولا صفرة، وإنما هو لون واحد قال الجاحظ: ومن السمك القواطع والأوابد كما في الطير، فرب سمكة تأتي في بعض فصول السنة وتنقطع في بعضها. ومن جملة أنواعه السقنقور، والدلفين، والخرشفلا، والتمساح. وقد تقدم ذكرها في أبوابها ومنها: القرش والعنبر، وسيأتيان في بابيهما، إن شاء الله تعالى ومن أصنافه ما هو على شكل الحيات، وغير ذلك، ومن أنواعه السمكة الرعادة هي صغيرة إذا وقعت في الشبكة والصياد ممسك حبلها، ارتعدت يد الصياد والصيادون يعرفون ذلك فإذا أحسوا بها شدوا حبل الشبكة في وتد أو شجرة حتى تموت السمكة، فإذا ماتت بطلت خاصيتها. وما أحسن قول الشيخ شرف الدين محمد بن حماد بن عبد الله البوصيري صاحب البردة في الشيخ زين الدين محمد بن الرعاد:
لقد عاب شعري لا البرية شاعر ... ومن عاب أشعاري فلا بد أن يهجى
فشعري بحر لا يرى فيه ضفدع ... ولا يقطع الرعاد يوماً له لجا
وأطباء الهند يستعملونها في الأمراض الشديدة الحر، وأما في غير بلاد الهند فلا يمكن استعمالها. قال ابن سيده: الرعادة إذا قربت من رأس المصروع، وهي حية، نفعته. وإذا علقت المرأة شيئاً منها عليها لم يقدر الرجل على فراقها. وفي البحر من العجائب ما لا يستطاع حصره، ويكفي في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حدثوا عن البحر ولا حرج " أي حدثوا عنه حيث لا حرج عليكم في ذلك.
ومن أنواعه: الشيخ اليهودي وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة.
عجيبة: حكى القزويني، في عجائب المخلوقات عن عبد الرحمن بن هارون المغربي، قال: ركبت بحر المغرب فوصلت إلى موضع يقال له البرطون، وكان معنا غلام صقلي معه صنارة فألقاها في البحر فصاد بها سمكة نحو الشبر فنظرنا فإذا خلف أذنها اليمنى مكتوب لا إله إلا الله وفي قفاها محمد وخلف أذنها اليسرى رسول الله.
وفي كتاب تحفة الألباب لأبي حامد الأندلسي الغرناطي، أن في بحر الروم سمكاً صغيراً كالذراع يسمى التلب إذا أخذ وأمسك ما شاء الله لا يموت بل يتحرك ويضطرب، وإذا جعل منه قطعة على النار، وثب خارج النار وربما أصاب وجوه الناس، وإن جعلت سمكة منه في قدر وغطي رأسها بصخرة أو حديدة لئلا تخرج منها فما لم تنضج لم تمت ولو قطعت ألف قطعة.
فوائد: روى الإمام أحمد، في الزهد، عن نوف البكالي، قال: انطلق رجل مؤمن ورجل كافر يصيدان السمك، فجعل الكافر يلقي شبكته ويذكر آلهته فتمتلئ سمكاً، ويلقي المؤمن شبكته ويذكر اسم الله تعالى فلا يصطاد شيئاً. قال: ففعلا ذلك إلى مغيب الشمس، ثم إن المؤمن، اصطاد سمكة فأخذها بيده فاضطربت فوقعت في الماء، فرجع المؤمن وليس معه شيء ورجع الكافر وقد امتلأت سفينته، فأسف ملك المؤمن وقال: رب عبدك المؤمن الذي يدعوك رجع وليس معه شيء، وعبدك الكافر رجع وقد امتلأت سفينته. فقال الله عز وجل لملك المؤمن: تعال، فأراه مسكن المؤمن في الجنة. فقال: ما يضر عبدي هذا المؤمن ما أصابه بعد أن يصير إلى هذا. وأراه مسكن الكافر في النار، فقال: هل يغني عنه من شيء أصابه في الدنيا؟ قال: لا والله

ومنها في آخر صفوة الصفوة عن أبي العباس بن المسروق، قال: كنت باليمن فرأيت صياداً يصطاد السمك على بعض السواحل وعلى جانبه ابنة له، كلما اصطاد سمكة تركها في دوخلة معه، فتردها الصبية إلى الماء فالتفت الرجل فلم ير شيئاً فقال: يا بنية أي شيء صنعت بالسمك؟ فقالت: يا أبت سمعتك تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقع سمكة في شبكة إلا غفلت عن ذكر الله " فلم أحب أن آكل شيئاً غفل عن ذكر الله. فبكى الرجل ورمى بالصنارة. ومنها، في كتاب الثواب، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان مريضاً فاشتهى سمكة طرية فالتمست له بالمدينة، فلم توجد حتى وجدت بعد كذا وكذا يوماً فاشتريت بدرهم ونصف، وشويت وحملت له على رغيف، فقام سائل على الباب فقال للغلام: لفها برغيفها وادفعها إليه. فقال الغلام: أصلحك الله اشتهيتها منذ كذا وكذا يوماً، فلم نجدها فلما وجدناها واشتريناها بدرهم ونصف أمرت أن ندفعها له نحن نعطيه ثمنها، فمال: لفها وادفعها إليه فقال الغلام للسائل: هل لك أن تأخذ درهماً وتدع هذه السمكة؟ فأخذ منه درهماً وردها، فعاد الغلام وقال له: دفعت له درهماً وأخذتها منه فقال له: لفها وادفعها إليه، ولا تأخذ منه شيئاً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له " .
ومنها ما روى الطبراني، بإسناد صحيح، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما اشتكى فاشتهى عبها فاشترى له عنقود عنب بدرهم، فجاء مسكين فقال: اعطوه إياه فخالف إنسان، فاشتراه بدرهم ثم جاء به إليه ففعل ذلك ثلاث مرات ثم في الرابعة أكله ولوعلم ذلك ما ذاقه . وقال سريج بن يونس: خرجت يوما لصلاة الجمعة، فرأيت سمكتين مشويتين فاشتهيتهما بقلبي، ولم أتكلم، فلما رجعت لم أستقر إلا قليلا، حتى دق الباب رجل وعلى رأسه طبق عليه السمكتان ونقل وخل ورطب كثير، فقال: يا أبا الحارث كل هذا مع الصبيان.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: سمعت سريج بن يونس يقول: رأيت رب العزة لمنام فقال لي: يا سريج سل حاجتك فقلت: يا رب سر بسرا وسر بسر لفظة أعجمية يعني رأساً برأس. وفي تاريخ أبن خلكان ن سريجا هذا جد أبي العباس إمام الفقهاء الشافعية. الحكم: السمك بجميع أنواعه حلال بغير ذبح، سواء مات بسبب ظاهر، كضغطة أو صدمة حجر أو انحسارماء أو ضرب من صياد أو مات حتف أنفه لعموم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم : أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال وأجمع المسلمون على طهارة ميتتهما، يأتي في باب العين إن شاء الله تعالى، حديث العنبر الذي وجده أبو عبيدة وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم.
فرع: لو اصطاد مجوسي سمكاً فهو طاهر، لقول الحسن: رأيت سبعين صحابياً يأكلون صيد المجوسي من الحيتان، ولا يتلجلج في صدورهم من ذلك شيء. وهذا في السمك مجمع عليه وخالف مالك في الجراد.
فرع: لا يحل قطع السمكة الحية لما فيه من التعذيب، كما لو قلاها قبل الموت في الزيت المغلي كذا قاله أبو حامد. قال النووي: وهذا تفريع على اختياره تحريم ابتلاعها حية وذلك مباح. اه قلت: وهذا مشكل فلا يلزم من جواز الابتلاع جواز القلي لما فيه من التعذيب بالنار.
فرع: يكره ذبح السمك، إلا أن يكون كبيراً يطول بقاؤه، فيستحب ذبحه في الأصح إراحة له وقال الرافعي: أكل السمكة الصغيرة إذا شويت ولم يشق جوفها ولم يخرج ما فيه، فيه وجهان: وعلى المسامحة جرى الأولون، قال الروياني: وبهذا أفتى ورجيعها طاهر عندي وهو مختار القفال.
فرع: اختلف العلماء في الحيوان الذي في البحر سوى الحوت، فقال بعضهم: يؤكل جميع ما في البحر سوى الضفدع، ولو كان على صورة إنسان وإلى هذا ذهب أبو علي الطيبي من قدماء صحابنا، قال في شرح القنية: قيل له: أرأيت لو كان على صورة بني آدم؟ قال: وإن تكلم بالعربية وقال: أنا فلان بن فلان، فإنه لا يصدق انتهى. وهذا ضعيف شاذ وقال آخرون: يؤكل الجميع إلا ما كان على صورة الكلب والخنزير والضفدع.
وقيل: كل ما أكل في البر مذبوحاً، يؤكل مثله في البحر مذبوحاً، وغير مذبوح على الأصح. وقيل: لابد من ذبحه واختاره الصيدلاني، فعلى هذا لا يحل كلب الماء ولا خنزيره ولا

حمار البحر وإن كان له شبه في البر حلال، وهو الحمار الوحشي لأن له شبهاً في البر حرام وهو الحمار الأهلي تغليباً للتحريم، كذا قاله في الروضة وشرح المهذب. قلت: المهذب المفتى به حل الجميع إلا السرطان والضفدع والتمساح سواء كانت على صورة كلب أو خنزير أو إنسان أم لا.
فرع: لو حلف إنسان لا يأكل لحماً لم يحنث بأكل لحم السمك لأنه لا يفهم إطلاق اسم اللحم عليه عرفاً، وإن سماه الله تعالى لحماً طرياً. كما لا يحنث بالجلوس في الشمس إذا حلف أنه لا يجلس في ضوء السراج وإن سماها الله تعالى سراجاً، وكما لا يحنث بالجلوس على الأرض إذا حلف أنه لا يجلس على بساط لان سماها الله تعالى بساطاً.
فرع: قد اختلف في إطلاق اسم السمك على ما سوى الحوت من هذه الحيوانات، والذي نص عليه الشافعي في الأم والمختصر، أنه يطلق على الجميع وهو الصحيح في الروضة. وقال في اختلاف العراقيين في قوله تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم " الآية قال أهل التفسير: طعامه كل ما فيه وهو يشبه ما قال والله أعلم. هذه عبارته، وهي صريحة في حل الجميع وذكر في المنهاج أن السمك لا يقع إلا على الحوت.
فرع: يجوز السلم فيه وفي الجراد حياً وميتاً عند عموم الوجود ويوصف كل جنس بما يليق به. ولا يجوز بيع السمك في الماء، لما روى الإمام أحمد عن محمد بن السماك عن يزيد بن أبي زياد، عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر " . قال البيهقي: هكذا روي موقوفاً وفيه إرسال بين المسيب وابن مسعود. والصحيح ما رواه هشيم عن يزيد موقوفاً، عن عبد الله أنه كره بيع السمك في الماء.
فرع: ما يعيش في البر والبحر: الضفدع والتمساح والحية واللجأة والسرطان والسلحفاة والحلزون والدعاميص والأصداف والنسناس. أما الستة الأولى فمحرمة. وأما الحلزون فتقدم حكمه في باب الحاء المهملة. وأما الدعاميص فعلى قول القاضي: أنها ماء منعقد، ولا يعيش إلا في الماء يحل أكلها، وعلى قول الجاحظ: يحرم لأن البعوض حرام. وقد تقدم بيان حكمها في باب الدال المهملة. والصدف حرام كما تقدم في السرطان. وفي النسناس خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في باب النون.
الخواص: لحمه بارد رطب أجوده البحري المرقش الظهر الصغير المفلس منفعته تخصيب الأبدان المعرقة، لكنه يعطش ويولد خلطاً بلغمياً يوافق أصحاب الأمزجة الحارة والشباب وأجود ما أكل في الصيف وفي البلاد الحارة. وأنواع السمك كثيرة، ويكره من جملتها الأسود والأصفر والآجامي وما اغتذى بالحمأة. ويكره الابراميس والبوري لمضرتهما بالمعدة، وإطلاقهما البطن، وتحريكهما الأوجاع والغضب بعد أكلهما يورث أمراضاً رديئة، وسمك الأنهار كثير الشوك، رقيقه كثير الرطوبة والبحري بالضد. والسلور وهو الجري كثير الغذاء ملين للبطن وينق0ي قصبة الرئة ويصفي الصوت. والمارماهيج يزيد في المني وشحم الكلى. والعظيم الجثة من السمك كثير الغذاء والفضول. وقال ابن سينا: لحم السمك نافع لماء العين، ويحد البصر مع العسل. وقال غيره يزيد في الباه وقال القزويني: إن أكل الطري منه مع البصل الرطب يهيج الباه، ويزيد فيه إذا أكله حاراً. والسمك إذا شمه السكران يرجع إليه عقله، ويزول عنه سكره. ومرارته ومرارة السلحفاة البحرية، إذا خلطتا وكتب بهما على كاغد بقلم حديد، فإن الكتابة ترى بالليل كأنها ذهب ومرارة السمك والكركي والحجل تمنع نزول الماء اكتحالا. ومرارة السمك إذا شربت نفعت من الخفقان، وكذلك إذا نفخت في الحلق مع شيء من السكر.

التعبير: السمك في الرؤيا إذا عرف عدده إلى أربع فهو نساء، وإن كان أكثر من أربع فهو مال وغنيمة لقوله تعالى: " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً " وهو السمك. والحوت يعبر بوزير الملك، والسمك جنده فمن أخذ سمكاً نال من جند الملك مالا، ومن رأى كأنه يصطاد السمك في بئر فإنه لوطي، أو يبيع خادمه لإنسان. وقالت النصارى: صيد السمك في الماء الكدر لا خير فيه. ومن رأى أنه يصيد السمك في الماء الصافي، فإنه يسمع كلاماً يسر به، والسمك للمريض الملازم للفراش دليل رديء بسبب الرطوبات، وإذا رآه المسافر في فراشه دل على شدة، وربما يخشى على صاحب الرؤيا من الغرق، لأنه قد ضاجعه. ومن رأى كأنه يصيد السمك من الماء الصافي، فإنه يرزق ولداً سعيداً، والسمك المالح هم من قبل السلطان، وذلك لكبس بعضه فوق بعض وقيل: السمك المالح يدل على خير ومال باق، لأن الملح يحفظ السمك من التلف وقيل: إنه هم من قبل المماليك، والسمك المشوي يدل على سفر في طلب علم. ومن رأى سمكة خرجت من فرجه، وله امرأة حامل، بشر بجارية. وإن رأى سمكاً كثيراً، وبينها سمكة عظيمة ويرى أكبر السمك قد صلبت، فإن الجائر والباغي جهلك. والسمك المقلي يدل على إجابة دعوة من رآه لأن عيسى عليه الصلاة والسلام دعا الله فأجيب بالسمك المقلي في المائدة. ورؤية الكبار من السمك غنائم وأموال، والصغار هموم وأحزان، لأن شوك الصغار أكثر من لحمه ويشق على آكله.
فصل: الحوت تدل رؤيته على اليمين لأن الله تعالى أقسم به، فقال " ن والقلم " وربما دلت رؤيته على معبد الصالحين، ومسجد المتعبدين، لأن يونس عليه السلام كان يسبح الله تعالى في بطنه، وربما دلت رؤيته على الغم والنكد، وزوال المنصب وحلول الغضب، لأن الله تعالى حرم على اليهود صيدهم يوم السبت، فخالفوا أمره فاستوجبوا بذلك اللعن. ورؤية حوت يونس عليه السلام أمن للخائف، وغنى للفقير، وفرج لمن هو في شدة. وكذلك رؤية سجن يوسف والكهف والرقيم وتنور نوح عليه السلام.
فصل: واعتبر من السمك الطري والحلو والمالح، وما له شوك وما له سلاح، وما يقدد منه وما يأوي البحر العذب، وما يأوي البحر الملح، وما له صوت يسمع، وما يطفو على وجه الماء، من صغاره وكباره وما له شبه في البر، وما يأنس منه في البيوت، وما يمسك منه باليد من غير آلة.
وأعطى الرائي حقه من ذلك، فمن رأى أنه اصطاد من البحر سمكاً طرياً حلواً بآلة، دل على اكسب الحلال، والسعي فيه واقتناء الرزق الحلال، والصيد للرجل دال على احتياله برأيه وجهده، فإن كان الرائي أعزب تزوج، وإن كان متزوجاً رزق ولداً على قدر ما صاده في المنام. وصيد المرأة يدل على مال تحرزه من زوجها أو أبيها. وصيد العبد دليل على ما يتناوله من مال سيده، وصيد الصغير دليل على ما يحفظه من علم أو صناعة أو مال يرثه من أبويه، فإن كانت آلة صيده شباكاً أو خطاطيف أو ما يعمق في البحر، كان ذلك شدة ينالها الرائي وخطراً يرتكبه، فإن كانت آلة صيده خفيفة، وطلع فيها ما يطلع في غيرها من الآلات الثقال، دل على بسط الرزق وتسهيل الأمور، وإن طلع في الآلات الثقال ما يطلع في السهلة، دل على التعب والنصب وعلى اليسير من الرزق، فإن طلع له سمك كثير فإنه رزق مما دل عليه البحر. وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يدل عليه البحر، في باب الفاء في فرس البحر. فإن كان البحر مالحاً نال فائدة أو علماً من أعجمي أو مبتدع. فإن كان ما صاده له شوك وقشر كانت فضة محرزة أو ذهباً، فإن كان ليس له قشر دل على أعمال باطلة لا تتم وذلك لسرعة انصرافه من الأيدي وملوسته.
وإن كان للسمك سلاح كالشال والشلبا، دل على انتصاره على أعدائه، وربما صادق أهل الشر، فإن كان ممن يقدد فهي بضاعة لأرباب البضائع، وإن رأى سمك البحر الحلو ينتقل إلى البحر الملح، أو سمك الملح ينتقل إلى الحلو، دل على النفاق في الجيش واختلاف العامة فيما جرت به العوائد، من حدوث مظلمة، أو ظهور بدعة.
فإن رأى السمك طافياً على وجه الماء، دل على تسهيل الأمور وقرب البعيد وإظهار الأسرار وإخراج المخبآت، أو مال أصله من ميراث. فإن رأى عنده سمكاً صغاراً وكباراً، دل على الاهتمام بالأفراح والأحزان، أو ما يوجب الاجتماع بين الجيد والرديء.

فإن رأى عنده سمكاً، مما يشبه خلق الآدمي أو الطير، دل على التعرف بالتجار المترددين في البر والبحر، أو التراجمة العارفين بالألسنة، أو المتخلقين بالأخلاق المرضية، ويعتبر ذلك بالشبه، فإن رأى عنده شيئاً مما يأنس للإنسان أو يربى في البيوت كاللجأة والقرموط، وما أشبههما كان دليلا على الإحسان للأيتام والغرباء.
فإن رأى أنه أخذ السمك من قاع البحر، فإنه ربما طالت يده في صناعته وحصل له رزق طائل، أو تعرض لأموال السلاطين، أو صار لصاً أو جاسوساً، فإن انكشف البحر وتناول سمكاً أو جوهراً اطلع على علم من غيب الله تعالى، بإطلاع الله تعالى له، واتضح له الدين واهتدى إلى السبيل، وكانت عاقبة أمره في ذلك عقبى حسنة. فإن عاد السمك منه إلى البحر صحب الأولياء واطلع منهم على ما لم يطلع عليه أحد، وإن نوى سفراً وجد رفقة يوافقونه ويرتفق بهم ويرجع إلى مكانه سالماً غانماً والله أعلم.
السمندل: بفتح السين والميم وبعد النون الساكنة دال مهملة ولا في آخره وسماه الجوهري السندل بغير ميم، وابن خلكان السمند بغير لام: وهو طائر يأكل البيش، وهو نبت بأرض الصين يؤكل وهو أخضر بتلك البلاد، فإذا يبس كان قوتاً لهم ولم يضرهم فإذا بعد عن الصين، ولو مائة ذراع وأكله آكل مات من ساعته. ومن عجيب أمر السمندل استلذاذه بالنار ومكثه فيها. وإذا اتسخ جلده لا يغسل إلا بالنار وكثيراً ما يوجد بالهند، وهي دابة دون الثعلب خلنجية اللون حمراء العين ذات ذنب طويل، ينسج من وبرها مناديل، إذا اتسخت ألقيت في النار فتنصلح ولا تحترق. وزعم آخرون أن السمندل طائر ببلاد الهند يبيض ويفرخ في النار، وهو بالخاصية لا تؤثر فيه النار ويعمل من ريشه مناديل تحمل إلى بلاد الشام. فإذا اتسخ بعضها، طرح في النار فتأكل النار وسخه الذي عليه ولا يحترق المنديل. قال ابن خلكان: ولقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة، في طوله وعرضه فجعلوها في النار، فما عملت فيها شيئاً فغمسوا أحد جوانبها في الزيت، ثم تركوه على فتيلة السراج فأشعل، وبقي زماناً طويلا مشتعلا، ثم أطفؤوه، فإذا هو على حاله ما تغير منه شيء. قال: ورأيت، بخط شيخنا العلامة عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، أنه قال قدم للملك الظاهر ابن الملك الناصر صلاح الدين، صاحب حلب قطعة سمندل عرض ذراع في طول ذراعين فصاروا يغمسونها في الزيت، ويوقدونها حتى يفنى الزيت وترجع بيضاء كما كانت، ذكره في ترجمة يعقوب بن جابر المنجنيقي، مع زيادة أخرى وأبيات تأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت. وقال القزويني: السمندل نوع من الفأر يدخل النار وذكر كما تقدم والمعروف أنه طائر كما حكاه البكري في كتاب المسالك والممالك وغيره أيضاً.
الخواص: مرارته إذا سقى منها وزن دانق بماء الحمص المغلي المصفى، بلبن حليب مراراً كثيرة، من به السموم القاتلة، أبرأه منها. ودماغه، إذا اكتحل به، مع الإثمد، صاحب الماء النازل، أبرأه، ويحفظ الحدقة من سائر الداء. ودمه إذا طلي به على الوضح أي البرص غير لونه. ومن بلع شيئاً من قلبه لا يسمع بعد ذلك شيئاً إلا حفظه. ومرارته تنبت الشعر ولو على الراحة.
السمور: وهو بفتح السين وبالميم المشددة المضمومة، على وزن السفود والكلوب، حيوان بري يشبه السنور، وزعم بعض الناس أنه النمس، وإنما البقعة التي هو فيها هي التي أثرت في تغير لونه وقال عبد اللطيف البغدادي: إنه حيوان جريء ليس في الحيوان أجرأ منه على الإنسان، لا يؤخذ إلا بالحيل، وذلك بأن يدفن له جيفة فيغتال بها، ولحمه حار، والترك يأكلونه، وجلده لا يدبغ كسائر الجلود انتهى.
ومن غريب ما وقع للنووي، في تهذيب الأسماء واللغات، أنه قال: السمور طائر، ولعله سبق قلم. وأعجب منه ما حكاه ابن هشام البستي، في شرح الفصيح، أنه ضرب من الجن، وخص هذا النوع، باتخاذ الفراء من جلوده، للينها وخفتها، ودفأتها وحسنها، ويلبسه الملوك والأكابر. قال مجاهد: رأيت على الشعبي قباء سمور.
وحكمه: حل الأكل إلحاقاً له بالثعلب، ولأنه لا يأكل شيئاً من الخبائث.
التعبير: هو في الرؤيا، يدل على رجل ظالم لص، لا يخالط أحداً والله أعلم.

السميطر: على مثال العميثل طائر طويل العنق جداً، يرى أبداً في الماء الضحضاح، يكنى بأبي العيزار، كذا قاله الجوهري. ويقال له الشبيطر، والظاهر أنه مالك الحزين، وهو البلشون كما تقدم، وسيأتي في باب الميم، إن شاء الله تعالى.
السمندر والسميدر: دابة معروفة عند أهل الهند والصين قاله ابن سيده.
سناد: قال القزويني: إنه حيوان على صفة الفيل، إلا أنه أصغر منه جثة وأعظم من الثور، وقيل: إن ولدها يخرج رأسه من فرج أمه ويرعى حتى يقوى، فإذا قوي خرج وهرب من الأم، مخافة أن تلحسه بلسانها، لأن لسانها مثل الشوك فإن وجدته لحسته حتى ينحاز لحمه عن عظمه وهو كثير ببلاد الهند.
الحكم: يحرم أكله كالفيل.
السنجاب: حيوان على حد اليربوع، أكبر من الفأر، وشعره في غاية النعومة، يتخذ من جلده الفراء، يلبسه المتنعمون. وهو شديد الحيل، إذا أبصر الإنسان صعد الشجرة العالية، وفيما يأوي ومنها يأكل. وهو كثير ببلاد الصقالبة والترك، ومزاجه حار رطب، لسرعة حركته عن حركة الإنسان. وأحسن جلوده الأزرق الأملس وقد أحسن القائل:
وكلما ازرق لون جلدي من البر ... د تخيلت أنه سنجاب
وحكمه: حل الأكل لأنه من الطيبات. وقال بتحريم أكله، القاضي من الحنابلة، وعلله بأنه ينهش الحيات، فأشبه الجرذ. واستدل الجمهور بأنه يشبه اليربوع، ومتى تردد بين الإباحة والتحريم غلبت الإباحة، لأنها الأصل وإذا ذكي السنجاب ذكاة شرعية، جاز لبس فرائه، وإن خنق ثم دبغ جلده، لم يطهر شعره على الأصح كسائر جلود الميتة، لأن الشعر لا يتأثر بالدباغ، وقيل: يطهر الشعر تبعاً للجلد، وهي رواية الربيع الجيزي عن الشافعي، ولم ينقل عنه في المهذب سوى هذه المسألة. وهذا الوجه صححه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والروياني، وابن أبي عصرون، واختاره السبكي وغيره، لأن الصحابة قسموا في زمن عمر رضي الله تعالى عنه الفراء المغنومة من الفرس، وهي ذبائح مجوس.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي الخير مرثد بن عبد الله البرني، قال: رأيت على ابن وعلة السبائي فرواً فمسسته، فقال: ما لك تمسه! قد سألت ابن عباس رضي اله تعالى عنهما، قلت له: إنا نكون بالمغرب، ومعنا البربر والمجوس، فيؤتى بالكبش، قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحهم، ويأتون بالسقاء فيجعلون فيه الودك. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " دباغه طهوره " .
الخواص: لحمه يطعم للمجنون يزول جنونه، ويأكله صاحب الأمراض السوداوية ينفعه. قال في المفردات: أسخان السنجاب قليل لأن الأغلب على مزاج حيوانه كثرة الرطوبة وقلة الحرارة، لاغتذائه بالفواكه، ولذلك يصلح لبسه للمحرورين والشباب لأنه يسخن إسخاناً معتدلا.
السنداوة: الذئبة.
السنة: الذئبة أيضاً.
السندل: هو السمندل المتقدم ذكره قريباً، والسندل لقب عمرو بن قيس المكي وهو متروك الحديث وله في سنن ابن ماجه حديثان ضعيفان.
السنور: بكسر السين المهملة وفتح النون المشددة، واحد السنانير، حيوان ممواضع ألوف خلقه الله تعالى لدفع الفأر، وكنيته أبو خداش وأبو غزوان وأبو الهيثم وأبو شماخ، والأنثى أم شماخ. وله أسماء كثيره.
قيل: إن أعرابياً صاد سنوراً فلم يعرفه، فتلقاه رجل فقال: ما هذا السنور؟. ولقي آخر فقال: ما هذا الهر؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا القط؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الضيون؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيدع؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيطل؟ ثلأ لمي آخر فقال: ما هذا الدم؟ فقال الأعرابي: أحمله وأبيعه لعل الله تعالى يجعل لي فيه مالا كثيراً فلما أتى به إلى السوق، قيل له: بكم هذا؟ فقال بمائة فقيل له: إنه، يساوي نصف درهم، فرمى به وقال: لعنة الله، ما أكثر أسماءه وأقل ثمنه! وهذه الأسماء للذكر، قاله في الكفاية. وقال ابن قتيبة: يقال في الأنثى سنورة كما يقال في أنثى الضفادع ضفدعة انتهى.
قلت: ولا يمتنع القياس في خيطلة وضيونة وقطة وخيدعة وهرة. روى الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم " يأتي دار قوم الأنصار، ودونهم دور لا يأتيها " . فشق عليهم ذلك، فكلموه فقال: " إن في داركم كلباً " . قالوا: فإن في دارهم سنوراً، فقال: السنور سبع. ثم قال: حديث صحيح.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12