الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري

وإذا قطع لسان كلب أسود، وأخذه إنسان في يده، لم تنبح عليه الكلاب، وإن أخذت قرادة من أذن كلب، وأمسكها إنسان في يده خضعت له الكلاب كلها حتى ذلك الكلب المأخوذة منه. وإن علقت أسنانه على صبي، خرجت أسنانه من غير تعب، وأنيابه إذا علقت على من به عضة الكلب الكلب سكن عنه وجعها، وإذا علقت على من به اليرقان الظاهر نفعه، وإن حمل إنسان معه ناب الكلب لم تنبحه الكلاب. وذكره إذا جفف وعلق على الفخد هيج الباه. ومن كان يلقى من القولنج شدة، فليقم كلباً نائماً وليبل في مكانه، فإنه يزول عنه من وقته ويموت الكلب. ونابه إذا علق على من يتكلم في نومه سكن، ولبن الكلبة إذا طلي به الشعر حلقه، وإن شرب بالماء سكن من وقته السعالي. وبوله إذا طلي به على الثآليل قلعها، وقراده إذا نقع في نبيذ وشربه شارب سكر من وقته. وشعر الكلب الأسود البهيم، إذا علق على المصروع نفعه، ومن كان عنده عبد أبق وأحب أن لا يأبق، فليأخذ جرو كلب صغيراً فيحرقه ثم يسحقه بزيت، ويطلي به رأسه فإنه لا يأبق، مجرب، قاله القزويني وغيره. ولبن الكلبة إذا شرب نفع من السموم القاتلة، ويخرج الأجنة والمشيمة، ومن اكتحل بلبن كلبة سهر ليله كله. وزبله إذا سحق وعجن بماء الكزبرة، وطلي به الأورام الحادة نفعها بإذن الله تعالى.
التعبير: الكلاب في الرؤيا عند المسلمين عبيد، وفي الحديث " أن الكلب من الممسوخ " ، وأوله المعبرون برجل سفيه مجترئ على العاصي، وإذا نبح فهو سفيه مشنع طمع، فمن رأى كلباً عضه أو خدشه، ناله من عدوه هم بقدر الألم، وربما مرض، وربما دلت رؤية الكلب على الانكلاب على الدنيا، مع عدم الادخار ورؤية كلب أهل الكهف في المنام، تدل على الخوف أو السجن أو الهرب أو الاختفاء، ورؤيته في البلد دليل على تجديد ولاية، وربما عل الكلب على الكفر والإياس من رحمة الله تعالى، لقوله تعالى: " فمثله كمثل الكلب " الآية.
وكلب الصيد عز ورفعة ورزق، وكلب الماشية رجل صاحل غيور على الأهل والجار، قاله ابن المقري. ومن رأى كلباً مزق ثيابه، فإن سفيهاً يغتابه، وإن لم يسمع نباحه فهو عدو، وتزول عداوته بشيء يسير.
والكلب يعبر برجل من الأهل، فمن نازعه كلب نازعه رجل من أهله، وربما عبر بالمشنع إذا نبح، أو بسماع نواح، أو بفتح بيت الخلاء. والكلبة امرأة دنيئة من قوم معاندين، والجرو ولد محبوب، فإن كان أبيض فهو مؤمن، وإن كان أسود فهو يسود قومه، وقيل: جرو الكلب لقيط سفيه، والكلب الكلب سفيه أيضاً. ورؤية كلب الراعي تدل على فائدة من ملك أو وال، والكلب الذي يصاد به ملك وولاية، لمن رآه بذا كان أهلا لذلك، أو يصير إليه شيء يستغني به لقوله تعالى: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " والكلب الصيني يدل على مخالطة قوم من الأعجام غير مسلمين.
ومن رأى أنه يصيد بالكلاب، فإنه يعطى بغيته ويناد مناه، وقال ارسطاميدورس: من رأي كلاب الصيد خارجة فهي دليل خير لطالب الرزق والخدمة، وإذا رآها داخلة من الصيد، فإنها تدل على البطالة. والكلب الحارس في المنام يدل على صيانة الزوجة والمال. وقيل: الكلاب في المنام تدل على قوم أذلة. ومن رأى أنه صار كلباً، فإن الله تعالى قد آتاه علماً فنسيه، لقوله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " إلى قوله تعالى: " فمثله كمثل الكلب " الآية.
وقيل: الكلاب تعبر بغلمان الشرطة، والكلب عدو ضعيف لتحوله عن جوهر السباع، ثم يصير صديقاً بعد العداوة، لقصة آدم عليه السلام، لما أهبط إلى الأرض وقد تقدم طرف منها، فجعل في التأويل عدواً ثم يرجع صديقاً.
ومن الرؤيا المعبرة أن سيدنا أبا بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، رأى كأن كلبة من مكة تهر على الناس، فلما دنوا منها، استلقت على ظهرها ودرت ثدياها لبناً، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ذهب كلبهم، وأقبل درهم، وستلقونهم بعد ويسألونكم أرحامهم فإذا لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه " . فلما قدم المسلمون لفتح مكة، قاتل بعضهم وكان ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الرؤيا المعبرة أيضاً أن رجلا أتى ابن سيرين، فقال: رأيت كلبين يقتتلان على فرج زوجتي، فقال: إنها أخذت المقراض، وجزت شعر فرجها والله تعالى أعلم.

خاتمة: ومن الفوائد المجربة أن يكتب في إناء حديد، ويمسح بزيت، ويسقى للمكلوب، فإنه يشفى بإذن الله تعالى وهي هذه الأحرف: 1 ب ج م اع ه د باب اللد، ويكتب أيضاً للحامل في إناء جديد، ويغسل بماء ويسقى فإنه نافع إن شاء الله تعالى والله أعلم.
كلب الماء: تقدم في القاف أنه القندس. وقال في عجائب المخلوقات: كلب الماء معروف، وهو حيوان مشهور يداه أطول من رجليه يلطخ بدنه بالطين، فيحسبه التمساح طيناً، ثم يدخل جوفه فيقطع أمعاءه ويأكلها، ثم يمزق بطنه ويخرج. قال: ومن خواصه أن من كان معه شحم كلب الماء، أمن من غائلة التمساح. وذكر بعضهم أن جلد الجندبادستر خصية هذا الحيوان. وقد تقدمت صفة ذلك في باب الجيم.
الحكم: سئل الليث بن سعد عن أكل لحم كلب الماء؟ فقال: لا بأس به، وقد تقدم في عموم السمك، أنها تحل إلا أربعة ليس هذا منها. وقيل: لا يؤكل لأن شبهه في البر لا يؤكل.
الخواص: دم كلب الماء يخلط بماء الكمون الكرماني ويشرب في الحمام ينفع من تقطير البول وعسره، ودماغه ينفع من ظلمة العين اكتحالا، ومرارته قدر عدسة منها، سم قاتل. وقال ابن سينا: إن خصيته تنفع من نهش الحيات، وجلده يتخذ منه جورب يلبسه المنقرس يذهب عنه ذلك ولبرأ.
الكلثوم: الفيل قاله ابن سيده. وقد تقدم حكمه في باب الفاء.
الكلكسة: قال قوم: إنه ابن عرس، وقال قوم: إنه حيوان آخر غير ابن عرس، وزبله إذا سحق وديف بالخل، وطلي به مواضع النملة الظاهرة، نفع نفعاً بيناً. وفي كتاب دمقراطيس، أن الكلكسه تبيض من فيها.
الكميت: الفرس الشديد الحمرة، ولا يقال كميت، حتى يكون عرفه وغرته وذنبه سوداً، وإن كانت حمراً فهو أشقر، والورد فيما بين الكميت والأشقر، والجمع وردان. والكميت من أسماء الخمر، قال الشيخ صلاح الدين الصفدي، وفيه تورية:
وحمراء لما ترشفتها ... جنيت بها اللهو فيما جنيت
ونلت المسرات دون الورى ... لأني سبقتهم بالكميت
الكندارة: سمكة لها سنام معروفة عند أهل البحر.
الكنعبة: الناقة العظيمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى، حكم الناقة في باب النون.
الكعند والكعند: كجعفر ضرب من السمك، قاله الجوهري وأنشد لجرير:
قوم إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتووا كنعداً من مالح جدفوا
الكندش: العقعق، قال أبو المغطش الحنفي يصف امرأة:
منيت بزمردة كالعصا ... ألصق وأخبث من كندش
ولفظ زمردة فارسي معرب أي امرأة الرجل.
الكهف: الجاموس المسن، وقد تقدم حكمه في باب الجيم.
الكودن: البرذون البطيء، وقال الجوهري: هو البرذون يوكف ويشبه به البليد، وقال ابن سيده: الكودن البرذون، وقيل: البغل. وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يعط الكودن شيئاً " . وفي رواية: " أعطاه دون سهم العراب " . رواه الطبراني. وفي إسناده أبو بلال الأشعري وهو ضعيف.
الكوسج: سمكة في البحر لها خرطوم كالمنشار، تفترس، وربما التقمت ابن آدم وقصمته نصفين، وهي القرش. ويقال لها: اللخم أيضاً، ويقال: إنها إذا صيدت بالليل وجدوا في جوفها شحمة طيبة، وإن صيدت نهاراً لم يجدوها.
وقال القزويني: الكوسج نوع من السمك، وهو في الماء شر من الأسد في البر، يقطع الحيوان في الماء بأسنانه، كما يقطع السيف الماضي. قال: ورأيته وهو سمكة مقدار ذراع أو ذراعين، وأسنانه كأسنان الناس، تنفر منه الحيوانات البحرية، وله أوان معين يكثر فيه بدجلة البصرة.
وحكمه عند الإمام أحمد تحريم الأكل. وقال أبو حامد من أصحابه: لا يؤكل التمساح، ولا الكوسج لأنهما يأكلان الناس. ولأنه ذو ناب انتهى. ومقتضى مذهبنا أنه حلال، ومن ألحقه بالقرش أجرى عليه حكمه الذي تقدم في باب القاف.
الكهول: قال الأزهري: هو بفتح الكاف وضم الهاء العنكبوت، ومنه قول عمرو لمعاوية رضي الله تعالى عنهما: أتيتك وأمرك كحق الكهول. أي ضعيف كبيت العنكبوت. وضبطها الخطابي والزمخشري بغير ذلك، لكن قالا: إنها العنكبوت أيضاً.
؟

باب اللام

لأي: على وزن لعي هو الثور الوحشي، والجمع آلاء على وزن ألعاء، مثل جبل وأجبال. والأنثى لآة. وقال الفارسي: يجوز أن تكون ألفه منقلبة عن ياء من اللاي. وقال في المحكم: ويجوز أن تكون منقلبة عن واو من اللاو، لأن الثور يوصف بالقوة كما قال ابن عقيل:
يمشي بها دب الزناد كأنه ... فتى فارسي من سراويل رامح
وقد تقدم في باب الباء الموحدة، في ذكر أدم أهل الجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أدامهم بالام ونون " . قالوا: ما هذا؟ قال: ثور وحوت. قال السهيلي، في أول الروض في لؤي: اسم جد النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن الأنباري: إنه تصغير اللأي، وهو الثور الوحشي. وقال أبو حنيفة: اللأي البقرة، قال: وسمعت أعرابياً يقول بكم لآك هذه.
اللباد: بضم اللام، قاله الزبيدي في الأبنية، اسم طائر يلبد في الأرض، ولا يكاد يطير، إلا أن يطار، ولبد آخر نسور لقمان وهو ينصرف لأنه ليس بمعدول، وخبره يأتي في باب النون في النسر إن شاء الله تعالى.
الأمثال: قالوا: أهرم من لبد. قال الشاعر:
إن معاذ بن مسلم رجل ... ليس لميقات عمره أمد
قد شاب رأس الزمان واكتهل ال ... دهر وأثواب عمره جدد
قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضج من طول عمرك الأبد
يا بكر حواء كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد
مصححاً كالظليم ترفل في ... برديك مثل السعير تتقد
صاحبت نوحاً ورضت بغلة ذي ال ... قرنين شيخاً لولدك الولد
فارحل ودعنا فإن غايتك ال ... موت وإن شد ركنك الجلد
اللبوءة: بضم الباء وبعدها همزة: أنثى الأسد، واللبأة واللبوة، ساكنة الباء، غير مهموزة لغتان فيها حكاهما ابن السكيت، ويقال لها: العرس أيضاً.
قال عون بن أبي شداد العبدي: بلغني أن الحجاج بن يوسف الثقفي، لما ذكر له سعيد بن جبير رحمة الله تعالى عليه، بعد قتل عبد الرحمن بن الأشعث، أرسل إليه قائداً من أهل الشام من خاصة أصحابه، فبينما هم يطلبون، إذا هم براهب في صومعة له، فسألوه عنه فقال الراهب: صفوه لي. فوصفوه له، فدلهم عليه، فانطلقوا فوجدوه ساجداً يناجي ربه تعالى بأعلى صوته، فدنوا منه وسلموا عليه فرفع رأسه، فأتم بقية صلاته، ثم رد عليهم السلام، فقالوا له: إن الحجاج أرسل إليك فأجبه. فقال: ولا بد من الإجابة؟ فقالوا: لا بد. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام يمشي معهم حتى انتهوا إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم. فقال لهم: اصعدوا الدير، فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعجلوا الدخول قبل المساء ففعلوا ذلك، وأبى سعيد رضي الله عنه، أن يدخل الدير! فقالوا: ما نراك إلا تريد الهرب منا؟ قال: لا ولكني لا أدخل منزل مشرك أبداً. فقالوا: إن لا ندعك فإن السباع تقتلك.
قال سعيد: فإن معي ربي يصرفها عني، ويجعلها حراساً حولي تحرسني من كل سوء، إن شاء الله تعالى. قالوا: فأنت من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء، ولكني عبد من عباد الله خاطئ مذنب. قالوا له: فاحلف لنا أنك لا تبرح. فحلف لهم. فقال لهم الراهب: اصعدوا الدير، وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فإنه كره الدخول علي في الصومعة، فدخلوا وأوتروا القسي فإذا هم بلبوة قد أقبلت، فلما دنت من سعيد بن جبير، تحككت به وتمسحت به، ثم ربضت قريباً منه، وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك، فلما رأى الراهب ذلك دخلت في قلبه هيبة، فلما أصبحوا نزلوا إليه، فسأله الراهب عن شرائع دينه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم فقرر له سعيد ذلك كله، فأسلم الراهب وحسن إسلامه.
وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل يصلون عليه، ويقولون: يا سعيد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت. فقال سعيد: امضوا لشأنكم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضاء ربي.

فساروا حتى وصلوا إلى واسط، فلما انتهوا إليها، قال لهم سعيد رضي الله تعالى عنه: يا معشر القوم، قد تحرمت بكم وصحبتكم، ولست أشك أن أجلي قد قرب وحضر، وأن المدة قد انقضت ودنت، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت، وأستعد لمنكر ونكير، وأذكر عذاب القبر، وما يحثى علي من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون، فقال بعضهم: لا نريد أثراً بعد عين. وقال بعضهم: إنكم قد بلغتم أمنكم، واستوجبتم جوائزكم من الأمير، فلا تعجزوا. عنه. وقال بعضهم: هو علي أدفعه إليكم إن شاء الله تعالى. فنظروا إلى سعيد وقد دمعت عيناه واغبر لونه، وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك، منذ لقوه وصحبوه، فقالوا بأجمعهم: يا خير أهل الأرض ليتنا لم نعرفك ولم نرسل لك، الويل لنا كيف ابتلينا بك! فاعذرنا عند خالقنا، يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر، والعادل الذي لا يجوز. فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد إلا ما زودتنا من دعائك وكلامك، فإنا لن نلقي مثلك أبداً.
فدعا لهم سعيد رضي الله تعالى عنه. ثم خلوا سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت، ليله كله، وهم مختفون الليل كله فلما انشق عمود الصبح، جاءهم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه فبكى وبكوا معه طويلا، ثم ذهبوا به إلى الحجاج فدخل عليه المتلمس فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير، فلما مثل بين يديه قال له: ما اسمك. قال: سعيد بن جبير. فقال: بل أنت شقي بن كسير. قال سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك. فقال الحجاج: شقيت أنت وشقيت أمك. فقال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى. قال: لو علمت أن بيدك لاتخذتك إلهاً. قال فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبي الرحمة. قال: فما قولك في علي أفي الجنة هو أم النار؟ قال: لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقه. قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. قال: ثم إن الحجاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، وغير ذلك من الجواهر، فوضعت بين يدي سعيد، فقال سعيد رضي الله تعالى عنه: إن كنت جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بآلات اللهو، فضربت بين يدي سعيد فبكى سعيد. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد. فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة، وأدخل النار. فقال: يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك بها؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة. قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من الله فنعم، وأما منك أنت فلا. فقال: اذهبوا به فاقتلوه. فلما أخرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فأمر برده فقال: ما أضحكك وقد بلغني أن لك أربعين سنة لم تضحك؟ قال: ضحكت عجباً من جراءتك على الله، ومن حلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط بين يديه، وقال: اقتلوه.
فقال سعيد: " كل نفس ذائقة الموت " . ثم قال: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين " . قال: وجهوه لغير القبلة. فقال سعيد: " فأيما تولوا فثم وجه الله " فقال: كبوه لوجهه. فقال: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " فقال الحجاج: اذبحوه. فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. فذبح على النطع رحمة الله تعالى عليه، فكان رأسه يقول بعد قطعه: لا إله إلا الله مراراً. وذلك في شعبان سنة خمس وتسعين. وكان عمر سعيد تسعاً وأربعين سنة، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة، ولم يسلط على قتل أحد بعده.

ولما بلغ الحسن البصري رضي الله تعالى عنه قتل سعيد بن جبير، قال: اللهم أنت على فاسق ثقيق رقيب، والله لو أن أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله، لكبهم الله تعالى في النار، والله لقد مات وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب محتاجون إلى علمه. ونقل أن سعيداً رضي الله تعالى عنه كان يقول: وشى بي واش، وأنا في بلد الله الحرام، أكله إلى الله، يعني خالد القسري.
وروي أن الحجاج لما حضرته الوفاة، كان يغيب ثم يفيق، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير. وقيل: إنه كان في مدة مرضه كلما نام، رأى سعيد بن جبير آخذاً بثوبه، وهو يقول: يا عدو الله فيم قتلتني فيستيقظ مذعوراً.
وروي أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، رآه بعد موته في المنام، وهو جيفة منتنة، وأنه قال له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل قتيل قتلته قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.
فإن قيل ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتلة وقتله بسعيد سبعين قتلة. وقد قتل من هو أفضل من سعيد، وهو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، لأنه صحابي، وسعيد بن جبير تابعي والصحابي أفضل من التابعي.
فالجواب أن الحجاج لما قتل ابن الزبير، كان له نظراء في العلم من الصحابة، كابن عمرو وأنس بن مالك وغيرهما، ولما قتل سعيداً لم يكن له نظير في العلم، فضوعف عليه العذاب بسبب ذلك. ويشهد لهذا القول ما تقدم عن الحسن البصري، لا لكونه أفضل من ابن الزبير والله أعلم.
التعبير: اللبوة في المنام بنت ملك، فمن رأى أنه جامع لبوة نجا من شدة عظيمة، ويعلو شأنه ويظفر بأعدائه، فإن رأى ذلك ملك، وكان في حرب، فإنه يظفر بمن يحاربه ويملك بلاداً كثيرة. وقيل: إن اللبوة تعبيرها كالسبع والله أعلم.
اللجأ: بالجيم نوع من السلاحف يعيش في البر والبحر، ولها حيلة عجيبة وتوصل في صيد ما تصيده من طائر وغيره، وذلك أنها تغوص في الماء ثم تتمرغ في التراب، ثم تكمن للطير في مواضع شربها، فيختفي عليه لونها، فتمسكه وتغوص به في الماء حتى يموت.
ويقال: إن اللجأة تضع بيضها في البر، وأنها تحضنه بالنظر إليه. وقال أرسطاطاليس في النعوت: ما خرج من بيض اللجأة مستقبل البحر، صار إلى البحر، وما خرج منه مستقبل البر، صار إلى البر وكلهن يردن الماء، لأنهن من خلق الماء. قال: وهي تأكل الثعابين واللجأة البحرية لها لسان في صدرها من أصابته به من الحيوان قتلته. وقد تقدم ذكرها في باب السين.
الحكم: صرح بتحريمها وبعدم جواز أكلها البغوي والنووي في شرح المهذب.
الخواص: قال أرسطو: كبدها إذا أكل طرياً نفع من داء الكبد، ولحمها إذا طبخ بخل صفة السكباج وشرب من مرقته من به استسقاء نفعه، وأدبل بطنه، وهو يشد الفؤاد ويذهب الرياح السوداوية والله أعلم.
التعبير: اللجأة في المنام امرأة عفيفة، وسنة مقبلة ذات مال، وربما دلت على الوقاية من الأعداء، لاتخاذ الناس من ظهرها تجافيف يدفع الإنسان بها عن نفسه.
اللحكاء: قال الأزهري: هي بضم اللام وفتح الحاء المهملة والكاف، وبالألف والمد، ويقال له: اللحكة على مثال الهمزة واللمزة، وحكى ابن قتيبة، في أدب الكاتب، الحلكاء بفتح الحاء وإسكان اللام وبالمد، وحكى في المقصور والممدود، الحلكا بضم الحاء وفتح اللام المشددة وبالقصر، شحمة الأرض تغوص في الرمل كما يغوص طير الماء في الماء. وقال غيره: الحلكة بالهاء وهي فيما ذكروا دويبة كأنها سمكة تكون في الرمل، فإذا أحست بالإنسان، دارت في الرمل وغاصت فيه. وقال غير الأزهري: الحلكة بتقديم الحاء على اللام، وكذلك الحلكاء على مثال العنقاء.
وحكى صاحب جامع اللغة فيها القصر أيضاً. وقال الجوهري: اللحكة أظنها مقلوبة من الحلكة. قال ابن الصلاح ، في مشكل الوسيط الذي ضبطناه، عن الأزهري، صاحب كتاب تهذيب اللغة، الموثوق به: إنها مقصورة، وهي دويبة ملساء كأنها شحمة مشربة بحمرة، وبقال لها الحلكة مثل الهمزة انتهى. وقال الماوردي، في الحاوي: اللحكاء تشبه السمك وهي عريضة من أعلى، دقيقة من أسفل. وقال ابن السكيت، في إصلاح المنطق: اللحكة دويبة شبيهة بالعظاءة، زرقاء تبرق وليس لها ذنب طويل كالعظاءة وقوائمها خفية. وهذا القول أحسن من الذي نقله ابن الصلاح عن تهذيب الأزهري.

وقد تقدم في حرف الحاء الحلكة. وقال الصيدلاني والروياني: إنها دويبة مثل الإصبع تجري في الرمل ثم تغوص فيه. وهذا يقوي قول الجوهري إنها مقلوبة من الحلكة، لأنه فسرها بهذا فعلى ما قاله الأزهري من كونها ملساء كأنها شحمة مشربة بحمرة حسن تشبيه العرب أصابع النساء بها، إلا أن الاشتقاق لا يساعده، لأن الحلكة فيما يظهر شله السواد، مأخوذ من قولهم: أسود حالك، ولما كانت زرقاء لشدة سوادها سموها بهذا الاسم. والعرب تسميها بنات النقا لأنها تسكن نقيات الرمل.
الحكم: لا يحل أكلها لأنها من أنواع الوزغ.
اللخم: بضم اللام وإسكان الخاء المعجمة، ضرب من السمك ضخم يقال له الكوسج، وهو القرش كما تقدم. وأنشد ابن سيده لبعض الأدباء:
لصيد اللخم في البحر ... وصيد الأسد في البر
وقضم الثلج في القر ... ونقل الصخر في الحر
وإقدام على الموت ... وتحويل إلى القبر
لأشهى من طلاب العز ... ممن عاش في الفقر
وحكمه: حل الأكل فيما يظهر، وقد قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير، في كتابه نهاية غريب الحديث ما نصه: في حديث عكرمة رضي الله تعالى عنه، اللخم حلال، وهو ضرب من سمك البحر يقال اسمه القرش. وقد تقدم الكلام على القرش في باب القاف.
اللعوس: الذئب سمي بذلك لسرعة أكله.
اللعوة: بفتح اللام الكلبة، قالت العرب: أجوع من لعوة.
اللقحة: بالكسر والفتح، لغتان مشهورتان والكسر أشهر، والجمع لقح بكسر اللام وفتح القاف كبركة وبرك، وهي الناقة ذات اللبن، وقيل القريبة العهد من النتاج، وناقة لقوح إذا كانت غزيرة اللبن.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة، والرجلان يتبايعان الثوب فلا يتبايعانه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط حوضه فما يصدر حتى تقوم الساعة " . وفيه من حديث النواس بن سمعان في صفة الدجال: " ويبارك في الرسل يعني اللبن حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس " . الفئام الجماعة الكثيرة مأخوذ من الكثرة، والفخذ بالذال المعجمة الجماعة من الأقارب، وهم دون البطن والبطن دون القبيلة. قال ابن فارس: الفخذ هنا بإسكان الخاء المعجمة لا غير بخلاف الفخذ التي هي العضو فإنها تكسر وتسكن.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة بالغابة وهي على بريد من المدينة بطريق الشام، كان يراح إليه صلى الله عليه وسلم كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، وكان أبو ذر رضي الله تعالى عنه فيها، وكان صلى الله عليه وسلم يفرقها على نسائه وهي التي استاقها العرنيون وقتلوا راعيها يسارا ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ما فعل.
وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقحة، فأثابه منها ست بكرات فتسخطها، فقال صلى الله عليه وسلم: " من يعذرني من فلان؟ أهدى إلي لقحة فأثبته منها ست بكرات فتسخطها لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي " ثم قال: صحيح الإسناد.
وروى هو وأحمد والبيهقي، عن ضرار بن الأزور رضي الله تعالى عنه، قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقحة، فأمرني أن أحلبها فحلبتها فجهدت حلبها، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل دع داعي اللبن " . وروى البزار عن بريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحلاب لقحة، فقام رجل فقال له صلى الله عليه وسلم " ما اسمك " ؟ فقال: مرة. فقال صلى الله عليه وسلم: " اقعد " . فقام آخر، فقال له صلى الله عليه وسلم: " ما اسمك " ؟ قال يعيش. فقال صلى الله عليه وسلم له: " احلب " .

ورواه مالك عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقحة تحلب: " من يحلب هذه " ؟ فقال رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما اسمك " ؟ قال له الرجل: مرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجلس " ثم قال: " من يحلب هذه " ؟ فقام رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما اسمك " ؟ قال: حرب. قال " اجلس " . ثم قال صلى الله عليه وسلم: " من يحلب هذه " ؟ فقام رجل فقال له صلى الله عليه وسلم: " ما اسمك " ؟ قال: يعيش فقال له صلى الله عليه وسلم: " احلب " .
ثم روى عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جمرة. قال ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحرقة. قال: أين مسكنك؟ قال بحرة النار. قال: بأيها؟ قال: بذات لظى. فقال له عمر رضي الله تعالى عنه أدرك أهلك فقد احترقوا. قال: فكان كما قال عمر رضي الله تعالى عنه.
وفي السيرة أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر، مر برجلين فسأل عن اسمهما، فقال له أحدهما: مسلخ والآخر مخذل، فعدل عن طريقهما، وليس هذا من الطيرة التي نهى صلى الله عليه وسلم عنها، بل من باب، كراهة الاسم القبيح. فقد كان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أمرائه: " إذا أبردتم إلي بريداً، فأبردوه حسن الاسم حسن الوجه " . وفي حديث البزار ومالك زيادة، رواها ابن وهب وهي: فقام عمر فقال: لا أدري أقول أم أسكت؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل " قال: فكيف نهيتنا عن الطيرة وتطيرت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " ما تطيرت ولكني آثرت الاسم الحسن " .
وروى أبو داود والترمذي والحاكم وقال: صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطيرة شرك وما منا إلا من تطير ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل " . قال الخطابي: معناه وما منا إلا من يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه فحذفه اختصاراً للكلام، واعتماداً على فهم السامع. قال البخاري: كان سليلا بن حرب ينكر هذا، ويقول: هذا ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
قال الإمام عبد الصمد: لما رأيت في أطواق الذهب لجار الله العلامة أبي القاسم محمود الزمخشري قوله: رزق مبسوط ومقدر، وشرب صاف ومكدر، ورجل يحسو الماء القراح، وآخر درت له اللقاح، وما أوتي هذا من عجز ووهن، وما أوتي ذاك من فضل وذكاء فإن، ولكن تقدير من بيده الملكوت، وإليه الكتاب الموقوت، ذكرت هذين البيتين:
لم أوت من طلب ولا ... جد ولا هم شريف
لكنه قدر يزو ... ل من القوي إلى الضعيف
وما أحسن قول القائل حيث قال:
أنفق ولا تخش إقلالا فقد قسمت ... على العباد من الرحمن أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال إنفاق
اللقوة: العقاب الأنثى، واللقوة بالكسر مثله. قال أبو عبيد: سميت لقوة لسعة أشداقها، وقيل: لاعوجاج منقارها، واللقوة مرض يميل به الوجه إلى جانب. واللقوة الناقة السريعة اللقاح، ولقوة لقب الحجاج بن يوسف الثقفي البغدادي المعروف بابن الشاعر. روى عنه مسلم وأبو داود ووفاته سنة تسع وخمسين ومائتين.
اللقاط: بالتشديد طائر معروف، سمي بذلك لأنه يلقط الحب.
وحكمه: الحل، قال العبادي: اللقاط حلال، إلا ما استثناه النص. قال، في شرح المهذب: يعني به ذا المخلب وفيما قاله نظر، لأن المراد به ما يلقط الحب وذو المخلب، لم يدخل في اسم اللقاط حتى يصح استثناؤه منه، لكن يحتمل أنه أراد بالمستثنى الغراب الزرعي والاستثناء المنقطع لا تصح إرادته هنا، لأن الرافعي رحمه الله قد نقل بعد ذلك، عن البوشنجي، أن اللقاط حلال، بغير استثناء.
ولعل أبا عاصم أراد بالمستثنى بالنص غراب الزرع، والغداف الصغير فإنهم يلقطان الحب، ويأكلان الزرع. كما قاله الماوردي في الحاوي، وفيهما وجهان أصحهما في الروضة تحريم الغداف وحل الزرعي. وقد تقدم طرف من هذا في أحكام الغراب، لكن كلام الرافعي يقتص حلهما، فمن قال بتحريمهما استثناهما من اللقاط، ولم يحمل الأمر الوارد بقتل الغراب على الأبقع وحده، بل عليه وعلى غيره.

ونقل الجاحظ هذا الاحتمال عن صاحب المنطق، فقال: قال صاحب المنطق: الغراد جنس من الأجناس التي أمر بقتلها في الحال والحرم، وهذا صريح في أن الجميع فواسق، وأن قتل جميعها مستحب.
وقد صرح في الحاوي باستحباب قتل الغراب الأسود الكبير، وألحقه بالأبقع وجعل النهي علة تحريمه، ومن قال: يحل اللقاط مطلقاً لم يستثن شيئاً، وحمل الأمر بقتل الغراب على الأبقع لأنه قد ورد التقييد، في بعض الروايات بالغراب الأبقع. وهذا إنما يستقيم إذا قلنا: إن ذكر بعض أفراد العموم تخصيص، والصحيح أنه ليس بتخصيص. والغراب الأبقع، وإن كان يلقط الحب، فهو غير وارد على البوشنجي، لأن غالب أكله الخبائث، بخلاف الزرعي والغداف الصغير والله تعالى أعلم.
اللقلق: طائر أعجمي طويل العنق وكنيته عند أهل العراق أبو خديج، وعبر عنه الجوهري بالقاف، وهو اسم أعجمي قال: وربما قالوا: اللغلغ، والجمع اللقالق، وهو يأكل الحيات، وصوته اللقلقة، وكذلك كل صوت فيه حركة واضطراب. ويوصف بالفطنة والذكاء، قال القزويني، في الأشكال: قال الرئيس: من ذكاء هذا الطائر أنه يتخذ له عشين يسكن في كل واحد منهما بعض السنة، وأنه إذا أحس بتغير الهواء عند حدوث الوباء، ترك عشه وهرب من تلك الديار، وربما ترك بيضه أيضاً. قال: ومما يتوصل به إلى طرد الهوام اتخاذ اللقلق، فإن الهوام تهرب من مكان هو فيه، لفزعها منه وإذا ظهرت قتلها.
الحكم: في حله وجهان: أحدهما، وبه قال الشيخ أبو محمد: يحل كالكركي ورجحه الغزالي، والثاني يحرم، وصححه البغوي وجزم به العبادي، واحتج بأنه يأكل الحيات، ويصف في الطيران. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " كل ما دف ودع ما صف " . يقال: دف الطائر في طيرانه إذا حرك جناحيه، كأنه يضرب بهما، وصف إذا لم يتحرك، كما تفعل الجوارح. ومنه قوله تعالى: " أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات " . والأصح في شرح المهذب والروضة أنه حرام. واللقلق من طير الماء وقد تقدم استثناؤه.
الخواص: إذا ذبح فرخ من فراخه وطلي به بدن المجذوم نفعه نفعاً بيناً، وإذا أخذ من دماغه وزن دانق ومن أنفحة الأرنب مثله، وأذيبا على النار، فمن طعم منه باسم آخر هيج روحانية المحبة في قلبه. وقال هرمس: من حمل عظم اللقلق معه زال همه، وإن كان عاشقاً سلا ومن حمل حبة عينه اليمنى لم ينم، ومن حمل حبة عينه اليسرى نام، ولم يتنبه ما لم تحل عنه، ومن حمل عينه ودخل الماء، لم يغرق، وإن لم يحسن السباحة.
التعبير: اللقلق في المنام يدل على قوم يحبون المشاركة فإذا رآها إنسان مجتمعة في مكان، فإنهم لصوص وقطاع طريق وأعداء محاربة، وقيل: رؤية اللقلق تدل على تردد. ومن رأى اللقالق متفرقة فإنها دليل خير إن كان مسافراً أو أراد السفر، لأنها تظهر في الصيف، وتدل رؤياها على قدوم المسافر إلى وطنه والمقيم على سفره والله أعلم.
اللهق: الثور الأبيض وقد تقدم ما في الثور في باب الثاء المثلثة.
اللهم: الثور المسن، وقد تقدم والجمع لهوم.
اللوب والنوب: الأول بضم اللام، والثاني بضم النون، جماعة النحل ومنه حديث ريان بن قسور رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بوادي الشوحط، فكلمته فقلت: يا رسول الله إن معنا لوباً لنا، يعني نحلا كانت في غيلم لنا، فيه طرم وشمع، فجاء رجل فضرب ميتين، فأنتج حياً وكفنه بالثمام، يعني قدح ناراً بالزندين، ونحسه يعني دخنه، فطار اللولب هارباً، وأدلى مشواره في الغيلم، فاشتار العسل فمضى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ملعون من سرق شرو قوم فأضربهم أفلا تبعتم أثره وعرفتم خبره " . قال: قلت: يا رسول الله إنه دخل في قوم لهم منعة، وهم جيرتنا من هذيل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صبرك صبرك ترد نهر الجنة، وإن سعته كما بين العقيقة والسحيقة يتسبب جرياً بعسل صاف من قذاه ما تقيأه لوب ولا مجه نوب " انتهى.
الغيلم البئر وأراد بها هاهنا الخلية.
والطرم العسل ذكره السهيلي في مقتل خبيب وأصحابه، بعد أحد. وذكره أبو عمر بن عبد البر وابن الأثير أبو السعادات، ونقلا عن ابن ماكولا، أنه قال: ذكره عبد الغني بن سعيد وغيره بإسناد ضعيف.
اللوشب: ككوكب الذئب، وقد تقدم ما في الذئب في باب الذال المعجمة.

اللياء: سمكة في البحر يتخذ من جلدها الترسة فلا يحيك فيها شيء من السلاح، ولا يقطع، وفي الحديث أن فلاناً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بودان لياء مقشى. ومنه حديث معاوية رضي الله تعالى عنه أنه دخل عليه وهو يأكل لياء مقشى.
الليث: الأسد، وجمعه ليوث. وهو أيضاً ضرب من العناكب يصطاد الذباب، وهو أصغر من العنكبوت. والليث من الرجل: الشجاع وبنو ليث بطن من العرب، وبه سمي ليث بن سعد بن عبد الرحمن بن الحارث، إمام أهل مصر في الفقه. ولد بقلقشندة وهي قرية في أسفل مصر سنة أربع وتسعين. قال الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، حتى نشأ فيهم الليث بن سعد فحدثهم بفضائل عثمان رضي الله تعالى عنه. فكفوا عن ذلك.
وكان أهل حمص ينتقصون علياً رضي الله تعالى عنه، حتى نشأ فيهما إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائل علي رضي الله تعالى عنه فكفوا عن ذلك.
وحج الليث، فقدم المدينة فبعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق رطب، فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه، وكان الليث رحمه الله يستغل في كل سنة عشرين ألف دينار فينفقها وما وجبت عليه زكاة قط. وقالت له امرأة: يا أبا الحارث إن لي ابناً عليلا واشتهى عسلا، فقال: غلام أعطها مطراً من عسل، والمطر مائة وعشرون رطلا. فقيل له في ذلك، فقال: سألت على قدر حاجتها، ونحن أعطيناها على قدر نعمتنا. واشترى قوم منه ثمره ثم استقالوه، فأقالهم وأعطاهم خمسين ديناراً، وقال: إنهم كانوا قد أملوا فيها أملا فأحببت أن أعرضهم عن أملهم. وكان رضي الله تعالى عنه حنفي المذهب، وولي القضاء بمصر وتوفي بها في شعبان سنة خمسن وسبعين ومائة. وقبره في القرافة الصغرى مشهور. وقلقشندة بفتح القاف ولام وقاف وشين معجمة مفتوحة ونون ساكنة ودال مهملة وهاء آخرها بينها وبين مصر مقدار ثلاثة فراسخ كذا قاله ابن خلكان.
وحكى: عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: كان بأرض اليمامة رجل من ربيعة يقال له جحدر بن مالك العجلي، وكان شاعراً فحلا فاتكاً قد أمر على أهل حجر وما يليها. فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامله على اليمامة يوبخه ويلومه على تغلب جحدر في ولايته ويأمر بالتجرد في طلبه والبعث به إليه، إن ظفر به. فلما أتى العامل كتابه دس إليه فتية من قومه، ووعدهم أن يوفدهم معهم، فمكثوا لذلك أياماً حتى إذا أصابوا منه غرة شدوا عليه فأوثقوه. وقدموا به على العامل. فبعث به إلى الحجاج فلما جاوزوا بجحدر حجراً أنشأ يقول: لقد ما هاجني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تغردان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غصنين من غرب وبان
فقلت لصاحبي وكنت أحزو ... ببعض القول ماذا تحزوان
فقالا: الدار جامعة قريباً ... فقلت وأنتما متمنيان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
إذا جاوزتما نخلات حجر ... وأندية اليمامة فانعياني
وقولا جحدر أمسى رهيناً ... يعالج وقع مصقول يماني
كذا المغرور بالدنيا سيردى ... وتهلكه المطامع والأماني
فلما قدم به على الحجاج، قال له: أنت جحدر؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير. قال: فما حملك على ما صنعت؟ قال: جرادة الجنان، وكلب الزمان، وجفوة السلطان. قال: وما الذي بلغ من أمرك فيجرأ جنانك، ويكلب زمانك ويجفوك سلطانك؟ قال: لو بلاني الأمير لوجدني من صالح الأعوان، وأهم الفرسان، وأما جرادة جناني فإني لم ألق فارساً قط، إلا كنت عليه في نفسي مقتدراً، فقال له الحجاج بن يوسف: إنا قاذفون بك في جب ليث، فإن هو قتلك كفانا مؤنتك، وإن أنت قتلته خلينا عنك وأحسنا جائزتك! قال: نعم، أصلح لله الأمير قربت المحنة، وأعظمت المنة، أنت أهل ذلك، إذا شئت فأمر به. فقيد وحبس.

وكتب إلى عامله على كسكر يأمره بالبعثة إليه بأسد ضار، فبعث إليه بأسد قد أضر بأهل كسكر، في صندوق يجره ثوران، فلما قدم به على الحجاج، أمر به فأدخل في جب وسد بابه وجوعه ثلاثة أيام، ثم أتى بجحدر وأمكن من سيف قاطع، وجلس الحجاج والناس ينظرون إليهما فلما نظر الأسد إلى جحدر، وقد أقبل ومعه السيف يرسف في قيوده، تهيأ وتمطى فأنشد جحدر يقول:
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف وفتك
وسورة في وصلة ومحك ... أن يكشف الله قناع الشك
من ظفري بحاجتي ودركي ... فذاك أحرى منزل بترك
فوثب إليه الأسد وثبة شديدة فتلقاه جحدر بالسيف، فضرب هامته ففلقها حتى خالط ذباب السيف لهواته، وتخضبت ثيابه من دمه، فوثب وهو يقول:
يا جمل إنك لو رأيت كريهتي ... في يوم هيج مسدف وعجاج
وتقدمي لليث أرسف موثقاً ... كيما أكابره على الإحراج
جهم كأن جبينه لما بدا ... طبق الرحا متعجر الأثباج
يسمو بناظرتين تحسب فيهما ... لما أجالهما شعاع سراج
فكأنما خيطت عليه عباءة ... برقاء أو قطع من الديباج
قرنان مختصران قد مخضتهما ... أم المنية غير ذات نتاج
ففلقت هامته فخر كأنه ... أطم تساقط مائل الأبراج
ثم انثنيت وفي ثيابي شاهد ... مما جرى من شاخب الأوداج
أيقنت أني ذو حفاظ ماجد ... من نسل أملاك ذوي ألواج
مما يغار على النساء حفيظة ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
فقال له الحجاج: يا جحدر إن أحببت المقام معنا فأقم، وإن أحببت الانصراف إلى بلادك فانصرف. فقال: بل أختار صحبة الأمير والكينونة معه، ففرض له في شرف العطاء، وأقام ببابه فكان من خواص أصحابه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء في الهزبر ما قاله بشر بن أبي عوانة، لما قتل الأسد، وقد أحسن إبراهيم بن محمد المغربي رحمه الله حيث قال:
حملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكثير العصائبا
وليل رجونا أن يهب عذاره ... فما اختط حتى صار بالفجر شائبا
الليل: ولد الكروان، قالوا: فلان أجبن من ليل. وقال ابن فارس، في المجمل: يقال إن بعض الطير يسمى ليلا، ولا أعرفه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في حرف النون أن النهار ولد الحبارى والله أعلم.

باب الميم
مارية: بتشديد المثناة التحتية القطاة الملساء، وبالتخفيف البقرة الوحشية. وأما قولهم : خذه ولو بقرطي مارية. فهي مارية بنت ظالم بن وهب. وقيل: أم ولد جفنة. قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يقال إنها أهدت إلى الكعبة قرطيها، وعليهما درتان كبيضتي الحمام، لم ير الناس مثلهما، ولم يدروا قدرهما ولا قيمتها. يضرب في الشيء الثمين، أي لا يفوتنك بأي ثمن يكون. وسيأتي إن شاء الله تعالى، بعد هذا بأوراق يسيرة، في ترجمة المقوقس، ذكر مارية القبطية، أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وقريبها مابور.
المازور: طائر مبارك ببحر المغرب، يتيامن به أصحاب السفن، يبيض عند سكون البحر، على السواحل، فإذا رأوا بيضه، عرفوا أن البحر قد سكن. وهذا الطائر إذا كانت السفن قريبة من مكان مخوف، أو دابة مضرة يأتي فيطير أمام المركب، فيصعد وينزل كأنه يخبرهم حتى يدبروا أمرهم، والملاحون يعرفونه. ذكره في تحفة الغرائب.
الماشية: الإبل والبقر والغنم، والجمع المواشي، سميت ماشية لرعيها وهي تمشي، وقيل لكثرة نسلها، يقال أمشى الرجل، إذا كثرت ماشيته، وفيه يقول الشاعر:
وكل فتى وإن أثرى وأمشى ... ستخلفه عن الدنيا المنون
روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: " لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء " . وفي سنن أبي داود والترمذي، عن الحسن عن سمرة بن جنب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثاً، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل " . قال الترمذي: حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم، وبه قال أحمد وإسحاق وقال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينقل طعامه، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " .
ومن أحكام الماشية أنها إذا أفسدت زرعاً لغير مالكها، ولم يكن معها، فإن كان ذلك بالنهار لم يضمن، وإن كان بالليل ضمن، لما روى أبو داود وغيره عن حرام بن سعيد ابن محيصة، قال: إن ناقة للبراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، دخلت حائط قوم فأفسدت، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار، وعلى أهل المواشي ما أصابته مواشيهم بالليل. وقد تقدم في الغنم فرع له تعلق بهذا.
تذنيب: إذا اشترك أهل الزكاة في ماشية زكوا زكاة الرجل الواحد، فلو كان أحدهم كافراً أو مكاتباً، فلا أثر لخلطته وهي تسمى خلطة ملك، وخلطة أعيان وخلطة اشتراك، وإذا خلطا مجاورة فكذلك الحكم لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة " . ورواه البخاري ويشترط في هذه أن لا تتميز في المشرع والمسرح والمراح، وهو موضع الحلب بفتح اللام. وكذا الراعي والفحل على الصحيح، ولا تشترط النية على الصحيح، لأن خفة المؤنة واتحاد المرافق لا يختلف بالقصد وعدمه، والله تعالى أعلم.
مالك الحزين: قال الجوهري: إنه من طير الماء، وقال ابن بري، في حواشيه إنه البلشون.
قال: وهو طائر طويل العنق والرجلين انتهى.
قال الجاحظ: من أعاجيب الدنيا أمر مالك الحزين لأنه لا يزال يقعد بقرب المياه، ومواضع نبعها من الأنهار وغيرها، فإذا نشفت يحزن على ذهابها، ويبقى حزيناً كئيباً، وربما ترك الشرب حتى يموت عطشاً، خوفاً من زيادة نقصها بشربه منها. قال: وقريب من هذا دودة تضيء بالليل كضوء الشمع، وتطير بالنهار فيرى لها أجنحة، وهي خضراء ملساء غذاؤها التراب، لم تشبع منه قط، خوفاً أن يفنى تراب الأرض فتهلك جوعاً. قال: وفيها خواص كثيرة ومنافع واسعة.
وهذا الطائر لما كان يقعد عند المياه التي انقطعت عن الجري، وصارت مخزونة، سمي مالكاً، ولما كان يحزن على ذهابها سمي بالحزين، وهو عطف بيان لمالك، كما يقال: أبو حفص عمر. وقال التوحيدي، في كتاب الامتناع والمؤانسة: مالك الحزين ينشل الحيتان من الماء فيأكلها، وهي طعامه، وهو لا يحسن السباحة، فإن أخطأه الانتشال، وجاع طرح نفسه على شاطئ البحر وفي بعض ضحضاحاته، فإذا اجتمع إليه السمك الصغار، أسرع إلى خطف ما استطاع منها. ولا يحتاج إلى تزاوج ولا سفاد.
وحكمه: حل الأكل.
ومن خواصه: أن لحمه غليظ بارد يولد إدمان أكله البواسير، وقد تقدم في خطبة الكتاب، أن ضبط هذا كان من جملة الأسباب الباعثة على تأليفه، خوفاً من تصحيف لفظه. وتحريفه، والله تعالى الموفق.
المتردية: هي التي وقعت في بئر، أو من مكان عال فماتت، ولا فرق بين أن تقع بنفسها أو بسبب آخر، فإنها متردية.
وحكمها: تحريم الأكل بالإجماع.
المجثمة: بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة، هي التي تلقى على الأرض مربوطة، وتترك حتى تموت. قال القزويني: الجثوم للطير والناس بمنزلة البروك للبعير، ومنه قوله تعالى: " جاثمين " أي بعضهم على بعض، وجاثمين باركين على الركب أيضاً، روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: " نهى عن الجلالة، وعن المجثمة، وعن الخطفة " .
المثا: الفراش وقد تقدم ما فيه في باب الفاء.
المربح: طائر من طير الماء قبيح الهيئة، قاله ابن سيده.

المرء: الرجل تقول هذا مرء صالح، ورأيت مرءاً صالحاً، ومررت بمرء صالح، ولا يجمع على لفظه. وبعضهم يقول: المرؤون، وربما سموا الذئب مرءاً. وذكر يونس أن قول الشاعر: وأنت امرء تعدو على كل غرة فتخطئ فيها تارة وتصيب يعني به الذئب، والله تعالى أعلم.
المرزم: من طير الماء طويل الرجلين والعنق، أعوج المنقار في أطراف جناحيه سواد، أكثر أكله السمك.
وحكمه: حل الأكل.
المرعة: بضم الميم وفتح الراء والعين المهملتين، كالهمزة. طائر حسن اللون، طيب الطعم، على قدر السماني، وجمعها مرع بضم الميم وفتح الراء. قاله ثعلب وابن السكيت وهي تشبه الدراجة.
وحكمها: حل الأكل.
الخواص: قال ابن زاهر: إذا شق جوفها، ووضع على الشوك والنصل الغائص في اللحم أخرجه من غير مشقة.
مسهر: قال هرمس: إنه طائر لا ينام الليل كله، وهو في النهار يطلب معاشه وله في الليل صوت حسن يكرره ويرجعه يلتذ به كل من يسمعه، ولا يشتهي النوم سامعه من لذة سماعه. ومن خواصه: أنه إذا جفف دماغه في ظل، وأخذ منه وزن درهم، وسعط به إنسان مع دهن اللوز، لا ينام أصلا، ويصيبه من الكرب أمر عظيم، حتى يظنه من يراه أنه شارب خمر ومن أمسك رأس هذا الطائر في يده أو علقه عليه، أذهب الوحشة والوسواس عنه، وأورثه من الطرب ما يخرجه إلى حد الرعانة.
المطية: الناقة التي يركب مطاها، أي ظهرها. وجمعها مطايا ومطي. وقال الجوهري: المطي واحد وجمع يذكر ويؤنث، والمطايا فعالى، وأصله فعائل، إلا أنه فعل به ما فعل بخطايا. قال أبو العميثل: المطية تذكر وتؤنث، ولما رأى الشيخ أبو الفضل الجوهري مدينة النبي صلى الله عليه وسلم أنشد يقول:
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري ... قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام
قد زورتنا خير من وطئ الثرى ... فلها علينا حرمة وذمام
الذمام بالذال المعجمة: الحرمة. وقال السهيلي، في غزوة مؤتة:
وإذا المطي بنا بلغن محمداً
هو من شعر أبي نواس، قال: وقد أحسن في ذلك، وقد أساء الشماخ حيث قال:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وعرابة هذا رجل من الأنصار، وكان من الأجواد. قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: رأيت رجلا طائفاً بالبيت الحرام حاملا أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر
وذكر ابن خلكان وغيره، أن أمدح بيت قالته العرب، قول جرير لعبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأنور العالمين بطون راح
وأهجى بيت قالته العرب قول الأخطل يهجو جريراً:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار
وأحكم بيت قالته العرب قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وأحمق بيت قالته العرب، قول القائل، وهو الأعشى أبو محجن الثقفي:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وروى في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه، أنه قال لابن أبي محجن الثقفي: أبوك الذي يقول إذا مت فادفني، البيتين فقال: أبي الذي يقول:
وقد أجود وما مالي بذي قنع ... وأكتم السر فيه ضربة العنق
وأغزل بيت قالته العرب. قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم تحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا

فائدة: روى الطبراني في الدعوات، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الجنة وبها ينجو من النار " . وقال علي رضي الله تعالى عنه: لا تسبوا الدنيا ففيها تصلون، وفيها تصومون، وفيها تعملون، فإن قيل: كيف يجمع بين هذا، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً " . فالجواب ما قاله شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، في آخر الفتاوى الموصيلة: إن الدنيا التي لعنت هي المحرمة التي أخذت بغير حقها أو صرفت إلى غير مستحقها وقد تقدم في باب الباء الموحدة في ذكر البعوض، ما قاله الشيخ أبو العباس القرطبي في ذلك وهو حسن فراجعه.
وفي الحديث: " بئس مطية الرجل زعموا " شبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه، ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه. وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم من الحديث ما هذا سبيله.
وفي الكشاف وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " زعموا مطية الكذب " . وقال ابن عمر وشريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. قال ابن عطية: ولا يوجد زعم مستعملة في فصيح الكلام، إلا عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله، وتبقى عهدته على الزاعم، ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم، وقول سيبويه زعم الخليل كذا إنما يجيء فيما تفرد الخليل به.
تتمة: قال شيخ الإسلام النووي: روينا بالإسناد الصحيح، في جامع الترمذي وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة " . قال الترمذي: حديث حسن. قال: وقد روي عن سفيان ابن عيينة أنه قال: هو مالك بن أنس انتهى.
والحديث المذكور رواه النسائي والحاكم، في أوائل المستدرك من حديث ابن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يوشك أن تضربوا أكباد الإبل فلا تجدوا عالماً أعلم من عالم المدينة " ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه انتهى.
قلت: إنما لم يخرجه مسلم لأنه سأل البخاري عنه فقال: له علة وهي أن أبا الزبير، لم يسمع من أبي صالح، ولما روى النسائي، في السنن الكبرى هذا الحديث، من رواية ابن عيينة، عن ابن جريج عن أبي الزناد، عن أبي هريرة عقبه بقوله: هذا خطأ. والصواب عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة وقيل: عالم المدينة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري المدني الزاهد، روى عنه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما. وكان من أزهد أهل زمانه وأشدهم تخلياً للعبادة. وروي أن الرشيد قال: والله إني أريد الحج كل سنة، ما يمنعني من ذلك إلا رجل من ولد عمر رضي الله عنه يسمعني ما أكره يعني العمري. توفي العمري سنة أربع وثمانين ومائة بعد مالك بنحو ست سنين وهو ابن ست وستين سنة.
قال عمر بن شبة: حدثنا أبو يحيى الزهري، قال: قال عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته: بنعمة ربي أحدث، لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي، لا يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها ما أزلتها، وكتب العمري إلى مالك وابن أبي ذئب وابن دينار وغيرهم بكتب، أغلظ لهم فيها، فجاوبه مالك جواب فقيه. قال ابن عبد البر، في التمهيد: كتب العمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، ويرغبه به عن الاجتماع عليه في العلم، فكتب إليه مالك أن الله عز وجل قسم الأعمال، كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم الله له والسلام.

وفي الإحياء، في الباب السادس من أبواب العلم، يحكى أن يحيى بن يزيد النوفلي، كتب إلى مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد في الأولين والآخرين من يحيى بن يزيد إلى مالك بن أنس، أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الرقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطاء، وتجعل على بابك حجاباً، وقد جلست مجلس العلم، وضربت إليك آباط المطي، وارتحل إليك الناس، فاتخذوك إماماً ورضوا بقولك، فاتق الله يا مالك، وعليك بالتواضع. كتبت إليك بالنصيحة مني كتاباً، ما اطلع عليه إلا الله والسلام.
فكتب إليه مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد، سلام عليك أما بعد فقد وصل إلي كتابك، فوقع مني موقع النصيحة من المشفق، أمتعك الله بالتقوى، وجزاك وخولك بالنصيحة خيراً، وسأل الله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما ما ذكرت، من أني آكل الرقاق وألبس الرقاق وأجلس على الوطاء، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، وقد قال سبحانه: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " وإني لا أعلم أن ترك ذلك، خير من الدخول فيه، فلا تدعنا من كتابك فإنا ليس ندعك من كتابنا والسلام. وفيه أيضاً وروي أن الرشيد أعطاه ثلاثة آلاف دينار فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق، قال لمالك: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن. فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إلى ذلك سبيل، فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " اختلاف أمتي رحمة " وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال صلى الله عليه وسلم: " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " . وقال صلى الله عليه وسلم: " المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد " . وهذه دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها. يعني إنما تكلفني الخروج معك، ومفارقة المدينة بما اصطنعته لدي. فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذ يدل على زهده في الدنيا رحمه الله تعالى.
وفيه أيضاً أن الشافعي رحمه الله، قال: شهدت مالكاً رحمه الله وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة؛ فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري وهذا يدل على أنه كان يريد بعلمه وجه الله تعالى، فإن من يريد غير وجه الله بعلمه لا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري. ولذلك قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك البحر، وما أحد أمن علي من مالك.
وقيل: إن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره، ثم دس عليه من سأله؛ فروى عن ملأ من الناس: ليس على مكره طلاق. فضربه بالسياط. فانظر كيف اختار ضرب السياط، ولم يترك رواية الحديث.
وفي الحلية أن الشافعي رحمه الله، قال: قالت لي عمتي، ونحن بمكة: رأيت في هذه الليلة عجباً! فقلت لها: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قائلا يقول لي: مات الليلة أعلم أهل الأرض. قال الشافعي: فحسبنا ذلك فإذا هي ليلة مات مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا أقدم على مالك أحداً. وكان مالك يقول: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير، لم يكن للناس فيه خير. وفي الحلية أيضاً، قال مالك: ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
وكان مالك رحمه الله إماماً عالماً عابداً زاهداً ورعاً عارفاً بالله تعالى، وكان مبالغاً في تعظيم علم الدين، لا سيما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته وتمكن في الجلوس على وقار وهيبة، ثم حدث. فقيل له في ذلك، فقال: إني أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يقول: العلم نور يجعله الله حيث شاء، وليس هو بكثرة الرواية وقد مدحه بعض العلماء فقال:
يدع الكلام فلا يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
سيما الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
توفي الإمام مالك رحمه الله تعالى، في سنة تسع وسبعين ومائة.

المعراج: دابة عظيمة عجيبة مثل الأرنب صفراء اللون، على رأسها قرن واحد أسود، لم يرها شيء من السباع والدواب إلا هرب. ذكرها القزويني في جزائر البحار.
المعز: بفتح الميم والعين المهملة وتسكينها لغتان: نوع من الغنم خلاف الضأن وهي ذوات الشعور والأذناب القصار، وهو اسم جنس وكذلك المعيز والأمعوز والمعزى وواحد المعز ماعز، مثل صاحب وصحب، وتاجر وتجر، والأنثى ماعزة والجمع مواعز. وأمعز القوم كثرت معزاهم. وكنيتها أم السخال. وفي حديث علي رضي الله عنه: وأنتم تنفرون منه نفور المعزى من وعوعة الأسد أي صوته، ووعوعة الناس ضجتهم.
وروى البزار وابن قانع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحسنوا إلى المعزى، وأميطوا عنها الأذى، فإنها من دواب الجنة " .
وفي الحديث: " استوصوا بالمعزى خيراً فإنه مال رقيق، وأنقوا عطنه " . أي نقوا مرابضها مما يؤذيها من حجارة وشوك وغير ذلك، وهي مع ذلك موصوفة بالحمق، وتفضل على الضأن بغزارة اللبن وثخانة الجلد، وما نقص من ألية المعز، زاد في شحمه، ولذلك قالوا: ألية المعز في بطنه. ولما خلق الله تعالى جلد الضأن رقيقاً غزر صوفه، ولما خلق جلد المعز ثخيناً قلل شعره، فسبحان اللطيف الخبير.
الخواص: لحمه يورث الهم والنسيان، ويولد البلغم، ويحرك السوداء، لكنه نافع جداً لمن به الدماميل، وقرن المعز الأبيض يسحق ويشد في خرقة ويجعل تحت رأس النائم، فإنه لا ينتبه ما دام تحت رأسه. ومرارة التيس تخلط بمرارة البقر، وتلطخ بها فتيلة، وتجعل في الأذن تزيل الطرش وتمنع نزول الماء. وإذا اكتحل بمرارة التيس بعد نتف الشعر الذي في باطن الجفن منع من انباته، ويمنع أيضاً من الغشاوة اكتحالا، ومن العشا ويقلع اللحمة الزائدة التي يقال لها التوتة، وينفع طلاء من الورم الذي يقال له داء الفيل. وأكل مخه يورث الهم والنسيان ويحرك السوداء. قال الرئيس ابن سينا: بعر المعزى يحلل الخنازير بقوة فيه، وإذا احتملته المرأة بصوفة منع سيلان الدم من الفرج ويقطع النزيف.
ابن مقرض: بضم الميم وكسر الراء وبالضاد المعجمة، دويبة كحلاء اللون، طويلة الظهر ذات قوائم أربع أصغر من الفأر، تقتل الحمام وتقرض الثياب، ولذلك قالوا: ابن مقرض.
الحكم: حكى الرافعي في حله الوجهين، في ابن عرس وقال: إنه الدلق، قال في المهمات: الصحيح على ما يقتضيه كلام الرافعي الحل. وقد وقعت المسألة في الحاوي الصغير، على الصواب فأباح ابن مقرض وحرم ابن عرس. وقد تقدم في باب الدال المهملة الكلام على الدلق مستوفى، والله الموفق.
المقوقس: طائر معروف مطوق سواده في البياض، كالحمام وهو لقب لجريج بن مينا القبطي ملك مصر، وكان من قبل هرقل، ويقال: إن هرقل عزله لما رأى ميله إلى الإسلام. وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً يقال له الزاز، وبغلته الدلدل، وحماراً أو غلاماً خصياً اسمه مابور. وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غلطاً في ذلك فإنه لم يسلم ومات على نصرانيته. ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. ومابور المذكور كان ابن عم مارية القبطية، وكان يأوي إليها فقال الناس: علج يدخل على علجة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث علياً ليقتله، فقال: يا رسول الله أقتله أم أرى رأي فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " بل ترى رأيك فيه " فلما رأى الخصي علياً، ورأى السيف في يده، تكشف فإذا هو مجبوب ممسوح فرجع علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب " .
وروى مسلم في آخر باب التوبة، بعد حديث الإفك عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن رجلا كان متهماً بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " اذهب فاضرب عنقه " . فأتاه علي فإذا هو على ركى يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب.

والذي رواه الطبراني، في هذه القصة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية القبطية أم ولده إبراهيم، وهي حامل به فوجد عندها نسيباً لها، كان قد قدم معها من مصر فأسلم وحسن إسلامه، وكان يدخل عليها وأنه رضي من مكانه من أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجب نفسه فقطع ما بين رجليه، حتى لم يبق لنفسه قليلا ولا كثيراً فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أم ولده إبراهيم، فوجد قريبها عندها، فوقع في نفسه من ذلك شيء كما يقع في أنفس الناس، فرجع متغير اللون، فلقي عمر رضي الله تعالى عنه، فأخبره بما وقع في نفسه من قريب أم إبراهيم، فأخذ عمر رضي الله تعالى عنه السيف، وأقبل يسعى حتى دخل على مارية فوجد قريبها ذلك، عندها فأهوى إليه بالسيف ليقتله، فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه، فلما رأى ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبرك يا عمر أن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاماً مني وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم وكناني بأبي إبراهيم، ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها، لتكنيت بأبي إبراهيم كما كناني جبريل " . ثم مات الخصي في زمن عمر فجمع الناس لشهود جنازته وصلى عليه عمر ودفن بالبقيع.
وأهدى المقوقس أيضاً للنبي صلى الله عليه وسلم قدحاً من قوارير، كان صلى الله عليه وسلم يشرب فيه، وثياباً من قباطي مصر ومطرفاً من مطرفاتهم، وطرفاً من طرفهم، وألف مثقال ذهباً وعسلا من عسل بنها. فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم العسل ودعا في عسلها بالبركة.
ووصلت الهدايا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع وقيل سنة ثمان. وهلك المقوقس في ولاية عمرو بن العاص ودفن في كنيسة أبي يحنس على نصرانيته. وكان الرسول إليه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن بلتعة رضي الله تعالى عنه الذي شهد له بالإيمان، وكان حاطب عاقلا لبيباً حازماً لا يخدع، باع بعض أصحابه بيعة غبن فيها لغيبة حاطب فقال " صفقة لم يحضرها حاطب " ، فضرب ذلك مثلا في شراء كل صفقة ربح بائعها.
قال حاطب: لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، جئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلني في منزله، وأقمت عنده ليالي، ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، فقال: إني سأكلمك بكلام أحب أن تفهمه مني. قال: فقلت: هلم. فقال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبياً؟ قال: قلت: بلى. قال: هو رسول الله؟ قلت: بلى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما باله، حيث كان هكذا لم يدع على قومه، لما أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ فقلت له: فعيسى ابن مريم أتشهد أنه رسول الله؟ قال: كذا. قلت: فما باله، حيث أخذه قومه، وأرادوا صلبه، لم يدع عليهم بأن يهلكهم الله، بل رفعه الله إليه في سماء الدنيا. قال: أحسنت أنت حكيم من حكيم.
المكاء: بضم الميم وبالمد والتشديد طائر يصوت في الرياض، يسمى مكاء لأنه يمكو أي يصفر كثيراً ووزنه فعال كخطاف. والأصوات في الأكثر تأتي على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والرغاء والنباح والجؤار ونحوه. وجمعه المكاكي وهذا الطائر يصفر ويصوت كثيراً. قال البغوي في تفسير المكاء: الصفير وهو في اللغة اسم طائر أبيض يكون بالحجاز له صفير، وقال ابن السكيت في إصلاح المنطق: يقال: مكا الطائر ومكا الرجل يمكو مكواً، إذا جمع يديه وصفر فيهما، وكأنهم اشتقوا له هذا الاسم من الصياح. وجمعه المكاكي والمكاء الصفير قال الله تعالى: " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " أي صفيراً أو تصفيقاً. وقال ابن قتيبة: المكاء الصفير أي بالتخفيف والمكاء بالتشديد طائر يصفر في الرياض ويمكو أي يصفر. قال الشاعر:
إذا غزد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات
قال البطليوسي في الشرح: إن المكاء إنما يألف الرياض فإذا غرد في غير روضة، فإنما يكون ذلك لإفراط الجدب وعدم النبات، وعند ذلك يهلك الشاء والحمير، فالوبل لمن لم يكن له مال غيرهما.

والحمرات في البيت: جمع حمر بضم الميم، وحمر جمع حمار بمنزلة كتاب وكتب. ويجوز أن يكون جمع حمير كقضيب وقضب. وقولهم: حمير ليس بجمع ولكنه اسم للجمع، بمنزلة العبيد والكتيب قال ابن عطية: والذي مر بي، من أمر العرب، في غير ما ديوان، أن المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديماً قبل الإسلام، على جهة التقرب به والتشرع. قال: ورأيت عن بعض أقوياء العرب، أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من حراء وبينهما أربعة أميال. انتهى. وكذلك كان مخرمة بن قيس بن عبد مناف يصفر عند البيت فيسمع من حراء، وكان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون.
وقال القزويني: المكاء من طير البادية يتخذ أفحوصاً عجيباً، وبينه وبين الحية عداوة، فأن الحية تأكل بيضه وفراخه. وحدث هشام بن سالم أن حية أكلت بيض مكاء، فجعل المكاء يشرشر أي يرفرف على رأسها ويدنو منها، حتى إذا فتحت فاها ألقى في فيها حسكة فأخذت بحلق الحية فماتت.
المكلفة: طائر، قال الجاحظ: لما كانت العقاب سيئة الخلق تبيض ثلاث بيضات، فتخرج فراخها فتلقى واحداً منها، فيأخذه هذا الطائر الذي يتكلف به قيل له: المكلفة ويسمى كاسر العظام، فيربيه كما تقدم.
واختلفوا في سبب فعل العقاب ذلك، فقال بعضهم: لأنها لا تحضن إلا بيضتين، وقال بعضهم: بل تحضن الثلاثة، لكنها ترمي بفرخ من فراخها استثقالا للكسب على الثلاثة. وقال آخرون: ليس كذلك إلا لما يعتريها من الضعف عن الصيد كما يعتري النفساء من الوهن. وقيل: لأنها سيئة الخلق كما تقدم. ولا يستعان على تربية الولد إلا بالصبر. وقيل: لأنها كثيرة الشره وإذا لم تكن أم الفراخ تؤثر أولادها على نفسها ضاعت أولادها. قال هؤلاء: والفرخ الذي ترمي العقاب به من الثلاثة، يحضنه طائر يقال له المكلفة ويسمونه كاسر العظام أيضاً، فيربيه كما تقدم والله تعالى أعلم.
الملكة: كالسمكة حية طولها شي أو أكثر، على رأسها خطوط بيض تشبه التاج، فإذا انسابت على الأرض، أحرقت كل شيء مرت عليه، وإن طار طائر فوقها سقط عليها، وإذا بدت تنساب هرب من بين يديها جميع الدواب. ومن أكل تلك الحية من السباع أو غيرها مات. وهي قليلة الظهور للناس.
ومن خواصها الغريبة أن من قتلها فقد حاسة الشم في الحال، ولا يمكن بعد ذلك علاجه. المنارة: سمكة تخرج من البحر، على شكل المنارة، فترمي بنفسها على السفينة فتكسرها وتغرق أهلها، فإذا أحس الناس بها ضربوا بالطسوس والبوقات لتبعد عنهم، وهي محنة عظيمة في البحر. قاله أبو حامد الأندلسي.
المنخنقة: هي البهيمة المأكولة تنخنق بحبل حتى تموت، وكانت العرب تفعله حرصاً على الدم، لأن العرب كانوا يأكلون الدم، ويسمونه الفصيد، ويقولون: إن اللحم دم جامد. فحرم الله تعالى المنخنقة لما ينحبس فيها من الدم، قال الرافعي: ويستثنى من المنخنقة الجنين فإنه مات بقطع النفس عنه وهو حلال.
فرع: لو ذبح بهيمة وقطع أوداجها، ثم خنقها ومنع خروج الدم حتى ماتت بقطع النفس، فيحتمل حلها، لأنها لما قطعت أوداجها حصلت الذكاة الشرعية، ولا أثر لحبس الدم كما لا أثر له في مصيد الجوارح إذا مات الصيد بالمثقل، ولم تدرك ذكاته أو رماه بسهم فمات، فإنه حلال وإن انحبس فيه الدم، ويحتمل التحريم، وهو ما أجاب به شيخنا الأسنوي رحمه الله تعالى، لأن الحكمة في الذكاة خروج الدم ولم يوجد، فأشبهت المنخنقة. وبالقياس على ما لو خنقها أولا ثم أسرع فقطع الأوداج والحياة مستقرة، ثم ماتت بقطع النفس. والفرق بين هذا، وبين مصيد الجوارح أن الذبح هناك غير مقدور عليه، فانتفت حكمته لعدم القدرة عليه والقدرة هاهنا موجودة فافترق البابان، ولأنا لو قلنا بحلها لم يكن لتحريم الخنق معنى، لأنه يمكن التوصل إليه بهذا الطريق والله أعلم.

المنشار: سمكة في بحر الزنج كالجبل العظيم من رأسها إلى ذنبها مثل أسنان المنشار من عظام سود، كالأبنوس كل سن منها كذراعين وعند رأسها عظمان طويلان، كل عظم مقدار عشرة أذرع، تضرب بالعظمين ماء البحر يميناً وشمالا، فيسمع له صوت هائل، ويخرج الماء من فيها وأنفها فيصعد نحو السماء، ثم يعود إلى المركب رشاشه كالمطر. وإذا دخلت تحت سفينة كسرتها، فإذا رآها أهل السفن ضجوا إلى الله تعالى، حتى يدفعها عنهم. كذا ذكره، في عجائب المخلوقات، وهي داخلة في عموم السمك والله أعلم.
الموقوذة: قال الزجاج: هي التي تقتل ضرباً، يقال: وقذتها أقذها وقذاً، وأوقذتها أوقذها إيقاذاً إذا أثخنتها ضرباً انتهى. قال الفرزدق يهجو جريراً:
كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت علي عشاري
سعارة تقذ الفصيل برجلها ... فطارة لقوادم الأبكار
قوله: فدعاء هي التي أصابها الفدع، وهو ورم في القدم، والعشار: النوق، واحدها عشراء وهي التي مضى عليها تسعة أشهر، وطعنت في العاشر، وهي حامل. وقوله: تقذ الفصيل أي تضربه إذا دنا منها عند الحلب، وفطارة مأخوذ من الفطر، وهو الحلب بأطراف الأصابع، فإن كان بجميع الأصابع فهو الصب، وهو إنما يكون في الكبار من النوق، وأما الصغار من النوق فإنما تحلب بأطراف الأصابع، لصغر ضروعها. وفي معنى الموقوذة ما يرمى من الطير بالسهام التي لا نصل لها أو بحجر ونحوه فتموت. وقد سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن الطير يموت بالبندقة، فقال: هو وقيذ. قلت: الظاهر عدم جواز رمي الطير بالبندق، إذا علم أنه يقتل غالباً، وكذلك الطومار والحجر لأنه من باب اتلاف الحيوان لغير منفعة والله تعالى أعلم.
الموق: بالضم نمل له أجنحة وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في النمل في باب النون.
المول: العنكبوت الواحدة مولة، وأنشدوا:
حاملة ذلول لا محموله ... ملأى من الماء كعين الموله
المها: بالفتح جمع مهاة، وهي البقرة الوحشية والجمع مهوات، وقيل: المها نوع من البقر الوحشي إذا حملت الأنثى من المها هربت من البقر، ومن طبعها الشبق، والذكر لفرط شهوته يركب ذكراً آخر، وهي أشبه بالمعز الأهلية، وقرونها صلاب جداً، وبها يضرب المثل في سمن المرأة وجمالها قال الشاعر:
خليلي إن قالت بثينة: ماله ... أتانا بلا وعد؟ فقولا لها: لها
سها وهو مشغول لعظم الذي به ... ومن بات طول الليل يرعى السها سها
بثينة تزري بالغزالة في الضحى ... إذا برزت لم تبق يوماً بها بها
لها مقلة نجلاء كحلاء خلقة ... كأن أباها الظبي أو أمها مها
دهتني بود قاتل وهو متلفي ... وكم قتلت بالود من ودها دها
فائدة: روى الطبراني، في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نزل الركن الأسود من السماء، فوضع على أبي قبيس، كأنه مهاة بيضاء، فمكث أربعين سنة، ثم وضع على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وروى في الأوسط والكبير أيضاً، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحجر الأسود من حجارة الجنة وما في الأرض من الجنة غيره وكان أبيض كالمهاة ولولا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برئ " . وفي إسناده محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام. وروى هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه، قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف بالبيت، إذا هو برجل يطوف، وعلى عنقه مثل المهاة، يعني حسناً وجمالا وهو يقول:
عدت لهذي جملا ذلولا ... موطأ أتبع السهولا
أعد لها بالكف أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلا جزيلا
فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: يا عبد الله من هذه التي وهبت لها حجك؟ قال: امرأتي يا أمير المؤمنين، وإنها لحمقاء مرغامة، أكول قمامة، لا تبقى لها خامة، فقال رضي الله تعالى عنه: ما لك لا تطلقها؟ قال: يا أمير المؤمنين إنها لحسناء لا تفرك، وأم صبيان لا تترك. قال: فشأنك بها.

وحكى الإمام أبو الفرج بن الجوزي، في كتاب الأذكياء، قال: قعد رجل على جسر بغداد فأقبلت امرأة من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري، وما وقفا ومرا مشرقاً ومغرباً، قال: فتبعت المرأة وقلت لها: إن لم تقولي لي ما قلتما فضحتك! فقالت: أراد قول علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت أنا قول أبي العلاء المعري:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
فتركتها وانصرفت.
وقد تقدم حكمها وأمثالها في باب الباء الموحدة في الكلام على البقر الوحشي.
الخواص: منها يطعم لصاحب القولني ينفعه نفعاً بيناً، ومن استصحب معه شعبة من قرن المهاة نفرت منه السباع، وإذا بخر بقرنه أو جلده في بيت نفرت منه الحيات، ورماد قرنه يذر على السن المتأكلة يسكن وجعها، وشعره إذا بخر به البيت هرب منه الفأر والخنافس، وإذا أحرق قرنه وجعل في طعام صاحب الحمى الربع، فإنها تزول عنه بإذن الله تعالى، وإذا شرب في شيء من الأشربة زاد في الباه، وقوى العصب، وزاد في الإنعاظ، وإذا نفخ في أنف الراعف قطع دمه، وإذا أحرق قرناه حتى يصيرا رماداً وديفا بخل، وطلي به موضع البرص مستقبل الشمس، فإنه يزول بإذن الله تعالى، وإذا استف منه مقدار مثقال، فإنه لا يخاصم أحداً إلا غلبه.
التعبير: المهاة في الرؤيا رجل رئيس كثير العبادة، معتزل عن الناس، ومن رأى عين المهاة، نال رياسة أو امرأة سمينة جميلة قصيرة العمر، ومن رأى رأسه تحول كرأس مهاة نال رياسة وغنيمة وولاية على ناس غرماء، ومن رأى كأنه مهاة فإنه يعتزل الجماعة، ويدخل في بدعة والله الموفق.
المهر: ولد الفرس والجمع أمهار ومهار ومهارة، والأنثى مهرة بالضم والجمع مهر ومهرات. قال الربيع بن زياد العبسي:
ومجنبات ما يذقن عذوفا ... يقذفن بالمهرات والأمهار
وقد أحسن مهيار الديلمي في وصف المهرة حيث قال:
قال لي العاذل: تسلو قلت: مه ... إن أسباب هواها محكمه
مهرة تسمع في السرج لها ... تحت من يعلو عليها حمحمه
وقيل لبعض الحكماء: أي المال أشرف؟ قال: فرس يتبعها فرس في بطنها فرس.
وقال الجوهري، في الحديث: " خير المال مهرة مأمورة، وسكة مأبورة " ، أي كثيرة النتاج والنسل. والسكة الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة الملقحة، ومعنى الكلام خير المال نتاج أو زرع، وملخص هذا أن الجوهري رحمه الله جعله في موضع حديثاً، وفي موضع من كلام الناس. كذا قاله الإمام الحافظ شرف الدين الدمياطي، في كتاب الخيل، في آخر الباب الأول. قلت: وهذا عجيب من الجوهري مع سعة حفظه، وغزارة علمه والصواب أنه حديث رواه أحمد والطبراني والله أعلم.
إشارة: كان أبو عبد الله محمد بن حسان البسري، من الأولياء ذوي الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، وأنه خرج للغزاة مرة، فبينما هو في فلاة من الأرض إذ مات مهره الذي كان يركبه، فقال: اللهم أعرنا إياه فقام المهر حياً بإذن الله تعالى، فلما وصل إلى بسر، أخذ السرج عنه فسقط ميتاً.
وكان رحمه الله، إذا كان شهر رمضان دخل بيتاً وقال لامرأته: طيني علي الباب وألقي إلي كل ليلة رغيفاً من الكوة، فإذا كان يوم العيد فتحت الباب ودخلت فتجد الثلاثين رغيفاً في زاوية البيت فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام رضي الله تعالى عنه.
وفي الأنساب لابن السمعاني، أن أبا عبد الله المذكور منسوب إلى بصرى، قرية من قرى الشام فأبدلت الصاد سيناً على قياس قولهم في السويق الصويق والسراط الصراط انتهى.
وقال ابن الأثير: هذا كله خطأ في النقل والنحو، أما النقل فإنه منسوب إلى بسر قرية معروفة، وأما النحو فإبدال الصاد سيناً ليس على إطلاقه إنما ذلك مع حروف معلومة، وقد ذكره الحافظ أبو القاسم بن عطاء الدمشقي، في تاريخ دمشق، وقال: إنه من قرية بسر وهذا هو الصواب والله تعالى أعلم.
قلت: والحروف التي تبدل معها السين صاداً هي: الحاء والطاء والعين والقاف بشرط أن تكون السين متقدمة وأحد هذه الحروف متأخراً والله تعالى أعلم.

ملاعب ظله: القرلي المتقدم ذكره، في باب القاف، وربما قيل له: خاطف ظله. قال الكميت:
وريطة فتيان كخاطف ظله ... جعلت لهم منها خباء ممددا
كذا قاله الجوهري. قال: قال ابن سلمة: هو طائر يقال له الرفراف، إذا رأى ظله في الماء أقبل إليه ليخطفه.
أبو مزينة: سمك في البحر على صورة الرجال، يقال إنهم يظهرون بالإسكندرية والبرلس ورشيد على صورة بني آدم بجلود لزجة وأجساد متشاكلة، لهم بكاء وعويل إذا وقعت في أيدي الناس، وذلك أنهم ربما برزوا من البحر إلى البر، يتمشون فيقع بهم الصيادون، فإذا بكوا رحموهم وأطلقوهم كذا ذكره القزويني.
ابنة المطر: قال في المرصع: إنها دويبة حمراء تظهر عقب المطر، فإذا نضب الثرى عنها ماتت.
أبو المليح: الصقر وحكمه، تقدم في باب الصاد المهملة.
ابن ماء: قال في المرصع: إنه نوع من طير الماء، ويجمع على بنات ماء، فإذا عرفته قلت: ابن الماء بخلاف ابن عرس وابن آوى، لأنه لا يقع على أنواع من طير الماء، ويطلق على كل ما يألف الماء من أجناس الطير، وذلك يدل كل واحد منها على جنس مخصوص والله أعلم.

باب النون
الناب: المسنة من النوق، والجمع النيب. وفي المثل: لا أفعل ذلك ما حنت النيب سميت بذلك لطول نابها، ولا يقال للجمل: ناب، وناب القوم سيدهم، قاله الجوهري.
الناس: جمع إنسان. قال الجوهري: والناس قد يكون من الإنس والجن، وقال كثير من المفسرين، في قوله تعالى: " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس " معناه أعجب من خلق المسيح الدجال، ولم يذكر المسيح الدجال في القرآن، إلا في هذه الآية على هذا القول. وقيل: ذكر في قوله تعالى " يوم يأتي بعض آيات ربك " ، والمشهور أنه طلوع الشمس من مغربها.
فرع: حلف لا يكلم الناس، حنث إذا كلم واحداً، كما لو قال: لا آكل الخبز، فإنه يحنث بما أكل منه، ولو حلف لا يكلم ناساً حمل على ثلاثة كذا صرح به الشيخان، وفاقاً لابن الصباغ وغيره. وقال الماوردي والروياني: إذا حلف على معدود في نفي أو إثبات كالنساء والمساكين، فإن كانت يمينه على الإثبات كقوله: لأكلمن الناس، ولأتصدقن على المساكين لم يبر إلا بثلاثة، اعتباراً بأقل الجمع. وإن كانت يمينه على النفي كقوله: لا أكلم الناس حنث بالواحد، اعتباراً بأقل العدد، وهو واحد، والرق أن نفي الجمع ممكن وإثبات الجمع متعذر، فاعتبر أقل الجمع في الإثبات وأقل العدد في النفي والله تعالى أعلم.
الناضح: البعير الذي يستقى عليه، سمي بذلك لأنه ينضح الماء، أي يصبه، والأنثى ناضحة وسانية والجمع نواضح. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أو عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه شك الأعمش قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " افعلوا " . فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك غنى. فقال صلى الله عليه وسلم: " نعم " . فدعا صلى الله عليه وسلم بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع شيء يسير. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: " خذوا في أوعيتكم " . فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا. وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني محمد رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة " .

وروى الحافظ أبو نعيم من طريق غيلان بن سلمة الثقفي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فرأينا منه عجباً، جاء رجل فقال: يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيشي وعيش عيالي، ولي فيه ناضحان فمنعا بي أنفسهما، وحائطي وما فيه، ولا أقدر على الدنو منهما، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى أتى الحائط، فقال لصاحبه: " افتح الباب " فقال: إن أمرهما عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم: " افتح الباب " فلما حرك الباب أقبلا ولهما جلبة، فلما انفرج الباب، نظرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبركا ثم سجدا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤوسهما ثم دفعهما إلى صاحبهما، وقال: " استعملهما وأحسن علفهما " . فقال القوم: تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا في السجود لك فقال صلى الله عليه وسلم: " إن السجود ليس إلا للحي الذي لا يموت، ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .
وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو بكر البيهقي، من حديث يعلى بن مرة، قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا مررنا بناضح يستقى عليه، فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه وخطامه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " أين صاحب هذا؟ " فجاءه فقال صلى الله عليه وسلم: " بعنيه " فقال: بل نهبه لك، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه شكا إلي كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه " وذكر نحوه الحاكم، في المستدرك، من طريق يعلى. وقال: صحيح ولم يخرجاه. وفي رواية: " إنه جاء وعيناه تذرفان " وفي رواية: " أنه سجد للنبي صلى الله عليه وسلم " ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون ما يقول زعم أنه خدم مواليه أربعين سنة " . وفي رواية: " عشرين سنة حتى كبر فنقصوا من علفه وزادوا في عمله حتى إذا كان لهم غرض أرادوا أن ينحروه غداً " . وفي رواية يعلى: " في طريق مكة " ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: " لا تنحروه وأحسنوا إليه حتى يأتي أجله " .
الناقة: الأنثى من الإبل، قال الجوهري: الناقة تقديرها فعلة بالتحريك، لأنها جمعت على نوق مثل بدنة وبدن، وخشبة وخشب، وفعلة بالتسكين لا تجمع على ذلك، وقد جمعت في القلة على أنوق. ثم استثقلوا الضمة على الواو فقدموها. فقالوا: أونق. حكاها يعقوب عن بعض الطائيين، ثم عوضوا من الواو ياء، فقالوا: أينق ثم جمعوها على أيانق. وقد تجمع الناقة على نياق مثل ثمرة وثمار إلا أن الواو صارت ياء لكسرة ما قبلها، وأنشد أبو زيد للقلاخ بن حزن:
أبعدكن الله من نياق ... إن لم تنجين من الوثاق
وبعير منوق أي مذلل مروض، وناقة منوقة.
وكنية الناقة أم بو وأم حائل وأم حوار وأم السقب وأم مسعود ويقال لها بنت الفحل وبنت الفلاة وبنت النحائب. روى الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في سفر، فلعن رجل ناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: " أين صاحب هذه الناقة؟ " فقال الرجل: أنا. فقال صلى الله عليه وسلم: " أخرها فقد أجبت فيها " .
وروى مسلم وأبو داود والنسائي، عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة " . قال عمران: فكأني أراها الآن ورقاء تمشي في الناس، ما يعرض لها أحد. وفي رواية: لا تصحبنا ناقة عليها لعنة الله. قال ابن حبان: إنما أمر صلى الله عليه وسلم بإرسالها، لأنه عليه السلام تحقق إجابة الدعوة فيها، فمتى علم استجابة الدعاء من لاعن ما أمرناه بإرسال دابته، ولا سبيل إلى علم هذا لانقطاع الوحي فلا يجوز استعمال هذا الفعل لأحد أبداً. وقيل: إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا زجراً لها ولغيرها. وقد كان سبق نهيها ونهي غيرها عن اللعن، فعوقبت بإرسال الناقة. والمراد النهي عن مصاحبته لتلك الناقة في الطريق.
وأما بيعها وذبحها وركوبها في غير تلك الطريق، وغير ذلك من التصرفات، التي كانت جائزة قبل هذا فهي باقية على الجواز، لأن النهي إنما ورد في المصاحبة، فيبقى الباقي كما كان. والورقاء بالمد التي يخالط بياضها سواد، والذكر أورق.

وقد ورد في النهي عن اللعن أحاديث، منها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " . وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً " . وفي رواية الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذي " .
وفي سنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، فتهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالا، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا لذلك نزلت عليه وإلا رجعت إلى قائلها " . وفي شعب البيهقي، أن عبد الله بن أبي الهذيل كان إذا لعن شاة لم يشرب من لبنها، وإذا لعن دجاجة لم يأكل من بيضها.
فائدة: وأما قوله تعالى: " ناقة الله " فهو إضافة خلق إلى خالق تشريفاً وتخصيصاً، قيل: إن صالحاً عليه الصلاة والسلام أتى بالناقة من قبل نفسه، وقال الجمهور: بل سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم آية من صخرة يقال لها الكائبة ناقة عشراء، فدعا الله فانشقت عن ناقة عظيمة، يروى أنها كانت حاملا، فولدت وهم ينظرون إليها سقباً قدرها، فعقرها قدار بن سالف، وهو أشقى الأولين. " تعاطى فعقر " أي قام على أطراف أصابع رجليه، ثم رفع يديه فضربها.
روي أن سيد ثمود جندع بن عمرو قال: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، لصخرة منفردة في ناحية الحجر، يقال لها الكائبة، ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء. فصلى صالح ركعتين، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، ثم تحركت فانصدعت عن ناقة مخترجة جوفاء وبراء وعشراء، كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها عظماً إلا الله تعالى، وهم ينظرون ثم نتجت سقباً مثالها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه. فقال لهم صالح عليه السلام: هذه ناقة الله لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم. فمكثت الناقة، ومعها سقبها في أرض ثمود، ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غباً، فإذا كان يوم شربها، وضعت رأسها في بئر في الحجر، يقال لها بئر الناقة لا ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها، فلا تدع فيها قطرة، ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم، فيحلبون منها ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدخرون ويملؤون أوانيهم كلها. ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه، لأنها لا تقدر أن تصدر من حيث جاءت. فإذا كان الغد كان يومهم، فيشربون من الماء ما شاؤوا، أو يدخرون ما شاؤوا فهم من ذلك في بر ودعة.
وكانت الناقة تصيف، إذا كان الحر، بظهر الوادي، فتهرب منها المواشي إلى بطن الوادي، في حره وجدبه، وتشتو إذا كان الشتاء ببطن الوادي، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب، فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم، وحملهم ذلك على عقر الناقة، فعقرها قدار بن سالف، وهو أشقى الأولين. وكان أحمر أزرق قصيراً ملتزق الخلق، واسم أمه قديرة. روي أنه ولد على فراش سالف، ولم يكن من ظهره، فدعته امرأة يقال لها عنيزة، وكانت عجوزاً مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وذات مال من إبل وبقر وغنم.
وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه، فقالت له: أعطيك أي بناتي شئت، على أن تعقر الناقة. فانطلق قدار فكمن لها في أصل شجرة على طريقها، فلما مرت به شد عليها بالسيف فعقرها، فذلك قوله تعالى: " فتعاطى فعقر " أي قام على أطراف أصابع رجليه، ثم رفع يديه فضربها، فجرت ورغت رغاءة واحدة تحذر سقبها، فانطلق السقب حتى أتى جبلا منيعاً، يقال له صنو. وأتى صالح عليه السلام فقيل له: أدرك الناقة، فقد عقرت، فأقبل وخرجوا يتلقونه يعتذرون إليه. ويقولون له: يا نبي الله إنما عقرها فلان، لا ذنب لنا. فقال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير.

وقدار بضم القاف ثم دال مهملة مخففة ثم ألف ثم راء مهملة هكذا ذكره جميع أهل التواريخ وغيرهم. ووقع في المهذب، في باب الهدنة، أن اسمه العيزار بن سالف، وهو وهم بلا خلاف. وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة، كأنما طليت بالخلوق، صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإنثاهم فأيقنوا بالعذاب، وكان صالح عليه الصلاة والسلام قد أخبرهم بذلك. وخرج هارباً منهم فشغلهم عنه ما نزل بهم، من عذاب الله، فجعل بعضهم يخبر بعضاً ما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل، فلما أصبحوا يوم الجمعة إذا وجوههم محمرة، كأنما خضبت بالدماء، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل، فلما أصبحوا يوم السبت إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى الأجل وحضركم العذاب، فلما كان يوم الأحد، لما اشتد الضحى، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء له صوت يصوت به في الأرض، فقطعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وكان الذي آمن بصالح عليه الصلاة والسلام من ثمود أربعة آلاف، فخرج بهم صالح إلى حضرموت، فلما حضرها صالح مات، فسميت حضرموت. ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضور. كذا قاله محمد بن إسحاق ووهب وجماعة. وقال قوم من أهل العلم: توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه عشرين سنة.
وروى أحمد والطبراني والبزار بإسناد صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسألوا نبيكم الآيات فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم آية فبعث الله لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم ورودها وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروا الناقة، فقيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام أو قيل لهم: إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام، ثم جاءتهم الصيحة فأهلكت من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحداً كان في حرم الله تعالى فمنعه من عذاب الله عز وجل " . قالوا: يا رسول الله من هو. قال: " أبو رغال " . قيل: ومن أبو رغال؟ قال: " جد ثقيف " . وفي رواية فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب. وأراهم صلى الله عليه وسلم قبر أبي رغال، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن.
وروى الطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أشقى الناس ثلاثة: عاقر ناقة ثمود وابن آدم الأول الذي قتل أخاه، ما سفك على الأرض دم إلا لحقه منه إثم، لأنه أول من سن القتل وقاتل علي بن أبي طالب " . رضي الله تعالى عنه.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر، في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا. فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. وفي رواية جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم " .
وروى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله تعالى، فقال له صلى الله عليه وسلم: " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة " .
وروى أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن أبي بن كعب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملا فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أد ابنة مخاض، فإنها صدقتك. فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية سمينة فخذها فامتنع أبي بن كعب، وترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " ذاك الذي عليك فإن تطوعت فخير أجرك الله فيه وقبلناه منك " . قال: ها هي يا رسول الله قد جئتك بها فخذها، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة.

وفي كامل ابن عدي وسنن البيهقي وشعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل، أم أعقلها وأتوكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " بل اعقلها وتوكل " .
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: إن رجلا ادعى عليه عند النبي صلى الله عليه وسلم بسرقة ناقة، فقال: ما سرقتها. فقال صلى الله عليه وسلم: " احلف " فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما سرقتها. فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه سرقها، ولكن غفر الله له كذبه، بصدقه بلا إله إلا هو. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أخذتها فردها إليه " فردها إليه. وفي رواية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله غفر لك كذبك بصدقك بلا إله إلا الله " .
وروى الحاكم عن النعمان بن سعد قال: كنا جلوساً عند علي رضي الله تعالى عنه، فقرأ " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " فقال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يساقون سوقاً، ولكن يؤتون بنوق من نوق الجنة، لم تنظر الخلائق إلى مثلها، رحالها الذهب وأزمتها الزبرجد، فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة. ثم قال: صحيح الإسناد.
وروى الحاكم أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل أعرابي جهوري الصوت بدوي على ناقة حمراء، فأناخها بباب المسجد، ودخل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قعد فلما قضى نحبه، قالوا: يا رسول الله إن الناقة التي تحت الأعرابي سرقة قال صلى الله عليه وسلم: " أثم بينة " قالوا: نعم يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: " يا علي خذ حق الله من الأعرابي إن قامت عليه البينة، وإن لم تقم فرده إلي " فأطرق الأعرابي ساعة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " قم يا أعرابي لأمر الله وإلا فأدل بحجتك " . فقالت الناقة من خلف الباب: والذي بعثك بالحق والكرامة يا رسول الله إن هذا ما سرقني وما ملكني أحد سواه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أعرابي بالذي أنطقها بعذرك ما الذي قلت " ؟ قال: قلت: اللهم إنك لست برب استحدثناك، ولا معك إله أعانك على خلقنا ولا معك رب فنشك في ربوبيتك، أنت ربنا كما نقول، وفوق ما يقول القائلون أسألك أن تصلي على محمد وأن تريني براءتي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " الذي بعثني بالكرامة يا أعرابي لقد رأيت الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك فأكثر الصلاة علي " . ثم قال الحاكم: رواته ثقات، لكن فيهم يحيى بن عبد الله المصري، لست أعرفه بعدالة ولا جرح. وقد تقدم في البعير حديث رواه الطبراني قريب من هذا.
وفي المستدرك أيضاً، في ترجمة صهيب رضي الله عنه، عن كعب الأحبار، عن صهيب بن سنان، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: " اللهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه، ونذرك ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه معك، تباركت وتعاليت " قال كعب الأحبار: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يدعو به، ثم قال: صحيح الإسناد.
في المستدرك أيضاً، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أعرابي سل حاجتك " . فقال: يا نبي الله ناقة نرحلها، وأعنزاً يحلبها أهلي. فقال صلى الله عليه وسلم: " أعجز هذا أن يكون مثل عجوز بني إسرائيل " . قالوا: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال صلى الله عليه وسلم: " إن بني إسرائيل خرجوا من مصر، فضلوا الطريق، وأظلم عليهم، فقالوا: ما هذا؟ قال علماؤهم: إن يوسف عليه الصلاة والسلام، لما حضرته الوفاة، أخذ علينا موثقاً من الله، أن لا نخرج حتى ننقل عظامه معنا، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوز لبني إسرائيل، فبعث إليها فأتته فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: وتعطيني ما أسألك؟ فقال: وما سؤالك؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، ففعل " . ورواه الطبراني وأبو يعلى الموصلي بنحوه.

وفي رواية، في غير المستدرك أنها كانت مقعدة عمياء، وأنها قالت لموسى: لا أخبرك عن موضع قبره حتى تعطيني أربع خصال: تطلق رجلي وبصري وشبابي وأكون معك في الجنة. فأوحى الله إليه أن أعطها ما سألتك، فإن ما تعطي علي، ففعل. فانطلقت بهم إلى مستنقع ماء، فاستخرجته من شاطئ النيل، في صندوق من مرمر، فلما فكوا تابوته طلع القمر، وأضاءت الطريق مثل النهار، فاهتدوا وحملوه معهم إلى الشام فدفنه موسى عليه السلام عند آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم. وعاش يوسف بعد أبيه يعقوب ثلاثاً وعشرين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وفي المستدرك وغيره، عن معاذ رضي الله تعالى عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من قاتل في سبيل الله قدر فواق ناقة وجبت له الجنة " . وفواق الناقة ما بين الحلبتين من الراحة وتضم فاؤه وتفتح.
وفي الحديث أيضاً: " عيادة المريض قدر فواق الناقة " . وفي أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية. ثم قال: لو علمت إن الله خلق مركوباً يحمل عليه غير هذا لحملتك عليه. وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس. ولو علمنا شيئاً آخر يتخذ من الخز غير هذا لأعطيناك إياه. قال بعضهم: رحم الله معناً، لو كان يعلم أن الغلام يركب لأمر له به، ولكنه كان عربياً محضاً لم يتدنس بقاذورات العجم. وذكر ابن خلكان في ترجمته أنه جلس يوماً فرأى راكباً فقال: ما أحسب هذا يريد غيري، فلما وصل أنشد قائلا:
أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيمال إذ كثروا
ألح دهر رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال: يا فلان ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعهما إليه وهولا يعرفه. ومحاسن معن كثيرة، وتولى الولايات العظيمة، وتولى في آخر عمره سجستان، فبينما هو ذات يوم في داره والصناع يعملون بين يديه، اندس بينهم قوم من الخوارج فقتلوه وهو يحتجم وهربوا، فتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة فقتلهم عن آخرهم. وكان قتله في سنة إحدى أو اثنتين أو ثمان وخمسين ومائة رحمه الله. ورثاه الشعراء بمراث كثيرة، فمن المراثي النادرة أبيات الحسن بن مطر الأزدي، وهي في الحماسة منها:
ألما على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
ويا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للمكارم مضجعا
بلى وقد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مربعا
ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وحكمها: كالإبل.
الأمثال: قالوا: " لا ناقتي فيها ولا جملي " وأصل المثل للحارث بن عبادة. وقيل: أول من قاله صدوف بنت حليس العذرية، وخبرها مشهور في الأمثال. ومما أنشد في ذلك قول الراعي:
وما هجرتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل
وقال الطغرائي في لاميته:
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
يضرب عند التبري من الظلم أو الإساءة وأطال فيه أصحاب الأمثال، وقالوا: " استنوق الجمل " أي صار ناقة، يضرب للرجل يكون في حديث أرصفة شيء ثم يخلطه بغيره. وينتقل منه إليه. قال الجوهري: وأصله أن طرفة بن العبد، كان عند بعض الملوك، والمسيب بن عبس ينشد شعراً في وصف جمل، ثم حوله إلى نعت ناقة، فقال طرفة: قد استنوق الجمل.
وخواصها: كالإبل أيضاً.
التعبير: الناقة في الرؤيا امرأة، فإن كانت من البخت فهي أعجمية، وإن كانت غير بختية فهي امرأة عربية. فمن رأى كأنه حلب ناقة تزوج امرأة صالحة، ومن كان متزوجاً وحلب ناقة رزق ولداً ذكراً، وربما رزق بنتاً. ومن رأى ناقة ومعها فصيلها، فإنه يدل على ظهور آية وفتنة عامة. وقال ابن سيرين: الناقة المحدوجة سفر في بر، ومن ركب ناقة مهرية في منامه سافر وقطع عليه الطريق. ومن حلب النوق في منامه فإنه يلي ولاية يجمع فيها الزكاة.

ومن الرؤيا المعبرة أن ابن سيرين رحمه الله، أتاه رجل فقال له: رأيت رجلا يحلب من النوق البخت لبناً، ثم حلبها دماً. فقال ابن سيرين: هذا رجل يتولى على الأعاجم ويجيبهم الزكاة وهي اللبن، ثم يظلمهم ويأخذ أموالهم غصباً، وهو الدم، فكان كذلك. ولحم النوق يدل على وفاء النذر لقول الله تعالى: " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " وهو لحم الجزور. وقيل: لحم الجزور في الرؤيا مصيبة، وقيل مرض، وقيل: رزق، لقول الله تعالى: " والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم " ومن عقر ناقة في منامه ندم على أمر فعله، وناله منه مصيبة لقول الله تعالى: " فعقروها فأصبحوا نادمين " .
وقيل: ركوب الناقة نكاح امرأة، فإن ركبها مقلوباً أتى امرأة في دبرها. ومن رأى ناقة صارت بغلة أو بعيراً، فإن زوجته لا تحمل أبداً. ومن ماتت ناقته ماتت امرأته، أو بطل سفره، وربما دلت الناقة على امرأة كثيرة الخصام، لكثرة رغائها. ومن رأى ناقة دخلت مدينة، فإنها فتنة لقول الله تعالى: " إنا مرسلو الناقة فتنة لهم " فإذا عقرت ناقة في مدينة، أصاب أهلها نكبة والله أعلم.
الناموس: البعوض وقد تقدم في باب الباء الموحدة، وقال أبو حامد الأندلسي: الناموس دويبة تلسع الناس، وقال الجوهري: وناموس الرجل سره الذي يطلعه على باطن أمره، ويخصه بما يستره عن غيره. قال الزبيدي: وهو مشتق من نمس بالكلام إذا أخفاه، يقال: نمس الصائد إذا اختفى في الدريئة انتهى.
وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام الناموس الأكبر، لأنه يخفي الكلام حين يلقيه إلى الرسل عن الحاضرين، وفي الحديث أن ورقة بن نوفل قال لخديجة رضي الله تعالى عنها، وهو ابن عمها، وكان نصرانياً: لئن كان ما تقولين حقاً، إنه ليأتيه الناموس الذي كان يأتي موسى.
وقد تقدم هذا في باب الفاء، في الفاعوس، وتقدم في الفاعوس الكلام على لفظ الناموس. وما جاء على وزن فاعول ولام الفعل منه سين.
الناهض: فرخ العقاب، وقد تقدم ما في العقاب في باب العين المهملة.
النباج: كرمان الهدهد الكثير القرقرة وسيأتي ما فيه في باب الهاء.
النبر: بالكسر دويبة شبيهة بالقراد لكنها أصغر منه إذا دبت على البعير تورم مدبها، والجمع نبار وأنبار. قال الراجز شبيب بن البرصاء:
كأنها من بدن وإيقار ... دبت عليها ذربات الأنبار
ويروى: عاربات الأنبار، والأنبار أيضاً ضرب من السباع، قاله ابن سيده. قال البطليوسي، في الشرح: ويروى هذا البيت بالفاء، وهو أفعال من الشيء الوافر، ويروى بالقاف يريد أنها أوقرت بالشحوم ومعنى الرواية الأولى، أن هذه من سمنها ووفورها دبت عليها الأنبار فلسعتها، وقوله ذربات، في معناها وجهان: أحدهما أنها الحديدة اللسع مأخوذة من قولهم: سكين ذرب ومذرب، أي حادة، والثاني أنها مسمومة، يقال: ذربت السهم إذا سقيته السم ويقال للسم الذرب انتهى. النجيب: من الإبل والخيل، ومن الرجال الكريم، والجمع نجباء وأنجاب والنجائب جمع نجيبة، روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن عمر رضي الله تعالى عنه أهدي نجيبة فطلبت منه بثلاثمائة دينار، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يبيعها، ويشتري بثمنها بدناً. فنهاه عن ذلك، وقال: " بل انحرها " . وكذلك رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه. وفي المثل: أنجبت المرأة إذا ولدت النجباء والمنتجب المختار من كل شيء.
روى الحاكم في المستدرك، عن عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: لقد حج الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما خمساً وعشرين حجة ماشياً، وأن النجائب لتقاد بين يديه. وفي الحلية سئل محمد بن علي بن الحسين، المعروف بالباقر أحد الأئمة الإثني عشر، على رأي الإمامية، عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فقال: أما علمت أن لكل قوم نجيبة، وأن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني وغيرهم باختصار، عن علي بن أبي طالب رضي الله

تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه لم يكن نبي إلا وقد أعطي سبعة رفقاء نجباء ووزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر، وعلي وحسن وحسين، وأبو بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وأبو ذر والمقداد، وعمار وسليمان وبلال " .
وفي بعض طرق الطبراني مصعب بن عمير، وفيه كثير الشواء، وهو من صغار التابعين، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات.
وفي الحديث: " إن الله يحب التاجر النجيب " أي الفاضل الكريم السخي. وقال ابن مسعود: سورة الأنعام من نجائب القرآن أي من أفاضل سوره.
النحام: طائر على خلقة الأوز، واحدته نحامة يكون آحاداً وأزواجاً في الطيران، وإذا أراد المبيت اجتمع رفوفاً فذكوره تنام، وإناثه لا تنام، وتعد لها مبايت، فإذا نفرت من واحد ذهبت إلى آخر. ويقال: إن الأنثى تبيض من زق الذكر من غير سفاد، فإذا باضت نفرت. وبقي الذكر عند البيض، يفرق عليه فيقوم الفرق مقام الحضن، فإذا تمت مدته خرجت الفراخ لا حراك بها فتأتي الأنثى فتنفخ في مناقيرها حتى تجري الريح فيها روحاً، ثم يتعاون الذكر والأنثى على التربية. وفي الذكر غلظ طبع وقلة وفاء، فإنه إذا رأى فراخه قد قويت على الطعم ضربها وطردها، فتذهب الأم معها فلا تقرب الذكر إلى وقت السفاد.
الحكم: يحل أكله لأنه من الطيبات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكله. روى ابن النجار، في ذيل تاريخ بغداد، في ترجمة سهل بن عبيد بن سورة الخراساني الأصبهاني أنه حدث عن إسماعيل بن هارون، عن الصعق بن حزن، عن مطر الوراق، قال : أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم طير يقال له النحام فأكله واستطابه، وقال: " اللهم أدخل إلي أحب خلقك إليك " وأنس رضي الله تعالى عنه بالباب، فجاء علي رضي الله تعالى عنه، فقال: يا أنس استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه على حاجة، فدفع صدره ودخل، فقال رضي الله عنه: يوشك أن يحال بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم وال من والاه " .
وفي الكامل لابن عمي، في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي، أن الطير المشوي كان حجلاً. وفيه، في ترجمة جعفر بن ميمون، أنه كان حبارى. وفي المستدرك أن التي أهدته للنبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن رضي الله تعالى عنها.
قلت: حديث الطير خرجه الترمذي، وقال: غريب. والبغوي في حسان المصابيح، وخرجه الحربي، وزاد بعد قوله: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم طير، وكان مما يعجبه أكله. وزاد بعد قوله فجاء علي بن أبي طالب فقال: استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عليه إذن، ولكن أحب أن يكون رجلاً من الأنصار. ورواه الطبراني وأبو يعلى والبزار، من عدة طرق كلها ضعيفة. وخرجه عمر بن شاهين، ولم يذكر زيادة الحربي. وقال بعد قوله: فجاء علي فرددته: ثم جاء فرددته، فدخل في الثالثة أو في الرابعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ما حبسك عني أوما أبطأك عني يا علي " ؟ قال: جئت فردني أنس ثم جئت فردني أنس، فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أنس ما حملك على ما صنعت " ؟ قال: رجوت أن يكون رجلاً من الأنصار. فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أنس أوفي الأنصار خير من علي أو أفضل من علي " ؟.
وعن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهدت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيرين بين رغيفين، فقدمتهما إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك " . ثم ذكر معنى الحديث. قال الحاكم: وقد رواه عن أنس جماعة أكثر من ثلاثين نفساً. ثم صحت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة وهو من الأحاديث المستدركة على المستدرك. قال الذهبي في تلخيصه: لقد كنت زمناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه فلما علقت هذا الكتاب، رأيت الهول من الموضوعات التي فيه والله أعلم.

النحل: ذباب العسل، وقد تقدم في باب الذال المعجمة، في لفظ الذباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تفسير سورة النساء: " الذباب كله في النار إلا النحل " . وواحدة النحل نحلة كنخل ونخلة وقرأ يحيى بن وثاب: " وأوحى ربك إلى النحل " ، بفتح الحاء. والجمهور بالإسكان. قال الزجاج: سميت نحلاً لأن الله تعالى نحل الناس العسل، الذي يخرج منها، إذ النحلة العطية وكفاها شرفاً قول الله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل " ، فأوحى سبحانه إليها وأثنى عليها فعلمت مساقط الأنواء من وراء البيداء، فتقع هناك على كل حرارة عبقة، وزهرة أنقة، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضاباً وتلقطه شراباً.
قال القزويني، في عجائب المخلوقات: يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة، إذ فيه أوحى الله إلى النحل صنعة العسل، فبين سبحانه أن في النحل أعظم اعتبار، وهو حيوان فهيم ذو كيس وشجاعة، ونظر في العواقب، ومعرفة بفصول السنة. وأوقات المطر، وتدبير المرتع والمطعم، والطاعة لكبيره، والاستكانة لأميره وقائده، وبديع الصنعة وعجيب الفطرة.
قال أرسطو: النحل تسعة أصناف: منها ستة يأوي بعضها إلى بعض. قال: وغذاؤها من الفضول الحلوة والرطوبات التي يرشح بها الزهرة والورق،، ويجمع ذلك كله ويدخره، وهو العسل وأوعيته، ويجمع مع ذلك رطوبات دسمة، يتخذ منها بيوت العسل، وهذه الدسومات هي الشمع، وهو يلقطها بخرطومه ويحملها على فخذيه، وينقلها من فخذيه إلى صلبه، هكذا قال.
والقرآن يدل على أنها ترعى الزهر، فيستحيل في جوفها عسلاً وتلقيه من أفواهها، فيجتمع منه القناطير المقنطرة قال الله تعالى: " ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " وقوله: " من كل الثمرات " ، المراد به بعضها، نظيره قوله تعالى: " وأوتيت من كل شيء " يريد البعض واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمرعى، وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى. ومن هذا المعنى قول زينب رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم جرست نحلة العرفط، حين شبهت رائحته برائحة المغافير والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما.
ومن شأنه في تدبير معاشه أنه إذا أصاب موضعاً نقياً بنى فيه بيوتاً من الشمع أولاً، ثم بنى البيوت التي تأوي فيها الملوك، ثم بيوت الذكور التي لا تعمل شيئاً. والذكور أصغر جرماً من الإناث وهي تكثر المادة داخل الخلية، وإن طارت فهي تخرج بأجمعها وترتفع في الهواء ثم تعود إلى الخلية. والنحل تعمل الشمع أولاً، ثم تلقي البزر لأنه لها بمنزلة العش للطير، فإذا ألقته قعدت عليه وحضنته، كما يحضن الطير، فيكون من ذلك البزر دود أبيض، ثم ينهض الدود وتغذي نفسها ثم تطير، وهي لا تقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد، وتملأ بعض البيوت عسلاً وبعضها فراخاً، ومن عادتها أنها إذا رأت فساداً من ملك، إما أن تعزله وإما أن تقتله، وأكثر ما تقتل خارج الخلية. والملوك لا تخرج إلا مع جميع النحل، فإذا عجز الملك عن الطيران، حملته. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك، في آخر الكتاب، في لفظ اليعسوب.
ومن خصائص الملك أنه ليس له حمة يلسع بها، وأفضل ملوكها الشقر، وأسوؤها الرقط بسواد. والنحل تجتمع فتقسم الأعمال فبعضها يعمل العسل، وبعضها يعمل الشمع، وبعضها يسقي الماء، وبعضها يبني البيوت، وبيوتها من أعجب الأشياء لأنها مبنية على الشكل المسدس الذي لا ينحرف، كأنه استنبط بقياس هندسي. ثم هو في دائرة مسدسة، لا يوجد فيها اختلاف، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك لأن الأشكال من الثلاث إلى العشر، إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل، وجاءت بينها فروج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل، كأنه قطعة واحدة وكل هذا بغير مقياس منها ولا آلة ولا بركار، بل ذلك من أثر صنع اللطيف الخبير وإلهامه إياها، كما قال: " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ما يعرشون، الآية.

فتأمل كمال طاعتها وحسن امتثالها لأمر ربها، كيف اتخذت بيوتاً في هذه الأمكنة الثلاثة الجبال والشجر وبيوت الناس حيث يعرشون؛ أي حيث يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيتاً في غير هذه الأمكنة الثلاثة البتة. وتأمل كيف كانت أكثر بيوتها في الجبال، وهي المتقدمة في الآية ثم الأشجار وهي دون ذلك، ثم فيما يعرش الناس وهي أقل بيوتها. فانظر كيف أداها حسن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أولاً، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها باتخاذ البيوت أولاً، ثم الأكل بعد ذلك، وقال في الإحياء: انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها، حتى اتخذت من الجبال بيوتاً، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء.
ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها من النجاسات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها، وهو أكبرها شخصاً وهو أميرها، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها، حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ، كل ما وقع منها على نجاسة، لقضيت من ذلك العجب، إن كنت بصيراً في نفسك، وفارغاً من هم بطنك وفرجك، وشهوات نفسك، في معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك.
ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها بيتاً من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال، الشكل المسدس، فلا تبني بيتها مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً، بل مسدساً لخاصية في الشكل المسدس، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير، ومما يقرب منه فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة.
ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة، إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة، إلا المسدس. وهذه خاصية هذا الشكل، فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ذلك لطفاً به وعناية بوجوده، فيما هو محتاج إليه ليهنأ عيشه. فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه.
وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض، ويقاتل بعضه بعضاً في الخلايا، ويلسع من دنا من الخلية، وربما هلك المسلوع، وإذا هلك شيء منها داخل الخلايا، أخرجته الأحياء إلى خارج، وفي طبعه أيضاً النظافة، فلذلك يخرج رجيعه من الخلية، لأنه منتن الريح.
وهو يعمل زماني الربيع والخريف، والذي يعمله في الربيع أجود. والصغير أعمل من الكبير، وهو يشرب من الماء ما كان صافياً عذباً، يطلبه حيث كان، ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعه، وإذا قل العسل في الخلية، قذفه بالماء ليكثر، خوفاً على نفسه من نفاذه، لأنه إذا نفد، أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور، وربما قتلت ما كان منها هناك.
قال حكيم من اليونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا، قالوا: وكيف النحل في الخلايا؟ قال: إنها لا تزك عندها بطالاً إلا نفته وأبعدته، وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان، ويفني العسل، ويعلم النشيط الكسل. والنحل يسلخ جلده كالحيات، وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ويضره السوس. ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح، وأن يفتح في كل شهر مرة، ويدخن باخثاء البقر.
وفي طبعه أنه متى طار من الخلية يرعى ثم يعود، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه.
وأهل مصر يحولون الخلايا في السفن ويسافرون بها إلى مواضع الزهر والشجر، فإذا اجتمع في المرعى فتحت أبواب الخلايا، فيخرج النحل منها ويرعى يومه أجمع، فإذا أمسى عاد إلى السفينة وأخفت كل نحلة منها مكانها من الخلية لا تتغير عنه.
روى الإمام أحمد والحاكم والترمذي والنسائي، من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا نزل عليه الوحي، سمع عنده دوي كدوي النحل، فنزل عليه صلى الله عليه وسلم يوماً، فمكثنا ساعة، ثم سري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: " اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا " . ثم قال صلى الله عليه وسلم: " لقد أنزل الله علي عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة،. ثم قرأ: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " الآيات. قال: صحيح الإسناد.

قال النحاس: معنى أقامهن، عمل بهن ولم يخالف ما فيهن، كما يقال: فلان يقوم بعمله. وروى البيهقي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعاً، لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها: تكلمي، فقالت: " قد أفلح المؤمنون " .
وروى ابن ماجه، عن أبي بشر بكر بن خلف قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن موسى بن أبي عيسى الطحان، عن عون بن عبد الله، عن أبيه أو عن أخيه عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد، ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل، تذكر بصاحبها. أما يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به " ؟ ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. والدوي صوت ليس بالعالي.
وفي حديث الإيمان: يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقوله.
وفي المستدرك عن أبي سبرة الهذلي، قال: قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما فحدثني حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهمته وكتبته بيدي: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما حدث به عبد الله بن عمرو عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش، ولا سوء الجوار ولا قطيعة الرحم " . ثم قال صلى الله عليه وسلم: " إنما مثل المؤمن كمثل النحلة، وقعت فأكلت طيباً، ثم سقطت ولم تفسد ولم تكسر، ومثل المؤمن كمثل القطعة الذهب الأحمر، أدخلت النار فنفخ عليها فلم تتغير ووزنت فلم تنقص. فذلك مثل المؤمن " . ثم قال: صحيح الإسناد.
وفي المعجم الأوسط للطبراني بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل بلال كمثل النحلة، غدت تأكل من الحلو والمر ثم هو حلو كله " .
وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن كالنحلة تأكل طيباً وتضع طيباً، وقعت فلم تكسر ولم تفسد " . وفي شعب البيهقي، عن مجاهد، قال: صاحبت عمر رضي الله تعالى عنه من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث: " إن مثل المؤمن كمثل النحلة إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك وكل شأنه منافع، وكذلك النحلة كل شأنها منافع " . قال ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة، حذق النحل وفطنته، وقلة أذاه وخفارته ومنفعته، وقنوعه وسعيه في النهار، وتنزهه عن الأقذار، وطيب أكله، فإنه لا يأكل من كسب غيره، ونحوله وطاعته لأميره.
وإن للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها: الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتر به عن علمه منها: ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السعة، ونار الهوى انتهى.
وفي مسند الدارمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كونوا في الناس كالنحلة في الطير إنه ليس في الطير شيء إلا وهو يستضعفها، ولو تعلم الطير ما في أجوافها البركة، ما فعلت ذلك بها. خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم فإن للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب.
وفيه أيضاً، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه سأل كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ فقال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة يهاجر إلى طيبة ويكون ملكه بالشام، ليس بفحاش ولا صخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة، ويعفو ويصفح، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل سراء وضراء يوضئون أطرافهم ويأتزرون أوساطهم يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء.
غريية: ذكر ابن خلكان، في ترجمة عبد المؤمن بن علي ملك الغرب، أن أباه كان يعمل الطين فخاراً، وأنه كان في صغره نائماً في دار أبيه، وأبوه يعمل في الطين، فسمع أبوه دوياً في السماء، فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار، فاجتمعت كلها على ولده وهو نائم، فغطته وأقامت عليه مدة، ثم ارتفعت عنه وما تألم منها. وكان بالقرب منهم رجل يعرف الزجر فأخبره أبوه بذلك، فقال: يوشك أن يجتمع على ولدك جميع أهل المغرب فكان كذلك.

وكان من أمر ولده ما اشتهر من ملك المغرب الأعلى والأدنى، ومات عبد المؤمن في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر موته، في باب الجيم، في الجفرة وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: تحقيراً للدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة وظاهر هذا أنه من غير الفم، كذا نقله عنه ابن عطية.
والمعروف عنه أنه قال: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم، فأشرف المطعوم العسل، وهو مذقة ذباب، وأشرف المشروب الماء، ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوس الحرير، وهو نسج دودة، وأشرف المركوب الفرس، وعليه تقتل الرجال، وأشرف المشموم المسك، وهو دم حيوان، وأشرف المنكوح المرأة، وهو مبال في مبال. والمحقق أن العسل يخرج من بطونها، لكن لا يدري أمن فمها أو من غيره، لكن لا يتم صلاحه إلا بحمي أنفاسها. فقد صنع ارسطاطالبس بيتاً من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع فأبت أن تعمل حتى لطخته من باطن الزجاج بالطين كذا قاله الغزنوي وغيره.
وروينا في تفسير الكواشي الأوسط، أن العسل ينزل من السماء فيثبت في أماكن من الأرض فيأتي النحل فيشربه، ثم يأتي الخلية، فيلقيه في الشمع المهيأ للعسل في الخلية، لا كما يتوهمه بعض الناس من أن العسل من فضلات الغذاء، وأنه قد استحال في المعدة عسلاً، هذه عبارته. والله أعلم.
لطيفة: اعلم أن الله تعالى جمع في النحلة السم والعسل دليلاً على كمال قدرته، وأخرج منها العسل ممزوجا بالشمع. وكذلك عمل المؤمن ممزوجاً بالخوف والرجاء. وفي العسل ثلاثة أشياء: الشفاء والحلاوة واللين، وكذلك المؤمن، قال الله تعالى: " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " ويخرج من الشاب خلاف ما يخرج من الكهل والشيخ، وكذلك حاد المقتصد والسابق، وأمرها الله تعالى بأكل الحلال، حتى صار لعابها شفاء ودواء. وكل الذباب في النار إلا النحل. ودواء الأطباء مر، ودواء الله حلو وهو العسل. وهي تأكل من كل الشجر، ولا يخرج منها إلا حلواً، ولا يغيرها اختلاف مأكلها. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وقوله تعالى: " فيه شفاء للناس " ، لا يقتضي العموم لكل علة، وفي كل إنسان، لأنه نكرة في سياق الإثبات، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في حال دون حال.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان لا يشكو شيئاً إلا تداوى بالعسل، حتى كان يدهن به الدمل والقرحة والقرصة، ويقرأ هذه الآيات، وهذا يقتضي أنه كان يحمله على العموم. وروى ابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور " ، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل وروى ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لعق من العسل ثلاث غدوات من كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء " . وحكى النقاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى به من كل سقم.
وروي أيضاً عن عوف بن ملك رضي الله تعالى عنه أنه مرض فقال: ائتوني بماء فإن الله تعالى يقول: " ونزلنا من السماء ماء مباركاً " ثم قال: وائتوني بعسل وقرأ الآية، ثم قال: ائتوني بزيت فإنه من شجرة مباركة. فخلط الجميع ثم شربه فشفي.
وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال عليه الصلاة والسلام: " اسقه عسلاً " ، فسقاه، ثم جاءه فقال: يا رسول الله إني قد سقيته عسلاً، فلم يزده إلا استطلاقاً فقال عليه الصلاة والسلام: " اسقه عسلا " . ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال صلى الله عليه وسلم " اسقه عسلاً " . قال: قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال عليه الصلاة والسلام: " صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً " فسقاه فبرئ.

فائدة: قد اعترض في هذا الحديث، وفي قوله صلى الله عليه وسلم " عليكم بهذا العود الهندي " يعني الكست، فإن فيه سبعة أشفية: منها ذات الجنب، وقوله صلى الله عليه وسلم: " الحمى من فيح جهنم فاطفؤها بالماء " ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن في الحبة السوداء الشفاء من كل داء إلا السام " يعني الموت. وقوله صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .
أما من في قلبه مرض من الملحدة فقال: الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ ومجمعون أيضاً على أن استعمال المحموم الماء البارد مخاطرة، وقرب من الهلاك، لأنه يجمع المسام ويحقن البخار المتحلل، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون سبباً للتلف، وينكرون أيضاً مداواة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من الحرارة الشديدة، ويرون ذلك خطراً، وهذا الذي قاله المعترض الملحد جهالة بينة وهو فيها كما قال الله تعالى: " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " ، ونحن نشرح الأحاديث المذكورة في هذا الموضع، ونذكر ما قاله الأطباء في ذلك ليظهر جهل هذا المعترض.
اعلم أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجاً إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشي الواحد دواء له في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يعرض له، من غضب يحمي مزاجه فيتغير علاجه، أو هواء يتغير، أو غير ذلك مما لا يحصى كثرة. فإذا وجد الشفاء بشيء في حالة ما لشخص ما، لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال ولجميع الأشخاص، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه، باختلاف السن والزمان والعادة، والغذاء المتقدم، والتدبير المألوف، وقوة الطباع.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها الإسهال الحادث من التخم والهيضات. وقد أجمع الأطباء، في مثل هذا، على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال، أعينت مادامت القوة باقية، وأما حبسها فضرر عندهم. واستعجال مرض، فيحتمل أن يكون هذا الإسهال لهذا الشخص المذكور في الحديث، كان من امتلاء هيضة، فدواؤه ترك الإسهال على ما هو عليه، أو تقويته فأمره صلى الله عليه وسلم بأن يسقيه عسلاً فزاده إسهالاً، فزاده عسلاً إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال. أو يكون الخلط الذي به، كان يوافقه شراب العسل، فثبت بما ذكرناه أن العسل جار على صناعة الطب، وأن المعترض عليه ملحد جاهل بصناعة الطب، ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث، بقول الأطباء، بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم. فلو وجدنا المشاهدة تصدق دعواهم لتأولنا كلامه صلى الله عليه وسلم حينئذ وخرجناه على ما يصح.
وقد ذكرنا هذا الجواب وما بعده، عدة للحاجة إن اعتضدوا بمشاهدة، وليظهر جهل المعترض، وأنه لا يحسن الصناعة التي اعترض بها، وانتسب إليها. وكذلك القول في الماء البارد للمحموم، فإن المعترض تقول على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أكثر من قوله: " أطفئوها بالماء " ولم يبين صفته وحاله، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها يسقى الماء البارد الشديد البرودة، ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى.
وأما إنكاره الشفاء من ذات الجنب بالقسط فباطل أيضاً. فقد قال بعض الأطباء: إن ذات الجنب، إذا حدثت من البلغم، كان القسط من علاجها. وقد ذكر جالينوس وغيره من حذاق الأطباء، أنه ينفع من وجع الصدر. وقال بعض قدماء الأطباء: إنه يستعمل حيث يحتاج إلى إسخان عضو من الأعضاء، وحيث يحتاج إلى جذب خلط من باطن البدن إلى ظاهره. وهكذا قال الرئيس ابن سينا وغيره من فحول الأطباء، وهذا يبطل ما زعمه هذا المعترض الملحد.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " فيه سبعة أشفية " فقد أطبق الأطباء في كتبهم، على أنه يدر الطمث والبول، وينفع من السموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود وحب القرع، الذي في الأمعاء، إذا شرب بعسل، ويذهب الكلف، إذا طلي عليه. وينفع من برودة المعدة والكبد، ومن الحمى الورد والربع وغير ذلك. وهو صنفان: بحري وهندي، فالبحري هو القسط الأبيض، وقيل هو أكثر من صنفين ونص بعضهم على أن البحري أفضل من الهندي، وأقل حرارة منه، وقيل: هما حاران يابسان لا الدرجة الثالثة، والهندي أشد حرارة منه فيها.

وقال الرئيس ابن سينا: القسط حار في الثالثة، يابس في الثانية. وقد اتفق الأطباء على هذه المنافع التي ذكرناها في القسط، وهو العود الهندي المذكور في الحديث، فصار ممدوحاً شرعاً وطباً. وإنما عددنا منافع القسط من كتب الأطباء، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر منها عدداً مجملا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم " في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام " فيحمل أيضاً على العلل الباردة على نحو ما سبق في القسط، وهو صلى الله عليه وسلم قد يصف بحسب ما شاهده من غالب حاد أصحابه، قال الإمام المازري، وقال شيخ الإسلام محيي الدين النووي، وذكر القاضي عياض كلام المازري الذي قدمناه، ثم قال: وذكر الأطباء في منفعة الحبة السوداء، التي هي الشونيز، أشياء كثيرة، وخواص عجيبة، يصدقها قوله صلى الله عليه وسلم. فذكر جالينوس أنها تحلل النفخ، وتقتل ديدان البطن، إذا أكلت أو وضعت على البطن، وتنفع الزكام إذا قليت وصرت في خرقة وشمت، وتزيل العلة التي ينقش منها الجلد، وتقطع الثآليل المعلقة والمنكسة والخيلان، وتمر الطمث المنحبس، إذا كان احتباسه من أخلاط غليظة لزجة، وتنفع الصداع إذا طلي بها الجبين، وتقطع البثور والجرب، وتدر البول واللبن، وتحلل الأورام البلغمية، إذا تضمد بها مع خل. وتنفع من الماء العارض في العين إذا سقط بها مسحوقة بدهن، وهي تنفع من انصباب المواد أيضاً، ويتمضمض بها من وجع الأسنان، وتنفع من نهش الرتيلاء. وإذا بخر بها طردت الهوام.
قال القاضي: وذكر جالينوس أن من خاصيتها إذهاب حمى البلغم والسوداء، وتقتل حب القرع. وإذا علق الشونيز في عنق المزكوم ينفعه، وينفع من حمى الربع. قال: ولا تبعد منفعته من أدوية حارة لخواص فيها فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها لعموم الحديث، ويكون استعماله أحياناً منفرداً وأحياناً مركباً.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الكمأة، وهي بفتح الكاف وإسكان الميم وبعدها همزة مفتوحة: و " ماؤها شفاء للعين " قيل: هو نفس الماء مجرداً، وقيل: معناه أن يخلط ماؤها بدواء يعالج به العين، وقيل: إن كان لتبريد ما في العين من حرارة، فماؤها مجرداً شفاء، وإن كان لغير ذلك فيركب مع غيره. قال الإمام النووي: والصحيح، بل الصواب أن ماءها مجرداً شفاء للعين مطلقاً، فيعصر ماؤها، ويجعل في العين منه. قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان أعمى وذهب بصره حقيقة، فكحل عينيه بماء الكمأة مجرداً، فبرئ وعاد بصره إليه. وهو الشيخ العدل الإمام الكمال الدمشقي صاحب فقه ورواية للحديث. وكان استعماله ماء الكمأة اعتقاداً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وتبركاً به، فشفاه الله لذلك.
ففي هذا الحديث والأحاديث المتقدمة بيان لما حواه النبي صلى الله عليه وسلم من علوم الدين والدنيا، وصحة علم الطب، وجواز التطبب في الجملة، واستحبابه لما ذكر في الأحاديث الصحيحة من الحجامة وشرب الأدوية والسعوط، وقطع العروق والرقى وغير ذلك من الأدوية، ولا خفاء أن تعالى في مخلوقاته حكماً وأسراراً، ولم يخلق جل جلاله داء إلا وخلق له دواء علمه من علمه وجهله من جهله والله أعلم.
وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية " وأوحى ربك إلى النحل " إنما يراد بها أهل البيت من بني هاشم، وأنهم النحل وأن الشراب هو القرآن، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس أبي جعفر المنصور فقال له رجل: جعل الله طعامه وشرابه مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وأبهت القائل.
فائدة أخرى: اعلم أن للعسل أسماء كثيرة منها السنوت كسفود وسنور، وفي الحديث " عليكم بالسنى والسنوت " ومنها السلوى لأنه يسلي عن كل حلو، قال خالد بن زهير الهذلي:
وقاسمها بالله جهد الأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ومن أسمائه الحافظ والأمين، لأنه يحفظ ما يودع فيه، فيحفظ الميت أبداً واللحم ثلاثة أشهر، والفاكهة ستة أشهر.

روى أصحاب الكتب الستة، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يحب الحلواء، ويشرب العسل " . قال العلماء: المراد بالحلواء هنا كل حلو، وذكر العسل بعدها تنبيهاً على شرفه ومرتبته ومزيته، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام. والحلواء بالمد، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل ذلك اتفاقاً.
وفي تاريخ أصبهان، في ترجمة أحمد بن الحسن، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول نعمة ترفع من الأرض العسل " . وكان مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي الكوفي، المعروف بالأشتر من شيعة أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وكان تابعياً رئيس قومه، وله بلاء حسن في وقعه اليرموك، وذهبت عينه يومئذ، وكان فيمن شهد حصار عثمان رضي الله تعالى عنه، وشهد وقعة الجمل وصفين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا رآه صرف نظره عنه وقال: كفى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم شره. ولاه علي رضي الله تعالى عنه مصر، بعد قيس بن سعد بن عبادة بن دليم، فلما وصل إلى القلزم شرب شربة عسل فمات.
فلما بلغ ذلك علياً رضي الله تعالى عنه، قال: لليدين والفم. وقال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، حين بلغه ذلك: إن لله جنوداً من العسل. وقيل: إن الذي قال ذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما. وهو الذي سمه. وقيل: إن الذي سمه كان عبداً لعثمان رضي الله تعالى عنه. وكانت وفاته في شهر رجب سنة سبع وثلاثين. روى له النسائي حديثين. وفي أخبار الحجاج بن يوسف أنه كتب إلى عامله بفارس: أرسل إلي من عسل خلار من النحل الأبكار، ومن الدستفشار الذي لم تمسه النار. يريد بالأبكار فراخ النحل، لأن عسلها أطيب وأصفى. وخلار موضع بفارس مشهور بجودة العسل والدستفشار كلمة فارسية معناها ما عصرته الأيدي.
الحكم: كره مجاهد قتل النحل، ويحرم أكلها على الأصح، وإن كان عسلها حلالا، كالآدمية لبنها حلال ولحمها حرام. وأباح بعض السلف أكلها كالجرادة، وهو وجه ضعيف في المذهب. ويحرم قتلها، والدليل على الحرمة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وفي الإبانة، في كتاب الحج، يكره قتلها، وما ذكره الفوراني في الإنابة من الكراهة وذكره غيره من التحريم مفرع، على منع الأكل، فإن أبحناه جاز قتله كالجراد، وكان القياس جواز قتل النحل، لأنه من ذوات الإبر، وما فيه من المنفعة يعارض بالضرر، لأنه يصول ويلدغ الآدمي وغيره.
وقد ذكر الرافعي، في كتاب الحج، أنه يجوز قتل الصقر والبازي من الجوارح ونحوها كما تقدم في الكلام عليها، في أماكنها، وعلله بأن المنفعة فيها معارضة بالمضرة، وهو اصطيادها طيور الناس، فجعلوا المضرة التي فيها مبيحة لقتلها، ولم يجعلوا المنفعة التي فيها عاصمة من القتل. إلا أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن قتل النحل " ، كما تقدم، ولا شيء في قوله صلى الله عليه وسلم إلا طاعة الله بالتسليم لأمره صلى الله عليه وسلم.
وأما بيع النحل، وهو في الكوارة فصحيح إن رؤى جميعه، وإلا فهو بيع غائب، فإن باعها وهي طائرة ففي التتمة يصح، وفي التهذيب عكسه. وصورة المسألة أن تكون الأم في الكوارة كما قاله ابن الرفعة، وإلا صح من الوجهين الصحة. والفرق بينها وبين باقي الطير من وجهين: أحدهما أنها لا تقصد بالجوارح بخلاف غيرها، والثاني أنها لا تأكل في الغالب والعادة إلا مما ترعاه، فلو توفق في صحة البيع على حبسها لربما أضر بها أو تعذر بسببه بيعها، بخلاف غيرها من الطيور.
وقال أبو حنيفة: لا يصح بيع النحل كالزنبور وسائر الحشرات، واحتج أصحابنا بأنه حيوان طاهر منتفع به، فجاز بيعه كالشاة والحمام بخلاف الزنبور والحشرات، فإنه لا منفعة فيها كدود القز، ويبقى لها في الكوارة شيئاً من العسل، فإن كان الاشتيار في الشتاء وتعذر الخروج، يكون المبقي أكثر. فإن أغنى عن العسل غيره، لم يتعين إبقاء العسل. وقد قيل تشوى دجاجة وتعلق على باب الكوارة لتأكل منها.
الأمثال: قالوا: أنحل من نحلة مأخوذ من النحول وهو الهزال، وقالوا: أهدى من نحلة وقالوا: كلام كالعسل وفعل كالأسل وهي الرماح يضرب في اختلاف القول والفعل.

الخواص: العسل حر يابس، جيده الشهد وهو مدر للبول مسهل يهيج القيء. وهو معطش ويستحيل إلى الصفراء يولد دماً حاراً، فإن طبخ بالماء ونزعت رغوته ذهبت حدته، وقلت حلاوته ونفعه، وكثر غذاؤه وإدراره للبول واطلاقه، وأجوده الخريفي الصادق الحلاوة، والكثير الربيعي المائل إلى الحمرة. ويدفع مضرته التفاح المز، وكل ما أسرع إليه الفساد من لحم وغيره إذا وضع في العسل طالت مدة مقامه، وإذا خلط العسل الذي لم يصبه ماء ولا نار ولا دخان بشيء من المسك واكتحل به نفع من نزول الماء في العين، والتلطخ به يقتل القمل والصئبان، ولعقه علاج لعضة الكلب الكلب، والمطبوخ منه نافع من السموم، ومن خاصية الشمع أن من استصحبه وقيل أكله أورثه الغم لكن لا يصيبه الاحتلام.
التعبير: النحل في الرؤيا خصب وغنى لمن قناه مع خطر، ومن رأى كوارة نحل واستخرج منها عسلا نال مالا حلالا، فإن أخذ العسل كله ولم يترك للنحل شيئاً، فإنه يجوز على قوم، فإن ترك للنحل شيئاً فإنه يعدل إن كان والياً أو طالب حق، ومن رأى النحل يقع على رأسه نال ولاية ورياسة، وإن رأى ذلك ملك نال ملكاً، وكذلك إذا حل بيده. والنحل للفلاحين دليل خير، وأما الجندي وغير الفلاحين فدليل مخاصمة، وذلك لصوته ولدغه. والنحل يدل على العسكر، لأنه أميره كما يتبع العسكر أميره. ومن قتل نحلا فهو عدو، ولا يحمد قتل النحل للفلاح، لأنه رزقه ومعاشه. والنحل يدل على العلماء وأصحاب التصنيف، وربما دل على الكد والكسب والجباية.
وأما العسل فإنه في المنام مال حلال بلا تعب، وهو شفاء من المرض لقوله تعالى: " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " ومن رأى أنه يطعم الناس العسل، فإنه يسمعهم الكلام الحسن والقرآن بلحن طيب، ومن رأى كأنه يلعق عسلا فإنه يتزوج، لقوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة رضي الله عنهما: " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " . وأكل العسل عناق حبيب وتقبيله.
وأما الشهد فإنه ميراث من حلال أو مال من شركة، وقال ابن سيرين: الشهد رزق حلال لأن النار لا تمسه، ومن رأى بين يديه شهداً موضوعاً، فإن عنده علماً عزيزاً والناس يريدون سماعه منه، والشهد إذا كان وحده، فهو مال من غنيمة، فإن كان في وعاء فهو رجل صاحب علم ومال حلال، وهو للزاهد الغني مال وبر ودين، ومن رأى كأنه يأكل الشهد وفوقه العسل، فإنه ينكح أمة والله تعالى أعلم.
النحوص: بفتح النون وضم الحاء والصاد المهملتين الأتان الحائل، والجمع نحص ونحاص.
النسر: طائر معروف وجمعه في القلة أنسر، وفي الكثرة نسور، وكنيته أبو الأبرد وأبو الإصبع وأبو مالك وأبو المنهال وأبو يحيى، والأنثى يقال لها أم قشعم. وسمي نسراً لأنه ينسر الشيء ويبتلعه، وهو عريف الطير، ويقول في صياحه: ابن آدم عش ما شئت، فإن الموت ملاقيك. كذا قاله الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما.
قلت: وفي هذا مناسبة لما خص النسر به من طول العمر، يقال: إنه من أطول الطير عمراً، وأنه يعمر ألف سنة، وقصة لبد تأتي إن شاء الله تعالى، في الأمثال. والنسر ذو منسر، وليس بذي مخلب، وإنما له أظفار حداد كالمخالب. والبازي والنسر يسفدان كما يسفد الديك.

وزعم قوم أن الأنثى من هذا النوع، تبيض من نظر الذكر إليها، وهي لا تحضن وإنما تبيض في الأماكن العالية الضاحية للشمس، فيقوم حر الشمس للبيض مقام الحضن، وهو حاد البصر يرى الجيفة من أربعمائة فرسخ، وكذلك حاسة شمه في النهاية، لكنه إذا شم الطيب مات لوقته، وهو أشد الطير طيراناً، وأقواها جناحاً، حتى إنه ليطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد، وإذا وقع على جيفة وعليها عقبان تأخرت، ولم تأكل ما دام يأكل منها، وكل الجوارح تخافه، وهو شره نهم رغيب إذا وقع على جيفة وامتلأ منها، لم يستطع الطيران حتى يثب وثبات، يرفع بها نفسه طبقة بعد طبقة في الهواء حتى يدخل تحت الريح، وربما صاده الضعيف من الناس في هذه الحالة، والأنثى منه تخاف على بيضها وفراخها الخفاش، فتفرش في وكرها ورق الدلب لينفر منه، وهو من أشد الطير حزناً على فراق إلفه، فإذا فارق أحدهما الآخر مات حزناً وكمداً. ومن غريب ما ألهم أنه إذا حملت أنثاه، ذهب إلى الهند فأخذ من هناك حجراً كهيئة الجوزة، إذا حرك سمع له حس حجراً آخر متحرك، كصوت الجرس فإذا جعله عليها أو تحتها أذهب عنها العسر، وهذا بعينه قاله القزويني في العقاب، وقد تقدم في باب العين. وليس في سباع الطير أكبر جثة منه، ويقال للنسر أيضاً أبو الطير قال الشاعر:
فلا وأبي الطير المريه في الضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم
والنسر سيد الطير، روى اليافعي، في كتاب نفحات الأزهار ولمحات الأنوار، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هبط علي جبريل فقال: يا محمد إن لكل شيء سيداً، فسيد البشر آدم، وسيد ولد آدم أنت، وسيد الروم صهيب وسيد فارس سليمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الشجر السدر، وسيد الطير النسر، وسيد الشهور رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القرآن، وسيد القرآن سورة البقرة " .
وروى الطبراني، في معجمه الأوسط، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك " ؟ فقال جلا وعلا: الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر هواه. والحديث يأتي إن شاء الله تعالى بتمامه في النمر.
وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن علي بن هارون العبدي، قال: سمعت الجنيد رضي الله عنه يقول: حق الشكر أن لا يعصي الله فيما أنعم، ومن كان لسانه رطباً بذكر الله تعالى، دخل الجنة وهو يضحك. وقال: إن لله عباداً يأوون إلى ذكر الله، كما يأوي النسر إلى وكره.
وفي الحلية، في ترجمة وهب بن منبه وغيرها، عن وهب بن منبه، قال: إن بختنصر مسخ أسداً فكان ملك السباع، ثم مسخ نسراً فكان ملك الطير، ثم مسخ ثوراً فكان ملك الدواب. وكان مسخه سبع سنين، وقلبه في ذلك كله قلب إنسان، وهو في ذلك كله يعقل عقل الإنسان، وكان ملكه قائماً. ثم رده الله إلى بشريته، ورد عليه روحه، فدعا إلى توحيد الله وقال: كل إله باطل إلا الله إله السماء. فقيل لوهب: أمات مسلماً؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: آمن قبل أن يموت. وقال بعضهم: قتل الأنبياء، وخرب بيت الله المقدس، وأحرق كتبه، فغضب الله عليه فلم يقبل منه التوبة انتهى.
قال السدي: إن بختنصر، لما رجع إلى صورته، ورد الله عليه ملكه، كان دانيال وأصحابه، من أكرم الناس عليه، فحسدتهم المجوس، وقالوا لبختنصر: إن دانيال إذا شرب لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عاراً، فجعل لهم طعاماً فأكلوا وشربوا، وقال للبواب: انظر أول من يخرج للبول، فاضربه بالطبر، فإن قال: أنا بختنصر، فقل: كذبت! بختنصر أمرني بقتلك، فكان أول من قام للبول بختنصر، فلما رآه البواب، شد عليه فقال: أنا بختنصر، فقال البواب: كذبت بختنصر أمرني بقتلك، ثم ضربه فقتله. هكذا قال أصحاب المبتدا.

وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن نمرود الجبار، لما حاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ربه، قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً، فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور، فرباها حتى شبت، واتخذ تابوتاً، فجعل له باباً من أعلاه وباباً من أسفله، وقعد نمرود مع رجل في التابوت، ونصب خشبات في أطراف التابوت، وجعل على رؤوسها اللحم، وربط التابوت بأرجل النسور وخلاها، فطارت وصعدت طمعاً في اللحم، حتى مضى يوم وأبعدت في الهواء، فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها؟ ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال له: افتح الباب الأسفل، وانظر إلى الأرض، كيف تراها؟ ففعل وقال: أرى الأرض مثل اللحة والجبال مثل الدخان، فطارت النسور يوماً آخر وارتفعت، حتى حالت الريح بينها وبين الطيران، فقال لصاحبه: افتح البابين وانظر ففتح الأعلى، فإذا السماء كهيئتها، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة. ونودي: أيها الطاغية إلى أين تريد؟ وقال عكرمة: كان معه في التابوت غلام، قد حمل قوساً ونشاباً، فرمى بسهم، فعاد إليه السهم ملطخاً بدم سمكة، قذفت بنفسها من بحر في الهواء، وقيل بدم طائر أصابه السهم. فقال: كفيت إله السماء. قال: ثم إن النمرود، أمر صاحبه أن يصوب الخشبات، وينكس اللحم ففعل، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال هفيف التابوت والنسور، ففزعت وظنت أنه قد حدث حادث من السماء، وأن الساعة قد قامت، فكادت تزول عن أماكنها. فذلك قوله تعالى: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قرأ ابن مسعود رضي الله عنه إن كاد بالدال المهملة وقرأ العامة بالنون وقرأ ابن جريج والكسائي لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، وقرأ العامة بكسر اللام الأولى ونصب الثانية. قال الجوهري: نسر صنم لذي الكلاع بأرض حمير، وكان يغوث لمذحج، ويعوق لهمدان من أصنام قوم نوح عليه السلام. قال الله تعالى: " ولا يغوث ويعوق نسرا " انتهى.
وإلى هذا أشار العباس رضي الله تعالى عنه، عم النبي صلى الله عليه وسلم، لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، فقال: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل لا يفضض الله فاك " . فأنشد العباس رضي الله تعالى عنه يقول:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاعت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النو ... ر وسبل الرشاد نخترق
تتمة: روى الدارقطني، عن عقبة بن عامر الجهني، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما عرج بي إلى السماء الدنيا، دخلت جنة عدن، فوقعت في يدي تفاحة، فلما وضعتها في يدي انقلبت حوراء عيناء مرضية، أشفار عينها كمقادم النسور، فقلت لها: لمن أنت. فقالت: للخليفة بعدك " .
الحكم: يحرم أكله لاستخباثه، وأكله الجيف.
الأمثال: قالوا: أعمر من نسر وقالوا: أتى الأبد على لبد وهذا اللبد الذي هو آخر نسور لقمان بن عاد.

وكان لقمان بن عاد الأصغر، قد سيره قومه، وهم عاد الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز، إلى الحرم يستسقي لهم، ومعه رهط من قومه، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارج الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهراً، وكان مسيرهم شهراً. فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم، من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي، والله ما أدري كيف أصنع بهم. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا: قل شعراً لا يدرون من قاله، لعل ذلك يحركهم! فقال شعراً يؤنبهم فيه ويذكرهم الأمر الذي وفدوا لأجله، فلما غنتهم الجرادتان شعره، قال بعضهم لبعض: إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم.
فقال مرثد بن سعد، وكان قد آمن بهود عليه الصلاة والسلام سراً: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وأنبتم إلى ربكم سقيتم. فأظهر إسلامه عند ذلك، وقال شعراً يذكر فيه إسلامه. فقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا مرثد بن سعد، فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا.
ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر، حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله، ووفد عاد يدعون. فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد.
وكان قيل بن عتر رأس وفد عاد، فقال وفد عاد: اللهم أعط ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله. فقال قيل: يا إلهنا إن كان هود صادقاً، فاسقنا فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله سحائب ثلاثاً: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب، فقال قيل: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحائب ماء، فناداه مناد: اخترت رماداً رمداً لا يبقي من آل عاد أحداً.
وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل، بما فيها من النقمة، إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، يقول الله عز وجل: " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " الآية.
وكان أول من أبصر ما فيها، وعرف أنها ريح مهلكة، امرأة من عاد، يقال لها مهدو، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت، قالوا لها: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار، أمامها رجال يقرعونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فلم تدع من عاد أحداً إلا أهلكته. واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه، من الريح إلا ما يلين عليهم ويلذ الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن، فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا عن آخرهم. فلما هلكت عاد خير لقمان بين أن يعيش عمر سبع بقرات سمر من أظب عفر، في جبل وعر لا يمسها القطر، أو عمر سبعة أنسر، كلما هلك نسر خلف من بعده نسر، وكان قد سأل الله تعالى طول العمر، فاختار النسور فكان يأخذ الفرخ حين خروجه من البيضة فيربيه فيعيش ثمانين سنة، هكذا حتى هلك منها ستة فسمى السابع لبداً. فلما كبر وهرم وعجز عن الطيران، كان يقول له لقمان: انهض لبد، فلما هلك لبد مات لقمان. وروي أن الله تعالى أمر الريح فهالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين تحت الرمل، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل، وأرسل طير أسود، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت عن الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها.
وفي الحديث أنها خرجت على قدر خرم الخاتم.
وروي عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إن قبر نبي الله هود عليه الصلاة والسلام بحضرموت، في كثيب أحمر.
وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم اقبر تسعة وتسعين نبياً منهم هود وشعيب وصالح وإسماعيل صلى الله عليهم وسلم. وقد ذكرت العرب لبداً في أشعارها كثيراً فمن ذلك قول النابغة الذبياني:
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وقد تقدم ما قاله الشاعر في ذكر لبد في باب اللام.

الخواص: إذا جعل قلب النسر في جلد ذئب، وعلق على إنسان، كان محبوباً مهاباً مقضي الحاجة عند السلطان وغيره، ولا يضره سبع أبداً. وإن عسر وضع امرأة فوضع تحتها ريشة من ريشه أسرعت الولادة. وإذا أخذ عظم كبير من عظامه وعلق على من يخدم الملوك والسلاطين أمن غضبهم، وكان محبوباً عندهم. وعظم فخذه الأيسر إن علق على من به سجج قديم نفعه وأبرأه. وعقب ساقه إن علق على من به النقرس أبرأه الأيمن للأيمن والأيسر للأيسر. وإن دخن بريشة من ريشه في بيت فيه هوام طردها، ولم يبق فيه شيء منها. وكبده إذا شويت واحترقت وشربت نفعت للباه منفعة عظيمة. وإن أخذ بيضه وضرب بعضه ببعض حتى يختلط، ويمسح به الإحليل ثلاثة أيام قوي قوة عجيبة. ومرارته تنفع من الماء النازل في العين إذا اكتحل بها سبع مرات بماء بارد، وطلي بها حول العين. وإن علق فكه الأعلى على عنق إنسان في خرقة لم يقربه شيء من الهوام.
التعبير: النسر في المنام ملك فمن رأى نسراً نازعه، فإن سلطاناً يغضب عليه ويوكل به ظالماً، لأن سليمان عليه الصلاة والسلام وكل النسر على الطير، فكانت تخافه.
ومن ملك نسراً مطاعاً أصاب ملكاً عظيماً، ومن ملك نسراً فطار به، وهو لا يخافه، فإنه يعلو أمره ويصير جباراً عنيداً لما تقدم عن النمرود. ومن أصاب فرخ نسر ولد له ولد يكون عظيماً هادياً، فإن رأى ذلك نهاراً، فإنه يمرض، فإن خدشه ذلك الفرخ طال مرضه. ورؤيت النسر المذبوح تدل على موت ملك من الملوك. ومن رأى النسر من النساء الحوامل فإنها ترى المراضع والدايات.
وقالت اليهود: النسر يفسر بالأنبياء الصالحين، لأن في التوراة شبه الصالحين بالنسر، الذي يعرف وطنه ويرفرف على فراخه ويزقها. وقال إبراهيم الكرماني: النسر يعبر بأكبر الملوك لأن الله تعالى خلق ملكاً على صورته، وهو موكل بأرزاق الطير. وقال جاماست: من رأى نسراً أو سمع صياحه، خاصم إنساناً.
وقال ابن المقري: من ملك نسراً أو تحكم عليه نال عزاً وسلطاناً ونصرة على أعدائه، وعاش عمراً طويلا فإن كان الرائي من أهل الجهد والاجتهاد انقطع عن الناس واعتزلهم، وعاش منفرداً لا يأوي إلى أحد. وإن كان ملكاً انتصر على أعدائه، وربما صالحهم وأمن شرهم ومكايدهم وانتفع بما عندهم من السلاح والمال، وإن كان من عوام الناس نال منزلة تليق به أو مالا وانتصر على أعدائه. وربما دلت رؤية النسر على البدعة والضلالة عن الهدى، نعوذ بالله من ذلك لقوله تعالى: " ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً " . ورؤية المؤنث منها نساء خواطئ، وصغار أولاد زنا، وكذلك العقاب. قال: وربما دلت رؤيتها على الموت لاقتناصها الأرواح، وأكلها الميتة والجيفة. وربما دل النسر على الغيرة على العيال والله تعالى أعلم.
النساف: بفتح النون وتشديد السين طائر له منقار كبير، قاله ابن سيده.
النسناس: قال في المحكم هو خلق في صورة الناس مشتق منهم لضعف خلقهم، وقال في الصحاح: هو جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة انتهى.
وقال المسعودي، في مروج الذهب: إنه حيوان كالإنسان له عين واحدة، يخرج من الماء ويتكلم. ومتى ظفر بالإنسان قتله. وفي كتاب القزويني، قال في الأشكال: إنه أمة من الأمم، لكل واحد منهم نصف بدن ونصف رأس ويد ورجل، كأنه إنسان شق نصفين يقفز على رجل واحدة قفزاً شديداً، ويعدو عدواً شديداً منكراً ويوجد في جزائر بحر الصين.
وفي المجالسة للدينوري، عن ابن قتيبة عن عبد الرحمن بن عبد الله أنه قال: قال ابن إسحاق: النسناس خلق باليمن، لأحدهم عين ويد ورجل، يقفز بها، وأهل اليمن يصطادونهم فخرج قوم لصيدهم، فرأوا ثلاثة نفر منهم، فأدركوا واحداً منهم فعقروه وتوارى اثنان في الشجر، فذبح الذي عقر فقال أحدهم لصاحبه: إنه لسمين، فقال أحد الاثنين: إنه كان يأكل الضرو فأخذوه فذبحوه. فقال الذي ذبحه: ما أنفع الصمت! فقال الثالث: فأنا الصميت فأخذوه فذبحوه.
قال ابن سيده: الضر والبطم، وهو شجر الحبة الخضراء، كذا يسميه أهل اليمن.

وقال الميداني، في باب الهمزة من الأمثال: قال أبو الدقيس: إن الناس كانوا يأكلون النسناس، وهم قوم لكل منهم يد ورجل ونصف رأس ونصف بدن يقال: إنهم من نسل أرم بن سام أخي عاد وثمود ليست لهم عقول، يعيشون في الآجام على ساحل بحر الهند والعرب، يصطادونهم ويأكلونهم وهم يتكلمون بالعربية، ويتناسلون ويتسمون بأسماء العرب، ويقولون الأشعار. وفي تاريخ صنعاء أن رجلا تاجراً سافر إلى بلادهم، فرآهم يثبون على رجل واحدة، ويصعدون الشجر، ويفرون من الكلاب خوفاً أن تأخذهم وسمع واحداً منهم يقول:
فررت من خوف الشراة شدا ... إذ لم أجد من الفرار بدا
قد كنت قدما في زماني جلدا ... فها أنا اليوم ضعيف جدا
وروى أبو نعيم، في الحلية عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: ذهب الناس وبقي النسناس. قيل: ما النسناس؟ قال: الذين يتشبهون بالناس، وليسوا بالناس.
وفي المجالسة للدينوري، من كلام الحسن البصري، أنه قال: ذهب الناس وبقي النسناس، لو تكاشفتم ما تدافنتم. وهو في الفائق ونهاية ابن الأثير وغريب الهروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقيل: النسناس يأجوج ومأجوج. وقيل: خلق على صورة الناس أشبهوهم في شيء وخالفوهم في شيء وليسوا من بني آدم.
ومنه الحديث " إن حياً من عاد عصوا نبيهم فمسخهم الله نسناساً، لكل واحد منهم يد ورجل من شق واحد، ينقرون كما ينقر الطير، ويرعون كما ترعى البهائم " . ونونها الأولى مكسورة وقد تفتح. وروى أحمد في الزهد، عن مطرف بن عبد الله أنه قال: عقول الناس على قدر زمانهم. وقال: هم الناس والنسناس وأناس غمسوا في ماء الناس. قال الكريمي: سمعت أبا نعيم يقول: كثيراً ما يعجبني قول عائشة رضي الله تعالى عنها:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
لكن أبا نعيم يقول:
ذهب الناس فاستقلوا وصاروا ... خلف في أراذل النسناس
في أناس نعدهم من عديد ... فإذا فتشوا فليسوا بناس
كلما جئت أبتغي النيل منهم ... بدروني قبل السؤال بياس
وبلوني حتى تمنيت أني ... منهم قد أقلت رأساً براس
الحكم: قال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو حامد: لا يحل أكل النسناس لأنه على خلقة الناس. ولذلك قال الشيخ محب الدين الطبري، في شرح التنبيه: وأما هذا الحيوان، الذي تسميه العامة بالنسناس، فهو نوع من القردة، لا يعيش في الماء فينبغي تحريم أكله، لأنه يشبه القردة في الخلقة والخلق والذكاء والفطنة. وأما الحيوان البحري منه ففي حكمه وحل أكله وجهان: أحدهما يحل كغيره من السمك، واختاره الروباني وغيره.
والثاني يحرم كما تقدم، وبه قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب، وهو عندهما مستثنى مما عدا السمك، مما لا يعيش إلا في الماء. وترتيب الخلاف فيه: أنا إذا قلنا بتحريم ما عدا الحوت، حرم النسناس. وإن قلنا بإباحته، ففي النسناس وجهان: أحدهما التحريم كالضفدع والسرطان والتمساح. والثاني الحل ككلب الماء وإنسانه. وهذا هو الأقرب إلى نص الشافعي. ويشهد له قول صاحب المحكم، وقول كراع في البحر المتقدم. والنسناس، فيما يقال، دابة في عداد الوحش، تصاد وتؤكل. وهو على شكل الإنسان بعين واحدة، ورجل واحدة، ويد واحدة، يتكلم كالإنسان انتهى. فأفاد قوله أنها تصاد وتؤكل أنها مستطابة، وقد تقدم عن الدينوري عن أبي إسحاق أن النسناس يصاد ويؤكل. وقاله الميداني أيضاً كما تقدم.
التعبير: هو في الرؤيا رجل قليل العقل يهلك نفسه ويفعل فعلا يسقطه من أعين الناس والله أعلم.
النسنوس: طائر يأوي الجبال، له هامة كبيرة.
النضو: بالكسر البعير المهزول، والناقة نضوة والجمع فيهما أنضاء. وقد أنضتها الأسفار فهي منضاة وأنضى فلان بعيره أي أهزله، وقد أحسن الوزير مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي الطغرائي صاحب لامية العجم، وكان من أفراد الدهر، وحامل لواء النظم والنثر، في قوله: يقتلن أنضاء حب لا حراك به وينحرون كرام الخيل والإبل

وأحسن الشارح لكلامه الشيخ صلاح الدين الصفدي في ذكره العددين المتحابين هنا، وهما المائتان والعشرون، فإنه عدد زائد أجزاؤه أكثر منه، لأنها إذا جمعت كانت مائتين وأربعة وثمانين بغير زيادة ولا نقصان، والمائتان والأربعة والثمانون علا ناقص أجزاؤه أقل منه، لأنها إذا جمعت كانت جملتها مائتين وعشرين. فكل من العددين المتحابين أجزاؤه مثل الآخر.
بيان ذلك أن العدد التام هو الذي إذا جمعت أجزاؤه كانت مثله، وهو الستة، فإن أجزاءها البسيطة الصحيحة: النصف وهو ثلاثة، والثلث هو اثنان، والسدس وهو واحد. والعدد الناقص ما إذا جمعت أجزاؤها البسيطة الصحيحة كانت أقل منه، كالثمانية فإن أجزاءها النصف والربع والثمن. وهي سبعة.
والعدد الزائد ما إذا جمعت أجزاؤه زادت عليه كالإثنى عشر فمجموع أجزائها ستة عشر، وهي تزيد على الأصل. والمائتان والعشرون لها نصف، وهو مائة وعشرة، وربع وهو خمسة وخمسون، وخمس وهو أربع وأربعون، وعشر وهو اثنان وعشرون، ونصف عشر وهو أحد عشر، وجزء من أحد عشر وهو عشرون، وجزء من اثنين وعشرين وهو عشرة، وجزء من أربع وأربعين وهو خمسة، وجزء من خمسة وخمسين وهو أربعة، وجزء من مائة وعشرة وهو اثنان، وجزء من مائتين وعشرين وهو واحد. وجملة ذلك مائتان وأربعة وثمانون. والمائتان والأربعة والثمانون ليس لها إلا نصف وهو مائة واثنان وأربعون، وربع وهو أحد وسبعون، وجزء من أحد وسبعين وهو أربعة، وجزء من مائة واثنين وأربعين هو اثنان، وجزء من مائتين وأربعة وثمانين وهو واحد، وجملة ذلك من الأجزاء الصحيحة مائتان وعشرون.
فقد ظهر بهذا المثل تحاب العدين. وأصحاب الخواص يزعمون أن لذلك خاصية عجيبة في المحبة إذا جعل العدد الأقل والعدد الأكثر في شيء من المأكول وأطعم لمن يريد محبته ويجمع هذين العددين قولك: " فردكر " قال الشارح: وكنت بخلت بهذه الفائدة أن أودعها هذا الكتاب، ثم رأيت إثباتها فيه والله أعلم.
النعاب: في فتاوى ابن الصلاح أنه اللقلق.
وحكمه: تحريم الأكل على الأصح كما تقدم والمعروف أنه الغراب. يقال: نعب الغراب وغيره ينعب نعباً ونعيباً ونعاباً وتنعاباً ونعباناً، إذا صوت وقيل: إذا مد عنقه وحرك رأسه وصوت. وفي المجالسة للدينوري، في أوائل الجزء العاشر، عن الأخوص بن حكيم قال: كان من دعاء داود عليه الصلاة والسلام: يا رازق النعاب في عشه، قال: وذلك أن الغراب إذ فقس عن فراخه، خرجت بيضاً، فإذا رآها كذلك نفر عنها، فتفتح أفواهها فيرسل الله تبارك وتعالى لها ذباباً يدخل في أجوافها، فيكون ذلك غذاء لها حتى تسود، فإذا اسودت عاد الغراب فغذاها، ويرفع الله تعالى الذباب عنها. وكذلك ذكره صاحب كتاب الحجة لبيان المحجة وغيره، عن مجاهد وغيره. وقد تقدم في باب الحاء المهملة، في لفظ الحمار الوحشي أن الحريري أشار إلى ذلك في المقامة الثالثة عشر بقوله:
يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكسير المهيض
أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس الذم نقى رحيض
والذي رويناه في كتاب الترمذي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان من دعاء داود عليه السلام: " اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومن أهلي ومن الماء البارد " . قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذكر داود عليه السلام، يقول: " كان أعبد البشر " . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروينا في كتاب حلية الأولياء، عن الفضيل بن عياض، رحمه الله، قال: قال داود عليه السلام: إلهي كن لابني سليمان كما كنت لي، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: يا داود قل لابنك سليمان، يكن لي كما كنت لي، حتى أكون له كما كنت لك.

وهذا الدعاء الذي رواه الترمذي، عن داود عليه السلام، روي أيضاً نحوه عن نبينا صلى الله عليه وسلم، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعاً فثوب بالصلاة، فصلى وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته فقال لنا: " على مصافكم كما أنتم " . ثم انفتل إلينا فقال: " أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد. فقلت: لبيك ربي. قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: رب لا أدري. قال تعالى: " في الكفارات والمرجات " . وفي روايه " قلت: في الكفارات والدرجات " . قال: فما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على المكروهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل، والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها حق فادرسوها ثم تعلموها " . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
النعام: معروف، يذكر ويؤنث، وهو اسم جنس مثل حمام وحمامة، وجراد وجرادة، وتجمع النعامة على نعامات. ويقال لها أم البيض وأم ثلاثين، وجماعتها بنات الهيق، والظليم ذكرها. قال الجاحظ: والفرس يسمونها اشتر مرغ، وتأويله بعير وطائر. قال الشاعر:
ومثل نعامة تدعى بعيرا ... تعاصينا إذا ما قيل طيري
فإن قيل احملي قالت: فإني ... من الطير المرفه في الوكور
قال: ويقال لقدم البعير خف، والجمع خفاف ومنسم والجمع مناسم. وكذلك يقال في النعامة ويقال لأنثى النعام قلوص، كما يقال ذلك في الإبل، وإنما قالوا ذلك لما رأوا فيها من شبه الإبل. قال: وتزعم الأعراب، أن النعامة ذهبت تطلب قرنين، فقطعوا أذنيها، فلذلك سميت بالظليم انتهى. وكأنهم إنما سموها ظليماً لأنهم ظلموها، حين قطعوا أذنيها ولم يعطوها ما طلبت، وهذا بناء على اعتقادهم الفاسد.
والنعامة صمعاء، يقال: خرج السهم متصمعاً إذا ابتلت قذذه من الدم. ويقال: أتانا بثريدة متصمعة إذا دققها وحدد رأسها، وصومعة الراهب منه، لأنها دقيقة من أعلى الرأس، ورجل أصمع القلب إذا كان حديداً ماضياً، ويقال للرجل أيضاً إذا كان قصير الأذنين لاصقتين بالرأس أصمع، والمرأة صمعاء وبنو أصمع قبيلة من العرب منهم الأصمعي، واسمه عبد الملك بن قريب، وهو صاحب لغة ونحو وشعر ونوادر. فمن نوادره أنه قال: مررت في بعض سكك الكوفة، فإذا برجل قد خرج من حش على كتفه جرة وهو يقول:
وأكرم نفسي أنني إن أهنتها ... وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت له: أتكرمها بمثل هذا؟ قال: نعم واستغني عن سفلة مثلك، إذا سألته قال: صنع الله بك وترك. فقلت: تراه عرفني. فأسرعت فصاح بي يا أصمعي فالتفت فقال:
لنقل الصخر من قلل الجبال ... أحب إلي من منن الرجال
يقول الناس: كسب فيه عار ... وكل العار في ذل السؤال
وقال الأصمعي: سألت أعرابية عن ولد لها كنت أعرفه، فقالت: مات وأنسى المصائب. ثم قالت:
وكنت أخاف الدهر ما كان آمناً ... فلما تولى مات خوفي من الدهر
وقال: تلت لرجل من الأعراب أعرفه بالكذب: أصدقت قط؟ فقال: لولا أني أصدق في هذا لقلت: لا. وقال الأصمعي للكسائي، وهما عند الرشيد: ما معنى قول الراعي؟
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ... ودعا فلم أر مثله مخذولا
فقال الكسائي: كان محرماً بالحج. فقال الأصمعي: فما أراد عدي بن زيد بقوله:
قتلوا كسرى بليل محرماً ... فمضى فلم يمتع بكفن

فهل كان محرماً بالحج وأي إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد للكسائي: يا علي إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي. وروي أن الرشيد قال للأصمعي: ما أحسن ما مر بك في تقويم اللسان؟ قال: أوصى رجل بعض بنيه فقال: يا بني أصلحوا من ألسنتكم، فإن الرجل تنوبه النائبة، فيتحمل فيها فيستعير من أخيه وأبيه ومن صديقه ثوبه، ولا يجد من يعيره لسانه، وأنشد في ذلك:
وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن اللسان
كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجه وليس له لسان
ويروى عن الأصمعي أنه قال: وجدني أبو عمرو بن العلاء ماراً في بعض أزقة البصرة فقال: إلى أين يا أصمعي؟ فقلت: لزيارة بعض إخواني. فقال: يا أصمعي إن كان لفائدة أو عائدة، وإلا فلا. وقد أنشدني في ذلك يوسف الحلبي:
يا أيها الإخوان أوصيكم ... وصية الوالد والوالده
لا تنقلوا الأقدام إلا إلى ... من لكم عنده فائده
إما لعلم تستفيدونه ... أو لكريم عنده مائده
وكان من كلام الأصمعي: خير العلم ما أطفأت به الحريق، وأخرجت به الغريق. وكان يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، فيها ما عدد أبياتها المائة والمائتان. ومن عجيب ما يحكى قال أبو العيناء: كنا في جنازة الأصمعي، فحدثني أبو قلابة الشاعر، وأنشدني لنفسه:
لعن الله أعظماً حملوها ... نحو دار البلى على خشبات
أعظما تبغض النبي وأهل ال ... بيت والطيبين والطيبات
قال: ثم حدثني أبو العالية الشاعر وأنشدني لنفسه أيضاً:
لا در در نبات الأرض إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا
عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفا
وكانت وفاة الأصمعي في سنة ست عشرة مائتين بالبصرة.
والنعام، عند المتكلمين على طبائع الحيوان، ليست بطائر وإن كانت تبيض، ولها جناح وريش، ويجعلون الخفاش طيراً، وإن كان يحبل ويلد، وله أذنان بارزتان، وليس له ريش لوجود الطيران فيه، ومراعاة لقوله تعالى: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني " وهم يسمون الدجاجة طيراً، وإن كانت لا تطير. وظن بعض الناس، أن النعامة متولدة من جمل وطائر، وهذا لا يصح. ومن أعاجيبها أنها تضع بيضها طولا، بحيث لو مد عليها خيط، لاشتمل على قدر بيضها، ولم تجد لشيء منه خروجاً عن الآخر، ثم إنها تعطي كل بيضة منه نصيبها من الحضن، إذ كان كل بدنها لا يشتمل على عدد بيضها. وهي تخرج لعدم الطعم، فإن وجدت بيض نعامة أخرى، تحضنه وتنسى بيضها، ولعلها أن تصاد فلا ترجع إليه، ولهذا توصف بالحمق، ويضرب بها المثل في ذلك قال ابن هرمة:
فإني وتركي ندى الأكرمين ... وقد حي بكفي زناداً شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
ويقال إنها تقسم بيضها أثلاثاً: فمنه ما تحضنه، ومنه ما تجعل صفاره غذاء، ومنه ما تفتحه وتجعله في الهواء حتى يتعفن، ويتولد منه دود، فتغذي بها فراخها إذا خرجت.
قال في الكفاية: يقال عار الظليم إذا صاح، والزمار صياح الأنثى. وقال ابن قتيبة: يقال عريعر للذكر، والأنثى زمر زماراً انتهى. وقد سمى الحريري، في المقامات، النعامة باسم صوتها. فقال: ما تقول فيمن أتلف زمارة في الحرم؟ قال: عليه بدنة من النعم.
روي عن كعب الأحبار قال: لما أهبط الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام، جاءه ميكائيل بشيء من حب الحنطة، وقال: هذا رزقك، ورزق أولادك من بعدك، قم فاحرث الأرض، وابذر الحب. قال: ولم يزل الحب من عهد آدم عليه السلام، إلى زمن إدريس عليه السلام، كبيضة النعامة، فلما كفر الناس نقص إلى بيضة الدجاجة، ثم إلى بيضة الحمامة، ثم إلى قدر البندقة. وكان في زمن العزيز على قدر الحمصة.
والنعام من الحيوان الذي يزاوج ويعاقب الذكر والأنثى في الحضن، وكل ذي رجلين، إذا انكسرت له إحداهما، استعان بالأخرى في نهوضه وحركته، ما خلا النعامة فإنها تبقى في مكانها جاثمة حتى تهلك جوعاً قال الشاعر:
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا بأستها حبوا

وليس للنعام حاسة السمع، ولكن له شم بليغ، فهو يدرك بأنفه، ما يحتاج فيه إلى السمع، فربما شم رائحة القناص من بعد، ولذلك تقول العرب: هو أشم من نعامة، كما تقول: هو أشم من ذرة. قال ابن خالويه، في كتابه: ليس في الدنيا حيوان لا يسمع ولا يشرب الماء أبداً إلا النعام. ولا مخ له ومتى دميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية. والضب أيضاً لا يشرب، ولكنه يسمع. ومن حمقها أنها إذا أدركها القناص أدخلت رأسها في كثيب رمل، تقدر أنها قد استخفت منه، وهي قوية الصبر على ترك الماء، وأشد ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح، وكلما اشتد عصوفها، كانت أشد عدواً وتبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء.
قال الجاحظ: من زعم أن جوف النعام إنما يذيب الحجارة، لفرط الحرارة، فقد أخطأ. ولكن لا بد مع الحرارة من غرائز أخر، بدليل أن القدر يوقد عليها الأيام ولا تذيب الحجارة. وكما أن جوفي الكلب والذئب يذيبان العظم، ولا يذيبان نوى التمر، وكما أن الإبل تأكل الشوك وتقتصر عليه، وإن كان شديداً كالسمر، وهو شجر أم غيلان، وتلقيه روثاً، وإذا أكلت الشعير ألقته صحيحاً انتهى.
وإذا رأت النعامة في أذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفتها. وتبتلع الجمر فيكون جوفها هو العامل في إطفائه ولا يكون الجمر عاملا في إحراقه، وفي ذلك أعجوبتان إحداهما التغذي بما لا يتغذى به، والثانية الاستمراء والهضم، وهذا غير منكر، لأن السمندل يبيض ويفرخ في النار كما تقدم. وأما قول الحريري في المقامة السادسة: فقلدوه في هذا الأمر الزعامة، تقليد الخوارج أبا نعامه. فأبو نعامة هو قطري بن الفجاءة واسمه جعونة بن مازن المازني الخارجي، خرج زمن مصعب بن الزبير فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة، وكان كلما سير إليه الحجاج جيشاً يستظهر قطري عليه. ويروى أن شخصاً قال للحجاج: أيها الأمير، فقال الحجاج: إنما الأمير قطري بن الفجاءة، الذي إذا ركب، ركب لركوبه عشرون ألفاً لا يسألونه أين يريد! وكان قطري مقداماً لا يهاب الموت، وفي ذلك يقول مخاطباً لنفسه وهي من أبيات الحماسة:
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لا تراعي
لأنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي ... وداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لا يغتبط يسأم ويهرم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عد من سقط المتاع
وهذه الأبيات تشجع أجبن خلق الله تعالى. ثم توجه إلى قطري سفيان بن الأبرد الكلبي، فظهر على قطري وقتله. ولا عقب لقطري، إنما قيل لأبيه الفجاءة، لأنه كان باليمن، فقدم على أهله فجاءة فسمي بها. كذا قال ابن خلكان وغيره.
الحكم: يحل أكل النعام بالإجماع، لأنه من الطيبات، ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنه قضوا فيه، إذا قتله المحرم أو في الحرم ببدنة. روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم. رواه الشافعي والبيهقي، ثم قال الشافعي: هذا غير ثابت عند أهل العلم بالحديث، وهو قول الأكثر ممن لقيت. وإنما قلنا في النعامة بدنة بالقياس لا بهذا. واختلفوا في بيض النعام، إذا أتلفه المحرم أو في الحرم، فقال عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: تجب فيه القيمة. وقال أبو عبيدة وأبو موسى الأشعري: يجب فيه صيام يوم أو إطعام مسكين. وقال مالك: يجب فيه عشر ثمن البدنة كما في جنين الحرة غرة من عبد أو أمة قيمة عشر دية الأم. دليلنا أنه جزء من الصيد، لا مثل له من النعم، فوجبت قيمته، كسائر المتلفات التي لا مثل لها.
وأما حديث أبي المهزم، الذي رواه ابن ماجه والدارقطني، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه " فهو ضعيف باتفاف المحدثين، وبالغوا في تضعيفه حتى قال شعبة: أعطوه فلسا يحدثكم سبعين حديثاً.
وقد تقدم ذكر أبي المهزم في الجراد أيضاً، لكن في مراسيل أبي داود، من حديث عائشة

رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في بيض النعام، في كل بيضة صيام يوم. ثم قال أبو داود: أسند هذا الحديث والصحيح إرساله. واستدل له في المهذب، بأنه خارج من الصيد يخلق منه مثله، فضمن بالجزاء كالفرخ، فإن كسر بيضاً لم يحل له أكله بلا خلاف.
وفي تحريمه على الحلال طريقان: أصحهما أنه لا يحرم، لأنه لا روح فيه، ولا يحتاج إلى ذكاة، فإن كسر بيضاً مذراً لم يضمنه من غير النعامة، لأنه لا قيمة له، ويضمنه من النعامة لأن لقشره قيمة. وقال الشافعي: لا أكره لمن يعلم من نفسه في الحرب بلاء أن يعلم. والمراد بالإعلام أن يجعل في صدره ريش نعام، كما فعله حمزة رضي الله تعالى عنه يوم بدر، فإنه غرز ريش النعام في صدره. وفي كتاب مناقب الشافعي، للحاكم أبي عبد الله، بإسناده عن محمد بن إسحاق، عن المزني، قال: سئل الشافعي عن نعامة ابتلعت جوهرة لرجل آخر، فقال: لست آمره بشيء، ولكن إن كان صاحب الجوهرة كيساً عدا على النعامة فذبحها، واستخرج جوهرته ثم ضمن لصاحب النعامة ما بين قيمتها حية ومذبوحة.
الأمثال: قالوا: مثل النعامة لا طير ولا جمل. يضرب لمن لم يحكم له بخير ولا شر، وقالوا: أروى من النعامة، لأنها لا تشرب الماء، فإن رأته شربته عبثاً. وقالوا: ركب جناح نعامة. يضرب لمن جد في أمر كانهزام أو غيره، وقد تقدم في باب السين، قول الشماخ في أبياته التي رثى بها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، لما كان آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن: مررت بالمحصب فسمعت رجلا على راحلة قد رفع عقيرته فقال:
جزى الله خيراً من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليحرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق
فلم يدر ذلك الراكب من هو، وكنا نتحدث بأنه من الجن. فرجع عمر رضي الله تعالى عنه من تلك الحجة فطعن فمات. وقالوا: تكلم فلان فجمع بين الأروى والنعامة إذا تكلم بكلمتين مختلفتين، لأن الأروى يسكن الجبال، والنعامة تسكن الفيافي، فلا يجتمعان. وقالوا: أحمق من نعامة وأجبن من نعامة. وذلك أنها إذا خافت شيئاً، لا ترجع إليه بعد ذلك أبداً.
الخواص: مرارته سم ساعة، ومخ عظامه يورث آكله السل، وذرقه إذا أحرق وسحق وطلي به على السعفة أبرأها من وقته، وقشر بيض النعام إذا طرح في الخل بعد ما يخرج جميع ما فيه، تحرك في الخل وزال من موضعه، إلى موضع آخر. وإذا عمل من الحديد الذي يأكله النعام، ويخرج منه سكين أو سيف، لم يكل أبداً ولم يقم له شيء.
التعبير: النعامة في المنام امرأة بدوية، وقيل: النعامة نعمة، فمن ركب نعامة في منامه فإنه يركب خيل البريد، وقيل: من ركب نعامة فإنه ينكح خصياً، والنعامة تدل على الأصم لأنها لا تسمع، وقيل: تدل على النعي لأنه مشتق من اسمها، وربما دلت على النعمة. والنعامتان على نعمتين والثلاث نعامات على نعي الرائي وموته للاشتقاق والله أعلم.
النعثل: كجعفر، الذكر من الضباع وكان أعداء عثمان رضي الله تعالى عنه يسمونه نعثلا. النعجة: الأنثى من الضأن والجمع نعاج ونعجات قال الشاعر:
من كان ذا بت فهذا بتي ... مقيظ مصيف مشتى
تخذته من نعجات ست ... سود نعاج من نعاج الدست
والدست الصحراء، وكنيتها أم الأموال وأم فروة، وتطلق على الأنثى من الظباء والبقر الوحشية. روى أحمد بن صالح السهمي، عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم نعجة، فقال: " هذه التي بورك فيها، وفي خروفها " . لكنه حديث منكر جداً. وربما كنى بالنعجة عن المرأة، قال الله تعالى: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " قرأ الحسن نعجة بكسر النون.

قال في التمهيد سئل المبرد عن قول الله تعالى: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " وهم الملائكة، والملائكة لا أزواج لهم. فقال: نحن طول الزمان نفعل مثل هذا، نقول: ضرب زيد عمراً، وإنما هذا تقدير، كان المعنى إذا وقع هكذا فيكف الحكم فيه؟ ومثله قول عدي بن زيد للنعمان: أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك. فقال: وما تقول؟ قال: تقول:
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال
وقول آخر:
شكا إلي جملي طول السرى ... صبراً جميلا فكلانا مبتلى
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ولي نعجة أنثى قلت: يقال: امرأة أنثى للحسناء الجميلة، والمعنى وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أصلح وأزيد في تكسرها وتثنيها، ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال. وقوله:
تمشي رويداً وتكاد تنعسف
وفي مسند أبي محمد الدارمي، في باب سخاء النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن أبي بكر، عن رجل من العرب، قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفحني نفحة بسوط كان في يده، وقال: بسم الله لقد أوجعتني. قال: فبت لنفسي لائماً أقول: أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبت بليلة كما يعلم الله. فلما أصبحنا، إذا برجل يقول: أين فلان؟ قال: فقلت: والله هذا الذي كان مني بالأمس. قال: فانطلقت وأنا متخوف. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فنفحتك نفحة بالسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها " .
الأمثال: قالوا: أعجل من نعجة إلى حوض وأحمق من نعجة على حوض، لأنها إذا رأت الماء أكبت عليه تشرب، فلا تنثني عنه إلا أن تزجر أو تطرد.
الخواص: قرن النعجة إذا أخذ وقرئ عليه ثلاث مرات: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً " . ووضع تحت رأس امرأة نائمة، من غير أن تعلم، وسئلت عن شيء أخبرت به، ولا تكاد تكتم شيئاً مما تعلم. ومرارتها إذا أحرقت وخلطت بزيت، وطلي بها الحواجب كثرت شعرها وسودته. ولبن النعاج إذا كتب به على قرطاس فلا تظهر عليه، فإذا طرح في الماء ظهرت عليه كتابة بيضاء. وإن تحملت امرأة بصوف نعجة قطعت الحبل، وقد تقدم.
التعبير: النعجة في المنام امرأة شريفة غنية إذا كانت سمينة، لأنه قد كني عن النساء بالنعاج كما تقدم، ومن أكل لحم نعجة ورث امرأة، وصوفها ولبنها مال. ومن رأى نعجة دخلت منزله نال خصباً في تلك السنة. والنعجة الحامل خصب ومال يرتجى، ومن صارت نعجته كبشاً فإن زوجته لا تحمل أبداً. وقس على هذا في جميع الإناث. والنعاج الكثيرة نساء صالحات، وربما دلت رؤيتهن على الهموم والأفكار، وفقد الأزواج وزوال المنصب لقوله تعالى: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " الآية.
النعبول: بضم النون طائر قاله ابن دريد وغيره.
النعرة: مثال الهمزة، ذباب ضخم أزرق العين له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحوافر خاصة. سميت نعرة بضم النون وفتح العين المهملة لنعيرها وهو صوتها قال ابن مقبل:
ترى النعرات الخضر حول لباته ... أحاد ومثنى أضعفتها صواهله
وربما دخلت في أذن الحمار، فركب رأسه ولا يرده شيء. تقول منه: نعر الحمار بالكسر، ينعر نعراً فهو نعر.
الحكم: يحرم أكله.
الأمثال: قالوا: فلان في أنفه أو أذنه نعرة، يضرب للجامح الذي لا يستقر على شيء.
النعم: عند اللغوين الإبل والشاء، يذكر ويؤنث.
قال الله تعالى: " نسقيكم مما في بطونها " وقال تعالى في موضع آخر: " مما في بطونه " والجمع أنعام وجمع الجمع أناعيم. وعند الفقهاء النعم يشمل الإبل والبقر والغنم. وقال ابن الأعرابي: النعم الإبل خاصة، والأنعام الإبل والبقر والغنم.
وحكى القشيري، في تفسير قوله تعالى: " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون " أنها الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، " فهم لها مالكون " أي ضابطون مطيعون كما قال الشاعر:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
أي لا أضبطه وقوله تعالى: " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام " قال ثعلب: معناه لا يذكرون الله على طعامهم ولا يسمعون، كما أن الأنعام لا تفعل ذلك.
روى الشيخان وغيرهما، من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعلي رضي الله تعالى عنه: " لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم " . وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله، بحيث إنه إذا اهتدى به رجل واحد لا يعلم العلم، كان ذلك خيراً له من حمر النعم، وهي خيارها وأشرفها عند أهلها، فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس.
والنعم كثيرة الفائدة، سهلة الانقياد، ليس لها شراسة الدواب، ولا نفرة السباع، ولشدة حاجة الناس إليها، لم يخلق الله سبحانه وتعالى لها سلاحاً شديداً، كأنياب السباع وبراثنها، وأنياب الحشرات وابرها، وجعل من شأنها الثبات والصبر على التعب والجوع والعطش. وخلقها ذلولا تقاد بالأيدي، كما قال تعالى: " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " وجعل الله تعالى قرنها سلاحاً لها، لتأمن به من الأعداء، ولما كان مأكلها الحشيش، اقتضت الحكمة الإلهية أن جعل له أفواها واسعة، وأسناناً حداداً، وأضراساً صلاباً، لتطحن بها الحب والنوى.
فائدة: جعل الله تعالى الأنعام رفقاً بالعباد ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة، قال الله تعالى: " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون " فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع، ويذهبون نعمة الله فيها، ويزيلون المنفعة والمصلحة التي للعباد فيها بفعلهم الخبيث.
قاد الله تعالى: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " فلفظ جعل في الآية لا يتجه أن يكون بمعنى خلق، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هو بمعنى ما سن ولا شرع، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد.
والبحيرة هي الناقة، كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها، أي شقوها وحرموا ركوبها، والحمل عليها، ولم يجزوا وبرها، وتركوها تأكل حيث شاءت لا تطرد عن ماء ولا كلأ، ثم نظروا إلى خامس ولدها، فإن كان ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها وتركوها، وحرموا على النساء لبنها ومنافعها. وكانت منافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء، وقيل: كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً سيبت، فلم تركب ظهورها، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى بحر أذنها، أي شق ثم خلى سبيلها مع أمها في الإبل، فلم تركب ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها، فهي البحيرة بنت السابئة. والبحر الشق. قيل: ومنه سمي البحر بحراً لشقه الأرض، والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة.
والسائبة الناقة التي سيبت، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية، إذا مرض أو غاب قريبه نذر فقال: إن شفاني الله أو شفى مريضي، أو رد غائبي، فناقتي هي سائبة ثم يسيبها كالبحيرة، فلا تحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد. وقال علقمة: هي العبد يسيب، أي لا ولاء عليه، ولا عقل ولا ميراث.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إنما الولاء لمن أعتق " . وقال سعيد بن المسيب: السائبة الناقة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والبحيرة الناقة التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، وقيل: السائبة الناقة إذا ولدت اثنتي عشرة أنثى سيبت. والسائبة فاعلة بمعنى مفعولة كقولهم: ماء دافق أي مدفوق وعيشة راضية أي مرضية.
روى محمد بن إسحاق عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي رضي الله تعالى عنه: " يا أكثم رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منه به ولا بك منه، ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه " . قال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: " لا إنك مؤمن وهو كافر " .
وعمرو بن لحي هو أول من غير دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ونصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحام.

والوصيلة من الغنم، كانت الشاة إذا ولدت ثلاثة بطون أو خمسة أو سبعة، فإن كان آخرها جدياً ذبحوه لبيت الآلهة، وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان عناقاً استحيوها. فإن كان جدياً وعناقاً استحيوا الذكر من أجل الأنثى، وقالوا: هذه العناق وصلت أخاها فلم يذبحوه. وكان لبن الأنثى حراماً على النساء، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعاً.
والحام هو الفحل من الإبل، إذا لقح من صلبه عشرة أبطن، وقيل: إذا ضرب عشر سنين، وقيل: إذا ولد من ولد ولده، وقيل: إذا ركب من ولد ولده، قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه شيء، ولا يمنع من كلأ ولا ماء، فإذا مات أكله الرجال والنساء، فأعلم الله تعالى أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئاً بقوله عز وجل: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " وإنما هذه كلها من أفعال الجاهلية التي نهى الله عنها.
النغر: بضم النون وفتح الغين المعجمة قال الجوهري: إنه طير كالعصافير، حمر المناقير. والجمع نغران كصرد وصردان، قال الخطابي: أنشدني أبو عمرو فقال:
يحملن أوعية السلاح كأنما ... يحملنه بأكارع النغران
ومؤنثه نغرة كهمزة، وأهل المدينة يسمونه البلبل.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ لأمي فطيم يقال له عمير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءنا قال: " يا أبا عمير ما فعل النغير " ؟. وعمير تصغير عمر أو عمرو، والفطيم بمعنى المفطوم. قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى، في الحديث فوائد كثيرة منها: جواز تكنية من لم يولد له، وتكنية الطفل وأنه ليس كذباً.
وفي الحديث: " بادروا بكنى أولادكم لا تسبق إليها ألقاب السوء " . وفيه جواز المزاح فيما ليس بإثم، وجواز تصغير بعض المسميات، وجواز التسجيع في الكلام الحسن بلا كلفة، وملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وكرم الشمائل، والتواضع وزيارة أهل الفضل، لأن أم سليم والدة أبي عمير وأنس رضي الله تعالى عنهما، هي من محارمه صلى الله عليه وسلم. واستدل به بعض المالكية على جواز الصيد من حرم المدينة، ولا دلالة فيه لذلك، لأنه ليس في الحديث أنه من حرم المدينة، بل نقول: إنه صيد من الحل وأدخل الحرم. ويجوز للحلال أن يفعل ذلك، ولا يجوز له أن يصيد من الحرم، فيفرق بين ابتداء صيده، وبين استصحاب إمساكه. وقد صحت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد حرم المدينة، فلا يجوز تركها بمثل هذا الاحتمال ومعارضتها به. وفي الحديث أيضاً دليل على جواز لعب الصغير بالطير الصغير.
قال العلامة أبو العباس القرطبي: لكن الذي أجاز العلماء أن يمسك له، وأن يلهو بحبسه. وأما تعذيبه والعبث به فلا يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان إلا لمأكله. وقال غيره: معنى قوله: يلعب به يتلهى بحبسه وإمساكه، وفيه دليل على جواز حبس الطير في القفص والتلهي به لهذا الغرض وغيره.
ومنع ابن عقيل الحنبلي من ذلك، وجعله سفهاً وتعذيباً، لقول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: تجيء العصافير يوم القيامة، تتعلق بالعبد الذي كان يحبسها في القفص عن طلب أرزاقها، وتقول: يا رب هذا عذبني في الدنيا. والجواب: أن هذا فيمن منعها المأكول والمشروب. وقد سئل القفال عن ذلك؛ فقال: إذا كفاها المؤنة جاز، بل في الحديث دليل على جواز قصها للعب الصبيان بها.
وكان بعض الصحابة يكره ذلك. ورأيت لأبي العباس أحمد بن القاص مصنفاً حسناً على هذا الحديث، وذكر فيه أن أبا حنيفة سمع صوت امرأة يضربها بعلها، وهي تصيح، فقال: صدقة مقبولة وحسنة مكتوبة. فقال له رجل من أصحابه: كيف ذاك يا أستاذ؟ فقال لقوله صلى الله عليه وسلم: " أدب الجاهل صدقة عليه " . وأنا أعرفها جاهلة.
وحكمه: حل الأكل لأنه من جنس العصافير.
النغض: بكسر النون وفتحها الظليم، سمي بذلك لأنه يحرك رأسه، قال الله تعالى: " فسينغضون إليك رؤوسهم " أي يحركونها استهزاء. قال الشاعر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنه يطلب شيئاً أنفعا

النغف: بنون وغين معجمة مفتوحتين ثم فاء، دود يكون في أنوف الإبل والغنم، الواحدة نغفة. قاله الأصمعي. وقال أبو عبيدة: هو أيضاً الدود الأبيض، يكون في النوى. وما سوى ذلك من الدود فليس بنغف. وقيل: هو دود طوال سود وخضر وغبر يقطع الحرث في بطون الأرض. روى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه في حديثه الذي رواه في الدجال: " ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج، فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة " . قوله: فرسى معناه قتلى، الواحدة فريس من فرس الذئب الشاة وافترسها إذا قتلها.
وروى البيهقي، في الأسماء والصفات، في باب ما ذكر فيه الكف عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، نفضه نفض المزود فخرج منه مثل النغف، فقبض قبضتين، فقال جل وعلا لما في اليمين: هذه إلى الجنة ولا أبالي. ولما في الأخرى: هذه إلى النار ولا أبالي، ثم قال: هذا موقوف. وروي بعده بأسطر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن أخذ الميثاق على بني آدم، كان بأرض عرفات.
النفار: بالفاء كجار العصفور سمي بذلك لنفوره.
النقاز: بالقاف والزاي طائر من صغار العصافير، كأنه مشتق من النقز وهو الوثب.
النقاقة: الضفدع والنقيق صوتها. قالوا: أعطش من النقاقة. وذلك أنها إذا فارقت الماء ماتت.
النقد: بفتح النون والقاف صغار الغنم، واحدتها نقدة وجمعها نقاد. وقال الجوهري: النقد بالتحريك جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه، تكون بالبحرين الواحدة نقحة.
الأمثال: قالوا: أذل من النقد. قال الأصمعي: أجود الصوف صوف النقد. قال الكذاب الحرمازي:
ففيم يا شر تميم محتدا ... لو كنتم شاء لكنتم نقدا
أو كنتم قولا لكنتم فندا ... أو كنتم ماء لكنتم زبدا
أو كنتم صوفاً لكنتم قردا
النكل: الفرس القوي المجرب، وفي الحديث " أن الله تعالى يحب النكل على النكل " بالتحريك، يعني الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب. وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: " إن الله يحب الرجل القوي المبدئ المعيد على الفرس القوي المبدئ المعيد " . وقد تقدم ذكر هذا الحديث في باب الفاء في الفرس.
النمر: بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها كنظائره، ضرب من السباع فيه شبه من الأسد، إلا أنه أصغر منه، وهو منقط الجلد نقطاً سوداً وبيضاً وهو أخبث من الأسد، لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أن يقتل نفسه. والجمع أنمار وأنمر ونمور ونمار. والأنثى نمرة. وكنيته أبو الأبرد وأبو الأسود وأبو جعدة وأبو جهل وأبو خطاف وأبو الصعب وأبو رقاش وأبو سهيل وأبو عمرو وأبو المرسال. والأنئى أم الأبرد وأم رقاش. قال الأصمعي: يقال: تنمر فلان أي تنكر وتغير، لأن النمر لا تلقاه أبداً إلا متنكراً غضبان. قال عمرو بن معد يكرب:
قوم إذا لبسوا الحدي ... د تنمروا حلقاً وقدا
يريد تشبهوا بالنمر لاختلاف ألوان القد والحديد. ومزاج النمر كمزاج السبع، وهو صنفان: صنف عظيم الجثة صغير الذنب وبالعكس. وكله ذو قهر وقوة وسطوات صادقة، ووثبات شديدة وهو أعدى عدو للحيوانات، ولا تروعه سطوة أحد، وهو معجب بنفسه، فإذا شبع نام ثلاثة أيام، ورائحة فيه طيبة بخلاف السبع، وإذا مرض وأكل الفأر زال مرضه.
وذكر الجاحظ أن النمر يحب شرب الخمر، فإذا وضع له في مكان شربه حتى يسكر فعند ذلك يصاد. وزعم قوم أن النمرة لا تضع ولدها إلا مطوقاً بحية، وهي تعيش وتنهش إلا أنها لا تقتل. ومنزلته من السباع في الرتبة الثانية من الأسد، وهو ضعيف الحزم شديد الحرص يقظان الحراك. وفي طبعه عداوة الأسد، والظفر بينهما سجال، وهو نهوش خطوف بعيد الوثبة، فربما وثب أربعين ذراعاً صعوداً، ومتى لم يصد لم يأكل شيئاً، ولا يأكل من صيد غيره وينزه نفسه عن أكل الجيف.

روى الطبراني في معجمه الأوسط، عن عائشة رضي رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن موسى عليه السلام قال: يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك، فقال: الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه، والذي يألف عبادي الصالحين كما يألف الصبي الناس، والذي يغضب إذا انتهكت محارمي كغضب النمر لنفسه، فإن النمر إذا غضب لا يبالي أقل الناس أم كثروا " . وفي إسناده محمد بن عبد الله بن يحيى بن عروة، وهو متروك. وقد تقدم في النسر الإشارة إلى بعضه.
الحكم: يحرم أكله لأنه سبع ضار.
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر " . وفي رواية " وقعة " . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، في الفتاوى: جلد النمر نجس كله قبل الدباغ سواء كان مذكى أم لا، فيمتنع استعماله امتناع نجس العين. ومعنى هذا أنه يحرم استعماله قطعاً فيما يجب فيه مجانبة النجاسة من صلاة وغيرها.
وهل يحرم على الإطلاق؟ فيه وجهان: وأما بعد الدباغ فنفس الجلد طاهر، والشعر الذي عليه نجس، تبعاً لأصله ولأجل أنه غالب ما يستعمل منه. ورد الحديث بالنهي عنه مطلقاً وفي حديث آخر: " لا تركبوا النمور " . وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن جلود السباع أن تفترش " ولا شك أن النمر من السباع. فهذه الأحاديث قوية معتمدة والتأويل المتطرق إليها غير قوي، وإذا وجد الموفق مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المضطرب فهو ضالته ومستروحه لا يرى عنه معدلا.
الأمثال: قالوا: شمر واتزر والبس جلد النمر " . يضرب لمن يؤمر بالجد والاجتهاد. وقالوا: لبس فلان لفلان جلد النمر " . يضرب في العداوة وكشفها.
الخواص: إذا دفن رأسه في موضع اجتمع فيه من الفأر شيء كثير، ومرارته يكتحل بها تزيد في ضوء البصر، وتمنع نزول الماء في العين، وهي سم قاتل إن سقي منها أحد دانقاً لا يتخلص منها إلا أن يشاء الله تعالى، ودماغه إذا أنتن لا يشم أحد من الناس رائحته إلا مات، هكذا حكاه ارسطاطاليس، في كتاب طبائع الحيوان.
وقيل: إن النمر يهرب من جمجمة الإنسان، وشعره إذا بخر به البيت هربت العقارب منه، وشحمه إذا أذيب وجعل في الجراحات العتيقة نظفها وأبرأها. ولحمه من أكل منه خمسة دراهم لا يضره سم الحيات والأفاعي.
وقال القزويني: إن جميع أجزائه تفعل فعل السم القاتل، وخاصة مرارته، وهذا هو الصواب. وقضيبه يطبخ ويشرب من مرقته ينفع من تقطير البول، وأوجاع المثانة. وجلده إذا أدمن الجلوس عليه بلا حائل صاحب البواسير نفعه، ومن حمل معه شيئاً من جلده، يصير مهاباً عند الناس. ويده وبراثنه إذا دفنت في موضع لا يعيش فيه فأر، وإذا نهش النمر إنساناً طلبه الفأر ليبول عليه، فإن فعل ذلك مات، وينبغي أن يحترس من ذلك ويصان، قاله صاحب عين الخواص. وقال بعضهم: من مسح جلده بشحم الضبع، ودخل على النمر فر النمر منه.
التعبير: النمر في المنام سلطان جائر، أو عدو مجاهر، شديد الشوكة، فمن قتله قتل عدواً بهذه الصفة، ومن أكل من لحمه نال مالا وشرفاً، ومن ركبه نال سلطاناً عظيماً، فإن رأى النمر ركبه ناله ضرر من سلطان أو عدو. ومن نكح نمرة تسلط على امرأة من قوم ظلمة، ومن رأى نمراً في داره هجم على داره رجل فاسق. ومن رأى أنه صاد نمراً أو فهدا نال منفعة بقدر ضرر غضبه.
وقال ارطاميدورس: النمر يدل على رجل ويدل على امرأة. وذلك بسبب تغير لونه، وهو ذو مكر وخديعة وربما دل على مرض ووجع العينين. ولبنه عداوة تضر شاربه والله تعالى أعلم النمس: بنون مشددة مكسورة، وبالسين المهملة في آخره دويبة عريضة، كأنها قطعة قديد، تكون بأرض مصر، يتخذها الناظور إذا اشتد خوفه من الثعابين، لأن هذه الدويبة تقتل الثعبان وتأكله. قاله الجوهري.
وقال قوم: هو حيوان قصير اليدين والرجلين، وفي ذنبه طول يصيد الفأر والحيات ويأكلها.
وقال المفضل بن سلمة: هو الظربان، وقال الجاحظ: يزعمون أن بمصر دويبة يقال لها النمس، تنقبض وتنطوي إلى أن تصير كالفأر، فإذا انطوى عليها الثعبان زفرت ونفخت وانتفخت فيتقطع الثعبان.

وقال ابن قتيبة: النمس ابن عرس وتسميته نمساً يحتمل أن يكون مأخوذاً من قولهم: نمس بالكلام أي أخفاه، ونمس الصائد إذا اختفى في الدريئة، لأنه لما كان يتماوت وتسكن أطرافه حتى تعضه الحية فيأكلها أشبه الصائد في اختفائه في الدريئة.
وحكمه: تحريم الأكل لاستخباثه والرافعي في كتاب الحج قال: إن النمس أنواع، وبهذا يجمع بين هذه الأقوال المتباينة.
الخواص: إذا بخر برج الحمام بذنب النمس هرب الحمام منه. ومرارته تداف ببياض البيض ويضمد بها العين فتلقط الحرارة وتقطع الدمعة، ودمه يسعط منه المجنون وزن قيراط مع لبن امرأة ويبخر به يفيق. وذكره يطبخ ويشرب من مرقته من كان به تقطير البول ووجع المثانة يبرئه. وعينه اليمنى إذا علقت في خرقة كتان على صاحب حمى الربع أبرأته، وإن علقت عليه اليسرى عادت إليه، ودماغه إذا هرس بماء الفجل ودهن ورد، ودهن به إنسان جرب ومرض مكانه من وقته، وحله أن يسحق خرؤه بدهن الزئبق ويطلى به، وخرؤه إن غرق في ماء وسقي منه إنسان خاف الليل والنهار، ويرى كأن الشياطين في طلبه.
التعبير: النمس في الرؤيا يدل على الزنا، لأنه يسرق الدجاج، والجماعة منه في التعبير نساء، فمن نازع نمساً أو رآه في منزله فإنه ينازع إنساناً زانياً والله أعلم.
النمل: معروف الواحدة نملة والجمع نمال، وأرض نملة ذات نمل، وطعام منمول إذا أصابه النمل، والنملة بالضم النميمة، يقال رجل نمل أي نمام، وما أحسن قول الأول:
اقنع بما تلقى بلا بلغة ... فليس ينسى ربنا النملة
إن أقبل الدهر فقم قائماً ... وإن تولى مدبراً نم له
وكنيته أبو مشغول والنملة أم نوبة وأم مازن، وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها، وقلة قوائمها. والنمل لا يتزاوج ولا يتناكح إنما يسقط منه شيء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيضاً حتى يتكون منه، والبيض كله بالضاد المعجمة الساقطة إلا بيض النمل، فإنه بالظاء المشالة.
والنمل عظيم الحيلة في طلب الرزق، فإذا وجد شيئاً أنذر الباقين ليأتوا إليه، ويقال إنما يفعل ذلك منها رؤساؤها. ومن طبعه أنه يحتكر قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء، وله في الاحتكار من الحيل ما أنه إذ احتكر ما يخاف إنباته قسمه نصفين، ما خلا الكسفرة فإنه يقسمها أرباعاً، لما ألهم من أن كل نصف منها ينبت، وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره، وأكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر، ويقال إن حياته ليست من قبل ما يأكله ولا قوامه، وذلك لأنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام، ولكنه مقطوع نصفين، وإنما قوته إذا قطع الحب في استنشاق ريحه فقط. وذلك يكفيه.
وقد تقدم في العقعق والفأر عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شيء يحتال لقوته إلا الإنسان والعقعق والنمل والفأر، وبه جزم في الإحياء، في كتاب التوكل. وعن بعضهم أن البلبل يحتكر الطعام، ويقال: إن للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها. والنمل شديد الشم ومن أسباب هلاكه نبات أجنحته، فإذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنها تصيدها في حال طيرانها. وقد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله:
وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبه
وكان الرشيد كثيراً ما ينشد ذلك عند نكبة البرامكة. وقد تقدمت الإشارة إليها في باب العين المهملة في لفظ العقاب، وهو يحفر قريته بقوائمه وهي ست، فإذا حفرها جعل فيها تعاريج لئلا يجري إليها ماء المطر، وربما اتخذ قرية بسبب ذلك، وإنما يفعل ذلك خوفاً على ما يدخره من البلل.

قال البيهقي في الشعب: وكان عدي بن حاتم الطائي يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات ولهن علينا حق الجوار، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في الوحش عن الفتح بن سخرب الزاهد، أنه كان يفت الخبز لهن في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله. وليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مراراً غيره، على أنه لا يرضى بأضعاف الأضعاف، حتى إنه يتكلف لحمل نوى التمر، وهو لا ينتفع به، وإنما يحمله على حمله الحرص والشره. ويجمع غذاء سنين لو عاش، ولا يكون عمره أكثر من سنة. ومن عجائبه اتخاذ القرية تحت الأرض، وفيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات معلقة، يملؤها حبوباً وذخائر للشتاء ومنه ما يسمى الذر الفارسي، وهو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل، ومنه أيضاً ما يسمى بنمل الأسد، سمي بذلك لأن مقدمه يشبه وجه الأسد ومؤخره يشبه النمل.
فائدة: في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نزل نبي من الأنبياء عليهم السلام تحت شجرة، فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، وأمر بها فأحرقت بالنار. فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة " . قال أبو عبد الله الترمذي، في نوادر الأصول: لم يعاتبه الله على تحريقها، وإنما عاتبه على كونه أخذ البريء بغير البريء.
وقال القرطبي: هذا النبي هو موسى بن عمران عليه السلام، وأنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع، فكأنه جل وعلا أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحاً إلى ظلها، وعندها قرية النمل فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته نملة. فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق مسكنهن. فأراه الله تعالى الآية في ذلك عبرة لما لدغته نملة كيف أصيب الباقون بعقوبتها، يريد الله تعالى أن ينبهه على أن العقوبة من الله تعم الطائع والعاصي فتصير رحمة وطهارة وبركة على المطيع، وسوءاً ونقمة وعذاباً على العاصي. وعلى هذا ليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بضرب أو قتل على ماله من المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت للمؤمن، وسلط عليها وسلطت عليه، فإذا آذته أبيح له قتلها.
وقوله: " فهلا نملة واحدة " دليل على أن الذي يؤذي يقتل، وكل قتل كان لنفع أو دفع ضر فلا بأس به عند العلماء، ولم يخص تلك النملة التي لدغته من غيرها، لأنه ليس المراد القصاص، لأنه لو أراده لقال فهلا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: فهلا نملة، فكأن نملة تعم البريء والجاني، وذلك ليعلم أنه أراد تنبيهه لمسألة ربه تعالى في عذاب أهل قرية فيهم المطيع والعاصي.
وقد قيل: إن في شرع هذا النبي عليه السلام كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة، فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: فهلا نملة واحدة، وهو بخلاف شرعنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان بالنار. وقال: " لا يعذب بالنار إلا الله تعالى " . فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار، إلا إذا أحرق إنساناً فمات بالإحراق فلوارثه الاقتصاص بالإحراق للجاني.
وأما قتل النمل، فمذهبنا لا يجوز لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنخلة والهدهد والصرد " . رواه أبو داود بإسناد صحيح، على شرط الشيخين. والمراد النمل الكبير، السليماني كما قاله الخطابي والبغوي في شرح السنة. وأما النمل الصغير المسمى بالذر فقتله جائز، وكره مالك رحمه الله قتل النمل، إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل، وأطلق ابن أبي زيد جواز قتل النمل إذا آذت. وقيل: إنما عاتب الله هذا النبي عليه السلام لانتقامه بنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منهم، وكان الأولى به الصبر والصفح، لكن وقع للنبي عليه السلام، أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان. فلو انفرد له هذا النظر، ولم ينضم إليه التشفي الطبيعي، لم يعاتب فعوتب على التشفي بذلك والله أعلم.
روى الدارقطني والطبراني، في معجمه الأوسط عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال:

لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام، كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة المظلمة من مسيرة عشرة فراسخ.
وروى الترمذي الحكيم، في نوادره، عن معقل بن يسار، قال: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك فقال: " هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب الله عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً، وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم، بقولها ثلاث مرات " . وروي أيضاً عن أبي إمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه، قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " . ثم قال: " إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير " . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وسمعت أبا عثمان الحسين بن حريث الخزاعي يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: عالم عامل معلم يدعى كثيراً في ملكوت السموات. وروي أن النملة التي خاطبت سليمان عليه الصلاة والسلام أهدت إليه نبقة فوضعتها في كفه وقالت:
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدى للجليل بقدره ... لقصر عنه البحر حين يسائله
ولكننا نهدى إلى من نحبه ... فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله ... وإلا فما في ملكنا من يشاكله
فقال سليمان عليه السلام: بارك الله فيكم. فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله، وأكثر خلق الله توكلا على الله تعالى.
روي أن رجلا استوقف المأمون ليسمع منه فلم يقف له، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله استوقف سليمان بن داود عليهما السلام لنملة ليستمع منها، وما أنا عند الله بأحقر من نملة، وما أنت عند الله بأعظم من سليمان! فقال له المأمون: صدقت، ووقف له وسمع له وقضى حاجته. ومن شعر الإمام تاج الدين اليمني في منزل فيه نمل قوله:
ما لي أرى منزل المولى الأديب به ... نمل تجمع في أرجائه زمرا
فقال: لا تعجبن من نمل منزلنا ... فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا
فائدة أخرى: قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي، في تفسير قوله تعالى: " حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم " الآية. وادي النمل بالشام كثير النمل. فإن قيل: لم أتى بعلى؟ قلت: لوجهين أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء، الثاني: أنه يراد به قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء إذا بلغ آخره فتكلمت النملة بذلك، وهذا غير مستبعد، فإن حصول العلم والنطق لها ممكن في نفسه، والله سبحانه قادر على كل الممكنات.
وحكي عن قتادة أنه دخل الكوفة، فاجتمع عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضراً، وهو يومئذ غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى. فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ فقال: من قوله تعالى: " قالت " ولو كانت ذكراً لقال قال نملة، لأن النملة مثل الحمامة والشاة، في وقوعها على الذكر والأنثى، قال: ورأيت في بعض الكتب أن تلك النملة، إنما أمرت رعيتها بالدخول في مساكنها، لئلا ترى النعم التي أوتيها سليمان وجنوده، فتقع في كفران نعمة الله عليه. وفي هذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محظورة.
يروى أن سليمان قال لها: لم قلت للنمل ادخلوا مساكنكم أخفت عليها مني ظلماً؟ قالت: لا ولكني خشيت أن يفتنوا بما يرون من جمالك وزينتك فيشغلهم ذلك عن طاعة الله.
قال الثعلبي وغيره: إنها كانت مثل الذئب في العظم، وكانت عرجاء ذات جناحين. وذكر عن مقاتل أن سليمان عليه السلام سمع كلامها من ثلاثة أميال.

وقال بعض أهل التذكير: إنها تكلمت بعشرة أنواع من البديع، قولها: " يا " نادت " أيها " نبهت " النمل " سمت " ادخلوا " أمرت " مساكنكم " نعتت " ولا يحطمنكم " حذرت " سليمان " خصت " وجنوده " عمت " وهم " أشارت " لا يشعرون " اعتذرت. والمشهور أنه النمل الصغار. واختلف في اسمها فقيل: كان اسمها طاخية، وقيل كان اسمها حزمى. قيل: كان نمل الوادي كالذئاب، وقيل: كالبخاتي.
قال السهيلي، في التعريف والإعلام: ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم، والنمل لا يسمي بعضه بعضاً! ولا الآدمي يمكنه تسمية واحدة منها باسم علم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضاً من بعض، ولا هم أيضاً واقعون تحت ملك بني آدم، كالخيل والكلاب ونحوهما، لأن العلمية فيم كان كذلك موجودة عند العرب.
فإن قلت: إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار في الضبع ونحو هذا كثير، فالجواب أن هذا ليس من أمر النمل، لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل. وثعالة ونحوه مختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوا، وله وجه فهو أن تكون هذه النملة الناطقة، قد سميت بهذا الاسم في التوراة، أو في الزبور، أو في بعض الصحف، أو سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به جميع الأنبياء قبل سليمان أو بعده، وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها، ومعنى قولنا: وإيمانها أنها قالت للنمل: " وهم لا يشعرون " ، وهو التفاتة مؤمن أي أن سليمان عليه السلام من عدله وفضله، وفضل جنوده، لا يحطمون نملة فما فوقها، إلا وهم لا يشعرون.
وقد قيل: إنما كان تبسم سليمان سروراً بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله: ضاحكاً، إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون: تبسم تبسم الغضبان، وتبسم تبسم المستهزئ، وتبسم تبسم الضحك، وتبسم الضحك، إنما هو من سرور ولا يسر نبي بأمر دنيا، وإنما يسر بما كان من أمر الحين فقولها: وهم لا يشعرون إشارة إلى الدين والعدل انتهى.
فائدة أخرى: روى أبو داود والحاكم وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشفاء بنت عبد الله: " علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة " . وفي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في الرقية من النملة، والنملة قروح تخرج في الجنب من البدن، ورقيتها شيء كانت تستعمله النساء، يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، وهو أن يقال: العروس تحتفل وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفتعل، غير أن لا تعصي الرجل، أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة، لأنه ألقى إليها سراً فأفشته. فكان هذا من لغو الكلام ومزاحه. كقوله صلى الله عليه وسلم للعجوز: " لا تدخل الجنة عجوز " .
ورأيت في بعض الكتب، بخط بعض الأئمة الحفاظ، أن رقية النملة أن يصوم راقيها ثلاثة أيام متوالية، ثم يرقيها بكرة كل يوم من الثلاثة، عند طلوع الشمس، فيقول: اقسطري وانبرجي فقد نوه بنوه بربطش ديبقت اشف أيها الجرب بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويكون في إصبعه زيت طيب، يمسح به عليها ويتفل على الموضع عقب الرقية قبل المسح بالزيت فافهم.
روى الدارقطني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقتلوا النملة فإن سليمان عليه السلام خرج ذات يوم يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها، تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، لا غنى لنا عن فضلك، اللهم لا تؤاخذنا بذنوب عبادك الخاطئين، واسقنا مطراً تنبت لنا به شجراً، وتطعمنا به ثمراً، فقال سليمان لقومه: ارجعوا فقد كفيتم وسقيتم بغيركم " .

فوائد: قال الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبو عبد الله الكواز قال: حدثتني حبيبة مولاة الأحنف بن قيس، أن الأحنف بن قيس رآها تقتل نملة فقال: لا تقتليها، ثم دعا بكرسي فجلس عليه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إني أحرج عليكن إلا خرجتن من داري فاخرجن فإني أكره أن تقتلن في داري، قال: فخرجن فما رؤي فيه منهن بعد ذلك اليوم واحدة. قال عبد الله بن الإمام أحمد: رأيت أبي فعل ذلك حرج على النمل، وأكثر علمي أنه جلس على كرسي كان يجلس عليه لوضوء الصلاة، ثم رأيت النمل قد خرجن من بعد ذلك كبار سود فلم أرهن بعد ذلك.
ورأيت بخط بعض المشايخ لإذهاب النمل أن يكتب في إناء نظيف. هذه الأسماء، وتغسل بماء وترش في بيت النمل، فإنه يذهب ولا يطلع، وهو: الحمد لله باهياً شراهيا سأريكم باهيا شراهيا. ورأيت أيضاً، في بعض المصنفات، أن يكتب على أربع شقف نيئات، وتجعل في أربع أركان المكان الذي فيه النمل، فإن النمل يرحل وربما مات، وهو " وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا " لا تسكنوا في منزلنا فتفسدوا، " والله لا يصلح عمل المفسدين، " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا فماتوا " كذلك يموت النمل من هذا المكان وبذهب بقدرة الله.
ومما جرب أيضاً فوجدناه نافعاً أن يكتب على لوح ماعز ويوضع على قرية النمل، فإنه يرحل وهو: ق و ل ه ا ل ح ق ول ه ا ل م ل ك الله الله الله وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون. " قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " ، اهيا اهيا شراهيا أدونائى آل شدائى ارحل أيها النمل من هذا المكان بحق هذه الأسماء وبألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ف ق خ م م خ م ت.
ومن المجربات أيضاً أنك إذا كان لك حلواء أو عسل أو سكر أو ما هو شبيه بذلك وكان في إناء، ومررت بيديك على شفته، وقلت: هذا لوكيل القاضي، أو هذا لرسول القاضي، أو هذا لغلام القاضي. فإن النمل لا يقربه، وقد فعل ذلك مراراً وشوهد فلا يصل الذر إليه.
الحكم: يكره أكل ما حملته النمل بفيها وقوائمها، لما روى الحافظ أبو نعيم في الطب النبوي، عن صالح بن خوات بن جبير، عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يؤكل ما حملت النمل بفيها وقوائمها " ، ويحرم أكل النمل لورود النهي عن قتله، وقد تقدم.
ونقل الرافعي في البيع، وجهاً عن أبي الحسن العبادي أنه يجوز بيع النمل بعسكر مكرم، لأنه يعالج به السكر، وبنصيبين لأنه يعالج به العقارب الطيارة، وعسكر مكرم قرية من قرى الأهواز والسكر بفتح السين والكاف ومراده بالعقارب الطيارة الجراد.
الأمثال: قالوا: ما عسى أن يبلغ عض النمل، يضرب لمن لا يبالي بوعيده، وقالوا: أحرص من نملة وأروى من نملة لأنها تكون في الفلوات فلا تشرب ماء وقالوا: أضعف وأكثر وأقوى من النمل.
وحكي أن رجلا قال لبعض الملوك: جعل الله قوتك مثل قوة النمل، فأنكر عليه فقال: ليس من الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة، وقد أهلك الله بالنمل أمة من الأمم وهي جرهم. وفي سيرة ابن هشام، في غزوة حنين عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه، أنه قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون، مثل النجاد الأسود نزل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا هو نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، فلم أشك أنها الملائكة ولم تكن إلا هزيمة القوم.

الخواص: بيظ النمل وهو بالظاء المشالة كما تقدم، إذا أخذ وسحق وطلي به موضع منع إنبات الشعر فيه، وإذا نثر بيظه بين قوم تفرقوا شذر مذر، ومن سقي منه وزن درهم لم يملك أسفله بل يغلبه الحبق أي الضراط، وإن سدت قريته باخثاء البقر لم يفتحها بل يهرب من مكانه، وكذلك يفعل روث القط وإذا سد جحر النمل بحجر المغناطيس مات، وإذا دقت الكرويا وجعلت في جحر النمل منعتهن الخروج، وكذلك الكمون. وإذا صب ماء السذاب في قرية النمل قتله، وإذا رش به بيت هربت البراغيث منه، وكذلك يفعل ماء السماق في البراغيث، وإذا قطر شيء من القطران في قرية النمل متن والكبريت إذا دق ونثر في قريتها هلكت، وإن علقت خرقة امرأة حائض حول شيء لم يقربه النمل. وإذا أخذت سبع نملات طوال وتركتها في قارورة مملوءة بدهن الزيبق، وسددت رأسها ودفنتها في زبل يوماً وليلة ثم أخرجتها وصفيت الدهن عنها، ثم مسحت به الإحليل وما فوقه هيج الباه، وأكثر العمل وقوى الإنعاظ. مجرب.
التعبير: النمل في الرؤيا يعبر بناس ضعفاء أصحاب حرص، والنمل يعبر أيضاً بالجند والأهل، ويعبر بالحياة، فمن رأى النمل دخل قرية أو مدينة فإنه جند يدخلها، ومن سمع كلام النمل نال خصباً وخيراً، ومن رأى النمل دخل منزله ومعه أحمال ثقيلة فإن الخصب والخير يدخل داره، ومن رأى النمل على فراشه كثرت أولاده، ومن رأى النمل خرج من داره نقص عدد أهله. ومن رأى النمل يطير من مكانه وفيه مريض، فإن المريض يهلك أو يسافر من ذلك المكان قوم ويلقون شدة، والنمل يدل على خصب ورزق لأنه لا يكون إلا في مكان فيه الرزق، وإذا رأى المريض كأن النمل يدب على جسده فإنه يموت، لأن النمل حيوان أرضي بارد. وقال جاماست: من رأى النمل يخرج من مكانه ناله هم والله تعالى أعلم.
النهار: ولد الحبارى، قالت العرب: " أحمق من نهار " ، قال البطليوسي، في شرح أدب الكاتب: قد اختلف اللغويون في النهار، فقال قوم: هو فرخ القطاة، وقال قوم: إنه ذكر البوم، والأنثى صيف، وقيل: إنه ذكر الحبارى، والأنثى ليل، وقيل: إنه فرخ الحبارى، قال الشاعر:
ونهار رأيت منتصف اللي ... ل وليل رأيت وسط النهار
وهذا القول هو الصواب والله أعلم.
النهاس: بتشديد النون الأولى، وبالسين في آخر، الأسد.
النهس: طائر يشبه الصرد، إلا أنه غير ملمع يديم تحريك ذنبه ويصيد العصافير، وجمعه نهسان كصرد وصردان. وقال ابن سيده: النهس ضرب من الصرد، وسمي بذلك لأنه ينهس اللحم. والنهس أصله أكل اللحم بطرف الأسنان، والنهش بالشين المعجمة أكله بجميعها والطير إذا أكل اللحم إنما يأكله بطرف منقاره فلذلك سمي نهساً.
وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني أن زيد بن ثابت قال: رأيت شرحبيل بن سعد وقد صاد نهساً بالأسواق، فأخذه من يده وأرسله. والأسواق اسم موضع بحرم المدينة الذي حرمه رسول الله. وقد تقدم ذكره في الدبسي وإنما أرسله لأن صيد المدينة حرام كمكة.
الحكم: قال الشافعي: النهس حرام كالسباع التي تنهس اللحم.
النهام: بضم النون طائر، قاله السهيلي في إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، وقال الجوهري: هو ضرب من الطير.
النهس: كجعفر الذئب، وقيل: ولد الأرنب وقيل الضبع.
النهشل: الذئب والصقر أيضاً وقد تقدم كل منهما في بابه.
النواح: طائر كالقمري، وحاله حاله إلا أنه أحر منه مزاجاً وأدمث صوتاً، ولقد كاد أن يكون للأطيار الدمثة الشجية الأصوات ملكاً وهو يهيجها إلى التصويت لأنه أشجاهاً صوتاً، وأطيبها نغماً. وجميعها تهوى استماع صوته وهو يطرب لغناء نفسه.
النوب: بضم النون النحل لا واحد له من لفظه، وقيل واحدها نائب. قال أبو عبيدة: سميت نوباً لأنها تضرب إلى السواد. وقال أبو عبيد: سميت به لأنها ترعى ثم تنوب إلى موضعها، قال أبو ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عواسل
أي لم يخف ولم يبال، فاستعمل الرجاء بمعنى الخوف. ومنه قوله تعالى: " ما لكم لا ترجون الله وقارا " أي لا تخافون عظمة الله. وقوله تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا " الآية، أي لا يخافون. قال ابن عطية: والذي يظهر لي أن الرجاء في الآية وفي البيت على بابه، لأن خوف لقاء الله مقترن أيضاً برجائه فإذا نفى سبحانه الرجاء عن أحد، فإنما أخبر عنه بأنه يكذب بالبعت لنفي الخوف والرجاء انتهى.

النورس: طير الماء الأبيض، وهو زمج الماء، وقد تقدم في باب الزاي.
النوص: بفتح النون الحمار الوحشي.
النون: الحوت وجمعه نينان وأنوان، كما قالوا: حوت وحيتان وأحوات، وقد تقدم في أول الكتاب في باب الباء الموحدة، في لفظ بالام، ما رواه مسلم والنسائي عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله بعض اليهود عن تحفة أهل الجنة فقال: " زيادة كبد الحوت " . وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول: سبحان من يعلم اختلاف النينان في البحار الغامرات. وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: أول شيء خلقه الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب. قال: القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى يوم الساعة. قال: وكان عرشه على الماء فارتفع بخار الماء فتفتقت منه السموات، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه فالأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض.
وقال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها فوسوس إليه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوتياء من الأمم والدواب والشجر والجبال وغير ذلك، فلو نفضتهم فألقيتهم عن ظهرك أجمع لاسترحت، فهم لوتياء أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابة، فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها، فأذن الله لها فخرجت. قال كعب: فوالذي نفسي بيده لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: اسم الحوت يهموت. قال الراجز:
مالي أراكم كفكم سكوتا ... والله ربي خالق يهموتا
وفي مسن الدارمي، عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " . ثم تلا هذه الآية: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ثم قال: " إن الله وملائكته وأهل سمواته وأرضه والنون في البحر، يصلون على الذين يعلمون الناس الخير " .
وفي شعب البيهقي، عن خولة بنت قيس، امرأة حمزة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مشى إلى غريمه لحقه، صلت عليه دواب الأرض، ونون الماء وغرس الله له بكل خطوة شجرة في الجنة، ولا غريم يلوي غريمه وهو قادر، إلا كتب الله عليه في كل يوم إثماً " .
وروى أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مشى إلى غريمه لحقه صلت عليه دواب الأرض، ونون الماء وينبت له بكل خطوة شجرة في الجنة وذنب يغفر " .
وروى الدينوري، في المجالسة في أول الجزء السادس، عن الأوزاعي رحمه الله، أنه قال: كان عندنا صياد يصطاد النينان، فكان يخرج إلى الصيد، فلا يمنعه مكان الجمعة عن الخروج، فخسف به وببغلته، فخرج الناس وقد ذهبت به بغلته في الأرض، فلم يبقى منها إلا أذناها وذنبها.
وفيها أيضاً، في أول الجزء العشرين، عن زيد بن أسلم، قال: جلس إلي رجل قد ذهبت يمينه من عضده، فجعل يبكي ويقول: من رآني فلا يظلمن أحداً فقلت له: ما حالك قال: بينما أنا أسير على شط البحر، إذ مررت بنبطي قد اصطاد سبعة أنوان، فقلت: أعطني نوناً فأبى، فأخذت منه نوناً وهو كاره، فانقلب إلي النون وهو حي فعض إبهامي عضة يسيرة، فلم أجد لها ألماً، فانطلقت به إلى أهلي فصنعوه وأكلنا فوقعت الأكلة في إبهامي، فاتفق الأطباء على أن أقطعها فقطعتها، ثم عالجتها حتى قلت: قد برئت فوقعت الأكلة في كفي، ثم في ساعدي، ثم في عضدي، فمن رآني فلا يظلمن أحداً.
وذو النون لقب نبي الله يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، لأنه ابتلعه الحوت " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، المجاب الدعوة رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إني لأعلمكم كله ما قالها مكروب إلا فرج الله كربه عنه، ولا دعا بها عبد مسلم إلا استجيب له، دعوة أخي يونس لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " . وجمعت الظلمات لشدة تكاثفها عليه، فإنها ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر، قيل: وظلمة حوت التقم الحوت الأول.

واختلفوا في مدة مكثه في بطنه، فقيل: سبع ساعات، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: أربعة عشر يوماً، وقال السهيلي: أقام في بطنه أربعين يوماً، يزدد به في ماء الدجلة.
ونقل الإمام أحمد، في كتاب الزهد، أن رجلا قال للشعبي: مكث يونس في بطن الحوت أربعين يوماً فقال الشعبي: ما مكث إلا أقل من يوم التقمه ضحى، فلما كان بعد العصر وقاربت الشمس الغروب، تثاءب الحوت فرأى يونس ضوء الشمس، فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال: فنبذه وصار كأنه فرخ.
فقال رجل للشعبي: أتنكر قدرة الله؟ قال: ما أنكر قدرة الله، ولو أراد الله تعالى أن يجعل في بطنه سوقاً لفعل.
وروى البزار، بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لما أراد الله تعالى حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن لا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً، فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حساً، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه، وهو في بطن الحوت، أن هذا تسبيح دواب البحر، فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا إننا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، فقال تعالى: ذاك عبدي يونس، حبسته في بطن الحوت، في بطن البحر. فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح. قال عز وجل: نعم فشفعوا له عند ذلك، فأمر الله تعالى الحوت فقذفه في الساحل. كما قال الله تعالى: " فنبذناه بالعراء وهو سقيم " .
وروي أن الحوت مشى به في البحار كلها، حتى ألقاه في نصيبين، من ناحية الموصل، فنبذه الله تعالى في عراء، وهي الأرض الفيحاء التي لا شجر فيها ولا معلم. وهو سقيم كالطفل المنفوس، مضغة لحم إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء، فأنعشه الله في ظل اليقطينة بلبن أروية تغاديه وتراوحه، وقيل: بل كان يتغذى من اليقطينة، فيجد منها ألوان الطعام وأنواع شهواته. والحكمة في إنبات الله اليقطينة عليه، أن من خاصية اليقطين أن لا يقربه الذباب، ومن خواصه أن ماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أيضاً. فأقام عليه الصلاة والسلام تحتها إلى أن صح جسده، لأن ورق الفرع أنفع شيء لمن يسلخ جلده عن جسده، كيونس عليه السلام. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يوماً نائماً، فأيبس الله تعالى تلك اليقطينة. وقيل: أرسل الله تعالى عليها الأرضة، فقطعت عروقها فانتبه عليه السلام فوجد حر الشمس، فعز عليه شأنها وجزع، فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس جزعت ليبس يقطينة، ولم تجزع لهلاك مائة ألف أو يزيدون، تابوا فتيب عليهم. وما أحسن قول الجوهري، صاحب الصحاح:
فها أنا يونس في بطن حوت ... بنيسابور في ظل الغمام
فبيتي والفؤاد ويوم دجن ... ظلام في ظلام في ظلام
وقول الآخر:
مغيث أيوب والكافي لي النون ... ينيلني فرجاً بالكاف والنون
وقول آخر في المعنى:
ربما عسالج القوافي رجال ... في القوافي فتلتوي وتلين
طاوعتهم عين وعين وعين ... وعصتهم نون ونون ونون
قال الشيخ جمال الدين بن الحاجب: معنى قوله: عين وعين وعين، يعني به نحو يد وغد ودد، لأنها عينات مطاوعات في القوافي، مرفوعة كانت أو منصوبة أو مجرورة، لأن وزن يدفع ووزن غدفع ووزن ددفع، وقوله: وعصتهم نون ونون ونون: الحوت يسمى نوناً، والدواة تسمى نوناً والنون الذي هو الحرف وكلها نونات غير مطاوعة في القوافي، إذ لا يلتئم واحد منها مع الآخر.
فائدة: روى الدينوري في المجالسة، وأبو عمر بن عبد البر في التمهيد، عن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج، قال: حدثنا هشيم عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: كتب صاحب الروم إلى معاوية رضي الله تعالى عنه يسأله عن أفضل الكلام ما هو؟ وعن الثاني والثالث والرابع والخامس، وكتب إليه يسأله عن أكرم الخلق على الله، وعن أكرم الإماء على الله، وعن أربعة من الخلق، فيهم الروح لم يرتكضوا في رحم، ويسأله عن قبر مشى بصاحبه، وعن المجرة وعن القوس، وعن مكان طلعت فيه الشمس، لم تطلع عليه قبل ذلك، ولم تطلع عليه بعده؟

فلما قرأ معاوية الكتاب، قال: أخزاه الله تعالى، وما علمي بما هاهنا! فقيل له: اكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بذلك، فكتب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن أفضل الكلام لا إله إلا الله كلمة الإخلاص لا يقبل عمل إلا بها، والتي تليها سبحان الله وبحمده صلاة الحق، والتي تليها الحمد الله كلمة الشكر، والتي تليها الله أكبر، والخامس لا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما أكرم الخلق على الله عز وجل فآدم عليه السلام، خلقه الله بيده، وعلمه الأسماء كلها، وأما أكرم إمائه عليه، فهي مريم التي أحصنت فرجها، فنفخ فيه من روحه.
وأما الأربعة الذين لم يرتكضوا في الرحم، فآدم وحواء وناقة صالح والكبش الذي فدى به إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وقيل: عصا موسى عليه السلام، حين ألقاها، فصارت ثعباناً مبيناً.
وأما القبر الذي سار بصاحبه، فهو الحوت حين التقم يونس، وأما المجرة فباب السماء، وأما القوس فإنه أمان لأهل الأرض من الغرق، بعد قوم نوح. وأما المكان الذي طلعت عليه الشمس، ولم تطلع عليه قبله ولا بعده، فهو المكان الذي انفلق في البحر لبني إسرائيل. فلما قدم عليه الكتاب، أرسل به إلى صاحب الروم فقال: لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم، وما أصاب هذا إلا رجل من بيت النبوة.

باب الهاء
الهالع: النعام السريع في مضيه والأنثى هالعة.
الهامة: بتخفيف الميم على المشهور، طير الليل وهو الصدى، والجمع هام وهامات قال ذو الرمة:
قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظل أخضر يدعو هامة البوم
وقد تقدم أن الذكر من البوم يختص باسم الصدى والصيدح، وتقدم أن هذه الأسماء تقع على طير الليل بطريق الاشتراك، وتسمية هذه الطيور بالصدي والصودي، لما تعتقده الأعراب من كونه عطشان، لا يزال يقول: اسقوني.
والصدى العطش، والصادي العطشان. ويقال: رجل صديان وامرأة صديا. والصدى أيضاً صوت يرجع من الصوت، إذا خرج ووجد ما يحبسه من حجر ونحوه.
والعرب تقول: أصم الله صداه، إذا دعوا على شخص بالخرس، وللعنى لا جعل الله له صدى يرجع إليه بصوته، وقد تقدم ذلك.
ويقع الصدى أيضاً على الدماغ لكونه متصوراً بصورة الصدى، ولهذا سمي الدماغ هامة، لأنه يشبه رأس الصدى، لأن الصدى لما كان كبير الرأس، واسع العين وفيه شبه برأس ابن آدم، سموا الرأس هامة باسمه. والهامة هو الصدى، وتسميته بالهامة يحتمل أن تكون للمعنى الذي لأجله سمي صدى، وهو العطش.
ويجوز أن يراعى الاشتقاق على أن يكون قد اشتق من الهيام بضم الهاء، وهو داء يصيب الإبل فتشرب ولا تروى، ومنه قوله تعالى: " فشاربون شرب الهيم " وهو جمع أهيم كأحمر، والهيم الإبل التي أصابها الهيام، يقال: جمل أهيم وناقة هيماء وإبل هيم، قال الشاعر:
بي اليأس أو داء الهيام أصابني ... فإياك عني لا يكن بك ما بيا
وقال لبيد:
أجزت على معارفها بشعب ... وأطلاح عن المهري هيم
وقيل: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل، ويحتمل أنه إنما سمي هامة باسم رأسه تشبيهاً بهامة الإنسان وهي رأسه قال الشاعر:
ونضرب بالسيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهن عن الصدور
وعلى هذا يكون التجوز حاصلا من الجانبين، وهذا قد وجد في كلام بعضهم الإيماء إليه، وسمي بعضهم الهامة بالمصاص، لأنه ينزل إلى الحمام فيمص دمها، وإنما سموا بعض هذه الطيور بومة، لأنها تصيح بهذا الحرف، وبعضها يصيح بقاف وواو وقاف، فيسمونها قوقة وأم قويق، وكل هذا من جنس الهوام.
وروى مسلم وغيره، عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا صفر ولا هامة " . وفيه تأويلان: أحدهما أن العرب كانت تتشاءم بالهامة، وهي هذا الطائر المعروف من طير الليل كما تقدم. وقيل: هو البومة كانت إذا سقطت على دار أحدهم قالوا: نعت إليه نفسه أو بعض أهله، وهذا تفسير الإمام مالك بن أنس رحمه الله، والثاني أن العرب، كانت تعتقد أن روح القتيل، الذي لم يؤخذ بثأره، تصير هامة، فتزقو عند قبره وتقول: اسقوني اسقوني من دم قاتلي! فإذا أخذ بثأره طارت.
قال لبيد:
فليس الناس بعدك في نفير ... وما هم غير أصداء وهام
وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه تصير هامة، ويسمونها الصدى، وهذا

تفسير أكثر العلماء وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين، وأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنهما جميعاً.
روى أبو نعيم، في الحلية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: كنت عند كعب الأحبار، وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، ألا أخبرك بأغرب شيء قرأته في كتب الأنبياء عليهم السلام: أن هامة جاءت إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فقالت: السلام عليك يا نبي الله، فقال: وعليك السلام يا هامة، أخبريني كيف لا تأكليئ من الزرع؟ قالت: يا نبي الله، إن آدم أخرج من الجنة بسببه، قال: فكيف لا تشربين الماء. قالت: يا نبي الله لأنه غرق فيه قوم نوح فمن أجل ذلك لا أشربه، قال لها سليمان: كيف تركت العمران وسكنت الخراب؟ قالت: لأن الخراب ميراث الله، فأنا أسكن ميراث الله، قال الله تعالى: " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لمن بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين " .
فالدنيا ميراث الله كلها، قال سليمان: فما تقولين إذا جلست فوق خربة؟ قالت: أقول أين الذين كانوا يتنعمون فيها؟ قال سليمان: فما صياحك في الدور، إذا مررت عليها؟ قالت: أقول: ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد؟ قال سليمان عليه السلام: فما لك لا تخرجين بالنهار؟ قالت: من كثرة ظلم بني آدم لأنفسهم، قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قالت: أقول: تزودوا يا غافلين، وتهيئوا لسفركم، سبحان خالق النور. فقال سليمان عليه السلام: ليس في الطيور طير أنصح لابن آدم، ولا أشفق عليه من الهامة، وما في قلوب الجهال أبغض منها.
فرع في فتاوي قاضي خان: إذا صاحت الهامة فقال أحد: يموت رجل، فقال بعضهم: يكون ذلك كفراً إنما يقال هذا على جهة التفاؤل انتهى. وهو قريب مما تقدم في العقعق.
والهوام حشرات الأرض وروى ابن حبان وأبو داود الطيالسي، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذه الهوام من الجن فإذا رأى أحدكم في بيته شيئاً منها فليحرج عليه ثلاث مرات " قال في النهاية: هو أن يقول لها: أنت في حرج إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك بالتتبع والطرد والقتل.
وروى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين يقول: " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " ، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: " كان أبوكما إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما الصلاة والسلام " .
قال الخطابي: الهامة إحدى الهوام ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما، فإن قيل: في هذا الحديث دليل على أن للهامة حقيقة. فالجواب أن الهامة هنا بالتشديد، وتلك بالتخفيف كما تقدم. والمراد هنا هوام الأرض من الحيات والعقارب ونحوهما، كما قاله الخطابي، أو المراد كل ما يهم بالأذى، وهو اسم فاعل من هم يهم فهو هامة كأنه صلى الله عليه وسلم قال: أعيذكا من شر كل نسمة هامة بالأذى، وقوله عليه الصلاة والسلام: " ومن كل عين لامة " معناه ذات لمم، قال الخطابي: وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يستدل بقوله " بكلمات الله التامة " على أن القرآن غير مخلوق، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق، وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص، فالموصوف منه بالتمام هو غير مخلوق وهو كلام الله تعالى.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، قال: في أنزلت هذه الآية " فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ادنه " فدنوت ثم قال: " ادنه " فدنوت، فقال صلى الله عليه وسلم: " أيؤذيك هوامك " . قال ابن عوف: أظنه قال: نعم. فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله مائة رحمة، واحدة بين الجن والأنس والبهائم والهوائم فيها يتعاطفون ويتراحمون، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعاً وتسعين رحمة، يرحم الله بها عباده يوم القيامة " . وسيأتي هذا في باب الواو، في لفظ الوحش إن شاء الله تعالى.

وفي الإحياء، في فضل الجمعة، يقال: إن الطير والهوام يلقي بعضها بعضها في يوم الجمعة، فتقول: سلام سلام يوم صالح، وهو كذلك في قوت القلوب أيضاً.
وفي كتاب فردوس الحكمة، آية في كتاب الله، من قرأها يأمن من الهوام " إني توكلت على الله رب وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " وقد تقدم نظير هذا في باب الباء الموحدة، في البراغيث من رواية ابن أبي الدنيا، في كتاب التوكل، إن عامل إفريقية كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، يشكو إليه الهوام والعقارب، فكتب إليه: وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول: " وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا " الآية.
وفي كتاب النصائح، أن بعض السياحين، كان مقداماً على كل هول يخافه المسافرون، غير متحفظ من الهوام والسباع، فتعجب منه قوم وخوفوه الغرر بنفسه، فقال: إني على بصيرة من أمري، وذلك أني سافرت تاجراً مع رفقة، فكان سراق الأعراب، يطوفون بنا كل ليلة، وكنت أشد أصحابي ذكراً وأطولهم سهراً، وكنت قد أكتريت مع رجل من الأعراب أعرفه بالصلاح والدين فلما رآني على هذه الحالة، قال: صل على محمد صلى الله عليه وسلم مائة مرة، ونم آمناً، ففعلت ذلك ونمت، فإذا رجل يوقظني فارتعت وقلت: من أنت؟ فقال: اصطنعني واستتبني، قلت: ما لك؟ قال: هذه يدي قد احتبسها متاعك، وإذا هو قد شق عدلا كنت نائماً عليه، وأدخل يده لاستخراج الثياب منه، فلم يستطيع إخراج يده فأيقظت المكاري وأخبرته وسألته أن يدعو له، فقال: أنت أولى بالدعاء فإنه من أجلك أصيب، فدعوت وأمن فأطلق عن الرجل، فلا أنسى اسوداد يده من اختناق الدم فيها. وفيه أيضاً أنه صلوات الله وسلامه عليه، قال: " من صلى علي يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله له ذنوب ثمانين سنة " قيل: يا رسول الله، كيف نقول. قال صلى الله عليه وسلم: " قولوا اللهم صل على محمد عبدك ونبيك وحبيبك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم " .
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، لما أتى إلى غار ثور مع النبي صلى الله عليه وسلم، سبق إلى دخوله، فانبطح فيه وألقى نفسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لم فعلت هذا؟ " قال: لأن هذه الغيران يكون فيها الهوام المؤذية، فأحببت إن كان فيها شيء أن أقيك بنفسي وقيل: كان عليه رضي الله تعالى عنه برد ثمين فمزقه وحشا به الأحجرة فبقي جحران فسدهما بعقبيه.
والهامة في الرؤلا امرأة قوادة أو زانية.
وحكمها: تحريم الأكل.
الهبع: الفصيل الذي نتج في آخر النتاج، يقال: ما له هبع ولا ربع، والأنثى هبعة والجمع هبعات.
الهبلع: الكلب السلوقي، قاله ابن سيده، وقد تقدم ما في الكلب، في باب الكاف.
الهجاة: الضفدع، قاله ابن سيده أيضاً، والمعروف الهاجة.
الهجرس: ولد الثعلب والجمع هجارس، وقيل: هو ولد الدب، وقال أبو زيد: هو القرد، وفي الحديث أن عيينة بن حصن الفزاري مد رجله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: يا عين الهجرس، أتمد رجلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي الاستيعاب، في ترجمة أسيد بن حضير، قال: جاء عامر بن الطفيل وأربد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه أن يجعل لهما نصيباً من تمر المدينة، " فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فقال عامر بن الطفيل: لأملأنها عليك خيلا جرداً، ورجالا مرداً! فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم أكفني شر عامر بن الطفيل " . فأخذ أسيد بن حضير الرمح، وجعل يقرع رؤوسهما ويقول: أخرجا أيها الهجرسان، فقاد عامر: من أنت؟ قال: أنا أسيد بن حضير، فقال: أبوك خير منك، فقال: بل أنا خير منك ومن أبي، مات أبي وهو كافر. فقيل للأصمعي: ما الهجرس؟ قال: الثعلب.
فلما رجع عامر وأربد، من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانا ببعض الطرق، أرسل الله على أربد صاعقة فأحرقته وأحرقت بعيره، وبعث الله على عامر الطاعون في عنقه، فقتله في بيت امرأة سلولية، من بني سلول. فجعل يقول: يا بني عامر " غدة كغدة البعير، وموتا في سلولية " .

وذكر سيبويه قول عامر: غدة كغدة البعير وموتا في بيت سلولية، في باب ما ينصب على إضمار الفعل المتروك، كأنه قال: اغد غدة. قلت: ومن الأوهام أن المستغفري ذكر في كتابه معرفة الصحابة عامر بن الطفيل، وقال: إنه أسلم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه كلمات يعيش بهن، فقال صلى الله عليه وسلم: " يا عامر أفش السلام وأطعم الطعام واستحي من الله حق الحياء، وإذا أسأت فأحسن، فإن الحسنات يذهبن السيآت " انتهى.
والصواب أن عامر بن الطفيل لم يؤمن بالله طرفة عين، ولم يختلف أحد من أهل النقل، في ذلك. وأما أربد المذكور، فهو أخو لبيد الشاعر الذي عاش في الإسلام ستين سنة لم يقل فيها شعراً، سأله عمر رضي الله تعالى عنه عن تركه الشعر؟ فقال: ما كنت لأقول شعراً بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه خمسمائة درهم من أجل هذا القول. فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة، فلما كان زمن معاوية أراد أن ينقصه الخمسمائة، فقال له: ما بال العلاوة فوق الفودين؟ فقال له لبيد رضي الله تعالى عنه: آن أن أموت ويصير لك العلاوة والفودان. فرق له معاوية وتركها له، ومات لبيد بعد ذلك بأيام قليلة، وقد قيل: إنه قال في الإسلام بيتاً واحداً وهو: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى لبست من الإسلام سربالا وقيل: قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
الأمثال: قالوا: اسفد من هجرس وأغلم وأنزى.
الهجرع: الكلب السلوقي الخفيف، قاله ابن سيده.
الهجين: من الخيل والناس، الذي أبوه عربي وأمه غير عربية، والهجان من الإبل البيض، يستوي فيه الذكر والمؤنث، يقال: بعير هجان، وناقة هجان، وإبل هجان، وامرأة هجان، أي كريمة.
الهدد: بضم الهاءين وإسكان الدال المهملة بينهما، طائر معروف ذو خطوط وألوان كثيرة، وكنيته أبو الأخبار وأبو ثمامة وأبو الربيع وأبو روح وأبو سجاد وأبو عباد. ويقال له الهداهد، قال الراعي:
كهداهد كسر الرماة جناحه.
والجمع الهداهد بالفتح، وهو طير منتن الريح طبعاً لأنه يبني أفحوصه في الزبل، وهذا عام في جميع جنسه، ويذكر عنه أنه يرى الماء في باطن الأرض، كما يراه الإنسان في باطن الزجاجة، وزعموا أنه كان دليل سليمان على الماء، ولهذا السبب تفقده لما فقده. وكان سبب غيبة الهدهد عن سليمان عليه الصلاة والسلام، أن سليمان عليه السلام، لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطير والوحش، ما بلغ من عسكره مائة فرسخ، فحملتهم الريح، فلما وافى الحرم، أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كل يوم، طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، وأنه قال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي من صفته كذا وكذا ويعطى النصر على من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. قالوا: فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: بدين الحنيفية، وطرب لمن أدركه وآمن به قالوا: فكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال: مقدار ألف عام، فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل.

وأقام سليمان عليه السلام بمكة، حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحاً، وسار نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها، فأحب النزول فيها ليصلي ويتغذى، فلما نزل، قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء، فنظر إلى طول الدنيا وعرضها، يميناً وشمالاً، فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه، فإذا هو بهدد من هداهد اليمن، فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور، فقال هدهد اليمن ليعفور: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليهما السلام فقال: ومن سليمان؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح، وذكر له من عظمة ملك سليمان وما سخر الله له من كل شيء، فمن أين أنت؟ فقال له الهدهد الأخر: أنا من هذه البلاد، ووصف له ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشرة ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، ثم قال: فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ فقال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة، إذا احتاج إلى الماء فقال الهدهد الثاني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فمضى معه ونظر إلى ملك بلقيس، وما رجع إلى سليمان إلا بعد العصر.
وكان سليمان قد نزل على غير ماء، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء؟ فلم يعلموا له خبراً فتفقد الطير، ففقد الهدهد، فدعا عريف الطير وهو النسر، فسأله عن الهدهد فلم يجد عنده علمه، فغضب سليمان عليه السلام عند ذلك، وقال: " لأعذبنه عذاباً شديداً " الآية. ثم دعا بالعقاب وهو سيد الطير، فقال له: علي بالهدهد الساعة، فارتفع في الهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة في يد الرجل، ثم التفت يميناً وشمالاً، فإذا هو بالهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض عليه العقاب يريده، فناشده الله، وقال: أسألك بحق النبي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء، فتركه ثم قال له: ويلك ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف ليعذبنك أو يذبحنك فقال الهدهد: أو ما ستثنى نبي الله قال: بلى، قال: " أو ليأتيني بسلطان مبين " قال الهدهد: قد نجوت إذاً. ثم طار الهدهد والعقاب، حتى أتيا سليمان عليه السلام، فلما قرب منه الهدهد أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً، فأخذ سليمان رأسه فمده إليه، وقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فارتعد سليمان وعفا عنه. ثم سأله عن سبب غيبته، فأخبره بأمر بلقيس، وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من قصتها في باب الدال والعين المهملتين في الكلام على الدود والعفريت.
قال الزمخشري: وكان السبب في تخلفه وغيبته عن سليمان عليه السلام، أنه حين نزل سليمان حلق الهدهد، فرأى هدهداً واقفاً فوصف له ملك سليمان، وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشرة ألف قائد، تحت كل قائد مائة ألف، فذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، فدعا سليمان عليه السلام عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه. فقال لسيد الطير، وهو العقاب: علي به، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل، فقصدته فناشدها الله تعالى، وقال: بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني. فتركته، وقالت: ثكلتك أمك إن نبي الله حلف ليعذبنك، قال: أو ما ستثنى؟ قالت: بلى قال: " أو ليأتيني بسلطان مبين " فلما قرب من سليمان، أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً له، فلما دنا منه أخذ رأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله. وأما قوله: لأعذبنه، فتعذيبه بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه.
وقيل: كان عذاب سليمان عليه السلام للطير، أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض، وهو أظهر الأقاويل. وقيل: إنه يطلى بالقطران ويشمس، وقيل: أن يلقى للنمل تأكله، وقيل: إيداعه القفص، وقيل: التفريق بينه وبين إلفه، وقيل: إلزامه صحبة الأضداد.
وعن بعضهم أنه قال: أضيق السجون صحبة الأضداد، وقيل: حبسه مع غير جنسه، وقيل: الزامه خدمة أقرانه، وقيل: تزويجه عجوزاً. فإن قلت: من أين أحل له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح الله له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12