الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري

وروى نعيم بن حماد، في كتاب الفتن، عن أبي شريحة الغفاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يحشر رجلان من مزينة، هما آخر الناس حشراً، يقبلان من جبل قد توارى، حتى يأتيا معالم الناس، فيجدا الأرض وحوشاً حتى يأتيا المدينة، فإذا بلغا أدنى المدينة قالا: أين الناس فلا يريان أحداً، فيقول أحدهما لصاحبه: الناس في دورهم فيدخلان الدور فإذا ليس فيها أحد، وإذا على الفرش الثعالب والسنانير، فيقول أحدهما لصاحبه: أين الناس فيقول: أراهم في الأسواق قد شغلهم البيع، فيخرجان حتى يأتيا الأسواق فلا يجدا فيها أحداً، فينطلقا حتى يأتيا باب المدينة فإذا عليها ملكان فيأخذان بأرجلهما ويسحبانهما إلى أرض المحشر، فهما آخر الناس حشراً " .
غريبة: قيل: كان لركن الدولة سنور يألف مجلسه، وكان بعض أصحابه، إذا أراد الاجتماع به فيعسر عليه ذلك، كتب حاجته في رقعة وعلقها في عنق السنور، فيراها ركن الدولة فيأخذ الرقعة ويقرؤها، ويكتب جوابها، عليها ثم يشدها في عنق السنور، فيرجع بها إلى صاحبها. وقيل: إن أهل سفينة نوح عليه السلام تأذوا من الفأر فمسح نوح عليه السلام جبهة الأسد فعطس، فرمى بالسنور فلذلك هو أشبه شيء بالأسد، بحيث لا ممكن أن يصور الهر إلا جاء أسداً، وهو ظريف لطيف يمسح بلعابه وجهه، وإذا تلطخ شيء من بدنه نظفه، وهو في آخر الشتاء تهيج شهوته، فيتألم ألماً شديداً من لذع مادة النطفة فلا يزال يصيح حتى يلقي تلك المادة. وإذا جاعت الأنثى أكلت أولادها، وقيل: إنها تفعل ذلك لشدة محبتها لهم وأنشد الجاحظ:
جاءت مع الاشفين في هودج ... تزجى إلى النصرة أجنادها
كأنها في فعلها هرة ... تريد أن تأكل أولادها
معنى تزجي تسوق قال الله تعالى: " ألم تر أن الله يزجي سحاباً " أي يسوق سحاباً.
وإذا بال السنور ستر بوله حتى لا يشم رائحته الفأر فيهرب، فيشمه أولا، فإذا وجد رائحته شديدة، غطاه بحيث يواري الرائحة والجرم، وإلا اكتفى بأيسر التغطية. قالوا: والفأرة تعرف رجيع السنور، وذكر الزمخشري أن الله تعالى ألهم الهرة ذلك، ليتنبه بذلك قاضي الحاجة من الناس فيغطي ما يخرج منه. وإذا ألف السنور منزلا، منع غيره من السنانير الدخول إلى ذلك المنزل، وحاربه أشد محاربة وهو من جنسه، علماً منه بأن أربابه ربما استحسنوه وقدموه عليه، أو شاركوا بينه وبينه في المطعم، وإن أخذ شيئاً مما يخزنه أصحاب المنزل عنه هرب علماً منه بما يناله منهم من الضرب. وإذا طردوه تملقهم وتمسح بهم، علماً منه بأنه يخلصه التملق ويحصل له العفو والإحسان. وقد جعل الله تعالى في قلب الفيل الفرق منه، فهو إذا رأى سنوراً هرب. وحكي أن جماعة من أهل الهند هزموا بذلك.
والسنور ثلاثة أنواع: أهلي، ووحشي، وسنور الزباد. وكل من الأهلي والوحشي له نفس غضوبة يفترس ويأكل اللحم الحي ويناسب الإنسان في أمور: منها أنه يعطس ويتثاءب ويتمطى ويتناول الشيء بيده، وتحمل الأنثى في السنة مرتين، ومدة حملها خمسون يوماً. والوحشي حجمه أكبر من حجم الأهلي قال الجاحظ: قال العلماء: اتخاذ السنور وتربيته مستحبة. وذكر القزويني في الأشكال، عن ابن الفقيه، أن لبعض السنابير أجنحة كأجنحة الخفافيش من أصل الأذن إلى الذنب، فإن صح ذلك فالظاهر أنه كالسنور البري، عملا بالمشاكلة. وقال مجاهد: جاء رجل إلى شريح القاضي، يخاصم آخر في سنور فقال: بينتك؟ قال: ما أجد بينة في سنور ولدته أمه عندنا.
فقال شريح: اذهبا به إلى أمه فإن استقرت واستمرت ودرت، فهو سنورك، وإن هي اقشعرت وازبأرت وهربت فليست بسنورك.

الحكم: الأصح تحريم أكل السنور الأهلي والوحشي، لما روي في الحديث المتقدم، أنه سبع. وروى البيهقي وغيره، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهرة وأكل ثمنها " . وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع السنور " . فقيل: محمول على الوحشي الذي لا نفع فيه. وقيل: نهي تنزيه حتى يعتاد الناس هبته وإعارته، كما هو الغالب فإن كان مما ينفع وباعه صح البيع، وكان ثمنه حلالا. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكى ابن المنذر، عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد أنه لا يجوز بيعه محتجين بهذا الحديث. وأجاب الجمهور عن الحديث، بأنه محمول على ما ذكرناه، وهذا هو المعتمد. وأما ما ذكره الخطابي وأبو عمر بن عبد البر، أن الحديث ضعيف، فليس كما قالا، بل الحديث صحيح كما تقدم. وقول ابن عبد البر لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة، غلط أيضاً، لأن مسلماً رواه في صحيحه من رواية معقل عن عبيد الله عن أبي الزبير، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير، وهو ثقة. ورواه ابن ماجه عن ابن لهيعة عن أبي الزبير ولا يضره ذلك. وسيأتي في باب الهاء، إن شاء الله تعالى الإشارة إلى هذا أيضاً، في لفظ الهرة، واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في سنور البر، وأكثر الروايات على تحريمه كالثعلب. وبحله قال الحضرمي من أصحابنا، وهو مذهب مالك وأما الأهلي فحرام عند أبي حنيفة، ومالك وأحمد واختار البوشنجي من أصحابنا الحل والأصح تحريمه كما تقدم.
الأمثال: قالوا أثقف من سنور. والثقف الأخذ بسرعة. يقال: رجل ثقف لقف، أي سريع الاختطاف. وقالوا: كأنه سنور عبد الله يضرب لمن لا يزيد سناً، إلا زاد نقصاناً وجهلا وفيه قال بشار بن برد الأعمى:
أبا مخلف مازلت نباح غمرة ... صغيراً فلما شبت خيمت بالشاطئ
كسنور عبد الله بيع بدرهم ... صغيراً فلما شب بيع بقيراط
لكنه مثل مولد ليس من كلام العرب. وقال ابن خلكان: ولقد كشفت عن سنور عبد الله المظان، وسألت عنه أهل المعرفة بهذا الشأن، فما عرفت له خبراً ولا عثرت له على أثر. ثم إني ظفرت بقول الفرزدق.
رأيت الناس يزدادون يوماً ... فيوماً في الجميل وأنت تنقص
كمثل الهر في صغر يغالى ... به حتى إذا ما شب يرخص
ومن هاهنا أخذ بشار قوله، وليس المراد منه هراً معيناً، بل كل هر قيمته في صغره أكثر منها في كبره انتهى.
الخواص: السنور الأهلي، من أكل لحم الأسود منه، لم يعمل فيه السحر. وطحاله، يشد على المستحاضة ينقطع حيضها. وعيناه، إذا جففتا وتبخر بهما إنسان لم يطلب حاجة إلا قضيت. ومن استصحب نابه لم يفزع بالليل، وقلبه، يشد في قطعة من جلده فمن استصحبه لم تظفر به الأعداء. ومرارته من اكتحل بها يرى في الليل، كما يرى في النهار، وتخلط بملح وكمون كرماني، ويطلى بها على الجروح والقروح الرديئة تبرأ. ولحمه، إذا طلي به القضيب عند الجماع فإن المفعول به يحب الفاعل حباً شديداً. وإن سقي منه صاحب الجذام نفعه، وإن شرب منه إنسان أحبته النساء. وزبله يسقط المشيمة بخوار. وقال القزويني: مرارة الأسود، ومرارة الدجاجة السوداء، إذا جففتا وسحقتا، واكتحل بهما مع الكحل ظهر له الجن، وخدموه. قال: وهو مجرب. ومرارة الأسود، إذا أخذ منها وزن نصف درهم، وديف بدهن زنبق، وسعط به صاحب اللقوة أبرأه ذلك. وأما البري، فمخه عجيب لوجع الكلى، ولعسر البول، إذا أذيب بماء الجرجير، وسخن بالنار وشرب على الريق في الحمام. ودماغه إذا دخن به أخرج المني من الرحم. قاله القزويني. ويأتي تعبيره إن شاء الله تعالى، في باب القاف في لفظ القط.
وأما سنور الزباد، فهو كالسنور الأهلي، لكنه أطول منه ذنباً، وأكبر جثة، ووبره إلى السواد أميل، وربما كان أنمر، ويجلب من بلاد الهند والسند. والزباد فيه شبيه بالوسخ الأسود اللزج، وهو زفر الرائحة يخالطه طيب كطيب المسك، يوجد في ابطيه، وفي باطن أفخافه، وباطن ذنبه، وحوالي دبره، فيؤخذ من هذه الأماكن بملعقة صغيرة أو بدرهم رقيق. وقد تقدم في باب الزاي الكلام على شيء من هذا.

وحكمه: تحريم الأكل على الصحيح، كالأهلي والوحشي وأما الزباد فهو طاهر، لكن قال الماوردي والروياني في آخر باب الغرر: أن الزباد لبن سنور في البحر يجلب كالمسك ريحاً، واللبن بياضاً، يستعمله أهل البحر طيباً، وهذا يقتضي كونه حلالا، فإن قلنا بنجاسة لبن ما لا يؤكل لحمه، ففي هذا وجهان: قال النووي: الصواب طهارته وصحة بيعه، لأن الصحيح أن جميع حيوان البحر طاهر يحل لحمه ولبنه، هذا بعد تسليم أنه حيوان بحري. والصواب أنه بري، فعلى هذا هو طاهر بلا خلاف، لكنهم قالوا: إنه يغلب فيه اختلاطه بما تساقط من شعره، فينبغي أن يحترز عما فيه شيء من شعره لأن الأصح نجاسة شعر ما لا يؤكل لحمه، إذا انفصل في حال حياته غير الآدمي.
السنونو: بضم السين والنونين. الواحدة سنونة، وهو نوع من الخطاطيف، ولذلك سمي حجر اليرقان حجر السنونو، ولكن تصحف على صاحب عجائب المخلوقات، فقال: حجر الصنونو بالصاد، والصواب أنه بالسين المهملة نسبة إلى هذا النوع من الخطاطيف، وقد أجاد جمال الدين بن رواحة في تشبيه السنونو بقوله:
وغريبة حنت إلى وكر لها ... فأتت إليه في الزمان المقبل
فرشت جناح الآبنوس وصفقت ... بالعاج ثم تقهقهت بالصندل
وحكمه: تقدم في باب الخاء المعجمة في الخطاف.
ومن خواصه: أن من أخذ عيني السنونة، وشدهما في خرقة وعلقهما على سرير، فمن صعد ذلك السرير لم ينم. وإذا بخر بعينها العصافير هربت، وإذا بخر بها صاحب الحمى برئ بإذن الله تعالى.
السودانية والسوادية: طائر يأكل العنب. قاله ابن سيده.
عجيبة: حكي أن بمدينة رومية، شجرة نحاس، عليها سودانية من نحاس، في منقارها زيتونة، فإذا كان وقت الزيتون، صفرت تلك السودانية فلا يبقى في تلك النواحي سودانية إلا جاءت، ومعها ثلاث زيتونات: في منقارها واحدة، وفي رجليها اثنتان، حتى تطرحهن على رأس السودانية التي من النحاس، فيعصر أهل رومية ما يحتاجون إليه من الزيت عامهم كله. قلت: الظاهر أن السودانية هي الزرزور، وقد تقدمت هذه الحكاية عن الشافعي رضي الله عنه، وهو يأكل العنب كثيراً.
الخواص: لحم السودانيات بارد، يابس، رديء، لا سيما الهزيل، وأجوده صيد الأشراك، وهو يزيد في الإنعاظ لكنه يضر بالدماغ، وتدفع مضرته بالأمراق الرطبة وهو يولد خلطاً حريفاً يوافق الأمزجة الباردة والمشايخ، وأصلح ما أكل في الربيع، ويكره أكل لحمها لما تأكله من الحشرات والجراد، ولذلك صار في لحمها حمة وروائح كريهة، وهو أردأ من لحم القنابر. وروفس يرتب الطير ثلاث مراتب ويقول: أفضل الطير البري الرخ والشحرور والسماني ثم الحجل والدراج والطيهوج والشفنين وفرخ الحمام والفاخت ثم السلوى والقنابر. على أن القنابر بالدواء أشبه منها بالغذاء والله أعلم.
السوذنيق: الصقر قاله في كفاية المتحفظ.
السوس: عود يقع في الصوف والطعام. قاله الجوهري وغيره يقال طعام مسوس ومدود بكسر الواو فيهما قال الراجز:
قد أطعمتني دقلا حوليا ... مسوساً مدوداً حجريا
وقال قتادة ومجاهد، في قوله تعالى: " ويخلق ما لا تعلمون " هو سوس الثياب، ودود الفاكهة.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " عن يمين العرش نهر من نور، مثل السموات السبع والأرضين السبع سبعين مرة، يدخله جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيه فيزداد نوراً إلى نوره، وجمالا إلى جماله، وعظماً إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله تعالى من كل ريشة سبعين ألف قطرة، فيخلق من كل قطرة سبعين ألف ملك، يدخل منهم كل يوم إلى البيت المعمور سبعون ألف ملك، وإلى الكعبة سبعون ألفاً لا يعودون إلى يوم القيامة " . وقال الطبري: ما لا تعلمون ما أعد الله تعالى في الجنة لأهلها، مما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
روينا في بعض الأخبار، عن الحارث بن الحكم، قال: أنزل الله تعالى في بعض الكتب:

أنا الله لا إله إلا أنا لولا أني قضيت بالنتن على الميت، لحبسه أهله في البيوت، وأنا الله لا إله إلا أنا مرخص الأسعار والبلاد مجدبة، وأنا الله لا إله إلا أنا مغلي الأسعار والأهراء ملأى، وأنا الله لا إله إلا أنا لولا أني قضيت بالسوس على الطعام، لخزنته الملوك، وأنا الله لا إله إلا أنا لولا أني أسكنت الأمل في القلوب، لأهلكها التفكر. ولما حرم عمرو بن هند على المتلمس حب العراق قال:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
روى البيهقي، في شعبه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يناله اللصوص ولا يأكله السوس فليفعل فإن قلب كل امرئ عند كنزه.
وحكى عن الشيخ العارف أبي العباس المرسي أن امرأة قالت له: كان عندنا قمح مسوس فطحناه فطحن السوس معه. وكان عندنا فول مسوس فدششناه فخرج السوس حياً فقال لها: صحبة الأكابر تورث السلامة. قلت: ويقرب من هذا، ما حكاه ابن عطية في تفسير سورة الكهف، أن والده حدثه عن أبي الفضل الجوهري الواعظ بمصر، أنه قال في مجلس وعظه: من صحب أهل الخير عادت عليه بركتهم، هذا كلب صحب قوماً صالحين فكان من بركتهم عليه أن ذكره الله تعالى في القرآن ولا يزال يتلى على الألسنة أبداً. ولذلك قيل: من جالس الذاكرين انتبه من غفلته، ومن خدم الصالحين ارتفع بخدمته.
ومن الفوائد المستغربة، ما أخبرني به بعض أهل الخير أن أسماء الفقهاء السبعة، الذين كانوا بالمدينة الشريفة، إذا كتبت في رقعة وجعلت في القمح فإنه لا يسوس، ما دامت الرقعة فيه، وهم مجموعون في قول الأول:
ألا كل من لا يقتدي بأيمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وأفادني بعض أهل التحقيق، أن أسماءهم إذا كتبت وعلقت على الرأس، أو ذكرت عليه أزالت الصداع العارض له وقد تقدم في باب الجيم في الجراد ذكر الآيات التي تنفع للصداع.
وأفادني بعض أهل العلم، أن هذه الأسماء إذا كتبت في رقعة وعلقت على الرأس، أذهبت الصداع والشقيقة. وهي: بسم الله الرحمن الرحيم اهدأ عليه يا رأس، بحق من خلق فيك الأسنان والأضراس، وكتبه الكتبة بلا قلم ولا قرطاس، قر بقرار الله، اسكن واهدأ بهدء الله، بحرمة محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً " أسكن أيها الوجع والصداع والشقيقة والضربان، عن حامل هذه الأسماء، كما سكن عرش الرحمن، " وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم " " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم.
ومما جرب: لإذهاب السوس والفراش ما أفادنيه بعض أئمة الإمامية أن يكتب على خشب الغار هذه الأسماء في الظل بحيث لا تراه الشمس أبداً لا وقت الكتابة ولا وقت الذهاب بها ثم تدفن الخشبة في القمح أو الشعير، فإنه لا يسوس ولا يفرش. وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: موتوا فماتوا كذلك يموت الفراش والسوس ويرحل بإذن الله تعالى، أخرج أيها السوس والفراش بإذن الله تعالى عاجلا، وإلا خرجت من ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويشهد عليك أنك سرقت لجام بغلة نبي الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام. وهو عجيب مجرب.
الحكم: يحرم أكله منفرداً لأنه نوع من الدود.
الأمثال: قالوا: العيال سوس المال وقالوا: آكل من سوسة. وقيل لخالد بن صفوان بن الأهيم: كيف ابنك؟ قال: سيد فتيان قومه ظرفاً وأدباً. فقيل له: كم ترزقه كل يوم؟ فقال: درهما. فقيل له: وأين يقع منه ثلاثون درهماً في كل شهر وأنت تستغل ثلاثين ألفاً؟ فقال: الثلاثون درهماً أسرع في هلاك المال من السوس في الصوف بالصيف. فحكى كلامه للحسن البصري فقال: أشهد أن خالداً تميمي وإنما قال الحسن ذلك لأن بني تميم مشهورون بالبخل والنهم. وهو في الرؤيا كالدود فليراجع هناك.

السيد: بكسر السين وإسكان الياء المثناة من تحت، من أسماء الذئب وبه سمي جد أبي محمد عبد الله ابن محمد بن السيد البطليوسي اللغوي النحوي صاحب التصانيف المفيدة، والمحاسن العديدة، مولده سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس، وتوفي في رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.
السيدة: بكسر السين وبالدال المهملتين واسكان الياء المثناة من تحت، وبالهاء في آخره: الذئبة وإليها ينسب الإمام العلامة الحافظ النحوي اللغوي المحقق أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، وكان إماماً في اللغة وفي الغريب حافظاً لهما، وجمع في ذلك كتابه المحكم والمخصص وغير ذلك، وكان ضريراً وأبوه كذلك. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره ستون سنة.
سيفنة: كهيمنة، قال ابن السمعاني في الأنساب: إنه طائر بمصر يلقي أوراق الأشجار عنها، حتى لا يبقي منها شيئاً. شبه به أبو إسحاق إبراهيم ابن حسن بن علي الهمداني سيفنة من أكابر المحدثين، لأنه كان إذا ظفر بمحدث سمع جميع ما عنده حتى لا يبقى شيئاً من حديثه.
أبو سيراس: قال القزويني في الأشكال: إنه حيوان يوجد في الغياض تكامل في قصبة أنفه اثنتا عشرة ثقبة، إذا تنفس يسمع من أنفه صوت كصوت المزامير، والحيوانات تجتمع عليه لاستماع ذلك الصوت فإذا دهش بعضها لذلك، يصيده فيأكله فإن لم يتهيأ له صيد شيء منها وضجر، صاح صيحة هائلة قتتفرق الحيوانات وتفر عنه والله أعلم.

باب الشين المعجمة
الشادن: بكسر الدال المهملة: الظبي الذكر الذي طلع قرناه وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الظاء المعجمة.
شادهوار: حيوان يوجد بأقصى بلاد الروم. قال القزويني في الأشكال: له قرن عليه اثنتان وسبعون شعبة مجوفة، فإذا هبت الريح سمع لها أصوات حسنة، فتجتمع بسبب ذلك الحيوانات إليه بسماع صوته. ذكر أن بعض الملوك أهدي له قرن منه، فترك بين يديه عند هبوب الرياح فكان يخرج منه صوت عجيب فطرب يكاد يدهش الإنسان من سماعه ثم وضع منكوساً فكان يخرج منه صوت محزن حتى يكاد يغلب الإنسان البكاء.
الشارف: المسنة من النوق والجمع شرف مثل بازل وبزل وعائذ وعوذ ومنه حديث علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : " كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ فلما أردت أن أبني بفاطمة رضي الله تعالى عنها، واعدت رجلا صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي، فيأتي باذخر أردت أن أبيعه من الصواغين، فاستعين به في وليمة عرسي، فبينما أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبائل، وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، فرجعت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد أجبت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما. فقلت: من فعل هذا؟ فقالوا: فعله حمزة بن عبد المطب رضي الله تعالى عنه، وهو في هذا المكان في هذا البيت في شرب من الأنصار غنته قينة بين أصحابه فقالت:
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها ... وضرجهن حمزة بالدهاء
وعجل من أطايبها لشرب ... طعاماً من قديد أو شواء
فأنت أبو عمارة المرجى ... لكشف الضر عنا والبلاء
وبقية الحديث مشهورة، رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وهو حجة على إباحة كل ما ذبحه غير المالك تعدياً كالغاصب والسارق وهو قول جمهور العلماء.
وخالف في ذلك سحنون وداود وعكرمة فقالوا: لا يؤكل، وهو قول شاذ. وحجة الجمهور أن الزكاة وقعت من المتعدي على شروطها الخاصة، وتعلق بذمته قيمة الذبيحة فلا موجب للمنع. وهذا الفعل إنما كان من حمزة رضي الله تعالى عنه قبل تحريم الخمر، لأنه قتل يوم أحد وكان تحريمها بعد ذلك فكان معذوراً في قوله غير مؤاخذ به، وكان شربه الذي دعاه إليه مباحاً كالنائم والمغمى عليه، فلما حرمت الخمر صار شاربها مؤاخذاً بشربها محدوداً فيها.
الشاة: الواحدة من الغنم، تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، وأصلها شاهة، لأن

تصغيرها شويهة، والجمع شياه بالهاء في أدنى العدد. تقول ثلاث شياء إلى العشر، فإذا جاوزت العشرة فبالتاء، فإذا كثرت قلت: هذه شاء كثيرة. والشاة أيضاً الثور الوحشي والنسبة إلى الشاء شاوي قال الشاعر:
لا ينفع الشاوي فيها شاته ... ولا حماراه ولا غلاته
وفي الكامل لابن عدي في ترجمة خارجة بن عبد الله بن سليمان، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له شاة ولا يصيب جاره من لبنها أو مسكين فليذبحها أو ليبعها " . ومما تواتر من حكمة لقمان وهو لقمان بن عنقاء بن بيرون وكان نوبياً من أهل آيلة، أن سيده أعطاه شاة وأمره أن يذبحها، ويأتيه بأطيب ما فيها، فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها. ثم أعطاه في يوم آخر شاة أخرى وأمره أن يذبحها ويأتيه بأخبث ما فيها فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها. فسأله عن ذلك. فقال: هما أطيب ما فيها إن طابا، وأخبث ما فيها إن خبثا. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " . ويقال إن سيده دخل الخلاء يوماً، فأطال الجلوس فناداه: لا تطل الجلوس على الخلاء، فإنه ينخع الكبد، ويورث البواسير، ويميت القلب.
ومن وصيته لابنه، وأسمه ثاران، وقيل غير ذلك: يا بني كن على حذر من اللئيم إذا أكرمته، ومن الكريم إذا أهنته، ومن العاقل إذا هجوته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الجاهل إذا صاحبته، ومن الفاجر إذا خاصمته، وتمام المعروف تعجيله. يا بنى ثلاثة أشياء تحسن بالإنسان: حسن المحضر، واحتمال الإخوان، وقلة الملل للصديق. وأول الغضب جنون وآخره ندم. يا بني ثلاثة فيهم الرشد: مشاورة الناصح، ومداراة العدو والحاسد، والتحبب لكل أحد. يا بني المغرور من وثق بثلاثة أشياء: الذي يصدق ما لا يراه، ويركن إلى من لا يثق به، ويطمع فيما لا يناله. يا بني أحذر الحسد، فإنه يفسد الدين، ويضعف النفس، ويعقب الندم. يا بني إذا خدمت والياً فلا تنم إليه بأحد، فإنه لا يزيده ذلك منك إلا نفوراً، فإنه إذا سمع منك في غيرك فإنه لا بد أن يسمع من غيرك فيك، ويكون قلبه خائفاً منك أن تنم عليه نميت إليه بغيره، ولا يزال محترساً منك. وكن يا بني أقرب الناس إليه عند فرحه، وأبعدهم منه عند غضبه، وإن ائتمنك فلا تخنه، وإن أنالك يسيراً، فخذه واقبله فتبلغ به أن تنال كثراً. وأكرم خدمه وألطف بأصحابه، وغض طرفك عن محارمه، وأصم أذنك عن مجاوبته، وأقصر لسانك عن حديثه واكتم في المجالس سره، واتبع باللطف هواه، وناصح في خدمته، واجمع عقلك في مخاطبته، ولا تأمن الدهر من غضبه، فإنه ليس بينك وبينه نسب. والغضب يسرع إليه في كل وقت، ووثبته كوثبة الأسد. يا بني كتمان السر صيانة للعرض. يا بني إن ردت أن تقوى على الحكمة فلا تملك نفسك للنساء، فإن المرأة حرب ليس فيها صلح، وهي إن أحبتك أكلتك، وإن أبغضتك أهلتك.
وفي كتاب ربيع الأبرار للزمخشري، ورحلة ابن الصلاح، التي بخطه، قال الحسن البصري: لو وجدت رغيفاً من حلال، لأحرقته ثم دققته ثم داويت به المرضى. ثم قال: اختلطت غنم البادية بغنم أهل الكوفة. فسأل أبو حنيفة كم تعيش الشاة؟ قالوا: سبع سنين، فترك أكل لحم الغنم سبع سنين. وأنشد المبرد:
ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلا عصاه الحياء والكرم
فلا إلى حرمة مددت يدي ... ولا مشت بي لريبة قدم
وفي تاريخ ابن خلكان، أن هشام بن عبد الملك بعث إلى الأعمش، أن اكتب إلي بمناقب عثمان ومساوي علي رضي الله تعالى عنهما، فأخذ الأعمش القرطاس وأدخله في فم شاة، فلاكته وقال للرسول: قل له هذا جوابه. فذهب الرسول ثم عاد، وقال: إنه آلى أن يقتلني إن لم آته بالجواب، وتحيل عليه بأخوته، فقالوا له: افده من القتل، فلما ألحوا عليه، كتب: أما بعد فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض، ما نفعتك، ولو كان لعلي مساوي أهل الأرض، ما ضرتك، فعليك بخوصية نفسك والسلام.

والأعمش اسمه سليمان بن مهران من أعلام التابعين، رأى أنس بن مالك وأبا بكرة الثقفي وأخذ بركابه فقال له: يا بني، إنما أكرمت ربك. وكان لطيف الخلق مزاحاً ولم تفته التكبيرة الأولى سبعين سنة، وله نوادر، منها أنه كان له زوجة وكانت من أجمل نساء الكوفة، فجرى بينهما كلام، وكان الأعمش قبيح المنظر، فجاءه رجل يقال له أبو البلاد يطلب الحديث منه، فقال له: إن امرأتي نشزت علي، فادخل عليها وأخبرها بمكاني من الناس، فدخل عليها وقال: إن الله تبارك وتعالى قد أحسن قسمتك، هذا شيخنا وسيدنا وعنه نأخذ أصل ديننا، وحلالنا وحرامنا، فلا يغرنك عموشة عينيه ولا خموشة ساقيه. فغضب الأعمش وقال له: يا خبيث أعمى الله قلبك، قد أخبرتها بعيوبي ثم أخرجه من بيته. ومنها أن إبراهيم النخعي أراد أن يماشيه فقال له الأعمش: إن رآنا الناس معاً قالوا: أعور وأعمش! فقال النخعي: وما عليك أن يأثموا ونؤجر! فقال له الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم. ومنها أنه جلس يوماً في موضع فيه خليج من ماء المطر، وعليه فروة خلقة، فجاءه رجل وقال: قم عدني هذا الخليج وجذب بيده، فأقامه وركبه، وقال: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ، فمضى به الأعمش حتى توسط الخليج ورمى به، وقال: " وقل رب أنزلني منزلا مباركاً وأنت خير المنزلين " ، ثم خرج وتركه يتخبط في الماء. ومنها أن رجلا جاء إلى الأعمش يطلبه، فقيل له: خرج مع امرأة إلى المسجد، فجاءه فوجدهما في الطريق، فقال أيكما: الأعمش؟ فقال الأعمش: هذه وأشار إلى المرأة. ومنه أنه عاده أقوام في مرضه، فأطالوا الجلوس عنده، فأخذ وسادته وقام ثم قال: شفى الله مريضكم فانصرفوا. ومنها أنه ذكر عنده يوماً قوله: " من نام عن قيام الليل بال الشيطان في أذنه " . فقال: ما عمشت عيناي إلا من بول الشيطان في أذني. وكتب إلى بعض إخوانه يعزيه:
إنا نعزيك لا أنا على ثقة ... من البقاء ولكن سنة الدين
فلا المعزى بباق بعد ميته ... ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
توفي رحمه الله سنة سبع وقيل ثمان وقبل تسع وأربعين ومائة.
وفيه أيضاً أنه لما ولي عبد الله بن الزبير الخلافة بمكة، ولى أخاه مصعب بن الزبير المدينة، وأخرج منها مروان بن الحكم وابنه، فصار إلى الشام ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين، فلما ولي عبد الملك بن مروان منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبيب، لأنه كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا من الحج، فبنى عبد الملك قبة الصخرة فكان الناس يقفون عندها يوم عرفة. ويقال: إن ذلك كان سبب التعريف في بيت المقدس ومساجد الأمصار. وقيل: إن أول من سن التعريف بالبصرة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وبمصر عبد العزيز بن مران، وببيت المقدس عبد الملك بن مران.
ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبيب، وأراد الرجوع، قام إليه الحجاج فقال: إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبيب فسلخته، فولني قتاله. فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، فحصر ابن الزبيب، ورمى الكعبة بالمنجنيق. فلما رمى به أرعدت السماء وأبرقت فخاف أهل الشام، فصاح الحجاج هذه صواعق تهامة، وأنا ابنها، ثم قام ورمى بنفسه فزاد ذلك وجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، وزاد خوف أهل الشام، فلما أصبحوا صعقت السماء فقتلت بعض أصحاب ابن الزبيب، فقال الحجاج لأصحابه: اثبتوا فإنه مصيبهم ما أصابكم، ولم يزل يرميها بالمنجنيق حتى هدمها. ورموها بكيزان النفط فاحترقت الستائر حتى صارت رماداً، وأن ابن الزبيب قال لأمه: إني لا آمن إن قتلت أن يمثل بي وأصلب، فقالت له: يا ولدي إن الشاة، إذا ذبحت لم تتألم بالسلخ، فودعها وخرج من عندها. فحمل عليهم حتى ردهم على أعقابهم. فرمي بآجرة فأدمت وجهه فلما وجد سخونة الدم على وجهه أنشد قائلا:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما

وصاحت مولاة لآل الزبيب مجنونة، وكانت رأته حينها: وا أمير المؤمنيناه! وأشارت إليه. وقتل رضي الله تعالى عنه في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين. وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وجاء هو وطارق، فوقفا عليه فقال طارق: ما ولدت النساء اذكر من هذا فقال الحجاج: أتمدح من خالف طاعة أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا ولولا هذا ما كان لنا عذر، وإنا لمحاصروه وهو في غير حصن ولا منعة منذ ثمانية أشهر ينتصف منا، بل يفضل علينا كلما التقينا. فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوب رأي طارق. ثم بعث الحجاج برأس ابن الزبير وجماعة إلى عبد الملك، فبعث عبد الملك برأس ابن الزبير إلى عبد الله بن حازم الأسلمي، وهو وال بخراسان من جهة ابن الزبير ودعاه إلى طاعته، على أن يجعل له خراسان طعمة سبع سنين فقال ابن حازم للرسول: لولا أن الرسل لا تقتل لأمرت بضرب عنقك، ولكن كل كتاب صاحبك فأكله. ثم أخذ الرأس فغسله وطيبه وكفنه ودفنه. وقيل: إنه بعث به إلى آل الزبير بالمدينة فدفنوه مع جثته بالمدينة. وماتت أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم بالمدينة بعده بخمسة أيام ولها مائة سنة.
وذكر الحافظ ابن عبد البر أن الكعبة رميت بالمنجنيق مرة أخرى، حين حصرها مسلم بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، في أيام يزيد بن معاوية، في وقعة الحرة فمات يزيد ورجع مسلم إلى الشام.
غريبة: قال محمد بن عبد الرحمن الهاشمي: دخلت على أمي، يوم عيد الأضحى، فرأيت عندها امرأة في أثواب دنسة، فقالت لي أمي: أتعرف هذه؟ قلت: لا. قالت: هذه عتابة أم جعفر بن يحيى البرمكي فسلمت عليها، وقلت لها: حدثيني ببعض أمركم، فقالت: أذكر لك جملة فيها عبرة لمن اعتبر لقد هجم في مثل هذا اليوم، يوم العيد، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة وأنا أزعم أن ابني جعفراً عاق لي، وقد أتيتكم اليوم أسألكم جلدي شاتين، أجعل أحدهما شعاراً للآخر دثاراً. قال: فدفعت إليها خمسمائة درهم، ولم تزل تزور إلينا حتى فرق الموت بيننا. وسيأتي إلا شاء الله تعالى، ذكر قتل جعفر في باب العين المهملة في العقاب.
وفي سنن ابن ماجه وكامل بن عدي، في ترجمة أبي زر بن عبد الله، من حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشاة من دواب الجنة " .
وفي الاستيعاب، للحافظ أبي عمر بن عبد البر، في ترجمة أبي رجاء العطاردي، أن العرب كانوا يأتون بالشاة البيضاء فيعبدونها، فيجيء الذئب فيأخذها، فيأخذون أخرى مكانها. وفي سنن البيهقي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يكره من الشاة، إذا ذبحت، سبعاً: الذكر والأنثيين والدم والمرارة والحياء والعذرة والمثانة " . قال: " وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمها " . وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت شاة فأخذت قرصاً تحت دن لنا، فقمت إليها، فأخذته من بين لحييها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما كان ينبغي لك أن تعنقيها " ، أي تأخذي بعنقها وتعصريها. وروى مسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الحائط ممر الشاة. قلت: وهذا يدل على استحباب القرب من السترة كما جاء عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم: " إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لئلا يقطع الشيطان عليه صلاته " . رواه أبو داود، ولا يعارض حديث ممر الشاة بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة بينه وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع " . وهو الذي يمكن المصلي أن يدرأ من يمر به، إذ حمل بعضهم حديث ممر الشاة، على ما إذا كان قائماً، وحديث الثلاثة أذرع على ما إذا ركع أو سجد. ولم يذكر مالك في ذلك حداً، وقدر بعضهم ممر الشاة بقدر شبر. وقد تقدم، في البهيمة والجدي، شيء من هذا.

فائدة: في سنن أبي داود، وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم، أهدت له يهودية بخيبر، شاة مصلية سمتها، فأكل منها وأكل معه رهط من أصحابه، فمات بشر بن البراء بن معرور، فأرسل إلى اليهودية وقال: " ما حملك على ما صنعت؟ " قالت: قلت إن كان نبياً فلن يضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه " فأمر صلى الله عليه وسلم بها فقتلت " . كذا رواه وهو مرسل، فإن الزهري لم يسمع من جابر شيئاً. والمحفوظ، أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تقتلها؟ فقال: " لا " . كذا رواه البخاري ومسلم، وجمع البيهقي بينهما، بأنه لم يقتلها في الابتداء، فلما مات بشر أمر بقتلها، وهي زينب بنت الحارث ابن سلام. وقال ابن إسحاق: إنها أخت مرحب اليهودي. وروى معمر بن راشد عن الزهري أنها أسلمت.
وروى الترمذي عن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشترى أضحية فأربح فيها ديناراً، فاشترى أخرى مكانها وجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحى بالشاة وتصدق بالدينار " . وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى عروة بن الجعد، وقيل: ابن أبي الجعد البارقي ديناراً ليشتري به شاة، فاشترى شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاء بشاة ودينار. وذكر ما كان من أمره. فقال: " بارك الله لك في صفقة يمينك " . فكان يخرج بعد ذلك إلى كناسة البصرة فيربح الربح العظيم حتى صار من أكثر أهل الكوفة مالا. قال شبيب بن غرقدة: رأيت في دار عروة البارقي سبعين فرساً مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى. وروى عروة بن أبي الجعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر حديثاً وهو أول من قضى بالكوفة، استعمله عمر بن الخطاب رضي الله تعال عنه على قضائها قبل شريح.
عجيبة: روى ابن عدي، عن حسن بن واقد القصاب، أن أبا جعفر البصري، وكان من أهل الخير والصلاح، قال: اضجعت شاة لأذبحها فمر أيوب السختياني فألقيت الشفرة، وقمت معه أتحدث، فوثبت الشاة فحفرت في أصل الحائط، ودحرجت الشفرة فألقتها في الحفرة، وألقت عليها التراب. فقال لي أيوب: أما ترى أما ترى. فجعلت على نفسي أن لا أذبح شيئاً بعد ذلك اليوم.
فائدة أخرى: كان أبو محمد عبد الله بن يحيى بن أبي الهيثم المصعبي، من أصحاب الشافعي، إماماً صالحاً عالماً من أهل اليمن، من أقران صاحب البيان. ومن تصانيفه: احترازات المذهب والتعريف في الفقه، روى أن أناساً ضربوه بالسيوف، فلم تقطع سيوفهم فيه، فسئل عن ذلك فقال: كنت أقرأ " ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم " " ويرسل عليكم حفظة " " إن ربي على كل شيء حفيظ " " فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين " " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " " وحفظناها من كل شيطان رجيم " " وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً " " وحفظا من كل شيطان مارد " " وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم " " وربك على كل شيء حفيظ " " الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل " " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون " " إن كل نفس لما عليها حافظ " إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد، هل أتاك حديث الجنود، فرعون وثمود، بل الذين كفروا في تكذيب، والله من ورائهم محيط، بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ " .
ثم قال: كنت خرجت يوماً في جماعة، فرأينا ذئباً يلاعب شاة عجفاء ولا يضرها شيئاً، فلما دنونا منهما نفر منا الذئب، فتقدمنا إلى الشاة، فوجدنا في عنقها كتاباً مربوطاً فيه هذه الآيات.
توفي المصعبي سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.

وقال الحافظ أبو زرعة الرازي: وقعت النار بجرجان فاحترق فيها تسعة آلاف بيت، وجدوا فيها تسعة آلاف مصحف قد احترقت، إلا هذه الآيات لم تحترق، في كل مصحف، وهي: " ذلك تقدير العزيز العليم " " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " " تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى، الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى " " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " آتينا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين " " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " " وفي السماء رزقكم ما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " .
قال: فما وضعت هذه الآيات في متاع أو بيت أو حانوت أو غير ذلك إلا حفظه الله تعالى قلت: وهي نافعة مجربة.
وروى الثعلبي وابن عطية والقرطبي وغيرهم، عن سالم بن أبي الجعد، قال: احترق لنا مصحف فلم يبق فيه إلا قوله تعالى: " ألا إلى الله تصير الأمور " . وغرق لنا مصحف فانمحى كل شيء فيه إلا هذه الآية.
وحدثنا شيخنا الإمام العارف بالله عبد الله بن أسعد اليافعي رحمه الله تعالى قال: بلغني عن سيدنا العارف الإمام أبي عبد الله محمد القرشي عن شيخه أبي الربيع المالقي أنه قال له: ألا أعلمك كنزاً تنفق منه ولا ينفد؟ قلت: بلى. قال: قل يا الله يا أحد يا واحد يا موجود يا جواد يا باسط يا كريم يا وهاب يا ذا الطول يا غني يا مغني يا فتاح يا رزاق يا عليم يا حكيم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حنان يا منان، انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " " إنا فتحنا لك فتحاً مبينا " " نصر من الله وفتح قريب " اللهم يا غني يا حميد، يا مبدئ يا معيد، يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعالا لما يريد، اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، واحفظني بما حفظت به الذكر، وانصرني بما نصرت به الرسل، إنك على كل شيء قدير. قال: فمن داوم على قراءته بعد كل صلاة، خصوصاً صلاة الجمعة، حفظه الله من كلا مخوف، ونصره على أعدائه وأغناه ورزقه من حيث لا يحتسب، وشر عليه معيشته، وقضى عنه دينه ولو كان عليه مثل الجبال ديناً، أداه الله تعالى عنه بمنه وكرمه.
وروى ابن عمي عن عبد الرحمن القرشي، قال: حدثنا محمد بن زياد بن معروف حدثنا جعفر بن حسن عن أبيه قال: حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سألت الله تعالى الاسم الأعظم فجاءني جبريل عليه السلام به مخزوناً مختوماً، وهو: اللهم إني أسألك باسمك الأعظم المكنون الطهر الطاهر المطهر المقدس المبارك الحي القيوم " . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: بأبي أنت وأمي يا نبي الله علمنيه. فقال صلى الله عليه وسلم: عائشة نهينا عن تعليمه النساء والصبيان والسفهاء.
فائدة أخرى: روي عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، أنه قال: بينما عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام، سائران إذ رأيا شاة وحشية ماخضاً، فقال عيسى ليحيى: قل تلك الكلمات: حنة ولدت يحيى، ومريم ولدت عيسى، الأرض تدعوك يا ولد، أخرج يا ولد. قال حماد بن زيد: فما يكون في الحي امرأة ماخض، فيقال هذا عندها فلا تبرح حتى تضع بإذن الله تعالى. ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه وكانا ابني خالة، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليه السلام.
وعن يونس بن عبيد أنه قال: ما قال العبد: اللهم أنت عدتي في كربتي، وأنت صاحبي في غربتي، وأنت حفيظي عند شدتي، وأنت ولي نعمتي، عند النفساء أو البهيمة الماخض، إلا يسر الله عليها وضع الولد.

قال بعض الحكماء: من خصائص الزبد البحري، أنه إذا علق على ذات طلق، سهل الله عليها الولادة. وكذلك قشر البيض إذا سحق ناعماً، وشرب بماء فإنه يسهل الولادة، وقد جرب مراراً عديدة فصح. وقد ورد في الحديث " مثل المؤمن كالشاة المأبورة " ، أي التي أكلت الإبرة في علفها فنشبت في جوفها، فهي لا تأكل شيئاً وإن أكلت لم ينجع فيها. وفيه أيضاً " مثل المنافق كالشاة الرابضة بين غنمين أراد أنها مذبذبة بين قطيعين من الغنم، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء. والرابضة أيضاً ملائكة أهبطوا مع آدم عليه الصلاة والسلام يهدون الضال ولعله من الإقامة وقال الجوهري: الرابضة حملة الحجة لا تخلو منهم الأرض.
الحكم: يحل أكلها بالإجماع، وإن أوصى بشاة تناول صغيرة الجثة وكبيرتها، سليمة ومعيبة، ضأناً ومعزاً، لصدق الاسم على الجميع.
فرع: ومن أحكامها في الأضحية، أن الأضحية سنة غير واجبة ولا تصح إلا من النعم، ولا يجزى من الضأن إلا الجذعة وهي ما لها سنة تامة وشرعت في الثانية على الأصح عند ص أصحابنا كما تقدم، في باب الجيم، في الجذعة. ومن المعز إلا الثنية، وهي التي شرعت في السنة الثالثة. ويشترط أن تكون سليمة من كل عيب يضر باللحم، فلا تجزئ العجفاء، ولا العوراء، ولا المريضة، ولا العرجاء، ولا الجرباء، ولا مكسورة القرن، ولا مقطوعة الأذن، ولا التي لم يخلق لها أذن، وفي مشقوقة الأذن وجهان: قاله في العباب، وإذا لم تجزئ العوراء، فالعمياء أولى. وأما العمش وضعف البصر، من إحدى العينين، أو كلتيهما، فلا يمنع الإجزاء وقال الروياني: إن غطى على الناظر بياض وأذهب بعضه دون بعض، فإن ذهب الأكثر لم تجز التضحية بها، وإن ذهب الأقل، جازت. وفي العشواء، وهي التي تبصر نهاراً لا ليلا، وجهان: الأصح الإجزاء. وقد ورد النهي عن التولاء، وهي المجنونة، وهي التي تستدبر المرعى ولا ترعى إلا قليلا. فتهزل. وأما مقطوعة الأذن فينظر فإن لم يبن منها شيء بل بقي طرفها متدلياً، لم يمنع على الأصح. وقال القفال: إنها لا تجزئ. وإن أبين فإن كان كثيراً بالإضافة إلى الأذن فإنها لا تجزئ قطعاً، وإن كان يسيراً فلا تجزئ على الأصح، لفوات جزء مأكول. قال الإمام: وأقرب ضبط بين القليل والكثير، أنه إن لاح النقص من البعد فكثير، وإلا فقليل.
وقال أبو حنيفة: إن كان المقطوع دون الثلث، لا يمنع الإجزاء ولا يضر الكي وقيل: وجهان. وتجزئ صغيرة الأذن، ولا تجزئ التي أخذ الذئب مقداراً بيناً من فخذها. والمقطوعة الألية لا تجزئ على المذهب وتجزئ الشاة التي خلقت بلا ضرع، أو بلا ألية على الأصح. وقطع بعض الألية والضرع، كقطع كليهما. ولا تجزئ مقطوعة اللسان، والأصح إجزاء المجبوب والخصي، وشذ ابن كج، فحكى في الخصي قولين: وجعل الجديد عدم الإجزاء. وتجزئ التي لا قرن لها، والمكسورة القرن سواء اندمل أم لا على الأصح وجزم المحاملي، في اللباب، بعدم الإجزاء كما تقدم. قال القفال: إلا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم، فيكون كالجرب وذات القرن أفضل. وتجزئ التي ذهب بعض أسنانها.
فائدة: قال الجوهري: الأضحية فيها أربع لغات أضحية وأضحية بضم الهمزة وكسرها، والجمع أضاحي، وضحية والجمع ضحايا، وأضحاة كأرطاة والجمع أضحى كأرطى، بها سمي يوم الأضحى.
فرع: النية شرط في الأضحية ويجوز تقديمها على الذبح في الأصح، ولو قال: جعلت هذه الشاة أضحية، فهل يكفي التعيين والقصد دون نية الذبح؟ وجهان أصحهما لا، لأن الأضحية سنة كما تقدم، وهي قربة في نفسها فوجبت النية فيها. واختار الإمام والغزالي الاكتفاء، وإذا قلنا بالاكتفاء فالمستحب تجديد النية.

فرع: يستحب للمضحي أن يذبح بيده، ويجوز أن يفوض ذبحها إلى غيره، وكل من حلت ذبيحته جاز التفويض إليه. والأولى أن يكون مسلماً، وأن يكون فقيهاً، ليكون عارفاً بوقتها وشرائطها، ويجوز استنابة الكتابي، وقال مالك: لا يجوز ويكون ما ذبحه شاة لحم. وحكى الموفق بن طاهر الحنبلي، عن أحمد مثله. ويستحب أن يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث. وفي قول أن يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، فإن أكل الكل معاً، فالمذهب أنه يضمن القدر الذي يجزئ فيه، وهو أدنى جزء. وقيل لا يضمن، وقيل يضمن القدر المستحب، وهو الثلث أو النصف، ولا يجوز بيع شيء منها، ولا أن يعطي الجزار منها شيئاً أجرة، بل مؤنة الذلح على المضحي كمؤنة الحصاد.
فرع: اعلم أن العلماء رضي الله تعالى عنهم قالوا: ادخار الأضحية فوق ثلاث منهي عنه. وهل يجوز أكل الجميع؟ وجهان: أحدهما نعم، وبه قال ابن سريج والأصطخري وابن القاص واختاره ابن الوكيل لأنه يجوز أكل أكثرها، فيجوز أكل جميعها، وحيازة الثواب تحصل بإراقة الدم لقصد النية، ونسب ابن القاص هذا الوجه إلى النص، وحكاه الموفق الحنبلي عن أبي حنيفة، وأصح الوجهين أنه لابد من التصدق بقدر ما يطلق عليه الاسم.
فرع: لو قال جعلت هذه الشاة أضحية أو نذر أن يضحي بشاة بعينها، زال ملكه عنها ولا ينفذ تصرفه فيها ببيع ولا هبة ولا إبدال، ولو بجزء منها وعن الشيخ أبي علي وجه أنه لا يزول الملك عنها حتى تذبح ويتصدق بلحمها، كما لو قال: لله علي أن أعتق هذا العبد لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاقه وعند أبي حنيفة، أنه لا يزول الملك عنها ولا يجوز بيعها، ولا إبدالها ولو نذر العتق في عبد بعينه لا يجوز بيعه وإبداله، وإن لم يزل الملك عنه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز بيعه لإبداله، فلو باعها فإنها تسترد إذا كانت العين باقية، فإن أتلفها المشتري أو تلفت عنده فعليه القيمة من يوم القبض إلى يوم التلف. فلو ذبح رجلان، كل واحد منهما أضحية الآخر، بغير إذنه، ضمن كل واحد منهما ما بين القيمتين، أو أجزأت عن الأضحية.
فرع: قال المحاملي: وتنحر الإبل وتذبح الغنم فإن نحر كلها، أو ذبح كلها جاز، وموضع النحر في السنة والاختيار اللبة، وموضع الذبح أسفل مجامع اللحيين، وكمال الذبح أن يقطع الحلقوم والمريء والودجين، وأقل ما يجزئ في الذكاة، أن يبين الحلقوم والمريء انتهى.
فرع: لو ولدت الأضحية الواجبة، ذبح ولدها معها، سواء كانت معينة أو في الذمة بعد ما عين، وله أن يشرب من لبنها ما يفضل عن ولدها، قاله القاضي أبو سعيد الهروي.
الأمثال: قالوا: كل شاة برجلها معلقة. أول من قال ذلك: وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد، وكان قد ولي أمر البيت، بعد جرهم، فبنى صرحاً بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها حزورة وبه سميت الحزورة التي بمكة. وجعل في الصرح سلماً، وكان يزعم أنه يرقاه فيناجي فيه ربه تعالى. وكان ينطق بكثير من الخير، وكان علماء العرب يقولون: إنه من الصديقين، فلما حضرته الوفاة جمع أولاده وقال لهم اسمعوا وصيتي: من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة برجلها معلقة. فأرسل مثلا أي كل أحد يجزى بعمله " ولا تزر وازرة وزر أخرى " . الخواص: جلد الشاة، إذا أخذ حين يسلخ، وألبس للمضروب بالسياط، نفعه وسكن ألمه.
الشامرك: الفتي من الدجاج قبل أن يبيض بأيام قلائل. قاله في المرصع، وكنيته أبو يعلى، وهو معرب الشاه مرغ، ومعناه ملك الطير.
الشاهين: جمعه شواهين وشياهين، وليس بعربي، لكن تكلمت به العرب. قال الفرزدق:
حمى لم يحط عنه سريع ولم يخف ... نويرة يسعى بالشياهين طائرة
ويروى بالشواهين وقال عبد الله بن المبارك:
قد يفتح المرء حانوتاً لمتجره ... وقد فتحت لك الحانوت بالدين
بين الأساطين حانوت بلا غلق ... تبتاع بالدين أموال المساكين
صيرت دينك شاهيناً تصيد به ... وليس يفلح أصحاب الشواهين

وقد تقدمت له أبيات، في باب الباء الموحدة، في البازي، تشبه هذه. ومن كلامه: تعلمنا العلم للدنيا، فدلنا على ترك الدنيا. والشاهين ثلاثة أنواع: شاهين وقطامي وأنيقي. والشاهين في الحقيقة من جنس الصقر، إلا أنه أبرد منه وأيبس مزاجاً، ولأجل ذلك تكون حركته من العلو إلى السفل شديدة، ولهذا ينقض على سيده انقضاضاً من غير تحريم، وعنده جبن وفتور، وهو مع ذلك شديد الضراوة على الصيد ولأجل ذلك ربما ضرب بنفسه الأرض فمات. وعظامه أصلب من عظام سائر الجوارح وبعضهم يقول الشاهين كاسمه يعني الميزان، لأنه لا يتحمل أدنى حال من الشبع، ولا أيسر حال من الجوع، والمحمود من صفاته أن يكون عظيم الهامة، واسع العينين، رحب الصدر، ممتلئ الزور، عريض الوسط، جليد الفخذين، قصير الساقين، قليل الريش، رقيق الذنب إذا صلب عليه جناحيه، لم يفضل عنه منهما شيء، فإذا كان كذلك، صاد الكركي وغيره. ويقال: إن أول من صاد به قسطنطين، وكانت الشواهين ريضت له، وعلمت أن تحوم على رأسه إذا ركب فتظله من الشمس، وكانت تنحدر مرة وترتفع أخرى، فإذا ركب وقفت حوله إلى أن ركب يوماً، فثار طائر من الأرض، فانقض عليه بعض الشواهين، فأخذه فأعجبه ذلك وضراه على الصيد.
وحكمه: يأتي في باب الصاد المهملة، إن شاء الله تعالى، في الصقر.
ومن الرسائل التي كتبتها قديماً للأخ فارس الدين شاهين، وأنا بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام:
سلام كما فاحت بروض أزاهم ... يضيء كما لاحت بأفق زواهر
إذا عبقت كتبي به قال قائل ... أفي طيها نشر من المسك عاطر
إلى فارس الدين الذي قد ترحلت ... لخدمة خدام مصر الأكابر
إذا عد خدام الملوك جميعهم ... فبينهم ذكر لشاهين طائر
وعندي اشتياق نحوه وتلفت ... إليه وقلبي بالمودة عامر
تمنيت جهدي أن أراه بحضرة ... معظمة أقطارها وهو حاضر
وأدعو له في كل وقت مشرف ... وكل زماني فضله متواتر
وفي مسجد عال كريم معظم ... له شرف في سائر الأرض سائر
يقبل الأرض التي لها بشاهين علو النسرين، وجود المرزمين، قصرت عقاب الجو عن مطارها، والعنقاء ذات الحسن عن محاسن أخبارها، وطائرها الميمون صراح، وحامل بطائق سعدها، منشور الجناح، يعترف أبو الصقر لشاهينها، والبزاة وإن استقرت على يمين الملوك لتمكينها، طالما تصيدت الملوك بإحسانها، ونشرت جناحاً طار إلى أفق المعالي ومكانها، وينهي أن له إلى مولانا أشواقاً غالبه، وعيناً برؤيته في تلك البقاع الشريفة مطالبه، وأدعية له عليها في كل وقت مواظبه، ويذكر إحسان مولانا، ويصفه فما أولانا بذكر ما أولانا، وكيف لا يحوز صدقاً قصب السبق وهي فارسية، ويطير حائما على أفق العلا فضله وهو ذو نسبة شاهينيه، والمملوك يتذكر صدقاته وإحسانه في كل أوقاته، على أن المخدوم مازال يستبق الخيرات، ويسارع إلى جبر القلوب بأنواع المسرات، ويبذل معروفه إلى البعيد والقريب، ويرسل جوده الذي مازال يلبي دعوة الداعي ويجيب، فأدام الله على مولانا سوابغ نعمه، وعمه بإحسانه العميم بمنه وكرمه. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الصقر ذكر أب الصقر المشار إليه.
وتعبيره: يأتي في الصقر، إن شاء الله تعالى أيضاً.
الشبب: الثور المسن وكذلك الشبوب والمشب.
الشبث: بالتحريك العنكبوت. قال في المحكم: هي دويبة لها ست قوائم طوال، صفراء الظهر، وظهور القوائم سوداء الرأس، زرقاء العينين، وقيل: دويبة كثيرة الأرجل، عظيمة الرأس، واسعة الفم، مرتفعة المؤخر، تحرث الأرض، وهي التي تسمى شحمة الأرض. والجمع أشباث وشبثان. وقال الجوهري: الشبث، بالتحريك، دويبة كثيرة الأرجل ولا تقل شبث بإسكان الباء الموحدة. والجمع شبثان مثل خرب وخربان.
وحكمها: تحريم الأكل لأنها من الحشرات.
الشبثان: بكسر الشين المعجمة، وبالباء الموحدة ثم الثاء المثلثة ثم نون في آخره، ذكر ابن قتيبة، في أدب الكاتب، أنها دويبة تكون في الرمل، سميت بذلك لتشبثها بما دبت عليه. قال الشاعر:
مدارك شبثان لهن لهيم
وحكمها: تحريم الأكل لأنها من الحشرات التي لا تؤكل.

الشبدع: العقرب والجمع الشبادع بكسر الشين والدال غير المعجمة، حكاه أبو عمرو والأصمعي.
وفي الحديث: " من عض على شبدعه، سلم من الآثام " . أي على لسانه أي سكت، ولم يخض مع الخائضين ولم يلسع به الناس لأن العاض على لسانه، لا يتكلم، فشبه اللسان بالعقرب الضارة.
الشبربص: كسفرجل: الجمل الصغير.
الشبل: ولد الأسد، إذا أدرك الصيد، والجمع أشبال وشبول.
الشبوة: العقرب والجمع شبوات قال الراجز:
قد جعلت شبوة تزبئر ... تكسو أستها لحماً وتقمطر
الشبوط: كسفود ضرب من السمك. قال الليث: والسبوط بالسين المهملة لغة فيه، وهو دقيق الذنب، عريض الوسط، لين المس، صغير الرأس، وهذا النوع قليل الإناث، كثير الذكور، فهو قليل البيض، بسبب ذلك.
وذكر بعض الصيادين أنه ينتهي إلى الشبكة، فلا يستطيع الخروج منها، فيعلم أنه لا ينجيه إلا الوثوب، فيتأخر قدر رمح ثم يهمز فيثب، فربما كان وثوبه في الهواء أكثر من عشرة أذرع، فيخرق الشبكة ويخرج منها. ولحمه كثير جداً وهو كثير بدجلة.
الشجاع: بالضم والكسر، الحية العظيمة التي تثب على الفارس والراجل، وتقوم على ذنبها، وربما بلغت رأس الفارس، وتكون في الصحاري، روي أن مالك بن أدهم، خرج يتصيد فلما صار إلى بلد قفر ومعطش، ومعه جماعة من أصحابه، طلبوا الماء فلم يقدروا عليه، فنزل وضربت له خيمة، وأمر أصحابه أن يطلبوا الماء والصيد، فخرجوا في طلبهما فأصابوا ضباً، فأتوه به، فقال: اشووه ولا تنضجوه، ومصوه مصاً لعلكم تنتفعون به، ففعلوا ذلك، ثم أثاروا شجاعاً، وأرادوا قتله، فدخل على مالك خيمته فقال: قد استجار بي فأجيروه، ففعلوا ذلك، ثم خرج هو وأصحابه في طلب الماء، فإذا هاتف يهتف بهم وهو يقول:
يا قوم يا قوم لا ماء لكم أبداً ... حتى تحثوا المطايا يومها التعبا
وسددوا يمنة فالماء عن كثب ... ماء غزير وعين تذهب الوصبا
حتى إذا ما أخذتم منه حاجتكم ... فاسقوا المطايا ومنه فاملؤوا القربا
فأخذ هو وأصحابه في الجهة التي نعتها الهاتف لهم في شعره، فإذا هم بعين غزيرة، فسقوا منها إبلهم، وتزودوا فلما فعلوا ذلك لم يروا للعين أثراً، وإذا بهاتف يهتف بهم ويقول:
يا مال عني جزاك الله صالحة ... هذا وداع لكم مني وتسليم
لا تزهدن في اصطناع العرف من أحد ... إن امرأ يحرم المعروف محروم
الخير يبقى وإن طالت مغيبته ... والشر ما عاش منه المرء مذموم.
وفي الصحيحين، عن جابر وأبي هريرة وابن مسعود، رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه " . وفي رواية مسلم " يتبعه فاتحاً فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فإذا رأى أنه لا بد له منه سلك يده في فيه، فيقضمها قضمة الفحل، ثم يأخذ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " : والأقرع الذي تمعط رأسه وأبيض من السم. والزبيبتان الريشتان من جانبي فمه من كثرة السم ويكون مثلهما في شدقي الإنسان عند كثرة الكلام، وقيل نكتتان في عينيه، وما هو بهذه الصفة من الحيات، هو أشد أذى. وقيل هما نابان يخرجان من فيه ويقضمها بفتح الضاد أي يأكلها، والقضم بأطراف الأسنان والخضم بالفم كله، وقيل: القضم أكل اليابس والخضم أكل الرطب، وتزعم العرب أن الرجل إذا طال جوعه يعرض له في البطن حية يسمونها الشجاع والصفر. قال أبو خراش يخاطب امرأته:
أرد شجاع البطن لو تعلمينه ... وأوتر غيري من عيالك بالطعم
وأغتبق الماء القراح وأنثتي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أراد بالأول الطعام، وبالثاني ما يشتهى منه، والغبوق الشرب بالعشي، والمزلج من الرجال الناقص الذوق الضعيف. وقال الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما

هذه بغة بني الحارث بن كعب، وهي إبقاء ألف الشية في حالتي النصب والخفض، وهو مذهب الكوفيين ومنه قوله تعالى: " إن هذان لساحران " .
وتعبيره في الرؤيا يمل على ولد جسور، أو امرأة بازلة.
الشحرور: كسحنون طائر أسود فوق العصفور، يصوت أصواتاً، قاله ابن سيده وغيره، وما أحسن ما قال الشيخ العلامة علاء الدين الباجي، ووفاته سنة أربع عشرة وسبعمائة: دو بيت بالبلبل والهزار والشحرور يكسى طرباً قلت الشجي المغرور
فانهض عجلا وانهب من اللذة ما ... جادت كرماً به يد المقدور
وقد أجاد القائل في وصفه حيث قال:
وروضة أزهرت أغصانها وشدت ... أطيارها وتولت سقيها السحب
وظل شحرورها الغريد تحسبه ... أسيوداً زامراً مزماره ذهب
وما أحسن قوله أسيود! وهو تصغير أسود، وقال آخر وأجاد:
له في خده الوردي خال ... يدور به بنفسج عارضيه
كشحرور تخبأ في سياج ... مخافة جارح من مقلتيه
وحكمه: كالعصفور، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وتعبيره: في الرؤيا يدل على رجل من كتاب السلطان نحوي أديب وربما دل على الولد الذكي الفصيح أو على صبي المكتب والله أعلم.
شحمة الأرض: دويبة إذا مسها الإنسان تجمعت وصارت مثل الخرزة. وقال القزويني، في الأشكال: إن شحمة الأرض تسمى بالخراطي وهي دودة طويلة حمراء، توجد في المواضع الندية. وقال الزمخشري، في ربيع الأبرار: إنها دويبة منقطة بحمرة، كأنها سمكة بيضاء، يشبه بها كف المرأة. وقال هرمس: إنها دابة صغيرة طيبة الريح، لا تحرقها النار، وتدخل في النار من جانب وتخرج من جانب.
الخواص: من طلي بشحمها لم تضره النار ولو دخل فيها وإذا أخذت، شحمة الأرض وجففت وسقي منها قدر درهم للمرأة التي تعسرت ولادتها فإنها تلد من ساعتها. وقال القزويني: إذا شويت وأكلت بالخبز فتتت الحصا من المثانة وتجفف وتطعم لصاحب اليرقان فإنها تذهب صفرته. ورمادهما يخلط بدهن، ويطلى به رأس الأقرع، ينبت الشعر ويزيل القرع.
وحكمها وتعبيرها: كالدود، وقد تقدم في باب الدال المهملة، أنها غير مأكولة لأنها من الخبائث.
الشنا: بفتح الشين والذال المعجمة ذباب الكلب، وقد يقع على البعير. الواحدة شذاة.
الشران: شبيه بالبعوض يغشى وجوه الناس.
الشرشق: الشقراق.
الشرشور: كعصفور طائر مثل العصفور أغبر على لطافة الحمرة، قاله ابن سيده وقد تقدم في باب الباء أنه أبو براقش.
وحكمه: حل الأكل لأنه داخل في عموم العصافير.
الشرغ: والشرغ الضفدع الصغير وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في لفظ الضفاع، في باب الضاد المعجمة.
الشرنبي: كحبنطي طائر معروف يعرفه الأعراب.
الشصر: بالتحريك ولد الظبية وكذلك الشاصر قاله أبو عبيدة.
الشعراء: بفتح الشين وكسرها، وبالعين المهملة الساكنة، ذباب أزرق أو أحمر، يقع على الإبل والحمير والكلاب، فيؤذيها أذى شديداً. وقيل: ذباب كذباب الكلب. وفي السيرة أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم، استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول، ولم يدعه قبلها قط فاستشاره فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا! فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا علينا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وقال بعض أصحابه: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكلب، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني رأيت في منامي بقراً تذبح، فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، فأولتها هزيمة، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، فافعلوا " .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة، فيقاتلوا في الأزقة، فقال رجال من المسلمين، ممن فاتهم يوم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: أخرج بنا إلى أعداء الله يا رسول الله. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ولبس لأمته، فلما رأوه قد لبس السلاح، ندموا وقالوا: بئسما صنعتم، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوحي يأتيه! فقالوا: اصنع ما رأيت يا رسول الله، واعتذروا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " . وكان قد أقام المشركون بأحد الأربعاء والخميس، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الجمعة بعدما صلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكلا أصحابه سبعمائة رجل فجعل عبد الله بن جبير وهو أخو خوات بن جبير رضي الله عنهما على الرماة، وكانوا خمسين رجلا، وقال عليه الصلاة والسلام: " أقيموا بأصل الجبل، وانضحوا عنا بالنبل، حتى لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " .

فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنهما، ومعهما النساء يضربن بالدفوف، ويقلن الأشعار، فقاتلوا حتى حميت الحرب، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً وقال: " من يأخذ هذا بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني " ؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله تعالى عنه، فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء، وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع " ، ففلق به هام المشركين. وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين، فهزموهم. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة، والله لتأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم، صرفت وجوههم، وقال الزبير بن العوام: فلما نظرت الرماة إلى القوم وقد انكشفوا ورأوا أصابهم ينتهبون الغنيمة، أقبلوا يريدون النهب، فلما رأى خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه قلة الرماة، واشتغال الناس بالغنيمة، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزمهم، و " رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته، وهشم أنفه وشجه في وجهه، فأثخنه وتفرق عنه أصحابه، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وكان صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين، فلم يستطع النهوض، فجلس تحته طلحة رضي الله تعالى عنه، فنهض صلى الله عليه وسلم حتى استوى عليها " . ووقفت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد، وأعطتها وحشياً، وبقرت عن كبد حمزة رضي الله تعالى عنه فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة، يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع وقال: إني قتلت محمداً وصاح صائح: ألا إن محمداً قد قتل، ويقال: إن ذلك الصائح كان إبليس، فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، وأصيبت يد طلحة رضي الله تعالى عنه، فيبست حين وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيبت عين قتادة رضي الله تعالى عنه يومئذ، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها فكانت أحسن ما كانت. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدركه أبي بن خلف الجمحي، وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد! فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوه " حتى إذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم، فرق ذرة أقتلك عليها، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى " . فلما دنا منه يوم أحد، وهو راكب فرسه، تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، وانتفض بها انتفاضة، فتطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وطعنه في عنقه طعنة خدشته خدشة غير كبيرة، فتدهمه بها عن فرسه، وهو يخور كما يخور الثور، ويقول: قتلني محمد، فحمله أصحابه، وأتوا به قريشاً وقد حقد الدم واحتقن، فقالوا: لا بأس عليك، فقال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال: أنا أقتلك؟ فوالله لو بصق علي بعد تلك المقالة قتلني، فلم يلبث إلا يوماً واحداً. ومات عدو الله بموضع يقال له سرف. وقال فيه حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه:
لقد ورث الضلالة عن أبيه ... أبى حين بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رم عظم ... وتوعده وأنت به جهول
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس عذاباً من قتل نبياً أو قتله نبي " ، لأنه من المعلوم أن النبي لا يقتل أحداً ولا يتفق ذلك إلا في شر الخلق.
الشغواء: بفتح الشين وسكون الغين المعجمة وبالمد العقاب سميت بذلك لفضل منقارها الأعلى على الأسفل قال الشاعر:
شغوا بوطن بين الشيق والنيق
الشفدغ: الضفدع الصغير حكاه ابن سيده.

الشفنين: كاليشنين بكسر الشين المعجمة وهو متولد بين نوعين مأكولين. وعده الجاحظ في أنواع الحمام. وبعضهم يقول: الشفنين هو الذي تسميه العامة اليمام، وصوته في الترنم، كصوت الرباب، وفيه تحزين، وجمعه شفانين وتحسن أصواتها إذا اختلطت. ومن طبعه أنه إذا فقد أنثاه لم يزل أعزب إلى أن يموت، وكذلك الأنثى إذا فقدت ذكرها، وإذا سمن سقط ريشه، ويمتنع من السفاد. ومن طبعه إيثار العزلة وعنده نفور واحتراس من أعدائه.
وحكمه: حل الأكل بالإجماع.
الخواص: لحم الشفنين حار يابس ولذلك ينبغي أن لا يؤكل من هذا النوع إلا الصغار والمخاليف. والدم المتولد عنه حار يابس، والدهن الكثير يعدله وأكل بيضه بزيت، يزيد في الباه وزبله، إذا ديف بدهن ورد، وتحملت به المرأة نفع من وجع الأرحام، ومن طلى إحليله بدمه وجامع امرأته، لم يقدر عليها سواه، وإن مات لم تتزوج. ومما ينفع الرمد في العين والورم، أن يقطر فيها شفنين حار أو دم حمامة ويوضع على العين من خارج قطنة مبلولة ببياض بيض، مع شيء من دهن الورد، فإنه نافع مجرب.
الشق: بالكسر، قال القزويني: هو من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي، ويزعمون أن النسناس مركب من الشق ومن الآدمي، ويظهر للإنسان في أسفاره. وذكروا أن علقمة بن صفوان بن أمية خرج في بعض الليالي، فانتهى إلى موضع فعرض له شق فقال علقمة: يا شق ما ولك اغمد عني منصلك أتقتل من لا يقتلك؟ فقال شق: هيت لك واصبر لما قد حم لك، فضرب كل واحد منهما صاحبه، فوقع ميتاً. وأما شق وسطيح الكاهنان، فكان شق إنسان، له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، وكان سطيح ليس له عظم ولا بنان، إنما كان يطوى مثل الحصير. ولد شق وسطيح في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة، امرأة عمرو بن عامر، ودعت بسطيح في اليوم الذي ماتت فيه، قبل أن تموت، فأتيت به فتفلت في فيه، وأخبرت أن سيخلفها في علمها وكهانتها. وكان وجهه في صدره ولم يكن له رأس ولا عنق. ودعت بشق، ففعلت به مثل ذلك ثم ماتت وقبرها بالجحفة.
وذكر الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، أن خالد بن عبد الله الفهري، كان من ولد شق هذا.
وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أن مالك بن نصر اللخمي، رأى رؤيا هالته، فبعث إلى جميع الكهان والسحرة والمنجمين من رعيته، فاجتمعوا إليه فقال: إني رأيت رؤيا هالتني، وفظعت منها! فقالوا: قصها علينا نخبرك بتأويلها! فقال لهم: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم في تأويلها، ولست أصدق في تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الذي يرومه الملك لا يجده إلا عند شق وسطيح! فلما أخبروه بذلك، أرسل الملك من أتاه بهما، فسأل سطيحاً فقال: أيها الملك إنك رأيت جمجمة خرجت من ظلمة، فأكلت كل ذات جمجمة! فقال الملك: ما أخطأت شيئاً فما عندك في تأويلها؟ فقال سطيح: احلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى يكون ذلك أفي زماني أم بعده؟ فقال: بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين تمضين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن الذي يلي ذلك؟ من قتلهم إخراجهم؟ قال: يليه ابن في يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن. قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من ربه العلي، قال: وممن هذا النبي؟ قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. فقال الملك: وهل للدهر من آخر يا سطيح؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيؤون. فقال الملك: أحق ما تقول يا سطيح. قال: نعم، والشفق والغسق، والقمر إذا اتسق، إن ما أخبرتكم به لحق.

ثم إن الملك أحضر شقاً فسأله كما سأل سطيحاً فقال له شق: إنك رأيت جمجمة خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت كل ذات نسمة. فلما سمع الملك مقالة شق، قال له: ما أخطأت شيئاً. فما عندك في تأويلها؟ فقال شق: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. فقال الملك: وأبيك يا شق، إن ذلك لنا لغائظ مؤلم! فمتى يكون ذلك، أفي زماني أم بعده؟ فقال: بل بعده بزمان. ثم يستنقذكم منه عظيم الشأن، ويذيقهم أشد الهوان. فقال الملك: من هو العظيم الشان؟ قال: غلام من غلمان اليمن، يخرج من بيت ذي يزن. فقال الملك: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول، هو خاتم الرسل، يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. فقال الملك: وما يوم الفصل؟ فقال شق: يوم يجزى فيه الولاة، ويدعى من السماء دعوات، يسمعها الأحياء والأموات، ويجمع الناس فيه للميقات، فيفوز فيه الصالحون بالخيرات. فقال الملك: أحق ما تقول يا شق؟ قال: أي ورب السماء والأرض وما بينهما، من رفع وخفض، إن ما أنبأتكم به لحق ما له من نقض. فوقع ذلك في نفس الملك، لما رأى من تطابق شق وسطيح، على ما ذكراه. فجهز أهل بيته إلى الحيرة فرقأ من سلطان الحبشة.
وروي عنه، أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتجس فيها إيوان كسرى، وسقط منه أربع. عشرة شرافة، فجزع كسرى أنوشروان من ذلك وتطير، ورأى أن لا يكتمه عن زعماء مملكته، فأحضر موبذموبذان، وهو رئيس حكمائهم، وعنه يأخذون نواميس شرائعهم، وأحضر الموابذة، وهم القضاة، والهرابذة وهم كالخلفاء للموابذة، والأصبهبذ، وهو حافظ الجيوش وأمير الأمراء، وأحضر بزر جمهر مداره، وهو الوزير الأعلى، والمرازبة وهم حفظة الثغور وولاة المملكة، وأخبرهم بما كان من ارتجاس الإيوان وسقوط ما سقط من شرفاته. فقال رئيس الموابذة: إني رأيت في المنام، كأن إبلا تقود خيلا قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلاد فارس. وأخبره في ذلك الوقت قومه بالنار وخمودها تلك الليلة. فهاله ومن حضر مجلسه، ذلك واستعظموه ولم يظهر لهم وجهه، ففزعوا وتفرقوا عن الملك يتروون فيه.
ووافت البرد إلى كسرى، من جميع جهات ممالكه، تخبر بخمود النيران تلك الليلة، ووافاه الخبر بأن بحيرة ساوة قد غاض ماؤها فجمع زعماء دينه ورؤساء سلطانه، فأطلعهم على ما انتهى إليه من ذلك كله، وسألهم عما عندهم فيه؟ فقال موبذموبذان: أما رؤياي، فتدل على حدث عظيم يكون من العرب. فكتب كسرى إلى النعمان بن المنذر، يأمره أن يبعث إليه أعلم من في أرضه من العرب، فبعث إليه عبد المسيح بن عمرو الغساني وكان معمراً، فلما قدم على كسرى، قال له: هل عندك علم مما أريد أن أسألك عنه. قال: يخبرني الملك عما يريد علمه، فإن كان عندي علم منه أخبرته! فقال أنوشروان: إنما أريد من يعلم أمري قبل أن أذكره له! فقال عبد المسيح: هذا علم يعلمه خال لي يسكن بمشارق الشام يقال له سطيح. قال كسرى: فاذهب إليه فانطلق عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح فوجده قد أشفى على الموت فحياه فلم يجبه فقال عبد المسيح رافعاً صوته:
أصم أم يسمع غطريف اليمن ... يا صاحب الخطة أعيت من ومن
ففتح سطيح عينيه، وقال: عبد المسيح على جمل مشيح، وافى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعاباً، تقود خيلا عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس. يا عبد المسيح، إذا ظهرت التلاوة وبعث صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، لم تكن بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح شاماً، وسيملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرافات، وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه. فاستوى عبد المسيح على راحلته، وعاد إلى كسرى فأخبره بمقالة سطيح. فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشرة، تكون أمور. فملك منهم عشرة في مدة أربع سنين، وملك الباقون إلى أواخر خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه. انتهى.

وبابل هي بابل العراق، وسميت ببابل لتبلبل الألسن بها، عند سقوط صرح نمرود، أي تفرقها. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: بابل أرض الكوفة، وقيل: جبل دنباوند. وكسرى أول ميت اقتص من قاتله، كما قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الأذكياء، وذلك أن كسرى قال له منجموه: إنك تقتل. فقال: والله لأقتلن قاتلي. فعمد إلى سم ناقع، فوضعه في حق، وكتب عليه: هذا دواء للباه مجرب صحيح، إذا استعمل منه وزن كذا وكذا انعظ، وجامع كذا وكذا مرة. فلما قتله ابنه، بادر ففتح خزائنه، فوجد ذلك الحق مختوماً، فقرأ ما كتب عليه، فقال: بهذا كان كسرى يقوى على مجامعة النساء! ففتحه واستعمل منه ما ذكر، فمات. فهو أول ميت اقتص من قاتله. وقد تقدم في باب الدال المهملة، في الدابة عن كامل بن الأثير، أن كسرى كان له ثلاثة آلاف امرأة وخمسون ألف دابة.
الشقحطب: كسفرجل، الكبش الذي له أربعة قرون، والجمع شقاحط وشقاطب.
الشقذان: الحرباء، قاله ابن سيده، والشقذان أيضاً الضب والورل والطحن وسام أبرص والدساسة واحدته شقذة.
الشقراق: بفتح الشين وكسرها. قاله في المحكم، وابن قتيبة في أدب الكاتب. قال البطليوسي، في الشرح: الكسر في شين الشقراق أقيس، لأن فعلان، بكسر الفاء، موجود في أبنية الأسماء نحو طرماح وشنقار، وفعلان بفتح الفاء، مفقود فيها. قال: وبكسر الشين قرأناه في الغريب للمصنف، وهكذا حكاه الخليل وذكر أن فيه ثلاث لغات: شقراق بكسر الشين وإسكان القاف، وشقراق بفتح الشين وإسكان القاف، وشقراق بضم الشين وإسكان القاف. وربما قالوا شرقراق انتهى.
وهو طائر صغير يسمى الأخيل، وهو أخضر مليح، بقدر الحمامة، وخضرته حسنة مشبعة، وفي أجنحته سواد، والعرب تتشاءم به. وله مشتى ومصيف، وهو كثير ببلاد الروم والشام وخراسان ونواحيها، ويكون مخططاً بحمرة وخضرة وسواد، وفي طبعه شره وشراسة وسرقة فراخ غيره. وهو لا يزال متباعداً من الإنس، ويألف الروابي ورؤوس الجبال، لكنه يحضن بيضه في العمران العوالي، التي لا تنالها الأيدي. وعشه شديد النتن، وقال شارح الغنية والجاحظ: إنه نوع من الغربان، وفي طبعه العفة عن السفاد، وهو كثير الاستغاثة، إذا ضاربه طائر ضربه وصاح كأنه المضروب.
الحكم: جزم الروياني والبغوي بتحريم أكله لاستخباثه، ونقله الرافعي عن الصيمري. وممن قال بالتحريم: العجلي، شارح غنية ابن سريج، وجزم بتحريمه وتحريم العقعق الماوردي، في الحاوي، وعلل بأنهما مستخبثان عند العرب، وهو قول الأكثرين، وقال بعض الأصحاب بحله.
الأمثال: قالوا: أشأم من الأخيل وهو الشقراق.
الخواص: إذا كان الذهب ناقص العيار، يذاب ويفرغ عليه من مرارته، فإنه يحمر ويزداد عياره، كما لو أفرغ عليه من مرارة الثعلب فإنه ينقص عياره، وإذا اتخذ من مرارته خضاب سود الشعر. ولحمه حار ظاهر الحرارة وفيه زهومة قوية، إلا أنه يحلل الرياح الغليظة التي تكون في الأمعاء.
التعبير: هو في الرؤيا امرأة حسناء ذات جمال والله أعلم.
الشمسية: قال أبو حيان التوحيدي: إنها حية حمراء براقة، إذا كبرت وأصابها وجع العين وعميت، التمست حائطاً يقابل الشرق، فإذا طلعت الشمس أحدت إليها بصرها قدر ساعة، فإذا دخل شعاع الشمس عينها، كشط عنها العمى والإظلام ولا تزال كذلك سبعة أيام حتى تجد بصرها تاماً، وغيرها منه الحيات إذا عمي أيضاً طلب شجر الرازيانج الأخضر فيكتحل به فيبرأ كما تقدم.
الشنقب: كقنفذ ضرب من الطير معروف.
شه: قال ابن سيده: هو طائر يشبه الشاهين، يأخذ الحمام وليس هو، ولفظه أعجمي.
الشهام: السعلاة، قاله الجوهري وغيره. وقد تقدم لفظ السعلاة في باب السين المهملة. الشهرمان: نوع من طير الماء قصير الرجلين أبلق اللون أصغر من اللقلق، وفي بعض كتب الغريب، أنه نوع من الطير.
الشوحة: قال ابن الصلاح، في الفتاوي: إنها الحدأة، وقد تقدم ذكرها في باب الحاء المهملة.
الشوف: القنفذ، وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب القاف.
الشوشب: القمل والعقرب والنمل وسيأتي ذكر كل واحد منها في بابه.
الشوط: ضرب من السمك وليس هو الشبوط. قاله الجوهري.
شوط براح: هو ابن آوى، قاله الجوهري، قال: ويقال للهباء، الذي يرى في ضوء الكوة: شوط باطل.

الشول: النوق التي جف لبنها، وارتفع ضرعها، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، الواحدة شائلة، وهو جمع على غير قياس. تقول منه: تشولت الناقة بالتشديد، أي صارت شائلة. وفي المثل: لا يجتمع فحلان في شول وتمثل به عبد الملك بن مروان عند قتله عمرو بن سعيد الأشلق ، والمعنى ينظر إلى قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " . وهناك ذكره الزمخشري في الكشاف. وسيأتي، إن شاء الله تعالى للشول ذكر في باب الفاء عند ذكر الفحل.
شولة: من أسماء العقرب سميت بذلك لما تشوله من ذنبها، وهي شوكتها وسيأتي لفظها، وما فيه إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة.
الشيخ اليهودي: قال أبو حامد والقزويني، في عجائب المخلوقات: إنه حيوان وجهه كوجه الإنسان، وله لحية بيضاء وبدنه كبدن الضفدع، وشعره كشعر البقر وهو في حجم العجل، يخرج من البحر ليلة السبت فيستمر حتى تغيب الشمس ليلة الأحد، فيثب كما يثب الضفدع، ويدخل الماء فلا تلحقه السفن.
الحكم: هو داخل في عموم السمك كما تقدم.
الخواص: ذكروا أن جلده إذا وضع على النقرس أزال وجعه في الحال.
الشيذمان: بفتح الشين وضم الذال المعجمة، الذئب، وقد تقدم في باب الذال المعجمة.
الشيصبان: ذكر النمل.
الشيع: كالبيع، ولد الأسد، وقد تقدم في باب الهمزة.
الشيم: ضرب من السمك قال الشاعر:
قل لطغام الأزد لا تبطروا ... بالشيم والجريث والكعند
الشيهم: كالضيغم، ذكر القنافذ قال الأعشى:
لئن جد أسباب العداوة بيننا ... لترتحلن مني على ظهر شيهم
قال الأصمعي: الشهام السعلاة.
فائدة: قال أبو ذؤيب الهذلي الشاعر: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فاستشعرت حزناً وبت بأطول ليلة، لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها، فبت أقاسي طولها، حتى إذا كان وقت السحر أغفيت فهتف بي هاتف وهو يقول:
خطب أجل ناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالأسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من منامي فزعاً فنظرت إلى السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فأولته ذبحاً يقع في العرب، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض أو هو ميت من علته. فركبت ناقتي وسرت فلما أصبحت طلبت شيئاً أزجر به، فعرض لي شيهم قد قبض على صل، يعني حية، فهي تلتوي عليه، والشيهم يقضمها حتى أكلها، فزجرت ذلك وقلت: شيهم شيء هم والتواء الصل تلوي الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أولت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أولت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمر، فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالغابة، زجرت الطائر، فأخبرني بوفاته صلى الله عليه وسلم ونعب غراب سانح، فنطق بمثل ذلك فتعوذت بالله من شر ما عن لي في طريقي.
فقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: ما الخبر؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت إلى المسجد، فوجدته خالياً فأتيت بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت بابه مرتجاً أي مغلقاً، وقيل هو مسجى وقد خلا به أهله، فقلت: أين الناس؟ فقيل: في سقيفة بني ساعدة صاروا إلى الأنصار. فجئت إلى السقيفة فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وجماعة من قريش، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، وفيهم شعراؤهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك فأويت إلى قريش، وتكلمت الأنصار فأطالوا الخطاب وأطالوا الجواب. وتكلم أبو بكر، فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخطاب، والله لقد تكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه. ثم تكلم عمر رضي الله تعالى عنه بدون كلامه، ثم قال لأبي بكر: مد يدك أبايعك! فمد يده فبايعه، وبايعه الناس، ورجع أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ورجعت معه. قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت دفنه.
أبو شبقونة: بضم الشين وسكون الباء الموحدة وضم القاف وبعدها نون، قال في المرصع: إنه طائر يكون مع الحمر والنعم يأكل الذباب والله أعلم.

باب الصاد المهملة

الصؤابة: بالهمزة، بيضة القملة والجمع صؤاب وصئبان، والعامة تخففه فتقول صيبان، والصواب الهمز. قال ابن السكيت: يقال: في رأسه صؤابة، والجمع صئبان بالهمز وقد صيب رأسه بالياء المثناة، تحت المخففة، وقال الجاحظ: قال اياس بن معاوية: الصيبان ذكور القمل، وهو من الشيء الذي يكون ذكوره أصغر من إناثه، كالزراريق والبزاة فالبزاة هي الإناث والزراريق الذكور وليس فيه ذكر شيء من الصؤاب انتهى.
وروى خيثمة بن سليمان، في مسنده، في آخر الجزء الخامس عشر، عن جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار " قيل: يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته. قال صلى الله عليه وسلم: " أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون " .
الحكم: قال الشافعي: حكم الصئبان حكم القمل للمحرم، إذا قتل منه شيئاً يستحب أن يتصدق ولو بلقمة، وجزم في الروضة بأنه بيض القمل كما قاله الجوهري وغيره وقد تقدم في السلحفاة البحرية، أن التسريح بمشط الذبل يذهب الصئبان لخاصية فيه.
الأمثال: قالوا: يعد في مثل الصؤاب وفي عينيه مثل الجرة قال الميداني: يضرب لمن يلومك في قليل ما كثر فيه من العيوب وأنشد الرياشي:
ألا أنها ذا اللائمي في خليقتي ... هل النفس فيما كان منك تلوم
فكيف ترى في عين صاحبك القذى ... وتنسى قذى عينيك وهو عظيم
الصارخ: الديك، روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، عن مسروق، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: كان يحب الدائم. قال: قلت: أي حين كان صلى الله عليه وسلم يصلي؟ قالت: " كان إذا سمع الصارخ قام يصلي " . قال النووي: الصارخ هنا الديك، باتفاق العلماء، وسمي بذلك، لكثرة صياحه في الليل. قال أبو حامد، في الإحياء: وهذا الوقت يكون سدس الليل فما دونه.
الصافر: ويقال أيضاً: الصفارية طائر معروف من أنواع العصافير، ومن شأنه أنه إذا أقبل الليل، يأخذ بغصن شجرة ويضم عليه رجليه، وينكس رأسه، ثم لا يزال يصيح حتى يطلع الفجر، ويظهر النور. قال القزويني: إنما يصيح خوفاً من السماء أن تقع عليه. وقال غيره: الصافر التنوط الذي تقدم في باب التاء المثناة فوق، وأنه إن كان له وكر جعله كالخريطة، وإن لم يكن له وكر، شرع يتعلق بالأغصان كما ذكرنا.
وحكمه: حل الأكل لأنه من أنواع العصافير.
الأمثال: قالوا: أجبن وأحير من صافر. وأما قولهم: ما في الدار صافر، فقال أبو عبيدة والأصمعي: معناه مفعول به، كما قيل: ماء دافق، وسر كاتم، أي مدفوق ومكتوم. وقال غيرهما: ما بها أحد يصفر.
التعبير: الصافر تدل رؤيته على الحيرة والاختفاء والركون إلى ذوي الأقدار، خوف العدو، لأنه يقال في المثل: أحير من صافر، كما تقدم.
الصدف: من حيوانات البحر، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا أمطرت السماء فتحت الصدف أفواهها، وهو غلاف اللؤلؤ، الواحدة صدفة. والصوادف الإبل التي تأتي والإبل على الحوض، فتقف عند أعجازها تنتظر انصراف الشاربة، لتدخل هي. ومنه قول الراجز:
الناظرات العقب الصوادف
ومن خواص اللؤلؤ، أنه يذهب الخفقان ويزيل داء المرة السوداء، ويصفي دم القلب والكبد، ويجلو البصر، ولهذا يجعل في الأكحال. وإذا حل حتى يصير ماء رجراجاً وطلي به البهق أذهبه من أول طلية لا غير.
وأما رؤيته في المنام، فهو على وجوه كثيرة: فإنه يدل على غلمان وجوار وولدان، ومال وكلام حسن، فمن رأى أنه يثقب لؤلؤاً ثقباً مستوياً، فإنه يفسر القرآن صواباً، ومن رأى اللؤلؤ بيده

منثوراً، فإنه يبشر بغلام، إن كان له امرأة حامل، فإن لم يكن له حامل، فإنه يملك غلاماً لقوله تعالى: " ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون " . ومن رأى أنه يقلع لؤلؤاً ويبيعه، فإنه ينسى القرآن، فإن باعه من غير قلع، فإنه يثبت عملا في الناس. ومن رأى أنه ينثر لؤلؤاً فيلقطه الناس، فإنه يعظ الناس وينفعهم وعظه، ومن رأى بيده لؤلؤة يبشر بولد ذكر، فإن لم يكن له حامل، اشترى جارية، وإن كان أعزب، تزوج. ومن رأى أنه استخرج من بحر لؤلؤاً كثيراً، يكال ويوزن بالقبان، فإنه ينال مالا كثيراً من رجل ينسب إلى البحر. وقال جاماسب: من رأى أنه يعد لؤلؤاً نال مشقة، ومر أعطي اللؤلؤ نال رياسة، ومن رأى اللؤلؤ فإنه ينال سروراً. والعقد من اللؤلؤ يدل على امرأة ذات حسن وجمال وقد يكون العقد من اللؤلؤ عقد نكاح.
الخواص: قال القزويني: الصدف ينفع وجع النقرس والمفاصل ضماداً، وإذا سحق بالخل قطع الرعاف، ولحمه ينفع من عضة الكلب، ومحرقه يجلو الأسنان استياكاً. وفي الأكحال ينفع من قروح العين، وإذا طلي به موضع الشعر الزائد في الجفن، بعد نتفه، منع نباته. وينفع من حرق النار وإذا شد منه قطعة صافية على صبي، نبتت أسنانه بلا وجع.
وقال غيره: الصدف الذي يتدور في جوفه حيوان وله غطاء على رأسه، يشبه الحجر، إذا سحق وذر على وجه النائم ثبت ولم يتحرك زماناً طويلا، وهو أسلم من البنج، ومما يحبس الرعاف أن يؤخذ الصدف، ويسحق مع جاوشير، ويعمل منه ضماد ويجعل على الأنف.
وأما رؤيته في المنام فمن رأى بيده صدفاً فإنه يصدف عن شيء عزم عليه ويبطله خيراً كان أو شراً.
الصدى: طائر معروف، تقول العرب إنه يخلق من رأس المقتول، يصيح في هامة المقتول، إذا لم يؤخذ بثأره، يقول: اسقوني اسقوني حتى يقتل قاتله، ولذلك قيل له: صاد والصادي العطشان، والصدى ذكر البوم والجمع أصداء، ويقال له: ابن الجبل، وابن طود، وبنات رضوى. وقال العديس العبدي: الصدى الطائر الذي يصر بالليل ويقفز قفزاً، ويطفر والناس يرونه، الجندب، وإنما هو الصدى فأما الجندب فإنه أصغر من الصدى، والصدى صوت يرجع من الصوت إذا خرج ووجد ما يحبسه. وقد تقدم في بابي الباء الموحدة والزاي قول صاحب ليلى الأخيلية:
ولو أن ليلى خيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
والصدى هو الصوت الذي يحيبك من الجبال وغيرها. ولأبي المحاسن بن الشواء في شخص لا يكتم السر وقد أجاد فيه:
لي صديق غدا وإن كان لا ين ... طق إلا بغيبة أو محال
أشبه الناس بالصدى إن تحدث ... ه حديثاً أعاده في الحال
يقال: صم صداه وأصم الله صداه أي أهلكه الله لأن الرجل إذا مات لم يسمع الصدى منه شيئاً، فيجيبه. ومنه قول الحجاج لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: إياك أعني أصم الله صداك. روي عن علي بن زيد جدعان، أن أنساً رضي الله تعالى عنه، دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي الجائر المبير، فقال له الحجاج: إيه يا خبيث شيخاً جوالا في الفتن، مع أبي تراب مرة، ومع ابن الزبير أخرى، ومع ابن الأشعث مرة، ومع ابن الجارود أخرى، أما والله لأجردنك جرد الضب، ولأقلعنك قلع الصمغة، ولأعصبنك عصب السلمة، العجب من هؤلاء الأشرار، أهل البخل والنفاق. فقال أنس رضي الله تعالى عنه: من يعني الأمير؟ فقال: إياك أعني، أصم الله صداك.

قال علي بن زيد: فلما خرج أنس من عنده قال: أما والله لولا ولدي لأجبته. ثم كتب إلى عبد الملك بن مروان بما كان من الحجاج إليه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً، وأرسله مع إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، مولى بني مخزوم، فقدم على الحجاج وبدأ بأنس فقال له: إن أمير المؤمنين قد أكبر ما كان من الحجاج إليك، وأعظم ذلك، وأنا لك ناصح إن الحجاج لا يعدله عند أمير المؤمنين أحد، وقد كتب إليه أن يأتيك، وأنا أرى أن تأتيه فيعتذر إليك فتخرج من عنده وهو لك معظم، وبحقك عارف. ثم أتى الحجاج، فأعطاه كتاب عبد الملك، فقرأه فتمعر وجهه، وأقبل يمسح العرق عن وجهه ويقول: غفر الله لأمير المؤمنين، ما كنت أراه يبلغ مني هذا! قال إسماعيل: ثم رمى بالكتاب إلي وهو يظن أني قرأته، ثم قال: اذهب بنا إليه، يعني أنساً، فقلت: لا بل يأتيك أصلحك الله! فأتيت أنساً رضي الله تعالى عنه، فقلت: اذهب بنا إلى الحجاج، فأتاه فرحب به، وقال: عجلت باللائمة يا أبا حمزة، إن الذي كان مني إليك، كان عن غير حقد، ولكن أهل العراق لا يحبون أن يكون لله عليهم سلطان، يقيم حجته، ومع هذا، فأنا أردت أن يعلم منافقو أهل العراق وفساقهم، إني متى أقدمت عليك، فهم علي أهون وأنا إليهم أسرع، ولك عندنا العتبى حتى ترضى.
فقال أنس: ما عجلت باللائمة حتى تناولت مني العامة دون الخاصة، وحتى شمت بنا الأضرار وقد سمانا الله الأنصار، وزعمت أنا أهل بخل، ونحن المؤثرون على أنفسهم، وزعمت أنا أهل نفاق ونحن الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبل، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة لأهل العراق، باستحلالك مني ما حرم الله عليك، وبيننا وبينك الله حكم هو أرضى للرضا، وأسخط للسخط، إليه جزاء العباد، وثواب أعمالهم، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فوالله إن النصارى على شركهم وكفرهم، لو رأوا رجلا قد خدم عيسى عليه السلام يوماً واحداً، لأكرموه وعظموه! فكيف لم تحفظ لي خدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين! فإن يكن منك إحسان شكرنا ذلك منك، وإن يكن غير ذلك صبرنا إلى أن يأتي الله بالفرج.
قال: وكان كتاب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد فإنك عبد طمت بك الأمور، حتى عدوت طورك، وأيم الله يا ابن المستنثرة بعجم الزبيب، لقد هممت أن أضغمك ضغمة كضغمات الليوث للثعالب، وأخبطك خبطة تود أنك زاحمت مخرجك من بطن أمك، قد بلغني ما كان منك إلى أنس بن مالك، وأظنك أردت أن تختبر أمير المؤمنين، فإن كان عنده غيرة وإلا أمضيت قدماً، فلعنة الله عليك وعلى آبائك، أخفش العينين، ممسوح الحاجبين، أحمش الساقين، نسيت مكان آبائك بالطائف، وما كانوا عليه من الدناءة واللؤم، إذ يحفرون الآبار في المناهل بأيديهم، وينقلون الحجارة على ظهورهم. فإذا أتاك كتابي هذا وقرأته، فلا تلقه من يدك حتى تلقى أنساً بمنزله، واعتذر إليه، وإلا بعث إليك أمير المؤمنين، من يسحبك ظهراً لبطن، حتى يأتي بك أنساً، فيحكم فيك ولن يخفى على أمير المؤمنين نبأك، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون. فلا تخالف كتاب أمير المؤمنين، وأكرم أنساً وولده، وإلا بعثت إليك من يهتك سترك، ولشمت بك عدوك والسلام.
توفي أنس رضي الله تعالى عنه سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وتسعين بالبصرة، وهو آخر الصحابة موتاً بها رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
الصراخ: ككتان: الطاوس، وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الطاء المهملة.
صرار الليل: الجدجد وقد تقدم لفظه، في باب الجيم، وهو أكبر من الجندب، وبعض العرب يسميه الصدى.
الصراح: كرمان، طائر معروف عند العرب يؤكل.
الصرد: كرطب، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو مهمل الحروف، على وزن جعل، وكنيته أبو كثير وهو طائر، فوق العصفور يصيد العصافير، والجمع صردان، قاله النضر بن شميل، وهو أبقع ضخم الرأس، يكون في الشجرة. نصفه أبيض ونصفه أسود، ضخم المنقار، له برثن عظيم، يعني أصابعه عظيمة لا يرى إلا في سعفة أو شجرة، لا يقدر عليه أحد، وهو شرس النفس شديد النفرة، غذاؤه من اللحم وله صفير مختلف، يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته، فيدعوه إلى التقرب منه، فإذا اجتمعوا إليه، شد على بعضهم وله منقار شديد، فإذا نقر واحداً قده من ساعته، وأكله، ولا يزال هذا دأبه. ومأواه الأشجار ورؤوس القلاع، وأعالي الحصون.

فائدة: نقل الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي، في المدهش، في قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه، الآية، عن ابن عباس والضحاك، ومقاتل رضي الله عنهم، قالوا: إن موسى صلى الله عليه وسلم، لما أحكم التوراة وعلم ما فيها، قال في نفسه: لم يبق في الأرض أحد أعلم مني، من غير أن يتكلم مع أحد، فرأى في منامه كأن الله تعالى أرسل السماء بالماء، حتى غرق ما بين المشرق والمغرب، فرأى قناة على البحر، فيها صردة، فكانت الصردة تجيء للماء الذي غرق الأرض، فتنقل الماء بمنقارها، ثم تدفعه في البحر، فلما استيقظ الكليم هاله ذلك، فجاءه جبربل، فقال: ما لي أراك يا موسى كئيباً! فأخبره بالرؤيا، فقال: إنك زعمت أنك استغرقت العلم كله، فلم يبق في الأرض من هو أعلم منك، وإن لله تعالى عبداً علمك في علمه، كالماء الذي حملته الصردة بمنقارها، فدفعته في البحر. فقال: يا جبريل من هذا العبد؟ قال: الخضر بن عاميل من ولد الطيب، يعني إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فقال: من أين أطلبه. قال: اطلبه من وراء هذا البحر. فقال: من يدلني عليه؟ قال. بعض زادك. قالوا: فمن حرصه على لقياه لم يستخلف على قومه، ومضى لوجهه، وقال لفتاه يوشع بن نون: هل أنت موازري؟ قال: نعم. قال: اذهب فاحمل لنا زاداً، فانطلق يوشع، فاحتمل أرغفة وسمكة مالحة عميقة، ثم سارا في البحر، حتى خاضا وحلا وطيناً، ولقيا تعباً ونصباً، حتى انتهيا إلى صخرة ناتئة في البحر، خلف بحر أرمينية، يقال لتلك الصخرة قلعة الحرس، فأتياها فانطلق موسى ليتوضأ، فاقتحم مكاناً، فوجد عيناً من عيون الجنة، في البحر، فتوضأ منها وانصرف، ولحيته تقطر ماء.
وكان عليه الصلاة والسلام حسن اللحية، ولم يكن أحد أحسن لحية منه، فنفض موسى لحيته، فوقعت قطرة منها على تلك السمكة المالحة، وماء الجنة لا يصيب شيئاً ميتاً إلا عاش، فعاشت السمكة ووثبت في البحر، فسارت وصار مجراها في البحر سرباً يبساً، ونسي يوشع ذكر السمكة، فلما جاوزا، قال موسى لفتاه " آتنا غداءنا " الآية فذكر له أمر السمكة، فقال له: ذلك الذي نريده فرجعا يقصان أثرهما، فأوحى الله تعالى إلى الماء فجمد، وصار سرباً على قامة موسى وفتاه، فجرى الحوت أمامهما حتى خرج إلى البر وسار، فسار مسيره لهما جادة، فسلكاها فناداهما مناد من السماء، أن دعا الجادة فإنها طريق الشياطين إلى عرش إبليس، وخذا ذات اليمين، فأخذا ذات اليمين حتى انتهيا إلى صخرة عظيمة، وعندها مصلى، فقال موسى عليه السلام: ما أحسن هذا المكان! ينبغي أن يكون للعبد الصالح، فلم يلبثا أن جاء الخضر عليه السلام، حتى انتهى إلى ذلك المكان والبقعة، فلما قام عليها اهتزت خضراء، قالوا: وإنما سمي الخضر، لأنه لا يقوم على بقعة بيضاء إلا صارت خضراء. فقال موسى عليه الصلاة والسلام: السلام عليك يا خضر. فقال: وعليك السلام يا موسى، يا نبي بني إسرائيل. فقال: ومن أدراك من أنا؟ قال: أدراني الذي دلك على مكاني، فكان من أمرهما ما كان، وما قصه القرآن العظيم انتهى.
وقد تقدم ذكرهما أيضاً في باب الحاء المهملة في الحوت، ونقلنا الخلاف في اسم الخضر ونسبه ونبوته، قال القرطبي: ويقال له الصرد الصوام.
روينا في معجم عبد الغني بن قانع، عن أبي غليظ أمية بن خلف الجمحي، قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى يدي صرد، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا أول طير صام، ويروى أنه أول طير صام يوم عاشوراء. وكذلك أخرجه الحافظ أبو موسى. والحديث مثل اسمه غليظ، قال الحاكم: وهو من الأحاديث التي وضعها قتلة الحسين رضي الله عنه، رواه عبد الله بن معاوية بن موسى عن أبي غليظ قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يدي صرد، فقال: هذا أول طائر صام عاشوراء. وهو حديث باطل رواته مجهولون.

فائدة: قيل: لما خرج إبراهيم صلى الله عليه وسلم من الشام، لبناء البيت، كانت السكينة معه والصرد، فكان الصرد دليله على الموضع، والسكينة بمقداره، فلما صار إلى موضع البيت، وقفت السكينة في موضع البيت، ونادت ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي. قال جماعة من المفسرين: إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل خلق الأرض بالذي عام فكان زبدة بيضاء على الماء، فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض، استوحش، فشكا إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى له البيت المعمور، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة، له بابان من زبرجد أخضر، باب شرقي وباب غرب، فوضع على موضع البيت، وقال: يا آدم إني أهبطت إليك بيتاً تطوف به، كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي، وأنزل الحجر الأسود، وكان بياضه أشد من اللبن، فاسود من لمس الحيض في الجاهلية، فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً، وقيض الله له ملكاً يدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقه الملائكة وقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
وروي أن آدم عليه السلام حج أربعين حجة من الهند إلى مكة ماشياً وكان البيت على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله إلى السماء الرابعة، وبعث جبريل عليه السلام فخبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل عليه الصلاة والسلام ببناء بيت يذكر فيه، فسأل الله أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت، وهي ريح خجوج لها رأسان، شبه الحية، وقيل: الخجوج الريح الشديدة الهفافة البراقة، لها رأس كرأس الهرة وذنب كذنبها، ولها جناحان من در وزبرجد، وعينان لها شعاع، وقال علي رضي الله عنه: هي ريح خجوج هفافة لها رأسان، ووجه كوجه الإنسان، أمر إبراهيم عليه السلام أن يبني حيث تستقر السكينة، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوقت السكينة على موضع البيت، كتطوق الحية قاله علي والحسن رضي الله عنهما، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث الله سحابة على قد الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم عليه السلام يمشي في ظلها، إلى أن وافت به مكة المشرفة، ووقفت عند البيت المعظم، فنودي منها إبراهيم عليه السلام: ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص. وقيل: أرسل الله جبريل عليه السلام فدله على موضع البيت، وقيل كان دليله الصرد، كما تقدم. فكان إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، فبناه من خمسة أجبل: طور سينا وطور زيتا ولبنان، وهي جبال بالشام، والجودي، وهو جبل بالجزيرة، وبنيا القواعد من حراء، وهو جبل بمكة، فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود، قال لابنه إسماعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً، فأتاه بحجر، فقال: ائتني بأحسن من هذا، فمضى إسماعيل ينظر حجراً، فصاح أبو قبيس: يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه. وقيل: أول من بنى الكعبة آدم عليه السلام واندرس زمن الطوفان، ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه فذلك قوله تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " يعني أسسه واحدتها قاعدة وقال الكسائي: يعني جدره.
الحكم: الأصح تحريم أكله، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه عبد الحق، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن قتل النحلة والنملة والهدهد والصرد " والنهي عن القتل دليل على الحرمة، ولأن العرب تتشاءم بصوته وشخصه. وقيل: إنه يؤكل لأن الشافعي أوجب فيه الجزاء على المحرم، إذا قتله وبه قال مالك. قال الإمام العلامة القاضي أبو بكر بن العربي : إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، لأن العرب كانت تتشاءم به، فنهى عن قتله ليخلع عن قلوبهم ما ثبت فيها من اعتقادهم الشؤم فيه، لا إنه حرام. وذكره العبادني، في الطبقات أيضاً.
عجيبة: حكى منصور بن الحسين الآبي، في نثر الدرر، أن أعرابياً سافر ابنه ثم أتاه، فقال

له أبوه: ما رأيت في طريقك؟ قال: جئت السقاء مرة أشرب، فصاج الصرد فقال: اتركها وإلا فلست بابني! قال: فتركتها. قال: ثم أخذني العطش فأتيت إليها ثانياً فصاح الصرد فقال: اتركها وإلا فلست بابني! قال: فتركتها، ثم زادني العطش فأتيت إليها ثالثاً فصاح الصرد فقال: قدها بسيفك وإلا فلست بابني! قال: كذلك فعلت. قال: هل رأيت الحية داخلها؟ قال: نعم قال: الله أكبر.
قال: وسافر ولد أعرابي ثم أتى إليه فقال: أخبرني ماذا رأيت في طريقك؟ قال: رأيت طائراً على أكمة. فقال الصرد: أطره وإلا لست أباك! قال: فأطرته، قال: ثم ماذا؟ قال: سقط على شجرة فقال: أطره وإلا لست أباك! قال: كذلك فعلت. قال: ثم ماذا؟ قال: سقط على صخرة قال: أقلبها وإلا لست أباك. قال: كذلك فعلت. قال: أعطني سهمي مما وجدت تحتها، وكان تحتها كنز أخذه ولده، فأعطاه سهمه منه.
التعبير: هو في المنام يحل على رجل مراء يظهر الخشوع نهاراً ويفجر ليلا. وقيل: هو من قطاع الطريق يجمع أموالا كثيرة ولا يخالط أحداً.
الصرصر: ويقال له الصرصار أيضاً، حيوان فيه شبه من الجراد، قفاز يصيح صياحاً رقيقاً، وأكثر صياحه بالليل ولذلك سمي صرار الليل، وهو نوع من بنات وردان عري عن الأجنحة. وقيل: إنه الجدجد وقد تقدم أن الجوهري فسر الجدجد بصرار الليل، ولا يعرف مكانه إلا بتتبع صوته، وأمكنته المواضع الندية، وألوانه مختلفة فمنه ما هو أسود، ومنه ما هو أزرق ومنه ما هو أحمر، وهو جندب الصحارى والفلوات.
وحكمه: تحريم الأكل لاستقذاره.
الخواص: قال ابن سينا: إنه مع القردمانة نافع من البواسير والنافض، وسموم الهوام ويحرق ويسحق ويضاف إلى الأثمد ويكتحل به، يحد البصر. ومع مرارة البقر ينفع من طرفة العين اكتحالاً.
الصرصران: سمك أملس معروف.
الصعب: طائر صغير والجمع صعاب.
الصعوة: طائر من صغار العصافير، أحمر الرأس وهو بفتح الصاد وإسكان العين المهملتين والجمع صعو. وفي كتاب العين والمحكم صغار العصافير. روى أحمد، في كتاب الزهد، عن مالك بن دينار، أنه كان يقول: الناس أشكال كأجناس الطير الحمام مع الحمام، والبط مع البط والصعو مع الصعو والغراب مع الغراب وكل إنسان مع شكله. ومن شعر القاضي أحمد بن الأرجاني بفتح الهمزة وكسر الراء المهملة مع خلاف في تشديدها، وهو شيخ العماد الأصبهاني الكاتب ووفاته في سنة أربع وأربعين وخمسمائة:
لو كنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم
كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يتكلم
ومن شعره أيضاً وأجاد :
أحب المرء ظاهره جميل ... لصاحبه وباطنه سليم
مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم
وهذا البيت الأخير يقرأ معكوساً من آخره إلى أوله ولا يتغير شيء من لفظه ولا من معناه. ومن شعره أيضاً رحمه الله:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تلقى كفاحاً من دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة
ومن شعره أيضاً :
يأبى العذار المستدير بخده ... وكمال بهجة وجهه المنعوت
فكأنما هو صولجان زمرد ... متلقف كرة من الياقوت
ويقرب من هذا المعنى، ما حكاه ابن خلكان قال: كان بين العماد الكاتب، تلميذ القاضي الأرجاني وبين القاضي الفاضل محاورات، فمن فلك أنه لقيه يوماً وهو راكب فرساً، فقال له العماد: سر فلا كبابك الفرس! فقال له الفاضل: دام علا العلا. وهذا أيضاً مما يقرأ من آخره إلى أوله، ولا يتغير شيء من لفظه ولا معناه، وروي أنهما اجتمعا يوماً في موكب السلطان، وقد انتشر من الغبار ما سد الفضاء فأنشد العماد الكاتب:
أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك
والجو منه مظلم ... لكن أنار به السنابك
يا دهر لي عبد الرحي ... م فلست أخشى مس نابك
وهذا التجنيس في غاية الحسن. توفي العماد في مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخسمائة و بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية. وتوفي الفاضل في سابع شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وخمسمائة بالقاهرة، ودفن بتربة بسفح المقطم.
وحكمها وخواصها وتعبيرها كالعصافير.

الأمثال: قالوا: أضعف من صعوة كما قالوا: أضعف من وصعة.
الصفارية: بضم الصاد وتشديد الفاء، طائر يقال له التبشير، وقد تقدم ذكره في باب التاء المثناة فوق.
الصفر: بفتح الصاد والفاء، قيل: إن الجاهلية، كانت تعتقد، أن في الجوف حية على شراسيفه، والشراسيف أطراف الأضلاع التي تشرف على البطن، يقال لها الصفر، إذا تحركت جاع الإنسان وتؤذيه إذا جاع، وأنها تعدي، فأبطل الإسلام ذلك. روى مسلم عن جابر وأبي هريرة وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا غول " . ومعنى لا عدوى ما يتوهم من تعدي مرض من جرب وحكة وغيرهما من الأمراض، من شخص به ذلك المرض إلى شخص آخر، بسبب مخالطة وغيرها. وفي الحديث الصحيح أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت لا عدوى فما بال الإبل تكون سليمة، حتى يدخل فيها البعير الأجرب فتصبح جربى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فمن أعدى الأول " فرد عليه الصلاة والسلام ما توهمه من تعدي المرض بنفسه.
وأعلمه أن الله تعالى هو المؤثر. وقد تقدم في باب الهمزة، في الأسد، في الكلام على المجذوم قريب من هذا.
ومعنى الطيرة يأتي إن شاء الله تعالى في باب الطاء المهملة المشالة.
وأما الصفر ففيه تأويلان: أحدهما المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، والثاني أنه الحية التي كانت العرب تعتقد فيها ما تقدم. قال الإمام النووي: وهذا التفسير هو الصحيح الذي عليه عامة العلماء وقد ذكره مسلم عن جابر رضي الله عنه راوي الحديث فتعين اعتماده، ويجوز أن يكون المراد هذا والأول جميعاً وأن الصفرين جميعاً باطلان لا أصل لهما والله أعلم.
الصفرد: بكسر أوله وسكون ثانيه كعربد نقل الميداني عن أبي عبيدة أنه طائر من خساس الطير وفي المثل أجبن من صفرد قال الشاعر:
تراه كالليث لدى أمنه ... وفي الوغى أجبن من صفرد
وقال الجوهري: الصفرد طائر تسميه العامة أبا مليح، وفي المرصع أن أبا المليح كنية القبيح، والعندليب، وطائر صغير يقال له الصفرد كالعصفور، وهو داخل قي عموم العصافير.
الصقر: الطائر الذي يصاد به، قاله الجوهري، وقال ابن سيده: الصقر كل شيء يصيد من البزاة والشواهين، والجمع أصقر وصقور وصقورة وصقار وصقارة. قال سيبويه: إنما جاؤوا بالهاء في مثل هذا الجمع تأكيداً نحو بعولة، والأنثى صقرة والصقر هو الأجدل، ويقال له القطامي، وكنيته أبو شجاع وأبو الإصبع وأبو الحمراء وأبو عمرو وأبو عوان وأبو عوان. قال النووي، في شرح المهذب: قال أبو زيد الأنصاري المروزي: يقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور، واحدها صقر، والأنثى صقرة وزقر، بإبدال الصاد زاياً وسقر بإبدالها سيناً. وقال الصيدلاني، في شرح المختصر: كل كلمة فيها صاد وقاف ففيها اللغات الثلاث، كالبصاق والبزاق والبساق. وأنكر ابن السكيت بسق وقال: إنما معناه طال، قال الله تعالى: " والنخل باسقات " أي مرتفعات.
روى أحمد، في مسنده حدثنا قبيضة قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان دواد عليه السلام فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلق الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع. قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن! فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب فقال داود: أنت إذن والله ملك الموت، مرحباً بأمر الله، ثم مكث مكانه حتى قبضت روحه، فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلي على داود فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير: اقبضي جناحاً جناحاً.

قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض سول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية، انفرد بإخراجه الإمام أحمد وإسناده جيد ورجاله ثقات. ومعنى قوله وغلبت عليه يومئذ المضرحية، أي غلبت على التظليل عليه الصقور طوال الأجنحة. واحدها مضرحي. قال الجوهري: وهو الصقر الطويل الجناح. ويوضح هذا المعنى ويبينه ما روي عن وهب بن منبه، أنه قال: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام، جلسوا في الشمس، في يوم صائف، وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب، عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس، فآذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل لهم وقاية عليهم، لما أصابهم من الحر، فخرج سليمان فنادى الطير، فأجابت فأمرها أن تظل الناس فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه، حتى استمسكت الريح، فكاد الناس أن يهلكوا غماً، فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم، فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي عن ناحية الريح، ففعلت فكان الناس في ظل، وتهب عليهم الرياح فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان عليه السلام.
فائدة: قال الضحاك والكلبي: ملك داود عليه السلام بعد قتله جالوت سبعين سنة، ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود عليه السلام، وجمع الله لداود بين الملك والنبوة، يجتمع ذلك لأحد قبله، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط، فذلك قوله تعالى: " وآتاه الله الملك والحكمة " ، قيل: العلم مع العمل وكل من علم وعمل فقد أوتي الحكمة وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان داود أشد ملوك الأرض سلطاناً، كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، فذلك قوله تعالى: " وشددنا ملكه " وقال مقاتل: كان سليمان عليه السلام أعظم ملكاً من داود، وأقضى منه وكان شاكراً لأنعم الله تعالى، وكان داود أشد تعبداً منه.
توفي داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة، وكان عمر سليمان عليه السلام لما وصل إليه الملك ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
والصقر أحد أنواع الجوارح الأربعة: وهي الصقر والشاهين والعقاب والبازي، وتنعت أيضاً بالسباع والضواري والكواسر، والصقر ثلاثة أنواع: صقر وكونج ويؤيؤ، والعرب تسمى كل طائر يصيد صقراً، ما خلا النسر والعقاب، وتسميه الأكدر والأجدل والأخيل، وهو من والجوارح بمنزلة البغال من الدواب، لأنه أصبر على الشدة وأحمل لغليظ الغذاء والأذى وأحسن ألفاً سد إقداماً على جملة الطير من الكركي وغيره. ومزاجه أبرد من سائر ما تقدم ذكره من الجوارح رطب، وبهذا السبب يضري على الغزال والأرنب، ولا يضري على الطير، لأنها تفوته وهو أهدأ من البازي نفساً، وأسرع أنساً بالناس وأكثرها قنعاً، يغتذي بلحوم ذوات الأربع، ولبرد مزاجه لا يشرب ماء ولو أقام دهراً، ولذلك يوصف بالبخر ونتن الفم. ومن شأنه أنه لا يأوي إلى الأشجار ولا رؤوس الجبال، إنما يسكن المغارات والكهوف وصدوع الجبال.
وللصقر كفان في يديه، وللسبع كفان في يديه لأنه يكف بها عما أخذ، أي يمنع وأول من صاد به الحارث بن معاوية بن ثور، وذلك أنه وقف يوماً على صياد وقد نصب شبكة للعصافير، فانقض، صقر على عصفور وجعل يأكله، والحارث يعجب منه فأمر به فوضع في بيت ووكل به من يطعمه ويؤدبه ويعلمه الصيد، فبينما هو معه ذات يوم، وهو سائر إذ لاحت أرنب فطار الصقر إليها فأخذها، فازداد الحارث به إعجاباً، واتخذه العرب بعده.
الصنف الثاني من الصقور الكونج، ونسبته من الصقور، كنسبة الزرق إلى البازي، إلا أنه أحرمه ولذلك هو أخف منه جناحاً وأقل بخراً ويصيد أشياء من صيد المياه ويعجز عن الغزال الصغير.
الصنف الثالث من الصقور اليؤيؤ، ويسميه أهل مصر والشام الجلم، لخفة جناحيه وسرعتهما، ولأن الجلم هو الذي يجز به وهو المقص، وهو طائر صغير الذنب، ومزاجه بالنسبة إلى الباشق بارد رطب، لأنه أصبر منه نفساً، وأثقل حركة، ولا يشرب الماء إلا ضرورة، كما يشربه الباشق، إلا أنه أبخر منه، ومزاجه بالنسبة إلى الصقر، حار يابس، ولذلك هو أشجع منه. ويقال: إن أول من ضراه واصطاد به بهرام جور، وذلك أنه شاهد يؤيؤاً يطارد قنبرة ويراوعها ويرتفع وينخفض معها وما تركها إلى أن صادها فأعجبه وأمر به فأدب وصاد به وقال الناشئ في وصفه:

ويؤيؤ مهذب رشيق ... كأن عينيه لدى التحقيق
فصان مخروطان من عقيق
وقال أبو نواس في وصفه:
قد اغتمي والصبح في دجاه ... كطرة البدر لدى مثناه
بيؤيؤ يعجب من رآه ... ما في اليآيئ يؤيؤ سواه
أزرق لا تكذبه عيناه ... فلو يرى القانص ما يراه
فداه بالأم وقد فداه ... هو الذي خولناه الله
تبارك الله الذي هداه
فائدة أدبية: ذكر الإمام العلامة الطرطوشي، في سراج الملوك، عن الفضل بن مروان، قال: سألت رسول ملك الروم عن سيرة ملكهم فقال: بذل عرفه وجرد سيفه، فاجتمعت عليه القلوب رغبة ورهبة، سهل النوال حزن النكال، الرجاء والخوف معقودان في يده. قلت: كيف حكمه؟ قال: يرد المظالم ويردع الظالم، ويعطي كل ذي حق حقه، فالرعية اثنان: مغتبط وراض. قلت: فكيف هيبته فيهم؟ قال: تصورت في قلوبهم فتغضى له العيون، فنظر رسول ملك الحبشة إلى إصغائي إليه وإقبالي عليه، وكانت الرسل تنزل عندي، فقال لترجمانه: ما الذي يقول الرومي؟ قال: يصف لهم ملكهم، ويذكر سيرته. فكلم ترجمانه فقال لي الترجمان: إنه يقول إن ملكهم ذو أناة عند القدرة، وذو حلم عند الغضب، وذو سطوة عند المغالبة، وذو عقوبة عند الإجرام، قد كسا رعيته جميل نعمته، وفسرهم بعنيف عقوبته، فهم يتراءونه ترائي الهلال خيالا، ويخافونه مخافة الموت نكالا، قد وسعهم عدله، وراعهم قهره، لا تمتهنه مزحة، ولا توالسه غفلة، إذا أعطى أوسع، وإذا عاقب أوجع، فالناس اثنان راج وخائف، فلا الراجي خائب الأمل، ولا الخائف بعيد الأجل. قلت: فكيف كانت هيبتهم له؟ قال: لا ترفع العيون إليه أجفانها، ولا تتبعه الأبصار إنسانها، كأن رعيته طيور فرفرف عليهم صقور صوائد. قال الفضل: فحدثت المأمون بهذين الحديثين فقال: يا فضل كم قيمتها عندك؟ قلت: ألفاً درهم. قال: إن قيمتها عندي أكثر من الخلافة، أما علمت حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن أفتعرف أحداً من الخطباء والبلغاء، يحسن أن يصف أحداً من خلفاء الله الراشدين المهديين، بمثل هذه الصفة؟ قلت: لا. قال: أمرت لهما بعشرين ألف دينار معجلة واجعل العدة بيني وبينهما، على العود فلولا حقوق الإسلام وأهله، لرأيت إعطاءهما جميع ما في بيت المال دون ما استحقاه انتهى.
وكان الفضل بن مروان، قد أخذ البيعة للمعتصم ببغداد، والمعتصم بالروم مع المأمون، فاعتد المعتصم له بها يداً، واستوزره فغلب عليه، واستقل بالأمور، فكانت الخلافة للمعتصم اسماً وللفضل معنى. قيل: إن الفضل جلس يوماً لأشغال الناس، فرفعت إليه قصص العامة فرأى فيها رقعة مكتوباً فيها هذه الأبيات:
تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادتهم الأقياد والحبس والقتل
وإنك قد أصبحت في الناس ظالماً ... ستؤذى كما أوفي الثلاثة من قبل
أراد الفضل بن يحيى البرمكي، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل. وكان المعتصم يأمر بإعطاء المغني والنديم، فلا ينفذ الفضل ذلك، فحقد المعتصم عليه، لذلك ونكبه أهل بيته، وجعل مكانه محمد بن عبد الملك الزيات. وكان الفضل مذموم الأخلاق، فلما نكب شمت به الناس حتى قال فيه بعضهم:
لتبك على الفضل بن مروان نفسه ... فليس له باك من الناس يعرف
لقد صحب الدنيا منوعاً لخيرها ... وفارقها وهو الظلوم المعنف
إلى النار فليذهب ومن كان مثله ... على أي شيء فاتنا منه نأسف
ولما نكب المعتصم الفصل بن مروان قال: عمى الله في طاعتي، فسلطني عليه. وكان المعتصم قد أخذ ماله ولم يتعرض لنفسه. وقيل: إنه أخذ من داره ألف ألف دينار، وأثاثاً وآنية بألف ألف دينار، وحبسه خمسة أشهر وأطلقه. فخدم بعد ذلك جماعة من الخلفاء وتوفي سنة خمسين ومائتين. ومن كلامه: لا تتعرض لعدوك وهو مقبل، فإن إقباله يعينه عليك، ولا تتعرض له وهو مدبر فإن أدباره يكفيك أمره.
فائدة أخرى أدبية أيضاً قد تقدمت الإشارة إليها، في الرسالة التي كتبتها في الشاهين، قول أبي الحسن علي بن الرومي في قصيدته التي يقول فيها:

هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم
كأنه الشمس في البرج المنيف به ... على البرية لا نار على علم
مراده بالبرج قصره العالي لما شبهه بالشمس جعل قصره برجاً وأراد التمليح على الخنساء في قولها في أخيها صخر:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
قال شيخنا شمس الدين محمد بن العماد: وأبو الصقر لم أقف له على ترجمة ولا وفاة وأبوه ابن عم معن بن زائدة الشيباني، وكان من قواد أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، وتولى الأعمال الجليلة والولايات السنية، وتوفي قبل الثمانين ومائة. وكان يسكن البادية هو وولده أبو الصقر، وإليه الإشارة بقول ابن الرومي في البيت بين الضال والسلم وهما من شجر البادية. وتولى أبو الصقر بعض الولايات للواثق هارون بن المعتصم وولده المنتصر من بعده وعاش إلى خلافة المعتضد وولده المعتمد. وسكنى البادية مما يتمدح به العرب ومنه قوله:
الموقدين بنجد نار بادية ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر
ولم أر له أكثر من ذلك انتهى.
وتوفي أبو الحسن بن الرومي ببغداد في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وفيه خلاف. وكان سبب موته، على ما قاله ابن خلكان وغيره، أن القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد خاف من هجوه، فدس عليه أبو فراس فأطعمه خشكنانة مسمومة، فلما أحس بالسم قام، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال: سلم على والدي، فقال: ما طريقي على النار. فأقام أياماً ومات.
الحكم: يحرم أكل الصقر لعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير. قال الصيدلاني: اختلف في الجوارح ما هي؟ فقيل: ما يجرح الصيد بناب أو مخلب أو ظفر، وقيل: الجوارح الكواسب وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الجوارح الصوائد. وهذا راجع إلى معنى الكسب انتهى.
فجميع الجوارح عندنا محرمة، لعموم هذا النهي المتقدم ذكره قريباً، وذهب مالك إلى حلها، وقال: ما لا نص فيه حلال، حتى هدى بعض أصحابه ذلك إلى الكلب والأسد والنمر والدب والقرد وغير ذلك. وقال في الحمار الأهلي: إنه مكروه، وفي الفرس والبغل إنهما حرامان، احتجاجاً بقوله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً " الآية. وأجاب الشافعي عن ذلك فقال: يعني مما كنتم تأكلون إذ لا معنى لإباحة شيء مما لا يأكلونه ولا يستطيبونه كما لا يصح أن يحمل قوله تعالى: " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً " على ما هو حرام قبل، وإنما يصح على ما يعتاد صيده.

الأمثال: قالوا: أخلف من صقر، وهو من خلوف الفم بفتح الخاء المعجمة وهو تغيير رائحته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك " . ووقع نزاع بين الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، رحمهما الله تعالى، في أن هذا الطيب في الدنيا والآخرة معاً، أم في الآخرة خاصة؟ فقال الشيخ عز الدين: في الآخرة خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية لمسلم " والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة " . وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو عام في الدنيا والآخرة واستدل بأشياء كثيرة فذكرها، منها ما جاء في مسند ابن حبان بكسر الحاء المهملة، وهو من أصحابنا الفقهاء المحدثين، قال: باب في كون ذلك يوم القيامة، وباب في كونه في الدنيا، وروى في هذا الباب بإسناده الثابت الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لخلوف فم الصائم حين يخلف، أطيب عند الله من ريح المسك " . وروى الإمام أبو الحسن بن سفيان، بسنده عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً قال: وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم عند الله أطيب من ريح المسك " . ورواه الإمام الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه، وقال: هو حديث حسن وكل واحد من المحدثين مصرح بأنه بمجيء وقت وجود الخلوف في الدنيا يتحقق وصفه بكونه أطيب عند الله من ريح المسك. قال: وقد قال العلماء شرقاً وغرباً بمعنى ما ذكرته في تفسيره. قال الخطابي: طيبه عند الله رضاه به. وقال ابن عبد البر: معناه أذكى عند الله وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك. وقال البغوي في شرح السنة: معناه الثناء على الصائم والرضا بفعله. وكذا قاله الإمام القدوري، إمام الحنفية في كتابه في الخلاف، معناه أفضل عند الله من الرائحة الطيبة. وقاله الإمام العلامة البوني صاحب اللمعة وغيرها وهو من قدماء المالكية. وكذا ماله الإمام أبو عثمان الصابوني، وأبو بكر السمعاني، وأبو حفص بن الصفار من أكابر أئمة الشافعية في أماليهم وأبو بكر بن العربي المالكي وغيرهم. فهؤلاء أئمة المسلمين شرقاً وغرباً، لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد منهم وجهاً بتخصيصه بالآخرة، مع أن كتبهم جامعة للوجوه والمشهورة والغريبة ومع أن الرواية التي فيها ذكر يوم القيامة مشهورة في الصحيح، بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة.
وأما ذكر يوم القيامة، في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف على المسك المستعمل، لدفع الرائحة الكريهة طالباً لرضا الله تعالى، حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة، كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فخص يوم القيامة بالذكر في رواية لذلك، كما خص في قوله تعالى: " إن ربهم بهم يومئذ لخبير " وأطلق في باقي الروايات أن فضيلته ثابته في الدارين، انتهى كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله.
والذي ينبغي أن يعلم أن جميع ما وقع فيه الخلاف بينهما فالصواب فيه ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام، إلا هذه المسألة، فإن الصواب فيها ما قاله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، رحمه الله. والله تعالى أعلم، وقالوا: أبخر من صقر. قال الشاعر:
وله لحية تيس ... وله منقار نسر
وله نكهة ليث ... خالطت نكهة صقر
الخواص: قال ابن زهر: الصقر لا مرارة له، وإذا أمسكه إنسان مات فرقاً، ودماغه إذا دلك به القضيب هيج الباه. وقال أبو ساري الديلمي، في عين الخواص له: ودماغ الصقر، إذا مسح به الكلف الأسود قلعه ونقاه، وإذا مسح به الحزاز أذهبه.

التعبير: قال ابن المقري: رؤية الصقر تدل على العز والسلطان، والنصر على الأعداء، وبلوغ الأمال، والرتبة، والأولاد، والأزواج، والمماليك والسراري، ونفائس الأموال، والصحة وتفريج الهموم، والإنكار وصحة الأبصار، وكثرة الأسفار، وعودة بالربح الطائل، وربما دل على الموت لاقتناصه الأرواح، وربما دل على السجن والترسيم، والتقدير في المطعم والمشرب والمعلم بالنسبة إلى الغشيم، يدل على رجل فصيح وكذلك سباع الطير بأسرها، لأنها تجوز على الحيوان فتكسر عظمه وتهشم لحمه. فمن رأى من هذه الجوارح شيئاً من غير منازعة، فإنه ينال مغنماً، وكل حيوان يصاد به، كالكلب والفهد والصقر يعبر بولد شجاع فمن تبعه صقر، فإن رجلا شجاعاً يعطف عليه، وإن كان له حامل، فإنه يرزق ولداً شجاعاً، وكل الجوارح المعلمة تدل على الولد الذكر.
ومن المنامات المعبرة، أتى رجل إلى ابن سيرين، فقال: رأيت كأن حمامة نزلت على شرفات السور، فأتاها صقر فابتلعها، فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك، ليزوج الحجاج بنت الطيار. فكان كذلك والله أعلم.
الصل: بكسر الصاد، الحية التي لا تنفع فيها الرقية. ومنه قالوا: فلان صل مطرق. وبه وصف إمام الحرمين تلميذه أبا المظفر أحمد بن محمد الخوافي، وكان علامة أهل طوس، نظير الغزالي، وكان عجيباً في المناظرة رشيق العبارة، توني سنة خمسمائة، وكان هو والكيا الهراسي والغزالي أكبر تلامذة إمام الحرمين رحمة الله عليهم.
الصلب: كصرد طائر معروف ذكره في العباب.
الصلنباج: كسقنطار سمك طويل دقيق، ذكره في العباب أيضاً.
الصلصل: بالضم الفاختة، قاله الجوهري وغيره، وسيأتي ما في الفاختة، في باب الفاء إن شاء الله تعالى.
الصناجة: قال القزويني في الأشكال: ليس شيء أكبر من هذا الحيوان، وهو يكون بأرض التبت، وهذا الحيوان يتخذ لنفسه بيتاً بقدر فرسخ في الأرض، في فرسخ وكل حيوان وقع بصره عليه مات في الحال، وإذا وقع بصر الصناجة عليها ماتت الصناجة، والحيوانات تعرفه فتعرض له مغمضة العين ليقع بصر الصناجة عليها فتموت، وإذا ماتت تبقى طعمة للحيوان مدة طويلة وهذا من عجائب الوجود. قلت: وقد استعمل الحريري لفظة الصناجة، في المقامة السادسة والأربعين، حيث قال: أحسنت يا نغيش، يا صناجة الجيش. قال الشراح لكلامه: النغيش القصير. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " رأى نغاشياً فخر ساجداً " .
وفسروا صناجة الجيش بأنها الطبل المعروف. قلت: ووجه الشبه أنه لما كان يطرب بالصنج كطرب الجماعة الحاضرين به سماه بذلك. فالهاء فيه للمبالغة. والصناجة أيضاً ذات الصنج، وهي آلة لهو تتخذ من صفر يضرب أحدهما بالآخر.
قال الحافظ ابن عبد البر وغيره: أول موروث في الإسلام عدي بن نضلة. وأول وارث نعمان بن عدي، كان عدي قد هاجر إلى أرض الحبشة، فمات بها فورثه ابنه نعمان هناك، واستعمله عمر رضي الله تعالى عنه على ميسان ولم يستعمل من قومه غيره وراود امرأته على الخروج معه فأبت فكتب إليها:
من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... وصناجة تحدو على كل منسم
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، " حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول " الآية. أما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
وايم الله لقد ساءني، ثم عزله. فلما قدم عليه سأله فقال: ما كان من هذا شيء وما كان إلا فضل شعر وجدته وما شربتها قط. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أظن ذلك، ولكن لا تعمل لي عملا أبداً. فنزل البصرة ولم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات. وشعره فصيح يستشهد به أهل اللغة على أن ندمان بمعنى نديم.
الصوار: القطيع من البقر، والجمع صيران، والصوار أيضاً وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر في قوله:
إذا لاح الصوار ذكرت ليلى ... وأذكرها إذا نفخ الصوار

الصومعة: العقاب، لأنها أبداً مرتفعة على أشرف مكان تقدر عليه هكذا قاله كراع في المجرد.
الصيبان: تقدم بما فيه في أول الباب.
الصيد: مصدر، عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد. قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " وقال أبو طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه:
أنا أبو طلحة واسمي زيد ... وكل يوم في سلاحي صيد
وبوب البخاري رحمه الله، في أول الربع الرابع من كتابه، فقال: باب قول الله تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه " وقال عمر رضي الله عنه: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به. وقال أبو بكر رضي الله عنه: الطافي حلال. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: طعامه ميتته إلا ما قدرت عليها، والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله. وقال أبو شريح، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء في البحر مذبوح، وقال عطاء: أما الطير فأرى أن يذبحه. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو؟ قال: نعم ثم تلا " هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً " .
وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء. وقال الشعبي: لو أن أهلي يأكلون الضفادع لأطعمتهم إياها. ولم ير الحسن بالسلفحاة بأساً.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل من صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: في المري ذبح الخمر النينان والشمس انتهى.
قوله قلات السيل، أي ما هلك فيه لقوله المسافر وما له على قلت، وقوله في المري إلى آخر ما قال، أشار بذلك إلى صفة مري يعمل في الشام، تؤخذ الخمر فيجعل فيها الملح والسمك، وتوضع في الشمس فتتغير الخمر إلى طعم المر فتستحيل عن هيئتها، كما تستحيل إلى الخلية. يقول: كما أن الميتة حرام، والمذبوحة حلال، كذلك هذه الأشياء ذبحت الخمر فحلت فاستعار الذبح للتحليل، والذبح في الأصل الشق.
وأبو شريح اسمه هانئ، وعند الأصيلي ابن شريح، وهو وهم. وفي الاستيعاب للحافظ ابن عبد البر، شريح رجل من الصحابة حجازي، روى عنه أبو الزبير وعمرو بن دينار سمعاه يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قال: كل شيء في البحر مذبوح، ذبح الله لكم كل دابة خلقها في البحر. قال أبو الزبير وعمرو بن دينار: وكان شريح هذا قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو حاتم: له صحبة. ولفظ الصيد في الآية الأولى عام، ومعناه الخصوص، فيما عدا الحيوان الذي أباح النبي صلى الله عليه وسلم قتله في الحرم، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحداة والفأرة والعقرب والكلب العقور " ، فوقف مع ظاهر هذا الحديث، سفيان الثوري والشافعي وابن حنبل وابن راهويه، فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ذلك. وقاس مالك على الكلب العقور الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية، فأما الهر والثعلب والضبع، فلا يقتلها المحرم عنده، وإن فعل فدى. وقال أصحاب الرأي، رحمهم الله: إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله، وإن ابتدأ المحرم فعليه قيمته.
وقال مجاهد والنخعي: لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه منها، وثبت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه أمر المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها. وثبت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضاً إباحة قتل الزنبور، لأنه في حكم العقرب.
وقال مالك: يطعم قاتله شيئاً، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوها. وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قاتل هذه كلها، وأما سباع الطير فقال مالك: لا يقتلها المحرم، وإن قتلها فدى. وقال ابن عطية: وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء ونحوهما.

تذنيب: قال أبو حنيفة: لا يقطع سارق ما كان مباح الأصل من صيد البر والبحر، ولا في جميع الطيور. وقال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور: يقطع سارق ذلك إذا كان محرزاً، وقيمته ربع دينار لعموم الأدلة وإذا ذبح المحرم صيداً حرم عليه في حال الإحرام باتفاق العلماء، وفي تحريمه على غيره قولان: الجديد الصحيح التحريم كذبيحة المجوسي، فعلى هذا يكون ميتة، والقديم الحل ولو كسر المحرم بيض شيد، أو قلاه حرم عليه، وفي تحريمه على غيره طريقان: أشهرهما أنه على القولين، وأشهر القولين التحريم أيضاً، ولو كسره مجوسي أو قلاه حل، ولو حلب محرم لبن صيد، فهو ككسر بيضه.
فرع: لو صاح محرم على صيد، فمات بسبب صياحه، أو صاح حلال على صيد في الحرم فمات به. فوجهان: أحدهما يضمنه لأنه تسبب في إهلاكه، فكان كما لو صاح على صبي فهلك. قال الإمام النووي: وهذا هو الظاهر. والثاني لا يضمنه، كما لو صاح على بالغ ولو أصاب صيداً، فوقع ذلك الصيد على صيد آخر، أو على فراخه أو بيضه فهلك ضمن جميع ذلك.
فرع: لو مات للمحرم قريب، في ملكه صيد، ملكه على المذهب ملكاً يتصرف فيه كيف شاء، إلا بالقتل والإتلاف.
فرع: قال الروياني: العمرة التي ليس فيها قتل صيد، قيل: إنها أفضل من حجة فيها قتل صيد. والأصح أن الحجة أفضل.
فرع: صيد حرم المدينة حرام، لما روى مسلم، من حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابيتها، لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها " . واختلفوا في أنه هل يضمن صيدها كصيد مكة؟ فقال الشافعي، في الجديد: إنه لا يضمن، لأنه مكان يجوز دخوله بغير إحرام، فلا يضمن كصيدوج الطائف، ففي سنن البيهقي بإسناد فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن صيدوج الطائف وعضاهها حرام محرم " . وفي القديم أنه يسلب القاتل لصيد حرم المدينة، والقاطع لشجرها. واختاره النووي من جهة الدليل، وعلى هذا فظاهر إطلاق الأئمة أن السلب لا يتوقف على إتلافه، بل بمجرد الإصطياد وسلبه كسلب قتيل الكفار، عند الأكثرين، وقيل ثيابه فقط، وقيل يترك له ساتر العورة فقط، وهذا هو الصواب في الروضة وشرح المهذب. ثم هو السالب، وقيل لفقراء المدينة كجزاء الصيد، وقيل لبيت المال، ويستثنى من تضمين الصيد ما لو صال عليه فقتله دفعاً.
فرع: إذا عم الجراد الطريق، ولم يجد بداً من وطئه، فلا ضمان عليه في الأظهر. ولو دخل كافر الحرم، وقتل صيداً ضمنه. وقال الشيخ أبو إسحاق في المهذب: يحتمل عندي أنه لا يجب الضمان قال النووي في شرحه: انفرد الشيخ بهذا الاحتمال عن الأصحاب، وأقامه في البيان وجهاً انتهى. وهذا نقله ابن كج وجهاً للأصحاب، وهو متقدم على صاحب المهذب بأعوام، فإنه توفي سنة أربع وأربعمائة.
تنبيهات: اعلم أن الصيد، إذا مات من سببين: مبيح ومحرم فهو حرام، تغليباً لجانب التحريم، ومثال ذلك أن يموت من سهم وبندقة أو يصيب الصيد طرف من النصل، فيجرحه ويؤثر فيه عرض السهم في مروره فيموت منهما. وكذلك لو أرسل سهماً إلى صيد فجرحه، وكان على طرف سطح فسقط منه، أو على جبل فتردى منه، أو تردى في بئر، أو وقع في ماء، أو على شجرة، فانصدم بأغصانها، فهو حرام، لأنه لا يدري من أيهما مات.
ومنها ما لو وقع صيده على محدد، سكين أو غيرها، فهو حرام. ولو أرسل سهماً، فأصاب الصيد في الهواء، ثم وقع على الأرض ومات، فهو حلال سواء مات قبل الوصول إلى الأرض أو بعده، أو لم يعلم هل كان موته قبل الوصول أو بعده، لأن الوقوع على الأرض لا بد منه، فيعفى عنه كما يعفى عن الذبح في غير المذبح عند التعذر، وكما أن الصيد لو كان قائماً فوقع على جنبه لما أصابه السهم وقال مالك: إن مات بعد وقوعه على الأرض لم يحل، والارتجاف قليلا بعد إصابة السهم لا يضر، لأنه كالوقوع على الأرض، فلو تدحرج من الجبل من جنب إلى جنب لم يضر، لأن ذلك مما لا يؤثر مثله في التلف، فلو رمى بسهم إلى صيد في الهواء فكسر جناحه، ولم يجرحه فوقع فمات، فهو حرام، لأنه لم يصبه جرح يحال الموت عليه، فلو كان الجرح خفيفاً لا يؤثر مثله ولكنه عطل جناحيه فوقع فمات فهو حرام، قاله الإمام.
ولو وقع الصيد من الهواء بعدما أصابه السهم وجرحه في بئر نظر فإن كان فيها ماء، فهو

حرام، وإن لم يكن فالصيد حلال، لأن قعر البئر كالأرض. ولكن الفرض فيما إذا لم يصادمه جدران البئر. ومنها لو كان الصيد واقفاً على شجرة، فأصابه السهم فجرحه، فوقع على الأرض، فهو حلال. وإن وقع على غصن أو أغصان، ثم على الأرض لم يحل. وليس الانصدام بالأغصان أو بأحرف الجبل عند التردي من القلة، كالانصدام بالأرض فإن ذلك الانصدام ليس بلازم ولا غالب، والانصدام بالأرض لا بد منه، وللإمام احتمالان في الصورتين لكثرة وقوع الطيور على الأشجار، والانصدام بأطراف الجبال إذا كان الصيد بالجبل.
ومنها لو رمى إلى طير الماء، نظر إن كان على وجه الماء فأصابه السهم فجرحه فمات فهو حلال، والماء له كالأرض وإن كان خارج الماء ووقع في الماء، بعدما أصابه السهم، ففيه وجهان، مذكوران في الحاوي، أحدهما: أنه حرام، لأن الماء بعد الجرح، يعين على التلف والثاني: أنه حلال، لأن الماء لا يغرقه، لأنه لا يفارق الماء غالباً. ووقوعه في الماء كوقوع غيره على الأرض، وهذا هو الراجح.
وذكر في التهذيب، أن الصيد إذا كان في هواء البحر، نظر إن كان الرامي في البر، لم يحل وإن كان في البحر حل فإن كان الطائر خارج الماء، ووقع فيه بعدما أصابه السهم، ففي حله وجهان. قطع البغوي، في التهذيب، والشيخ أبو محمد في المختصر، بالحل. وجميع ما ذكرنا فيما إذا لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم أو المريء أو غيره، قد تمت ذكاته، ولا أثر لما يعرض بعد ذلك.
ومنها لو جرح الصيد جرحاً لم يقتله، ثم غاب فوجده بعد ذلك ميتاً، قيل يحل وقيل لا يحل، والأول أصح، لكن يشترط أن ينتهي الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح ولا أثر لغيبته فإن لم ينته إلى حركة المذبوح، فإن وجد في ماء، أو وجد عليه أثر صدمة، أو جراحة أخرى لم يحل. وللأصحاب ثلاث طرق: أحدها في حله قولان أشهرهما: عند صاحب التهذيب الحل، والعراقيون وغيرهم إلى ترجيح التحريم أميل، والثاني القطع بالحل، والثالث القطع بالتحريم. وقال أبو حنيفة: إن اتبعه عقب الرمي، فوجده ميتاً حل، وإن تأخر ساعة من اتباعه لم يحل. وروي عن مالك أنه إن وجله في برية حل، وإلا فلا. وصحح النووي والغزالي الحل للأحاديث الواردة فيه، ومنها لو رمى، وهو لا يرجو صيداً ولا خطر له ولا قصده، بأن رمى سهماً في الهواء، أو في فضاء من الأرض، أو إلى هدف واعترض صيد فأصابه فقتله، ففي حله وجهان أصحهما، وهو المنصوص؛ عدم الحل، لأنه لم يقصد الصيد، لا معينا ولا مبهماً. ونظير ذلك ما إذا وقع في الشبكة صيد، فعقر بحديدة فيها، ويفرق بينه وبين ما لو ظنه ثوباً بأنه هنا قصد عيناً. ولو رمى إلى ما ظنه حجراً، فكان صيداً فقتله فهو حلال. وكذا لو ظنه صيداً غير مأكول، فكان مأكولا لأنه قصد عينه. وقيس ذلك بما إذا كان له شاتان، فذبح إحداهما ظناً أنها الأخرى.
وفي التهذيب وغيره وجه أنه لا يحل، لأنه لم يقصد الصيد، وبه قال مالك. ومنها لو نصب سكيناً أو حديدة أو كانت في يده حديدة، فوقعت على حلق شاة فذبحته فهو حرام، لأنه لم يذبح ولم يقصد الذبح، وإنما حصل ما حصل بفعل الشاة أو من غير فعل مختار. وفي التهذيب وغيره، أن عند أبي إسحاق تحل الشاة في صورة وقوع السكين، ولا شك أن الصيد في معناها. وكذا لو كان في يده حديدة يحركها، والشاة أيضاً تحك حلقها بها، فحصل انقطاع الحلقوم والمريء بالحركتين، فهو حرام لأن الموت بشركة الذابح والبهيمة. وقال القاضي أبو سعيد الهروي، في اللباب: وإن رمى الأعمى صيداً، بدلالة بصير فالمذهب أنه لا يحل.
فرع: في الازدحام والاشتراك وله أحوال منها أن يتعاقب جرحان من رجلين، فالأول منهما

إما أن يكون مذففاً أو مزمناً، أو لا مذففا ولا مزمناً، فإن لم يكن مذففاً ولا مزمناً لم يحل على امتناعه، فإن كانت الجراحة مذففة أو مزمنة، فالصيد للثاني ولا شيء على الأول بجراحته، فإن كان جرح الأول مذففاً فالصيد للأول، وعلى الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده، وإن كان جرح الأول مزمناً ملك الصيد به، وينظر في الثاني فإن ذفف بقطع الحلقوم والمريء، فهو حلال وعلى الثاني ما بين قيمته مذبوحاً ومزمناً. قال الإمام: وإنما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة فإن كان سالماً أو كان بحيث لو لم يذبح لهلك، فما عندي أنه ينقص بالذبح منه شيء وإن ذفف الثاني، ولم يقطع الحلقوم والمري أو لم يذفف، ومات بالجرحين فهو ميتة، ويجب على الثاني قيمة الصيد مذبوحاً.
قال في كتاب التهذيب: قيل: هو كما لو جرح عبده وجرحه غيره، ومات منهما وهو بناء على ما إذا جرح أجنبي عبداً قيمته عشرة وجرحه آخر ومات، ففيه أوجه: قال المزني: يجب على كل واحد أرش جراحته وباقي القيمة ينصف بينهما. وقيل: على كل واحد نصف قيمته يوم جرحه، وقال ابن خيران: توزع القيمة على قيمته يوم الجرح الأول، وهي عشرة، وعلى قيمته يوم الجرح الثاني وهي تسعة، فيكون تسعة عشر جزءاً: عشرة على الأول وتسعة على الثاني. وقال القفال: على كل واحد منهما نصف أرش جراحته، وينصف باقي القيمة مجروحاً بجرحين. والطريقة الثانية أن الأول إن لا يدركه حياً، وجب على الثاني قيمته مزمناً، وإن أدركه ولم يذبحه، وجب على الثاني أرش جراحته على وجه، وقيمته مزمناً على وجه، وإن رماه رجلان فأصاباه معاً وقتلاه، فهو لهما فإن أزمن أحدهما وأصاب الآخر المذبح، ولم يعرف السابق وادعى كل منهما أنه المزمن أولا، تحالفا ويكون بينهما لاحتمال سبق المزمن وإن كان أحدهما مجهزاً، لم يصب المذبح فالصيد حرام انتهى.
فرع: اعلم أن من اصطاد صيداً عليه أثر ملك، فإن كان موسوماً أو مقرطاً أو مخضوباً أو مقصوص الجناح، لم يملكه لأن هذه آثار تحل على أنه كان مملوكاً، وربما أفلت ولا ينظر إلى احتمال أنه اصطاده محرم، وفعل به ذلك ثم أرسله فإنه احتمال بعيد.
فرع: لو قد الصيد نصفين حل الكل، وإن أبان منه عضواً ومات منه بعد ساعة قبل أن يتمكن من ذبحه حل المبان على أحد الوجهين، كما لو مات منه في الحال وإن أدركه حياً فذبحه حل الأصل دون المبان، وإن مات الصيد بثقل الجارحة لم يحرم على أحد القولين بخلاف ثقل السهم.
فرع: ويملك الصيد بأمور: بإثبات اليد أو الإثخان أو إبطال الطيران أو العدو أو التعلق بالشبكة المنصوبة، فإن وقعت منه الشبكة وتعلق بها صيد فوجهان، وكذلك الشرك والربق المنصوبان والحبالة ونحو ذلك.
فرع: لو اصطاد سمكة فوجد في بطنها درة مثقوبة، فهي لقطة، وإن كانت غير مثقوبة، فهي له مع السمكة، ولو اشترى سمكة فوجد في بطنها درة غير مثقوبة، فهي له، وإن كانت مثقوبة فهي للبائع، إن ادعاها. هكذا أطلقه في التهذيب. ويشبه أن يقال: إن المرة تكون لمن اصطاد السمكة، كما في الكنز الذي يوجد في الأرض إنه لمحيي الأرض.
خاتمة: لو أرسل الصيد وخلاه بنفسه، فهل يزول ملكه؟ وجهان: أظهرهما لا يزول، ولا يجوز له أن يفعل ذلك، لأن ذلك من فعل الجاهلية من تسييب السوائب، ومن حقه أن يحترز عنه. وسيأتي إن شاء الله تعالى، الكلام على السائبة، في باب النون. وعلى صيد الكلب والجارحة في باب الكاف.
ولو أفلت الصيد من يده لم يزل ملكه عنه فإن أخذه أحد فعليه رده للأول، ولا فرق بين أن يلتحق بالوحوش في الصحراء، أو يبعد عن البنيان أو يدور في البلد أو حوله. وقال مالك: ما دام في البلد أو حوله لم يزل ملكه عنه، فإن بعد والتحق بالوحوش، زال ملكه ومن أخذه ملكه. ويروى عنه أنه إن تباعد به العهد زال ملكه عنه، وإن قرب لم يزل. ويروى عنه زوال ملكه بإفلاته مطلقاً، وعندنا يقاس على إباق العبد وشرود البهيمة.
تتمة: لو توحل صيد بمزرعة، وصار مقدوراً عليه، ففيه وجهان: أصحهما عدم التملك، لأنه لم يقصد بسقي الأرض الاصطياد، والقصد مرعى في التملك ولو دخل بستان غيره، واصطاد منه طائراً، ملكه قطعاً، ولا يثبت لصاحب البستان حكم المتحجر لأن البستان لا يتضمن حكم الطير والله أعلم. وما أحسن قول بعضهم:

يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواماً بأقوام
وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن حدود بأرزاق وأقسام
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي
فائدة: في تاريخ ابن خلكان، لما قلد الرشيد الفضل بن يحيى خراسان، أقام بها مدة ثم وصل كتاب صاحب البريد ينهى، أن الفضل اشتغل بالصيد وإدمان اللذة، عن النظر في أمور الرعية فقال ليحيى: يا أبت اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه بما يردعه عنه، فكتب إليه يحيى كتاباً وكتب في أسفله هذه الأبيات:
انصب نهاراً في طلاب العلا ... واصبر على فقد لقاء الحبيب
حتى إذا الليل أتى مقبلا ... واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فبادر الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب
كم من فتى تحسبه ناسكاً ... يستقبل الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كل عدو مريب
فلما ورد الكتاب على الفضل بن يحيى، لم يفارق المسجد نهاراً.
قيل دخل الفضل على أبيه يحيى وهو يتبختر في مشيته، فكره يحيى ذلك منه، وقال: قالت الحكماء: البخل والجهل مع التواضع، أزين للرجل من السخاء والعلم مع الكبر، فيا لها من حسنة غطت على سيئتين عظيمتين، ويا لها من سيئة غطت على حسنتين كبيرتين! ولما كان الفضل ويحيى في محبسهما، سمعهما الموكل يوماً وهما يضحكان ضحكاً مفرطاً، فأعلم الرشيد بذلك فبعث مسروراً يستعلم سبب ذلك، فجاءهما فسألهما وقال: يقول لكما أمير المؤمنين: ما هذا الاستخفاف بغضبي؟ فازدادا ضحكاً! وقال يحيى: اشتهينا سكباجاً فاحتلنا في شراء القدر واللحم والخل وغير ذلك، فلما فرغنا من طبخها وإحكامها، ذهب الفضل ينزلها فسقط قعر القدر، فوقع الضحك والتعجب مما كنا فيه، وما صرنا إليه. فلما أعلم مسرور الرشيد بذلك، بكى وأمر لهما بمائدة في كل يوم، وأذن لرجل مما يأنسان به، أن يدخل عليهما كل يوم، ويتغذى معهما ويحدثهما وينصرف.
ونقل أن الفضل كان كثير البر بأبيه، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد، في زمن الشتاء، فلما كان في السجن، لم يقدرا على تسخين الماء، فكان الفضل يأخذ الإبريق النحاس، وفيه الماء، فيضعه على بطنه زماناً لينكسر برده، بحرارة بطنه، حتى يستعمله أبوه بعد ذلك. وتوفي يحيى في السجن سنة ثلاث وتسعين ومائة. ولما بلغ الرشيد وفاته، قال: أمري قريب من أمره، فتوفي بعده بخمسة أشهر.
الصيدح: الفرس الشديد الصوت وقال الجوهري: الصيدح ذكر البومة انتهى. وتسميته صيدحاً اشتقاقاً له من صوته، لأن الصيدح الصياح قال الشاعر:
وقد هاج شوقي أن تغنت حمامة ... مطوقة ورقاء تصدح بالفجر
أي تصيح قال الجاحظ: البومة وسائر طيور الليل، لا تدع الصياح وقت الأسحار أبداً انتهى. وصيدح اسم ناقة في الرمة ، قال يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري:
رأيت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا
وقد تقدم ذكر هذا البيت في باب الهمزة في الإبل.
الصيدن: الثعلب. وقد تقدم في باب الثاء المثلثة، والصيدن الملك.
الصيدناني: دويبة تعمل لنفسها بيتاً في جوف الأرض وتعميه عن الخلق.
الصير: سمك صغار يعمل منه الصحناة والمرى، ومنهم من يطلق على الصير الصحناة.
وفي سنن البيهقي، في باب ما جاء في أكل الجراد، عن وهب بن عبد الله المغافري، أنه دخل هو وعبد الله بن عمر على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقربت إليهم جراداً مقلواً بسمن، وقالت: كل يا مصري من هذا، لعل الصير أحب إليك منه. قال: قلت إنا لنحب الصير. وفي الحديث أن سالم بن عبد الله مر به رجل ومع صير، فذاق منه ثم سأل منه كيف تبيعه. والمراد به في الحديث الصحناة. قال جرير يهجو قوماً:
كانوا إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا
قال الجوهري: وتفسيره في الحديث الصحناة، تمد وتقصر. وروي أن الحسن سأله رجل عن الصحناة، فقال: وهل يأكل المسلمون الصحناة؟ وهي التي يقال لها الصير وكلا اللفظين غير عربي.

الخواص: قال جبريل بن بختيشوع: الصحناة المتخذة من الأبازير تنشق المعدة من البلة والرطوبة وتمنع البخر، وتطيب النكهة، وتنفع من وجع الورك المتولد من البلغم، ومن لدغ العقارب إذا طلي بها.

باب الضاد المعجمة
الضأن: فوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن، والأنثى ضائنة والجمع ضوائن، وقيل: هو جمع لا واحد له، وقيل: جمعه ضئين كعبد وعبيد.
فائدة: قال الله تعالى: " تمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " الآية وذلك أن الجاهلية كانوا يقولون: هذه أنعام وحرث حجر، وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فكنوا يحرمون بعضها على النساء، فلما جاء الإسلام وثبتت أحكامه، جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي جادله خطيبهم مالك بن عوف بن الأحوص الجشمي، فقال: يا محمد إنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم قد حرمتم أصنافاً من الغنم على غير أصل، وإنما خلق الله هذه الأزواج الخمسة للمأكل والانتفاع بها، فمن أين جاء هذا التحريم أمن قبل الذكر أمن قبل الأنثى " . فسكت مالك وتحير ولم يتكلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما لك لا تتكلم " ؟ فقال له مالك: بل تكلم وأسمع منك.
فلو قال جاء التحريم من قبل الذكورة وجب أن يحرم جميع الذكور، ولو قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث، ولو قال باشتمال الرحم عليه لكان ينبغي أن يحرم الكل لأن الرحم يشتمل على الذكور والإناث. فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس والسابع أو بالبعض دون البعض، فمن أين؟ وثمانية أزواج نصبها على البدل من الحمولة والفرش، أي وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج أي أصناف: من الضأن اثنين أي الذكر والأنثى، فالذكر زوج والأنثى زوج والعرب تسمي الواحد زوجاً إذا كان لا ينفك عن الآخر. وسيأتي إن شاء الله تعالى، الكلام على البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، في باب النون في النعم.
وقد جعل الله تعالى البركة، في نوع الغنم فهي تلد في العام مرة ويؤكل منها ما شاء الله ويمتلئ منها وجه الأرض، بخلاف السباع فإنها تلد شتاء وصيفاً، ولا يرى منها إلا واحد واحد في أطراف الأرض، ويضرب المثل بلين جلودها، لما روى البيهقي والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب " وفي رواية: " وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس جلود الضأن من اللين يشترون الدنيا بالدين يقول الله تعالى: أبي يغترون وعلي يجترئون، فبي حلفت لأقيضن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران " . يقال: ختله يختله إذا خدعه، وختل الذئب الصيد، إذا تخفى له. وبين المعز والضأن تضاد يوجب أن لا يقع بينهما لقاح أصلا.
وعن عجيب طبعها وأمرها أنها ترى الفيل والجاموس فلا تهابهما، مع عظم أبدانهما، وترى الذئب فيعتريها خوف عظيم لمعنى خلقه الله في طباعها. ومن غريب أمرها أن الغنم تلد في ليلة واحدة عدداً كثيراً ثم إن الراعي يسرح بالأمهات من الغد ويأتي بها عند العشاء، ويخلي بينها وبين السخال، فتذهب كل واحدة إلى أمها. ويجلب من الهند نوع من الضأن، في صدره ألية وعلى كتفيه أليتان، وعلى فخذيه أليتان وعلى ذنبه ألية، وربما تكبر ألية الضأن حتى تمنعه من المشي، وإن تسافدت الغنم عند نزول المطر لا تحمل، وإن كان السفاد عند هبوب الشمال تكون الأولاد ذكوراً، وإن كان عند هبوب الجنوب تكون الأولاد إناثاً. وإذا رعت الضأن الزرع رجع، وإذا رعته المعز لم ينبت. وقالت العرب: جز ضائنة وحلق معزة.
وحكمها: حل الأكل بالإجماع.
الأمثال: قالوا: أجهل من راعي ضأن وأحمق من راعي ضأن ثمانين وأحمق من طالب ضأن ثمانين وذلك أن الضأن تنفر من كل شيء، فيحتاج راعيها إلى أن يجمعها في كل وقت، وفي الصحاح: أحمق من صاحب ضأن ثمانين وذلك أن أعرابياً بشر كسرى ببشرى فسر بها، فقال: سلني ما شئت، فقال: أسألك ضأناً ثمانين.

وقال ابن خالويه: إنه رجل قضى للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم: " ائتني بالمدينة " ، فأتاه، فقال عليه الصلاة والسلام له: " أيما أحب أليك، ثمانون من الضأن أو أدعو الله أن يجعلك معي في الجنة " ؟ فقال: بل ثمانون من الضأن، فقال عليه الصلاة والسلام: " أعطوه إياها " . ثم قال صلى الله عليه وسلم: " إن صاحبة موسى كانت أعقل منك، وذلك أن عجوزاً دلته على عظام يوسف عليه السلام، فقال لها موسى: أيما أحب إليك أسأل الله أن تكوني معي في الجنة أو مائة من الغنم؟ قالت: الجنة " . والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك مع اختلاف فيه وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وعن أبي موسى الأشعري قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال: إن لي عندك موعداً يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: " صدقت فاحتكم ما شئت " قال: إني أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها. فقال صلى الله عليه وسلم: " هي لك، ولقد احتكمت يسيراً، ولصاحبة موسى التي دلته على عظام يوسف كانت أحزم منك حين حكمها موسى، فقالت: حكمي أن تردني شابة وأدخل معك الجنة. قال في الإحياء، في آخر الآفة الثالثة عشرة؛ من آفات اللسان: وكان الناس يضعفون ما احتكم هذا الإنسان به حتى جعلوه مثلا، فقالوا: أقنع من صاحب الثمانين والراعي.
الخواص: لحم الضأن يمنع المرة السوداء، ويزيد في المني وينفع من السموم، وهو حار رطب بالنسبة إلى المعز، وأجوده الحولي، وهو ينفع المعدة المعتدلة ويضر من يعتاده العشي، وتدفع مضرته بالأمراق القابضة، ويكره لحم النعاج لأنه يولد دماً رديئاً، ولحم الخرفان يغفو غذاء كثيراً حاراً رطباً لكنه يولد البلغم، والحولي من الضأن أغذى من صغيرها، ولحم الضأن في الربيع أجود وأنفع منه في سائر الأزمان، ولحم الخصي منها يزيد في الباه، ودمها إذ أخذ وهو حار ساعة تذبح وطلي به الوضح غير لونه وضيعه. وكبد التيس إذا أحرقت طرية ودلك بها الأسنان بيضها، وقرن الكبش إذا دفن تحت شجرة يكثر حملها، وإذا اكتحل بمرارة الكبش مع العسل، يمنع من نزول الماء، وعظمه يحرق بخشب الطرفاء ويخلط رماده بدهن الشمع المتخذ من دهن الورد، ويطلى به موضع الهشم يصلحه. وإذا تحملت المرأة بصوف النعجة، قطعت الحبل. وإذا غطي الإناء بصوف الضأن الأبيض، وفيه عسل، لم يقربه النمل.
الضؤضؤ: الطائر الذي يسمى الأخيل، قاله ابن سيده وتوقف فيه ابن دريد.
الضب: بفتح الضاد، حيوان بري معروف يشبه الورل، قال أهل اللغة: وهو من الأسماء المشتركة فيطلق على ورم في خف البعير وعلى ضبة الحديد، والضب اسم للجبل الذي بمسجد الخيف في أصله. وضبة الكوفة وضبة البصرة قبيلتان من العرب. والضب أن يجمع الحالب خلفي الناقة في كفيه جميعاً أنشد ابن دريد:
جمعت له كفي بالرمح طاعناً ... كما جمع الخلفين في الضب حالب
وكنيته أبو حسل والجمع ضباب وأضب مثل كف وأكف والأنثى ضبة قالت العرب: لا أفعله حتى يرد الضب، لأن الضب لا يرد الماء. قال ابن خالويه، في أوائل كتاب ليس: الضب لا يشرب الماء ويعيش سبعمائة سنة فصاعداً، ويقال إنه يبول في كل أربعين يوماً قطرة، ولا تسقط له سن ويقال إن أسنانه قطعة واحدة ليست مفرقة. ومن كلامهم الذي وضعوه على ألسنة البهائم: ثم قالت السمكة: رد يا ضب فقال:
أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي أن يردا
إلا عراداً عرداً ... وصليا نا بردا
وعنكشاً ملتبداً
ولما كان بين الحوت والضب هذا التضاد أشار إليه حاتم الأصم رحمه الله بقوله:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ... وللضب في البيدا وللحوت في البحر
وضبب البلد وأضب كثرت ضبابه. وأرض ضبية أي كثيرة الضباب. قال عبد اللطيف البغدادي: الورل والضب والحرباء وشحمة الأرض والوزغ، كلها متناسبة في الخلق. وللضب ذكران وللأنثى فرجان، كالورل والحرذون. وقال عبد القاهر: الضب دويبة على حد فرخ التمساح الصغير وذنبه كذنبه وهو يتلون ألواناً بحر الشمس كما تتلون الحرباء انتهى.

أسند ابن أبي الدنيا، في كتاب العقوبات، عن أنس قال: إن الضب ليموت في جحره هزالا من ظلم بني آدم، ولما سئل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، عن ذكر الضب، قال: إنه كلسان الحية أصل واحد له فرعان، وإذا أرادت الضبة أن يخرج بيضها، حفرت في الأرض حفرة، ورمت فيها البيض وطمتها بالتراب، وتتعاهدها كل يوم، حتى يخرج، وذلك في أربعين يوماً، وهي تبيض سبعين بيضة وأكثر، وبيضها يشبه بيض الحمام.
والضب يخرج من جحره كليل البصر فيجلوه بالتحدق للشمس، ويغتذي بالنسيم ويعيش ببرد الهواء، وذلك عند الهرم، وفناء الرطوبات، ونقص الحرارات، وبينه وبين العقارب مودة، فلذلك يؤويها في جحره لتلسع المتحرش به إذا أدخل يده لأخذه، ولا يتخذ جحره إلا في كدية جحر، خوفاً من السيل والحافر، ولذلك توجد براثنه ناقصة كليلة لحفره بها في الأماكن الصلبة، وفي طبعه النسيان وعدم الهداية وبه يضرب المثل في الحيرة ولذلك لا يحفر جحره إلا عند أكمة أو صخرة لئلا يضل عنه، إذا خرج لطلب المطعم، ويوصف بالعقوق لأنه يأكل حسوله فلا ينجو منها إلا ما هرب، وأشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
أكلت بنيك أكل الضب حتى ... تركت بنيك ليس لهم عديد
وهو طويل العمر، ومن هذه الجهات يناسب الحيات والأفاعي. ومن طبعه أنه يرجع في قيئه كالكلب، ويأكل رجيعه. وهو طويل الدم بعد الذبح وهشم الرأس، يقال إنه يمكث بعد الذبح ليلة ويلقى في النار فيتحرك. ومن شأنه في الشتاء أن لا يخرج من جحره، وقد أشار إلى ذلك أمية بن أبي الصلت لما جاء إلى عبد الله بن جدعان يطلب نائله بقوله:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الوفاء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء
يباري الريح تكرمة ومجداً ... إذا ما الضب أجحره الشتاء
فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تيم وأنت لها سماء
فائدة: روى الدارقطني والبيهقي، وشيخه الحاكم وشيخه ابن عدي، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضباً وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله، فرأى جماعة محتفين بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: على من هؤلاء الجماعة؟ فقالوا: على هذا الذي يزعم أنه نبي. فأتاه فقال: يا محمد ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك، فلولا أن تسميني العرب عجولا لقتلتك وسررت الناس بقتلك أجمعين فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله دعني أقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: " لا أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبياً " . ثم أقبل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: واللات والعزى لا آمنت بك حتى يؤمن هذا الضب! وأخرج الضب من كمه وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن آمن بك آمنت بك! فقال صلى الله عليه وسلم: " يا ضب " ، فكلمه الضب بلسان طليق فصيح، عربي مبين صريح، يفهمه القوم جميعاً: لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين! فقال صلى الله عليه وسلم " من تعبد، قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه. فقال صلى الله عليه وسلم: " فمن أنا يا ضب " ؟ قال: أنت رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، قد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك. فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله حقاً، والله لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض إلي منك، ووالله لأنت الساعة أحب إلي من نفسي ومن ولدي، فقد آمن بك شعري وبشري، وداخلي وخارجي، وسري وعلانيتي.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه، ولا يقبله الله إلا بصلاة، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن " قال: فعلمني فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفاتحة وسورة الإخلاص. فقال: يا رسول الله ما سمعت في البسيط ولا في الوجيز أحسن من هذا فقال صلى الله عليه وسلم: " إن هذا كلام رب العالمين وليس بشعر. إذا قرأت " قل هو الله أحد " مرة فكأنما قرأت ثلث القرآن، وإذا قرأتها مرتين، فكأنما قرأت ثلثي القرآن، وإذا قرأتها ثلاثاً فكأنما قرأت القرآن كله " . فقال الأعرابي: إن إلهنا يقبل اليسير، ويعطي الكثير. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ألك مال " ؟ فقال: ما في بني سليم قاطبة رجل أفقر مني. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أعطوه " ، فأعطوه حتى أبطروه. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، أنا أعطيه ناقة عشراء تلحق ولا تلحق، أهديت إلي يوم تبوك، فقال صلى الله عليه وسلم: " قد وصفت ما تعطي، وأصف لك ما يعطيك الله جزاء " قال: نعم صف يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: " لك ناقة من ثرة بيضاء جوفاء، قوائمها من زبرجد أخضر، وعيناها من ياقوت أحمر، عليها هودج، وعلى الهودج السندس والإستبرق، تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف " .
فخرج الأعرابي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاه ألف أعرابي على ألف دابة بألف سيف، فقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: نريد هذا الذي يكذب ويزعم أنه نبي. فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: صبأت، فحدثهم بحديثهم، فقالوا كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله مرنا بأمرك، فقال صلى الله عليه وسلم: " كونوا تحت راية خالد بن الوليد " . فلم يؤمن في أيامه صلى الله عليه وسلم من العرب، ولا من غيرهم ألف غيرهم.
الحكم: يحل أكل الضب بالإجماع. قال في الوسيط: ولا يؤكل من الحشرات إلا الضب.
قال ابن الصلاح، في مشكله: هذا غير مرضي فإن الحشرات اليربوع والقنفذ، ذكرهما الأزهري وغيره. وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أحرام هو؟ قال: " لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " . وفي سنن أبي داود، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الضبين المشويين بزق، فقال خالد: يا رسول الله أراك تقذره، وذكر تمام الحديث. وفي رواية لمسلم " لا آكله ولا أحرمه " وفي الأخرى: " كلوه فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي " . وكل هذه الروايات صريحة في الإباحة، ولأن العرب تستطيبه والدليل عليه قول الشاعر:
أكلت الضباب فما عفتها ... وإني اشتهيت قديد الغنم
ولحم الخروف حنيذا وقد ... أتيت به فاتراً في الشبم
وأما البهض وحيتانكم ... فأصبحت منها كثير السقم
وركبت زبداً على تمرة ... فنعم الطعام ونعم الأدم
وقد نلت منها كما نلتمو ... فلم أر فيها كضب هرم
وما في التيوس كبيض الدجاج ... وبيض الدجاج شفاء القرم
ومكن الضباب طعام العرب ... وكاشيه منها رؤوس العجم
قوله: الحنيذ، أي المشوي، وماء الشبم بفتح الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة ماء الأسنان، والبهض بكسر الباء الموحدة وفتح الهاء وبالضاد المعجمة الأرز باللبن، والقرم بفتح القاف وكسر الراء الرجل يشتهي اللحم، والمكن بفتح الميم وإسكان الكاف وبالنون في آخره، بيض الضب والكشا جمع كشية بضم الكاف وإسكان الشين المعجمة. ولا يكره أكله عندنا خلافاً لبعض أصحاب أبي حنيفة. وحكى القاضي عياض عن قوم تحريمه. قال الإمام العلامة النووي: وما أظنه يصح عن أحد انتهى.
وأما ما روى عن عبد الرحمن بن حسنة، قال: نزلنا أرضاً كثيرة الضباب، فأصابتنا مجاعة، فطبخنا منها أي من الضباب، فإن القدور لتغلي إذ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " ما هذا " ؟ فقلنا: ضباب أصبناها، فقال: " إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض وإني أخشى أن يكون هذا منها فلم آكلها ولم أنه عنها " ، فيحتمل أن ذلك قبل أن يعلم أن الممسوخ لا يعقب.

وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين، مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فوالذي نفسي بيده لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " . قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: " فمن " ؟ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما أشبه الليلة بالبارحة؟ هؤلاء بنو إسرائيل. قال ابن العرب، في عارضة الأحوذي: تفكرت برهة في وجه ضرب المثل بالضب، فعرضت لي في الخاطر معان، أشبهها الآن أن الضب عند العرب يضرب به المثل للحاكم من الإنس، والحاكم تأتي إليه الخلق بأجمعهم، فيما يعرض من الأمور لهم، فلا يتأخر أحد عنه فكان المعنى مصيرهم لذلك.
الأمثال: قالوا: أضل من ضب، والضلال ضد الهداية. وكذلك قالوا في الورل، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقالوا: أعق من ضب قال ابن الأعرابي: إنما يريدون الأنثى وعقوقها أنها تأكل أولادها. وأحيى من ضب، أي أطول عمراً وأجبن من ضب وأبله من ضب وأخدع من ضب. قال الشاعر:
وأخدع من ضب إذا جاء حارس ... أعدله عند الذبابة عقربا
وقالوا: أعقد من ذنب الضب، لأن عقده كثيرة. وزعموا أن بعض الحاضرة، كسا أعرابياً ثوباً، فقال له: لأكافئنك على فعلك بما أعلمك كم في ذنب الضب من عقدة؟ قال: لا أدري، قال: فيه إحدى وعشرون عقدة.
الخواص: إذا خرج الضب من بين رجلي إنسان، لا يقدر بعد ذلك على مباشرة النساء. ومن أكل قلبه أذهب عنه الحزن والخفقان، وشحمه يذاب ويطلى به القضيب يهيج شهوة الجماع، ومن أكل منه لا يعطش زماناً طويلا، وخصيتاه من استصحبهما معه يحبه الخدم محبة شديدة، وكعبه يشد على وجه الفرس لا يسبقه شيء من الخيل، عند المسابقة. وجلده يجعل منه غلاف للسيف يشجع صاحبه، وإن اتخذ ظرفاً للعسل، فمن لعق منه هيج شهوة الجماع، ويورث انعاظاً شديدة، وبعره ينفع من البرص والكلف طلاء، ومن بياض العين اكتحالا، ومن نزول الماء فيها. التعبير: الضب في المنام رجل عربي خداع في أموال الناس، ومال صاحبه، وقيل: إنه رجل مجهول النسب، وقيل: إنه رجل ملعون لأنه من الممسوخ وقيل: إنه يحل على الشبهة في الكسب، وقيل: من رأى الضب في المنام فإنه يمرض.
الضبع: معروفة، ولا تقل ضبعة، لأن الذكر ضبعان، والجمع ضباعين مثل سرحان وسراحين. والأنثى ضبعانة والجمع ضبعانات وضباع، وهذا الجمع للذكر والأنثى مثل سبع وسباع كذا قاله الجوهري. وقال ابن بري: قوله: والأنثى ضبعانة لا يعرف.
وفي مسائل الضبع مسألة لطيفة، وهي أن من أصول العربية التي يطرد حكمها ولا ينحل نظمها، أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب حكم المذكر على المؤنث، لأنه هو الأصل والمؤنث فرع عنه، إلا في موضعين: أحدهما أنك متى أردت تثنية الذكر والأنثى من الضباع قلت: ضبعان وأجريت التثنية على لفظ المؤنث، الذي هو ضبع لا على لفظ المذكر الذي هو ضبعان، وإنما فعل ذلك فراراً مما كان يجتمع من الزوائد أن لو ثنى على لفظ المذكر. والموضع الثاني أنهم في باب التاريخ أرخوا بالليالي، وهي مؤنثة دون الأيام التي هي مذكرة، وإنما فعلوا ذلك مراعاة للأسبق، والأسبق من الشهر ليلته هذا كلامه بحروفه.
وقال الحريري في الدرة: إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر إلا في التاريخ، فإنه بالعكس وإلا في تثنية ضبع وضبعان، فيقال: ضبعان بفتح الضاد وضم الباء والنور مكسورة.
وعن ابن الأنباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى، وكذلك حكاه ابن هشام الخضراوي، في كتابه الإفصاح في فوائد الإيضاح للفارسي عن أبي العباس وغيره. والمعروف في المحكم وغيره ما تقدم. وتصغير الضبع أضيبع لما تقدم، في أول باب الهمزة، مما رواه مسلم في باب إعطاء القاتل سلب المقتول، من طريق أبي قتادة، بن حديث الليث، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: " كلا لا يعطيه لأضيبع من قريش ويدع أسداً من أسد الله " . وشد الخطابي، فقال: الأضيبع نوع من الطيور.
ومن أسماء الضبع جيل وجعار وحفصة، ومن كناها أم خنور وأم طريق وأم عامر وأم القبور

وأم نوفل والذكر أبو عامر وأبو كلدة وأبو الهنبر. وقد تقدم في باب الهمزة أن الضبع تحيض كالأرنب، تقول: ضحكت الأرنب ضحكاً، أي حاضت قال الشاعر:
وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الحرب يوم اللقا
يعني الحيض، فيما زعم بعضهم. وقال ابن الأعرابي في قول ابن أخت تأبط شراً:
تضحك الضبع لقتلى هذيل ... وترى الذئب لها يستهل
أي إن الضبع، إذا أكلت لحوم الناس، أو شربت دماءهم، طمثت وقد أضحكها الدم. قال الشاعر:
وأضحكت الضباع سيوف سعد ... لقتلى ما دفن ولا ودينا
وكان ابن دريد يرد هذا، ويقول: من شاهد الضباع عند حيضها، حتى علم أنها تحيض؟ وإنما أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم، وهذا سهو منه فجعل كشرها ضحكاً. وقيل: معناه أنها تستبشر بالقتلى إذا أكلتهم فيهر بعضها على بعض فجعل هريرها ضحكاً. وقيل: أراد أنها تسر بهم، فجعل السرور ضحكاً، لأن الضحك إنما يكون منه كتسمية العنب خمراً، وتستهل الذئاب تصيح وتعوي، قاله ابن سيده.
ومن عجيب أمرها، أنها كالأرنب، تكون سنة ذكراً وسنة أنثى فتلقح في حال الذكورة، وتلد في حال الأنوثة، نقله الجاحظ والزمخشري في ربيع الأبرار، والقزويني في عجائب المخلوقات، وفي كتابه مفيد العلوم ومبيد الهموم، وابن الصلاح في رحلته عن ارسطالطاليس وغيرهم، قال القزويني: وفي العرب قوم يقال لهم الضبعيون، لو كان أحدهم في قفل فيه ألف نفس، رجاء الضبع لا يقصد أحداً سواه. والضبع توصف بالعرج وليست بعرجاء وإنما يتخيل ذلك للناظر، وسبب هذا التخيل لدونة في مفاصلها، وزيادة رطوبة في الجانب الأيمن على الأيسر منها. وهي مولعة بنبش القبور لكثرة شهوتها للحوم بني آدم، ومتى رأت إنساناً نائماً حفرت تحت رأسه، وأخذت بحلقه فتقتله وتشرب دمه. وهي فاسقة لا يمر بها حيوان من نوعها إلا علاها. وتضرب العرب بها المثل في الفساد، فإنها إذا وقعت في الغنم عاثت، ولم تكتف بما يكتفي به الذئب، فإذا اجتمع الذئب والضبع في الغنم سلمت لأن كل واحد منها يمنع صاحبه. والعرب تقول في دعائها: اللهم ضبعاً وذئباً أي اجمعهما في الغنم لتسلم. ومنه قول الشاعر:
تفرقت غنمي يوماً فقلت لها: ... يا رب سلط عليها الذئب والضبعا
قيل للأصمعي: هذا دعاء لها أم عليها؟ فقال: دعاء لها وذكر ما تقدم. والضبع إذا وطئت ظل الكلب في القمر، وهو على سطح وقع الكلب، فأكلته. وتوصف بالحمق، وذلك أن الصيادين لها، يقولون على باب وجارها كلمات، يصيدونها بها كما تقدم في الذبح. والجاحظ يرى هذا من خرافات العرب. وتلد من الذئب جرواً ويسمى العسبار قال الراجز:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... وشركا من ثفرها لا تنقطع
كل الحذاء يحتذى الحافي الوقع
الثفر للسباع وكل ذات مخلب بمنزلة الحياء من الناقة.
وحكمها: حل الأكل، قال الشافعي رحمه الله تعالى: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع " . فما قويت أنيابه، فعدا بها على الحيوان طالباً غير مطلوب، يكون عداؤه بأنيابه علة تحريم أكله. والضبع لا يغتذي بالعدوى، وقد يعيش بغير أنيابه. وقد تقدم ذلك، في باب الهمزة، في لفظ الأسد وبحلها. قال الإمام أحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الحديث. وقال مالك: يكره أكلها، والمكروه عنده ما أثم آكله، ولا يقطع بتحريمه. واحتج الشافعي بما روي عن سعد بن أبي رقاص أنه كان يأكل الضبع. وبه قال ابن عباس وعطاء، وقال أبو حنيفة: الضبع حرام، وهو قول سعيد بن المسيب والثوري محتجين بأنه ذو ناب. وقد " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع " .
ودليلنا ما روى عبد الرحمن بن أبي عمار، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: أتؤكل؟ قاد: نعم. قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. أخرجه الترمذي وغيره، وقال حسن صحيح.

وقال جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الضبع صيد وجزاؤه كبش مسن ويؤكل " . رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وذكره ابن السكن أيضاً، في صحاحه، قال الترمذي: سألت البخاري عنه، فقال: إنه حديث صحيح. وفي البيهقي عن عبد الله بن مغفل السلمي، قال: قلت يا رسول الله ما تقول في الضبع؟ قال: " لا آكله ولا أنهي عنه " . قال: قلت ما لم تنه عنه فإني آكله. إسناده ضعيف. قال الشافعي: ومازال لحم الضبع يباع بين الصفا والمروة، من غير نكير. وأما ما ذكروه من حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، فإنه محمول على ما إذا كان يتقوى بنابه، بدليل أن الأرنب حلال وله ناب ولكنه ضعيف لا يعدو به.
الأمثال: قالوا: أحمق من ضبع، ومن الأمثال الشهيرة في ذلك، ما رواه البيهقي، في آخر شعب الإيمان، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، أنه سأل يونس بن حبيب عن المثل المشهور كمجير أم عامر فقال: كان من حديثه أن قوماً خرجوا إلى الصيد، في يوم حار، فبينما هم كذلك إذ عرضت لهم أم عامر وهي الضبع، فطردوها فاتبعتهم حتى ألجؤوها إلى خباء أعرابي، فاقتحمته. فخرج إليهم الأعرابي فقال: ما شأنكم؟ فقال: صيدنا وطريدتنا، قال: كلا والذي نفسي بيده لا تصلون إليها ما ثبت قائم سيفي بيدي. قال: فرجعوا وتركوه، فقام إلى لقحة له فحلبها وقرب إليها ذلك، وقرب إليها ماء، فأقبلت مرة تلغ من هذا ومرة تلغ من هذا حتى عاشت واستراحت، فبينما الأعرابي نائم في جوف بيته، إذ وثبت عليه فبقرت بطنه، وشربت دمه، وأكلت حشوته وتركته. فجاء ابن عم له فوجده على تلك الصورة، فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها فقال: صاحبتي والله، وأخذ سيفه وكنانته واتبعها، فلم يزل حتى أدركها فقتلها وأنشأ يقول: ومن يصنع المعروف من غير أهله يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
أدام لها حين استجارت بقربه ... قراها من البان اللقاح الغزائر
وأشبعها حتى إذا ما تملأت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... غدا يصنع المعروف مع غير شاكر
ومن الأمثال: قال الميداني: قالوا: ما يخفى هذا على الضبع يضرب للشيء يتعالمه الناس، وللضبع أحمق الدواب.
الخواص: قال صاحب عين الخواص: الضبع تجذب الكلاب كما يجذب المغناطيس الحديد. وذلك أنه إذا كان كلب على سطح في ليلة مقمرة مضيئة ووطئت الضبع ظله في الأرض، يقع الكلب من السطح فتأكله الضبع. وشحم الضبع، إذا طلي به الجسد أمن من مضرة الكلاب، ومرارتها، بذا يبست، وسقي امرأة منها قدر نصف دانق، أبغضت المجامعة وذهبت منها الشهوة. وإذا اتخذ من جلد الضبع منخل، ونخل به البزور، وزرعت لا يضره الجراد، ذكر ذلك كله محمد بن زكريا الرازي، في كتبه انتهى.
قال عطارد بن محمد: الضبع تهرب من عنب الثعلب، فاذا طلي بعصارته الجسد أمن من مضرة الضبع، وجلد الضبع إذا أمسكه إنسان، لم تنبح عليه الكلاب. ومرارتها يكتحل بها تنفع من ظلمة البصر، والماء في العين وتحد البصر وتقويه، وعينها اليمنى تقلع وتنقع في الخل سبعة أيام، ثم تخرج منه وتجعل تحت فص خاتم، فمن لبسه لم يخف سحراً ولا عيناً ما دام لابسه، ومن كان به سحر، فغسل ذلك الخاتم بماء، ثم يسقى منه فإن السحر يذهب عنه. وهو نافع للربط وغيره من أنواع السحر، ورأس الضبع، إذا جعل في برج حمام، كثر فيه الحمام، ولسانها، من أمسكه بيده اليمنى لم تنبح عليه الكلاب ولم تؤذه، وحذاق العيارين يفعلون ذلك.
ومن خاف الضباع، فليأخذ بيده أصلا من أصول العنصل، فإنها تهرب منه. وإذا بخر الصبي العليل سبعة أيام بشعر قفا الضبع، فإنه يبرأ. وإذا سقيت المرأة قضيب الضبعان مسحوقاً، وهي لا تعلم أذهب عنها شهوة الجماع. ومن علق عليه قطعة من فرجها صار محبوباً للناس، وأسنان الضبع، إذا ربطت على العضد، تنفع من النسيان ووجع الأسنان. وإذا جلد بجلده مكيال وكيل به البذر، أمن من ذلك الزرع من سائر الآفات. ومن غريب خواصها، أن من أكل دمها ذهب عنه الوسواس، ومن أمسك بيده حنظلة، فرت الضباع منه، وإذا طلي الجسد بشحم الضباع، أمن من عقر الكلاب.

وقال حنين بن إسحاق: إذا نتف الشعر الذي في باطن أجفان العين، واكتحل بمرارة الضبع، أو بمرارة ببغاء، أو بمرارة سبع، أو بمرارة عنز، فإنه يذهب بإذن الله تعالى. وقضيبه يجفف ويسحق ويستف منه الرجل قدر دانقين فإنه يهيج به شهوة الجماع، ولا يمل من النساء. وقال غيره: إذا شرب من مرارة الضبع نصف درهم بمثله عسلا، نفع من سائر الأعلال التي تكون في الرأس والعين، ويمنع نزول الماء في العين ويشد الانتشار وإن خلطت المرارة بالعسل، واكتحل بها جلا العين وزادها حسناً، وكلما عتق هذا الخلط كان أجود وأحسن نفعاً. وقال ماسرجويه: الاكتحال بمرارة الضبع ينفع من البله والدموع.
ومن غريب خواصها وهو ما أطبق عليه الأطباء، أن شعر الفخذ اليمنى من ذكر الضباع الذي حول فقحته إذا نتف وأحرق وخلط في زيت مسحوقاً، ودهن بن من به بغا أبرأه، وهو يحدث العلة في السليم، إذا كان الشعر من أنثى، فافهم. وهو عجيب مجرب مراراً عديدة.
التعبير: الضبع تدل رؤيته على كشف الأسرار، والدخول فيما لا يعني. وربما دلت رؤية الذكر على الرجل الخنثى المشكل، وربما دلت على عدو ظلوم مكايد مخالف. وقيل: الضبع امرأة قبيحة المنظر، دنيئة الأصل، ساحرة عجوز.
وقال ارطاميدورس: الضبع تدل على الخديعة، ومن ركبها في المنام نال سلطاناً والله أعلم.
أبو ضبة: الدراج. قاله في المرصع، وقد تقدم لفظ الدراج في باب الدال المهملة.
الضرغام: والضرغامة الأسد، وما أحسن ما رواه أبو مظفر السمعاني، عن والده، قال: سمعت سعد بن نصر الواعظ الحيوان يقول: كنت خائفاً من الخليفة لحادث نزل واشتد الطلب لي فاختفيت، فرأيت في النوم ليلة من الليالي كأني في غرفة جالس على كرسي وأنا أكتب شيئاً، فجاء رجل فوقف بإزائي وقال: اكتب ما أملي عليك وأنشدني:
ادفع بصبرك حادث الأيام ... وترج لطف الواحد العلام
لا تيأسن وإن تضايق كربها ... ورماك ريب صروفها بسهام
فله تعالى بين ذلك فرجة ... تخفى على الأبصار والأوهام
كم من نجي بين أطراف القنا ... وفريسة سلمت من الضرغام
قال: فلما أصبحت أتى الفرج، وزال الخوف والحرج. وفي سراج الملوك، للإمام العلامة الطرطوشي، عن عبد الله بن حمدون قال: كنت مع المتوكل، لما خرج إلى دمشق، فركب يوماً إلى رصافة هشام بن عبد الملك بن مروان فنظر إلى قصورها، ثم خرج فرأى ديراً هناك، قديماً حسن البناء، بين مزارع وأنهار وأشجار، فدخله فبينما هو يطوف، إذ أبصر رقعة قد التصقت في صدره، فأمر بقلعها فإذا فيها هذه الأبيات:
أيا منزلا بالدير أصبح خالياً ... تلاعب فيه شمأل ودبور
كأنك لم يسكنك بيض أوانس ... ولم تتبختر في فنائك حور
وأبناء أملاك غواشم سادة ... صغيرهم عند الأنام كبير
إذا لبسوا أدراعهم فعوابس ... وإن لبسوا تيجانهم فبدور
على أنهم يوم اللقاء دراغم ... وأيديهم يوم العطاء بحور
ليالي هشام بالرصافة قاطن ... وفيك ابنه يا دير وهو أمير
إذ الدهر غض والخلافة لدنة ... وعيش بني مروان فيك نضير
ويروى:
وروضك مرتاض ونورك مزهر ... وعيش بني مروان فيك نضير
بلى فسقاك الله صوب غماماً ... عليك بها بعد الرواح بكور
تذكرت قومي خالياً فبكيتهم ... بشجو ومثلي بالبكاء جدير
فعزيت نفسي وهي نفس إذا جرى ... لها ذكر قومي أنة وزفير
لعل زماناً بالبكاء يوماً عليهم ... لهم بالذي تهوى النفوس يدور
فيفرح محزون وينعم بائس ... ويطلق من ضيق الوثاق أسير
رويدك إن اليوم يتبعه غد ... وإن صروف الدائرات تدور
فلما قرأها المتوكل ارتاع وتطير، وقال: أعوذ بالله من شر أقداره، ثم دعا صاحب الدير وسأله عن الرقعة ومن كتبها؟ فقال: لا علم لي بهما.
وذكر غيره، أنه بعد عوده إلى بغداد، لم يلبث إلا أياماً قلائل حتى قتله ابنه المنتصر. وقد تقدم ذكر قتله وكيفيته، في باب الهمزة. في الإوز في ذكر الخلفاء.

وذكر ابن خلكان، في تاريخه في ترجمة علي بن محمد بن أبي الحسن الشابشتي، أن الواقعة كانت للرشيد، قال: ولم نعرف نسبة الشابشتي إلى أي شيء.
الضريس: الطيهوج، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الطاء المهملة.
ومن أمثال العامة السائرة أكسل من الضريس، لأنه يلقي رجيعه على أولاده.
الضغبوس: ولد الثرملة، وقد تقدم في باب الثاء المثلثة أنها أنثى الثعالب.
الضفدع: بكسر الضاد وسكون الفاء والعين المهملة بينهما دال مهملة، مثال الخنصر، واحد الضفادع، والأنثى ضفدعة وناس يقولون: ضفدع بفتح الدال، قال الخليل: ليس في الكلام فعلل إلا أربعة أحرف: درهم وهجرع وهو الطويل وهبلع وهو الأكول، وبلعم وهو اسم. وقال ابن الصلاح: الأشهر فيه، من حيث اللغة، كسر الدال وفتحها، أشهر في ألسنة العامة وأشباه العامة من الخاصة وقد أنكره بعض أئمة اللغة، وقال البطليوسي، في شرح أدب الكاتب: وحكي أيضاً ضفدع، بضم الضاد وفتح الدال، وهو نادر. وحكاه المطرزي أيضاً، قال في الكفاية: وذكر الضفادع يقال له العلجوم، بضم العين والجيم وإسكان اللام والواو وآخره ميم. ويقال للضفادع أبو المسيح وأبو هبيرة وأبو معبد وأم هبيرة.
والضفادع أنواع كثيرة، وتكون من سفاد وغير سفاد، وتتولد من المياه القائمة الضعيفة الجري، ومن العفونات وعقب الأمطار الغزيرة، حتى يظن أنه يقع من السحاب لكثرة ما يرى منه على الأسطحة، عقب المطر والريح. وليس ذلك عن ذكر وأنثى وإنما الله تعالى يخلقه في تلك الساعة، من طباع تلك البرية، وهي من الحيوانات التي لا عظام لها. ومنها ما ينق وما لا ينق، والذي ينق منها يخرج صوته من قرب أذنه، وتوصف بحدة السمع إذا تركت النقيق وكانت خارج الماء، وإذا أرادت أن تنق أدخلت فكها الأسفل في الماء، ومتى دخل الماء في فيها لا تنق. وما أظرف قول الشاعر وقد عوتب على قلة كلامه:
قالت الضفدع قولا ... فسرته الحكماء
في فمي ماء وهل ين ... طق من في فيه ماء
قال عبد القاهر: والثعبان يستدل بصياح الضفادع عليه، فيأتي على صياحه فيأكله. وأنشد في ذلك يقول:
يجعل في الأشداق ماء ينصفه ... حتى ينق والنقيق يتلفه
قوله: ينصفه بضم الياء المثناة تحت، وإسكان النون وكسر الصاد المهملة، وليس المراد هنا العدل بل المراد حتى يبلغ نصف فكه الأعلى، وقوله: والنقيق يتلفه أراد به الضفادع إذا صاحت يتبعها الثعبان فيجيء فيأكلها وفي ذلك يقول الشاعر:
ضفادع في ظلماء تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وحية البحر الأفعى التي تكون في البر، وهي تعيش في البر والبحر كما تقدم. ويعرض لبعض الضفادع مثل ما يعرض لبعض الوحوش من رؤية النار حيرة إذا رأتها وتتعجب منها إلا أنها تنق، فإذا أبصرت النار سكتت، ولا تزال تدمن النظر إليها، وأول نشئها في الماء أن تظهر مثل حب الدخن أسود ثم تخرج منه، وهي كالدعموص، ثم بعد ذلك تنبت لها الأعضاء، فسبحان القادر على ما يشاء وما يريد سبحانه لا إله إلا هو. وفي الكامل لابن علي، في ترجمة عبد الرحمن بن سعد بن عثمان بن سعد القرظ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل ضفدعاً فعليه شاة محرماً كان أو حلالا " . قال سفيان: يقال إنه ليس شيء أكثر ذكرا لله منه. وفيه، في ترجمة حماد بن عبيد، أنه روى عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أتى ضفدعاً ألقت نفسها في النار من مخافة الله فأثابهن الله بها برد الماء وجعل نقيقهن التسبيح. وقال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع والصرد والنحلة " قال: ولا أعلم لحماد بن عبيد غير هذا الحديث. قال البخاري: لا يصح حديثه، وقال أبو حاتم: ليس بصحيح الحديث.
وفي كتاب الزاهر لأبي عبد الله القرطبي، أن داود عليه السلام قال: لأسبحن الله الليلة تسبيحاً ما سبحه به أحد من خلقه، فنادته ضفدعة من ساقية في داره: يا داود تفتخر على الله بتسبيحك، وإن لي لسبعين سنة ما جف لساني من ذكر الله تعالى، وإن لي لعشر ليال ما طعمت خضراً ولا شربت ماء اشتغالا بكلمتين. فقال: ما هما؟ قالت: يا مسبحاً بكل لسان، ومذكوراً بكل مكان، فقال داود في نفسه: وما عسى أن أقول أبلغ من هذا؟.

وروى البيهقي في شعبه عن أنس بن مالك أنه قال: إن نبي الله داود ظن في نفسه أن أحداً لم يمدح خالقه بأفضل مما مدحه به، فأنزل الله عليه ملكاً وهو قاعد في محرابه، والبركة إلى جنبه، فقال: يا داود افهم ما تصوت به هذه الضفدعة فأنصت إليها، فإذا هي تقول: سبحانك وبحمدك منتهى علمك. فقال له الملك: كيف ترى؟ فقال: والذي جعلني نبياً إني لم أمدحه بهذا. وفي كتاب فضل الذكر لجعفر بن محمد بن الحسن الغرياني الحافظ العلامة، عن عكرمة، أنه قال: صوت الضفادع تسبيح. وفيه أيضاً عن الأعمش عن أبي صالح، أنه سمع صوت صرير باب، فقال: هذا منه تسبيح.
فائدة: قال الرئيس ابن سينا: إذا كثرت الضفادع في سنة، وزادت عن العادة، يقع الوباء عقبها. وقال القزويني: الضفادع تبيض في الرمل مثل السلحفاة، وهي نوعان: جبلية ومائية. ونقل الزمخشري في الفائق، عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، قال: سأل رجل ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فرأى فيما يرى النائم رجلا كالبلور، يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان في صورة ضفادع له خرطوم كخرطوم البعوضة، قد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس له، فإذا ذكر الله خنس. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ذكر هذا أيضاً في لفظ الكركي، من كلام السهيلي.
الحكم: يحرم أكلها للنهي عن قتلها، وروى البيهقي في سننه، عن سهل بن سعد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن قتل خمسة: النملة والنحلة والضفدع والصرد والهدهد " . وفي مسند أي داود الطيالسي، وسنن أبي داود والنسائي والحاكم، عن عبد الله بن عثمان التيمي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن طبيباً سأله عن ضفادع يجعلها في دواء، " فنهاه صلى الله عليه وسلم عن قتلها " . فدل على الضفادع يحرم أكلها وأنها غير داخلة فيما أبيح من ثواب الماء. وقال بعض الفقهاء: إنما حرم الضفادع، لأنه كان جار الله في الماء الذي كان عليه العرش قبل خلق السموات والأرض، قال تعالى: " وكان عرشه على الماء " .
روى ابن عدي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقتلوا الضفادع، فإن نقيقها تسبيح " . قال السلمي: سألت الدارقطني عنه، فقال: إنه ضعيف، قلت: الصواب أنه موقوف على عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قاله البيهقي، وقد تقدم في الخطاف. قال الزمخشري: إنها تقول في نقيقها سبحان الملك القدوس. وعن أنس: لا تقتلوا الضفادع، فإنها مرت بنار إبراهيم عليه السلام، فحملت في أفواهها الماء وكانت ترشه على النار. وفي شفاء الصدور لابن سبع، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقهن تسبيح " .
ومن أحكامه: أنه ينجس بالموت كغيره من الحيوان الذي لا يؤكل. ونقل في الكفاية، عن الماوردي حكاية وجه أنه لا ينجس بالموت. وغلطه شيخنا، في النقل عنه، وقال: لا ذكر لهذا الوجه في الحاوي، ولا في غيره من كتبه. وإذا ماتت في ماء قليل، قال النووي: إن قلنا لا تؤكل نجسته بلا خلاف. وحكى الماوردي في نجاسته قولين: أحدهما ينجس كما ينجس بسائر النجاسات، والثاني يعفى عنه كدم البراغيث، والأصح الأول. ولما قدم وفد اليمامة على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، بعد قتل مسيلمة، قال لهم: ما كان صاحبكم يقول؟ فاستعفوه من ذلك. فقال: لتقولن، قالوا: كان يقول يا ضفادع ابنة ضفادع، كم تنقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين.
الأمثال: قالوا: أنق من ضفادع. قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وقد تقدم ذكره وهو كقولهم: على أهلها دلت براقش. وهي كلبة سمعت وقع حوافر الدواب فنبحت فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم قال حمزة بن بيض:
لم يكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني جنتني
بل جناها أخ على كريم ... وعلى أهلها براقش تجني

الخواص: قال ابن جميع في كتابه الإرشاد: لحوم الضفادع تغثي النفس وتورث إسهالا دموياً، فيتغير منه لون البدن، ويرم ويختلط العقل. وقال صاحب عين الخواص: شحم الضفادع الآجامية، إذا وضع على الأسنان قلعها من غير وجع، وعظم البري، إذا وضع على رأس القدر منعها من الغليان، وإذا يبس ضفادع في الظل ودق وطبخ مع خطمي، وطلي به بعد طلي النورة والزرنيخ لم ينبت عليه الشعر بعد ذلك. والضفدع إذا طرح وهو حي في الشراب الصرف مات، فإذا أخرج وألقي في ماء صاف عاش.
ونقل عن محمد بن زكريا الرازي أن رجل الضفدع، إذا علقت على من به النقرس سكن وجعه. انتهى. وإذا أخذت المرأة ضفدع الماء، فتحت فاه وبصقت فيه ثلاث مرات، ثم ردته إلى الماء فإنها لا تحبل وإذا مسحت القدر من ظاهرها بشحمه، وأوقد تحتها ما عسى أن يوقد، لم تغل أبداً. وإذا رضخت الضفدع، وجعلت على لسعة الهوام أبرأتها من وقتها. ومن خواصه العجيبة، أنه إذا شق نصفين من رأسه إلى أسفله، وامرأة تنظر إليه، غلبت شهوتها وكثر ميلها إلى الرجال. وإذا علق لسانه على امرأة نائمة، أخبرت بكل ما عملت في اليقظة. وإذا جعل لسانه في خبز، وأطعم لمن اتهم بالسرقة، فإنه يقر بها. ودمه يطلى به الموضع الذي نتف شعره لم ينبت أبداً. ومن لطخ به وجهه أحبه الناس. وإذا وضع على اللثة أسقط السن، بلا تعب.
قال القزويني: ولقد كنت في الموصل، ولنا صاحب في بستان، بنى مجلساً وبركة، فتولدت فيها الضفادع وتأذى سكان المكان بنقيقها وعجزوا عن إبطاله، حتى جاء رجل فقال: اجعلوا طشتاً على وجه الماء مقلوباً ففعلوا، فلم يسمع لها نقيق بعد ذلك. وقال محمد بن زكريا الرازي: إذا وضع سراج في طاس، وجعل فوق الماء أو في قناة فيها أصوات الضفادع سكتت، ولا يسمع لها صوت البتة.
التعبير: الضفدع في المنام رجل عابد مجتهد في طاعة الله، لأنه صب الماء على نار نمرود. والضفادع الكثيرة عذاب، لأنها من آيات موسى عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفدع " الآية. وقالت النصارى: من رأى أنه مع الضفادع حسنت عشرته مع أقربائه وجيرانه. ومن أكل لحم ضفادع في منامه، نال مشقة، وقال ارطاميدورس: الضفادع في المنام تدل على الخداعين والسحرة. وقال جاماسب: من كلم ضفدعاً في المنام نال ملكاً. ومن رأى الضفادع خرجت من مدينة خرج منها العذاب والله أعلم. الضوع: بضاد معجمة مضمومة وواو مخففة مفتوحة وعين مهملة في آخره. قال النووي: الأشهر أنه من جنس الهوام، وقال الجوهري: إنه طائر من طير الليل من جنس الهام، وقال المفضل: هو ذكر البوم وجمعه أضواع وضيعان. وأصح القولين تحريم أكله، كما صرح به في شرح المهذب، قال الرافعي: هذا يقتضي أن الضوع ذكر البوم، وذكر ما تقدم، ثم قال: فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم اجراؤه في البوم لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان قال النووي: قلت الأشهر أن الضوع من جنس الهوام، فلا يلزم اشتراكهما في الحكم.
وحكمه: تحريم الأكل على الأصح كما صرح به في شرح المهذب.
الضيب: شيء من دواب البحر، على هيئة الكلب وخلقته، قاله ابن سيده.
الضئيلة: الحية الدقيقة. قاله الجوهري، وقد تقدم لفظ الحية في باب الحاء المهملة.
الضيون: بفتح الضاد والواو وإسكان الياء المثناة تحت بينهما وبالنون في آخره، الهر الذكر، والجمع ضياون. قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
بريد كأن الشمس في حجراته ... نجوم الثريا أو عيون الضياون
وقالت العرب: أدب من الضيون. وهو من الدبيب قال الشاعر:
يدب بالليل لجاراته ... كضيون دب إلى قرنب
القرنب: الفأر. وقالوا: أصيد من ضيون، والله أعلم. وأزق وأنزى من ضيون.
خاتمة: قال الصقلي: ليس في الأسماء شيء فيه ياء ساكنة بعدها واو مفتوحة إلا ثلاثة أسماء: حيوة وضيون وكيوان، وهو زحل. وقد ذكر أهل الهيئة، أن ثورته المختصة به من المغرب إلى المشرق، تتم في تسع وعشرين سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وسلا المنجمون النحس الأكبر، لأنه في النحوسة فوق المريخ، وأضافوا إليه الخراب والهلاك والهم والغم وزعموا أن النظر إليه يفيد غماً وحزناً، كما أن النظر إلى الزهرة يفيد فرحاً وسروراً والله أعلم.

باب الطاء المهملة

طامر بن طامر: البرغوث والخسيس من الناس، ويقال للخامل الذي لا يعرف: هو طامر ابن طامر.
الطاوس: طائر معروف وتصغيره طويس، بعد حذف الزوائد، وكنيته أبو الحسن وأبو الوشي، وهو في الطير كالفرس في الدواب، عزاً وحسناً، وفي طبعه العفة وحب الزهو بنفسه والخيلاء والإعجاب بريشه وعقده لذنبه كالطاق، لاسيما إذا كانت الأنثى ناظرة إليه. والأنثى تبيض بعد أن يمضي لها من العمر ثلاث سنين، وفي ذلك الأوان يكمل ريش الذكر ويتم لونه وتبيض الأنثى مرة واحدة في السنة اثنتي عشرة بيضة وأقل وأكثر، ولا تبيض متتابعاً ويسفد في أيام الربيع، ويلقي ريشه في الخريف كما يلقي الشجر ورقه، فإذا بدا طلوع الأوراق في الشجر طلع ريشه، وهو كثير العبث بالأنثى، إذا حضنت، وربما كسر البيض ولهذه العلة يحضن بيضه تحت الدجاج، ولا تقوى الدجاجة على حضن أكثر من بيضتين منه، وينبغي أن تتعاهد الدجاجة بجميع ما تحتاج إليه من الأكل والشرب، مخافة أن تقوم فيفسده الهواء. والفرخ الذي يخرج من حضن الدجاجة، يكون قليل الحسن، ناقص الخلق وناقص الجثة، ومدة حضنه ثلاثون يوماً، وفرخه يخرج من البيضة كالفروج كاسياً كاسباً، وقد أحسن الشاعر في وصفه حيث قال: سبحان من من خلقه الطاوس طير على أشكاله رئيس
كأنه في نقشه عروس ... في الريش منه ركبت فلوس
تشرق في داراته شموس ... في الرأس منه شجر مغروس
كأنه بنفسج يميس ... أو هو زهر حرم يبيس
وأعجب الأمور أنه مع حسنه يتشاءم به، وكأن هذا، والله أعلم، أنه لما كان سبباً لدخول إبليس الجنة، وخروج آدم منها، وسبباً لخلو تلك الدار من آدم مدة دوام الدنيا، كرهت إقامته في الدور بسبب ذلك.
حكي أن آدم لما غرس الكرمة، جاء إبليس فذبح عليها طاوساً، فشربت دمه فلما طلعت أوراقها، ذبح عليها قرداً فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسداً فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيراً فشربت دمه، فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة، وذلك أنه أول ما يشربها وتدب في أعضائه، يزهو لونه ويحسن كما يحسن الطاوس فإذا جاءت مبادي السكر لعب وصفق ورقص، كما يفعل القرد فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية، فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير، ويطلب النوم وتنحل عراقوته.
فائدة: طاوس بن كيسان فقيه اليمن كان اسمه ذكوان، فلقب بطاوس لأنه كان طاوس القراء والعلماء. وقيل: اسمه طاوس وكنيته أبو عبد الرحمن، كان رأساً في العلم والعمل، من سادات التابعين أدرك خمسين صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع ابن عباس وأبا هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن الزبير، وروى عنه مجاهد وعمرو بن دينار وعمرو بن شعيب، ومحمد بن شهاب الزهري وآخرون.

قال ابن الصلاح، في رحلته: روينا عن الزهري، أنه قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة، قال: فمن خلفت بها يسود أهلها. قال: قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية. فقال: إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا الناس. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء. قال: من كان كذلك ينبغي أن يسود الناس. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. فقال: كما قال في الأولين. ثم قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول الدمشقي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي عبد نوبي، أعتقته امرأة من هذيل. فقال كما قال، ثم قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي. فقال كما قاله، ثم قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. فقال كما قال، ثم قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: ويلك! فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري، فرجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب، حتى يخطب لها على المنابر، وإن العرب تحتها! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، فمن حفظه ساد ومن ضيعه سقط.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، كتب إليه طاوس: إن أردت أن يكون عملك خيراً كله، فاستعمل أهل الخير. قال عمر: كفى بها موعظة. وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن طاوس، أنه قال: بينما أنا بمكة استدعاني الحجاج، فأتيته فأجلسني إلى جانبه وأتكأني على وسادة، فبينما نحن نتحدث، إذ سمع صوتاً عالياً بالتلبية، فقال: علي بالرجل، فأحضر فقال له: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين. فقال: إنما سألتك عن البلد والقوم! قال: من أهل اليمن، فقال: كيف تركت محمد بن يوسف يعني أخاه، وكان والياً على اليمن، فقال: تركته جسيماً وسيما لباساً حريراً، ركاباً خراجاً ولاجاً! فقال: إنما سألتك عن سيرته، فقال: تركته غشوماً ظلوماً، مطيعاً للمخلوق، عاصياً للخالق! قال: أتقول فيه هذا وقد علمت مكانه مني؟ فقال الرجل: أتراه بمكانه منك أعز من مكاني من ربي، وأنا مصدق نبيه صلى الله عليه وسلم، ووافد بيته؟! فسكت الحجاج، وذهب الرجل من غير إذن. قال طاوس: فتبعته فقلت: الصحبة، فقال: لا حباً ولا كرامة، ألست صاحب الوسادة؟! الآن وقد رأيت الناس يستفتونك في دين الله، قلت: إنه أمير مسلط، أرسل إلي فأتيته كما فعلت أنت. قال: فما ذاك الاتكاء على الوسادة في رخاء بال؟! هلا كان لك من واجب نصحه، وقضاء حق رعيته بوعظه، والحذر من بوائق عسفه، وتخلى نفسك من ساعة الأنس به ما يكدر عليك تلك الطمأنينة؟! قلت: أستغفر الله وأتوب إليه، ثم أسألك الصحبة؟! فقال: غفر الله لك إن لي مصحوباً شديد الغيرة علي، فلو أنست بغيره رفضني. ثم تركني وذهب.
وفي تاريخ ابن خلكان، عن عبد الله الشامي، قال: أتيت طاوساً فخرج إلي شيخ كبير، فقلت: أنت طاوس؟ فقال: أنا ابنه، فقلت: إن كنت ابنه فإن الشيخ قد خرف! قال: إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه، فقال: أتحب أن أجمع لك التوراة والإنجيل والزبور والفرقان في مجلسي هذا؟ قلت: نعم. فقال: خف الله مخافة لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب لأخيك ما تحب لنفسك.
وقالت امرأة: ما بقي أحد إلا فتنته إلا طاوساً فإني تعرضت له، فقال لي: إذا كان وقت كذا فتعالي! قالت: فجئت ذلك الوقت، فذهب بي إلى المسجد الحرام، وقال: اضطجعي فقلت: هاهنا؟! فقال: الذي يرانا هاهنا يرانا في غيره! فتابت المرأة. وقال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج.
وكان طاوس يقول: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا أحصي عليه حتى أنينه في مرضه.

وقال: لقي عيسى ابن مريم عليه السلام إبليس فقال: أما علمت أنه لا يصيبك إلا ما قدر لك؟ قال: نعم. قال إبليس: فارق إلى ذروة هذا الجبل وترد منها، فانظر أتعيش أم لا. فقال له عيسى عليه السلام: أما علمت أن الله قال: لا يختبرني عبدي، فإني أفعل ما شئت، إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الله يبتلي عبده. قال طاوس: فخصمه.
وكان يقول: صاحب العقلاء تنسب إليهم، وإن لم تكن منهم. وروى أبو داود الطيالسي، عن زمعة ابن صالح عن ابن طاوس عن أبيه أنه قال: من لم يدخل في وصية، لم تنله بلية، ومن لم يتول القضاء بين الناس لم ينله جهد البلاء.
وروى أحمد عنه، في كتاب الزهد، أنه قال: إن الموتى يفتنون في قبورهم سبعة أيام، فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام. قال: وكان من دعاء طاوس: اللهم ارزقني الإيمان والعمل، ومتعني بالمال والولد.
روى عنه الحافظ أبو نعيم وغيره، أنه قال: كان رجل له أربعة بنين فمرض، فقال أحدهم: إما أن تمرضوه، وليس لكم من ميراثه شيء، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء؟ فقالوا: من أمرضه وليس لك من ميراثه شيء فمرضه حتى مات. ولم يأخذ من ميراثه شيئاً فأتى إليه في النوم، فقال له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه مائة دينار. فقال في نومه: أفيها بركة؟ فقال: لا. فأصبح فذكر ذلك لامرأته فقالت: خذها فإن من بركتها أن تكتسي منها وتعيش فأبى. فلما أمسى أتى له في النوم، فقال له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير، فقال: أفيها بركة؟ قال: لا. فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته، فقالت له مثل مقالتها الأولى، فأبى أن يأخذها. فأتى له في الليلة الثالثة، فقال له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه ديناراً، قال: أفيه بركة؟ قال: نعم. فذهب فأخذ الدينار، ثم خرج به إلى السوق، فإذا هو برجل يحمل حوتين، فقال له: بكم هما. فقال: بدينار فأخذهما منه بالدينار، وانطلق بهما إلى منزله، فشق بطونهما فوجد فيهما درتين، لم ير الناس مثلهما. قال: فبعث الملك يطلب درة ليشتريها فلم توجد إلا عنده، فباعها بوقر ثلاثين بغلا ذهباً. فلما رآها الملك، قال: ما تصلح هذه إلا بأخت، أطلبوا أختها وإن أضعفتم ثمنها فجاؤوا إليه فقالوا له: أعندك أختها، ونحن نعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. فأعطاهم إياها بضعف ما أخذوا به الأولى.
توفي طاوس وهو ابن بضع وسبعين سنة حاجاً بمكة، قبل يوم التروية بيوم، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، وهو أمير المؤمنين، وذلك في سنة ست ومائة. وحج أربعين حجة وكان مجاب الدعوة.
الحكم: يحرم أكل لحم الطاوس لخبث لحمه، وقيل: يحل لأنه لا يأكل المستقذرات واللحوم، وعلى الوجهين يصح بيعه إما لحل أكله، وإما للتفرج على لونه. وقد تقدم في الصيد، أن أبا حنيفة قالي: لا يقطع سارق الطيور لأن أصلها على الإباحة، وخالفه الشافعي ومالك وأحمد الأمثال: قالوا: أزهى من طاوس وأحسن من طاوس. قال الجوهري: وقولهم: أشأم من طويس، هو مخنث كان بالمدينة، قال: يا أهل المدينة توقعوا خروج الدجال ما دمت حياً بين ظهرانيكم، فإذا مت فقد أمنتم، لأني ولدت في الليلة التي مات فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وفطمت في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، وبلغت الحلم في اليوم الذي قتل فيه عمر، وتزوجت في اليوم الذي قتل فيه عثمان وولد لي في اليوم الذي قتل فيه علي.
وذكر ابن خلكان أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة، أن أحص المخنثين قبلك فوقعت على الحاء نقطة فأمر بالمخنثين فخصوا، وخصي طويس من جملتهم فلما خصوهم، أظهروا الفرح بذلك حتى قال أحدهم: ما كان أغنانا عن سلاح لا نقاتل به. وقال آخر، وهم طويس: أف لكم ما سلبتموني إلا ميزاب بول انتهى. وكان طويس اسمه طاوس، فلما تخنث جعلوه طويساً ويسمى بعبد النعيم وقال في نفسه:
إنني عبد النعيم ... أنا طاوس الجحيم
وأنا أشأم من يم ... شي على ظهر الحطيم
أنا حاء ثم لام ... ثم قاف حشو ميم
عنى بقوله حشو ميم الياء، لأنك إذا قلت: ميم وقعت بين الميمين ياء، يريد أنه حلقي. وأراد بالحطيم الأرض، فكأنه قال: أنا أشأم الناس. توفي في طويس في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة.

الخواص: لحم الطاوس عسر الهضم رديء المزاج، وأجوده الحديث ينفع المعدة الحارة، وسلقه قبل طبخه بالخل، يدفع ضرره، وهو يولد كيموساً غليظاً يوافق الأمزجة الحارة. وقد كرهت الحكماء لحوم الطواويس وقالوا: إنها أغلظ لحوم جميع الطيور وأعسرها انهضاماً، ويجب أن يذبح ويبيت مثقلا ويطبخ وينضج، ويمنع منه أصحاب الترفه والرفاهية، فإنه من أغذية أصحاب الرياضة. قال ابن زهر، في خواصه: إن الطاوس إذا رأى طعاماً مسموماً، أوشم رائحته فرح ونشر جناحيه ورقص، وبأن منه السرور، ومرارته إذا سقي منها المبطون بالكنجبين والماء الحار أبرأه. ونقل عن هرمس، أن مرارته إذا شربت بخل نفعت من لدغ الهوام، لكن قال صاحب عين الخواص: قالت الحكماء، وأطهورس: إن مرارة الطاوس، إن سقي منها إنسان جن، قال وقد جربته. وقال هرمس: إن خلط دم الطاوس بالأنزروت والملح وطلي به القروح الرديئة الرطبة، التي يخاف منها الأكلة، أبرأها. وزبله، إن طلي به الثآليل قلعها، وعظامه، إذا أحرقت وسحقت وطلي بها الكلف أبرأته بإذن الله تعالى.
التعبير: الطاوس تدل رؤيته على التيه والعجب بالحسن والجمال لمن ملكه، وربما دلى رؤيته على النميمة والغرور والكبر والانقياد إلى الأعداء، وزوال النعم، والخروج من النعيم إلى الشقاء، ومن السعة إلى الضيق، وربما تدل رؤيته على الحلي والحلل، والتاج والأزواج الحسان والأولاد الملاح. وقال المقدمي: الطاوس في المنام، امرأة عجمية ذات مال وجمال، لكنها مشؤومة الناصية. والذكر من الطواويس ملك أعجمي، فمن رأى أنه يواخي الطواويس، فإنه يواخي ملوك العجم، وينال منهم جارية نبطية. وقال ارطاميدورس: الطواويس في الرؤيا تدل على أقوام صباح الوجوه، ضحاك السن. وقيل: الطاوس امرأة أعجمية غير مسلمة والله أعلم.

الطائر: واحد الطيور والأنثى طائرة، وهي قليلة، وجمع الطير أطيار وطيور. والطيران حركة في الجناحين في الهواء بجناحيه قال الله تعالى: " وما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه، إلا أمم أمثالكم " أي في الخلق والرزق، والحياة والموت، والحشر والمحاسبة، والاقتصاص من بعضها لبعض كما تقدم. فإذا كان يفعل هذا بالبهائم، فنحن أحرى إذ نحن مكلفون عقلا. وقيل: أمم أمثالكم في التوحيد والمعروفة، قاله عطاء. وقوله بجناحيه تأكيد وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة، فقد يقال طائر للنحس والسعد. وقال الزمخشري: الغرض من ذكر ذلك، الدلالة على عظيم قدرة الله ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره، تلك الخلائق المتفاوتة والأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، ومهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن. روى أحمد، بإسناد صحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة " . قال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه الطير لناعمة قال صلى الله عليه وسلم: " آكلها أنعم منها قالها ثلاثاً وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها " . ورواه الترمذي بنحو هذا اللفظ، وقال: إنه حسن. وروى البزار عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً " . وفي أفراد مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير " . قال النووي: قيل مثلها في وقتها وضعفها، كالحديث الآخر " أهل اليمن أرق وأضعف أفئدة " . وقيل في الخوف والهيبة، لأن الطير أكثر الحيوان خوفاً وفزعاً، كما قال تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وكأن المراد قوم غلب عليهم الخوف، كما جاء عن جماعات من السلف من شدة خوفهم. وقيل: المراد متوكلون، وقيل: الطائر ما تيامنت به أو تشاءمت به، وأصله في ذي الجناح. وقالوا: طائر الله لا طائرك، فرفعوه على إرادة: هذا طائر الله، وفيه معنى من الدعاء. وطائر الإنسان عمله، الذي قلده، وقيل: رزقه، والطائر الحظ من الخير والشر، وقوله تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " قيل: حظه، وقال المفسرون: ما عمل من خير أو شر ألزمناه عنقه، فلكل امرئ حظ من الخير والشر، قد قضاه الله تعالى، فهو ملازم عنقه. وإنما قيل: للحظ من الخير والشر طائر، لقول العرب: جرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل. وفي سنن أبي داود وغيرها عن أبي رزين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت " قال: وأحسبه قال: " ولا تعبرها إلا على ذي ود أو ذي رأي " .
وذكر ابن خلكان أن موسى بن نصير، أمير بلاد المغرب، وفد على الوليد بن عبد الملك، بعد أن فتح الغرب، إلى البحر المحيط إلى طليطلة، التي تحت بنات نعش، فأخبره بالفتح، وقدم معه بمائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، التي وجدت في طليطلة، وكانت مصوغة من الذهب والفضة، وعليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرد، وكان قد حملها على بغل قوي، فما سار إلا قليلا حتى تفسخت قوائمه لعظمها، وقدم معه أيضاً بتيجان ملوك اليونان، مكللة بالجواهر، وثلاثين ألف رأس من الرقيق.

قال: وكان اليونان، وهم أهل الحكمة، يسكنون بلاد المشرق قبل الإسكندرية، فلما ظهرت الفرس وزاحمت اليونان على ما بأيديهم من الممالك، انتقلوا إلى جزيرة الأندلس، لكونها طرفاً من آخر العمارة، ولم يكن لها ذكر، ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرة، ولا كانت عامرة كلها، وكان أول من عمرها واختط فيها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام، فسميت باسمه، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان، كانت صورة المعمور منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق، وذنبه المغرب، وجناحاه الشمال والجنوب، وبطنه ما بينهما، فكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخس أجزاء الطائر. وكان اليونان لا يرون فناء الأمم بالحروب، لما فيه من الأضرار والاشتغال عن العلوم، التي أمرها عندهم أهم الأمور، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس، فعمروها وشقوا أنهارها، وبنوا المعاقل، وغرسوا الجنان والكروم، وملئوها حرثاً ونسلا، فعظمت وطابت، حتى قال قائلهم، لما رأى بهجتها: إن الطائر الذي صورت العمارة على شكله، وكان المغرب ذنبه، كان طاوساً، لأن معظم جماله في ذنبه. ولما كملت اليونان عمارة جزيرة الأندلس، جعلوا دار الحكمة والملك فيها مدينة طليطلة، لأنها وسط البلاد.
قيل: إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء: على أدمغة اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب.
وفي كفاية المعتقد لشيخنا الإمام العارف جمال الدين اليافعي رحمه الله، أن الشيخ العارف بالله تعالى عمر بن الفارض رحمه الله تعالى، دخل في أيام بدايته مدرسة بديار مصر، فوجد شيخاً بقالا يتوضأ من بركة ماء فيها بغير ترتيب، فقال له: يا شيخ، أنت في هذا السن، وفي مثل هذا البلد، ولا تحسن الوضوء! فقال له: يا عمر ما يفتح عليك بمصر! فجاء إليه وجلس بين يديه وقال: يا سيدي ففي أي مكان يفتح علي؟ قال: بمكة، فقال له: يا سيدي وأين مكة. فقال له: هذه وأشار بيده نحوها فكشف له عنها، وأمره الشيخ بالذهاب إليها في ذلك الوقت فوصل إليها في الحال، وأقام بها اثنتي عشرة سنة ففتح عليه، ونظم فيها ديوانه المشهور، ثم بعد مدة سمع الشيخ المذكور يقول: تعال يا عمر احضر موتي! فجاء إليه، فقال: خذ هذا الدينار فجهزني به، ثم احملني وضعني في هذا المكان، وأشار بيده إلى مكان في القرافة، وهو الموضع الذي دفن فيه ابن الفارض، ثم انتظر ما يكون من أمري. قال: فعانيته ولم أزل معانياً له، حتى فرغت من تجهيزه، ثم حملته ووضعته فيه ووقفت، فإذا أنا برجل قد نزل من الهواء، فصلينا عليه، ثم وقفنا ننتظر ما يكون من أمره، وإذا الجو قد امتلأ بطيور خضر، فجاء طائر كبير فابتلعه ثم طار، فتعجبت منه! فقال لي ذلك الرجل: لا تعجب من هذا، فإن أرواح الشهداء، في حواصل طيور خضر، ترعى في الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش! قال شيخنا: أولئك شهداء السيوف، وأما شهداء الصفوة، فأجسادهم أرواح، وقد تكلمت على مقام المحبة، في آخر الجزء الثامن من كتابي الجوهر الفريد في نحو خمسين كراكيس، فلينظر هناك وبالله التوفيق.
فروع منثورة: منها لو ملك الإنسان طائراً أو صيداً، وأراد إرساله من يده، فوجهان: أحدهما أنه يجوز ويزول ملكه عنه كما لو أعتق عبداً. واختاره ابن أبي هريرة. والثاني لا يجوز ذلك، واختاره الشيخ أبو إسحاق والقفال والقاضي أبو الطيب، وهو الأصح في الروضة والشرح، ولو فعله عصى، ولم يخرج عن ملكه بالإرسال، لأنه يشبه سوائب الجاهلية، كما تقدم في باب الصاد المهملة.
وقياساً على ما لو سيب دابة، قال القفال: والعوام يسمونه عتقاً، ويحتسبونه وهو حرام، وينبغي الاحتراز عن ذلك، لأن الطائر المخلى يختلط بالطيور المباحة، فيأخذه الآخذ ظناً أنه قد ملكه، وهو لا يملكه، فيكون سبباً لوقوع أخيه المؤمن في المحظورات.

واختار صاحب الإيضاح وجهاً ثالثاً، وهو إن قصد بعتقه التقرب إلى الله تعالى، زال ملكه عنه، وإلا فلا، وإن قلنا بالوجه الأول، فإنه يعود بالإرسال إلى ما كان عليه في الأصل من حكم الإباحة، وإن قلنا بالوجه الثاني، وهو الأصح كما تقدم، لم يجز لمن عرف أنه ملك الغي، ويعرف كونه ملكاً للغير بكونه مخطوماً، أو مقصوص الجناح، أو مقرطاً، أو فيه جلاجل، أو موسوماً، أو مخضوباً، أو غير ذلك مما يدل على الملك، فإن شك في كونه مملوكاً، فالأصل الحل، فإن قال المرسل عند إرساله: أبحته لمن يأخذه جاز اصطياده.
وإن قلنا بالوجه الثالث، فهل يحل اصطياده؟ فوجهان: أحدهما نعم، لأنه قد عاد إلى حكم الإباحة، ولأنا لو منعنا اصطياده، لأشبه سوائب الجاهلية، وهذا هو الأصح في الروضة، والثاني المنع، كالعبد إذا عتق فإنه لا يسترق، وينبغي أن يختص هذا الوجه، بما إذا أعتقه مسلم، فإن أعتقه كافر جاز اصطياده قطعاً، لأن عتقه لا يصح ويسترق عتيقه.
ومنها اعلم أن الإمام الرافعي، رحمه الله تعالى، قد أطلق القول بمنع الإرسال، ولا بد من استثناء صور: الأولى، أنه إذا كان الطائر معتاد العدو، فإنه يجوز إرساله في المسابقة. الثانية: إذا كان للطائر فرخ يخشى عليه الموت بحبس الطائر عنه، فينبغي هنا القطع بوجوب الإرسال، لأن الفرخ حيوان محترم، فيجب السعي في صيانة روحه، وقد صرح الأصحاب بوجوب تأخير الحامل وإمهالها، إذا وجب عليها الرجم أو القصاص، لأجل إرضاعها الولد.
وجزم الشيخ أبو محمد الجويني بتحريم ذبح الحيوان المأكول إذا كان حاملا بغير مأكول، وعلله بأن في ذبحه قتل ما لا يحل ذبحه، وهو الحمل وقد أطلق صلى الله عليه وسلم ظبية شكت أن لها خشفين، أي ولدين، بالغابة، ففي إطلاقه صلى الله عليه وسلم إياها دليل على الوجوب، لأن ما كان ممنوعاً منه ولم ينسخ ثم جوز في بعض الأحوال، فجوازه دليل وجوبه كالنظر إلى العورة في الختان. ولما كان الإرسال ممنوعاً منه، لكونه سائبة ثم جوز في بعض الأحوال، كان دليل الوجوب. الثالثة، إذا كان معه طائر أو حيوان، وليس معه ما يذبحه به، ولا ما يطعمه، فإرساله واجب ليسعى في طلب رزقه، الرابعة، إذا أراد الإحرام فإنه يجب عليه الإرسال.
التعبير: الطائر العمل قال الله تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " وربما دل الطائر المجهول على الإنذار والموعظة، لقوله تعالى: " قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون " فمن حسن طائره في المنام حسن عمله، وأتاه رسول بخير. ومن رأى معه طائراً متوحشاً دميم الخلق، ربما كان عمله سيئاً، أو أتاه رسول بشر. وأما عش الطائر، فإنه يدل على الزوجة، والحد الذي يقف العارف عنده، ورؤية العش للمرأة الحامل ولادة، والعش ما يكون في شجرة، فإذا كان في حائط أو كهف أو جبل، فإنه وكر، والوكر يدل على دور الزناة أو مساجد المتعبدين والمنقطعين. وأما بيض الطائر، فإنه دال على الأولاد من الأزواج والإماء، وربما دل على القبور، وربما دل البيض، على بيض الأسنة أو الخود، وربما دل على الاجتماع بالأهل والأقارب والأحباب، وربما دل على جمع الدراهم والدنانير وادخارها، والريش مال في التأويل، وربما دل على شراء قماش وربما دل على الجاه، لأنه يقال فلان طائر بجناح غيره، وربما دل على النبت من الزرع. والمخلب نصرة المخاصم، كما أنه للطائر عدة وجنة، والمناقر عز وجاه عريض لمن ملكه في المنام، وأما الزبل، فزبل الطائر المأكول مال حلال، وما لا يؤكل مال حرام. والزرق كسوة لاشتباهه في الثوب، وربما دل زرق الطائر الكاسر كالنسر والعقاب ونحوهما، على الخلع من الملوك والأكابر، فهذا قول جلي فيما ذكر من الطيور، وفيما سيأتي، وعلى هذا فقس بفهمك وحذقك تصب إن شاء الله تعالى والله الموفق.

فائدة: روى ابن بشكوال، بسنده إلى أحمد بن محمد العطار، عن أبيه، قال: كان لنا جار فأسر وأقام في الأسر عشرين سنة، وأيس أن يرى أهله، قال: فبينما أنا ذات ليلة أفكر فيمن خلفت من صبياني وأبكي، إذ أنا بطائر سقط فوق حائط السجن يدعو بهذا الدعاء، قال: فتعلمته من الطائر ثم دعوت الله به ثلاث ليال متتابعات، ثم نمت فما استيقظت إلا وأنا في بلدي فوق سطح داري، قال: فنزلت إلى عيالي فسروا بي بعد أن فزعوا مني لما رأوني ورأوا ما بي من تغير الحال والهيئة، ثم إني حججت من عامي، فبينما أنا أطوف وأدعو بهذا الدعاء، إذ أنا بشيخ قد ضرب يده على يدي، وقال لي: من أين لك هذا الدعاء. فإن هذا الدعاء لا يدعو به إلا طائر ببلاد الروم متعلق بالهواء، فحدثته بقصتي وبما جرى علي، وأني كنت أسيراً ببلاد الروم، وتعلمت الدعاء من الطائر فقال: صدقت. فسألت الشيخ عن اسمه، فقال: أنا الخضر، وهو هذا الدعاء: اللهم إني أسألك يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل، ويشرق عليه النهار، ولا توارى منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره وسهله، ولا بحر إلا يعلم ما في قعره وساحله، اللهم إني أسألك أن تجعل خير عملي آخره، وخير أيامي يوماً ألقاك فيه، إنك على كل شيء قدير. اللهم من عاداني فعاده، ومن كادني فكده، ومن بغى علي بهلكة فأهلكه، ومن أرادني بسوء فخذه، وأطفئ عني نار من أشب لي ناره، وأكفني هم من أدخل علي همه، وأدخلني في درعك الحصينة، واسترني بسترك الواقي، يا من كفاني كل شيء أكفني ما أهمني من أمر الدنيا والآخرة، وصدق قولي وفعلي بالتحقيق، يا شفيق يا رفيق، فرج عني كل ضيق، ولا تحملني ما لا أطيق، أنت إلهي الحق الحقيق، يا مشرق البرهان يا قوي الأركان، يا من رحمته في كل مكان وفي هذا المكان، يا من لا يخلو منه مكان، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني في كنفك الذي لا يرام، إنه قد تيقن قلبي أن لا إله إلا أنت وأني لا أهلك وأنت معي، يا رجائي فارحمني بقدرتك علي، يا عظيماً يرجى لكل عظيم، يا عليم يا حليم أنت بحاجتي عليم، وعلى خلاصي قدير، وهو عليك يسير، فامنن علي بقضائها يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين ويا أسرع الحاسبين يا رب العالمين، ارحمني وارحم جميع المذنبين، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنك على كل شيء قدير، اللهم استجب لنا كما استجبت لهم برحمتك، عجل علينا بفرج من عندك، بجودك وكرمك وارتفاعك في علو سمائك، يا أرحم الراحمين، إنك على ما تشاء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وهذا الدعاء روى الطبراني بإسناد صحيح قطعة منه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأعرابي، وهو يدعو في صلاته، ويقول: يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، ولا توارى منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر إلا يعلم ما في قعره، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوماً ألقاك فيه. فوكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعرابي رجلا، فقال: إذا فرغ من صلاته فأتني به فلما قضى صلاته أتاه به، وقد كان أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب من بعض المعادن، فلما أتى الأعرابي وهب له الذهب، وقال: " ممن أنت يا أعرابي " ؟ قال: من بني عامر بن صعصعة، فقال: " هل تدري لم وهبت لك هذا الذهب " . قال: للرحم التي بيننا وبينك يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: " إن للرحم حقاً ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله عز وجل " .
الطبطاب: طائر له أذنان كبيرتان.
الطبوع: القمامة، وستأتي إن شاء الله تعالى، في باب القاف.
الطثرج: النمل، قاله الجوهري، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب النون، وقال غيره: صغار النمل.

الطحن: دويبة، قاله الجوهري وغيره. قال الزمخشري، في ربيع الأبرار: هي دويبة تشبه أم حبين، يجتمع إليها الصبيان، ويقولون: اطحني لنا، فتطحن بنفسها الأرض حتى تغيب فيها. الطرسوح: حوت بحري، إذا أدمن كله، أورث العين غشاوة.
طرغلودس: يعرفه أهل الأندلس، ويسمونه الضريس، بضاد معجمة مضمومة، وراء مهملة مفتوحة، وياء ساكنة منقوطة، اثنتين من تحتها وسين مهملة. قال الرازي، في كتاب الكافي: هو عصفور صغير، أصغر من جميع العصافير، لونه رمادي وأحمر وأصفر، وفي جناحيه ريشة ذهبية ومنقاره رقيق، وفي ذنبه نقط بيض متواترة، وهو دائم الصفير وأجوده السمين.
وحكمه: الحل.
وله خاصية عجيبة، في تفتيت الحصا المتكون في المثانة ومنع ما لم يتكون.
الطرف: بكسر الطاء الكريم من الخيل، وقال أبو زيد: هو نعت للذكر خاصة.
الطغام: والطغامة بفتح الطاء والغين المعجمة أرذال الطير والسباع، وهما أيضاً أراذل الناس، الواحد والجمع في ذلك سواء، قاله ابن سيده.
الطفل: ولد كل وحشية، والمولود من بني آدم والجمع أطفال، وقد يكون الطفل واحد وجمعاً، مثل الجنب. قال الله تعالى: " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " والمطفل: الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج، وكذلك الناقة والجمع: المطافيل. قال أبو ذئيب:
وإن حديثا منك لو تبذلينه ... جنى النحل في ألبان عوذ مطافل
مطافيل أبكار حديث نتاجها ... تشاب بماء مثل ماء المفاصيل
وما أحسن قول الآخر:
فيا عجباً لمن ربيت طفلا ... ألقمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
أعلمه الفتوة كل وقت ... فلما طر شاربه جفاني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
ذو الطفيتين: حية خبيثة، والطفية خوصة المقل في الأصل، وجمعها طفى، فشبه الخطين اللذين على ظهر الحية بخوصتين من خوص المقل. قال الزمخشري: وفي كتاب العين الطفية حية لينة خبيثة وأنشد يقول:
وهم يذلونها من بعد عزتها ... كما تذل الطفي من رقية الراقي
وكذا قاله ابن سيده أيضاً. وفي الصحيحين وغيرهما، من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يستسقطان الحبالى ويلتمسان البصر " . قال شيخ الإسلام النووي: قال العلماء: الطفيتان الخطأن الأبيضان على ظهر الحية. والأبتر قصير الذنب. وقال النضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها غالباً. وذكر مسلم في روايته عن الزهري، أنه قال: نرى ذلك من سمها. وأما قوله: يلتمسان البصر، ففيه تأويلان: أصحهما أنهما يخطفانه ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه، لخاصية جعلها الله تعالى في بصرهما إذا وقع على بصر الإنسان، ويؤيد هذا أن في رواية مسلم يخطفان البصر. والثاني أنهم يقصدان البصر باللسع والنهش.
قال العلماء: وفي الحيات نوع يسمى الناظر، إذا وقع بصره على عين إنسان مات من ساعتها. وقال أبو العباس القرطبي: ظاهر هذا أن هذين النوعين من الحيات لهما من الخاصية ما يكون عنه ذلك ولا يستبعد هذا، فقد حكى أبو الفرج بن الجوزي في كتابه المسمى بكشف المشكل لما في الصحيحين، أن بعراق العجم أنواعاً من الحيات تهلك الرائي لها بنفس رؤيتها ومنها ما يهلك بالمرور على طريقها.
الطلح: بالكسر القراد وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ القراد في باب القاف. قال كعب بن زهير: وجلدها من أطوم لا يؤيسه طلح بضاحية المتنين مهزول أي لا يؤثر القراد في جلدها لملاسته قاله في نهاية الغريب.
الطلا: بكسر الطاء الولد من ذوات الظلف والجمع اطلاء.
الأمثال: قالوا: كيف الطلا وأمه. يضرب لمن ذهب همه وحلا لسانه.
الطلى: بالفتح الصغير من أولاد المعز وإنما سمي بذلك لأنه يطلى أي تشد رجلاه بخيط إلى وتد وجمعه طليان مثل رغيف ورغفان.
الطمروق: بفتح الطاء، الخفاش حكاه ابن سيده وقد تقدم في حرف الخاء المعجمة.
الطمل: والطملال والأطلس الذئب كما تقدم لفظه في باب الذال المعجمة.

الطنبور: نوع من الزنابير ذوات الإبر، وهو يأكل الخشب وقد تقدم لفظ الزنبور في باب الزاي المعجمة، قال شيخ الإسلام النووي، في شرح المهذب: ويستثنى من ذوات الإبر الجراد، فإنه حلال قطعاً وكذا القنفذ على الصحيح.
الطوراني: قال الجاحظ: إنه نوع من أنواع الحمام، وقد تقدم ذكر الحمام في باب الحاء المهملة.
الطوبالة: النعجة وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب النون، قاله ابن سيده.
الطول: بضم الطاء وتشديد الواو، طائر قاله ابن سيده وغيره.
الطوطي: قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في أول الباب الثاني، في حكم الكسب: إنه الببغاء. وقد تقدم لفظ الببغاء في باب الباء الموحدة.
الطير: جمع طائر مثل صاحب وصحب وجمع الطير طيور وأطيار مثل فرخ وفرخ وفراخ، وقال قطرب: الطير أيضاً قد يقع إلى الواحد.
فائدة: قال الله تعالى لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أخذ طاوساً ونسراً وغراباً وديكاً. وقيل: أخذ حماماً وغراباً وديكاً وبطة. وقال مجاهد وعطاء وابن جريج: أخذ طاوساً وديكاً وحماماً وغراباً. وقيل: كانت الطيور بطة خضراء وغراباً أسود وحمامة بيضاء وديكاً أحمر. قيل: وفائدة حصره بأربعة، أن الطبائع أربعة، والغالب على كل واحد من هذه الطيور طبع منها فأمر بقتل الجميع، وخلط لحومها بعضها ببعض، وكذلك خلط دمائها وريشها ثم دعاهن بعد أن فرق أجزاءهن على رؤوس الجبال، وقيل: بل أمسك الرؤوس عنده فاجتمعت الأجزاء وأتين سعياً إلى رؤوسهن وأحياهن الله تعالى كما شاء بقدرته. وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة الشهوات والزخارف التي هي صفة الطاوس، والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل الموصوف بهما الغراب، والترفع والمسارعة للهوى الموصوف بهما الحمام. وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواص الحيوان وجمع بين مأكولي اللحم وضدهما وبين ممقوتين وهما الطاوس والغراب، ومحبوبين وهما الديك والحمام، وبين ما يسرع الطيران كالحمام والغراب، وبين ما لا يستطيعه إلا قليلا وهما الديك والطاوس، وبين ما يتميز به الذكر من الأنثى وهم الطاوس والديك، وما لا يتميز إلا للعارف كالحمام وما يعسر تمييزه كالغرب. وما أحسن قول ابن الساعاتي:
والطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط
والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح يكتب والغمام ينقط
وهو تقسيم بديع. والطير الذي يأتي في كل سنة إلى جبل بصعيد مصر، يسمى بوقير، وقد تقدم في حرف الباء.
فائدتان: الأولى: روى الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي يزيد، عن سباع بن ثابت عن أم كرز، قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: " أقروا الطير على مكناتها " وفي رواية في وكناتها. وهذا بعض حديث، رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وابن حبان، قال: فالتفت سفيان إلى الشافعي وقال: يا أبا عبد الله ما معنى هذا؟ فقال الشافعي: إن علم العرب كان في زجر الطير، فكان الرجل منهم إذا أراد سفراً خرج من بيته، فيمر على الطير في مكانه فيطيره، فإذا أخذ يميناً مر في حاجته، وإن أخذ يساراً رجع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أقروا الطير على مكناتها " . قال: فكان ابن عيينة يسأل بعد ذلك عن تفسير هذا الحديث فيفسره على نحو ما فسره الشافعي. قال أحمد بن مهاجر: وسألت الأصمعي عن تفسير هذا الحديث، فقال مثل ما قال الشافعي. قال: وسألت وكيعاً فقال: إنما هو عندنا على صيد الليل، فذكرت له قول الشافعي فاستحسنه وقال: ما ظننته إلا على صيد الليل.
وروى البيهقي، في سننه، أن إنساناً سأل يونس بن عبد الأعلى عن معنى " أقروا الطير في مكناتها " فقال: إن الله تعالى يحب الحق، إن الشافعي قال في تفسيره كذا، وذكر ما تقدم عنه. قال: وكان الشافعي، رحمه الله نسيج وحده في هذه المعاني.
قوله: " نسيج وحده " هو بالإضافة، ووحده مكسور الدال. قال ابن قتيبة: وأصله أن الثوب الرقيق النفيس لا ينسج على منواله غيره، وإن لم يكن نفيساً عمل على منواله عدة أثواب. فاستعير ذلك لكل كريم من الرجال، انتهى.

قال الصيدلاني، في شرح المختصر: المكنة بكسر الكاف موضع القرار والتمكن. قال: وفي معنى هذا الحديث أقوال: أحدها النهي عن الصيد ليلا، ثانيهما ما تقدم عن الشافعي، ثالثها قال أبو عبيدة القاسم بن سلام: أقروها على بيضتها التي أحتضنتها، وأصل المكن بيض الضب قال الصيدلاني: فعلى هذا يجب أن يكون المفرد المكنة بتسكين القاف، كتمرة وتمرات انتهى.
الفائدة الأخرى: الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء المثناة تحت، التشاؤم بالشيء. قال تعالى: " وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله " أي شؤمهم جاء من قبل الله تعالى، وهو الذي قضى عليهم بذلك وقدره. ويقال تطير طيرة وتخير خيرة، ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما. انتهى. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله بقول: لا طيرة وخيرها الفأل. قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال صلى الله عليه وسلم: " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم " وفي رواية قال: " يعجبني الفأل وأحب الفأل الصالح " . وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح، فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في أسفارهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن ذلك. وفي حديث آخر " الطيرة شرك " أي اعتقاد أنها تنفع أو تضر، وإنما اشتقوا الطيرة من الطير لسرعة لحوق البلاء على اعتقادهم كما يسرع الطير في الطيران. وأما الفأل فمهموز، ويجوز ترك همزه، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمة الصالحة والحسنة، والغالب أن يكون فيما يسر، وقد يكون فيما يسوء. وأما الطيرة، فإنها لا تكون إلا فيما يسوء.
قال العلماء: إنما أحب الفأل، لأن الإنسان إذا أمل فضل الله تعالى كان على خير، وإذا قطع رجاءه من الله تعالى كان على سوء. والطيرة فيها سوء ظن وتوقع البلاء، وفي الحديث قالوا: يا رسول الله لا يسلم منا أحد من الطيرة والحسد والظن فما نصنع؟ قال صلى الله عليه وسلم: " إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تتحقق " . رواه الطبراني وابن أبي الدنيا، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على الطيرة في باب اللام، في اللقحة أيضاً.
قال في مفتاح دار السعادة: واعلم أن التطير، إنما يضر من أشفق منه وخاف، وأما من لم يبال به ولم يعبأ به، فلا يضره البتة لاسيما إن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيآت إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك. وأما من كان معتنياً بها فهي أسرع إليه من السيل إلى منحدره، وقد فتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة، ما يفسد عليه دينه وينكد عليه معيشته انتهى.
وقال ابن عبد الحكم: لما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة، قال رجل من لخم: نظرت فإذا القمر في الدبران، فكرهت أن أقول له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو في الدبران، فقال: كأنك أردت أن تعلمني بأنه في الدبران، أنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار. وقال ابن خلكان: ومن قبيح ما وقع لأبي نواس أن جعفر بن يحيى البرمكي بنى داراً استفرغ فيها جهده، فلما كملت وانتقل إليها صنع فيها أبو نواس قصيدة امتدحه بها أولها:
أربع البلى إن الخشوع لبادى ... عليك وإني لم أخنك وداي
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغادي
فتطير منها بنو برمك، وقالوا: نعيت لنا أنفسنا يا أبو نواس، فما كانت إلا مديدة، حتى أوقع بهم الرشيد وصحت الطيرة. وذكر الطبري والخطيب البغدادي وابن خلكان وغيرهم، أن جعفر بن يحيى البرمكي، لما بنى قصره، وتناهى بنيانه، وكمل حسنه، وعزم على الانتقال إليه، جمع المنجمين لاختيار وقت ينتقل فيه إليه، فاختاروا له وقتاً في الليل، فخرج في ذلك الوقت والطرق خالية، والناس هادئون فرأى رجلا قائماً يقول:
تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يشاء

فتطير ووقف، ودعا بالرجل وقال له: أعد ما قلت فأعاده، فقال: ما أردت بهذا؟ قال: ما أردت به معنى من المعاني، ولكنه شيء عرض لي وجاء على لساني، فأمر له بدينار ومضى لوجهه، وقد تنغص سروره وتكدر عيشه فلم يكن إلا قليل حتى أوقع بهم الرشيد. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر قتله في باب العين المهملة، في العقاب. وفي التمهيد لابن عبد البر، من حديث المقبري عن ابن لهيعة عن ابن هبيرة، عن أبي عبد الرحمن الجيلي، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " من رجعته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك " . قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أن يقول أحدكم: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ثم يمضي لحاجته " .
تنبيه مهم: جزم الإمام العلامة القاضي أبو بكر بن العربي، في الأحكام، في سورة المائدة، بتحريم أخذ الفأل من المصحف. ونقله القرافي عن الإمام العلامة أبي الوليد الطرطوشي، وأقره وأباحه ابن بطة من الحنابلة. ومقتضى مذهبنا كراهته.
وحكى الماوردي، في كتاب أدب الدين والدنيا، أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، تفاءل يوماً في المصحف فخرج له قوله تعالى: " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " فمزق المصحف وأنشأ يقول: أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم أعلى سور بلده، كما تقدم في باب الهمزة في لفظ الأوز.
فائدة أخرى: روى الترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححوه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " معناه تذهب أول النهار ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار ممتلئة البطون من الشبع. قال الإمام أحمد: ليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد، والله أعلم، لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم، وعلموا أن الخير بيده ومن عنده، لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين، كالطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً، لكنهم يعتمدون على قوتهم وكسبهم، وهذا خلاف التوكل. وفي الإحياء، في أوائل كتاب أحكام الكسب، قيل لأحمد: ما تقول في الذي يجلس في بيته أو مسجده ويقول: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم! أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي " . وقوله حيث ذكر الطير: " تغدو خماصاً وتروح بطاناً " . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم. والقدوة بهم.
مسألة: أوصى للمتوكلين، أفتى ابن عباس بأن ذلك يصرف للزراع، فإنهم يحرثون ويضعون البذر في الأرض فهم متوكلون على الله تعالى، ويدل له ما روى البيهقي في الشعب، والعسكري في الأمثال، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لقى ناساً من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: متوكلون، قال: كذبتم إنما المتوكلون رجل ألقى حبه في التراب، وتوكل على رب الأرباب. وبهذا أفتى بعض فقهاء بيت المقدس قديماً. وقال الإمامان الرافعي والنووي، في تفضيل بعض الأكساب على بعض، واحتج من فضل الزراعة، بأنها أقرب إلى التوكل، وفي الشعب أيضاً عن عمرو بن أمية الضمري، أنه قال: قلت: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: " إعقلها وتوكل " وسيأتي إن شاء الله تعالى، هذا في أول باب النون.

وقال الحليمي: يستحب لكل من ألقى في الأرض بذراً أن يقرأ بعد الاستعاذة " أفرأيتم ما تحرثون " الآية. ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين. وقال أبو ثور: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: نزه الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ورفع قدره، فقال: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " وذلك أن الناس في التوكل، على أحوال شتى: متوكل على نفسه، أو على ماله، أو على جاهه، أو على سلطانه، أو على صناعته، أو على غلته، أو على الناس. وكل مستند إلى حي يموت، أو إلى ذاهب يوشك أن ينقطع، فنزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمره أن يتوكل على الحي الذي لا يموت. وقال الإمام، العلامة، شيخ الشريعة والحقيقة، أبو طالب المكي، في كتابه قوت القلوب: اعلم أن العلماء بالله تعالى لم يتوكلوا عليه لأجل أن يحفظ عليهم دنياهم، ولا لأجل تبليغهم رضاهم ومرادهم، ولم يشترطوا عليه حسن القضاء بما يحبون، ولا ليبدل لهم جريان أحكامه عما يكرهون، ولا ليغير لهم سابق مشيئته إلى ما يعقلون، ولا ليحول عنهم سنته التي قد خلت في عباده، من الابتلاء والامتحان والاختبار، بل هو جل وعلا أجل في قلوبهم من ذلك، وهم أعقل عنه وأعرف به من هذا، فلو اعتقد عارف بالله أحد هذه المعاني مع الله في توكله، لكان عليه كبيرة توجب عليه التوبة، وكان توكله معصية، وإنما أخذوا أنفسهم بالصبر على أحكامه كيف جرت وطالبوا قلوبهم بالرضا كيف أجرى.
فائدة: عن كعب الأحبار، قال: إن الطير ترتفع اثني عشر ميلا، ولا ترتفع فوق هذا، وفوق الجو السكاك. والجو هو الهواء بين السماء والأرض.
التعبير: الطائر في المنام رزق لمن حواه لقول الشاعر:
وما الرزق إلا طائر أعجب الورى ... فمدت له من كل فن حبائل
وسعادة ورياسة، وقيل: الطيور السود تدل على السيآت، والطيور البيض تدل على الحسنات. ومن رأى طيوراً تنزل على مكان وترتفع، فإنها ملائكة ورؤية ما يستأنس بالإنسان من الطيور دليل على الأزواج والأولاد، ورؤية ما لا يأنس بالآدمي من الطير دليل على معاشرة الأضداد والأعجام. ورؤية الكاسر من الطير في المنام شر ونكد ومغارم، ورؤية الجارح المعلم عز وسلطان وفوائد وأرزاق. ورؤية المأكول لحمه فائدة سهلة، ورؤية ذوي الأصوات قوم صالحون، ورؤية المذكر رجال، والمؤنث نساء، ورؤية المجهول من الطير قوم غرباء، ورؤية ما فيه خير وشر فرج بعد شدة، ويسر بعد عسر، ورؤية ما يظهر بالليل دليل على الجراءة وشدة الطلب والاختفاء، ورؤية ما ليس له قيمة، إذا صار له قيمة في المنام، فإنها تدل على الربا، وأكل المال بالباطل وبالعكس. ورؤية ما يظهر في وقت دون وقت، فإن رآه قد ظهر في غير أوانه، كان ذلك دليلا على وضع الأشياء في غير محلها، أو على الأخبار الغريبة والخوض فيما لا يعني، فهذا قول كلي في أنواع الطير مما تقدم ذكره وسيأتي فافهم ذلك وقس عليه.
تتمة: قال المعبرون: كلام الطير كله صالح جيد، فمن رأى الطير يكلمه ارتفع شأنه لقوله تعالى: " يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين " وكره المعبرون صوت طير الماء والطاوس والدجاج وقالوا: إنه هم وحزن ونعي، وزمار الظليم، وهو ذكر النعام، قتل من خادم شجاع، فإن كره صوته فإنه غلبة من خادم. وهدير الحمام امرأة قارئة لكتاب الله تعالى، وصوت الخطاف موعظة من رجل واعظ، والله أعلم.
خاتمة: قال ابن الجوزي، في كتاب أنس الفريد وبغية المريد: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في القرآن عشرة أطيار، سماها الله تعالى بأسمائها: البعوضة في البقرة، والغراب في المائدة، والجراد في الأعراف، والنحلة في النحل، والسلوى في البقرة وطه، والنمل في النمل، والهدهد فيها أيضاً، والذباب في الحج، والفراش في القارعة، والأبابيل في الفيل، فهذه عشر. طير العراقيب: طير الشؤم عند العرب، وكل ما تطيرت به سمته بذلك.

ومن الأحكام المتعلقة بالطير، أن من فتح قفصاً عن طائر، وهيجه فطار ضمنه. قال الماوردي: بإجماع، لأنه ألجأه إلى ذلك، وإن اقتصر على الفتح، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يضمنه مطلقاً، والثاني لا يضمنه مطلقاً، والثالث، وهو الأظهر، إن طار في الحال ضمنه، وإن وقف ثم طار فلا، لأن طيرانه في الحال، دليل على أنه بتنفيره، حصل ذلك. وأما طيرانه بعد الوقوف، فهو أمارة ظاهرة على أنه طار باختياره، لأن للطائر اختياراً فإن كسر الطائر في خروجه قارورة أو أتلف شيئاً أو انكسر القفص بخروجه، أو وثبت هرة كانت حاضرة عند الفتح، فدخلت فأكلت الطائر، لزمه الضمان والله أعلم.
طير الماء: كنيته أبو سحل، ويقال له ابن الماء وبنات الماء، وسيأتي، إن شاء الله تعالى، ذكره في آخر باب الميم.
الحكم: قال الرافعي: إنه حلال بجميع أنواعه إلا اللقلق، فإنه يحرم أكله على الصحيح. وحكى الروياني في طير الماء وجهين عن الصيمري، والأصح ما قاله الرافعي. ويدخل فيه البط والإوز ومالك الحزين قال أبو عاصم العبادي: وهو أكثر من مادة نوع ولا يدرى لأكثرها اسم عند العرب، فإنها لم تكن ببلادهم. وسيأتي، إن شاء الله تعالى الكلام على مالك الحزين في باب الميم.
الأمثال: قالوا: " كأن على رؤوسهم الطير " ، بالنصب لأنه اسم كان أي على رأس كل واحد الطير، يريد صيده فلا يتحرك يضرب للساكن الوادع وهذه كانت صفة مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير يريد أنهم يسكنون فلا يتكلمون، والطير لا تسقط إلا على ساكت. وقال الجوهري: وقولهم: كأنما على رؤوسهم الطير، إذا سكتوا من هيبته. وأصله أن الغراب، إذا وقع على رأس البعير، ليلقط منه الحلمة أو الحمنانة، فلا يحرك البعير رأسه لئلا ينفر عنه الغراب.
الطيطوي: قال ارسطاطاليس، في كتاب النعوت: إنه طائر لا يفارق الآجام، وكثرة المياه، لأن هذا الطائر لا يأكل شيئاً من النبت، ولا من اللحوم، وإنما قوته مما يتولد في شاطئ الغياض والآجام، من دود النتن. وهذا الطائر تطلبه البزاة عند مرضها، لأن البازي أكثر ما يصيبه من الأمراض بسبب الحرارة في كبده، فإذا عرض له ذلك طلب الطيطوي، وأكل كبده فيبرأ. وقد يطمئن الطيطوي ويصيح، ولا ينفر من موضعه، إلا إذا طلبه البازي هرب وغير موضعه، فإذا كان في الليل، هرب وصاح، وهو في النهار إذا هرب لم يصح، وكمن في الحشيش.
وذكر الثعلبي والبغوي وغيرهما في تفسير سورة النمل عند قوله تعالى: " يا أيها الناس علمنا منطق الطير " سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم به كما يفهم من كلام الناس. وقالوا: قال كعب الأحبار وفرقد السنجي: مر سليمان عليه السلام على بلبل فوق شجرة يحرك ذنبه ورأسه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فأخبر أنه يقول: إذا نزل القضاء عمي البصر. وفي رواية كعب، أنه يقول من لا يرحم لا يرحم، والفاختة تقول: يا ليت هذا الخلق ما خلقوا! وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، وليتهم إذا علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا! والصرد يقول: سبحان

ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، والسرطان يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاحت طيطوي عنده فأخبر أنها تقول: كل حي ميت، وكل جديد بال، وقال: إن الخطاف يقول: قدموا خيراً تجدوه عند الله، والورشان يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب، والطاوس يقول: كما تدين تدان والحمامة تقول: سبحان ربي المذكور بكل لسان، والدراج يقول: " الرحمن على العرش استوى " وإذا صاحت العقاب تقول: البعد عن الناس راحة، وفي رواية البعد من الناس أنس، وإذا صاح الخطاف قرأ الفاتحة إلى آخرها، ويمد صوته بقوله: " ولا الضالين " ، كما يمده القارئ، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده، والقمري يقول: سبحان ربي الأعلى، وقيل إنه يقول: يا كريم، والغراب يلعن العشار ويدعو عليه، والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء يقول: ويل لمن كانت الدنيا أكبر همه، والزرزور يقول: اللهم إني أسألك رزق يوم بيوم يا رزاق، والقنبرة تقول: اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين، والنسر يقول: يا ابن آدم عشر ما شئت فإنك ميت، وفي رواية أن الفرس تقول: إذا التقى الجمعان سبوح قدوس رب الملائكة والروح. والحمار يلعن المكاس وكسبه، والضفادع تقول: سبحان ربي الأعلى.
التعبير: الطيطوي في المنام امرأة، قاله ابن سيرين.
ومن خواصه: أن لحمه يعقل البطن ويزيد في الباه.
الطيهوج: بفتح الطاء طائر شبيه بالحجل الصغير، غير أن عنقه أحمر، ومنقاره ورجلاه حمر، مثل الحجل، وما تحت جناحيه أسود وأبيض، وهو خفيف مثل الدراج.
وحكمه: الحل.
الخواص: لحم الطيهوج كثير الحرارة والرطوبة. قاله يوحنا. وقيل: معتدل، قلت: وهو الصواب، وقيل: إنه في الدرجة الثالثة في الهضم، وأجوده السمين الرطب الخريفي ينفع للزيادة في الباه، ويعقل البطن لكنه يضر بمن يعالج الأثقال، ويدفع ضرره طبخه في الهرائس، وهو يولد دماً معتدلا، ويوافق الأمزجة المعتدلة من الصبيان، وأجوده ما أكل في زمن الربيع، لاسيما في البلاد الشرقية، والطيهوج والدراج والحجل متقاربة في ترتيب الأغذية في الاعتدال واللطافة والطيهوج أولا، ثم الدراج ثم الحجل وتقدم في الضاد إنه الدريس والله أعلم.
بنت طبق وأم طبق: السلحفات، وقد تقدم ذكرها في باب السين، وقيل: هي حية عظيمه من شأنها أن تنام ستة أيام ثم تستيقظ في اليوم السابع، فلا تنفخ في شيء إلا أهلكته وقد تقدم ذكر النوعين في بابيهما. ومنه قيل للداهية: إحدى بنات طبق، ومنه قولهم: قد طرقت بنكدها أم طبق.
الأمثال: قالوا: جاء فلان بإحدى بنات طب يضرب للرجل يأتي بالأمر عظيم.

باب الظاء المعجمة
الظبي: الغزال والجمع أظب وظباء وظبي، والأنثى ظبية، والجمع ظبيات بالتحريك وظباء، وأرض مظباة أي كثيرة الظباء، وظبية اسم امرأة تخرج قبل الدجال تنذر المسلمين به، قاله ابن سيده. قال الكرخي: الظباء ذكور الغزلان، والأنثى: الغزال، قال الإمام: وهذا وهم فإن الغزال ولد الظبية إلى أن يشتد ويطلع قرناه، قال الإمام النووي: الذي قاله الإمام هو المعتمد. وقول صاحب التنبيه: فإن أتلف ظبياً ماخضاً، قال النووي: صوابه ظبية ماخضاً، لأن الماخض الحامل، ولا يقال في الأنثى إلا ظبية، والذكر ظبي وجمعت الظبية على ظباء، كركوة وركاء لأن ما كان علا فعلة بفتح أوله من المعتل، فجمعه ممدود، ولم يخالف هذا إلا القرية فإنها جمعت على قرى على غير قياس، فجاء مخالفاً للباب، فلا يقاس عليه، قاله الجوهري. وتكنى الظبية أم الخشف وأم شادن وأم الطلا.
والظباء مختلفة الألوان، وهي ثلاثة أصناف: صنف يقال له الأرام وهي ظباء بيض خالصة البياض، الواحد منها ريم ومساكنها الرمال، ويقال: إنها ضأن الظباء، لأنها أكثر لحوما وشحوماً، وصنف يسمى العفر وألوانها حمر، وهي قصار الأعناق، وهي أضعف الظباء عدواً تألف المواضع المرتفعة من الأرض، والأماكن الصلبة. قال الكميت:
وكنا إذا جبار قوم أرادنا ... بكيد حملناه على قرن أعفرا

يعني نقتله ونحمل رأسه على السنان، وكانت الأسنة فيما مضى من القرون. وصنف يسمى الأدم، طوال الأعناق والقوائم، بيض البطون. وتوصف الظباء بحدة البصر، وهي أشد الحيوان نفوراً ومن كيس الظبي، أنه إذا أراد أن يدخل كناسه يدخل مستديراً ويستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخشفانه، فإن رأى أن أحداً أبصره حين دخوله لا يدخل وإلا دخل. ويستطيب الحنظل ويلتذ بأكله ويرد البحر فيشرب من مائه المر الزعاق. قال ابن قتيبة: ولد الظبية أول سنة طلا بفتح الطاء وخشف بكسر الخاء المعجمة ثم في السنة الثانية جذع ثم في الثالثة ثني ثم لا يزال ثنياً حتى يموت. وذكر ابن خلكان، في ترجمة جعفر الصادق، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنهما ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي؟ فقال: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعلم ما فيه. فقال: إن الظبي لا يكون رباعياً وهو ثني أبداً! كذا حكاه كشاجم، في كتاب المصايد والمطارد.
وقال الجوهري في مادة س ن ن في قول الشاعر، في وصف الإبل:
فجاءت كسن الظبي لم أر مثلها ... شفاء عليل أو حلوبة جائع
أي هي ثنيات لأن الثني هو الذي يلقي ثنيته، والظبي لا تثبت له ثنية قط، فهو ثني أبداً. وقال ابن شبرمة: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد الصادق، فقلت: هذا رجل فقيه من العراق، فقال: لعله الذي يقيس الدين برأيه، أهو النعمان بن ثابت؟ قال: ولم أعلم باسمه إلا ذلك اليوم، فقال له أبو حنيفة: نعم أنا ذلك أصلحك الله، فقال له جعفر: اتق الله ولا تقس الدين برأيك، فإن أول من قاس برأيه إبليس إذ قال: أنا خير منه فأخطأ بقياسه فضل. ثم قال له: أتحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟ قال: لا. قال جعفر: فأخبرني لم جعل الله الملوحة في العينين، والمرارة في الأذنين، والماء في المنخرين، والعذوبة في الشفتين، لأي شيء جعل الله ذلك؟ قال: لا أدري. قال جعفر: إن الله تعالى خلق العينين فجعلهما شحمتين، وخلق الملوحة فيهما منا منه على ابن آدم، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا. وجعل المرارة في الأذنين منا منه عليه، ولولا ذلك لهجمت الدواب فأكلت دماغه. وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس وينزل، ويجد منه الريح الطيبة من الريح الرديئة، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذة المطعم والمشرب. ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ قال: لا أدري. قال جعفر: هي كلمة لا إله إلا الله. فلو قال: لا إله، ثم سكت كان شركاً. ثم قال: ويحك، أيما أعظم عند الله إثماً: قتل النفس التي حرم الله بغير حق، أو الزنا؟ قال: بل قتل النفس. قال جعفر: إن الله تعالى قد قبل في قتل النفس شهادة شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة فأنى يقوم لك القياس؟ ثم قال: أيما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة؟ قال: الصلاة. قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقتضي الصلاة؟ اتق الله يا عبد الله، ولا تقس الدين برأيك، فإنا نقف غداً ومن خالفنا بين يدي الله، فنقول: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء. والجواب في أن الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة طلباً للستر، وفي أن الحائض لا تقضي الصلاة دفعاً للمشقة، لأن الصلاة متكررة في اليوم والليلة خمس مرات، بخلاف الصوم، فإنه في السنة مرة والله أعلم.
وجعفر الصادق هو جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وجعفر أحد الأئمة الإثني عشر، على مذهب الإمامية، من سادات أهل البيت. ولقب الصادق لصدقه في مقالته. وله مقال في صنعة الكيمياء والزجر والفأل وتقدم في باب الجيم، في الجفرة. عن ابن قتيبة أنه قال في كتابه أدب الكاتب: إن كتاب الجفر جلد جفرة كتب فيه الإمام جعفر الصادق لأهل البيت كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة. وكذا حكاه ابن خلكان عنه أيضاً.

وكثير من الناس ينسبون كتاب الجفر إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو وهم، والصواب أن الذي وضعه جعفر الصادق كما تقدم. وأوصى جعفر ابنه موسى الكاظم فقال: يا بني احفظ وصيتي تعش سعيداً، وتمت شهيداً، يا بني إن من قنع بما قسم له استغنى، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرض بما قسم الله له اتهم الله في قضائه، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره، ومن استعظم زلة نفسه استصغر زلة غيره. يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم. يا بني قل الحق لك أو عليك، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال. يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه.
وروي أنه قيل لجعفر الصادق: ما بال الناس في الغلاء يزداد جوعهم، بخلاف العادة في الرخص؟ فقال: لأنهم خلقوا من الأرض وهم بنوها، فإذا أقحطت أقحطوا، وإذا أخصبت أخصبوا. ولد جعفر رحمة الله عليه سنة ثمانين من الهجرة، وقيل سنة ثلاث وثمانين وتوفي سنة ثلاث وأربعين ومائة.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر هو وأصحابه وهم محرمون بظبي واقف في ظل شجرة فقال: يا فلان لأحد أصحابه " قف هاهنا، حتى يمر الناس لا يريبه أحد بشيء " ، أي لا يتعرض له. وفي المستدرك عن قبيصة بن جابر الأسدي، قال : " كنت محرماً، فرأيت ظبياً فرميته فأصبته فمات، فوقع في نفسي من ذلك شيء، فأتيت عمر أسأله، فوجدت إلى جنبه رجلا أبيض رقيق الوجه، وإذا هو عبد الرحمن بن عوف فسألت عمر فالتفت إلى عبد الرحمن، فقال: ترى شاة تكفيه؟ قال: نعم، فأمرني أن أذبح شاة " . فلما قمنا من عنده قال صاحب لي: إن أمير المؤمنين لم يحسن أن يفتيك حتى سأل الرجل! فسمع عمر بعض كلامه، فعلاه بالدرة ضرباً، ثم أقبل علي ليضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني لم أقل شيئاً إنما هو قاله، فتركني ثم قال: أردت أن تفعل الحرام ونتعدى في الفتيا ثم قال: إن في الإنسان عشرة أخلاق تسعة حسنة وواحد سيء فيفسدها ذلك السيء. ثم قال: إياك وعثرات اللسان.
وحكى المبرد عن الأصمعي أنه قال: حدثت أن رجلا نظر إلى ظبية ترد الماء، فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك؟ قال: نعم، قال: فاعطني أربعة دراهم حتى أردها إليك فأعطاه فخرج يمحص في أثرها فجدت وجد حتى أخذ بقرنيها فأعطاه إياها وهو يقول:
وهي على البعد تلوي خدها ... تزيغ شدي وأزيغ شدها
كيف ترى عدوى غلام ردها ... وكلما جدت تراني عندها
وذكر ابن خلكان، أن كثير عزة، دخل يوماً على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: هل رأيت أحداً أعشق منك؟ قال: نعم، بينما أنا أسير في فلاة، إذا أنا برجل قد نصب حبالة، وهو جالس، فقلت له: ما أجلسك هاهنا فقال: أهلكني وقومي الجوع، فنصبت حبالتي هذه لأصيب لهم شيئاً ولنفسي، قلت: أرأيت إن أقمت معك؟ أتجعل لي جزأ من صيدك؟ قال: نعم. فبينما نحن كذلك، إذ وقعت ظبية في الحبالة، فبدرني إليها، فحلها وأطلقها، فقلت: ما حملك على ذلك قال: رق قلبي لها لشبهها بليلى وأنشد يقول:
أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني ... لك اليوم من وحشية لصديق
أقول وقد أطلقتها من وثاقها ... فأنت لليلى ما حييت طليق
وفي كتاب ثمار القلوب للثعالبي، في الباب الثالث عشر منه، أن الملك بهرام جور، لم يكن في العجم أرمى منه، ومن غريب ما اتفق له، أنه خرج يوماً يتصيد على جمل، وقد أردف جارية يعشقها، فعرضت له ظباء، فقال للجارية: في أي موضع تريدين أن أضع السهم من هذه الظباء؟ فقالت: أريد أن تشبه ذكرانها بإناثها وإناثها بذكرانها! فرمى ظبياً ذكراً بنشابة ذات شعبتين، فاقتلع قرنيه، ورمى ظبية بنشابتين أثبتهما في موضع القرنين. ثم سألته أن يجمع ظلف الظبي وأذنه بنشابة واحدة، فرمى أصل أذن الظبي ببندقة، فلما أهوى بيده إلى أذنه ليحك، رماه بنشابة فوصل أذنه بظلفه، ثم أهوى إلى الجارية مع هواه لها فرمى بها إلى الأرض، وأوطأها الجمل بسبب ما اشتطت عليه، وقال: ما أرادت إلا إظهار عجزي فلم تلبث إلا يسيراً وماتت.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12