كتاب : نثر الدر
المؤلف : الآبي

ودخل عليه كعب بن مالك الأنصاري، فقال: يا أمير المؤمنين بلغك عنا أمرٌ لو كان غيرك لم يحتمله، ولو كان غيرنا لم يقم معك عليه. ما في الناس من هو أعلم منك، وفي الناس من نحن أعلم منه. وأوضع العلم ما وقف عليه اللسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان. ونحن أعرف بقدر عثمان من قاتليه، وأنت أعلم بهم وبخاذليه. فإن قلت إنه قتل ظالماً قلنا بقولك، وإن قلت إنه قتل ظالماً قلنا بقولك، وإن قلت إنه قتل مظلوماً قلت بقولنا، وإن وكلتنا إلى الشبهة أيأستنا بعدك من إصابة البنة.
فقال عليه السلام: عندي في عثمان أربعٌ: استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله عز وجل حكم عادلٌ في المستأثر والجازع.
قال ابن عباس: ما انتفعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتفاعي بكلام علي عليه السلام. كتب إلي: أما بعد؛ فإن المرء يشره درك ما لم يكن يفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما أدركت من الآخرة، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما أتاك من الدنيا فلا تكن به فرحاً، وما فاتك فلا تكن عليه جزعا، وليكن همك لما بعد الموت والسلام.
وقال: لسان الإنسان يخطر على جوارحه.
وقيل له: ألا تخضب - وقد خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال: أنا أعلم بشجر أرضي. كان ذلك والإسلام قل. فأما إذا اتسع نطاق الإسلام فامرؤ وما اختار.
وقال في خطبته بصفين: قدموا الدراع. وأخروا الحاسر، وأميتوا الأصوات والتووا في أطراف الأسنة، واردعوا العجاج.
وقيل له: كيف الرزق والأجل؟ فقال: إن لك عند الله رزقاً، وله عندك أجلاً، فإذا وفاك مالك عنده أخذ ماله عندك.
ونزل به رجل، فمكث عنده أياما، ثم تغوث إليه في خصومة، فقال علي: أخصم أنت؟ نعم. قال: تحول عنا. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يضاف الخصم إلا ومعه خصمه.
وقال عليه السلام: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك.
وقال: أشد خلق ربك عشرة أشياء، فأشدها الجبال فإن الحديد ينحت الجبال، والنار تأكل الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب يحمل الماء، والريح يفرق السحاب، والرجل يتقي من الريح بيده فيبلغ حاجته، والسكر يغلب الإنسان والنوم يذهب بالسكر، والهم يمنع النوم، فأشد خلق ربك الهم.
وقال: إن الله أعان الكذابين بالنسيان.
وقال عليه السلام: المدة قصيرةٌ وإن طالت، والماضي للمقيم عبرةٌ، والميت للحي عظة، وليس لأمس إذا مضى عودة، ولا المرء من غده على ثقة، والأول للأوسط جابذٌ، والأوسط للآخر آخذ، وكل لكل مفارقٌ، وكل بكل لاحقٌ، واليوم الهائل لكل آزفٌ، وهو اليوم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ. اصبروا على عملٍ لا غنى بكم عن ثوابه، واصبروا عن عملٍ لا صبر لكم على عقابه، إن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله. اعلموا أنكم في نفسي معدود، وأجلٍ محدود، ولا بد للأجل أن يتناهى، وللنفس أن يحصى، وللسبب أن يطوى: " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون " .
وكان إذا نظر إلى الهلال قال: اللهم اجعلنا أهدى من نظر إليه، وأزكى من طلع عليه.
وقال له الحسن عليه السلام: أما ترى حب الناس للدنيا؟ قال: هم أولادها. أفيلام المرء على حب والدته؟ وقال في القرآن: خير من قبلكم ونبأ من بعدكم وحكم ما بينكم وكان من دعائه: اللهم لا تجعل الدنيا لي سجناً، ولا فراقها علي حزناً. أعوذ بك من دنيا تحرمني الآخرة، ومن أملٍ يحرمني العملن ومن حياة تحرمني خير الممات.
وقال: الكريم لا يلين على قسرٍ، ولا يقسو على يسرٍ وقال: الدهر يومان؛ يوم لك ويم عليك؛ فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر، فبكليهما أنت مختبرٌ.
وقال له رجل: متى أضرب حماري؟ قال: إذا لم يذهب في حاجتك كما ينصرف إلى البيت.
وقال عليه السلام: النكبات لها غاياتٌ لا بد أن تنتهي إليها. فيجب للعاقل أن ينام لها إلى وقت إدبارها. فالمكابرة لها بالحيلة زيادةٌ فيها.
وقال: تعطروا بالاستغفار لا تفضحكم روائح الذنوب.
ومن كلامه الموجز عليه السلام: قيمة كل امرئ ما يحسن. إعادة الاعتذار تذكيرٌ بالذنب. النصح بين الملإ تقريعٌ. إذا تم العقل نقص الكلام. الشفيع جناح الطالب.

من كتم علماً فكأنه جهله. أهل الدنيا كصورٍ في صحيفة كلما نشر بعضها طوى بعضها. المسئول حر حتى يعد إذا طرت فقع قريباً لا يرضى عنك الحاسد حتى يموت أحدكما. أكبر الأعداء أخفاهم مكيدةً. السامع للغيبة أحد المغتابين. الصبر على المصيبة مصيبةٌ على الشامت بها. أتستبطئ الدعاء بالإجابة وقد سددت طريقه بالذنوب؟ عبد الشهوة أذل من عبد الرق. لا أدري أيهما أمر، موت الغني أو حياة الفقير. العلم لا ينقطع ولا ينفذ كالنار لا ينقصها ما يؤخذ منها. من كثر حقده قل عتابه. كفى بالظفر شفيعاً للمذنب. الساعي ظالمٌ لمن سعى به، خائنٌ لمن سعى إليه. التواضع سلم الشرف. التجارب عقلٌ مكتسبٌ. إباك والكسل والضجر؛ فإنك إن كسلت لم تؤد حقاً، وإن ضجرت لم تصبر على حق لا ترج إلا ربك، ولا تخش إلا ذنبك، وكن بما في يد الله أوثق منك بما في يدك. كفى بالمرء شراً أن يعرف من نفسه فساداً فيقم عليه، وكفى به أدباً أن يترك أمرا يكرهه من غيره. من ساس نفسه بالصبر على جهل الناس صلح أن يكون سائساً العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل. ما ضاع امرؤ عرف قدر نفسه. الفقر يخرس الفطن عن حجته. الأدب حللٌ جددٌ. التثبت حزمٌ. الفكر مرآة صافيةٌ. الاعتبار منذرٌ ناصحٌ. البشاشة فخ المودة. تنقاد الأمور في المقادير، حتى يكون الحتف في التدبير. القلب إذا أكره عمى. من لانت كلمته وجبت محبته. لا راحة لحسود، ولا وفاء لملول، ولا مروءة لكذوبٍ. الدنيا كلها يد إلا ما سد جوعةً، وستر عورةً، وهو الذي استثنى عز وجل لآدم حيث قال: " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " . الدنيا والآخرى كالمشرق والمغرب، كلّما قربت من أحد بعدت من الآخر.
ومن أمثاله عليه السلام: خسر مروءته من ضيّع يقينه،وأزرى بنفسه من استشعر الطّمع، ورضى بالذلّ من كشف ضرّه، وهانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه.
ولما فرغ - رضى اللّه عنه - من حرب الخوارج مرّ بإيوان كسرى،فقال: " أتبنون بكلّ ريع ءاية تعبثون وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين " ،فقال رجل كان معه:
دار تخيره لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم إياد
جرت الرّياح على رسوم ديارهم ... فكأنّما كانوا على ميعاد
فقال عليه السلام: ألا قلت كما قال اللّه عز وجل: " كم تركوا من جنّت وعيون وزروع ومقامكريم ونعمة كانوا فيها فكهين كذلك وأورثنها قوماً آخرين " .
ثم قال:إن هؤلاء كانوا وارثين فصاروا مورثين، ولم يكونوا شاكرين، فأصبحوا مسلوبين، ولم يكونوا حامدين، فأصبحوا محرومين، وكفروا النعم فحلّت بهم النقم.
وكتب إلى عامل له: أما بعد، فاعمل بالحقّ ليوم لا يقضى فيه إلا بالحق والسلام.
وقال عليه السلام: ربّ حياة سببها التّعرض للموت، وربّ ميتة سببها طلب الحياة.
وقال عليه السلام: إياكم ومحّقرات الذنوب، فإن الصغير منها يدعو إلى الكبير.
أتى عليه السلام - بفالوذج، فقال لأصحابه: كلوا فوالله ما اضطرب الغاران إلا عليه.
وقال: لا يكون الرجل سيد قومه، حتى لا يبالي أي ثوبيه لبس.
وقال له ابن دودان الأسدي: كيف دفعتهم يا أمير المؤمنين عن هذا الموضع وأنتم الأعلون نسباً، الأكرمون حسباً، الأتمون شرفاً، نوطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقاربةً به؟ فقال له: يا ابن دودان. إنك لقلق الوضين، ترسل عن غير ذي مسدٍ، ولك مع ذلك حق القرابة وذمام الصهر. وقد استعلمت فاعلم، كانت أمورٌ شحت عليها نفوس قومٍ وسخت بها نفوس آخرين، ونعم الحكم العدل، وفي الساعة ما يؤفكون. " لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون " .
ودع عنك نهيا صيح في حجراته
وهلم إلى الخطب الجليل، إلى ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه، ولا غرو، يئس القوم من هيبتي، وجدحوا بيني وبينهم شرباً وبيئاً؛ فإن تك للإيام عاقبةٌ أحملهم من الأمر على محضه، وإن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ، ولا تأس على القوم الفاسقين.
وقال: الفقيه كل الفقيه من لم يرخص في معصية الله، ولم يوئس من رحمة الله.
وأخذ قوما في سرقٍ فأمر بحبسهم، فجاء رجلٌ آخر، فقال: يا أميرالمؤمنين؛ إني كنت معهم، وقد تبت، فأمر بأخذه وقال متمثلا:
ومدخلٍ رأسه لم يدعه أحدٌ ... بين الفريقين حتى لزه القرن.

وقال: الحاسد مغتاظٌ على من لا ذنب له. وقال: من ترفع بعلمه وضعه الله بعمله. وقال: من لم يحسن ظنه بالظفر لم يجد في الطلب.
وقال علي السلام: إن أخيب الناس سعياً، اخسرهم صفقةً رجلٌ أتعب بدنه في آماله، وشغل بها عن معاده، فلم تساعده المقادير على إرادته، وخرج من الدنيا بحسرته، وقدم بغير زادٍ على آخرته.
وقال: إن أخوف ما أخاف عليكم إذا تفقه لغير الدين؛ وتعلم لغير العمل، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة.
وروى الشعبي عنه أنه قال: تجنبوا الأماني؛ فإنها تذهب بهجة ما خولتم، وتصفر مواهب الله عندكم، وتعقبكم الحسرات على ما أوهمتكم أنفسكم.
وقال: الهيبة مقرونة بالخيبة، والحياء مقرونٌ بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب.
وسمع رجلا يغتاب آخر عند ابنه الحسن عليه السلام، فقال: يا بني نزه سمعك عنه؛ فإنه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك.
وقال: أول عوض الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل.
وقال: لا تؤاخ الجاهلن فإنه يزين لك فعله، ويحب لو أنك مثله، ويحسن لك أسوأ خصاله، ومخرجه من عندك ومدخله عليك شينٌ وعارٌ؛ ولا الأحمق، فإنه يجهد لك نفسه ولا ينفعك، ولربما أراد أن ينفعك فضرك، فسكوته خيرٌ من نطقه، وبعده خيرٌ من قربه، وموته خيرٌ من حياته؛ ولا الكذاب؛ فإنه لا ينفعك معه عيشٌ، ينقل حديثك وينقل الحديث إليك، حتى إنه ليحدث بالصدق ولا يصدق.
لما كان يوم الجمل طاف علي عليه السلام على القتلى فبصر بعبد الله ابن حكيم بن حزام وليس لأبي غيره، وبصر بأبي سفيان بن حويطب ابن عبد العزى وليس لأبيه غيره يومئذ، فقال: لقد اجتمعت على قريش، حتى هذان اللذان لم يبق من أجل كل واحد منهما إلا ظمء الدابة، ثم أرسل إلى كل واحد منهما ودمعت عيناه، ثم قال أهون علي بشكل الشيخين! وروى عنه عليه السلام ي قوله تعالى: " فاصفح الصفح الجميل " . قال: صفحٌ بلا عتابٍ.
ومرّ بدارٍ في مراد تبنى، فوقعت شظية منها على صلعته فأدمته،فقال: ما يومي من مراد بواجد. فقال رجل: لقد رأيت تلك الدار بين الدور كالشاة الجمّاء بين العنم ذوات القرون. ورأى عليه السلام رجلا معه ابنة فقال: من هذا معك ؟ فقال: اابني - قال: أتحبه؟ قال: إي واله حبا شديدا. فقال: لا تفعل فإنه إن عاش كدك. وإن مات هدك.
وذكروا أنه مر بقوم من الأنصار، فسلم عليهم ووقف؛ فقالوا: ألا تنزل يا أمير المؤمنين، فنطعمك الخريزة. فقال رضي الله عنه: إما حلفتم علينا أو انصرفنا.
وقال القناعة سيفٌ لا ينبو، والصبر مطيةٌ لا تكبو، وأفضل عدةٍ الصبر على شدةٍ.
وقيل له: كيف صرت تقتل الأبطال؟ قال: لأني كنت ألقى الرجل فأقدر أني أقتله، ويقدر أني أقتله، فأكون أنا ونفسه عونين عليه.
وقال عليه السلام: من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.
وخرج عليه السلام إلى الكوفة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا أهل العراق، فغنما أنتم كأم مجالد، حملت فلما أتمت أملصت ومات قيمها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها، والله ما أتيتكم اختياراً مني، ولكن سقت إليكم سوقاً؛ وإن وراءكم عشرةٌ يهلك دينكم بينهم ودنياكم، ليس الآخر بأرأف بكم من الأول؛ حتى يستخرجوا كنوزكم من حجالكم. والله لقد بلغني أنكم تقولون: يكذب، فعلى من أكذب؟ أعلى الله أكذب وأنا أول من آمن به؟ أم على نبيه وأنا أول من صدقه. كلا والله، ولكنها لهجة غبتم عنها ويل أمة كيلاً بلا ثمن! لو كان له وعاءٌ " ولتعلمن نبأه بعد حينٍ " .
قال بعضهم: رأيته عليه السلام بالكوفة اشترى تمراً فحمله في طرف ردائه، فبادره الناس وقالوا: يا أمير المؤمنين، نحمل عنك. فقال: رب العيال أحق بحمل متاعه.
وقال: لن يهلك امرؤ عرف قدره.
وقال: نعم المؤازرة، وبئس الاستعداد الاستبداد.
وقال للأشعث بن قيس: " أد وإلا ضربتك بالسيف، فأدى ما كان عليه، فقال له: ما كان عليك لو كنا ضربناك بعرض السيف. فقال: إنك ممن إذا قال فعل.
وقال عليه السلام: " عليكم بالأبكار فإنهن أطيب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأشد حباً، وأقل خباً " .

ومن كلامه عليه السلام: توق ما تعيب؛ لا ات ما تعيب، ولا تعب ما تأتي. إنما يستحق السيادة من لا يصانع ولا يخادع ولا تغره المطامع. وقال يوما: ما أحسنت إلى أحد قط، فرفع الناس رءوسهم تعجباً، فقرأ: " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " .
وقال: إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو شكر قدرتك.
مرض عليه السلام، فقالوا: كيف نجدك؟ فقال: بشر. فقالوا: أتقول ذلك؟ قال: نعم، إن الله يقول: " ونبلوكم بالشر والخير فتنةً " ؛ فالخير الصحة، والشر المرض.
وقال: من تجر بغير فقهٍ فقد ارتطم في الربا.
وقال: الحلف ينفق السلعة ويمحق البركة، والتاجر فاجرٌ إلا من أخذ الحق وأعطاه.
وقال: أنكأ الأشياء لعدوك ألا تعلمه أنك اتخذته عدوا.
وقال: لله در الحسد! ما أعدله! يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود.
وقال: لا يلقح الغلام، حتى يتفلك ثدياه، وتسطع إبطاه.
وروى أنه ملك أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا؛ وبآخر نهاراً، وبدرهم سرا؛ وبآخر علانية؛ فأنزل الله تعالى فيه: " الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم " .
وقال: شر الإخوان من يحتشم ويتكلف.
وقيل له: أنت محربٌ مطلوبٌ، فلو اتخذت طرفاً. قال: أنا لا أفر عمن كر ولا أكر على من فر؛ فالغلة تكفيني.
وقيل له في بعض حروبه: إن جالت فأين نطلبك؟ قال: حيث تركتموني.
ومن كلامه عليه السلام: الكفاف خيرٌ من الإسراف. ما أدرك النمام ثاراً ولا محا عاراً. الخيرة في ترك الطيرة. الاهتمام بالأمر يثير لطيف الحيلة. الرد الجميل خيرٌ من المطل الطويل. شفيع المذنب إقراره، وتوبته اعتذاره. المنية ولا الدنية. الحيلة أبلغ من الوسيلة. لسان المرء من خدم عقله. أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس. كفى من أمر الدين أن تعرف ما لا يسع جهله. ليس النجاح مع الأخف الأعجل. الهوى عدو العقل.
وقال له رجل وهو يخطب: يا أمير المؤمنين؛ صف لنا الدنيا. فقال: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حسابٌ، وفي حرامها عقابٌ، من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر حزن.
وقال: لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه؛ فإنه إن يكن من أجلك يأت فيه رزقك واعلم أنك لاتكتسب من المال شئاً فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك.
وقال: من سره الغنى بلا مالٍ، والعز بلا سلطانٍ، والكثرة بلا عشيرة، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله؛ فإنه واجدٌ ذلك كله.
وقال: ثلاثٌ لا يعرفون إلا في ثلاثة مواشع؛ لا يعرف الشجاع إلا في الحرب، ولا الحليم إلا عند الغضب، ولا الصديق إلا عند الحاجة.
وتمثل عليه السلام في طلحة بن عبيد الله:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
ولما انقضى يوم الجمل خرج في ليلة ذلك اليوم، ومعه قنبر ومعه شعلة نارٍ يتصفح وجوه القتلى، حتى وقف عليه، فقال: أعزز على أبا محمد أن أراك معفراً تحت نجوم السماء؛ وفي بطون الأودية! شفيت نفسي وقتلت معشري. إلى الله أشكو عجري وبجري. وقال: العجب لمن يهلك والنجاة معه. فقيل: ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: الاستغفار.
وقال: الدنيا دار ممر لا دار مقر، والناس فيها رجلان؛ رجلٌ باع نفسه فأوثقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها.
وقال: مكابرة النكبات بالحيلة قبل انتهائها زيادةٌ فيها. وقال لرجل: كيف أنت؟ قال: أرجو الله وأخافه. فقال: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً توقاه.
وقال: قصم ظهري رجلان: جاهلٌ متنسك، وعالمٌ متهتك.
وسمع حالفاً يقول: والذي احتجب بسبع، فقال: ويلك. إن الله لا يحجبه شيءٌ، فقال: هل أكفر عن يميني؟ فقال: لا، لأنك حلفت بغير الله.
وقال: من وضع معروفاً في غير موضعه عاد عليه وبالاً.

وروى عن المسيب بن نجبة الفزاري قال: خطبنا علي عليه السلام، فقال: ألا أخبركم بذات نفسي؟ أما الحسن ففتى من الفتيان صاحب جفنةٍ وخوان. ولو قد التفت حلقتا البطان لم يعن عنكم في الحرب حبالة عصفورٍ. وأما عبد الله بن جعفر فصاحب لهوٍ وظل باطلٍ. وأما أنا والحسين فنحن منكم وأنتم منا، ولقد خشيت أن يدال هؤلاء القوم عليكم، وليس ذاك: ألا أن تكونوا أولى بالحق منهم، ولكن بطاعتهم إمامهم وعصيانكم إمامكم، وإصلاحهم في أرضهم وإفسادكم في أرضكم، واجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، حتى لا يدعون بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخلوه ظلمهم؛ حتى يقوم الباكيان، باكٍ لدينه وباكٍ لدنياه، وحتى لا تكون نصرة أحدكم منهم إلا كنصرة العبد من سيده، إن شهده أطاعه، وإن غاب عنه سبه، فإن أتاكم الله بعافيةٍ فاقبلوها، وإن ابتليتم فاصبروا؛ فإن العاقبة للمتقين.
ويروى عنه أنه قال: الحرص مقدمة السكون.
وقال في قوله تعالى: " أكلون للسحت " هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثم يقبل هديته.
قال الحارث الأعور: مما رأيت أحداً أحسن من علي عليه السلام، أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين؛ مات رجل وخلف ابنتين، وأبوين، وزوجة، فقال: صار ثمنهما تسعا.
هذه الفريضة من أربعة وعشرين سهما، للبنتين الثلثان، ستة عشر سهما، وللأبوين السدسان ثمانية أسهم، وكمل المال وعالت الفريضة واحتيج للمرأة إلى ثمن الأربعة والعشرين سهما، وصار الثمن من أربعة وعشرين تسعا من سبعة وعشرين. هذا معنى قوله.
وخطب فقال: أما بعد؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله الذل، وسم الخسف، وديث بالصغار وقد دوتكم لحرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: اغرزوهم من قبل أن يغزوكم؛ فو اللذي نفسي بيده ما غزى قومٌ قط في عقر دارهم إلا ذلوا؛ فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريا؛ حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان ورجالاً منهم كثيراً ونساء، والذي نفسي بيده لقد بلغني أن كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فينزع حجالهما ورعثهما، ثم انصرفوا موفورين لم يكلم أحدٌ منهم كلما. فلو أن ارمءاً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان فيه عندي ملوماً؛ بل كان به جديراً. يا عجبا كل العجب من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم! إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر وسر، وإن قلت لكم: اغزوهم في الصيف قلتم: هذه حمارة القيظ، أنظرنا ينصرم الحر عنا ؛ فإذا كنتم من الحرّ والبرد تفرّون، فأنتم واللّه من السيف أفرّ. يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام الأحلام، ويا عقول ربّات الحجال، واللّه لقد أفسدتم علىّ رأيى بالعصيان، ولقد ملأتم جوفى غيظا، حتى قالت قريش: ابن أبى طالب رجل شجاع، ولكن لا رأى له في الحرب. للّه درّهم، ومن ذا يكون أ علم بها منّى أو أشدّ لها مراسا ؟ فواللّه لقد نهضت فيها وبلغت العشرين، ولقد نيّفت اليوم على الستين. ولكن لا أرى لمن لاّ يطاع، لا أرى لمن لاّ يطاع - يقولها ثلاثا.
ومن كلامه رضى اللّه عنه: من لانت كلمته وجبت محبته.
وقال له قائل: أين كان ربّنا قبل أن خلق السموات والأرض ؟ فقال رضى اللّه عنه: " أين " سؤال عن مكان وكان اللّه ولا مكان.
وقال: من أكثر النظر في العواقب لم يتشجّع.
وقال لابنه الحسن رضى اللّه عنه: لا تبدأ بدعاء إلى مبارزة، وإن دعيت إليها فأجب ؛ فإن طالبها باغ والباغي مصروع.
وقال: وما ابن آدم والفخر، وإنّما أوّله نطفة، وآخره جيفة، لا يرزق نفسه ولا يدفع حتفه.
جاء الأشعث بن قيس إلى أمير المؤمنين على عليه السلام يتخطّى رقاب الناس، وعلىّ على المنبر ؛ فقال: يا أمير المؤمنين، غلبتنا هذه الحمراء على قربك - يعني العجم - قال: فركض على المنبر برجله، فقال صعصعة بن صوحان: ما لنا ولهذا؟ - يعني الأشعث - ليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر. فقال رضي الله عنه: من يعذرني من هؤلاء الضياطرة؟ يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار، ويهجر قومٌ الذكر فيأمرونني أن أطردهم. ما كنت أطردهم فأكون من الجاهلين؛ والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة؛ ليضربنكم على الدين عوداً، كما ضربتموهم عليه بدءاً.

وسئل عليه السلام: كيف كان حبكم للرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وأمهاتنا وآبائنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
وكان عليه السلام يقول: إذا لقيتم القوم فاجمعوا القلوب، وعضوا على النواجذ؛ فإن ذلك نبي السيوف عن المهام. وروى أنه كان يتمثل إذا رأى عبد الرحمن بن ملجمٍ المرادي ببيت معد يكرب:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
فقيل له عليه السلام: كانك قد عرفته وعرفت ما يريده. أفلا تقتله؟ فقال: كيف أقتل قاتلي؟.
ولما سمع بصفين نداءهم: لا حكم إلا لله، قال: كلمة عادلةٌ يراد بها جورٌ. إنما يقولون: لا إمارة، ولا بد من إمارةٍ برةٍ أو فاجرةٍ.
وكان أبو نيزر من أولاد بعض ملوك الأعاجم. وقيل: إنه كان من ولد النجاشي، فرغب في الإسلام صغيراً؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وكان معه. فلما توفي عليه السلام صار مع فاطمة وولدها رضي الله عنها، فقال أبو نيزر: جاءني علي عليه السلام وأنا أقوم بالضيعتين: عين أب ينيزر والبغيبغة، فقال لي: هل عندك من طعامٍ؟ فقلت: طعامٌ لا أرضاه لك يا أمير المؤمنين؛ قرعٌ من قرعٍ الضيعة صنعته بإهالة سنخة فقال: علي به، فقام إلى الربيع: وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئاً، ثم رجع إلى الربيع فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه كل واحدة منهما إلى أختها وشرب بهما حساً من الربيع، ثم قال: يا نيزر إن الأكف أنظف الآنية، ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله! ثم أخذ المعول وانحدر في العين وجعل يضرب، فأبطأ عليه الماء، فخرج وقد تفضج جبينه عرقا، فانتكف العرق عن جبينه أي أزاله، ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، ثم أقبل يضرب فيها وجعل يهمهم، فانثالت كأنها عنق جزور، فخرج مسرعاً، فقال: أشهد الله أنها صدقة. على بداوة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما تصدق به عبد الله أمير المؤمنين: تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل؛ ليقي الله عز وجل بهما وجهه يوم القيامة، لا تباعان ولا توهبان حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين، فهما طلقٌ لهما وليس لأحدٍ غيرهما.
قال: فركب الحسين دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء.
ولما ضربه عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله تعالى دعا الحسن والحسين رضي الله عنهما، وقال: أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد ف يالدنيا، ولا تأسفا على شيء فاتكما منها، اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.
وقال في دعائه: إلهي ما قدر ذنوبٍ يقابل بها كرمك؟ وما قدر أعمالٍ تقابل بها نعمك؛ وإني لأجور أن تستغرق ذنوبي في كرمك؛ كما استغرقت أعمالي في نعمك.
وعنه - عليه السلام - أنه قال: يجد البليغ من ألم السكوت ما يجده العيي من ألم الكلام، وكان إذا نعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش شئن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا، ليس بالسبط ولا الجعد القطط، كان أزهر ليس بالأبيض الأمهق في عينيه شكلة، شبح الذراعين.
وقال: بقية عمر المرء لا قيمة لها يدرك بها ما فاته، ويحيى ما أماته.
خطبته التي خطب بها حين زوج فاطمة رضي الله عنهما: الحمد لله الذي قرب من حامديه، ودنا من سائليه، ووعد بالجنة من يتقيه، وقطع بالنار عذر من يعصيه، أحمده بجميع محامده وأياديه، وأشكره شكر من يعلم أنه خالقه وباريه، ومصوره ومنشيه، ومميته ومحييه، ومعذبه ومنجيه، ومثببه مجازيه. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةً تبلغه وترضيه، وأن محمداً حبيب الله وعبده ورسوله، صلى الله عليه صلاةً تزلفه وتدنيه، وتعزه وتعليه، وتشرفه وتجتبيه.

أما بعد؛ فإن اجتماعنا مما قدر الله ورضيه، والنكاح مما أمر الله به، وأذن فيه. هذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد زوجني فاطمة ابنته على صداق أربعمائة درهم وثمانين درهماً، ورضيت به، فاسألوه، وكفى بالله شهيداً.
وقال: إن الله تعالى جعل مكارم الأخلاق وصلة بينه وبين خلقه، فحسب أحدكم أن يتمسك بخلقٍ متصلٍ بالله عز وجل.
قال الأحنف: دخلت على معاوية، فقدم لي من الحار والبارد، والحلو والحامض ما كثر تعجبي منه، ثم قدم لي لوناً لم أدر ما هو، فقلت: ما هذا؟ قال: مصارين البط محشوة بالمخ قد قلى بدهن الفستق وذر عليه الطبرزد. فبكيت. فقال: ما يبكيك؟ قلت: ذكرت عليا رضي الله عنه. بينا أنا عنده وحضر وقت إفطاره فسألني المقام، إذ دعا بجراب مختوم، قلت: ما في الجراب؟ قال: سويق شعير، قلت: ختمت عليه أن يؤخذ أو بخلت به؟ قال: لا ولا أحدهما، ولكني خفت أن يلته الحسن أو الحسين بسمنٍ أو زيتٍ. قلت: محرم هو يا أمير المؤمنين؟ قال: لا ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس؛ لئلا يطغي الفقير فقره، فقال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله.
وقال علي عليه السلام: لا يكون الصديق صديقاً، حتى يحفظ صديقه في غيبته وعند نكبته وبعد وفاته في تركته.
قيل له: كيف يحاسب الله الخلق على كثرة عددهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرة عددهم.
ولما خرج عليه السلام يريد العراق أشار عليه ابنه الحسن أن يرجع، فقال: لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد.
وقال: لئن وليت بني امية لأنفضنهم نفض القصاب الوذام التربة.
ومر بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد مقتولا يوم الجمل، فقال: هذا يعسوب قريش.
وجائته امراة فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها، فقال: إن كنت صادقةً رجمناه، وإن كنت كاذبةً جلدناك، قالت: ردوني إلى أهلي غيري نغرة.
وقال عليه السلام: إن المرء المسلم ما لم يغش دناءةً يخشع لها إذا ذكرت وتغرى به الناس، كالياسر الفالج ينتظر فوزةً من قداحه أو داعي الله؛ فما عند الله خيرٌ للأبرار.
وسافر رجلٌ مع أصحاب له فلم يرجع حين رجعوا، فاتهمهم اهله به، ورفعوهم إلى شريح، فسألهم البينة على قتله، فارتفعوا إلى علي عليه السلام، فأخبروه بقول شريح، فقال متمثلا:
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل ... يا سعد لا تروي بهذاك الإبل
ثم قال: " إن أهون السقي التشريع " ، ثم فرق بينهم، وسألهم فاختلفوا، ثم أقروا بقتله.
وقال: إذا صلى الرجل فليخو، وإذا صلت المرأة فلتحتفز.
وقال كرم الله وجهه: ما أعظم التفاوت بين العبر والاعتبار! فالعبر قد بلغت في الكثرة الغاية، والاعتبار قد بلغ في القلة النهاية.
وقالوا: انصرف من صفين وكأنه رأسه ولحيته قطنة، فقيل له: يا أمير المؤمنين لو غيرت، فقال: إن الخضاب زينةٌ، ونحن قومٌ محزونون.
وروى أن الحسن قال له يوم الجمل: أشرت عليك ثلاث مراتٍ فعصيتني، فقال عليه السلام، إنك تحن حنين الجارية، هات ما الذي أشرت به؛ وما الذي عصيتك فيه؟ فذكر أشياء، فقال له علي عليه السلام: أنا والله إذا مثل التي أحيط بها فقيل لها: زباب حتى دخلت جحرها، ثم احتفر عنها فاجتر برجلها حتى ذبحت. يريد: الضبع.
وروى أنه اشترى قميصا بثلاثة دراهم، وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه.
وقال: لا قود إلا بالأسل.
وقال: من أراد البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء، وليقلل غشيان النساء، وليخفف الرداء في البقاء، قيل: يا أمير المؤمنين وما خفة الرداء في البقاء؟ قال: الدين.
ورأى رجلاً في الشمس، فقال: قم عنها فإنها مبخرةٌ مجفرةٌ: تتفل الريح، وتبلى الثوب، وتظهر الداء الدفين.
وأتى بالمال فكوم كومةً من ذهب وكومة من فضة، وقال: يا حمراء يا بيضاء احمرى وابيضي وغري غيري.
وقال: من يطل أير أبيه ينتطق به.

وقال: ذمتي بما أقول رهينةٌ وأنا به زعيمٌ لمن صرحت له العبر ألا يهيج على التقوى زرع قومٍ، ولا يظمأ على التقوى سنخ أصلٍ. ألا وإن أبغض خلق الله إلى الله رجلٌ قمش علماً، غارً بأغباش الفتنة، عمياً بما في غيب الهدنة، سماه أشباهه من الناس عالما ولم يغن في العلم يوماً سالماً، بكر فاستكثر. مما قل منه فهو خير مما كثر، حتى إذا ما ارتوى من آجنٍ، واكتنز من غير طائلٍ، قعد بين الناس قاضياً لتخليص ما التبس على غيره، إن نزلت به إحدى المبهمات هيأ حشواً من رأيه، فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت، لا يعلم إذا أخطأ؛ لأنه لا يعلم أخطأ أم أصاب. خباط عشواتٍ ركاب جهالاتٍ، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرصٍ قاطع، يذور الرواية ذرو الريح الهشيم، تبكي منه الدماء وتصرخ منه المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام. لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليهن ولا أهلٌ لما قرظ به.
وكتب إلى ابن عباس حين أخذ من مال البصرة ما أخذ: إني أشركتك في امانتي، ولم يكن رجلٌ من أهلي أوثق منك في نفسي، فلما رأيت الزمات على ابن عمك قد كلب، والعدو قد حرب، قلبت لابن عمك ظهر المجن، بفراقه مع المفارقين، وخذلانه مع الخاذلين، واختطفت ما قدرت عليه من أموال الأمة اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى ضح رويدا، فكأن قد بلغت المدى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي المغتر بالحسرةن ويتمنى المشيع التبوة، والظالم الرجعة.
وروى عنه عليه السلام - أنه قال يوم الشورى لما تكلم عبد الرحمن ابن عوف بما تكلم: الحمد لله الذي اتخذ محمداً نبياً، وابتعثه إلينا رسولاً؛ فنحن بيت النبوة، ومعدن الحكمة، أمانٌ لأهل الأرض، ونجاةٌ لمن طلب. لنا حق إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى. لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا لجالدنا عليه حتى نموت، أو قال لنا قولاً أنفذنا قوله على رغمنا، لن يسرع أحدٌ قبلي إلى صلة رحمٍ ودعوة حق. والأمر إليك يا بن عوف على صدق اليقين وجهد النصح. استغفر الله لي ولكم.
وقال: " ما من مسلم إلا له ذنبٌ يعتريه الفينة بعد الفينة " .
" يهلك في رجلان: محب مطرٍ وباهتٌ مفترٍ " .
" يهلك في رجلان: محب غالٍ ومبغضٌ قال " .
وقال: لا يذهب أمر هذه الأمة إلا على رجل واسع السرم ضخم البلعوم، يأكل ولا يشبع.
وسئل عن قتلاه وقتلى معاوية، فقال: يؤتى بي يوم القيامة وبمعاوية فنختصم عند ذي العرش، فأينا فلج فلج أصحابه.
وقال: إن لبني أمية مروداً يجرون فيه، ولو قد اختلفوا فيما بينهم ثم كادتهم الضياع لغلبتهم.
وذكر أهل النهروان، فقال: فيهم رجل مودن اليد، أو مثدن اليد، أو مخدج اليد، لولا أن تبطروا لنبأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال: إذا كان القلب لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكر أنكس، فجعل أعلاه أسفله. وقال: ألم يأن لبني أمية أن يقتلوا، قتيلهم؟ قيل: ما هذا القتيل؟ قال: غرنوقٌ من غرانيق بني عبد المطلب.
ومر بقاضٍ، فقال: أترعف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت.
وقال: لا يستقيم قضاء الحوائج إلا بثلاث، باستصغارها لتعظم، واستكتامها لتنسى، وتعجيلها لتهنؤ.
وجاءه يهودي، فقال: أين كان ربنا قبل أن يخلق العرش؟ قال: حيث هو اليوم، قال: فأين هو اليوم؟ قال: حيث كان ذلك اليوم، لا تخطر عليه القلوب، ولا تقع عليه الأوهام " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " .
وروى عن نوف قال: رأيت عليا عليه السلام قد خرج؛ فنظر إلى النجوم، فقال: أراقد أم رامقٌ؟ قلت: بل رامقٌ يا أمير المؤمنين. قال: يا نوف طوبى للزاهدين في هذه الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك قومٌ اتخذو الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن شعاراً ودثاراً، وقرضوا للدنيا قرضاً على منهاج المسيح عيه السلام. يا نوف، إن داود عليه السلام قام ساعةً من الليل، فقال: إنها ساعةٌ لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها إلا أن يكون عشاراً أو عرييفاً أو شرطياً أو صاحب عرطبةٍ - وهو الطنبور - أو صاحب كوبة - وهو الطبل.
وقال عليه السلام: إن الله فرض عليكم فرائض فلا تضبعوها، وحد لكم حدوداً فلا تعدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء، فلم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها.

وقال: لا يترك الناس شيئاً من إصلاح دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه.
وقال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك، وتباهى الناس بعبادة ربك؛ فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله؛ ولا خير ف يالدنيا إلا لرجلين، رجل أذنب ذنوباً فهو يتدارك ذلك بتوبةٍ، ورجل يسارع ف يالخيرات. ولا يقل عملٌ مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟ أيها الناس عليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق. ولا تنكرن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيولى الله عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.
" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب " .
تجهزوا رحمكم الله، فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلوا الفرحة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد؛ فإن أمامكم عقبةً كئوداً، ومنازل مخوفةً لا بد من الممر عليها، والوقوف عندها، فإما برحمة الله نجوتم من فظاعتها، وشدة مختبرها، وكراهة منظرها؛ وإما بهلكة ليس بعدها نجاةٌ. فيا لها حسرةً على كل ذي غفلةٍ! أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤديه أيامه إلى شقوة.
وخطب لما ورد عليه خبر مقتل محمد بن أبي بكر، وغلبة أصحاب معاوية على مصر، قال بعد أن حمد الله: ألا إن مصر أصبحت قد فتحت، ألا وإن محمد بن أبي بكرٍ قد أصيب رحمه الله، وعند الله نحتسبه. أما والله إن كان لمن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدى المؤمن. إني والله لا ألوم نفسي في تقصير ولا عجز، إني بمقاساة الحرب جد عالمٍ خبيرٍ، وإني لأقدم في الأمر فأعرف وجه الحزم، وأقوم فيه بالرأي المصيب معلناً، وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً؛ حتى تصير بي الأمور إلى عواقب الفساد، وأتم لا تدرك بكم الأوتار، ولا يشفى بكم الغليل. دعوتكم إلى غياث إخوانكم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نيةٌ في اجهاد عدو، ولا احتساب أجرٍ. وخرج جنيدٌ ضعيفٌ " كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " .
وقال في خطبته بالبصرة: يا أهل البصرة يا أهل المؤتفكة أئتفكت بأهلها ثلاثاً وعلى الله تمام الرابعة. يا جند المرأة، وأعوان البهيمة، رغا فأجبتم وعقر فتفرقتم.
وخطب فقال: انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، فإنها والله عن قليل تزيل الثاوي الساكن، وتبخع المترف الآمن، لا يرجع ما تولى منها فادبر، ولا يدري ما هو آت منها فينتظر، سرورها مشوبٌ بالحزن، وآخر الحياة فيها إلى الضعف والوهن، فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها. رحم الله رجلاً تفكر فاعتبر، فأبصر إدبار ما قد أدبر، وحضور ما حضر؛ فكأن ما هو كائنٌ في الدنيا لم يكن، وكأن ما هو كائن في الآخرة لم يزل.
وقال جندب: دخلنا عليه فقال: أما إنكم ستلقون بعدي ثلاثاً؛ ذلاً شاملاً، وسيفاً قاتلاً، وأثرةً يتخذها الظالمون عليكم سنة، فتودون عند ذلك لو رأيتموني فنصرتموني وقاتلتم دوني، لا يبعد الله إلا من ظلم!. فكان جندب بعد ذلك إذا رأى شيئاً مما يكره يبكي ويقول: أبعد الله الظالم.
وقال في خطبة له: وأيم الله إنكم لو قد رأيتم الموت لا نفرجتم عن علي ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها؛ فقال له رجل: أفلا كما فعل عثمان، فقال: إن الذي فعل عثمان مجزاةٌ لمن لا نصرة له، ولا حجة معه، فأما وأنا على بينةٍ من ربي، ويقينٍ وعهدٍ من نبيي كلا والله: إن أمرءاً يمكن من نفسه عدوة فيهشم عظمة، ويفرى جلده لعظيمٌ عجزه، ضعيفٌ ما ضمت عليه الأحشاء من صدره، وأنت ذاك إن شئت. فأما أنا فوالله لأعطين دون ذلك ضرباً بالمشرفي تطير له فراش الهام، والله يفعل ما يشاء.
وقال له المهاجر بن خالد بن الوليد: ما رأيك يا أمير المؤمنين في هذه المعتزلة سعدٍ وأصحابه؟ فقال: خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل، كما قال أخو جشم:
عليكم بواديكم من الذل فارتعوا ... ونالوا بذل من ندى البقل والشجر
فما أنتم بالمانعين ذماركم ... قديماً، ولستم في النفير إذا نفر

وقال عليه السلام: اتركوا هذه الدنيا التاركة لكم، وإن لم تكونوا تحبون تركها، والمبلية لكم، وإن كنتم تحبون تجديدها. فإنما مثلكم ومثلها كركبٍ سلكوا سبيلاً، فكأنهم قد قطعوه وأموا علماً، فكأنهم قد بلغوه. جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمةٌ، ولا تقصر به عن طاعة ربه رغبةٌ، ولا يحل به الموت حسرةً؛ فإنما نحن له وبه.
وقال في خطبة: إياكم ومجالس اللهو؛ فإن اللهو ينسى القرآن، ويحضره الشيطان، ويدعو إلى كل غي. ومحادثة النساء تزيغ القلوب، وهي من مصايد الشيطان. ألا فاصدقوا؛ فإن الله مع الصادقين، وجانبوا الكذب؛ فإنه مجانبٌ للإيمان، إن الصادق على شفا منجاةٍ وكرامة، وإن الكاذب على شفا هوانٍ. قولوا الحق تعرفوا به، وتكونوا من أهله، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم. وإذا عاهدتم ففوا، وإذا حكمتم فاعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء ولا تنابزوا بالألقاب، ألا ولا تمادحوا ولا تمازحوا ولا تباغضوا، أفشوا السلام وردوا التحية على أهلها بأحسن منها، وارحموا الأرملة واليتيم، وأعينوا الضعيف والمظلوم، " ونعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ألا وإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع. ألا وإن الآخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع، ألا وإن المضمار اليوم، والسباق غداً وإن السبقة الجنة والغاية النار.
وقال عليه السلام: خير النساء الطيبة الريح، الطيبة الطعام، التي إن أنفقت أنفقت قصداً، وإن أمسكت أمسكت قصداً، تلك من عمال الله، وعامل الله لا يخيب.
وقال: الصمت في اانه خيرٌ من المنطق في غير أوانه.
وقال: إذا رأيت في رجلٍ خلةً رائعةً من خيرٍ أو شر فانتظر أخواتها.
وقال: إن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما صفا وصلب ورق فأما صفاؤها فلله، وأما رقتها فللإخوان، وأما صلابتها فللدين.
وقال: الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من مكر الله، ولا يرئسهم من رحمة الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله.
ودخل عليه قوم فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أعطيت هذه الأموال، وفضلت بها هؤلاء الأشراف ومن تخاف فراقه، حتى إذا استتب لك ما تريد عدت إلى أفضل ما عودك الله عز وجل من العدل في الرعية، والقسم بالسوية، فقال عليه السلام: أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام! والله لا أفعل ذلك ما سمر بنا سمير، وما آب في السماء نجم، فلو كان هذا المال لي لسويت بينهم، فكيف؟ وإنما هي أموالهم، ثم أرم طويلا ثم قال: من كان منكم له مالٌ فإياه والفساد، فإن إعطاء المال في غير حله تبذير وإسرافٌ وفسادٌ، وهو يرفع ذكر صاحبه، ويضعه عند الله عز وجل، ولن يضع ارمؤٌ ماله ف يغير حقه، وعند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره ودهم، فإن بقي معه منهم من يريد الود، ويظهر له الشكر فإنما هو ملق وكذب؛ فإن زلت بصاحبه النعل واحتاج إلى معونته ومكافأته فشر خليلٍ، والأم خدين، فمن آتاه الله مالاً فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به العاني والأسير، وليعط منه الغارم وابن السبيل، والفقراء والمجاهدين، وليصبر نفسه على الحقوق وابتغاء الثّواب، فإنّه ينال بهذه الخصال مكارم الدّنيا وفضائل الآخرة إن شاء اللّه.
وخطب عليه السلام حين كان من أمر الحكمين ما كان، فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمد عبده ورسوله.
أما بعد، فإن معصية الشيخ العالم المشفق المجرّب تورث الحسرة، وتعقب النّدامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة بأمرى، ونخلت لكم رأيى لو كان يطاع لقيصر أمر ! ولكنكم أبيتم، وكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوزان
أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت فيهم وقد أرى ... غوايتهم أو أنّنى غير مهتد
ألا إنّ هذين الرّجلين اخترتموهما حكمين، وقد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما فأماتا ما أحيا القرآن، وأحييا ما أمات، واتّبع كلّ واحد منهما هواة، يحكم فيه بغير حجّة بيّنة، ولا " 82 " سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، فكلاهما لم يرشده اللّه، استعدّوا للجهاد، وتأهّبوا للسير، وأصبحوا في معسكركم يوم كذا.

وخطب فقال: أما بعد ؛ يا أهل الكوفة فإنّ أهل الشّام لو قد طلعوا عليكم أغلق كلّ امرئ منكم بابه، وانجحر في بيته انجحار الضّبّ في جحره والضّبع في وجارها الذّليل، واللّه ما نصرتم، ومن رمى بكم رمى بأضعف سهم. أفّ لكم ! لقد لقيت منكم برحاً، يوماً أناديكم ويوماً أناجيكم، فلا أحرار عند النداء، ولا أنجاد عند اللقاء، أنا لله ممّا منيت به منكم، صمّ لا تسمعون، بكم لا تعقلون، كمه لا تبصرون، والحمد لله ربّ العالمين.
وكتب إلى سهل بن حنيف وهو عامله على المدينة: بلغنى أن رجالاً يخرجون إلى معاوية ؛ فلا تأسف على ما فاتك منهم ؛ فكفى لهم غيّاً فرارهم من الحق والهدى، وإيضاعهم في الجهالة والعمى ؛ إنّما هم أهل دنيا، مكبّون عليها، قد علموا أنّ في الحق أسوةً فهربوا منه إلى الأثرة ؛ فبعداً لهم وسحقاً، أما لو قد بعثرت القبور، واجتمعت الخصوم، وقضى بين العباد لتبيّن لهم ما يكسبون.
وكتب إلى مصقلة بن هبيرة: بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أتيت شيناً ؛ إذ بلغني أنّك تقسم فئ المسلمين فيمن اعتفاك من أعراب بكر بن وائل، فو الذّي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، لئن كان ذالك حقّاً لتجدنّ بك علىّ هواناً. فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من: " الأخسرين أعمالاً " الآية.
وكتب إلى زياد - وهو خليفة ابن عباس على البصرة - وكان أخرج إليه سعدا مولاه يستحثه على حمل مالٍ فعاد وشكاه وعابه: أما بعد، فإن سعداً ذكر أنك شتمته ظلماً له، وتهددته وجبهته، تجبراً وتكبرا. فما دعاك إلى التكبر؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الكبر رداء الله فمن نازع الله رداءه قصمه " .
وأخبرني أنك تكثر من الطعام والألوان، وتدهن في كل يوم؛ فما عليك لو صمت لله أياما؟ وتصدقت ببعض ما عندك محتسبا، وأكلت طعامك مراراً قتاراً؛ فإن ذلك دثار الصالحين، أتطمع وأنت تتقلب في النعيم تستأثر به على الجار المسكين، والضعيف الفقير، والأرملة واليتيم أن يجب لك أجر المتصدقين؟.
وأخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار وتعمل عمل الخطائين؛ فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت، وعملك أحبطت؛ فتب إلى ربك يصلح عملك، واقصد في أمرك، وقدم الفضل ليوم حاجتك إليه إن كنت من المؤمنين، وادهن غباً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ادهنوا غباً ولا تدهنوا رفها " .
فكتب إليه زياد: أما بعد يا أمير المؤمنين فإن سعداً قدم فعجل فانتهرته وزجرته. وكان أهلاً لأكثر من ذلك. فأما ما ذكر من الإسراف، واتخاذ ألوان الطعام، والتنعم؛ فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصادقين، وإن كان كاذباً فوقاه الله عقوبة الكاذبين. وأما قوله: إني أصف العدل وأخالفه إلى غيره، فإني إذاً لمن الأخسرين أعمالاً، فخذه يا أمير المؤمنين بمقالٍ قلته في مقامٍ قمته. فإن أتاك بشاهدي عدلٍ، وإلا تبين لك كذبه وظلمه.
وقال عليه السلام: " قبلة الولد رحمةٌ، وقبلة المرأة شهوة، وقبلة الوالدين عبادة، وقبلة أخيك دينٌ، وقبلة الإمام العادل طاعةٌ " .
وقال: بئس الجار الغني، يبعث عليك ما لا يعينك عليه.
وقال: نعم البيت بيت العروس تذكر به الجنة، وتحمد الله على النعمة.
وقال: الكريم لا يقبل على معروفه ثمنا.
وقال: لا ينبغي للعاقل أن يظهر سروراً برجاء، لأن الرجاء غرور.
وقال: المعروف زكاة النعم.
وقال: إزالة الرواسي أيسر من تأليف القلوب.
وكتب إلى ابن عباس: أتاني كتابك تذكر ما رأيت من أهل البصرة بعد خروجي عنهم، وإنما ينقمون لرغبةٍ يرجونها، أو عقوبةٍ يخافونها؛ فأرغب راغبهم، واحلل عقد الخوف عن خائفهم بالعدل عليه، والإنصاف إليه.
وكتب إلى سعد بن مسعود الثقفي: إنك وفرت على المسلمين فيئهم، فأطعت ربك، ونصحت إمامك فعل المتنزه العفيف، فقد حمدت فعلك، ورضيت هديك، وأوتيت رشدك، وغفر الله ذنبك.
ومشى قوم خلفه، فقال: عنى خفق نعالكم؛ فإنها مفسدة لقلوب نوكي الرجال.
وقال: أكبر الغي أن تعيب رجلاً بما فيك، وأن تؤذي جليسك بما هو فيه عبثاً به.
وقال: اتقوا من تبغضه قلوبكم.
ودخل عليه السلام المقابر، فقال: " أما المنازل فقد سكنت، والأموال قد قسمت، والأزواج قد نكحت، فهذا خير ما عندنا؛ فما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بيده لو أذن لهم في الكلام لأخبروا أن خير الزاد التقوى.
وخطب فقال:

أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغداً السباق. ألا وإنكم في أيام أملٍ من ورائه أجلٌ؛ فمن أخلص في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله، ولا يضره أمله، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله، وضره أمله. فاعملوا لله في الرغبة كما نعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام هاربها، ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يخزيه الضلال. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد. وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل.
وقال له الأشتر: كيف ود أمي رالمؤمنين امرأته؟ قال: كالخير من امرأة جباء قباء. قال: وهل يريد الرجال من النساء غير ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، حتى تدفي الضجيع، وتروي الرضيع.
وقال: حسبي حسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وديني دينه، فمن أبغض حسبي فإنما يبغض حسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يبغض ديني فإنما يبغض دين النبي صلى الله عليه وسلم.
قال بعض قريش: أتيت الكوفة فتبوأت بها منزلاً، ثم خرجت أريد عليا عليه السلام. فلقيني في الطريق وهو بين الأشعث بن قيس، وجرير بن عبد الله، فلما رآني خرج من بينهما فسلم علي. فلما سكت قلت: يا أمير المؤمنين، من هذان؟ وما رأيهما؟ فقال: أما هذا الأعور - يعني الأشعث - فإن الله لم يرفع شرفاً إلا حسده، ولم يسن ديناً إلا بغاه. وهو يمنى نفسه ويخدعها، فهو بينهما لا يثق بواحدة منهما. ومن الله عليه أن جعله جباناً، ولو كان شجاعاً لقد قتله الحق بعد. وأما هذا الأكشف - يعني جريرا - عبد الجاهلية فهو يرى أن كل أحد يحقره، فهو ممتلئ بأوا، وهو في ذلك يطلب جحراً يؤويه، ومنصباً يغنيه. وهذا الأعور يغويه ويطغيه، إن حدثه كذبه، وإن قام دونه نكص عنه، فهما كالشيطان " إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال: فقلت له: والله يا أمير المؤمنين لقد نزلت بشر منزل. ما أنت إلا بين الكلب والذئب. قال: هو عملكم يا معشر قريش، والله ما خرجت منكم إلا أني خفت أن تجلوا في فألج بكم.
وقال: أشد الذنوب ما استخف صاحبه به.
روى عن أبي اراكة أنه صلى مع أمير المؤمنين - عليه السلام - صلاة الفجر، فلما سلم انفتل عن يمينه، ثم مكث كأن به كابةً، حتى طغت الشمس على حائط المسجد، ثم قلب يديه وقال: لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفرا غبراً شعثاً، بين أعينهم مثل ركب المعزى، قد باتوا لله سسجداً وقياماً، يتلون كتاب لله،يواحون بين أقدامهم وجباههم، فإذا أصحبوا فذكروا الله مادوا كما يمد الشجر في يوم الريح،وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم. والله لكأن القوم باتوا غافلين.
ثم نهض،ير مفترًّا حتى ضربه عدو الله ابن ملجم لعنه الله.
وكان عليه السلام جالساً في أصحابه،فمرت امرأ جميلة،فرمقها القوم بأبصارهم،فقال: إن أبصار هذه الفحول طوامح،فإذا رأى أحدكم المرئة تعجبه فلأتي أهله حفإنما امرأة بامرة،.فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً،ما أفهمه !فوثبوا عليه ليضربوه،فقال رضى الله عنه: مه،فإنما هو سب بسب،أو عفو وقد عفوت.
وقال: من أبطأ به لم يسرع حسبه.
وقال:ما أضمر أحد شياً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.
وقال: إذا كنت قي إدبار،والموت في إقبالٍ،فما أسرع الملتقى ! وقال:قلب الأحمق في لسانه،ولسان العاقل في قلبه.
وقال:عجبت من البخيل يستعجل الفقر الذى منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.
وقال: يا أسرى الرغبة، أقصروا؛ فإن المعرج على الدنيا لا يروعه إلا صريف أنياب الحدثان.
وقال: المرأة عقربٌ حلوة اللسبة.
وقال: أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيامٌ.
وقال: احذروا نفار النعم، فما كل شاردٍ مردودٌ.
وقال: كفى بالأجل حارساً.
وقال في بعض كلامه: لقد اتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا من أله، فوصوا دونه.
وقال: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.
ومن كلامه: ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه، وقلبت ظهره وبطنه، فلم أر إلا القتال أو الكفر.
وقال: الولايات مضامير الرجال.
وقال: اللجاجة تسل الرأي.

الباب الرابع
من كلام الأئمة
عليهم السلام، وكلام جماعة من أشراف أهل البيت
الحسن بن علي
عليه السلام
روى أن أباه عليه السلام قال له: قم واخطب لأسمع كلامك، فقام فقال: " الحمد لله الذي من تكلم سمع كلامه، ومن سكت علم ما في نفسه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه معاده. أما بعد، فإن القبور محلتنا، والقيامة موعدنا، والله عارضنا، إن علياً باب من دخله كان مؤمنا، ومن خرج منه كان كافراً.
فقام إليه علي رضي الله عنه فالتزمه، وقال: بأبي أنت وأمي، " ذريةً بعضها من بعضٍ والله سميعٌ عليمٌ " .
ومن كلامه عليه السلام: إن هذا القرآن فيه مصابيح النور، وشفاء الصدور، فليجل جالٍ بصره، وليلجم النصفة قلبه؛ فإن التكفير حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور.
واعتل علي عليه السلام بالبصرة، فخرج الحسن عليه السلام يوم الجمعة، فصلى الغداة بالناس، وحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الله لم يبعث نبياً إلا اختاره نفساً ورهطاً وبيتاً. والذي بعث محمدا صلى الله عليه بالحق لا ينتقص أحدٌ من حقنا إلا نقصه الله من عمله، ولا تكون علينا دولةٌ إلا كانت لنا عاقبة. " ولتعلمن نبأه بعد حين " .
وقال له معاوية بعد الصلح: قم فاعتذر من الفتنة، فقام عليه السلام وقال: إن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي تناوعنا فيه أنا ومعاوية إما حق رجلٍ هو أحق به مني، وإما حقي تركته لصلاح أمة محمد صلى الله عليه. " وإن أدرى لعله فتنةٌ لكم ومتسع إلى حين " .
ولما خرج حوثرة الأسدي وجه معاوية إلى الحسن عليه السلام يسأله أن يكون المتولى لمحاربة الخوارج، فقال: والله لقد كففت عنك لحقن الدماء؛ وما أحسب ذلك يسعني. أفأقاتل عنك قوماً أنت والله بقتالي أولى منهم.
ولما قدم معاوية المدينة صعد المنبر، ونال من علي عليه السلام، فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له عدواً من المجرمين، فأنا ابن علي، وأنت ابن صخر، وأمك هند وأمي فاطمة، وجدتك قتيلة، وجدتي خديجة. فلعن الله ألأمنا حسباً وأخملنا ذكراً، وأعظمنا كفرا، وأشدنا نفاقاً.
فصاح أهل المسجد: آمين، آمين، وقطع معاوية خطبته ونزل ودخل منزله.
ودخل إلى معاوية وهو مضطجع، فقعد عند رجله، فقال معاوية: ألا أطرفك؟ بلغني أن أم المؤمنين عائشة تقول: إن معاوية لا يصلح للخلافة. فقال الحسن رضي الله عنه: وأعجب من ذلك قعودي عند رجلك، فقام معاوية واعتذر إليه.
وقيل له عليه السلام: فيك عظمة، قال: لا، بل في عزةٌ، قال الله تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " .
وقال لأبيه عليهما الرحمة: إن للعرب جولة. ولو قد رجعت إليها غوارب أحلامها، لقد ضربوا إليك أكباد الإبل حتى يستخرجوك ولو كنت في مثل وجار الضبع.
وخطب مرةً فقال: ما بين جابلق وجابلص رجلٌ جده نبي غيري.
وقام إليه رجل، فقال: سودت وجوه المؤمنين. فقال: لا تؤنبني رحمك الله؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى بني أمية يصعدون على منبره رجلاً رجلاً.
وروى عن رجل من أهل الشام قال: دخلت المدينة، فرأيت راكبا على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتا ولا ثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب. فامتلأ قلبي له بغضا، وحسدت عليا أن يكون له ابنٌ مثله، فصرت إليه فقلت: أنت ابن أبي طالب؟ فقال: أنا ابن ابنه. قلت فبك وبأبيك. أسبهما. فلما انقضى كلامي قال: أحسبك غريبا، قلت: أجل. قال: فمل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مالٍ آسيناك، أو إلى حاجةٍ عاونك. قال: فانصرفت عنه وما على الأأرض أحب إلي منه.
وقال معاوية: إذا لم يكن الهاشمي جواداً لم يشبه قومه، وإذا لم يكن المخزومي تياهاً لم يشبه قومه، وإذا لم يكن الزبيري شجاعاً لم يشبه قومه، وإذا لم يكن الأموي حليماً لم يشبه قومه.
فبلغ ذلك الحسن عليه السلام، فقال: ما أحسن ما نظر لقومه! أراد أن يجود بنو هاشم بأموالهم فيفتقروا، وتزهى بنو مخزوم فتبغض وتشنأ، ويحارب بنو الزبير فيتفانوا، وتحلم بنو أمية فتحب.

وقال عليه السلام لحبيب بن مسلمة: رب مسيرٍ لك في غير طاعة الله. فقال: أما مسيري إلى أبيك فلا. قال: بلى. ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة. ولعمري لئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في دينك. ولو أنك إذ فعلت شراً قلت خيراً كما قال الله تعالى: " خلطوا عملاً صالحاً وءاخر سيئاً " ؛ ولكنك فعلت شراً وقلت شراً فأنت كما قال الله تعالى: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " .
قال الشعبي: كان معاوية كالجمل الطب، قال يوما والحسن عليه السلام عنده: أنا ابن بحرها جوداً، وأكرمها جدودا، وأنضرها عودا. فقال الحسن: أفعلي تفخر؟ أنا ابن عروق الثرى، أنا ابن سيد أهل الدنيا، وأنا ابن من رضاه رضا الرحمن، وسخطه سخط الرحمن. قل لك يا معاوية من قديم تباهى به، أو أب تفاخرني به؟ قل لا أو نعم، أي ذلك شئت، فإن قلت لا أثبت، وإن قلت نعم عرفت. قال معاوية: فإني أقول لا تصديقا لك. فقال عليه السلام:
الحق أبلج ما يخيل سبيله ... والحق يعرفه ذوو الألباب
وأتاه رجل فقال: إن فلانا يقع فيك. قال: ألقيتني في تعب. أريد الآن أن أستغفر الله لي وله.
وجاء عليه السلام إلى أبي بكر وهو يخطب فقال: انزل عن منبر أبي.
قال أبو بكر: صدقت. إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي، ثم أخذه فأجلسه في حجره وبكى، فقال علي عليه السلام: والله ما كان هذا عن أمري. فقال أبو بكر رضي الله عنه: صدقت والله ما اتهمتك.
وقال الحسن عليه السلام: من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه.
وسئل عن البخل فقال: هو أن يرى الرجل ما أنفقه تلفاً، وما أمسكه شرفاً.
وقال: حسن السؤال نصف العلم.
وقال: التبرع بالمعروف، والإعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد.

الحسين بن علي
عليهما السلام
لما عزوم علي الخروج إلى العراق قام خطيبا فقال: الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله وسلم. خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة. وما أولهني إلى أسلافي! اشتياقي كاشتياق يعقوب إلى يوسف، وخيرٌ لي مصرعٌ أنا لاقيه. كأني بأوصالي تتقطعها عسلا الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملالأن مني أكراشاً جوفاً وأجريةً سغباً. لا محيص عن يومٍ خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت. نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمته؛ هي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز لهم وعده. من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقائنا نفسه فليرحل، فإني راحلٌ مصبحاً إن شاء الله.
ةخطب عليه السلام فقال: أيها الناس. نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم، ولا تحتسبوا بمروف لم تعجلوه، واكتسبوا الحمد بالنجح، ولا تكتسبوا بالمطل ماً، فمهما يكن لأحدٍ عند أحدٍ صنيعةٌ له رأى أنه لا يقوم بشكرا فالله له بمكافأته، فإنه أجزل عطاءً، وأعظم أجراً، واعلموا أن حوائج الناس إلكم من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم، فتحور نقما، واعلموا أن المعروف يكسب حمدا ويكسب أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين، ويفوق العالمين، ولو رأيتم اللؤم رجلا رأيتموه سمجاً مشوهاً تنفر منه القلوب، وتغش دونه الأبصار. أيها الناس. من جاد ساد، ومن بخل رذل. وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وإن أعفى الناس من عفا عن قدرة، وإن أفضل الناس من وصل من قطعه، والأصول على مغارسها ففروعها تسمو. فمن تعجل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً، ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه، ومن نفس كربة مؤمنٍ فرج الله عن كرب الدنيا والآخرة، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحب المحسنين.
وخطب فقال: إن الحلم زينةٌ، والوفاء مروءةٌ، والصلة رحمةً، والاستكبار صلفٌ، والعجلة صفهٌ، والسفه ضعفٌ، والغلو ورطةٌ، ومجالسة الدناة شر، ومجالسة أهل الفسق ريبةٌ.

ولما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه، لقى في ذلك العام الحسين عليه السلام فقال: أبا عبد الله هل بلغك ما صنعت بحجرٍ وأصحابه من شيعة أبيك؟ فقال: لا. قال: إنا قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم، فضحك الحسين عليه السلام، ثم قال: خصمك القوم يوم القيامة يا معاوية. أما والله لو ولينا مثلها من شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم. وقد بلغني وقوعك بأبي حسن، وقيامك واعتراضك بني هاشم بالعيوب، وايم الله لقد أوترت غير قوسك، ورميت غير غرضك، وتناولتها بالعداوة م مكانٍ قريبٍ، ولقد أطعت امرءاً ما قدم إيمانه، ولا حدث نفاقه، وما نظر لك، فانظر لنفسك أودع. يريد: عمرو بن العاس.
قال أنس: كنت عند الحسين عليه السلام فدخلت عليه جاريةٌ بيدها طاقة ريحان فحيته بها، فقال لها: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى، فقلت: تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها! قال: كذا أدبنا الله جل جلاله. قال: " وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسن منها أو ردوها " ؛ فكان أحسن منها عنقها.
وقال يوما لأخيه الحسن عليهما السلام: يا حسن. وددت أن لسانك لي، وأن قلبي لك.
وكتب إليه الحسن عليه السلام يلومه على إعطاء الشعراء، فكتب إليه: أنت أعلم مني أن خير المال ما وقى العرض.
ومن دعائه: اللهم لا تستدرجني بالإحسان، ولا تؤدبني بالبلاء.
ودعاه عبد الله بن الزبير وأصحابه فأكلوا ولم يأكل الحسين عليه السلام. فقيل له: ألا تأكل؟ قال: إني صائم، ولكن تحفة الصائم قيل: وما هي؟ قال: الدهن والمجمر.
وجنى غلامٌ له جنايةً توجب العقاب عليه، فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي " والكاظمين الغيظ " قال: خلوا عنه، قال: يا مولاي " والعافين عن الناس " قال: قد عفوت عنك. قال: يا مولاي " والله يحب المحسنين " قال: أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك.
وقال الفرزدق: لقيني الحسين عليه السلام في منصرفي من الكوفة فقال: ما وراءك يا أبا فراس؟ قلت: أصدقك. قال: الصدق أريد. قلت: أما القلوب فمعك، وأما السيوف فمع بني أمية عليك. والنصر من عند الله. قال: ما أراك إلا صدقت. إن الناس عبيد المال، والدين لغوٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درت به معايشهم، فإذا محصوا للابتلاء قل الديانون.
وقال الحسين عليه السلام: من أتانا لم يعدم خصلة من أربعٍ؛ آيةً محكمةً، وقضيةً عادلةً، وأخاً مستفاداً، ومجالسة العلماء.
وكان يرتجز يوم قتل السلام ويقول:
الموت خير من ركوب العار ... والعار خير من ركوب النار
واللّه من هذا وهذا جارى وقال عليه السلام: صاحب الحاجة لم يكرم وجهه عن سؤالك، فأكرم وجهه عن ردّك إياه.
وكان يقول: حوائج الناس إليكم. فلا تملّوا النّعم فتحور نقماً.
ولما نزل به عمرو بن سعد لعنه اللّه وأيقن أنهم قاتلوه قام في أصحابه خطييباً، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إنّه قد نزل من الأمر ما ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكّرت، وأدبر معروفها واستمرّت، حتّى لم يبق منها إلا صبابةٌ كصبابة الإناء، وإلا خسيس عيش كالكلإ الوبيل.
ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء اللّه. فإنى لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظّالمين إلا برماً.
وقال عليه السلام: علّمنا عبد اللّه بن جعفر السّخاء.
وقيل: كان بينه وبين أخيه الحسن عليهما السلام كلام، فقيل للحسين: ادخل على أخيك فهو أكبر منك ؛ فقال: إنى سمعت جدّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما اثنين جرى بينهما كلام فطلب أحدهما رضا الآخر كان سابقه إلى الجنة، وأنا أكره أن أسبق أخى الأكبر ؛ فبلغ قوله الحسن رضى اللّه عنه ؛ فأتاه عاجلا.

على بن الحسين زين العابدين
رضى اللّه عنه
نظر إلى سائل يبكى، فقال: لو أنّ الدنيا في يد هذا، ثم سقطت منه ما كان ينبغى أن يبكى عليها.
وسئل رضى اللّه عنه: لم أوتم النبى - صلى اللّه عليه وسلم - من أبويه ؟ قال: لئلا يوجب عليه حقّ لمخلوقٍ.
وقال: ليس في القرآن: يأيّها الذين آمنوا، إلا وهي في التوراة: يأيّها المساكين.
وقال لابنه: يا بنى. إياك ومعاداة الرجال، فإنه لن يعدمك مكر حليم، أو مفاجأة لئيمٍ.
وكان رضى اللّه عنه إذا توضأ للصلاة احمرّ واصفرّ وتلوّن ألواناً، فإذا قام إلى الصلاة رجفت أضلاعه ؛ فقيل له في ذلك ؛ فقال: أتدرون بين يدي من أنا قائم ؟.

وسقط ابن له في بئر، ففزع أهل المدينة لذلك حتى أخرجوه - وكان قائماً يصلّى، فما زال عن محرابه - فقيل له في ذلك، فقال: ما شعرت، إنى كنت أناجى ربّا عظيماً.
وكان له ابن عم يأتيه بالليل متنكرا،فيناوله شيئا " من الدنانير، فيقول: لكن علي بن الحسين مايصلني، لا جزاه الله عني خيرا، فيسمع ذلك فيحتمله،ويصبر عليه وليعررفه نفسه،فلما ماتى علي رضيى الله عنه فقدها، فحينئذِِ علما أنه هو كان، فجاء الى قبره وبكى عليه.
وكان يقال له ابن الخيرتين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله من عباده خيرنين؛ فخيرته من العرب قريش ومن العجم فارس " ،وكانت امه ابنة كسرى.
وبلغه عليه الرحمة - قول نافع بن جبير في معاوية حيث قال:كان يسكته الحلم،وينطقه العلم،فقال:كذب،بل كان يسكته الحصر،وينطقه البطر.
وقيل له:من أعظم الناس خطراًِِ ؟قال:من لم ير الدنيا خطراً لنفسه.
وتزوجة امة له اعتقها، فلامه عبد الملك بن مروان على ذلك وكتب اليه: اما بعد فانه قد بلغني عنكا انكا اعتقتا امتك وتزوجتها وقد كان لك في اكفائك من قريش ماتستكرم به في الصهر وتستنجد به في الولد،فلم تنظر لنفسك ولالولدك ونكحت في اللؤم.
فكتب اليه.
اما بعد فني اعتقتها بكتاب الله،وارتجعتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانه والله مافوق رسول الله مرتقى لأحد في مجد ان الله قد رفع بالإسلام الخسيسة،وأتم النقيصة وأكرم به من اللؤم فلا عار على مسلم.هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تزوج امته وامرأة عبده.
فقال عبد الملك:إن على بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس وروى لنا الصاحب - رحمة الله - عن أبى محمدالجعفرى عن ابيه عن عمه عن جعفر قال:رجل لعلى بن الحسين:ما أشد بغض قريش لأبيك! قال لأنه اورد اولهم النار وألزم اخرهم العار.قال:ثم جرى ذكر المعاصى فقال:أعجب لمن يحتمى من الطعام لمضرته وليحتمى من الذنب لمعرته.
وقيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا خائفين برسول الله،وأصبح جميع أهل الإسلام آمنين به.قال ابن الأعرابي: لما وجه يزيد بن معاوية عسكره لاستجابة أهل المدينة ضم على بن الحسين - رضي الله عنه - أربعمائة منا فيمن يعلونه إلى أن يعلوهن إلى أن انقرض جيش مسلم بنة عقبة،فقالت امرأة منهن:ما عشت والله بين أبوى بمثل ذلك التتريف.
وقد حكى عنه مثل ذلك عند إخراج ابن الزبير ابن أمية من الحجاز.
كتب الوليد بن عبد الملك إلى صالح بن عبد الله المرى عامله على المدينة: أبرز الحسن بن الحسن بن علي - وكان محبوسا - فاضربه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - خمسمائة سوط. فأخرجه إلى المسجد، واجتمع الناس وصعد صالحٌ ليقرأ عليهم الكتاب ثم ينزل فيأمر بضربه، فبنا هو يقرأ الكتاب إذ جاء علي بن الحسين - رضي الله عنه - فأفرج له الناس حتى انتهى إلى الحسن، فقال: يا بن عم، مالك؟ ادع الله بدعاء الكرب يفرج الله عنك، فقال: ما هو يا بن عم؟ قال: قل لا إنه إلا الله العلي العظيم، سبحان رب السموات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين.
قال: وانصرف علي بن الحسين، وأقبل الحسن يكررها، فلما فرغ صالحٌ من قراءة الكتاب ونزل، قال: أرى سجنه. رجلٌ مظلومٌ، أخروا أمره وأنا أراجع أمير المؤمنين في أمره؛ فأخروه ثم أطلق بعد أيام.
قال علي - رضي الله عنه - وقد قيل له: ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة؟ قال: أكره أن آخذ برسول الله صلى الله عليه وسلم - ملا أعطى مثله.
قال رجل لرجل من آل الزبير كلاماً أقذع فيه، فأعرض الزبيري عنه ولم يجبه، ثم دار كلامٌ، فسب الزبيري على بن الحسن - رضي الله عنه - فأعرض عنه ولم يجبه، فقال له الزبيري: ما يمنعك من جوابي؟ قال علي: ما يمنعك من جواب الرجل.
ومات له ابنٌ فلم ير منه جزعٌ، فسئل عن ذلك، فقال: أمرٌ كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.

قال طاوس: رأيت رجلا يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب ويدعو ويبكي في دعئه، فتبعته حين فرغ من صلاته، فإذا هو على بن الحسين رضي الله عنهما، فقلت له: يا بن رسول الله، رأيتك على حالة كذا، ولك ثلاثةٌ أرجو أن تؤمنك من الخوف أحدهما: أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية شفاعة جدك، والثالثة رحمة الله. فقال: يا طاوس؛ أما أني ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلا تؤمنني، وقد سمعت الله يقول: " فلا أنساب بينهم يومئذٍ " وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني؛ لأن الله يقول: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " . وأما رحمة الله، فإن الله تعالى يقول: إنها " قريبٌ من المحسنين " ولا أعلم أني محسنٌ.
وسمع رضي الله عنه رجلا كان يغشاه يذكر رجلاً بسوءٍ، فقال: إياك والغيبة؛ فإنها إدام كلاب الناس.
وقال: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بملكه.
وقال: كل عينٍ ساهرة يوم القيامة إلا ثلاثاً: عين سهرت في سبيل الله وعين غضت عن محارم الله، وعينٌ فاضت من خشية الله.

محمد بن علي الباقر
رضي الله عنه
قال يوما لأحابه: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه؛ فيأخذ حاجته من الدنانير والدراهم؟ قالوا: لا. قال: فلستم إذاً بإخوانٍ.
وقال لابنه جعفر رضي الله عنه: يا بني، إن الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء: خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرن من الطاعة شيئاً، فلعل رضاه فيه. وخبأ سخطه ف يمعصيته، فلا تحقرن من المعاصي شيئاً، فلعل سخطه فيه. وخبأ أولياءه في خلقه، فلا تحقرن أحداً، فلعل ذلك الولي.
واجتمع عنده قومٌ من بين هاشم وغيرهم، فقال لهم: اتقوا البله، شيعة آل محمدٍ، وكونوا النمرقة الوسطى، يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي! قالوا له: وما الغالي؟ قال: الذي يقول فينا ما لا نقوله في أنفسنا. قالوا: فما التالي؟ قال: الذي يطلب الخير فتزيدونه خيراً، إنه والله ما بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله من حجة، ولا نتقرب إليه إلا بالطاعة؛ فمن كان منكم مطيعاً لله يعمل بطاعته نفعته ولا يتنا أهل البيت، ومن كان منكم عاصياً لله يعمل لمعاصيه لم تنفعه ولايتناً. ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا.
وروى أنعبد الله بن معمر الليثي قال لأبي جعفر: بلغني أنك تفتى في المتعة، فقال: أحلها الله في كتابه، وسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعمل بها أصحابه. فقال عبد الله: فقد نهى عمر عنها، قال: فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله: فيسرك أن نساءك فعلن ذلك؟ قال أبو جعفر: وما ذكر النساء ها هنا يا أنوك؟ إن الذي أحلها في كتابه وأباحها لعباده أغير منك وممن نهى عنها تكلفاً، بل يسرك أن بعض حرمك تحت حاكة يثرب نكاحاً؟ قال: لا. قال: فلم تحرم ما أحل الله لك؟ قال: لا أحرم، ولكن الحائك ما هو لي بكفءٍ، قال: فإن الله ارتضى عمله ورغب فيه وزوجه حوراً، أفترغب عمن يرغب الله فيه، وتستنكف ممن هو كفءٌ لحور الجنان كبراً وعتواً؟ قال: فضحك عبد الله وقال: ما أحسب صدوركم إلا منابت أشجار العلم، فصار لكم ثمره، وللناس ورقه.
وسئل لم فرض الله تعالى الصوم على عباده؟ فقال: ليحد الغني مس الجوع فيحنو على الضعيف.
وقال: إن قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة العبد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.
وقال أبو عثمان الجاحظ: جمع محمدٌ - عليه السلام - صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين، فقال: صلاح شأن التعايش والتعاشر مثل مكيالٍ، ثلثاه فطنةٌ وثلثٌ تغافلٌ.
هنأ رجلاً بمولود؛ فقال: أسأل الله أن يجعله خلفاً معك وخلفاً بعدك؛ فإن الرجل يخلف أباه ف يحياته وموته.
قال الحكم بن عيينة: مررنا بامرأة محرمةٍ وقد أٍبلت ثوبها، فقلت: أسفري عن وجهك. قالت: أفتاني بذلك زوجي محمد بن علي بن الحسن رضي الله عنهم.
وكان رضي الله عنه إذا رأى مبتلي أخفى الاستعاذة. وكان لا يسمع من داره: يا سائل بورك فيك، ولا يا سائل خذ هذا، وكان يقول: سموهم باحسن أسمائهم.
وكان يقول: اللهم أعني على الدنيا بالغنى وعلى الآخرة بالعفو.

وقال لابنه: يا بني، إذا أنعم الله عليك نعمة فقل: الحمد لله، وإذا حزبك أمرٌ فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا أبطأ عليك رزقٌ فقل: استغفر الله. وقال: أدب الله محمدا صلى الله عليه وسلم - أحسن الأدب فقال: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " . فلما وعى قال: " وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " .

زيد بن علي
رضي الله عنه
وكان يسمى في آل محمد - صلى الله عليه وسلم - الراهب.
ومن كلامه: إن الذين كرمت عليهم أنفسهم حفظوها بطاعة الله من العمل بمعصيته، وأدبوها بالقرآن، وأقاموها على حدود الرحمن، فلم يهتكوا حجاب ما حرم الله عليهم، ولم يسأموا من الصبر ومرارته في الله ابتغاءً مرضاته، فراقبوه في الخلوات، وبذلوا له من أنفسهم الكثير من الطاعات، حتى إذا عرضت لقلوبهن الدنيا أعرضوا عنها بيقينٍ لا يشوبه ريبٌ؛ فهؤلاء هم المؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ.
وقال رحمه الله: لا يسأل العبد عن ثلاث يوم الحساب؛ عما أنفق في مرضه، وعما أنفق في إفطاره، وعما أنفق في قرى ضيفه.
ةقال رضي الله عنه: اطلب ما يعنيك ودع ما لايعنيك؛ فإن في ترك مالا يعنيك دركاً لما يعنيك، وإنما تقدم على ما قدمت، ولست قادماً على ما أخرت، فآثر ما تلقاه غداً على مالا تراه أبداً.
ووقع بينه وبين عبد الله بن الحسن بن الحسن كلامٌ برصافة هشامٍ في صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال له عبد الله: يا بن السوداء، فقال: ذلك لونها، فقال: يابن النوبية. فقال: ذلك جنسها. فقال: يا بن الخبازة. فقال: تلك حرفتها. قال: يا بن الفاجرة. فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لها، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. فقال: عبد الله: بل أنا كاذبٌ، يقولها ثلاث مرات.
وقال زيد رضي الله عنه: كان علي من رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى إذ قال له: " وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " . فألصق عيٌ - عليه السلام - كلكله بالأرض، لما رأى صلاحاً، فلما رأى الفساد بسط يده وشهر سيفه ودعا إلى سبيل ربه.
ودخل على هشام، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلم الله عليك. فقال زيد: اتق الله. فقال: أمثلك يأمرني بتقوى الله؟ قال: إنه ليس أحدٌ فوق أن يؤمر بتقوى الله، ولا أحدٌ دون أن يأمر بتقوى الله. قال: أنت المحدث نفسك بالخلافة وأمك أمك قال: يا أمي رالمؤمنين إن الأمهات لا يعن من الأولاد، ولو وضعت أم من ولدها لوضعت أم إسماعيل من إسماعيل، فقدج جعله الله نبياً ودرأ سيد الأولين والآخرين محمداً - صلى الله عليه وسلم - منه. قال: لقد أعطيت على رغمى جدلاً. أخرجوه عني. فلما خرج اتبع فسمع يقول: ما أحب الحياة أحدٌ إلا ذل.
قارف الزهرى ذنبا فاستوحش من الناس، وهام على وجهه، فقال زيد رحمه الله: يا زهرى، لقنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شيءٍ أشد عليك من ذنبك. فقال الزهري: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ورجع إلى أهله وماله وأصحابه.
من خطبه لزيد رضي الله عنه.
أوصيكم - عباد الله - بتقوى الله، التي من اكتفى بها كفته، ومن اجتن بها وقته. هي الزاد ولها المعاد؛ زادٌ مبلغٌ، ومعادٌ منجٍ. دعا إليها أسمع داع، ووعاها خير واعٍ، فأعذر داعيها، وفاز واعيها.
عباد الله: إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته حتى أسهرت ليلهم، وأظمأت هواجرهم، فأحذوا الراحة بالنصب، والر بالظمإ، وقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذبوا الأمل، ولاحظوا الأجل. " طوبى لهم وحسن مآب " .
ثم إن الدنيا دار فناءٍ وعناء، وغيرٍ وعبر، فمن العناء أن المرء يجمع ما لايأكل، ويبني مالا يسكن، ثم يخرج إلى الله عز وجل لا مالاً حمل ولا بناءً نقل. ومن الفناء أن الدهر موترٌ قوسه ثم لا تخطئ سهامه، ولا تشوى جراحه، يرمى الحي بالموت، والحيح بالعطب، آكل لا يشبع، وشاربٌ لا يروى. ومن غيرها أنك تلقى المحروم مغبوطاً، والمغبوط محروماً، ليس ذلك إلا نعيماً زال وبؤسا نزل. ومن عبرها أن المشرف على أمله يقطعه أجله، فلا أمل يدرك، ولا مومل يترك، فسبحان الله، ما أغر سرورها، وأظمأ ريها، وأضحى فيئها! فكأن الذي كان من الدنيا لم يكن، وكأن الذي هو كائنٌ فيها قد كان، صار أولياء الله فيها إلى الأجر بالصبر، وإلى الأمل بالعمل، جاوروا الله في داره ملوكاً خالدين.

إن الله خلق موتاً بين حياتين؛ موتاً بعده حياة، وحياةً ليس بعدها موتٌ.
وإن أعداء الله نظروا فلم يجدوا شيئاً بعد الموت إلا والموت أهون منه، فسألوا الله عز وجل الموت، فقالوا: " بمالك ليقض علينا ربك قال إنكم مكثون " . وإن أولياء الله نظروا فلم يجدوا شيئاً بعد الموت إلا والموت أشد منه، فسألوا الله الحياة جزعاً من الموت، ولكل مما هو فيه مزيد. فسبحان الله، ما أقرب الحي من الميت باللحاق به، وما أبعد الميت من الحي لانقطاعه منه!.
إنه ليس شيءٌ بخيرٍ من الخير إلا ثوابه، وليس شيءٌ بشر من الشر إلا عقابه، وكل شيءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيءٍ من الاخرة عيانه أعظم من سماعه، فلكفكم من السماع العيان، ومن الغيب الخبر. إن الذي أمرتم به أوسع مما نهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع، قد تكفل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبة أولى بكم من المفروض عليكم، مع أنه والله، قد اعترض الشك، ووحل اليقين، حتى كأن الذي ضمن لكم قد فرض عليكم، وكأن الذي فرض عليكم قد وضع عنكم؛ فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل؛ فإنه لا يرجى من رحمة الحياة ما يرجى من رحمة الرزق؛ فإن ما فات اليوم من الرزق يرجى غداً زيادته، وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته، الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي و " اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " .
ومن خطبة له: أوصيكم بتقوى الله؛ فإن الموصى بها لم يدخر نصيحةً، ولم يقصر في الإبلاغ؛ فاتقوا الله في الأمر الذي لا يصل إليه منه شيء إن أصبتموه، ولا ينقص منه شيءٌ إن جهلتموه، وأحملوا في طلب أموركم، ولا تستعينوا بنعمة الله - عز وجل - على معصيته.
وقال زيد لابنه رضي الله عنهما: يا بني ان الله - عز وجل - لم يرضك لى فأوصاك بى ورضينى لك فحذرنيك واعلم أن خير الآباء للأ بناء من لم تدعه المودة الى التفريط،وخير الأبناء للآباء من لم يدعه التقصير الى العقوق فاحفظ وصيتتى قال ابن كناسة: لما صلب زيد بن على ما أمسى حتى نسج العنكبوت على عورته. قال أبو بكر بن عياش: بقى زيد أربع سنين مصلوبا " فلم تر عورته.
وقيل له: الصمت أفضل أم الكلام ؟ فقال: أخزى الله المسا كتة فما أفسدها للسان وأجلبها للحصر والله للمماراة أسرع فى هدم العى من النار فى يبس العرفج.
وقال: المروءة انصاف من دونك والسمو الى من فوقك والجزاء بما أتى من خير أو شر اليك.
قال: أقبل زيد داخلأ الى المسجد وفيه نفر من قريش قد لحقتهم الشمس فى مجلسهم فقاموا يريدون التحويل فلما توسط المسجد خاف أن يفوتوه فحصبهم فوقفوه فحصبهم فوقفوا فقال لهم: أقتل يزيد بن معاوية حسين بن على ؟ قالوا:نعم قال: ثم مات يزيد ؟ قالوا: نعم قال: فكأن حياة بينهما لم تكن قال: فعلم القوم أنه يريد أمرا " .

جعفر بن محمد الصادق
رضى الله عنه
سئل: لم صار الناس يكلبون أيام الغلاء على الطعام، ويزيد جوعهم على العادة في الرخص ؟ قال: لأنهم بنو الأرض، فإذا قحطت قحطوا وإذا أخصبت أخصبوا. وشكا إليه رجل جاره، فقال: اصبر عليه، فقال: ينسبنى الناس إلى الذلّ فقال: إنما الذليل من ظلم، إنما الذليل من ظلم.
وقال رحمه الله: أربعة أشياء القليل منها كثير: النار، والعداوة، والفقر، والمرض.
وسئل: لم سميت الكعبة البيت العتيق ؟ قال: لأن الله أعتقها من الطوفان يوم الغرق.
وقال أبو جعفر المنصور: إنّى قد عزمت على أن أخرب المدينة، ولا أدع بها نافخ ضرمة، فقال: يا أمير المؤمنين، لا أجد بدّاً من النّصاحة لك، فأقبلها إن شئت أولا.قال:إنه قد مضى لك ثلاثة أسلاف ؛ أيوب ابتلى فصبر، وسلمان أعطى فشكر، ويوسف قدر فغفر، فاقتد بأيهم شئت، قال: قد غفرت.
وروى أنه قال - وقد قيل بحضرته: جاور ملكاً أو بحراً - : هذا كلامٌ محال، والصواب: لاتجاور ملكا أو بحرا ؛ لأن الملك بؤذيك والبحر لايرويك.
وسئل عن فضيلة لأمير المؤمنين علىٍّ - رضى الله عنه - لم يشركه فيها غيره، فقال: فضل الأقربين بالسبق، وفضل الأبعدين بالقرابة.
وعنه رضى الله عنه: " بسم الله الرحمن الرحيم " تيجان السّور.
وقال رضى الله عنه: صحبة عشرين يوماً قرابة.

وقف أهل المدينة وأهل مكة بباب أبى جعفر ؛ فأذن الربيع لأهل مكة قبل أهل المدينة، فقال جعفر: عشّ والله طار خياره، وبقى شرارة.
وقيل له: لم حرّم الله الربا ؟ قال: لئلا يتمانع الناس المعروف وقيل له: إن أبا جعفر المنصور لا يلبس منذ صارت إليه الخلافة إلا الخشن، ولا يأكل إلا الجشب، فقال: لم يا ويحه ؟ مع ما قد مكن الله له من السلطان وجبى إليه من الأموال، فقيل له: إنما يفعل ذلك بخلاً وجمعاً، فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ؛ ما له ترك دينه ؟.
لما قال الحكيم بن عياش الكلبى:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ ... ولم أر مهدياًّ على الجذع يصلب
وقستم بعثمان علياًّ سفاهةً ... وعثمان خيرٌ من علىٍّ وأطيب
بلغ قوله أبا عبد الله - رضى الله عنه - فرفع يديه إلى السماء وهما ترعشان، فقال: اللهم إن كان عندك كاذباً فسلط عليه كلبك، فيعثه بنو أمية إلى الكوفة فافترسه الأسد، واتصل خبره بالصادق - رضي الله عنه - فخر لله ساجداً ثم قال: الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا.
وقال لأبي ولاد الكاهلي: أرأيت عمي زيداً؟ قال: نعم، رأيته مصلوباً ورأيت الناس فيه بين شامتٍ حنق، وبين محزونٍ محترقٍ؛ فقال: أما الباكي فمعه في الجنة، وأما الشامت فشريكٌ في دمه.
وقال: إذا أقبلت الدنيا على المرء أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
ومر به رجل وهو يتغذى فلم يسلم، فدعاه إلى الطعام، فقيل له: السنة أن يسلم ثم يدعى، وقد ترك السلام على عمدٍ، فقال: هذا فقهٌ عراقيٌ فيه بخل.
وقال: القرآن ظاهره أنيقٌ وباطنه عميقٌ.
وقال: من أنصف من نفسه رضي حكماً لغيره.
وقال: أكرموا الخبز؛ فإن الله تعالى أنزل له كرامةً. قيل: وما كرامته.
قال: ألا يقطع ولا يوطأ، وإذا حضر لم ينتظر به غيره.
وقال: حفظ الرجل أخاه بعد وفاته في تركته كرم.
وقال: ما من شيءٍ أسر إلى من يدٍ أتبعتها الأخرى؛ لأن منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل.
وقال: إني لأملق فأتاجر الله بالصدقة.
وقال: لا يزال العز قلقاً حتى يأتي داراً قد استشعر أهلها اليأس مما في أيدي الناس فيوطنها.
وقال: إذا دخلت إلى منزل أخيك فاقبل الكرامة كلها ما خلا الجلوس في الصدر.
وقال: كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان.
واشتكى مرةً فقال: اللهم اجعله أدباً لا غضباً.
وقال: البنات حسنات والبنون نعمٌ. والحسنات يثابٌ عليها، والنعم مسئولٌ عنها، وقال: إياك وسقطة الاسترسال فإنها لا تستقال.
وسئل: ما طعم الماء؟ فقال: طعم الحياة.
وقال: إني لأسارع في حاجة عدوي خوفاً أن أرده فيستغني عني.
وكان يقول: اللهم إنك بما أنت أهلٌ له من العفو أولى مني بما أنا أهلٌ له من العقوبة.
وقال: من أكرمك فأكرمه، ومن استخف بك فأكرم نفسك عنه. وأتاه أعرابي - وقيل بل أتى أباه الباقر رضي الله عنهما - فقال: أرأيت الله حين عبدته؟ فقال: ما كنت لأعبد شيئاً لم أره. قال: كيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار مشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات منعوتٌ بالعلامات. هو الله الذي لا إله إلا هو. فقال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وقال: لا يكون المعروف معروفاً إلا باستصغاره وتعجيله وكتمانه.
وقال: يهلك الله ستا بست؛ الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهلن والفهاء بالحسد.
وقال: المسترسل موقى والمحترس ملقى.
وقال: منع الموجود سوء ظن بالمعبود.
وقال: صلة الأرحام منسأة في الأعمار، وحسن الجوار عمارةٌ للديار، وصدقة السر مثراةٌ للمال.
وقال له أبو جعفر: ألا تعذرني من عبد الله بن حسن وولده، سبثون الدعاة، ويثيرون الفتنة. قال: قد عرفت الأمر بيني وبينهم، وإن أقنعك مني آية من كتاب الله تلوتها عليك، قال: هات. قال: " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون " . قال: كفاني بين عينيه.
وقال لرجل: أحدث سفراً يحدث الله لك منه رزقا، والزم ما عودت منه الخير.
وقال: دعا الله الناس في الدنيا بآبائهم ليتعارفوا وفي الآخرة باعمالهم ليجازوا، فقال: " يا أيها الذين ءامنوا " " ياأيها الذين كفروا " .

وقال: من أيقظ فتنةً فهو أكلها.
وقال: إن عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم الله عليه نعمةً فليوسع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة.
وكان يقول: السريرة إذا أصلحت قويت العلانية.
وقال: ما يصنع العبد أن يظهر حسناً ويسر سيئاً. أليس يرجع إلى نفسه فيعلم أن ليس كذلك، والله عز وجل يقول: " بل الإنسان على نفسه بصيرةٌ " .
وقال له أبو حنيفة: يا أبا عبد الله، ما أصبرك علىالصلاة! فقال: يا نعما، أما علمت أن الصلاة قربان كل تقي، وأن الحج جهاد كل ضعيفٍ، ولكل شيءٍ زكاةٌ، وزكاة البدن الصيان، وأفضل الأعمال انتظار الفرج من الله، والداعي بلا عملٍ كالرامي بلا وترٍ، فاحفظ هذه الكلمات: يا نعمان، استنزلوا الرزق بالصدقة، وحصنوا الأموال بالزكاة، وما عال امرؤ اقتصد، والتقدير نصف العيس، والتؤدة نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين، ومن أحزن والديه فقد عقهما، ومن ضرب بيديه على فخذيه عند المصيبة أحبط أجره، والصنيعة لا تكون صنيعةً إلا عند ذى حسبٍ ودينٍ، والله ينزل الرزق على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر المصيبة، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية، ولو أراد الله بالنملة خيراً ما أنبت لها جناحين.
وقيل له: ما بلغ من حبك لموسى؟ قال: وددت أن ليس لي ولدٌ غيره كيلا يشركه في حبي أحد.
وقال: ثلاثة أقسام بالله إنها لحق، ما نقص مالٌ من صدقةٍ ولا زكاة، ولا ظلم أحدٌ بظلامةٍ فقدر أن يكافئ بها وكظمها إلا أبدله الله مكانها عزاً، ولا فتح عبدٌ على نفسه باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقرٍ.
وقال: ثلاثةٌ لا يزيد الله المرء المسلم بها إلا عزاً: الصفح عمن ظلمه، والإعطاء لمن حرمه، والصلة لمن قطعه.
وقال: الطبائع أربع: البلغم وهو خصمٌ جدلٌ، إن سددته من جانبٍ انفجر من جانب؛ والريح وهو ملكٌ يدارى، والدم وهو عبدٌ، وربما قتل العبد سيده، والمرة - وهيهات - تلكم الرض إذا رجفت رجف ماعليها.
وقال: من اليقين ألا ترضى الناس بما يسخط الله، ولا تذمهم على ما لم يؤتك الله، ولا تحمدهم على رزق الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريصٍن ولا يصرفه كره كارهٍ؛ ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه الرزق كما يدركه الموت.
وقال: مروءة الرجل في نفسه نسبٌ لعقبه وقبيلته.
وقال: من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته زيد في عمره.
وقال: خذ من حسن الظن بطرفٍ تروح به قلبك وتروج به أمرك.
وقال: المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق، وإذا رضى لم يدخله رضاه في باطلٍ، ولاذي إذا قدر لم يأخذ أكثر مما له.

موسى بن جعفر
رضي الله عنه
ذكر أن موسى الهادي قد هم به، فقال لأهل بيته: بن تشيرون؟ قالوا: نرى أن تتباعد عنه، وأن اغيب سخطك، فإنه لا يؤمن شره، فقال: زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب ثم رفع يديه إلى السماء، فقال: إلهي، كم من عدو لي قد شحذ لي ظبة مدسته، وأرهف لي شبا حده، وذاف لي قواتل سمومه، ولم تنم عني عين حراسته، فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن ملمات الجوائح صرفت ذلك عني بحولك وقوتك، لا بحولي وقوتي؛ فألقيته في الحفير احتفره لي، خائباً مما أمله في دنياه، متباعداً مما رجاه في آخرته، فلك الحمد على ذلك تدر استحقاقك. سيدي؛ اللهم فخذه بعزتك، وافلل حده عني بقدرتك، واجعل له شغلا فيما يليه، وعجزاً عمن يناديه، اللهم واعدني عليه عدوي حاضرةٌ تكون من غيظي شفاءً، ومن حنقي عليه وفاء، وصل اللهم دعائي بالإجابة، وانظم شكايتي بالعبير، وعرفه عما قليلٍ ما وعدت به الظالمين، وعرفني ما وعدت في إجابة المضطرين؛ إنك ذو الفضل العظيم، والمن الكريم.
قال: ثم تفرق القوم، فما اجتمعوا إلا لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى الهادي، ففي ذلك يقول بعضهم في وصف دعائه:
وساريةٍ لم تسر في الأرض تبتغي ... محلاً، ولم يقطع بها السفر قاطع
وهي أبيات مليحةٌ ما قيل في وصف الدعاء المستجاب أحسن منها.

وسأله الرشيد، فقال: لم زعمتم أنكم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - منا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم، فقال: لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه، لأنه ولدنا ولم يلدكم.
وقد روى أنه قال: هل كان يجوز أن يدخل على حرمك وهن فقال: لا، فقال: لكنه كان يدخل على حرمي كذلك وكان يجوز له. وقيل: إنه سأله أيضا: لم قلتم إنا ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوزتهم للناس أن ينسبوكم إليه، فيقولون: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي؛ وإنما ينسب الرجل إلى أبيه دون جده؛ فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
" ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس " . وليس لعيسى أب، وإنما ألحق بذرية الأنبياء من قبل أمه، وكذلك ألحقنا بذرية النبي صلى الله عليه وسلم وأزيدك يا أمير المؤمنين - قال الله تعالى: " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من اعلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " .
ولم يدع عليه السلام عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والخسين وهم الأبناء.
ومات رضي الله عنه في حبس الرشيد. وقيل: سعى عليه جماعة من أهل بيته، ومنهم محمد بن جعفر بن محمد أخوه، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر ابن أخيه والله أعلم.
وسمع موسى رضي الله عنه رجلا يتمنى الموت، فقال: هل بينك وبين الله قرابةٌ يحابيك بها؟ قال: لا. قال: فهل لك حسناتٌ قدمتها تزيد على سيئاتك؟ قال: لا. قال: فأنت إذاً تتمنى هلاك الأبد.
وقال رحمه الله: من استوى يوماه فهو مغبونٌ، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في النقصان، ومن كان في النقصان فالموت خير له من الحياة.
وروى عنه أنه قال: اتخذوا القيان؛ فإن لهن فطناً وعقولا ليست لكثير من النساء؛ فكأنه أراد النجابة من أولادهن.

علي بن موسى الرضا
رضي الله عنه
سأله الفضل بن سهل في مجلس المأمون، فقال: يا أبا الحسن؛ الخلق مجبرون؟ فقال: الله أعدل أن يجبر ثم يعذب قال: فمطلقون؟ قال: الله أحكم، أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه.
أتى المأمون بنصراني قد فجر بها شمية، فلما رآه أسلم؛ فغاظه ذلك؛ وسال الفهاء فقالوا: أهدر الإسلام ما قبل ذلك. فسأل المأمون الرضا رضي الله عنه، فقال: اقتله؛ لأنه أسلم حين رأى البأس؛ قال الله عز وجل: " فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده " إلى آخر السورة.
قال عمرو بن مسعدة: بعثني المأمون إلى علي رضي الله عنه لأعلمه ما أمرني به من كتابٍ في تقريظه، فأعلمته ذلك، فأطرق مليا ثم قال: يا عمرو إن من أخذ برسول الله صلى الله عليه وسلم لحقيقٌ أن يعطى به. وسئل رضي الله عنه عن صفة الزاهد، فقال: متبلغٌ بدون قوته، مستعد ليوم موته متبرمٌ بحياته.
وسئل عن القناعة، فقال: القناعة تجمع إلى صيانة النفس، وعز القدر طرح مؤن الاستكثار والتعبد لأهل الدنيا، ولا يسلك طريق القناعة إلا رجلان: إما متقللٌ يريد أجر الآخرة، أو كريمٌ متنزه عن لئام الناس.
امتنع رجلٌ عن غسل اليد قبل الطعام؛ فقال رضي الله عنه: اغسلها، فالغسلة الأولى لنا، وأما الثانية فلك. إن شئت فاتركها.
أدخل إلى المأمون رجلٌ أراد ضرب عنقه والرضا حاضر؛ فقال له المأمون: ما تقول فيه يا أبا الحسن؟ فقال: أقول إن الله لا يزيدك بحسن العفو إلا عزاً، فعفا عنه.
حدث أبو الصلت قال: كنت مع علي بن موسى رضي الله عنه وقد دخل نيسابور، وهو راكبٌ بغلة شهباء، فغدا في طلبه علماء البلد: أحمد ابن حنبل، ويسن بن النضر، ويحيى، وعدةٌ من أهل العمل؛ فتعلقوا بلجامه في المربعة، فقالوا له: بحق آبائك الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك؛ فقال: حدثني أبي العدل الصالح موسى بن جعفر، قال: حدثني أب يباقر - علم الأنبياء - محمد بن علي، قال: حدثني أبي سيد العابدين علي بن الحسين، قال: حدثني أبي سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي، قال: سمعت أبي سيد العرب علي بن أب يطالب

قال: سمعت رسول الله سلى الله عليه وسلم يقول: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان. قال: فقال أحمد بن حنبل: لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنونه.
وروى عن عبد الرحمن بن أبي حاتم مثلب ذلك يحكيه عن أبيه، وأنه قرأه على مصروعٍ فأفاق.
ولما عقد المأمون اليعة له بعده قال: يا أمي رالمؤمنين؛ إن النصح واجب لك، والغش لا ينبغي لمؤمنٍ، إن العامة تكره ما فعلت بي، وإن الخاصة تكره ما فعلت بالفضل بن سهل، فالرأي لك أن تنجينا عنك حتى يصلح أمرك.
فكان إبراهيم الصولي يقول: كان هذا والله السبب فيما آل الأمر إليه.
حدث بعضهم قال: خطب المأمون المدينة، فقال: أيها الناس؛ أتدرون من ولى عهدكم؟ هذا على بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين ين علي:
ستة أباء هم ما هم ... هم خير من يشرب صوب الغمام
روى عن الرضا - رحمه الله - أنه قال: من شبه الله بخلقه فهو مشرك، ومن نسب إليه ما نهى عن فهو كافر.
وروى عن بعض أصحابه أنه قال: دخلت عليه بمرو فقلت له: يا بن رسول الله، روى لنا عن الصادق - رضي الله عنه - أنه قال: لا جبر ولا تفويض، أمر بين أمرين فما معناه؟ قال: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا فقد قال بالجبر، ومن زعم أ نالله فوض أمر الخلق والرزق إلى خلقه، فقد قال بالتفويض والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك. فقلت: يا بن رسول الله؛ فما أمر بين أمرين؟ قال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه.
وقال في قول الله تعالى: " فاصفح الصفح الجميل " - قال: عفوٌ بغير عتاب. وفي قوله: " خوفاً وطمعاً " خوفا للمسافر وطمعا للمقيم.
وقال له المأمون: يا أبا الحسن؛ أخبرني عن جدك علي بن أب يطالب بأي وجهٍ هو قسيم الجنة والنار؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد الله بن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " حب علي إيمانٌ وبغضه كفرٌ " . فقال: بلى. قال الرضا: فقسمه الجنة والنار إذا كانت على حبه وبغضه فهو قسيم الجنة والنار. فقال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، أشهد أنك وارث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الصلت الهروي: فلما رجع الرضا إلى منزله أتيته فقلت: يا بن رسول الله ما أحسن ما أجبت به أمي رالمؤمنين! فقال: يا أبا الصلت، إنما كلمته من حيث هو، لقد سمعت أبي يحدث عن آبائه عن علي رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، أنت قسيم الجنة والنار يوم القيامة، تقول للنار هذا لي وهذا لك " .
ودخل عليه بخراسان قومٌ من الصوفية، فقالوا له: إن أمير المؤمنين المأمون نظر فيما ولاه الله من الأمر فرآكم - أهل البيت - أولى اناس بأن تؤموا الناس، ونظر فيكم - أهل البيت - فرآكم أولى الناس بالناس، فرأى أن يرد هذا الأمر إليك، والأمة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن، ويركب الحمار، ويعود المريض. قال: وكان الرضا - رضي الله عنه - متكئاً فاستوى جالساً، ثم قال: كان يوسف نبياً يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب، ويجلس على متكآت آل فرعون ويحكم؛ إنما يراد من الإمام قسطه وعدله؛ إذا قال صدق، وإذا حكم عدل، وإذا وعد أنجز؛ إن الله تالى لم يحرم لبوساً ولا مطعماً، وتلا: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والكيبات من الرزق " .

محمد بن علي بن موسى
رضي الله عنه
تذكر المتوكل في علة إن وهب الله له العافية أن يتصدق بمال كثير، فعوفى، فاحضر الفقهاء واستفتاهم، فكل منهم قال شيئاً إلى أن قال محمد رضي الله عنه: إن كنت نويت الدنانير فتصدق بثمانين ديناراً، وإن كنت نويت الدراهم فتصدق بثمانين درهماً.
فقال الفقهاء: ما نعرف هذا في كتابٍٍ ولا سنة، فقال: بلى.
قال الله عز وجل: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ " . فعدوا وقائع رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا فإذا هي ثمانون.
هذه القصة إن كانت وقعت للمتوكل فالجواب لعلي بن محمدٍ. فإن محمداً لم يلحق أيام المتوكل، ويجوز أن تكون له مع غيره من الخلفاء.
وأتاه رجل فقال: أعطني على قدر مروءتك، قال: لا يسعني، قال: فقال على قدري، قال: أما ذا فنعم، يا غلام؛ أعطه مائتي دينار.
عبد الله بن الحسن بن الحسن
رضي الله عنه

نظر إليه رجل وهو مغموم، فقال ما غمك يا بن رسول الله؟ فقال: كيف لا أغتم وقد امتحنت بأغلظ من محنة إبراهيم خليل الله، ذاك أمر بذبح ابنه ليدخل الجنة، وأنا مأخوذٌ بأن أحضر ابني ليقتلا فأدخل النار.
ولما أمعن داود بن علي في قتل بني أمية بالحجاز، قال له عبد الله: يابن عم؛ إذا أفرطت في قتل أكفائك فمن تباهى بسلطانك؟ أوما يكفيك منهم أن يروك غادياً رائحاً فيما يسرك ويسوءهم؟ وكتب إلى صديقٍ له: اتق الله؛ فإنه جعل لمن اتقاه من عباده المخرج مما يكره والرزق من حيث لا يحتسب.
قالوا: كان عثمان بن خالد المرى على المدينة منن قبل الوليد بن عبد الملك؛ فأساء بعبد الله والحسن ابني الحسن إساءةً عظيمةً وقصدهما، فلما عزل أتياه، فقالا: لا تنظر إلى ما كان بيننا؛ فإن العزل قد محاه، وكلفنا أمرك كله. فلجأ إليهما، فبلغا له كل ما أراد؛ فجعل عثمان يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وكان عبد الله يقول: يا بنى اصبر؛ فإنما هي غدوةٌ أو روحةٌ حتى يأتي الله بالفرج.
وروى أنه قال لابنه محمد حين أراد الاستخفاء: يا بني، إني مؤد إليك حق الله في تأديبك ونصيحتك، فأد إلى حقه عليك في الاستماع والقبول، يا بني كف الأذى، واقض الندى، واستعن على السلامة بطول الصمت في الموطن التي تدعوك فيها نفسك إلى الكلام؛ فإن الصمت حسن، وللمرء ساعاتٌ يضره فيها خطؤه، ولا ينفعه فيها صوابه. واعلم أن من أعظم الخطإ العجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة. يا بني: احذر الجاهل وإن كان لك ناصحاً كما تحذر عداوة العاقل إذا كان لك عدوا؛ فيوشك الجاهل أن يورطك بمشورته في بعض اغترارك، فيسبق إليك مكر العاقل ومورط الجاهل، وإياك ومعاداة الرجال؛ فإنه لا يعدمك منها مكر حليمٍ ومفاجأة جاهل.
قال بعضهم: إني لعند عبد الله بن حسن - رضي الله عنه - وهو واقفٌ على نهاية ما يكون من الخوف والجزع من مروان بن محمد إذ استأذن أبو عدي الأموي الشاعر فأدخل، فبشره بأن البيعة قد وقعت بالكوفة لعبد الله ابن محمد أبي العباس السفاح، فوهب له عبد الله أربعمائة دينار، ودفع إليه ابناه إبراهيم ومحمد مثلها، ودفعت إليه أمهما مائتي دينار فانصرف بألف دينار.
وقال السفاح يوما لعبد الله: أما وعدتني أن تحضر ابنيك محمد وإبراهيم؟ قال: والله ما أعلم علمهما. وأعلم مني بأمرهما عمهما حسن بن حسن. وكان حسن قد قال لعبد الله: إذا سألك عنهما فارم بأمرهما إلي، فوجه أبو العباس إلى حسن: إن أخاك زعم أن علم ابنيه عندك، وما أريدهما إلا لما هو خير لهما، فوجه إليه حسن: يا أمير المؤمنين، لم تنقص معروفك عند هذا الشيخ؟ وقد علمت أنه إن كان في قدر الله أن يلي ابناه أو أحدهما شيئاً من هذا الأمر لم ينفعك ظهورهما، وإن كان لم يقدر ذلك لم يضرك استتارهما.
فقال أبو العباس: صدق والله حسنٌ، لا ذكرتهما بعد هذا وأمسك عن طلبهما ولما أخرج المنصور عبد الله بن حسن وأهل بيته من المدينة مقيدين على جمالٍ في محامل أعرى كل واحد منهم يعادله جندي، وقعت عين عبد الله على أبي جعفر في الطريق فناداه: يا أبا جعفر؛ ما هكذا فعلنا بأسارئكم يوم بدرٍ.
وكان عبد الله يقول في الحبس: اللهم إن كان هذا من سخطك فاشدد على حتى ترضى؛ فبلغ ذلك جعفر الصادق - رضي الله عنه - فقال: رحم الله أبا محمدٍ؛ أما إنه لو سأل ربه العافية كان خيرا له.
ومن كلام عبد الله: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة أشد أسباب القطيعة.
وكان يقال في ذلك الزمان: من أكرم الناس؟ فيقال: عبد الله بن الحسن، فيقال: من أحسن الناس؟ فيقال: عبد الله بن الحسن، فيقال: من أفضل الناس؟ فيقال: عبد الله بن الحسن. وكان أولاده يسمون حلي البلاد.

محمد بن عبد الله بن الحسن
النفس الزكية وأخويه رضى الله عنهم
لما ظهر بالمدينة كتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله. أما بعد ف " إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الأخرة عذابٌ عظيمٌ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفورٌ رحيمٌ " .

ولك ذمة الله عز وجل وعهده وميثاقه، وحق نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إن تبت من قبل أن أقدر عليك أن أومنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن تابعك وبايعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم، وأنزلك من البلاد شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتبع أحداً منهم بمكروه؛ فإن شئت أن تتوثق لنفسك؛ فوجه إلى من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما أحببت والسلام.
فكتب إليه محمد رضي الله عنه: من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد. أما بعد.
" طسم تلك ءايت الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقومٍ يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طايفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحي نسآءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " .
وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني؛ فقد تعلم أن الحق حقنا، وأنكم إنما طلبتمون بنا، ونهضتم فيه بشيعتنا، وخطبتموه بفضلنا، وأن أبانا علياً عليه السلام كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء؟ وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا، ونسبنا وسيينا، وأنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم، وبنو بنته فاطمة في الإسلام من بينكم. وأنا أوسط بني هاشم نسبا، وخيرهم أما وأبا، لم تلدني العجم، ولم تعرق في أمهات الأولاد. وإن الله تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا؛ فولدني من النبيين أفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن أصحابه أقدمهم إسلاما، وأوسعهم علما، وأكثرهم جهاداً عليٌ ابن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله وصلى القبلة، ومن بناته أفضلهن سيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشما ولد عليا مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل جدي الحسن والحسين، فما زال الله عز وجل يختار لي حتى اختار لي في النار؛ فولدني أرفع الناس درجةً في الجنة وأهون أهل النار عذاباً، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير أهل الجنة، وابن خير أهل النار.
ولك عهد الله، إن دخلت في بيعتي، أن أومنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته إلا حدا من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد. وقد علمت ما يلزمك في ذلك، وأنا أوفى بالعهد منك، وأنت أحرى بقبول الأمان مني؛ فأما أمانك الذي عرضته فأي الأمانات هو؟ أمان ابن هبيرة، أم عبد الله عمك، أم أمان أبي مسلم؟ والسلام.
وللمنصور جوابٌ - عن هذه الرسالة - طويل فيه احتجاج كثير، وطعن وقدح أمسكنا عن ذكره.
روى الصولى بإسنادٍ له عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن مسور ابن مخرمة قال: اجتمع رجال من بني هاشم في منزلي منهم: إبراهيم بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس، وعبد الله بن علي وغيرهم من بني العباس. ومن ولد أبي طالب عبد الله والحسن ابنا الحسن، وابنا عبد الله محمد وإبراهيم، وجعفر بن محمد رضي الله عنهم وغيرهم من أهلهم، وكان اجتماعهم للحج، فخفي بذلك إبراهيم، فابتدأ محمد بن عبد الله؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

أما بعد، يا بني هاشم، فإنكم خيرة الله، وعترة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبنو عمه وذريته، فضلكم الله بالوحي، وخصكم بالنبوة، وإن أولى الناس بحفظ دين الله، والذب عن حرمه من وضعه الله بموضعكم من نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد أصبحت الأمة مغصورةً، والسنة مبدلةً، والأحكام معطلة، فالباطل حي، والحق ميتٌ فأبلوا أنفسكم في طاعة الله، واطلبوا باجتهادكم رضاه، واعتصموا بحبله من قبل أن تهونوا بعد كرامةٍ، وتذلوا بعد عز، كما ذلت بنو إسرائيل من قبلكم، وكانت أحب الخلق في وقتها إلى ربكم، فقال فيهم جل وعز: " كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه " . فمن رأى منكم نفسه أهلا لهذا الأمر فإنا نراه له أهلاً، وهذي يدي له بالسمع والطاعة، ومن أحس من نفسه ضعفاً، أو خاف منها وهناً وعجزاً فلا يحل له التولي على المسلمين، وليس بأفقههم في الدين، ولا أعلمهم بالتأويل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
قال: فوالله ما رد أحدٌ كلمةً غير أبي جعفر عبد الله بن محمد، فإنه قال: أمتع الله قومك بك، وكثر فيهم مثلك، فوالله لا يزال فينا من يسمو إلى الخير، ويرجى لدفع الضيم، ما أبقاك الله لنا وشد بك أزرنا.
فقالوا لعبد الله: أنت شيخ بني هاشم وأقعدهم، فأمدد يدك حتى نبايعك؛ فقال: ما أفعل ذلك، ولكن هذا ابني محمدٌ فبايعوه، فقالوا له: إنما قيل لك هذا لأنه لم يشك فيك، وها هنا من هو أحق بالأمر من ابنك، واختلطت الأصوات، وقاموا لوقت صلاة.
قال عبد الله بن جعفر؛ فتوكأ جعفر بن محمد على يدي وقال: والله لا يملكها إلا هذان الفتيان - وأومأ إلى السفاح والمنصور - ثم تبقى فيهم حتى يتلعب بها خدمهم ونساءهم، وإن الراد على محمد بن عبد الله كلامه من العباسيين هو قاتله وقاتل أبيه وأخيه.
ثم افترقوا، فقال لي ممد بن عبد الله المنصور - وكان بيني وبينه خاصة ود: ما الذي قال لك جعفر؟ فعرفته ذلك، فقال: إنه خيرنا آل محمد، وما قال شيئا قط إلا وجدناه كما قال.
قال عبد العزيز بن عمران: وبلغني أن المنصور قال: رتبت عمالي بعد جعفر ثقة بقوله.
قالوا: ولد محمد - رضى الله عنه - في سنة مائةٍ في شهر رمضان، فصار عبد الله أبوه إلى عمر بن عبد العزيز فعرفه ذلك، فأثبته في شرف العطاء، وقال لعبد الله: أقسم بالله لئن عدت إلى في حاجةٍ لاقينها، اكتب إلى فيما تريد حتى أفعله.
كان محمد يقول: إن كنت أطلب العلم في دور الأنصار، حتى إنه لأتوسد عند أحدهم، فيوقظني الإنسان فيقول: إن سيدك قد خرج إلى الصلاة، ما يحسبني إلا عبده.
قال إبراهيم بن عبد الله بن حسن: وجدت جميع ما يطلب العباد من جسيم الخير عند الله في ثلاث: في المنطق والنظر والسكوت؛ فكل منطقٍ ليس فيه ذكرٌ فهو لغو، وكل سكوتٍ ليس فيه تفكرٌ فهو سهوٌ، وكل نظر ليس فيه عبرة فهو غفلةٌ. فطوبى لمن كان منطقه ذكرا، ونظره عبرا، وسكوته تفكرا، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم المسلمون منه.
وقال في خطبته يوم الفطر: اللهم إنك ذاكرٌ اليوم آباءنا بأبنائهم وأبناءنا بآبائهم؛ فاذكرنا عندك بمحمد - صلى الله عليه - يا حافظ الآباء في الأبناء احفظ ذرية نبيك. قال: فبكى الناس بكاء شديداً.
قالوا: نازع رجلٌ من بني عدي بن كعب، يقال له: محمد بن إسماعيل، موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن - رضي الله عنهم - في بئر احتفرها، فقال: يا أبا الحسن، ما وفقت فيما صنعت، فقال له موسى: ومن أنت حتى تقول هذا؟ قال: أنا من تعرف، قال: أعرفك دنيا في قريش تحملك القوادم. فلم يجبه العدوى، ثم التقيا، فأحد موسى النظر إليه، فقال له العدوى: أتحد النظر إلى وتستطيل بالخيلاء علي؟ أغرك حلمي وعفوي عما كان منك؟ الخير لك أن تربع على ظلعك، وتقيس شبرك بفترك، وتعرف حالك من حال غيرك. فقال موسى: ما أعدك ولا أعتد بك، وإنك للغوى العيي، القريب من كل شرٍ، البعيد من كل خيرٍ. وأما ذكرك شبرى وفتري فإن فتري من شبري، وشبري من فتري، من كف رحبة الذراع طويلة الباع، بقيمتها ما يقعدك ويرفعها ما يخفضك، ومهما جهلت مني فإني عالم بأني خير منك أما وأبا ونفساً وإن رغم أنفك، وتصاغرت إليك نفسك.
وروى أن موسى بن عبد الله دخل على الرشيد فعثر بالبساط، فضحك الخدم؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ضعف صوم لا ضعف سكرٍ.

وكان المنصور قد حبس موسى مع أبيه وعمومته، ثم أفرج عنه على أن يظهر أخويه، فاستتر عنه إلى أن خرج مع أخويه، ثم استتر أيضاً، فظفر به المنصور، وضربه ألف سوطٍ، فما نطق بحرف؛ فقال الربيع: ما عجبي لصبر هؤلاء الشطار، ولكن عجبي من هذا الفتى الذي لم تره الشمس. وسمع موسى قوله فقال: الصبر وأنت على الحق أولى منه وأنت على الباطل، وأنشد:
إني من القوم الذين يزيدهم ... جلداً وصبراً قسوة السلطان

محمد بن إبراهيم بن إسماعيل
ابن إبراهيم طباطبا بن حسن بن حسن بن علي - رضي الله عنهم - صاحب أبي السرايا. خطب حين انتهت أبو السرايا قصر العباس بن موسى ابن عيسى، فقال: أما بعد، فإنه لا يزال يبلغني أن القبائل منكم تقول: إن بني العباس فيء لنا، نخوض في دمائهم، ونرتع في أموالهم، ويقبل قولنا فيهم، وتصدق دعوانا عليهم، حكم بلا علم، وعزمٌ بلا روية. عجباً لمن أطلق بذلك لسانه، أو حدث به نفسه! أبكتاب الله حكم أم سنة نبيه صلى الله عليه اتبع؟ أو بسط يدي له بالجور أمل؟ هيهات هيهات، فاز ذو الحق بما نوى، وأخطأ طالب ما تمنى، حق كل ذي حق في يده، وكل مدعٍ على حجته، ويل لمن اغتصب حقا، وادعى باطلاً، فلح من رضى بحكم الله، وخاب من أرغم الحق أنفه. العدل أولى بالأثرة وإن رغم الجاهلون، حق لمن أمر بالمعروف أن يجتنب المنكر، ولمن سلك سبيل العدل أن يصبر على مرارة الجورن كل نفس تسمو إلى همتها. ونعم الصاحب القناعة.
أيها الناس؛ إن أكرم العبادة الورع، وأفضل الزاد التقوى؛ فاعملوا في دنياكم، وتزودوا آخرتكم. " اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " . وإياكم والعصبية وحمية الجاهلية؛ فإنهما تمحقان الدين، وتورثان النفاق، خلتان ليستا من ديني ولا دين آبائي رحمة الله عليهم. تعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، يصلح لكم دينكم وتحسن المقالة فيكم. الحق أبلج، والسبيل منهج، والناس مختلفون، ولكل في الحق سعةٌ، من حاربنا حاربناه، ومن سالمنا سالمناه، والناس جميعاً آمنون قال فينا يتناول من أعراضنا قلت؛ ولكن حسب امرءٍ ما اكتسب، وسيكفي الله.
ولما اشتدت به علته؛ قال له أبو السرايا: أوصني يابن رسول الله؛ فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله والطيبين، أوصيط بتقوى الله فإنها أحصن جنة، وأمنع عصمة، والصبر فإنه أفضل منزلٍ وأحمد معولٍ، وأن تستتم الغضب لربك، وتدوم على منع دينك، وتحسن صحبة من استجاب لك، وتعدل بهم عن المزالق، ولا تقدم إذدام متهورن ولا تضجع تضجيع متهاونٍ، واكفف عن الإسراف في الدماء، مالم يوهن لك دينا ويصدك عن صواب، وارفق بالضعفاء وإياك والعجلة، فإن معها الهلكة واعلم أن نفسك موصولةٌ بنفوس آل محمد عليه السلام، ودمك مختلط بدمائهم؛ فإن سلموا سلمت، وإن هلكوا هلكت؛ فكن على أن يسلموا أحرص منك على أن يعطبوا؛ وقر كبيرهم، وبر صغيرهم، واقبل رأي عالمهم. واحتمل هفوةً إن كانت من جاهلهم يرع الله حقك، واحفظ قرابتهم يحسن الله نصرك، وول الناس الخيرة لأنفسهم فيمن يقوم مقامى لهم من آل علي؛ فإن اختلفوا فالأمر إلى علي بن عبد الله؛ رضيت دينه ورضيت طريقته فارضوا به، وأحسنوا طاعته تحمدوا رأيه وبأسه.
وخطب الناس يوما، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: عباد الله، إن عين الشتات تلاحظ الشمل بالبتات، وإن يد الفناء تقطع مدة البقاء، فلا يكبحنكم الركون إلى زهرتها عن التزود لمقركم منها؛ فإن ما فيها من عيمٍ بائد، والراحل عنها غير عائد. وما بعدها إلا جنةٌ تزلف للمتقين، أو نارٌ تبرز للغاوين. " من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظالمٍ للعبيد " .
جماعة من الأشراف العلوية
كان يحيى بن الحسين يسمى ذا الدمعة، وكانت عينه لا تكاد تجف من الدموع، فقيل له في ذلك، فقال: وهل ترك السهمان في مضحكا، يعني: السهم الذي رمى به زيد - رحمه الله - والسهم الذي رمى به يحيى بن زيد.

كان عيسى بو زيد - رحمه الله - خرج مع النفس الزكية محمد بن عبد الله، وأشار عليه لما كثر عليه الجيش أن يلحق باليمن، فإن له هناك شيعة، وطلبه يبعد، فلم يقبل منه؛ فلما أحس بالقتل ندم على ترك القبول منه، وقال لمن حوله من شيعته: الأمر من بعدي لأخي إبراهيم؛ فإن أصيب فلعيسى بن زيد. فلما قتل محمد استتر عيسى مدة أيام المنصور وفي أيام المهدي، فطلب طلبا شديدا إلى أن مات في الاستتار في آخر أيام المهدي.
وحدث شبيب بن شيبة، قال: كنت أجالس المهدي في كل خميس، خامس خمسة، فخرج إلينا عشيةً وهو غضبان لخبر بلغه عن عيسى بن زيد، فقال: لعن الله كتابي وعمالي وأصحاب بردى وأخباري، هذا ابن زيد قد غمض على أمره فما ينجم لي منه خبر، فقلت: لا تشكون منه يا أمير المؤمنين، وما يكربك من خبر ابن زيد؟ فوالله ما هو بحقيقٍ أن يتبع وأن يجتمع عليه اثنان.
قال: فنظر إلى نظرة منكرٍ لقولي، ثم قال: كذبت، والله هو والله الحقيق بأن يتبع، وأن يجتمع عليه المسلمون. وما يبعده عن ذلك؟ لقد حطبت في حبلى، وطلبت هواي بفساد أمري. يا فضل - للفضل بن الربيع - احجبه عن هذا المجلس. قال: فحجبت عنه مدة.
ولعيس بن زيدٍ شعرٌ حسن، ومات وله ستون سنة، كان ثلث عمره عشرين سنة في الاستتار.
وكان ابنه أحمد بن عيسى من أفاضل أهل البيت علما وفقها وزهدا، وكان الرشيد حبسه ثم أطلقه، ثم طلبه لما بلغه كثرة شيعته من الزيدية، فاستتر، فلم يزل في الاستتار ستين سنة، فلما قتل المتوكل وقام بعده المنتصر، وبلغه عطفه على العلوية وإحسانه إليهم، أراد أحمد بن عيسى أن يظهر نفسه، فاعتل وتوفى بالبصرة.
قيل ماتت ابنة لأحمد بن عيسى فوجد بها وجدا شديدا، فقيل له في ذلك، فقال: إني أعلم الناس الصبر وآمرهم به، وما أنسيته ولا أغفلته، وليس جزعي لموتها، ولكني لا أخبر الذكر من أولادنا بنسبه حتى يبلغ خمس عشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا تبدر منه بادرة يظهر علينا، ولا الأنثى حتى تبلغ عشرين سنة، وإن هذه الصبية توفيت ولها ست عشرة سنة، ولم تعلم النسب بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقع بأس منها فأخبرها، حتى ماتت وهي لا تعلم بذلك؛ فلهذا غمى وأسفى. وأنشد:
أليس من العظائم أن يورى ... حذار الناس عن نسبٍ كريم
يعمر ذو الفخار وليس يدري ... أيعزى للأغر أو البهيم
يذل بنو النبي حذار ظلمٍ ... ويحوي العز ذو النسب اللئيم
قال الصولي: كنت يوما مع الغلابي، ونحن نقصد المربد، فمررنا بدربٍ يعرف بدرب الحريق، فقال لي: أتدري لم سمي هذا بدرب الحري؟ قلت: لا. قال: كان هذا الدرب يسمى المعترض، فجلس اثنان على دكان بين يدي الدرب مما يلي المربد، فطالب أحدهما صاحبه بمائة دينار ديناً له عليه، والرجل المطالب معترف، وهو يقول: يا هذا: لا تمض بي إلى الحاكم؛ فإني قد تركت في منزلي أطفالاً قد ماتت أمهم، لا يهتدون لشرب الماء إن عطشوا، وإن تأخرت عنهم ساعة ماتوا، وإن أقررت عند الحاكم حبسني فتلفوا؛ فلا تحملني على يمينٍ فاجرةٍ، فإني والله أحلف لك ثم أعطيك مالك، وصاحبه يقول له: لا بد من تقديمك وحبسك أو تحلف. فلما كثر هذا منهما إذا صرة قد سقطت بينهما، ومعها رقعة: يا هذا، خذ هذه المائة الدينار التي لك قبل الرجل، ولا تحمله على الحلف كاذبا، وليكن جزاء هذا أن تكتماه فلا يعلم به غيركما، ولا تسألا عن فاعله، فسرا بذلك جميعا وافترقا، فند الحديث من أحدهما فشاع، فقيل: ما يفعل هذا الفعل إلا أحمد بن عيسى، فقصدوا الدار لطلبه فوجدوا آثاراً تدل على أنه كان فيها وتنحى، وهرب صاحب الدار، فأحرق السلطان الدار، فسمي منذ ذاك درب الحريق.

كان أبو السرايا لما مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا أقام مقامه محمد ابن محمد بن زيد فلما ظفر به حمل إلى مرو إلى المأمون، فأظهر إكرامه وعجب من صغر سنه، وحبسه حبساً جميلا، فقيل له: كيف رأيت صنيع ابن عمك أمير المؤمنين في ظفره وقدرته. فقال: والله لقد أغضى عن العورة، ونفس الكربة، ووصل الرحم، وعفا عن الجرم وحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ولده، واستوجب الشكر من جميع أهل بيته، ومات بمرو من شيء سقيه، فلما أحس بالموت كان يقول: يا جدي، يا أبي يا أمي: اشفعوا لي إلى ربي؛ فكان ذلك هجيراه إلى أن مات، وكانت سنة يوم توفى عشرين سنة.
كان يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين شريفاً جليلاً زاهدا أيدا شديدا، جواداً حسن الوجه محبيا إلى الناس، خرج إلى سر من رأى، وكان قد أضاق بالكوفة يستميح المستعين، فرد عليه وصيفٌ رداً غليظاً، وكان يلي الأمر إذ ذاك، فخرج في سنة خمسين ومائتين، واجتمع عليه الناس، وظفر بالكوفة بأصحاب السلطان، وأنفذ إليه محمد بن عبد الله بن طاهر من بغداد جيشاً، فقتل، وحمل رأسه إلى بغداد، وحمله محمد إلى سر من رأى إلى المستعين، فنصب ساعة، ثم كره المستعين ذلك، فأمر برده إلى بغداد، فنصبه محمد ساعة فكثر الناس، وأثنوا على يحيى، وقالوا: رجل صالح منع القوت فخرج، فما آذى أحداً ولا ظلم، وقتل فما معنى صلب رأسه؟ ولعنوا محمد بن عبد الله فأنزل، وقال أبو هاشم الجعفري لمحمد بن عبد الله - وقد هنأه الناس بالظفر - إنك لتهنأ بقتل رجلٍ لو كان رسول الله حياً لعزى عليه، فأخذ ذلك ابن الرومي في قصيدة رثاه بها:
أكلكم أمسى اطمأن فؤاده ... بأن رسول الله في القبر مزعج
وقال:
ليهنكم يا بني المجهول نسبته ... فتحٌ تخرم أولاد النبلينا
فتحٌ لو أن رسول الله حاضره ... كان الأنام له طرا معزينا
وقال:
بني طاهرٍ غضوا الجفون وطأطئوا ... رءوسكم مما جنت أم عامر
سمى محمد بن عبد الله أم عامر - وهي كنية الضبع - لأنه كان أعرج، والضبع عرجاء.
وانقضت دولة آل طاهر بعد قتله، فما انتعشوا بعد ذلك. لعنة الله على جميع من ظلم آل محمد عليه السلام.
قال الصولى: كان يحيى بن عمر كثير المقام ببغداد، وما شرب شراباً يسكر قط، ولكنه كان مستهتراً بالسماع يحبه ويوثره، وكان أسمح الناس أخلاقاً. فحكى من سمعه يقول يوما لجاريةٍ غنت فأحسنت: غفر الله لك ما قلت، ولنا ما سمعنا.
قال الصولى: أعرق الناس في الشعر أبو الحسن علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وهو شاعرٌ، وآباؤه إلى قصي بن كلاب من مرة، وهو المعروف بالحماني وكان ينزل في بني حمان ابن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تيم؛ فعرف بذلك. وله شعرٌ كثير مليح.
قال بعضهم: لقيت علي بن محمد بالكوفة بعد خلاصه من حبس الموفق. وكان حبس مرتين، مرة لكفالته بعض أهله، ومرة لسعاية لحقته، فهنأته بالسلامة، وقلت له: قد عدت إلى وطنك الذي تلذه، وإخوانك الذين تحبهم، فقال لي: يا أبا علي؛ ذهب الأتراب والشباب والأصحاب. وأنشد:
هبني بقيت على الأيام والأبد ... ونلت ما نلت من امالٍ ومن ولد
من لي برؤية من قد كنت آلفه؟ ... وبالشباب الذي ولى ولم يعد؟
كان العباس بن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم - شاعرا عالما محسنا فصيحا، وكان يقال: من أراد لذةً لا تبعة فيها فليسمع كلام العباس بن الحسين.
وقال له العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: أنت والله يا أبا الفضل أشعر بني هاشم، فقال: لا أحب أن أكون بالشعر موصوفاً؛ لأنه أرفع ما في الوضيع، وأوضع ما في الرفيع. وهذا يشبه ما قاله الرشيد للمأمون فإنه قال - وقد كتب إليه بشعر - يا بني ما أنت والشعر؟ أما علمت أن الشعر أرفع حالات الدنى، وأقل حالات السنى؟ وصف العباس بن الحسين العلوي رجلا بفصاحته، فقال: ما شبهته يتكلم إلا بثعبانٍ ينهال بين رمال، أو ماءٍ يتغلغل بين جبالٍ.

كان المعتصم قد قرر عند المأمون أن العباس يبغضه، فحطه ذلك عنده، فلما ركب المأمون في الليل لقتل ابن عائشة رأى العباس بن الحسين قد ركب مع أهله ومواليه في السلاح، فقال له المأمون: سررت بالمخاض طمعاً في الولاد، فقال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أكون عليك مع عدو، وما أعلم في بني أبي أحداً لو ملك كان لي مثلك.
قال: فما هذه العدة والعدة؟، قال: اتباعٌ لأمر الله وقوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " . قال: أنت المصدق.
فلما قتل ابن عائشة وانصرف، قال له العباس: الله الله يا أمير المؤمنين في الدماء التي لا بقية معها، ولا عقوبة بعدها، والبس رداءً العفو الذي ألبسك الله إياه وجملك به، وأسعدك باستعماله، فإن الملك إذا قتل أغرى بالقتل حتى يصير عادةً من عاداته، ولذة من لذاته، فقال: والله يا أبا الفضل لو سمعت هذا منك قبل قتلي لابن عائشة ما قتلته. ولطفت حاله عند المأمون بعد ذلك. وعزى العباس رجلا، فقال: إني لم أقل شاكاً في عزمك، ولا زائداً في علمك، ولا متهماً لفهمك، ولكنه حق الصديق، وقول الشفيق؛ فاسبق السلوة بالصبر، وتلق الحادثة بالشكر يحسن لك الله الذخر، ويكمل لك الأجر.
قال إسحاق: أتيت العباس مرة فسلمت عليه، ثم تأخرت عنه، فقال لي: أذقتنا، فلما اشتقناك لفظتنا.
وقال له رجل: كم سنك؟ فقال: خلفت الخمسين، وإن التقاتي لطويل إليها.
وسأله المأمون عن رجل، فقال: رأيت له حلماً وأناةً ولم أر سفها ولا عجلة، ووجدت له بياناً وإصابةً، ولم أر لحنا ولا إحالة، يجيء بالحديث على مطاويه. وينشد الشعر على معانيه، ويروي الأخبار المتقنة، ويرمي بالأمثال المحكمة.
قال أبو محمد اليزيدي: كنت أنا والكسائي عند العباس بن الحسين، فجاءه غلامه، فقال: كنت عند فلان وهو يريد أن يموت، فضحكت أنا والكسائي، فقال: مم ضحكتما؟ قلنا: من قول الغلام. وهل يريد الإنسان الموت؟ فقال العباس: قد قال الله عز وجل: " فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض " فهل للجدار إرادةٌ؟ وإنما هذا مكان " يكاد " فنبهنا والله عليها.
دخل أبو دلف العجلى على الرشيد، وهو في طارمة على طنفسة، وعند باب الطارمة شيخٌ على طنفسة مثلها، فقال الرشيد: يا قاسم ما خبر الجبل؟ قال: خراب يبابٌ، اعتوره الأكراد والأعراب. قال: أنت سبب خرابه وفساده، فإن وليتك إياه؟ قال: أعمره وأصلحه. قال بعض من حضر: أو غير ذلك، فقال أبو دلف: وكيف يكون غير ذلك؟ وأمير المؤمنين يزعم أني ملكته فأفسدته وهو علي، أفتراني لا أقدر على إصلاحه وهو معي؟ فقال الشيخ: إن همته لترمي به وراء سنه مرمى بعيداً، وأخلق به أن يزيد فعله على قوله؛فقبل الرشيد وولاه، وأمر أن يخلع عليه، فلما خرج أبو دلف سأل عن الشيخ: فقيل له: هو العباس بن الحسين العلوي، فحمل إليه عشرة آلاف دينارٍ، وشكر فعله فقال له العباس ما أخذت على معروفٍ أجراً قط واضطرب أبو دلف وقال: إن رأيت أن تكمل النعمة عندي، وتتمها على بقبولها، فقال: هل لي عندك، فإذا لزمتني حقوقً لقوم يقصر عنها مالي صككت عليك بما تدفعه عليهم إلى أن أستنفذها، فقنع أبو دلف بذلك، فما زال يصك عليه للناس، حتى أفناها من غير أن يصل إلى العباس درهم منها.
وسأل العباس الفضل بن الربيع حاجة، فقضاها له سريعا كما أراد، فقال له: جزاك الله خيراً، فما في دون ما أتيت به تقصير ولا نقصانٌ، ولا فوقه إحسانٌ ولا رجحانٌ.
ووصف رجلا ثقيلاً، فقال: ما الحمام على الأحرار، وحلول الدين مع الإقتار، وشدة السقم في الأسفار بآلم من لقائه.
وذم أبا عباد - وهو وزير - فقال: الذليل من اعتز بك، والحائن من اعتزى إليك، والخائب من أملك، والسقيم من استشفاك.
وكان ابنه عبد الله شاعراً فصيحاً يشبه بأبيه، ووقف على باب المأمون يوما فنظر إليه الحاجب ثم أطرق، فقال عبد الله لقومٍ معه: إنه لو أذن لنا لدخلنا، ولو صرفنا لانصرفنا، ولو اعتذرنا لقبلنا. فأما الفترة بعد النظرة، والتوقف بعد التعرف فلا أفهمه. ثم تمثل:
وما عن ضاً كان الحمار مطيتي ... ولكن من يمشي سيرضى بما ركب
وانصرف؛ فبلغ المأمون كلامه فصرف الحاجب، وأمر لعبد الله بصلة جزيلة وعشر دواب.

وكتب إلى المأمون: الناس ثلاثةٌ: رجلٌ ورث خلافةً أو احتقب بقرابة، فهو من قليلها في كثيرٍ، ومن صغيرها في كبيرٍ، أو رجلٌ ولي ولايةً فأطلق له من عمالته وأرزاقه ما لو سأل الجزء منه من أجزاء كثيرة علىغيرها لما أجيب إليه. أو رجلٌ خف عياله وقل ماله، فصغر قدره عن إساءة وإحسان. فهو كالخردلة تقع بين طبقي الرحا، فلا الطحن ينالها، ولا سلامتها يعتد بها. فأما من كان عياله ثلثمائة إنسان، لا يرجع إلى أثاثٍ ولا متجرٍ ولا صناعةٍ ولا ضيعةٍ، تقتضيه الأيام لأهله مئونة جارية فما أسوأ حاله إن لم يتداركه أمير المؤمنين بفضلٍ منه! فأمر له المأمون بخمسمائة ألف درهم؛ فأتاه عبد الله بن الأمين والقاسم ابن الرشيد، فقالا: يا أمير المؤمنين؛ أتأمر لعبد الله بن العباس بمثل هذا المال؟ فما قصتنا ونحن أمس بك رحما منه؟ فقال: غلتكما فوق غلته، وخلتك مادون خلته، وعيالكما دون عياله، وقد أجلتكما شهرا؛ فإن تكلمتما بمثل كلامه أضعفت لكما ما أمرت به له.
وكتب عبد الله إلى إبراهيم بن المهدي: ما أدري كيف أحتال؟ أغيب فأشتاق، ثم نلتقي فلا نشتفي، ويجدد لي اللقاء الذي طلبت به الشفاء صنفاً من تجديد الحرقة بلوعة الفرقة.
فكتب إليه إبراهيم: أنا علمتك الشوق لأني شكوته إليك فهيجته منك. كان الجمخي - القاضي ببغداد بعد شريك للمنصور - متحاملا على الحسن بن زيد بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - فقال له الحسن يوماً في خصرمةٍ له: ما أعرفني بتحاملك على يا بن البدنة! يريد أبي ابن خلف جد الجمحي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشعره بالحربة كما تشعر البدنة؛ فبلغ ذلك المنصور فأضحكه.
وكان عبد الرحمن بن صفوان قاضياً لهشام، فلما قتل زيد - رحمه الله - صعد المنبر ونال منه، ولعن حسنا رضي الله عنه. وكان فصيحاً - لعنه الله - فما نزل عن المنبر حتى عمى وفلج.
وأتى الحسن بن زيد - في ولايته المدينة - برجل في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به فضرب، فقال له: أسألك بحق الثلاثة لما عفوت عني: يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه؛ فقال الحسن: بحق الواحد علي، وحقي على الإثنين لأحسنن أدبك.
لما ولي الحسن بن زيد المدينة، منع ابن جندب أن يؤم بالناس، فقال له: أيها الأمير. لم تمنعني من مقامي ومقام آبائي؟ قال الحسن: منعك منه يوم الأربعاء: يريد قول ابن جندب:
يا للرجال ليوم الأربعاء! أما ... ينفك يحدث لي بعد النهى طرباً
ما إن يزال غزالٌ فيه يفتنني ... يهوى إلى منزل الأحزاب منتقباً
ودخل ابن جندب هذا على المهدي في القراء وفي القصاص وفي الشعراء وفي المغنين؛ فأجازه فيهم كلهم.
وقال الحسن لابن هرمه: إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك وخوف ذمك. فقد رزقني الله بولادة نبيه صلى الله عليه وسلم الممادح وجنبني المقابح، وإن من حقه على ألا أغضى على تقصير في حق ربه، وأنا أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حداً للخمر، وحداً للسكر، ولأزيدن لموضع حرمتك بي؛ فليكن تركك لها لله تعن عليه، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم.
وأخذ بعض الحرس زيد بن الأفطس - والأفطس: حسن بن علي بن حسين ابن علي بن أب يطالب - في شراب؛ فجاء به إلى الحسن بن زيد، فقال: قبحك الله؛ أيأخذك مثل هذه؟ ألم تستطع أن تحمله فتطرحه في بئر؟ - وكان جلداً من الرجال - فقال: الطاعة للسلطان أصلحك الله. قال: أما لأضربنك، ولا أضربك للشراب، ولكني أضربك للحمق، ثم أمر به فضرب.
ولما قتل إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأتى برأسه إلى أبي جعفر. وعنده حسن بن زيد، وقال: يا أبا محمد، هذا رأس إبراهيم، قال: أجل يا أمير المؤمنين كان والله كما قال الشاعر:
فتى كان يحميه من الضيم سيفه ... وينجيه من دار الهوان اجتنابها.

الباب الخامس
كلام جماعة من بني هاشم
المتقدمين منهم والمتأخرين
عبد المطلب
لما تتابعت على قريش السنون، ورأت رقيقة بنت لبابة الرؤيا التي نذكرها من بعد خرج عبد المطلب حتى ارتقى أبا قبيس - ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام - فقال:

اللهم ساد الخلة، وكاشف الكربة، أنت عالم غيرٌ معلمٍ، ومسئولٌ غير مبخلٍ. وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنتهم التي أكلت الظلف والخف. فاسمعن اللهم، وأمطرن غيثا مريعاً مغدقا.
قالت رقيقة: فما راموا البيت حتى انفجرت السماء بمائها، وكظ الوادي يثجيجه فسمعت شيخان قريش وجلتها وهي تقول: " هنيئاً لك أبا البطحاء هنيئاً لك. أي عاش بك أهل البطحاء " .
وكانت لعبد المطلب خمسٌ من السنن أجراها الله في الإسلام: حرم نساء الاباء على الأبناء، وسن الدية مائةً من الأبل، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط، ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس، وسمى زمزم حين حفرها سقاية الحاج.
قيل: إن عبد المطلب أتى في المنام. فقيل: احفر زمزم، بين الفرث والدم، فقام ما سمى له، فنحرت بقرةٌ فأفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلبها فنحرت في المسجد؛ فحفر عبد المطلب هناك.
روى عن بعض موالي المنصور قال: أخرج إلى سليمان بن علي كتابا بخط عبد المطلب، وإذا هو شبيهٌ بخط النساء فيه: باسمك اللهم - ذكر - حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان ابن فلان " الحميري من أهل أول صنعاء. عليه ألف درهم فضةٍ كيلا بالحديد، ومتى دعاه بها أجابه. شهد الله والملكان.
ولما سار الأشرم صاحب الحبشة مع الفيل إلى مكة لهدم البيت، وسمعت به قريش لم يبق بمكة أحدٌ منهم إلا عبد المطلب، وعمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم، فأرسل الأشرم الأسود بن مقصود في خيل، وأخذ إبلاً لقريش بناحية ثبير، فيها مائتا ناقة لعبد المطلب، وأرسل رسولا فقال: انظر من بقى من مكة، فأتاها ثم رجع، وقال: لم أر بها أحدا إلا أنى رأيت رجلاً لم أر مثل طوله وجماله - يعني عبد المطلب - ورأيت رجلا لم أر مثل قصره كأنه إبهام الحبارى - يعني: عمرو بن عائذ؛ فقال: ايتنى بالطول، فأتاه بعبد المطلب، فلما رآه استجهره، وأمر له بمنبر فجلس عليه وكلمه فازداد به عجبا، ثم قال له: سلني حاجتك. قال: إنك أخذت إبلي فارددها علي، فقال الأشرم: لقد زهدت فيك بعد عجبي بك. قال: ولم ذاك أبيت اللعن؟ قال: جئت لأهدم شرفك وحرمك، وتركتني أن تسألني فيها فسألتني إبلك. فقال: والله لحرمتى أعز علي وأعظم من مالي. ولكن لحرمتي رب إن شاء أن يمنعها منعها، وإن تركها فهو أعلم.
فأمر برد إبله، فخرج عبد المطلب وقام بفناء البيت يدعو الله، ويقول:
لا هم إن المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك
في أبيات وكان من أمر الفيل والحبشة ما قد قصه الله تعالى في كتابه الكريم، وعظمت قريش في أعين العرب، فسموهم أهل الله.
وكان الأسود بن مقصود بن بلحارث بن كعب، وكان مع جماعةٍ من قومه ومع خثعم نبعوا الأشرم، وكانوا يستحلون الحرم، والأسود هو الذي يقول:
يا فرسي اعدي بيه ... إذا سمعت التلبيه

الزبير بن عبد المطلب
قالوا: قدم الزبير بن عبد المطلب من أحدى الرحلتين، فبينا رأسه في حجر وليدة له وهي تدري ليمته إذ قالت له: ألم يرعك الخبر؟ قال: وما ذاك؟ قالت: زعم سعيد بن العاص أنه ليس لأبطحي أن يعتم يوم عمته، فقال: والله لقد كان عندي ذا حجا وقدر، وانتزع لمته من يدها، وقال: يا رعاث. على عمامتي الطول؛ فأتى بها فلاثها على رأسه، وألقى ضيفيها حتى لطخا قدميه وعقبيه، وقال: على فرسي فأتى به، فاستوى عن ظهره، ومر يخرق الوادي كأنه لهب عرفج، فلقيه سهيل بن عمرو فقال: بأبي أنت وأمي يا أبا الطاهر، مالي أراك قد تغير وجهك؟ قال: أو لم يبلغك الخبر؟ هذا سعيد بن العاص يزعم أنه ليس لأبطحي أن يعتم يوم عمته. ولم؟ فوالله لطولنا عليهم أظهر من وضح النهار، وقمر التمام، ونجم الساري، والآن تنثل كنانتها، فتعجم قريشٌ عيدانها فتعرف بازل عامنا وثنياته. فقال له سهيل: رفقاً. بأبي أنت وأمي فإنه ابن عمك. ولن يعييك شأوه، ولن يقصر عنه طولك. وبلغ الخبر سعيدا فرحل ناقته واغترز رحله، ونجا إلى الطائف. فقيل له: أتريد الجلاء؟ فقال: إني رأيت الجلاء خيراً من الفناء. ومضى قصده.
أبو طالب
خطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - في تزويجه خديجة بنت خوليد؛ فقال:

الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلدا حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي من لا يوازن به فتىً من قريش إلا رجح به براً وفضلاً، وكرما وعقلاً، ومجداً ونيلاً، وإن كان في المال قل، فإنما المال ظل زائلٌ، وعاريةٌ مسترجعةٌ، وله في خديجة بنت خويلدٍ رغبةٌ، ولها فيه مثل ذلك. وما أحببتم من الصداق فعلى.
روى أبو الحسين النسابة بإسناد له قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - : سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد بن عبد الله - ابن أخي - أن ربه تبارك وتعالى بعثه بصلة الرحم، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره، ومحمد عندي الصدوق الأمين. قال أبو الحسين: قد قال أبو طالب من التوحيد نظما ونثرا مالا خفاء به، فمن ذلك قوله لابنيه: جعفرٍ وعلي رضي الله عنهما:
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ... أخي ابن أمي من بينهم وأبي
والله لا أخذل النبي ولا ... يخذله من بني ذو حسب
فسماه النبي وقال:
عليها المراجيح من هاشمٍ ... هم الأنجبون مع المنتجب
فسماه المنتجب، وقال:
أمينٌ صدوقٌ في الأنام مسوم ... بخاتمٍ رب قاهرٍ للخواتم
فسماه الأمين والصدوق، وقال:
وحكم نبي جاء يدعو إلى الهدى ... ودينٍ أتى من عند ذى العرش قيم
وقال:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً ... نبياً كموسى خط في أول الكتب
وقال:
وتلقوا ربيع الأبطحين محمدا ... على ربوةٍ من رأس عنقاء عيطل
فسماه ربيع الأبطحين ولما استسقى النبي صلى الله عليه وسلم - فسقى، قال: من ينشدنا قول أب يطالب؟ فأنشده أبو بكر رضي الله عنه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمةٍ للأوامل
ولما قتل أهل بدر وجر القوم إلى القليب؛ التفت صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر، فقال: كيف قول أب يطالب " بالأماثل " فقال:
وإنا لعمر الله إن جد جدنا ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
فقال صلى الله عليه وسلم: قد التبست.
وقال المأمون: أسلم أبو طالب بقوله:
نصرنا الرسول رسول المليك ... بقضبٍ تلألأ مثل البروق
ومشت إليه قريش بعمارة بن الوليد؛ فقالوا: ادفع لنا محمدا نقتله لئلا يغير ديننا ويعرضنا لقتال العرب، وأمسك عمارة فاتخذه ولداً - وكان عمارة جميلاً جهيراً - فقال: ما أنصفتموني يا معشر قريش، أدفع إليكم ابني تقتلونه، وأمسك ابنكم أغذوه لكم.

العباس بن عبد المطلب
سئل: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: رسول الله أكبر، وأنا أسن. ولدت قبله بثلاث سنين. أذكر وقد قيل لأمي: إن آمنة قد ولدت ابناً؛ فأدخلتني إليه صبيحة الليلة التي ولد فيها، وهو صلى الله عليه وسلم يمصع برجليه، والنساء يجبذنني عليه، يقن: قبل أخاك.
قيل لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم - اجتمع عليٌ والعباس وجماعةٌ من حفدتهم ومواليهم في منزل رجل من الأنصار لإجالة الرأي، فبدر بهم أبو سفيان فجاء حتى طرق الباب؛ فقال: أنشدكم الله أن تكونوا أول من قطع رحم بني عبد مناف، ثم جاء الزبير يهدج حتى طرق الباب، فقال: أنشدكم الله والخئولة، والصهورة، فلما حضر أرم القوم عن الكلام، فلما رأى أبو سفيان ذلك قال: مجدٌ قديمٌ أثل بشرف الأبد، يا بني عبد مناف؛ ذبوا عن مجدكم، وانصحوا عن سؤددكم، وإياكم أن تخلعوا تاج كرامةٍ ألبسكم الله إياه، وفضلكم بها، إنها عقب نبوةٍ، فمن قصر عنها اتبع.
وقال الزبير: قد سمعتم مقالته، فابذلوا الشركة، وأحسنوا النية؛ فلن يستغنى من استحق هذا الأمر عن مقاتل يقاتل معه، وموئلٍ يلجأ إليه، والمقاتل معكم خيرٌ من المقاتل لكم.
فقال العباس: قد سمعنا مقالتكم، فلا لقلةٍ نستعين بكم، ولا لظنةٍ نترك آراءكم، ولكن لالتماس الحق؛ فأمهلونا نراجع الفكرة. فإن يكن لنا من الإثم مخرجٌ يصر بنا وبهم الحق صرير الجدجد، ونبسط أكفا إلى المجد؛ لا نقبضها أو تبلغ المدى؛ وإن تكن الأخرى فلا لقلةٍ في العدد، ولا لوهن في الأيد. والله لولا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخرٍ يسمع اصطكاكها من محل الأثيل.

قال: فحل علي رضي الله عنه حبوته، وكذا كان يفعل إذا تكلم؛ وجثا على ركبتيه وقال: الحلم صبرٌ، والتقوى دين، والحجة محمدٌ صلى الله عليه وسلم - والطريق الصراط. إيهاً رحمكم الله، شقوا متلاطمات أمواج الفتن، بحيازيم سفن النجاة، وعرجوا عن سبيل المنافرة، وحطوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناحٍ، واستسلم فأراح. ما آجن لقمةً تغص آكلها! ومجتنى الثمرة لغير إيناعها كالزارع في غير أرضه أما لو أقول ما أعلم لتداخلت أضلاعٌ تداخل دوارة الرحا. وإن أسكت يقولوا جزع ابن أبي طالب من الموت. هيهات هيهات بعد اللتيا والتي. والله لعلي آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، ولكني أدمجت على مكنون علمٍ لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة.
ثم نهض وفرقهم، وأبو سفيان يقول: لشيءٍ ما فرقنا ابن أب يطالب. روى أحمد بن أبي طاهر في كتاب " المنثور والمنظوم " بإسناد له عن البراء ابن عازبٍ قال: لم أزل لبني هاشمٍ محبا؛ فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تخوفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر من بني هاشم؛ فأخذني ما يأخذ الواله العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ملأ الهاشميون بيتهم، فكنت أتردد بينهم وبين المسجد أتفقد وجوه قريش، فإني لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، ثم لم ألبث إذ أنا بأبي قد أقبل في أهل السقيفة، وهم يحتجزون الأزر الصنعانية، لا يمرون بأحد إلا خطبوه، فإذا عرفوه قدموه فمدوا يده، فمسحوها على يد أبي بكرٍ، وقالوا له: بايع. شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عند ذلك عقلي، وخرجت مسرعاً حتى انتهيت إلى بني هاشم - والباب مغلقٌ - فضربت الباب عليهم ضرباً عنيفاً، وقلت: قد بايع الناس أبا بكر بن أبي قحافة.
فقال العباس: ترحت أيديكم إلى آخر الدهر؛ أما إني قد أمرتكم فعصيتموني.
قال البراء: فمكثت أكابد ما في نفسي، ورأيت في الليل المقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وأبا ذر وأبا الهيثم بن التيهان، وحذيفة بن اليمان. وإذا هم يريدون أن يعود المر شورى بين المهاجرين، وبلغ ذلك أبا بكر وعمر فأرسلا إلى أبي عبيدة بن الجراح وإلى المغيرة بن شعبة، فسألاهما عن الرأي؛ فقال المغيرة: أرى أن تلقوا العباس فتجعلوا في هذا الأمر نصيباً له ولعقبه؛ فتقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب.
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة، حتى دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وقال: إن الله ابتعث لكم محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً، وللمؤمنين ولياً، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم، حتى اختار له ما عنده فخلى على الناس أمورهم، ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم، متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم والياً، ولأمورهم راعياً؛ فتوليت ذلك عليهم، وما أخاف بعون الله وتسديده وهناً ولا حيرةً ولا جبنا، " وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " .
وما انفك يبلغني عن طاعنٍ يقول بخلاف عامة المسلمين، يتخذكم لجئاً فتكونوا حصنه المنيع، وخطبه البديع. فإما دخلتم فيما اجتمع عليه الناس، أو صرفتموهم عما مالوا إليه، وقد جئنا ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً، يكون لك ويمون لمن بعدك إذ كنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن كان الناس قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أصحابك فعدلوا هذا الأمر عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ومنكم.
فقال عمر: إي واله وأخرى أنا لم نأتكم حاجةً إليكم، ولكنا كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم. فانظروا لأنفسكم ولعامتكم.
فحمد الله العباس وأثنى عليه ثم قال: إن الله ابتعث محمداً صلى الله عليه وسلم - كما وصفت - نبياً. وللمؤمنين ولياً، فمن الله به على كل حتى اختار له ما عنده، فخل الناس على أمرهم مختاروا لأنفسهم، مصيبين للحق، لا مائلين بزبغ الهوى.

وإن كنت برسول الله صلى الله عليه وسلم طلبت فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم، ما تقدمنا في أمركم فرطاً، ولا حللنا وسطاً، ولا برحنا سخطاً. وإن كان هذا الأمر إنما يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين. وما أبعد قولك إنهم طعنوا عليك من قولك إنهم مالوا إليك! وأما ما بذلت فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليه، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه. وإن يكن حقنا لم نرض منك ببعضه دون بعض. وما أقول هذا أروم صرفك، ولكن للحجة نصيبها من البيان. وأما قولك: إن رسول الله منا ومنكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. وأما قولك: يا عمر إنك تخاف الناس علينا، فهذا الذي تقدمتم به أول ذلك. والله المستعان.
لما خرج عمر بالعباس يستسقي به قال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك، وقفية آبائه وكبير رجاله، فإنك تقول وقولك الحق: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحاً " ؛ فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ نبيك في عمه، فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين، ثم أقبل على الناس فقال: " استغفر ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً " .
قال: رأيت العباس وقد طال عمره، وعيناه تنضحان، وسبابته تجول على صدره، وهو يقول: اللهم أنت الراعي، لا تهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار مضيعةٍ، فقد ضرع الصغير، ورق الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفىز اللهم فأغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا؛ فإنه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون.
قال: فشأت طريرةٌ من سحاب. فقال الناس: ترون، ترون، ثم تلامت واستتمت، ومشت فيها ريح، ثم هدت ودرت، فوالله ما برحوا حتى اعتلقوا الحذاء وقلصوا المآزر؛ وطفق الناس بالعباس يمسحون أردانه، ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين.
روى الشعبي قال: قال لي عبد الله بن عباس: قال لي أبي العباس: يا بني إن أمي رالمؤمنين قد اختصك دون منارى من المهاجرين والأنصار، فاحفظ عني ثلاثاً ولا تجاوزهن: لا يجربن عليك كذباً، ولا تغتب عنده أحداً، ولا تفشين له سراً.
قال: فقلت يا أبا عباس؛ كل واحدةٍ خيرٌ من ألف، فقال: كل واحدة خير من عشرة آلاف.
قال العباس: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حنيناً، فلما انهزم الناس قال: ناد: يا أصحاب السمرة، فناديت؛ فوالله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها.
قال أبو اليسر: لقيت العباس يوم أحد، فقال: أصاب القتل محمداً؟ قلت: الله أعز له وأمنع، فقال: جلل ما عدا محمداً.
وقال العباس: يا بني عبد المطلب اختضبوا بالسواد، فإنه أحظى لكم عند نسائكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم.
وقال لابنه: يا بني تعلم العلم، ولا تعلمه لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري به؛ ولا تدعه رغبةً في الجهل، وزهادةً في العلم، واستحياء من التعلم.

عقيل
قال معاوية يوما: هذا أبو يزيد، لولا أنه علم أني خيرٌ له من أخيه لما أقام عندنا وتركه، فقال له عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خيرٌ لي في دنياي.
وقال له مرة: أنت معنا يا أبا يزيد، قال: ويوم بدرٍ كنت معكم.
وقالت له ارمأته - وهي ابنة عتبة بن ربيعة: يا بني هاشم؛ لا يحبكم قلبي أبدا، أين أبي؟ أين أخي، أين عمي؟ كأن أعناقهم أباريق الفضة تر آنفهم قبل شفاههم الماء.
فقال لها عقيل: إذا دخلت جهنم فخذي عن شمالك.
تزوج امرأة، فقيل له بالرفاء والبنين، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا تزوج أحدكم فليقل له بارك الله فيك وبارك عليك " .
محمد بن علي ابن الحنفية
رضي الله عنه
قيل له: من أشد الناس زهدا؟ من لا يبالي الدنيا في يد من كانت.
وقيل له: من أخسر الناس صفقةً؟ قال: من باع الباقي بالفاني.
وقيل له: من أعظم الناس قدراً؟ قال: من لايرى الدنيا قدراً لنفسه.
وقال: من كرمت عليه نفسه صغرت الدنيا في عينيه.
وكان يقول: اللهم أعني على الدنيا بالغنى، وعلى الآخرة بالتقوى.
وقال المنافقون له: لم يغرر بك أمير المؤمنين في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين؟ قال: لأنهما عيناه، وأنا يمينه؛ فهو يدفع بيمينه عن عينيه.
وكتب إلى ابن العباس حين سيره ابن الزبير إلى الطائف:

أما بعد، قد بلغني أن ابن الزبير سيرك إلى الطائف، فأحدث اله جل وعز لك بذلك ذخراً حط به عنك وزراً. يا بن عم؛ إنما يبتلى الصالحون، وتعد الكرامة للأخيار؛ ولو لم تؤجر إلا فيما تحب لقل الأجر، وقد قال الله تعالى: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم " . عزم الله لنا ذلك بالصبر على البلاء، والشكر على النعماء، ولا أشمت بنا عدوا والسلام.
وقال: مالك من عيشك إلا لذة تزدلف بك إلى حمامك، وتقربك من يومك، فأية أكلةٍ ليس معها غصصٌ، أو شربةٍ ليس معها شرقٌ؟ فتأمل أمرك؛ فكأنك قد صرت الحبيب المفقود، والخيال المخترم. أهل الدنيا أهل سفرٍ لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها.
وقال في قوله عز ذكره: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " هي مسجلةٌ للبر والفاجر يعني مرسلة.
وذكر رجلا يلي بعد السفياني، فقال: حمش الذراعين والساقين، مصفح الرأس، غائر العينين، بين شث وطباقِ.
ولما دعاه ابن الزبير إلى البيعة قال: إنما ابن الزبير شيطانٌ كلما رفع رأسه قمعه الله.
وقال: إني أكره أن أيسر هذه الأمة أمرها وآتيها من غير وجهها.
وذكر أمير المؤمنين عليه السلام فقال: كان إذا تكلم بذ، وإذا كلم حذ. وهذا مثل قول غيره: كان علي إذا تكلم فصل، وإذا ضرب قتل.
وقال غيره: كان إذا اعترض قط وإذا اعتلى قد.
وقال محمد: الكمال في ثلاثة: الفقه في الدين، والصبر في النوائب، وحسن تقدير المعيشة.
وكان محمدٌ قوياً شديد الأيد، وله في ذلك أحاديث منها: أن أياه عليه السلام اشترى درعا فاستطالها، فقال: لينقص منها كذا، وعلم عند موضعٍ منها، فقبض محمدٌ بيده اليمنى على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبه، فقطعها من الموضع الذي حده أبوه.
وكان عبد الله بن الزبير إذا حدث بذلك غضب واعتراه أفكل، وكان يحسده على قوته.

ابن عباس
قيل لعبد الله بن عباس: ما منع عليا رضي الله عنه أن يبعثك مع عمرو يوم التحكيم، فقال: ما منعه والله إلا حاجز القدر ومحنة الابتلاء، وقصر المدة. أما والله لو وجه بي لجلست في مدارج نفسه، ناقصاً ما أبرم، ومبرماً ما نقص. أطير إذا أسف، وأسف إذا طار، ولكن مضى قدرٌ وبقي أسفٌ، ومع اليوم غدٌ والآخرة خيرٌ لأمير المؤمنين.
قال: أني زيد بن ثابت بدابته، فأخذ ابن عباس بركابه؛ فقال زيد: دعه بالله؛ فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فقال زيد: أخرج يدك؛ فأخرجها، فقبلها زيدٌ وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا عليه السلام.
وكان يقول: تواعظوا وتناهوا عن معصية ربكم؛ فإن الموعظة تنبيهٌ للقلوب من سنة الغفلة، وشفاءٌ من داء الجهالة، وفكاكٌ من رق ملكة الهوى.
ودخل على معاوية؛ فقال له: ألا أنبئك؟ مات الحسن بن علي، فقال ابن عباس: إذاً لا يدفن في قبرك، ولا يزيد موته في عمرك، وقبله ما فجعنا بخيرٍ منه، فجبر الله وأحسن.
ومن كلامه: ما رضى الناء بشيءٍ من أقسامهم كما رضوا بأوطانهم. وقال له معاوية: أخبرني عن بني هاشم وبني أمية. قال: أنت أعلم بهم قال: أسمت عليك لتخبرني. قال: نحن أفصح وأصبح وأسمح، وأنتم أمكر وأنكر وأغدر.
وقال: من استؤذن عليه فهو ملك.
مر معاوية بقوم من قريش، فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس؛ فقال: يا بن عباس؛ ما منعك من القيام كما قام أصحابك؟ ما ذاك إلا لموجدة أنى قاتلتكم بصفين، فلا تجد؛ فإن عثمان ابن عمي قتل مظلوما.
قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قتل مظلوماً. قال: إن عمر قتله كافر قال ابن عباس. فمن قتل عثمان؟ قال: المسلمون. قال: فذاك أدحض لحجتك.
قال ابن عباس: أهبط مع آدم المطرقة والميقعة والكلبتان.
وسئل عن عمر، فقال: كان كالطير الحذر، يرى أن له في كل طريقٍ شركاً يأخذه.
قال قلت لعمر: متى يسارع الناس في القرآن يحتقوا، ومتى يحتقوا يختصموا، ومتى يختصموا يختلفوا، ومتى يختلفوا يقتتلوا.
وقال: لأن أمسح على ظهر عابرٍ بالفلاة أحب إلي من أن أمسح على خف.
وقال له رجل: ما تقول في سلطان علينا تغشمونا وتظلمونا؟ قال: إن أتاك أهدل الشفتين منتشر المنخرين فأعطه صدقتك.
وقال: إياك والقبالات؛ فإنها صغارٌ، وفضلها رباً.

وقال لع عبد الله بن صفوان: كيف كانت إمارة الأخلاف فيكم؟ يعني إمارة عمر؛ فقال: التي قبلها خيرٌ. أو سنة عمر تريد أنت وصاحبك ابن الزبير؟ تركتما والله سنة عمر شأواً مغرباً.
قال أبو حسان: قلت لابن عباس: ما هذه الفتيا التي تفشغت من طاف فقد حل؟ قال: سنة نبيكم عليه السلام وإن رغمتم.
وقام عمرو بن العاص بالموسم؛ فأطرى معاوية وبني أمية، وتناول من بني هاشم، وذكر مشاهده بصفين؛ فقال له ابن عباس: يا عمرو؛ إنك بعت دينك من معاوية؛ فأعطيته ما في يدك، ومناك ما في يد غيره، وكان الذي أخذ منك فوق الذي أعطاك، وكان الذي أخذت منه دون الذي أعطيته؛ وكل راضٍ بما أخذ وأعطى؛ فلما صارت مصر في يدك تتبعك فيها بالعزل والتنقص حتى لو أن نفسك فيها ألقيتها إليه.
وذكرت مشاهدك بصفين، فما ثقلت علينا وطأتك، ولا نكأتنا فيها حربك، وإن كنت فيها لطويل اللسان قصير السنان، آخر الحرب إذا أقبلت، وأولها إذا أدبرت، لك يدان: يد لا تبسطها إلى خيرٍن ويدٌ لا تقبضها عن شر، ووجهان: وجهٌ مؤنسٌ، ووجهٌ موحشٌ. ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحري أن يطول حزنه على ما باع واشترى، لك بيانٌ وفيك خطلٌ، ولك رأي وفيك نكلٌ، ولك قدرةٌ وفيك حسدٌ، فأصغر عيب فيك أعظم عيب غيرك.
فقال عمرو: أما والله ما في قريشٍ أثقل وطأة منك، ولا لأحدٍ من قريشٍ عندي مثل قدرك.
وقال بعضهم: قلت لابن عباس: أخبرني عن أبي بكر. قال: كان خيرا كله على الحدة وشدة الغضب.
قلت: أخبرني عن عمر. قال: كان كالطائر الحذر قد علم أنه نصب له في كل وجه حبالةٌ، وكان يعمل لكل يوم بما فيه على عنف السياق.
قلت: أخبرني عن عثمان. قال: كان والله صواماً قواماً، لم يخدعه نومه عن يقظته.
قلت: فصاحبكم. قال: كان والله مملوءاً علماً وحلماً غرته سابقته وقرابته، وكان يرى أنه لا يطلب شيئاً إلا قدر عليه. قال: أكنتم ترونه محدوداً؟ قال: أنتم تقولون ذلك.
وقيل له: أني لك هذا العلم؟ فقال: قلب عقول ولسان شئول.
وقال: من ترك قول: " لا أدري " أصيبت مقاتله.
قال علي بن عبد الله بن عباس. كنت مع أبي بمكة بعدما كف بصره وسعيد بن جبير يقوده، فمر بصفة زمزم، وإذا قومٌ من أهل الشام يسبون عليا رضي عنه، فقال لسعيد: ردني إليهم، فرده، فوقف عليهم فقال: أيكم الساب الله؟ قالوا: سبحان الله. ما فينا أحدٌ سب الله. قال: فأيكم الساب رسول الله؟ قالوا: سبحان الله، ما فعلنا، قال: فأيكم الساب علي بن أبي طالب؟ قالوا: أما هذا فقد كان. قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعته يقول: " من سب علياً فقد سبني، ومن سبنب فقد سب الله، ومن سب الله كبه الله على منخريه في نار جهنم " . ثم ولى، فقال لي: يا بني. ما رأيتهم صنعوا؛ فقلت: يا أبه؛
نظروا إليك بأعينٍ محمرةٍ ... نظر التيوس إلى شفار الجازر
وقال: أربعةٌ لا أقدر لهم على مكافأة: رجل بات وحاجته تململ في صدره حتى أصبح فقصد بها إلي، ورجل أفشى إلى السر فوضعني مكان قلبه، ورجلٌ ابتدأني بالسلام، ورجل دعوته فأجابني..
وجاء إليه رجل فقال: إني أريد أن أعظ. فقال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى: قوله " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " . وقوله: " يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون مالا تفعلون " . وقول العبد الصالح شعيب: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " .
أأحكمت هذه الآيات؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك إذاً.
وقال: ملاك أموركم الدين، وزينتكم العلم، وحصون أعراضكم الدب. وعزكم الحلم، وصلتكم الوفاء، وطولكم في الدنيا والآخرة المعروف. فاتقوا الله يجعل لكم من أمركم يسراً.
وقال: ليس للظالم عهدٌ؛ فإن عاهدته فانقضه؛ فإن الله تعالى يقول: " لاينال عهدي الظالمين " .
وقال: صاحب المعروف لا يقع؛ فم رقع وجد متكئاً.
وكان يقول إذا وضع الطعام: باسم الله عني معن كل آكلٍ معي.
وسئل عن الجشاعة والجبن، والجود والبخل؛ فقال: الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، والجبان يفر عن عرسه، والجواد يعطى من لا يلزمه حقه، والبخيل يمنع نفسه.
واستئاره عمر في توليه حمص رجلا، فقال: لا يصلح أن يكون إلا رجلاً منك. قال: فكنه. قال: لا تنتفع بي. قال: ولم؟ قال: لسوء ظني في سوء ظنك بي.
وقال: لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزق.

وقال: إذا حدث أحدكم فأعجبه الحديث فليسكت؛ فإن أعجبه السكوت فليتحدث.
وسمع كعباً يقول: مكتوبٌ في التوراة من ظلم يخرب بيته؛ فقال ابن عباس: تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " .
وقال: ما رشى الله الناس بشيءٍ من أصامهم كما رضاهم بأوطانهم. فقال أبو زيد النحوي: بلى والله وبأحسابهم؛ فقيل له: وكيف؟ فقال: تلقاه من عكل وسلول ومحاربٍ وغني وباهلة وهو يفاخر.
قال ابن عباس في قوله تعالى: " وجعلني مباركاً أين ما كنت " . قال: معلما ومؤدباً.
وقال: كل ماشئت، والبس إذا أخطأتك اثنتان: سرٌ، أو مخيلةٌ.
وقال: لجليسي على ثلاثٌ: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا حدث.
وقال: القرابة تقطع، والمعروف يكفر، ولم ار كالمودة.
روى عنه في قوله تعالى: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان، " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " . البرحران: علي وفاطمة، والبرزخ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين عليهما السلام. وتكلم عنده رجل فخلط، فقال ابن عباس: بكلام مثلك رزق السمت المحبة.
وقال لمعاوية: أشتم علي على منبر الإسلام وهو بناه بسيقه؟.
قيل له أو لقثم أخيه: كيف ورث علي النبي صلى الله عليه وسلم دونكم؟ فقال: إنه كان أولنا به لحوقاً، وأشدنا به لصوقاً.
وقال ابن عباس: قلت لهند بن أبي هالة - وكان ربيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعلك أن تكون أثبتنا معرفةً به. قال: كان - بابي وأمي - طويل الصمت، دائم الفكرة، متواتر الأحزان، إذا تكلم تكلم بجوامع الكلام؛ لا فضل ولا تقصير، إذا حدث أعاد، وإذا خولف أعرض وأشاح، يتروح إلى حديث أصحابه، يعظم النعمة وإن دقت، ولا يذم ذواقاً، ويبتسم عن مثل حب الغمام.
وقال ابن عباس: أكرموا الخبز؛ فإن الله سخر له السموات والأرض.
حدث عن أبي العالية قال: كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرمٌ يرتجز بالإبل وهو يقول:
وهنٌ يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطيرنن...لميسا
فقلت له: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء وروى عنه في قوله تعالى: " فلنحيينه حيوة طيبة " . قال: هي القناعة قال ابن عباس: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هجاء الأعشى علقمة ابن علاثة نهى أصحابه أن يرووه، وقال: " إن أبا سفيان شعث مني عند قيصر فرد عليه علقمة وكذب أبا سفيان فشكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقال لبعض اليمانية: لكم من السماء نجمها، ومن الكعبة ركنها؛ ومن السيوف صمصامها. يعني سهيلاً من النجوم، والركن اليماني، وصمصامة عمرو بن معد يكرب.
وقال: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفر؛ فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه.
ذكر أن ملك الروم وجه إلى معاوية بقارورةٍ فقال: ابعث فيها من كل شيءٍ، فبعث إلى ابن عباس فقال: لتملأ له ماءً؛ فلما ورد به على ملك الروم قال: لله أبوه ما أدهاه! فقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك؟ فقال: لقول الله عز وجل: " وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي " .
وقال في كلام له يجيب ابن الزبير: والله إنه لمصلوب قريشٍ، ومتى كان عوام بن عوامٍ يطمع في صفية بنت عبد المطلب؟ قيل للبغل: من أبوك؟ قال: خالي الفرس.
وقال: ما رأيت أحدا أسعفته في حاجة إلا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت أحدا رددته عن حاجةٍ إلا أظلم ما بيني وبينه.
وقال: العلم أكثر من أن يؤتى على آخره، فخذوا من كل شيءٍ أحسنه.
كان نافع بن الأزرق يسأل ابن عباس عن القرآن وغيره، ويطلب منه الاحتجاج باللغة وبشعر العرب، فيجيبه عن مسائله.
وروى أبو عبيدة أنه سأله فقال: أرأيت نبي الله سليمان مع ما خوله الله عز وجل وأعطاه، كيف عنى بالهدهد على قلته وضئولته؟ فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء، الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك. فقال له ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه، فقال ابن عباس: ويحك يا بن الأزرق، أما علمت أنه إذا جاء القدر عشى البصر.
وروى أنه أتاه يوما فجعل يسأله حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة وهو يومئذ غلامٌ فسلم وجلس. فقال ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً؟ فأنشده:

أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر ... غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجر
حتى أتمها وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا بن عباس، أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلامٌ من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه؟ فقال: لا والله ما سمعت سفها. فقال ابن الأزرق: أما أنشدك.
رأت رجلاً إذا الشمس عارضت ... فيخزى، وأما بالعشى فيخسر
فقال: ما هكذا قال إنما قال:
فيضحى، وأما بالعشى فيخصر.
قال: أو تحفظ الذي قال؟ قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها. قال: فارددها؛ فأنشده إياها. فقال نافع: ما رأيت أروى منك؛ فقال ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي.
سعى رجلٌ برجل إليه، فقال له: إن شئت نظرنا فيما قلت؛ فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن منت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أقلناك. قال: هذه أحبها إلي. قال: فامض حيث شئت.
وسئل عن رجلٍ جعل أمر امرأته بيدها، فقالت: فأنت طالقٌ ثلاثاً؛ فقال ابن عباس: خطأ الله نوءها. ألا طلقت نفسها ثلاثاً.
ةقال: لا يصلين أحدكم وهو يدافع الطوف والبول.
وقال في الذبيحة بالعود: كل ما أفرى الأوداج غير مثردٍ.
وأتاه رجل فقال: إني أرمي الصيد فأصمى وأنمى، فقال: ما أصميت فكل، وما أنميت فلا تأكل.
وسئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: أحمزها.
وذكر عبد الملك بن مروان؛ فقال: إن ابن أبي العاص مشى القدمية، وإن ابن الزبير لوى دنيه. وقال: أمرنا أن نبني المساجد جما والمدائن شرفاً.
وقال: قصر الرجال على أربعٍ من أجل أموال اليتامى.
قال سعيد بن جبير: كنا مع ابن عباس بعرفات فقال: يا سعيد، مالي لا أسمع الناس يلبون؟ قلت: يخافون من معاوية؛ فخرج ابن عباس من فسطاطه وقال: لبيك اللهم لبيك. اللهم العنهم فإنهم قد تركوا السنة لبغضهم علياً.
وقال له بعضهم: إن في حجري يتيما، وإن له إبلا في إبلي، فأنا أمنح من إبلي وأفقر. فما يحل لي من إبله؟ فقال: إن كنت ترد نادتها، وتهنا جرباها، وتلوط حوضها؛ فاشرب غير مضر بنسلٍ ولا ناهك حلباً.
وقال: ما رأيت أحداً كان أخلق للملك من معاوية؛ كان الناس يردون عنه أرجاء واد رحب ليس مثل الحصر العقص يعنى ابن الزبير.
ولما استقام رأى الناس علي أب يموسى بصفين أتاه عبد الله بن عباس، فقال له - وعنده وجوه الناس وأشرافهم - : " يا ابا موسى؛ إن الناس لم يرضوا بك، ولم يجتمعوا عليك لفضلٍ لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمقدمين قبلك! ولكن أهل الشام أبوا غيرك، وايم الله إني لأظن ذلك شراً لن ولهم، وإنه قد ضم إليك داهية العرب، وليس في معاوية خصلةٌ يستحق بها الخلافة؛ فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك فيه، وإن تطمع باطله في حقك يدرك حاجته فيك. اعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه من الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة؛ فإن صدقك فقد صرح بخلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه وإن زعم أن عمر وعثمان استعملاه فصدق؛ استعمله عمر وهو الوالي عليه، بمنزلة الطبيب من المريض، يحميه مما يشتهي، ويزجره عما يكره، ثم استعمله عثمان برأي عمر. وما أكثر ما استعملا ثم لم يدعو الخلافة وهو منهم واحدٌ! واعلم أن لعمرو من كل شيءٍ يسرك خبيئاً يسوءك، ومهما نسيت فلا تنس أن علياً بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنها بيعة هدى، وأنه لم يقاتل إلا عاصياً وناكثاً. فقال له أبو موسى: رحمك الله، والله مالي إمامٌ غير علي، وإني لواقفٌ عندما أرى، ولرضا الله أحب إلى من رضا أهل الشام، وما أنا وأنت إلا بالله.
وقال له رجل: إن رجلا من أصحابي يغتابني، فقال: ما من غرةٍ إلا ومن جانبها عرى، وما الذئب في فريسته بأسرع من ابن العم الدني في عرض ابن عمه السري.
ومر برجل ساجد يدعو؛ فقال: هكذا أمرتم فادعوا، وتلا قوله تعالى: " واسجد واقترب " .
وقال: التمسوا الرزق بالنكاح.
وقال: لا غنى بالناس عن الناس، ولكن سل الله أن يغنيك عن شرار الناس.

وقال: إنكم من الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمالٍ محفوظة، من زرع خيراً أوشك أن يحصد رغبةً، ومن عمل شرا أوشك أن يحصد ندامةً، وكل زارعٍ ما زرع. ولا يسبق بطيءٌ بحظه، ولا يدرك حريصٌ ما لم يقدر له بحرصه، ومن أوتى خيراً فالله آتاه، ومن وقى شراً فالله وقاه. المتقون سادةٌ، والعلماء قادةٌ، ومجالستهم زيادة.
وقال: ذللت للعلم طالباً؛ فعززت مطلوباً.
وسئل عن منى - وقيل: عجباً لمنى وضيقه في غير الحج، وما يسع من الحاج، فقال ابن عباس: إن منى ليتسع بأهله كما يتسع الرحم للولد.
وكان يقول: ألذ اللذات الإفضال على الإخوان، والرجوع إلى كفايةٍ. وخير العطية ما وافق الحاجة، وخير المحبة ما لم يكن عن رغبةٍ ولا رهبةٍ.
وقال: لا تمار سفيهاً ولا حليما؛ فإن السفيه يؤذيك والحليم يقليك، واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالحسنات مأخوذٌ بالسيئات.
وقال: لكل داخلٍ دهشةٌ، فابدءوه بالسلام.
وقال: أكرم الناس على جليسي، إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني، وما ادرى كيف أكافئ رجلاً تخطى المجالس فجلس إلى؛ فإنه لا يكافئه إلا الله.

عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وولده
مر بباب قوم، وجاريةٌ تغنيهم؛ فلما سمع غناءها دخل من غير أن استأذن، فرحبوا به، وقالوا: كيف دخلت يا أبا جعفر؟ قال: لأنكم أذنتم لي قالوا: وكيف؟ قال: سمعت الجارية تقول:
قل لكرامٍ ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج
وقال لابنته: يا بنية. إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وإياك والمعاتبة فإنها تورث الضغينة، وعليك بالزينة، واعلمي أن أزين الزينة الكحل، وأطيب الطيب الماء.
وقال: لا تستحي من إعطاء القليل؛ فإن البخل أقل منه.
وربى يماكس وكيله في درهم؛ فقال له قائل: أتماكس في درهمٍ وأنت تجود بما تجود به؟ قال: ذلك مالي جدت به وهذا عقلي بخلت به.
وقال: لا خير ف يالمعروف إلا أن يكون ابتداءً؛ فأما أن يأتيك الرجل بعد تململٍ على فراشه، وأرق عن وسنته، لا يدري أيرجع بنجج المطلب أم بكآبة المتقلب، فإن أنت رددته عن حاجته تصاغرت إليك نفسه، وتراجع الدم في وجهه، تمنى أن يجد في الأرض نفقا فيدخل فيه - فلا.
وأنشد:
إن الصنيعة لا تكون صنيعةً ... حتى تصيب بها طريق المصنع
فقال: هذا شعر رجل يريد أن يبخل الناس... أمطر المعروف مطراً فإن صادفت الموضع الذي قصدت، وإلا كنت أحق به.
وقال له الحسن والحسين رضي الله عنهما: إنك قد أسرفت في بذل المال؛ فقال: بأبي أنتما وأمي! إن الله عودني أن يفضل علي، وعودته أن أفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني.
وافتقد عبد الله صديقاً له من مجلسه، ثم جاءه فقال له: أين كانت غيبتك؟ فقال: خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديقٍ لي؛ فقال له: إن لم تجد من صحبة الرجال بداً فعليك بصحبة من إن صحبته زانك، وإن خففت له صانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن رأى منك خلة سدها، أو حسنةً عدها، وإن أكثرت عليه لم يرفضك؛ إن سألته أعطاك، وإن أمسكت عنه ابتداك.
وامتدحه نصيب، فأمر له بخيل وإبلٍ وأثاث ودنانير ودراهم. فقال له رجل: أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال؟ فقال عبد الله: إن كان المادح أسود فإن شعره أبيض؛ وإن ثناءه لعربي؛ ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى، ومالا يفنى، ومطايا تنضى، وأعطانا مدحاً يروى وثناءً يبقى.
وقيل له: إنك تبذل الكثير إذا سئلت، وتضيق في القليل إذا توجرت؛ فقال: إني أبذل مالي وأضن بعقلي.
قال بديح: كان في أذن عبد الله بن جعفر بعض الوقر إذا سمع ما يكره.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعبد الله بن جعفر وهو صبي يصنع شيئاً من طينٍ من لعب الصبيان، فقال: ما تصنع بهذا؟ قال: أبيعه. قال: ما تصنع بثمنه؟ قال: أشتري به رطباً آكله؛ فقال عليه السلام: اللهم بارك له في صفقة يمينه. فكان يقال: ما اشترى شيئاً قط إلا ربح فيه.
وأخبار عبد الله بن جعفر في السخاء معروفة.
وذكر أن شاعرا أتاه فأنشده:
رأيت أبا جعفرٍ في المنام ... كساني من الخز دراعةً

فقال لغلامه: ادفع إليه دراعتي الخز، ثم قال له: كيف لم تر جبتي المنسوجة بالذهب التي اشتريتها بثلاثمائة دينار؟ فقال له الشاعر: بأبي أنت دعني أغفى فلعلي أراها. فضحك؛ ثم قال: ادفع إليه جبتي، فدفعت إليه.
وذكر أن رجلا جلب إلى المدينة سكراً فكسد عليه؛ فقيل له: لو أتيت ابن جعفر قبله منك وأعطاك الثمن؛ فأتاه فأخبره؛ فأمره بإحضاره، ثم أمر به فنثر وقال للناس: انتهبوا؛ فلما رأى الرجل الناس ينتهبون قال له: جعلت فداك آخذ معهم؟ قال: نعم؛ فجعل الرجل يهيل في غرارته، ثم ثال لعبد الله: أعطني الثمن، فقال: وكم ثمن سكرك؟ قال: أربعة آلاف درهم، فأمر له بها، فقال الرجل للناس: إن هذا ما يدري ما يفعل أخذ أم أعطى، لأطالبنه بالثمن فغدا عليه وقال: ثمن سكري؛ فأطرق عبد الله ملياً ثم قال: يا غلام؛ أعطه أربعة آلاف درهم؛ فقال الرجل: قد قلت لكم إن هذا الرجل لا يعقل أخذ أم أعطى، لأطلبنه بالثمن؛ فغدا عليه وقال: أصلحك الله. ثمن سكري؛ فأطرق ثم رفع رأسه إلى رجلٍ وقال: ادفع إليه أربعة آلاف درهم، فلما ولى الرجل قال له عبد الله: يا أعرابي هذه تمام اثنى عشر ألف درهمٍ فانصرف الرجل وهو يعجب من فعله.
ولما ولى الملك بن مروان جفا عبد الله ورقت حاله؛ فراح يوما إلى الجمعة وهو يقول: اللهم إنك عودتني عادةً جريت عليها؛ فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك، فتوفى في الجمعة الأخرى.
وأوصى إلى ابنه معاوية - وكان في ولده من هو أسن منه، وقال له: إني لم أزل أوملك لها. وكان عليه دين، فاحتال معاوية فيه وقضاه، وقسم أموال أبيه في ولده ولم يستأثر عليهم بشيء.
قال المدائني: وكان عبد الله بن جعفر لا يؤدب ولده ويقول: إن يرد الله بهم خيرا يتأدبوا؛ فلم ينجب فيهم غير معاوية.
ومن ولده عبد الله بن معاوية. وكان من فتيان بني هاشم وسمحائهم وشعرائهم وخطبائهم. دعا إلى نفسه - وقيل دعا إلى الرضا من آل محمد - وغلب على الكوفة، ثم خرج منها إلى فارس، ولبس الصوف وأظهر سيما الخير. وكان يطعن في دينه، وينسب إلى الزندقة واللواط، فغلب على الجبل والرى والأصفهان وفارس والماهين. وقصده بنو هاشم - وفيهم المنصور والسفاح، وعيسى بن علي، ومن بني أمية سلمان بن هاشم بن عبد الملك وغيره؛ فمن أراد عملا ولاه، ومن أراد صلةً وصله؛ فوجه إليه مروان بن محمد عامر بن ضبارة؛ فهرب عبد الله من فارس ولحق بخراسان، وقد ظهر أبو مسلمٍ بها، فأخذه أبو مسلم وحبسه ثم قتله.
وكان جعل عليه عيناً يرفع إليه أخباره؛ فرفع إليه أنه يقول: ليس على الأرض أحمق منكم يا أهل خراسان، في طاعتكم هذا الرجل وتسليمكم إليه مقاليد أموركم منغير أن تراجعوه في ئيءٍ، أو تسألوه عنه. والله ما رضيت الملائكة بهذا من الله عز وجل حتى راجعته في أمر آدم؛ فقالت: " أتجعل فيها من يفس فيها ويسفك الدماء " . حتى قال لهم: " إني أعلم ما لا تعلمون " .
وكتب إلى أبي مسلم من الحبس:

من الأيسر في يديه بلا ذنبٍ إليه ولا خلاف عليه. أما بعد فآتاك الله حفظ الوصية، ومنحك نصيحة الرعية، وألهمك عدل القضية، فإنك مستودع ودائع ومولى صنائع، فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك، فالودائع مرعية، والصنائع عاريةٌ، وما النعم عليك وعلينا فيك بمستور نداها، ولا مبلوغ مداها، فاذكر القصاص، واطلب الخلاص، وأنبه للتفكر قلبك، واتق الله ربك، واعط من نفسك من هو تحتك ما تحب أن يعطيك من هو فوقك من العدل والرأفة والأمن من المخافة. فقد أنعم الله عليك إذ فوض أمرنا إليك؛ فاعرف لنا شكر المودة وأعتقنا من الشدة والرضا بما رضيت، والقناعة بما هويت؛ فإن علينا من ثقل الحديد أذى شديداً، مع معالجة الأغلال، وقلة رحمة العمال، الذين تسهيلهم الغلظة، وتيسيرهم الفظاظة، وإيرادهم علينا الغموم، وتوجيههم إلينا الهموم؛ زيارتهم الحراسةن وبشارتهم الإياسة، فإليك نرفع كربة الشكوى، ونشكو شدة البلوى. ومتى تمل إلينا طرفا وتزودنا منك عطفا تجد عندنا نصحاً صريحاً. ووداً صحيحاً، ولا يضيع مثلك مثله، ولا يتقي مثلك أهله؛ فارع حرمة من أدركت حرمته، واعرف حجة من فلجت حجته؛ فإن الناس من حوضك رواءٌ، ونحن منه ظماءٌ. يمشون في الأبراد، ونحجل في الأقياد، بعد الخير والسعة، والخفض والدعة. والله المستعان وعليه التكلان، صريخ الأخبار ومنجي الأبرار. الناس من دولتنا في رخاءٍ، ونحن منها في بلاءٍ: ؛ حيث أمن الخائفون، ورجع الهاربون، رزقنا الله منك التحنن، وظاهر علينا منك المنن؛ فإنك أمين للمؤمنين مستودع وذائد مصطنعٌ.
وكتب عبد الله إلى بعض إخوانه: أما بعدن فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك. ابتدأتني بلطفٍ عن غير خبرةٍ ثم أعقبتني جفاءً من غير ذنبٍ، فأطمعني أولك في إخائك، وآيسني آخارك من وفائك. فلا أنا في غير الرجاء مجمعٌ لك اطراحاً، ولا أنا في غدٍ وانتظاره منك على ثقة. فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي عن عزيمة الشك في أمرك فأقمنا على ائتلافٍ، أو افترقنا على اختلافٍ. والسلام.
كان عبد الله بن جعفر إذا غنته الجارية يقول: أحسنت إلي والله، وكان يتأثم أن يقول: أحسنت والله.
ووفد على معاوية فأنزله في داره، فقالت له ابنة قرظة امرأته: إن جارك هذا يسمع الغناء فاطلع عليه وجاريةٌ له تغنيه، وتقول:
إنك والله لذو ملةٍ ... يصرفك الأدنى عن الأبعد
وهو يقول: يا صدقكاه! قال ثم قال: اسقيني. قالت: ما أسقيك؟ قال: ماءٌ وعسلاً. فانصرف معاوية وهو يقول: ما أرى بأساً.
فلما كان بعد ذلك قالت له: إن جارك هذا لا يدعنا ننام الليل من قراءة القرآن قال: هكذا قومي؛ رهبان بالليل، ملوكٌ بالنهار.
وقال عبد الله: إن بأهل المعروف من الحاجة إليه أكثر مما بأهل الرغبة منهم فيه؛ وذلك أن حمده وأجره وذكره وذخره وثناءه لهم، فما صنعت من صنيعة أو أتيت من معروفٍ، فإنما تصنعه إلى نفسك، فلا تطلبن من غيرك شكر ما أتيت لي نفسك.
ويروى هذا الكلام لابنه جعفرٍ رضي الله عنه.

علي بن عبد الله بن العباس وولده
قال علي رحمة الله عيه: من لم يجد مس نقص الجهل في عقله، وذلة المعصية في قلبه، ولم يستبن موضع الخلة في لسانه عند كلال حده عن حد خصمه، فليس ممن ينزع عن ريبةٍ، ولا يرغب عن حال معجزة، ولا يكترث لفصل ما بين حجةٍ وشبهةٍ.
وقال: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.
وقال محمد بن علي وذكر رجلا من أهله: إني لأكره أن يكون لعمله فضلٌ على عقله كما أكره أن يكون للسانه فضلٌ على علمه: وقال أبو مسلم: سمعت إبراهيم بن محمد الإمام يقول: يكفي من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.
وكان من الخطباء داود بن علي، وهو الذي يقول: الملك فرع نبعةٍ نحن أفنانها، وذروة هضبةٍ نحن أركانها.
وخطب بمكة فقال: شكراً شكراً، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً، ولا لنبني فيكم قصراً. أظن عدو الله أن لن نظفر به؟ أرخى له في زمامه، حتى عثر في فضل خطامه. فالآن عاد الأمر في نصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، والآن أخذ القوس باريها. وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الحق إلى مستقره، في أهل بيت نبيكم أهل الرحمة والرأفة.

وخطب فقال: أحرز لسانٌ رأسه، اتعظ المرؤ بغيره، اعتبر عاقلٌ قبل أن يعتبر به، فامسك الفضل من قوله، وقدم الفضل من عمله. ثم أخذ بقائم سيفه وقال: إن بكم داءً هذا دواؤه، وأنا زعيمٌ لكم بشفائه. وما بعد الوعيد إلا الوقع، وما بعد التهديد غير إنجاز الوعيد. " وقد خاب من افترى " . " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون " .
ولما قام أبو العباس السفاح في اول خلافته على المنبر، قام بوجهٍ كورقة المصحف، فاستحيا فلم يتكلم، فنهض داود حتى صعد المنبر - قال المنصور: فقلت في نفسي: شيخنا وكبيرنا يدعو إلى نفسه؛ فانتضيت سيفي وغطيته بثوبي؛ فقلت: إن فعل ناجزته - فلما رقى عتباً استقبل الناس بوجهه دون أب يالعباس، ثم قال: يا ايها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله، ولأثر الفعال عليكم أجدى من تشقيق الكلام، وحسبكم كتاب الله متسلى فيكم وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفةً عليكم. والله - قسماً براً لا أريد بها إلا الله - ما قام هذا المقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أحق به من علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا؛ فليظن ظانكم، وليهمس هامسكم.
قال أبو جعفر: ثم نزل فشمت سيفي.
وبلغه وهو بمكة أن قوماً أظهروا الشكاة لأبي العباس، فافترع المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أعذرا غدرا: يا أهل الجبن والتبديل ألم يزعكم الفتح المبين عن الخوض في ذم أمير المؤمنين. كلا والله، حتى تحملوا أوزاركم، ومن أوزار الذين كانو قبلكم. كيف فاهت شفاهكم بالشكوى لأمير المؤمنين؟ بعد أن حانت آجالكم فأرجأها، وانثعبت دماؤكم فحقنها؟ الآن يا منابت الدمن مشيتم الضراء، ودببتم الخمر. أما ومحمدٍ والعباس لئن عدتم لمثل ما بدأتم لأحصدنكم بظبات السيوف. ثم يغني ربنا عنكم، ويستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
مهلاً مهلا يا روايا الإرجاف، وأبناء النفاق، وأنسال الأحزاب وكفوا عن الخوض فيما كفيتم، والتخطي إلى ما حذرتم قبل أن تتلف نفوسٌ، ويقل عذرٌ، ويذل عز. وما أنتم وتلك؟ ولم؟ ألم تجدوا ما وعد ربكم حقاً من إيراث المستضعفين مشارق الأرض ومقاربها؟ بلى، والحجر والحجر. ولكنه حسدٌ مضمرٌ، وحسك في الصدور. فرغماً للمعاطس، وبعداً للقوم الظالمين.
ولما أتى الخبر بقتل مروان بن محمد خطب عيسى بن علي فقال: الحمد لله الذي لا يفوته من طلب، ولا يعجزه من هرب. خدعت والله الأشيقر نفسه، أو ظن أن الله ممهله؟ " ويأبى الله إلا أن يتم نوره " .
فحتى متى؟ وإلى متى؟ لقد كذبتهم العيدان التي افترعوها، وأمسكت السماء درها، والأرض ريقها، وقحل الزرع، وجفر فنيق الكفر، واشتمل جلباب الشرك، وأبطلت الحدود، وأهدرت الدماء، وكان ربك بالمرصاد، " فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقبها " .
وانتاشكم عباد الله لينظر كيف تعملون. فالشكر الشكر عباد الله؛ فإنه من دواعي المزيد. أعاذنا الله وإياكم من نفثات الفتن.
وخطب عبد الله بن علي لما قتل مروان بن محمد فقرأ: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " .
ركض بكم يا أهل الشام آل حربٍ وآل مروان، يتسكعون بكم الظلم، ويخوضون بكم مداحض المراقي، ويوطئونكم محارم اله ومحارم رسوله. فما يقول علماؤكم غدا عند الله؟ إذ يقولون: " ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار " . فيقول: " لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون " .
أما أمير المؤمنين فقد أسف بكم إلى التوبة، وغفر لكم الزلة، وبسط لكم الإقالة بفضله. فليفرج روعكم، وليعظكم مصارع من كان قبلكم. فهذه الحتى منكم مضرعةٌ، وبيوتهم خاويةٌ بما ظلموا، والله لا يحب الظالمين.
ثم نزل عن المنبر، وصعد صالح بن علي بعده فقال: يا أهل النفاق، وعمد الضلالة، أعزكم لين الإبساس وطول الإيناس، حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حد، وخور قناةٍ. فإذا استوبأتكم العافية فعندي نكالٌ وفطام، وسيفٌ يعض بالهام.
ومن خطب داود: أيها القوم. حتى متى يهتف بكم صريخكم؟ أما آن لراقدكم أن يهب من رقدته؟ بلى و " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " . طال الإمهال حتى حسبتموه الإهمال. هيهات كيف يكون ذلك والسيف مشهورٌ؟ لا والله، حتى يجوسكم خلال الديار.
حتى تبيد قبيلةٌ وقبيلةٌ ... ويعض كل مهند بالهام

ويقمن ربات الخدور حواسراً ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام
ولما خرج داود إلى مكة والياً حم في بعض طريقه، فكان يدعو الله ويقول: يا رب. الثأر ثم النار.
قال عبد الصمد بن علي: كنت عند عبد الله بن علي في عسكره بالشام لما خالف المنصور ودعا إلى نفسه، وكان أبو مسلم بإزائه يقاتله، فاستؤذن لرسول أبي مسلم عليه، فاذن له، فدخل رجلٌ من أهل الشام فقال له: يقول لك الأمير: علام قتالك إياي وأنت تعلم أني أهزمك؟ فقال له: يا بن الزانية، ولم تقاتليني عنه وأنت تعلم أنه يقتلك؟ قال العباس بن محمدل بن علي للرشيد: يا أمير المؤمنين. إنما هو سيفك ودرهمك، فازرع بهذا من شكرك، واحصد بهذا من كفرك.
ولما ضرب عبد الله بن علي أعناق بني أمية قال قائل: هذا والله جهد البلاء فقال عبد الله: ما هذا وشرطة الحجام إلا سواءٌ. إنما جهد البلاء فقرٌ مدقعٌ بعد غنى موسع.
وقال محمد بن علي: كفاك من عم الدين أن تعرف ما لايسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروى الشاهد والمثل.
كتب المنصور إلى صالح بن علي أن يطلب بشر بنعبد الواحد بن سليمان ابن عبد الملك ويقتله. فأتى به إلى صالح، فقال له: قد كان لأبي خالد عندنا بلاء يشكر. قال بشر: فلينفعني ذلك عندك. قال: أما مع كتاب أمير المؤمنين فلا بد من قتلك. ولكني أقدم الساعي بك، فأضرب عنقه بين يديك، وأعطي الذي اشتمل عليك ألف دينار؛ ففعل ذلك ثم قتله.
أوصى العباس بن محمد معم ولده فقال: إني قد كفيتك أعراقه فاكفني آدابهم. اغذهم بالحكمة فإنها ربيع القلوب، وعلمهم النسب والخبر؛ فإنه أفضل علم الملوك، وابدأهم بكتاب الله، فإنه قد خصهم ذكره، وعمهم رشده، وكفى بالمرء جهلاً أن يجهل فضلاً عنه آخذ. وخذهم بالإعراب فإنه مدرجة البيان، وفقههم في الحلال والحرام فإنه حارسٌ من أن يظلموا، ومانع من أن يظلموا.
كان داود بن علي يقول: المعرفة شكرٌ، والحمد نعمةٌ يجب فيها الشكر.
وخطب سليمان بن علي فقال: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالون " . قضاءٌ فصلٌ، وقولٌ مبرمٌ، فالحمد لله الذي صدق عبده، وأنجز وعده، وبعداً للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضاً، والدين هزوا، والفئ إرثا، والقرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا يستهزئون وكأين ترى من بئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مشيد، بما قدمت أيديهم، وما الله بظلام للعبيد. أمهلهم حتى اضطهدوا العترة، ونبذوا السنة، " وخاب كل جبارٍ عنيد " ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزاً " .
وكان أبوهم علي بن عبد الله بن العباس سيداً شريفاً بليغاً، وكان يقال إن له خمسمائة أصل زيتون، يصلى في كل يوم إلى كل أصلٍ منها ركعتين، فكان يدعى ذا الثفنات، وكان عبد الملك بن مروان يكرمه.
وضربه الوليد مرتين بالسوط، إحداهما في تزوجه لبابة بنت عبد الله ابنجعفر، وكانت عند عبد املك فطلقها، وذلك لأنه عض تفاحةً ثم رمى بها إليها - وكان أبخر - فدعت بسكينٍ. فقال لها: ما تصنعين بها؟ فقالت: أميط عنها الأذى، فطلقها، فتزوجها بعده علي، فضربه الويد، وقال: إنما تتزوج أمهات أولاد الخلفاء لتضع منهم كما فعل مروان ابن الحكم بأم خالد بن يزيد بن معاوية.
وأما ضربه إياه في الكرة الثانية فروى عن بعضهم قال: رأيت علياً مضروبا بالسوط يدار به على بعيرٍ، وجهه مما يلي ذنب البعير، وصائحٌ يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله بن العباس الكذاب، فأتيته فقلت له: ما هذا الذي سنبونك إليه من الكذب؟ قال: بلغهم قولي إن هذا الأمر سيكون في ولدي. والله ليكونن حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون، العراض الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة.
وروى أنه دخل على هشام ومعه ابنا ابنه الخليفتان أبو العباس وأبو جعفر، فلما ولى قال هشام: إن هذا الشيخ قد اختل وأسن، وصار يقول: إن هذا الأمر سنتقل إلى ولده، فسمع ذلك عليٌ فالتفت إليه وقال: إي والله، ليكونن ذلك وليملكن هذان.

وروى أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه: ما بال أب يالعباس لم يحضر؟ فقيل له: ولد له مولود. فلما صلى قال: امضوا بنا إليه. فأتاه فهنأه، فقال: شكرت الواهب فبورك لك الموهوب. ما سميته؟ قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه، فأمر به فأخرج إليه فأخذه وحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال: خذه إليك أبا الأملاك. قد سميته علياً وكنيته أبا الحسن. فلما قام معاوية بالأمر قال لابن عباس: ليس لكم اسمه وكنيته. لكم الاسم ولي المنية، وقد كنيته أبا محمد، فجرت عليه.
أشرف عبد الله بن علي وهو مستخفٍ بالبصرة عند أخيه سليمان بن علي فرأى رجلا له جمالٌ يجر ثيابه ويتبختر، فقال: من هذا؟ قالوا: فلان الأموي. فقال يا أسفا. وإن في طريقنا بعد منهم لوعثاء.
وقال لمولى له: بحقي عليك إلا جئتني برأسه. ثم أنشد قول سديف:
علام وفيم يترك عبد شمسٍ ... لها في كل راعية ثغاء
فما في القبر في حران منها ... ولو قتلت باجمعها وفاء
فمضى مولاه إلى سليمان وأخبره بما قال: فنهاه سليمان فعاد إليه واعتل بأنه فاته.
حدث ابن عائشة أن امرأة من نساء بن يأمية قالت لعبد الله بن علي: قتلت من أهلي وذويهم اثنى عشر ألفاً فيهم لحيةٍ خضبةٍ.
ودخلت ابنة مروان عليه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: لست به. فقالت: السلام عليك أيها الأمير. قال: وعليك السلام. فقالت: ليسعنا عدلكم. قال: إذاً لا يبقى على الأرض منكم أحدٌ؛ لأنكم حاربتم علي بن أبي طالب ودفعتم حقه وسممتم الحسن ونقضتم شرطه، وقتلتم الحسين وسيرتم رأسه، وقتلتم زيداً وصلبتم جسده، وقتلتم يحيى بن زيد ومثلتم به، ولعنتم علي بن أبي طالب على منابركم وضربتم علي بن عبد الله ظلماً بسياطكم، وحبستم الإمام في حبسكم، فعدلنا ألا نبقي أحدا منكم. قالت: فليسعنا عفوكم. قال: أما هذه فنعم. ثم أمر برد أموالهم عليها ثم قال:
سننتم علينا القتل لا تنكرونه ... فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر
حدث بعضهم قال: رحت عشيةً من قريةٍ بطريق مكة مع عبد الله بن حسن، فضمنا المسير وداود وعيسى وعبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس قال: فسار عبد الله وعيسى أمام القوم فقال داود لعبد الله بن حسن: لم لا تظهر محمدا؟ فقال عبد الله: لم يأت الوقت الذي يظهر فيه محمد بعد، ولسنا بالذين نظهر عليهم، وليقتلنهم الذي يظهر قتلاً ذريعا. قال: فسمع عبد الله بن علي الحديث، فالتفت إلى عبد الله بن حسن وقال: أبا محمد
سيكفيك الجعالة مستميتٌ ... خفيف الحاذ من فتيان حزمٍ
أنا والله الذي أظهر عليهم وأقتلهم وانتزع ملكهم.
كتب عيسى بن موسى بن علي بنعبد الله إلى المنصور كتابا جوابا عن كتاب له إليه يسومه تقديم المهدي بالعهد عليه والبيعة له: فهمت كتاب أمير المؤمنين المزيل عنه نعم الله، والمعرض لسخطه بما قرب من القطيعة، ونقض به الميثاق أوجب ما كان الشكر لله عليه. وألزم ما كان الوفاء له، فأعقب سيوغ النعم كفراً، وأتبع الوفاء بالحق غدرا، وأمن الله أن يجعل ما مد من بسطته إختبارا، وتمكينه إياه استدراجاً، وكفى بالله من الظالم منتصرا وللمظلوم ناصراً، ولا قوة إلا بالله، وهو حسبي وإليه المصير.
ولقد حزبتك أمورٌ يا أمير المؤمنين لو قعدت عنك فيها، فضلاً عن معونتك عليها، لقام بك القاعد، ولطال عليك القصير. ولقد كنت واجداً فيها بغيتي، وآمنا معها نكث بيعتي، فلزمت الطريقة بالوفاء إلى أن أوردتك شريعة الرجاء، وما أنا يائسٌ من انتقام الله، ورفع حلمه فوق وتحت وبعد ذلك.
بدت لي أمارتٌ من الغدر شمتها ... أظن رواياها ستمطركم دما
وهي أبيات.
وكتب إليه أياضا لما هدده بأهل خراسان بالقتل إن لم يخلع نفسه: لو سامني غيرك ما سمتني لاستنصرتك عليه، ولاستشفعت بك إليه، حتى بقر الحزم مقرة، وينزل الوفاء منزلته، ونحن أول دولة يستن بعملنا، وينظر إلى ما اخترناه منها، وقد استعنت بك على قومٍ لا يعرفون الحق معرفتك، ولا يلحظون العواقب لحظك. فكن لي عليهم نصيراً، ومنهم مجيراً، يجزك جزائك عن صلة الرحم وقطع الظلم إن شاء الله.
وكتب إليه أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم

" والموفون بعهدهم إذا عهدوا والصابرين في البأسآء والضرآء وحين البأس " . وقال عز وجل: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا " .
قرأت كتاب أمي رالمؤمنين وتفهمته، وأمعنت النظر فيه كما أمر وتبحرته، فوجدت أمير المؤمنين إنما يزيدني لينقصني، ويقربني ليبعدني، وما أجهل ما لي في رضاه من الحظ الجزيل، والأثر الخطير. ولكن سامني ما تشح به الأنفس وتبذل دونه، وما لا يسمح به والدٌ لوالده ما دام له حظ. وقد علم أمير المؤمنين أنه يريد هذا الأمر لابنه لا له، وهو صائرٌ إليه أشغل ما يكون عنه، وأحوج إلى حسنةٍ قدمها وسيةٍ احتنبها. ولا صلة في معصية الله، ولا قطيعة ما كانت في ذات الله. وقد دعيت إلى ما لا صبر عليه وما لم ير غيري أجاب إليه، من حل العقد ونقض العهد، وهذا هشام بن عبد الملك، ملك عجز دولةٍ طالت أيامهم فيها، وكثرت صنائعهم بها. فلم يمت حتى حضر بين يديه عشرةٌ من ولده، أسغرهم في سن من يريد أمير المؤمنين رفعه بوضعي وصلته بقطعي، فلم ير أن ينقض ما عقده أخوه يزيد بن عبد الملك لابنه الوليد بن يزيد بعده، وهو يقاسي منه عنتاً، ويتجرع له غيظاً، خوفاً على الملك، وإشفاقاً من الملك، وحذراً من مغبة الظلم وتأسيس الغدر، حتى سلم إليه الأمر أغض ما كان وأنضره - ورآه غالبا على أمره موكلاً بخزائنه، وروحه بعد في جسه، ولسانه دائرٌ في فمه، وأمره نافذٌ في رعيته. لو تقدم بسوءٍ فيه لأسرع به إليه، فكان أكثر ما عنده لما عرف، وامتلأ بأصحابه داره - تحسرا وتأسفاً: إنا لله. لا أراني إلا خازناً للوليد إلى اليوم. اللهم أنت لي، فقد حضر أجلي على سوءٍ من عملي.
وما هشامٌ بأعلم من أمير المؤمنين بالله، ولا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا أمضى أمير المؤمنين بهذا سنةً في حداثة ملك وأوائل دولةٍ، لا يؤمن أن يستن به ولده ويقع منه ما تلاقى له، ولا بقيا معه وأمير المؤمنين يعلم أن من جعل هذا الأمر إليه وله، منغير شرط فيه عليه - محكمٌ في تدبيره، مخبر في تصريفه، ولا شرط على في تسليم المر من بعدي إلى أحد ذكر ولا شخص عين، وقد جعلته لمحمد بعدي، طالبا بذلك رضا أمير المؤمنين، وتابعاً موافقته، وتاركاً مخالفته؛ فإن رأى أمي رالمؤمنين أن يرعى سالفتي وقرابتي، ويعرف اجتهادي ومناصحتي، ويذكر مخالطتي وكفايتي، ويقبل ذلك مني، ويأمر بكف الذى عني فعل إن شاء الله.
فكتب إليه المنصور جواباً أغلظ فيه وخوفه بادرة أهل خراسان فأنعم له بما أراد من تقديم المهدي على نفسه، ثم سأله المهدي لما أفضى الأمر إليه أن يخلع نفسه ويجعل العهد لموسى ابنه، ففعل. وكان يقول: ما لقى أحدٌ ما لقيت. كل أهلي أمنوا بعد خوفٍ، وأنا خفت بعد أمن، وسممت مرتين، وخلعت مرتين. مع قديم بلائي، وطول غنائي.
كان عبد الملك بن صالح والياً للرشيد على الشام. فكان إذا وجه سريةً إلى أرض الروم أمر عليها أميرا شهما، وقال له: اعلم أنك مضارب الله بخلقه؛ فكن بمنزلة التاجر الكيس، إن وجد ربحا تجر، وإلا احتفظ برأس المال، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرا من احتيال عدوك عليك.
وولى العباس بن زفر الثغر،فودعه فقال يا عباس: إن حصن المحارب من عدوه حسن تدبيره، والمقاتل عنه جليد رأيه وصدق بأسه؛ وقد قال ابن هرمه:
يقاتل عنه الناس مجلود رأيه ... لدى البأس، والرأي الجليد مقاتل
وقال له الرشيد مرة وقد غضب عليه: يا عدي الملك، والله ما أنت لصالح بولدٍ. قال: فلمن أنا؟ قال: لمروان بن محمد، أخذت أمك وهي حبلى بك، فوطئها على ذاك أبوك فقال عبد الملك: فحلان كريمان، فاجعلني لمن شئت منهما.
وهذا شبيهٌ بما قاله مروان بن محمد حين بلغه أن الناس يقولون إن هذه الشجاعة التي لأمير المؤمنين لم تكن لأبيه ولا لجده، وإنما جاءته من قبل إبراهيم بن الأشتر - فإن أمه كانت له، وصارت لمحمد بن مروان - وهي حاملٌ - بعده - فقال: ما أبالي الفحلين كنت، كلاهما شريفٌ كريم.
وقال الرشيد مرةٌ لعبد الملك: كيف هو أوكم بمنبج؟ قال: سحرٌ كله.

وقال عبد الرحمن التيمي: قال لي عبد الملك: يا عبد الرحمن؛ كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص من على التماسه بالكلام. فقد قيل: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم. ولا تساعدني على قبيحٍ، ولا تردن على في محفل، وكلمني بقدر ما استنطقتك واعلم أن حسن الاستماع أحسن من حسن القول. فأرني فهمك في نظرك، واعلم أني جعلتك جليساً مقرباً، بعد أن كنت معلماً مباعداً. ومن لم يعرف نقصان ماخرج منه لم يعرف رجحان ما دخل فيه.
ولما دخل الرشيد إلى منبج قال لعبد الملك: أهذا البلد منزلك؟ قال: هو لك ولي بك. قال: وكيف بناؤك به؟ قال: دون منازل أهلي وفق منازل غيرهم. قال: فكيف صفة مدينتك هذه؟ قال هي عذبة الماء، باردة الهواء، قليلة الأدواء. قال: فكيف ليلها؟ قال: سحرٌ كله. قال: صدقت إنها لطيبةٌ. قال: لك طابت، وبك كملت، أين بها عن الطيب؟ وهي تربةٌ حمراء، وسنبلةٌ صفراء، وشجرةٌ خضراء، أفياف فيحٌ بين قيصوم وشيح. فقال الرشيد لجعفر بن يحيى: هذا الكلام أحسن من الدر المنظوم.
وروى أن صالح بن علي قال لعبد الملك ابنه وه صبي ما بلغ الحلم - في شيء فعله: أتاك هذا من قبل أمك الزانية، فقال: " والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ " . ثم ولى مغضباً وهو يقول:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فكل قرينٍ بالمقارن يقتدى
ولما ولى الرشيد عبد الملك المدينة قيل ليحيى بن خالد: كيف ولاه المدينة من بين اعماله؟ قال: أحب أن يباهى به قريشا، ويعلمهم أن في بني العباس مثله.
وسمع عبد الملك أصوات الحرس بالليل لما خرج من الحبس في أيام المين، فقال للسندي: ما هذا العار الذي ألزمته السلطان؟ حق بلدان الملوك أن تضبط بالهيبة لا بكثرة الأعوان.
ووجه عبد الملك إلى الرشيد فاكهةً في أطباق خيزران وكتب إليه: أسعدك الله أمير المؤمنين وأسعد بك، دخلت بستاناً لي، أفادنيه كرمك، وعمرته لي نعمك، وقد أينعت أشجاره، وآتت أثماره، فوجهت إلى أمير المؤمنين من كل شيءٍ شيئاً على الثقة والإمكان، في أطباق القضبان، ليصل إلى من بركة دعائه، مثل ما وصل من كثرة عطائه.
فقال رجل: يا أمي رالمؤمنين، ما سمعت أطباق القضبان، فقال الرشيد: يا أبله، إنما كنى عن الخيزران إذ كان اسماً لأمنا.
عاتب عبد الملك يحيى بن خالد في شيءٍ، فقال له يحيى: أعينك بالله أن تركب مطية الحقد. فقال عبد الملك: إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشر لأهلهما عندي إنهما لباقيان. فلما ولى قال يحيى: هذا خير قريش. احتج للحق حتى حسنه في عيني.

خطبة يوم الجمعة لمحمد بن سلمان بن علي
" وكان لا يغيرها " الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق " ليظهره علىالدين كله ولو كره المشركون " . من اعتصم بالله ورسوله فقد اعتصم بالعروة الوثقى، وسعد الآخرة والأولى ومن لم يعتصم بالله ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه؛ فإنما نحن به وله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعه، وأرضى لكم ما عند الله، فإن تقوى الله أفضل ما تحاث عليه الصالحون وتداعوا إليه، وتواصوا به. واتقوا الله ما استطعتم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
وكان محمدٌ من رجال بني هاشم وشجعانهم، وأمه وأم أخيه جعفر وأخته زينب أم حسنٍ بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وكان له خمسون ألف مولى أعتق منهم عشرين ألفاً.
وخرج يوما إلى باب داره بالمربد في عشيةٍ من عشايا الصيف، فرأى الحر شديدا، فقال: رشوا هذا الموضع، فخرج من داره خمسمائة عبد بخمسمائة قربةٍ مملوءة ماء، فرشوا الشارع حتى أقاموا الماء فيه.
وكانت غلته في كل يوم مائة ألف درهم، وسمع دعاؤه في السحر اللهم أوسع علي؟ فإنه لا يسعني إلا الكثير.
ولما مات امنصو بمكة، وتلوى الناس على الربيع في تجديد البيعة للمهدي، جرد محمد سيقه، وقال: والله لئن امتنع أحدٌ منكم عن البيعة لأرمين برأسه، فبادروا إلى البيعة، فشكر المهدي ذلك فرفعه وزوجه ابنته العباسة، ونقلها إليه، وهي أول بنت خليفةٍ نقلت من بلدٍ إلى بلد.

ولما أراد أن يدخل بالعباسة شاور كاتبه حماداً في اللباس الذي يلبسه في كل يوم، فأشار عليه بألا يتصنع، ويقتصر على ما كان يلبسه في كل يوم، فلم يقبل منه، وعمد إلى ثياب دبيقية كأنها غرقى البيض فلبسها، فرأتها عليه، فلما كان الغد دخل عليها وإذا هي في دارٍ قد فرشت بالدبيقى الذي يشابه ما لبس أو يزيد عليه، فعلم أن كاتبه كان قد نصحه وتمثل:
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ... فلم تستبينوا الرش إلا ضحى الغد
وكان يتصدق في كل سنةٍ بخمسائة ألف درهمٍ، ويوم الفطر بمائة ألف وفي كل يوم بكرين من الدقيق.
ولم يكن له ولدٌ إلا بنتٌ واحدة، وماتت قبله، فذكر أنه قال: أشتهى والله أن يصفو لي يومٌ لا يعارض سروري فيه هم.
وكان جعفر أخوه يقول: لا تمتحن هذا فقل من امتحنه إلا امتحن فيه. فجلس يوما وأحضر جميع من يحب حضوره، فبينا هو على أتم أمرٍن وأسر حالٍ إذ سمع صراخا، فسأل عنه، فكتم، فألح، فعرف أن ابنته - ولا ولد له غيرها - صعدت درجةً فسقطت منها فماتت. فلم يف سروره صدر نهاره بما عقب من غمه؛ فكان يقول كثيرا:
تفردت بالكمال ... وبالعز والجلال
وملكٍ بلا نفادٍ ... نراه ولا زوال.
وشبيه بهذا ما اتفق على يزيد بن عبد الملك فإنه أحب أن يخلص له يومٌ بأن تطوى عنه الأخبار، وأجلس حبابة عن يمينه، وسلامة عن يساره، يشرب وتغنيان، فلما صليت العصر شربت حبابة قدحا، وتنقلت بحب رمانٍ فشرقت به وماتت، فكمد عليها يزيد، ومات بعد خمسة عشر يوما.
وكان جعفر بن سليمان نهاية في الجلالة والشرف، ولى المدينة للمنصور بعد انقضاء أمر محمد وإبراهيم. فأعطى الأموال. ووصل الشعراء وأمن الناس، وشفع فيهم. ويقال إنه سقط من ظهره إلى الأرض ما به نسمةٌ من ذكرٍ وأنثى.
قال الأصمعي: ما رأيت أكرم أخلاقاً ولا أشرف فعالاً من جعفر بن سليما؛ فتغدينا معه فاستطاب الطعام. فقال لطباخه: قد أحسنت وسأعتقك وأزوجك. فقال الطباخ: قد قلت يا سيدي هذا غير مرة وكذبت. قال: فو الله ما زاد على أن ضحك. وقال لي: يا أصمعي. إنما يريد البائس " وأخلفت " قال الأصمعي: وإذا هو قد رضى بأخلفت.
ذكر الصمعي أن ابن ميادة امتدح جعفر بن سليمان فأمر له بمائة ناقة، فقبل يده وقال: والله ما قبلت يد قرشي غيرك إلا واحداً. فقال: أهو المنصور؟ قال: لا والله. قال: فمن هو؟ قال الوليد بن يزيد فغضب، وقال: والله ما قبلتها لله. قال: ولا يدك والله قبلتها لله، ولكن قبلتها لنفسي. فقال: والله لا ضرك الصدق عندي. أعطوه مائة ناقة أخرى.
غزا اسماعيل بن صالح بن علي فرأى غلاماً من أبناء المقيمين بطرسوس من أملح الناس وآدبهم، فاستصحبه، فقال له الغلام: بلغني أن فيك ملة قال إسماعيل: هي في لها. فضحك الغلام وقال: الآن طابت صحبتك. فصحبه.
دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون بعد موت أبيه عبد الملك - وقد أمر بقبض ضياعهم - فقال - وهو غلام أمرد: السلام عليك يا أمير المؤمنين. محمد بن عبد الملك، سليل نعمتك، وابن دولتك، وعصنٌ من أغصان دوحتك، أتأذن له في الكلام؟ قال: نعم. تكلم. فحمد اله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، ثم قال: نسأل الله لحياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أقصانا وأدنانا ببقائك يا أمير المؤمنين، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا، وفي أثرك من آثارنا.
ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، هذا مقام العائذ بك تحت ظلك، الهارب إلى كنفك وفضلك، الفقير إلى رحمتك وعدلك.
فوصله وأمر برد ضياع أبيه على ورثته.
ومدح أبو تمام محمد بن عبد الملك، فقال في قصيدة:
أمت بنا عيسنا إلى ملك ... نأخذ من ماله ومن أدبه
فقال له محمد: كأني بك قد قلت:
نأخذ من ماله ونسخر به
فلجلج أبو تمام فقال: يا بن الفاعلة. لقد كنت أستقل لك مائة ألف درهم. وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وكان العباس بن محمد بن علي من مشايخ بني هاشم، وكان أسرى أهل عصره، وكان لبسه من الثياب التي ينسجها أولاد عبيده، وكذلك جميع ما يفرشه، ولا يخدمه في سائر خدمته غيرهم، وكان لا يأكل من النخل ومن سائر الفواكه إلا ما كان من غرسه.

وكان ابنه إسحق يرمي بالواط. وحج مرة فرجع الناس وهم يتحدثون بأن غلاماً له كان يعادله نهارا، فإذا كان الليل صار معه في شق محمل، ووضعت حيالهما صخرة بوزنهما.
ورأى أبوه العباس يوما غلاما له، وقد كشف الريح قباءه، فإذا عليه سراويل وشي إسكنرداني منسوجٍ بالذهب فقال لاسحق: أكان العباس ابن عبد المطلب لوطياً؟ قال: معاذ الله. قال: أفعبد اله بن العباس؟ قال: معاذ الله. قال أفعلي بن عبد الله؟ قال: لا والله. قال: أفعرفت في شيئاً منها؟ قال: المير أجل ديناً ومروءةً من ذاك. قال: فما دعاك إليه؟ قال: مكذوبٌ على بما يضاف إليه مني. قال: والله ما كسا أحدٌ غلامه هذه الكسوة إلا وهو مريب. فأراد إٍحق أن يحلف فقال له: لا تحلف. فواللله لئن لم يكن هذا لما اتهمت به إنه لأعظم قبحاً منه. فأمسك وتب إلى الله. قال: أنا تائب إلى الله من جميع الذنوب.
قال العباس: قبح الله ابنهرمة، فلقد حرمنا من أمير المؤمنين خيراً كثيراً. كنا نساله الشيء فيأباه، فنعاوده فيه فيفعل ما نريد حتى قال ابن هرمة:
إذا ما أتى شيئاً، مضى كالذي أتى ... وإن قال إني فاعلٌ فهو فاعل.
فكان إذا عاودناه في شيءٍ قال لنا: فلست إذاً كما قال ابنهرمة، وأنشد هذا البيت، وكان يشاورنا في اموره إلى أن قال ابنهرمة:
إذا ما أراد الأمر ناجى ضميره ... فناجى ضميراً غير مضطرب العقل
ولم يشرك الدنين في جل رأيه ... إذا اضطربت بالحائرين قوى الحبل
فخضنا بالقول في ألا يشاورنا، فكان لا يشاورنا بعد ذلك.
كان عبد الصمد بن علي ثقيل الرجل، لا يقدم على أحد من أهل بيته إلا مات، فقدم على أخيه سليمان بن علي بالبصرة، فاعتل ومات، فصلى عليه، ثم رحل، وقدم البصرة بعد مدة ومحمد بن سليمان صحيحٌ، فاعتل يوم قدومه ومات، فصلى عليه، ثم قدم وجعفر بن سليمان صحيح، فاضطرب وقال: لأمر ما قدم عمي، فاعتل، واشتد جزعه، ثم عوفى، فتصدق بمائة ألف دينارٍ.
ولما مات عبد الصمد قال الرشيد: الحمد لله الذي أمات عنوان الموت. لا يحمل عمي غيري. فكان أحد حملته إلى حفرته.
وقد روى أيضاً أنه مات جعفر، وقد قدم عليه عبد الصمد وأن إسماعيل ابن جعفر كان يقول: ما رأيت أشأم منه، وإنه عمي في ذلك الوقت. فقال إسماعيل: أخذنا بعض ثأرنا.
وولى عبد الرحمن بن جعفر اليمن، وكان وعد أبا زيد، عمر بن شبة أن يحسن إليه إذا ولي. فلما ولي قال: يا أبا زيد، ليس بعد اليمن شيء وكان يرسل بالبرود وغيرها، فيقال له: اذكر أبا زيد. فيقول: أبو زيد إلى الدنانير أحوج؛ فلما طال ذلك كتب إليه: قد رضيت من ولايتك بشراك نعلٍ. قال عمر: فكتب إلى: ما رأيتك في شيء أعقل منك في هذا علمت ما تستحق فرضيت به.

كان جعفر بن سليمان بن علي يشغف بجاريةٍ كانت من أحسن فتيات عصرها وجهاً وغناءً وضرباً، ثم اشتراها بعشرة آلاف دينار، ومائتي ناقة، وأربعة أعدٍ من النوبة يرعونها - فإن مولاتها استامت فيها ذلك - وحظيت عنده وولدت منه سيد أهله في زمانه أحمد بن جعفر. وكان بلغ عبد الملك بن صالح شغفه بها، فكتب إليه: خصك الله يا أخي بالتنبه على حظك، وأقبل بك إلى رشدك، وأنقذك من شر هوى نفسك. إني لما نأت عني دارك، وانقطعت أخبارك استهديت ممن يراعى أمورك ما انطوى عني من تصرفك في أحوالك، لأن نفسي لم تزل موكلةً بالشفقة عليك، والمراعاة لأمورك. فأتاني عنك أنك سمحت بنفسك وجليل قدرك، ونبيه ذكرك، وعالي شرفك وما ورثته من دينك ومروءتك عن سلفك، في طاعة هواك، وأنك وهبت كلك لمن لم يهب بعضه لك، وآثرت لذة امتزج ظاهرها بموافقتك وكمنت في عواقبها المكارة لك. فليتك إذ طغت نفسك، ولم تجنح ما يزينك أغليت السوم بنفسك، وصرفتها إلى من يستحقك. ولئن كنت رأيت ما بذلته من نفسك وافياً بقيمة من سمحت به له، لقد رأيت نفسك بعين غير صادقة التخيل، وقومتها بقيمةٍ مبخوسة القدر، فليت شعري من أين أتاك سوء الاختيار؟ أمن طاعتك التصابي؟ أم منقبولك مشروة وسيط. فلعمري إنه لضد الناصح الأمين. أم أحدثت لك هذا الرأي سورة الشراب، وارتياح الطرب، والإصغاء إلى اقتران غزل الشعر بنغم الأوتار، وامتزاج رقيق المعاني بسحر الأغاني؟ فلقد حكمت غير العدل، وآثرت غير المستحق للأثرة. وهلا فكرت في أنك قد ملكت قيادك قينة أنت بالتهمة لها أولى من الثقة بها. ولم حملتها على الشاذ من وفاء القيان؟ ولم تتحرز فيها من مشهور غدرهن. أما والله لئن راجعت رأيك، وتدبرت مشورتي عليك لتعلمن أني لك أنصح من نفسك ومن نضحائك، ولئن أقمت على تماديك إن المصيبة بك لعظيمةٌ مع عظم قدرك في أنفسنا، وسعة آمالنا لك وبك وفيك. والله يوفقك لما هو أولى بك وأشبه بقدرك والسلام.
فلما وصلت إلى جعفر هذه الرسالة أقامته وأقعدته. ولم يقدر على إجابة عبد الملك بشيء، وكان بينهما خصوصٌ ولصوقٌ شديدٌ فباعها.
أمر المهدي عبد الصمد بن علي أن يقسم في أهل مكة مائة ألف درهم، فحواها ولم يعطهم شيئاً. فلما عزل وخرج صرخوا به: " أيتها العير إنكم لسارقون " . فقال ياأولاد الزنا. ماذا تفقدون؟ قالوا: مائة ألف درهم أمرك أمير المؤمنين بقسمتها في أهل مكة. فقال أنا البطحاء وأنا مكة وأنا زمزم، فإذا قسمتها في داري فقد قسمتها في أهل مكة.
ولعبد الصمد عجائب منها: أن أسنانه كانت قطعة واحدةً، ودخل قبره بأسنانه التي ولد بها؛ لم ينبت له سن ولم يثغر.
ومنها أنه حج بالناس في سنة سبعين ومائة. وحج يزيد بن معاوية بهم سنة خمسين وبينهما مائة وعشرون سنة، وهما في القعدد سواء في النسب إلى عبد مناف.
ومنها أنه دخل سربا فطارت ريشتان فلصقتا بعينيه، فذهب بصره.
ومنها أنه كان يوما عند الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مجلسٌ فيه عمك، وعم عمك وعم عم عمك، يعني سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس بن محمد عم المهدي وهو عم سليمان، وعبد الصمد وهو عم العباس وعم المنصور.
قيل: إن أم عبد لاصمد هي كثيرة التي قال فيها ابن الرقيات
عادله من كثيرة الطرب
وكان مستترا عندها في اول خلافة عبد الملك وأحسنت إليه ويجب أن تكون ذلك الوقت امرأة برزة.
ومات عبد الصمد في سن خمس وثمانين ومائة، وبين ذلك وبين استتارة مائة وعشرون سنة وقيل هو أول من سمى عبد الصمد.
قال الجاحظ: لما أتى عبد الملك بن صالح وفد الروم وهو في البلاد أقام على رأسه رجالا في السماطين لهم قصر وهامٌ، ومناكب وأجسامٌ، وشوارب وشعورٌ، فبينما هم قيامٌ يكلمونه، ووجه رجلٍ منهم في قفا البطريق إذ عطس عطسة ضئيبةً فلحظه عبد الملك فقلم يدر أي شيء أنكر عليه، فلم خرج الوفد قال له: ويلك. هلا إذ كنت ضيق المنخركز الخيشوم اتبعتها بصيحةٍ تخلع بها قلب العلج.
وقال: ما الناس إلى شيء أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعارفون الكلام، ويتعاطون البيان، ويتهادون الحكم، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون منها. إن الكلام فاضٍ يحكم بين الخصوم، وضياءٌ يجلو الظلم حاجة الناس إلى مواده كحاجتهم إلى مواد الإغذية.

وقال الجاحظ: حدثني إبراهيم بن السندى، قال: سمعت عبد الملك يقول بعد إخراج المخلوع له من حبس الرشيد - وذكر ظلم الرشيد له، وإقدامه عليه. وكان يأنس به، ويشق بمودته وعقله. والله إن الملك لشيءٌ ما نويته ولا تمنيته ولا تصديت إليه ولا تبعته. ولو أردته لكان أسرع إلى من السيل إلى الحدور، ومن النار في يابس العرفج وإني لمأخوذٌ بما لم أجن، ومسئولٌ عما لا أعرف، ولكن حين رآني للملك أهلاً، ورأى للخلافة خطراً وثمناً، ورأى أن لي يداً تنالها إذا مدت وتبلغها إذا بسطت، ونفسا تكمل لها بخصالها وتسحقها بخلالها، وإن كنت لم أختر تلك الخصال، ولا اصطنعت تلك الخلال، ولم ارشح لها في سر، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحن إلى حنين الواله، وتميل نحوي ميل الهلوك. وخاف أن ترغب إلي خيرٍ مرغب. وتنزع إلى أحصن منزع، عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها، ونصب في التماسها وتقدر لها بجهده، ونهيأ لها بكل حيله. فإن كان إنما حبسني على أني أصلح لها لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنبٍ فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحط نفسي عنه. فإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من أعطايه إلا بأن أخرج له من الحلم والعلم، ومن الحزم والعزم، فكما لا ستطيع المضياع أن يكون حافظاً كذلك العاقل لا يستطيع أن يكون جاهلاً. وسواء عاقبني على عقلي وعلمي أم على نسبي وسبي، وسواء عاقبني على خلالي أو على طاعة الناس لي. ولو أردتها لأعجلته عن التفكر، ولشغلته عن التدبر، ولما كان فيه من الخطار إلا اليسير، ومن بذل الجهد إلا القليل.
تم الجزء الأول بحمد الله.
//بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأنطقنا بأفصح الكلام، وأنقذنا من ظلمة الشرك، وحيرة الشك بمحمد نبيه خير الأنام، وعترته الأعلام صلى الله عليه وعليهم صلاة يستحقها بفضله وكرامته، ويستحقونها بقرباه وولادته.
اللهم كما اجتبيته من خلقك، وهديته بهديك ووفقته لأداء حقك، وأكرمته برحيك، وأيدته بنصرك، وأرسلته إلى الأحمر والأسود من أهل أرضك، بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، على حين فترة من الرسل، وحيرة من أهل الملل، وتحريف منهم للمتلو عليهم المنزّل، وحين رفع الشرك معالمه، وشيّد قوائمه ودعائمه، ونشر في الأفق خوافيه وقوادمه، وطبق منه الأرض طخياء لا يلمع لها نار، ولا يرفع بها منار، قد تبع أهله الشيطان فأرادهم، وأطاعوه فأغواهم، فعبدوا الأوثان من دونك، وجعلوا لك شركاء من خلقك، فصدع عليه السلام بأمرك، وقام بفرضك ودعا إلى طاعتك، ونهى عن معصيتك وبشر برحمتك، وأنذر بسطوتك وندب الخلق إلى ما شهدت به لنفسك، وشهدت به ملائكتك لك: أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، ولم يزل يدعو إلى دينك حتى بلغ ضوءه، ثم استطار شعاعه، ونجم روقه، ثم امتد رواقه، واخضل نداه، ثم استبحر غديره، واخضر ثراه، ثم استداح شكيره، وحتى ظهر على الدين كله ولو كره الكافرون.
اللهم كما فعل ذلك فافعل به ما هو أهله، وأوله ما يستحقه، واحفظه في سنته، بحفظها على أمته، واخلفه فيها وفيهم بالإظهار والإدامة، كما وعدته إلى يوم القيامة، واجزه عن عبادك جزاء من أنقذهم من النار، وأنجاهم وهم على شفا جرف هار.
اللهم أنت الجواد الواحد، لا تعدم فتبخل، والحليم القادر لا تفات فتعجل، عليك التكلان، وأنت المستعان، وبك التوفيق والعصمة، ومنك الحول والقوة، وفضلك المرجوّ، وعدلك المخوف.
اللهم فلا تتجاوز بذنوبنا الفضل إلى العدل، وبأعمالنا العفو إلى الجزاء، واغفر لنا بإحسانك الذي وسع جميع الخلائق، ولا تكلنا إلى ما نستحقه بأعمالنا فإنا لا نصبر على الحق، إليك المشتكي من أنفسنا الأمارة بالسوء، المتبابعة لكل عدو، من هوى يردى، وشيطان يغوى، وأمل يضر، وعمل يغر، وزخارف دنيا أولها غرور، وآخرها هباء منثور. فأعنا على أنفسنا بعصمتك، وأعذنا من كيد الشيطان برحمتك، واجعل قولنا وفعلنا سددا، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، ويسرنا لليسرى، واختم لنا بالحسنى، فلا قنوط من رحمتك، ولا يأس من روحك، إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون.

هذا هو الفصل الثاني من كتاب نثر الدر، وكنا وعدنا أن نخلط الجد بالهزل، والجيد بالرذل، والحكم بالملح، والمواعظ بالمضاحك، ليكون ذلك استراحة للقارئ، تنفى عنه الملل والسآمة، وتشحذ الطبع والقريحة، وتروح القلب، وتشرح الصدر، وتنشر الخاطر، وتذكى الفهم، فإن القلب إذا أكره عمي، والخاطر إذا مل كلّ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق " . وقال عليه السلام: " بعثت بالحنيفية السهلة " . وقال علي: لا بأس بالفكاهة يخرج بها الرجل من حد العبوس. وكان ابن عباس إذا أكثر عليه من مسائل القرآن والحديث يقول: " أحمضوا " يريد: خذوا في الشعر وأخبار العرب. وقال أبو الدرداء: " إني لأجم نفسي بشيء من الباطل ليكون أقوى لها على الحق " . وفي حديث زيد بن ثابت " أنه كان من أفكة الناس إذا خلا مع أهله، وأزمتهم في المجلس " . وقال عطاء بن السائب: " كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا، وربما يقص علينا حتى يضحكنا " . وقال الزهري: " الأذن مجاجة، وللنفس حمضة " .
وبعد، فإن الذي يأتي في أثناء هذا الكتاب من الهزل ربما صار داعية لطالبه إلى أن يتصفح ما قبله من الجد، فيعلق منه بقليه ما ينتفع به، ويذوق حلاوة ثمرته، ويعرف به قبح ضده، حتى يصير ذلك لطفاً في النزوع عن تماديه في غيّه، وتهوكه في هزله، وأدنى ما فيه أن يتنزه عن مثله، ويتحامى أن يبدر منه ما عيب على غيره من فعله، فليس يخلو ذلك من نادرة ماجن لا يتحاشى من باطله، أو فلتة مغفل يرمى غير غرضه. وأخليت الفصل الأول من هذه النوادر والملح؛ لأني كرهت أن أفصل بها بين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعترته، وبين كلام أصحابه وحفدته، الذين واسوه بأنفسهم وأموالهم، وأطاعوه في أقوالهم وأفعالهم، وهجروا له أوطانهم وبلادهم، وقاتلوا معه إخوانهم وأولادهم، ووقوه بأنفسهم حر الجلاد، وجاهدوا معه في الله حق الجهاد، حتى ظهر دين الله، وعلت كلمة الله، وحتى وضح الصبح لذي عينين، ببدر وأحد وحنين.
فقدمت كلام أبي بكر الصديق، إذ كان المتقدم لكل ذي صحبة، والسابق الأول من غير كبوة، قاتل أهل الردة الكفار، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأتبعته بكلام عمر بن الخطاب القوي الأمين، الذي لم تغمز قناته في ذات الله، ولم تأخذه هوادة في دين الله، درت عليه أفاويق الدينا، وألقت إليه كنوز القرون الأولى، فقبض ولم يقبض، وقضم ولم يخضم، ورضف ولم يعب، حتى فارقها خميص البطن من حطامها، خفيف الظهر من آثامها.
ثم كلام عثمان بن عفان ذي السابقة والصهر الكريم، وجامع القرآن والذكر الحكيم.
ثم أوردت لمعاً من كلام سائر الصحابة من غير تقديم للأفضل فالأفضل، ولا ترتيب للأقدم فالأقدم والأقرب فالأقرب، بل على ما اتفق وبحسب ما اتسق. وذكرت مواعظ ونكتاً من كلام عمر بن عبد العزيز، فإنه وإن لم يدرك شأو المذكورين، فإنه غبر في وجوه أهله المطعونين، وكلامه أشبه بكلام الصدر القديم، وأحرى ألا يكون مصدره إلا عن الصدر السليم.
وختمت الفصل بأبواب تشتمل على نوادر مليحة، ومضاحك لطيفة.

الفصل الثاني
وهذا الفصل يشتمل على عشرة أبواب: الباب الأول: كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
الباب الثاني: كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الباب الثالث: كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه.
الباب الرابع: كلام سائر الصحابة رحمهم الله ورضي عنهم.
الباب الخامس: كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
الباب السادس: مزح الأشراف والأفاضل.
الباب السابع: الجوابات المستحسنة جداً وهزلاً.
الباب الثامن: نوادر المتنبئين.
الباب التاسع: نوادر المدينيين.
الباب العاشر: نوادر الطفيليين والأكلة.
الباب الأول من الفصل الثاني:
في كلام أبي بكر الصديق
رحمة الله عليه ورضى الله عنه:

خطب يوماً، فلما فرغ من الحمد لله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك " . فرفع الناس رؤوسهم. فقال: ما لكم معاشر الناس؟ إنكم لطعانون عجلون، إن الملك إذا ملك زهده الله فيما في يديه، ورغبه فيما في يدي غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويتسخط الكثير، ويسأم الرخاء، وتنقطع عنه لذة البهاء، لا يستعمل الغيرة، ولا يسكن إلى الثقة. هو كالدرهم القسي، والسراب الخادع، جذل الظاهر، حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه، ونضب عمره، وضحا ظلّه، حاسبه الله، فأشد حسابه، وأقل عفوه.
ألا إن الأمراء هم المحرومون، إلا من آمن بالله، وحكم لكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنكم اليوم على خلافة نبوه، ومفرق محجة، وسترون بعدي ملكاً عضوضاً، وملكاً عنوداً، وأمة شعاعاً، ودماً مفاحاً، فإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر، وتموت السنن، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر. أي بلادكم خرشنة؟ فإن الله سيفتح عليكم أقصاها، كما فتح عليكم أدناها.
ومن كلامه أنه أخذ يوماً بطرف لسانه وقال: هذا الذي أوردني الموارد.
وقدم وفد من اليمن عليه، فقرأ عليهم القرآن فبكوا فقال: " هكذا كنا حتى قست القلوب " . وقال: " طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام " .
ولما قال أحباب بن المنذر يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، إن شئتم كررناها جذعة. منا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجري شيئاً في الأنصاري رد عليه الأنصاري، وإن عمل الأنصاري شيئاً في المهاجري رد عليه المهاجري.
فأراد عمر الكلام، فقال أبو بكر: على رسلك. نحن المهاجرون، وأول الناس إسلاماً، وأوسطهم داراً وأكرم الناس أحساباً وأحسنهم وجوهاً، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسهم رحماً برسول الله صلى الله عليه وسلم. أسلمنا قبلكم وقدمنا في القرآن عليكم، فأنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو. آويتم وواسيتم ونصرتم، فجزاكم الله خيراً. نحن الأمراء وأنتم الوزراء. لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، وأنتم محقوقون ألا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما ساق الله إليهم.
ومن كلامه ذلك اليوم: نحن أهل الله، وأقرب الناس بيتاً من بيت الله، وأمس الناس رحماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، إن هذا الأمر إن تطاولت له الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت له الأوس لم تقصر عنه الخزرج، وقد كان بين الحيين قتلى لا تنسى، وجراح لا تداوى، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي الأسد يضغمه المهاجري، ويجرحه الأنصاري. قال ابن دأب: فرماهم الله بالمسكتة.
حدث سفيان بن عيينة لما قال عمر لأبي بكر: استخلف غيري. قال أبو بكر: ما حبوناك بها، وإنما حبوناها بك. ثم أنشد سفيان قول الحطيئة:
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الإثر
وقيل له في مرضه: لو أرسلت إلى الطبيب! قال: قد رآني. قيل: فما قال؟ قال: قال إني أفعل ما أشاء.
وقال لخالد بن الوليد حين أخرجه إلى أهل الردة: احرص على الموت توهب لك الحياة.
أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفاً أبا بكر، فكان الرجل يلقى أبا بكر فيقول: من هذا بين يديك؟ فيقول: يهديني السبيل. يعني الحق.
ولما أسلم قالت قريش: قيضوا لأبي بكر رجلاً يأخذه. فقيّضوا له طلحة بن عبيد الله، فأتاه وهو في القوم فقال: يا أبا بكر إليّ. قال: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى. فقال أبو بكر: من اللات والعزى؟ قال: بنات الله. قال: فمن أمهن؟ فسكت. وقال لأصحابه: أجيبوا صاحبكم. فسكتوا فقال طلحة: يا أبا بكر فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فأخذ أبو بكر بيده، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسلم.
ولما استخلف أبو بكر قال للناس: شغلتموني عن تجارتي فافرضوا لي. ففرضوا له كل يوم درهمين.
ولما أرادوه على البيعة قال: علام تبايعونني، ولست بأقواكم ولا أتقاكم؟ أقواكم عمر، وأتقاكم سالم. وكان إذا مدح يقول: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأنا أعلم منهم بنفسي، اللهم اجعلني خيراً مما يحسبون، واغفر مالا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.

وعهد عند موته فكتب: هذا ما عهد أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برّ وعدل فذاك علمي به، ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: دخلت عليه في علته التي مات فيها، فقلت: أراك بارئاً يا خليفة رسول الله. فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي، إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه. والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي ما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حق خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. يا هادي الطريق جرت، إنما هو والله الفجر أو البجر.
فقلت: خفّض عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا يهيضك إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحاً مصلحاً لا تأسى على شيء فتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلا خيراً.
بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أقواماً يفضلونه على أبي بكر رضي الله عنه، فوثب مغضباً حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم أقبل على الناس فقال: إني سأخبركم عني وعن أبي بكر: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، ومنعت شاتها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد أن قلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده اللهم بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بالعرب. فقال أبو بكر: أو كلكم رأيه هذا؟ فقلنا: نعم. فقال: والله لأن أخرّ من السماء فتخطفني الطير أحب إليّ من أن يكون هذا رأيي.
ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وكبره، وصلى على النبي عليه السلام، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس؛ من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. أيها الناس؛ ألأن كثر أعداؤكم وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟ والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون. قوله الحق ووعده الصدق: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون " و " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " .
أيها الناس. لو أفردت من جمعكم لجاهدتم في الله حق جهاده حتى ابلغ من نفسي عذراً، أو أقتل مقتلاً. أيها الناس؛ لو منعوني عقالاً لجاهدتم عليه، واستعنت بالله فإنه خير معين.
ثم نزل فجاهد في الله حق جهاده حتى أذعن العرب بالحق.
وقال لأبي بكر رجل: والله لأشتمنك شتماً يدخل معك قبرك. قال: " معك يدخل والله لا معي " .
وقال: والله إن عمر لأحب الناس إليّ. ثم قال: كيف قلت؟ فقالت عائشة: قلت: والله إن عمر لأحب الناس إليّ. فقال: اللهم أعزّ الولد ألوط.
ومر بعبد الرحمن ابنه وهو يماظّ جاراً له، فقال: لا تماظّ جارك فإنه يبقى ويذهب الناس.
وشكي إليه بعض عماله، فقال: أنا اقيد من وزعة الله؟ وكان من كلامه في خطبته يوم الجمعة: الوحاء الوحاء النجاء النجاء. وراءكم طالب حثيث مره سريع. تفكروا عباد الله، فيمن كان قبلكم: أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الشباب الوضاء المعجبون بشبابهم، صاروا كلا شيء. أين الملوك الذين بنوا الحوائط واتخذوا العجائب؟ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، وهم في ظلمات القبور، " هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً " أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ تضعضع بهم الدهر وصاروا رميماً. أين من كنتم تعرفون من آبائكم وأبنائكم، وإخوانكم وقراباتكم؟ وردوا على ما قدموا، وخلوا يالشقاوة والسعادة فيما بعد الموت.
اعلموا عباد الله أن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه خيراً، ولا يدفع عنه ضراً إلا بطاعته، واتباع أمره. فإن أحببتم أن تسلم دنياكم وآخرتكم فاسمعوا وأطيعوا، ولا تفرقوا فتفرق بكم السبل، وكونوا إخواناً كما أمركم الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

لما قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. قال أبو بكر رضي الله عنه: إنا معشر هذا الحي من قريش أكرم الناس أحساباً، وأثقبهم أنساباً، ثم نحن بعد عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خرج منها، وبيضته التي تفقأت عنه، وإنما جيبت العرب عنا كما جيبت الرحا عن قطبها.
وقال له عبد الرحمن ابنه: لقد أهدفت لي يوم بدر فضفت عنك، فقال له أبو بكر: لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك.
ورأى أبا ذر فحنا عليه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قال فيك، فأعوذ الله أن أكون صاحبك.
وقال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزل: " من يعمل سوءاً يجز به " فاقرأنيها، فلا أعلم إلا وجدت لها انقصاماً في ظهري حتى تمطيت لها.
ومر بحسن بن علي رضي الله عنهما يلعب مع الصبيان فاحتمله. وقال: بأبي شبيه النبي ليس بشبه لعلي.
وقام عمر يوم الحديبية وأنكر الصلح، فقال أبو بكر: استمسك بغرزه، فإنه على الحق.
وخطب فقال: إنكم تقرءون هذه الآية " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب " .
وقال لعائشة: انظري ما زاد في مالي مذ دخلت هذه الإمارة فرديه إلى الخليفة بعدي، فإني كنت نشحتها جهدي إلا ما كنا نصيب من ودكها.
وقال في خطبة: تعلموا أن أكيس الكيس التقي، وأن أعجز العجز الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى أعطيه حقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. أيها الناس؛ إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإذا أحسنت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني.
وقال في خطبة: إنكم في مهل وراءه أجل، فبادروا في مهل آجالكم، قبل أن تقطع آمالكم فتردكم إلى سوء أعمالكم.
وخطب فقال: أوصيكم بتقوى الله، أن تتقوه، وتثنوا عليه بما هو أهله، إنه كان غفاراً، وأن تخلصوا لله اليقين فيما بلغكم في كتابه، فإنه أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين " . ثم اعلموا عباد الله أن قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي. هذا كتاب الله بينكم، لا يطفأ نوره، ولا تنفد عجائبه، فاستنصحوا كتابه، واتبعوا كلامه، واستضيئوا منه ليوم ظلمتكم، فإنما خلقكم لعبادته، وأمركم بطاعته، وقد وكل بكم كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون.
ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضى آجالكم وأنتم في عمل الله فافعلوا، ولن تنالوا ذلك إلا بالله. سارعوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي أعماركم فيريكم سوء أعمالكم.
وقال في خطبة له في الردة: والله لا نبرح نقوم بأمر الله، ونجاهد في سبيل الله حتى ينجز لنا وعده، ويفي لنا بعهده، فيقتل من يقتل منا شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفة في أرضه. وعد الصدق لا خلف له، قال الله عز وجل: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " . فانهضوا عباد الله إلى ما دعاكم الله إليه من غنيمته، وسارعوا إلى ما وعدكم من جنته وأستغفر الله لي ولكم.
وأوصى خالد بن الوليد حين خروجه إلى اليمامة فقال: يا خالد، إنك تخرج مجاهداً، دينك ودنياك بين عينيك، وقد وهبن نفسك لله عز وجل، ثم أعطاك عليها فربحت تجارتك ببياعتك. فسر إلى عدو الله على بركة الله، واعلم أن خير الأمرين لك أبغضهما إليك.
وقال لعكرمة حين وجهه إلى عمان: سر على بركة الله، ولا تنزلن على مستأمن، ولا تؤمنن على حق مسلم. وقدم النذر بين يديك. ومهما قلت إني فاعل فافعل، ولا تجعل قولك لغواً في عفو ولا عقوبة، فلا ترجى إذا أمنت، ولا تخاف إذا خوفت، ولكن انظر متى تقول وما تقول، ولا تعذب على معصية بأكثر من عقوبتها، فإنك إن فعلت اثمت، وإن تركت كذبت، ولا تؤمّنن شريفاً دون أن يكفل بأهله، ولا تكلّفنّ ضعيفاً أكثر من نفسه، واتق الله إذا لقيت، وإذا لقيت فاصبر.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي أكثر مما أوتي فقد صغّر عظيماً. يقول الله عز وجل: " ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم " .

وقال لما احتضر لعمر: يا عمر، إن لله حقاً بالليل لا يقبله إلا بالليل، وإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضته، فكن مؤمناً راغباً راهباً، فلا ترغبن رغبةً تمنى على الله عز وجل فيها ما ليس لك، ولا ترهبنّ رهبة تلقى بها بيديك إلى التهلكة.
ثم قال: إن أول ما أحذرك نفسك وهؤلاء الرهط من المهاجرين، فإنهم قد انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم، وتمنى كل امرئ منهم لنفسه. وإن لهم نحيرة ينحرونها عن زلة منه ومنهم، فلا تكوننه، فإنهم لن يزالوا فرقين منك ما فرقت من الله عز وجل فيما بيّن لك.
وروي أنه قال: إني مستخلفك من بعدي، وموصيك بتقوى الله، فإن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلةً حتى تؤدى فريضته، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفّت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً. إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم أقول: إني أرجو أن أكون من هؤلاء، وذكر أهل النار فذكرهم بأسوء أعمالهم ولم يذكر حسناتهم، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأخاف أن أكون من هؤلاء. وذكر الرحمة مع آية العدل ليكون العبد راغباً راهباً لا يتمنى على الله عز وجل غير الحق، ولا يلقي بيده إلى التهلكة. فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، وهو آتيك، وإن أضعت وصيتي فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجز الله عز وجل.
وروي أنه لما أراد الوصية قال لعثمان: اكتب. فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة في أول عهده بالآخرة داخلاً فيها. وآخر عهده بالدنيا خارجاً منها، حيث يصدق الكاذب، ويؤمن الكافر الجاحد: إني استخلفت عليكم من بعدي. قال: ثم أدركته غشية، فلما أفاق قال: ما كتبت؟ قلت: كتبت عمر بن الخطاب. قال: موفّقاً رشيداً، أما إنك لو تركته ما عذرتك.
وكان إذا عزى رجلاً قال: ليس مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة، والموت اشد ما قبله وأهون ما بعده، واذكروا فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم تذل عندكم مصيبتكم، وعظم الله أجركم.
ومر به رجل ومعه ثوب، فقال: أتبيع الثوب؟ فقال: لا، عافاك الله. فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد علمتم لو تعلمون. قل: لا، وعافاك الله.
وقال: أربع من كن فيه كان من خيار عباد الله: من فرح للتائب، واستغفر للمذنب، ودعا للمدين، وأعان المحسن على إحسانه.

الباب الثاني:
من كلام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه:
قال رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بعد أن حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه، ثم نزل.
وكتب إلى أبي موسى الشعري، وهي رسالته المشهورة في القضاء: سلام عليك. أما بعد؛ فإن الفضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرم حلالاً.
لا يمنعك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عقلك، وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحقق، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهى إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاد أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والأيمان.

وإياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات؛ فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذخر. فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله. فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته؟.
واستكتب أبو موسى نصرانياً فكتب إليه عمر: اعزله واستعمل حنيفياً. فكتب إليه أبو موسى: إن من غنائه وخبره كيت وكيت. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: ليس لنا أن نأتمنهم وقد خونهم الله، ولا أن نرفعهم وقد وضعهم الله، ولا أن نستنصحهم في الأمر وهم يرون الإسلام قد وترهم، ويعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
فكتب إليه أبو موسى: إن البلد لا يصلح إلا به.
فكتب إليه عمر رضي الله عنه مات النصراني والسلام.
وقال: ما كانت على أحد نعمة إلا وكان لها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لوجد له غامزاً.
وقال: تمعددوا واخشوشنوا، واقطعوا الركب وانزوا على الخيل نزواً، واخفوا وانتعلوا فإنكم لا تدرون متى الجفلة.
وقال: أملكوا العجين، فإنه أحد الريعين.
وقال: إذا اشتريت بعيراً فاشتره ضخماً، فإنه إن أخطأك خيره لم يخطئك سوقه.
وقال: لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، واستعينوا عليهن بالعري.
وسأل رجلاً عن شيء، فقال: الله أعلم. فقال عمر رضي الله عنه: قد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم. إذا سئل أحدكم عن شيء لا يعلمه فليقل: لا أدري.
وقال رضي الله عنه: المرأة البكر تحتاج إلى خدمة كالبرة تطحنها وتعجنها وتخبزها ثم تأكلها، والثيب عجالة الراكب: تمر وسويق.
وخرج يستسقي، فصعد المنبر، فلم يزل يستغفر لا يزيد على ذلك، فلما نزل قيل له: ما رأيناك استسقيت. قال: بلى. قد أخذت بمجاديح السماء.
وقال رضي الله عنه: كانت العرب أسداً في جزيرتها يأكل بعضها بعضاً، فلما جمعهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يقم لها شيء.
وقال: عوّدوا نساءكم " لا " فإن " نعم " تضريهنّ على المسألة.
وقال لابنة هرم بن سنان: ما وهب أبوك لزهير؟ قالت: أعطاه مالاً وثياباً وأثاثاً أفناه الدهر. فقال عمر رضي الله عنه: لكن ما أعطاكموه لا يفنيه الدهر.
ومن كلامه: إذا لم أعلم ما لم أر، فلا علمت ما رأيت.
وكتب إلى معاوية: أما بعد؛ فإني لم آلك في كتابي إليك خيراً. إياك والاحتجاب دون الناس، وأذن للضعيف، وأدنه حتى ينبسط لسانه، ويجترئ قلبه، وتعهّد الغريب، فإنه إذا طال حبسه وضاق إذنه ترك حقه، وضعف قلبه، وإنما أقوى حقه من حبسه، واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء، وإذا حضرك الخصمان بالبينة العادلة والأيمان القاطعة فأمض الحكم.
وقال: أشيعوا الكنى فإنها منبهة. ومرّ برجل من عماله، وهو يبني بالآجر والحصى، فقال: تأبى الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. وشاطره ماله.
وقال رضي الله عنه لغلام له يبيع الحلل: إذا كان الثوب عاجزاً فانشره وأنت جالس، وإذا كان واسعاً فانشره وأنت قائم. فقال أبو موسى: الله يا عمر! قال: إنما هي سوق.
وقال رضي الله عنه: إذا تناجى القوم في دينهم دون العامة فهم على تأسيس ضلالة.
وقال لابن عباس: يابن عباس، أنت ابن عم رسول الله، وأبوك عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. قال: بخ بخ. فما منع قومكم منكم؟ قال: لا أدري، فوالله ما كنا لهم إلا بالخير. قال: اللهم غفراً على كره قومكم أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة، فتذهبون في السماء شمخاً. لعلكم تقولون: إن أبا كر أول من فعل ذلك. والله ما فعله، ولكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل، ولولا رأي أبي بكر فيّ لجعل لكم من الأمر نصيباً، ولو فعل ما هنأكم مع قومكم، إنهم ينظرون إليكم كما ينظر الثور إلى جازره.
وكان يقول: ليت شعري متى اشفي غيظي؟ أحين أقدر فيقال: لو عفوت، أم حين أعجل فيقال: لو صبرت.
وكان يقول: أكثروا شراء الرقيق فربّ عبد يكون أكثر رزقاً من سيّده.
وبلغه اعتراض عمرو بن العاص على سعد، فكتب إليه: لئن لم تستقم لأميرك لأوجهن إليك رجلاً يضع سيفه في رأسك، فيخرجه من بين رجليك. فقال عمرو: هددني بعلي والله.
ومر على رماة غرض، فسمع أحدهم يقول لصاحبه: أخطيت وأسيت. فقال عمر رضي الله عنه: مه، فإن سوء اللحن أشد من سوء الرماية.

وقال في خطبة له: إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرءاً فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه.
وقال رضي الله عنه: بئس الجار الغني، يأخذك بما لا يعطيك من نفسه، فإن أبيت لم يعذرك.
وقال له المغيرة: أنا بخير ما أبقاك الله، فقال: أنت بخير ما اتقيت الله.
وكان إذا كتب إلى أهل الكوفة كتب: رأي العرب، ورمح الله الأطول.
ولما ولى عبد الله من مسعود قال له: يا ابن مسعود، اجلس للناس طرفي النهار، واقرأ القرآن وحدث عن السنة وصالح ما سمعت من نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وإياك والقصص، والتكلف، وصلة الحديث، فإذا انقطعت بك الأمور فاقطعها، ولا تستنكف إذا سئلت عما لا تعلم أن تقول: لا أعلم، وقل إذا علمت، واصمت إذا جهلت، وأقلل الفتيا، فإنك لم تحط. بالأمور علماً، وأجب الدعوة ولا تقبل الهدية، وليست بحرام، ولكني أخاف عليك القالة. والسلام.
وخطب رضي الله عنه؛ فقال: إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسم، مؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم فهو أبعد من السرف، واصح للبدن، وأقوى على العبادة، وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
وكتب إلى معاوية: الزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق.
ونظر رضي الله عنه إلى أعرابي يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوجني الحور العين، فقال عمر: أسأت النقد، وأعظمت الخطبة.
وقال إبراهيم بن ميسرة، قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي الزوائد: ما يمنعك من التزوج إلا عجز أو فجور.
وجلس رجل إلى عمر رضي الله عنه فأخذ من رأسه شيئاً فسكت عنه. ثم صنع به ذلك يوماً آخر، فأخذ بيده، وقال: ما أراك أخذت شيئاً. فإذا هو كذلك. فقال رضي الله عنه: انظروا إلى هذا صنع بي مراراً، إذا أخذ أحدكم من رأس أخيه شيئاً فليره. قال الحسن: نهاهم والله عن الملق.
وقال عمر رضي الله عنه على المنبر: اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، إنه لن يبلغ من حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إذا استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرم البهيمة الأعرابية: القضم لا الخضم.
وكتب إلى عبد الله رضي الله عنه: أما بعد. فإنه من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده. فعليك بتقوى الله، فإنه لا ثواب لمن لا نية له، ولا مال لمن لا رفق له، ولا جديد لمن لا خلق له.
وقال رضي الله عنه: لا تصغرن هممكم، فإني لم أر شيئاً أقعد بالرجل من سقوط همته.
سئل الأحنف: أي الطعام أحب إليك؟ فقال: الزبد والكمأة. فقال عمر: ما هما بأحب الطعام إليه، ولكنه يحب الخصب للمسلمين.
وقال رضي الله عنه: إني لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إليّ من أن أرى فيه عجوزاً لا أعرفها.
وأتي بنائحة قد تلتلت، فقال: أبعدها الله إنه لا حرمة لها، ولا حق عندها، ولا نفع معها. إن الله عز وجل أمر بالصبر وهي تنهى عنه، ونهى عن الجزع وهي تأمر به، تريق دمعتها وتبكي شجو غيرها، وتحزن الحي وتؤذي الميت.
وفي كتاب له إلى أبي موسى: فإياك - عبد الله - أن تكون بمنزلة البهيمة، نزلت بوادٍ خصب، فلم يكن لها هم إلا السمن، وإنما حتفها في السمن. واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقيت به رعيته.
وقال يوماً: دلوني على رجل أستعمله على أمر قد دهمني. فقالوا: كيف تريده؟ قال: إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم. فقالوا: ما نعلمه إلا الربيع بن زياد الحارثي. فقال: صدقتم. هو لها.
وذكر له غلام حافظ من أهل الحيرة، وقالوا: لو اتخذته كاتباً. قال: لقد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين.
ولما أتي بتاج كسرى وسواره جعل بقلبهما بعود في يده ويقول: والله إن الذي أدى هذا الأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله، يؤدون إليك ما أديت إلى الله، فإذا رتعت رتعوا.

وقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس. اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه لن يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله. ألا وإنه لن يبعد من رزق، ولن يقرب من أجل أن يقول المرء حقاً، وأن يذكر بعظيم. ألا وإني ما وجدت صلاح ما ولاّني الله إلا بثلاث: أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله. ألا وإني ما وجدت صلاح هذا المال إلا بثلاث: أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل. ألا وإنما أنا في مالكم كوالي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف تقرم البهيمة الأعرابية.
وبعث إليه بحلل فقسمها، فأصاب كل رجل ثوب، فصعد المنبر وعليه حلة - والحلة ثوبان - فقال: ايها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع. قال: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: لأنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حلة. فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله. يا عبد الله؛ فلم يجبه أحد. فقال: يا عبد الله بن عمر؛ فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. فقال: نشدتك الله. الثوب الذي اتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم. فقال سلمان: أما الآن فقل نسمع.
وحضر باب عمر رضي الله عنه جماعة: سهيل بن عمرو، وعيينة بن حصين، والأقرع بن حابس، فخرج الآذن فقال: أين صهيب: أين عمار؟ أين سلمان؟ فتمعرت وجوع القوم. فقال سهيل: لم تتسعر وجوهكم؟ دعوا ودعينا، فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الآخرة أكثر.
وروي أن عمر رضي الله عنه كان يأخذ بيده اليمنى من الفرس أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه ويثب فكأنما خلق على ظهر فرسه.
وقال عمر رضي الله عنه: السيد الذي هو؛ الجواد حين يسأل، والحليم حين يستجهل، والبارّ بمن يعاشر.
وبلغه أن سعداً واصحابه قد بنوا بالمدر، فكتب إليه: كنت أكره لكم البنيان بالمدر، أما إذ فعلتم فعرّضوا الحيطان، وأطيلوا السمك، وقاربوا بين الخشب.
وقال: رحم الله امرءاً أمسك فضل القول، وقدم فضل العمل.
وقال رضي الله عنه: من دخل على الأغنياء، خرج وهو ساخط على الرزق.
وناول رجلاً شيئاُ فقال له: خدمك بنوك. فقال: بل أغناني الله عنهم.
أهدى أبو موسى لعمر رضي الله عنه ألواناً من الأخبصة، فقال: ما هذا؟ قال: الخير قبلنا كثير، والمئونة تخف علينا. قال: أطرفت أحداُ من أهل المدينة بشيء من هذا؟ قال: لا. قال: إياك أن تراه أغيلمة قريش؛ فيضيقوا عليكم بلادكم.
وقيل له رضي الله عنه: أخبرنا عن أيام جاهليتك. فقال: ما داعبت أمة، ولا جالست إلا لمةً وما دابت إلا في حمل جريرة، أو خيل مغيرة. أما أيام الإسلام فكفى برغائها مناديا.
واستعمل ابن علقمة على عمل، فشيعه، فقال ابن علقمة: يا أمير المؤمنين إن معنا سفرة. فقال عمر: ابدؤوا بالحلوى، واجعلوا الدسم يلي النبيذ.
ومن كلامه: النساء عورة، فاستروا عوراتكم بالبيوت، وداووا ضعفهن بالسكوت، وأخيفوهن بالضرب، ولا تسكنوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، واستعينوا عليهن بالعري، وأكثروا لهن من قول: لا، فإن نعم تضريهن على المسألة.
وقال رضي الله عنه: رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي.
ولما أطلق الحطيئة من محبسه قال: إياك والشعر. قال: مأكلة عيالي. قال: قل وإياك والمدح المجحف. قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أن تقول بنو فلان خير من بني فلان. قال: أنت والله أشعر مني.
قالوا: أول من خاطب ب " أطال الله بقاءك " عمر، قاله لعليّ بن أبي طالب عليه السلام.
ونظر إلى أبي بن كعب وقد تبعه قوم، فعلاه بالدرة، وقال: إنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع.
وسأله عبد الرحمن أن يلين للناس، فقال: إن الناس لا يصلح لهم إلا هذا، ولو علموا ما لهم عندي لأخذوا ثوبي من عاتقي.
وقيل له: كان الرجل يظلم في الجاهلية، فيدعو على ظالمه، فيجاب عاجلاً، ولا نرى ذلك في الإسلام. فقال: كان هذا حاجزاً بينهم وبين الظلم، وإن موعدكم الآن الساعة، والساعة أدهى وأمر.
كان أبو رافع صائغاً، فنظر إليه عمر وهو يقرأ ويصوغ، فقال: يا أبا رافع، أنت خير مني، تؤدي حق الله وحق مواليك.
قال لرجل: ما معيشتك؟ قال: رزق الله. قال: لكل رزق سبب، فما سبب رزقك؟

مر عمر رضي الله عنه بشاب فاستسقاه، فخاص له عسلاً، فلم يشربه، وقال: إني سمعت الله تعالى يقول: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " . فقال الفتى: إنها والله ليست لك. اقرأ ما قبلها " ويوم يعرض الذين كفروا على النار " . أفنحن منهم؟ فشربها وقال: كل الناس أفقه من عمر.
وقال رضي الله عنه: لا يبلغنّي أن امرأة تجاوزت بصداقها صداق النبي عليه السلام إلا ارتجعت منها. فقامت امرأة فقالت: ما جعل الله ذلك لك يا ابن الخطاب، إن الله تعالى يقول: " وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً " . فقال عمر رضي الله عنه: لا تعجبوا من إمام أخطأ، وامرأة أصابت، ناضلت إمامكم فنضلته.
وقال رضي الله عنه: أحبكم إلينا أحسنكم اسماً، فإذا رأيناكم فأجملكم منظراً، فإذا اختبرناكم فأحسنكم مخبراً.
وقال رضي الله عنه: الدين ميسم الكرام.
وقال لأهل الشورى: لا تختلفوا؛ فإن معاوية وعمراً بالشام.
وقال ثور بن يزيد: كان عمر رضي الله عنه يعس بالمدينة في الليل، فسمع صوت رجل في بيت، فارتاب بالحال، فتسور. فوجد رجلاً عنده امرأة وخمر. فقال: يا عدو الله، أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصية؟ فقال الرجل: لا تعجل يا أمير المؤمنين، إن كنت قد عصيت الله في واحدة، فقد عصيته في ثلاث: قال الله تعالى: " ولا تجسسوا " . وقد تجسست، وقال: " وأتوا البيوت من أبوابها " وقد تسورت، وقال: " فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا " وما سلمت. فقال له عمر رضي الله عنه: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، والله لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبداً. فعفا عنه.
وقال ابن عباس: لما أسلم عمر رضي الله عنه قال المشركون: انتصف القوم منا.
قيل: أهدى رجل إلى عمر رضي الله عنه جزوراً، ثم خاصم إليه بعد ذلك في خصومة، فجعل يقول: افصلها يا أمير المؤمنين كفصل رجل الجزور، فاغتاط عمر رضي الله عنه، وقال: يا معشر المسلمين؛ إياكم والهدايا فإن هذا أهدى إليّ منذ أيام رجل جزور، فوالله ما زال يرددها حتى خفت أن أحكم بخلاف الحكم.
ولما حصر أبو عبيدة كتب إليه عمر رضي الله عنه: مهما ينزل بامرئ من شدة يجعل الله بعدها فرجاً، إنه لن يغلب عسر يسرين، إنه يقول: " اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " .
وقال: ثلاث يثبتن لك الود في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه.
وقال رضي الله عنه: من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات يقدمها الرجل أمام حاجته، يستعطف بها الكريم، ويستنزل بها اللئيم.
وقدم معاوية عليه وهو أبضّ الناس، فضرب عمر رضي الله عنه بيده على عضده، فاقلع عن مثل الشراب في لونه أو مثل الشراك. فقال: إن هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسراتٍ على بابك.
وقال لربيع بن زياد الحارثي: يا ربيع؛ إنا لو نشاء ملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم، فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " .
وقال: علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثباً، ورووهم ما جمل من الشعر، وخير خلق المرأة المغزل.
وقال: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما أركب.
وقال رضي الله عنه: لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم. نزعتم في القسي، ونزوتم على ظهور الخيل.
وقال رضي الله عنه: ليس قوم أكيس من أولاد السراري؛ لأنهم يجمعون عز العرب ودهاء العجم.
وقال رضي الله عنه: من يئس من شيء استغنى عنه.
ونظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت، فخفقه بالدرة وقال: لا تمت علينا ديننا أماتك الله.
وقال رضي الله عنه لأبي مريم السلولي والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. قال: أفتمنعني حقا؟ قال: لا. قال: فلا بأس. إنما يأسف على الحب النساء.
وروى أن أعرابياً أتاه فقال: إني أصبت ظبياً وأنا محرم، فالتفت عمر رضي الله عنه إلى عبد الرحمن بن عوف، وقال: قل. قال عبد الرحمن: يهدي شاة. قال عمر رضي الله عنه: اهد شاة. فقال الأعرابي: والله ما درى أمير المؤمنين مافيها حتى استفتى غيره، وما أظنني إلا سأنحر ناقتي، فخفقه عمر بالدرة وقال: أتقتل في الحرم وتغمص في الفتيا؟ إن الله عز وجل يقول: " يحكم به ذوا عدل منكم " . فأنا عمر بن الخطاب، وهذا عبد الرحمن بن عوف.

ومن كلامه رضي الله عنه: قد إلنا وإيل علينا، أي سسنا وساسنا غيرنا.
وقال له عبد الله ابنه رضي الله عنهما: لم فضلت أسامة عليّ، وأنا هو سيّان؟ فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان هو أحب إلى رسول الله منك.
وأثني عليه وهو جريح، فقال: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما في الأرض جميعاً لافتديت به من هول المطلع.
وقال: تعلّموا اللحن والسنن، والفرائض كما تعلمون القرآن.
وروي أنه كان يحمل الدقيق على ظهره، فقال له بعضهم: دعني أحمله عنك. فقال: ومن يحمل عني ذنوبي؟ وقال: لساني سبع، فإذا أرسلته أكلني. وقال رضي الله عنه: من المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة.
وقال: لئن بقيت لأسوين بين الناس، حتى يأتي الرجل حقه في صفنه لم يعرق فيه جبينه.
وقيل له: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد، فقال: وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقع ولا لقلقة.
وقال: أعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون بأمير، ولا يرضاهم أمير.
وقال رضي الله عنه: فرقوا عن المنية، واجعلوا الرأس رأسين ولا تلثوا بدار معجزة، وأصلحوا مثاويكم، وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم، واخشوشنوا وتمعددوا.
وكتب رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: إنه بلغني أنك دخلت حماماً بالشام، وأن من بها من الأعاجم أعدوا لك دلوكاً عجن بخمر، وإني أظنكم - آل المغيرة - ذرء النار.
وقال رضي الله عنه: ورع اللص ولا تراعه.
وقال رضي الله عنه: ما بال رجال لا يزال أحدهم كاسراً وساده عند امرأة مغيبة يتحدث إليها وتتحدث إليه؟ عليكم بالجنبة فإنها عفاف، فإنما النساء لحم على وضم إلا ماذبّ عنه.
وقال رضي الله عنه: إن العهد إذا تواضع رفع الله حكمته وقال: انتعش نعشك الله، وإذا تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض.
وقال رضي الله عنه: لا تشتروا الفضة والذهب إلا يداً بيد، فإني أخاف عليكم الربا.
وقال في متعة الحج: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلها وأصحابه، ولكني كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الأراك، ثم يلبون بالحج تقطر رؤوسهم.
ودخل عدي بن حاتم فسلم وهو مشغول، فقال: يا أمير المؤمنين أنا عدي بن حاتم. فقال: ما أعرفني بك! أنت الذي أقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، وأقررت إذ نفروا، وأسلمت إذ كفروا. فقال عدي: حسبي يا أمير المؤمنين.
وسأل أصحابه: أي الناس أنعم بدناً؟ فكل أجاب برأيه. فقال عمر رضي الله عنه: لكني أقول: جسد في التراب، قد أمن العقاب، ينتظر الثواب.
قال ابن المسيب: وضع عمر للناس كلمات حكماً كلها، وهي: " ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه " . " ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يجيئك ما يغلبك منه " لا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً " . " من كتم سره كانت الخيرة بيده " . " من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به " . " عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء " . " لا تهاونوا بالحلف فيهينكم الله " . " لا تسأل فيما لم يكن، فإن فيما قد كان شغلاً عما لم يكن " . " عليك بالصدق وإن قتلك الصدق " . " احذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله " . " استشر في أمرك الذين يخشون الله، فإنما يقول: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " . آخ الإخوان على التقوى " . " كفى بك عيباً أن يبدو لك من أخيك ما يخفى عليك من نفسك، أو تؤذي جليسك فيما لا يعنيك، أو تعيب شيئاً وتأتي بمثله " .
وكتب إلى أبي عبيدة: أما بعد؛ فإنه لم يقم أمر الله في الناس إلا حصيف العقدة بعيد الغرة. لا يحنق في الحق على جرة، ولا يطلع منه الناس على عورة. ولا تأخذه في الله لومة لائم.
وقال: من أسرع إلى الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء، فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته.
وقال له أبو عبيدة حين نزل عن ناقته، وخلع خفيه، وخاض المخاضة: ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؛ أي رأوك. فقال له عمر رضي الله عنه: لو غيرك يقول هذا لجعلته نكالاً، إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فإن طلبنا العزّ بغير ما أعزنا الله به أذلنا.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11