الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري

أنصتوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، ورجعوا إلى قومهم فقالوا: " إنا سمعنا قرآنا عجباً " الآيتين . وهذا الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أول ما كان من أمر الجن مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم إذ ذاك، إنما أوحي إليه بما كان منهم. وفيه أيضاً، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه، في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال صلى الله عليه وسلم: " أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأرانا آثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، تأخذونه فيقع في أيديكم أوفر ما كان لحماً، وكل بعر علف لدوابكهم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " وروى الطبراني بإسناد حسن، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الصبح، في مسجد المدينه، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة فسكت القوم ولم يتكلم منهم أحد. قال ذلك ثلاثاً، فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى تباعدت عنا جبال المدينة كلها، وأفضينا إلى أرض براز وإذا رجال طوال كأنهم الرماح متدثري ثيابهم من بين أرجلهم فلما رأيتهم، غشيتني رعدة شديدة، حتى ما تمسكني رجلاي، من الفرق، فلما دنونا منهم خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابهام رجله في الأرض خطاً وقال لي " اقعد في وسطه " فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينهم فتلا قرآناً رفيعاً، حتى طلع الفجر، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم حتى مر بي فقال: " الحق بي " فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد، فقال صلى الله عليه وسلم لي: " التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد؟ ا فالتفت فقلت: يا رسول الله سواداً كثيراً فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الأرض فنظر عظماً وروثة " فرمى بهما إليهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء وفد جن نصيبين سألوني الزاد فجعلت لهم كل عظم وروثة " . قال الزبير رضي الله عنه: فلا يحل لأحد أن يستنجي بعظم ولا روثة. وروي أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: " إن نفراً من الجن خمسة عشر، بنو إخوة وبنو عم، يأتون الليلة فأقرأ عليهم القرآن " . فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فجعل لي خطاً ثم أجلسني فيه، وقال: " لا تخرج من هذا " فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر، وفي يده عظم حائل وروثة وخمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتيت الخلاء فلا تستنج بشيء من هذا " قال: فلما أصبحت قلت: لأعلمن حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت فرأيت موضع سبعين بعيراً. وروى الشافعي والبيهقي أن رجلاً من الأنصار رضي الله عنهم، خرج يصلي العشاء فسبته الجن وفقد أعواماً، وتزوجت زوجته. ثم أتى المدينة فسأله عمر رضي الله عنه، عن ذلك، فقال: اختطفتني الجن، فلبثت فيهم زماناً طويلاً، فغزاهم جن مؤمنوا وقاتلوهم، فأظفرهم الله عليهم، وسبوا منهم سبايا وسبوني معهم، فقالوا: تراك رجلاً مسلماً ولا يحل لنا سباؤك، فخيروني بين المقام عندهم والقفول إلى أهلي؟ فاخترت أهلي فأتوا بي إلى المدينة فقال له عمر رضي الله عنه: ما كان طعامعهم؟ قال: الفول وكل ما لم يذكر اسم الله عليه قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. وهو الرغوة، لأنها تجدف عن الماء، وقيل: نبات يقطع ويؤكل، وقيل كل إناء كشف عنه غطاؤه. وأما الاجماع فنقل ابن عطية وغيره الاتفاق على أن الجن متعبدون بهذه الشريعة على الخصوص، وأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين، فإن قيل: لو كانت الأحكام بجملتها لازمة لهم لكانوا يترددون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يتعلموها، ولم ينقل أنهم أتوه إلا مرتين بمكة، وقد تجدد بعد ذلك أكثر الشريعة قلنا: لا يلزم من عدم النقل عدم اجتماعهم به، وحضوره مجلسه وسماعهم كلامه، من غير أن

يراهم المؤمنون، ويكون هو صلى الله عليه وسلم يراهم ولا يراهم أصحابه، فإنه تعالى يقول عن رأس الجن: " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " ، فقد يراهم صلى الله عليه وسلم بقوة يعطيها الله له زائدة على قوة أصحابه، وقد يراهم بعض الصحابه في بعض الأحوال كما رأى أبو هريرة رضي الله عنه الشيطان الذي أتاه ليسرق من زكاة رمضان كما رواه البخاري فإن قيل: ما تقول فيما حكي عن بعض المعتزلة انه ينكر وجود الجن. قلنا عجيب أن يثبت ذلك عمن يصدق بالقرآن، وهو ناطق بوجودهم. وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة، يريد أن يقطع علي صلاتي فذعته، بالذال المعجمة والعين المهملة، أي خنقته، وأردت أن أربطه في سارية من سواري المسجد، فذكرت قول أخي سليمان، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن بالمدينة جناً قد أسلموا وقال: لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " ، وروى مسلم عن سالم بن عبد الله بن أبي الجعد وليس له في الكتب الستة سواه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: واياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخيراً " . روي فأسلم بفتح الميم وضمها وصحح الخطابي الرفع ورجح القاضي عياض والنووي الفتح وهو المختار. وأجمعت الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه، بحسب الإمكان. وأما عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فمجتمع عليها وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وفي الصغائر خلاف ليس هذا موضع ذكره. والصحيح أنهم صلى الله عليهم وسلم معصومون من الكبائر والصغائر. وكذلك الملائكة عليهم السلام كما قاله القاضي وغيره من المحققين. فإذا علم هذا فاعلم أن الأحاديث في وجود الجن والشياطين لا تحصى وكذلك أشعار العرب وأخبارها، فالنزاع في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر ثم إنه أمر لا يحيله العقل، ولا يكذبه الحس ولذلك جرت التكاليف عليهم. ومما اشتهر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه لما لم يبايعه الناس وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه، سار إلى الشام فنزل حوران وأقام بها إلى أن مات في سنة خمس عشرة ولم يختلف أنه وجد ميتاً في مغتسله بحوران وأنهم لم يشعروا بموته بالمدينة حتى سمعوا قائلاً يقول في بئر:ؤمنون، ويكون هو صلى الله عليه وسلم يراهم ولا يراهم أصحابه، فإنه تعالى يقول عن رأس الجن: " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " ، فقد يراهم صلى الله عليه وسلم بقوة يعطيها الله له زائدة على قوة أصحابه، وقد يراهم بعض الصحابه في بعض الأحوال كما رأى أبو هريرة رضي الله عنه الشيطان الذي أتاه ليسرق من زكاة رمضان كما رواه البخاري فإن قيل: ما تقول فيما حكي عن بعض المعتزلة انه ينكر وجود الجن. قلنا عجيب أن يثبت ذلك عمن يصدق بالقرآن، وهو ناطق بوجودهم. وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة، يريد أن يقطع علي صلاتي فذعته، بالذال المعجمة والعين المهملة، أي خنقته، وأردت أن أربطه في سارية من سواري المسجد، فذكرت قول أخي سليمان، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن بالمدينة جناً قد أسلموا وقال: لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " ، وروى مسلم عن سالم بن عبد الله بن أبي الجعد وليس له في الكتب الستة سواه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: واياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخيراً " . روي فأسلم بفتح الميم وضمها وصحح الخطابي الرفع ورجح القاضي عياض والنووي الفتح وهو المختار. وأجمعت الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه، بحسب الإمكان. وأما عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فمجتمع عليها وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وفي الصغائر خلاف ليس هذا موضع ذكره. والصحيح أنهم صلى الله عليهم وسلم معصومون من الكبائر والصغائر. وكذلك الملائكة عليهم السلام كما قاله القاضي وغيره من المحققين. فإذا علم هذا فاعلم أن الأحاديث في وجود الجن والشياطين لا تحصى وكذلك أشعار العرب وأخبارها، فالنزاع في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر ثم إنه أمر لا يحيله العقل، ولا يكذبه الحس ولذلك جرت التكاليف عليهم. ومما اشتهر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه لما لم يبايعه الناس وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه، سار إلى الشام فنزل حوران وأقام بها إلى أن مات في سنة خمس عشرة ولم يختلف أنه وجد ميتاً في مغتسله بحوران وأنهم لم يشعروا بموته بالمدينة حتى سمعوا قائلاً يقول في بئر:

قد قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عبادة
فرميناه بسهم ... ين ولم نخط فؤاده
فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه. ووقع في صحيح مسلم أن سعداً شهد بدراً. وقال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس: والصحيح أنه لم يشهد بدراً. كذا رواه الطبراني من حديث محمد بن سيرين وقتادة وكلاهما أثرك سعد أو روى عن حجاج بن علاط السلمي وهو والد نصر بن حجاج الذي قيل فيه:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
أنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخيف موحش، فقال له أهل الركب: قم فخذ لنفسك أماناً ولأصحابك فجعل يطوف بالركب ويقول:
أعيذ نفسي وأعيذ صحبي ... من كل جني بهذا النقب
حتى أعود سالماً وركبي

فسمع قائلاً يقول: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض " الآية فلما قدم مكة أخبر كفار قريش بما سمع، فقالوا: صبأت يا أبا كلاب. إن هذا الذي قلته يزعم محمد أنه أنزل عليه، فقال: والله لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي. ثم أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وابتنى بها مسجداً يعرف به. وعند ابن سعدو الطبراني والحافظ أبي موسى وغيرهم عمرو بن جابر الجني في الصحابة فرووا بأسانيدهم عن صفوان بن المعطل السلمي أنه قال خرجنا حجاجاً فلما كنا بالعرج، إذا نحن بحية تضطرب فلم نلبث أن ماتت، فأخرج لها رجل منا خرقة فلفها فيها ثم حفر لها في الأرض. ثم قدمنا مكة فأتينا المسجد الحرام فوقف علينا رجل فقال: أيكم صاحب عمرو بن جابر؟ قلنا: ما نعرفه. قال: أيكم صاحب الجان ؟ قالوا: هذا. قال: جزاك الله عنا خيراً. أما أنه كان آخر التسعة من الجن الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه الحاكم في المستدرك في ترجمة صفوان بن المعطل وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشاً فسقاها ثم إنها ماتت فدفنها فأق من الليل فسلم عليه وشكر، وأخبر أن تلك الحية كان رجلاً صالحاً من جن نصيبين، اسمه زوبعة، قال: وبلغنا من فضائل عمر بن عبد العزيز الأموي أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه أنه كان يمشي بأرض فلاة فإذا بحية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها فإذا قائل يقول: يا سرق اشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك رجل صالح فقال: ومن أنت يرحمك الله؟ فقال: من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم، إلا أنا وسرق هذا الذي قد مات. وفي كتاب خير البشر بخير البشر، عن عبيد المكتب، عن إبراهيم، قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وأنا معهم يريدون الحج حتى إذا كانوا ببعض الطريق، رأوا حية بيضاء تتثنى على الطريق، يفوح منها ريح المسك قال: فقلت لأصحاب امضوا فلست ببارح حتى أنظر ماذا يصير إليه أمرها فما لبثت أن ماتت، فظننت بها الخير لمكان الرائحة الطيبة فكفنتها في خرقة ثم نحيتها عن الطريق ودفنتها. وأدركت أصحابي في المتعشى قال فوالله انا لقعود، إذا أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقال واحدة منهن: أيكم دفن عمراً؟ فقلنا من عمر؟ فقالت: أيكم دفن الحية. قال: فقلت: أنا. قالت أما والله لقد دفنت صواماً قواماً يؤمن بما أنزل الله عز وجل، ولقد آمن بنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة. قال: فحمدت الله تعالى ثم قضينا حجنا ثم مررت بعمر رضي الله تعالى عنه فأخبرته خبر الحية والمرأة، فقال: صدقت، سمعت رسول صلى الله عليه وسلم في يقول فيه هذا. وفيه أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، إذ جاءه رجل فقال: ألا أحدثك بعجيب يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى قال: بينا أنا بفلاة من الأرض لقيت عصابتين قد التفتا ثم افترقتا، قال: فجئت معتركهما فإذا من الحيات شيء ما رأيت مثله قط، وإذا ريح المسك أجده من حية منها صفراء دقيقة، فظننت أن تلك الرائحة لخير فيها فأخذتها، ولففتها في عمامتي ثم دفنتها. فبينما أنا أمشي إذ أنا بمناد ينادي هداك الله إن هذين حيان من الجن كان بينهما قتال فاستشهد الحية التي دفنتها وهو من الذين استمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضاً أن فاطمة بنت النعلان النجارية قالت: قد كان لي تابع من الجن فكان إذا جاء اقتحم البيت الذي أنا فيه اقتحاماً، فجاءني يوما فوقف على الجدار ولم يصنع كما كان يصنع، فقلت له، ما بالك لم تصنع ما كنت تصنع صنيعك قبل. فقال: انه قد بعث اليوم نبي يحرم الزنا. وروى البيهقي في دلائله عن الحسن أن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قاتلت مع رسول صلى الله عليه وسلم الجن والإنس فسئل عن قتال الجن، فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر أستقي منها، فرأيت الشيطان في صورته فصارعني فصرعته، ثم جعلت أدمي أنفه بفهر كان معي أو حجر.. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه إن عماراً لقي الشيطان عند البئر فقاتله، فلما رجعت سألني فأخبرته الأمر فكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه

يقول: إن عمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أشار إليه البخاري، فيما رواه، عن إبراهيم النخعي قال: " ذهب علقمة إلى الشأم، فلما دخل المسجد، قال: اللهم يسر لي جليساً صالحاً فجلس إلى أبي الدرداء فقال أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة. قال: أو ليس فيكم أو منكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة، قلت: بلى. قال: أو ليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعني عماراً، قلت: بلى. قال: أو ليس فيكم أو منكم صاحب السواك والوصاد؟ قلت: بلى. قال: كيف كان عبد الله يقرأ، " والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى " ، قلت: والذكر والأنثى " وذكر الحديث . وروى أبو بكر في رباعياته، والقاضي أبو يعلى عن عبد الله بن حسين المصيمي، قال: دخلت طرسوس، فقيل لي: ههنا امرأة يقال لها نهوس رأت الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتها فإذا هي امرأة مستلقية على قفاها فقلت: أرأيت أحداً من الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: نعم حدثني سمحج وسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض؟ قال على حوت من نور يتلجلج في النور قالت: قال: تعني سمحج. وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من مريض يقرأ عنده سورة يس إلا مات ريان ودخل قبره ريان وحشر يوم القيام ريان " .ل: إن عمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أشار إليه البخاري، فيما رواه، عن إبراهيم النخعي قال: " ذهب علقمة إلى الشأم، فلما دخل المسجد، قال: اللهم يسر لي جليساً صالحاً فجلس إلى أبي الدرداء فقال أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة. قال: أو ليس فيكم أو منكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة، قلت: بلى. قال: أو ليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعني عماراً، قلت: بلى. قال: أو ليس فيكم أو منكم صاحب السواك والوصاد؟ قلت: بلى. قال: كيف كان عبد الله يقرأ، " والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى " ، قلت: والذكر والأنثى " وذكر الحديث . وروى أبو بكر في رباعياته، والقاضي أبو يعلى عن عبد الله بن حسين المصيمي، قال: دخلت طرسوس، فقيل لي: ههنا امرأة يقال لها نهوس رأت الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتها فإذا هي امرأة مستلقية على قفاها فقلت: أرأيت أحداً من الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: نعم حدثني سمحج وسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض؟ قال على حوت من نور يتلجلج في النور قالت: قال: تعني سمحج. وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من مريض يقرأ عنده سورة يس إلا مات ريان ودخل قبره ريان وحشر يوم القيام ريان " .
وأغرب من هذا ما في أسد الغابة تبعاً لأبي موسى بإسنادهما عن مالك بن دينار عن أنس بن

مالك رضي الله تعالى عنه قال: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً من جبال مكة، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازه فقال النبي صلى الله عليه وسلم مشية جني ونغمته، قال: أجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أي الجن؟ قال أنا هامة بن الهيم أو ابن هيم بن لاقيس بن ابليس. فقال: لا أرى بينك وبينه إلا أبوين قال: أجل. قال كم أتى عليك. قال أكلت الدنيا إلا أقلها، كنت ليالي قتل قابيل هابيل غلاماً ابن أعوام، فكنت أتشوف على الآكام وأورش بين الأنام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس العمل؟ فقال يا رسول الله دعني من العتب فإني ممن آمن بنوح وتبت على يديه وإني عاتبته في دعوته فبكى وأبكاني وقاد: إني والله لمن النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت هوداً وآمنت به، ولقيت إبراهيم وكنت معه في النار إذ ألقي فيها، وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجب، فسبقته إلى قعره ولقيت شعيباً وموسى، ولقيت عيسى بن مريم، فقال لي: إن لقيت محمداً فاقرئه مني السلام وقد بلغت رسالته، وآمنت بك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على عيسى وعليك السلام، ما حاجتك يا هامة قال: إن موسى علمني التوراة، وعيسى علمني الإنجيل، فعلمني القرآن. فعلمه،. وفي رواية أنه في علمه عشر سور من القرآن وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينعه إلينا فلا نراه، والله أعلم، إلا حياً.
وفيه أيضاً عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اله تعالى عنه، أنه قال ذات يوم لابن عباس حدثني بحديث تعجبني به، قال: حدثني أبو خزيم بن فاتك الأسدي أنه خرج يوماً في الجاهلية في طلب إبل له قد ضلت فأصابها في ابرق العزاف. وسمي بذلك لأنه يسمع فيه عزيف الجن قال: فعقلتها وتوسدت ذراع بكر منها ثم قلت: أعوذ بعظيم هذا المكان. وفي رواية بكبير هذا الوادي وإذا بهاتف يهتف بي ويقول:
ويحك عذ بالله ذي الجلال ... منزل الحرام والحلال
ووحد الله ولا تبال ... ما هول ذا الجني من الأهوال
فقلت:
يا أيها الداعي فما تخيل ... أرشد عندك أم تضليل
فقال:
هذا رسول الله ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات
وسور بعد مفصلات ... يدعو إلى الجنة والنجاة
يأمر بالصوم والصلاة ... ويزجر الناس عند الهنات
قال: فقلت: من أنت أيها الهاتف يرحمك الله؟ قال: أنا مالك بن مالك بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جن أهل نجد. قال: فقلت: لو كان لي من يكفيني إبلي هذه لأتيته حتى أؤمن به فقال: إن أردت الإسلام فأنا أكفيكها حتى أردها إلى أهلك سالمة إن شاء الله تعالى. قال: فامتطيت راحلتي وقصدت المدينة فقدمتها في يوم جمعة فأتيت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فأنخت راحلتي بباب المسجد وقلت ألبث حتى يفرغ من خطبته، فإذا أبو ذر قد خرج فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسلني إليك وهو يقول لك: مرحباً بك قد بلغني إسلامك فادخل فصل مع الناس. قال: فتطهرت ودخلت فصليت. ثم دعاني. قال: ما فعل الشيخ الذي ضمن أن يرد إبلك إلى أهلك.. أما إنه قد ردها إلى أهلك سالمة؟ فقلت: جزاه الله خيراً ورحمه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل رحمه الله، فأسلم وحسن إسلامه. وفي مسند الدارمي عن الشعبي، قال قال: عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه لقي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني أراك ضئيلاً شخيتاً، كأن ذراعيك ذراعا كلب فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: " لا والله إنني من بينهم لضليع ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك. قال: نعم فعاوده فصرعه. فقال له: أتقرأ الله لا إله إلا هو الحي القيوم؟ قال: نعم. قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان له حجج كحجج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح " قال الدارمي: الضئيل الدقيق. والشخيت المهزول، والضليع جيد الأضلاع. والحجج الريح. وقال أبو عبيدة الحجج الضراط وسيأتي في باب الغين المعجمة في لفظ الغول حديث أبي هريرة وحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنهما في ذلك إن شاء الله تعالى.

مسألة: يصح انعقاد الجمعة بأربعين مكلفاً سواء كانوا من الجن أو من الإنس أو منهما قاله القمولي. لكن نقل الشيخ أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري في مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه التي ألفها عن الربيع أنه قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: من زعم، من أهل العدالة، أنه يرى الجن، ردت شهادته وعزر، لمخالفته لقوله تعالى " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " إلا أن يكون الزاعم نبياً ونظير هذا قول الشيخ محي الدين النووي رحمه الله تعالى في الفتاوى: من منع التفضيل بين الأنبياء يعزر لمخالفته القرآن. ويحمل قول الشافعي رحمه الله على من ادعى رؤيتهم على ما خلقوا عليه ويحمل كلام القمولي على ما إذا تصوروا في صورة بني آدم، كما تقدم قريباً.
واعلم أن المشهور أن جميع الجن من ذرية ابليس، وبذلك يستدل على أنه ليس من الملائكة

لأن الملائكة لا يتناسلون، لأنهم ليس فيهم إناث. وقيل: الجن جنس، وابليس واحد منهم ولا شك أن الجن ذريته، بنص القرآن، ومن كفر من الجن يقال له شيطان. وفي الحديث: " لما أراد الله أن يخلق لأبليس نسلا وزوجة ألقى عليه الغضب، فطارت منه شظية من نار فخلق منها امرأته " ونقل ابن خلكان في تاريخه في ترجمة الشعبي واسمه عامر أنه قال: إني لقاعد يوماً إذ أقبل حمال ومعه دن، فوضعه ثم جاءني فقال: أنت الشعبي فقلت: نعم. قال: أخبرني هل لأبليس زوجة. فقلت: إن ذلك العرس ما شهدته! قال: ثم ذكرت قوله تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " فقلت: إنه لا تكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم. فأخذ دنه وانطلق، قال: فرأيت أنه مجتاز بي وروى أن الله تعالى قال لأبليس: لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس من ولد آدم أحد إلا وله شيطان قد قرن به، وقيل: إن الشياطين فيهم الذكور والإناث، فيتوالدون من ذلك، وأما ابليس فإن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكراً وفي اليسرى فرجاً فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطاناً وشيطانة، وذكر مجاهد أن من ذرية إبليس لاقمس وولهان، وهو صاحب الطهارة والصلاة والهفاف. وهو صاحب الصحارى ومرة وبه يكنى وزلنبور، وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والحلف الكاذب، ومدح السلعة، وبثر وهو صاحب المصائب، يزين خمش الوجوه ولطم الخدود ودوشق الجيوب، والأبيض وهو الذي يوسوس للأنبياء عليهم السلام، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في احليل الرجل وعجز المرأة، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله تعالى دخل معه ووسوس له فألقى الشر بينه وبين أهله، فإن أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه، فإذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله تعالى ورأى شيئاً يكرهه وخاصم أهله فليقل داسم داسم أعوذ بالله منه، ومطوس وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يكون لها أصل ولا حقيقة، والاقنص وأمهم طرطبة، وقال النقاش: بل هي حاضنتهم ويقال: إنه باض ثلاثين بيضة عشر في المغرب وعشر في المشرق وعشر في وسط الأرض وانه خرج من كل بيضة جنس من الشياطين كالغيلان والعقارب والقطارب والجان وأسماء أخرى مختلفة. ثم كلهم عدو لبني آدم لقوله تعالى " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " وهم لكم عدو إلا من آمن منهم قال النووي رحمه الله: ابليس كنيته أبو مرة واختلف العلماء في أنه هل هو من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن؟ أم ليس من الملائكة وفي اسمه هل هو اسم أعجمي أم عربي؟ قال ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وقتادة وابن جرير والزجاج وابن الأنباري: كان ابليس من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن وكان اسمه بالعبرانية عزازيل وبالعربية الحارث وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة سماء الدنيا وسلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفاً عظيماً وعظمة فذاك الذي دعاه إلى الكبر فعصى وكفر فمسخه الله شيطاناً رجيماً ملعوناً نعوذ بالله من خذلانه ومقته ونسأله العافية والسلامة في الدين والدنيا والآخرة. ولذلك قيل: إذا كانت خطيئة الإنسان في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه. قالوا: وقوله تعالى: " كان من الجن " أي من طائفة من الملائكة، يقال لهم: الجن، وقال سعيد بن جبير والحسن البصري: لم يكن ابليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس. وقال عبد الرحمن بن زيد وشهر ابن حوشب ما كان من الملائكة قط. والاستثناء منقطع زاد شهر بن حوشب، وإنما كان من الجن الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعضهم وذهب به إلى السماء. وقال أكثر أهل اللغة والتفسير: إنما سمي ابليس لأنه أبلس من رحمة الله. والصحيح كما قاله الإمام النووي وغيره من الأئمة الأعلام أنه من الملائكة وأن اسمه أعجمي وأن الاستثناء متصل لأنه لم ينقل أن غيرهم أمر بالسجود والأصل في الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه، وقال القاضي عياض: الأكثر على أنه أبو الجن كما أن آدم أبو البشر. والاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب. قال الله تعالى: " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " والصحيح المختار ما سبق عن النووي ومن وافقه وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال: الجن

مؤمنون والشياطين كفار وأصلهم واحد. وسئل وهب بن منبه عن الجن ما هم وهل يأكلون ويشربون ويتناكحون؟ فقال: هم أجناس فأما الصميم الخالص من الجن فإنهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون في الدنيا ولا يتوالدون. ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون وهم السعالي والغيلان، والقطارب وأشباه ذلك وستأتي في أبوابها إن شاء الله.مؤمنون والشياطين كفار وأصلهم واحد. وسئل وهب بن منبه عن الجن ما هم وهل يأكلون ويشربون ويتناكحون؟ فقال: هم أجناس فأما الصميم الخالص من الجن فإنهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون في الدنيا ولا يتوالدون. ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون وهم السعالي والغيلان، والقطارب وأشباه ذلك وستأتي في أبوابها إن شاء الله.
فائدة: قال القرافي: اتفق الناس على تكفير ابليس بقصته مع آدم عليه الصلاة والسلام، وليس مدرك الكفر فيها الامتناع من السجود وإلا لكان كل من أمر بالسجود فامتنع منه كافراً، وليس كذلك ولا كان كفره لكونه حسد آدم على منزلته من الله تعالى، وإلا لكان كل حاسد كافراً، وليس كذلك، ولا كان كفره لعصيانه وفسوقه وإلا لكان كل عاص وفاسق كافراً. وقد أشكل ذلك على جماعة من متأخري الفقهاء فضلاً عن غيرهم، وينبغي أن يعلم أنه إنما كفر لنسبته الحق جل جلاله إلى الجور، والتصرف الذي ليس بمرضي، وظهر ذلك فحوى قوله: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " ومراده على ما قاله الأئمة المحققون، من المفسرين وغيرهم، أن الزام العظيم الجليل بالسجود للحقير من الجور والظلم فهذا وجه كفره لعنه الله. وقد أجمع المسلمون قاطبة على أن من نسب ذلك للحق تعالى كان كافراً. واختلف هل كان قبل ابليس كافر أو لا فقيل: لا وإنه أول من كفر. وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن الذين كانوا في الأرض إنتهى وقد اختلف أيضاً في كفر ابليس، هل كان جهلاً أو عناداً؟ على قولين لأهل السنة والجماعة ولا خلاف، أنه كان عالماً بالله تعالى قبل كفره فمن قال: انه كفر جهلاً، قال: انه سلب العلم الذي كان عنده عند كفره ومن قال: إنه كفر عناداً قال: إنه كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر مع بقاء العلم مستبعد إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذلان الله تعالى لمن يشاء وروى البيهقي في ضرح الأسماء الحسنى في آخر باب قوله تعالى: " وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " عن عمر بن ذر قال: سمعت عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق ابليس. وقد بين ذلك في آية من كتابه وفصلها، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وهي قوله تعالى: " ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم " ثم روى من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: يا أبا بكر لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق ابليس إنتهى وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد أينام ابليس؟ فقال: لو نام لوجدنا راخة فلا خلاص للمؤمن منه إلا بتقوى الله تعالى. وقال في الإحياء قبيل بيان دواء الصبر: من غفل عن ذكر الله تعالى، ولو في لحظة فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان. قال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين " وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ " لأن الشاب إذا لم يشغل ظاهره بمباح يستعين به على دينه عشش الشيطان في قلبه وباض وفرخ، ثم تزدوج أفراخه أيضاً ويبيض ويفرخ مرة أخرى وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالداً أسرع من توالد سائر الحيوانات لأن طبعه من النار والنار، إذا وجدت الحلفاء اليابسة، كثر توالدها فلا تزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتة، فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار ولذلك قال الحسين الحلاج: هي نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.

فائدة: ذكر بعض العلماء العاملين أن الله تعالى افترض على خلقه فريضتين في آية واحدة، والخلق عنها غافلون فقيل له. وما هي؟ فقال: قال الجليل جل جلاله " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً " فهذا أمر منه سبحانه لنا بأن نتخذه عدواً فقيل له: كيف نتخذه عدواً ونتخلص منه؟ فقال: اعلم أن الله تعالى جعل لكل مؤمن سبعة حصون. فالحصن الأول من ذهب، وهو معرفة الله تعالى، وحوله حصن من فضة وهو الإيمان به تعالى وحوله حصن من حديد وهو التوكل عليه جل وعلا، وحوله حصن من حجارة، وهو الشكر والرضا عنه عز شأنه، وحوله حصن من فخار وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما، وحوله حصن من زمرد، وهو الصدق والإخلاص له تعالى، وحوله حصن من لؤلؤ رطب، وهو أدب النفس. فالمؤمن من داخل هذه الحصون، وابليس من ورائها ينبح كما ينبح الكلب، والمؤمن لا يبالي به لأنه قد تحصن بهذه الحصون. فينبغي للمؤمن أن لا يترك أدب النفس في جميع أحواله ويتهاون به في كل ما يأتي، فإن من ترك أدب النفس وتهاون به، فإنه يأتيه الخذلان لتركه حسن الأدب مع الله تعالى، ولا يزال ابليس يعالجه، ويطمع فيه ويأتيه حتى يأخذ منه جميع الحصون، ويرده إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك. انتهى وما ذكره من الفريضتين في الآية قد يشكل، فيقال: ليس فيها إلا فريضة واحدة، وهي قوله تعالى: " فاتخذوه عدواً " إذ الأمر يقتضي الوجوب عند عدم قرينة تدل على خلافه. وقد سألت شيخنا الإمام اليافعي رحمه الله عن الفريضة الثانية، أين هي من الآية؟ فأجاب قدس الله روحه، بأن فيها فريضة علمية وفريضة عملية، فالأولى العلم بكونه عدواً والثانية العمل في اتخاذ العداوة له انتهى وأما ما تقدم من ذكر الحصون فهو في نهاية الحسن والتحقيق، لكن قد يستولي الشيطان على بعض الحصون المذكورة دون بعض فيرد العبد إلى الفسق دون الكفر، فيستحق النار من غير تخليد، وقد لا يرده إلى الفسق، ولكن يرده إلى ضعف الايمان، فلا يستحق النار ولكن يستحق النزول عن رتبة أهل الإيمان الكامل، وكل هذا التفاوت بسبب تفاوت الحصون المذكورة، إذ ليس أخذ حصن المعرفة والإيمان كأخذ بقية الحصون المذكورة، وبقية الحصون تتفاوت أيضاً، فليس أخذ حصن الصدق والإخلاص، كأخذ حصن الأمر والنهي وكذلك سائر الحصون، والكلام في ذلك يطول ولكن مهما بقي حصن الإيمان وحصن التوكل كاملين للعبد لم يقدر عليه الشيطان، لقوله تعالى: " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " وهؤلاء المتصفون بالعبودية الكاملة لقوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " وهم المؤمنون حقاً لقوله تعالى: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذ تليت عليهم آياته زادتهم ايماناً وعلى ربهم يتوكلون " ثم قال في آخر وصفهم: " أولئك هم المؤمنون حقاً " وقد يكون أخذ حصن واحد مؤدياً إلى الكفر، وموجباً للتخليد في النار، كحصن الإيمان بالله. ونعوذ بالله من ذلك، ولكن لا يقدر على أخذ حصن الإيمان، حتى يأخذ الحصون التي حوله نسأل الله الكريم الهدى والسلامة من الزيغ والردى. واعلم أن أول الواجبات المعرفة، وقال الأستاذ: النظر وقال ابن فورك وإمام الحرمين: القصد إلى النظر وقد بسطنا الكلام على ذلك، في كتابنا الجوهر الفريد في علم التوحيد، وما قاله في ذلك علماء الشريعة ومشايخ الصوفية رحمهم الله تعالى. فليراجع ذلك في الجزء السابع من الكتاب المذكور، وبالله التوفيق. واختلفوا هل بعث الله تعالى من الجن إليهم رسلاً قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال الضحاك: كان منهم رسل لظاهر قوله تعالى: " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " وقال المحققون: لم يرسل إليهم منهم رسول ولم يكن ذلك في الجن قط وإنما الرسل من الإنس خاصة، وهذا هو الصحيح المشهور. وأما الجن ففيهم النذر. وأما الآية فمعناها من أحد الفريقين، كقوله تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " وإنما يخرجان من الملح دون العذب. وقال منذر بن سعيد البلوطي: قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إن الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم من الجن، كانوا رسلاً إلى قومهم، وقال مجاهد: النذر من الجن، والرسل من الإنس ولا شك أن الجن مكلفون في الأمم الماضية كما هم مكلفون في هذه الأمة لقوله تعالى: " أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من

الجن والإنس انهم كانوا خاسرين " وقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وقيل المراد: مؤمنو الفريقين. فما خلق أهل الطاعة منهم إلا لعبادته، وما خلق الأشقياء إلا للشقاوة، ولا مانع من إطلاق العام وإرادة الخاص. وقيل: معناه إلا لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها وقيل: إلا ليوحدون، فإن قيل: لم اقتصر على الفريقين ولم يذكر الملائكة؟ فالجواب أن ذلك لكثرة من كفر من الفريقين، بخلاف الملائكة فإن الله قد عصمهم كما تقدم، فإن قيل: لم قدم الجن على الإنس في هذه الآية. فالجواب أن لفظ الإنس أخف لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة، فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وراحته.الجن والإنس انهم كانوا خاسرين " وقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وقيل المراد: مؤمنو الفريقين. فما خلق أهل الطاعة منهم إلا لعبادته، وما خلق الأشقياء إلا للشقاوة، ولا مانع من إطلاق العام وإرادة الخاص. وقيل: معناه إلا لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها وقيل: إلا ليوحدون، فإن قيل: لم اقتصر على الفريقين ولم يذكر الملائكة؟ فالجواب أن ذلك لكثرة من كفر من الفريقين، بخلاف الملائكة فإن الله قد عصمهم كما تقدم، فإن قيل: لم قدم الجن على الإنس في هذه الآية. فالجواب أن لفظ الإنس أخف لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة، فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وراحته.
فرع: كان الشيخ عماد الدين بن يونس رحمه الله، يجعل من موانع النكاح اختلاف الجنس، ويقول: لا يجوز للإنسي أن يتزوج جنية لقوله تعالى: " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً " وقال تعالى: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " فالمودة الجماع والرحمة الولد. ونص على منعه جماعة من أئمة الحنابلة. وفي الفتاوى السراجية: لا يجوز ذلك لاختلاف الجنس. وفي القنية سئل الحسن البصري عنه؟ فقال: يجوز بحضرة شاهدين. وفي مسائل ابن حرب، عن الحسن وقتادة أنهما كرها ذلك. ثم روي بسند فيه ابن لهيعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن نكاح الجن " . وعن زيد العمى، أنه كان يقول: اللهم ارزقني جنية أتزوج بها تصاحبني حيثما كنت. وروى ابن عدي في ترجمة نعيم بن سالم بن قنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن الطحاوي قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قدم علينا نعيم بن سالم مصر فسمعته يقول: تزوجت امرأة من الجن. فلم أرجع إليه. وروى في ترجمة سعيد بن بشير، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحد أبوي بلقيس كان جنياً " . وقال الشيخ نجم الدين القمولي: وفي المنع من التزوج نظر، لأن التكليف يعم الفريقين، قال: وقد رأيت شيخاً كبيراً صالحاً أخبرني أنه تزوج جنية. انتهى قلت: وقد رأيت أنا رجلاً من أهل القرآن والعلم، أخبرني أنه تزوج أربعاً من الجن، واحدة بعد واحدة. لكن يبقى النظر في حكم طلاقها، ولعانها، والإيلاء منها، وعلها، ونفقتها، وكسوتها، والجمع بينها وبين أربع سواها، وما يتعلق بذلك. وكل هذا فيه نظر لا يخفى. قال شيخ الإسلام شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى: رأيت بخط الشيخ فتح الدين اليعمري، وحدثني عنه عثمان المقاتلي قال: سمعت الشيخ أبا الفتح القشيري يقول: سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: وقد سئل عن ابن عربي فقال: شيخ سوء كذاب. فقيل له: وكذاب أيضاً. قال: نعم. تذاكرنا يوماً نكاح الجن، فقال: الجن روح لطيف والإنس جسم كثيف فكيف يجتمعان؟ ثم غاب عنا مدة وجاء في رأسه شجة، فقيل له في ذلك، فقال: تزوجت امرأة من الجن فحصل بيني وبينها شيء فشجتني هذه الشجة! قال الشيخ الذهبي بعد ذلك: وما أظن ابن عربي تعمد هذه الكذبة وإنما هي من خرافات الرياضة.
فرع: روى أبو عبيدة في كتاب الأموال والبيهقي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عز ذبائح الجن. قال: وذبائح الجن أن يشتري الرجل الدار، أو يستخرج العين أو ما أشبه ذلك، فيذبح لها ذبيحة للطيرة. وكانوا في الجاهلية يقولون إذا فعل ذلك: لم يضر أهلها الجن فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك ونهى عنه.

تتمة: في كتاب مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره، أنه جاءه بعض أهل بغداد، وذكر أن له بنتاً اختطفت من سطح داره، وهي بكر. فقال له الشيخ: اذهب هذه الليلة إلى خراب الكرخ، واجلس عند التل الخامس وخط عليك دائرة في الأرض، وقل وأنت تخطها: بسم الله على نية عبد القادر، فإذا كانت فحمة العشاء، مرت بك طوائف من الجن، على صور، شتى، فلا يروعك منظرهم، فإذا كان السحر مر بك ملكهم في محفل منهم، فيسألك عن حاجتك فقل: قد بعثني إليك عبد القادر واذكر له شأن ابنتك. قال: فذهبت وفعلت ما أمرني به الشيخ فمر بي صور مزعجة المنظر ولم يقدر أحد منهم على الدنو من الدائرة التي أنا فيها، ومازالوا يمرون زمراً زمراً إلى أن جاء ملكهم، راكباً فرساً، وبين يديه أمم منهم، فوقف بازاء الدائرة وقال: يا انسي ما حاجتك. قلت: قد بعثني إليك الشيخ عبد القادر، فنزل عن فرسه وقبل الأرض وجلس خارج الدائرة، وجلس من معه ثم قال لي: ما شأنك؟ فذكرت له قصة ابنتي، فقال لمن حوله: علي بمن فعل هذا فأتى بمارد ومعه ابنتي. فقيل له: إن هذا مارد من مردة الصين، فقال له: ما حملك على أن اختطفت من تحت ركاب القطب. فقال: إنها وقعت في نفسي، فأمر به فضربت عنقه، وأعطاني ابنتي فقلت: ما رأيت كالليلة في امتثالك أمر الشيخ عبد القادر! قال: نعم. إنه لينظر من داره إلى مردة الجن وهم بأقصى الأرض فينفرون من هيبته وأن الله تعالى إذا أقام قطباً مكنه من الجن والإنس. وروي عن أبي القاسم الجنيد أنه قال: سمعت سرياً السقطي رحمه الله، يقول: كنت يوماً ماراً في البادية، فآواني الليل إلى جبل لا أنيس فيه، فبينا أنا في جوف الليل ناداني مناد فقال: لا تدور القلوب في الغيوب حتى تذوب النفوس من مخافة فوت المحبوب. فعجبت وقلت: أجني ينادي أم إنسي؟ فقال: بل جني مؤمن بالله سبحانه، ومع إخواني، فقلت: وهل عندهم ما عندك؟ قال: نعم وزيادة. قال فناداني الثاني منهم، فقال: لا تذهب من البدن الفترة إلا بدوام الفكرة. قال: فقلت في نفسي: ما أنفع كلام هؤلاء؟ فناداني الثالث فقال: من أنس به في الظلام نشرت له غداً الأعلام. قال فصعقت. فلما أفقت إذا أنا بنرجسة على صدري فشممتها فذهب عني ما كان بي من الوحشة، واعتراني الأنس. فقلت: وصية رحمكم الله، فقالوا: أبى الله أن يحيا بذكره ويأنس به إلا قلوب المتقين، فمن طمع في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع، وفقنا الله وإياك. ثم ودعوني ومضوا وقد أتى علي حين، وأنا أرى برد كلامهم في خاطري. وفي كفاية المعتقد ونكاية المنتقد، لشيخنا اليافعي عن السري أيضاً أنه قال: كنت أطلب رجلاً صديقاً مدة من الأوقات، فمررت يوماً في بعض الجبال، فإذا أنا بجماعة زمنى وعميان ومرضى، فسألت عن حالهم فقالوا: ههنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعو لهم فيجدون الشفاء، قال: فمكثت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء فقفوت أثره فأدركته، وتعلقت به، وقلت له: بي علة باطنة فما دواؤها؟ فقال يا سري خل عني. فإنه غيور وإياك أن يراك تأنس إلى غيره، فتسقط من عينه، ثم تركني وذهب. وفي كتاب التوحيد للإمام محمد بن أبي بكر الرازي، عن الجنيد أنه قال: كنت أسمع السري يقول يبلغ العبد من الهيبة والأنس إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به. قال: وكان في نفسي منه شيء حتى بان لي أن الأمر كذلك. انتهى قلت: وذلك لأن الهيبة والأنس فوق القبض والبسط، والقبض والبسط فوق الخوف والرجاء، فالهيبة مقتضاها الغيبة والدهش، فكل هائب غائب حتى لو قطع قطعاً لم يحضر من غيبته، إلا بزوال الهيبة عنه. والأنس مقتضاه الصحو والإفاقة، ثم إنهم يتفاوتون في الهيبة والأنس، فأدنى مرتبة في الأنس أنه لو ألقي في لظى ما تكدر أنسه، لأنه لا يشهد إلا هو، ولا يعرف إلا هو، ألا ترى إلى قول السري رحمه الله: يبلغ العبد من الهيبة والأنس إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به! وذلك لأن الأنس يتولد من السرور بالله، ومن صح له الأنس بالله، استوحش مما سواه، فهو باق بالله فان عن السوى لم ير غيره. ولم يشهد لسواه فعلاً فلم ير في الكونين إلا إياه فلا يقع نظره إلا عليه، ولا بصره إلا على فعله، وخلقه لأن العارف عرف الصنعة بالصانع، ولم يعرف الصانع بالصنعة، فلم ير إلا فعله وخلقه. ولذلك قال الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت

الله قبله. وهذا هو المقام الشريف من التوحيد. واعلم أن العبد لا يذوق حلاوة الأنس بالله تعالى، إلا إذا قطع العلائق، ورفض الخلائق، وغاص في الدقائق، مطلعاً على الحقائق. ولا ينبئك مثل خبير. واعلم أن حالتي الهيبة والأنس، وإن جلتا، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصاً لتضمنهما تغير العبد، فإن أهل التوحيد المتمكنين سمت أحوالهم عن التغير، فلهم كمال في المحو، ووجود في العين ولا هيبة لهم ولا أنس ولا علم ولا حس، وارتقاؤهم عن هذا المقام بالجود والفيض الإلهي. فسبحان من خص برحمته من شاء من عباده. وقال السري رحمه الله: صحبت رجلاً يقال له الوالد سنة لم أسأله عن مسألة، فقلت له يوماً: ما المعرفة التي ليس فوقها معرفة. فقال: أن تجد الله أقرب إليك من كل شيء، وأن ينمحي عن سرائرك وظواهرك كل شيء غيره. فقلت له: بأي شيء أصل إلى هذا؟ فقال: بزهدك فيك ورغبتك فيه سبحانه وتعالى. قال: فكان كلامه سبب انتفاعي بهذا الأمر. توفي السري لست خلون من رمضان، سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وقيل غير ذلك والله أعلم بالصواب.لله قبله. وهذا هو المقام الشريف من التوحيد. واعلم أن العبد لا يذوق حلاوة الأنس بالله تعالى، إلا إذا قطع العلائق، ورفض الخلائق، وغاص في الدقائق، مطلعاً على الحقائق. ولا ينبئك مثل خبير. واعلم أن حالتي الهيبة والأنس، وإن جلتا، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصاً لتضمنهما تغير العبد، فإن أهل التوحيد المتمكنين سمت أحوالهم عن التغير، فلهم كمال في المحو، ووجود في العين ولا هيبة لهم ولا أنس ولا علم ولا حس، وارتقاؤهم عن هذا المقام بالجود والفيض الإلهي. فسبحان من خص برحمته من شاء من عباده. وقال السري رحمه الله: صحبت رجلاً يقال له الوالد سنة لم أسأله عن مسألة، فقلت له يوماً: ما المعرفة التي ليس فوقها معرفة. فقال: أن تجد الله أقرب إليك من كل شيء، وأن ينمحي عن سرائرك وظواهرك كل شيء غيره. فقلت له: بأي شيء أصل إلى هذا؟ فقال: بزهدك فيك ورغبتك فيه سبحانه وتعالى. قال: فكان كلامه سبب انتفاعي بهذا الأمر. توفي السري لست خلون من رمضان، سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وقيل غير ذلك والله أعلم بالصواب.
الخواص: لا تدخل الجن بيتاً فيه الأترج. روينا عن الإمام أبي الحسن، علي بن الحسن، بن الحسن، بن محمد الخلعي، نسبة إلى بيع الخلع، وهو من أصحاب الشافعي، وقبره معروف بالقرافة، والدعاء عنده مستجاب. وكان يقال له قاضي الجن أنه أخبر أنهم كانوا يأتون إليه، ويقرؤون عليه، وأنهم أبطؤا عنه جمعة ثم أتوه فسألهم عن ذلك فقالوا: كان في بيتك شيء من الأترج وإنا لا ندخل بيتاً هو فيه. قال الحافظ أبو طاهر السلفي: وكان الخلعي إذا سمع عليه الحديث يختم مجلسه بهذا الدعاء: اللهم ما مننت به فتممه، وما أنعمت به فلا تسلبه، وما سترته فلا تهتكه، وما علمته فاغفره. توفي في شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. قلت: ولهذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل للمؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، لأن الشيطان يهرب عن قلب المؤمن القارىء للقرآن، كما يهرب عن مكان فيه الأترج، فناسب ضرب المثل به، بخلاف سائر الفواكه. وفي المستدرك في تراجم الصحابة من حديث أحمد بن حنبل عن عبد القدوس بن بكير بإسناده إلى مسلم بن صبيح، قال: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها رجل مكفوف، وهي تقطع له الأترج وتطعمه إياه بالعسل، فقالت: إن هذا ابن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم، ما زال هذا له من آل محمد. قلت: وفي تخصيصه بالأترج والعسل ما لا يخفى على متأمل. وفي معجم الطبراني، عن حبيب بن عبد الله عن أبي كبشة عن أبيه عن جده، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الحمام الأحمر والأترج. وسيأتي في باب الفاء حديث سليمان بن موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجن لا يدخلون داراً فيها فرس عتيق.

التعبير: الجن في المنام دهاة الناس أصحاب، مكر وحيل، لما كانوا يصنعون لسليمان عليه الصلاة والسلام من المحاريب والتماثيل، فمن عالج أحداً من الجن في المنام، فإنه ينازع قوماً أصحاب مكر وحيل، ومن رأى أنه يعلم الجن القرآن فإنه ينال رياسة وولاية لقوله تعالى: " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " ، والجن في الرؤيا بمنزلة اللصوص، فمن دخلت الجن داره فليحذر اللصوص، والجنون في المنام على وجوه: فمن رأى أنه قد جن فإنه ينال غنى كما قال الشاعر:
جن له الدهر فنال الغنى ... يا ويحه إن عقل الدهر
وقيل: الجنون دال على أكل الربا لقوله تعالى: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " وربما دل على دخول الجنة لقوله عليه الصلاة والسلام: " اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله والمجانين " فانسب الجنون إلى الرائي بما يليق به، وإن رأت امرأة أنها قد جنت وعولجت بالرقى، فإنها تحمل بولد يكون له دهاء فيكون الجنون جنيناً تحمل به والله تعالى أعلم.
جنان البيوت: بجيم مكسورة ونون مفتوحة مشددة، وهي الحيات جمع جان وهي الحية الصغيرة وقيل الدقيقة الصغيرة، وقيل الدقيقة البيضاء. روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي لبابة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن قتل الجنان التي في البيوت إلا الابتر وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر ويطرحان أولاد النساء " . والطفيتان بضم الطاء الخطان الأبيضان على ظهر الحية والأبتر قصير الذنب. وقال النضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها وفي كتاب الحشرات قال ابن خالويه: سمعت ابن عرفة يقول: الجنان حيات إذا مشت رفعت رأسها عند المشي وأنشد يقول:
رفعن بالليل إذا ما أسدفا ... أعناق جنان وهاما رجفا
الجندبادستر: حيوان كهيئة الكلب ليس ككلب الماء ويسمى القندر، وسيأتي في باب القاف، ولا يوجد إلا ببلاد القفجاق وما يليها، ويسمى السمور أيضاً، وهو على هيئة الثعلب، أحمر اللون ليس له يدان، وله رجلان وذنب طويل ورأس كرأس الإنسان ووجه مدور وهو يمسي متكفياً على صدره كأنه يمشي على أربع، وله أربع خصيات: اثنتان ظاهرتان، واثنتان باطنتان. ومن شأنه أنه إذا رأى الصيادين له لأخذ الجندبادستر وهو الموجود في خصيتيه البارزتين، هرب فإذا جدوا في طلبه قطعهما بفيه، ورمى بهما إليهم إذ لا حاجة لهم إلا بهما. فإذا لم يبصرهما الصيادون وداموا في طلبه استلقى على ظهره حتى يريهم الدم فيعلمون أنه قطعهما فينصرفون عنه وهو إذا قطع الظاهرتين أبرز الباطنتين عوضاً عنهما. وفي باطن الخصية شبه الدم أو العمل زهم الرائحة، سريع التفرك إذا جف. وهذا الحيوان يهرب إلى الماء ويمكث فيه زماناً حابساً نفسه، ثم يخرج وهو حيوان يصلح أن يحيا في الماء وخارج الماء، وأكثر أوقاته في الماء ويغتذي فيه بالسمك والسرطان، وخصاه تنفع من نهش الهوام وتصلح لأشياء كثيرة، وهو دواء محمود يسخن الأعضاء الباردة ويجفف الرطبة، وليس له مضرة أصلاً في شيء من الأعضاء وله خاصية في جميع العلل الباردة الرطبة التي تحدث في الرئة، وفي الدماغ، وينفع من الصمم البارد، ولا شيء أنفع للريح في الأذن منه. وينفع من لدغ العقرب إذا طلي به موضعها، وإذا طلي به الرأس مدرفاً بأحد الأدهان نفع المصروعين، وينفع من الفالج واسترخاء الأعضاء والنقرس البارد منفعة عظيمة وإذا شرب كان ترياقاً للسموم الباردة كلها، حيوانية ونباتية، لا سيما الأفيون وهو يلطف الأخلاط، ويذهب البلغم حيث كان، وينفع الخفقان المتولد من أسباب باردة، وجلده غليظ الشعر، يصلح لبسه للمشايخ والمبرودين، ولحمه نافع للمفلوجين وأصحاب الرطوبات، وإذا شرب الإنسان من الجندبادستر الأسود وزن درهم هلك بعد يوم.
الجنين: هو ما يوجد في بطن البهيمة بعد ذبحها، فإن وجد ميتاً بعد ذبحها فهو حلال بإجماع الصحابة، كما نقله الماوردي في الحاوي، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري، وأبو سيف، ومحمد، واسحق والإمام أحمد، وتفرد أبو حنيفة بتحريم أكله محتجاً بقوله تعالى: " حرمت

عليكم الميتة والدم " وبقوله صلى الله عليه وسلم: " أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال " وهذه ميتة ثالثة لم تذكر. ودليل الجمهور أحلت لكم بهيمة الأنعام قال ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم: بهيمة الأنعام أجنتها توجد ميتة في بطن الأم يحل أكلها بذكاة الأمهات. وهو من أحكام هذه السورة وفيه بعد لأن الله تعالى قال: " إلا ما يتلى عليكم " وليس في الأجنة ما يستثنى وقد تقدم ذلك في باب الباء الموحدة. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذكاة الجنين ذكاة أمه " . فجعل إحدى الذكاتين نائبة عن الأخرى، وقائمة مقامها. فإن قيل: إنما أراد التشبيه دون النيابة، فيكون المعنى ذكاة الجنين كذكاة أمه، لأنه قدم الجنين على الأم فصار تشبيها بالأم، ولو أراد النيابة لقدم الأم على الجنين إنما يطلق عليه ما دام مستجناً في بطن أمه، فأما إذا انفصل، فإن الاسم يزول عنه ويسمى ولداً قال الله تعالى: " وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " وهو في بطن الأم لا يقدر عليه، فوجب حمله على النيابة دون التشبيه. الثاني أنه لو أراد التشبيه دون النيابة، لساوى الأم غيرها، ولم يكن لخصوصية - التشبيه بالأم فائدة. الثالث أنه لو أراد التشبيه لنصب ذكاة الأم بحذف كاف التشبيه والروايتان إنما هما برفع ذكاة أمه فثبت أنه أراد النيابة دون التشبيه، فإن قيل: فقد روي ذكاة أمه بالنصب ومعناها كذكاة أمه، فالجواب أن هذه الرواية غير صحيحة ولو سلمت كانت محمولة على نصبها بحذف الياء الموحدة دون الكاف. ويكون معناه ذكاة الجنين بذكاة أمه، ولو احتمل الأمرين لكانتا مستعملتين فتستعمل الرواية المرفوعة في النيابة، إذا خرج ميتاً، والرواية المنصوبة في التشبيه إذا خرج حياً فيكون أولى من استعمال إحدى الروايتين وترك الأخرى. ويدل عليه أيضاً نص لا يحتمل التأويل، وهو ما رواه أبو سعيد الخدري قال: قلت: يا رسول الله إنا ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطونها الجنين أنلقيه أم نأكله. فقال عليه الصلاة والسلام: " كلوه إن شئتم فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه " . واستدل الشيخ أبو محمد كما قال الرافعي بأنه لو لم يحل الجنين بذكاة الأم، لما جاز ذبح الأم مع ظهور الحمل. كما لا تقتل الحامل قصاصاً واحداًً. فألزم عليه ذبح رمكة في بطنها بغلة، فمنع ذبحها. والرمكة أنثى الخيل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهي مأكولة، والبغل لا يؤكل، إذا ثبت هذا فاعلم أن للجنين ثلاثة أحوال ذكرها الماوردي: أحدها أن يكون كاملاً كما سبق، ثانيها أن يكون علقة فهذا غير مأكول، لأن العلقة دم، ثالثها أن يكون مضغة، قد انعقد لحمه ولم تبن صورته، ولم تتشكل أعضاؤه، ففي إباحة أكله وجهان: من اختلاف قوليه في وجوب الغرة كونها أم ولد، قال الماوردي، وقال بعض أصحابنا: إذا نفخ فيه الروح لم يؤكل، وإلا أكل، وهذا مما لا سبيل إلى إدراكه ولو خرج الجنين وبه حياة مستقرة، اشترط ذبحه أو غير مستقرة حل بغير ذكاة. ولو خرج رأسه ثم ذكيت الأم قال القاضي والبغوي: لم يحل إلا بذكاة لأنه مقدور عليه. وقال القفال: يحل لأن خروج بعض الولد كعدم خروجه في العدة وغيرها، قال في الروضة قول القفال أصح. والله أعلم. وذكر ابن خلكان في تاريخه أن الإمام صائن الدين أبا بكر القرطبي كان كثيراً ما ينشد هذين البيتين متمثلاً:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
هما لأبي الخير الكاتب الواسطي رحمة الله عليه.
جهبر: كجعفر أنثى الدب، وهي إذا أرادت الولادة، استقبلت بنات نعش الصغرى، فتسهل ولادتها. وإذا ولدت يكون ولدها قطعة لحم تخاف عليه من النمل، فتنقله من موضع إلى موضع خوفاً من النمل، وربما تركت أولادها وأرضعت ولد الضبع. ولهذا قالت العرب " أحمق من جهبر " .
الجواد: الفرس الجيد العدو سمي بذلك لأنه يجود بجريه والأنثى جواد أيضاً قال الشاعر:
نمته جواد لا يباع جنينها

والجمع جود وجياد كثوب وكثياب. وأجياد جبل بمكة، سمي بذلك لموضع خيل تبع. ويسمى قعيقعان لموضع سلاحه، وروى جعفر الفريابي، في كتابه فضل الذكر، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لأن أصلي الصبح ثم أجلس في مجلسي فأذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، أحب إلي من شد على جياد الخيل في سبيل الله عز وجل " . وروى النسائي والحاكم وابن السني والبخاري في تاريخه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، قال: أن رجلاً جاء إلى الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقال، حين انتهى إلى الصف الأول: اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: " من المتكلم آنفا؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: إذن يعقر جوادك وتستشهد في سبيل الله تعالى " . وفي سنن ابن ماجه من حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من أهريق دمه وعقر جواده " . وفي كتاب النصائح لابن ظفر، أن أمة لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، اسمها زائدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يا زائدة انك لموفقة " . فأتته يوماً فقالت: يا رسول الله إني عجنت عجيناً لأهلي ثم ذهبت أحتطب، فاحتطبت وأكثرت، فرأيت فارساً على جواد لم أر قط أحسن منه وجها وملبساً وجواداً، ولا أطيب منه ريحاً، فأتاني وسلم علي وقال: كيف أنت يا زائدة؟ قلت: بخير والحمد لله. قال: وكيف محمد. قلت: بخير، وينذر الناس بأمر الله. قال: إذا أتيت محمد فأقرئيه مني السلام، وقولي له رضوان خازن الجنة يقرئك السلام، ويقول لك: ما فرح أحد بمبعثك ما فرحت به، فإن الله جعل أمتك ثلاث فرق: فرقة يدخلون الجنة بغير حساب، وفرقة يحاسبون حساباً يسيراً ويدخلون الجنة وفرقة تشفع لهم فتشفع فيهم فيدخلون الجنة. قلت: نعم. ثم ولى عني فأخذت في رفع حطبي فثقل علي فالتفت إلي وقال: يا زائدة أثقل عليك حطبك. قلت: نعم بأبي وأمي. فعطف علي وغمز الحزمة بقضيب أحمر في يده فرفعها، ونظر فإذا هو بصخرة عظيمة فوضع الحزمة بالقضيب عليها، وقال: اذهبي يا صخرة بالحطب معها، فجعلت الصخرة تدهده بين يدي بالحطب، حتى أتيت " فسجد النبي صلى الله عليه وسلم شكراً وحمداً لله تعالى على بشرى رضوان. ثم قال لأصحابه: قوموا لننظر فقاموا وانطلقوا إلى الصخرة فرأوها وعاينوا آثارها " . ويقرب من هذه البشرى ما روي عن عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: إن رجلاً من أهل اليمن جاء إلى كعب الأحبار فقال له: إن فلاناً الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة فقال له كعب: هاتها فقال له الرجل: إنه يقول لك: ألم تكن فينا سيداً شريفاً مطاعاً فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعاً إليه؟ قال: نعم. قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفر منك، وقل له: يقول لك كعب: أسألك بالله الذي فلق البحر لموسى، وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كل شيء، ألست تجد في كلمات الله تعالى، أن أمة محمد ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد، فإنه سيقول لك: نعم. فقل له: يقول لك كعب: اجعلني في أي هذه الأثلاث شئت. وفي كتاب خير البشر بخير البشر لمحمد بن ظفر أيضاً، قال: روي أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة فوفد عليه زعماء العرب، وشعراؤها وخطباؤها، يهنؤنه، فرفع الحجاب عن الوافدين، وأوسعهم عطاء، واشتد سروره بهم، فبينما هو على ذلك، إذ نام يوماً فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وأهالته في حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئاً، وثبت ارتياعه في نفسه بها فانقلب سروره حزناً واحتجب عن الوفود حتى أساء به الوفود الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن ثم يقول له اخبرني عما أريد أن أسألك عنه، فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندي، حتى لم يدع كاهناً علمه إلا كان إليه منه ذلك. فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك، إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطف وأظرف من أتباع الكهان! فأمر بحشر الكواهن إليه

وسألهن كما سأل الكهان فلم يجد عند واحدة منهن علماً مما أراد علمه. ولما يئس من طلبته، سلا عنها.ن كما سأل الكهان فلم يجد عند واحدة منهن علماً مما أراد علمه. ولما يئس من طلبته، سلا عنها.
ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه فرفعت له أبيات في ذرى جبل وكان قد لفحه الهجير، فعمل إلى الأبيات وقصد بيتاً منها، كان منفرداً عنها فبرزت إليه منه عجوز، فقالت له انزل بالرحب والسعة والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة، والعلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس، وخفقت عليه الأرواح نام، فلم يستيقظ حتى تصرم الهجير، فجلس يمسح عينيه، فإذا بين يديه فتاة، لم ير مثلها قواماً ولا جمالاً، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد اشفاقه وخاف على نفسه، لما رأى أنها عرفته وتصامم عن كلمتها، فقالت له: لا حذر فداك البشر، فجدك الأكبر، وحظنا بك الأوفر، ثم قربت إليه ثريداً وقديداً وحيساً. وقامت تذب عنه، حتى انتهى أكله. ثم سقته لبناً صريفاً وضريباً. فشرب ما شاء وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة، فملأت عينيه حسنا وقلبه هوى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عفيراء. فقال لها: يا عفيراء من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، حاشر الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان. فقال: يا عفيراء أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام. قال الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس صادع، هلموا إلى المشارع، فروي جارع، وغرق كارع. فقال الملك: أجل هذه رؤياي. فما تأويلها يا عفيراء. قالت: الأعاصير الزوابع ملوك تبايع، والنهر علم واسع، والداعي نبي شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدو منازع. فقال الملك: يا عفيراء أسلم هذا النبي أم حرب. فقالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء من العماء، إنه لمطل الدماء، ومنطق العقائل نطق الإماء. فقال الملك: الام يدعو يا عفيراء؟ قالت إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام. فقال الملك: يا عفيراء من قومه؟ قالت مضر بن نزار، ولهم منه نقع مثار، ينجلي عن ذبح وآثار. فقال الملك: يا عفيراء إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث بهم الحزون وإلى نصره يعتزون. فأطرق الملك يؤامر نفسه في خطبتها، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك، إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور، فنهض الملك وجال في صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء. قال محمد بن ظفر: أوغل في طلب الصيد أي بالغ في ذلك وأمعن، والوغول الدخول في الشيء بقوة.
وذرجبل بفتح الذال المعجمة الكن والمدعدعة هي التي ملئت بقوة ثم حركت حتى تراص ما فيها ثم ملئت بعد ذلك. والعلبة بضم العين المهملة واسكان اللام اناء من جلد. والأرواح هي الرياح. وصريفا اللبن المحض بحدثان الحلاب يصرف عن الضرع إلى الشارب وضريباً اللبن الرائب. وبعد عنها الجان أي جبنوا عنها ولم يطيقوها. وأعاصير زوابع هي من الرياح ما يثير التراب فيعليه في الجؤ، ويديره وساطع أي مرتفع. ودعاء ذي جرس صادع. الجرس الصوت والمشارع المداخل إلى النهر. وجارع أي من شرب جرعاً أمن وكارع أي من أمعن غرق. وتبايع جمع تبع، وهذا لقب لملوك اليمن، وهو من الأتباع لأن بعضهم كان يتبع في الملك بعضاً. والعماء هو الغيم والغمام، ومنطق العقائل هن الكرائم من النساء، أي يسبيهن فيشددن النطق على أوساطهن، كالإماء للمهنة والخدمة. ونقع مثار: النقع الغبار يثيره المتحاربون. والأعضاد الأنصار. والغطاريف السادة والتغطرف التكبر. ويدمث أي يسهل ويؤامر نفسه يراد به تعارض الرأيين المتضادين في النفس وجال في صهوة جواده: جال أي وثب، والصهوة مقعد الفارس من ظهر فرسه. والكوماء الناقة العظيمة السنام.

ونظير هذا من الرؤيا المنسية، وليست من أخبار الكهان، وإنما هو خبر نبوي، رؤيا بختنصر، وذلك أن بختنصر، لما غزا بيت المقدس، اختار من سبي بني اسرائيل مائة ألف صبي، فكان منهم دانيال عليه السلام، فرأى بختنصر رؤيا ارتاع لها، وحدث له في المنام ما أنساه الرؤيا، فسأل الكهان والسحرة والمنجمين عن ذلك، فقالوا له: إن أخبرتنا عن رؤياك أخبرناك عن تأويلها، فقال: إني قد أنسيتها، ولئن لم تخبروني بها لأنزعن أكتافكم. فخرجوا من عنده مذعورين ثم رجع إليه أحدهم فقال له: أيها الملك، إن لم يكن أحد عنده علم بالرؤيا، فهو دانيال الغلام الإسرائيلي، فأحضره وسأله فقال له دانيال: إن لي رباً عنده علم ذلك، فأجلني فأجله ثلاثاً، فخرج دانيال فأقبل على الصلاة والدعاء، فأوحى الله إليه بالرؤيا وبتأويلها، فأتى إلى بختنصر وقال له: إنك رأيت صنماً قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، وعنقه ورأسه من حديد. قال: صدقت: قال دانيال: فبينما أنت تنظر إليه وتتعجب منه، إذ أرسل الله عليه صخرة من السماء فهشمته، فصار رفاتاً، ثم عظمت تلك الصخرة، حتى ملأت الدنيا، فهي التي أنستك الرؤيا. قال: صدقت. فما تأويلها؟ قال دانيال: أما الصنم فهو مثل لملوك الدنيا، وكان بعضهم ألين ملكاً من بعض، فكان أول الملك الفخار وهو أضعفه، ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوقه الفضة وهي أفضل وأحسن، ثم كان فوقه الذهب وهو أفضل منها وأحسن من ذلك كله، ثم كان الحديد من فوقه وهو أشد منه، وهو ملكك فهو أشد ملك، وأعز مما كان قبله. وأما الصخرة التي أرسلها الله من السماء، فنبي يبعثه الله في آخر الزمان، فيدق ذلك كله أجمع، وتمتلىء الدنيا بدينه، ويصير الأمر إليه ويقيم له ملكاً لا يزول أبداً ما بقي الدهر. فعجب بختنصر مما سمع، وأحسن إلى دانيال وقربه وأعلى منزلته.
وذكر ابن خلكان في تربخة ابن القرية واسمه أيوب بن زيد بن القرية، بكسر القاف وتشديد الراء المهملة وكسرها بالياء المثناة تحت. وكان أعرابياً مقرباً عند الحجاج، أن الحجاج بعثه إلى عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي لما خرج على عبد الملك بن مروان، وخلعه ودعا إلى نفسه، فقال ابن الأشعث: لتقومن خطيباً، ولتخلعن ابن مروان، ولتسبن الحجاج، أو لأضربن عنقك. ففعل ابن القرية ذلك وأقام عند ابن الأشعث، فلما قتل ابن الأشعث بدير الحجاج، في الوقعة التي كانت بينه وبين الحجاج، جيء بابن القرية إلى الحجاج فسأله عن أشياء، فمن كلامه في جواب الحجاج ملخصاً: أهل العراق أعلم الناس بحق وباطل. أهل الحجاز أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها. أهل الشأم أطوع الناس لخلفائهم. أهل مصر عبيد من غلب. أهل اليمن أهل طاعة ولزوم جماعة. أرض الهند بحرها در وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر. اليمن أصل العرب وأصل البيوتان والحسب. مكة رجالها علماء حفاة، ونساءها كساة عراة.
المدينة رسخ العلم فيها وظهر منها. البصرة شتاؤها جليد، وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح. الكوفة ارتفعت عن حر البحر، وسفلت عن برد الشأم. واسط جنة بين حمأة وكنة. قال وما حمأتها وكنتها. قال: البصرة والكوفة يحسدانها وما يضرها، ودجلة والفرات يتجاريان بإضافة الخير عليها. الشأم عروس بين نسوة جلوس. ثم قال في أثناء كلامه " لكل جواد كبوة " ، " ولكل صام نبوة " ، " ولكل حليم هفوة " . فقال الحجاج: إن العرب تزعم أن لكل شيء آفة. قال: صدقت العرب، أصلح الله الأمير، آفة الحلم الغضب، وآفة العقل العجب، وآفة العلم النسيان، وآفة السخاء المن عند البذل، وآفة العبادة الفترة، وآفة الكرم مجاورة اللئام، وآفة الشجاعة البغي، وآفة الماء سوء التدبير، وآفة الكامل من الرجال العدم. قال: فما آفة الحجاج؟ قال: لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكا فرعه. فقال الحجاج: امتلأت شقاقاً، وأظهرت نفاقاً. اضربوا عنقه. فلما رآه قتيلاً ندم على قتله. وكان قتله في سنة أربع وثمانين وقد ذكرت هذه الحكاية بطولها في كتاب غاية الإرب في كلام حكماء العرب. وهو في ثلاثة مجلدات. ومن أمثال العرب المشهورة إن الجواد عينه فراره. أي يغنيك شخصه ومنظره، عن أن تخبره وأن تفر أسنانه.

وحكى صاحب ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار، أنه عرض على أبي مسلم الخراساني، صاحب الدعوة جواد لم ير مثله، فقال لقواده: لماذا يصلح هذا الجواد. قالوا: للغزو في سبيل الله. قال: لا. قالوا: فيطلب عليه العدو. قال: لا. قالوا: فلماذا يصلح أصلح الله الأمير؟ قال: ليركبه الرجل، ويفر به من المرأة السوء، والجار السوء. ومن أحسن أوصاف الخيل الصافنات قال الله تعالى: " إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد " قال أهل التفسير: إنها كانت ألف فرس لسليمان عليه الصلاة والسلام، وإنما عقرها لأنها كانت سبباً في فوت الصلاة. قال بعض العلماء: لما ترك الخيل لله، عوضه الله عنها، ما هو خير له منها، وهو الريح التي كان غدوها شهراً ورواحها شهراً. وروى الإمام أحمد قال: حدثنا اسماعيل قال: حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو هذا البيت قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل، فكان من كلامه: " إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيراً منه " . وأخرجه النسائي من حديث ابن المبارك عن سليمان بن الحسين. وأبو الدهماء اسمه قرفة بن بهيس، وقيل بن بيهس. روى له الجماعة إلا البخاري. وقال الثعلبي: كانت بالناس مجاعة، ولحوم الخيل لهم حلال، وإنما عقرها لتؤكل، على وجه القربة بها، كالهدي عندنا، ونظير هذا ما فعله أبو طلحة الأنصاري بحائطه، إذ تصدق به لما دخل عليه الدبسي، وهو في الصلاة فشغله.
والصافن الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك برجله، وهي علامة الفراسة كما قال في حقه العجاج :
ألف الصفون فلا يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسير
وقال بعضهم: الخير في الآية الخيل. والعرب تسمي الخيل خيراً. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لزيد الخيل: أنت زيد الخير. وكان رضي الله عنه، إذا ركب الخيل، خطت رجلاه الأرض واسمه زيد بن مهلهل بن زيد الطائي، وكان كثير الخيل، لم يكن لأحد من قومه، ولا لكثير من العرب إلا الفرس أو الفرسان، وكان له الخيل الكثيرة منها الهطال والكميت والورد والكامل ولاحق ودموك قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد طيء سنة تسع فأسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته بدون تلك الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما قيل لي إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الأناة والحلم " . وفي رواية الحياء والحلم. فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله. مات بعد رجوعه من عند النبي صلى الله عليه وسلم محموماً عند قومه. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه نعم الفتى إن لم تدركه أم مبدم " . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: " يا زيد الخير تقتلك أم كلبة " يعني الحمى. فلما رجع إلى أهله حم ومات، رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن عباس والزهري: مسح سليمان صلى الله عليه وسلم بالسوق والأعناق، لم يكن بالسيف بل بيده تكريماً لها ومحبة. ورجحه الطبري وقال بعضهم: بل غسلها بالماء وذكر الثعلبي أن هذا المسح إنما كان وسماً بالتحبيس في سبيل الله تعالى. وجمهور المفسرين على أنها كانت خيلاً موروثة. وقال بعضهم: قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس. فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد من الخيل، وهذا بعيد. وقال بعضهم: كانت عشرين فرساً أخرجها الشيطان له من البحر، وكانت ذوات أجنحة. وأما قوله " وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " فقال الجمهور أراد أن يفرده من بين البشر ليكون خاصة له وكرامة وهذا هو الظاهر من خبر العفريت الذي ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسارية من سواري المسجد كما تقدم. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة أيضاً.

وروى النسائي وابن ماجه، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام، لما فرغ من بنيان بيت المقدس سأل الله تعالى حكماً يصادف حكمه وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأن لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الاثنتان، فقد أعطيهما، وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة. انتهى فقد دعا نبي ورجا نبي. وأما صفة كرسيه عليه الصلاة والسلام، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: كان يوضح لسليمان ستمائة كرسي ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتقلهم، وتسير مسيرة شهر غدواً ورواحاً وذلك أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي، يجلس عليه للقضاء وأمر بأن يعمل عملاً بديعاً مهولاً بحيث إذا رآه مبطل أو شاهد زور، ارتدع وبهت، فأمر أن يجعل من أنياب الفيلة مرصعاً بالدر والياقوت والزبرجد، وأن يحف بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت منهما عمود من الزبرجد الأخفر. على رأس نخلتين منها طاووسان من ذهب، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب، بعضها يقابل بعضاً. وجعل بجانب الكرسي أسدين من ذهب، وعلى رأس كل واحد منهما عمود من الزبرجد الأخضر. وقد عقد على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر وعناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث تظل عروش الكروم والنخل الكرسي. وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحا المسرعة وتنشر تلك الطيور والنسور أجنحتها، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما، فإذا استوى على أعلاه أخذ النسران، اللذان في النخلتين، تاج سليمان فوضعاه على رأسه، ثم يستدير الكرسي بما فيه فيدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلات برؤوسها إلى سليمان، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر، ثم تناوله حمامة من ذهب، قائمة على عمود، من أعمدة الجواهر، فوق الكرسي، التوراة فيفتحها سليمان ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء. ويجلس عظماء بني اسرائيل على كراسي الذهب المرصعة بالجوهر، وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره، وهي ألف كرسي، ثم تحف بهم الطيور فتظلهم. ويتقدم الناس لفصل الخصومات، فإذا تقدمت الشهود لأداء الشهادات، دار الكرسي بما فيه وعليه، دوران الرحا المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاووسان أجنحتها، فيفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق. فلما توفي سليمان عليه الصلاة والسلام، وغزا بختنصر بيت المقدس، حمل الكرسي إلى انطاكية وأراد أن يصعد عليه فلم يقدر، وضرب الأسدان رجله فكسراها. ثم لما هلك بختنصر حمل الكرسي إلى بيت المقدس، فلم يستطع ملك قط أن يجلس عليه. ولم يمر أحد ما آل إليه عاقبة أمره، ولعله رفع. وإنما ذكرت صفته هنا لأنه من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده. وزعم الطبري أن بختنصر، ليس من الملوك الأربعة الذين ملكوا الأقاليم كلها، كما قاله العتبي ومن تقدمه إلى هذا القول. قال: ولكنه كان عاملاً على العراق للملك المالك للأقاليم في ذلك الحين وهو كيلهراسب. والصحيح ما قاله العتبي وغيره.
وذكر أهل التاريخ وأصحاب السير أن رجلاً من بني إسرائيل إسمه إسحاق في زمن عيسى بن

مريم عليهما السلام، كان له ابنة عم من أجمل أهل زمانها وكان مغرماً بها، فماتت فلزم قبرها ومكث زماناً لا يفترعن زيارته، فمر به عيسى يوماً وهو على قبرها يبكي، فقال له عيسى عليه السلام: ما يبكيك يا إسحق. فقال له: يا روح الله كانت لي ابنة عم وهي زوجتي، وكنت أحبها حباً شديداً وإنها قد توفيت، وهذا قبرها وإني لا أستطيع الصبر عنها وقد قتلني فراقها، فقال له عيسى: أتحب أن أحييها لك بإذن الله؟ قال: نعم يا روح الله فوقف عيسى على القبر، وقال: قم يا صاحب هذا القبر بإذن الله: فانشق القبر وخرج منه عبداً أسود، و النار خارجة من، مناخره ومنافذ وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله عيسى روح الله وكلمته وعبده ورسوله، فقال إسحاق: يا روح الله: وكلمته ما هذا القبر الذي فيه زوجتي، وإنما هو هذا وأشار إلى قبر آخر، فقال عيسى للأسود: ارجع إلى ما كنت فيه فسقط ميتاً فواراه في قبره. ثم وقف على القبر الآخر وقال: قم يا ساكن هذا القبر بإذن الله، فقامت المرأة وهي تنز التراب عن وجهها، فقال عيسى: هذه زوجتك. قال: نعم يا روح الله. قال: خذ بيدها وانصرف. فأخذها ومضى فأدركه النوم فقال لها: إنه قد قتلني السهر على قبرك، وأريد أن آخذ لي راحة. قالت: افعل فوضع رأسه على فخذها ونام. فبينما هو نائم إذ مر عليها ابن الملك، وكان ذا حسن وجمال وهيئة عظيمة، راكباً على جواد حسن، فلما رأته هويته، وقامت إليه مسرعة، فلما نظرها وقعت في قلبه، فأتت إليه وقالت: خذني. فأردفها على جواده وسار فاستيقظ زوجها ونظر فلم يرها فقام يطلبها، وقص أثر الجواد فأدركهما، وقال لابن الملك: اعطني زوجتي وابنة عمي، فأنكرته وقالت: أنا جارية ابن الملك فقال: بل أنت زوجتي وابنة عمي. فقالت: ما أعرفك! وما أنا إلا جارية ابن الملك! فقال له ابن الملك: أفتريد أن تفسد جاريتي. فمال: والله إنها لزوجتي وإن عيسى بن مريم أحياها لي بإذن الله، بعد أن كانت ميتة، فبينما هم في المنازعة إذ مر عيسى صلى الله عليه وسلم فقال إسحاق: يا روح الله أما هذه زوجتي التي أحييتها لي بإذن الله؟ قال: نعم. فقالت: يا روح الله إنه يكذب وإني جارية ابن الملك. وقال ابن الملك: هذه جاريتي. قال عيسى: ألست التي أحييتك بإذن الله. قالت: لا والله يا روح الله. قال: فردي علينا ما أعطيناك. فسقطت ميتة. فقال عيسى: من أراد أن ينظر إلى رجل أماته الله كافراً ثم أحياه وأماته مسلماً، فلينظر إلى ذلك الأسود. ومن أراد أن ينظر إلى امرأة أماتها الله مؤمنة، ثم أحياها وأماخها كافرة، فلينظر إلى هذه. وإن إسحاق الإسرائيلي، عاهد الله تعالى أن لا يتزوج أبداً، وهام على وجهه في البراري باكياً. وفي هذه الحكاية أعظم عبرة لأولي الألباب وهي من أعجب ما يسمع في التوفيق والخذلان، نسأل الله تعالى السلامة، وحسن الخاتمة، بجاه سيدنا محمد وآله. وقد أحببت أن أذكر هنا ما أخبرني به بعض العلماء العارفين وهو أن عيسى صلى الله عليه وسلم اجتاز في بعض الأيام بجبل، فرأى فيه صومعة فدنا منها فرأى فيها متعبداً قد انحنى ظهره، ونحل جسمه، وبلغ به الاجتهاد أقصى غاياته، فسلم عليه وقال له: منذ كم أنت في هذه الصومعة. فقال: منذ سبعين سنة أسأله حاجة واحدة وما قضاها لي بعد! فعساك يا روح الله أن تكون شفيعاً لي فيها فعساها تقضى! فقال له عيسى: وما حاجتك. قال: أن يذيقني مثقال ذرة من خالص محبته. فقال عيسى: ها أنا أدعو الله لك في ذلك فدعا له عيسى في تلك الليلة فأوحى الله إليه إني قد قبلت شفاعتك، وأجبت دعوتك. فعاد عيسى بعد أيام إلى ذلك الموضع فرأى الصومعة قد وقعت والأرض التي تحتها قد شقت، فنزل عيسى ذلك الشق إلى منتهاه فرأى العابد في مغارة تحت ذلك الجبل، واقفاً شاخصاً مثقال ذرة من خالص محبتنا فعلمنا أنه لا يطيق ذلك، فوهبناه جزءاً من سبعين ألف جزء من ذرة، فهو فيها حائر كما ترى فكيف لو وهبناه أكثر من ذلك؟. اه قلت: فمحبة الخواص من هذه المعادن رشحت، وبهذه الأوصاف عرفت، واعلم أن المحبة هي أول أودية الفناء، والعقبة التي تنحدر منها إلى منازل المحو. وقد اختلفت إشارات أهل التحقيق في العبارة عنها، فكل نطق بحسب فوقه، وافصح بمقدار شوقه. ليس هذا موضع حكاية أقوالهم، واختلاف عباراتهم فيها، وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا الجوهر الفريد في أواخر الجزء

الثامن، ولنذكر لمعة يستأنس بها الناظر، في هذا الكتاب. فاعلم أن المحبة على الإجمال موافقة المحبوب فيما شاء سواء فيما حزن أو سر، نفع أو ضر، وقد أشار بعضهم إلى ذلك بقوله :امن، ولنذكر لمعة يستأنس بها الناظر، في هذا الكتاب. فاعلم أن المحبة على الإجمال موافقة المحبوب فيما شاء سواء فيما حزن أو سر، نفع أو ضر، وقد أشار بعضهم إلى ذلك بقوله :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
فأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن يكرم
واعلم أن الغيرة من أوصاف المحبة، والغرية تأبى الستر والإخفاء، فكل من بسط لسانه في العبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها فوق، وإنما حركه وجدان الرائحة، ولو ذاق منها شيئاً لغاب عن الشرح والوصف. فالمحبة الصادقة لا تظهر على المحب بلفظه، وإنما تظهر بشمائله ولحظه، ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع امتزاج الأسرار من القلوب، وقد قيل في ذلك:
تشير فأدري ما تقول بطرفها ... وأطرق طرفي عند ذاك فتفهم
تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
وأما محبة العوام، فهي محبة تنبت من مطالعة المنة، وتثبت باتباع السنة، وتنمو على الإجابة للغاية، وهي محبة تقطع الوساوس، وتلذذ الخدمة، وتسلي عن المصائب، وهي في طريق العوام عمدة الإيمان فعند القوم كل ما كان من العبد، فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته. وإنما عين الحقيقة أن يكون العبد قائماً بإقامة الحق له، محباً بمحبته له نظاراً بنظره إليه من غير أن تبقى فيه بقية تقف على رسم، أو تناط باسم، أو تتعلق بأثر، أو توصف بنعت، أو تنسب إلى وقت، صم بكم عمي لدينا محضرون.
وروي: عن إبراهيم الخواص، رحمة الله عليه، أنه قال: عطشت، في بعض سياحاتي، عطشاً شديداً، حتى سقطت من شدة العطش، فإذا أنا بماء قد سقط على وجهي، فأحسست ببرده على فؤادي، ففتحت عيني فإذا أنا برجل ما رأيت أحسن منه على جواد أشهب، عليه ثياب خضر وعمامة صفراء، وبيده قدح، فسقاني منه شربة، وقال لي: ارتدف خلفي فارتدفت، فلم يبرح حتى قال لي: ما ترى. قلت: المدينة. قال: انزل واقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له: رضوان خازن الجنة يقرأ عليه السلام. وهذه كرامة عظيمة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. قال شيخنا اليافعي: من رأيتموه يزدري بالأولياء، أو ينكر مواهب الأصفياء، فاعلموا أنه محارب له مبعد من رحمته مطرود عن حقيقة قربه به والله أعلم.
الجواف: بالضم والتخفيف ضرب من السمك وليس من جيده ومنه قول مالك بن دينار: أكلت رغيفا ورأس جوافه، فعلى الدنيا العفاء. أي الدروس، وذهاب الأثر وقيل العفاء التراب الجوذر: بفتح الذال المعجمة وضمها، والجؤذر بالهمزة أيضاً مع الواو: ولد البقرة الوحشية قال الشاعر:
أن من يدخل الكنيسة يوماً ... يلق فيها جآذرا وظباء ؟
ولقد أجاد علي بن إسحاق الزاهي حيث يقول :
وبيض بالحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفاً واستللن خناجرا
تصدين لي يوماً بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا
سفرن بدورا وانتقبن أهلة ... ومسن غصوناً والتفتن جآذرا
واطلعن في الأجياد بالدر أنجما ... جعلن لحبات القلوب ضرائرا
ومما يستجاد من شعره:
الريح تعصف والأغصان تعتنق ... والمزن باكية والزهر مغتبق
كأنما الليل جفن والبروق له ... عين من الشمس تبدو ثم تنطبق
وله أيضاً وأجاد :
تبدت فهذا البدر من خجل بها ... وحقك مثلي في دجى الليل حائر
وماست فشق الغصن غيظاً جيوبه ... ألست ترى أوراقه تتناثر
فأجيز على ذلك:
وفاحت فألقى العود في النار جسمه ... كذا نقلت عنه الحديث المجامر
وقالت فغار الدر واصفر لونه ... كذلك ما زالت تغار الضرائر
وله أيضاً وقيل لغيره:

بادر إذا حاجة في وقتها عرضت ... فللحوائج أوقات وساعات
إن أمكنت فرصة فانهض لها عجلا ... ولا تأخر فللتأخير آفات
وله وأحسن:
أما ترى الغيث كلما ضحكت ... كمائم الزهر في الرياض بكى
كالحب يبكي لديه عاشقه ... وكلما فاض دمعه ضحكا
وله أيضاً:
لحى الله أمرءاً أولا لسرا ... فبحت به وفض الله فاه
لأنك بالذي استودعت منه ... أنم من الزجاج بما وعاه
وقد قيل في المعنى وأجاد قائله:
ينم بسر مستوعبه سراً ... كما نم الظلام بسر نار
أتم من النصول على مشيب ... ومن صافي الزجاج على عقار
توفي الزاهي سنة ستين وثلثمائة وهو شاعر ماهر رحمه الله تعالى.
الجوزل: بفتح الجيم، فرخ الحمام والقطا وأنواعهما. وسيأتي ذكره في لفظ القطا والجمع جوازل قال الشاعر:
يا ابنة عمي لا أحب الجوزلا ... ولا أحب قرصك المفلفلا
وإنما أحب ظبيا أعبلا ... وربما سمي الشاب جوزلا
جيال: كجبال، اسم للضبع على فعال، وهي معرفة بلا ألف ولام.
وحكمها يأتي في باب الضاد المعجمة.
الأمثال: قالوا: " أنبش من جيال " لأنها تنبش القبور، وتخرج جيف الموتى من باطن الأرض إلى ظاهرها.
أبو جرادة: هو الطائر الذي يسميه أهل العراق الباذنجان، ويسميه أهل الشأم البصير، يؤخذ لحمه فيذوب ويتمسح به من كانت البواسير به ظاهرة ينفعه نفعاً بيناً والله أعلم.

باب الحاء المهملة
حائم: هو الغراب الأسود لأنه يحوم عندهم بالفراق قال المرقش :
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحائم
فإذا الأشائم كالايا ... من والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم
وستأتي، إن شاء الله تعالى، هذه الأبيات في أول باب الواو. ويسمى غراب البين وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة.
الحارية: نوع من الأفعى وقد تقدم في باب الهمزة.
الحباب: الحية قال الجوهري: وإنما قيل لها ذلك لأن الحبائب اسم شيطان، والحية يقال لها شيطان. روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: " بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم رجل من الأنصار، كان اسمه الحباب. وقال: " الحباب اسم شيطان " . وقال أبو داود في باب تغيير الاسم القبيح. وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وهشاب وحباب. والرجل الذي غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه هو عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول. كان اسمه الحباب فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله وأبوه كان يكنى أبا الحباب.
الحبتر: الثعلب وقد تقدم ذكره في باب الثاء المثلثة.
الحبث: حية بتراء ذات سم قاتل. وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ الحية في آخر هذا الباب. حباحب: كهداهد حيوان له جناحان كالذباب يضيء بالليل كأنه نار وقد ضربت العرب به المثل فقالوا: " أضعف من نار الحباحب " وقيل: الحباحب اسم رجل من محارب بن خصفة، مشهور بالبخل، كانت له نار ضعيفة يوقدها مخافة الضيفان، فضربوا به المثل لذلك. قال الجوهري: وربما قيل نار أبي الحباحب، وهو ذباب. وقال في المرصع: يقال للنار القليلة التي لا ينتفع بها، وللذباب الطائر في الليل أبو حباحب. غير مصروف قلت: وهذا الطائر يسمى القطرب ذكره ابن البيطار وغيره وقال في الصحاح: القطرب طائر.
وحكمه: تحريم الأكل لأنه من الحشرات.

الحبارى: بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة: طائر معروف وهو اسم جنس يقع على الذكر والأنثى. واحده وجمعه سواء، وإن شئت قلت في الجمع: حباريات. قال الجوهري: وألف حبارى ليست للتأنيث ولا للإلحاق وإنما بني الاسم عليها، فصارت كأنها من نفس الكلمة، لا تنصرف في معرفة ولا نكرة، أي لا تنون. قلت: وهذا سهو منه بل ألفها للتأنيث كسماني ولو لم تكن له لانصرفت. وأهل مصر يسمون الحبارى الحبرج. وهي من أشد الطير طيراناً، وأبعدها شوطاً، وذلك أنها تصاد بالبصرة، ويوجد في حواصلها الحبة الخضراء، التي شجرها البطم، ومنابتها تخوم بلاد الشأم. ولذلك قالوا في المثل " أطلب من الحبارى " . وإذا نتف ريشها أو تحسر وأبطأ نباته ماتت كمداً. والكمد الحزن المكتوم. وهو طائر طويل العنق رمادي اللون في منقاره بعض طول وقال الجاحظ: الحبارى لها خزانة في دبرها وأمعائها لها أبداً فيها سلح رقيق. فمتى ألح عليها الصقر سلحت عليه فينتف ريشه كله، وفي ذلك هلاكه. وقد جعل الله تعالى سلحها سلاحاً لها قال الشاعر:
وهم يتركوك أسلح من حبارى ... رأت صقرا وأشرد من نعام
ومن شأنها أنها تصاد ولا تصيد. روى البيهقي في الشعب من حديث يحيى بن أبي كثير عن سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال أبو هريرة: كذب والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزالاً من خطايا بني آدم، وهو كذلك في تفسير الثعلبي في آخر سورة فاطر يعني إذا كثرت الخطايا، منع الله القطر عن أهل الأرض. وإنما يصيب الطير من الحب والثمرة على قدر المطر قال الشاعر:
يسقط الطير حيث يلتقط الحب ... وتغشى منازل الكرماء
وهي من أكثر الطير حيلة في تحصيل الرزق، ومع ذلك تموت جوعاً لهذا السبب فسبحان القادر على ما يشاء وولدها يقال له نهار، وفرخ الكروان يقال له ليل ولذلك قال الشاعر: ونهاراً رأيت منتصف اللي - ل وليلاً رأيت وسط النهار الحكم: يحل أكلها لأنها من الطيبات. روى أبو داود والترمذي عن يزيد بن عمر بن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبيه عن جده أنه قال: " أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حبارى " . قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
الأمثال: قالوا: " أنكد من الحبارى " كما تقدم. وقال عثمان: " كل شيء يحب ولده حتى الحبارى " . وإنما خصها بالذكر لأنها يضرب بها المثل في الحمق، فهي، على حمقها، تحب ولدها فتطعمه وتعلمه الطيران كغيرها من الحيوان. وقالوا: " أسلح من الحبارى " حالة الخوف " وأسلح من الدجاج " حالة الأمن. وقالوا: " الحبارى خالة الكروان " وقالوا: " أقصر من إبهام الحبارى " و " من إبهام القطاة " .
الخواص: لحم الحبارى بين لحم الدجاج ولحم البط في الغلظ، وهو أخف من لحم البط لأنه بري وهو حار ورطب جداً. وأجوده المخاليف المكدودة قبل الذبح وهو نافع لتسكين الرياح، لكنه يضر بالمفاصل والقولنج. ويدفع ضرره الدارصيني والزيت والخل، ويتولد منه دم بلغمي ويوافق أصحاب الأمزجة الباردة من الشبان، لا سيما إذا أكل في الشتاء وفي البلاد الباردة. وقال صاحب تقويم الصحة: يكره لحم الحبارى لغلظه وعسر انهضامه وأجوده ما طبخ بعد أن يمضي عليه يومان ثم يغرز في صدره وأفخاذه الثوم الكثير والفلفل، ويعمل بالأبازير وهو إذا انهضم ولد غذاء كثيراً. وما كان منه مخلفاً خير مما كان عتيقاً، ويجب أن يتناول بعده حلواء العسل انتهى.
وقال القزويني: يوجد في حوصلته حجر إذا علق على الإنسان لا يحتلم ما دام عليه وإن كان به إسهال حبس بطنه. وإذا علق قلبه على من يكثر النوم قل نومه. وقال أرسطاطاليس في النعوت: بيض الحبارى ما كان منه ذكراً يسود الشعر، ويبقى صبغه سنة لا ينصل وما كان منه أنثى لا يسود الشعر، ويعرف ما يسود بأن يؤخذ خيط فيدخل في إبرة ويدخل في بيضة فإذا اسود الخيط صبغ بها وإلا فلا.
التعبير: الحبارى في المنام رجل سخي صاحب دخل وخرج بلا منفعة كثير الأكل والتعب لا يفتر ليلاً ولا نهاراً.
الحبرج: ذكر الحبارى واليحبور ولدها وقيل اليحبور من طير الماء.
الحبركى: القراد قالت الخنساء:
فلست بمرضع ثديي حبركى ... أبوه من بني جشم بن بكر

والأنثى حبركاة وقال أبو عمرو الجرمي: قد جعل بعضهم الألف في حبركى للتأنيث، فلم يصرفه. وربما شبه به الرجل الغليظ الطويل الظهر القصير اليدين.
حبلق: كعملس غنم صغار لا تكبر وقيل قصار الغنم ودقاقها.
حبيش: قال الجوهري هو طائر جاء مصغراً كالكميت والكعيب انتهى. والكعيب البلبل كما تقدم.
الحجر: الأنثى من الخيل لم يدخلوا فيه الهاء لأنه اسم لا يشركها فيه الذكر. والجمع أحجار وحجور وقيل: أحجار الخيل ما يتخذ منها للنسل، وليس بقوي. وفي كامل ابن عدي في ترجمة محمد بن عبد الله العرزمي، عن عمر بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس في حجرة ولا بغلة زكاة " وهذا يدل على أنه يقال لها حجرة بالهاء. لكن في المستدرك، من حديث أبي حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي الأنثى من الخيل فرساً.
وحكمها: وخواصها كالخيل وسيأتي ذكر ذلك في باب الخاء المعجمة والفاء.
التعبير: الحجرة في المنام امرأة شريفة مباركة لقوله صلى الله عليه وسلم: " ظهورها عز وبطونها كنز " .
فمن ركب حجرة في منامه بآلة الركوب، فإنه ينكح امرأة شريفة مباركة في عقد صحيح. ومن ركب حجرة بلا سرج ولا لجام، فإنه ينكح امرأة في غير عصمه، أو يركب أمراً لا يثبت عليه. وربما دلت الحجرة البيضاء على امرأة ذات حسب ونسب والحمراء على امرأة ذات زينة. والصفراء على امرأة ذات مرض. والسوداء على امرأة ذات ملك وسودد والدهماء كذلك. وربما دلت الحجرة على السنة فالسمينة خصب، والضعيفة جدب. وقد تكون ضعف الجاه والقوى والحيل والله تعالى أعلم.
الحجروف: دويبة طويلة القوائم أعظم من النمل حكاه ابن سيد.
الحجل: بالفتح الذكر من القبج الواحدة حجلة واسم جمعه حجلى. ولم يأتي جمع على فعلى بكسر الفاء. إلا حرفان حجلى وظرب جمع ظربان وهو دويبة منتنة الريح وستأتي في باب الظاء المشالة إن شاء الله تعالى. والحجل طائر على قدر الحمام، كالقطا أحمر المنقار والرجلين ويسمى دجاج البر، وهو صنفان: نجمي وتهامي، فالنجمي أخضر اللون أحمر الرجلين، والتهامي فيه بياض وخضرة. وفراخ هذا الطائر تخرج كاسية، ومن شأنها إذا لم تلقح أن تتمرغ في التراب، وتصبه على أصول ريشها فتلقح. ويقال إنها تبيض من سماع صوت الذكر أو بريح تهب من قبله، وإذا باضت ميز الذكر الذكور منها، فحضنها وهي تحضن الإناث وهما كذلك في التربية. قال التوحيدي: ويعيش الحجل عشر سنين ويصنع عشين يجلس الذكر على واحد، والأنثى على واحد، ومن طبع الحجل أنه يأتي أعشاش نظرائه، فيأخذ بيضها ويحضنه. فإذا طارت الفراخ لحقت بأمهاتها التي باضتها وفي تركيبه قوة الطيران حتى إن الإنسان، إذا لم يره يظنه حجراً خرج من مقلاع. والذكر شديد الغيرة على الأنثى، فلذلك إذا اجتمع ذكران اقتتلا على الأنثى فأيهما غلب ذل الآخر. وتبعت الأنثى الغالب منهما. وفي طبع الذكر أن يخدع أمثاله بقرقرته، ولهذا يتخذه الصيادون في أشراكهم ليكثر القرقرة فيجتمع إليه أبناء جنسه فيقعن معه. وهو يفعل ذلك كالحاسد لها والمنتقم منها والأنثى إذا أصيب بيضها قصدت عش غيرها، وغلبتها على بيضها أو تسرقه وتحضنه.
فائدة: ذكر في كتاب النشوان، وتاريخ ابن النجار عن أبي نصر محمد بن مروان الجعدي، أنه أكل بعض مقدمي الأكراد على سماط فيه حجلتان مشويتان، فأخذ الكردي بيده واحدة وضحك، فسأله عن ذلك فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر، فلما أردت قتله تضرع إلي فلم أقبل تضرعه، ولم أفلته فلما رأى الجد مني، التفت إلى حجلتين كانتا في جبل وقال اشهدا لي عليه إنه قاتلي ظلماً فقتلته. فلما رأيت هاتين الحجلتين، تذكرت حمقه في استشهادهما علي. فقال ابن مروان لما سمع ذلك منه قد شهدتا والله عليك عند من يفيدك عند من يقيدك بالرجل ثم أمر بضرب عنقه.

الحكم: أكلها حلال اتفاقاً. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في النحام، في باب النون عن كامل ابن عدي أن الطير المشوي الذي أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، كان حجلاً. وقيل: كان نحاماً. وصح أنه صلى الله عليه وسلم كان بين كتفيه خاتم مثل زر الحجلة. قال الترمذي: المراد بالحجلة هذا الطائر وزرها بيضها قلت: والصواب إنها حجلة السرير واحدة الحجال، وزرها الذي يدخل في عروتها. وروى البيهقي في دلائل النبوة عن الواقدي عن شيوخه أنهم قالوا: لما شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه ثم قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. فكان هذا هو الذي عرف به موته صلى الله عليه وسلم. وأسماء بنت عميس كانت زوجة جعفر بن أبي طالب ثم تزوجها الصديق، فأولدها محمداً ثم تزوجها علي بن أبي طالب، بعد وفاة الصديق. وكان محمد بن أبي بكر صغيراً فرباه علي فهو ربيب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فائدة أخرى: في المستدرك، عن وهب بن منبه، أنه قال: " لم يبعث الله نبياً إلا وقد كان عليه شامة النبوة في يده اليمنى، إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه. وقال علي رضي الله تعالى عنه: لأهل العراق يا أشباه الرجال ولا رجال، يا عقول ربات الحجال وقال كثير عزة:
وأنت الذي حببت كل قصيرة ... إلي فلا تحرك نداك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطاشر النساء البحاتر
وسيأتي الكلام على خاتم النبوة في باب الكاف في لفظ الكركي.
الأمثال: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بالحجل فقال: " اللهم إني أدعو قريشاً وقد جعلوا طعامي طعام الحجل " . يريد أنه يأكل الحبة بعد الحبة لا يجد في الأكل. وقال الأزهري: أراد إنهم غير جادين في إجابتي فلا يدخل منهم في دين الله إلا النادر القليل. وروى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب، عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول ما يحاسب العبد عليه يوم القيامة صلاته فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. قال وكان يقول: " حاذوا المناكب في الصلاة فإن الشيطان يتخلل الصفوف يتخلل الحجل والصف الأيمن خير من الصف الأيسر " قال قوله: حاذوا من الحذاء وهو أن يجعل المنكب بجنب المنكب.
الخواص: لحمها معتدل جيد سريع الهضم إذا ابتلع من كبدها وهي حارة قدر نصف مثقال نفع من الفزع، ومرارتها تنفع الغشاوة المظلمة في العين اكتحالاً. وإذا سعط بمرارتها إنسان في كل شهر مرة احتد ذهنه، وقل نسيانه، وقوي بصره. وقال المختار بن عبدون: بيض الحجل ألطف من بيض الدجاج، وهو نافع للمترفهين وضار بأصحاب الكد، ويولد غذاء معتدلاً ويوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة، وهو أجود هضماً من بيض الدجاج، وأجود ما يعمل أن يلقى في الماء وهو يغلي وفيه ملح أو خل، ويكون الماء متساوياً عليه. وكذلك كل بيض، وأما المطجن من كل بيض فرديء جداً يولد حجارة في المثانة، ويحدث غماً وقولنجاً. والمغلي في الماء أهضم منه وأنفع ومن المقلي في الأدهان أيضاً انتهى. وقال غيره: بيض الحجل إذا طبخ في الماء المغلي في الكمون والملح أو بخل اعنصل وأكل نفع من المغص وسائر أوجاع البطن.

وأما رؤيته في المنام: فالحجلة تدل على امرأة غير الفة وربما تدل رؤيتها على محبة الأولاد الحدأة: بكسر الحاء المهملة، أخس الطير، كنيته أبو الخطاف، وأبو الصلت، ولا تقل حدأة بفتح الحاء، لأنها الفاس التي لها رأسان وقد جاء في الحديث الحديا على وزن الثريا، كذا قيده الأصيلي. وقد جاء الحدياة بغير همز وفي بعض الروايات الحديئة بالهمزة كأنه تصغير. ذكره الصاغاني قال: وصواب تصغيره الحديئة بالهمز وإن ألقيت حركة الهمزة على الياء شددتها، وقلت: الحدية على مثال عليه. وفي الحديث لا بأس بقتل الحدو والإفعو، قال الأزهري: هي لغة فيهما. وقال ابن السراج: بل هي على مذهب الوقف لا على هذه اللغة قلب الألف واواً على لغة من قال حداً وكذا أفعى انتهى. وقال الأصمعي: جمع الحدأة حدأ كلباً وزاد ابن، قتيبة وحدآن. قال الجوهري: هي مثل عنبة وعنب وقد قال في ع ن ب الحبسة من العنب عنبة وهو بناء نادر لأن الأغلب على هذا البناء الجمع نحو قرد وقردة وفيل وفيلة وثور وثورة. إلا أنه قد جاء للواحد، وهو قليل نحو العنبة والتولة والطيبة والخيرة والطيرة ولا أعرف غيره انتهى. وهو قد ذكر ذلك في حدأة كما تقدم والطيبة المغنم الهنيء والتولة ما تحبب به المرأة لزوجها، والخيرة والطيرة معروفتان. قلت: وقد يرد عليه ثومة جمعه ثوم وذبحة وهو وجع في الحلق ومنة وهو العنكبوت، ورمخة وهي البلحة وضمخة وهي السمينة وهننة وهي نوع من القنافذ وتيمة وهي شجرة بوادي إبراهيم بالحجاز، والحدأة تبيض بيضتين، وربما باضت ثلاثاً، وخرج منها ثلاثة أفراخ، وتحضن عشرين يوماً، ومن ألوانها السود والرمد وهي لا تصيد وإنما تخطف. ومن طبعها أنها تقف في الطيران وليس ذلك لغيرها من الكواسر. وزعم ابن وحشية وابن زهر أن العقاب والحدأة يتبدلان فيصير العقاب حدأة والحدأة عقاباً. وفي نسخة الغراب بدل العقاب فسبحان القادر على ما يشاء. ويقال: إنها أحسن الطير مجاورة لما جاورها من الطير، فلو ماتت جوعاً لا تعدو على فراخ جارها وتزعم رواة الأخبار ونقلة الآثار أنها كانت من جوارح سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وإنما امتنعت من أن تؤلف أو تملك لأنها من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده.
والسبب في صياحها عند سفادها أن زوجها قد جحد ولدها منه، فقالت: يا نبي الله قد سفدني حتى إذا حضنت بيضي وخرج منه ولدي جحدني. فقال سليمان عليه السلام للذكر: ما تقول؟ فقال: يا نبي الله إنها تحوم البراري ولا تمتنع من الطير فلا أدري أهو مني أو من غيري! قال: فأمر سليمان عليه السلام بإحضار الولد فوجده شبه والده فألحقه به. ثم قال لها سليمان عليه السلام: لا تمكنه أبداً حتى تشهدي عليه ذلك الطير لئلا يجحد بعدها. فصارت إذا سفدها صاحت وقالت: يا طيور اشهدوا فإنه سفدني اه. وتقول في صياحها كل شيء هالك إلا وجهه وهي طرشاء ولو كانت مما يصاد بها لما كان من الكواسر أحسن صيداً منها، ولا أجل ثمناً. ومن طبعها أنها لا تخطف إلا من يمين من تخطف منه، دون شماله، حتى إن بعض الناس يقول: إنها عسراء لأنها لا تأخذ من شمال إنسان شيئاً. وقال القزويني: إنها سنة ذكر وسنة أنثى. وفي صحيح البخاري وغيره أن أعرابية كانت تخدم نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت كثيراً ما تتمثل بهذا البيت
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ... على أنه من ظلمة الكفر نجاني

فقالت لها عائشة رضي الله تعالى عنها: ما هذا البيت الذي أسمعه منك: فقالت شهدت عروساً لنا تجلى، إذ دخلت مغتسلاً لنا وعليها وشاح، فوضعته فجاءت الحديا فأبصرت حمرته فأخذته، ففقدوا الوشاح فاتهموني به ففتشوني حتى قبلي فدعوت الله أن يبرئني " فجاءت الحديا بالوشاح حتى ألقته بينهم. كذا قيده الأصيلي الحديا على وزن الثريا. وروي من طريق الصاغاني وغيره: الحدياة بغير همزة والحديئة بالهمز. وفي رواية فرفعت رأسي وقلت يا غياث المستغيثين فما أتممتهن، حتى جاء غراب فرمى الوشاح، أو قالت فألقى الوشاح بيننا فلو رأيتني يا أم المؤمنين وهن حولي يقلن: اجعلينا في حل، فنظمت ذلك في بيت، فأنا أنشده لئلا أنسى النعى فأترك شكرها. وروى الحافظ النسفي في كتاب فضائل الأعمال بإسناده إلى حماد بن سلمة، أن عاصم بن أبي النجود، شيخ القراء، في زمانه قال: أصابتني خصاصة فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الجبانة فصليت ما شاء اله، ثم وضعت وجهي على الأرض، وقلت: يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سامع الأصوات. يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك. قال: فو الله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي فرفعت رأسي فإذا حدأة طرحت كيساً أحمر فأخفت الكيس فإذا فيه ثمانون ديناراً جوهرة ملفوفة في قطنة مندوفة. قال: فبعت الجوهرة بمال عظيم وفضلت الدنانير فاشتريت بها عقاراً وحمدت الله على ذلك انتهى. وحكى القشيي في الرسالة، في آخر باب كرامات الأولياء، عن شبل المروزي أنه اشترى لحماً بنصف درهم فاستلبته منه حدأة فدخل شبل مسجداً يصلي فيه، فلما رجع إلى منزله قدمت له زوجته لحماً. فقال لها من أين لكم هذا. فقالت: تنازع حدأتان فسقط هذا منهما! فقال شبل: الحمد لله الذي لم ينس شبلاً، وإن كان شبل ينساه. وفي كتاب المجالسة للدينوري، في الجزء الثالث، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، قال: كان سعد بن أبي وقاص بين يديه لحم، فجاءت حدأ فأخذته فدعا عليها سعد فاعترض عظم في حلقها فوقعت ميتة انتهى. وروينا بالسند الصحيح أن الشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه، جلس يوما يعظ الناس، وكانت الريح عاصفة. فمرت على مجلسه حدأة طائرة، فصاحت فشوشت على الحاضرين ما هم فيه، فقال الشيخ: يا ريح خذي رأس هذه الحدأة فوقعت لوقتها في ناحية ورأسها في ناحية فنزل الشيخ عن الكرسي وأخذها بيده، وأمر يده الأخرى عليها. وقال: بسم الله الرحمن الرحيم فحييت وطارت والناس يشاهدون ذلك.
الحكم: يحرم أكلها لأنها من الفواسق الخمس المأمور بقتلها. قال الخطابي: المراد بفسقها تحريم أكلها. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفأر بيان ذلك. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم. وفي رواية " ليس على المحرم في قتلهن جناح الحدأة والغراب الأبقع والعقرب والفأرة والكلب والعقور " . نبه صلى الله عليه وسلم بذكر هذه الخمسة على جواز قتل كل مضر فيجوز له أن يقتل الفهد والنمر والذئب والصقر والشاهين والباشق والزنبور والبرغوث والبق والبعوض والوزغ والذباب والنمل إذا آذاه. قال الرافعي: وفي معنى هذه الخمسة: الفحية والذئب والأسد والنمر والنسر والعقاب، فهذه الأنواع يستحب قتلها للمحرم وغيره. وقال في باب الأطعمة ما يخالف ذلك وهو أن قتلها على سبيل الوجوب وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى، في باب الصاد في الكلام على الصيد.
الأمثال: قالوا : " حدأة حدأة وراءك بندقة " قال أبو عبيدة: يراد بذلك هذه الحدأة التي تطير، والبندقة ما يرمي به يضرب للتحذير.

الخواص: مرارتها تجفف في الظل وتنقع في إناء زجاج، فمن لسعه شيء من الهوام، قطر منه في الموضع الذي لسع فيه، واكتحل مخالفاً إن لسع في الجانب الأيمن، اكتحل في العين اليسرى، وإن لسع في الجانب الأيسر اكتحل في العين اليمنى ثلاثة أميال، فإنه ينجيه. وإن سحقت وطرحت في سلة الحاوي، ماتت الحيات كلها. ودمها إذا خلط بقليل مسك وماء ورد شرب على الريق نفع من ضيق النفس. وإن علقت وهي حية في بيت لم يدخله حية ولا عقرب. التعبير: الحدأة تدل رؤيتها على الحرب والقتال، لما قيل " حدأة حدأة وراءك بندقة " قال بعض أهل اللغة: إن حدأة وبندقة كانتا قبيلتين من سعد العشيرة، فأغارت حدأة وتغلبت، وكانت تنزل بالكوفة على بندقة، وكانت تنزل باليمن، فنالت منهم، ثم كسرت بندقة حدأة وتغلبت عليهم. وقيل: هي الطائر المعروف، وبندقة الرامي كما تقدم. وربما دلت على الرجل المتجرم أو المرأة الزانية. وجماعة الحدأ تدل على قطاع الطريق، وربما دلت رؤيتها على من يحل قتاله لكفره وشركه، فإن قتلهم مباح في الحل والحرم، وكذلك الحدأة قاله ابن الدقاق. وقال غيره: الحدأة في المنام ملك خامل الذكر ظالم، وذلك لقوة سلاحه وقربه من الأرض. ومن أصاب حدأة ولد له غلام وينال قبل البلوغ ملكاً، فإن طارت منه مات الولد. وقال أراطميدورس: الحدأة في المنام تدل على اللصوص والخطافين وتدل على النساء والله أعلم.
الحذف: بفتح الحاء والذال المعجمة غنم سود صغار من غنم الحجاز، الواحد حذفة وفي حديث الصلاة " لا يتخللكم الشياطين كأنها حذف " . وفي رواية كأولاد الحذف قيل: " يا رسول الله وما أولاد الحذف؟ قال: ضأن سود جرد صغار تكون باليمن " .
الحر: الفرس العتيق وفرخ الحمامة وقيل الذكر منها وولد الظبية وولد الحية والصقر البازي وقال ابن سيده: الحر طائر صغير أنمر أصقع قصير الذنب عظيم المنكبين والرأس. وقيل إنه يضرب إلى الخضرة وهو يصيد.
الحرباء: كنيته أبو خجادب وأبو الزنديق وأبو الشقيق وأبو قادم. ويقال له جمل اليهودي تقدم. قال الإمام القزويني في كتاب عجائب المخلوقات: لما كان الحرباء خلقاً بطيء النهضة وكان لا بد له من القوت خلقه الله على صورة عجيبة فخلق عينيه تدور إلى كل جهة من الجهات، حتى يدرك صيده من غير حركة في يديه، ولا قصد إليه، ويبقى كأنه جامد، أو كأنه ليس من الحيوان. ثم أعطي مع السكون خاصية أخرى، وهو أنه يتشكل بلون الشجرة التي يكون عليها، حتى يكاد يختلط لونه بلونها، ثم إذا قرب منه ما يصطاده من ذباب وغيره، أخرج لسانه ويخطف ذلك بسرعة، كلحوق البرق، ثم يعود إلى حاله كأنه جزء من الشجرة، وخلق الله لسانه بخلاف المعتاد ليلحق ما بعد عنه بثلاثة أشبار ونحوها، يصطاد به على هذه المسافة، وإذا رأى ما يروعه ويخوفة تشكل وتكون على هيئة وشكل، يفر منه كل من يريد من الجوارح ويكرهه بسبب ذلك التلون. انتهى.
والحرباء أكبر من العظاية، وهي تستقبل الشمس وتدور معها كيفما دارت، وتتلون بحر الشمس كما قال الإمام الغزالي ألواناً مختلفة، فتتلون إلى حمرة وصفرة وخضرة وما شاءت. وهو ذكر أم حبين والجمع الحرابي والأنثى حرباءة. قاد رجل: خاصمت ابن أخي إلى معاوية فجعلت أحجه، فقال: أنت كما قال الشاعر:
إني أتيح له حرباء تنضبة ... لا يرسل السماق إلا ممسكاً ساقا

أراد بالساق هنا الغصن من أغصان الشجرة. والمعنى: أنه لا تنقضي له حجة حتى يتمسك بأخرى، تشبيه بالحرباء. قال الجوهري: ويقال حرباء تنضب كما يقال ذئب غضى. والتنضب شجر يتخذ منه السهام والتاء زائدة لأنه ليس في الكلام فعلل، وفي الكلام تفعل مثل تقتل وتخرج، والواحدة تنضبة، ويقال لها أيضاً حرباء الظهيرة. وهي دويبة غبراء ما دامت فرخاً، ثم تصفو وهي أبداً تطلب الشمس، فحين تبدو تنحرف بوجهها إليها حتى إذا استوت الشمس، علت رأس شجرة وما يجري مجراها، فإذا صار قرص الشمس فوق رأسها، بحيث لا تراها أصابها مثل الجنون، فلا تزال طالبة لها، ولا تفتر إلى أن تتصوب إلى جهة المغرب، فترجع بوجهها إليه مستقبلة لها، ولا تنحرف عنها إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس، طلب هذا الحيوان معاشه ليله كله إلى أن يصبح. حتى إن طائفة من المتكلمين على طبائع الحيوان، يقولون: إنه مجوسي ولسانه طويل جداً مقدار ذراع كما تقدم، وذلك دليل على أنه يكون مطوياً في حلقه، وهو يبلغ به ما بعد عنه من الذباب والأنثى من هذا النوع تسمى أم حبين. وستأتي في آخر الباب. وقد سمي أبو النجم في بعض شعره الحرباء بالشقي، وليس الشقي باسم للحرباء، وإنما سماه به لاستقباله الشمس، كذا ذكره في المحكم في العين والنون والباء.
وهذا الحيوان يوصف بالحزم لأنه، مع تقلبه مع الشمس، لا يرسل يده من غصن حتى يمسك غيره، وهو يشبه رأس العجل وعلى هيئة السمكة الصغيرة، وله أربعة أرجل كسام أبرص. وذكر الشيخ جمال الدين بن هشام، في شرح بانت سعاد، أن للحرباء سناماً كسنام البعير وإنه يتلون ألواناً، ويكنى أبا قرة، وهي تتلون بلون الشجرة، التي تكون عليها، حتى تكاد تختلط بلونها، فإذا قرب منها الذباب ونحوه اختطفته بلسانها، وقد تقدم عن القزويني نظير ذلك.
الحكم: قال في الروضة إنها نوع من الوزغ غير مأكولة لكن مقتضى ما قاله الجاحظ والجوهري من أنها ذكر أم حبين، أنها تؤكل، لأن أم حبين مأكولة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. لكن قالوا: إن الحرباء من ذوات السموم، فيكون هذا علة تحريمها إلا إنها نوع من الوزغ.
الأمثال: قالوا: " فلان يتلون تلون الحرباء " ، يضرب لمن لا يثبت على حالة، وقالوا: " أجود من عين الحرباء " " وأحزم من الحرباء " لما تقدم. والحزم الاحتراس والنظر في الأمر قبل الإقدام عليه.
الخواص: لحمها إذا نتف الشعر النابت في أجفان العين وجعل في أصوله لم ينبت أبداً ومرارتها إذا اكتحل بها أزالت غشاوة البصر. وشحمها إذا جعل على حديدة وأحرق بالنار وخلط بالدم، مع شيء يسير من الماء وجمد عليه الدم والشحم، وطلي به قروح الرأس والأبثار، فإنه يبرئها من أول طلية.
التعبير: الحرباء في المنام وزير ملك أو خليفته، لا يكاد يفارقه لأنها تدور أبداً مع الشمس، ولا تفارقها كما تقدم. وربما دلت على الخدمة للسلطان، أو الفتنة في الدين أو المرأة المجوسية وربما دلت على الحرب والندب وعلى الميت والله أعلم.
الحرذون: بكسر الحاء وبالذال المعجمة دويبة شبيهة بالضب، وقيل: هو ذكر الضب لأن له ذكرين مثله وهو من ذوات السموم يوجد في العمران المهجورة كثيراً له كف ككف الإنسان مقسومة الأصابع إلى الأنامل، وجلده لا برص فيه، بخلاف سام أبرص، والحق أنه غير الورل خلافاً لعبد اللطيف البغدادي.
وحكمه: تحريم الأكل لأنه من ذوات السموم.
الخواص: قال أرسطو: من اطلى بشحم الحرذون، وألقى نفسه على التمساح لم يضره التمساح، وإذا شم رائحته خمر وانقلب على ظهره. وإن أحرق جلده واطلى به إنسان لم يحس بألم الضرب والقطع، ولو فرق بين رأسه وجسده، والعيارون يفعلون ذلك، فيظهر منهم الثبات على الضرب وغيره، والحرذون يقتل العقرب وإذا علق شحمه على صاحب حمى الربع في خرقة سوداء أبرأه وأزالها، وقال مهراريس: إنما يعلق قلبه على الوصف الذي تقدم.
ورؤيته في المنام: تدل على الطمع والشره في الكسب واختلاف المزاج والذهول والنسيان والله تعالى أعلم.

الحرشاف أو الحرشوت: الجراد المهزول الكثير الأكل الواحدة حرشافة. وفي حديث خولة بنت ثعلبة زوج أوس بن الصامت رضي الله عنهما، لما قال لها: أنت كظهر أمي، وجاءت تستفتي له رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشتكي إلى الله، فأنزل الله عز وعلا فيها: " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله " إلى آخر الآيات. قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " مريه أن يعتق رقبة . قالت: والله ما يجد رقبة وماله خادم غيري. قال: مريه فليصم شهرين متتابعين. قالت: والله يا رسول الله ما يقدر على ذلك، إنه ليشرب في اليوم كذا كذا مرة قد ذهب بصره مع ضعف بدنه، وإنما هو كالحرشافة " شبهته بالجراد المهزول الكثير الأكل.
الحرقوص: بضم الحاء المهملة وبالقاف المضمومة وبالصاد المهملة في آخره وبالسين في لغة عوض الصاد دويبة كالبرغوث صغير أرقط بحمرة أو صفرة، ولونه الغالب عليه السواد. وربما نبت له جناحان فطار قال الراجز:
ما لقى البيض من الحرقوص ... يدخل تحت الحلق المرصوص
من مارد لص من اللصوص ... بمهر لا غال ولا رخيص
أراد بلا مهر أصلاً. وقيل هي دويبة مثل القراد وأنشدوا:
مثل الحراقيص على حمار
وفي ربيع الأبرار للزمخشري: أنها دويبة أكبر من البرغوث، وعضها أشد من عضه، وهي مولعة بفروج النساء تولع النمل بالمذاكير، وينبت لها جناحان كما ينبت للنملة، وقيل الحرقوص البرغوث بعينه، واحتج له بقول الطرماح:
ولو أن حرقوصاً على ظهر قملة ... يكر على صفي تميم لولت
ويقال له النهيك وقالت أعرابية:
يا أيها الحرقوص مهلاً مهلاً ... أإبلا أعطيتني أم نحلا
أم أنت شيء لا تبالي الجهلا
وقال ابن سيده: الحرقوص دويبة محزمة لها حمة كحمة الزنبور تلدغ بها كأطراف السياط، ولذلك يقال لمن ضرب بأطراف السياط أخذته الحراقيص.
فائدة: الحرقوص السعدي رجل من الصحابة وهو ذو الخويصرة التميمي، الذي بال في المسجد وهو القائل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم: اعدل. فقال: " ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل " قد " خبت وخسرت إن لم أعمل " . وهو الذي خاصم الزبير في شراج الحرة، وقال أن كان ابن عمتك " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير باستيفاء حقه.
وقال ابن الأثير، في أسد الغابة: الحرقوص بن زهير السعدي من الصحابة ذكره الطبري وقال: إن الهرمز أن الفارسي، كفر ومنع ما قبله واستعان بالأكراد وكثر جمعه فكتب عتبة بن غروان إلى عمر رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر يأمره بقصده وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير. وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالقتال فاقتتل المسلمون والهرمزان، فانهزم الهرمزان. وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها. وله أثر كبير في قتال الهرمزان. وبقي حرقوص إلى أيام علي رضي الله تعالى عنه وشهد معه صفين ثم صار مع الخوارج ومن أشدهم على علي. وكان مع الخوارج لما قاتلهم علي فقتل حرقوص يومئذ سنة سبع وثلاثين.
وحكمه: تحريم الأكل لأنه من الحشرات.
الحريش: نوع من الحيات أرقط. كذا قاله الجوهري بعد هذا: الحريش دابة لها مخالب كمخالب الأسد، ولها قرن واحد في هامتها ويسميها الناس بالكركدن. وقال أبو حيان التوحيدي: هي دابة صغيرة في جرم الجدي ساكنة جداً. غير أن لها من قوة الجسم وسرعة الحركة ما يعجز القناص ولها في وسط رأسها قرن واحد مصمت مستقيم، تناطح به جميع الحيوان، فلا يغلبها شيء ويحتال لصيدها بأن تتعرض لها فتاة عذراء أو صبية فإذا رأتها وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع، وهذه محبة فيها طبيعية ثابتة فإذا هي صارت في حجرة الفتاة، أرضعتها من ثديها على غير حضور اللبن فيها، حتى تصير كالنشوان من الخمر، فيأتيها القناص على تلك الحالة، فيشدها وثاقاً على سكون منها، بهذه الحيلة. وقال القزويني في الأشكال: الحريش حيوان في حجم الجدي ذو عدو شديد، وعلى رأسه قرن واحد كقرن الكركدن، وأكثر عدوه على رجليه لا يلحقه شيء في عدوه، ويوجد في غياض بلغار وسجستان انتهى.
وحكمه: التحريم سواء كان من نوع الحيات أو الحيوان الموصوف لعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع.
الخواص: دمه يشربه من به خناق ينفتح في الحال، ولحمه يبرىء صاحب القولنج أكلاً.

وكعبه يجعل على العرق المدمي يسكن ألمه.
الحسبان: الجراد واحده حسبانة وكذلك النملة الصغيرة.
الحساس: جنس من السمك صغار وهو الهف.
الحسل: ولد الضب. والجمع أحسال وحسول وحسلان وحسلة. يقال ذلك لولد الضب حين يخرج من بيضته وكنية الضب أبو حسل.
وحكمه: كأبيه.
الأمثال: قالوا : " لا آتيك سن الحسل " . أي أبداً لأن سنها لا تسقط حتى تموت وأنشد العجاج يقول:
إنك لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل ... كنت رهين هرم وقتل
الفطحل على وزن الهزبرز من لم يخلق فيه الناس وكانت الحجارة فيه رطبة.
الحسيل: ولد البقرة الأهلية لا واحد له من لفظه. والأنثى حسيلة. كذا قاله الجوهري وهو وهم والصواب الحسيل أولاد البقر واحده حسيلة لأنه سمع له واحد من لفظه. وفي كفاية المتحفظ: الحسيلة البقرة وجمعها حسائل.
حسون: عصفور ذو ألوان، بحمرة وصفرة وبياض وسواد وزرقة وخضرة، يسميه أهل الأندلس أبا الحسن، والمصريون أبا زقاية وربما أبدلوا الزاي سيناً، وهو يقبل التعليم فيعلم أخذ الشيء من يد الإنسان المتباعد ويأتي به إلى مالكه. وهو داخل في عموم العصافير. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة.
الحشرات: صغار ثواب الأرض وصغار هوامها. الواحدة حشرة بالتحريك. وابن أبي الأشعث يسمي جميع هذا الحيوان الأرضي، لأنه لا يفارقها إلى الهواء، ولا إلى الماء وهو يأوي في حجرته، ويركز في بطنها ولا يحتاج إلى شرب الماء، ولا إلى شم النسيم. وهو قرين الأفاعي والحيات والجرذان الأهلية والبربة، واليربوع والضب والحرذون والقنفذ والعقرب والخنفساء والوزغ والنمل والحلم، وأنواع أخرى، سيأتي منها ما لم يتقدم له ذكر.
فائدة: قوله تعالى: " أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " قال مجاهد: اللاعنون الحشرات والبهائم، يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين، فيلعنونهم. رواه ابن ماجه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: كيف جمع ما لا يعقل جمع من يعقل؟ فالجواب أنه أسند إليهم فعل من يعقل كما قال: " رأيتهم لي ساجدين " . ولم يقل ساجدات. وكقوله تعالى: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا " ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الجن والإنس. وقيل ما عدا الملائكة فقط.
الحكم: يحرم أكل الحشرات، ولا يصح بيعها لعدم النفع بها. وبه قال الإمام أحمد وأبو حنيفة وداود. وقال مالك: إنها حلال لقوله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة " ، الآية. ولحديث التلب بن ثعلبة بن ربيعة التميمي قال: " صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريماً " . رواه أبو داود والتلب بتاء مثناة من فوق مفتوحة ثم لام مكسورة ثم باء ثالثة الحروف. وقال شعبة الثلب بثاء مثلثة وفي سنن أبي داود، في كتاب العتاق، عن أحمد أنه قال: كان شعبة ألثغ لم يبين التاء من الثاء. وكذلك قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر، ثم قال: وكان التلب يكنى أبا الملقام، روى عنه ابنه ملقام أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " استغفر لي يا رسول الله، فقال: اللهم اغفر للتلب وارحمه " . ثلاثاً. واحتج الشافعي والأصحاب بقوله تعالى: " ويحرم علينا الخبائث " وهو ما تستخبثه العرب. وبقوله صلى الله عليه وسلم: " خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " . رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة وحفصة وابن عمر رضي الله عنهم وعن أم شريك أنه صلى الله عليه وسلم " أمر بقتل الأوزاغ " . رواه الشيخان. وأما قوله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً " الآية: فقد قال الشافعي وغيره من العلماء: معناه مما كنتم تأكلونه وتستطيبونه. وقال الغزالي، في الوسيط: لا يؤكل من الحشرات إلا الضب. وقد استدرك عليه اليربوع وابن عرس وأم حبين والقنفذ والدلدل. وسيأتي الكلام عليهن في أماكنهن إن شاء الله تعالى.
الحشو والحاشية: صغار الإبل التي لا كبار فيها وكذلك من الناس.
الحصان: بكسر الحاء المهملة الذكر من الخيل. قيل: إنما سمي حصاناً لأنه حصن ماء فلم

ينز إلا على كريمة. روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط، فغشيته سحابة فجعلت تدنو وتدنو فجعل فرسه ينفر، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " تلك السكينة تنزلت للقرآن " والرجل المذكور أسيد بن حضير.

وفي الخبر أن فرعون هاب دخول البحر، وكان على حصان أدهم، ولم يكن في خيل فرعون أنثى، فجاءه جبريل على فرس وديق أي تشتهي الفحل على صورة هامان، وقال له: تقدم فخاض للبحر، فتبعها حصان فرعون وميكائيل يسومهم لا يشرد منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر، وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم فأغرقهم أجمعين. وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان أصحاب موسى ستمائة ألف وسبعين ألفاً. وقال عمرو بن ميمون: كانوا ستمائة ألف. وقيل: خرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره. وكانوا يوم دخول مصر مع يعقوب اثنين وسبعين ألفأ، ما بين رجل وامرأة. فلما أراد المسير، ضرب الله عليهم التيه، فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: إن يوسف عليه الصلاة والسلام، لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم، فلذلك أنسد علينا الطريق. فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي أنشد الله كل من يعلم أين قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمت أذنه عن قولي، فكان يمر بين الرجلين وهو ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز من بني إسرائيل فقالت: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟ فأبى عليها، وقال: حتى أسأل ربي عز وجل. فأمره الله أن يعطيها سؤالها. فقالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة في الجنة إلا نزلتها معك. قال: نعم. قالت: إنه في جوف الماء في النيل، فادع الله حتى يحسر عنه الماء. فدعا الله تعالى فحسر عنه الماء. ودعا الله تعالى أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف، فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق مرمر، وحمله معه حتى دفنه بالشام. ففتح لهم الطريق فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم. ونفر بهم فرعون فجمع قومه، وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل، حتى تصيح الديكة. قال عمرو بن ميمون: فوالله ما صاح ديك تلك الليلة. فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل، وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم سبعون ألفا من دهم الخيل، سوى سائر الشيات. وقال شيخ التفسير محمد بن جرير الطبري: كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم، وكان فرعون في سبعة آلاف وكان في الدهم، وكان بين يديه مائة ألف ناشب، ومائة ألف أصحاب حراب، ومائة ألف أصحاب أعمدة. وكان الماء في غاية زيادته، وكان قد أشرف على بني إسرائيل حين أشرقت الشمس، فتحير أصحاب موسى فأوحى الله تعالى إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فلم يطعه فأوحى الله تعالى إليه أن كنه فضربه وقال انفلق أبا خالد بإذن الله تعالى فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، وظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق، وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل. وأرسل الله تعالى الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً فحاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق، وعن جانبهم الماء كالجبل الضخم فصار لا يرى بعضهم بعضلً فخافوا. وقال كل سبط قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى الماء أن يشبك فصار الماء شبكات كالطاقات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض، حتى عبروا البحر سالمين. فذلك قوله تعالى: " فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " وذلك أن فرعون، لما وصل إلى البحر، ورآه متقطعاً قال لقومه: انظروا إلى البحر كيف انفلق من هيبتي، حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا ادخلوا البحر، فهاب قومه أن يدخلوه، وقالوا له: إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل. يعني موسى. وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبريل عليه السلام على فرس أنثى وديق، فتقدمهم وخاض البحر،. فلما شم أدهم فرعون ريحها، اقتحم البحر في أثرها، ولم يملك فرعون من أمره شيئاً، وهو لا يرى فرس جبريل عليه السلام، فاقتحمت الخيول خلفه البحر، وجاء ميكائيل عليه السلام على فرس، خلف القوم يسوقهم، حتى لم يبق، رجل، وهو يقول له: الحقوا بأصحابكم، حتى إذا خاضوا كلهم البحر، وخرج جبريل عليه السلام من البحر، وهم أولهم بالخروج، أمر الله عز وجل، البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم أجمعين. وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ. وذلك بمرأى من بني إسرائيل.

وذلك قوله تعالى: " وأنتم تنظرون " ، أي إلى مصارعهم. وقيل: إلى هلاكهم. والبحر هو القلزم طرف من بحر فارس انتهى. وقال قتادة: هو بحر وراء مصر، يقال له أساف.ذلك قوله تعالى: " وأنتم تنظرون " ، أي إلى مصارعهم. وقيل: إلى هلاكهم. والبحر هو القلزم طرف من بحر فارس انتهى. وقال قتادة: هو بحر وراء مصر، يقال له أساف.
ولا خلاف أن فرعون مات كافراً، ولا التفات إلى قول من قال خلاف ذلك، ولا تعريج عليه. والنزاع في أنه مات مسلماً مكابرة وخرق للإجماع، والله أعلم. وذكر ابن خلكان أن عبد الملك بن مروان، لما عزم على الخروج لمحاربة مصعب بن الزبير ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، أن لا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره، وألحت عليه في المسألة، فلما لم يسمع منها بكت وبكى من حولها من حشمها. فقال عبد الملك: قاتل الله كثيراً كأنه رأى موقفنا هذا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها نظم دريزينها
ضمته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها
ثم عزم عليها أن تقصر، وخرج. ويضاهي هذه الحكاية في طرفة اتفاقها وملحة مساقها ما حكي أن المأمون حين بنى على بوران بنت الحسن بن سهل، فرش له حصير منسوج بالذهب، ثم نثر على قدميه لآلىء كثيرة، فلما رأى المأمون تساقط اللآلىء المختلفة، على الحصير المنسوج بال هب، قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحال حين شبه حباب كأسه بقول :
كأن كبرى وصغرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
وقد عيب ذلك على أبي نواس وقد اعتذر عنه بأنه جعل من في البيت زائدة على ما أجازه أبو الحسن الأخفش من زيادتها في الكلام الموجب، وأول عليه قوله تعالى: " من جبال فيها من برد " ، وقيل: تقديره فيها برد والله أعلم.
الحصور: الناقة الضيقة الإحليل والحصور من الرجال الذي لا يقرب النساء.

فائدة أجنبية
ذكرها الصاغاني في العباب قال: سألني والدي تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته بعزته، قبل سنة تسعين وخمسمائة وأنا إذ ذاك أسحب مطارف الشباب، في رغد العيش اللباب، وهو يفيدني غرر الفوائد ويزقني درر الفرائد. وكان رحمه الله ريان من الفضائل، ظعاناً عن الرذائل، عن معنى قولهم: قد أثر حصير الحصير في حصير الحصير، فلم أدر ما أقول فقال: الحصير الأول البارية، والثاني السجن، والثالث الجنب، والرابع الملك انتهى.
حضاجر: اسم للذكر والأنثى من الضباع سميت بذلك لسعة بطنها وعظمه وهو معرفة.
قال الحطيئة:
هلا غضبت لرحل جا ... رك إذ تنبذه حضاجر
كذا أنشده ابن سيده وأنشده الجوهري:
هلا غضبت لجار بيتك
قال السيرافي: وإنما جعل اسما لها على لفظ الجمع إرادة للمبالغة وقال سيبويه: سمعنا العرب تقول: وطب حضجر، وأوطب حضاجر. ولذلك لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لأنه اسم لواحد على بنية الجمع. وقال ابن الحاجب في كافيته: وحضاجر اسم علم للضبع غير منصرف لأنه منقول عن الجمع. قلت وهو الأوجه والله أعلم.
الحضب: الذكر الضخم من الحيات. وقيل حية دقيقة وقيل الأبيض من الحيات.
الحفان: فراخ النعام واحدها حفانة، الذكر والأنثى فيه سواء وربما سموا صغار الإبل حفانا.
الحفص: ولد الأسد وبه سمي الرجل حفصاً.
الحقم: ضرب من الطير يشبه الحمام ويقال إنه الحمام نفسه.
الحلزون: عود في جوف أنبوبة حجرية يوجد في سواحل البحار وشطوط الأنهار. وهذه الدودة تخرج بنصف بدنها من جوف تلك الأنبوبة الصدفية، وتمشي يمنة ويسرة تطلب مادة تغتذي بها فإذا أحست بلين ورطوبة انبسطت إليها، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف الأنبوبة الصدفية، حذراً من المؤذي لجسمها، وإذا انسابت جرت بيتها معها.
وحكمه: التحريم لاستخباثه. وقد قال الرافعي في السرطان أنه يحرم لما فيه من الضرر لأنه داخل في عموم تحريم الصدف. وسيأتي الكلام عليه في باب السين المهملة. وأما المحار الذي يسمى الدنيلس فسيأتي الكلام عليه في باب الدال المهملة.
الخواص: قال ابن سينا: طلي الجبهة بالحلزون يمنع انصباب المواد إلى العين والله أعلم. الحلكة والحلكاء والحلكاء والحلكي: بفتح الحاء المهملة وضمها وكسرها دويبة شبيهة بالعظاية تغوص في الرمل.

الحلم: القراد العظيم، الواحدة حلمة. وقال الجوهري: هو مثل القمل وسيأتي أنه القراد المهزول. قال: والحلم أيضاً دود يقع في جلد الشاة الأعلى وجلدها الأسفل. فإذا دبغ لم يزل ذلك الموضع رقيقاً يقال: حلم الأديم بكسر اللام يحلم بفتحها حلماً إذا أكله قال الشاعر وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
فإنك والكتاب إلى على ... كدابغة وقد حلم الأديم
قال ابن السكيت: وهذه الدويبة هي التي تأكل الكتب، وتمزق الأوراق. وفي الحديث أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، كان ينهى أن تنزع الحلمة من أذن دابته وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه يوماً " فنزع نعليه، ووضعهما على يساره " ، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم فلما انقضت الصلاة، قال: " مالكم خلعتم نعالكم " ؟ قالوا: يا نبي الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا. فقال عليه الصلاة والسلام: " إنما نزعتهما لأن جبريل أخبرني أن فيهما دم حلمة " . انتهى قلت والمراد به الدم اليسير المعفو عنه. وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تنزهاً عن النجاسة، وإن كان معفواً عنها، وقد أطلق أصحابنا العفو عن اليسير من سائر الدماء إلا المتولي فإنه استثنى من ذلك دم الكلب والخنزير واحتج بغلظ نجاستهما. وأما الدم الباقي على اللحم وعظامه، فإنه مما تعم به البلوى، وقيل من أصحابنا من تعرض له. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي المفسر من أئمة أصحابنا، عن جماعة كثيرة من التابعين، أنه لا بأس به. ونقله عن جماعة من أصحابنا لمشقة الاحتراز. وصرح الإمام أحمد وأصحابه بأن ما يبقى من الدم في اللحم معفو عنه، ولو غلبت حمرة الدم في القدر لعسر الاحتراز عنه، وحكوه عن عائشة وعكرمة والثوري. وبه قال إسحاق لقوله تعالى: " الا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً " فلم ينه عن كل دم بل نهى عن المسفوح خاصة. وهو السائل والله تعالى أعلم قال الأصمعي ويقال للقراد: أول ما يكون صغيراً قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قراداً، ثم يصير حلماً. وأنشد أبو علي الفارسي :
وما ذكر فإن يكبر فأنثى ... شديداً لازم ليس له ضروس
والأكثر أن يجمع ضرس على أضراس. والأسنان كلها إناث إلا الأضراس والأنياب.
وحكمه: تحريم الأكل لاستخباثه. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب القاف في لفظ القراد.
الأمثال: قالت العرب: " القردان فما بال الحلم " وهو قريب من قولهم: " استنت الفصال حتى القرعى " . وسيأتي في بابه.
الحمار الأهلي: الحمار جمعه حمير وحمر وأحمرة. وربما قالوا للأتان: حمارة وتصغيره حمير، ومنه توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية الذي تقدم ذكره. وكنية الحمار أبو صابر وأبو زياد قال الشاعر:
زياد لست أدري من أبوه ... ولكن الحمار أبو زياد
ويقال للحمارة: أم محمود وأم تولب وأم جحش وأم نافع وأم وهب. وليس في الحيوان ما ينزو على غير جنسه ويلقح إلا الحمار والفرس. وهو ينزو إذا تم له ثلاثون شهراً ومنه نوع يصلح لحمل الأثقال ونوع لين الأعطاف سريع العدو، ويسبق براذين الخيل. ومن عجيب أمره أنه إذا شم رائحة الأسد رمى نفسه عليه من شدة الخوف يريد بذلك الفرار منه. قال حبيب بن أوس الطائي ، يخاطب عبد الصمد بن المعذل وقد هجاه:
أقدمت ويحك من هجوي على خطر ... والعير يقدم من خوف على الأسد

ويوصف بالهداية إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها، ولو مرة واحدة، وبحدة السمع وللناس في مدحه وذمه أقوال متباينة، بحسب الأغراض. فمن ذلك أن خالد بن صفوان والفضل بن عيسى الرقاشي كانا يختاران ركوب الحمير على ركوب البراذين، فأما خالد فلقيه بعض الأشراف بالبصرة على حمار، فقال: ما هذا يا ابن صفوان؟ فقال: عير من نسل الكداد، يحمل الرحلة، ويبلغني العقبة، ويقل داؤه، ويخف دواؤه، ويمنعني من أن أكون جباراً في الأرض، وأن أكون من المفسدين. وأما الفضل فإنه سئل عن ركوبه الحمار؟ فقال: إنه من أقل الدواب مؤنة، وأكثرها معونة، وأخفضها مهوى، وأقربها مرتقى. فسمع أعرابي كلامه، فعارضه بقوله: الحمار شنار، والعير عار، منكر الصوت لا ترقأ به، ولا تمهر به النساء، وصوته أنكر الأصوات. قال الزمخشري: الحمار مثل في الذم الشنيع والشتيمة، ومن استحياشهم لذكر اسمه أنهم يكنون عنه، ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنون عن الشيء المستقذر. وقد عد من مساوي الآداب، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم ذوي مروأة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً، وإن بلغت به الرحلة الجهد. انتهى. والمروأه بالهمز وتركه، قال الجوهري: هي الإنسانية. وقال ابن فارس هي الرجولية وقيل: إن ذا المروأة من يصون نفسه عن الإدناس، ولا يشينها عند الناس. وقيل: من يسير بسيرة أمثاله، في زمانه ومكانه. قال الدارمي قيل المروأة في الحرفة. وقيل في آداب الدين، كالأكل والصياح في الجم الغفير وانتهار السائل، وقلة فعل الخير مع القدرة عليه. وكثرة الاستهزاء والضحك، ونحو ذلك انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله صورته صورة حمار أو يحول رأسه رأس حمار " . ومعنى ذلك، والله أعلم، أن يمسخ صورته كلها فيجعل رأسه رأس حمار، وبدنه بدن حمار، وفيه دليل على جواز وقوع المسخ أعاذنا الله منه. وهو لا يكون إلا من شده الغضب. قال الله تعال: " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " الآية. وهذا الحديث صريح في تحريم مسابقة الإمام بالركوع والسجود، وغيرهما من أركان الصلاة. وبه صرح البغوي والمتولي وصححه النووي، في شرح المهذب. وهو ظاهراً يراد الكفاية. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذ بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً، وإذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً " ، . وسيأتي في باب الدال المهملة إن شاء الله تعالى.

غريبة: رأيت في كتاب النصائح لابن ظفر قال: دخلت ثغراً من ثغور الأندلس فألفيت به شاباً متفقهاً من أهل قرطبة فآنسني بحديثه وذاكرني طرفاً من العلم ثم إني دعوت فقلت: يا من قال واسألوا الله من فضله. فقال: ألا أحدثك عن هذه الآية بعجب؟ قلت: بلى. فحدثني عن بعض سلفه أنه قال: قدم علينا من طليطلة راهبان، كانا عظيمي القدر بها، وكانا يعرفان اللسان العربي، فأظهرا الإسلام وتعلما القرآن والفقه، فظن الناس بهما الظنون. قال: فضممتهما إلي وقمت بأمرهما، وتجسست عليهما فإذا هما على بصيرة من أمرهما، وكانا شيخين فقلما لبث أحدهما حتى توفي. وأقام الآخر أعواماً ثم مرض، فقلت له يوماً: ما سبب إسلامكما. فكره مسألتي فرفقت به فقال: إن أسيراً من أهل القرآن، كان يخدم كنيسة نحن في صومعة منها، فاختصصنا به لخدمتنا، وطالت صحبته لنا، حتى فقهنا اللسان العربي، وحفظنا آيات كثيرة من القرآن، لكثرة تلاوته له، فقرأ يوماً: " واسألوا الله من فضله " ، فقلت لصاحبي، وكان أشد مني رأياً وأحسن فهماً: أما تسمع دعاوى هذه الآية. فزجرني. ثم إن الأسير قرأ يوماً: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " فقلت لصاحبي: هذه أشد من تلك. فقال: ما أحسب الأمر إلا على ما يقولون. وما بشر عيسى إلا بصاحبهم. قال: واتفق يوماً أني غصصت بلقمة، والأسير قائم علينا، يسقينا الخمر على طعامنا، فأخذت الكأس منه فلم أنتفع بها فقلت في نفسي: يا رب إن محمداً قال عنك إنك قلت: " واسألوا الله من فضله " ، وإنك قلت: " ادعوني أستجب لكم " فإن كان صادقاً فاسقني فإذا صخرة يتفجر منها الماء فبادرت فشربت منه، فلما قضيت حاجتي انقطع وورائي ذلك الأسير فشك في الإسلام ورغبت أنا فيه وأطلعت صاحبي على أمري، فأسلمنا معاً. وغدا علينا الأسير يرغب في أن نعمده وننصره فانتهرناه وصرفناه عن خدمتنا. ثم إنه فارق دينه وتنصر فحرنا في أمرنا، ولم نهتد لوجه الخلاص. فقال صاحبي: وكان أشد مني رأياً: لم لا. ندعو بتلك. الدعوة؟ فدعونا بها في التماس الفرج، ونمنا القائلة، فأريت في المنام أن ثلاثة أشخاص نورانية، دخلوا معبدنا، فأشاروا إلى صور فيه فانمحت، وأتوا بكرسي فنصبوه، ثم أتى جماعة مثلهم في النور والبهجة، وبينهم رجل ما رأيت أحسن خلقاً منه، فجلس على الكرسي، فقدت إليه فقلت له: أنت السيد المسيح؟ فقال: لا بل أنا أخوه أحمد، أسلم فأسلمت، ثم قلت: يا رسول الله كيف لنا بالخروج إلى بلاد أمتك؟ فقال لشخص قائم بين يديه: إذهب إلى ملكهم، وقل له يحملهما مكرمين، إلى حيث أحبا من بلاد المسلمين، وأن يحضر الأسير فلاناً، ويعرض عليه العود إلى دينه، فإن فعل يخلى سبيله، وإن لم يفعل فليقتله، قال: فاستيقظت من منامي وأيقظت صاحبي، وأخبرته بما رأيت، وقلت له: ما الحيلة. فقال: قد فرج الله أما ترى الصور ممحوة؟ فنظرت فوجدتها ممحوة. فازددت يقيناً. ثم قال لي صاحبي: قم بنا إلى الملك. فأتيناه فجرى في تعظيمنا، على عادته، وأنكر قصدنا له. فقال له صاحبي: افعل ما أمرت به في أمرنا وفي أمر فلان الأسير فانتقع لونه وأرعد، ثم دعا بالأسير وقال له: أنت مسلم أو نصراني؟ فقال: بل نصراني. فقال له: ارجع إلى دينك، فلا حاجة لنا فيمن لا يحفظ دينه. فقال: لا أرجع إليه أبداً. فاخترط الملك سيفه وقتله بيده. ثم قال لنا سراً: إن الذي جاء إلى واليكما شيطان، ولكن ما الذي تريدان؟ قلنا: الخروج إلى بلاد المسلمين. قال: أنا أفعل ما تريدان، لكن أظهرا أنكما تريدان بيت المقدس. فقلنا له: نفعل. فجهزنا وأخرجنا مكرمين انتهى.

وروى النسائي والحاكم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير في الليل فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فإنها ترى ما لا ترون، وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل، فإن الله يبث في الليل من خلقه ما شاء " . ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم. وفي سنن أبي داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة " . وفي تاريخ نيسابور وكامل ابن عدي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " شر الحمير الأسود القصير " ، وقال الجوهري تعشير الحمار نهيقه عشرة أصوات في طلق واحد قال الشاعر
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهاق حماراً نبي لجزوع
وذلك أنهم، إذا خافوا من وباء بلد، عشروا كتعشير الحمار، قبل أن يدخلوها. وكانوا يزعمون أن ذلك ينفعهم.
غريبة أخرى: قال مسروق: كان رجل بالبادية له حمار وكلب وديك، وكان الديك يوقظهم للصلاة، والكلب يحرسهم، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خيامهم. فجاء الثعلب فأخذ الديك فحزنوا له، وكان الرجل صالحاً، فقال: عسى أن يكون خيراً. ثم جاء ذئب فحرق بطن الحمار فقتله. فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً. ثم أصيب الكلب بعد ذلك. فقال: عسى أن يكون خيراً. ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من كان حولهم وبقوا سالمين. وإنما أخذوا أولئك بما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة. فكانت الخيرة في هلاك ما كان عندهم من ذلك كما قدر الله سبحانه وتعالى. فمن عرف خفي لطف الله رضي بفعله.
فائدة: روى البيهقي، في دلائل النبوة، بسنده إلى أبي سبرة النخعي، قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان في أثناء الطريق نفق حماره فقام فتوضأ. ثم صلى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئت مجاهداً في سبيلك ابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي اليوم منة. أسألك أن تبعث لي حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح. ومثل هذا يكون معجزة لصاحب الشريعة، حيث يكون في أمته من يحيي الله له الموتى كما سبق. ويأتي والرجل المذكور اسمه نباتة بن يزيد النخعي. قال الشعبي: أنا رأيت ذلك الحمار يباع بعد ذلك في السوق، فقيل للرجل: أتبيع حماراً قد أحياه الله لك؟ قال: فكيف أصنع؟ فقال رجل من رهطه ثلاثة أبيات حفظت منها هذا البيت:
ومنا الذي أحيا الإله حماره ... وقد مات منه كل عضو ومفصل
فائدة أخرى: قوله تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى " ، قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريح رحمهم الله تعالى: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه مر على دابة ميتة، قال ابن جريح: كانت جيفة حمار بساحل البحر قال عطاء: بحيرة طبرية، قالوا: فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبر، وكان البحر إذا مد جاءت الحيتان ودواب البحر، فأكلت منها فما وقع منها يصير في البحر، وإذا جزر جاءت السباع فأكلت منها فما وقع منها يصير تراباً، فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها، فما سقط منها قطعته الرياح في الهواء. فلما رأى إبراهيم ذلك تعجب منها، وقال: يا رب قد علمت لتجمعها من بطون السباع، وحواصل الطير، وأجواف دواب البحر، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك فازداد يقيناً، فعاتبه الله على ذلك، فقال: " أو لم تؤمن قال بلى يا رب قد علمت وآمنت ولكن ليطمئن قلبي " ، أي يسكن إلى المعاينة والمشاهدة فإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يعلم يقيناً أن الله يحيي الموتى، ولكنه أراد أن يصير له علم اليقين، لأن الخبر ليس كالمعاينة وما أحسن قول بعضهم:
لئن كلمت بالتفريق قلبي ... فأنت بخاطري أبداً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم

وقيل: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمروذ فقال: " رب الذي يحي ويميت فقال نمروذ أنا أحيي وأميت فقتل رجلاً وأطلق آخر، فجعل ترك القتل إحياء. فقال إبراهيم: إن الله يقصد إلى جسد ميت فيحييه، فقال له نمروذ: أنت عاينته فلم يقدر أن يقول نعم. فانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى. قال: " أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " بقوة حجتي، وإذا قيل لي: أنت عاينته؟ أقول: نعم قد عاينته. وقال سعيد بن جبير: لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك، فأذن له فأتى إبراهيم فلم يكن في الدار، فدخل داره وكان إبراهيم من أغير الناس، إذا خرج أغلق بابه. فلما جاء وجد في داره رجلاً فثار عليه إبراهيم ليأخذه، فقال له: من أنت؟ ومن أذن لك أن تدخل داري بغير إذني. فقال: أذن لي رب هذه الدار. فقال له إبراهيم: صدقت. وعرف أنه ملك فقال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، جثت أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلاً، فحمد الله تعالى، ثم قال: ما علامة ذلك. قال: إجابة الله دعاءك وإحياء الموتى بسؤالك. فحينئذ قال إبراهيم: " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " إنك قد اتخذتني خليلاً وأجبتني إذا دعوتك وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، " ورحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد. ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي " . وقد أخرجه مسلم عن ابن وهب أيضاً. وقوله: نحن أحق بالشك من إبراهيم قال المزني: لم يشك النبي، ولا إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكا في أنه تعالى هل يجيبهما إلى ما سألاه أم لا. وقال الخطابي: ليس في قوله: " نحن أحق بالشك من إبراهيم، اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عنهما. يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك. وإنما قال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس. وكذلك قوله: " ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي، وفيه إعلام أن المسألة من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبيل زيادة العلم بالعيان. فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال. وقيل: لما نزلت هذه الآية. قال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على تمام الآية، في باب الطاء المهملة في الكلام على لفظ الطير.
فائدة أخرى: قوله تعالى: " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال - أنى يحيي

هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك " الآية. هذه الآية منسوقة على الآية التي قبلها تقديره ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه وإلى الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقيل: تقديره هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه " وهل رأيت كالذي مر على قرية؟ قاله البغوي. وقد اختلف المفسرون وأهل السير، في ذلك المار. فقال وهب بن منبه: هو أرمياء بن حلقيا، وكان من سبط هارون وهو الخضر. وقال قتادة وعكرمة والضحاك: وهو عزير بن شرخياً، وهو الأصح. وقال مجاهد هو كافر شك في البعث واختلفوا في تلك القرية، فقال وهب وعكرمة وقتادة. هي بيت المقدس. وقال الضحاك: هي الأرض المقدسة. وقال الكلبي: هي دير سابر آياد. وقال السدي: سلماياد. وقيل: دير هرقل. وقيل الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف. وقيل: هي قرية العنب، وهي على فرسخين من بيت المقدس، وهي خاوية ساقطة. يقال: خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى، مقصوراً، إذا سقط. وخوى البيت بالفتح يخوي خواء، ممدوداً، إذا خلا. على عروشها سقوفها، واحدها عرش. وكل بناء عرش. وكان السبب في ذلك على ما ذكره محمد بن إسحاق صاحب السيرة. أن الله تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أنوص، ملك بني إسرائيل، ليسدده ويأتيه بالخبر من الله وكان قوام أمر بني إسرائيل، بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم. فكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي يقيم له أمره، ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من ربه عز وجل. فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي، فأوحى الله إلى أرمياء أن ذكر قومك نعمي، وعرفهم أحداثهم. فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه في الوقت خطبة طويلة بليغة، بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية، وقال في آخرها عن الله عز وجل: وإني أحلف بعزتي لأقيضن لكم فتنة يتحير فيها الحكيم، ولأسلطن عليكم جباراً قاسياً ألبسه الهيبة، وأنزع من قلبه الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم. ثم أوحى الله إلى أرمياء إني مهلك بني إسرائيل بيافث، ويافث، أهل بابل، وهم ولد يافث بن نوح، فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى ومزق ثيابه ونبذ التراب على رأسه. فأوحى الله إليه: يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك. قال: نعم، يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به. فأوحى الله إليه: وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ففرح بذلك أرمياء، وقال: لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل أبداً، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكاً صالحاً فاستبشر وفرح، وقال: أن يعذبنا ربنا، فبذنوب كثيرة، وإن يعف عنا فبرحمته. ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا وإلا معصية تمادياً في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم. فقل الوحي ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما قصد سائراً أتى الخبر للملك فقال لإرمياء: أين ما زعمت أن الله عز وجل أوحى إليك؟ فقال أرمياء: إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق، فلما قرب الأجل بعث الله إلى أرمياء ملكاً متمثلاً في صورة رجل من بني إسرائيل فقال له أرمياء: من أنت؟ فقال أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهلي ورحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسناً ولم يزدهم إكرامي إياهم إلا سخطاً، فأفتني فيهم فقال: أحسن فيما بينك وبين الله، وصلهم وابشر بخير فانصرف الملك فمكث أياماً ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فجلس بين يديه، فقال له ارمياء: من أنت. قال: أنا الذي أتيتك أستفتيك في أهلي ورحمي فقال له أرمياء: أما ظهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال: يا نبي الله ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمه إلا أتيتها إليهم وأفضل قاله له أرمياء: ارجع فأحسن إليهم اسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم لك. فانصرف الملك ومكث أياماً، ونزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس، أكثر من الجراد المنتشر. ففزع منهم بنو إسرائيل، وقال ملكهم لارمياء: أين ما وعدك ربك؟ فقال أرمياء: إني واثق بوعد ربي. ثم أقبل الملك على أرمياء، وهو جالس على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه.

فجلس بين يديه فقال له أرمياء: من أنت. قال: أنا الذي أتيتك مرتين أستفتيك في شأن أهلي ورحمي. فقال له أرمياء: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال له الملك: يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم، كنت أصبر عليه، واليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله تعالى. فقال أرمياء: على أي عمل رأيتهم؟ قال على عمل عظيم من سخط الله عز وجل، فغضبت له، وأتيتك وأنا أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. فقال أرمياء: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا نرضاه فأهلكهم فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابه، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه وقال: يا مالك السموات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم، إلا بفتياك ودعائك. فعلم أنها فتياه وإن ذلك السائل كان رسولاً من الله إليه فطار أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس. ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً فيقذفه في بيت المقدس ففعلوا حتى ملؤوه. ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم كبيرهم وصغيرهم من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل واحد منهم أربعة أغلمة. وكان من أولئك الأغلمة دانيال وحنانياً. وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق: فثلثا قتلهم، وثلثا سباهم، وثلثا أقرهم بالشأم. فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله تعالى ببني إسرائيل يظلمهم. فلما ولي بختنصر راجعاً عنهم إلى بابل، ومعه سبايا بنيس بين يديه فقال له أرمياء: من أنت. قال: أنا الذي أتيتك مرتين أستفتيك في شأن أهلي ورحمي. فقال له أرمياء: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال له الملك: يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم، كنت أصبر عليه، واليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله تعالى. فقال أرمياء: على أي عمل رأيتهم؟ قال على عمل عظيم من سخط الله عز وجل، فغضبت له، وأتيتك وأنا أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. فقال أرمياء: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا نرضاه فأهلكهم فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابه، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه وقال: يا مالك السموات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم، إلا بفتياك ودعائك. فعلم أنها فتياه وإن ذلك السائل كان رسولاً من الله إليه فطار أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس. ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً فيقذفه في بيت المقدس ففعلوا حتى ملؤوه. ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم كبيرهم وصغيرهم من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل واحد منهم أربعة أغلمة. وكان من أولئك الأغلمة دانيال وحنانياً. وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق: فثلثا قتلهم، وثلثا سباهم، وثلثا أقرهم بالشأم. فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله تعالى ببني إسرائيل يظلمهم. فلما ولي بختنصر راجعاً عنهم إلى بابل، ومعه سبايا بني

إسرائيل، أقبل أرمياء على حمار له، معه عصير عنب في ركوة وسلة تين، حتى غشي إيلياء فلما وقف عليها ورأى خرابها، قال: " أنى يحي هذه الله بعد موتها " ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام، وأمات حماره وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد وذلك ضحى. ومنع الله السباع والطير عن أكل لحمه، فلما مضى من موته سبعون سنة، أرسل الله تعالى ملكاً من ملوك فارس، يقال له نوشك إلى بيت المقدس ليعمره، فانتدب في ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلثمائة ألف عامل، وجعلوا يعمرونه. وأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت في دماغه، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل، ولم يمت أحد منهم ببابل، وردهم الله إلى بيت المقدس ونواحيه، وعمروه ثلاثين سنة وكثروا، حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه. فلما مضت المائة سنة أحيا الله تعالى من أرمياء عينيه، وسائر جسده ميت ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح، فسمع صوتاً من السماء أيها العظام البالية إن الله تعالى يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض، ثم نودي إن الله عز وجل يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً فكان كذلك ثم نودي إن شاء الله عز وجل يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله عز وجل ونهق، وعمر الله تعالى أرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى: " فأماته الله مائة عام " ، الآية وقوله تعالى: " لم يتسنه " ، أي لم يتغير وكان التين كأنه قطف من ساعته، والعصير كأنه عصر من ساعته. نقله عن وهب بن منبه انتهى. وسيأتي الكلام على الخضر واختلاف العلماء في اسمه ونبوته في لفظ الحوت من هذا الباب.
وقال قتادة وعكرمة والضحاك إن بختنصر لما خرب بيت المقدس، وأقدم سبي بني إسرائيل

بابل، كان فيهم عزير ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود عليه الصلاة والسلام، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حماره حتى نزل بدير هرقل، على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، ورأى عامة شجرها حاملاً فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل الفاكهة في سلة، والعصير في زق. فلما رأى خراب القرية، قال: " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " ، قالها تعجباً لا شكاً في البعث. وقال السدي: إن الله تعالى أحيا عزيراً ثم قال له: انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، فبعث الله ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهب بها الطير والسباع فاجتمعت وركب بعضها في بعض. وهو ينظر فصار حماراً من عظم ليس فيه لحم ولا دم، ثم كسيت العظام لحماً ودماً فصار حماراً لا روح فيه، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه، فقام الحمار ونهق بإذن الله تعالى. وقال قوم: أراد به عظام هذا الرجل، وذلك إن الله عز وجل لم يمت حماره فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت، ثم قال: انظر إلى حمارك فنظر فإذا حماره قائم، كهيئته يوم ربطه حياً لم يطعم ولم يشرب مائة عام. وتقدير الآية: " وانظر إلى حمارك، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها " هذا قول قتادة والضحاك وغيرهما. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما أحيا الله عز وجل عزيراً بعدما أماته مائة سنة، ركب حماره وقصد بيت المقدس حتى أتى محلته، فأنكره الناس وأنكروا منزلته فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها من العمر مائة وعشرون سنة، كانت أمة لهم، وكان عزير قد خرج عنهم وهي ابنة عشرين سنة وكانت قد عرفته وعقلته، فقال لها عزير: يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت: نعم. هذا منزل عزير، وبكت وقالت: ما رأيت أحداً منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيراً. قال: أماتني مائة سنة، ثم بعثني. قالت: فإن عزيراً كان مجاب الدعوة، يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية. فادع الله تعالى أن يرد على بصري حتى أراك، فإن كنت عزيراً عرفتك. فدعا ربه سبحانه وتعالى، ومسح بيده على عينيها فأبصرت، ثم أخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله تعالى. فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة فنظرت إليه وقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم، وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة، وبنو بنيه شيوخ في المجلس، فنادت: هذا عزير قد أتاكم الله به، فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي عزير به فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله سبحانه كان أماته مائة سنة، ثم بعثه. قال: فأقبل الناس إليه فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو كما قال انتهى. وقال السدي والكلبي: لما رجع إلى قريته، وقد أحرق بختنصر التوراة، ولم يكن عهد بين الخلائق، بكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء من الله تعالى، فيه ماء، فشرب منه، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة، وبعثه نبياً فقال: أنا عزير فلم يصدقوه فقال: إني عزير بعثني الله تعالى إليكم لأجدد لكم توراتكم. قالوا: فأملها علينا فأملاها عليهم عن ظهر قلبه. فقالوا: ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعدما ذهبت، إلا أنه ابنه فقالوا عزير ابن الله. تعالى الله وتقدس عن الصاحبة والولد. وكان الله قد أمات عزيراً وهو ابن أربعين سنة، وبعثه وهو ابن مائة وأربعين سنة، وكان أولاده وأولاد أولاده شيوخاً وعجائز، وهو شاب أسود الرأس واللحية فسبحان من هو على كل شيء قدير.
فائدة أخرى: ذكر ابن خلكان وغيره من المؤرخين أن قيصر، ملك الروم، كتب إلى عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن رسلي أتتني من قبلك، فزعمت أن قبلكم شجرة تخرج مثل آذان الحمر، ثم تنشق عن مثل اللؤلؤ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرذ والزبرجد الأخضر، ثم تحمر فتكون مثل الياقوت الأحمر، ثم تينع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج، ثم تيبس فتكون عصمة المقيم وزاد المسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فما أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم: إن رسلك قد صدقتك هذه الشجرة عندنا، وهي الشجرة التي أنبتها الله تعالى على مريم حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله.

" إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين " وذال الزمرذ معجمة ودال الزبرجد مهملة. وقيصر كلمة إفرنجية معناها شق عنه وسببه على ما قاله المؤرخون: إن أم قيصر ماتت في المخاض، فشق بطنها وأخرج فسمي قيصر وكان يفخر بذلك على الملوك. ويقول إنه لم يخرج من الرحم واسمه أغسطس، وفي زمن ملكه ولد المسيح عليه الصلاة والسلام. ثم وضع هذا اللقب لكل من ملك الروم كما لقبوا ملك الترك خاقان، وملك فارس كسرى، وملك الشام هرقل، وملك القبط فرعون، وملك اليمن تبعاً وملك الحبشة النجاشي وملك فرغانة الأخشيد، وملك مصر في الإسلام سلطاناً قال ابن خلكان: وهنا نكتة يسأل عنها وهي أن الروم يقال لهم بنو الأصفر فما السبب في تسميتهم بذلك؟ فيقال إن ملك الروم كان قد احترق في الزمن الأول فبقيت منه امرأة فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم، ثم اصطلحوا على أن يملكوا أول من يشرف عليهم فجلسوا مجلساً لذلك، فأقبل رجل من اليمن، ومعه عبد له حبشي، يريد الروم فأبق العبد منه، فأشرف عليهم فقالوا: انظروا في أي شيء وقعتم فزوجوه تلك المرأة وملكوه عليهم، فولدت منه غلاماً فسموه الأصفر لصفرة لونه لكونه تولد بين الحبشي والمرأة البيضاء. ونسب الروم إليه. ثم إن سيد العبد خاصمهم فيه، فقال العبد: صدق أنا عبده فارضوه فأعطوه حتى أرضوه وبقي هذا النسب على الروم.
وفي كتاب النصائح لابن ظفر أنه لما اشتد مرض الرشيد بطوس، أحضر طبيباً طوسياً فارسياً، وأمر أن يعرض عليه ماؤه، هو مع مياه كثيرة لمرضى وأصحاء فجعل يستعرض القوارير حتى رأى قارورة الرشيدة فقال: قولوا لصاحب هذا الماء يوصي فإنه قد انحلت قواه وتداعت بنيته. فأقيم وأمر بالذهاب فهذب ويئس الرشيد من نفسه وتمثل قائلاً:
إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع نحب قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرىء مثله فيما مضى
وبلغه أن الناس قد أرجفوا بموته، فاستدعى بحمار وأمر فحمل عليه، فاسترخت فخذاه فقال: أنزلوني صدق المرجفون. ثم استدعى بأكفان فتخير منها ما أعجبه، وأمر فشق له قبر أمام فراشه، ثم اطلع فيه فقال: " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية " فتوفي في يومه رحمه الله تعالى. وفي تاريخ ابن خلكان أن بعض أصحاب الحلاج ادعى أنه رؤي يوم قتله وهو راكب على حمار في طريق النهروان وأنه قال لهم: لعلكم تظنون أني المضروب والمقتول؟ وكان سبب قتله أنه جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر بالله فأفتى القضاة والعلماء بإباحة دمه فرسم المقتدر بتسليمه إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة فتسلمه بعد العشاء خوفاً من العامة أن تنزعه من يده، ثم أخرجه يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلثمائة عند باب الطاق واجتمع عليه خلق كثير. وأمر به فضربه الجلاد ألف سوط، فما استعفى ولا تأوه ثم قطع أطرافه الأربعة، وهو ساكن لا يضطرب، ثم حز رأسه وأحرقت جثته وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، ثم حمل وطيف به في النواحي والبلاد وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوماً. واتفق إن زادت دجلة تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها. وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل وإنما ألقي شبهه عند قتله على عدو له ولما أخرج ليقتل أنشد قائلاً:
طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرا
ويحكى أن الحلاج أنشد عند قتله:
لم أسلم النفس للأسقام تتلفها ... إلا لعلمي بأن الموت يشفيها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها
نفس المحب على الآلام صابرة ... لعل متلفها يوماً يداويها
وكان الحلاج قد صحب الجنيد ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية رحمة الله

تعالى عليهم أجمعين انتهى. وذكر الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام المقدسي في مفاتيح الكنوز أنه لما أتي به ليصلب ورأى الخشب والمسامير ضحك ضحكاً كثيراً ثم نظر في الجماعة فرأى الشبلي فقال: يا أبا بكر أما معك سجادة قال: بلى. قال: افرشها لي ففرشها فتقدم وصلى ركعتين فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب، وبعدها: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " الآية ثم قرأ في الثانية فاتحة الكتاب وبعدها: " كل نفس ذائقة الموت " الآية ثم ذكر كلاماً مطولاً ثم تقدم أبو الحارث السياف، ولطمه لطمة هشم وجهه وأنفه فصاح الشبلي ومزق ثيابه وغشي على أبي الحسن الواسطي وعلى جماعة من المشايخ المشهورين. وكان الحلاج يقول: اعلموا أن الله قد أباح لكم دمي، فاقتلوني ليس للمسلمين اليوم شغل أهم من قتلي. وقال: إن قتلي قيام بالحدود ووقوف مع الشريعة ومن تجاوز الحدود أقيمت عليه الحدود. قلت: وقد اضطرب الناس في أمره اضطراباً كبيراً متبايناً فمنهم من يعظمه ومنهم من يكفره. وقد ذكر الإمام قطب الوجود حجة الإسلام في كتاب مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار فصلاً مطولاً في أمره واعتذر عن إطلاقاته كقوله: أنا الحق وما في الجبة إلا الله وحملها كلها على محامل حسنة، وقال: هذا من فرط المحبة وشدة الوجد وهو مثل قول القائل :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... فإذا أبصرته أبصرتنا
وحسبك هذا مدحة وتزكية وكان ابن شريح إذا سئل عنه يقول: هذا رجل قد خفي على حاله وما أقول فيه. وهذا شبيه بكلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وقد سئل عن علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما فقال: دماء طهر الله منها سيوفنا، أفلا نطهر من الخوض فيهم ألسنتنا؟ وهكذا ينبغي لمن يخاف الله أن لا يكفر أحداً من أهل القبلة بكلام يصدر عنه يحتمل التأويل على الحق والباطل. فإن الإخراج من الإسلام عظيم ولا يسارع به إلا جاهل.
ويحكى عن شيخ العارفين قطب الزمان عبد القادر الجيلاني قدس الله سره أنه قال: عثر الحلاج ولم يكن له من يأخذ بيده ولو أدركت زمانه لأخذت بيده وهذا وما سبق عن الإمام الغزالي في أمره كاف لمن له أدنى فهم وبصيرة وسمي الحلاج لأنه جلس يوماً على حانوت حلاج واستقضاه حاجة فقال له الحلاج أنا مشتغل بالحلج. فقال له: امض في حاجتي حتى أحلج عنك فمضى الحلاج في حاجته، فلما عاد وجد قطنه كله محلوجاً، وكان لا يحلجه عشرة رجال في أيام متعددة. فمن ثم قيل له الحلاج. وقيل إنه كان يتكلم على الأسرار ويخبر عنها، فسمي حلاج الأسرار وكان من أهل البيضاء بليدة بفارس واسمه الحسين بن منصور والله أعلم.

وذكر ابن خلكان وغيره أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ولي محمد بن أبي بكر الصديق مصر، فدخلها سنة سبع وثلاثين وقام بها إلى أن بعث معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص في جيوش أهل الشام، ومعهم معاوية بن حديج، بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مفتوحة وبالجيم في آخره كذا ضبطه ابن السمعاني في الأنساب وابن عبد البر وابن قتيبة وغيرهم. ووقع في كثير من نسخ تاريخ ابن خلكان معاوية بن خديج بخاء معجمة ودال مكسورة وآخره جيم وهو غلط. والصواب ما تقدم وأصحابه أي أصحاب معاوية بن خديج فاقتتلوا فانهزم محمد بن أبي بكر واختبأ في بيت مجنونة فمر أصحاب معاوية بن خديج بالمجنونة وهي قاعدة على الطريق، وكان لها أخ في الحبس فقالت: أتريد قتل أخي قال: لا ما أقتله. قالت: فهذا محمد بن أبي بكر داخل بيتي، فأمر معاوية أصحابه فدخلوا إليه وربطوه بالحبال وجروه على الأرض وأتوا به معاوية، فقال له محمد: احفظني لأبي بكر فقال له: قتلت من قومي في قضية عثمان ثمانين رجلاً، وأتركك وأنت صاحبه لا والله. فقتله في صفر سنة ثمان وثلاثين. وأمره معاوية أن يجر في الطريق ويمر به على دار عمرو بن العاص لما يعلم من كراهته لقتله، وأمر به أن يحرق بالنار في جيفة حمار. وقال غيره: بل وضعه حياً في جيفة حمار وأحرقه بالنار، وكان سبب ذلك دعوة أخته عائشة عليه لما أدخل يده في هودجها يوم وقعة الجمل، وهي لا تعرفه فظنته أجنبياً فقالت من هذا الذي يتعرض لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقه الله بالنار فقال: يا أختاه قولي بنار الدنيا فقالت: بنار الدنيا. وقد تقدم هذا في باب الجيم في الكلام على لفظ الجمل ودفن في الموضع الذي قتل فيه. فلما كان بعد سنة من دفنه، أتى غلامه وحفر قبره فلم يجد فيه سوى الرأس فأخرجه ودفنه في المسجد تحت المنارة. ويقال إن الرأس في القبلة. قال: وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها قد أنفذت أخاها عبد الرحمن إلى عمرو بن العاص في شأن محمد فاعتذر بأن الأمر لمعاوية بن خديج. ولما قتل ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه مسالم، ومعه قميصه، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم بكبش فشوي وبعثت به إلى عائشة، وقالت: هكذا قد شوي أخوك فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت. وقالت هند بنت شمر الحضرمية: رأيت نائلة امرأة عثمان بن عفان تقبل رجل معاوية بن خديج وتقول: بك أدركت ثأري ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دماً. ووجد عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجداً عظيماً وقال كان لي ربيباً وكنت أعده ولداً ولبني أخا. وذلك لأن علياً كان قد تزوج أمه أسماء بنت عميس بعد وفاة الصديق ورباه كما تقدم. وذكر الإمام العلامة أقضى القضاة الماوردي وغيره أن سفيان بن سعيد الثوري أكل ليلة زائداً على عادته فقال: إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله، ثم قام حتى أصبح. قال: وكان فتى يجالس الثوري ولا يتكلم فأحب أن يعرف نطقه فقال: يا فتى إن من كان قبلنا مروا على خيول سابقة وبقينا بعدهم على حمر دبرة فقال الفتى: يا أبا عبد الله إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بهم. وقال سفيان بن عيينة: دعانا سفيان الثوري ليلة فقدم لنا تمراً ولبناً خائراً فلما توسط الأكل قال: قوموا فلنصل ركعتين شكراً لله تعالى فقال ابن وكيع، وكان حاضراً: لو قدم لنا شيئاً من اللوزينج، لقال: قوموا فلنصل التراويح فتبسم سفيان. وقال سفيان الثوري ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني. وقال له رجل: أوصني فقال: اعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر مقامك فيها، والسلام. وقال له رجل: إني أريد الحج، فقال: لا تصحب من يتكرم عليك فإنك إن ساويته في النفقة أضر بك، وإن تفضل عليك استذلك. ودخل الثوري على المهدي يوماً فسلم عليه تسليم العامة، ولم يسلم بالخلافة، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال: يا سفيان تفر منا ههنا وههنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ وقد قدرنا عليك الآن! أما تخشى أن نحكم فيك الآن بهوانا؟ فقال سفيان: أن تحكم في بحكم الآن، يحكم فيك ملك عادل قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن اضرب عنقه. فقال له المهدي: اسكت ويلك وهل يريد هذا وأمثاله

إلا أن تقتلهم فنشقى بهم ويسعدوا بنا اكتبوا عهده على قضاء الكوفة بحيث أن لا يعترض عليه في حكم. فكتب عهده ودفع إليه فأخذه وخرج ورمى به في دجله وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد وتوفي بالبصرة متوارياً سنة إحدى وستين ومائة رحمه الله تعالى. وهو أحد الأئمة المجتهدين، اجمع الناس على دينه وورعه وثقته. ويروى أن أبا القاسم الجنيد رحمه الله كان يفتي على مذهبه، وهو غلط والصواب أن الجنيد كان شافعياً وقد عده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في الأصحاب وكذلك عده غيره.ا أن تقتلهم فنشقى بهم ويسعدوا بنا اكتبوا عهده على قضاء الكوفة بحيث أن لا يعترض عليه في حكم. فكتب عهده ودفع إليه فأخذه وخرج ورمى به في دجله وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد وتوفي بالبصرة متوارياً سنة إحدى وستين ومائة رحمه الله تعالى. وهو أحد الأئمة المجتهدين، اجمع الناس على دينه وورعه وثقته. ويروى أن أبا القاسم الجنيد رحمه الله كان يفتي على مذهبه، وهو غلط والصواب أن الجنيد كان شافعياً وقد عده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في الأصحاب وكذلك عده غيره.
وكان سفيان الثوري كوفياً فإنه سئل عن عثمان وعن علي رضي الله تعالى عنهما أيهما أفضل؟ فقال: أهل البصرة يقولون بتفضيل عثمان وأهل الكوفة يقولون بتفضيل علي. فقيل له: فما تقول أنت؟ قال أنا رجل كوفي. يعني أنه يقول بتفضيل علي.
وفي كتاب ابتلاء الأخيار أن عيسى عليه الصلاة والسلام لقي إبليس وهو يسوق خمسة أحمرة عليها أحمال، فسأله عن الأحمال فقال: تجارة أطلب لها مشترين. قال: وما هي التجارة؟ قال: أحدها الجور. قال: ومن يشتريه؟ قال السلاطين. والثاني الكبر. قال: ومن يشتريه. قال: الدهاقين: والثالث الحسد. قال: ومن يشتريه. قال: العلماء. والرابع الخيانة. قال: ومن يشتريها؟ قال: عمال التجار. والخامس الكيد. قال: ومن يشتريه؟ قال: النساء.

ومما يحكى: من كيد النساء ومكرهن ما روي في بعض التفاسير، عن جعفر الصادق بن محمد الباقر، أنه قال: كان في بني إسرائيل رجل، وكان له مع الله معاملة حسنة، وكان له زوجة وكان ضنيناً بها، وكانت من أجمل أهل زمانها مفرطة في الجمال والحسن، وكان يقفل عليها الباب، فنظرت يوما شاباً فهويته وهويها، فعمل له مفتاحاً على باب دارها، وكان يدخل ويخرج ليلاً ونهاراً متى شاء، وزوجها لم يشعر بذلك فبقيا على ذلك زماناً طويلاً. فقال لها زوجهاً يوماً، وكان أعبد بني إسرائيل وأزهدهم إنك قد تغيرت علي ولم أعلم ما سببه، وقد توسوس قلبي وقد كان أخذها بكراً، ثم قال لها: واشتهي منك أن تحلفي لي أنك لم تعرفي رجلاً غيري، وكان لبني إسرائيل جبل يقسمون به ويتحاكمون عنده، وكان الجبل خارج المدينة، وكان عنده نهر يجري، وكان لا يحلف أحد عنده كاذباً إلا هلك. فقالت له: ويطيب قلبك إذا حلفت لك عند الجبل؟ قال: نعم، قالت متى شئت فعلت. فلما خرج العابد لقضاء حاجته، دخل عليها الشاب، فأخبرته بما جرى لها مع زوجها، وأنها تريد أن تحلف له عند الجبل، وقالت: ما يمكنني أن أحلف كاذبة، ولا أقول لزوجي ما أحلف فبهت الشاب وتحير، وقال: فما تصنعين؟ فقالت له: بكر غداً، وألبس ثوب مكار وخذ حماراً واجلس على باب المدينة، فإذا خرجنا فأنا آمره يكتري منك الحمار، فإذا اكتراه منك بادر واحملني وارفعني فوق الحمار، حتى أحلف له وأنا صادقة أني ما مسني أحد غيرك وغير هذا المكاري. فقال: حباً وكرامة. فلما جاء زوجها قال قومي بنا إلى الجبل لتحلفي به. فقالت ما لي طاقة بالمشي فقال: اخرجي فإن وجدت مكارياً اكتريت لك. فقامت ولم تلبس لباسها، فلما خرج العابد وزوجته، رأت الشاب ينتظرها فصاحت به يا مكاري أتكري حمارك إلى الجبل بنصف درهم؟ قال: نعم، ثم تقدم ورفعها على الحمار فساروا حتى وصلوا إلى الجبل. فقالت للشاب: انزلني عن الحمار حتى أصعد على الجبل، فلما تقدم الشاب إليها ألقت بنفسها إلى الأرض، فانكشفت عورتها فشتمت الشاب، فقال: والله ما لي ذنب، ثم مدت يدها إلى الجبل فأمسكته وحلفت له أنه لم يمسسها أحد، ولا نظر إنسان مثل نظرك إلي، مذ عرفتك، غيرك وغير هذا المكاري. فاضطرب الجبل اضطراباً شديداً وزال عن مكانه، وأنكرت بنو إسرائيل ذلك. فذلك قوله تعالى: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " ويقرب من هذا ما روي عن وهب بن منبه أنه كان في زمن بني إسرائيل في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، رجل اسمه شمشون، وكان من أهل قرية من قرى الروم، كان قد هداه الله لرشده وصار من الحواريين، وكان أهله أصحاب أوثان يعبدونها وكان منزله من القرية على أميال، وكان يغزوهم وحده، ويجاهدهم في الله حق جهاده فيقتل ويسبي ويصيب المال، وكان ربما لقيهم بغير زاد فإذا قاتلهم وعطش انفجر له من الحجر الذي في القرية ماء فيشرب منه حتى يروى، وكان قد أعطي قوة في البطش وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، وكانوا لا يقدرون منه على شيء، فتآمروا فيه فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تقدروا على أذاه إلا من قبل زوجته، فدخلوا عليها وجعلوا لها جعلاً إن أوثقته، فقالت: نعم أنا أوثقه لكم، فأعطوها حبلاً وثيقاً وقالوا لها: إذا نام فأوثقي يديه إلى عنقه ثم ذهبوا فجاء شمشون ونام، فقامت إليه فأوثقته كتافاً فجعلت يديه إلى عنقه، فلما هب من نومه، جذب يديه فوقع الحبل من عنقه، فقال لها لم فعلت هذا. قالت لأجرب قوتك ما رأيت مثلك قط. ثم أرسلت إليهم إني قد ربطته بالحبل فلم يغن شيئاً فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، وقالوا لها إذا نام فاجعليها في عنقه، فلما نام جعلتها في عنقه، فلما هب من نومه جذبها فتقطعت، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت لأجرب قوتك ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمشون! أما في الأرض شيء يغلبك. قال: الله عز وجل يغلبني. ثم شيء واحد. قالت: ما هو. قال: ما أنا بمخبرك به. فلم تزل تخدعه وتمكر به وتتلطف له في السؤال، وكان ذا شعر كثير جداً فقال: ويحك إن أمي كانت جعلتني نذيراً فلا يغلبني شيء أبداً ولا يوثقتي إلا شعري. فتركته حتى نام، ثم قامت إليه فأوثقت يديه إلى عنقه بشعره فأوثقه ذلك. وبعثت إلى القوم فجاؤوا وأخذوه فجدعوا أنفه، وفقؤوا عينيه وأوقفوه للناس، بين ظهراني المدينة، وكانت المدينة ذات أساطين، وأشرف الملك لينظر ماذا يفعل به، فدعا الله

شمشون، حين مثلوا به وأوقفوه، أن يسلطه عليهم، فرد الله عليه بصره، وما أصابوا من جسده، وأمره أن يأخذ بعمود من عمد المدينة الذي عليه الملك والناس ففعل، فوقعت المدينة وهلك من فيها وأرسل الله على زوجته صاعقة فأحرقتها، ونجى الله تعالى شمشون بمنه وفضله انتهى.، حين مثلوا به وأوقفوه، أن يسلطه عليهم، فرد الله عليه بصره، وما أصابوا من جسده، وأمره أن يأخذ بعمود من عمد المدينة الذي عليه الملك والناس ففعل، فوقعت المدينة وهلك من فيها وأرسل الله على زوجته صاعقة فأحرقتها، ونجى الله تعالى شمشون بمنه وفضله انتهى.
وحكاياتهن في المكر والكيد لا تحصى وحسبك أن الله تعالى استضعف كيد الشيطان فقال: " إن كيد الشيطان كان ضعيفاً " واستعظم كيد النساء فقال: " إن كيدكن عظيم " .
وفي كتاب نزهة الأبصار في أخبار ملوك الأمصار، وهو كتاب عظيم المقدار، ولا أعلم مصنفه أن بعض الملوك، مر بغلام وهو يسوق حماراً غير منبعث، وقد عنف عليه في السوق، فقال: يا غلام ارفق به فقال الغلام: أيها الملك في الرفق به مضرة عليه، قال: وكيف ذلك؟ قال: يطول طريقه ويشتد جوعه، وفي العنف به إحسان إليه. قال: وكيف ذلك؟ قال: يخف حمله ويطول أكله فأعجب الملك بكلامه، وقال: قد أمرت لك بألف درهم. فقال: رزق مقدور وواهب مشكور. قال الملك: وقد أمرت بإثبات اسمك في حشمي قال: كفيت مؤونة ورزقت معونة. فقال له الملك: عظني فإني أراك حكيماً. فقال: أيها الملك إذا استوت بك السلامة فجدد ذكر العطب، وإذا هنأتك العافية، فحدث نفسك بالبلاء، وإذا اطمأن بك الأمن فاستشعر الخوف، وإذا بلغت نهاية العمل فاذكر الموت، وإذا أحببت نفسك فلا تجعلن لها في الإساءة نصيباً. فأعجب الملك بكلامه، وقال: لولا أنك حديث السن لاستوزرتك. فقال: لن يعدم الفضل من رزق العقل. قال: فهل تصلح لذلك؟ قال: إنما يكون المدح والذم بعد التجربة ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها. فاستوزره فوجده ذا رأي صائب، وفهم ثاقب، ومشورة تقع موقع التوفيق.
وفي هذا الكتاب دعابات فمنها أن الرشيد خرج إلى الصيد، فانفرد عن عسكره والفضل بن الربيع خلفه، فإذا هو بشيخ كبير راكب على حمار، فنظر إليه، فإذا هو رطب العينين فغمز الفضل عليه، فقال له الفضل: أين تريد. قال: حائطاً لي. قال: هل لك أن أدلك على شيء تداوي به عينيك فتذهب تلك الرطوبة؟ فقال: ما أحوجني إلى ذلك فقال له: خذ عيدان الهواء وغبار الماء وورق الكماة، فصره في قشرة جوزة، واكتحل به فإنه يذهب رطوبة عينيك. فاتكأ الشيخ على قربوس سرجه، وضرط ضرطة طويلة، ثم قال: هذه أجرة لوصفك، وإن نفعنا الكحل زدناك. فضحك الرشيد حتى كاد يسقط عن دابته. ومنها أنه حضر خياط لبعض الأمراء ليفصل له قباء، فأخذ يفصل والأمير ينظر إليه، فلم يتهيأ له أن يسرق شيئاً فضرط فضحك الأمير حتى استلقى فأخرج الخياط من القباء ما أراد فجلس الأمير وقال: يا خياط ضرطة أخرى، فقال الخياط لا لئلا يضيق القباء. وفي كتاب نشوان المحاضرة قال ذو النون بن موسى: كنت غلاماً، والمعتضد إذ ذاك بكور الأهواز، فخرجت يوماً من قرية يقال لها سانطف أريد عسكر مكرم . ومعي حماران واحد راكبه والآخر عليه حمل البطيخ، فمررت بعسكر المعتضد، وأنا لا أعلم من هو، فأسرع إلي جماعة منهم فأخذ واحد منهم من الحمل ثلاث بطيخات أو أربع، فخفت أن ينقص عن عدة فأتهم به، فبكيت وصحت، والحمار يسير على المحجة، والعسكر مجتاز وإذا بكبكبة عظيمة يقدمها رجل منفرد، فوقف وقال: يا مالك يا غلام تبكي وتصيح؟ فعرفته الخبر، فوقف ثم التفت إلى القوم وقال: أيه علي بالرجل الساعة. قال: فجيء به في أسرع من طبق البصر، حتى كأنه كان وراء ظهره، فقال: هو هذا يا غلام؟ قلت: نعم فأمر به فضرب بالمقارع، وهو واقف وأنا راكب على حماري، والعسكر واقف وجعل يقول له: وهو يضرب يا كلب أما كان معك ثمن هذا البطيخ؟ أما قدرت أن تمنع نفسك منه؟ أهو مالك أو مال أبيك؟ أليس صاحبه أتعب نفسه وأجهد في زرعه وسقيه وأداء خراجه؟ والمقارع تأخذه حتى ضرب مائة مقرعة. ثم أمر لي بأربعة دنانير وسار. وأخذ الجيش يشتموني ويقولون: ضرب القائد الفلاني بسبب هذا مائة مقرعة فسألت بعضهم فقال: هذا أمير المؤمنين المعتضد.

وقي كتاب الأذكياء لابن الجوزي، عن الجاحظ أنه قال: قال ثمامة بن أشرس: دخلت على صديق لي أعوده، وتركت حماري على الباب، ولم يكن معي غلام يحفظه، فلما خرجت إذا فوقه صبي يحفظه، فقلت: أركبت حماري بغير أذني؟ فقال: خفت أن يذهب فحفظته لك. لو ذهب لكان أعجب إلي من بقائه ثم فقال: إن كان هذا رأيك في الحمار فقدر أنه ذهب وهبه لي واربح شكري! فلم أدر ما أقول. وأحسن من هذا الذكاء ما رواه ابن الجوزي أيضاً، قال: ركب المعتصم إلى خاقان يعوده، والفتح بن خاقان صبي يومئذ، فقال له المعتصم: أيهما أحسن دار أمير المؤمنين أم دار أبيك؟ قاد: إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن. فأراه المعتصم، فصافى يده، وقال: يا فتح هل رأيت أحسن من هذا القص؟ قاد: نعم اليد التي هو فيها. ويقرب من هذا وهو من الجواب المسكت، ما ذكره الإمام ابن الجوزي قال: دخل شاب على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه، فقال: مات، رحمه الله، يوم كذا وكذا، وكان مرضه، رحمه الله، يوم كذا، خلف، رحمه الله، كذا. فانتهره الربيع وقال أما تستحي بين يدي أمير المؤمنين تقول هذا؟ فقال الشاب: لا ألومك على انتهاري لأنك لم تعرف حلاوة الآباء! وكان الربيع لقيطاً فما أعلم المنصور ضحك كضحكه يومئذ انتهى. وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة الحاكم العبيدي ، أن الحاكم بأمر الله كان له حمار أشهب يدعى بقدر يركبه، وكان يحب الانفراد والركوب وحده، فخرج راكباً حماره ليلة الإثنين سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة إلى ظاهر مصر، وطاف ليلته كلها وأصبح متوجهاً إلى شرقي حلوان ومعه راكبان، فأعاد أحدهما ثم أعاد الآخر وبقي الناس يخرجون يلتمسون رجوعه ومعهم دواب الموكب إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور. ثم خرج ثاني القعدة جماعة من الموالي والأتراك فأمعنوا في طلبه وفي الدخول في الجبل فرأوا حماره الأشهب الذي كان راكباً عليه، وهو على قرنة الجبل وقد ضربت يداه ورجلاه بسيف، وعليه سرجه ولجامه فتبعوا الأثر فإذا أثر حمار وأثر راجل خلفه وراجل قدامه، فقصوا الأثر إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزل فيها رجل فوجد فيها ثيابه وهي سبع جباب ووجدت مزرورة لم تحل أزرارها، وفيها آثار السكاكين فحملت إلى القصر، ولم يشكوا في قتله. غير أن جماعة من المتغالين في حبهم له السخيفي العقل يدعون حياته وأنه سيظهر ويحلفون بغيبة الحاكم. ويقال إن أخته دست عليه من قتله وكان الحاكم جواداً بالمال سفاكاً للدماء. وكانت سيرته عجباً يخترع كل يوم حكماً يحمل الناس عليه فمن ذلك أنه أمر الناس سنة خمس وتسعين وثلثماثة بكتب سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم في حيطان المساجد والقياسر والشوارع، وكتب إلى سائر الديار المصرية يأمرهم بالسب ثم أمر بقطع ذلك سنة سبع وتسعين. وأمر بضرب من يسب الصحابة وتأديبه وأمر بقتل الكلاب فلم ير كلب في الأسواق والأزقة إلا قتل ونهى عن بيع الفقاع والملوخيا، ثم نهى عن بيع الزبيب قليله وكثيره، وجمع جملة كثيرة وأحرقت وأنفقوا على إحراقها خمسمائة دينار، ثم نهى عن بيع العنب أصلاً وألزم اليهود والنصارى أن يتميزوا في لباسهم عن المسلمين في الحمامات، وخارجها، ثم أفرد حماماً لليهود وحماماً للنصارى وألزمهم أن لا يركبوا شيئاً من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب وأن لا يستخدموا أحداً من المسلمين ولا يركبوا حمار المكاري المسلم ولا سفينة نواتيها مسلمون. وأمر بهدم القمامة في سنة ثمان وأربعمائة وجميع الكنائس بالديار المصرية. ووهب جميع ما فيها من الآلات وجميع ما لها من الأحباس لجماعة من المسلمين وأمر أن لا يتكلم أحد في صناعة النجوم، وأن ينفى المنجمون من البلاد، وكذلك أصحاب الغناء ومنع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلاً ونهاراً، ومنع الأساكفة من عمل الأخفاف للنساء، ولم تزل النساء ممنوعات من الخروج إلى أيام ولده الظاهر مدة سبع سنين. ثم أمر ببناء ما كان هدم في الكنائس، ورد ما كان قد أخذ من أحباسها.
وحلوان مدينة كثيرة النزه فوق مصر بخمسة أميال كان يسكنها عبد العزيز بن مروان، وبها

توفي وبها ولد ولده عمر بن عبد العزيز انتهى. قلت: وفي قوله ليلة الإثنين سابع عشر، وقوله إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور نظر ظاهر والله أعلم. وفي رسالة القشيري، في باب كرامات الأولياء، سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا سليمان الخواص يقول: كنت راكباً حماراً يوماً، وكان الذاب يؤذيه فيطأطىء رأسه، وكنت أضرب رأسه بخشبة في يدي، فرفع الحمار رأسه إلى وقال: اضرب فإنك هكذا على رأسك تضرب. قال الحسين: فقلت لأبي سليمان لك وقع هذا قال: نعم، كما تسمعني.
تذنيب: روى البيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبون الحمر، ويلبسون الصوف، ويحلبون الشاة، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم حمار اسمه عفير بضم العين المهملة، وضبطه القاضي عياض بالغين المعجمة. وقد اتفقوا على تغليطه، أهداه له المقوقس وكان فروة بن عمرو الجذامي،. أهدى له حمارا يقال له يعفور، مأخوذان من العفرة وهو لون التراب، فنفق يعفور في منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع. وذكر السهيلي أن يعفور طرح نفسه في بئر يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى أبي منصور قال: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم. خيبر أصاب حماراً أسود، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمار فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله عن نسل جدي ستين حماراً لا يركبها إلا نبي وقد كنت أتوقعك لتركبني ولم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنت قبلك عند رجل يهودي وكنت أتعثر به عمداً، كان يجيع بطني ويركب ظهري. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " فأنت يعفور يا يعفور تشتهي الإناث. قال:. لا، فكان صلى الله عليه وسلم يركبه في حاجته، وكان يبعثه خلف من شاء من أصحابه، فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه فيعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إليه، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فلما قبض رسول الله جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان فتردى فيها جزعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت قبره. قال الإمام الحافظ أبو موسى: هذا حديث منكر جداً إسناداً ومتناً لا يحل لأحد أن يرويه إلا مع كلامي عليه. وقد ذكره السهيلي في التعريف والأعلام في الكلام على قوله تعالى: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " وفي كامل ابن عدي، في ترجمة أحمد بن بشير، وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعبد رجل في صومعة فأمطرت السماء وأعشبت الأرض فرأى حماراً له يرعى، فقال: يا رب لو كان لك حمار لرعيته مع حماري، فبلغ ذلك نبياً من أنبياء بني إسرائيل، فأراد أن يدعو عليه، فأوحى الله إليه إنما أجازي عبادي على قدر عقولهم " . وهو كذلك في الحلية لأبي نعيم في ترجمة زيد بن أسلم. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه والإمام أحمد في الزهد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: قيل لعيسى بن مريم عليهما السلام: يا رسول الله لو اتخذت لك حماراً تركبه لحاجتك؟ فقال: أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئاً يشغلني عنه.

الحكم: يحرم أكله عند أكثر أهل العلم، وإنما رويت الرخصة فيه عن ابن عباس رواه عنه أبو داود في سننه وقال الإمام أحمد: كره أكله خمسة عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وادعى ابن عبد البر الإجماع الآن على تحريمه. قال: وقد روي عن غالب بن أبجر، قال: أصابتنا سنة فشكونا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم يكن عندي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية " فقال: اطعم أهلك من سمن حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية " . ولم يرو عن غالب بن أبجر سوى هذا الحديث. ولنا ما روى جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل " . متفق عليه. وحديث غالب رواه أبو داود واتفق الحفاظ على تضعيفه، ولو بلغ ابن عباس أحاديث إلى الصحيحة الصريحة في تحريمه لم يصر إلى غيره. ولو صح حديث غالب لحمل على الأكل منها، حال الاضطرار وأيضاً هي قضية عين لا عموم لها ولا حجة فيها. واختلف أصحابنا في علة تحريمها، هل هو لاستخباث العرب لها؟ أو للنص على وجهين حكاهما الروياني وغيره وأفاد الحافظ المنذري أن تحريم لحوم الحمر نسخ مرتين، ونسخت القبلة مرتين، ونسخ نكاح المتعة مرتين. واختلف السلف في لبنها فحرمه أكثر العلماء، ورخص فيه عطاء وطاوس والزهري، والأول أصح لأن حكم اللحم ويحرم ضربه وضرب غيره من الحيوانات المحترمة بالإجماع. روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحمار قد وسم وجهه، فقال: " لعن الله من فعل هذا " وفي رواية " لعن الله الذي وسم هذا " .
الأمثال: قالوا: " عشر تعشير الحمار " ، قال الجوهري: تعشير الحمار نهيقه عشرة أصوات في طلق واحد قال الشاعر:
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهاق حمار أنني لجزوع
وذلك أنهم كانوا إذا خافوا وباء بلد عشروا كتعشير الحمار قبل أن يدخلوه، وكانوا يزعمون أن ذلك ينفعهم. وقوله تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً " أي يثقله حملها ولا ينفعه علمها وكل من يعلم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله. وفي الحديث " يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور كما يدور الحمار في الرحا فيطيف به أهل النار، فيقولون: ما لك. فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه، وأنهى عن الشر وآتيه " والإقتاب الأمعاء واحدها قتب بالكسر. وقالت العرب: هم يتهارجون تهارج الحمر. أي يتسافدون. والهرج كثرة النكاح. يقال: بات يهرجها، ليله جميعاً. وروى الحافظ أبو نعيم عن أبي الزاهرية، عن كعب الأحبار قال: يمكث الناس بعد يأجوج ومأجوج في الرخاء والخصب والدعة عشر سنين حتى إن الرجلين ليحملان الرمانة الواحدة بينهما، ويحملان العنقود الواحد من العنب، فيمكثون على ذلك عشر سنين، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فلا تدع مؤمنة ولا مؤمناً إلا قبضت روحه، ثم يبقى الناس بعد ذلك يتهارجون تهارج الحمر في المروج، حتى يأتي أمر الله والساعة، وهم على ذلك. وقالوا " بال الحمار فاستبال أحمرة " . أي حملهن على البول، يضرب في تعاون القوم على ما يكره. وقالوا : " اتخذ فلان حمار الحاجات " . يضرب للذي يمتهن في الأمور. وقالوا: " تركته جوف حمار " أي لا خير فيه. وقالوا: " أصبر من حمار " وقالوا: " شر المال مالاً يذكى ولا يزكى " أشاروا بذلك إليه. وقالوا " ما بقي منه إلا قدر ظمء حمار " . لأنه أقصر الحيوان ظمأ. الجوهري في مادة عشا قال الشاعر:
غدونا غدوة سحراً بليل ... عشاء بعدما انتصف النهار
قصدناها حماراً ذا قرون ... أكلنا اللحم وانفلت الحمار
وفي معنى هذا البيت وجهان أحدهما أنا أتعبناه حتى أكلنا لحمه لشدة الإضرار به من العدو ثم انفلت. والثاني إنا ذبحناه فأكلناه أكلاً لم يبق منه شيء فكأنه انفلت. وقوله: ذا قرون أي مسنا قد أتت عليه قرون من الدهر. وقالوا: " أذل من حمار مقيد " . قال الشاعر:
وما يقيم بدار الذل يعرفها ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد

الخواص: من سقي من وسخ أذنه في شراب أو غيره سبت ونام، ولم يعقل أصلاً. ومن نزع شعرة من ذنبه عند نزوه وربطها على فخذه أنعظ وهيج الباه. وإذا ربط حجر في ذنبه لم ينهق. وكذا إذا طليت استه بدهن. وقال الإمام الفخر الرازي وصاحب الحاوي: إذا طبخ لحم الحمار الأهلي وقعد في مائه من به كزاز نفعه. وإذا اتخذ من حافره خاتم، ولبسه المصروع لم يصرع. وسرجينه وسرجين الخيل، إذا أحرقا أو لم يحرقا وخلطا بخل قطعا سيلان الدم. وإذا علق جلد جبهته على الصبيان منعهم من الفزع وإذا رش على زبله خل وشم قطع الرعاف. وقال صاحب الفلاحة: إذا ركب الملسوع بالعقرب حماراً، وجعل وجهه إلى ذنبه صار الوجع إلى الحمار، وبرىء الراكب. وكذلك إن تقدم الملدوغ إلى أذن الحمار وقال: إني لدغت بعقرب في المكان الفلاني ذهب الوجع. وإن ركبه مقلوباً كما تقدم كان أقوى فعلاً. ومخه إذا طلي به الرأس مع الزيت، طول الشعر. وكبده إذا أكلت مشوية على الريق، منقوعة في الخل، نفعت من الصرع وأمن آكلها من الصرع. ولبن الحمارة إذا صمد به الذكر أنعظ. ونهيق الحمار يضر بالكلب حتى إنه ربما عوى من كثرة ما يؤلمه.
التعبير: الحمار في المنام جد الإنسان وسعده، وربما دل على غلام أو ولد أو خير، وربما دل على السفر أو العلم، لقوله تعالى: " كمثل الحمار يحمل أسفاراً، " وربما على المعيشة لقوله تعالى: " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس " ، وربما دل الحمار على العالم المحصل. أو اليهود، لقوله تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها " الآية وربما دل الحمار على ما يوطأ فيه كالوطاء والزربول وما أشبه ذلك. وظهور حمار عزير في المنام ظهور آية. وربما دلت رؤيته على الخلاص من الشدائد، وعلى الرجوع إلى المناصب السنية، أو المنازعة في الدين. والحمير والبغال ملكها في المنام، أو ركوبها دليل على الزينة بالمال أو الولد، لقوله تعالى: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " ، وربما دل ركوب الحمار على النجاة من الهم. وموت الحمار وهزاله فقر صاحبه. وقيل موته موت صاحبه. والنزول عن ظهره بلا نية نزول فقر وبيعه فقر أيضاً، ومن ذبح حماره ليأكل لحمه نال سعة في رزقه، وإن ذبحه لغير الأكل فإنه يفسد معاشه بالولد والعز، فمن رأى أنه لا يحسن ركوب حماره، فإنه يتحلى بما ليس من أهله، والمهازيل والضعاف من الحمر، مال في زيادة، والسمان منها مال قد انتهى. والحمار المصري وكيل وهو نعم الوكيل. والحمارة امرأة معينة على المعيشة كثيرة الخير ذات نسل وربح متواتر، فمن ركب حمارة في منامه، وخلفها جحش فإنه يتزوج امرأة لها ولد. ومن رأى حمارة لا تمشي إلا بالصوت فإنه لا يطعم إلا بالدعاء. ولفظ الأتان من الإتيان. وربما دل صياحها على الشر والإنكاد، لقوله تعالى: " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " ، أو ظهور عارض من الجان، فإن نهيق الحمار يدل على رؤية الشيطان لأن السنة وردت بالتعوذ من الشيطان الرجيم عند سماع صوته، وقيل سماع صوته دعاء على الظلمة. ومن رأى حماراً موقوراً دخل منزله، فإنه خير يسوقه الله إليه على قدر جوهر ذلك الحمل. ولبن الحمارة خصب في تلك السنة وربما دل الشرب منه على مرض شاربه ثم ينجو منه. ولحم الحمار مال لمن أكله. وحمار المرأة زوجها فإن مات طلقها أو مات زوجها. ومن صارع حماراً مات بعض أقاربه ومن رأى حماره صار فرساً نال خيراً من السلطان، وإن صار بغلاً نال خيراً من سفر. ومن حمل حماره في المنام نال خيراً وقوة في السعادة، حتى يتعجب منه. ومن رأى له حافراً فذلك قوة في المال والتصرف وكذلك الخف ومن سمع صوت الحوافر من غير أن يرى شيئاً من البهائم. فإنها أمطار ويعبر الحمار برجل جاهل. وربما دلت رؤيته على الولد من الزنا. ومن رأى حماراً نزل من السماء فدس ذكره في دبره نال مالاً عظيماً يستغني به. لا سيما إذا كان الرائي ملكاً، والحمار أسود أو أدهم والله أعلم.

الحمار الوحشي: ويسمى الفراء ويقال حمار وحش وحمار وحشي، وهو العير وربما أطلق العير على الأهلي أيضاً والحمار الوحشي شديد الغيرة، فلذلك يحمي عانته الدهر كله ومن عجيب أمره أن الأنثى من هذا النوع إذا ولدت ذكراً كدم الفحل خصيتيه، فالأنثى تعمل الحيلة في الهرب منه حتى يسلم. وربما كسرت رجل التولب كي لا يسعى ولا تزال ترضعه إلى أن يكبر فيسلم من أبيه وأشار إلى ذلك الحريري بقوله في المقامة الثالثة عشرة:
يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكثير المهيض
أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس الذم نقى رحيض
وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في باب النون في النعاب ويقال: إن الحمار الوحشي يعمر مائتي سنة وأكثر.
وذكر ابن خلكان في ترجمة يزيد بن زياد أن بعض الجند حدث أنهم نزلوا على جرود، فاصطادوا من حمر الوحش شيئاً كثيراً، وذبحوا منها حماراً وطبخوا لحمه الطبخ المعتاد، فلم ينضج فزيد في الإيقاد عليه يوماً كاملاً فلم ينضج، فقام بعض الجند وأخذ رأسه، وجعل يقلبه فرأى على أنفه وسماً، فقرأه فإذا هو بهرام جور وموضع الوسم ظاهر أبيض، وهو بالقلم الكوفي. قال ابن خلكان: وأحضروا الأذن عندي فوجدت الاسم ظاهراً وبهرام جور كان من ملوك الفرس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل، وكان من عادته إذا أخذ الصيد وسمه وأطلقه، والله تعالى يعلم كم كان عمر الحمار قبل الوسم. وهذا الحمار لعله عاش أكثر من مائتي سنة. وجرود قرية من قرى دمشق، وبأرضها من حمر الوحش شيء كثير، يجاوز الحصر وفي أرض جرود الجبل بالمدخن وإنما سمي هذا الجبل بالمدخن لأنه لا يزال عليه مثل الدخان من الضباب وقيل: إن الحمار يعيش أكثر من ثمانمائة سنة وألوان حمر الوحش مختلفة، والأخدرية أطولها عمراً وأحسنها شكلا. وهي منسوبة إلى أخدر، فحل كان لكسرى أردشير فتوحش، واجتمع بعانات فضرب فيها فالمتولد منها يقال له أخدري. وقال الجاحظ: أعمار حمر الوحش تزيد على أعمار الحمر الأهلية، ولا نعرف حماراً أهلياً عاش أكثر من حمار أبي سيارة، وهو عميلة بن خالد العدواني، كان له حمار أسود أجاز الناس عليه من المزدلفة إلى منى أربعين سنة وكان يقول:
لا هم مالي في الحمار الأسود ... أصبحت بين العالمين أحسد
هلا يكاد ذو الحمار الجلعد ... فق أبا سيارة المحسد
من شر كل حاسد إذا حسد ... ومن أذاة النافثات في العقد
للهم حبب بين نسائنا ... وبغض بين رعائنا
واجعل المال في سمحائنا
وفيه يقول الشاعر:
خلوا الطريق عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز سالماً حماره ... مستقبل يدعو جاره
فقد أجار الله من أجاره
ولذلك قيل: " أصح من حمار أبي سيارة " وروى ابن أبي شيبة وابن عبد البر من طريقه، من حديث أبي فاطمة الليثي، ويقال الأزدي، ويقال الدوسي، أنه قال: كنا جالسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من أحب أن يصح فلا يسقم؟ فابتدرناها فقلنا نحن يا رسول الله. فقال: أتحبون أن تكونوا كالحمر الصالة؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات فو الذي نفس أبي القاسم بيده أن الله ليبتلي المؤمن بالبلاء فما يبتليه إلا لكرامته عليه، لأن الله قد أنزل عبده منزلة لم يبلغها بشيء من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما لا يبلغ تلك المنزلة إلا به " . وكذا رواه البيهقي أيضاً في الشعب وقال: سألت عنه بعض أهل الأدب، فزعم أنه أراد به حمر الوحش. وقال ابن الأثير في نهاية الغريب: قوله: أتحبون أن تكونوا كالحمر الصالة " قال أبو أحمد العسكري: هو بالصاد غير المعجمة ورواه أيضاً بالضاد المعجمة. وهو خطأ يقال للحمار الوحشي الحاد الصوت: صال وصلصال كأنه يريد الصحيحة الأجساد والشديدة الأصوات، لقوتها ونشاطها.

الحكم: يحل أكله بالإجماع، وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنا لم نرده عليك إلا إننا حرم " . قال الشافعي: ولو توحش الحمار الأهلي حرم أكله. ولو استأهل الوحشي لم يحرم. ولا نعلم في حل الوحشي خلافاً إلا ما روي عن مطرف أنه قال: إذا أنس واعتلف صار كالأهلي. وأهل العلم قاطبة على خلاف قوله ولا يحل الحمار المتولد بين الأهلي والوحشي، لأن الولد يتبع خير الأبوين في الأطعمة حتى يقرض أحدهما غير مأكول. كما يتبع أخسهما في النجاسة، حتى يجب الغسل من ولوغه وسائر أجزائه سبعاً إذا تولد بين كلب وذئب. وكما يتبع الأخس في الأنكحة حتى إذا تولد بين كتابي ووثني لم تحل مناكحته، وقد خالفوا هذا الأصل في باب الجزية، فقالوا: يعقد للمتولد بين كتابي ووثني، وفي الديات ألحقوه بأكثرهما دية، وهو الأصح المنصوص. وقيل: يتبع أقلهما دية. وقيل يعتبر بالأب. وهذه الأقوال حكاها الرافعي في باب الغرة وفي الحج جعلوه تابعاً للأغلظ تكليفاً، حتى لو قتل متولداً بين ظبي وشاة وجب عليه الجزاء، وعكسوا ذلك في الزكاة، فلم يوجبوها في المتولد بين الأهلي والوحشي، وفي إيجابها في المتولد بين انسيين كبقرة وجاموس نظر. وجعلوه تابعاً لأشرفهما ديناً، حتى لو كان أحد الأبوين مسلماً عند العلوق، أو أسلم قبل بلوغه حكم بإسلام الصغير تبعاً وجعلوه تابعاً للأم في الرق والحرية، أعني ما دام حملاً، إلا في المستولدة والمغرور بحريتها. وجعلوه تابعاً للأب في النسب مطلقاً، لأن النسب يعتبر بالآباء دون الأمهات. واستثنوا من ذلك أولاد بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم ينسبون إليه، دون أولاد بنات غيره، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وجعلوا ولد الزنا مقطوع النسب عن أبيه. والمنفي ليس كذلك لأنه لو استحلفه لحقه ولم يتعرضوا للتبعية في باب الأضحية والعقيقة والاحتياط اعتبار أكثر السنين فيه، حتى لو تولد بين ضأن ومعز اشترط لإجزائه في الأضحية طعنه في السنة الثالثة اعتباراً بأكثر الأبوين سناً، وهو المعز ولم يتعرضوا أيضاً له في الربويات وفائدته أنه هل يجعل جنساً برأسه، حتى يباع لحمه بلحم أي الأبوين كان مفاضلة، أو يجعل كالجنس الواحد احتياطاً فيحرم التفاضل؟ وهذا هو الأقرب اعتبار الضيق باب الربا. ولم يتعرضوا له أيضاً في السلم والقرض حتى لو أقرضه حيواناً متولداً بين حيوانين، أو أسلم إليه في لحمه أو لحم ضأن أو معز، فأتاه بلحم متولد بين ضأن ومعز فالمتجه عدم جواز قبوله، لأنه نوع آخر والاستبدال عن النوع، بنوع آخر لا يجوز على الصحيح. ولم يتعرضوا له أيضاً في الشركة والوكالة والقراض، كل ذلك لندوره والمتجه المنع في الجميع لأن هذه العقود إنما تصح فيما يعم وجوده ولو أوصى لرجل بشاة فأعطاه الوارث متولداً بين ضأن ومعز لم يجبر على القبول، لأن الوصية إنما تحمل على المتعارف والله تعالى أعلم.
الأمثال: قالوا: " فلان أكفر من حمار " وهو رجل من عاد كان يقال له حمار بن مويلع، وقيل هو حمار بن مالك بن نصر الأزلي كان مسلماً، وكان له واد طوله مسيرة يوم في عرض أربعة فراسخ، لم يكن ببلاد العرب أخصب منه، وفيه من كل الثمار فخرج بنوه يوماً يتصيدون، فأصابتهم صاعقة فهلكوا فكفر وقال: لا أعبد من فعل هذا ببني. ودعا قومه إلى الكفر، فمن عصاه قتله، فأهلكه الله وأخرب واديه فضربت العرب به المثل في الكفر. قال الشاعر:
ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلي وهو أكفر من حمار
الخواص: قال ابن وحشية وابن السويدي وغيرهما: النظر إلى أعين الحمر الوحشية يديم صحة العين، ويمنع نزول الماء إليها بخاصة عجيبة أودعها الله فيها، والاكتحال بمرارتها يحد البصر ويزيل ظلمته ويمنع من ابتداء نزول الماء في العين. وأكل سمين لحمها ينفع من مرض المفاصل ويزيله، ولحمها أيضاً ينفع من النقرس نفعاً بيناً وشحمها إذا طلي به الكلف أزاله ومرارتها تنفع من داء الثعلب طلاء، وتنفع من البول على الفراش أكلاً ومخها يسخن بدهن الزنبق ويدهن به البهق يزول بإذن الله تعالى.

التعبير: الحمار الوحشي في المنام يحل على الزوجة أو الولد من ذي الجفاء والقسوة أو من أرباب البوادي، فاعتبر ذلك واعط الرائي حقه. ومن رأى أنه ركب حماراً وحشياً فإنه يدل على معصية، ومن رأى أنه ركبه وسقط عنه فليحذر من درك يناله في معصية. ومن شرب من لبن حمارة وحش نال نسكاً في دينه. ومن رأى أنه حوى شيئاً من لحوم حمر الوحش أو ملكها نال عزاً وغنيمة ومالاً والحمار الأهلي إذا استوحش في المنام فهو ضر وشر. والحمار الوحشي في المنام إذا أنس فهو نفع وخير.
حمار قبان: قال النووي في التحرير: هو فعلان من قب لأنه لا ينصرف في معرفة ولا نكرة.
وقال الجوهري: هي دويبة وقبان فعلان من قب لأن العرب لا تصرفه وهو معرفة عندهم ولو كان فعالاً لصرفته تقول رأيت قطيعاً من حمر قبان غير منصرف قال الشاعر:
يا عجبا لقد رأيت عجباً ... حمار قبان يسوق أرنباً
خاطبها يمنعها أن تذهبا ... فقالت: أردفني فقال مرحبا
وقد ذكر ابن مالك وغيره من الصرفيين، أن كل اسم يكون في آخره نون بعد ألف بينها وبين فاء الكلمة مشدد، فهو محتمل لأصالة النونات وزيادة أحد المثلين وبالعكس ومثلوا ذلك بحسان ود كان وتبان وريان ونحوها فقالوا: حسان إن أخذ من الحسن فنونه أصلية وإحدى السينين زائدة، وإن أخذ من الحسن فنونه زائدة مع الألف ووزنه على الأول فعال وعلى الثاني لزيادة الألف والنون دون الأول وتبان إن أخذ من التبن فنونه أصلية، وإن أخذ من التب، وهو الخسران، فنونه زائدة مع الألف فيمنع الصرف إذا عرف هذا فقبان يجوز أن يكون مأخوذاً من القب وهو الضمور والأقب ضامر البطن كما قال الجوهري. والخيل القب الضوامر وقد أنشد الجاحظ يصف نسوة:
يمشين مشي قطا البطاح تأودا ... قب البطون رواجح الأكفال
فحما رقبان يجوز أن يكون مأخوذاً من هذا الضمور بطنه، فإنه دويبة مستديرة، بقدر الدينار، ضامرة البطن متولدة من الأماكن الندية على ظهرها شبه المجن مرتفعة الظهر، كأن ظهرها قبة إذا مشت لا يرى منها سوى أطراف رجليها، ورأسها لا يرى عند المشي، إلا أن تقلب على ظهرها، لأن أمام وجهها حاجزاً مستديراً، وهي أقل سواداً من الخنفساء، وأصغر منها ولها ستة أرجل، تألف المواضع السبخة في الغالب، ومواضع الزبل ويجوز أن يكون لفظ قبان مأخوذاً من قبن في الأرض قبوناً إذا ذهب، قال صاحب المفردات: وهذه الدابة هي التي تسمى هدبة وهي كثيرة الأرجل، تستدير عندما تلمس. ومن حمار قبان نوع ضامر البطن غير مستدير، والناس يسمونه أبا شحيمة، يألف المواضع الندية، والظاهر أنه صغار حمار قبان وأنه بعد يأخذ في الكبر. وأهل اليمن يطلقونه على دويبة فوق الجرادة من نوع الفراش. والاشتقاق لا يساعده ويجوز اشتقاقه من قبن المتاع إذا وزنه فعلى هذا ينصرف لأصالة النون. والقبان الذي يوزن به قال الشعبي: معناه العدل بالرومية، والاشتقاق الأول أظهر. فذلك التزمت العرب منعه من الصرف.
الحكم: يحرم أكلها لاستخباثها.
الأمثال: قالوا: " أذل من حمار قبان " .
الخواص: إذا شرب حمار قبان مع شراب نفع من عسر البول، ومن اليرقان. وقال بعضهم: إذا لف حمار قبان في خرقة وعلق على من به حمى مثلثة قلعها أصلاً.
التعبير: رؤية حمار قبان في النوم تدل على حقارة الهمة ومخالطة السفل ومكاثرتهم والله أعلم.
الحلم: قال الجوهري: هو عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت والقمارى وساق حر والقطا والوراشين، وأشباه ذلك. يقع على الذكر والأنثى لأن الهاء إنما دخلته على أنه واحد من جنس لا للتأنيث. وعند العامة إنها الدواجن فقط الواحدة حمامة وقال حميد بن ثور الهلالي من أبيات:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حربرهة فترنما
والحمامة هنا القمرية وقال الأصمعي في قول النابغة:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع، وارد الثمد
قالت: " ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد "
فحسبوه فألفوه كما زعمت ... تسعاً وتسعين لم ينقص ولم يزد

هذه زرقاء اليمامة، نظرت إلى قطا وارد في مضيق الجبل، فقالت: يا ليت هذا القطا لنا، ومثل نصفه معه إلى قطاة أهلنا فيكمل لنا مائة قطاة فاتبعت وعدت على الما. فإذا هي ست وستون. قال أبو عبيدة رأته من مسيرة ثلاثة أيام وأرادت بالحمام القطا فقالت ذلك انتهى. وقال الأموي: الدواجن التي تستفرخ في البيوت تسمى حماما أيضاً وأنشد للعجاج:
إني ورب البلد المحرم ... والقاطنات البيت عند زمزم
قواطنا مكة من ورق الحم
يريد الحمام. وجمع الحمامة حمام وحمائم وحمامات. وربما قالوا حمام للمفرد. قال جران العود:
وذكرني الصبا بعد التنائي ... حمامة أيكة تدعو حماما
وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في كتاب الطير الكبير أن اليمام هو الحمام البري. الواحدة يمامة، وهو ضروب. والفرق بين الحمام الذي عندنا واليمام، أن أسفل ذنب الحمامة، مما يلي ظهرها فيه بياض، وأسفل ذنب اليمامة لا بياض فيه انتهى. ونقل النووي في التحرير عن الأصمعي أن كل ذات طوق فهي حمام. والمراد بالطوق الحمرة أو الخضرة أو السواد المحيط بعنق الحمامة في طوقها. وكان الكسائي يقول: الحمام هو البري، واليمام الذي يألف البيوت والصواب ما قاله الأصمعي. ونقل الأزهري عن الشافعي أن الحمام كل ما عب وهدر، وإن تفرقت أسماؤه والعب بالعين المهملة شدة جرع الماء من غير تنفس. قال ابن سيده: يقال في الطائر عب ولا يقال شرب. والهدير ترجيع الصوت ومواصلته من غير تقطيع له. قال الرافعي والأشبه أن ما عب هدر. قال: فلو اقتصروا في تفسير الحمام على العب لكفاهم، ويدل عليه أن الإمام الشافعي قال في عيون المسائل: وما عب من الماء عباً فهو حمام وما شرب قطرة قطرة كالدجاج فليس بحمام اه. وفيما قاله الرافعي نظر لأنه لا يلزم من العب الهدير قال الشاعر:
على جو يضي نغر مكب ... إذا افترت فترة يعب
وحمرات شربهن غب
وصف النغر بالعب، مع أنه لا يهدر، وإلا كان حماماً والنغر نوع من العصفور، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب النون، إذا علمت ذلك انتظم لك كلام الشافعي، وأهل اللغة أن الحمام يقع على الذي يألف البيوت ويستفرخ فيها، وعلى اليمام والقمري وساق حر وهو ذكر القمري، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين. والفواخت والدبسي والقطار والوارشين واليعاقب والشفنين والزاغ والورداني والطوراني. وسيأتي بيان ذلك كل واحد في بابه إن شاء الله تعالى. والكلام الآن في الحمام الذي يألف البيوت، وهو قسمان: أحدهما البري وهو الذي يلازم البروج وما أشبه ذلك، وهو كثير النفور، وسمي برياً لذلك والثاني الأهلي وهو أنواع مختلفة وأشكال متباينة، منها الرواعب والمراعيش والعداد والسداد والمضرب والقلاب والمنسوب. وهو بالنسبة إلى ما تقدم كالعتاق من الخيل وتلك كالبراذين، قال الجاحظ: الفقيع من الحمام، كالصقلاب من الناس، وهو الأبيض. روى أبو داود الطبراني وابن ماجه وابن حبان بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة، فقال: " شيطان يتبع شيطانة " وفي رواية " شيطان يتبعه شيطان " قال البيهقي: وحمله بعض أهل العلم على إدمان صاحب الحمام على إطارته والاشتغال به، وارتقاء الأسطحة التي يشرف منها على بيوت الجيران وحرمهم لأجله. وسيأتي الكلام عليه في الأحكام. وروى البيهقي عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، قال: " شهدت عمر بن عبد العزيز رحمه الله يأمر بالحمام الطيار، فتذبح وتترك المقصصات. وروى ابن قانع والطبراني عن حبيب بن عبد الله بن أبي كبشة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يعجبه النظر إلى الأترج والحمام الأحمر " . وروى الحاكم، في تاريخ نيسابور، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الخضرة وإلى الأترج وإلى الحمام الأحمر " قال ابن قانع والحافظ أبو موسى: قال هلال بن العلاء: الحمام الأحمر التفاح. قال أبو موسى وهذا التفسير لم أره لغيره. وكان في منزله صلى الله عليه وسلم حمام أحمر يقال له وردان.

وفي عمل اليوم والليلة لابن السني عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل " أن علياً رضي الله تعالى عنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فأمره أن يتخذ زوج حمام، وأن يذكر الله عند هديره " . ورواه الحافظ ابن عساكر وقال: إنه غريب جداً وسنده ضعيف. وروى ابن عدي، في كامله، في ترجمة ميمون بن موسى، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال له: " اتخذ زوجاً من حمام تؤنسك وتصيب من فراخها وتوقظك للصلاة بتغريدها " أو " اتخذ ديكا يؤنسك ويوقظك للصلاة " . وروى أيضاً في ترجمة محمد بن زياد الطحان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتخذوا الحمام المقاصيص في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم " . وقال عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال له: " إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ زوجا من حمام، رواه الطبراني، وفيه الصلت الجراح لا يعرف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وفي كامل ابن عدي في ترجمة سهل بن فرير، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " شكت الكعبة إلى الله تعالى قلة زوارها، فأوحى الله إليها لأبعثن إليك أقواماً يحنون إليك كما تحن الحمامة إلى فراخها. وفي سنن أبي داود والنسائي، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، بإسناد جيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريدون رائحة الجنة " . ومن طبعه أنه يطلب وكره ولو أرسل من ألف فرسخ. ويحمل الأخبار ويأتي بها من البلاد البعيدة في المدة القريبة، وفيه ما يقطع ثلاثة آلاف فرسخ في يوم واحد. وربما اصطيد وغاب عن وطنه عشر حجج فأكثر ثم هو على ثبات عقله، وقوة حفظه، ونزوعه إلى وطنه، حتى يجد فرصة فيطير إليه. وسباع الطير يطلبه أشد الطلب وخوفه من الشاهين أشد من خوفه من غيره، وهو أطير منه، ومن سائر الطير كله لكنه يذعر منه، ويعتريه ما يعتري الحمار إذا رأى الأسد والشاة إذا رأت الذئب، والفأر إذ رأى الهر ومن عجيب الطبيعة فيه، ما حكاه ابن قتيبة في عيون الأخبار عن المثنى بن زهير أنه قال: لم أر شيئاً قط من رجل وامرأة إلا وقد رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها، وذكراً لا يريد إلا أنثاه إلا أن يهلك أحدهما أو يفقد. ورأيت حمامة تتزين للذكر ساعة يريدها، ورأيت حمامة لها زوج وهي تمكن آخر ما تعدوه. ورأيت حمامة تقمط حمامة، ويقال: إنها تبيض من ذلك، ولكن لا يكون لذلك البيض فراخ. ورأيت ذكراً يقمط ذكراً، ورأيت ذكرا يقمط كل ما لقي. ولا يزاوج وأنثى يقمطها كل ما رآها من الذكور ولا تزاوج. وليس من الحيوان ما يستعمل التقبيل عند السفاد إلا الإنسان والحمام. وهو عفيف في السفاد، يجر ذنبه ليعفي أثر الأنثى، كأنه قد علم ما فعلت، فيجتهد في إخفائه. وقد يسفد لتمام ستة أشهر، والأنثى تحمل أربعة عشر يوماً، وتبيض بيضتين: إحداهما ذكر والثانية أنثى، وبين الأولى والثانية يوم وليلة، والذكر يجلس على البيض ويسخنه جزءاً من النهار، والأنثى بقية النهار، وكذلك في الليل. وإذا باضت الأنثى وأبت الدخول على بيضها لأمر ما ضربها الذكر، واضطرها للدخول. وإذا أراد الذكر أن يسفد الأنثى أخرج فراخه عن الوكر، وقد ألهم هذا النوع، إذا خرجت فراخه من البيض، بأن يمضغ الذكر تراباً مالحاً، ويطعمها إياه، ليسهل به سبيل المطعم. فسبحان اللطيف الخبير الذي آتى كل نفس هداها.
وزعم أرسطو أن الحمام يعيش ثمان سنين. وذكر الثعلبي وغيره، عن وهب بن منبه في قوله تعالى: " وربك يخلق ما يشاء ويختار " وقال اختار من النعم الضأن، ومن الطير الحمام. وذكر أهل التاريخ أن أمير المؤمنين المسترشد بالله بن المستظهر بالله لما حبس رأى في منامه كأن على يده حمامة مطوقة، فأتاه آت فقال له: خلاصك في هذا، فلما أصبح حكى ذلك لابن سكينة الإمام، فقال له: ما أولته يا أمير المؤمنين؟ قال أولته ببيت أبي تمام:
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام
وخلاصي في حمامي فقتل بعد أيام يسيرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكانت خلافته سبع

عشرة سنة وثمانية أشهر وأياماً. وروى البيهقي في الشعب، عن معمر قال: جاء رجل إلى ابن سيرين، رحمه الله تعالى فقال: رأيت في النوم، كأن حمامة التقمت لؤلؤة، فخرجت منها أعظم مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة خرجت منها أصغر مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت منها كما دخلت سواء. فقال له ابن سيرين: أما التي خرجت أعظم مما دخلت، فذلك الحسن بن أبي الحسن البصري يسمع الحديث فيجوده بمنطقه ثم يصل فيه من مواعظه. وأما التي خرجت أصغر مما دخلت فذلك محمد بن سيرين يسمع الحديث فينقص منه. وأما التي خرجت كما دخلت سواء فهو قتادة وهو أحفظ الناس. وذكر ابن خلكان في ترجمته يعني ابن سيرين، أن رجلاً أتاه فقال له: رأيت كأني أخفت حمامة لجاري فكسرت جناحها، فتغير وجه ابن سيرين وقال: ثم ماذا؟ قال: ثم جاء غراب أسود فسقط على ظهر بيتي فنقبه، فقال له محمد بن سيرين: ما أسرع ما أدبك ربك! أنت رجل تخالف إلى امرأة جارك، وأسود يخالفك إلى امرأتك. قال: وكان ابن سيرين بزازاً وكان من موالي أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم. وحبس بدين كان عليه. وكان يقول: إني لأعرف الذنب الذي حمل به على الدين. قيل له ما هو؟ وقال: قلت لرجل مفلس منذ أربعين سنة: يا مفلس. قال بعضهم: قلت ذنويهم فعلموا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبنا فليس يدري من أين نؤتى. قال: وكان أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قد أوصى أن يغسله ويكفنه ويصلي عليه محمد بن سيرين، وكان محمد بن سيرين محبوساً لما مات أنس، فاستأذنوا له الأمير، فأذن له فخرج فغسله وكفنه وصلى عليه، ثم رجع إلى السجن ولم يذهب إلى أهله. وكان ابن سيرين من أعلام التابعين وكانت له اليد الطولى في علم الرؤيا روي أن امرأة جاءته، وهو يتغدى، فقالت له: رأيت القمر دخل في الثريا، ونادى مناد من خلقي: ائتي ابن سيرين فقصي عليه، قال: فتغير لونه وقام. وهو آخذ على بطنه، فقالت له أخته: ما بالك. قال: زعمت هذه أني ميت بعد سبعة أيام. فمات بعد سبعة أيام، سنة عشر ومائة بعد الحسن البصري بمائة يوم رحمهما الله تعالى. وفي الشعب للبيهقي عن سفيان الثوري أنه قال: كان اللعب بالحمام من عمل قوم لوط. وقال إبراهيم النخعي: من لعب بالحمام الطيارة، لم يمت حتى يذوق ألم الفقر. وروى البزار في مسنده أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على فم الغار، وإن ذلك مما صد المشركين عنه صلى الله عليه وسلم، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين. وروى ابن وهب " أن حمام مكة أظلت النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا لها بالبركة " . وروى الطبراني بإسناد صحيح عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً يرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " فجعل يعيدها علي حتى نعست عنه، ثم قال: " يا أبا ذر كيف تصنع إذا أخرجت من المدينة؟ قلت: إلى السعة والدعة أنطلق إلى مكة فأكون حمامة من حمام الحرم، فقال صلى الله عليه وسلم: فيكيف تصنع إذا أخرجت من مكة؟ قلت إلى السعة والدعة أنطلق إلى الشأم والأرض المقدسة. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من الشأم؟ فقلت: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي. قال صلى الله عليه وسلم: وخير من ذلك تسمع وتطيع وإن كان عبداً حبشياً " وفي الصحيح طرف منه وفي ابن ماجه طرف من أوله.
وذكر أن هارون الرشيد كان يعجبه الحمام واللعب به، فأهدي له حمام وعنده أبو البختري

وهب القاضي، فروى له بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا سبق إلا في خف أو حافراً وجناح " . فراد أو جناح. وهي لفظة وضعها للرشيد، فأعطاه جائزة سنية، فلما خرج قال الرشيد: بالله لقد علمت أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمر بالحمام فذبح فقيل له: وما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فترك العلماء حديث أبي البختري لذلك وغيره من موضوعاته. فلم يكتبوا حديثه. وكان أبو البختري المذكور قاضي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم بعد بكار بن عبد الله الزبيري، ثم ولي قضاء بغداد، بعد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، رحمه الله. وتوفي أبو البختري سنة مائتين في خلافة المأمون. والبختري مأخوذ من البخترة التي هي الخيلاء، وهو يتصحف على كثير من الناس بالبحتري الشاعر المشهور، والأول بالخاء المعجمة والثاني بالحاء المهملة. قال ابن أبي خيثمة: والشيخ تقي الدين القشيري، في الاقتراح واضع حديث الحمام غياث بن إبراهيم، وضعه للمهدي لا للرشيد. وقال ابن قتيبة: وأبو البختري هو وهب بن وهب بن وهب ثلاثة أسماء على نسق واحد، ومثله في ملوك الفرس بهرام بن بهرام بن بهرام، ومثله في الطالبين حسن بن حسن بن حسن، ومثله في غسان الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر انتهى. قلت: ومثله في المتأخر بن الغزالي محمد بن محمد بن محمد أحد أصحاب الوجوه في المذهب.
ومما حكي لنا واشتهر ورويناه بالسند الصحيح. عن الشيخ العارف بالله تعالى أبي الحسن الشافعي رحمه الله تعالى، أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقد باهى موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم بالإمام الغزالي فقال لهما: في أمتكما حبر كهذا؟ وأشار إلى الغزالي، فقالا: لا. وقال الشيخ الإمام العارف بالله الأستاذ ركن الشريعة والحقيقة أبو العباس المرسي، وقد ذكر الغزالي فشهد له بالصديقية العظمى. وحسبك من باهى به النبي صلى الله عليه وسلم موسى وعيسى وشهد له الصديقون بالصديقية العظمى. وقد ذكر له شيخنا جمال الدين الأسنوي في المهمات ترجمة حسنة، منها: هو قطب الوجود والبركة الشاملة لكل موجود، وورح خلاصة أهل الإيمان، والطريق الموصلة إلى رضا، الرحمن، يتقرب إلى الله تعالى به كل صديق، ولا يبغضه إلا ملحد أو زنديق، قد انفرد في ذلك العصر عن أعلام الزمان، كما انفرد في هذا الباب فلا يترجم معه فيه إنسان. انتهى. وكان حجة الإسلام زين الدين محمد الغزالي قد ولي تدريس النظامية بمدينة بغداد، ثم تركها وسلك طريق الزهد وقصد الحج، فلما رجع توجه إلى الشام، فأقام بدمشق بزاوية الجامع، وانتقل إلى القدس ثم قصد مصر، وأقام بالإسكندرية مدة، ثم عاد إلى وطنه بطوس، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها في النظامية، ثم تركها وعاد إلى وطنه واتخذ خانقاه للصوفية وصرف وقته إلى وظائف الخيرات، من تلاوة القرآن، ومجالسة الصالحين، وكثرة العبادة، والتخلي عن الدنيا، والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة، والتبحر في علوم الحقيقة. وكتبه نافعة مفيدة، لا سيما إحياء علوم الدين فإنه كتاب لا يستغنى عنه طالب الآخرة. توفي الإمام حجة الإسلام في جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة بطوس رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه.
وذكر ابن خلكان أن شرف الدين بن عنين حضر درس فخر الدين الرازي بخوارزم، فسقطت بالقرب منه حمامة، وقد طردها بعض الجوارح فلما وقعت رجع عنها، ولم تقدر الحمامة على الطيران من خوفها وشدة البرد، فلما قام الإمام فخر الدين من الدرس وقف عليها ورق لها وأخذها بيده، فأنشده ابن عنين بديها أبياتاً منها:
من نبأ الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف
وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف
ولو أنها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
وكان بين شرف الدين بن عنين والملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق مؤانسة ومصاحبة، وكان يجري بينهما أمور تدل على حسن إدراك الملك المعظم منها أن ابن عنين حصل له توعك فكتب إليه:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي

أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثنائي والثواب الوافي
فجاء إليه بنفسه ومعه ثلثمائة دينار، فقال: هذه الصلة وأنا العائد، وهذه لو وقعت من أكابر النحاة لاستعظمت منه، فضلاً عن ملك. قوله هذه الصلة أنا العائد، لأن الذي اسم موصول يحتاج إلى صلة وعائد فالصلة ما وصله به من المال، والعائد يحتمل معنيين: أحدهما: وأنا العائد لك بالصلة مرة بعد أخرى فطب نفساً، والآخر من عاد يعود عيادة وهي عيادة المريض. وكان الملك المعظم فاضلاً حازماً شجاعاً حنفي المذهب وكانت له رغبة في فن الأدب حتى إنه شرط لكل من حفظ مفصل الزمخشري مائة دينار وخلعة. فحفظه خلق كثير لهذا السبب. توفي سنة أربع وعشرين وستمائة وتوفي الإمام فخر الدين الرازي المتقدم ذكره يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة بهراة رحمهما الله تعالى.
فائدة: قال بعض الحكماء: كل إنسان مع شكله كما أن كل طير مع جنسه، وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق إثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر، فإن أشكال الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان منه في طيران إلا لمناسبة بينهما، فرأى يوماً حمامة مع غراب، فعجب من اتفاقهما وليسا من شكل واحد فلما مشيا إذا هما أعرجان، فقال: من ههنا اتفقا. وكل إنسان يأنس إلى شكله، كما أن كل طير يأنس إلى جنسه، فإذا اصطحب اثنان برهة من الزمان وليس بينهما مناسبة ما، فلا بد أن يتفرقا كما قال بعض الشعراء:
وقائل كيف تفرقتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وألاف
وسيأتي عنه في الصعوة شيء من هذا. روى أحمد في الزهد عن يزيد بن ميسرة أن المسيح عليه الصلاة والسلام كان يقول لأصحابه: إن استطعتم أن تكونوا بلها في الله تعالى مثل الحمام فافعلوا قال: وكان يقال إنه ليس شيء أبله من الحمام وذلك أنك تأخذ فراخه من تحته فتذبحها، ثم يعود إلى مكانه ذلك فيفرخ فيه.

الحكم: يحل أكله بالإجماع بجميع أنواعه لأنه من الطيبات، ولأن الشارع أوجب فيه على المحرم، إذا قتله، شاة. وفي مستند ذلك وجهان: أحدهما أن ذلك لما بينهما من الشبه، فإن كلا منهما يألف البيوت ويأنس بالناس، والثاني: وهو الأصح، أن مستنده توقيف بلغهم فيه. ونقل الرافعي عن الشيخ أبي محمد الخلاف، فيما لو قتل طائرا أكبر من الحمام، أو مثله هلى ينبني على هذا؟ إن قلنا المستند التوقيف أوجبنا الشاة. وإن قلنا المستند المشابهة أوجبنا القيمة. وقد أسقط الإمام النووي رحمه الله، هذه المسألة من الروضة، وكأنه ظن أن الخلاف فيها لفظي لا فائدة فيه. وبيض الحمام وكل طائر يحرم على المحرم، صيده حرام عليه فإن أتلفه ضمنه بقيمته، هذا مذهبنا وبه قال الإمام أحمد وآخرون. وقال المزني وبعض أصحاب داود: لا جزاء في البيض. وقال مالك: يضمنه بعشر ثمن أصله. قال ابن المنذر: واختلفوا في بيض الحمام، فقال علي وعطاء: في كل بيضتين درهم، وقال الزهري والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور: فيه قيمته وسيأتي في بيض النعام حكمه إن شاء الله تعالى. ومن أحكامه في الصيد أنه إذا اختلطت حمامة مملوكة أو حمامات بحمامات مباحة محصورة لم يجز الإصطياد منها. ولو اختلطت بحمام ناحية جاز الإصطياد في الناحية. ولو اختلط حمام أبراج مملوكة لا تكاد تحصر بحل بلدة أخرى مباحة ففي جواز الاصطياد منها وجهان: أصحهما الجواز. وبيع الحمام في البرج على تفصيل بيع السمك في البركة. وسيأتي في باب السين المهملة إن شاء الله تعالى لو باعها وهي طائرة اعتماداً على عادة عودها فوجهان: أصحهما عند الإمام الجواز كالعبد المبعوث في شغل وعند الجمهور المنع إذ لا وثوق بعودها لعدم عقلها. ومن أحكامه في الربا أنه جنس واحد بجميع أنواعه. كذا قاله المراوزة. وقال العراقيون: إن كل نوع منه جنس فالحمام جنس، والقماري جنس، والفواخت جنس. وأما اتخاذه للبيض والفارخ وللأنس وحمل الكتب فجائز بلا كراهة. وأما اللعب به والتطير والمسابعة، فقيل: يجوز لأنه لا يحتاج إليها في الحرب لنقل الأخبار والأصح كراهته، لما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، الذي قال فيه: " شيطان يتبع شيطانة " . قال ابن حبان بعد رواية هذا الحديث: إنما قال له شيطان، لأن اللاعب بالحمام، لا يكاد يخلو من لغو وعصيان، والعاصي يقال له شيطان قال الله تعالى شياطين الإنس والجن، وأطلق على الحمامة شيطانة للمجاورة، ولا ترد الشهادة بمجرد اللعب بالحمام، خلافاً لمالك وأبي حنيفة فإن انضم إليه قمار أو نحوه ردت به الشهادة.

وروى أبو محمد الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاضل بين الراوي والواعي عن مصعب الزبيري، قال: سمعت مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وقد قال لابني أخته أبي بكر محمد وإسماعيل ابني أبي أويس. أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه، يعني الحديث، قالا: نعم. قال: فإن أحببتما أن تنتفعا، وينفع الله بكما فأقلا منه وفقها. ونزل ابن مالك من فوق سطح، ومعه حمام قد غطاه، فعلم مالك أنه قد فهمه الناس فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وروي عنه أيضاً، أنه قال: كان يحيى بن مالك بن أنس، يدخل ويخرج ولا يجلس معنا عند أبيه، فكان إذا نظر إليه أبوه قال: هاه إن ما تطيب به نفسي أن هذا الشأن لا يورث، وإن أحداً لم يخلف أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان أفضل أهل زمانه، وكان أبوه أفضل أهل زمانه. وقال البخاري في المناسك، من صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه، أنه سمع أباه، وكان أفضل أهل زمانه، يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: " طببت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين " . الحديث وأم عبد الرحمن قريبة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، واتفق الناس على جلالته وإمامته وثقته وورعه وكثرة علمه، ولد في حياة عائشة رضي الله تعالى عنها، وتوفي سنة ست وعشرين ومائة. روى له الجماعة. وروي أن المنصور أمير المؤمنين، قال له يوماً: عظني بما رأيت، قال: مات عمر بن عبد العزيز وخلف أحد عشر ابناً، فبلغت تركته سبعة عشر ديناراً، كفن منها بخمسة دنانير، واشتري له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً. ومات هشام بن عبد الملك، وخلف أحد عشر ابناً، فورث كل واحد منهم ألف ألف درهم، ثم إني رأيت رجلاً من أولاد عمر بن عبد العزيز حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله تعالى. ورأيت رجلاً من أولاد هشام يسأل أن يتصدق عليه انتهى. قلت: وهذا أمر غير عجيب فإن عمر وكلهم إلى ربه فكفاهم وأغناهم، وهشام وكلهم إلى دنياهم فأفقرهم مولاهم. وأما بيع زرق الحمام، وسرجين البهائم المأكولة وغيرها، فباطل وثمنه حرام، هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع السرجين لإتفاق أهل الإعصار، في جميع الأمصار، على بيعه من غير إنكار، ولأنه يجوز الانتفاع به فجاز بيعه كسائر الأشياء. واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى إذا حرم على قوم شيئاً، حرم عليهم ثمنه " . وهو حديث صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح. وهو عام إلا ما خرج بدليل، كالحمار وبأنه نجس العين فلم يجز بيعه. كالعذرة فإنهم وافقونا على بطلان بيعها، مع أنه ينتفع بهاة وأما الجواب عما احتجوا به، فهو ما أجاب به الماوردي وغيره، أن بيعه إنما يفعله الجهلة والأراذل فلا يكون ذلك حجة في دين الإسلام. وأما قولهم: إنه ينتفع به فأشبه غيره، فالفرق أن هذا نجس بخلاف غيره.
الأمثال: قالوا: " آمن من حمام الحرم، وآلف من حمام مكة " . وقالوا: " تقلدها. طوق الحمامة " ، كناية عن الخصلة القبيحة، أي تقلدها كطوق الحمامة، لأنه لا يزايلها ولا يفارقها، كما لا يفارق الطوق الحمامة، ومثله قوله تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " أي إن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم ذكر حسيباً. قلت: لأنه بمنزلة الشاهد والقاضي والأمين، لأن هذه الأمور الغالب أن يتولاها الرجال، فكأنه قيل له: كفى بنفسك رجلاً حسيباً. وكان الحسن البصري إذا قرأها قال: يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك. وقيل في قوله تعالى: " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " أي يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق. يقال: طوق فلان الحمامة، أي ألزم جزاء عمله. روى الإمام أحمد في الزهد عن مطرف أنه قال: إذا أنا مت، فلا تحبسوني لكي يجتمع الناس، فأطوقهم طوق الحمامة. ومن هذا المعنى. قول عبد الله بن جحش لأبي سفيان:
أبلغ أبا سفيان عن ... أمر عواقبه ندامه
دار ابن عمك بعتها ... تقضي بها عنك الغرامه

وحليفكم بالله رب الن ... اس مجتهد القسامه
اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه
أي لزمه دارها. قال الإمام عبد الرحمن السهيلي: هذا المثل منتزع من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من غصب شبراً من الأرض، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين " . وقوله: طوق الحمامة لأن طوقها لا يفارقها ولا تلقيه عن نفسها أبداً، كما يفعل من لبس طوقاً من الآدميين. وفي هذا البيت، من حلاوة الإشارة، وملاحة الاستعارة مالا مزيد عليه. وفي قوله: طوق الحمامة رد على من تأؤل قوله صلى الله عليه وسلم: " طوقه من سبع أرضين " أنه من الطاقة، لا من الطوق في العنق. وقاله الخطابي في أحد قوليه، مع أن البخاري قد قال في بعض رواياته: خسف به إلى سبع أرضين. وفي مصنف ابن أبي شيبة " من غصب شبراً من أرض جاء به اسطاماً في عنقه " . والاسطام كالحلق من الحديد وقالوا: " أخرق من حمامة " لأنها لا تحكم عشها وذلك لأنها ربما جاءت إلى الغصن من الشجرة فتبني عليه عشها في الموضع الذي تذهب به الريح فينكسر من بيضها أكثر مما يسلم قال عبيد بن الأبرص :
عيوا بأمرهم كما ... عييت بيضتها الحمامة
جعلت لها عودين من ... بشم وآخر من ثمامه
الخواص: إذا سكن المخدور بقربها أو في بيت يجاورها أو في بيت هي فيه برىء. وفي مجاورتها أمان من الخدر والفالج والسكتة والسبات. وهذه خاصية عظيمة بديعة ودمها إذا اكتحل به حاراً نفع من الجراحات العارضة للعين والغشاوة. ودمها خاصة يقطع الرعاف الذي من حجب الدماغ، وإذا خلط بالزيت ابرأ من حرق النار وزبل الحمام حار، وأشده حرارة زبل البري، الذي لا يأوي البيوت، وأعجب ما في زبله أنه إذا سخن في الماء وجلس فيه من به عسر البول، ابرأه ومما جرب لعسر البول: أن يكتب له في إناء نظيف، ثم يذاب بماء ويسقى لمن به ذلك فإنه يبول من وقته وساعته، قوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " " وما قدر الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " رمص نفح وشفوا بفضل الله عز وجل. وإذا طلي بالخل وضمد به من به وجع الاستسقاء، نفعه نفعاً بيناً. وزبل الحمام الأحمر إذا شرب منه قدر درهمين، مع ثلاثة دراهم دارصيني نفع من الحصاة. ولحم الحمام جيد للكلى ويزيد في المني والدم، وإذ شقت وهي حية ووضعت وهي حارة في موضع لسع العقرب نفعت نفعاً بيناً، وزبل الحمام إذ بخر به المطلقة أسرع بنزول الولد والمشيمة.
التعبير: الحمام في المنام رسول أمين، أو صديق صدوق، أو حبيب أنيس، وربما دلت رؤية الحمام على النوح والتعديد. قال الشاعر:
صب ينوح إذا الحمام ينوح
وربما دلت الحمامة في الرؤيا على امرأة مباركة حسناء عربية لا تبتغي ببعلها بدلاً. والحمام على رأس المريض هو حمام الموت قال الشاعر:
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام

وبروجها مجمع النساء، وفراخها بنون فمن رأى أنه يعلف الحمام، ويدعوهن إليه فإنه يقود. وإن حشر الحمام والغربان في مكان واحد، فإنه يقود أيضاً، لأن الغربان فساق وكل شي: يحشر مع غير جنسه كالنعاج والكلاب وأشباه ذلك فإنه قيادة. وهدير الحمام كلام باطل، ومن سمع حمامة تهدر فإنه يدل على امرأة تعاتب زوجها. ومن رأى حمامة قدمت عليه وتلقاها فإنه يرد عليه كتاب. ومن نفرت منه حمامته ولم تعد إليه فإنه يطلق زوجته أو تموت. ومن رأى كأن له حماماً، فإنه يشتري الجواري. ومن قص جناح حمامة في المنام، فقد حلف على زوجته أن لا تخرج من بيته، أو تلد أو تحمل، لأن النفاس والحمل يمنعان من الخروج، والحمام الذي يهدي إلى الطريق فإنه خبر يأتي الرائي من مكان بعيد. والحمام في المنام دليل خير لمن يصادق أو يشارك لاجتماع بعضه مع بعض في الطيران والمزاوجة. وقال جاماسب: من اصطاد الحمام في منامه، أكل مال أعدائه. ومن رأى بعين حمامته نقصاً، فهو نقص في دين زوجته وخلقها. وقال ابن المقري: رؤية المنسوب من الحمام إلى من دونه شريف القدر أو النسب. ورؤيته دال على الإفراج والنصر على الأعداء، واللهو واللعب وربما دل الحمام على الأزواج الصينات، وذوات الحفظ للأسرار، والكد على العيال، وربما دل على الحمام الذي هو الموت، وربما دل المرأة ذات الأولاد، والرجل الكثير النسل، المنعكف على أهل بيته والله أعلم.
الحمد: فرخ القطاة وفي المثل " حمد قطاة يستمي الأرانب أن يصيدها " . يضرب للضعيف الذي يروم أن يكيد قوياً. قال الميداني: ولم أر له ذكراً في الكتب.
الحمر: بضم الحاء المهملة وتشديد الميم وبالراء: المها، ضرب من الطير كالعصفور، قال أبو المهوش الأسدي:
قد كنت أحسبكم أسود حمية ... فإذا لصاف تبيض فيه الحمر
لصاف اسم جبل والواحدة حمرة قال الراجز:
وحمرات شربهن غب ... إذا غفلت غفلة تعب
وقد تخفف، فيقال: حمرة وحمرات، وابن لسان الحمرة، كان من خطباء العرب وهو أحد بني تيم اللات بن ثعلبة، وكان من علماء زمانه، ضرب به المثل في الفصاحة وطول العمر، واسمه ورقاء بن الأشعر، ويكنى أبا كلاب، سأله معاوية يوماً عن أشياء فأجابه عنها، فقال له بم نلت العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن للعلم آفة وإضاعة ونكداً واستجاعة: فآفته النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله، ونكده الكذب فيه، واستجاعته إن صاحبه منهوم لا يشبع أبداً.
الحكم: حل الأكل بالإجماع لأنها من أنواع العصافير، وقال العبادي: منهم من حرم الحمر لأنه نهاش، وهذا قول شاذ مردود. روى أبو داود الطيالسي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم " فدخل رجل غيضه، فأخرج منها بيض حمرة فجاءت الحمرة، ترف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أيكم فجع هذه. فقال رجل: أنا يا رسول الله أخذت بيضها " . وفي رواية الحاكم " أخذت فرخها " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رده رده رحمة لها " ، وفي الترمذي وابن ماجه عن عامر الدارمي أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلوا غيضة فأخذوا فرخ طائر فجاء الطائر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرف فقال عليه الصلاة والسلام: " أيكم أخذ فرخ هذا. فقال رجل: أنا فأمره أن يرده فرده " . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في الكلام على الفرخ الحديث الذي رواه أبو داود في أول كتاب الجنائز عن عامر الرامي، والحكمة في الأمر بالرد على أنه يحتمل أنهم كانوا محرمين أو لأنها لما استجارت به أجارها فكان الإرسال في هذه الحالة واجباً " .
الأمثال: قالوا: " أعمر من ابن لسان الحمرة " وقالوا: " أنسب من ابن لسان الحمرة " . وكان أنسب العرب وأعظمهم كبراً.
وخواصه وتعبيره: ستأتي في باب العين المهملة في لفظ العصفور.
الحمسة: بتحريك الحاء والميم والسين المهملة دابة من دواب البحر. وقيل هي السلحفاة والجمع حمس حكاه ابن سيده.
الحماط: بكسر الحاء المهملة والحمطوط بالضم دويبة تتكون في العشب.
الحمك: الصغار من كل شيء واحدته حمكة وقد غلب على القمل والحمك أيضاً فراخ القطا والنعام والحمك أيضاً أراذل الناس قال الراجز:

لا تعذليني برذالات الحمك
الحمل: الخروف إذا بلغ ستة أشهر وقيل: هو ولد الضأن الجذع فما دونه، والجمع حملان وأحمال. روى ابن ماجه، من حديث أبي يزيد الأنصاري رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار فوجد ريح قتار فقال: " من هذا الذي ذ بح " ؟ فخرج إليه رجل منا فقال: أنا يا رسول الله ذبحت قبل أن أصلي لأطعم أهلي فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعيد، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما عندي إلا حمل من الضأن، فقال صلى الله عليه وسلم، " اذبحه ولن يجزى عن أحد بعدك " . وفي كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي، في أوائل الفصل الخامس والعشرين، قال: حدثني بعض أخواني عن بعض أهل هذه الطائفة، قال: قدم علينا بعض الفقراء، فاشترينا من جار لنا حملاً مشوياً، ودعوناه في جماعة من أصحابنا، فلما مد يده ليأكل وأخذ لقمة وجعلها في فيه لفظها، ثم اعتزل وقال: كلوا أنتم فإنه قد عرض لي مانع منعني من الأكل، فقلنا له: لا نأكل ما لم تأكل معنا. فقال: أما أنا فغير آكل، ثم انصرف، فكرهنا أن نأكل دونه، فقلنا لو دعونا الشواء فسألناه عن أصل هذا الحمل فلعل له سبباً مكروهاً، فدعوناه، وسألناه، ولم نزل به حتى أقر أنه كان ميتة، وأن نفسه شرهت إلى بيعه حرصاً على ثمنه. قال: فأطعمناه الكلاب ثم لقينا الرجل فسألناه عن العارض الذي منعه عن الأكل، فقال: ما شرهت نفسي إلى الأكل منذ عشرين سنة، فلما قدمتم إلى هذا الحمل شرهت نفسي إليه شرهاً ما عهدته قبل ذلك، فعلمت أن في الطعام علة. فتركت أكله لأجل شره النفس. قال: فانظر كيف اتفقا في شره النفس عن قصد واحد، واختلفاه في التوفيق والخذلان، فعصم الله العالم بالورع والمحاسبة، وترك الجاهل مع شره النفس بالحرص وترك المراقبة.
عجيبة: في معجم ابن قانع والطبراني في ترجمة كردم بن السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا الليل إلى راع فلما انتصف الليل، جاء الذئب فاحتمل حملاً من الغنم، فوثب الراعي وقال: يا عامر الوادي أوذي جارك فنادى مناد: يا سرحان أرسله فجاء الحمل يشتد عدواً حتى دخل في الغنم. وأنزل الله تعالى على رسوله: " وإنا كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا " . وهو في الميزان في ترجمة إسحاق بن الحارث الكوفي، وهو ضعيف. وفي الشفاء، للقاضي عياض رحمه الله تعالى، يقال: إن سبب ابتلاء يعقوب بيوسف صلى الله عليهما وسلم أنه اجتمع يوماً، هو وابنه يوسف على أكل حمل مشوي، وهما يضحكان وكان لهما جار يتيم، فشم رائحته واشتهاه وبكى وبكت جدة له عجوز لبكائه، وبينهما جدار، ولا علم عند يعقوب وابنه بذلك، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفاً على يوسف، إلى أن ابيضت عيناه من الحزن، فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر منادياً ينادي على سطحه ألا من كان مضطراً فليتغد عند آل يعقوب. وعوقب يوسف بالمحنة التي نص الله عليها انتهى. قلت: وهذا الكلام لا أعتقد له صحة وقد عجبت من القاضي عياض رحمه الله كيف ذكره في كتابه والذي يجب تنزيههما عن هذه الرذيلة وإنما ذكرته لأنبه على أنه لا يعتقد صحته، وإن كان الطبراني قد روى، في معجمه الأوسط والصغير، من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل، شيئاً من ذلك، وأن يعقوب كان بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر منادياً ينادي: ألا من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائماً نادى مناد: ألا من كان صائماً فليفطر مع يعقوب فإنما رواه الطبراني عن شيخه محمد بن أحمد الباهلي البصري. وهو ضعيف جداً. وكذا رواه البيهقي في الشعب في الباب الثاني والعشرين وذكر الواحدي في تفسير قوله تعالى: " إني لأجد ريح يوسف " أن ريح الصبا استأذنت ربها عز وجل أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير فأذن لها فلذلك يستروح كل محزون بريح الصبا وهي من ناحية المشرق فيرتاح إلى الأوطان والأحباب وأنشد:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يسري إلي نسيمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها

حمنان: بفتح الحاء المهملة صغار القردان واحدته حمنانة وحمنة وهي من القراد دون الحلم. الحمولة: قال الجوهري: هي بالفتح الإبل التي تحمل وكذلك كل ما احتمل عليه الحي من حمار أو غيره سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن. وفعول تدخله الهاء إذا كان بمعنى مفعول بها. قال الله تعالى: " ومن الأنعام حمولة وفرشا " وسيأتي له ذكر في باب الفاء إن شاء الله تعالى...
الحميمق: قال ابن سيده: إنه طائر يصيد القطا والجنادب ونحوهما وسمعت بعض أهل العلم يقول: إنه الباشق ويفسر به قول أي الوليد الأزرقي في تاريخ مكة. وهو قال ابن جريج قلت لعطاء " إذا كنت محرماً أفأقتل العقاب. قال: أقتل. قلت: والصقر والحميمق فإنهما يأخذان حمام المسلمين؟ قال: اقتل واقتل البعوض والذباب واقتل الذئب فإنه عدو ذكره في تعظيم الحرم. حميل حر: بالضم وقد يكسر طائر معروف.
الحنش: بفتح الحاء المهملة والنون وبالشين المعجمة الحية. ويقال الأفعى والجمع أحناش. وقيل: الأحناش جميع دواب الأرض كالضب والقنفذ واليربوع وغيرها ثم خصت به الحية قال ذو الرمة:
وكم حنش ذعف اللعاب كأنه ... على الشرك العادي نصف عصام
وبه سمي الرجل حنشاً وقيل: الحنش حية بيضاء غليظة مثل الثعبان أو أعظم. وقيل: إنه أسود الحيات والحنش أيضاً بالتحريك ما يصاد من الطير والهوام، وفي كتاب العين الحنش ما رؤوسهما رؤوس الحيات وسام أبرص ونحوها. وفي الحديث في قتل الدجال " وترتفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل دابة حتى يدخل الوليد يده في فم الحنش فلا يضره " الحمة هي ما تلسع به الهوام. وفي سنن ابن ماجه وجامع الترمذي عن خزيمة بن جزء، أنه قال: يا رسول الله جئتك أسألك عن أحناش الأرض، ما تقول في الثعلب؟ قال: " ومن يأكل الثعلب " . قلت: فما تقول في الذئب؟ قال: " أو يأكل الذئب أحد فيه خير " . وذكر الترمذي الذئب والأرنب فكل هذه أحناش الأرض.
الحنظب: الذكر من الجراد. وقال الخليل: الحناظب الخنافس. الواحدة حنظب وحنظباء وقال حمزة الأصفهاني: من المركبات بين الثعلب والهرة الوحشية الحنظب. وأنشد لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
أبوك أبوك وأنت ابنه ... فبئس البني وبئس الأب
وأمك سوداء نوبية ... كأن أناملها الحنظب
يبيت أبوك لها سافداً ... كما سافد الهرة الثعلب
قال الطماحي يصف كلباً أسود:
أعددت للذئب وليل الحارس ... مصدراً أتلع مثل الفارس
يستقبل الريح بأنف خانس ... في مثل جلد الحنظباء اليابس
الحوار: ولد الناقة ولا يزال حواراً حتى يفصل عن أمه، فإذا فصل عن أمه فهو فصيل وثلاثة أحورة والكثير حيران وحوران أيضاً. قاله الجوهري وذكر ابن هشام وغيره في سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن نبيح وكانت في المحرم في السنة الثالثة من الهجرة وكان ينزل عرنة أنه قال في ذلك:.
تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفري كل جيب مقدد
الأبيات الخمسة. وسيأتي ذكر القصة إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت الأمثال: قال صاحب يسار الكواعب له: ما يسار كل لحم الحوار، واشرب لبن العشار وإياك وبنات الأحرار. والقصة في ذلك مشهورة في ذلك يقول الشاعر:
وإني لأخشى إن خطبت إليهم ... عليك الذي لاقى يسار الكواعب
وقالوا: أمسخ من لحم الحوار قال الشاعر:
وقد علم الغثر والطارقون ... بأنك للضيف جوع وقر
مسيخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر
المسيخ والمليخ الذي لا طعم له. وقالوا: " كسؤر العبد من لحم الحوار " ، ويضرب للشيء الذي لا يدرك منه شيء، وأصله أن عبداً نحر حواراً وأكله، ولم يبق لمولاه منه شيئاً فضرب به المثل لما يفقد البتة.

الحوت: السمك والجمع أحوات وحوتة وحيتان. قال الله تعالى: " إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم " الآية. وهذا يمكن أن يقع من الحيتان بإرسال من الله تعالى، كإرسال السحاب أو بوحي الهام كالوحي إلى النحل، أو بإشعار في ذلك اليوم، نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة، بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقاً من قيام الساعة " ويحتمل أن يكون ذلك من الحيتان شعوراً بالسلامة في ذلك اليوم، على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة. قال أصحاب القصص: كان الحوت يقرب ويكثر حتى يمكن أخذه باليد، فإذا كان يوم الأحد، غاب بجملته، وقيل: يغيب أكثره ولا يبقى منه إلا القليل وستأتي القصة في ذلك في باب القاف في لفظ القرد. وروينا بالسند الصحيح عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض، لم يكن فيها غير النسر في البر، والحوت في البحر، وكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدم عليه السلام، أتى الحوت وقال: يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض من يمشي على رجليه ويبطش بيديه، فقال الحوت: لئن كنت صادقاً فمالي منجى منه في البحر ومالك مخلص منه في البر.
الأمثال: قال الشاعر:
كالحوت لا يلهيه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه
اللهم الابتلاع يضرب لمن عاش بخيلاً شرها.
روى الطبراني: في معجمه الأوسط عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه طعماً، ولم يشتر به ثمناً قليلاً، فلذلك يصلي عليه طير السماء، وحيتان الماء، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون، يقدم على الله سيداً شريفاً، حتى يرافق المرسلين. ورجل آتاه الله علماً في الدنيا، فضن به على عباد الله وأخذ عليه طعماً، واشترى به ثمناً قليلاً، فذاك يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار، وينادي مناد على رؤوس الأشهاد هذا فلان ابن فلان، آتاه الله علماً في الدنيا فضن به على عباد الله، وأخذ عليه طعماً واشترى به ثمناً قليلاً، ثم يعذب حتى يفرغ من الحساب ويكفي الحوت شرفاً أنه كان وعاء ومسكناً لنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله تعالى أوحى إليه إني لم أجعل لك يونس رزقاً، وإنما جعلت بطنك له حرزاً وسجناً، ثم استنقذه الله تعالى من بطنه، واختلف في مدة لبثه في بطن الحوت فقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام، وقال عطاء: سبعة أيام، وقال الضحاك: عشرين يوماً، وقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوماً، وقال الشعبي التقمه ضحى ولفظه عشية. وأما قوله تعالى: " وأنبتنا عليه شجرة من يقطين " فالمراد باليقطين هنا القرع على قول جميع المفسرين. فكل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض، ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12