كتاب : نثر الدر
المؤلف : الآبي

قيل لأرسطاطاليس: ما بال الحسدة يحزنون أبداً؟ فقال: لأنهم لا يحزنون لما ينزل بهم من الشر فقط، بل لما ينال الناس أيضاً من الخير.
وقال: الإفلال حصن للعاقل من الرذائل، وطريق إليها للجاهل.
قيل لفيلسوف: ما صناعة الخطيب؛ قال: أن يعظِّم شأن الأشياء الحقيرة، ويصغِّر شأن الأشياء العظيمة.
قال آخر: الدنيا لذات معدودة: منها لذة ساعة، ولذة يوم، ولذة ثلاثة، ولذة شهر، ولذة سنة، ولذة الدهر، فأما لذة ساعة فالجماع، وأما لذة يوم فمجلس شراب، وأما لذة ثلاثة فلين البدن بعد الاستحمام، وأما لذة شهر فالفرح بالعرس، وأما لذة سنة بالفرح بالمولود الذكر، وأما لذة الدهر فلقاء الإخوان مع الجدة.
قال آخر: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به، والتفكر بالشر يدعو إلى تركه.
قال آخر: العشق جهل عارض وافق قلباً فارغاً.
قال أرسطاطاليس للإسكندر: احفظ عني ثلاث خصال، قال: وما هن؟ قال: صل عجلتك بتأنيك، وسطوتك برفقك، وضرك بنفعك، قال: زدني، قال: انصر الحق على الهوى تملك الأرض ملك الاستعباد.
قال أفلاطون: تُعرف خساسة المرء بكثرة كلامه بما لا ينفعه، وإخباره بما لا يسأل عنه.
وقال: لا تؤخر إنالة المحتاج إلى غد، فإنك لا تدري ما يعرض في غد.
وقال: أعن المبتلى إذا لم يكن سوء عمله ابتلاه.
وقال: إن تعبت في البر فإن التعب يزول والبر يبقى، وإن التذذت بالآثام فإن اللذة تزول والآثام تبقى.
وقال: أجهل الجهال من عثر بحجر مرتين.
وقال: كفاك موبخاً على الكذب علمك بأنك كاذب، وكفاك ناهياً عنه خوفك إذا كذبت.
كان على خاتم فيثاغورس " شر لا يدوم خير من خير لا يدوم " .
قال آخر: العالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم؛ لأنه لم يكن عالماً.
قال آخر: الهالك على الدنيا رجلان: رجل نافس في عزها، ورجل آنف من ذلها.
قال آخر: " من زاد أدبه على عقله كان كالراعي الضعيف مع غنم كثير " .
قال آخر: أعجب ما في الإنسان أن ينقص ماله فبقلق، وينقص عمره فلا يقلق.
قال آخر: الشكر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن، والقرابة محتاجة إلى المودة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنجدة محتاجة إلى الجد.
قال رجل لسقراط، ورآه يأكل العشب: لو خدمت الملك لم تحتج أن تأكل الحشيش، فقال له: لو أكلت الحشيش لم تحتج أن تخدم الملوك.
قال بعضهم لولده يحثهم على الكسب: لا تتكلوا على البخت؛ فإنه ربما لم يكن وربما كان وذهب، فأما الحسب فرأيته بلاءً على أهله، فإنه يقال للناقص: هذا ابن فلان فيتضاعف غمه وعاره، ولو لم يكن في العلم إلا أن العالم يكرم وإن لم يكسب لكفاه.
حكي عن الإسكندر أنه لما احتضر كتب إلى أمه وهي بالإسكندرية: إذا قرأت كتابي يا أمه فاصنعي طعاماً كثيراً وأطعميه للناس، ولا تطعمي منه إلا من لم تصبه مصيبة، فعرفت موته.
قال بعضهم لسقراط: ذكرتك لفلان فلم يعرفك، فقال: لا يضرني ألا يعرفني هو، ويضره ألا يعرفني ولا أعرفه، لأني لا أعنى بمعرفة خسيس، ولا يجهل مثلي إلا خسيس.
قيل لبعضهم: ما بالكم لا تأنفون من التعلم من كل أحد؟ قال: لأنا قد علمنا أن العلم نافع من حيث أصيب.
قيل لآخر ألا تخوض معنا في حديثنا؟ فقال: الحظ للمرء في أذنه، والحظ في لسانه لغيره.
قيل لآخر: أي الحيوان لا يشبع؟ قال: الذي يربح.
قيل لأفلاطون: ما بالكم إذا أصبتم الشيء الذي يسركم تسرون به، وإذا أصابكم الشيء الذي يغم لم يغمكم؟ قال: لأن الشيئين جميعاً إما أن يتركانا أو نتركهما.
وقيل له: فلان يخضب بالسواد، فقال: لأنه يكره أن يؤخذ بحنكة الشيخ.
قال آخر: لتلميذ له فهمه شيئاً: أفهمت؟ قال: نعم، قال: كذبت؛ لأن دليل الفهم السرور، ولم أرك سررت.
قيل لآخر: متى يحمد الكذب؟ قال: إذا قرب بين المتقاطعين، قيل: فمتى يذم الصدق؟ قال: إذا كان غيبة، قال فمتى يكون قليل البذل أحمد؟ قال: إذا كان قليله في الحقوق، وكثيره في الفسوق، قيل: فمتى يكون الصمت خيراً؟ قال: عند النساء.
قيل لإيدجانس: ألك بيت تستريح فيه؟ قال: حيث أستريح فهو بيتي.
ونظر رجل إلى حكيم يجامع فقال له: أي شيء تعمل؟ قال: إنساناً إن تم.
قيل لسقراط: أي السباع أحسن؟ قال: المرأة.

صعد إيدجانس إلى موضع عال ثم صاح، معاشر الناس، فاجتمعت العامة إليه من كل جانب، فقال: ما بالكم؟ لم أدعكم، إنما دعوت الناس.
قال سولون: أصلح ما عوشر به الملوك قلة الخلاف وتخفيف المؤونة.
وسئل: ما أصعب الأشياء على الإنسان؟ فقال: أن يعرف نفسه، ويكتم سره.
سقراط: استشاره فتى في التزوج فقال له: احذر من أن يعرض لك ما يعرض للسمك في المصيدة، فإن الخارج عنها يطلب الدخول فيها والداخل فيها بطلب الخروج منها.
دخل أرسطاطاليس إلى الإسكندر ليعزيه بفجيعة فتأخر عن المعزين ثم قال: لم أدخل إليك لأعزيك، ولكن لأرى صبرك على المصائب فأقتني ذلك منك.
رأى ديوجانس تعلّم الكتابة فقال: سهم يسقى سماً.
وسئل عن وقت الغداء فقال: لمن أمكنه إذا احتاج، ولمن لا يمكنه إذا وجد.
وقيل له: ما الغنى؟ فقال: الكف عن الشهوات.
وسئل ما الذي ينبغي للرجل أن يتحفظ منه؟ قال: يتحفظ من حسد إخوانه، ومكر أعدائه.
قال قراطيس: " إن أحببت ألا تفوتك شهوتك فاشته ما يمكنك " .
جلس الإسكندر يوماً فلم يسأله أحد حاجة، فقال لجلسائه، إني لا أعد هذا اليوم من أيام ملكي.
قال سولون: " الجواد من جاد بماله، وصان نفسه عن مال غيره " .
قال أفلاطون: لا ينبغي للعاقل أن يتمنى لصديقه الغنى فيزهو عليه، ولكن يتمنى أن يساويه في الحال.
سأل الإسكندر حكماء أهل بابل: أيما أبلغ عندكم الشجاعة أو العدل؟ قالوا: إذا استعملنا العدل استغنينا عن الشجاعة.
كتب أرسطاليس إلى الإسكندر: املك الرعية بالإحسان فإنها إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، فاجتهد ألا تقول تسلم من أن تفعل.
قال بعضهم لا سر إلا في مكيدة تحاول، أو منزلة تزاول، أو سريرة مدخولة تكتم، ولا حاجة في ظهور شيء من ذلك.
وقال: " ما كتمته عدوك فلا تظهر عليه صديقك " .
سئل بعضهم: أي شيء أولى أن يتعلمه الأحداث؟ فقال: الأشياء التي إذا صاروا رجالاً احتاجوا إليها.
هم الإسكندر بأن يوجه رسولاً إلى الفرس ثم تخوَّف أن يغدر به، فقال له الرسول: أيها الملك إن نفسي طيبة بأن أُقتل فيما تحب، فقال له الإسكندر: والواجب أن أشفق على مثلك.
سئل أرسطاطاليس: أي شيء أصعب على الإنسان تحملاً؟ فقال: السكوت.
سئل ديوجانس عن رجل يعرفه هل هو غني؟ فقال: أنا أعلم أن له مالاً، ولكني لا أعلم أغنيٌّ هو أم لا؟ لأني لست أدري كيف عمله في ماله.
سئل بعضهم ملوكهم أين أموالك وكنوزك؟ فالتفت إلى أصحابه و قال: عند هؤلاء.
قيل لبعض الحكماء: إنه يصعب أن ينال الإنسان ما لا يشتهي، فقال: أصعب من ذلك أن يشتهي ما لا يناله.
لتز أفلاطون على الزهد في المال فقال: كيف يرغب فيما يُنال بالبخت لا بالاستحقاق، ويأمر البخل والشَّرَهُ بحفظه، والجود والزهد بإتلافه؟.
وسئل ما أصلح حالات المدن؟ فقال: أن يتفلسف ملوكها، ويملك فلاسفتها.
و قال: ينبغي إذا عوقب الحدث أن يترك له موضع من ذنبه لئلا يحمله الإحراج على المكابرة.
وسئل بماذا ينتقم الإنسان من عدوه؟ قال: بأن يتزيد فضلاً في نفسه.
قال أرسطاطاليس: لا ينبغي للملك أن يرغب في الكرامة التي ينالها من العامة طوعاً أو كرهاً، ولكن في التي يستحقها بحُسن الأثر، وصواب التدبير.
أُهدي إلى الإسكندر أوانٍ من فخار فاستحسنها ثم أمر بكسرها، فسئل عن ذلك فقال: علمت أنها تُكسر على أيدي الخدم واحداً واحدا فيهيج في الغضب، فأرحت نفسي منها مرةً واحدة.
قيل لجادوسيس الصقلي: إنك من مدينة خسيسة، فقال أما أنا فيلزمني العار من قبل بلدي، وأما أنت فعار لازم لأهل بلدك.
وعيّر آخر سقراط بنسبه فقال سقراط: نسبي مني ابتدأ، ونسبك إليك انتهى.
قيل لأفلاطون: لم لا نكاد تجتمع الحكمة والمال؟ فقال: لعزة وجود الكمال.
قيل لبعضهم: ما الشر المحبوب؟ فقال: الغنى.
قيل لبعضهم: إن فلاناً يشتمك بالغيب، فقال: لو ضربني بالغيب لم أبال.
قيل لأرسطاطاليس: ما بال الحسدة يحزنون أبدا؟ قال: لأنهم لا يحزنون لما ينزل بهم من الشر فقط، بل لما ينال الناس من الخير أيضاً.
وقال: " كيف يرجو العقل النجاه، والهوى والشهوة قد اكتنفاه " .
قال الإسكندر لبعض حكماء بابل: أوصني، فقال: " لا تكثر القنية فإنها ينبوع الأحزان " .
قال سقراط إذا كان العالم غير معلم قل غناء علمه كما يقل غناء المكثر البخيل.

وقال أرسطاطاليس: يمنع الجاهل أن يجد ألم الحمق المستقر في قلبه ما يمنع السكران من أن يجد مس الشوكة تدخل في يده.
كان سقراط يقول: " القنية مخدومة ومن خدم غير نفسه فليس بحر " .
وقيل له: بأي خصلة تتفضل على أهل زمانك؟ فقال: بأن غرضهم في الحياة أن يأكلوا، وغرضي في الأكل أن أحيا.
تزوج بعضهم امرأة نحيفة، فقيل له في ذلك، فقال: اخترت من الشر أقله.
وقيل لآخر أراد سفراً: تموت في الغربة، فقال: ليس بين الموت في الوطن والموت في الغربة فرق؛ لأن الطريق إلى الآخرة واحد.
رأى أفلاطون مدعياً للصراع - ولم يكن صرع أحداً قط - تحول طبيباً، فقال: الآن أحكمت الصراع، يتهيأ لك أن تصرع من شئت.
وصف للإسكندر حسن بنات دارا وجمالهن، فقال: من القبيح أن نغلب رجال قوم، ويغلبنا نساؤهم.
تحاكم إلى الإسكندر رجلان من أصحابه فقال لهما: الحكم يرضي أحدكما ويسخط الآخر، فاستعملا الحق ليرضيكما جميعاً.
قال سقراط: " العامة إذا رأت منازل الخاصة حسدتها عليها، وتمنت أمثالها، فإذا رأت مصارعها تُدالها " .
وقال: " العفو يفسد من اللئيم بقدر ما يصلح من الكريم " .
وسافر مرة مع بعض الأغنياء، فقيل له: في الطريق صعاليك يأخذون سلب الناس ويطالبونهم بالمال، فقال الغني: الويل لي إن عرفوني، فقال سقراط: الويل لي إن لم يعرفوني.
قال الإسكندر لأرسطاطاليس: أوصني في عمالي خاصة، فقال: انظر من كان له عبيد فأحسن سياستهم فولّه الجند، ومن كانت له ضيعة فأحسن تدبيرها فوله الخراج.
قيل لحكيم: ما الشيء الذي لا يُستغنى عنه؟ قال: التوفيق.
كتب فيلسوف على بابه لا يدخل هذا المنزل شر، فقال له ديوجانس: فمن أين تدخل امرأتك إذن؟.
رأى ديوجانس رجلين لا يفترقان، فسأل عنهما، فقيل: إنهما صديقان، فقال: فما بال أحدهما فقير والآخر غني؟.
قيل لأفلاطون: لم يخضب فلان بالسواد؟ قال: يكره أن يؤخذ بحنكة الشيخ.
نظر فيلسوف إلى رجل يرمي، وسهامه تذهب يميناً وشمالا، فقعد موضع الهدف، فقيل له في ذلك، فقال: لم أر موضعاً أسلم منه.
قال سقراط: ليس ينبغي أن يقع التصديق إلا بما يصح، ولا العمل إلا بما يحل، ولا الابتداء إلا بما تحمد فيه العاقبة.
دخل رجل على بعضهم وهو يأكل خبزاً يابساً قد بله في الماء فقال: كيف تشتهي هذا؟ قال: أدعه حتى أشتهيه.
حكي عن الإسكندر أنه قال: علم النجوم ضربان: غامض دقيق لا يُدرى غوره وظاهر جليل لا يؤمن خطاؤه.
قيل لبقراط: مالك لا تشاهد الناس؟ قال: لأني وجدت الانفراد بالخلوة أجمع لدواعي السلوة، وعز في الوحدة خير من ذل في الجماعة، والوحدة أسهل من مداراة الخلطة.
قصد الإسكندر موضعاً لمحاربة أهله، فحاربه النساء فكف عنهن، وقال: هذا جيش إن غلبناه لم يكن فيه فخر، وإن غلبوا كانت الفضيحة.
قال سقراط: " اللين جوهر الكرم، والشدة جوهر اللؤم " .
وقال أرسطاطاليس: " لكل شيء صناعة، وحسن الاختيار صناعة العقل " .
وقال بقراط: " من ضر نفسه لنفع غيره فهو أحمق " .
وقال: " للمرأة ستران: بعلها وقبرها " .
وقال: " من حسدك لم يشكرك على إحسانك إليه " .
وقال الإسكندر: " البغي آخر مدة الملوك " .
وقال: " الاستطالة تهدم الصنيعة " .
قال بقراط: " لأن يكون الحر عبداً لعبيده خير من أن يكون عبداً لشهواته " .
قال بعض الفلاسفة: " أنقص الناس عقلاً من ظلم من دونه " .
قيل لبعضهم: لم تخالط السفل؟ فقال: لأن الحكماء قد فقدوا.
وقيل لآخر: أي العلوم أفضل؟ قال: ما العامة فيه أزهد.
قال فيلسوف لأهل مدينته: ليت طبيبكم كان صاحب جيشكم فإنه قد قتل الخلق وليت صاحب جيشكم كان طبيبكم؛ فإنه لم يقتل أحداً قط.
قال أفلاطون: من جهل الشيء ولم يسأل عنه جمع على نفسه فضيحتين.
وقال: أشرف الناس من بذل مع الإضاقة، وصدق عند الغضب.
قال بقراط: ينبغي للعاقل إذا أصبح أن ينظر في المرآة، فإن كان وجهه حسناً لم يشنه بقبيح، وإن كان قبيحاً لم يجمع بين قبيحين.
ذكر المال عند أفلاطون فقال: ما أصنع بما يعطيه الحظ، ويحفظه اللؤم، ويهلكه الكرم.
قال بعضهم لسقراط: ما أفقرك! فقال: لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي، فالفقر ملك ليس عليه محاسبة.
كتب الإسكندر من بلاد فارس إلى أرسطاطاليس: من الإسكندر الملك إلى الأرسطاطاليس الحكيم، عليك منا السلام. أما بعد:

فإن دوائر الأسباب ومواقع العلل وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائنين، فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك، غير جاحدين للإقرار بفضلك، والاستتامة إل مشورتك، والاجتباء لرأيك، والاعتقاد لأمرك ونهيت، لما بلونا من جداء ذلك علينا، وذقنا من جنى منفعته، حتى صار ذلك بنخوعه فينا، وترشيحه لعقولنا، كالغذاء لنا، فما ننفك نعول عليه، ونستمد منه، كاستمداد الجداول من البحور، وتحويل الفروع على الأصول، وقوة الأشكال بالأشكال.
وقد كان فيما سبق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر والقهر، وبلغناه من العدو من النكاية، ما يعجز القول عن وصفه، ويقصر الشكر للمنعم على الإنعام به.
وإنه كان من ذلك أنا جاوزنا أرض سرية والجزيرة وبابل إلى أرض فارس، فلما حللنا بعقوة أهلها وساحة بلادهم لم يكن ذلك إلا ريثما أن تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا، وطلباً للحظوة عندنا، فأمرنا بصلب من جاء به وشهرته؛ لسوء بلائه، وقلة ارعوائه ووفائه.
ثم أمرنا بجمع من كان هنالك من أبناء ملوكهم وأحرارهم وذوي الشرف منهم، فرأينا رجالاً عظيمة أجسامهم وأحلامهم، حاضرة ألبابهم وأذهانهم، رائعة مناظرهم ومناطقهم، دليلاً ما ظهر من روائهم أن وراءه من قوة أيديهم، وشدة بأسهم وتحديهم، ما لم يكن ليكون لنا معه سبيل إلى غلبتهم، وإعطابهم بأيديهم، لو لا أن القضاء أدالنا منهم، وأظفرنا بهم، وأظهرنا عليهم، ولم نر بعيداً من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم، ونجتث أصلهم، ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم، لنسكن القلوب بذلك إلى الأمن من جرائرهم وبوائقهم، فرأينا ألا نعجل بإسعاف بادي الرأي في قتلهم، دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم، فارفع إلينا مشورتك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك، وتقليبك إياه على نظرك. وسلام أهل السلام فليكن علينا وعليك.
فأجابه أرسطاطاليس: للإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء المهدي الظفر بالملوك من أصغر عبيده وأوضع خوله أرسطاطاليس الخنوع بالسجود، والتذلل في السلام، والإذعان بالطاعة. أما بعد: فإنه لا قوة بالنطق - وإن احتشد الناطق فيه، واجتهد في تثقيف معانيه، وتأليف حروفه - على الإحاطة بأقل ما يناله العذر من بسطة علو الملك، وسمو ارتفاعه عن كل قول، وإيتائه على كل وصف، واغترابه لكل إطناب.
وقد تقرر عندي من مقدمات أعلام فضل الملك في مهلة سبقه، وبروز شأوه، ويمن نقيبته - منذ أدت إلى حاسة بصري صورة شخصه، واضطرب في حس سمعي صوت لفظه ووقع وهمي على تعقب مخارج رأيه، أيام كنت أؤدي إليه من تعليمي إياه - ما أصبحت قاضياً على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه.
ومهما يكن مني إليه في ذلك فإنما هو عقل مردود إلى عقله، مستنبطة أوائله وتواليه من علمه وحكمته، وقد حكى لي كتاب الملك مخاطبته إياي ومسألته لي عما لا يتخالجني الشك في أن لقاح ذلك ونتاجه من عنده صدر، وعليه كان ورد.
وأنا فيما أشير به على الملك - وإن اجتهدت فيه، واحتشدت له، وتجاوزت حد الوسع والطاقة مني في استنظافه - كالعدم مع الوجود، بل كما لا يتجزى في جنب أعظم الأشياء، ولكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل على يقيني تعظيم غناه عني وشدة فاقتي إليه، وأنا راد إلى الملك ما أفدته منه، ومشير عليه بما أخذته عنه، فقائل له: إن لكل تربة لا محالة قسماً من كل فضيلة، وإن لفارس قسمتها من النجدة والقوة، وإنك إن تقتل أشرافهم تخلّف الوضعاء بأعقابهم، وترث سفلتهم منازل عليتهم، ويغلب أدنياؤهم على مراتب ذوي أخطارهم، ولم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم، وأشدتوهيناً لسلطانهم من غلبة السفلة وذل الوجوه، فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة والحركة، وإن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل بلدك ناجم دهمهم منه مالاً روية فيه ولا بقية معه.

فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره، واعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء والأحرار فوزع بينهم مملكتهم، وألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحية، واعقد التاج على رأسه، وإن صغر ملكه، فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه، والمعتقد التاج لا يخضع لغيره، ولا ينشب ذلك أن يوقع بين كل ملك منهم وبين صاحبه تدابراً وتقاطعاً وتغالباً على المُلك، وتفاخراً بالمال حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك، وأوتارهم قبلك، وتعود حربهم لك حرباً بينهم، وحنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم، ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحدثوا بها لك استقامة، فإن دنوت منهم دانوا لك، وإن نأيت عنهم تعززوا بك، حتى يثبت كل ملك منهم على جاره باسمك، ويسترهبه بجندك، وفي ذلك شاغل لهم عنك، وأمان لأحداثهم بعدك، ولا أمان للدهر، ولا ثقة بالأيام.
قد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظاً، وعليّ حقاً من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه، مع أدائي النصيحة إليه فيه، والملك أعلى عينا، وأنفذ رويةً، واصل رأيا، وأبعد همة فيما استعان بي عليه، وكلفني تبيينه له، والمشورة به، فلا زال الملك متغرفاً من فوائد النعم، وعواقب الصنع، وتوطد الملك، وتنقل الأجل، ودرك الأمل، ما تأتي فيه مقدرته على غاية قصوى ما ينال البشر، والسلام الذي لا انقضاء له ولا انتهاء ولا مدة فليكن على المُلك والمَلك.

الباب الثالث
حكم ونوادر للفرس
في رسالة كسرى إلى الهرمزان: اما بعد: فإنه لو كان الملوك يعرفون من حاجتهم إلى ذوي الرأي مثل الذي يعرف أهل الرأي من حاجتهم إلى الملوك لم يكن عجباً أن ترى مواكب الملوك على أبواب العلماء، كما ترى مواكب العلماء على أبواب الملوك، ولذلك قال الأولون: " إذا أراد الله بأمة خيراً جعل المُلك في علمائهم والعلم في ملوكهم " .
قال كسرى: أنا على ما لم أقل أقدر مني على رد ما قد قلته.
وقال: اجتماع المال عند الأسخياء أحد الحصبين واجتماعه عند البخلاء أحد الجدبين.
وقال: من عمل عمل أبيه كفي نصف التعب.
قال بزرجمهر: التذلل للغلبة في حينها خير من الظفر في غير حينه.
نظر ملك منهم يوماً إلى مُلكه فأعجبه فقال: إن هذا لمُلك إن لم يكن بعده هلك! وإنه لسرور لولا أنه غرور، وإنه يوم لو كان يوثق له بغد.
قيل لبزرجمهر: هل تعرف نعمة لا يحسد صاحبها عليها؟ قال: نعم، التواضع.
قيل: فهل تعرف بلاء لا يرحم صاحبه؟ قال: نعم، العُجب.
وقال: ما أحسن الصبر لولا أن النفقة عليه من العمر.
قال له أنوشروان: متى يكون العي فصيحاً؟ قال: إذا وصف حبيباً.
قال بعضهم: الصدق زين إلا أن يكون سعايةً، فإن الساعي أخبث ما يكون إذا صدق.
وقال بعضهم: من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه، فإذا ثبت صدقه فهو عندي أحمق.
سئل بزرجمهر عن الرزق قال: إن كان قد قسم فلا تعجله، وإن كان لم يقسم فلا تتعبه.
وقال: المصطنع إلى اللئيم كمن طوق الخنزير ثبرا، وقرّط الكلب دُرّا، وألبس الحمار وشيا،وألقم الحية شهدا.
وقال: من قوي فليقو على طاعة الله، ومن ضعف فليضعف عن محارم الله.
وكان يقول: السعيد يتبع الرزق، والشقي يتبع مسقط الرأس.
وقيل له: أي العيوب أقبح؟ قال: قلة معرفة الرجل بنفسه.
كتب رجل من الخاصة إلى أنوشروان: إن رجلاً من العامة دعاه إلى منزله فأطعمه من طعام الخاصة وسقاه من شرابها، وقد كان الملك نهى عن ذلك وأوعد فيه، فأحببت ألا أطوي عنه خبراً. فوقّع في كتابه: أحمدنا نصيحتك، وذممنا صاحبك لسوء اختياره الإخوان.
قال بزرجمهر لكسرى، وعنده أولاده: أي أولادك أحب إليك؟ قال: أرغبهم في الأدب، وأجزعهم من العار، وأنظرهم إلى الطبقة التي فوقه.
وقال: من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحداً استحقاقه، إما أن تزيده وإما أن تنقصه.
وقال بزرجمهر: الحازم إذا أشكل عليه الرأي بمنزلة من أضل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها من التراب ثم التمسها حتى وجدها، فكذلك الحازم يجمع وجوه الرأي في الأمر المشكل ثم يضرب بعضه ببعض حتى يخلص الرأي.
رفع إلى أنوشروان إن عامل الأهواز قد جبى من المال ما يزيد على الواجب في وقته، وأن ذلك أجحف بالرعية، فوقّع: رد هذا المال إلى هؤلاء الضعفاء؛ فإن تكثير الملك لماله بظلم رعيته بمنزلة من حصّن سطوحه بما اقتلعه من قواعد بنيانه.

قال بزرجمهر: " الملوك تعاقب بالهجران ولا تعاقب بالحرمان " .
قال أردشير: " الدين أس، والملك حارس، وما لم يكن له أس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع " .
كان على عهد كسرى رجل يقول: من يشتري ثلاث كلمات بألف دينار؟ فيُطنز منه، إلى أن اتصل البريد فأنهى خبره إلى كسرى، فأحضره وسأله عنها. فالتمس إحضار المال فأحضر، فقال الرجل: ليس في الناس كلهم خير، فقال كسرى: هذا صحيح، ثم قال: ولا بد منهم، فقال: صدقت، والثالث أي شيء؟ قال: فالبسهم على قدر ذلك، فقال له كسرى: قد استوجبت المال فخذه، قال: لا حاجة لي به، قال: فلم طلبته؟ قال: لأني أردت أن أرى من يشتري الحكمة بالمال، فاجتهد به كسرى في قبوله، فأبى أن يقبل.
قال كسرى لبعض عماله: كيف نومك بالليل؟ قال: أنامه كله، قال: أحسنت لو سُرقت ما نمت هذا النوم!.
وقال لأصحابه: أي شيء أضر على الإنسان؟ قالوا: الفقر، فقال كسرى: الشح أضر منه؛ لأن الفقير إذا وجد اتسع، والشحيح لا يتسع وإن وجد.
وكان ملوك الفرس إذا بلغهم أن كلباً مات في قرية لا يعرف لموته سبب أمروا بأخذ أهل القرية بالبينة بأن الكلب مات حتف أنفه لم يمت جوعاً.
قال بزرجمهر: لا شرف إلا شرف العقل، ولا غنى إلا غنى النفس.
قال أنوشروان: العطلة تهيج الفكرة، والفكرة تهيج الفتنة.
وكان على خاتمه " لا يكون عمران بحيث بجور السلطان " .
قال بزرجمهر: أخيب الناس سعياً من أقام في دنياه على غير سداد، وارتحل إلى آخرته بغير زاد.
ورأى فقيراً جاهلاً فقال: بئسما اجتمع على هذا: فقر ينغص دنياه، وجهل يفسد آخرته.
قال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعن على جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيقنّ عليهم في العطاء فيضجوا منك، أعطهم عطاءً قصداً، وامنعهم منعاً جميلاً، ووسع عليهم في الرجاء، ولا توسع عليهم في العطاء.
قال بزرجمهر: الإخوان كالسلاح فمنهم كالرمح تطعن به من بعيد، ومنهم كالسهم الذي ترمي به ولا يعود إليك، ومنهم كالسيف الذي لا يفارقك.
قال كسرى: لا تظهر إنكار مالا عدة معك أن تدفعه.
وقال لبزرجمهر: ما بال معاداة الصديق أقرب مأخذاً من مصادقة العدو؟ فقال: لأن إنفاق المال أهون من كسبه، وهدم البناء أهون من رفعه، وكسر الإناء أهون من إصلاحه.
وقال بزرجمهر: يستحب من الخريف الخصب، ومن الربيع الزهر، ومن الجارية الملاحة، ومن الغلام الكيس، ومن الغريب الانقباض.
قيل لكسرى: أي الناس أحب إليك أن يكون عاقلاً؟ قال: عدوي، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأنه إذا كان عاقلاً فأنا منه في عافية.
سئل بزرجمهر في نكبته عن حاله، فقال: عولت على أربعة أشياء قد هونت على ما أنا فيه: أولها، أني قلت: القضاء والقدر لا بد من جريانهما. والثاني، أني قلت: إن لم أصبر فما أصنع؟ والثالث، أني قلت: قد كان يجوز أن يكون أشد من هذا، والرابع، قلت: لعل الفرج قريب وأنت لا تدري.
قال أنوشروان: جميع أمر الدنيا منقسم إلى ضربين لا ثالث لهما، واحد في دفعه حيلة فالاصطبار دواؤه، والآخر لا حيلة في دفعه فالاضطرار شفاؤه.
وكان إذا ولى رجلاً وقّع في كتابه: " سس خيار الناس بالمحبة، وامزج للعامة الرغبة بالرهبة، وسس سفلة الناس بالإخافة " .
وسمع الموبذ في مجلسه ضحك الخدم فقال: أما يمنع جلالة الملك وهيبته هؤلاء الغلمان من الضحك؟ فقال أنوشروان: إنما يهابنا أعداؤنا.
ولما قُتل بزرجمهر بعث إلى ابنته فجاءته مكشوفة الرأس، فلما رأته غطت رأسها، فقال أنوشروان: سلوها عن ذلك فقالت: ما رأيت أحداً حتى رأيته.
قال سابور: " لم أهزل في أمر ولا نهى قط، ولم أخلف وعداً ولا وعيداً قط، وولّيت للغناء لا للهوى، وضربت للأدب لا للغضب، وأودعت في قلوب الرعية المحبة من غير جرأة، والهيبة من غير ضغينة، وعممت بالقوت، ومنعت الفضول " .
سئل أنوشروان أي الأشياء أحق بالتقاء؟ قال: أعظمها مضرةً، قيل: فإن جُهل قدر المضرة؟ قال: أعظمها من الهوى نصيباً.
وقال: " لا تنزلن ببلد ليس فيه خمسة أشياء: سلطان قاهر، وقاض عادل، وسوق قائمة، وطبيب عالم، ونهر جار " .
وسأل كسرى موبذه: أيما أكثر الشياطين أو الناس؟ فقال: إن حسبت الأكراد والرعاة والعامة وأهل الأسواق من الناس فإن الناس له كثير.

ويقال: إن كسرى أنزل الكتّاب كلواذي، وكانوا يأتون في كل يوم فيعملون عملهم ثم ينصرفون إلى منازلهم، وفرّق إذنهم، فكان يأذن لهم في أوقات مختلفة؛ ليشغلهم ببعد المسافة، ولئلا يجتمعوا فيدبّروا على الملك.
وكانوا يقولون: " كل عزيز دخل تحت القدرة فهو ذليل، وكل مقدور عليه مملوك محقور " .
قال بزرجمهر: " من أحبك نهاك ومن أبغضك أغراك " .
وقيل له: هل من أحد لا عيب فيه؟ قال: الذي لا عيب فيه الذي لا يموت.
وقال كسرى: أي شيء أضر؟ فأجمعوا على الفقر، فقال: الشح أضر منه؛ لأن الفقير قد يصيب الفرجة.
وسئل أنوشروان عن منفعة الولد الصالح قال: يستلذ به العيش، ويهون به الموت.
سألت امرأة بزرجمهر عن مسألة فقال: لا أعرف جوابها، فقالت: أنت تأخذ من الملك ما تأخذ ولا تعرف جواب مسألة لي؟ فقال: إن الملك يعطيني على ما أعلمه ولو أعطاني على ما لا أعلمه لم يسعني بيت ماله ليوم واحد.
وقالوا: من قدر أن يحترس من أربع خصال لم يكن في تدبيره خلل: الحرص، والعُجب واتباع الهوى، والتواني.
قيل لأنوشروان: اصطنعت فلاناً ولا نسب له، فقال: اصطناعنا إياه نسبه.
دخل دهقان على المهلب فقال: أصلح الله الأمير: ما أشخصتني إليك الحاجة، ولا قنعت بالمقام على الغنى، ولا أرضى إذ قمت هذا المقام بالنصفة منك، فقال: ويحك ما تقول؟ قال: أصلحك الله، الناس ثلاثة: فقير، وغني ومستزيد، فالفقير من مُنع حقه، والغني من أعطي ما يستحقه، والمستزيد من طلب الفضل بعد درك الغنى، وإنك - أعزك الله - لما أنصفتني بإدائك لي حقي، تطلعت نفسي إلى استزادتك فوق حقي، فإن منعتني فقد أنصفتني، وإن زدتني زادت منتك عظماً عليّ، فأحسن جائزته، وأمره بلزومه، وأعجبه ما رأى من ظرفه.
قال كسرى: النبيذ صابون الغم.
حكى المعلّى بن أيوب عن بعض حكماء فارس أنه قال: تعجب الجاهل من العاقل أكثر من تعجب العاقل منه.
من وصية كسرى: " لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو ولا تحبوا الاحتكار فيشملكم القحط، وكونوا لأبناء السبيل مأوى تؤووا غداً في المعاد، وتزوجوا في الأقارب، فإنه أثبت للنسب، وأقرب للسبب، ولا تركنوا إلى الدنيا. فإنها لا تدوم، ولا ترفضوها مع ذلك؛ فإن الآخرة لا تنال إلا بها " .
وقال: " الحرب سوق، وتجارتها الغلبة، فمن لم يكن له بضاعة لم يكن له تجارة " .
وقال: من حارب بأجرة فهو يعرض هزيمة؛ لأن حربه بلا غضب ولا نية ولا أنفة ولا حمية.
قال بزرجمهر: " أدنى الأنفس نفس تكرى للحرب " .
قال اسفنديار: أفره ما يكون من الدواب لا يستغني عن السوط، وأعف من تكون من النساء لا تستغني عن الزوج، وأعقل من يكون من الرجال لا يستغني عن مشاورة ذوي الألباب.
وقال عمرو بن العاص لدهقان نهر تيري: بم ينبل الرجل عندكم؟ فقال: بترك الكذب؛ فإنه لا يشرف إلا من يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله، فإنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانية الريب؛ فإنه لا يعز من لا يؤمن أن يصادف على سوأة، وبالقيام بحاجات الناس؛ فإنه من رجي الفرج لديه كثرت غاشيته.
وقال بزرجمهر: من كثر ادبه كثر شرفه وإن كان قبل وضيعا، وبعُد صوته وإن كان خاملاً، وساد وإن كان غريباً، وكثرت الحاجات إليه وإن كان مقتراً، وقال بعض ملوكهم لوزيره، وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإن عدمه؟ قال: فمال يستره، قال: فإن عدمه؟ قال: فأدب يتحلى به، قال: فإن عدمه؟ قال: فصاعقة تحرقه.
وقال أردشير: " من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خلال الخير عليه " .
لما مات قُباذ قال المُوبذ: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس.
وقيل لبعض أشرافهم في علته التي مات فيها: ما بك؟ فقال: فكر عجيب، وحسرة طويلة. فقيل له: مم ذاك؟ فقال: ما ظنكم بمن يقطع سفراً قفراً بلا زاد، ويسكن قبراً موحشاً بلا مؤنس، ويقدم على حكم عدل بلا حجة؟.
وقال أردشير: إن للآذان مجةً، وللقلوب مللاً، ففرقوا بين الحكمتين بلهو يكن ذلك استجماما.
وكان أنوشروان يقول: القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كاحتياج الأبدان إلى أقواتها من الغذاء.
وقال أردشير: " الداء في كل مكتوم " .

قال سابور: لما رأيت تأتّي الأشياء لذوي الجهل على جهلهم وانصرافها عن ذوي الألباب والعقول، علمت أن المدبّر غيرهما، وأنها جارية بغير تدبير العاقل والأحمق.
قال أردشير: اشغل النفس بما يحسن قطعاً لها عما لا يحسن.
كان كسرى إذا غضب على بعض حاشيته هجره ولم يقطع عنه خيره، فقيل له في ذلك، فقال: " نحن نعاقب بالهجران لا بالحرمان " .
وقال أنوشروان: إياك وما يعتذر أو يستحيا منه؛ فإنما يعتذر من الذنب، ويستحيا من القبيح.
قال أردشير: " الابتداء بالمعروف، نافلة وربه فريضة " .
قال بزرجمهر: إذا اشتبه عليك أمران فانظر أحبهما إلى نفسك فاجتنبه، وإذا أعياك فشاور امرأةً وخالفها.
قيل لأردشير: هل ندمت على شيء قط؟ قال: نعم، على معروف أمكنني فأخرته.
قيل لأنوشروان: أي شيء أحق أن نجتهد فيه في الصبا وفي الشباب وفي كل حين؟ قال: أما في الصبا فالتأدب، وأما في الشباب فالعمل، وأما في كل حين فاجتناب الذنوب.
قيل لمزدك: ما الفرق بين الحزن والغضب؟ قال: إذا كان الأمر ممن فوقك أحزنك، وأما إذا كان ممن دونك أغضبك.
جلس كسرى للمظالم فتقدم إليه رجل قصير وجعل يصيح أنا مظلوم، وهو لا يلتفت إليه، فقال له الموبَذ: انظر في أمره، قال كسرى: القصير لا يظلمه أحد، فقال الرجل: أيها الملك، الذي ظلمني هو أقصر مني، فضحك ونظر في أمره.
وقال بزرجمهر: الفراغ يهيّج الفكرة، والفكرة تهيّج الفتنة.
قال أنوشروان: الناس ثلاث طبقات، تسوسهم ثلاث سياسات: طبقة من خاصة الأبرار، يسوسهم العطف واللين والإحسان، وطبقة من خاصة الأشرار تسوسهم الغلظة والشدة والعنف، وطبقة هم العامة، يسوسهم اللين والشدة، لئلا تحرجهم الشدة، ولا يبطرهم اللين.
وقالوا: التقاط الرشى وضبط الملك لا يلتقيان.
كانت الفرس تقول: نحن لا نملك من يحتاج أن يشاور، فقال بعضهم: نحن لا نملك من يستغني عن المشورة.
قيل لأنوشروان: ما وثائق الحزم؟ قال: أن يختل الأعداء من المال، فإن الناس أتباعه.
قال بعض ملوكهم: يكاد الملك أن يكون مستغنياً عن كل شيء إذا كان حكيماً إلا عن شيء واحد وهو المشورة.
قالت أم بزرجمهر: يا بني ركوب الأهوال يأتي بالغنى، وهو أوثق أسباب الفناء.
وأوصى بعض ملوكهم ابنه فقال: أطلق من الناس عقد كل حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر، وتغاب عن كل دنية، ولا تركبن شبهة، ولا تعجل إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش، وإن قال قول النصيح.
قال بزرجمهر: إذا كان القدر حقاً فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طباجاً فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت لكل أحد راصداً فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.
قال أردشير: " إصلاح الشيم بالقناعة، ونمو العقل بالعلم " .
كتب أنوشروان إلى مرازبة خراسان: عليكم بأهل الشجاعة والسخاء فإنهم أهل حسن الظن بالله.
وقال بعض حكمائهم: لو كان الإفراط محموداً في شيء ما كان إلا في الحلم والجود، ولو تلاحى فيهما الإفراط والاعتدال لكان الاعتدال أولاهما بالذم؛ لسلامة الجود من جميع العيوب.
كتب أبرويز من حبسه إلى ابنه: إن كلمةً منك تسفك دماً، وإن أخرى منك تحقن دماً، وإن سخطك سيوف مسلولة على من سخطت عليه، وإن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه، وإن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك، فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ، ومن لونك أن يتغير، ومن جسدك أن يخف؛ فإن الملوك تعاقب قدرة، وتعفو حلماً، وما ينبغي للقادر أن يستخف ولا للحليم أن يزدهى، فإذا رضيت فابلغ بمن رضيت عنه يحرض سواه على رضاك، وإذا سخطت فضع من سخطت عليه يهرب من سواه من سخطك، وإذا عاقبت فانهك لئلا يتعرض لعقوبتك، واعلم أنك تجل عن الغضب، وأن الغضب يصغر عن ملكك، وقدّر لسخطك من العقاب كما تقدّر لرضاك من الثواب.
وكتب إليه رسالة: لا زالت النعمة عند الأجواد، والسلطان في أهل العلم، والعدل في الحكّام؛ لأن بنعمة الأجواد يعم الدنيا الخصب، وبعلم الملك يشمل الناس الأمن، وبعدل الحكّام تخلو الدنيا من الظلم.

وفي عهد سابور إلى ابنه: وزيرك فليكن مقبول القول عندك، رفيع المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك، وما يثق به من لطافة منزلته عندك، من الخنوع لأحد والضراعة إلى أحد، والمداهنة لأحد في شيء مما تحت يديه؛ لتبعثه الثقة بك على محض النصيحة لك، والمنابذة لمن أراد غشك وانتقاصك حقك، وإذا أورد عليك رأياً يخالفك ولا يوافق الصواب عندك، فلا تجتهد جهد الظنين، ولا ترده عليه بالتجهم، فيفتّ في عضده ذلك، ويقبضه إثباتك كل رأي يلوح له صوابه، با اقبل ما رضيت من رأيه وقوله، وعرفه ما تخوفت من ضرر الرأي الذي انصرفت عنه، لينتفع بأدبك فيما يستقبل النظر فيه، واحذر كل الحذر من أن تنزل بهذه المنزلة سوى وزيرك ممن يطيف بك من خاصتك وخدمك، أو أن تسهّل لأحد منهم السبيل إلى الانبساط بالنطق عندك، والإفاضة في أمر رعيتك وعملتك، فإنه لا يوثق بصحة رأيهم، ولا يؤمن الانتشار فيما ائتمنوا عليه من السر المكتوم من سواهم.
وفي هذا العهد: واعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج، ودرور الخراج بعمارة البلاد، وبلوغ الغاية في ذلك باستصلاح أهله بالعدل عليهم، والمعاونة لهم؛ فإن بعض ذلك لبعض سبب، وعوّام الناس لخواصهم عدة، وبكل صنف منهم إلى الآخر حاجة، فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتّابك، وليكونوا من أهل البصر والعفافا والكفاية، وأسند إلى كل امرئ منهم شقصاً يضطلع به، ويمكنه تعجيل الفراغ منه، فإن اطلعت على أن أحداً منهم خان أو تعدى فنكّل به، وبالغ في عقوبته، واحذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها إلا البعيد الصوت، العظيم شرف المنزلة، ولا توايّنّ أحداً من قواد جندك الذين هم عدة للحروب، وجنة من الأعداء خراجاً؛ فلعلك تهجم من بعضهم على خيانة الأموال، وتضييع للعمل، فإن سوّغته المال وأغضبت له عن التضييع كان ذلك إهلاكاً وإضراراً بالرعية وداعية إلى فساد غيره، وإن أنت كافأته فقد استفدته وأضغنت صدره، وهذا أمر توقّيه حزم، والإقدام عليه خرق، والتقصير فيه عجز.
وفيه: واعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه وضياعه إلى خاصة الملك وبطانته لأحد أمرين، أنت حري بكراهتهما: إما للامتناع من جور العمال وظلم الولاة، فتلك منزلة يظهر بها سوء أثر العمال وضعف الملك وإخلاله بما تحت يده، وإما للدفع بما يلزمهم من الحق، والكسر له، فهذه خلة يفسد بها أدب الرعية، وتنتقص بها الأموال، فاحذر ذلك، وعاقب الملجئين والملجأ إليهم.
وفي كتاب للموبذ إلى هرمز بن سابور: فأما وزراء الملك فيجب أن يختارهم من أهل بيت الوزارة والحسب والعقل والصلاح والتجربة والأناة ومحض الطاعة وشدة الاهتمام بصلاح الخاصة والعامة، وقلة الشره والحرص على الدنيا.
ولا يؤثر على الملك قريباً ولا بعيداً، ولا يمالئ عليه لرغبة ولا رهبة، ولا يلتمسه شيئاً يرجو به نفعاً، أو يخاف به ضراً، وأن يطيع آراءهم، ويتهم بعضهم على بعض، وألا يُطمع أحداً في أعمالهم، ولا في الإصغاء إليه، فإن الوزير: الناصح أكثر الناس له عامة وبطانة الملك قرابته خاصة، وما شيء أزين للملك ولا أنفع ولا أعود عليه من الوزير الناصح.
وقال أبرويز لوزيره: اكتم السر، واصدق في الحديث، واجتهد في النصيحة، واحترس بالحذر، فعلي ألا أعجل عليك حتى أستأني، ولا أقدم عليك حتى أستيقن ولا أطمع فيك فأغتالك.
وقال لكاتبه: إنما الكلام أربعة أقسام: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وامرك بالشيء، وخبرك عن الشيء، فهذه دعائم المقالات، إن التمس إليها خامس لم يوجد، وإن نقص منها واحد لم تتيم، فإذا طلبت فأسجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فاحتم، وإذا خبّرت فحقق.
وصف رجل أنوشروان فقال: كان والله من أصبر الناس، قيل: وما بلغ من صبره؟ فقال: كان له كاتب بليد فكان يكتب له تذكرة بحوائجه فينسى التذكرة.
يقولون: للوزير على الملك، وللكاتب على الصاحب ثلاث خصال: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه، وإفشاء السر إليه.

وحُكي أن سابور استشار وزيرين كانا له، فقال أحدهما: " لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً به، فإنه أصون للسر، وأحزم في الرأي، وأدعى إلى السلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة بعض؛ لأن الواحد رهن بما أفشي إليه، وهو أحرى ألا يظهره رهبة للملك، ورغبة إليه، وإذا كان عند اثنين فظهر، دخلت على الملك الشبهة، واتسعت على الرجلين المعاريض، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم، وإن عفا عنهما عفا عن واحد لا ذنب له، وعن الآخر ولا حجة عليه " .

نسخة عهد أردشير بن بابك إلى من يخلفه من بعده
من ملك الملوك أردشير بن بابك إلى من يخلفه بعقبه من ملوك فارس السلام والعافية.
أما بعد: فإن صنيع الملوك على غير صنيع الرعية، فالملك يطيعه العز والأمن والسرور والقدرة على طباع الأنفة والجرأة والعبث والبطر. ثم له، كلما ازداد في العمر تنفساً وفي الملك سلامةً، زيادة في هذه الطبائع الأربعة حتى تسلمه إلى " سُكر السلطان الذي هو أشد من سكر الشراب " فينسى النكبات والعثرات والغِير والدوائر. ويحين تسلط الأيام ولؤم غلية الدهر، فيرسل يده بالفعل ولسانه بالقول. وقد قال الأولون منا: " عند حسن الظن بالأيام تحدث الغير " . وقد كان من الملوك من يذكره عزه الذل، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وقدرته العجز، فإذا هو قد جمع بهجة الملوك، وفكرة السوقة، ولا حزم إلا في جمعهما.
اعلموا أن الذي أنتم لاقوه بعدي هو الذي لقيني من الأمور، وهي بعدي واردة عليكم بمثل الذي وردت به عليّ، فيأتيكم السرور والأذى في الملك من حيث أتياني، وأن منكم من سيركب الملك صعباً فيُمنى من شماسه وجماحه وخبطه واعتراضه بمثل الذي منيت به، وأن منكم من سيرث الملك عن الكفاة المذللين له مركبه، وسيجري على لسانه ويلقى في قلبه أن قد فرّغ له وكفي واكتفى وفرّغ للسعي في العبث والملاهي، وأن من قبله من الملوك إلى التوطيد له أجروا، وفي التمكين له سعوا، وأن قد خص بما حرموا، وأُعطي ما مُنعوا، فيكثر أن يقول مسرّاً ومعلناً، خصوا بالعمل وخصصت بالدعه، وقدّموا قبلي إلى الغرر وخُلّفت في الثقة.
وهذا الباب من الأبواب التي يكسر بها سكور الفساد، ويهاج بها دواهم البلاء، ويعمى البصير عن لطيف ما يُنتهك من الأمور في ذلك.
فإنا قد رأينا الملك الرشيد السعيد المنصور المكفي المظفر الحازم في الفرضة، البصير بالعورة، اللطيف للشبهة، المبسوط له العلم والعمر، يجتهد فلا يعدو إصلاح ملكه حياته إلا أن يتشبه به متشبه. ورأينا الملك القصير عمره، القريبة مدته، إذا كان سعيه بإرسال اللسان بما قال، واليد بما عملت، بغير تدبير يدرك، أفسد جميع ما قُدم له من الصلاح قبله، ويُخلّف المملكة خراباً على من بعده.
وقد علمت أنكم ستبلون مع الملك بالأزواج والأولاد والقرناء والوزراء والأخدان والأنصار والأصحاب والأعوان والمتنصحين والمتقربين والمضحكين والمزينين، وكل هؤلاء، إلا قليلاً، أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطى منها، وإنما عمله لسوق يومه وحياة غده، فنصيحته الملوك نصيحة لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فساد من يجعل نفسه هي العامة، والعامة هي الخاصة، فإن خُص بنعمة دون الناس فهي عنده نعمة عامة، وإذا عُم الناس بالنصر على العدو والعدل في البيضة والأمن على الحريم والحفظ للأطراف والرأفة من الملك والاستقامة من الملك ولم يخصص من ذلك بما يُرضيه سمى تلك النعمة نعمة خاصة، ثم أكثر شكيته الدهر ومذمته الأمور، بقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الأرباح، ولا يعلم ذلك الوزير القرين أن في التماس الريح على السلطان فساد جميع الأمور. وقد قال الأولون منا: " رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان " .

واعلموا أن الملك والدّين توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه لأن الدين أس الملك وعماده، ثم صار الملك بعد حارس الدين، فلا بد للملك من أسه ولا بد للدين من حارسه، فإن ما لا حارس له ضائع، وإن ما لا أس له مهدوم، وأن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم فتحدث في الدين رياسات مستسرات فيمن قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة. ولم يجتمع رئيس في الدين مسر ورئيس في الملك معلن في مملكة واحدة إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأن الدين أس، والمُلك عماد، وصاحب الأس أولى بجميع البنيان من صاحب العماد. وقد مضى قبلنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الجملة بالتفتيش، والجماعات بالتفصيل، والفراغ وكانوا بالأشغال، كتعهده جسده بقص فضول الشعر والظفر، وغسل الدرن والغمر ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن.
وقد كان من أولئك الملوك من صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده، وكان بما يخلّفه من الذكر الجميل المحمود أفرح وأبهج منه بما يسمعه بأذنه في حياته، فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد، وكأن أرواحهم روح واحدة، يمكّن أولهم لآخرهم، ويصدّق آخرهم أولهم، تجتمع أنباء أسلافهم ومواريث آرائهم وصياغات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم، فكأنهم جلوس معهم يحدثونه، ويشاورونه، حتى كان على رأس دارا بن دارا ما كان من غلبة الإسكندر على ما غلب عليه من مُلكنا، فكان إفساده أمرّنا، وتفريقه جماعتنا، وتخريبه عمران مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا، فلما أذن الله في جمع مملكتنا ودولة أحسابنا كان من ابتعاثة إيانا ما كان " بالاعتبار يتّقى العثار " ومن يخلفنا أوجد للاعتبار منا، لما استدبروا من أعاجيب ما مرّ علينا.
اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجساد الرعية، وأنه لا سلطان للملوك على القلوب.
واعلموا أنكم إن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على عقولهم.
واعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين، فكان بالدين يحتج، وللدين فيما يظهر، يغضب فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، ثم هو أوجد للتابعين والمصدقين والمناصحين والموالين والمؤازرين منكم، لأن بغضة الناس موكلة بالملوك، ومحبتهم ورحمتهم موكلة بالضعفاء والمغلوبين.
وقد كان من قبلنا من الملوك يحتالون لعقول من يحذرون، بتخريبها، فإن العاقل لا تنفعه جودة تجربة إذا صير عقله خرابا، وكانوا يحتالون للطاعنين بالدين على الملوك فيسمونهم بالمبتدعين، فيكون الدين هو الذي يقتلهم ويربح الملوك منهم.
ولا ينبغي للملك أن يعترف للعبّاد والنسّاك والمتبتلين أن يكونوا أولى بالدين ولا أحدب عليه ولا أغضب له منه.
ولا ينبغي للملك أن يدع النسّاك بغير الأمر والنهي لهم في نسكهم ودينهم، فإن خروج النساك وغير النساك من الأمر والنهي عيب على الملوك وعيب على المملكة، وثلمة يستبينها الناس بينة الضرر للملك ولمن بعده.
واعلموا أن تصبر الوالي على غير أخدانه وتقريبه غير وزرائه فتح لأبواب محجوب عنه علمها. وقد قيل: " إذا استوحش الوالي ممن لم يوطن نفسه عليه أطبقت عليه ظلم الجهالة " . وقيل: " إن أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون الوزراء " .
اعلموا أن دولتكم تؤتى من مكانين: أحدهما، غلبة بعض الأمم المخالفة لكم، والآخر فساد دينكم، ولن يزال حريمكم من الأمم محروساً ودينكم من غلبة الأديان محفوظاً ما عظّمت فيكم الولاة، وليس تعظيمهم بترك كلامهم، ولا إجلالهم بالتنحي عنهم ولا المحبة لهم بالمحبة لكل ما يحبون، ولكن تعظيمهم تعظيم أديانهم وعقولهم، وإجلالهم إجلال منزلتهم من الله جل وعز، ومحبتهم محبة إصابتهم وحكاية الصواب عنهم.
واعلموا أنه لا سبيل إلى أن يعظّم الوالي إلا بالإصابة في السياسة، ورأس إصابة السياسة أن يفتح الوالي لمن قبله من الرعية بابين: احدهما، باب رقة ورحمة ورأفة وبذل وتحنن وإلطاف ومواتاة ومواساة وبشر وتهال وانبساط وانشراح، والآخر، باب غلظة وخشونة وتعنت وشدة وإمساك ومباعدة وإقصاء، ومخالفة ومنع وقطوب وانقباض ومحقرة إلى أن يبلغ القتل.

واعلموا أني لم أسم هذين البابين باب رفق وباب عنف، ولكني سميتهما جميعاً بابي رفق؛ لأن فتح باب المكروه مع باب السرور هو أوشك لإغلاقه حتى لا يبتلى به أحد.
واعلموا أن في الرعية من الأهواء الغالية للرأي، والفجور المستثقل للدين، والسفلة الحنقة على الوجوه بالنفاسة والحسد ما لا بد معه أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة، وبباب الاستبقاء باب القتل.
واعلموا أن الوالي قد يفسد بعض الرعية من حرصه على صلاحها، أو قد يغلظ عليها من شدة رقته لها، وقد يقتل منها من حرصه على حياتها.
واعلموا أن قتالكم الأعداء من الأمم قبل قتالكم الأدب من أنفس رعيتكم ليس بحفظ ولكنه إضاعة، وكيف يجاهد العدو بقلوب مختلفة وأيد متعادية؟ وقد علمتم أن الذي بني عليه الناس وجبلت عليه الطباع حب الحياة وبغض الموت، وإن الحرب تباعد من الحياة، وتدني من الموت، فلا دفع ولا منع ولا صبر ولا محاماة مع هذا إلا بأحد وجهين: إما بنية، والنية ما لا يقدر عليه الوالي عند الناس بعد النية التي تكون في أول الدولة، وإما بحسن الأدب وإصابة السياسة.
واعلموا أن بدء ذهاب الدولة إنما يبدأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة ولا أعمال معلومة، فإذا فشا الفراغ تولّد منه النظر في الأمور والفكر في الأصول، فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة، فتختلف بهم المذاهب، ويتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم وتضاغنهم، وهم في ذلك مجتمعون في اختلافهم على بغض الملوك؛ لأن كل صنف منهم إنما يجري إلى فجيعة الملك الذي يملكه، ولكنهم لا يجدون سلماً إلى ذلك أوثق من الدين، ولا أكثر أتباعاً، وأعز امتناعا، ولا أشد على الناس صبراً، ثم يتولد من تعاديهم أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوىً واحد، فإذا انفرد ببعضهم فهو عدو لبعض.
ثم يتولد من تعاديهم وعداوتهم للملك كثرتهم، فإن من شأن العامة الاجتماع على الاستثقال للولاة والنفاسة عليهم، لأن في الرعية المحروم والمضروب والمقام عليه وفيه وفي حميمه الحدود، والداخل عليه بعز الملك الذل في نفسه وخاصته، فكل هؤلاء يجري إلى متابعة أعداء الملك، ثم يتولد من كثرتهم أن يجبن الملك على الإقدام عليهم؛ فإن إقدام الملك على جميع الرعية تغرير بملكه ونفسه، ويتولد من جبن الولاة عن تأديب العامة تضييع الثغور التي فيها الأهم من ذوي الدين وذوي البأس؛ لأن الملك إذا سد الثغور بخاصة المناصحين له وخلت به العامة الحاسدة والمعادية، لم يعد بذلك تدريبهم في الحرب وتقويتهم في السلاح، وتعليمهم المكيدة مع البغضة، فهم عند ذلك أقوى عدو وأخفره وأخلفه للظفر، ولا بد من استطراد هذا كله إذا ضيّع أوله.
فمن ألغى منكم الرعية بعدي وهي على حال أقسامها الأربعة - التي هي: أصحاب الدين والحرب والتدبير والخدمة. من ذلك: الأساورة صنف، والعبّاد والنسّاك وسدنة النيران صنف، والكتّاب والمنجمون صنف والأطباء صنف، والزرّاع والمهّان والتجار صنف.
فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماماً منه بإحياء تلك الحال، وتفتيش ما يحدث فيها من الدخلات؛ فلا يكونن لانتقاله عن الملك بأجزع منه لانتقال صنف من هذه الأصناف إلى غير مرتبته؛ لأن تنقل الناس عن مراتبهم سريع في نقل الملك عن ملكه، إما إلى خلع وإما إلى قتل؛ فلا يكونن من شيء من هذه الأشياء بأوحش منه من رأس صار ذنباً، وذنب صار رأساً، أو يد مشغولة أُحدثت فراغاً، أو كهيم صار ضريرا، أو لئيم مرج.
فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته، فإذا انتقل عنها أوشك أن يرى أشياء أرفع مما انتقل إليه فيغبط أو ينافس فيه.
وقد علمتم أن من الرعية أقواماً هم أقرب الناس إلى الملوك حالاً، وفي تنقل الناس عن حالاتهم مطمعة للذين يلون الملوك في الملك، ومطمعة للذين دون الذين يلون الملوك في تلك الحال، وهذا لقاح بوار الملك.

ومن ألغى منكم الرعية وقد أضيع أول أمرها فألفاها في اختلاف من الدين، واختلاف من المراتب وضياع من العامة، وكانت به على المكاثرة قوة فليكاثر بقوته ضعفهم، وليبادر بالأخذ بأكظامهم قبل أن يبادروا بالأخذ بكظمه، ولا يقولن أخاف العسف، فإنما يخاف العسف - من يخاف جريرة العسف - على نفسه، وأما إذا كان العسف لبعض الرعية صلاحاً لبقيتها، وراحة له ولمن بقي معه من الرعية من النغل والدغل والفساد فلا يكونن إلى شيء بأسرع منه إلى ذلك، فإنه ليس نفسه يعسف، ولا أهل موافقته يعسف ولكنما يعسف عدوه.
ومن ألغى منكم الرعية في حال فسادها، ولم ير بنفسه عليها قوة في صلاحها، فلا يكونن لقميص قمل بأسرع خلعاً منه لما لبس من ذلك الملك، وليأته البوار، إذا أتاه، وهو غير مذكور بشؤم ولا منوّه به في دناءة، ولا مهتوك به ستر ما في يديه.
واعلموا أن فيكم من يستريح إلى اللهو والدعة ثم يديم من ذلك ما يورّثه خلقاً وعادة فيكون ذلك لقاح جد لا لهو فيه، وتعب لا خفض معه، مع الهجنة في الرأي، والفضيحة في الذكر، وقد قال الأولون منا: " لهو رعية الصدق بتقريظ الملوك ولهو ملوك الصدق بالتودد إلى الرعية " .
واعلموا أنه من شاء منكم ألا يسير بسيرة إلا قُرّظت عليه فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأزكاها فلم يكن الناس بعيب نفوسهم بأعلم منهم بعيبه فعل.
ثم أنه ليس منكم ملك إلا كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده.
ومن فساد الرعية نشر أمور ولاة العهود، فإن في ذلك من الفساد أن أولّه دخول عداوة ممضة بين الملك ووليّ عهده، وليس يتعادى متعاديان بأشد من أن يسعى كل واحد منهما في قطع سؤل صاحبه، وهكذا الملك ووليّ عهده، لا يسر الأرفع أن يعطي الأوضع سؤله في فنائه، ولا يسر هذا الأوضع أن يعطي الآخر سؤله في البقاء، ومتى كان فرح أحدهما في الراحة من صاحبه تدخل في كل واحد وحشة من صاحبه في طعامه وشرابه، ومتى تباينا بالتهمة يتخذ كل واحد أحباء وأخداناً وأهلاً، ثم يدخل كل واحد منهما وغر على أحباء صاحبه، ثم تنساق الأمور إلى إهلاك أحدهما لما لا بد له من الفناء، فتفضي الأمور إلى الآخر وهو حنق على جيل من الناس يرى أنه موتور إن لم يحرمّهم ويضعهم وينزل بهم التي كانوا يريدونها به، لو ولوّا، فإذا وضع بعض الرعية وأسخط بعضاً على هذه الجهة تولّد من ذلك ضغن وسخط من الرعية، ثم ترامى ذلك إلى بعض ما أحذر عليكم بعدي.
ولكن لينظر الوالي منكم لله تعالى ثم للرعية ثم لنفسه، ثم لينتخب ولياً للعهد من بعده، ثك يكتب اسمه في أربع صحائف فيختمها بخاتمه فيضعها عند أربعو نفر من خيار أهل المملكة، ثم لا يكون منهم في سر ولا علانية أمر يستدل به على وليّ ذلك العهد، لا في إدناء وتقريب يعرف به، ولا في إقصاء وتنكب يستراب له، وليتق ذلك في اللحظة والكلمة، فإذا هلك جُمعت تلك الكتب التي عند الرهط الأربعة إلى النسخة التي عند الملك، ففضضن جميعاً ثم نوّه بالذي وضح اسمه في جميعهن.
يلقى الملك، إذا لقيه، بحداثة عهده بحال السوقة، فيلبس ذلك الملك، إذا لبسه، على بصر السوقة وسمعها ورأيها - أذنه - ، فإن في سكر السلطان الذي يناله ما يُكتفى به له من سكر ولاية العهد مع سكر الملك، فيصم ويعمى قبل لقاء الملك كصم الملوك وعماهم، ثم يلقى الملك فيزيده صماً وعمى مع ما يلقى في ولاية العهد من بطر السلطان وحيلة العتاة وبغي الكذابين وترقية النمامين، وتحميل الوشاة بينه وبين من فوقه.
ثم اعلموا أنه ليس للملك أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه. وليس له أن يلعب ولا يعبث، لأن العبث واللعب من عمل الفراغ، وليس له أن يفرغ، لأن الفراغ من عمل السوقة، وليس له أن يحسد؛ لأن الحسد لا يجب أن يكون إلا على ملوك الأمم على حسن التدبير، وليس له أن يخاف، لأن الخوف من المعوز. وليس له أن يتسلط إن هو أعوز.
واعلموا أن زين الملك في استقامة الحال ألا تختلف منه ساعات العمل والمباشرة وساعات الفراغ والدعة وساعات الركوب والنزهة، فإن اختلافها منه خفة، وليس للملك أن يخف.
واعلموا انكم لن تقدروا على ختم أفواه الناس من الطعن والإزراء عليكم، ولا قدرة بكم على أن تجعلوا القبيح حسنا.

واعلموا أن لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وبالحري أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحدا، ولبس فضل الملك على السوقة إلا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم، فإن الملك إذا شاء أحسن وليس السوقة كذلك.
واعلموا انه يحق على الملك منكم أن يكون ألطف ما يكون نظراً، أعظم ما يكون خطراً، وألا يذهب حسن أثره في الرعية خوفه لها، وألا يستغني بتدبيره اليوم عن تدبير غد، وأن يكون حذره للملاقين أشد من حذره للمباعدين وأن يتقي بطانة السوء أشد من اتقائه عامة السوء. " ولا يطمعنّ ملك في إصلاح العامة إذا لم يبدأ بتقويم الخاصة " .
واعلموا أن لكل ملك بطانة، وأن لكل رجل من بطانته بطانة، ثم لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة، - حتى يجتمع في ذلك جميع أهل المملكة، فإذا أقام الملك بطانته - على حال الصواب أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك، حتى تجتمع على الصلاح عامة الرعية.
واعلموا أن الملك منكم قد تهون عليه العيوب؛ لأنه لا يُستقبلُ بها، وإن عملها، حتى يرى أن الناس يتكاتمونها بينهم كتكاتمهم إياه تلك العيوب، وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى، وطاعة الهوى داعية إلى غلبته " فإذا غلب الهوى اشتد علاجه من السوقة المغلوبة فضلاً عن الملك الغالب " .
اتقوا باباً واحداً طالما أمنته فضرني، وحذرته فنفعني، احذروا إفشاء السر عند الصغار من أهليكم وخدمكم؛ فإنه لا يصغر أحد منهم عن حمل ذلك السر إلا ضيّع منه شيئاً يضعه حيث تكرهون، إما سقطاً وإما عبثاً، والسقط أكثر ذلك.
اجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وسركم عند من يلزمه خير ذلك وشره، وزينة وشينة.
واعلموا أن " صحة الظنون مفاتيح اليقين " وأنكم ستستيقنون من بعض رعيتكم بخير وشر، وستظنون ببعضهم خيراً وشراً، فمن استيقنتم منه الخير والشر فليستيقن منكم بهما. ومن ظننتموهما به فليظنهما بكم في أمره، فعند ذلك يبدو من المحسن إحسانه، فيخالف الظن به فيغتبط ومن المسيء إساءته فيصدّق الظن به فيندم.
واعلموا أن للشيطان في ساعات من الدهر طمعاً في السلطان عليكم: منها ساعة الغضب والحرص والزهو، فلا تكونوا له في شيء من ساعات الدهر أشد قتالاً منكم عندهن حتى تنقشعن. وكان يقال: " اتق مقارفة الحريص القادر؛ فإنه إن رآك في القوت رأى منك أخبث حالاتك، وإن رآك في الفضول لم يدعك وفضولك " .
استعينوا بالرأي على الهوى فإن ذلك تمليك للرأي على الهوى.
واعلموا أن من شأن الرأي الاستخذاء للهوى، إذا جرى الهوى على عادته، وقد عرفنا رجالاً كان الرجل منهم يؤنس من قوة طباعه ونبالة رأيه ما تريه نفسه أنه على إزاحة الهوى عنه - وإن جرى على عادته، ومعاودته الرأي وإن طال به عهده - قادر، لثقة يجدها بقوة الرأي، فإذا تمكن الهوى منه فسخ عزم رأيه، حتى يسميه كثير من الناس ناقصاً في العقل، فأما البصراء فبستبينون من عقله عند غاية الهوى عليه ما يستبان من الأرض الطيبة الموات.
واعلموا أن في الرعية صنفاً من الناس هم بإساءة الوالي أفرح منهم بإحسانه وإن كان الوالي لم يترهم، وكان الزمان لم ينكبهم، وذلك لاستطراف حادثات الأخبار فإن استطراف الأخبار معروف من أخلاق حشو الناس، ثم لا طرفة عندهم إلا فيما اشتهر؛ فجمعوا في ذلك سرور كل عدو لهم ولعامتهم مع ما وتروا به أنفسهم وولاتهم. فلا دواء لأولئك إلا بالأشغال.
وفي الرعية صنف وتروا الناس كلهم، وهم الذين قووا على جفوة الولاة، ومن قوي على جفونهم فهو غير ساد ثغرا، ولا مناصح إماماً، ومن غش الإمام فقد غش الناس طرا وإن ظن أنه للعامة مناصح. وكان يقال: " من لم ينصح عملاً من غش عامله " .
وفي الرعية صنف تركوا إتيان الملوك من قبل أبوابهم وأتوهم من قبل وزرائهم، فليعلم الملك منكم أنه من أتاه من قبل بابه فقد آثره بنصيحة إن كانت عنده، ومن اتاه من قبل وزرائه فهو مؤثر للوزير على الملك في جميع ما يقول ويفعل.
وفي الرعية صنف دعوا إلى أنفسهم الجاه بالأياء والرد له ووجدوا ذلك عند المغفلين نافقاً، وربما قرّب الملك الرجل من أولئك لغير نبل في رأي، ولا إجزاء في العمل، ولكن الأياء والرد أغرباه.

وفي الرعية صنف أظهروا التواضع واستشعروا الكبر، فالرجل منهم يعظ الملوك زارياً عليهم بالموعظة، يعتد ذلك تقربّاً إليهم، ويتخذ ذلك أسهل طريقي طعنه عليهم: ويسمّى ذلك هو وكثير ممن معه تحرياً للدين؛ فإذا أراد الملك هوانهم لم يعرف لهم ذنباً يهانون عليه، وإذا أراد إكرامهم فهي منزلة حبوا بها أنفسهم على رغم الملوك، وإن أراد إسكاتهم كان السماع في ذلك أنه استثقل ما عندهم من حفظ الدين، وإن أمروا بالكلام قالوا: إنما نفسد ولا نصلح، فأولئك أعداء الدول وآفات الملوك: فالرأي للملوك تقريبهم من الدنيا، فإنهم إليها أجروا، وفيها عملوا، ولها سعوا، وإياها أرادوا، فإذا تلوثوا بها بدت فضائحهم، وإن امتنعوا مما في أيدي الملوك فإن فيما يحدثون ما يجعل للملوك سلّماً إلى سفك دمائهم. وكان بعض الملوك يقول: " القتل أقل للقتل " .
وفي الرعية صنف أتوا الملوك من قبل النصائح لهم، والتمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس، فأولئك أعداء الناس، وأعداء الملوك " ومن عادى الملوك وجميع الناس والرعية فقد عادى نفسه " .
واعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات: منهن حال السخاء حتى تدنو من السرف، ومنهن حال التقدير حتى تقرب من البخل، ومنهن حال الأناة حتى تصير إلى البلادة، ومنهن حال المناهزة للفرصة حتى تدنوا من الخفة، ومنهن حال الطلاقة في اللسان حتى تدنو من الهذر، ومنهن حال الأخذ بحكم الصمت حتى تدنو من العي. فالملك منكم جدير أن يبلغ من كل طبقة من محاسنها حدها، فإذا وقف على الحدود التي وراءها سرف ألجم نفسه عما وراءها.
واعلموا أن الملك منكم ستعرض له شهوات في غير ساعاتها، والملك إذا قدّر ساعة العمل، وساعة الفراغ وساعة المشرب، وساعة المطعم، وساعة الفضلة، وساعة اللهو، كان جديراً ألا يعرف منه الاستقدام بالأمور ولا الاستئخار بها عن ساعاتها، فإن اختلاف ذلك يورث مضرتين: إحداهما، السخف، وهي أشد الأمرين، والأخرى، نقض الجسد بنقض أقواته وحركاته.
واعلموا أن من ملوككم من سيقول: لي الفضل على من كان من قبلي من آبائي وعمومتي ومن ورثت عنه هذا الأمر؛ لبعض الإحسان يكون منه، فإذا قال ذلك سوعد عليه بالمتابعة له، فليعلم ذلك الملك أنه والمتابعين له إنما وضعوا أيديهم وألسنتهم في قصب آبائه من الملوك وهم لا يشعرون، وبالحري أن يشعر بعض المتابعين له فيغمض على ما لا يحزنه من ذلك.
واعلموا أن ابن الملك وأخاه وابن أخيه وعمه وابن عمه يقول: كدت أكون ملكاً، وبالحري ألا أموت حتى أكون ملكاً، فإذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك، فإن كتمه " فالداء في كل مكتوم " وإن أظهره كلم ذلك في قلب الملك كلما يكون لقاحاً للتباين والتعادي، وسيجد ذلك القائل، من المتابعين والمحتملين والمنمنمين ما تمنى لنفسه ما يزيده إلى ما اشتاق إليه شوقاً، فإذا تمكن في صدره الأمل لم يرج النيل إلا في اضطراب من الحيل وزعزة تدخل على الملك وأهل المملكة، فإذا تمنى ذلك فقد جعل الفساد سلّماً إلى الصلاح، ولم يكن الفساد سلّماً إلى صلاح قط: وقد رسمت لكم في ذلك مثالاً لا مخرج لكم من هذا إلا به.
اجعلوا الملك لا ينبغي إلا لأبناء الملوك من بنات عمومتهم، ولا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل، ولا عازب الرأي، ولا ناقص الجوارح، ولا معتوب عليه في الدين؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قلّ طلاب الملك، وإذا قلّ طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه، ونزع إلى جديلته، وعرف حاله، وغض بصره، ورضي بمعيشته، واستطاب زمانه.
واعلموا أنه سيقول قائل من عرض رعيتكم أو من ذوي قرابتكم: ما لأحد عليّ فضل لو كان لي ملك، فإذا قال ذلك فقد تمنى الملك وهو لا يشعر، ويوشك أن يتمناه بعد ذلك وهو يشعر، فلا يرى ذلك من رأيه خطلاً، ولا من فعله زللا، وإنما يستخرج ذلك فراغ القلب واللسان مما يكلف أهل الدين والكتّاب والحسّاب، أو فراغ اليد مما يكلف الأساورة، أو فراغ البدن مما يكلّف التجار والمهنة والخدم.
واعلموا أنا على فضل قوتنا، وإجابة الأمور إياناً، وجدة دولتنا، وشدة بأس أنصارنا، وحسن نية وزرائنا لم نستطع إحكام تفتيش الناس حتى بلغنا من الرعية مكروهاً، ومن أنفسنا مجهودها.
واعلموا أن الملك ورعيته جميعاً يحق عليهم ألا يكون للفراغ عندهم موضع " فإن التضييع في فراغ الملك، وفساد المملكة في فراغ الرعية " .

واعلموا أنه لا بد من سخط سيحدث منكم على بعض إخوانكم المعروفين بالنصيحة لكم، ولا بد من رضىً سيحدث لكم على بعض أعدائكم المعروفين بالغش لكم، فلا تُحدثوا، عندما يكون من ذلك، انقباضاً عن المعروف بالنصيحة، ولا استرسالاً إلى المعروف بالغش.
وقد خلّفت لكم رأيي إذ لم أستطع تخليف بدني، وقد حبوتكم بما حبوت به نفسي، وقضيت حقكم فيما آسيتكم به من رأيي، فاقضوا حقي بالتشفيع لي في صلاح أنفسكم والتمسك بعهدي إليكم، فإني قد عهدت إليكم عهدي وفيه صلاح جميع ملوككم وعامتكم وخاصتكم، ولن تضيعوا ما احتفظتم بما رسمت لكم ما لم تضعوا غيره، فإذا تمسكتم به كان علامةً في بقائكم ما بقي الدهر.
ولو لا اليقين بالبوار النازل على رأس الألف من السنين لظننت أنت قد خلّفت فيكم ما إن تمسكتم به كان علامةً في بقائكم ما بقي الدهر، ولكن الفناء إذا جاءت أيامه أطعتم أهواءكم، واستثقلتم ولاتكم، وأمنتم، وتنقلتم عن مراتبكم، وعصيتم خياركم، وكان أصغر ما تخطئون فيه سلّماً إلى أكبر منه حتى تفتقوا ما رتقنا، وتُضيعوا ما حفظنا.
والحق علينا وعليكم ألا تكونوا للبوار أغراضاً، وفي الشؤم أعلاما، فإن الدهر إذا أتى بالذي تنتظرون اكتفى بوحدته.
ونحن ندعو الله تعالى لكم بنماء المنزلة، وبقاء الدولة، دعوة لا يفنيها فناء قائلها، ولا يُميتها موت داعيها حتى المُنقلب، ونسأل الله الذي عجّل بنا وأخّركم، وقدّمنا وخلّفكم، أن يرعاكم رعايةً يرعى بها من تحت أيديكم، وأن يرفعكم رفعةً يضع بها من عاداكم، وأن يكرمكم كرامةً يُهين بها من ناوأكم، ونستودعكم الله العظيم وديعةً يكفيكم بها الدهر الذي يُسلمكم وباله وغيره وعثراته وغدراته والسلام على أهل الموافقة ممن يأتي عليه العهد من الأمم الكائنة بعدي.

الباب الرابع
مواعظ ونكت للزهاد
قال عمر بن عبد العزيز لبعضهم: " إني أخاف الله مما دخلت فيه " قال: لست أخاف عليك أن تخاف، إنما أخاف عليك ألا تخاف.
قال بعضهم: لا تجعل بينك وبين الله منعماً، وعد النعم منه عليك مغرماً.
دخل سالم بن عبد الله على هشام في البيت فقال له هشام: سل حاجتك، قال: " أكره أن أسأل في بيت الله غير الله " .
وقيل لرابعة القيسية: لو كلّمت أهلك أن يشتروا لك خادماً يكفيك مؤونة بيتك! فقالت: " إني أستحي أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟ " .
قال بكر بن عبد الله: " أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم " .
ولما خبّر أبو حازم سليمان بن عبد الملك أبو عبد الله للمذنبين، قال: فأين رحمة الله؟ قال: " قريب من المحسنين " .
كان بلال بن سعد يقول: " زاهدكم راغب، ومجتهدكم مقصر، وعالمكم جاهل، وجاهلكم مغتر " .
وقال عامر بن عبد قيس: " الدنيا والدة للموت، ناقضة للمبرم، مرتجعة للعطية، وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكل مستقر فيها غير راض بها، وذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار " .
باع عبد الله بن عتبة بن مسعود أرضاً له بثمانين ألفاً فقيل له: لو اتخذت لولدك ذُخراً من هذا المال! قال: أنا أجعل هذا المال ذخراً لي، وأجعل الله ذخراً لولدي.
رأى إياس بن قتادة العبشمي شيبةً في لحيته فقال: " أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته، أعوذ بك من فُجاءة الأمور. يا بني سعد قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبتي " ولزم بيته فقال له أهله: تموت هُزلاً، قال: " لأن أموت مؤمناً مهزولاً أحب إليّ من أن أموت منافقاً سميناً " .
قال بكر بن عبد الله: وما الدنيا؟ أما ما مضى منها فحلم، وما بقي منها فأماني.
قال مُوّرق: خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بطاعة.
وقال: ضاحك معترف بذنبه خير من باك مدلّ على ربه.
وقال بكر بن عبد الله: اجتهدوا في العمل فإن قصر بكم ضعف فكفوا عن المعاصي.
قال: أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه.
قيل لرابعة: هل عملن عملاً ترين أنه يُقبل منك؟ قالت: إن كان شيء فخوفي أن يُرد عليّ.
قيل لرجل مريض: كيف تجدك؟ قال: لم أرض حياتي لموتي.
نظر حبيب يوماً إلى مالك بن دينار وهو يقسم صدقةً له علانية فقال له: يا أخي إذا ركزت كنزاً فاستره.
دخل الأوزاعي على المهدي فقال له: إن الله قد أتاك فضيلة الدنيا، وكفاك طلبها؛ فاطلب فضيلة الآخرة فقد فرّغك لها.

قال عمرو بن عبيد للمنصور: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها؛ فاشتر نفسك منه ببعضها، وإن هذا الذي أصبح بيدك لو بقي في يد من كان قبلك لم يصر إليك، فاحذر ليلة تمخّض بيوم هو آخر عُمرك، قال: فبكى المنصور، وقال له: سل حاجةً، قال: نعم، يا أمير المؤمنين، لا تعطني حتى أسألك، ولا تدعُني حتى أجيئك.
قيل: ليس من قدر الدنيا أن تُعطي أحداً ما يستحقه، إما أن تزيده وإما أن تنقصه.
قيل لخالد بن صفوان: من أبلغ الناس؟ قال: الحسن، لقوله: فضح الموت الدنيا.
وقيل لزاهد: كيف سخت نفسك عن الدنيا؟ قال: أيقنت أني خارج منها كارهاً فأحببت أن أخرج منها طوعا.
سمع بعضهم سائلاً يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون فيما عند الله فقال: اقلب وضع يدك على من شئت.
قيل لأبي حازم: كيف الناس يوم القيامة؟ فقال: أما العاصي فآبق قدم به على مولاه، وأما المطيع فغائب قدم على أهله.
ومر إبراهيم بن أدهم بباب المنصور فنظر إلى السلاح والحرس فقال: المريب خائف.
قيل لراهب: ما أصبرك على الوحدة؟ قال: أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه، وإن شئت أن أناجيه صلّيت.
كان يقال: " خف الله لقدرته عليك، واستحي منه لقربه منك " .
قالوا: " احذر أن يصيبك ما أصاب من ظلمك " .
قال الرشيد للفضيل بن عياض: ما أزهدك! قال الفضيل: أنت أزهد مني؛ لأني زهدت في الدنيا وهي فانية، وزهدت أنت في الآخرة وهي باقية.
قال الفضيل: يا رب إني لأستحي أن أقول: توكلت عليك، لو توكلت عليك لما خفت ولا رجوت غيرك.
قال بعضهم: من اكتسب غير قوته فهو خازن غيره.
عوتب بعضهم على كثرة الصدقة فقال: لو أراد رجل أن ينتقل من دار إلى دار ما ترك في الأولى شيئاً.
بعث ملك إلى عابد: مالك لا تخدمني وأنت عبدي. فقال: لو اعتبرت لعلمت أنك عبد لعبدي؛ لأني أملك الهوى، فهو عبدي، وأنت تتبع الهوى فأنت عبده.
حكيم: أمسك ماض، ويومك منتقل، وغدك متهم.
قال أبو حازم: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد؛ أما أمس فلا يجدون لذته، ولا أجد شدته، وأما غد فإني وإياهم منه على خطر، وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون؟.
دخل متظلم على سليمان بن عبد الملك فقال: اذكر يا أمير المؤمنين يوم الأذان، فقال: وما يوم الأذان؟ قال: اليوم الذي قال الله فيه: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " . فبكى سليمان، وأزال ظلامته.
سئل الفضل عن الزهد قال: هو رفان في كتاب الله " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " .
كتب محبوس إلى الرشيد إنه ما مر يوم من نعيمك إلا مر يوم من بؤسي والأمر قريب والسلام.
قيل لبعضهم: ما الخبر؟ قال: طاب الخبر " كتب ربكم على نفسه الرحمة " .
وقيل: المحسن في معاده كالغائب يقدم على أهله مسروراً، والمسيء: كالآبق يُرّد إلى أهله مأسورا.
وقف أعرابي على قبر هشام، وخادم له يقول: ما لقينا بعدك! فقال: إيهاً عليك، أما إنه لو نشر لأخبرك أنه لقي أشد مما لقيتم.
كتب طاوس إلى مكحول: أما بعد، فإنك قد أصبت بما ظهر من علمك عند الناس منزلةً وشرفا، فالتمس بما بطن من عملك عند الله منزلةً وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين ستزيد الأخرى والسلام.
قال ابن المعتمر: الناس ثلاثة أصناف: أغنياء، وفقراء، وأوساط، فالفقراء موتى إلا من أغناه الله بعز القناعة، والأغنياء سكارى إلا من عصمه الله بتوقع الغير، وأكثر الخير مع أكثر الأوساط، وأكثر الراحة مع الفقراء، والأغنياء تستخف بالفقر من بطر الغنى.
قيل لحاتم: علام بنيت أمرك؟ قال: على أربع خصال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فلم أهتم به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتةً فأنا مبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال فاستحييت منه.
قال بعض السلف: أنت في طلب الدنيا مع الحاجة إليها معذور، وأنت في طلبها مع الاستغناء عنها مغرور.
دخل سفيان الثوري على المهدي وهو بمكة فقال له: حدثنا أبو عمران أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر: " لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك " فقد رأيت الناس يضربون بين يديك.

وجاء عن عمر بن الخطاب أنه أنفق في حجة حجها بضعة عشر ديناراً و قال: ما أحسب هذا إلا سرفاً في أموال المسلمين، وما أراك تدري كم أنفقت؟ فقال له المهدي: لو كان المنصور حياً ما احتمل هذا الكلام منك، فقال سفيان: لو كان المنصور حياً ثم أخبرك بما لقي ما تقاربك مجلسك.
نظر بعضهم إلى رجل يُفحش فقال له: يا هذا إنك إنما تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فانظر ما تقول.
قيل لبعضهم: ولي فلان ولايةً، فلو أتيته! فقال: والله ما فرحت له فأهنيه، ولا ساءته فأعزّيه.
قال إبراهيم النخعي: كم بينكم وبين أقوام أقبلت الدنيا عليهم فهربوا منها، وأدبرت عنكم فتبعتموها؟.
قال أبو حازم: إذا تتابعت عليك نِعمُ ربك وأنت تعصيه فاحذره.
وقال له سليمان بن عبد الملك: عظني، قال: عظّم ربك أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك.
قال مطرّف: لأن يسألني ربي ألا فعلت؟ أحب إلي من أن يسألني لمَ فعلت؟.
قيل لحكيم: صف الدنيا وأوجز، قال: ضحكة مستعبر.
قال آخر لبعض الصالحين بالبصرة: أنا خارج إلى بغداد فهل لك من حاجة؟ قال: ما أحب أن أبسط أملي حتى تذهب إلى بغداد وتجيء.
قيل للعتابيّ: إن فلاناً بعيد الهمة، قال: إذن لا يقنع بدون الجنة.
وقيل له: إن فلاناً بعيد الهمة عالم، قال إذن لا يفرح بالدنيا.
كان وهب بن منبّه يقول: " مثل الدنيا والآخرة كمثل رجل له ضرّتان إن أرضى أحدهما أسخط الأخرى " .
وقف رجل على قبر بعض الجبابرة فقال: أيها الجبار، كم من نفس قتلتها طلباً للراحة منها أصبحت اليوم وهي أكثر شغلك.
قال الفضل الرقاشي: إنا والله ما نعلّمكم ما تجهلون ولكنا نذكركم ما تعلمون.
كان الفضيل، وهو يعظ ابنه علياً، كثير الزهد ويقول: يا بني ارفق بنفسك.
وكان يوماً خلف الإمام يصلي، وقرأ سورة الرحمن، فجعل يتلو إلى قوله تعالى: " حور مقصورات في الخيام " فلما سلّم الإمام سمع أباه ينادي: يا علي، أما سمعت ما قرأ الإمام؟ فيقول ابنه: يا أبة شغلني ما كان قبلها: " يُعرف المجرمون بسماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام " .
قيل لابن عيينة: إن فلاناً ينتقصك: فقال: نطيع الله فيه على قدر ما عصى الله فينا.
قيل لبعضهم: ما مثل الدنيا؟ قال: هي أقل من أن يكون لها مثل.
عوتب سهل بن عبد الله على كثرة الصدقة فقال: لو أراد الرجل أن ينتقل من دار إلى دار أكان يترك في الأولى شيئاً؟ لا والله.
دخل لص على بعض الزهاد فلم ير في داره شيئاً: فقال: يا هذا أين متاعك؟ قال حوّلته إلى دار أخرى.
قيل للربيع بن خثيم: يا ربيع، أنا ما رأيتك تذم أحداً، قال: ويلك! ما أنا عن نفسي راض فأتحول من ذمي إلى ذم الناس؛ إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد؛ وأمنوه على ذنوبهم.
قال عيسى بن موسى، وهو أمير الكوفة لأبي شيبة قاضي الري: لم لا تغشانا فيمن يغشانا؟ قال: لأني إن جئتك فقربتني فتنتني، وإن أقصيتني حزنتني؛ وليس عندي ما أخافك عليه، ولا عندك ما أرجوك له.
قال بعض الزهاد: تأمل ذا الغنى، ما أدوم نصبه، وأقل راحته، وأخس من ماله حظه، وأشد من الأيام حذره، ثم هو بين سلطان يهتضمه، وعدو يبغي عليه، وحقوق تلزمه، وأكفاء يسوءونه، وولد يود فراقه، قد بعث عليه الغنى من سلطانه العنت، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذم، ومن الولد الملامة!!.
قال سفيان: يا ابن آدم، إن جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك.
قال بعضهم: رأيت صوفياً في البادية فقلت له: أين الزاد؟ قال: قدّمته إلى المعاد.
قال بعضهم: ما تبالي حسّنت جوراً أو دخلت فيه، وقبّحت عدلاً أو خرجت منه؟.
قال ميمون بن هارون: في قوله تعالى: " ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون " تعزية للمظلوم ووعيد للظالم.
دخل عبد الوارث بن سعيد على رجل يعوده فقال: كيف أنت؟ قال: ما نمت منذ أربعين ليلة، فقال: يا هذا، أحصيت أيام البلاء، فهل أحصيت أيام الرخاء؟.
قال آخر: العجب لمن يغتر بالدنيا، وإنما هي عقوبة ذنب.
قال ابن السماك: " خف الله حتى كأنك لم تطعه، وارج الله كأنك لم تعصه " .
قال آخر: العالم طبيب هذه الأمة والدنيا داؤها، فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرئ غيره؟.
دخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئاً يقعدون عليه، فلما خرجوا قال: لو كانت الدنيا دار مقام لاتخذنا لهم أثاثا.

قال بعض الزهاد: قد أعياني أن أنزل على رجل يعلم أني لست آكل من رزقه شيئاً، قال آخر: يا ابن آدم، مالك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، وتفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت.
قال إبراهيم بن ادهم: نحن نسل من نسل الجنة سبانا إبليس منها بالمعصية، وحقيق على المسبي ألا يهنأ بعيشه حتى يرجع إلى وطنه.
قيل لمحمد بن واسع: فلان زاهد فقال: وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها؟.
كتب زاهد إلى آخر: صف لي الدنيا والآخرة. فكتب إليه: " الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الوت، ونحن في أضغاث ننقل إلى أجداث " .
قيل لآخر: مالك تدمن المشي على العصا، ولست بكبير ولا مريض؟ قال: لأعلم أني مسافر، وأنها دار قُلعة، فإن العصا من آلة السفر.
قيل لآخر: أتعبت نفسك، قال: راحتها أطلب.
كتب آخر إلى عابد: بلغني تفرغك للعبادة فما سبب المعاش؟ فكتب إليه: يا بطال يبلغك عني أني منقطع إلى الله وتسألني عن المعاش؟.
قال الرشيد لابن السمّاك: عظني وأوجز. فقال: اعلم أنك أول خليفة يموت.
قيل لأبي حازم: ما مالك؟ قال: شيئان لا عدم لي معهما: الرضى عن الله، والغنى عن الناس.
شتم رجل زاهداً، فقال له: هي صحيفتك أمل فيها ما شئت.
قال سفيان: إذا أردت أن تعرف الدنيا فانظر عند من هي.
وقال غيره: " كل شيء فاتك من الدنيا فهو غنيمة " .
وقال معدان: اعمل للدنيا على قدر مكثك فيها، وللآخرة كذاك.
مر عبد الله بن المبارك برجل واقف بين مقبرة ومزبلة فقال: يا رجل، إنك بين كنَزين: كنزِ الأموال، وكنز الرجال.
دخل الإسكندر مدينة فتحها، فسأل عن أولاد الملوك بها، فقال أهلها: بقي رجل منهم يسكن المقابر، فدعا به فأتاه، فقال له: ما دعاك إلى لزوم المقابر؟ قال: أحببت أن أميز بين عظام ملوكهم وعظام عبيدهم، فوجدتهما سواء، فقال له الإسكندر: هل لك أن تتبعني فأحيي شرفك وشرف آبائك إن كانت لك همة؟ فقال: همتي عظيمة، فقال: وما هي؟ قال: حياة لا موت معها وشباب لا هرم معه، وغنىً لا فقر معه، وسرور لا مكروه فيه، قال: ليس عندي هذا، قال: فدعني ألتمسه ممن هو عنده.
قال مطرف: إني لأستلقي بالليل على فراشي فأتدبر القرآن كله، فأعرض نفسي على أعمال أهل الجنة فأرى أعمالهم شديدة " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون " . " يبيتون لربهم سجداً وقياما " . " أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائما " . " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " . فلا أرى صفتي فيهم. ثم أعرض نفسي على أعمال أهل النار " ما سلككم في سقر " . " وأما إن كان من المكذبين الضالين " فلا أراني فيهم. ثم أمرّ بهذه الآية " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخواننا منهم.
قال يحيى بن معاذ: الوعد حق الخلق على الله، فهو أحق من وفى، والوعيد حقه على الخلق، فهو أحق من عفا.
مات ابن لعمر بن ذر فقال: أي بني شغلني الحزن لك عن الحزن عليك.
وقالوا: من هوان الدنيا على الله ألا يُعصى إلا فيها، ولا يُنال ما عنده إلا بتركها.
قال عبد الله بن شداد: أرى دواعي الموت لا تُقلع، وأرى من مضى لا يرجع، لا تزهدوا في معروف؛ فإن الدهر ذو صروف، كم راغب قد كان مرغوباً إليه، وطالب أصبح مطلوباً إليه، والزمان ذو ألوان، من يصحب الزمان ير الهوان، وإن غلبت يوماً على المال، فلا تغلبنّ على الحيلة على حال، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً أقل ما تكون في الباطن مالاً.
قال شبيب بن شيبة لأبي جعفر: إن الله لم يجعل فوقك أحداً، فلا تجعلن فوق شكرك شكرا.
وقال عمرو بن عبيد للمنصور: إن الله قد وهب لك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك من الله ببعضها.
قال خالد الربعي: كنا نحدّث " إن مما يُعجّل الله عقوبته، أو قال: لا نؤخر عقوبته: الأمانة تخان، والإحسان يُكفر، والرحم تُقطع، والبغي على الناس " .
كان بعض الزهاد يقول: ابن آدم تكلأ بحفظه وتُصبح عازماً على معصيته؟.
دخل المبارك بن فضالة على المنصور وهو بالجسر فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش من كان له على الله دالة فليقم، فلا يقوم إلا أهل العفو " فقال أبو جعفر: قد عفوت، ورجع من الجسر ولم يدخل البصرة.

نسب محمد بن كعب نفسه إلى القُرظي فقيل له: ولمَ لم تقل: الأنصاري؟ قال: " أكره أن أمن على الله بما لم أفعله " .
مر محمد بن واسع بقوم فقيل له: هؤلاء زهاد، فقال وما قدر الدنيا خحتى يحمد الزاهد فيها؟.
كان شعبة يقول لأصحابه: " لو أردت الله ما خرجت إليكم، ولو أردتم الله ما جئتموني " .
كان الربيع بن خثيم يقول: " لو كانت الذنوب تفوح ما جلس أحد إلى أحد " .
قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ قال: آسفاً على أمسي كارهاً ليومي: متهماً لغدي " .
وقيل لآخر: لك تركت الدنيا؟ قال: لأني أُمنع من صافيها وأمتنع من كدرها.
وقيل لآخر: ما الذي تطلب؟ فقال الراحة، قيل: فهل وجدتها؟ قال: قد وجدت أني لا أجدها في الدنيا.
وقيل لآخر: لم تركت الدنيا؟ قال: أنفت من قليلها، وأنف مني كثيرها.
قال أبو هفان: كان مزين يخدم رئيساً وكان الرئيس قد خالطه بياض، فكان يأمر المزين بلقطه، فلما انتشر البياض قال المزيّن: يا سيدي قد ذهب وقت اللقّاط وجاء وقت الصرام، قال: فبكى الرئيس من قوله.
دخل سفيان بن عيينة على الرشيد وهو يأكل بملعقة فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني عبيد الله بن يزيد عن جدك ابن عباس في قوله جل وعز: " ولقد كرمنا بني آدم " قال: جعلنا لهم أيدياً يأكلون بها، فكسر الملعقة.
قيل لميمون بن مهران: إن رقيّة امرأة هشام ماتت فأعتقت كل مملوك لها، فقال ميمون: يعصون الله مرتين: يتجملون به وهو في أيديهم بغير حق. فإذا صار لغيرهم أسرفوا فيه.
عزّى رجل الرشيد فقال: آجرك الله في الباقي، ومتّعك بالفاني: فقال: ويحك، ما تقول؟ وظن أنه غلط، فقال: ألم تسمع الله يقول: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " فسرّي عنه.
دخل عمر بن ذر على ابنه وهو يجود بنفسه فقال: يا بني إنه ما علينا من موتك غضاضة، ولا بنا إلى أحد سوى الله حاجة، فلما قضى نحبه، وصلى عليه، وواراه، وقف على قبره فقال: يا ذر، إنه قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك؛ لأنا لا ندري ما قلت وما قيل لك، اللهم إني قد وهبت له ما قصّر فيه مما افترضت عليه من حقي، فهب لي ما قصّر فيه من حقك، واجعل ثوابي عليه له، وزدني من فضلك إني إليك من الراغبين.
قال بعض الصالحين: لو أنزل الله عز وجلّ كتاباً أنه معذّب رجلاً واحداً لخفت أن أكونه، وأنه راحم رجلاً واحداً لرجوت أن أكونه، وأنه معذبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهاداً. لئلا أرجع على نفسي بلائمة.
وقال مطرّف بن عبد الله لابنه: " يا عبد الله، العلم أفضل من العمل، والحسنة بين السيئتين كقول الحق بين فعل المقصر والغالي " .
ومن كلامه: " خير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة، وشر القراءة الهذرمة " .
وكان ابن السمّاك يقول: إذا فعلت الحسنة فافرح بها واستقللها؛ فإنك إذا استقللتها زدت عليها، وإذا فرحت بها عدت إليها.
ويروى عن أويس القرني أنه قال: " حقوق الله لم تدع عند مسلم درهماً " .
قال يحيى بن معاذ الرازي: إن لله عليك نعمتين: السراء للتذكير، والضراء للتطهير، فكن في السراء عبداً شكوراً، وفي الضراء حراً صبورا " .
دخل ابن السمّاك يوماً على الرشيد فدعا الرشيد بماء ليشربه فقال: ماء! ناشدتك الله، أرأيت لو مُنعت من شربه ما الذي كنت فاعله؟ فقال: كنت أفتديه بنصف ملكي، فقال: اشرب هنيئاً لك، فلما فرغ من شربه قال: ناشدتك الله، أرأيت لو منعت من خروجه ماك نت تفعل؟ قال: كنت أفتديه بنصف ملكي، فقال: إن ملكاً يفتدى بشربة ماء لخليق بألا ينافس عليه.
كان يحيى بن معاذ يقول للناس: لا تكونوا ممن يفضحهم يوم موتهم ميراثه، ويوم القيامة ميزانهز قال المنصور لعمرو بن عبيد: عظني، فقال: أعمّا رأيت أو ما سمعت؟ فقال: بل عظني بما رأيت، فقال له: مات عمر بن عبد العزيز فخلّف أحد عشر ابناً وبلغت تركَتُه سبعة عشر دينارا، كُفّن منها بخمسة دنانير، واشترى موضع قبره بدينارين، وأصاب كل واحد من ولده ثمانية عشر قيراطا، ومات هشام فخلّف أحد عشر ابناً وأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار، فرأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله، ورأيت رجلاً من ولد هشام يسأل الناس ليتصدق عليه.
قال بعضهم: الدنيا دار تجارة، فويل لمن تزوّد منها الخسارة.
قال بعضهم: اصبروا عباد الله على عمل لا غنى بكم عن ثوابه، واصبروا عن عمل لا صبر لكم على عقابه.

قال أبو حازم: ما كرهت أن يكون معك غداً فاتركه اليوم، وما أحببت أن يكون معك غداً فقدمه اليوم.
قال إبراهيم التيمي: مثّلت في نفسي الجنة آكل من ثمارها وأعانق أزواجها، وألبس حللها: ومثلت في نفسي النار أعالج أغلالها، وآكل من زقومها، فقلت: يا نفس، أي شيء تريدين الآن؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل، فقلت: الآن أنت في الأمنية فافعل.
كان بعض التابعين إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول: في أجل منقوص، وعمل محفوظ، والموت في رقابنا، والنار من ورائنا، ولا ندري ما الله يفعل بنا.
وكان روح بن مدرك يقول في موعظته: الآن قبل أن تسقم فتضنى، وتهرم فتفنى ثم تموت فتُنسى، ثم تُقبر فتُبلى، ثم تُنشر فتحيا، ثم تُبعث فتشقى، ثم تُحضر فتدعى، ثم توقف فتُجزى بما قدمت فأمضيت، وأذهبت فأفنيت، من موبقات سيئاتك، وسالفات شهواتك، وملفقات فعلاتك، الآن سالمون، الآن وأنتم مستعتبون.
قال أبو حازم: عجباً لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة، ويتركون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة.
قيل لمحمد بن واسع: كيف حالك؟ فقال: كيف حال من لا يدري كيف حاله؟.
أراد رجل الحج فقال لامرأته: إني عازم على الحج، فقالت: بسم الله، قال: فكم أخلّف عليك من النفقة؟ قالت: بقدر ما تُخلّف عليّ من الحياة.
يُروى عن خالد بن صفوان أنه قال: ملأت البحر الأخضر بالذهب الأحمر، فإذا الذي يكفيني من ذاك رغيفان وكوزان وطمران.
دخل مالك بن دينار على بلال بن أبي بردة - وهو أمير البصرة - فقال: إني قرأت في بعض الكتب: " من أحمق من السلطان؟ ومن أجهل ممن عصاني؟ ومن أغرّ ممن اغترّ بي؟ أيا راعي السوء دفعت إليك غنماً سماناً سماحا، فأكلت اللحم وشربت اللبن، وائتدمت بالسمن، ولبست الصوف، وتركتها عظاماً، ما تقعقع " .
قيل: طاف الرشيد بالبيت فوطئ جرادة، فلم يدر ما عليه فيها، فبعث المأمون إلى الفضيل بن عياض، فسلّم عليه وقال: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: لنا إليك حاجة فأحب أن تصير إلينا، فلم يُجب الفضيل بشيء، فرجع المأمون وقال: رأيت رجلاً ليست به إليك حاجة، فقام الرشيد مغضباً حتى تخوّفنا على الفضيل منه، قال: فوقف عليه وسلّم، فوسّع الفُضيل، أورد السلام عليه، فلما جلس أقبل على الفضيل فقال: رحمك الله، قد كان الواجب أن تأتينا، وتعرف حقّنا؛ إذ ولاّنا الله أموركم، وصيرنا الحكُام في دمائكم، والذابين عن حريمكم، وإذ لم تأتنا فقد أتيناك، إني وطئت الآن في الطواف على جندبة فما ديتها؟ قال: فبكى الفضيل بكاءً شديداً حتى علا صوته، وقال: إذا كان الراعي يسأل الغنم هلكت الغنم، وإنما يجب على الراعي أن يرتاد لغنمه الرعى وجيد الكلأ وعذب الماء، فإذا كنت يا أمير المؤمنين غافلاً عن معالم الدين فبأي شيء تسوس رعيتك؟ قال: فخجل الرشيد حتى عرق وانصرف.
اختلفوا بحضرة الزهري في معنى قول القائل: فلان زاهد، فقال الزهري: الذي لا يغلب الحرام صبره ولا الحلال شكره.
قال عمر بن ذر: الحمد لله الذي جعلنا من أمة تُغفر لهم السيئات ولا تُقبل من غيرهم الحسنات.
قال يونس بن عبيد: سمعت ثلاث كلمات لم أسمع بأعجب منهن: قول حسان ابن أبي سنان: ما شيء أهون من ورع، إذا رابك شيء فدمه. وقول ابن سيرين: ما حسدت أحداً على شيء قط. وقول موّرق العجلي: لقد سألت الله حاجة أربعين سنة ما قضاها ولا يئست منها، قيل: وما هي؟ قال: ترك ما لا يعنيني.
قال أبو حازم الأعرج: إن عوفينا من شر ما أُعطينا لم يضرنا فقد ما زوي عنا.
وقال: الدنيا غرّت أقواماً فعملوا فيها بغير الحق ففاجأهم الموت فخلّفوا ما لهم لمن لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم، وقد خلفنا بعدهم فينبغي لنا أن ننظر إلى الذي كرهنا منهم فنجتنبه، والذي غبطناهم به فنستعمله.
قال قتادة: يُعطي الله العبد على نية الآخرة ما شاء من الدنيا والآخرة، ولا يعطيه على نية الدنيا إلا الدنيا.
قال مطرّف بن عبد الله: لا تنظروا إلى خفض عيشهم، ولين لباسهم، ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم، وسوء منقلبهم.
لقى ناسك ناسكاً ومعه خف، فقال له: ما تصنع بهذا؟ قال: عدة للشتاء، قال: كانوا يستحيون من هذا.
رأى ناسك ناسكاً في المنام فقال: كيف وجدت الأمر يا أخي؟ قال: وجدنا ما قدّمنا، وغرمنا ما أنفقنا، وخسرنا ما خلّفنا.

قال أبو حازم: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتة نموت.
قالوا: ليس في النار عذاب أشد على أهلها من علمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس، ولا لضيقهم ترفيه، ولا لعذابهم غاية، وليس في الجنة نعيم أبلغ من علمهم بأن ذلك الملك لا يزول.
سمع مطرّف رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، فأخذ بذراعه وقال: لعلك لا تفعل! من وعد فقد أوجب.
قال رجل من الزهاد: إذا ابتليت أن تدخل مع الناس إلى سلطان فإذا أخذوا في الثناء فخذ في الدعاء.
روي أن عبد الملك قال حين ثقل ورأى غسالاً يلوي ثوباً بيده: وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما أكسب يوماً فيوماً فذكر ذلك لأبي حازم فقال: " الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه، ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه " .
كان الربيع بن خشيم إذا قيل له: كيف أصبحت أبا يزيد؟ قال: مذنبين نأكل أرزاقنا وننظر آجالنا.
قال بعض الملوك لبعض الزهاد: اذمم الدنيا، فقال: أيها الملك، هي الآخذة لما تُعطي، الموّرثة بعد ذلك الندم، السالبة ما تكسو، الوارثة بعد ذلك الفضوح، تسد بالأراذل مكان الأفاضل، والعجزة مكان الحزمة، تجد في كل من كل خلفا، وترضى بكل من كل بدلا، تُسكن دار كل قرن قرنا، وتُطعم سؤر كل قوم قوما.
ذكر أنه كان للنعمان بن المنذر إخوة ثلاثة يقال لأحدهم: مالك، وللآخر عمرو، هو محرّق، والثالث علقمة، وكان مالك ذا فضل بيّن، ورأى جزل، فهلك مالك فأعظم ذلك عمرو وكربه - وكان عمرو مرجوّاً عند عامة مملكته لبوائق الدهر، وحوادث الأيام - فلما رأى المنذر بن النعمان بن المنذر ما بعمه عمرو من الوجد على مالك أفظعه ذلك وكربه، وكسف باله وغير حاله، ودخل عليه من ذلك ما كاد أن يكون شبيهاًَ بموت مالك فسأل المنذر بن النعمان أباه أن يجمع له رؤساء أهل مملكته وعلماءهم وخطباءهم وحلماءهم وذوي الشرف منهم، ثم يأذن له في الكلام والقيام في أمر مالك، والتعزية بعمه. فأجابه أبوه النعمان إلى ذلك، وأعجبه ما دعاه إليه، فلما توافت الرجال احتفل النعمان - يعني حفّل المجلس، وحشدهم، وأنزلهم على قدر منازلهم - فلما أخذوا مجالسهم قام المنذر ابن النعمان فثنيت له نمرقة الشرف على منبر الكرامة عن يمين النعمان - وهو كبير المتكلمين في جسيم الأمور - فرفع صوته فقال: يا عمرو، يا ابن ثمرة الرأي ومعدن الملك، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن.
يا عمرو، إنه لا أضعف من مخلوق، ولا أقوى من خالق، ولا أقوى ممن طلبته في يديه، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه.
يا عمرو، إن التفكر نور، والغفلة ظلمة والجهالة ضلالة، وقد ورد الأول، والآخر مسوق متعبد، وفي الأسى عزاء، والسعيد من وعظ بغيره.
يا عمرو، إنه قد جاءك ما لا يرد، وذهب عنك ما ليس براجع، فما الحيلة لبقاء ما سيذهب؟.
يا عمرو، إنما الشيء من مثله، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله.
يا عمرو، انظر إلى طبقات حالاتك من لدن في صلب أبيك إلى أن بلغت منزلة الشرف، وحد العقل، وغاية الكرامة، فهل قدرت - أو قدروا - على أن ينقلوك أو تنتقل عن طبقة قبل انقضائها، أو بتعجيل نعمة قبل أوان تحيّنها؟ وانظر إلى آبائك الذين كانوا أهل الملك والأخلاق المحمودة، هل وجدوا سبيلا - أو وجدت لهم - إلى بقاء ما أحبّوا أو بقوا بعده؟.
يا عمرو، فلأي أيام الدهر ترتجي؟ أيوم لا يجيء بما في غيره، أو يوم لا يستأخر ما فيه عن أوان مجيئه؟ وانظر إلى الدهر تجده أياماً ثلاثةً: يوماً مضى لا ترجوه، ويوماً بقي لا بد منه، ويوماً يأتي لا تأمنه.
يا عمرو أمس موعظة، واليوم غنيمة، وغداً لا تدري من أهله: فأمس شاهد مقبول شهادته، وحكيم مؤدب، قد فجعك بنفسه، وخلّف في يديك حكمته؛ واليوم صديق مودّع، كان طويل الغيبة، وهو سريع الظعن، أتاك ولم تأته، وقد مضى قبله شاهد عدل، فإن كان ما فيه لك فأتبعه بمثله، واتق اجتماع شهادتهما عليك؛ وغداً يجيء بما فيه.
يا عمرو، إن أكمل الأداة الصبر عند المصائب، واليقين، فأين المهرب مما هو كائن؟ إنما تنقلب في كف الطالب.
يا عمرو، إن أهل هذه الدار سفر لا يحلّون عقد الرحال إلا في غيرها، وإنما يتبلغون فيها بالعواري، فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للمُعير!.

يا عمرو، من أحق بالتسليم ممن لا يجد مهربا من طالبها إلا إليه، ولا معيناً له إلا عوناً إليه؟.
يا عمرو، انظر مما جزعت، وما استنكرت، وما تحاول؟ فإن كان الجزع ردك إلى ثقة من درك الطلبة، وكنت قوياً على رد ما كرهت، فكيف تعجز من الغلبة على ما أحبهت؟ فإن كنت حاولت - مغلوبا - فمن أفنى القرون الأولى قبلك؟.
يا عمرو، إنه من يتناول ثمرة ما لا يكون استقرت في يديه الخيبة. أفمن هذا المعدن ترجو درك الغنيمة؟.
با عمرو، " إن أعظم المصيبة سوء الخلف منها " .
يا عمرو، " إن العلم لا ينال إلا بالتعلم " فمن رأيت تعلم ما لا يعلم، وأدرك ما لا يكون فيمن كان قبلك؟.
يا عمرو، فما غناؤك في طلب من في طلبك أم كيف رجوت رجعة مالك إليك وأنت تساق إليه؟ وما جزعك على الظاعن عنك اليوم وأنت مرتحل في طلبه غداً؟ وما طمعك في رد ما هو كائن بما لا يكون، فأفق فإن المرجع قريب، ولا تمعن فيضر بك العمى، وتنوهك الجهالة، وأنت ذو الحظ الكثير من الدنيا في قسمك، وأخو ذي الملك في قرابتك، وابن الملوك المتبعن في نسبك، قد أتاك الخبر في كل ما قالوا، وأنت غافل، فلا تكونن في الشكر دون الحق عليك.
يا عمرو، إنما ابتلاك بالمصيبة المنعم، وأخذ منك العطية المعطي، وما يريد أكثر، فإن نسيت الصبر فلا تغفل الشكر، وكلا فلا تدع.
يا عمرو، إنه لا أغنى من منعم، ولا أحوج من منعم عليه واحذر من الغفلة استلاب النعم وطول الندامة. واعلم أنه لا أضيع ممن غفل عن نفسه ولا يغفل عنه طالبه.
يا عمرو، إن أخاك قد برز لعظيم صلتك، ولاستكمال كرامتك ولطف بما تراه لموعظتك.
يا عمرو، فهذا يوم ثناؤه عظيم، وبقاء ما فيه بعدنا طويل، وسيحظى به اليوم السعيد، ويتذكر من منافعه اللبيب.
يا عمرو، إنما جمعت منافع هذا اليوم وجنوده لدفع ضر الجهالة عنك، وإنما أوقدت مصابيح الهدى لتيه تحيرك وسهلت سبل الخير لرجاء رجعتك، فلم أر كاليوم ضل مع نوره متحير، ولا أعيا مداويه سقيم.
يا عمرو، ما أصغر المصيبة مع فائدة أهل الغنيمة غدا، وكثر فيه خيبة الخائب.
يا عمرو، إن أبت نفسك إلا علم رأى من جميع التجارب فقد كفيت فاسمع جوابهم: زعم فرسان الحروب وقادة الجنود أنه غلب على مالك غالب آبائك أهل التتويج والملك الكبير، وزعم حفظة الخزائن أنها عوار عند كم أهل البيت، وانها لا تقبل في فكاك الأسارى، وزعم رؤساء الأطباء أن مالكاً هلك بداء معلميهم الذين ماتوا به، ولا دواء لدائهم ذلك، وزعم أهل التجارب والحيلة الكبرى أن صاحب مالك قد شغلهم بأنفسهم عنك، فإن فرغوا أتوك.
يا عمرو، وقد أسرع فيك الداعي، وأعذر فيك الطالب، وانتهى الأمر بك إلى حد الرجاء، ولا أحد أعظم رزية في عقله ممن ضيع اليقين واعطى الأمل قياده.
قال: ثم أقبل المنذر على الملك أبيه النعمان فقال: أيها الملك المنعم، إن أعظم العظة اليوم ما أعطيتها بجمعك إيانا وإذنك لنا في الكلام، وخير الهدية للغائب ما حملتنا، وإنا أيها الملك الرفيع جده - مع معرفتنا بفضلك - لن نرفعك فوق منزلتك، وبحسبك ألا يكون فوقك إلا الخالق، ونعم المخلوق أنت، ترد المدبر إلى حظه وتكف المتتايع عن حمقه، وتدل مبتغي الخير على هيئته، ومثل دوائك شفاء السقيم.
قال: ثم أقبل المنذر على الناس بالموعظة فقال: أيها الناس، إنما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نك شيئاً ثم نعود، ألا إنما العوارى اليوم، والهبات غدا، وقد رزئنا من قبلنا، ولنا وارثون، قد حان الرحيل عن محل النازل، ألا وقد تقارب تسلب فاحش، أو عطاء زل، فاستصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه، واسلكوا سبل الخير، ولا تستوحشوا فيها لقلة أهلها، واذكروا حسن صحابة الله إياكم.
أيها الناس، إني أعظكم وأبدأ بنفسي، فاستبدلوا العوارى بالهبات، وارضوا بالباقي خلفاً، من الفاني تلفاً، واحتملوا المصائب بالحسبة تستجلبوا بها النعماء واستديموا الكرامة بالشكر تستوجبوا الزياجة، واعرفوا الفضل في البقاء في النعمة، والغنى في السلامة قبل المثلة الفاحشة، أو المثلات السيئة، وقبل انتقال النعم، ودول الأيام، وتصرف الخطوب.

أيها الناس، إنما أنتم في هذه الدنيا أغراض تنضل فيكم المنايا، وما أنتم فيه نهب للمصيبات: مع كل جرعة لكم شرق، وفي كل أكلة لكم غصص، لا تنالون نعمةً إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بإنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، فأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، وفي معايشكم أسباب مناياكم، لا يمنعكم شيء منها، ولا يغيبكم شيء عنها، لها بكل سبب منكم صريع يحتزز، ومقرب ينتظر، لا ينجو من حبائلها الحذر، ولا يدفع عن مقاتله الأريب، وهذه أنفسكم تسوقكم إلى الفناء، فلمن تطلبون البقاء؟ وهذا الليل والنهار لم يرفعا شيئاً شرفاً إلا أسرعا الكرة على هدم ما شرفا بتفريق ما جمعا.
أيها الناس، اطلبوا الخير ووليه، واحذروا الشر ووليه. واعلموا " أن خيراً من الخير معطيه، وشراً من الشر فاعله " .
ذكر أن قس بن ساعدة كان يخطب متوكئاً على عصا فيقول: مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، وآيات في إثر آيات، وأموات بعد أموات، وضوء وظلام، وليال وأيام، وفقير وغني، وسعيد وشقي، ومحسن ومسيء. أين الأرباب الفعلة، ليصلح كل عامل عمله، كلا بل هو الله إله واحد، ليس بمولود ولا والد، اعاد وأبدى، وإليه المآب غدا.
أما بعد: يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، أين الحسن الذي لم يشكر، والظلم الذي لم ينقم؟ كلا ورب الكعبة ليعودن ما بدا، ولئن ذهب يوماً ليعودن يوماً ما، افهموا ما سمعتم، واحفظوا وعوا.
تمنى قوم عند يزيد الرقاشي فقال: أتمنى أنا كما تمنيتم، فقالوا: تمن، فقال: ليتنا لم نخلق، وليتنا إذ خلقنا لم نعص، وليتنا إذ عصينا لم نمت، وليتنا إذ متنا لم نبعث، وليتنا إذ بعثنا لم نحاسب، وليتنا إذ حوسبنا لم نعذب، وليتنا إذ عذبنا لم نخلد.
قالوا إن رأس مال أبي خزيمة كان درهماً واحداً ستين سنة، كان يشترى صوفاً فيغزله ويبيعه.
قال محمد بن سلام: قال لنا يونس ذا صباح: إني فكرت في أمر فاسمعوا، قلنا: هات، قال: كل من أصبح على وجه الأرض في النار، فقلنا ما تزيد؟ قال: إلا أمتنا هذه، فإذا صرت إلى أمتنا فالسلطان ومن يطيف به هلكي إلا القليل، وإذا قطعت هذه الطبقة حتى تبلغ الشاش والبطائح، فأكلة رباً وباعته وشربة خمر وباعتها إلا القليل، وإذا خلفت هذا الخندق حتى تأتي رمل يبرين وأعلام الروم، فلا غسل من جنابة ولا إسباغ وضوء، ولا إتمام صلاة ولا علم بحدود ما أنزل الله على رسوله إلا قليل، فإذا صرت إلى الأمصار فأصحاب هذه الكراسي من أهل السوق والكلأ فليس إلا ذئب مُستد فر بذئبة، يختلك عن دينارك ودرهمك، يكذب في المرابحة، ويطفف في المكيال، ويخسر في الميزان، إلا قليل، فإذا صرت إلى أصحاب هذه الغلات الذين كفوا المؤونة وأنعم اللع عليهم، فيُمسى أحدهم سكران، ويصبح مخموراً إلا قليل، والله الرحمن إن في هذه الدار معب لقطيعاً، فإذا صرت إلى قوم دون هؤلاء لم يُنعم عليهم بما أُنعم على هؤلاء فواحد طرّار وآخر يستقفي، فإذا صرت إلى أصحاب هذه السواري فهذا يشهد على هذا بالكفر، وهذه على هذا بالبراءة، فوالله لئن لم يعمنا الله بالمغفرة إنها للفضيحة.
دخل عمرو بن عبيد على بعض الأمراء وهو يجود بنفسه فقال له: إن الله تعبّدك في حال الصحة بالعمل، ووضع عنك في هذه الحال عمل الجوارح، ولم يُكلّفك إلا عملاً بقلبك، فأعطه بقلبك ما يجب له عليك.
كتب ناسك إلى آخر يستوصفه الدنيا والآخرة، فكتب إليه: الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن في أضغاث ننقل إلى أجداث.
رأى دهثم وهو أحد العبّاد، رجلاً يضرب غلامه، فوعظه ونهاه، فقلب السوط وأخذ يضرب دهثما، وتسارع الناس، فقال دهثم دعوه فقد أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأحتاج الآن أن أصبر على ما أصابني، فبذلك نطق الكتاب.
وكان معروف الكرخي يقول: ليكن الله جليسك وأنيسك وموضع شكواك، فإن الناس لا ينفعون ولا يضرون، ولا يعطون ولا يحرمون، و " إن شفاء ما ينزل بك من المصائب كتمامه " .

الباب الخامس
نكت من كلام العلماء والأدباء

حكى الصاحب رحمه الله عن الإيجي عن ابن دريد قال: سمعت أبا حاتم يقول: فاتني نصف العلم، فقلت: وكيف ذاك؟ قال: تصدرت ولم أكن للتصدر أهلاً، واستحييت أن أسأل من دوني، واختلف إلى من فوقي، فذلك الجهل إلى اليوم في نفسي.
وحكى عن ابن المنجم قال: كنت أحضر وأنا صغير مجلس ثعلب فأراه ربما سئل عن خمسين مسألة وهو يقول: لا أدري، لا أعلم، لم أسمع.
وحكي عن ابن كامل عن أبي العيناء قال: سمعت أبا زيد يقول: يا أهل البصرة، جئتكم بالقليل الصحيح.
مد الشعبي يده على مائدة قتيبة بن مسلم يلتمس الشراب، فلم يدر صاحب الشراب أأللبن يريد أمِ العسل أم الماء، فقال له: أي الأشربة أحب إليك؟ قال: أعزها مفقوداً، وأهونها موجوداً، قال قتيبة: اسقه ماءً.
قال أبو عمرو بن العلاء: لو كانت ربيعة فرساً لكان شيبان غرتها.
قيل لأبي عبيدة: إن الأصمعي قال: بينا أبي يساير سلم بن قتيبة على فرس له، فقال أبو عبيدة: سبحان الله! " المتشبع بما لم يؤت كلابس ثوبي زور " والله ما كان يملك أبوه دابة إلا في ثيابه.
وقال رجل بين يدي أبي عبيدة: إن الأصمعي دعيٌّ، فقال أبو عبيدة: كذبت، لا يدّعي أحد إلى أصمع.
قال أبو عمرو: غاية المدح أن يمدحك من لا يريد مدحك، وغاية الذم أن يذمك من لا يريد أن يذمك.
وقال أبو عمرو: لا يزال الإنسان بخير ما اشتد ضرسه وأيره.
قال بعضهم: كنت أمشي مع الخليل فانقطع شسع نعلي، فخلع نعله، فقلت: ما تصنع؟ فقال: " أواسيك في الحفاء " .
قيل للمفضل: لم لا تقول الشعر وأنت من العلماء به؟ قال: علمي به يمنعني منه.
قال الخليل: أشتهي أن أكون عند الله من أرفع الناس، وعند الناس من أوسط الناس، وعند نفسي من أسفل الناس.
قال رجل للمبرّد: أسمعني فلان في نفسي فاحتملته، ثم أسمعني فيك فجعلتك أسوتي واحتملته، فقال له: ليسا سواءً، احتمالك في نفسك حلم، وفي صديقك غدر.
قال الخليل: أخرج من منزلي فألقى رجلاً من أربعة: رجلاً أعلم مني فهو يوم فائدتي، أو رجلاً مثلي فهو يوم مذاكراتي، أو تعلماً مني فهو يوم ثوابي، أو رجلاً دوني في الحقيقة، وهو يرى أنه فوقي، يحاول أن يتعلم مني وكأنه يعلّمني، فذاك لا أهتم به ولا أنظر إليه.
قال محمد بن مناذر: كنت مع الخليل فلقي صديقاً له قد ولي عملاً، فعذله وقال له: أمكنت هؤلاء من خلاقك يرتكضون فيه، ومن دينك يترامون به، فاعتذر إليه الرجل، فما مضت الأيام حتى ولي الخليل ضياع يزيد بن حاتم فلقيه الرجل فقال: نهيتني عن شيء وأوتيته! فقال الخليل:
اعمل بعلمي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
لما عزم الرشيد على الحج قال لجلسائه، وفيهم الأصمعي، من يُعادلني على ألا يسكت؟ فصكتوا إلا الأصمعي، فإنه ضمن معادلته على الوفاء بهذه الشريطة، فلما استويا في القبة أخذ في كتاب المبتدأ، فلم يزل يسوقه حتى استتمه في آخر معادلته إياه.
قال الخليل: من استعمل الجزم في وقت الاستغناء عنه استغنى عن الاحتيال في وقت الحاجة إليه.
كان يونس يقول: " إذا شهر لك الأحمق سيفاً فتوقه بجنة الرفق " .
قال أبو عمرو بن العلاء: الغبن غبنان: الغلاء والرداءة، فإن استجدت الشرى ذهب أحد الغبنين.
قال جحظة: قال لي ثعلب: " المرأة الصالحة كالغراب الأعصم " ، وهو الأبيض الرجلين، ولا يكاد يوجد.
قال الصولي: كنا عند ثعلب فغضب على واحد، ثم سكن بعد إفراط فقال: حدثنا من رأى العتابي يخاصم - وقد زاد في القول فعوتب - فقال: " إذا تشاجرت الخصوم طاشت الحلوم، ونُسيت العلوم " .
قال أبو موسى الحامض قرئ على ثعلب من كتاب بخط ابن الأعرابي خطأ، فقيل: أفنغير؟ قال: دعوه ليكون عذراً لمن أخطأ " .
وقف رجل حسن الشارة، جميل البزة حلو الإشارة، على المبرد فسأله عن مسألة، فأحال ولحن وتسكع، فقال له المبرد: يا هذا أنصفنا من نفسك إما أن تلبس على قدر كلامك، وإما أن تتكلم على قدر بزتك.
قال المبرد: كانت في أخلاق الحسن بن رجاء شراسة، وفي كفه ضيق، فكتبت إليه: الناس - أعز الله الأمير - رجلان: حر وعبد، فثمن الحر الإكرام، وثمن العبد الإنعام، فأصلحه هذا القول - لي ولغيري - مدة ثم رجع إلى طبعه.
وقال المبرد: إذا عمل الرجل كتاباً أو قال شعراً فقد استهدف، فإن أحسن فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف.

قال أبو العيناء: ما رأيت مثل الأصمعي قط، أنشد بيتاً من الشعر فاختلس الإعراب ثم قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كلام العرب الدرج.
وحدثني عبد الله بن سوار أن أباه قال: العرب تجتاز بالإعراب اجتيازاً.
وحدثني عيسى بن عمران أن أبي إسحاق قال: العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق فيه.
وسمعت يونس يقول: العرب تشام الإعراب ولا تحققه.
وسمعت الخشخاش بن جناب يقول: العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترده.
وسمعت أبا الخطاب يقول: إعراب العرب الخطف والحذف، قال: فتعجب كل من حضر منه.
قال أحمد بن المعذل: لما جاءنا الأخفش ليؤدبنا قال: جنبوني ثلاثة أشياء: أن تقولوا: بس، وأن تقولوا: هم، وليس لفلان بخت.
قال الصولي: قال لي محمد بن أحمد بن إسحاق وقد تذاكرنا فضل المبرد فقال: ما رأى مثل نفسه؛ دخل إلى عيسى بن فرخانشاه - وقد رضي له بعد أن غضب عليه - فقال له: أعزك الله، لو لا تجرع مرارة الغضب ما التذت حلاوة الرضى، ولا يحس مدح الصفو إلا عند ذم الكدر، ولقد أحسن هذا البحتري في قوله:
ما كان إلا مكافأة وتكرمةً ... هذا الرضى، وامتحاناً ذلك الغضب
وربما كان مكروه الأمور إلى ... محبوبها سبباً ما مثله سبب
فقال له عيسى: أطال الله بقاءك، وأحسن عنا جزاءك، قائل كما قال أبو نواس:
من لا يعد العلم إلا ما عرف ...
كنا متى نشاء منه نغترف ...
روايةً لا تُجتنى من الصحف ...
وأنا أصل البحتري لتمتلك بشعره، ووصله بنحو صلته.
قال أبو عبيدة: ألأم الناس الأغفال الذين لم يهجوا ولم يمدحوا.
قال أبو حاتم: قال أبو عبيدة: لا تردن على أحد خطأً في حفل؛ فإنه يستفيد منك: ويتخذك عدواً.
قال الخليل: قولهم: " أرسل حكيماً ولا توصه " هو الدرهم.
صار أبو العيناء إلى الأصمعي فقال له: ما معك؟ قال: شعر المجنون، قال: ليس له عندي إسناد، فلما كان في اليوم الثاني أتاه فقال: ما معك؟ قال: شعر المخبلّ، قال: أمس معك المجنون، واليوم المخبل، إذا كان غداً تعال أنت وحدك.
سئل أبو العباس المبرد لما سميت المبرد؟ قال: كان سبب ذلك أن صاحب الشرطة طلبني للمنادمة والمذاكرة، فكرهت ذلك، فدخلت يوماً إلى أبي حاتم السجستاني، فجاء رسول الوالي يطلبني، فقال لي أبو حاتم: ادخل في هذا، يعني غلاف مزملة فارغاً، فدخلت فيه، وغطى رأسه، ثم خرج إلى الرسول، فقال: ليس هو عندي، فقال: أُخبرت أنه دخل إليك، قال: فادخل الدار وفتشّها، فدخل وطاف في كل موضع من الدار، ولك يفطن للغلاف ثم خرج، فجعل أبو حاتم يصفق ويقول: المبرد المبرد، وتسامع الناس بذلك فلهجوا به.
قال اليوسفي الكاتب كنت يوماً عند أبي حاتم السجستاني إذا أتاه شاب من أهل نيسابور فقال: يا أبا حاتم، إني قدمت بلدكم، وهو بلد العلم والعلماء، وأنت شيخ أهل المدينة، وقد أحببت أن أقرأ عليك كتاب سيبويه، فقال له: الدين النصيحة، إذا أردت أن تنتفع بما تقرأه فاقرأ على هذا الغلام - محمد بن يزيد - فتعجبت من ذلك.
قال المبرد: الغيبة جهد العاجز.
وكتب يوماً كتاباً إلى الطائي يعتذر فيه ثم أخره و قال: الكتاب إلى الطائي بمنزلة الديكبريكة إن أقللت خلّها صارت قلبّة، وإن زدت فيها صارت سكباجاً، وأكره أن أعرب فلا يفهم أو أقصّر فيستخف بالكتاب.
قال أبو عمرو بن العلاء: الغبن في شيئين الغلاء والرداءة، فإن استجدت الشّرى أحرزت أحد الغبنين.
قال الأصمعي: رأيت فرس أبي النجم الذي قال فيه:
فجاءت الخيل ونحن نشكله ...
فقومته أربعين درهماً.
ورؤي بعض العلماء، وهو يكتب - من فتىً - حديثاً، فقيل له، مثلك يكتب عن هذا؟ فقال: أما إني أحفظ له منه، لكني أردت أن أذيقه كأس الرياسة ليدعوه ذلك إلى الازدياد من العلم.
سأل كيسان خلفاً فقال: يا أبا محرز، علقمة بن عبيدة جاهلي أو من بني ضبة؟ فقال: يا مجنون، صحح المسألة حتى يصح الجواب.
قال بعضهم: التعليق في حواشي الكتب كالشنوف في آذان الأبكار.
قال أبو إسحاق الكلابزي: تخرّق كتاب سيبويه في كم المازني نيفاً وعشرين مرة.

ذكر شعبة بن الحجاج عند أبي زيد الأنصاري فقال: هل العلماء إلا شعبة من سعبة؟ أخبرنا بذلك الصاحب رحمه الله قال: أخبرنا أحمد بن خلف قال: أخبرنا محمد بن القاسم أبو العيناء عن أبي زيد.
قال الخليل: كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ ما في كتبك.
وقال أيضاً: اجعل ما في كتبك رأس مال، وما في صدرك للنفقة.
قال الأصمعي: كان يقال: ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يُدرى من هم، وهم: رجل رأيته راكباً، أو سمعته يعرب، أو شممت منه طيبا، وثلاثة يحكم عليهم بالاستصغار حتى يدرى من هم، وهم: رجل شممت من رائحة نبيذ في محفل، أو سمعته في مصر عربي يتكلم بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق يُنازع في القدر.
قال الخليل بن أحمد: الأيام ثلاثة: معهود ومشهود وموعود، فالمعهود أمس، والمشهود اليوم، والموعود غداً، قال أبو عبيدة: كنا نكتب عن أعرابي فصيح أرجوزةً ومعنا كيسان، فطالت حتى نفدت ألواح كيسان فجعل يمحو ما كتب في أول ألواحه منها، فقلت: ويحك لم تفعل هذا؟ فقال: حتى تكون الأرجوزة عندي بتمامها.
قال أبو عبيدة: أدخلني الفضل بن يحيى على الرشيد، فقال لي: يا معمر، بلغني أنك وضعت كتاباً في الخيل حسناً، وأنا أشتهي أن أسمعه، قال: وكان عنده الأصمعي فقال: يا أمير المؤمنين، وما تصنع بكتاب؟ نجيء بفرس الساعة فنصفه، فقال الرشيد: هاتوا فرساً، فما كان أسرع أن جيء به، فقال الأصمعي فأخذ بأذنه ثم قال: هذا كذا وقال فيه الشاعر: كذا، وهذا كذا وقال فيه الشاعر: كذا، قال: فأقبل عليّ الرشيد فقال: ما تقول يا معمر فيما قال؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أصاب في بعض، وأخطأ في بعض، فأما ما أصاب فيه فمني تعلّمه، وأما ما أخطأ فيه فلا أدري من أين جاء به، والرشيد يضحك.
قال أبو عبيدة: العارضة كناية عن البزا.
قال يونس: المفحم يأتيه دون ما يرضى، ويطلب فوق ما يقوى.
قال الأصمعي: قال لي أبو عمرو بن العلاء: من عرف فضل من فوقه عرف فضله فإن جَحد جُحد.
وقال أبو عمرو: لا تأت إلا من ترجو نائله، أو تخاف سطوته، أو ترجو بركة دعائه أو تقتبس من عمله.

الباب السادس
الكبر المستحسن والمستقبح
قال أبو عثمان: من الكبر المستحسن قول وكيع بن أبي سود لعدي بن أرطاة حين قال: سو عليّ ثوبي فقال له: أذكرتني ضيق خفّي، أيها الأمير، خذ خفّي، فضحك عدي و قال: يا أبا مطرف، إن الجليس ليلي من جليسه أكثر من هذا. فقال: إذا عُزلت فكلفنا ما أحببت، ثم ركب الحسن البصري فأخذ وكيع - متبرعاً - بركابه حتى ركب، فاستحسن ذلك الكبر مع هذا التواضع.
دخل عمارة بن حمزة على المنصور فقعد في مجلسه، وقام رجل فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: من ظلمك؟ قال: عمارة غصبني ضيعتي، فقال المنصور: يا عمارة قم فاقعد مع خصمك، فقال: ما هو لي بخصيم؛ إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها، وإن كانت لي فهي له، ولا أقوم من مجلس قد شرفني أمير المؤمنين بالرفعة إليه لأقعد في ادنى منه بسبب ضيعة.
لما عزل الحجاج أمية بن عبد الله عن خراسان أمر رجلاً من بني تميم فعابه بخراسان وشنّع عليه، فلما قفل لقيه التميمي فقال: أصلح الله الأمير لا تلمني فإني كنت مأموراً فقال: يا أخا بني تميم، وحدثتك نفسك أني وجدت عليك؟ قال: قد ظننت ذلك، قال: إن لنفسك عندك قدرا.
جرى بين الرشيد وزبيدة نزاهة نفس عمارة بن حمزة وكبره، فقالت له: ادع به وهب له سبحتى هذه، فإن شراءها خمسون ألف دينار، فإن ردها عرفنا نزاهته، فوجّه إليه فحضر، فحادثه وأعطاه السبحة، فجعلها عمارة بين يديه، فلما قام تركها، فقالت: أنسيها؟ فأتبعوه خادماً بالسبحة، فقال للخادم: هي لك، فرجع وقال: وهبها لي عمارة، فأعطت زبيدة بها الخادم ألف دينار وأخذتها. وقد روي أن هذا الخبر كان مع أبي العباس السفاح وزوجته أم سلمة.

كان مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب، أحد بني قيس بن ثعلبة، وإليه تنسب المسامعة، سيد بكر بن وائل في الإسلام، وهو الذي قال - لعبيد الله بن زياد بن ظبيان، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة، وكان حدثه أمر مسعود بن عمرو من الأزد ولم يعلمه فقال له عبيد الله، وهو أحد فتاك العرب، وقاتل مصعب بن الزبير - : أيكون مثل هذا الحديث ولا تعلمني؟ لقد هممت أن أضرمها عليك نارا، فقال مالك: اسكت أبا مطر، فوالله إنك في كنانتي سهم أنا أوثق به منك، فقال له عبيد الله: أنا في كنانتك! فوالله لو قمت فيها لطلتها، ولو قعدت فيها لخرقتها، فقال مالك - وأعجبه - : أكثر الله في العشيرة مثلك، فقال: سألت ربك شططاً.
خطب عبد الملك بن مروان إلى عقيل بن علّفة ابنته على أحد بنيه - وكانت لعقيل إليه حاجات - فقال: أما إذ كنت فاعلاً فجنبني هجناءك.
وحدث الجاحظ قال: أتيت أبا الربيع الغنوي، وكان من أفصح الناس وأبلغهم، ومعي رجل من بني هاشم فناديت: أبو الربيع ها هنا؟ فخرج إلي وهو يقول: خرد إليك رجل كريم، فلما رأى الهاشمي استحيا من الفخر بحضرته فقال: أكرم الناس رديفاً، وأشرفهم حليفا! فتحدث ملياً، ونهض الهاشمي، فقلت: يا أبا الربيع من خير الخلق؟ قال: الناس والله، قلت فمن خير الناس؟ قال: العرب والله، قلت فمن خير العرب؟ قال: مضر والله، قلت: فمن خير مضر؟ قال: قيس والله، قلت: فمن خير قيس؟ قال: يعصر والله، فقلت: فمن خير يعصر؟ قال: غني والله، قلت: فمن خير غني؟ قال: المخاطب لك والله، قلت: فأنت خير الخلق؟ قال: إي والله، قلت: أيسرّك أن تكون ابنة يزيد بن المهلب تحتك؟ قال: لا والله، قلت: ولك ألف دينار، قال: لا والله، قلت: فألفا دينار، قال: لا والله، قلت: ولك الجنة، فأطرق ملياً ثم قال: على ألا تلد مني.
قوله: أكرم الناس رديفاً وأشرفهم حليفا، فإن أبا مرئد الغنوي كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحليف حمزة بن عبد المطلب رحمه الله.
يروى عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزيرة في يوم قر فقال له: ممن أنت يا مقرور؟ قال: أنا ابن الوحيد، أمشي الخير لي، ويدفئني حسبي.
وقيل لآخر في مثل هذه الحال: أما يوجعك البرد؟ قال: بلى، ولكنني أذكر حسبي فأدفأ.
كان عوف ابن القعقاع بن معبد بن زراة من أتيه الناس وأشدهم وأجفاهم، قال له رجل مرةً: الطريق يا عبد الله، فقال: أعبد الله أنا؟ فكان الحجاج يقول: لو أدركته لقتلته تقرباً إلى الله عز وجلّ.
كان جذيمة الأبرش لا ينادمه أحد تعظماً ويقول: إنما ينادمني الفرقدان ونظن أن قول الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة حقبةً ...
أراد به الفرقدين، وليس كما ذكرته الرواة من حديث مالك وعقيل، فإنهما كان يجوز عليهما الافتراق ولا يجوز ذلك لفرقين.
حكى ابن ثوابة أنه قال لغلامه: اسقني ماء فقال: نعم، إنما تقوا: من يقدر أن يقول: لا، وأمر بصفعه.
ودعا يوماً أكارا وكلمه، فلما فرغ دعا بماء وتمضمض استقذاراً لمخاطبته.

الباب السابع
نوادر في الجود والسخاء ومحاسن الأخلاق
كان هرم بن سنان آلي على نفسه ألا يسلّم عليه زهير إلا أعطاه، فقلّ مال هرم فأبقى عليه زهير، فكان يمر بالنادي، وفيه هرم، فيقول: أنعموا صباحاً ما خلا هرماً وخير القوم تركت.
آتى الحسن بن شهريار الحسن بن سهل فكلّمه في رجل فقال له: العيال متوافرون، والضياع متحيّفة، والوظائف قائمة، وذو العادة لا يرضيه دون عادته، وقد أمرت له بثلاثين ألف درهم، فقال له الحسن بن شهريار: إنما مقدار الرجل الذي سألتك أن يُعطى ألفاً وألفين، فقال: يا حسن، إن لكل شيء زكاة، وزكاة الجاه بذله، فإذا أجرى الله لإنسان على يدك خيراً فلا تعترض فيه.
كان طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري أجود قريش في زمانه، فقالت له امرأته: ما رأيت قوماً الأم من إخوانك، قال لها، لمه وأني قلت؟ قالت: أراهم إذا أيسرت أتوك، وإن أعسرت تركوك، قال: هذا والله من كرمهم، يأتوننا في حال القوة عليهم، ويتركوننا في حال العجز عنهم.
بعث روح بن حاتم بن المهلب إلى رجل بثلاثين ألف درهم، وكتب إليه: قد وجّهت إليك بما لا أقلله تكبراً، ولا أكثره تمنناً، ولا أستثيبك عليه ثناء، ولا أقطع لك به رجاء.

وصف رجل خالد بن عبد الله القسري بالشجاعة، ورد عليه بعض من حضر و قال: إن خالداً لم يشهد حرباً قط، فقال له صاحبه: اسكت فإن الصبر عند الجود أعظم من الصبر عند البأس.
لما قُتل جعفر بن يحيى قال أبو النواس: مضى والله الكرم والجود والأدب والعقل، فقيل له: ويحك! تهجوه في حياته وتمدحه في مماته؟ فقال: ذاك والله لجهلي، وشقاء جدي. وركوبي هواي، أيكون في الدنيا أكرم من جعفر، ولقد رفع إليه صاحب الخبر أني هجوته. وقلت:
لقد غرني من جعفر حسن بابه ... ولم أدر أن اللؤم حشو إهابه
ولست وإن أطنبت في مدح جعفر ... بأول إنسان خرى في ثيابه
فوقع في رقعته: يُدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ثيابه؟ حُدّث أن رجلاً شيخاً أتى سعيد بن سلم وكلّمه في حاجة وما شاه، فوضع زج عصاه التي يتوكأ عليها على رجل سعيد حتى أدماها، فما تأوّه لذلك، وما نهاه، فلما فارقه قيل له: كيف صبرت منه على هذا؟ قال: خفت أن يعلم جنايته فينقطع عن ذكر حاجته.
مر عبد العزيز بن مروان بمصر فسمع امرأةً تصيح بابنها يا عبد العزيز، فوقف فقال: من المسنى باسمنا؟ ادفعوا إليه خمسمائة دينار، قال: فما ولد في أيامه مولود بمصر إلا سمي عبد العزيز.
مرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ عواده، فقال لمولىً له: ما بال الناس لا يعودونني؟ قال: للدين عليهم، قال: بادر فيهم: من كان عليه شيء فهو له، فكسروا درجته من تهافتهم عليه.
كان عبد الله بن جدعان حين كبر أخذت بنو تيم على يده ومنعوه أن يُعطى شيئاً من ماله، فكان الرجل إذا أتاه يطلب منه قال له: ادن مني، فإذا دنا منه لطمه، ثم قال: اذهب فاطلب بلطمتك أو تُرضى فترضيه بنو تيم من ماله، وفيه يقول الشاعر:
والذي إن أشار نحوك لطما ... تبع اللطم نائل وعطاء
وكان سعيد بن العاص إذا سأله سائل فلم يكن عنده ما يعطيه قال: اكتب علي سجلاً إلى أيام يسرى.
اشترى عبد الله بن أبي بكر جارية بستين ألف درهم فطلبت دابة تحمل عليها، فلم توجد، فجاء رجل بدابته فحملها، فقال له عبد الله: اذهب إلى منزلك ووهبها له.
أرتج على عبد الله بن عامر بالبصرة يوم أضحى، فمكث ساعةً ثم قال: لا أجمع عليكم عياً وبخلاً، من أخذ شاةً من السوق فهي له، وعليّ ثمنها.
أهدى رجل إلى مالك هديةً، فأظهر الغم بها، فقال له جلساؤه في ذلك، فقال: فكيف وهي لا تخلو من أن تكون من مبتد أي من رجل أتقلد له يداً، أو من رجل قلّدته نعمة، فأكون قد أخذت على نعمتي ثمناً.
قصد رجل طلحة الطلحات بسجستان واستأذن الحاجب فقال هل: بم تمت؟ قال: إن لي عند الأمير يداً، قال: فخبرني أرفع إليه، قال: لا أقول إلا له، فدخل الحاجب وعرفه، فأذن له، فمثل بين يديه فقال: ما هذه اليد التي لك عندنا؟ قال: كنت يوماً مع الأمير جالساً فأماط عن لحيتي أذىً، قال: فهذه يدي لا يدك، قال: صدقت أيها الأمير جئت لتربها، قال: حباً ونعمةً، وأحسن إليه.
استحمل رجل معن بن زائدة فقال معن: يا غلام أعطه بعيراً وبغلاً وبرذونا وفرساً وجارية، ولو وجدنا مركوباً غير هذا لأعطيناه.
طلب رجل من أبي العباس خطراً فلم يعطه، فبلغ ذلك معن بن زائدة - وهو باليمن - فأرسل إليه بجراب خطر فيه ألف دينار وكتب إليه: اختضب بالخطر وانتفع بالنخالة.
باع أبو الجهم داره، فلما أرادوا الإشهاد عليه قال: بكم تشترون من جوار سعيد ابن العاص؟ قالوا: سبحان الله! وهل رأيت أحداً يشتري جوارأحد أو يبيعه؟ قال: لا تشترون مني جوار إنسان إن أسأت إليه أحسن؟ لا أريد أن أبيعكم شيئاً، ردوا عليّ داري، فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بألف دينار.
قال رجل لآخر: اثت فلاناً فإنه لم ينظر إلى قفا محروم قط.
أراد الرشيد أن يخرج إلى القاطول فقال يحيى بن خالد لرجاء بن عبد العزيز - وكان على نفقاته - : ما عند وكلائنا من المال؟ قال: سبعمائة ألف درهم، قال: فاقبضها إليك يا رجاء، فلما كان من الغد غدا غليه رجاء فقبّل يده - وعنده منصور بن زياد - فلما خرج قال المنصور: قد ظننت أن الرجل قد توهم أنا وهبنا المال له وإنما أمرناه بقبضه من الوكلاء ليحفظها علينا؛ لحاجتنا إليها في وجهنا هذا، قال منصور: فأنا أُعلمه ذلك، قال: إذن يقول لك قل له: يُقبّل يدي كما قبلت يده فلا تقل شيئاً فقد تركتها له.

استلب رجل رداء طلحة بن عبيد اللهفذهب رجل يتبعه فقال له طلحة: دعه، فما فعل هذا إلا من حاجة.
كان خالد بن عبد الله القسري يُكثر الجلوس ثم يدعو بالبدر ويقول: إنما هذه الأموال ودائع لابد من تفريقها، فقال ذلك مرةً، وقد وفد عليه أخوه أسد بن عبد الله من خراسان، فقام فقال: هدأت أيها الأمير، إن الودائع تجمع لا تفرق، قال: ويحك! إنها ودائع للمكارم وأيدينا وكلاؤها، فإذا أتانا المملق فأغنيناه، والظمآن فأرويناه، فقد أدينا فيه الأمانة.
وكان طلحة الطلحات يقول: من كان جواداً فليعط ماله أخول أخول، إن المال إذا كثر زيّن وأحب صاحبه صحبته.
قالوا: حد السخي أن يُعطى ما يحتاج إليه في الوقت الذي يحتاج إليه.
وسئل عمرو بن عبيد عن السخاء فقال: أن تكون بمالك متبرعاً، وعن مال غيرك متورعا.
قيل لإسحاق بن الموصلي صف لنا سخاء أولاد يحيى بن خالد، فقال: أما الفضل فيرضيك بفعله، وأما جعفر فيرضيك بقوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى فيفعل بما لا يجد.
قرع رجل باب بعضهم، فقال لجاريته: أبصري من القارع، فقالت: من ذا؟ قال: أنا صديق لمولاك، قال الرجل: قولي: والله إنك لصديق؟ فقلت له، فقال: والله إني لصديق، فنهض الرجل، وبيده سيف وكيس، يسوق جاريته وفتح الباب و قال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال: لا بك ما ساءك، فإني قد قسمت أمرك بين نائبة فهذا المال، وبين عدوّ فهذا السيف، أو أيمة فهذه الجارية.
أولم عدي بن حاتم وليمةً فقال لابن له حدث: كن بالباب فأذن لمن تعرف، وامنع من لا تعرف، فقال له مرتجلاً:
أنا في الطاعة أمضي ... لك من سيف حسام
لا يكن أول ما ول ... ليتني منع الطعام
فضمّه إليه و قال: نزعك عرق جدك.
مر يزيد بن المهلب بأعرابية في خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز يريد البصرة فقرته عنزاً فقبلها، ثم قال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ قال: ثمان مائة دينار، قال: فادفعها إليها، فقال له ابنه: إنك تريد الرجال، ولا تكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعد لا تعرفك. قال: إن كانت ترضى باليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فإني أعرف نفسي، ادفعها إليها.
قال الأحنف: كثرت عليّ الديات بالبصرة لما قتل مسعود، فلم أجدها في حاضرة تميم فخرجت نحو يبرين فسألت عن المقصود هناك، فأرشدت إلى قبة، فإذا شيخ جالس بفنائها مؤزر بشملة محتب بحبل فسلّمت عليه، وانتسبت له. فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: توفي، قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذي كان يحفظ العرب ويحوطها؟ قلت: مات. قال: فأي خير في حاضرتكم بعدهما؟ قال: فذكرت الديات التي لزمتنا للأزد وربيعة، فقال: أقم، فإذا راع قد أراح عليه ألف بعير فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر مثلها، فقال: خذها، قلت: لا أحتاج إليها، فانصرفت بالألف، ووالله ما أدري من هو إلى الساعة.
كان يقال لطلحة بن عبيد الله: طلحة الخير، وطلحة الجود.
ورُوي أنه باع ضيعةً له بخمسة آلاف ألف درهم، فقسّمها في الأطباق، وأنه منعه أن يخرج إلى المسجد حتى لُفق له بين ثوبيه.
ويقال: إن شاعراً أتى أبا البختري وهب بن وهب - وكان جواداً - فمدحه فهشّ إليه وثنى له الوسادة ورفده وحمله وأضافه، فلما أراد الرجل الرحلة لم يخدمه أحد من غلمان أبي البحتري، ولا عقد له ولا حل، فأنكر الرجل ذلك مع جميل فعله به، فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنا إنما نعين النازل على الإقامة، ولا نعين الراحل على الفراق، فبلغ هذا الكلام جليلاً من القرشيين فقال: والله لفعل هؤلاء العبيد على هذا المقصد أحسن من رفد سيدهم.
قال أبو يعقوب الخطابي: قدمت على السري بن عبد الله فتحرّك، فرأيت عليه إزاراً قوّمته خمسة دراهم فأبدرته بصري فقال: هذا إزاري، وقد فرقت في قومك العام أربعين ألف دينار؟!.
قال معن بن زائدة: قاتلنا ابن هبيرة بواسط فظفرنا وغنمنا، وأصابني عشرة آلاف درهم فرّقتها في زوّاري وأضيافي، وأحرز أصحابي ما كان لهم، فلما كان الغد ظفر بنا وأخذ ما كان مع أصحابي، وبقي ما كان لي منناً في أعناق الرجال.

باع حكيم بن حزام من معاوية داره بستين ألف دينار، فقيل له: غبنك معاوية. فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزقّ خمر، وأشهدكم أنها في سبيل الله فانظروا أينا المغبون؟.
قال بعض العرب: " حدّث عن البحر ولا حرج، وحدّث عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدّث عن معن ولا حرج " .
ذُكر عند سفيان بن عيينة سخاء عبد الله بن جعفر وتُعُجب منه، فقال: كيف يُتعجب من سخائه وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر أن يخلفه الله في ولده - بأفضل ما خلف به أحداً من عباده الصالحين - السخاء؟.
أخذ سليمان بن عبد الملك بن هبيرة بألف ألف درهم، فأتى يزيد بن المهلب فقال: زاد الله في توفيقك وسرورك، أُخذت بما لم يسعه مالي، فقلت: ما لما نزل بي إلا السيد الكريم، مدره العرب، ووزير الخليفة، وصاحب المشرق. فقام رجل من قوم ابن هبيرة فقال: أيها الأمير، إنه ما خص هذا عمّنا، وقد أتيناك فيما شكا، فإن تكفه فليس بأعجب ما فيك، وإن تدفعه فليس له غيرك. وقام آخر فقال: لو أصبنا أحدً فوقك اخترناه، أو دونك انحططنا إليه، وقد أتيناك فيما فدحه فإن تستقلله فقد تُرجى لأكثر، وإن تستكثره فقد تضطلع دونه، فوالله ما الدخان بأدل على النار، والعجاج على الريح، من ظاهر أمرك على باطنه. وقام آخر فقال: عظم شأنك أن يستعان عليك أو يستعان بك، ولست تأتي شيئاً من المعروف إلا صغر عنك، وعظمت عنه، ولا غاية بلغها أحد من العرب إلا بلغتها، فحظك فيها مقدم، وحقك فيها معظم، لا نقيسك بأحد من الملوك إلا عظمت عنه، ولا نزنك بأحد منهم إلا رجحت به، والله ما العجب أن تفعل، ولكن العجب ألا تفعل. فقال يزيد: مرحباً بكم، وأهلا، إن خير المال ما قضي به الحق، وابتُني به المكرمة، وإنما لي من مالي ما فضل عن الناس، وأيم الله أن لو أعلم أحداً أهلاً لحاجتكم مني أرشدتكم إليه، فاحتكموا وأكثروا، فقال ابن هبيرة: النصف أصلحك الله، فقال: آغد على مالك فاقبضه، فدعوا له وقاموا فمضوا غير بعيد، فندموا، فظن ذلك بهم يزيد، فقال: ردوهم، فرجعوا فقالوا: أقلنا أصلحك الله، قال: قد فعلت، وتحملها كلها عنه.
قال ابن عباس قدم علينا الوليد بن عتبة المدينة والياً كأن وجهه ورقة مصحف، فوالله ما ترك فينا عانياً إلا فكّه، ولا غريماً إلا أدى عنه، ينظر إلينا بعين أرق من الماء ويكلمنا بكلام أحلى من الجنى، ولقد شهدت منه مشهداً لو كان من معاوية لذكرته منه أبدا: تغدينا عنده، فأقبل الخباز بالصحفة، فعثر بوسادة، وبدرت الصحفة من يده، فوالله ما ردّها إلا ذقنه، وصار ما فيها في حجره، ومثُل الغلام وما فيه من الروح إلا ما يُقيم رجله، فقام فدخل فغير ثيابه، ثم أقبل تبرق أسارير وجهه، فأقبل على الخبّاز فقال: يا بائس ما أرانا إلا وقد روّعناك، أنت وأولادك أحرار لوجه الله. فهذا هو التواضع الجميل، والبذل الحسن، والكبر المحض.
قال سلم بن زياد لطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي: إني أريد أن أصل رجلاً له عليّ حق وصحبة بألف ألف درهم فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل هذه لعشرة، قال: فأصله بخمس مائة ألف درهم؟ قال: كثير، فلم يزل به حتى وقف على مائة ألف درهم، قال: أفترى مائة ألف يُقضى بها ذمام رجل له انقطاع وصحبة ومودة وحق واجب؟ قال: نعم، قال: هي لك، وما أردت غيرك، قال: فأقلني، قال: لا أفعل والله.
قبض غريم للحسن بن سهل - بعد محنته - عليه، وصار به إلى مجلس أحمد بن أبي داود أراد أن يضع منه حسداً له، وركب أحمد، وجلس الحسن ينتظره فدخل كاتب للحسن فقال له: بعت الضيعة؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بثلاثين ألف دينار، قال: وقبضت الثمن؟ قال: نعم، قال: زن لهذا الغريم ما له، وسأل جميع من كان حضر للحكم، وكان بعضهم يطالب بعضاً، وهم ينتظرون عود ابن أبي داود، فأدّى عن كل مطالب ما عليه، ورجع ابن أبي داود فلم يجد في مجلس الحكم أحداً، فسأل عن الخبر فأخبر بالقصة، فكان بعد ذلك من الواصفين لجلالة الحسن بن سهل وكرمه.
دخل رجل على خالد بن عبد الله القسري فقال: السلام عليك يا مفلح، قال: وكيف قلت ذلك؟ قال: لأن الله عز وجلّ قال في كتابه: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " وقد وقاك الله شح نفسك.
قال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: بلغني عنك سرف في إعطائك، فقال: يا أمير المؤمنين " منع ما يوجد سوء ظن بالله " .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، أُتي بأسرى من بني العنبر، فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً، فقال علي عليه السلام: الرب واحد، والدين واحد، والذنب واحد، فما بال هذا من بينهم؟ فقال: " نزل عليّ جبريل فقال: اقتل هؤلاء واترك هذا، فإن الله شكر له سخاءً فيه " .
وقال صلى الله عليه وسلم وآله لآخر: " لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشردت بك أف لك من وافد قوم " .
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام " لا تقتل السامريّ فإنه سخيّ " .
أنفذ جبلة بن الأيهم من الروم مالاً إلى حسان بن ثابت، فلما أتاه الرسول وأقرأه السلام عن جبلة، قال له: هات ما بعث معك من المال، قال: وما علمك بأنه بعث معي بشيء؟ قال: ما أرسل إلي بالسلام قط إلا ومعه مال.
كان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام في جيش مسلمة حين غزا الروم في خلافة عمر بن عبد العزيز إلى أن بلغ فيها القسطنطينية فتشابها فسامه مسلمة بماله الذي يعرف بالمعرضة فأبى المغيرة أن يبيعه، ثم أصابت أهل تلك الغزاة مجاعة فباعه إياه بخمسة عشر ألف دينار فنقده مسلمة الثمن، فبعث المغيرة بذلك المال مع من اشترى له إبلاً من كلب، واشترى له دقيقاً وزيتاً وقباطيّ، وحمل ذلك على الإبل، وكانوا لا يقدرون على الحطب، فأمر بالقباطي فأُدرجت بالزيت وأوقدها، ونحر الإبل واطّبخ واختبز وأطعم الناس، وكان في تلك الغزاة أخوه أبو بكر بن عبد الرحمن فقيل له: نرى ناراً في العسكر، فقال: لا تجدونها إلا في رحل المغيرة من طعامه. فلما قفل الناس من غزاتهم تلك وبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز قال عمر لمسلمة: أنت كنت أقوى وأولى بإطعام الناس من المغيرة، وذلك لك ألزم؛ لأنك إنما كنت تطعمهم من بعض مالك، وهو أطعمهم بحطمة ماله، فاقصمه البيع، فإنه بيع ضغطة لا يجوز، فعرض ذلك مسلمة على المغيرة فأبى، وقال: قد أنفذت البيع. فأمر عمر بن عبد العزيز بتلك الضيعة فردت على المغيرة، وأمر بالمال يدفع إلى مسلمة من بيت المال، فتصدّق المغيرة بالمعرضة، أو أمر أن يُطعم الحاج منها يوم عرفة وثلاثة منى، فهو السويق والسمن والتمر الذي يُطعم بمنى من صدقة المغيرة.

الباب الثامن
الشجاعة والجبن
قيل لبعضهم: ما الشجاعة؟ قال: صبر ساعة.
حُكي عن ابن أبي عتيق قال: نظرت إلى عبد الله بن الزبير و عبد الله بن صفوان، وقد ذهب الناس عنهما، فلم يبق معهما أحد، وهما نائمان يغطان في الليلة التي قتلا في صبيحتها.
قيل لبني الحارث: كيف كنتم تفعلون؟ قالوا: كنا لا نبدأ أحداً بظلم، ولم نك بالكثير فنتواكل، ولا بالقليل فنتخاذل وكنا نصبر بعد الناس ساعةً.
قال بعض الشجعان لرفيق له، وقد أقبل العدو: اشدد قلبك، قال: أنا أشده ولكنه يسترخي.
اجتاز كسرى في بعض حروبه بشيخ قد تمدد في ظل شجرة ونزع سلاحه وشد دابته فقال له: أنا في الحرب وأنت على مثل هذه الحال؟! فقال الشيخ: أيها الملك، إنما بلغت هذه السن باستعمالي هذا التوقي، فقال كسرى: زهٍ.
خرج المعتصم إلى بعض متصيّداته فظهر له أسد، فقال لرجل من أصحابه أعجبه قوامه وسلاحه وتمام خلقه: هل فيك خير؟ فقال بالعجلة: لا يا أمير المؤمنين، فضحك المعتصم و قال: قبّحك الله وقبّح طللك؟ .
لما ذُهب بهدبة ليقتل انقطع قبال نعله، فجلس يصلحه، فقيل له: تصلحه وأنت على ما أنت عليه؟ فقال:
أشد قبال نعلي لن يراني ... عدوّي للحوادث مستكينا
كان الحارث بن هشام المخزومي في وقعة اليرموك، وبها أصيب، فاثبتته الجراح، فاستسقى ماءً، فأُتي به، فلما تناوله نظر إلى عكرمة بن أبي جهل صريعاً في مثل حاله، فردّ الإناء على الساقي وقال: امض إلى عكرمة ليشرب أولاً فإنه أشرف مني، فمضى به إليه، فأبى أن يشرب قبله، فرجع إلى الحارث فوجده ميتاً، ورجع إلى عكرمة فوجده أيضاً ميتاً، لم يشرب أحد منهما الماء.

قال الموصلي: حدثني رجل من أهل الأدب قال: كان لفتىً من قريش وصيفة نظيفة جميلة الوجه حسنة الأدب، وكان بها معجباً، فأضاق، فاحتاج إلى ثمنها، فحملها إلى العراق، زمن الحجاج، فباعها فوقعت إلى الحجاج، فكانت تلي خدمته، فقدم عليه فتىً من ثقيف أحد بني أبي عقيل، فأنزله قريباً منه وألطفه، فدخل عليه يوماً والوصيفة تقمز رجل الحجاج، وكان للفتى جمال وهيئة، فجعلت الوصيفة تسارق الثقفي النظر، وفطن الحجاج فقال للفتى: ألك أهل؟ قال: لا، قال: خذ بيد هذه الوصيفة فاسكن إليها واستأنس بها، إلى أن أنظر لك بعض بنات عمك، فدعا له وأخذها مسروراً، وانصرف إلى رحله، فباتت معه ليلتها وهربت بغلس فأصبح، لا يدري أين هي، وبلغ الحجاج ذلك فأمر منادياً فنادى برئت الذمة ممن آوى وصيفةً من صفتها وأمرها كيت وكيت، فلم يلبث أن أتي بها فقال لها: يا عدوة الله، كنت عندي من أحب الناس، واخترت لك ابن عمي شاباً حسن الوجه، ورأيتك تسارقينه النظر، فدفعتك إليه، وأوصيته بك، فما لبثت إلا سواد ليلتك حتى هربت. قالت يا سيدي اسمع قصتي ثم اصنع ما أحببت، قال: هات، قالت: كنت لفلان القرشي، وكان بي معجباً، فاحتاج إلى ثمني، فحملني إلى الكوفة، فلما صرنا قريباً منها دنا مني فوقع عليّ، فلم يلبث أن سمع زئير الأسد فوثب عني إليه، واخترط سيفه، ثم حمل عليه فضربه وقتله، ثم أقبل إليّ وما برد ما عنده، فقضى حاجته. وقالت: ابن عمك هذا الذي اخترته لي، لما أظلم الليل قام إليّ، فإنه لعلى بطني إذ ةقعت فأرة من السقف عليه فضرط ثم وقع مغشياً عليه، فمكث زماناً طويلاً أقلّبه وأرش على وجهه الماء وهو لا يفيق، فخفت أن تتهمني به فهربت فزعاً من القتل، فما ملك الحجاج نفسه وقال: ويحك! لا تُعلمي بهذا أحداً فإنه فضيحة، قالت: يا سيدي على ألا تردني إليه، فقال لها: لك ذاك.
سمعت عائشة الناس يوم الجمل يكبرون فقالت: لا تكبّروا فإن كثرة التكبير عند القتال من الفشل.
قال عمر لعمرو بن معدي كرب: أخبرني عن الحرب، قال: مرة المذاق، إذا قلصت عن ساق، من صبر فيها عُرف. ومن ضعف عنها تلف.
حدّث جار لأبي حية النميري قال: كان لأبي حية سيف ليس بينه وبين الخشب فرق، وكان يسمّيه " لعاب المنية " ، فأشرقت عليه، وانتضاه واستذفره، وهو واقف على باب بيت في داره، وقد سمع حسّاً وهو يقول: أيها المغتر بنا، والمجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذي قد سمعت به، مشهورة: ضربته، لا تُخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيساً تملا الفضاء خيلاً ورجلاً، فيا سبحان الله! ما أكثرها وأطيبها، ثم فتح الباب على وجل، فإذا كلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفاني حرباً، قال رجل من العرب انهزمنا من قطريّ وأصحابه، فأدركني رجل على فرس، فسمعت حساً منكراً خلفي، فالتفت فإذا أنا بقطري، فيئست من الحياة، فلما عرفني قال: أوجع خاصرتها، واشدد عنانها، قطع الله يدك، قال: ففعلت ومضيت.
قال عمير بن الحباب: إذا رأيت سواداً بليل فلا تكن أشد السوادين فرقاً؛ فإنه يهابك كما تهابه، ولو صدمت الأسد لحاد عنك.
قيل لعمرو بن معدي كرب: إن الآثار في ظهرك لكثيرة، قال: لأني كُفيت أمامي ولم يكفني أحد ما وراء ظهري.
قيل لعباد بن الحصين الحبطي: في أي جنة تحب أن تلقي عدوك؟ قال: في اجل مستأخر.
سئل المهلب عن رجل في شجاعته فقدّمه، فقال له: فأين ابن الزبير: وابن خازم؟ فقال: إنما سألتني عن الإنس ولم تسأل عن الجن.

كان عمير بن الحباب السلمي فارس الإسلام، وكان مع ابن زياد لما حارب ابن الأشتر فقال: لما كان في الليلة التي يريد ابن الأشتر أن يواقع في صبيحتها خرجت إليه، وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فصرت في عسكره فرأيته وعليه قميص هروي وملاءة وهو متوشح بالسيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه، فوالله ما التفت إليّ ولكن قال: من هذا؟ قلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلّس كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط؟ يحتضنه رجل من عسكر عدوّه ولا يدري من هو فلا يلتفت! ثم عاد إليّ فقال: ما الخبر؟ - وكان في أربعة آلاف - فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله فنحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا، قلت: فأنا منخزل عنك بثلث الناس غداً.
سأل ابن هبيرة عن مقتل عبد الله بن خازم فقال رجل ممن حضر مجلسه: سألت وكيع بن الدورقية كيف قتلته؟ فقال: غلبته بفضل فتاء كان لي عليه، فصرعته وجلست على صدره، وقلت: يا لثارات الدويلة - يعني أخاه من أمه - فقال من تحتي: قتلك الله، تقتل كبش مضر بأخيك وهو لا يساوي كف نوى؟ ثم تنخّم فملأ وجهي نخاما، فقال ابن هبيرة هذه والله البسالة. استدل عليها بكثرة ريقه في ذلك الوقت.
كان حبيب بن مسلمة الفهري يغزو الترك، فخرج ذات مرة إلى بعض غزواته فقالت له امرأته: أين موعدك؟ قال: سرادق الطاغية أو الجنة، قالت: إني أرجو أن أسبقك إلى أي الموضعين كنت فيه، فجاء فوجدها في السرادق: سرادق الطاغية تقاتل الترك.
قال: عرض الأسد لأهل قافلة، فخرج رجل، فلما رأى الأسد سقط وركبه الأسد، فشدوا عليه بأجمعهم واستنقذوه، فتنحى الأسد، فقالوا: ما حالك؟ قال: لا بأس ولكن الأسد خري في سراويلي.
قال المهلب: أشجع الناس ثلاثة: ابن الكلبية، وأحمر قريش، وراكب البغلة: فابن الكلبية: مصعب بن الزبير، أفرد في سبعة وأُعطي الأمان، وأحمر قريش: عمر بن عبيد الله بن معمر، ما لقي خيلاً قط إلا كان في سرعانها، وراكب البغلة: عباد بن حصين الحبطي، ما كنا في كربة قط إلا فرّجها، قال: فقال الفرزدق وكان حاضراً: فأين أنت من عبد الله بن الزبير، و عبد الله بن خازم السلمي؟ فقال: ويحك! إنما ذكرنا الإنس فأما الجن فلم نذكرهم بعد.

الباب التاسع
الأسماء الحسنة والقبيحة
تقدّم رجلان إلى شريح فقال أحدهما: ادع أبا الكويفر ليشهد، فردّه شريح ولم يسأل عنه وقال: لو كنت عدلاً لم ترضها.
سأل عمر رجلاً - أراد أن يستعين به على أمر - عن اسمه، فقال: ظالم بن سرّاق، فقال: تظلم أنت ويسرق أبوك!!ولم يستعن به.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً ينادي آخر: يا أبا العقلين، فقال: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما.
قيل لبعضهم: قد رُزقت ابناً فاختر له كنيةً، فقال: كنّوه أبا عبد رب السموات السبع ورب العرش العظيم.
نادى منادي معاوية وهو يعرض الجند: أين فيشلة بن الرّهاز؟ فأقبل فتى شاب، فقال معاوية: ويلك! ما هذا الاسم؟ قال: سماني به أبي، قال: فهلاّ غيّرت بالكنية؟ قال: قد فعلت، قال: ما الكنية؟ قال: أبو اليقّاط، فنفاه.
قال هشام: خرج عمر إلى حرّة واقم، فلقي رجلاً من جهينة فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جمرة، قال: وممن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: ثم ممن؟ قال: من بني ضرام، قال: وأين منزلك؟ قال: بحرّة ليلى، قال: فأين تريد؟ قال: لظي - وهو موضع - فقال عمر: أدرك أهلك فما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا، قال: فأدركهم وقد أحاطت بهم النار.
سأل رجل أبا عبيدة عن اسم رجل، فقال: ما أعرف اسمه. فقال حسان: أنا أعرف الناس به، وهو خراش أو خداش أو رياش أوشيء آخر، فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما عرفته، فقال: إي والله هو من قريش أيضاً، قال: وما يدريك؟ قال: أما ترى احتواءه على الشين من كل جانب؟.
كان لأبو العتاهية ابن يسمّى عتاهية، وابن آخر اسمه عبد إلهي، يعني الله، وبنت اسمها بهاء الله، وكان له أختان: اسم إحداهما سر الله، والأخرى حسبها الله.

استعرض المعلّى بن أيوب الجند، فقال لواحد: مااسمك؟ قال: برادة، قال: ابن من؟ قال: بريد، قال: وممن أنت؟ قال: من البردان، قال: وأين منزلك؟ قال: في درب الثلج، فصاح المعلّى يا غلام دواج وبرجد، والله كُززنا.
وشبيه بهذه الحكاية قولهم: لقي المبرد برد الخيار في سوق الثلج، في كانون الثاني فسأله عن قولهم: ثلج صدره، أو ثلج.
لقي واحداً أعرابياً فقال له: ما اسمك؟ قال: قوّاد، قال: قبّح الله أباك، ضُيّقت عليه الأسامي حتى سماك قواداً؟ فقال: إن كان ضيّق الاسم فقد وسّع الكنية، قال: أبو من؟ قال: أبو الصحاري.
وسمّى رجل جاريته مائة ألف أو يزيدون.
وقف أعرابيّ على قوم فسألهم عن أسمائهم، فقال أحدهم: اسمي محرز، وقال آخر: اسمي وثيق، وقال آخر: منيع، وقال آخر: ثابت، وقال آخر: شديد، فقال الأعرابي: قبحكم الله! ما أظن الأقفال عُملت إلا من أسمائكم.
كنى بعضهم ابنه أبا عبد رب السموات السبع ورب العرش العظيم.
وُلد لبعضهم ابن، فقال: سمّوه عمر بن عبد العزيز؛ فإنه بلغني أنه كان رجلاً صالحاً.
قيل لرجل: أبو من؟ فقال: أبو عبد الملك الكريم الذي يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فقال: مرحباً بك يا نصف القرآن، ارتفع.
قال السفاح للسيد الحميري: أأنت السيد؟ قال: أنا ابن فلان وأمير المؤمنين السيد.
قال ابن أبي البغل لرجل: ولد لي مولود فما اسميه؟ فقال: لا تخرج من الإصطبل وسمّه ما شئت.
قال برصوما الزامر لأبيه: لم تجد اسماً تسميني أحسن من هذا؟ فقال: لو علمت أنك تجالس الخلفاء باسمك لسميتك يزيد من مزيد.
رفع رجل قصةً إلى محمد بن عبد الله وعليها حريث ابن الفراس فصيّره خريت في الفراش، ووقّع تحته بئس ما فعلت.
كان للفرزدق عدة بنين أسماؤهم لبطة وعبطة وسبطة.
وسمعت الصاحب رحمه الله يقول: كان علي بن عيسى يلّقب بسكتكت، وله أخ بكلملم، والآخر يلقب بعرمرم.
كتب رجل كتاب عناية لابن عبد الله العاقل، فعنون الكتاب لأبي الفياض بحر ابن الفرات فقال له: زن بي الزورق وإلا غرقت ولم أصل إليه.
كان أبو العاج على جوالي البصرة فأُتي برجل من أهل الذمة فقال: ما اسمك؟ فقال: بندار بن بندار، فقال اسم ثلاثة وجزية واحد؟ لا والله العظيم، وأخذ منه ثلاث جزيات.
قال أبو مسمع البصري: كنا نجالس أبا الهذيل في مجلسه، فجاءنا شاب له رواء ومنظر وسمت، فقعد فأجللناه لظاهره، فقال أبو الهذيل: ليس للعجم كتاب أجلّ من الكتاب المترجم بجاودان كرد، وقد استفتح مؤلّفه بثلاث كلمات وليس لهنّ نظير، منها أنه قال: من أخبرك أن عاقلاً لم يصبر على مضض المصيبة فلا تصدقه، ومن أخبرك أن عاقلاً أساء إلى من أحسن إليه فلا تصدقه.ومن أخبركأن حماة أحبت كنة فلا تصدقه فانبرى الغلام وجثا و قال: حدثني أبي عن جدي بثلاث هن أحسن منهن، فقال أبو الهذيل: مُنّ علينا بهنّ فقال: قال جدي - رحمة الله عليه - من أخبرك أن الجائع كالشبعان فلا تصدقه، ومن أخبرك أن النائم كاليقظان فلا تصدقه، ومن أخبرك أن الراضي كالغضبان فلا تصدقه. فقلنا له: أمن العرب أنت أم من العجم؟ قال: من بينهما، قلنا: فمن أي بلد أنت؟ قال: من دوين السماء وقويق الأرض فقال له الجاحظ: ما اسمك؟ قال: لجام، قال: فالكنية؟ قال: أبو السرج، فقال له: فمالك لا تنهق وأنت حمار؟ فقام مغضباً يجر إزاره وهو يقول: ليس الذنب لكم، إنما الذنب لي حين أجالس أمثالكم وأنتم لا تدرون ما طحاها.
قال الحسن بن شهويار: قالت وصيفتي لواحد: ما اسمك؟ قال: عبدان، قالت: ابن من؟ قال: عذار، قالت: فلذلك سمي أبوك عذار؟.
قال أبو بكر بن دريد: قلت لابن شاهين مابال الحسين بن فهم يشتمك؟ قال: ما أدري، غير أني سمعت أن أباه حدث عن أبيه قال: كان إذا ولد لأبي مولود فتح المصحف فقرأ أول الورقة فيسمى ذلك المولود به، رضي أم سخط، فولد له مولود ففتح المصحف فقرأ " فهم لا يعلمون " ففتح المصحف ثانياً فقرأ " فهم لا يبصرون " فسماه فهماً.
كان محمد بن المتنبية على واسط فتقدم إليه رجل مع خصمه فقال: ادع بيّنتك، فقال: تعال يا أبا الذئب، تعال يا أبا زعفران، تعال يا أبا الياسمين، تعال يا أبا الصلابة، فقال: انطلق، ما هؤلاء بشهود.

نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة على كلثوم فدعا غلامية يا يسار ويا سالم، فقال النبي عليه السلام لأبي بكر: " سلمت لنا الدار في يُسر " .
كان أبو ثور الفقيه يمشي في السوق فإذا براكب خلفه يقول: الطريق الطريق! فلم يتنبه له، فقال: يا ثور، الطريق! فرفع إليه رأسه وقال: ما أقرب ما وقعت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سمّوا أولادكم أسماء الأنبياء، وأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها الحارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة " .
وروي عن ريطة بنت مسلم عن أبيها قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حنيناً فقال: ما اسمك؟ قلت: غراب، قال: أنت مسلم، كأنه كره أن يكون اسمه غراباً.
كما قال لقوم - قالوا له: نحن بنو زينة - : " أنتم بنو رشدة " ، وكما قال لحزن جد سعيد بن المسيب: " أنت سهل " .
ذُكر أنه كان لمعاوية بنت اسمها أمة رب المشارق.
وسمّى رجل بأذربيجان ابنه: عبد من الأرض جميعاً قبضته، والسموات مطويات بيمينه.
كانت امرأة لها زوج يقال له: موسى، فكانت تسميه إذا خاطبته، فكره ذلك منها، فحلف بالطلاق إن سمّته باسمه، فكانت بعد ذلك تقول: أبو الصبيان، فلما كانت ذات ليلة صلّت صلاة الوتر، فقرأت " سبح اسم ربك الأعلى " فلما انتهت إلى آخر السورة خافت إن هي قالت " صحف إبراهيم وموسى " أن تطلق، فقالت: صحف إبراهيم وأبو الصبيان، الله أكبر.
ومثل ذلك أمر عليّة بنت المهدي فإنها كانت تشبّب في شعرها بخادم لها اسمه طلّ، فنهاها الرشيد عن ذلك وعن أن تسميه أو تذكره، فتسمّع يوماً عليها وهي تقرأ القرآن، فلما بلغت قوله تعالى: فإن لم يصبها وابل فطل " قالت: فإن لم يصبها وابل فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين.
خاصم إلى إياس بن معاوية رجل فادّعى دعوى قال: أحضرني شهوداً، فنادى الرجل شاهداً يا أبا الرازقي، فقال إياس: ادع غير هذا وقل لهذا ينصرف.
قال ابن المبارك: كان عندنا رجل يكنّى أبا خارجة، فقلت له: لم كنوك أبا خارجة؟ فقال: لأني ولدت يوم دخل سليمان بن عليّ البصرة.
دخل شيخ على هشام بن عبد الملك فقيل له: ما اسمك؟ فقال: أبو الحسن وإليها، فقيل له: أما يكفيك واحدة؟ فقال: إن ضاعت واحدة كانت الأخرى.
قيل وكان بحمص قاض كنيته أبو العمشليق.
قال رجل لابنه: يا بني، أتدري لم سميتك معروفا؟ قال: لا، قال: لئلا يُنسى اسمك.
؟

الباب العاشر
التعريضات
حُكي أن بشر بن مروان قال يوماً: من يدّلني على فرس جواد سابق؟ فقال عكرمة ابن ربعي: قد أصبته - أصلحك الله - عند حوشب بن يزيد، نجا عليه يوم الرّيّ.
يعرّض بانهزامه عن أبيه فذلك قول الشاعر:
نجّى حليلته وأسلم شيخه ... لما رأى وقع الأسنة حوشب
فضحك بشر، واضطغنها حوشب. فقال بشر بعد أيام من يعلم مكان بغلة قوية؟ فقال حوشب: بغلة واصل بن مساور: فإنه بلغني قوّته، يحمل واصلاً وعكرمة، وكان عكرمة يُتّهم بامرأة واصل.
اجتمع الشعراء بباب أمير من أمراء العراق، فمرّ رجل بباز، فقال رجل من بني تميم لآخر من بني نمير: هذا البازي! فقال النميري: إنه يصيد القطا. عرّض الأول بقول جرير:
أنا البازي المطلّ على نمير ... أُتيح من السماء لها انصبابا
وأراد الآخر قول الطرمّاح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... وإن سلكت طرق المكارم ضلّت
قال عبد الملك لثابت بن عبد الله بن الزبير: أبوك أعلم بك حيث كان يشتمك. فقال: يا أمير المؤمنين، أتدري لم كان يشتمني؟ قال: لا، قال: نهيته أن يقاتل بأهل مكة وأهل المدينة؛ فإن الله لا ينصره بهما قال: وكيف؟ قال: أما أهل مكة فأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخانوا، ثم جاءوا إلى المدينة فأخرجهم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيّرهم، يعرّض بالحكم بن أبي العاص.
وأما أهل المدينة فخذلوا عثمان حتى قُتل بينهم. فقال: عليك لعنة الله قد علمتُ ما تريد.
وقال له مرةً: ما ثابت من الأسماء، ليس باسم رجل ولا امرأة. قال: يا أمير المؤمنين، لا ذنب لي، لو كان اسمي إليّ ما سميت نفسي إلا زينباً. يعرّض بأنه كان يعشق زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وخطبها فقالت: لا أدع نفسي بأبي الذبان.

وقال عبد الملك لخالد بن يزيد - وقد ابيضّت عنفقته - : مالك كأنك عاض على صوفة؟ فقال خالد: إنهنّ يلثمنني لا يكرهن ذلك ولا يُعرضن عنّي. يعرض ببخر عبد الملك وشيب عارضه.
عرض معاوية أفراسه على عبد الرحمن بن الحكم، فقال له عبد الرحمن: هذا أجش، وهذا هزيم. يعرّض بمعاوية. فقال معاوية: لكنه لا يُشبّب بكنائنه. يعرض به، وذلك أنه كان يُشبّب بأم أبان بنت عثمان، وبقطيّة بنت بشر بن عامر بن مالك ملاعب الأسنة. وكانتا عند أخيه مروان. وأراد عبد الرحمن قول الشاعر:
ونجّى ابن هند سابح ذو علالة ... أجش هزيم والرماح دواني
دخل مطيع بن إياس على قوم، وعندهم قينة فقالوا: اسقوه - ولم يكن أكل - فاستحيا وشرب، فلما أوجعه النبيذ قال لها: تُغنين:
خليليّ داويتما ظاهراً ... فمن ذا يداوي جوى باطنا؟
فعلم أنه يُعرض بالجوع. فأطعموه.
نظر الفرزدق إلى ابن هبيرة وعليه ثياب تقعقع، فقال: تُسبح. أراد بذلك قول الشاعر:
إذ ألبست قيس ثياباً لزينة ... تُسبّج من لؤم الجلود ثيابها
لما عُزل إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة عن البصرة شيعوه فقالوا: عففت عن أموالنا وعن دمائنا. فقال: وعن أبنائكم. يُعرّض بيحيى بت أكثم في اللواط.
كان جعفر بن يحيى يكني الفضل بن الربيع أبا روح - وهي كنية الفرخ - وأهل المدينة يسمون اللقيط فرخا، وكان الربيع لقيطاً مجهول الأب، فختلفاً في نسبه، فكان جعفر يأكل مع الرشيد يوماً، فوُضعت بين أيديهم ثلاثة أفراخ، وقال الرشيد لجعفر يمازحه: قاسمني هذه نستوفي أكلها. قال: قسمة عدل او قسمة جور؟ فقال: قسمة عدل. فأخذ جعفر فرخين وترك فرخاً واحداً. فقال الرشيد: أهذا العدل؟ قال: نعم. معي فرخان، ومعك فرخان. قال: فأين الآخر؟ قال: هذا، وأومأ إلى الفضل، فتبسم الرشيد وقال: يا فضل، لو تمسكت بولائنا لسقط هذا عنك. ولم يفهم الفضل ما قالا.
قال بعضهم: حضرت عند بعض الكتّاب الأجلاّء، وقد ناظره رجل في شيء فغصّصه الحجة، فغاظه، فقال له: يا مأبون، فاعتمد الرجل بيديه على الأرض يقوم وأنشد:
كلانا يرى الجوزاء يا جًمل إن بدت ... ونجم الثريا والمزار بعيد
قال المأمون لقارئ: اقرأ، فقرأ: " فسوّلت له نفسه قتل اخيه فقتله " فأمر بحبسه.
قال الجاحظ: كان عندنا أناس من الأزد ومعهم ابن حزن، وابن حزن هذا عدوي، وكان يتعصب لأصحابه من بني تميم، وكانوا على النبيذ، فسقط ذباب في قدح بعضهم، فقال بعضهم: غط التميمي، ثم سقط آخر في قدح آخر، فقال: غطّ التميمي، فلما كان في الثالثة قال ابن حزن: غطّه فإن كان تميمياً رسب وإن كان أزدياً طفا. يُعرّض بأن أزد عُمان ملاحون.
نظر ابن الهفتي إلى دستيجة فيها من كل فاكهة أطيبها، ومن كل ريحان أحسنه فرمقها، ولحظها، وشره إليها، وكانت في منزل بخيل يعلم أنه يمنعه منها فقال للمغنى: بالله غنّني - تعريضاً بما رآه - .
أيا زينة الدنيا التي لا ينالها ... مُناي، ولا يدنو لقلبي صريمها
دخل رجل من محارب قيس على عبد الله بن يزيد الهلالي - وهو بأرمينية فقال له عبد الله: ماذا لقينا البارحة من شيوخ محارب؟ ما تركونا ننام - يعني الضفادع - فقال المحاربي: أصلحك الله، إنهم أضلوا برقعا لهم فكانوا في بغائه. أراد الأول قول الشاعر:
تكش بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبرى
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر
وأراد الآخر قول الشاعر:
لكل هلاليّ من اللؤم برقع ... ولابن يزيد برقع وجلال
قال أبو عبيدة: بينا أشراف الكوفة بالكناسة إذ أقبل أسماء بن خارجة الفزاري، فوقف، وأقبل ابن المكعبر فوقف متنحياً عنه، فأخذ أسماء خاتماً كان في يده، فصّه فيروزج فدفعه إلى غلام، وقال: اذهب إلى ذاك فادفعه إليه. يعني ابن المكعبر، فأخذ ابن المكعبر شسع نعله، فربطه في الخاتم وردّه. أراد الفزاري قول الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كل ضبيّ من اللؤم أزرق
وأراد الضبيّ قول الشاعر:
لا تأمننّ فزاريّاً خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار

قال رجل لآخر: مرحباً بأبي المنذر، فقال: ليست هذه كنيتي، فقال: نعم، ولكنها كنية مُسيلمة. يعرّض بأنه كذاب.
أسرت طيّء غلاماً من العرب، فقدم أبوه ليفديه فاشتطّوا عليه، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبل طيّء ما عندي غير ما بذلته، ثم انصرف وقال: لقد أعطيته كلاماً إن كان فيه خير فهمه. كأنه قال: الزم الفرقدين على جبل طيّء، ففهم الابن تعريضه، وطرد إبلاً لهم من ليلته ونجا.
قال عمر بن هبيرة الفزاري لأيوب بن ظبيان النميري، وهو يسايره: غضّ من بغلتك. فقال: إنها مكتّبة. أراد ابن هبيرة قول جرير:
فغض الطرف إنك ...
وأراد النميري قول ابن دارة:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ...
ومر الفرزدق بمضّرس وهو ينشد قوله:
تحمّل من وادي أشيقر حاضره ...
وقد اجتمع عليه الناس، فقال الفرزدق، يا أخا بني فقعس، متى عهدك بالقنان؟ قال: تركته تبيض فيه الحمّر أراد الفرزدق قول نهشل بن حرى:
ضمن القنان لفقعس سوآتها ... إن القنان لفقعس لمعمّر
وأراد مضرس قول أبي المهوّش الأسدي - يرد عليه - :
قد كنت أحسبكم أسود خفيّة ... فإذا لصاف تبيض فيه الحمّر
وإذا تسّرك من تميم خصلة ... فلما يسوؤك من تميم أكثر
مر أبو خليفة المحاربي على أبي عمرو العدوي - عديّ تيم الرباب - وعندهم بقرة قد ذُبحت، وكانت غثّةً، فقال أبو خليفة: يا أبا عمرو، ما ننفي عن دارنا جيفةً إلا صارت إليكم. فقال أبو عمرو: يا أبا خليفة، إنما هي سحابة تمر فتغسل ذلك كله.
أراد أبو خليفة قول الشاعر:
إذا ما نفينا جيفةً عن ديارنا ... رأيت عديّاً حول جيفتنا تسري
وأراد أبو عمرو قول الشاعر:
إذا كنت ندماني على الخمر فاسقني ... بماء سحاب لم يخضه محارب
عرض ابن هبيرة على ضبيّ كان يمازحه فصّ فيروزج. يعرّض بقول الشاعر:
ألا كل ضبيّ من اللؤم أزرق
دخل أبو الحسن بن طباطبا العلويّ على أحمد بن عثمان، قاضي أصبهان - وكان قد هجاه بأهاج كثيرة - فأراد أن ينتصف منه، فقال له: بلغني أنك تشعر وتُجيد. فقال: كذا يقول الناس. فقال تعريضاً بنسبه: أشعرت أن قريشاً لم تكن تجيد الشعر؟ قال رجل متّهم في النسب لآخر مثله: يا دعيّ، فأنشد تعريضاً به:
عبد شمس أبوك وهو أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد
قال بعضهم: اكتريت من جمّال فكان يحدو بنا في الطريق بقول الشاعر:
أبلج بين حاجبيه نوره ...
ولا يزيد عليه، فلما بلغنا المقصد قال:
إذا تغدّى رُفعت ستوره ...
فقلنا: هلاّ حدوت به مع البيت الأول؟ قال: خشية أن تحسبوا أني أعرّض بزادكم.
قيل لابن مجاهد: إن الصّولي قد صنّف كتاباً في القرآن سمّاه " الشامل " فقال هو جيد الدّست. يُعرّض بأنه شطرنجي، لا يحسن غيره.
خرج المأمون يوماً ومعه رقعة مكتوب فيها: يا موسى. فقال: هل تعرفون له معنىً؟ فقالوا: لا، فقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: يا أمير المؤمنين، هذا إنسان يُحدّر إنساناً، أما سمعت قوله تعالى: " قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " ؟ فقال المأمون: صدقت، هذه صرف جاريتي كتبت إلى أختها مُتيّم جارية عليّ بن هشام: أني عازم على قتله، فحذّرته.
قال رجل من بني هاشم لأبي العيناء: يا حلقي، فقال: مولى القوم منهم. يعرض بولائه فيهم.
كان هشام بن عمرو التغلبي على نصيبين، فخرج يشيّع أبا مسلم، فقال أبو مسلم: كيف يقول عمك مهلهل:
إني لأذكر ميتتي، ونجيبتي ... تحتي، فأدفعها تخبّ ذميلا
إني لأكره أن أعيش مظّلماً ... طول الحياة، وأن أعيش ذليلا
فقال هشام لكاتبه: اكتب إلى أمير المؤمنين، وعرّفه أن أبا مسلم قد خلع الطاعة.
قيل: دخل الحسن بن سهل إلى المأمون فحلف عليه أن يشرب عنده فأخذ القدح بيده، فقال له: بحقّي عليك إلاّ أمرت من شئت أن يغنّيك فأومأ الحسن إلى إبراهيم ابن المهدي. فقال له المأمون: غنّه يا إبراهيم، فاندفع وغنّى:
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل

فغضب المأمون، ووثب عن مجلسه، ودعا بإبراهيم فقال له: لا تدع كيدك وغلّك؟ أنفت من إيمائه إليك، فغنيته - معرّضاً بما يعرّض له من السواد - بشعر فيه ذكر الوسواس؟ والله لقد كنت أقدمت على قتلك حتى قال لي: إن قتلته فعلت ما فعله الناس قبلك، وإن عفوت عنه فعلت ما لم يفعله أحد قبلك فعفوت عنك لقوله، فلا تعد.
قالوا: ما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله وآلات لم ير مثلها، فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليهم، فأمر بدار ففرشت له، وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل - والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير - فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في معاتبته؟ قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له، وكان عبد الله يُضعّف، وكان تسوّر حائطاً إلى امرأة قبل ذلك، فأقبل على الحضين فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل. أسنّ عمّك عن تسوّر الحيطان، يعرض به، قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من ألا ترى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها؟ قال: أجل، ولا عيلان لو كان رآها سُمّي شبعان، ولم يُسمّ عيلان، قال له عبد الله: يا أبا ساسان: أتعرف الذي يقول:
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
قال: أعرفه، وأعرف الذي يقول:
وخيبة من يخيب على غنيّ ... وباهلة من يعصر والركاب
يريد يا خيبة من يخيب. قال: أفتعرف الذي يقول:
كنا فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال: نعم و أعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: أقرأ منه الأكثر الأطيب " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا " قال: فأغضبه، فقال والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حُملت عليه وهي حامل من غيره. قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، ثم قال على رسله: وما يكون؟ تلد غلاماً على فراشي فيقال: فلان ابن الحضين، كما يقال: عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله وقال: لا يُبعد الله غيرك.
بعث بشّامة بن الأعور العنبري إلى أهله بثلاثين شاةً ونحى صغير فيه سمن، فسرق الرسول شاةً واحدةً وأخذ من رأس النحي شيئاً من السمن. فقال لهم الرسول، ألكم إليه حاجة أخبره بها؟ قالت امرأته: أخبره، أن الشهر محاق، وأن جدينا الذي كان يطالعنا وجدناه مرثوما. فاسترجع منه الشاة والسمن.
مر ابن أبي علقمة بمجلس بني ناجية، فكبا حماره لوجهه، فضحكوا، فقال: ما يضحككم؟ رأى وجوه قريش فسجد. عرّض بنسبهم.
كان البراء بن قبيصة صاحب شراب، فدخل إلى الوليد بن عبد الملك وبوجهه أثر. فقال: ما هذا؟ قال: فرس لي أشقر ركبته فكبا بي. فقال: لو ركبت الأشهب لما كبا بك. يريد الماء.

الباب الحادي عشر
حكم ونوادر للهند
في كليلة ودمنة: قد قد تصل النضال إلى الأجواف، فتستخرج وتندمل جراحها، والقول إذا وصل إلى القلب لم يُستخرج.
قالوا: كان في سنّة الهند، إذا أُصيب أحدهم بمصيبة تعظم عليه، أن يلبسوا السلاح ويحتشدوا، ويبلغوا الطاقة في العدّة، ثم يصيروا إلى بابه، فيقولوا: بلغنا أنك سُلبت شيئاً بلغ منك، فاستعددنا وجئنا لنحارب من سلبك، ونرد عليك ما سُلبت. فيقول لهم: إنكم لا تقدرون على ذلك، والذي سلبنيه لا يُقاتل ولا يُغالب. فيقولون له: فإذا كان الأمر هكذا فلا تجزع على فائت لا حيلة في رده، ثم يتفرقون عنه.
في كتاب كليلة ودمنة: لا يطمع الملك الضعيف الوزير في ثبات ملكه.
وفيه: الدنيا كالماء المالح التي متى يزدده شاره شُرباً يزدد به ظمأً وعطشا.
الأدب يذهب عن العاقل السكرة ويزيد الأحمق سُكرا، كالنهار يزيد البصر بصراً ويزيد الخفاش سوء بصر.
صحبة الأخيار تُورث الخير، وصحبة الأشرار تُورث الشر، كالريح إذا مرّت على النتن حملت نتنا، وإذا مرت على الطيب حملت طيبا.
من نصح لمن لا شكر له، كان كمن ينثر بذره في السباخ، أو كمن أشار على معجب أو كمن سارّ الأصم.
لا يردّ يأس العدو القوي مثل التذلل والخضوع، كما أن الحشيش يسلم من الريح العاصفة بلينه لها وانئنائه معها.

ليس العدو بموثوق به، ولا مفتقر إليه، وإن أظهر جميلا؛ فإن الماء لو أطيل إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفاء النار إذا صبّ عليها.
تقول الهند: الشارب تعتريه أربع أحوال: تعتريه أولاً طاوسيّة، ثم قردية، ثم سبعية، ثم خنزيرية.
وفي بعض كتبهم: الكرام أصبر نفوسا، واللئام أصبر أبدانا.
قالوا: شرّ السلطان من خافه البريئ، وشر البلاد ما ليس له خصب ولا أمن، وشر الإخوان الخاذل، وشر المال ما لا ينفق منه.
وقالوا: من التمس الرخصة من الإخوان عند المشورة، ومن الأطباء عند المرض ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ الرأي، وازداد مرضاً، وحُمّل الوزر.
الحازم يحذر عدوّه على كل حال، يرهب المواثبة إن قرب والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولّى، والمكر إن رآه وحيدا، ويكره القتال ما وجد منه بُدّاً، لأن النفقة فيه من الأنفس، والنفقة في غيره من المال.
جانب الموتور وكن أحذر ما تكون منه، ألطف ما يكون بك، فإن السلامة بين الأعداء وحشة بعضهم من بعض، ومع الأُنس والثقة حضور آجالهم.
ثلاثة أشياء لا تُنال إلا بارتفاع همّة، وعظيم خطر: عمل السلطان، وتجارة البحر، ومناجزة العدو.
بعض المقاربة حزم، وكل المقاربة عجز، كالخشبة المنصوبة في الشمس، تُمال فيزيد ظلها، ويفرط في الإمالة فينقص الظل.
ليس من خلة يمدح بها الغني إلا والفقير يُذم بها، فإن كان شجاعاً قيل: أهوج، وإن كان وقوراً قيل: بليد، وإن كان لسناً قيل: مهذار، وإن كان زمّيتاً قيل: عيّ.
قالوا: لا ثناء مع كبر. وستة أشياء لا ثبات لها: ظل الغمام، وخلّة الأشرار، وعشق النساء، والمال الكثير، والسلطان الجائر، والثناء الكاذب.
قال أبو الأشعث: سألت بهلة الهندي، ما البلاغة فيكم؟ فأخرج إليّ صحيفةً كانت ترجمتها: " أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخيّر اللفظ، لا يكلم سيّد الأمة بكلام الرعية، ولا الملوك بكلام السوقة، وأن يكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة، ولا يدّقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقّح الألفاظ كل التنقيح، ولا يصفّيها كل التصفية، ولا يهذبها غاية التهذيب. ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيماً، أو فيلسوفاً عليماً، ومن قد تعوّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ.
قال بعض حكمائهم لابنه: يا بنيّ، عليك بالحكمة والأدب، فلان يذم الزمان فيك خير من أن يعاب بك.

الباب الثاني عشر
في الرؤيا والفأل والزجر والعيافة والأوهام
لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن حسن، عليهم السلام، على المنصور رأى المنصور فيما يراه النائم كأنه قد صارع محمداً، وأن محمداً صرعه، وقعد على صدره فهمّه ذلك، ونفى راحته. وجمع العاربين، فكلّ وقف. فسأل جد أبي العيناء، فقال: إنك تغلبه، وتظهر عليه، قال: وكيف؟ قال: لأنك كنت على الأرض، والأرض لك، وكان هو فوقك، والسماء له. فسرّي عنه.
اتفقت القافة من بني مُدلج أنهم لم يروا قدماً أشبه بالقدم التي في المقام من قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. روت الكافّة عن الكافة ذلك.
وروى المدائني عن أشياخه قالوا: بعث صاحب الروم إلى النبي عليه السلام، رسولاً، وقال له: انظر أين تراه، ومن إلى جنبه، وانظر ما بين كتفيه، حتى ترى الخامة أو الشامة. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، على نشز، واضعاً قدميه في الماء، عن يمينه عليّ عليه السلام، فلما رآه النبي عليه السلام، قال: تحوّل فانظر إلى ما أُمرت به، فنظر، ثم رجع إلى صاحبه فأخبره الخبر. فقال: ليعلونّ أمره، وليملكنّ ما تحت قدميّ. قال: تفاءل بالنشز العلوّ، وبالماء الحياة.
وأخبر عن أشياخه أن شيرويه بعث إلى النبي عليه السلام، مصوّراً وزاجراً، فأتياه، وصوّر المصوّر صورته، ولم يجد الزاجر شيئاً يزجر به فرجع، فلما دخلا على شيرويه أخذ الصورة فوضعها على وسادته، وقال للزاجر: ما زجرت، قال: لم أر هناك شيئاً أزجر عليه وقد زجرت ها هنا، والرجل قاهر، مظفّر، وذلك أنك أخذت صورته فوضعتها على وسادتك.

قيل: لما توارى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد الهجرة خرجت قريش بمعقل ابن أبي كرز الخزاعي، فوجدوا أثره، عليه السلام، فقال معقل: لم أر وجه محمد قط، ولكن إن شئتم ألحقت لكم هذا الأثر؟ قالوا: قل. قال: هو من الذي في مقام إبراهيم فبسط أبو سفيان بن حرب ثوبه عليه وقال: قد خرفت، وذهب عقلك.
قال: والقافة بنو كرز من خزاعة، وهم أفوف الناس.
قال: اختلف رجلان من القافة يوم الصدر في أثر بعير فيما بين مكة ومنى، فقال أحدهما: جمل، والآخر: ناقة. فاتّبعا الأثر، يبدو مرةً ويخفى أخرى، فلم يزالا كذلك حتى دخلا شعب بني عامر، فإذا بعير واقف، فاستدارا به، فقال أحدهما لصاحبه: أهوهو؟ قال: نعم. فنظر فإذا هو خنثى، وقد أصابا جميعاً.
روى المدائني: أن علياً، عليه السلام، بعث معقل بن قيس الرياحيّ من المدائن في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل، ويأتي نصيبين ورأس العين، حتى يأتي الرقّة فيقيم بها، فسار معقل حتى نزل الحديثة، فبينا معقل ذات يوم جالس إذ نظر إلى كبشين ينتطحان، حتى جاء رجلان، وأخذ كل واحد منهما كبشاً فذهب به. فقال شداد بن أبي ربيعة الخثعمي - وكان زاجراً - ينصرفون من وجهكم هذا، لا يغلبون ولا تغلبون. قالوا: وما علمك؟ قال: أو ما رأيت الكبشين انتطحا حتى حُجز بينهما، ليس لواحد على صاحبه فضل؟.
وأخبر، قال: خرج زاجر يزجر لغائب قد طالت غيبته، ومعه تلميذ له، فتلقاهما قوم يحملون جنازة، ويد الميّت على صدره، فقال الزاجر للتلميذ: مات الرجل، فقال: لا، ما مات، ألا ترى يد الميت على صدره يُخبر أنه هو الميت. والرجل حي؟ فرجعا، وقدم الغائب.
وأخبر عن ابن أبي ليلى: تمارت الجن، أهم أعيف أم بنو أسد؟ فأتوا بني أسد، فوجودوا الحيّ خلوفاً، فقالوا: ابعثوا معنا من يُخبرنا عن لقاح ذهبت لنا.
فقال النساء: ليس عندنا غير هذا الغلام، فإن وثقتم لنا أن تردّوه علينا بعثنا به معكم. ففعلوا. فلما خرجوا ورأى الغلام عُقاباً، فبكى. فقالوا: ما يبكيك؟ قال: رفعت جناحاً، وخفضت جناحا، وحلفت بالله صُراحا، ما أنتم بإنس ولا تطلبون لقاحاً، فردّوه.
قال: كان عامل بالسواد يكذّب زاجراً عندهم، وأراد امتحانه يوماً، فسأله عن غم له قد أُخرجت إلى ناحية، هل وصلت؟ فأخرج الزاجر غلامه؛ ليستمع ما يزجر به - وقد كان العامل أمر غلامه أن يكمن في ناحية، ويصيح صياح ابن آوى - فعاد غلام الزاجر فأخبره بما سمع، فقال للعامل: قُطع على الغنم، وسيقت، فضحك العامل، وقال ما أراها إلا وقد وصلت، وكان الصائح غلامي. قال: إن كان الصائح ابن آوى فقد ذهبت، وإن كان غلامك فقد قُتل راعيها قبل ذهابها. فبلغهم بعد ذلك قتل الراعي وذهاب الغنم.
ولما دعا ابن الزبير إلى نفسه قال عبد الله بن مطيع ليبايع، فقبض ابن الزبير يده، وقال لعبيد الله بن علي بن أبي طالب: قم فبايع. فقال عبيد الله: قم يا مصعب فبايع، فقام فبايع، فقال الناس: منع ابن مطيع أن يبايع، وبايع مصعباً، ليتعرفنّ في أمره صعوبة وشرا.
وهذا مثل ما قاله رجل من بني أسد، وقد نظر إلى طلحة بن عبيد الله يبايع أمير المؤمنين علياً، عليه السلام، وكان أول من بايع، فقال: يد شلاء، وبيعة لا تتم. وكانت يد طلحة أُصيبت يوم أُحد.
قال سلم بن قتيبة: إني لأعجب ممن يتطيّر. ذهبت لي ناقة فخرجت في طلبها، فأدركني هانئ بن عبيد يركض وهو يقول:
فلايق إن بعثت لها بُغاة ... وجدّك، ما البُغاة بواجدينا
ثم لحقني آخر، وهو يقول:
والشرّ يلقى مطالع الأكم ...
قال: ثم لقيني رجل قد ذهبت معالم وجهه بالنار، فقلت: هل أحسست من ناقة؟ ووصفتها له. فقال: هاهنا، وأشار بيده، وإذا أبيات، فأتيتهم فوجدتها عندهم.

قالوا: خرج رجل في حاجة له، ومعه سقاء من لبن فسار صدر يومه ثم عطش، فأناخ ليشرب. فإذا غراب ينعب، فأثار راحلته ثم سار، فلما أظهر أناخ ليشرب، فنعب الغراب، فأثار راحلته ثم سار، فلما عطش أنا خليشرب، فنعب الغراب وتمرّغ في التراب، فضرب الرجل السقاء بسيفه فإذا فيه أسود ضخم، فمضى، فإذا غراب واقع على سدرة، فصاح به، فوقع على سلمة، فصاح به، فوقع على صخرة، فانتهى إليها، فأثار كنزاً وذهب. فلما رجع إلى أبيه قال له: إيه، ما صنعت؟ قال: سرت صدر يومي، ثم أنخت لأشرب، فنعب الغراب. فقال أثره. قال: أثرته. ثم أنخت لأشرب، فنعب الغراب قال: أثره. قال أثرته. ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب وتمرّغ في التراب. قال: اضرب السقاء وإلا فلست بابني. قال: فعلت، فإذا أسود ضخم. قال: ثم مه؟ قال: ثم رأيت غراباً واقعاً على سدرة. قال: أطره وإلا فلست بابني. قال: أطرته، فوقع على سلمة. قال: أطره وإلا فلست بابني. قال: فعلت، فوقع على صخرة. قال: أحذني يا بني. قال: أفعل، وأحذاه.
قال بعضهم: كنا مع يزيد بن الوليد، وهو متبدّ قبل خلافته، فخرج يوماً لحاجة، ثم رجع متغيراً، فقال: إني سائلكم عن نفسي فاصدقوني. قلنا: ما كنا لنقول شيئاً تكرهه. فقال: أنشدكم الله إلا قلتم: هل تعلمون مني شؤماً؟ قلنا: معاذ الله، أنت أيمن الناس نقيبة. قال: فإن رجلاً لقيني فقال: يا ذا الخال، أترى هذا الخال الذي بوجهك؟ قلت: لا، وأنا والله أراه. قال: لو كنت تراه ما كان على وجه الأرض أشأم منك على أهل بيته، ومضى. قال المدائني: فكان كما قال. قُتل الوليد بن يزيد، ووقع بأسهم بينهم، وذهب مُلكهم.
وقيل: إن الخال إذا كان على الفم كان صاحبه مهبوطاً به أبدا، وإذا كان بين العينين لم يمت صاحبه حتى يجوز بإنسان يقتله، وإذا كان على الحاجب والأشفار لم يزل صاحبه ينظر في خير أبدا، وإن كان على الشفة كان صاحب شراب، وإن كان في الحلق كان معظّماً، وإن كان في العضد لم يزل ذا عضد من مال وقرابة قوية، وإذا كان في الظهر كان ذا ظهر من مال وولد، وإن كان في البطن كان مبطوناً ذا أولاد. وإذا كان على الكشح لم يزل بإزائه كاشح خبيث ينظر إليه، وإذا كان على ظهر الكف كان ممسكاً، وإن كان في بطنها كان متلافاً، وإن كان في الأرفاغ والمذاكير فهو كثير الجماع، وإن كان في الألية لم يزل مخمولاً، وإن كانت تحت القدم فكذلك.
وكان على لسان سلم بن قتيبة شامة سوداء، فكان الحسن يقول: ليلغنّ دما. قال المدائني: فكان من أمره بالبصرة ما كان مع سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب.
قال أبو عبيدة: استعمل عمر بن الخطاب حابس بن سعد الطائي على قضاء حمص، ودفع إليه عهده فأتاه من الغد فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت رؤيا، فأتيتك؛ لأقصّها عليك. قال: وما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر اقتتلا. قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر. قال: كنت مع الآية الممحوة اردد عليّ عهدي. فقتل بصفين مع معاوية.
كان سعيد بن المسيب يعبر الرؤيا، فرأى عبد الملك بن مروان كأنه قد بال في الكعبة أربع مرات - وكان سعيد يلعن عبد الملك وآل مروان: الظلم منهم - فدسّ إليه رجلاً، فقال له: قصّ عليّ الرؤيا، ولا تخبره أني أنا رأيتها. فلما قصّها عليه الرجل قال: لعل هذا اللعين، رأى هذه الرؤيا. إنه سُملّك لصلبه أربعة. فملك الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام.
أتى رجل عنبسة بن سعيد فقال له: إني رأيت الحجاج في النوم فقلت: ما صنعت وما صنع بك؟ فقال: ما أنت وذاك يا عاضّ أير أبيه؟ فقال: أشهد أنك رأيت أبا محمد حقا.
شخص أبو الشمقمق مع خالد بن يزيد بن مزيد، وقد تقلّد الموصل، فلما أراد الدخول إليها اندقّ لواؤه فثي أول درب منها، فتطيّر من ذلك وعظم عليه، فقال أبو الشمقمق:
ما كان مندق اللواء لريبة ... تُخشى، ولا أمر يكون مبدّلا
لكن هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقلّ الموصلا
فسرّي عن خالد، وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون، فزاده ولاية ديار ربيعة، وكتب إليه: هذا التضعيف لوصل متن رمحك. فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم.

جاء رجل فوقف بباب المهدي، وأعلم الربيع أنه قد رأى للمهدي رؤيا يريد أن يقصّها عليه مشافهةً، فاستأذن له، فدخل، وكان الرجل ذا رواء وهيئة فقال: إني رأيت كأن آتياً أتاني، فقال: أخبر أمير المؤمنين أنه يعيش ثمانين سنة والعلامة أنه يرى في منامه في هذه الليلة ثمانين فصّاً يواقيت قد وُهبت له. قال: تُمتحن هذه الليلة، فإن صدقت رؤياك أعطيناك، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك. لأن الرؤيا تصدق وتكذب. فقال الرجل: فما تقول لي عيالي وصبياني إذا علموا أني وصلت إلى الخليفة وبشّرته وخرجت هكذا. فيعجّل إليّ أمير المؤمنين شيئاً من صلته، وانا أحلف بالطلاق أني ما كذبت، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وأخذ منه كفيلاً ليحضر في غد، فلما كان تلك الليلة رأى المهدي في المنام ما قاله الرجل، وأصبح متعجباً، وحضر الرجل، فلما رآه قال: ما رأيت شيئاً. فقال الرجل: امرأته طالق إن لم تكن رأيت ذلك فقال: ويلك! أحلف لك بالطلاق قد والله رأيت ذلك. فقال: الله أكبر، يجب أن تفي بما وعدتني. فأمر له بثلاثة آلاف دينار، وأخذها وانصرف. فقيل للرجل بعد ذلك: هل صدقت؟ قال: لا، ولكني لما ألقيت إليه ذلك أخطره بباله، وحدّث به نفسه، وشغل به فكره، فرآه في المنام، فحلفت بالطلاق، وطلّقتُها واحدةً، وزدت في مهرها عشرة دراهم، وأخذت خمسين ألف درهم.
لما انصرف أبو مسلم من حرب عبد الله بن عليّ رأى كأنه على فيل والشمس والقمر في حجره، فأرسل إلى عابر كان يألفه، وقصّ عليه - فقال: الرسم، فقبض عشرة آلاف درهم، وقال: قل، فقال: اعهد عهدك فإنك هالك قال الله: " ألم تر كبف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل " ؟ وقال: " وجُمع الشمس والقمر. يقول الإنسان يومئذ أين المفر " .
اضطر الناس في قديم الدهر إلى ملك، فجاءوا بواحد، ووضعوا التاج على رأسه. فقال: هذا ضيق، فتطيروا من ذلك، وجاءوا بتاج واسع وطمعوا أن يقول: هذا واسع فيكون ضد قوله الأول، فقال: أريد أضيق من هذا، فنفوه.
جاء رجل إلى عابر فقال: رأيت في النوم كأني راكب دابةً أشهب له ذنب أخضر قال: إن صدقت رؤياك استدلجت فُجلةً.
قال أبو عمرو بن العلاء: خرجنا حُجاجا، واكترينا من رجل فجعل في طريقه يرتجز إذا حدا بنا ولا يزيد على قوله:
يا ليت شعري، هل بغت عُليّه؟ ...
فلما انصرفنا من مكة قالها في بعض الطريق، فأجابه صوت في ظُلمة:
نعم نعم، وناكها حُجّييه ...
أحمر، ضخم في قفاه كيّه ...
فأسكت الرجل، فلما صرنا إلى البصرة أخبرنا، قال: دخل عليّ جيراني يًسلّمون، فإذا فيهم رجل ضخم أحمر، قلت لأهلي: من هذا؟ قالوا: هذا رجل كان ألطف جيراننا بنا، وأحسنهم تعهداّ لنا، فجزاه الله خيرا، فلما ولّى إذا أثر كيّ في قفاه، قلت للمرأة: ما اسمه؛ قالت: حُجيّة. قلت: الحقي بأهلك فقد أتانا خبر حُجية.
بينما كان أبو الحسن بن الفرات في أيامه الأولى يشرب في يوم ثلاثاء - وهو اليوم الذي قُيض عليه في غده - ويعمل في خلال شربه، إذ مرّت به رقعة فيها:
إن كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائماً أبدا
لكن سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجدّ خلاف الحالتين غدا
فكأنه اغتم بذلك، ثم أخذ في شأنه، وقال لجارية كانت في المجلس كان يألف غناءها، ويتفاءل بما لا تزال تغنيه: غنّي، فابتدأت وغنت:
أمنعيّة بالبين ليلى ولم تمت ... كأنك عمّا قد أظلّك غافل
ستعلم إن جدّت بكم غُربة النوى ... ونادوا بليلى أن صبرك زائل
فكأنه تنغّص والتاث، ووافته بدعة الصغيرة، فقام إلى دار له جديدة، ودعا بالشراب، وتناول قدحاً، والتمس من بدعة صوتاً فتطلّبت له صوتاً تتفاءل به بسبب الدار الجديدة فغنت:
أمرت لي منزلاً لأسكنه ... فصرت عنه المعبّد القاسي
ولم تحفظ البيت الثاني، فلما كان من غد حدثت عليه الحادثة.

قال إبراهيم بن المهدي: لما حصر طاهر الأمين في المدينة كنت معه، فدعاني ليلةً، فقال: ما ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر، وضوءه في الماء؟ فقلت: إنه لحسن، فاشرب، فشرب رطلاً، وسقاني مثله، وابتدأت فغنيت بما يشتهيه عليّ. فقال: هل لك فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أستغني عن ذلك. فدعا بجارية متقدمة يقال لها: ضعف فتطيرت من اسمها: فلما جاءت قال: غنّي، فغنت:
كليب لعمري كان أكثر ناصراًوأيسر ذنباً منك، ضُرّج بالدم
فاشتد ذلك عليه، وعليّ أني لم أره. فقال لها: غنيني غير هذا، فغنت:
أبكي فراقهم عيني وأرّقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا، وريب الدهر عدّاء
فقال: لعنك الله، أما تعرفين من الغناء غير هذا؟ فقالت: ما تغنّيت إلا بما كنت تُحبّه، ثم غنّت:
أما وربّ السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء والفلك
إلا لنقل السلطان من ملك ... عان بحب الدنيا إلى ملك
فقال لها غضبة الله عليك، قومي، فقامت. وكان له قدح بلّور حسن يحيّه، فعثرت به فكسرته، فقال لي، أما ترى؟ أظن أمري قد قرب فقلت: بل يطيل الله بقاءك، ويكبت عدوّك. فسمعنا قائلاً يقول: " ٌُضي الأمر الذي فيه تستفيان " .
فقال أما سمعت يا إبراهيم؟ قلت: ما سمعت شيئاً، وكنت قد سمعت. وكان ذلك آخر عهدي به.
دخل رجلان على عائشة، فقالا: إن أبا هريرة يُحدّث أن النبي، عليه السلام، قال: " إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة " . فطارت شفقاً. فقالت: كذب. والذي أنزل القرآن على أبي القاسم، عليه السلام، إنما قال: " كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار " ثم قرأت: " ما أصتب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " .
جاء رجل إلى مُعبّر، فقال: رأيت في المنام كأني - هوذا - أقلى بعر الجمل على مقلاة. قال المُعبّر: هات قطعةً حتى أًعبّرها لك. قال: لو كانت معي قطعة كنت اشتريت باذنجان وأقليه ولا أقلى البعر.
قال بعضهم: كنت في بعض الأوقات مُصاعداً من البصرة إلى بغداد، فلما بلغت البطائح رأيت ضريراً يريد أن يصاعد، فسألته عن حاله ومعاشه، فقال: أنا أًعبّر الرؤيا. فقلت له: ويحك! فلم اخترت بغداد مع كثرة المعبّرين بها على هذا المكان الذي ليس فيه ينازعك في صناعتك؟ فقال: هؤلاء النبط بنو البظر لا يدعهم البقّ أن يناموا، وإذا لم يناموا كيف يرون الرؤيا؟ فضحكت منه.
قال بعضهم: رأيت في المنام الحجاج بن يوسف، كأني قلت له: ما فعل ربك بك؟ فقال: قتلني بكل رجل قتلته قتلةً، ثم رأيته بعد ذلك بمدة في النوم، وكأني أقول له: ما فعل بك ربك؟ فقال: أليس قد قلت مرةً يا ابن الفاعله؟ جاء رجل إلى سعيد بن المسيّب، فقال: رأيت كأن حديّاً: جاءت فوقفت على شرفة من شرفات المسجد. فقال: إن صدقت رؤياك تزوّج الحجاج في أهل هذا البيت. فتزوج الحجاج أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر.
قال بعض بني أسد: لا يخطئ الرجل عن أبيه خصلةً من ثلاث: رأسه أو صوته أو مشيه.
قال بعضهم: رأيت بعض المُجّان المتنادرين بعد موته، في النوم، فقلت له: يا فلان، ما فعل بك ربك؟ فقال: يا أحمق، تُرى صاهرني؟ فعل بي ما يفعله بكل أحد.
يروى أن رجلاً قال: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب فصاح به صائح يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين، فقال رجل من خلفي: دعاه باسم ميت، مات، والله، أمير المؤمنين، فالتفت فإذا رجل من لهب، ولهب من بني نصر من الأزد. فلما وقفنا لرمي الجمار، إذا حصاة قد صكّت صلعة عمر، فقال قائل: أُشعر، والله، أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف أبداً. فالتفت فإذا ذلك اللّهبي بعينه، فقتل عمر قبل الحول.

وزعم أبو عبيدة أن فاطمة بنت خرشب الأنمارية أُريت في المنام قائلاً يقول: أعشرة هدرة أحب إليك، أم ثلاثة كعشرة؟ فلم تقل شيئاً، فعاد لها في الليلة الثانية، فلم تقل شيئاً، ثم قصّت ذلك على زوجها زياد بن عبد الله بن ناشب العبسي، فقال: إن عاد الليلة فقولي: ثلاثة كعشرة، فولدتهم كلهم غايةً: ولدت ربيع الحُفّاظ، وعُمارة الوهّاب، وأنس الفوارس، فهي إحدى المنجبات من العرب.
يروى عن حسان المعروف بالنبطي قال: رأيت الحجاج فيما يرى النائم، فقلت: أصلح الله الأمير! ما فعل بك ربك؟ قال: أتشتمني؟ قال: يا نبطيّ، أهذا عليك! قال: فقصصت هذه الرؤيا على ابن سيرين، فقال: لقد رأيت الحجاج بالصحة.
رأى الحجاج في منامه أن عينيه قُلعتا، فطلق الهند - ين: هند - بنت المهلب، وهند بنت أسماء بن خارجة، فلم يلبث أن جاءه نعيّ أخيه من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد فقال: هذا - والله - تأويل رؤياي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت كأني في دار عقبة بن رافع، فأُتيت برطب ابن طاب، فأوّلت أن العاقبة - قال: أو الرفعة - لنا، في الدنيا والآخرة، وأن ديننا قد طاب " .
قال سعيد بن المسيّب: إني رأيت موسى النبي، عليه السلام، يمشي على البحر حتى صعد إلى قصر، ثم أخذ برجلي شيطان فألقاه في البحر، وإني لا أعلم نبياً هلك على رجله من الجبابرة ما هلك على رجل موسى، عليه السلام، وأظن هذا قد هلك، يعني عبد الملك. قال: فأتى نعيه بعد أربع.
ورأى ابن سيرين في منامه كأن الجوزاء تقدمت الثريا، فجعل يُوصي، وقال: يموت الحسن، وأموت بعده، وهو أشرف مني، فمات الحسن، ومات محمد بعده بمائة يوم.
قيل للصادق، عليه السلام: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن كلباً أبقع يلُغ في دمه، فكان شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين، عليه السلام، ذلك الكلب، وكان أبرص، فكان تأويل الرؤيا بعد ستين سنةً.
روى مصعب قال: قال لي رجل: شردت لنا إبل، فأتيت حلبسا الأسدي، فسألته عنها، فقال لبنيّة له: خُطي له، فخطّت ونظرت، ثم تقبّضت وقامت، ونظر إليها حلبس فضحك وقال: أتدري لم قامت؟ قلت: لا. قال: رأت أنك تتزوجها، وتجد إبلك، فاستحيت فقامت. قال: فخرجت، فأصبت إبلي، ثم تزوجتها بعد.
وروى المدائني عن شريح بن الأقعس العنبري قال: عزبت لي إبل، فأتيت رجلاً من بني أسد، فقلت: انظر. قال: فخطّط خطوطاً، فقال: تُصيب إبلك بكُناسة الكوفة. قلت: بيّن. قال: وتذهب عينك. قلت: زدني. قال: وتُزوج امرأة أشرف منك، قال: فخرجت وما شيء أبغض إليّ من أن أُصيب إبلي؛ ليكذب فيما قال. قال: فأتيت الكُناسة فأصبت إبلي، وخرجت مع ابن الأشعث فذهبت عيني. وحججت مع ابنة قيس بن الحسحاس العنبريّ فقالت لي مولاة لها في الطريق: هل لك أن تزوّج؟ قلت: وددت، قالت: فاخطبها إذا قدمت. ففعلت، فأبوا ذلك، فلم أزل حتى زوّجونيها.
قال سلم بن قتيبة: لقيني إياس بن معاوية، وأنا لا أعرفه ولا يعرفني، فقال: أنت ابن قتيبة؟ قلت: نعم، قال: عرفتك بشبه عمك عمرو بن مسلم. قلت: وأين أنا من عمّي؟ وعمّي ضخم أمعر، وأنا آدم نحيف الجسم. فقال: ليس القياس على هذا.
خرج عمرو بن عبيد الله بن معمر، ومعه مالك بن خداش الخزاعي، غازيين، فمرّا بامرأة، وعليها جماعة، وهي تخط لهم، فنظر إليها مالك. فضحك منها هزؤاً. فقالت أيها الضاحك، أما والله لا تخرج من سجستان حتى تموت، ويتزوّج هذا الرجل امرأتك، وأشارت إلى عمر. فمات سجستان، فتزوّج عمر امرأته. وهي رملة بنت عبد الله الخزاعي.
ولّى المنصور الحسن بن زيد المدينة، ثم غضب عليه فعزله، وبيعت أمواله فاشترى رجل من أهل الربذة أمةً له، فقالت: إن ابن زيد قد وقع بي فحملت. فكفّ عنها، فوضعت غلاماً، فخرج به إلى ولد الحسن، فخرجواجميعاً به. فأتوا والي مكة، فبعث إلى شيخ من القافة، فقالوا له: إن هذا الغلام له نسب يلحقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ينفيه منه. قال: فخرج الشيخ يتخطّى الناس ويقوف، فأخذ بيد الغلام وقال: هذا عمه، فصيح به فتركه، ثم أتى آخر فقال: عمّه، فصيح به فتركه، حتى عدّد ولد الحسن غير أبيه، وكان متكئاً فرفع رأسه، فقال الشيخ: الله أكبر، هذا أبو الغلام. فألحق به.

جاء رجل إلى معبّر، فقال: رأيت في المنام كأن على حر امرأتي كلبين يتهارشان. فقال: تأويله أنها طلبت دبقاً تنتفه به فلم تجده، فجزّته بمقراض. فكان الأمر كما قال.
جاء رجل إلى ابن سترين فقال: إني رأيت في منامي كأني أشد الزقاق شداً شديداً - وكان مع الرجل جراب - فقال له ابن سيرين: أنت رأيت هذا؟ قال: نعم. فقال لمن حوله: ينبغي أن يكون هذا الرجل يخنق الصبيان، وينبغي أن يكون في جرابه آلة الخنق. فوثبوا إلى الجراب، فوجدوا فيه أوتاراً وحلقاً، فسلموه إلى السلطان.
رأى عبد الله بن الزبير أنه صارع عبد الملك بن مروان، فصرعه عبد الله وغرز فيه أربعة أوتاد في يديه ورجليه، فأرسل فسأل سعيد بن المسيب. فقال: إن صدقت رؤياه غلبه عبد الملك، وخرج من صلبه أربعة كلهم يكون خليفةً.
روي عن محمد بن عمار بن ياسر قال: والله إني لبسوق من أسواق المدينة، بعدما ذهب نصف الليل، إذ سمعت صائحاً يقول:
رب خير ومير، ودينار كحافر عير ...
قال: فصاح به صائح آخر فقال: ويلك! ضلّك ضلّك. فقال:
بشرقيّ غربيّ بيت أم عمير ...
قال: فأتيت بيت أم عمير، فجلست عند جدار خرب، فوجدت عنده ديناراً مثل القرص، فبعته بتسعين درهماً، وغُبنت فيه.
خرج هشام بن عبد الملك يوماً، فلقي أعور، فتشاءم به، وأمر بضربه. فقال الأعور: إن الأعور شؤمه على نفسه، والأحوال شؤمه على الناس. وكان هشام أحول، فاستحيا وخلاّه.
وكان عمرو بن الليث أعور، وكان يتطيّر، فخرج يوماً مبكراً للصيد، فلقي رجلاً أعور، فتطيّر منه، وأمر بضربه، فقال الرجل: لم تضربني؟ فقال: لأنك أعور، وقد تشاءمت بك، وأنا خارج إلى الصيد. فقال الأعور: انظر الآن أي الأعورين أشأم على صاحبه؟ فضحك وخلاّه.
؟

الباب الثالث عشر
من قال شعراً فانتُصف منه بنثر
هجا الأخطل سويد بن منجوف، فقال:
وما جذع سوء خرّق السوس جوفه ... لما حمّلته وائل بمطيق
فقال له سويد: والله يا أبا مالك، ما تحسن تهجو ولا تمدح، أردت هجائي فمدحتني، جعلت وائلاً تحمّلني امورها، وما طمعت في بني تغلب، فضلاً عن بكر.
طعن عامر بن الطفيل ضُبيعة بن الحارث. فقال ضُبيعة:
لولا اعتراض في الأغرّ وجرأة ... لفعلت فاقرةً بجيش سعيد
فقال عامر: يعجز عن فرسه ويتوعدني!! أنشد بعضهم:
يا مسمع ابن مالك يا مسمع ...
اصنع كما كان أبوك يصنع ...
فقال قائل: إذا ينيك أمّه.
أنشد الأحوص جريراً:
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها ... وأفضل شيء ما به العين قرت
فقال جرير: يقر بعينها أن يولج فيها مثل ذراع البكر، أفيقر ذلك بعينك؟.
لما قال مسكين الدرامي:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تُنزل القدر
قالت امرأته: صدق، لأنها ناره وقدره.
دخل عبد الله بن الحويرث على بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان، فأنشده:
إني رحلت إلى بشر لأعرفه ... إذ قيل بشر ولم أعدل به أحدا
فقال: لو قلت: ليعرفني، لأعطيتك ما سألت، ليس المدح كما قلت.
أنشد جرير قول الأخطل:
وإني لقوّام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها
فقال: صدق، أنا لا أقوم بين يدي قسّ لأخد القربان، ولا بين يدي سلطان لأداء الجزية.
سمع أبو الهذيل رجلاً ينشد:
يُغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
فقال: يوشك أن تكون هذه دار قوّاد أو خمّار.
سأل جعفر بت سليمان نُدماءه عن قول جرير:
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
فقال أعرابي من أخر المجلس: أنا أعلم ما كان يفعل: كان ينيكها. فضحكوا، وقالوا: أصبت.
أنشد رجل يحي بن خالد:
إني امرؤ في أعالي بيت مكرمة ... إذا تمزّق ثوبي أرتدي حسبي
فقال يحيى: ما أقلّ غناء هذا الرداء في كانونين.
وقف أعرابي من بني فقعس على جماعة يسألهم، وهو عريان، فأنشد:
كساني فقعس وكسا بنيه ... عطاف المجد إن له عطافا
فقال بعضهم: لو كساك خرقة تواريك كانت أصلح لك من هذا العطاف.

قصد بعض الشعراء أبا دلف، فقال له: ممن أنت؟ فقالك من بني تميم. فقال أبو دلف: من الذين يقول فيهم الشاعر:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا؟ ...
فقال: نعم، بتلك الهداية جئتك. فخجل أبو دلف، واستكتمة، وأحسن جائزته.
قال بعضهم في الصاحب رحمه الله:
وردنا لنشكر كافي الكفاة ... ونسأله الكفّ عن برّنا
فقال له بعضهم: قد كُفيت، فليس يُعطى أحداً شيئا.
ولما قال إبراهيم بن هُرمة:
لا أُمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
قال مزبّد: صدق ابن الخبيثة؛ فإنه لا يشتري إلا شاة الأضحى التي يذبحها من ساعته.
سمع بعضهم منشداً ينشد:
وما طبخوها غير أن غلامهم ... سعى في نواحي كرمهم بشهاب
فقال: أحرقوها أحرقهم الله.
أُنشد المأمون قول العباس بن الأحنف:
هم كتموني سيرهم ثم أزمعوا ... وقالوا: اتّعدنا للرواح وبكّروا
فقال: سخروا بأبي الفضل أعزه الله.
لما قال أرطاة بن سُهيّة للربيع بن قعنب:
لقد رأيتك عرياناً ومؤتزراً ... فما علمت أأنثى أنت أم ذكر؟
قال له: لكن سهيّة قد علمت، وسهيّة أمه، فغلبه.
حضر أعرابي حلقة يونس، فأنشد قول جرير:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
فقال: ما أراد - والله - إلا البراغيث.
عمّى أبو الحسين الصوفي على الأستاذ أبي الفضل ابن العميد بيتاً على طريق الترجمة، وهو:
أنا إن لم أك أهوا ... ك فرأسي في حرمّي
فأخرجه، ووقّع تحته: وإن هويت؟ قال إسحاق بن إبراهيم: أنشدني ابن الأعرابي يوماً:
وأصبح من حيث التقينا عشيةً ... سوار، وخلخال ورد، ومطرف
ومنقطعات من عقود تركنها ... كجمر الغضا في بعض ما تتخطرف
قال: فقلت له: يا أبا عبد الله، لا والله، ولا في معترك الرشيد وأم جعفر يكون هذا.
قال أبو العباس: أنشدت أبا الهذيل:
وإذا توّهم أن يراها ناظر ... ترك التوّهم وجهها مكلوما
فقال ينبغي أن تناك هذه بأير من خاطر.
وأنشدت النظام:
غذا همّ النديم له بلحظ ... تمشّت في مفاصله الكلوم
فقال: ما ينبغي أن ينادم هذا إلا الأعمى.
لما قتل مسلمة بن عبد الملك يزيد بن المهلب قال ثابت قطنة يرثيه:
يا ليت أسرتك الذين تغيّبوا ... كانوا ليومك بالعراق شهودا
فقال مسلمة: وأنا - والله - وددت حتى أسقيهم بكأسه.
أنشد عبد الملك قول بعض الخوارج:
ومنا سنان الموت وابن عويمر ... ومرّة فانظر أي ذاك تعيب؟
فقال عبد الملك: كل ذاك أعيب.
لما أسلمت رملة ابنة شيبة بن ربيعة قالت هند بنت عتبة فيها:
تدين لمعشر قتلوا أباها ... أقتل أبيك جاءك باليقين؟
فقالت: نعم، قتله جاءني باليقين.
وقف أعرابي من بني فقعس على جماعة يسألهم - وعلى عنقه جراب - وعليه خرقة لا تواري عورته، وأنشد:
كساني فقعس وكسا بنيه ... عطاف المجد إن له عطافا
فقال له ابن أبي حصين: أفلا كساك خرقة تُواري بها عورتك؟ لما قال جرير:
صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
قيل لرجل من بني حنيفة: من أي الأثلاث أنت؟ قال: من الثلث الملغيّ.
أنشد ابن أبي عتيق قول عمر بن أبي ربيعة:
حبذا أنت يا بغوم وأسما ... ء وليل بضمّنا وخلاء
فقال: وقمقم يسخّن فيه الماء.
أنشد عبد الملك قول بعض الخوارج:
فمنّا يزيد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
ومنا سنان الموت وابن عويمر ... ومرّة فانظر أي ذاك تعيب
فقال عبد الملك: كل ذاك أعيب.
عُرض على بلال بن أبي بردة الجند، فمر به رجل من بني نمير معه رمح قصير، فقال له بلال: يا أخا بني نمير، ما أنت كما قال الشاعر:
لعمرك ما رماح بني نمير ... بطائشة الصدور ولا قصار
فقال أصلح الله الأمير، ماهو لي، إنما استعرته من رجل من الأشعريين.
ولما قال إسماعيل بن يسار في قصيدته التي يفتخر فيها بالفرس على العرب:
إذ نربي بناتنا وتدسّو ... ن سفاهاً بناتكم في التراب

قال له العربيّ: لأن حاجتنا للبنات غير حاجتكم. يعني أن الفرس تنكح بناتهم.
كتب علي بن الجهم إلى جارية كان يهواها:
خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده ... وتيمته حتى كأن به سحرا
دعي البخل لا أسمع به منك إنما ... سألتك شيئاً ليس يُعري لكم ظهرا
فكتبت إليه على ظهر الرقعة: إن لم يعر لنا ظهراً فإنه يملأ لنا بطنا.
قال محمد بن الحارث: كان علوّية بعيد الخجل، صفيق الوجه، لا يكاد يخجله شيء، فاجتمعنا يوماً عند المعتصم ومعنا إبراهيم بن المهدي، فلما خرجنا قال إبراهي لعلوية: هل أحدثت شيئاً من الغناء؟ قال: صنعت:
إذا كان لي شيئان يا أم مالك ... فإن لجاري منهما ما تخيّرا
وفي واحد إن لم يكن غير واحد أراه له أهلاً وإن كنت معسرا
فقال إبراهيم: وإن كان امرأتك كانت؟ فانقطع علوية انقطاعاً قبيحاً، وخجل حتى لم ينفع نفسه ذلك اليوم.
أنشد الرشيد قول ابن عيينة:
لقد قُنّعت قحطان خزياً بخالدفهل لك فيه يخزك الله يا مضر؟
فقال: لا، بل تؤثرون به وتكرمون.
سمع محمد بن موسى المنجم قول عديّ بن الرقاع:
وعلمت حتى لست أسأل واحداً ... عن علم واحدة لكي أزدادها
فقال محمد: أني رأيته فاعرض عليه أصناف العلوم، فكلما مر به ما لا يُحسنه صفعته.
سمعت سكينة بنت الحسين - عليه السلام - قول العرجي:
يقعدن في التطواف آونةً ... ويطفت أحياناً على فتر
فنزعن عن سبع وقد جثهدت ... أحشاؤهنّ: موائل الخمر
فقالت للجارية: قولي له: ويحك! لو طاف الفيل بهذا البيت لجهدت أحشاؤه.
بصر الفرزدق بجرير محرماً فقال: والله لأفدنّ على ابن المراغة حجّه، ثم جاء مستقبلاً له فجهره بمشقص كان معه، ثم قال:
إنك لاق بالمشاعر من منىً ... فخاراً فخبّرني بمن أنت فاخر؟
فقال جرير: لبيك اللهم لبيك. ولم يجبه.
ولما قال جرير:
أعياش قد ذاق القيون مواسمي ... وأرقدت ناري فادن دونك فاصطل
قال عياش: إني إذاً لمقرور، فغلب عليه.
وقام عبد الله بن الحجاج الثعلبي إلى عبد الملك، فقال:
أدنو لترحمني، وتجبر خلّتي ... وأراك تدفعني، فأين المدفع؟
فقال عبد الملك: إلى النار.
قال إسحاق الموصلي: أنشدني ابن كُناسة لنفسه:
لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللكف مرتاد، وللعين منظر
فقلت: ما بقي شيء. قال: فأين الموافقة؟.
قال صالح بن حسان للهيثم بن عدي: أعلمت أن النابغة كان مخنثاً؟ فقال: كيف ذاك؟ قال: لقوله:
سقط النصيف ولم تُرد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
والله ما يحسن هذه الإشارة إلا مخنث. فسمع ذلك رجل من قيس، فقال: بل صاحبك الأعشى هو المخنث حيث يقول:
قالت هريرة لما جئت زائرها :ويلي عليك، وويلي منك يا رجل
قال يزداد بن المتطبب: أبو العتاهية أشعر الناس في قوله:
فتنقّست ثم قلت: نعم، حُب ... باً جرى في العروق عرقاً فعرقا
فقال له بعض الظرفاء: صار عندك أشعر الناس من طريق المحبة والعروق.

الباب الرابع عشر
أمثال ونوادر على لسان البهائم
قالوا: عيّر ثعلب لبؤةً بأنها إنما تلد في عمرها جرواً واحداً. فقالت: نعم، إلا أنه أسد.
قالوا: يقول الأرنب: أنا أسرع عدواً من كل كلب، ولولا أني ألتفت - فأرى اللحي التي تركض أصحابها خلفي، وأسمع صياحهم، وأرى اجتهادهم، فيقع عليّ الضحك تعجباً من عقولهم، فأسترخي - لما لحقني قط كلب.
قالوا: صحب ذئب وثعلب أسداً، فاصطادوا عيراً وظبياً وأرنبا، فقال الأسد للذئب: اقسم هذا بيننا. فقال: العير لك، والظبي لي، والأرنب للثعلب. فغضب الأسد، وأخذ الذئب حتى قطع رأسه، وقال للثعلب: اقسمه أنت. فقال: العير لغدائك، والظبي لعشائك، والأرنب تتفكّه به في الليل. فقال: من علّمك هذه القسمة العادلة؟ فقال: رأس الذئب الذي بين يديك.
قالوا: وجد بعير وأرنب وثعلب جبنة، فاصطلحوا على أن تكون لأكبرهم سنّاً، فقال الأرنب: أنا ولدت قبل أن خلق الله السماوات والأرض. فقال الثعلب: صدق فإن حضرت وقت ولادته، فأخذ البعير الجبنة بفيه، ورفع رأسه وقال: من رآني يعلم أني لم أولد البارحة.

قيل للثعلب: تحمل كتاباً إلى الكلب وتأخذ مائة دينار؟ فقال: أما الكراء فوافر، ولكن الطريق مخوف.
وقع في شرك صياد ثعلبان، فقال أحدهما لصاحبه: يا أخي، أين نلتقي؟ قال: في الفرّائين بعد ثلاثة أيام.
دخل كلب مسجداً خرابا، فبال على المحراب، وفي المسجد قرد نائم، فقال للكلب: أما تخاف الله؟ تبول في المحراب! قال الكلب: ما أحسن ما صورك حتى تتعصب له!.
قالوا: إن جدياً وقف على سطح يشتم ذئباً في الأرض. فقال له الذئب: لست الذي يشتمني، ولكن مكانك يفعل ذلك.
وقالوا: إن ثعلباً تعلّق بعوسجة ليصعد حائطاً، فعقرته، فأقبل يلومها. فقالت: يا هذا، لم تفسك في التعلق بما يتعلق بكل شيء.
كان رجل من بني أسد يساير عاملاً للبند نيجين، فمرّا بدار خربة عليها بومتان تصفران، فقال العامل: ليت شعري ما يقولان؟ فقال الأسدي: إن أمّنتني أخبرتك.
قال: فأنت آمن. قال: خطب أحدهما، وهو الذكر، الأخرى، وهي الأنثى، على ابنه. فقالت: قد زوجتك على مائتي خربة. قال: ومن أين لي مائتا خربة؟ فقالت: إن بقي هذا العامل علينا إلى آخر السنة فأنا أُعطيك خمسة آلاف خربة. فغضب العامل لذلك، وقال: لولا الأمان لقتلتك.
عدا كلب خلف ظبي، فقال له الظبي: إنك لا تلحقني. قال: لم؟ قال: لأني أعدو لنفسي، وأنت تعدو لصاحبك.
قالوا: قالت الخنفساء لأمها: ما أمرّ بأحد إلا بزق عليّ. قالت: من حُسنك تُعوّذين.
قالوا: قبض كلب على أرنب، فقال الأرنب: والله ما فعلت بي هذا لقوتك، ولكن لضعفي.
وقالوا: صاد رجل قُنبرةً، فلما صارت في يده قالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أريد أن أذبحك وآكلك. قالت: فإني لا أُشفي من قرم، ولا أُشبع من جوع، وإن تركتني علّمتك ثلاث كلمات هي خير لك من أكلي، أما الأولى فأُعلّمك وأنا في يدك، وأما الثانية فأعلمك وأنا على الشجرة، والثالثة إذا صرت على الجبل. فقال: هاتي. فقالت: لا تلهفنّ على ما فاتك. فتركها وصارت على الشجرة، ثم قالت: لا تُصدقنّ بما لا يكون، ثم قالت: يا شقيّ، لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درّتين هما خير لك من كنز. فعضّ على شفتيه متلهفاً، ثم قال: علميني الثالثة. فقالت: أنت قد أُنسبت الثنتين، فكيف أعلّمك الثالثة؟ ألم أقل لك: لا تتلهفنّ على ما فاتك، ولا تُصدقنّ بما لا يكون؟ أنا وريشي ولحمي لا أكون زنة درّتين، فكيف يكون في حوصلتي ذاك؟ ثم طارت فذهبت.
كان أبو أيوب الموريانيّ وزير المنصور إذا دعاه المنصور يُصفرّ ويرعد مع مكانه منه، ومحلّه عنده - فقيل له في ذلك. فقال: - مثلي ومثلكم في هذا مثل باز وديك تناظرا، فقال البازي: ما أعرف أقل وفاء منك. قال: وكيف؟ قال: تؤخذ بيضةً، فيحضنك أهلك وتخرج على أيديهم، فيطعمونك بأكفهم، ويحسنون إليك، حتى إذا وجدت منهم غفلة طرت، وصحت وعلوت الحيطان، وفارقت الدار التي كبرت فيها إلى غيرها، وأنا أوخذ من الجبال، فأوثق، وتُحاط عينيّ، وأُطعم الشيء اليسير، وأؤنس يوماً أو يومين، ثم أُطلق على الصيد، فأطير وحدي، وآخذه لصاحبي، وأُمسكه عليه، وأعود إلى مكاني. فقال له الديك: ذهب عليك الصواب، أنت والله لو رأيت على السفافيد من البزاة اليسير من الكثير الذي أراه من الديكة، ما عدت عليهم قط - ولكن لو عرفتم من المنصور ما أعرفه لكنتم أسوأ حالاً مني عند طلبه لكم.
وقال الثعلب: إذا كان البخت مُقبلاً كان الكرم حاملاً، وحافظ الكرم نائماً، والنهر مادّا، والقمر زاهرا.
وقالوا: لو كان عنب الثعلب حُلواً ما تركته الثعالب في الصحارى.

الباب الخامس عشر
نوادر ونكت للمتكلمين
حكى الصاحب - رحمه الله - أنه كان في أصحاب أبي الهذيل غلام يعرف بعبد الله الفارسي، فدعاه يوماً يحيى بن أصفح - وكان رأس المُجبرة - إلى دعوته، فأكلا، ودعاه إلى الشراب فأجابه وشرب معه، وأراد يحيى أن يُسكر الغلام ويعدّه، فسكر قبل الغلام، فقام إليه الغلام، وفعل ما أراد يحيى أن يفعله. وأخذ قطعة رقّ، وكتب عليها:
فعلة جاءت لعمري مُنكرهنيك شيخ من شيوخ المجبر
قدرة أوجبت الفعل ولم ... يكن الله ليأبى قدره
وألصقها بجبهته، فلما أفاق ورأى ذلك قال: لعن الله القدرية جئنا ننيكهم، ناكونا.

قال رجل لعمرو بن عبيد: إني لأرحمك مما يقول الناس فيك. قال: فما تسمعني أقول؟ قال: ما أسمعك تقول إلا خيراًز قال: فإياهم فارحمم.
ومرّ بجماعة عكوف فقال: ما هذا؟ قالوا: سارق يُقطع. فقال: لا إله إلا الله! سارق السر يقطعه سارق العلانية.
قال رجل لثمامة: لم كفر الكافر؟ فقال: الجواب عليه.
وقال هشام بن الحكم - وكان يقول بالجسم - لأبي الهذيل: ما الدليل على أن الباري - عز وجلّ - ليس بجسم؟ قال: لأنه لا نصف له.
قال أبو شمر: ما شككت في شيء قط. قال النظام: لكني ما شيء إلا شككت فيه. ففضّل الناس قول النظام.
ناظر بختويه الجند يسابوري عافية بن شبيب البصريّ، فقال بختويه: ما دليلك على إثبات الخالق؟ فقال: شعرة أمك التي تحلقها فتنبت، فلو لم يكن لها منبت لم تنبت. قال بختويه: فينبغي أن يكون بظر أمك حين قُطع فلم ينبت دليلاً على أنه لا منبت.
قال بعض ولاة البصرة بينا أنا في مجلسي إذ سمعت صحيحة عظيمة ظننت أنها فتنة، فإذا شيخ قد لبّب رجلاً شاباً، فلما دنيا مني قلت للشيخ: ما شأنك؟ قال: شتمني وشتم أبويّ، قال: كانا يجمعان بين الزاني والزانية. قال: فقلت للشاب: ما تقول؟ قال: صدق، وقد فعلت ذلك، وكانت خطيئةً، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فإن عفا وإلا فأنا بين يديك، خذ له بحقه مني. قال الشيخ: قد عفوت عنه.
فلما أراد الشيخ أن يقوم سأله الشاب أن يجلس. فقلت: ما بالك؟ قال: قد قلت في أبويه ما قلت، واستغفرت الله من ذلك، وهو يزعم أن الله يجمع بين الزاني والزانية، فليستغفر الله من ذلك. قال: فجهدنا بالشيخ أن يستغفر منه فأبى. وإذ أن الكلام قد جرى بينهما في العدل والجبر، وكان الشيخ مجبرا.
قال رجل من المجبرة: ما سرق حماري بعد الله إلا فلان. فقال له آخر: قد وقعت على أحد السارقين، فخذ في طلب الآخر.
قيل لمحمد بن واسع: ما تقول في القدر؟ فقال: إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يوم القيامة سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم.
وقال آخر: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة سألهم عما فعلوه، ولم يسألهم عما فعل هو بهم.
قال الشغافيّ: كان عندنا نصراني خبيث يتكلم ويناظر، فكان إذا أتاه مجبر ليناظره قال: أنت تزعم أن الله خلق كُفري، وأني لا أقدر على الإسلام. فما معنى مناظرتي؟ وإذا أتاه معتز لي قال: خذ سلاحك حتى آخذ سلاحي؛ فإن الأمر بيني وبينك جد.
قال بعضهم: سمعت مجبراً يقول - وقد احتج عليه بالقرآن، واحتج هو أيضاً بالقرآن. فقيل له: أترى الذي تلونا عليك ينقضه ما تلوته علينا؟ - فقال: لا، ولكن إذا خلط ربنا علينا فلا بد من أن يخلّط عليكم.
وقال الشغافيّ: حضر أبو عبد الرحمن الحبلي عند بعض الولاة بالبصرة، وحضر رجل من المجبرة، فأتي الوالي بطرّاز أحول. فقال الوالي للمجبر: ما ترى فيه؟ قال: أرى أن تضربه عشرين درّة. فقال لأبي عبد الرحمن: ما ترى؟ قال: أرى أن تضربه أربعين: عشرين لطرّه، وعشرين لحوله. فقال: يا أبا عبد الرحمن، أأضربه على الحول؟ قال: نعم، إذا كانا جميعاً من خلق الله: الطر والحول، فما جعل الله الضرب على أحدهما أحق منه على الثاني.
قال داود الأصبهاني للموفق: أصلح الله الأمير، لقد أهلك أبو مخالد الناس. فقال له: الله أم أبو مخالد أهلكهم؟ سأل رجل أبا الهذيل، فقال: أفعال العباد مخلوقة؟ قال: لا، قال: فمن خلقها؟ قال أبو الهذيل: أنت مشجوج؟ قال: لا، قال: فمن شجك؟ قيل للنظام: أتناظر أبا الهذيل؟ قال: نعم، وأطرح له رخاء من عقلي.
سئل بعض المتكلمين عن النفس فقال: هي النفس. وسئل عن الروح فقال: هي الريح. فقال السائل: فعلى هذا كما تنفس الرجل خرجت نفسه، وكلما ضرط خرجت روحه، فانقلب المجلس ضحكاً.
قال عثمان الطويل: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: هل تعرف في كلام العرب أن أحداً فرّط فيما لا يثدر عليه؟ قال: لا، قال: فأخبرني عن قول الله تعالى: " يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله " أفرّط فيما قدر عليه، أو فيما لا يقدر عليه؟ قال أبو عمرو لأصحابه: قد أبان لكم أبو عثمان القدر بحرفين.
سأل بعض المجبرة أبا الهذيل العلاف: من يجمع بين الزاني والزانية؟ فقال: أما عندنا بالبصرة فالقوّادون.

اجتمع محمد بن جرير الطبريّ مع أبي القاسم البلخي المتكلم عند الداعي، أو الناصر، فقال له محمد بن جرير: كم في خمس من الإبل؟ قال أبو القاسم: ليس هذا من صناعتي.
ولكني مع ذلك أقول: فيها شاة. قال: فأسألك عن صناعتك. أخبرني عن هذا العالم بأسره، أليس هو ملك الله عز وجلّ؟ قال: نعم. قال: فيملك ما لم يخلقه؟ - يريد أفعال العباد - قال أبو القاسم: فأخبرني عن هؤلاء القيام من العبيد، أليس هم ملك الناصر؟ قال: نعم. قال: فخلقهم؟ فانقطع ابن جرير وخجل. فقال له الناصر: هلاّ برئت إليه من صناعته كما برئ إليك من صناعتك ولم يزاحمك فيها؟.
كان أبو عمرو بن العلاء يقول: كان لبيد مجبراً، وكان الأعشى عدلّيا وأنشد للبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال، ومن شاء أضلّ
وللأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبال ... عدل، وولّى الملامة الرجلا
قال بعض المتكلمين: دخانا على فينون النصراني، وجرى ذكر ابن كلاب المتكلم، فقال: رحمه الله، عني أخذ مذهبه في تلك الرواية ولو عاش نصّرنا المسلمين.
قال رجل من أهل الكوفة لهشام بن الحكم: أترى الله جل ثناؤه في فضله وعدله وكرمه كلفنا ما لا نطيق ثم يعذبنا عليه؟ قال: قد فعل، ولكن لا نستطيع أن نتكلم.
قال أبو عثمان: كان أبو إسحاق النظام أضيق الناس صدراً بحمل سر، وكان شر ما يكون إذا يؤكد عليه صاحب السر، وكان إذا لم يؤكد عليه نسي القصة، فيسلم صاحب السر.
وقال له مرةً قاسم التمار: سبحان الله! ما في الأرض أعجب منك، أودعنّك سراً فلم تصبر عن نشره يوماً واحداً؟ والله لأشكونّك في الناس. فقال: يا هؤلاء سلوه، نممت عليه مرة ومرتين وثلاثاً وأربعا فلمن الذنب الآن؟ فلم يرض أن يُشاركه في الذنب حتى صيّر الذنب كلّه لصاحب السر.
كان واصل بن عطاء طويل العنق، فيروى عن عمرو بن عبيد أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه فقال: لا يفلح هذا ما دامت عليه هذه العنق.
وكان واصل ألثغ، قبيح اللثغة في الراء، فحذفها من كلامه؛ لاقتداره.
ومما حُكي عنه أنه ذكر بشاراً فقال: أما لهذا الأعمى المُكتني بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسيّاً أو عُقيليّاً!.
فقال: الأعمى ولم يقل: الضرير، وقال: المكتني ولم يقل: بشار، وقال: الغالية ولم يقل: المغيرية ولا المنصورية، وقال لبعثت ولم يقل: لأرسلت، وقال: على مضجعه ولم يقل: على فراشه، وذكر بني عقيل؛ لأن بشاراً كان يتوالى إليهم.
قال محمد بن الجهم للمكي صاحب النظام: أراك مستبصراً في اعتقاد الجزء الذي لا يتجزأ، فينبغي أن يكون عندك حقاً حقا. قال: أما أن يكون عندي حقاً حقا فلا، ولكنه عندي حق.
وكان محمد بن الجهم قد ولاّه موضعاً في كسكر، فكان المكي لا يُحسن أن يسمّي ذلك المكان ولا يتهجاه ولا يكتبه ولا يقرأه، وكان اسم الموضع شاتمشنا.
قال الحجاج يوماً: عليّ بعدوّ الله: معبد الجهمي - وكان في حبسه، قد حبسه في القدر - فأُتي بشيخ ضعيف فقال له: تثكذّب بقدر الله؟ قال: أيها الأمير، ما أحب لك أن تكون عجولاً. إن أهل العراق أهل بهت وبُهتان، وإني خالفتهم في أمر فشهّروا عليّ. قال: وفيم خالفتهم؟ قال: زعموا أن الله قدّر عليهم وقضى قتل عثمان، وزعمت أنا أنهم كذبوا في ذلك. قال: صدقت أنت وكذبوا. خلّوا سبيله.

الباب السادس عشر
نوادر أبي العبر
قيل له: قد أمر أمير المؤمنين بردّ المظالم. قال: فقولوا له: يردّ على سورة براءة بسم الله الرحمن الرحيم.
عهد لأبي العبر

من أبي العبر الرقيع ذي الحسب الرفيع لأبي العجل الوضيع: إني ولّيتك خراج ضياع الهواء، ووكّلت بك البلاء، وفوّضت إليك مساحة سحاب الهواء، وعدّ ثمار الأشجار، وكيل ماء الأنهار، وحفظ طراز الأوقار، وإحصاء حُمام الفار، وحدقات البوم، وورق الزقّوم، وقسمة الشوم بين الهند والروم. وأجريت في ذلك لك من الأرزاق بُغض أهل الحمص لأهل العراق، وأمرتك أن تجعل ديوانك بالمغرب ومجلسك بإفريقية، وعيالك بميسان، وإصطبلك بأصبهان، ومطبخك بحرّان، وبيت مالك بسجستان. وخلعت عليك خفّي حُنين، وقميصاً من الدين، وسيفاً من حين، وسراويل من شين، وعمامةً من سُخنة عين، وحملتك على حمار مقطوع الذنب والأذنين، مكوّر الرجلين. وأمرتك أن تطوف على عملك في كل يوم مرتين. وكتب الأربعاء غداة الأحد بعد العصر لست مضت من شهر ربيع الأول سنة ثمانين إلا مائتين.
وقال له أبو العباس ثعلب: الظبي معرفة أو نكرة؟ قال: إن كان مشويّاً موضوعاً على المائدة فهو معرفة، وإن كان في الصحراء فهو نكرة.
قال أبو العبر: سألت أبا الجحش فقلت: أيها الحكيم، لم صار الديك بالغدوات يرفع إحدى رجليه دون الأخرى؟ فقال: لأنه لو رفعهما جميعاً لسقط.
قال: وقلت له: أي شيء لا يمكن أن تلحم به؟ فقال: الهاون.
دخل أبو العبر إلى مالك بن طوق، ومالك لا يعرفه، فقال: أبو من؟ قال: أبو كل بصل. قال: وما هذا من الكنى؟ قال: وما أنكرت؟ كم بين كل ثوم وبين كل بصل؟ فغضب مالك - وكانت كنيته أبو كلثوم - و قال: أظنك شارباً. قال: بل إني صاحب الكيلجة. قال: خذوا منه كفيل حتى ننظر في أمره. فقال: أنا - أصلحك الله - إنسان فقير، فخذ مني كشاة. قال مالك: ويلكم! من هذا؟ خذوه. قيل: هذا أبو العبر. فسكن وعانقه.
قال: أما قبل: فإنا وجدنا في حكمة أهل الشام أنه لا يأكل إنسان الفاكهة إلا شرىً أو صدقةً أو هديةً أو سرقة. ومن كان في البيت لم ير الناس ولم يروه إلا أن يدخلوا إليه، أو يخرج إليهم. وما أقلّ ما تجد في مائة يهودي واحداً مسلماً.
ويروى عن أبي الزنبور بأن أول من يدخل الجنة من البهائم الطنبور. قال: وكيف ذاك يرحمك الله؟ قال: لأنه في دار الدنيا يُعصر حلقه، ويُعرك أذناه، ويُضرب بطنه فيقال له يوم القيامة: خذوا برجله ألقوه في الجنة فإنه متعوب.
وحدّث لبادة عن أبي سوادة قال: أول من يدخل النار من البهائم البرادة، لأنها تشرف على حرم الجيران السادة فتُحشر مع المنجنيق والعرادة.
وقيل له، لم صارت دجلة أكبر من الفرات؟ قال: لأن القلم يكون في الدواة.
وقيل له: لم صار الجمل إذا ضُربت استه صاح رأسه؟ قال: لأن الأرزّ إذا طبخوه أكلوه بسُكر، وإذا خبزوه أكلوه بمالح.
قيل له: فلم صار كل أعرج يجمع؟ والحب لا يُشترى حتى يُصفع؟ قال: لأن المرآه ترى وجهك فيها، والسمكة لا تأكلها حتى تشويها.
قال: إذا أردت أن تعلّم ابنك السباحة حتى تموت أنت وجيرانك من العطش، فخذ رطل داذي، وأوقيتين حبك، وثلاثة أرباع نهر كرخايا، وثلّثه بتسع ساعات من ليلة الميلاد، فيجيك خف واسع.
وإذا أردت أن تعلّم ابنك رمي النشاب فلا تعرف القوس من الطباطب في سيته، فخذ رطل نورة، وشمعة مربعة، وما أدري ما أقول، وقد - والله - تعلّمت، فإن أردتها حامضةً فاصرح فيها شيا من مصل.

رقية الزنبور
إذا رأيته فاهرب منه، فإن لسعك فقد لسعك، وإن لم يلسعك فخذه وسل حُمته وطيّره. حيلة مجربة.
خطبة نكاح
الحمد لله المفرّق بين الأحبة، ومعيدهم إلى التربة، خالق الموت. ومبدّد الشمل، ومبعّد الآمال من الأهل والأولاد، ومدني الآجال، إلى من كثرت عنده الأموال. أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً، صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وأشهد أن كل شيء - لا محالة - زائل، وما شاء كان من قضائه، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، وجعل سبب الطلاق غضباً، وقد قال عز وجلّ: " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلّقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ " . وقال: " يا أيها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ لعدتهنّ " . فعليكم بالاقتداء بمن كان قبلكم من الحمقى فقد سنّوا للحرّة حولا، وللأمة شهراً، فطلقوهن من بعد سنة وأخرجوهن من بيوتكم، فقد قال الأول:
اذهبي قد قضيت منك مرادي ... فمتى شئت أن تبيني فبيني

واستبدلوا بهنّ في كل حول مرتين؛ فإن ذلك أذهب للمال، وأسخن للعين. واحذروا كيدهنّ ومكرهنّ وخلافهنّ وعقوقهنّ، وعاملوهنّ بالسب، وتعاهدوهن بالضرب، إن الله تعالى يقول: " واهجروهن بالمضاجع واضربوهنّ " وهذا فلان بن فلان.
قال أبو العبر: كنا نختلف - ونحن أحداث - إلى رجل يعلّمنا الهزل فكان يقول: أول ما تريدون قلب الأشياء. فكنا نقول إذا أصبح: كيف أمسيت؟ وإذا أمسى: كيف أصبحت؟ وإذا قال لأحدنا: تعال إليّ تأخر إلى خلف، وإذا قال اذهب سعى بين يديه. وكانت له أرزاق يعمل كتابتها في كل سنة، فعملها مرة - وأنا معه - فلما فرغ من التوقيع فيها، وبقي الختم قال لي: أتربها وهاتها. قال: فمضيت وصببت عليها ماءً، فبطلت، فلما رآها قال لي: ويلك! ما صنعت؟ قلت: ما نحن فيه طول النهار من عكس الأشياء. فقال: والله لا صحبتني، أنت أجهل مني وأحمق.

الباب السابع عشر
نوادر أبي العنبس
كان يقول: أنا أقطع المجبر بمسألة واحدة، أرفع يدي بحذاء قفاه وأقول له: هل أقدر على صفعك؟ فإن قال: بلى، فقد رجع عن مذهبه، وإن قال: لا، أعلمته اني قادر على ذلك.
قال أبو العنبس: رأيت رجلاً يعرج، فقلت له: مالك؟ قال: غداً يريد أن يدخل في رجلي شوك.
وقال: أنا وأخي توأمان، وخرجت أنا وهو من الصيمرة في يوم واحد وساعة واحدة، ودخلت أنا وهو سر من رأى في وقت واحد، فولي هو القضاء وصرت أنا صفعانا، فمتى يصح أمر النجوم؟.
قال أبو العنبس: سمعت حمدويه بنت الخراساني في ليلة كسوف وهي تبكي، وتتضرّع وتقول: يا رب، عذّبني بكل شيء ولا تعذبني بالنار، اضربني بالفالج، ارمني بقاصمة الظهر، كل شيء ولا النار، أصرخ - والله - وأصيح إن احترقت ثيابي أبقى مجردة!!. قال: وكانت مثل ياسمينة نقيّة أو فضة مصفّاة إلا أنها كانت بلهاء.
قال أبو العنبس: سألت أبا الفضل بن الراشدية الحنبلي المتصوف، فقلت: يا أبا الفضل، صف لي المؤمنين. فقال: قوم أحرزوا براهينهم في الهرر، واستعملوا قبل ذلك الحذر، وعلموا ان الأمور بقضاء وقدر. قلت: رحمك الله، فصف لي أهل التوكل. قال: نعم، قوم تركوا سعة الطريق، وسلكوا سبل المضيق، واستعملوا الحركة بالشهيق، فخرجت براهينهم ولها بهيق. قلت: رحمك الله. فما علامة حب الآخرة؟ قال: أن ترى أعينهم ساهرة، وقلوبهم طائرة، حتى يضعوا البراهين في المواضع الغائرة. قلت: رحمك الله، فما علامة صدق المودة؟ قال: تراهم إذا انكشفت حقائق الظهور، وبلغت البراهين الصدور، واشتد الاضطراب المقدور، ظهر الكيد المستور، فإنه خرج من التنور. قلت: رحمك الله، فما علامة الرفق؟ قال: اللطف لإخراج الكيد من الحقيقة، إذا كانت الطبيعة رقيقة. قلت: فما علامة المؤيدين؟ قال: إذا كان أول ليلة من رجب، رأيتهم قد جثوا على الركب، فوضعوا البراهين في الثقب، بلا كد ولا تعب. قلت: فما علامة التقى؟ قال: أن ترى أعينهم نائمة، وقلوبهم هائمة، وبراهينهم قائمة. قلت: فصف لي أهل الإخلاص؟ قال: نعم، اعلم أن لله عباداً عاينوا الحقائق بمكنون الإضمار، فصارت الكمرات منهم كالمنار، وطلبوا الطريق إلى الاعتبار، فالتفت الساق بالساق، وتبدت الأفخاذ بالزاق، فيا حسنهم في الشهيق والحنين، والزفير والأنين، حتى إذا صبّوا ماء الصفاء، على حافات أنهار الوفاء، وانتزعوا الأعور الغريق، على رأسه شيء أحمر رقيق، فذاك علامة التوفيق. قلت: فعلامة الأمانة؟ قال: قوم أخرجوا الكيد من السيدانة، وهو أحمر مثل الرمانة. قلت: فعلامة الخيانة؟ قال: إذا وضع أحدهم الدرهم في الشدق والمرديّ في البثق، ثم انتزعه برفق، رأيت على رأسه مثل الدبق. قلت: كيف الطريق إلى المصر؟ قال: أن تأخذ الشوذر بالقهر، فتضع البيرم في الحفر، وتُظهر الاضطراب عند المتر، تنجو بذلك من أهوال يوم الحشر. قلت: فعلامة ضعف اليقين؟ قال: أن تخرج البراهين من الورا، وهي مخضوبة بالخرا. قلت: فعلامة الصابرين؟ قال: قوم أخذوا براهين العارفين بأيمانهم، وأودعوها في مكنون حقائقهم، فجالت في الظلمات، بفنون الحركات. فلما دنا تدفق ماء المحبة، في عيون رياض المودة، ظهر الكيد المستور، وهو أحمر مسرور. قلت: فعلامة أهل الحزن؟ قال: إذا رأيتهم في أوقات السحر، قد أُولجت البراهين في الهرر، وتحركت الجوارح بقدر، ثم ظهر ما استتر، شممت من القوم رائحة القذر.

قال أبو العنبس: سمعت رجلاً طويل اللحية يقول لآخر: ليس شعري من كان القاضي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له الآخر: كان هو، عليه السلام، القاضي بين المسلمين، والناظر في أمورهم. فقال الألحى: اسكت يا أحمق، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقى خلق الله، وأعقل من أن يدخل في عمل السلطان.
قال أبو العنبس: كنت إذا لقيت حجاجاً الكاتب أقول له: حيّا الله وجهاً أراك به. فقيل له: إن أبا العنبس يطنز بك يقول إذا لقيك: حيّا الله وجهاً أراك به، وإنما يريد وجه نفسه. فقال: أنا له العاضّ حر أمّه. قال: فلما لقيني بعد ذلك قلت له: - وأنا لا أعلم أنه قد فطن - حيّا الله وجهاً أراك به. فقال لي: ولكن لا حيّا الله وجهاً أراك به. فقلت: ولا بيّاه.

الباب الثامن عشر
نوادر لأصحاب الخطب والأذان والصلاة
جاز شيخ بباب مسجد، والمؤذن يقيم الصلاة، فدخل يستغنم الجماعة، فلما نظر المؤذن إلى شيهته ووقاره سأله أن يتقدم ويصلي بهم، فامتنع، وتقدم المؤذن فصلى بهم، فلما فرغ أقبل على الشيخ وقال: ما منعك أن تصلي بنا وتكتسب أجراً مع محلّك من السن؟ فقال: أنا - وحقّك - إذا كنت على غير طهر لا أؤم بالناس.
قيل لأعرابي: ما قرأ إمامكم البارحة؟ فقال: أوقع بين موسى وهارون شراً وشمرّاً.
قرأ إمام في صلاته " ومن يكن الشيطان له قريناً فساء.. " وركع.
وقرأ آخر: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا... " وركع.
كان بعض المغفلين يؤذن في مسجد، فكان إذا فرغ من أذانه يقول: لا إله إلا الله، سبحانك، هذا بهتان عظيم.
استأجر أهل ضيعة مؤذناً بعشرة دراهم كل شهر، فاستزادهم فقالوا: لا نزيدك، ولكن نسامحك حيّ على الفلاح.
كان ابن مكرم يسجد سجدتيّ السهو قبل الصلاة، فقيل له في ذلك، فقال: إذا لم أشك في أني أسهو فلم لا أقدّم سجدتي السهو؟ رأى أبو حنيفة رجلاً يصلي ولا يركع، فقال: يا هذا، لا صلاة لك بغير ركوع. فقال: إني رجل عظيم البطن، فإذا ركعت ضرطت، فأيما خير: صلاة بلا ركوع، أو ركوع بضراط.
قال بعضهم: رأيت مؤذناً قد أذن ثم عدا، فقلت له: إلى أين؟ فقال: أحب أن أسمع أذاني من بعيد.
وفعل آخر مثل ذلك، فسئل عنه فقال: أردت أن أنظر إلى أين يبلغ أذاني؟.
قال: ورأيت مؤذناً يؤذن من رقعة من في يده، فسقطت الرقعة واحتملها الريح، فجعل يعدو ويقول: خذوا أذاني، خذوا أذاني.
قال: ورأيت آخر يؤذن من رقعة، فقلت له: لم لا تحفظه؟ فقال: لا أدري، ولكن سل القاضي. فجئت إليه وهو في المسجد، فدخلت وسلّمت عليه. فعدا إلى بيته وأخرج دفتراً وتصفّحه ثم قال: وعليك السلام. فعذرت المؤذن لما رأيت سخنة عين القاضي.
بينا إمام يصلي بقوم التراويح في شهر رمضان، وهو يقرأ سورة يوسف، إذ عرضت له في بطنه ريح، وقد كان بلغ قوله تعالى: " قالت امرأة العزيز " وقدّر أنه قد غلط فركع، وأفلتت منه ضرطة عظيمة، فقال واحد من خلفه: " الآن حصحص الحق " .
وأحدث إمام في الصلاة، فتأخر وقدم رجلاً، وذهب يجدد الوضوء، فقدّر الإمام الثاني أنه لا يجوز أن يصلّي له، فوقف ينتظر صاحبه، فلما طال قيامه تنحنحوا من خلفه، فالتفت إليهم وقال: مالكم؟ إنما قدمني رجل فأنا أحفظ مكانه إلى أن يرجع ويعمل ما يرى.
وقيل ليونس النحوي - وكان لهم إمام يقنت ويطيل - : يا أبا عبد الرحمن، لو قلت لإمامنا: يُخفف من قنوته؟ فقال: قد سألته فلم يفعل. قالوا: فهل عندك من الدعاء ما تدعو به في طول قيامه؟ قال: لا، ولكني إذا فرغت من دعائي لم أزل أدعو عليه حتى يركع.
قرأ إمام في الصلاة سورة القارعة، فلما بلغ قوله تعالى: " وأما من خفّت موازينه. فأمه هاوية " قال: فأمه زانية. فقطع القوم صلاتهم، وأنكروا ذلك. فقال: يا قوم، تمنعوني من شتم الكفار؟! قال بشر المريسي لأبي العتاهية: لا تصلّ خلف إمام مسجدكم فإنه مُشبّه. قال كلا، إنه قرأ بنا البارحة في الصلاة " قل هو الله أحد " .
صعد عديّ بن أرطاة المنبر، فلما رأى جمع الناس حصر فقال: الحمد لله الذي يُطعم هؤلاء ويسقيهم.
خطب مصعب بن حيان خطبة نكاح، فحصر فقال: لقّنوا موتاكم قول: لا إله إلا الله. قالت أم الجارية: عجل الله موتك، ألهذا دعوناك؟.

ولما حصر عبد الله بن عامر على منبر البصرة، فشقّ ذلك عليه، قال له زياد: أيها الأمير، إنك إن أقمت عامة من ترى أصابه أكثر مما أصابك، فقيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر وتكلّم، فلما صعد حصر وقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء، وبقي ساكتاً، فأنزلوه، وصعد آخر، فلما استوى قائماً وقابل بوجهه وجوه الناس وقعت عينه على صلعة رجل، فقال: اللهم العن هذه الصلعة.
وقيل لوازع اليشكري: قم فاصعد وتكلّم، فلما رأى جمع الناس قال: لولا أن امرأتي حملتني على إتيان الجمعة اليوم ما جمّعت، وأنا أشهدكم أنها طالق ثلاثا. ولذلك قال الشاعر:
وما ضرّني ألا أقوم بخطبة ... وما رغبتي في ذا الذي قال وازع؟
خطب وال قلم تسمع خطبته، فسئل من كان قريباً منه: ما قال الأمير؟ قال: سار أهل عمله بشيء لم أفهمه.
حكى الصاحب عن الطبراني قال: كان لأبي خليفة الفضل بن حباب ابن رقيع يركب مع أمراء البصرة، يضرب الصوالجة، ويدّعي الفروسية ويحتل مكان أبيه، إلى أن ورد عليهم أمير غريب، فركب معه على عادته، وتبرّم الأمير به، فتقدم إلى حاجبه بتنفيره. فتقدم الحاجب إلى أصحاب الغواشي فداروا عليه دورةً، وأخذت الغواشي قفاه فهرب وعاد إلى منزله، وسبق الخبر إلى أبيه. وكان يصلّي الابن بأبيه وأصحابه، فلما حان وقت الصلاة وابتدأ بالركعة الأولى، فقرأ فاتحة الكتاب، ثم ابتدأ فقرأ " هل أتاك حديث الغاشية " ؟ وتذكر القصة فأُرتج عليه، فأعاد ذلك ثلاث مرات، فصاح أبوه من خلفه: نعم، قد أتاني حديث الغاشية، ما تتخلف. مرّ في صلاتك.
اختصم بعض التجار في جارية، فجعلوها على يدي المؤذن وسألوه أن تبيت عنده إلى غد، فلما أصبح المؤذن قال: ذهبت الأمانة من الناس. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: ذكروا أنها بكر، وقد جرّبتها فوجدتها ثيّباً.
صعد وكيع بن أبي سود المنبر بخراسان، فقال في خطبته: إن الله تعالى يقول في كتابه:
ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المسبّح الخلاق
فقال له رجل: أصلح الله الأمير، هذا شعر قاله عديّ بن زبد. قال: أحسن - والله - عدي وأجمل، ثم قال: فتى حروب لا فتى منابر.
وولي آخر اليمامة، فلما صعد المنبر أُرتج عليه، فقال: حيّا الله هذه الوجوه السارّة، وجعلني فداءها، قد أمرت طائفي بالليل لا يرى أحداً إلا أتاني به ولو كنت أنا، ثم نزل.
نظر رجل إلى آخر يُصلّي، فقال الآخر: ما أحسن صلاته! فقطع الرجل الصلاة وقال: وأنا مع هذا صائم.
كان بعضهم إذا فرغ من صلاته وضع خدّه على الأرض وقال:
المستغيث بعمرو عند كربته ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار
وهو يقدّر أنه يستجير بالله من النار.
قال بعضهم: دخلت الشام فرأيت جماعةً يتنقّصون أمير المؤمنين علياً - عليه السلام - ومنهم من يشتمه، فأنكرت ذلك، وجزعت له، ولجأت إلى مسجد كان مني بالقرب، فشكوت ذلك إلى المؤذن، فقال: ما أنكرت؟ قد كان ها هنا منذ أيام رجل يتنقّص أبا محمد الحجاج بن يوسف!.
وقال: رأيت بالشام حانوتاً تحت مسجد، يُباع فيه الخمر.
كان سعيد بن حميد يهوى غلاماً؛ فزاره يوماً وأقام عنده، فلما كان وقت المغرب أراد أن ينصرف، فقال له: حين سررنا بك أردت أن تُكدّره؟ لا أقلّ من أن تقيم إلى العشاء؟ فحلف الغلام أنه إذا سمع أذان العتمة لم يقعد. فقال سعيد: رضيت، ثم عمد إلى الدواة فكتب إلى مؤذن المحلّة:
قل لداعي الفراق: أخّر قليلا ... قد قضينا حق الصلاة طويلا
ليس في ساعة تؤخّرها وز ... ر تجازى به، وتأتي جميلا
وتُراعى حق الفتوة فينا ... وتُعافى من أن تكون ثقيلا
فلما قرأ الرقعة لم يؤذن تلك الليلة، ومر القوم في سرورهم، والفتى يترقب الأذان إلى أن سمع صوت الحارس، فقال له: إذا شئت؟ قال أخاف نكير الحارس. قال: يا غلام، افرش له، فبات عنده.

قال المتوكل لعبادة: رُفع إليّ أنك ضربت إمام مسجد، وإن لم تأت بعذر أدّبتك. قال: يا أمير المؤمنين، كنت قد خرجت في بعض الأيام لحاجة لي غلسا، فمررت بمسجد قد أُذّن فيه لصلاة الفجر، فقلت: أقضي هذه العبادة، ثم أتوجه لحاجتي، فدخلت، فاقام المؤذن، ودخلنا في الصلاة، فابتدأ الإمام فقرأ الفاتحة، وافتتح سورة البقرة، فقلت: لعله يريد أن يقرأ آيات من هذه السورة فانتهى إلى آخرها في الركعة الأولى، ثم قام إلى الثانية، فلم أشك في أنه يقرأ مع الفاتحة سورة الإخلاص. فافتتح سورة آل عمران حتى أتمها، ثم أقبل بوجهه على الناس، وقد كادت الشمس تطلع. فقال: أعيدوا صلاتكم - رحمكم الله - فإني لم أكن على طهارة، فقمت إليه وصفعته. فضحك المتوكل من ذلك.
خطب عتّاب بن ورقاء، فقال: هذا كما قال الله تعالى: إنما يتفاضل الناس بأعمالهم، وكلّ ما هو آت قريب. قالوا له: إن هذا ليس من كتاب الله. قال: ما ظننت إلا أنه من كتاب الله.
قرأ إمام سورة ق في صلاة الفجر، وخلفه أعرابي له حاجة فلما بلغ الإمام قوله تعالى: " هل من محيص " ؟ قال الأعرابي: لا والله أو أخرى في ثيابي.
صعد بعض الولاة المنبر ليخطب في يوم الجمعة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم حصر، فلم يدر ما يقول، ثم قال: معاشر المسلمين، تدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا، قال: فإذا لم تدروا فلماذا أتعب نفسي؟ ونزل. فلما كان في يوم الجمعة الثانية اجتمع الناس وقالوا: نقول له: نعم، إن قال لنا ما قال في الجمعة الأولى. فصعد المنبر وقال: معاشر الناس، تدرون ما أقول لكم؟ قالوا: نعم. قال: فإذا كنتم تدرون فلماذا أرذي نفسي؟ ونزل. فلما كانت في الجمعة الثالثة قال مثل قوله. فقال بعض الناس: لا. وقال بعضهم: نعم. قال فليقل من يعلم لمن لا يعلم، ونزل.
صلّى الرشيد ليلةً فقرأ " ومالي لا أعبد الذي فطرني " ؟ وأُرتج عليه، فكرّر مراراً، وابن أبي مريم يصلي خلفه، فصاح: لا أدري والله! فضحك الرشيد حتى قطع صلاته.

الباب التاسع عشر
نوادر أصحاب المهن والصناعات الخسيسة
حج رجل من أهل العراق، فتقدم إلى مزيّن وقال له: احلق رأسي حلقاً جيدا، واستقبل الشعر بالموسى، وأقبل يصف له كيف يعمل. فقال له: حسبك! هوذا، أحلق رأسك حلقاً لا يراه أحد إلا اشتهى أن يصفعك.

حدّث بعضهم قال: نكب بعض ندماء الخليفة نكبةً اضطر معها إلى الاستتار، فاستتر وطال شعره، فقال للرجل الذي كان مستتراً عنده: قد كان لي غلام سنديّ مزين أعتقته ولا أعرف خبره منذ حين، واذهب إلى موضع كذا واطلبه، واجلس إليه، ثم اذكرني له؛ فإن رأيته يتوجع لي فعرفّه مكاني، وخذ به معك، وإن رأيته يذمني أو يشكوني فدعه ولا تذكرني له. فذهب الرجل حتى لقيه وجاراه في خبر مولاه. فقال: يا سيدي، ومن أين تعرفه؟ فإني - والله - تالف شوقاً إليه، واغتماماً له، أحسن الله صحبته حيث كان. فقال الرجل: هو عندي، وقد استدعاك، فنهض السندي وقبّل يد الرجل، وصار معه إليه، فلما دخل إليه أظهر سروراً به، وقبّل الأرض بين يديه، وأخذ شعره وحجمه، فأعطاه دينارا. فلما خرج لقي ابناً له، فقال له: ويحك! أليس وجّه إليّ فلان مولاي وهو مستتر في دار فلان في الموضع الفلاني، فصرت إليه وخدمته وحجمته النقرة وأعطاني ديناراً؟ فقال له ابنه ذلك: حجمته النقرة بلا أخدعين؟ قتلته! وليس هذا حقّه علينا، وما عرّج على شيء حتى قصد الدار التي وصفها له أبوه، ودقّ الباب، وقال: أنا فلان ابن خادمك المزيّن، ففتحوا له، وقبّل يديه ورجليه، واظهر من الاغتمام بأمره، مثل ما أظهره أبوه، ثم قال: عرّفني غلامك أبي أنه حجمك النقرة وحدها، وهذا وقت حار، وقد ثار الدم. والوجه أن تُحجم الأخدعين. فقال لم يكن بي إلى هذا حاجة، والآن وقد أشرت به، فاستخر الله، فحجمه الأخدعين، وأعطاه ديناراً وأخرجه. فلقي أخاً له، فقال ذلك: كان من الأمر كذا وكذا، فمر مبادراً، وقال مثل قوله، وفعل مثل فعله حتى حجمه على الساقين، وأخذ ديناراً وخرج. فلقي صهراً له فأخبره بالقصة، فبادر مسرعاً حتى صار إلى باب الدار ودخل، وفعل مثل فعلهما، وقال: لا بد مع حجامة الساقين والأخدعين من قطع الجهارك. فقال الرجل: نعم، لا أدري أيش ذنبي إليكم يا بني القحاب، اجلس. فأجلسه وقام وجلس في سمارية، وانحدر إلى دار الخليفة، فلما رآه الحجاب يستأذن تعجبواودخلوا فاستأذن له فلما دخل انكب بين يدي الخليفة فقبّل الأرض، ثم قال: يا سيدي، يا أمير المؤمنين، اسمع قصتي وحالي، وقص عليه خبر الحجامين وما لقي منهم، وقال: هؤلاء أولاد القحاب هوذا، يأخذون دمي بالمحاجم، خذه أنت بالسيف دفعةً واحدةً، وارحمني مما أنا فيه. فضحك، ورجع له، ورده إلى منزله.
جاء حائك إلى الأعمش فقال: ما تقول في الصلاة خلف الحائك؟ قال: لا بأس بها على غير وضوء. قال: فما تقول في شهادته؟ قال: تقبل شهادته مع شاهدين عدلين. فقال الحائك: فهذا ولا شيء واحد.
تنبّى حائك بالكوفة، فقالوا: ما رأينا نبيّاً حائكاً. فقال: وهل رأيتم نبيّاً صيرفيّاً؟.
وقيل لحائك: لو كنت خليفةً أي شيء كنت تشتهي؟ قال: تمر وكسب. قيل لابنه: ولو كنت ابن خليفة ما كنت تشتهي؟ فقال: وهل ترك هذا من اللذات شيئاً حتى أشتهيه؟ ارتفع رجل كان في الأصل حائكاً حتى ولي ولايةً، فقال له يوماً مغنّ له - وقد كان قرُب العيد - : هب لي أيها الأمير عمامةً أتعمم بها يوم العيد. فقال له: هات الغزل حتى أرد عليك العمامة قبل العيد بثلاثة أيام.
روي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: " واتّبعك الأرذلون " . قال: الحاكة.
وروي عنه أنه قال: عقل سبعين امرأةً عقل رجل واحد، وعقل سبعين حائكاً عقل امرأة واحدة.
وقال ميمون بن مهران: السلام على الحائك يوهن العقل الركين.
وقال فيهم: إنهم سرقوا نعل النبي - عليه السلام - وعمامة يحيى بن زكريا، وجراب الخضر، وعصا موسى، وغزل سارةً، وشاة دانيال، وقصعة هود، وفأس عمر، وسمكة عائشة من التنور.
واستدلتهم مريم فدلّوها على غير الطريق، فدعت عليهم أن الله يجعلهم سخرية الناس، وألا يبارك في كسبهم.
جاء رجل به وجع الضرس إلى قلاّع ليقلعه، فقال: أريد درهماً فقال له: أحسن. فقال: أقلع ضرساً آخر - إن أردت - ولا أنقص من الدرهم شيئاً.
استدعى بعضهم قلاّعاً ليقلع ضرساً له، وكان الرجل أبخر، فلما فتح فاه قام القلاع وقال: ليس هذا من عملي، هذا من عمل الكناسين.

دعا حجام جماعةً من الكناسين يكسحون له بئراً، فقال أحدهم لصاحبه: اسقني ماء. فقال الآخر: تدري عند من نعمل نحن!؟ قال: لا، قال: إنا نعمل عند حجّام. قال: إنا لله، الحمد لله حيث علمنا به قبل أن نشرب في كيزانهم، أردت، والله، أن أرمي بكل ما في جوفي.
قال: وسمعت واحداً يقول للآخر: إن كنت كناس بن كناس فقل لي: كم رجل لابنة وردان.
قال بعضهم: نظرت إلى كناسين في داري، وهم يتغدّون، فلما رأوني من بعد صاح أحدهم: إن كنت تريد أن تأكل معنا فاغسل يدك أولاً؟.
جاءت امرأة إلى صفّار بمرجل مثقوب ليصلحه، فسدّ الثقب بقليل طين، وسوّده، وردّه عليها. فلما صبّت فيه الماء ابتل الطين، وسال الماء، فجاءت إليه وقالت له: ويلك! ألست قلت: قد أصلحت المرجل؟ وها هو بعد مثقوب كما كان. قال: لعلك صببت فيه ماء؟ قالت: نعم، لأيش نريده إلا لماء؟ قال: ظننت أنك تجعلين فيه نوىً أو نخالة أو صوفا، فأما ما يصبّ فيه الماء فأنا لا أحسن أن أصلحه.
نظر ملاّح إلى رجل قد وثب على ظهر فرسه فقال: لا إله إلا الله! ما أحسن ما استوى على كوثله!! قيل لملاح: كم بيننا وبين العصر؟ قال: مُرديّ شمس.
قيل للمجّدر القرّاد: كيف أصبحت؟ فقال: كيف يصبح من يرجو خير هذا؟ وأشار إلى قرده.
قال الأصمعي: مررت بكنّاس في بعض الطرق، وهو ينقل على ظهره وينشد:
وأُكرم نفسي إنني إن أهنتهاوحقك لم تُكرم على أحد بعدي
فقلت: عن أي شيء أكرمتها وهذه الجرة على رقبتك؟ فقال: من الوقوف بباب مثلك.
قال الواقدي: رأيت بقّالاً بالمدينة، وقد أشعل بين يديه سراجاً بالنهار، فقلت له: ما هذا؟ قال: أرى الناس يبيعون ويشترون حولي، ولا يدنو مني أحد، فقلت: عسى لا يروني، فأسرجت لهم حتى يروني.
وقف رجل على صاحب له، وهو ينادي: هذا عسل، هذا سكر، هذا قند. فتقدم إليه رجل وقال: عندي عليل يشتهي بطيخة حامضة، فقال له: خذ ولا تلتفت إلى قولي فإنه خلّ.
قال بعضهم: رأيت ثلاثةً من الهراسين على بقعة واحدة، وهم يتكايدون في مدح هرائسهم، فرأيت واحداً وقد أخرج من هريسته قطعةً على المغرفة وأشالها وهو يقول: انزلي ولك الأمان. فقال الثاني: يا قوم، أدركوني، الحقوني، أنا أجذبها وهي تجذبني والغلبة لها. فقال الثالث: أنا لا أدري ما يقولون. من أكل من هريستي أسرج ببوله شهراً.
خاصم حجّام مرة حذّاءً فقال للحذاء: أنت تمشّط وتسرّج وأنا أمشّط وأسرّج، وأنت تحذف وأنا أحذف وأنت تشقّ الجلد بشفرة وأنا أشقه بمشراط، فأي فضل لك عليّ؟.
تخاصم رجلان، وكان أحدهما ندّافاً. فقال الآخر: والله لو وضعت إحدى رجليك على حراء والأخرى على ثبير، ثم اخذت قوس قزح وندفت الغيم على جباب الملائكة، ما كنت إلا ندّافاً.
قدّمت امرأة رزام الطحّان إلى صاحب الشرطة؛ فادّعت عليه شيئاً، فجحدها، وقال: أصلح الله الأمير، إن كانت صادقة فحريت سيفاً بالعرض.
قال بعضهم: مررت بجماعة من الكنّاسين قد وقفوا على بئر لينقّوه فقالوا لأحدهم: انزل، فتجرّد، فنزل وهو يقول:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
قال بعضهم: وردت القرما - وهي على أربعة فراسخ من الرملة - مع رُفقاء لي، فإذا بصائح يصيح بالغداة: الهريسة الهريسة. فأنفذنا من يشتريها، فرجع وقال: الهرّاس يقول: اثردوا، فثردنا، وعاد إليه. قال: ففتح بُزالا من قدر، فإذا بماء صاف قد انحدر منها، فبعد حين خرجت حبّات حنطة، فضرب بيده على منكبي وقال: بختك مقبل، فإنها اليوم ثخينة.
جاء رجل إلى صديق له من أهل السوق، فشكا إليه إضاقةً، وسأله أن يُقرضه دراهم. فقال نعم، وكرامةً، يا غلام، هات الكيس والميزان والمرآة، ووزن له ما التمسه، فأخذه الرجل وأثنى عليه، وقام ليقبّل رأسه فقال: يا أخي، لا أحب أن تُقبّل رأسي، ولكن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: انظر في هذه المرآة، كيف تُبصر وجهك من الفرح ناضراً مُشرقاً؟ فأُحبّ أن يكون وجهك إذا سألتك ردّ ما قبضت مثلما هو الساعة.

أحب الرشيد أن ينظر إلى أبي شعيب القلاّل كيف يعمل القلال، فأدخلوه القصر وأتوه بجمع ما يحتاج إليه من آلة العمل، فبينا هو يعمل إذ هو بالرشيد قائماً فوق رأسه، فلما رآه نهض قائماً. فقال له الرشيد: دونك ما دُعيت له، فإني لم آت بك لتقوم لي، وإنما أتيت بك لتعمل بين يدي. قال: وأنا لم آتك ليسوء أدبي، وإنما أتيتك لأزداد بك في كثرة صوابي. قال له الرشيد: بلغني أنك إنما تعوّضت بي حين كسدت صنعتك.
فقال أبو شعيب: يا سيد الناس، ما كساد عملي في جلال وجهك؟ فضحك الرشيد حتى غطى وجهه. ثم قال: ما رأيت - والله - أنطق منه أولاً، ولا أعيا آخراً. ينبغي أن يكونر هذا أعقل الناس أو أجن الناس.
هاج بأبي علقمة الدم، فأتوه بحجام يحجمه، فقال له: أنق غسل المحاجم، واشدد قصب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزا، ولا تكرهن أبيا، ولا تردن أتيا. فوضع الحجام محاجمه في جونته وقال: اسقوا هذا شربة، فإنه إلى الدواء أحوج منه إلى الحجامة.
قال بعضهم: رأيت بمكة زنجياً قد خرج من كنيف يكنسه، وعل عنقه حرة، وفي رجله لبنة، وهو يقول:
جنباني ديار هند وسعدى ... لم أكن راضياً بدار هوان
قال: فقلت: ويحك! وأي هوان أعظم مما أنت فيه؟ فقال: تنح عني، ولا تقذرني.
قال بعضهم: رأيت سماكاً بين يديه حرى منتن، وهو يقول: من يشتري الشنة حزافا؟.
قال أبو هفان: سمعت في بعض أصحاب السماد بالبصرة من يقول: اشتريت في ضيعتنا هذه سماداً بألف وستمائة دينار ما كان في جميعه جعس تأخذه العين.
قال: دعا حجام كناسين.
كانوا يسمون الحائك أخضر العين والأكار أخضر النواجذ.
استحضر عبيد الله بن سليمان الوزير حجاماً غريباً وقال: قد تبرمت بحجامي لكثرة فضوله، فأحضروه شيخاً، فلما أخذ آلته قال عبيد الله: " أعط القوس باريها " فقال: أيها الوزير، ما أول هذا البيت؟ فقال عبيد الله: الله أكبر! هربنا من فضولي ووقعنا فيما هو شر منه، هات أنت، ما أوله؟ فقال الحجام: أنشدنا الرياشي بمكة:
يا باري القوس برياً ليس يحسنه ... أفسدت قوسك أعط القوس باريها
قيل للحجام: قبيس، لأن المسان التي لهم تحمل من جبل أبي قبيس: كان بالبصرة رئيس للكناسين يقال له: أبو إبراهيم، فقال له محمد بن سليمان يوماً: احمل مائة سفينة إلى النخل وخذ ثمنها مع المائة التي كنت حملتها فقال: تلك المائة كنت جعلتها طمعةً للأمير.
قال الأصمعي: شر الناس الدلالون، لأن أول من دلّ إبليس، حيث قال لآدم: " هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " .
وقال غيره: نعم المعين على البيع والابتياع وعلى الألفة والاجتماع الدلالون.
استأجر رجل حمالاً ليحمل قفصاً فيه قوارير على أن يعلّمه ثلاث خصل ينتفع بها، فلما بلغ ثلث الطريق قال: هات الخصلة الأولى؟ فقال: من قال لك إن الجوع خير من الشبع فلا تصدقه، فقال: نعم، فلّما بلغ نصف الطريق قال: هات الثانية؟ فقال: من قال لك: المشي خير من الركوب فلا تصدقّه. قال: نعم، فلما انتهى إلى باب الدار قال: هات الثالثة؟ قال: من قال لك: إنه يوجد حمّال أرخص منك فلا تصدقه. فرمى الحمال بالقفص وقال: من قال لك: بقي في القفص قارورة صحيحة فلا تصدقه.

الباب العشرون
نوادر ابن أبي عتيق
دخل على عائشة - وكانت عمّته - في مرضها الذي ماتت فيه، فقال: كيف أصبحت؟ جعلني الله فداك، قالت: أجدني ذاهبة. قال: فلا إذن.
كانت له جارية، ولها صديق، فكان يجيء كل عشية فيصيح من الباب: اقدحوا لنا ناراً، فتخرج إليه الجارية. فخرجت الجارية مرة إلى البستان، وجاء الرجل على العادة فقال: اقدحوا لنا نارا. فصاح ابن أبي عتيق: يا هذا، قدّاحنا في هذه الليلة في البستان.
قال: بينا هو مرّة على سطحه، وجارية له تعشّيه، إذ مطرت عليه حجارة من فوق السطح، فأشرف فإذا فتىً يرمي بها ويؤذن الجارية بمجيئه. فقال له: عافاك الله. الساعة تعشّيني وتنزل إليك.

وقالت له جاريته يوماً: إن فلاناً القارئ - وكان يُظهر التنسك - قد قطع عليّ الطريق وآذاني ويقول لي: أنا أحبك. فقال لها: فقولي له: وأنا أيضاً أحبك ثم واعديه المنزل، ففعلت، وأدخلته المنزل، وكان قد واعد جماعة من أصحابه؛ ليضحكوا من الرجل. ودخلت الجارية إلى البيت الذي فيه الرجل، فدعاها، فاعتلت عليه، فوثب إليها، فاحتمالها، وضرب بها الأرض. فدخل عليه ابن أبي عتيق وأصحابه، وقد تورّكها، فخجل وقام، وقال: يا فساق، ما تجمّعكم هنا إلا لريبة. فقال ابن أبي عتيق وأصحابه: استر علينا، ستر الله عليك.
تغدّى يوماً عند عبد الله بن جعفر، في عدّة من قريش، وإذا الكريم رثّ الثياب، فقال ابن أبي عتيق: أصلحك الله، ما تُطعمنا إلا في كفارة يمين.
وقع بين حيّين من قريش منازعة، فخرجت عائشة على بغلة، فلقيها ابن أبي عتيق فقال: إلى أين؟ جُعلت فداك. فقالت: أُصلح بين هذين الحيين. قال: والله ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل، فكيف إذا قيل يوم البغل!؟ فانصرفت.
ولما بلغه قول نُصيب:
وُلدت ولم أُخلق من الطير إن بدا ... سنا بارق نحو الحجاز أطير
قال: قل: غاق غاق وطر، أي أنك غراب، لأنه كان أسود.
ولقي ابن أبي عتيق عبد الله بن عمر فقال له: ما تقول في إنسان هجاني، فقال لي:
أذهبت مالك غير مُترك ... في كل مومسة وفي الخمر
ذهب الإله بما تعيش به ... وبقيت وحدك غير ذي وفر؟
فقال: أرى أن تأخذ بالفضل وتصفح. فقال له ابن أبي عتيق: أنا، والله أرى غير ذلك. قال: وما هو؟ قال: أرى أن أنيكه. فقال عبد الله: سبحان الله!! ما تترك الهزل؟ وافترقا، ثم لقيه ابن أبي عتيق بعدما ظن أن ابن عمر قد نسي ذلك، فقال له: أتدري ما فعلت بذلك الإنسان؟ قال: أي إنسان؟ قال الذي أعلمتك أنه هجاني. قال: ما فعلت به؟ قال: كل مملوك لي فهو حر إن لم أكن قد نكته، فأعظم ذلك ابن عمر، واضطرب. فقال له ابن أبي عتيق: امرأتي - والله - هي التي قالت الشعر وهجتني. قال: وامرأته أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله.
كان ابن أبي عتيق يتعشّى، ومعه رجل من الأنصار، فوقع حجر في الدار، ووقع آخر، وثالث. فقال لجاريته: اخرجي فانظري أذنّوا للمغرب؟ فخرجت وجاءت بعد ساعة وقالت: قد أذنّوا وصلّوا. فقال له الرجل الذي كان عنده: أليس قد صلينا قبل أن ندخل؟ قال: بلى، ولكن لو لم أرسلها تسأل عن ذلك لرُجمنا إلى الغداة، أفهمت؟ قال: نعم قد فهمت.
ولما سمع قول عمر بن أبي ربيعة:
من رسولي إلى الثريا فإني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب
ركب بغلته من المدينة يريد مكة، فلما بلغ قيل له: أحرم. قال: إن ذا الحاجة لا يحرم. وجاء حتى دخل على الثريا، فقال: ابن عمّك يقول:
ضقت ذرعاً بهجرك والكتاب ...
ثم ركب بغلته وعاد.
وقال مروان بن الحكم يوماً إني مشغوف ببغلة للحسن بن عليّ - عليهما السلام - فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجة؟ ومروان يومئذ أمير بالمدينة. قال: نعم، قال: إذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش، وأمسك عن ذكر الحسن، فلُمني على ذلك، فلما أخذ القوم مجالسهم أفاض في أوليّة قريش. فقال له مروان: ألا تذكر أوليّة أبي محمد، وله في هذا ما ليس لأحد؟ قال: إنما كنا في ذكر الأشراف، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدّمنا لأبي محمد ماله. فلما خرج ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن - عليه السلام، وتبسّم - ألك حاجة؟ فقال ذكرت البغلة، فنزل الحسن ودفعها إليه.

ولما ولي عثمان بن حيان المُرّيّ المدينة اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار، فقالوا: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والزنا. ففعل، وأجلّهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، فحطّ رحاله بباب سلاّمة الزرقاء، وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. فقال: أو ما تدري ما حدث؟ وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه. قالت: إني أخاف ألاّ نغني. قال: إنه لا بأس عليك. ثم مضى إلى عثمان بن حيّان، فاستأذن عليه وأعلمه أن أجدّ ما أقدمه حب التسليم عليه، ثم قال: إن أفضل ما عملت تحريم الغناء. فقال: إن أهلك أشاروا عليّ بذلك. فقال: إنك قد وُقّفت، ولكني رسول امرأة إليك، تقول: قد كانت هذه صناعتي، فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي عليه السلام. فقال عثمان: إذا أدعها لك. قال: إذن لا يدعك الناس. ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كانت ممن يُترك تركتها. قال: فادع بها. فأمرها ابن أبي عتيق فتقشّفت وأخذت بيدها سبحةً، وصارت إليه، فحدثته عن مآثر آبائه، ففكه لها، فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، فقرأت، فأُعجب بذلك. فقال لها: احدى للأمير. فحّركه حُداؤها. فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها؟ فقال: قل لها فلتقل، فأمرها فغنت:
سددن خصاص الخيم لما دخلنه ... بكل لبان واضح وجبين
فنزل عثمان عن سريره حتى جلس بين يديها، وقال: لا والله، ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال ابن أبي عتيق: يقول الناس: أذن لسلامة في المقام، ومنع غيرها. قال عثمان: قد اذنت لهم جميعا.
وقيل لابن أبي عتيق لما خُصي المخنثون: إن الدلال قد خُصي. فقال: إنا لله، أما والله لئن فُعل ذلك به لقد كان يحسن:
لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دارساً خلقا
ثم استقبل القبلة يُصلّي، فلما كبّر سلّم ثم التفت إلى أصحابه وقال: اللهم كان يُحسن خفيفه، فأما ثقيله فلا، الله أكبر.
وجاء إليه رجل: فقال: جئتك خاطباً موّدتك. قال: فهلاّ سفاحاً فهو ألذ؟ وجلس يوماً مع أبي بكر حزم في مجلس القضاء - وأبو بكر يومئذ على المدينة وعلى قضائها - فخاصمت إليه امرأة متنقبة، لها عين حسنة حوراء، فأقبل أبو بكر على ابن أبي عتيق فقال: ما تقول في أمر هذه المرأة؟ فقال: لها عين مظلومة، إلى أن طالت الخصومة وأزلفتها، فكشفت وجهها، فإذا أنف ضخم قبيح، فقال ابن أبي عتيق: لها أنف ظالمة.
وجلس يوماً يتغدّى، ومعه أولاده، فجعلوا يتناولون اللحم من بين يديه. فقال: يا بني، إن الله أوصى بالوالدين، فقال: " فلا تقل لهما أفّ " والله لأن تقولوا لي: أفّ ثلاثين مرةً أيسر عليّ من أخذكم اللحم من بين يديّ.
وكان يخاصم القاسم بن محمد في صدقة أبي بكر ليليها معه، فوكّل القاسم عبد الرحمن ابنه بخصومته، وكانت دار يزيد بن عبد الملك تُبنى بالمدينة بالّلعابين الدفوف، والزمر، والصنج. فتقدّم ابن أبي عتيق يوماً من ذاك إلى القاضي، وهو في رحبة القضاء، فجعل عبد الرحمن يُخاصمه ويحتج عليه، وابن أبي عتيق نفسه وعينه في ذلك اللعب، فعلاه عبد الرحمن يومئذ. فقيل لابن أبي عتيق: ما كانت قصّتك؟ ما قُمت اليوم له، ولا قعدت، ولا احتججت عليه؟ فقال: " ألوى بحُجّتي الزامر " .
وكان يوماً مع عروة بن الزبير، وهم يجمع، إذ ترنم ابن أبي عتيق بقول الشاعر:
ألم ترها لا يبعد الله دارهاإذا ما مشت في مشيها كيف تصنع؟
فقال عروة: سبحان الله!! أفي هذا الموضع وعلى هذه الحال؟ فقال: أما والله لو سمعته من جارية حسنة الوجه والخلق ما أدركت ذكائك! ومرّ بصبيان يلعبون، فقال: يا أصحابي، ما ذقنا عيشاً منذ فارقناكم.
اشتاق عبد الله بن عروة إلى حديث ابن أبي عتيق، فبعث إليه يسأله أن يجيئه. فقال للرسول: قل له: موعدك الحوض. فقال عبد الله بن عروة: هذا موعد مغمّس، ارجع إليه فقل له: أيّ حوض؟ فقال: حوض القيامة. فرجع الرسول وأخبره. فضجر عبد الله وقال: قل له: يا سفيه، أتعدني حوضاً لا ترده؟

الباب الحادي والعشرون
نوادر اللصوص ومن سرق له شيء
سرق لرجل دراهم. فقيل له: هي في ميزانك. قال: مع الميزان سرقت.

وسرق خرج آخر وفيه ثيابه وأسبابه، فقيل له: وجب أن تقرأ عليه سورة يس، وتعوّذه بها. فقال: كان جامع القرآن كله في الخرج.
أُخذ طرّار كان قطع طرفاً من مركب لنصر بن هارون النصراني وزير عضد الدولة. فقيل له: تجسر على هذا في مثل هذه الأيام، ومع سيّد الملك وهيبة وزيره؟ فقال: إن الله تعالى هو أجلّ من الملك، وأمره أعلى من أمره، ولست أترك ما أنزل الله في القرآن لرجل كافر نصراني، ولا خوفاً من الملك، فقالوا: وما الذي أنزل الله في القرآن بما يرخص ذلك؟ قال: قوله تعالى: " ليقطع طرفاً من الذين كفروا " .
لقي اللصوص رجلاً، فلما أرادوا نزع ثيابه قال لهم: لا تأخذوا ثيابي؛ فإني أبعث إليكم بثمنها. فقال كبيرهم: سبحان الله!! ما أقبح قطع طريق بنسيئة.
كان بعض اللصوص لا يسرق إلا الحمير، فقيل له في ذلك. فقال: قد روي أنه إذا كان يوم القيامة أحيا الله الناس والبهائم كلها فأنا أسرق الحمير حتى إذا جاءني أربابها يوم القيامة وطالبوني بها قلت: هوذا حمارك خذه وانصرف.
أخذ قوم لصّاً ومعه كارة من ثياب قد سرقها، فجهدوا به أن يخلّي عنها فلم يفعل، وجعل يقول: أنا تائب على أيديكم. قالوا: فدع الثياب. فقال: يا غُفلاً، فبأي شيء أستعين على التوبة؟ دخل لص على رجل ليس في بيته إلا قطعة باريّة، وهو نائم عليها، فلم يزل اللص يطوف في البيت، ويطلب شيئاً، وصاحب البيت ينظر إليه، فلما طال عليه ضحك وقال: كوّر - فديتك - كوّر!! وسمع اللص ضحكه، فقال: نعم، اضحك يا حسن المروّة اضحك.!! ودخل اللصوص على آخر ليس في بيته شيء، وجعلوا يطلبون ويفتشون، فانتبه الرجل، ورآهم، فقال: يا فتيان، هذا الذي تطلبونه بالليل، قد طلبناه في النهار فلم نجده.
قدم رجل من سفر، فحكى أن لصين خرجا عليهم فقطعا الطريق، فقيل له: وكم كنتم؟ قال: كنّا ستين رجلاً، قال: فوُبّخ، فقال: اسكتوا، إذا أحاط بنا واحد، وسلبنا الآخر، كيف كنا نصنع؟.
سرق مصحف لمالك بن دينار، فكان إذا وعظ بعد ذلك فبكوا يقول بصوت شج: كلنا نبكي، فالمصحف من سرقه؟ سُرق لرجل عنز، فقال: ما أخذها إلا من أمه زانية، فلما يئس منها قال: اللهم أنت أعطيت وأنت أخذت.
سرق لص ثياب رجل، فقال الرجل: هذا يوم مشوم، فقال اللص: ليس على كل أحد.
دخل لص دار قوم، فلم يجد فيها شيئاً إلا دواة فكتب على الحائط: عزّ عليّ فقركم وغناي.
سُرق لبعضهم دنانير، واتّهم بذلك ابناً له، فجعل الناس يدخلون إليه، ويسألونه، فقال له بعضهم: الخلف عند الله وهو يرده. فقال الرجل: بل الدنانير عند الخلف وليس يردّها.
دخل لص على رجل، فلم يجد عنده شيئاً، وجعل يطوف، وصاحب البيت يضحك، ويقول: كوّر - فديتك - كوّر. فقال اللص: اضحك يا حسن المروّة اضحك.
سُرق لبعضهم بغل، فقال بعض إخوانه: الذنب لك لإهمالك أمرك، فقال الآخر: الذنب لغلامك لقلة تفقده لمنزلك، وقال الآخر: الذنب لسائسك حين غاب عن إصطبلك. فقال صاحب البغل: فاللص إذا أبرؤنا من الذنب! سرق رجل حماراً، ودفعه إلى آخر ليبيعه، فسُرق منه، فعاد إلى الأول فقال له: بعت الحمار؟ قال: نعم. قال بكم. قال: برأس المال.
دخل على بعضهم اللصوص، فأخذوا كل شيء كان في منزله، فلما مضوا أخذ صاحب المنزل الباريّة ومضى في أثرهم. فقالوا له: ما تصنع معنا؟ قال: نطلب بيتاً نتحوّل إليه بالكلّية.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11