كتاب : نثر الدر
المؤلف : الآبي

وقال يزيدُ بن المهلب: ما يسرُّني أني كفيت أمَر الدُّنيا. قيل مهاجرين: ولم؟ قال: أكره عادة العَجْز.
وقال المهلبُ لبنية: إذا وليتُم فلينُوا للمُحْسن، واشتدُّوا على المُريب، فإن الناسَ للسُّلطان أهيبُ منهم للقرآن.
وكان يقول: أدْنى أخلاق الشريف كتمانُ السِّر، وأعْلى أخلاقه نسيّانُ ما أسر إليه.
ولما اسْتخلف ابنه المغيرة على حَرْب الخوارج، وعاد هُو إلى مُصْعب بن الزبير جمعَ الناسَ فقال لهم: إنِّي قد استخلفتُ عليكم المغيرة، وهُو أبو صغيركم رقةً ورحمةً، وابنُ كبيركم طاعة وبراً وتبجيلا، وأخُو مثله مواساة ومناصحة. فلتحُسن له طاعتُكم، ولْيِلن له جانبكُم، فوالله ما أردتُ صواباً قطُّ إلى سَبقني إليه.
وكان الحجاجُ كتب إليه وهو في وَجْه الخوارج: أما بعدُ فإنه بلغني أنك قد أقبلت عَلى جبَاية الخراج، وتركت قتال العدُوِّ. وإني ولَّيْتُك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيمٍ المجاشعي، وعباد بن حصَين الحَبطي، واخترتُك وأنت من أهل عمان، ثم رجل من الأزد. فالْقهُم يوم كذا في مكان كذا وإلا أشرعتُ إليك صَدْر الرماح فشاورَ بنيهِ، فقالوا: إنه أميرٌ فلا تغْلْظ عليه في الجواب.
فأجابه المهلبُ: وردَ علىَّ كتابُك، تزعُم أني أقبلتُ على جباية الخراج، وتركتُ قتال العدُو. ومَن عجز عن جبايةِ الخراج فهُو عَن قتال العدوِّ أعجَزُ، وزعمتَ أنك وليتني، وأنت ترى مكان عَبدِ الله بن حكيم، وعَبادِ بن حصين ولوْ وليْتهُما لكانا مُسْتحقَّيْن لذلك في فضلهما، وغنائهما، وبطشِهما. وإنك اخترتني - وأنا رجلٌ من الأزد. ولعَمَري إن شراً من الأزد لقبيلةٌ تنازعها ثلاثُ قبائل لم تستقِر في واحدة منهُن. وزعمت أني إن لم ألقهُم في يوم كذا أشرعْت إلى صَدْر الرُّمْح. فلو فعلت لَقلَبْتُ إليك ظَهْرْ المِجّنِّ والسلام.
ووجه الحجاجُ إليه الجراحَ بن عَبْد الله يستبطئُه في مناجَزة القوم. وكتب إليه: أما بعد. فإنك جَبيتَ الخراج بالعلل، وتحصنتَ بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعزُّ ناصراً، وأكثر عَددا. وما أظنُّ بك مع هذا معصيةً ولا جبْناً، ولكنك اتخذتهم أُكْلاً. وكان بقاؤهم أيْسرَ عليك من قتالهم. فناجزْهم، وإلا أنْكرتني. والسلامُ.
فقال المهلب للجراح: يا أبا عقبة. والله مَا تركتُ حيلةً إِلاَّ احتلْتُها، ولا مكيدة إلا أعُملتُها. وما العجبُ من إبطاء النصر، وتراخي الظفر، ولكن العجب أن يكون الرأيُ لمنْ يملُكه دون مَن يبصرهُ.
ثم ناهضهم ثلاثة أيام يُغاديهم القتال، ولا يزالُون كذلك إلى العصر، حتى قال الجراح: قد أعذرت وينصرفُ أصحابهُ. وبهم قَرْح، وبالخوارج قَرْح، وقتل.
وكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتابُك: تستبطئُني في لقاء القوم. على أنك لا تُظنُّ بي معصيةً ولا جبْناً. وقد عاتبْتني مُعاتبة الجَبان، وواعدتني وعيدَ العاصي. فسل الجراح. والسلام.
وكتب إليه الحجاجُ: أما بعد. فإنك تتراخى عن الحرب حتى يأْتيك رُسلي فيرجعوا بُعذْرك، وذاك أنك تُمسك حتى تبرأ الجِرَاحُ، وتُنَسى القتْلى، ويجُمَّ الناسُ، تلْقاهم فتحتملَ منهم مثْلَ ما يحتملون منك من وْحشة القتل، وألمِ الجراح. ولو كُنت تلْقاهُم بذلك الجِد لكان الداءُ قدْ حُسِم، والقرنُ قد قُصِم. ولعَمْرِي ما أنْت والقومُ سواء، لأن مِنْ ورائك رجِالاً. وأمامك أموالاً. وليس للقوم إلا ما معهم،؟ ولا يُدرَكُ الوجيفُ. بالدبيبِ ولا الظفَر بالتعذير.
فكتب المهلب إليه: أما بعدُ. فإنِّي لم أعط رسلك على قول الحقِّ أجراً، ولم أحتج منهم مع الشاهدة إلى تلقين ذكرت أني أجُمُّ القوم، ولا بد من راحة يستريح فيها الغالب، ويحتال فيها المغلوب، وذكرتَ أن في الجمام ما يُنسي القتلى، ويْبرِئُ الجراح. وهيهات أنْ يُنَسى ما بيننا وبينهم تأْتي ذلك قتلى لم تُجَن، وقروح لم تُتَقرف. ونحن والقوم على حَالة وهم يرقبُون منا حَالات، وإن طمعُوا حاربوا، وإن مَلُّوا وقفوا، وإن يئُسوا انصرَفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذا وَقفُوا، ونطلب إذا هربوا، فإنْ تركتني والرأي كان القِرن مفصُوما، والداءُ - بإذن الله - محسُوماً، وإن أعجَلتني لم أطعك، وَلم أعص، وجعلت وجهي إلى بابك وأنا أعوذ بالله من سَخط الله عزّ وجل ومَقت النّاس! وخطبَ يزيدُ بن المهلب بواسط!

فقال: يا أهل العراق، يا أصحَاب السبق والسِّباق، ومكارم الأخلاق.
إن أهل الشام في أفوَاههم لقمةٌ دَسمةٌ قد زيِّنت لها الأشداق، وقامُوا لها على ساق، وهم غير تاركيها لكم بالمراءِ والجدال، فالْبُسوا لهم جُلودَا النمر.
وقيل للمهلب في بعض حروبه: لو نمت. فقال: إن صَاحب الحرب إذا نام نامَ جَدُّه.
وقال كفى بالمرء مسألةً أن يغدُوَ عليك ويرُوح.
وقال له رجل: إن لي حَاجةً لا ترزؤك في مَالك، ولا تنكُدُك في نفسك قال: والله لا قَضَيتْها. قال: ولمَ؟ قال: لأن مثلي لا يسال مثلها.
وقال: ما السيف الصارم في كف الشجاع بأعز من الصِّدق؟ ومر بقوم من ربيعة في مجلس لهم، فقال رجلٌ من القوم: هذا سَيِّدُ الأزد، قيمتُه خمسمائة درهم. فسمعه المهلب، فأرسل إليه بخمسمائة درهم. قال: دُونك يا ابنُ، قيمةَ عمِّك، ولو كنت زدت فيها لزدتك.

الباب الخامس
كلام أبي مُسلم
قيل له: ما كان سبَب خروج الدولة عن بني أمية؟ فقال: ذلك لأنهم أبعدُوا أولياءهم ثقةً بهم، وأدَنوْا أعداءَهم تأَلُّفاً لهم، فلم يصر العدوُّ بالدنُّو صَديقاً وصار الصديق بالبعاد عدُوّاً.
وقيل له في حداثته: إنا نراك تأْرق كثيراً، ولا تنام كأَنك مُوَكلٌ برَعي الكوَاكب، وأو مُتوقِّعٌ للوَحي من المساءِ. فقال: والله ما هو ذاك، ولكن لي رأيٌ جوالٌ، وغريزةٌ تامةٌ، وذهنٌ صاف، وهمة بعيدةً ونفسٌ تَتُوقُ إلى معالي الأمور مع عيش كعيش الهمَج والرِّعاع، وحَالٍ مُتناهية من الأتَضاع، وإنِّي لأَرى بعض هذه مصيبةً لا تجبرُ بسهر، ولا تتلافى بأرق.
قيل له: فما الذي يُبْرِدُ عَليك، ويشفي أجَاج صدرك؟ قال: الظفرُ بالمُلك.
وقيل له: فاطلب. قال: إن المُلك لا يطلب إلا بُركوب الأهوال. قيل: فاركب الأَهوال: قال: هيهات. العقل مانعٌ من ركوب الأهوال. قيل. فمَا تصنع وأنت تُبْلَى حسرةً وتذوب كمداً؟. قال: سأجعَل من عَقلي بعضه جهلاً، وأحاول به خطراً، لأنال بالجهل مَالا يُنال إلا به. وأدَبِّر بالعقل مالا يحفَظ. إلا بقوته، وأعيش عيشاً يُبين مكان حياتي فيه من مكان مَوتي عليه، فإنّ الخمول أخُوا العَدم والشُّهرةَ أبو الكون.
قال رجلٌ من أهل العراق: أوصاني أبو مُسلم وآنَسنى، ثم سألني، فقال: أيُّ الأعراض أدنى؟ فقلت: عِرْض بخيل. قال: كلا. رُبَ بُخْل لم يَكْلَم عرضاً. قلت: فأيها أصلحَ الله الأميرَ؟ قال: عرضٌ لمَ يَرتع فيه حربٌ ولا دمٌ.
قال أبو زيد: سمعت رؤبة يقول: ما رأيت أروَى لأشعارنا أبي مُسلم من رجل يرتضخ لُكْنةً. قال أبو زيد: وإذا قال رؤبة لرجل يرتضخ لكنة فهو من أفصح الناس.
وقال أبو سلم: أشد من يقاتلكم مُمتعضٌ من ذلةٍ، أو محام على ديانة أو غيورٌ على حرمة.
كان فاذوسبان. من كبار أهل نيسابور، وكانت له عند أبي مسلم يدٌ في اجتيازه إلى خُراسان، فكان يرعَى له ذلك. فقال له يوماً الفاذُوسبان: أيُّها السَّلاَّرُ - وبذلك كان يخاطَبُ أبو مُسلم قبل قتله ابنَ الكِرماني - : هل مال قلبك إلى أحد بخراسان؟ فقال: كنت فِي ضيافة رجل يقال له فلانٌ السمرقندي، فقامت بين يدي جاريةٌ له توضيني فاستحليتُها قال: فانفذ الفاذوسبان إلى سمرقند، واحتال في تحصيل الجارية، ثم أضاف أبا مسلم، وأمرَها بأَن توضئه، فلما نظر إلّيها عرفها فوهبها له الفاذوسبان وكان لا يُحجَب عن أبي مسلم في أي وقت جاءه، فدخل إليه يوماً فوجده نائماً في فراشه، فانصرف، فأمر أبو مسلم برده، فجاءَ حتى وقف عليه رآه مضاجعاً تلك الجارية وهما في ثيابهما وبينهما سيفٌ مْسلولٌ. فقال: يا فاذو سبان، إنما أحببت أن تقف على صورة منامي، لتعلم أن من قام بمثل ما قمت به لا يفرغ إلى مُباشرة النِّساء. وأنشد:
قومٌ إذا حاربوا شدُّوا مآزرهم ... دون النِّساء ولو باتت بأطهار.
وكتب المنصورُ إليه: أحص خزائن عبد الله عليَّ. فقال أبوْ مسلم لتُعِطينَّ: قُل له: يا بن سلامة نحنُ أمناءُ على الدِّماء، خونةٌ على الأموال.
كتب عبد الحميد عن مروان كتاباً إلى أبي مسلم: صاحب الدولة. وقال لمروان: إني قد كتبتُ كتاباً إن نجع فذاك وإلا فالهلاكُ.

وكان من كبر حجمه يُحمل على جمل، وكان نفث فيه خَراشِي صدره، وضمَّنه غرائب عجَره وبُجَره. وقال: إني ضامنٌ أنّه متى قرأ الرسولُ - على المُستكفين قولَ أبي مسلم، ذلك بمشهد منه - أنهم يختلفون وإذا اختلفوا كَلَّ حَدُّهم، وذلك جدُّهم.
فلما ورد الكتاب على أبي مسلم دعا بنار فطرحه فيها إلاًّ قَدْرَ ذِراع فإنه كتب عليه:
محا السيفُ أسطار البلاغة وانتحى ... عليك لُيوث الغاب من كل جانب
فإن تُقْدِمُوا نُعمل سُيوفاً شحيذة ... يهون عليها العتبَ من كلِّ عاتب.
ورَدَّه. فحينئذ وقع اليأْسُ من مُعالجته.
ولما بلغهُ خبرُ وفاة السفاح في طريق مكة عائداً. وكان قد تقدم المنصورُ كتب إليه: لأبي جعفر من أبي مسلم. أما بعد: فإن أبا العباس قد هلك، وإن تحتج إلىّ تجدْني بحيثُ تُحب. فلما وبَّخهُ أبْو جعفر عند قتله قال وتُكاتُبني - وأنا الخليفةُ - لأبي جعفر من أبي مسلم.
وشجر بين أبي مسلم وصاحب مَرْو كلامٌ أربى فيه صاحب مرو عليه. فاحتمله أبو مسلم. فندم صاحب مرو، ووجع إلى أبي مسلم معتذراً.
فقال له أبو مسلم: مه؟؟ لسانٌ سبق، وهمٌ أخطأ، والغشب شيطانٌ وأنا جَرًّأتك علي باحتمالك، فإن كنت للذنب معتمداً فقد شاركتك فيه وإن كنتَ مغلوباً، بالعفو يسعُك.
فقال له صاحب مرو: وعِظَمُ ذنبي يمنع قلبي من الهدوء. فقال أبو مسلم يا عجباً، أقابلك بإحسان أنت مُسيء، ثم أقابلك بإساءة وأنت محسنٌ وقال صاحب مرو: الآن وثِقْت بك.
وكتب إلى السفاح: أرِحُ نفسك من كَبْشَي العراق: سُليمِ بن حبيب بن المهلب، وعبد الرحمن بن يزيد بن المهلب، فقتلْهما جميعاً.
وكان أولَ من أظهر السواد بالبصرة عبدُ الرحمن بن يزيد، وجعل يقول حين دعا إلى بني هاشم: أما والله إني لأفعل هذا، وأعلمُ أني من ذبائحهم.
قيل لأني مسلم: من أشجع؟ قال: كلُّ قوم في إقبال دولتهم.

الباب السادس
كلام جماعة من الأُمراء
خطب يوسف بن عُمر، فقال: اتقوا الله عباد الله. فكم من مُؤمِّل أملاً لا يبلُغُه، وجامعٍ مالا يأْكله، ومانعٍ ما سوف يترُكه، ولعله من باطلٍ جمَعَهُ، ومن حقٍّ منعه. أصابه حراما وورثه عدُوا، واحتمل إصره، وباءَ بوزره، وورَد عَلَى ربه آسفاً لاهفاً خسر الدُّنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسْران المبينُ.
صعد وردُ بن حاتم المنبر، فلما رآهم قد فتحُوا أسماعَهم، وشَقُّوا أبْصارهم نحوه قال: نكِّسوا رؤوْسكم، وغُضُّوا أبْصاركم، فإن أوَّل مركبٍ صعبٌ، وإذا يسَّر الله فتْحَ قُفْلِ تَيسَر.
كان يوسفُ بنُ عُمر يقول: كان الحجاج الدُّخان وأنا اللهب؟ قام خالدُ بنُ عبد الله على المنبر بواسط خطيباً. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيُّها الناس تنافُسوا في المكارم، وسارعُوا إلى المغانم، واشتُروا الحمد بالجُود، ولا تكتسبُوا بالمَطْل ذماً ولا تعتدُّوا بالمعروف ما لم تُعجِّلُوه، ومهما يكُن لأحدكم عند أحد نعمةٌ فلم يبلُغ شكرَها فالله أحسنُ لها جزاءً وأجزلُ عليها عطاءً. واعلُموا أن حوائج النّاس إليكُم نعمَ من الله عليكُم، فلا تملُّوا النِّعم فتتحولَ نقماً. وأعلمُوا أن أفضل المال ما أكسبَ أجراً، وورَّث ذكراً، ولو رأيتُم المعروف رجلاً رأيتُموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين ولو رأيتم البخل رجلاً رأيتموه مُشوَّهاً قبيحاً تنفر عنهُ القُلوبُ وتغضِي عنهُ الأبصارُ. أيها الناسُ: إن أجود الناس من أعطى من لا يرجُوهُ، وأعظمَ الناس عفواً من عفا من قُدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعهُ ومن لم يطب حرثُه لم يَزْكُ نبتُه. والأصولُ عن مغارسها تنمُو، وبأُصولها تسمُو. أقولُ قولي هذا وأستغفر الله لي ولكُم.
أراد رجلٌ أني مدح رجلاً عند خالد بن عبد الله، فقال: والله لقد دخلتُ إليه فرأيته أهدى الناس داراً وفَرْشاً وآلةً. فقال خالدٌ: لقد ذممتُه من حيث أردت مدحهُ هذا والله حال من لم تدع فيه شهوتُهُ للمعروف فضلاً.

حدث بعضُهم قال: لما وَلي أبُو بكر بنُ عبد الله المدينة وطال مُكُثهُ عليها كان يبلُغُهُ عن قوم من أهلها تناولٌ لأصحاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وإسعافٌ من آخرين لهُم على ذلك، فأمر أهل البُيوتات، ووجوه الناس في يوم جُمعة أن يقرُبُوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجُمعة قال: أيُّها الناسُ: إنِّي قائلٌ قولاً، فمن وعاهُ وأدأه فعلى الله جزاؤُه ومن لم يعه فلا يَعْدَمَنَّ ذماً. مهما قصرتُم عنْهُ من تفْضِيلة فلن تعجِزُوا عن تحصيلهِ، فأرعُوه أبصَاركُم، وأوعُوهُ أسمَاعَكُم، واشْعِرُوه قُلُوبَكُم، فالموعِظةُ حَيَاةٌ والمؤمنُون إخُوةٌ. وعَلى الله قصدُ السبيل، ولو شاءَ لهداكُم أجمعين.
فأْتوا الهدّي تهتدوا، واجتنبوا الغي ترشُدوا وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. والله جل ثناؤه. وتقدست أسماؤه أمَرَكم بالجماعة، ورضيَها لكم، ونهاكم عن الفرقة، وسخطها منكم " اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحَبل الله جميعاً لا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " . جعلنا الله وإياكم ممن تتبع رضوانه، وتجنبَ سخطه، فإنما نحن به وله.
إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدِّين، واختاره على العالمين، واختار له أصحاباً على الحقِّ، ووزراءَ دون الْخلق، اختصم به، وانتخبهم له، فصدقوه، ونصروه، وعَزروه، ووَقروه، فلم يُقدِموا إلا بأَمره، ولم يُحْجِموا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءَه من بعده، فوصفهم فأحسَن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال وقوله الحقُّ: " محمدٌ رسول الله والذين معه أشداءُ على الكفاء رُحَمَاء بينهم تراهم رُكَعاً سُجّداً يَبْتغُونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً سِيماهم في وجوههم من اثر السُّجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرجَ شطأه فآزره فاستغلظ. فاستوى على سوقه يعجب الزُّراع ليغيظ بهم الكفار وعدّ الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةٌ وأجراً عظيماً.
فمن غاظوه فقد كفرَ، وخاب، وفجر، وخسر، وقال عز وجل: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً الله ورسوله أولئك هم الصادقون. والذي تبوءُوا الدار والإيمان من قبلهم يحبُّون مَن هاجرَ إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصَاصَةٌ ومن يوق شح نفسه فأُولئك هم المفلحون. والذي جاءُوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعَل في قلوبنا إلاّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤُوفٌ رحيم " .
فمن خالف شريطة الله عليه لهم، وأمْرَه إياه فيهم، فلا حق له في الفيء، ولا سَهمَ له في الإسلام في آيٍ كثيرة من القرآن. فَمَرقت مارقةٌ من الدِّين وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عِضين، وتشعبوا أحزاباً أشابات، وأوشابا، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءَه عليهم، وآذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم وآله وسلم - فهيم، فخابوا، وخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. " أفمن كان على بينة من ربه كمن زيِّن له سوءُ عَمله واتبعوا أهواءَهم " .

مالي أرى عيونا خُزْرا، ورقاباَ صُعْرا، وبطونا بُجْرا، وشجى لا يسيغه الماء، وداءً لا يشرب فيه الدواء. " أفنضرب عنك الذكرَ صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين " . كلا والله، بل هو الهناءُ، والطلاء حتى يظهرَ العذر، ويبوح الشرُّ، ويَضِحَ الغيْب، ويُسَوَّسَ الجُنُب، فإنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى. ويحكم!! إني لست أتاوياً أعَلم، ولا بَدَوياً أفهم. قد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطناً، وأظهرا، فعرفت أنحاءكم، وأهواءَكم، وعلمت أن قوماً أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسروُّا الكفرَ في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وولَّدْوا الروايات فيهم، وضربوا الاثنين. ووجَدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعواناً يأْذنون لهم، ويُصْغُون إليهم. مهلاً مهلاً. قبل وقوع القوارع وحلول الروائع، هذا لهذا، ومع ذلك فلست أعتنش آئباً، ولا أؤنب تائباً. عفا الله عما سلف وَمن عادَ فينتقم الله منه والله عزيزٌ ذو انتقام: فأسرُّوا خيراً، وأظهروه، وأجهَروا به، وأخلصوا، فطالما مَشيْتُم القهقرى ناكصين. وليعلمْ مَن أدبَر وأسَرَّ أنها موعظةٌ بين يَدَي نقمةٍ.
ولست أدعوكم إلى هوى يتبع، ولا إلى رأي يبتدع. إني أدعوكم إلى الطريقة المُثلى التي فيها خير الآخرة والأُولى.
فمن أجاب فإلى رُشْده، ومَن عَمِىَ فعن قصده. فَهلُم إلى الشرائع لا إلى الخدَائع، ولا تَوَلًّوا عَن سَبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ، بئسَ للظالمين بدلاً. وإياكم وبُنَيَّات الطريق، فعندها الترنيق، والرهق وعليكم بالجادة فهي أسدُّ وأورد، ودَعُوا الأماني فقد أردَتْ من كان قبلكم. وليس للإنسان إلا ما سَعى، ولله الآخرة والأولى و " لا تفتُروا على الله كذباً فُيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " " ربنا لا تزع قلوبَنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لُدنك رحمةً إنك أنت الوهابُ " قالوا: إن قتيبة بن مُسلم قال لما قدم خراسَان: مَن كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فليَنبذه، وإن كان في فيه فليلفظه، وإن كان في صَدره فليَنفثه. فعجب الناس من حسن ما فصًّل وقسَّم.
وقال قتيبة: إن الحريصَ يستعجل الذِّلة قبل إدراك البُغية.
أهدى عبيدُ الله بن السّدي إلى عبد الله بن طاهر لما وَلي مصرَ - مائة وصيف، مع كلِّ وصيف ألف دينار، ووجهَ بذلك ليلاً. فرده، وبَعَثَ إليه: لو قبلت هديتك ليلاً لقبلتها نهاراً وما " أتاني الله خيرٌ مما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرَحُون " قال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي عبد الله ابنك. قال: عن مدَحتُه هجّنتُه، وإن هجوتُه ظلمتُه. ولدَ الناسُ ابناً، وولدت ابناً يُحِسن ما أحسن ولا أحسن ما يحسن.
وليّ عبدُ الله بن طاهر رجلاً بريدَ ما وراء النهر، فكتب إليه: أنَّ ها هنا قوماً من العرب قد تعصبُوا وتأشبوا، أظنُّ أمَرهم سيرتقي إلى ما هو أغلظ. منه.
فكتب إليه عبدُ الله: إنما بُعِثْتَ للأخبار السابقة والحوادث الظاهرَة لا للكهانة والتظنَّي.
قال عبيدُ الله بن عبد الله بن طاهر: لا ينقضي عَجبي من ثلاثة: إفلات عبّاس بن عمرو من القرمطيِّ، وهُلْك أصحابه، ووقوع الصغار، وإفلات أصحابه. وولاية ابني الجسريْن وأنا متعظل.
وقال محمدُ بن عبد الله بن طاهر لولده: عِفُّوا تشرُفوا، واعشقوا تَظْرُفوا وقال عُبيدُ الله بن عبد الله في علته: لم يبق على من بأْس الزمان إلا العلة والخَلة وأشدهما على أهونهما على الناس. ولأنَّ ألمَ جسمي بالأوجاع أهون علي من ألم قلبي للحقِّ المُضاع.
جرى ذكرُ رجل في مجلس سَلم بن قتيبة، فنال منه بعضهم، فأقبل سَلم فقال: يا هذا، أوحَتْستَنا من نفسك، وأيأَستنا من مودتك، ودَللْتَنا على عورتك.
قال بعضهم: كنت عند يزيد بن حاتم بإفريقية، وكنت به خاصاً فعرض عليه تاجرٌ أدراعاً، فأكثر تقليبها، ومزاولة صاحبها. فقلت له: أصلح الله الأميرَ. فعلامَ تلوم السُّوق؟ فقال: ويحَك!! إين لست أشتري أدراعاً إنما أشتري أعماراً.
قال المأمون لطاهر بن الحُسَين: أشر علي بإنسان يكفيني أمرَ مصرَ والشّام. فقال له طاهرٌ: قد أصبته. قال: من هو؟ قال: عبدُ الله ابني، وخادُمك، وعَبدُك. قال كيف شجاعته؟ قال: معه ما هو خيرٌ من ذلك قال له المأْمون: وما هو؟ قال: الحزم.
قال: فيكف سخاؤه؟ قال: معه ما هو خير من ذلك. قال: وما هو؟

قال: التنزُّه وخُلْفُ النفس.
قال: فولاه فَعَفَّ عن إصابة خمسة آلاف ألف دينار.
وَهب المأمون لطاهر الهني والمري - وهما نهران بقرب الرقة - فقال: يا أمير المؤمنين: كفى بالمرء شرَهاً أن يأخذ كل ما أعطي. ما هما يا أمير المؤمنين من ضياع السُّوقة، ما يصلحان إلا لخليفة أو وليّ عهد. فلم يقبلهما.
كتب الحجاجُ إلى قتيبة بن مُسلم: أني قد طلقت أم خالد بنت قطن الهلالية عن غير ريبة، ولا سوءٍ، فتزوَّجْها.
فكتب إليه قتيبة: إنه ليس كلُّ مَطالع الأمير أحِبُّ أن أطلع.
فقال الحجاج: ويَل أمِّ قتيبة. وأعجبه ذلك.
وكان خالدُ بن عبد الله القسري مال عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وتنقّصه على المنابر. وذُكر أنه اتخذ طستاً في المسجد بالكوفة ميضأةُ، وخَرق قناةً من الفرات إليها. ثم أخذ بيد أسقف النصارى يمشي في مسجد علي حتى وقف على الطست. ثم قال للأسقف: ادع فيها بالبرَكة. فوالله لدُعُاؤك عندي أرجى من دُعاء علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه وسلامُه على علي، وغضبُه على خالد.
وقدم عليه محمدُ بن عبد الله بن عمرو عثمان يَسْتمْنِحُه، فلم يفعل بما يُحب. فقال: أما المنافع فلهذين الهاشميَّين. يعني داودَ بن علي بن عبد الله بن العباس، وزيدَ بن علي عليه السلام.
وأما نحن فليس لنا إلا شتمُةُ علياً على المنبر. فبلغ ذلك خالداً فقال: إن أحب تناولنا له عُثمان بشيء. وكان لعنهُ الله يلعن على المنابر عَلياً - عليه السلام - فيقول: لعن الله لاعن عليِّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، وابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وزوج ابنته، وأبا الحسن والحُسين، ثم يُقبِل على الناس فيقولك أكَنَيْتُ.
وبنى خالدٌ بِيعةً لأمِّه - وكانت نصرانيةً فاستعفاه المسلمون منها.
فقال: لعن الله دينهم إن كان شراً من دينكم.
قال المأمون لطاهر: يا أبا الطيب صف لي أخلاق المخلُوع.
قال: كان يا أمير المؤمنين واسع الطرَب، وضيِّق الأدَب، يُبيح لنفسه ما تعافهُ هِمَمُ ذوي الأقدار. قال: كيف كانت حرُوبُه؟ قال: كان يجمع الكتائب بالتبذير، ويفضُّها عنه بسوء التّدبير. قال: فكيف كنتُم له؟ قال: كنا أُسْداً تبيتُ، وفي أشداقها حُلوقُ الناكثين، وتحت صدورها صدورُ المارقين.
قال: إمَا أنه أولُ مَن يأْخذُ اللهُ بدَمه يومَ القيامة ثلاثةٌ: لستُ أنا ولا أنت رابعَهم، وخامسهُم: الفضل بنُ الربيع، وبشر بن المُعتمر، والسندي بن شاهك. واللهُ ثأَر أخي، وعندهم دَمُه.
مرض عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فركب إليه الوزيرُ، فلما انصرف عنه كتب إليه عبيدُ الله: ما أعرفُ أحداً جزى العلة خيراً غيري، فإن جزيتُها الخيرَ، وشكرتُ نعمتها علي، إذ كانت إلى رُؤيتك مؤديةً. فأنا كالأعرابي الذي جزى يومَ الروع خيراً فقال: جَزى اللهُ يوم الروع خيراً فإنهُ أرانا على علاته لُقى ثابت وكتب المأْمونُ إلى طاهر يسألهُ عن استقلال ابنه عبد الله.
فكتب طاهرٌ إليه: عبدُ الله - يا أميرَ المؤمنين - ابني. وإن مدحتُه ذممتُه وإن ذممتُه ظلمتُه. ولنعمم الخلَفُ هو لأمير المؤمنين من عَبده.
فكتب إليه المأْمونُ: ما رضيتَ أنْ قرَّظتهُ في حياتك حتى أوصَيتَنا به بعدَ وفاتك.
قال طاهرٌ: طولُ العمر ثائر مولاه لأنه لا يُخْليك من رؤية محَبة في عدوَّ.
قال الكبيُّ: قال لي خالدُ بنُ عبد الله بن يزيد القسري: ما يُعدُّ السُّؤدد.
فيكُم؟ فقلتُ: أما في الجاهلية فالرِّياسةُ، وأما في الإسلام فالولاية، وخيرُ من هذا وذاك التقوى.
فقال لي: صدقت.
كان أبي يقولُ: لم يُدرك الأولُ الشرف إلا بالفعل، ولا يُدركُ الأخِرُ إلا بما أدرك به الأوِّلُ.
قال: فقلت: صدق أبُوك ساد الأحنفُ بحمله، وساد مالكُ بنُ مِسمع بمحبة العشيرة له، وساد قُتيبة بدهائه، وسادَ المهلب بجميع هذه الخِلال.
فقال لي: صدقت. كان أبي يقولُ: خيرُ الناس للناس خيرُهُم لنفسه إنه إذا كان كذلك أبقى على نفسه من السرَق لئلا يُقطع، ومِن القتْل لئلا يُقادَ، ومِن الزِّنى لئلا يُحد، فسَلمَ الناسُ منه بإبقائِه على نفسِهِ.
قيل: وكان عَبدُ الله بنُ يزيدَ أبو خالد مِن عقلاء الرِّجال.
وقال له عبدُ الملك يوما: ما مالُك؟ فقال: شيئان لا عَيْلة علي معهما: الرِّضا عن الله عزّ وجل، والغني عَن الناس.

فلما نهض مِن بين يَديه قيل له: هلا خبرتهُ بمقدار مالِك؟ فقال: لم يعدُ أن يكون قليلاً فيَحقِرني، أو كثيراً فيحْسدني.
وخطب عبدُ الرحمن بنُ محمد بن الأشعث بالمِربْد عند ظهور أمّر الحجاج عليه، فقال: أيها الناسُ. إنه لم يبْق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغَة، تضرب يميناً وشمالاً، فلا تلبثُ أن تموت.
فسمعه رجلٌ من بني قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصة فقال: قبح الله هذا. يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم، ويعدُهْم الغُرَور.
وقيل لنصْر بن سيار: إن فلاناً لا يكتُبُ. فقال: تلك الزِّمانةُ الخفيةُ.
وقال: لوْلا أن عمرَ بن هُبيرة كان بَدويّاً ما ضبَط. أعمال العراق، وهو لا يكْتبُ.
اعتذر رجلٌ إلى مُسْلم بن قتيبة من أمْر بلغهُ عنه، فعذرُه ثم قال له: يا هذا: لا يحْملنك الخروجُ مِن أمر تخلصْت منه على الدخول في أمْر لعلك لا تتخلصُ منه.
وقال مُسلُم بنُ قتيبة: الشبابُ الصحةُ، والسُّلْطانْ الغني، والمروءةُ الصبرُ على الرجال.
وقال خالد بن عبد الله القسْري: يُحَمدُ الجودُ مَا لمْ يسْبقُه مَسْألةٌ وَمَا لم يتبعه مَن، ولم يُزْر به قصورٌ، ووافق موضع الحاجة.
قال الرشيد لسعيد بن سَلْم: يا سعيدُ، مَنْ بيتُ قيس في الجاهلية؟ قال: يا أمير المؤمنين. بنُو فزارة. قال: فمَنْ بيتُهُم في الإسلام؟ قال: يا أمير المؤمنين: الشريفُ مَنْ شرفتُموه. قال: صدقت. أنت وقومُك.
قال بعضهم: أريت نصْرَ بن سيار على المنبر بسَرْخس. وقد حسَر ذراعيه - وكان أشعرَ طويل الساعدَين. وهو يقول: اللهم إنك تعلُم أن جعُفرَ بن محمد حدثني عن آبائه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما منْ أحد أنْعمَ على قوم نعمةً فكفرُوا نعمتَه، فدعا الله عليهم إلا أجيبتْ دعوته.
اللهم إنك تعلُم أني أحسَنْتُ إلى ألِ بسَّام فكفروا نِعْمتي.
اللهم افعل بهم. ودَعَا عليهم.
قال: فلم يَحُلِ الحولُ وعلى الأرض منهم عين تطرف: وكانوا سبعين رجلاً، كلُّهم قد ركب الخيل.
كان أبو هبَيرة يقول: أعوذ بك من كلِّ شيطان مستغرب وكل نبطي مستعرِب.
خطب بلال بن أبي بُردَة بالبصرة، فعرف أنهم قد استحَسنوا كلامَه، فقال: لا يمنعنكم أقبحُ ما تعلمون فينا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا.
قال ابن هبيرة لبعض ولده: لا تكونن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطيرَ، وتجنب ارتجال الكلام، ولا تشر على مستبدٍّ ولا على وغد ولا مثلوِّن ولا لجوج، وخَفِ الله في موافقة هوى المستثير، فإن التماسَ موافقته لؤمٌ، وسوءَ الاستماع منه خيانةٌ.
قال رجل ليزيدَ بن أسد يدعو له: أطال الله بقاءَك. فقال: دَعوني أمُتْ، وفي بقيةٌ تبكون بها علي.
وشخصَ يزيد بنُ عمرَ بن هبيرة إلى هشام بن عبد الملك فتكلم فقال هشام: ما مات من خلف مثل هذا.
فقال الأبرشُ الكبيُّ: ليس هناك، أمَا نراهُ يرشح جَبينُه لضيق صَدره. فقال يزيد: ما لذلك أرشحُ ولكن لجُلوسك في مثل هذا الموضع.
ودخل يزيدُ بن عمر على المنصور - وهو يومئذ أميرٌ - فقال: أيُّها الأميرُ إنَّ عَهدَ الله لا يُنكث، وعَقدَهُ لا يُحَل، وإن إمارتكُم بِكْرٌ. فأذيقُوا الناسَ حلاوَتها، وجنِّبُوهم مَرارتها.
اتخذ يزيدُ بنُ المهلب بستاناً بخُراسَان في داره فلما ولي قتيبةُ بنُ مُسلم جعل ذلك لإبله. فقال له مَرزُبانُ مَروٍ: هذا كان بستاناً وقد اتخذته لإبلك؟ فقال قتيبةُ: عن أبي كان أشترباذ وأبو يزيدَ كان بستان باذ.
قال عبد الرحمن بن أبي الحكم: لولا ثلاثٌ ما بالَيْتُ متى متُّ: تزحُّف الأحرار إلى طعامي، وبذلُ الأشراف وجوهَهُم إلى، وقولُ المنادي: الصلاة أيُّها الأمير.
وقال عبد الرحمن بن الأشعث: لولا أربعُ خصال ما أعطيتُ أحداً طاعةً، لو ماتت أمُّ عمران - يعني: أمه، ولو شاب رأسي، ولو قرأتُ القرآن، ولو لم يكُن رأسي صغيراً.

خطب قُتيبةُ بن مسلم بخُراسان حين خُلع، فقال: أتدرُون لمن تُبَايعون؟ إنما تبايعون يزيدَ بن ثروان، يعني هينقة القيسي كأني بأمير من حاء وحكم، قد أتاكم يحكم في دمائكم وفروجكم وأموالكم وأبشاركم ثم قال: الأعراب. وما الأعراب؟؟ لعنةُ الله على الأعراب جمعتكم كما يُجَمع قَزَع الخريف من منَابت الشِّيح والقيصُوم، ومنابت الفلفل، وجزيرة أبر كاوَان. تركُبون البقر، وتأكلُون القضْب فحملتكُم على الخيل، وألبستكُم السِّلاحَ، حتى منع الله بكم البلاد، وأفاءَ بكم الفيءَ.
قالوا: مُرنا بأمرك. قال: غُرُّوا غيري.
وخطب مرةً أخرى فقال: يا أهل العراق. ألست أعلمَ الناس بكم؟ أما هذا الحي من أهل العالية فنعَمُ الصدَقة. وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعِلْجةُ بظراءُ لا تمنعُ رجليها، وأما هذا الحي من عبد القيس فما ضرب العَيْر بذنبهِ. وأما هذا الحيُّ من الأزد فعُلوجُ خَلْقِ الله وأنباطُه. أيمُ الله لو ملكتُ أمرَ الناس لنقشتُ أيديهم. وأما هذا الحيُّ من تميم فإنهم كانوا يسمُّون الغدْر في الجاهليةِ كَيسان.
وخطب مَرةً أخرى، فقال: يا أهل خُراسَان. قد جربتُم الوُلاة من قبلي أتاكُم أميةُ، فكان كاسمه أميةَ الرأي، وأميةَ الدين. فكتب إلى خليفته إن خراجَ خُراسان وسجستان لو كان في مَطبخه لم يكفهِ. ثم أتاكُم بعَده أبو سعيد يعني المهلب بن أبي صُفرة فدوم بكم ثلاثاً. أما تدرُون في طاعة أنتم أم في معصية؟؟ ثم لم يَجْب فيئاً ولم يَنْكَ عدوا، ثم أتاكُم بنُوهُ بعده مثل أطباء الكلبة، منهم ابن دحمة: حمار يَضْربُ في عانةٍ، ولقد كان أبوه يخافهُ على أمهاتِ أولاده. ولقد أصبحتُم - وقد فتح اللهُ عليكم البلادَ، وأمن لكن السُّبل. حتى أن الظعينةَ لتخرجُ مِن مَرو إلى سَمرقَند في غير جوار.
صعد خالد بنُ عبد الله القسْري المنبرَ بالبصْرة فأرْتج عليه. فقال: أيُّها الناس إنَّ الكلام يجيءُ أحياناً فيتسبَّبُ سَببه، ويعزُّ أحياناً فيعزّ طالبه. فربما طلب فأبى، وكُوبر فعسا فالتأني لِمَجِيه أصوبُّ من التعاطي لأبيِّه. ثم نزل.
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: كان أبي كثيراً ما يقولُ إذا سر: هذا يومٌ جريريُّ. قال: فسألته عن ذلك، فقال: لقوله: فيالك يوماً خيرهُ قبْلَ شرِّه تغَّيب واشِيِه وأقصَرَ عاذِلُه ومثل ذلك ما حكى عن عبد الله بن طاهر: أنَّه كان يقولُ: هذا من أيام الكوزِ. فسئل عن ذلك فقال: كان رجلٌ إذا مرَّ له يومٌ طيبَّ ألقى حصاة في كوز. فإذا سئل عن عمره عد الحصى وقال كذا يوماً.
كان مسلم بن قتيبة يقول: أحزمُ الناس من وقى ماله بسلطانهِ، ووقى نفسَه بمالهِ، ووقى دينه بنفسه وقال إذ تخالجتك الأمورُ فاسْتقِلَ بأعظمها خطراً، فإذا لم تستبن فأرجَاها، فإن اشتبهت فأحُراحا ألا يكُون لها رجوعٌ عليك.
وقال: احملوا الأمور فيما بينكم على أشُدِّها، ولا تراضْوا بالقول دون الفعْل.
وخطب خالد بنُ عبد الله، فقال: أيّها الناس، عليكُم بالمعروفِ، فإنَّ فاعله لا يعدم جوازيَه. مهما ضعف النَّاس عن أدائه قوى اللهُ على جَزائِه.
أيُّها الناس، لا يعتدَّنَّ أحدٌ منكم معروفاً لم يخرج منه سهلاً، إنكم لو رأيتُم المعروف شخصاً لرأيتُموه حسَناً جميلاً. أعاذنا اللهُ وإياكم من الكُفر والبخل.
وقال خالدٌ: أيلبس الرجلُ أجودَ ثيابه. ويتطيّب بأطيب طيبه. ثم يتخطى إلى القبائل، والوجوهَ، لا يُريد إلا قضاء حقي، وتعظيمي بسؤالهِ حاجته. فلا أعرفُ ذلك له ولا أكافئُه عليه؟ تخطيتُ - إذن - مكارمَ الأخلاق ومحاسنها إلى مساويها.
اغتاب رجلٌ رجلاً عند قتيبة فقال له قتيبةُ: أمْسِكْ عليك فلقد تلمَّظْت بُمضْغة طالما لفظها الكرامُ.
لما وَلي عثمانُ بن حيَّان المرِّي المدينة بعد عمر بن عبد العزيز نزل دار مروان بن الحكم وهو يقولُ: مِحْلالٌ مِظعانٌ. المغرورُ من اغترَّ بك.

الباب السابع
فضول الكتاب والوزراء
وتوقيعات ونكت من كلامهم ونوادر لهم

أمرَ المأْمونُ أحمد بن يوسف أن يكتب في الآفاق بتعليق المصابيح في المساجد في شهْر رمضان. قال: فأخذتُ القِرْطاسَ لأكتب، فاستعْجم علي، ففكَّرتُ طويلاً، ثم غشِيتَنْي نعْسةٌ فقيل لي: اكتبْ: فإنَّ في كثرة المصابيح إضاءةً للمتهجِّدين، وأنْساً للسَّابلةِ، ونفياً لمكامِن الرِّيب، وتنزيها لبيوت الله عن وحْشة الظُّلم.
أهدى سعيدُ بن حميد إلى المأمون في يوم مِهْرَجان خِوان جزْع، واتخذ ميلاً من ذهب بقدر، وحمله معه. وكتب إليه: قد أهديت إلى أمير المؤمنين خوان جزع ميلاً في ميل. فاستحسَن ذلك وقبله.
وقَّع جعفر بنُ يحيى في رُقَعِة متُحرِّم به: هذا فتىً له حرمةُ الأمل، فامتحنه بالعمل، فإن كان كافياً فالسلطانُ له دوننا، وإن لم يكن كافياً فنحن له دون السلطان.
كتبَ أحمد بن يوسف إلى إسحاق الموصلي وقد زاره إبراهيم بنُ المهدي: عندي مَنْ أنا عندَه، وحجَّتُنا عليك إعلامنا إياك ذلك قد أذنَّاك.
فصل لأحمد بن يوسف أكثر من يلجأُ إلى الحيلةِ مَنْ عجز عن المبادأة والإصحار، وأكثر مَنْ يروم المنابذة مَنْ قصَّر عن لِطيف الخُدَع، وخفِّي الاستدراج. والقصد مؤّد إلى الرشْدِ.
تأخر إسحاقُ ابنُ إبراهيمَ الموصلي عن إبراهيمَ بن المهدي، فكتب إليهِ: لا عذْر لك في التأَخُّرَ عنِّي، فإنِّي لا أخلو من خَالَيْنِ: سَخط أمير المؤمنين علىَّ فهو لا يكرهُ أن يُضرني، أو رضاه عَنِّي فهو لا يكُرَهُ أن يسرَّني.
أمرَ المأمونُ عمْروَ بن مسعدة أن يكتب كتاب عِناية، ويوجز. فكتب: كتابي كتابُ واثق بمن كتْبتُ إليه، مَغْنِيُّ بمن كتبت له، ولن يضِيع بين الثِّقةِ والعنايةِ مُوَصِّله.
كتب أحمد بنُ يوسف إلى صديق له: كتبتُ إليك في الظُّهر تفاؤلاً بأنْ يُظهرَك اللهُ على مَنْ ناوأك، ويجعلك ظهراً لمن وَالاك.
كتب بعضُهم إلى رئيس: تختم كتُبَكَ لأنها مطايا البر، ولا أختمها لأنها حوامل الشّكر.
وقع جعفر بنُ يحيى إلى عامل له: وأنْصفْ من وَليت أمْرَهُ، وإلا أنْصَفهُ مِنْكَ مَنْ ولي أمرَك.
وقع أحمد بنُ هِشام في قِصَةِ مُتظلَّمٍ: أكْفِني أمْرَ هذا، وإلا كَفيْتُه أمرَك.
استشهدَ ابنُ الفُرات في أيام وزارته على بن عيسى، فلم يشْهَدْ لهُ، وكتب إليه لما عادَ إلى بيتهِ: لا تلُمْني على نُكُوصي عن نُصْرتِك بشهادة زُور، فإنَّه لا اتِّفاق على نِفاق. ولا وفاء لذي مَيْن واختلاق. وأحْرِ بِمَنْ تعدَّى الحقَّ في مسرَّتِك إذا رَضى، أن يتعدَّى إلى الباطل في مَسَاءتِك إذا غضِب. والسلام.
وقع إبراهيم ابنُ العباس في ظهرِ رُقعة: إذا كان للمحْسِنِ من الحقِّ ما يقنِعه، وللمسيءِ مِنَ النَّكالِ ما يقمعه، بذلَ المُحسنُ الحقَّ رغبةَ وانقادَ المُسيءُ لهُ رهبةً.
كتبَ القاسم بنُ عُبَيِدْ الله الكرْمي إلى بعضِ الوزُراء: ولي فيمَا جدّدَ اللَّهُ من هذه النعمةِ للوزيرِ مِنْ بلوغ النهاية، ما انتزعتُه من كتابِ الله تعالى في قولهِ: اليْومَ أكْمَلْتُ لكم دينَكُمْ وأتْمَمْت عليكُم نعْمَتِي. وقد عَلمَ أن دين الله بعد نزولِ هذه الآية لم يَزلْ نامياً عالياً على كل دين، وأنَّه إنما ضرَب بجرانِهِ وقهرَ الأمَمَ شرقاً وغرباً بعد كمالهِ.
وقّع ذُو الرياستين إلى طاهر بن الحسين: يا نِصْف إنسان. والله لئنْ أمرْتُ لأُنفذنَّ، ولئِنْ أنفذتُ لأُبرمَنّ، ولئن أبرمتُ لأبلغنَّ.
فأجَابَهُ: أنا - أعزَّك الله - كالأمَةِ السوداء، إن حمل عليها دمْدَمتْ وإن رُفِّه عنها أشِرتْ. وإن عُوقبتْ فباستحقاق، وإن عُفِي عنها فبإحسَان.
كتب إبْرَاهيم بنْ العباس إلى أهل حِمْصَ: أمَّا بعدُ فإن أميرَ المؤمنين يرى مِنْ حَقِّ اللهِ عليهِ استعمال ثلاث يُقدّمُ بعضُهن على بعْض: الأُولى تقديم تنبيه وتوجيه، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف. ثم التي لا ينفعُ لحسُم الداء غيرها.
أناة فإنْ لِم تُغْنِ أعقبَ بعدَها ... وَعِيداً فإنْ لم تُجْدِ أغنتْ عزائِمْ
ويقالُ: إنَّ هذا أوّلُ كتاب صدَر عن خليفة من بني العباس وفيه شِعرٌ.
وقيل: إن إبراهيم بن العباس لم يتعمد أنْ يقول شعراً، ولكنَّهُ لما رآه موزُوناً تركهُ.
كاتب: أمَّا بعد، فكأنِّا في الثَّقةِ بك مِنْك، وكأنكَّ في الرأفةِ عليْنا مِنا، لأنِّا لم نرِدْك لأمْر إلا نِلناهُ، ولا خِفْناك عَلى أمْر إلا أمِنَّاه.

كتب أحمد بنُ يوسف إلى إبراهيمَ بن المهدي: الثقةُ بك سهَّلت السبيل إليك، فأهْلنِا هدية مَنْ لا يحتشِمُ، إلى مَنْ لا يغُتنِم.
كتب إبراهيم بن العباس إلى علي بن عيسى بن ماهان: قد بلغ مِنْ حسن ظنك بالأيام أن وثقت بالسلامةِ مِنْها مَع الظلم، وليس هذا من عادَتِها.
اعتذر كاتبٌ إلى صديق له تأخُّر اللقاء، فأجابَه: أنْت في أوسَع العُذْر عند ثِقتي، وفي أضْيق العذرْ عندَ شوقي.
كتب رجلٌ إلى ابنِ سيَابه يسألُهُ عنْ رجل فكتب في الجواب: هَو الله غثُّ في دينه، قذرٌ في دنْياه، رث في مروءته، سمْجٌ في هيئتهِ، منقطعٌ إلى نفسه، راض عقلُه، بخيلٌ بما وسّع الله عليهِ من لذَّته، كَتُومٌ لما أتَاهُ اللهُ من فضلهِ، حلافٌ، لجوجٌ، لا ينصفُ إلا صاغراً، ولا يعدِلُ إلا راغماً، ولا يَرفعُ نفسَه عن منزلة إلا ذل بعد تعززه فيها.
كتب إسْحاقُ بنُ إبراهيمَ الموصلي إلى إبراهيم بنِ المهدي: مَنْ كانَ كله لك وقع كلُّه عليْكَ.
وقَّعَ عليُّ بنُ عيسى على قصة لاْبنِ قرابةَ العطَّار: منْ تحقق بالوزراء وجالس الأُمراء ودَاسَ بُسطَ الخلفاء وماثَل الكبراءَ وأمرَ ونهىَ في مجالسِ الرؤساء، بعَقلٍ يسير وفهْم قصيرِ، ورأى حقير وأدب صغير - كان خليفاً بالنكبة، وحرياً بالمصيبة، وجديراً بالمحْنة، وأنا أتلكًّم إذا حضرني الكلامُ فيك بما يقربُني إلى الله.
كاتب: لا أعِدُك فأطمعك ولا أويسك فأقطعك، وإن أمكنتْني فَرْصةٌ فعلتُ.
أخر: قد أعليتَ من يدٍ كانت مقبوضةً، واسْمَيْت مِنْ مقْلة كانت مغْضُوضَةً.
كتب بعضهُم إلى صديق له - وقد تأخر عنه كتابه: إن كنتَ لا تُحسنُ أن تكتُب فهو زَمانةٌ، وإن كنت تكتبُ ولا تكاتبُ إخوانَكَ فهو كسلٌ، وإن كنت تكتبُ وليسَ لك قِرْطاسٌ ودواةُ في سوءُ تدبير، وإن اعتذرت بغير ما كتبت فهُو وَقاحةٌ.
فصلٌ: أظلنِي من مولاي عارضُ غيث أخْلف ودقةُ، وشاقني رائحُ غوْث كذب برقُه، فقابله في حَرَّان مُمْحل أخطأهُ النّوء، وحَيْرَان مظلم خذلهُ الضوءُ - فصل: ليهنك أنّ جميع نظرائك، وأكفائك يتنازعُون الفضل فإن انتهوا إليكَ أقروا لكَ ويتناصَفونَ المنازلَ فإن بلغوك وقفوا دونك - آخر: ثقْ مني بكتمان وإن أتعبَ القلبَ، ومساعدة وإن ثلمَتِ المروءةَ وطاعة وإن قدحَتْ في الدِّين - آخر: حَقُّ لمن غُدي ببركَ، وارتضَعَ أخَلافَ إحسانكَ، وتنسَّم رَوْح خلائِقك أن يكثُر عند ذكرِكَ إياه شكرُه، ويتمهد عند نسيانِك له عّذْره.
كتب بعضُ عمال إبراهيم بن العباس إليه يستزيدُه، فوقع في كتاب: اسْتدْع ما عندي بالأثرِ لا بالطلبِ.
كاتب: اتصل بي خبرُ الفَتْرة في إلمامها وانسحارِها، ونبأ الشَّكاةِ في حُلُولها وارْتحالها، فساد يسْعضلُ القلق بأوله عن السُّكون لأخرِه، وتذهلُ عاديةُ الحيرة في ابتدائه عن عائدة المسّرة في انتهائه، وكان التصرف في الحالتين بحسب قدرها ارتياعاً للأُولى وارتياحاً للأُخرى - غضب يحيى بنُ خالد على بعض كتُابِه، فكتب إليه الكاتب: إن لله قبلكَ تبعات ولك قبلة الحاجاتِ إلا فأسألك بالذي يهب لَكَ الحاجات وهبتَ تبعتك - قيلي له. فَرِضِي عنه - قال بعضُ الكتاب: إذا أقبلتِ الدّوَلُ كَثُرتِ العُدَدُ وإنْ قل العَدْد وإذا أدْبرتْ كثر العَدَدُ وقلتُ العُدَدُ كتب ابن صبيح: فهمتُ كتابك باعتذارِك، فجرد الإقرار بالذنب فإن الأول يقول: لا تَرجُ رجعةَ مذنبٍ خلط احتجاجاً باعتذار الحسنُ بن وهب: إنّ حُسْن ثناء الصادرين عَنك إليْنا يزيد في عدد الوَاردين عليك من قِبَلنا.
وقع جوهرٌ مولى الفاطميين لما افتتح مصر في قصة رفعها إليها أهلُها سُوءَ الاحترام أوقْع بكم حُلُول الانتقام. وكفرُ الإنْعام أخَّوكْم منْ حفظ الذِّمام. فالواجبُ فيكم ترْكُ الإيجاب، واللازمُ لكم ملازمةُ الاجتناب، لأنكم بدأتُم فأسأتُم، وعدْتُم فتعديتُم. فابتداؤكم مَلوم، وعَودْكم مذْموم، وليس بينهما فُرْجةٌ تقتضي إلا الذم لكم، والإعراض عنكم ليرى أمير المؤمنين - صلواتُ الله عليه - رأيهُ فيكم.
كتب علي بن هشام إلى المَوْصلي: ما أدري كيف أصنع؟ أغِيبُ فأشتاق، وألْقى فلا أشتِفي. ثم سَيُحدِث لي اللقاءُ نوعاً من الحُرقة، للوعة الفرقة.
كتب آخر: من العجب إذكار معنَّى، وحثُّ متيقظ، واستبطاءُ دابر إلا أنّ ذا الحاجةِ لا يدَع أن يقول في حاجته.

كتب بعضهم إلى ابن الزيات: إنا مما يطمعني في بقائنا عليك، ويزيدني بصيرةً في دوامها لك - أنك أخذتها بحقك، واستدَمتها بما فيك من أسبابها. ومن شأْن الأجناس أن تتقاوم، والشيء يتقلقل إلى معدته، ويحنُّ إلى عنصره، فإذا صادف مَنبِته ركَن في مغرسه، وضرب بعِرقه، وسمق بفرعه، وتمكن للإقامة، وثبت ثبات الطبيعة.
آخر: إلا ابن خاقان: رايتُني فيما أتعاطى من مَدحك كالمُخبِر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على ناظر، وأيقنت أني حيث أنتهي من القول منسوبٌ إلى العجز، مقصَّرٌ عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدُّعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
كتب الحسن بن وهْب إلى صديق له يدعوه: افتتحت الكتاب - جعلني الله فدَاك - والآلات معدةٌ، والأوتار ناطقةٌ، والكأْس محثوثة، والجو صاف، وحواشي الدهر رقاقٌ، ومخايل السرور لائحةٌ، ونسأل الله إتمام النعمة بتمام السلامة من شوب العوائق، وطروق الحوادث، وأنت نظام شمْل السرور، وكمال بهاء المجلس. فلا تخترِمْ ما به ينتظم سروري وبهاء مجْلسي.
كاتب: قد أهديت لك مودّتي رغبة، ورضيت منك بقبولها مثوبة، وأنت بالقبول قاض لحق، ومالكٌ لرقٍّ.
آخر: قلّ مَن يَضبِط مَن وجهه صُفرة الفرق، وحمْرة الخجَل، وإشراق السُّرور، وكمَد الحُزن، وسكون البراءة، واضطراب الرِّيبة.
قال بعضهم: كنت بحضرة عبيد الله بن سليمان، فوردتْ عليه رقعةٌ من جعفر بن محمد بن ثوابة نُسختُها: قد فتحتَ للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجَابك، فأنا أحاكم الأيامَ إلى عدْلك، وأشكو صروفها إلى فضلك، واسْتجير من لؤم غلبتها بكرم قدْرتك وحسن ملكيتك، فإنها تؤخِّرني إذا قدِمَتْ، وتحرمني إذا قسَمَتْ، فإن أعْطت أعطت يسيراً، وإن أرتجعت ارتجعت كثيراً، ولمْ أشكها إلى أحد قبلك، ولا اعتمدتُ للانتصاف منها إلا فضلك، ولي مع ذِمَام المْسألة لك وحقِّ الظُّلامة إليك ذمام تأْميلك، وقدّم صدق في طاعتك. والذي يملأُ من النصفة يدي، ويفرغ الحق علي حتى تكون إلى محسناً، وأكون بك للأيام مقرفاً - أن تخلطني بخواص خدَمك الذي نقلتهم من حرِّ الفراغ إلى الشُّغل، ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تقرّبني فقد استعديت إليك، وتنصرني فقد عذت بك، وتوسع لي كنفك فقدْ أدَيْتُ إليه، وتَسِمَني بإحْسانك فقد عوّلت عليْه، وتسْتعمل يدي ولساني فيما يصلحان له من خدْمتك، فقد درست كتب أسْلافك، وهم القدْوة في البيان، واستضأْت بآرائهم واقتفرت آثارهم اقتفاً جعلني بين وحشي الكلام وأنسيّه، ووقفني منه على جادة متوسِّطة يرجع إليها الغالي، ويلحق بها للقصِّر التالي، فطتُ إن شاء الله.
قال فجعل عبيد الله يردّدها، ويستحسنها، ثم قال: هذا أحق بديوان الرسائل.
كاتب: كان لي أملان: أحدهما لك، والآخر بك، وأما الأمل لك فقدْ بلغته، وأما الأمل بك فأرجو أن يحققه الله ويوشكه.
آخر: ودّعتُ قلبي بتوديعك، فهو يتصرف بتصرِّفك، وينصرف بمنصرفك.
آخر: قد كنتَ لنكبات الدهر مستعداً، ولغدَراته متحرِّفاً، فهل زاد على أنْ صدقَك عن نفسه، وأتاك بما كنت علماً أنه يأتيك؟ فكيف تجزع وأنت تعلم أنه ليسَ لما وقع مَرَدٌّ ولا لمَا ذهب مرتجَع؟ تهنئة بابنْة: رب مكروه أعْقب مَسَرةً، ومحبةٍ أعقبت معَرةً، وخالق المنفعة والمضرة أعلم بمواضع الخيرَة.
آخر: إنه ليتربص بك الدوائر، ويتمنى لك الغوائل، ولا يؤمِّل صلاحاً إلا بفساد حالك، ولا رفعةً إلا بسقوط قدْرك.
فصل: حسر الدهر عن تجمُّلي قِناع القناعة، ولكنِّي مع الضمأ - عن دني الموارد - نافرٌ، ومع الفاقة بغنى النفس مُكاثرً.
فصل: من تهنئة بإملاك: وكيف يرتاع لهجوم غُرْبة، وأو يجاور توحُّش نُقلة مَن لم يقطعه اتصاله بي عنك، ولا باعده انتقاله إلي منك، فهو مخاطبٌ على البعد بألفاظك، مرموقٌ بالمرَاعاة من ألحاظك، غير نازح عما ألفه من عَواطف الولادَة، ورأفة التربية، وانبساط الأُنسة، والله يُسْعدها بمن سارتْ بها من وفدتْ عليْه، ويُريني من المحبةِ فيها مثلَ ما أرانيه من المحبة بها، وكيف يُوصَى الناظر بنوره، أم كيف يُحضُّ القلب على حفظ سروره.

ومثله لأبي إسْحاق الصابي، كتابه عن بختيار إلى أبي تغلب وقد نقل إليه ابنته: قد وجدت الوديعة، وإنما نقلتْ من وطن، إلى سَكن، ومن مَغرِس إلى مُعَرسّ، ومن مأوى ير وانعطافْ، إلى مَثوَى كرامة وألطاف، ومن مَنبِت درت لها نعماؤه إلى منشأٍ يجود عليها سماؤُه، وهي بضعةٌ مني انفصلتْ إليْك، وثمرةٌ من جَنَى قلبي حَصلتْ لديْك، ولا ضَياع علي مَن تصحبه أمانتك، ويشتمل عليْه حفظك ورعايتك.
فصل: إذا طلبْتُ عند غيرك مَا لُم أنلْ نلتُ منك مَا لمْ أطلبْ، وإذا عدمتُ عند سواكَ ما رجوتُ وجدتُ عندَك ما لم أرج، فاليأس من خيرك أنفع من رجاي لغيرك، لأنك لا تقول فتفعلُ، وغيْركُ يقولُ فلا يفعلُ، ولأنك تعتذرُ من الجزيل إذا امتن غيرك بالقليل.
فصل: مِلْكُ الأنعام أكرم من مِلْكِ الرِّق، ورق الحرِّ أفخر من رق العبد، لأن العبد يعطيك طاعتهُ كُرهاً، وضميره سواها، والحرُّ يبذلُها لك طوعاً، ويعتقد ظاهرها وفحواها.
كتب أبو النجم حبيب بن عيسى إلى عمرو بن مسعدةَ: ينبغي لمن علقتْه حبائلُك، وشقي بصُحبتك أن يكون له صبرُ أيوُّب، وعمر نوح، وكنوزُ قارون، ومُلكُ هارون، فيستعين بالصبر على ممَاطلتك، بالعُمِر على طول أيامك، وبالكنوز، على مواعدك، وبالملك على ما ينالُه من الذلِّ ببَابك.
كتب سهلُ بن هارون إلى ذي الرياستين: إلى اللازمنة فرجاً. فكن من وُلاة فرجها، ولأيامَها دُولا، فخُذ بحظك من دوَلْتك منها، ولدُولها أمْراً فتزود قبل أوان تصرُّمها، فإن تعاظمَك ما أنبأْتُك عنهُ فانظر في جَوَانبها تأْخذك الموعظةُ من جميع نواحيها، واعتبر بذلك الاعتبار على أنك مسلمٌ ما سلم إليكَ منها. قال: فكتب عهدهُ على فارس.
كتب بعضهم إلى الفضل بن سهل: يا حافظَ من يُضيعُ نفسه عنده، ويا ذاكر مَن ينسى نصيبه منْه، ليس كتابي إذا كتبتُ استبطاء، ولا إمساكي إذا أمسكتُ استغناءً، لكن كتابي تذكرةٌ لك وإمساكي عنك ثقةٌ بك.
وصف الحسنُ بنُ سهلٍ المحن فقال: معها تمحيصٌ من الذئب وتنبيهٌ من الغفْلة، وتعريضٌ للصواب بالصبر، وتذكيرٌ بالنِّعْمة، واستدعاءُ للتوبْة، وفي قدر الله عز وجَل وقضائه.
كتب أبو علي بُرْد الخيار بن مُقْلة إلى أبي الحسن بن الفرات اقتصَرت - أطال الله بقاء الوزير - عن الاستعطاف والشكوى، وحتى تناهت المحنةُ والبلوى في النفس والمال، والجنس، والحال إلى ما فيه شفاءُ للمنتقم، وتقويم للمجترم، وحتى أفضيتُ إلى الحيْرة والتبلُّد وعيالي إلى الهلكة والتلدُّد: وما أقولُ إن حالاً أتاها الوزيرُ - أيده اللهُ - في أمري إلا بحق واجب، وظن صادق غير كاذب، وإلا أن القُدرة تُذْهبُ الحفيظة، والاعتراف يزُيلُ الاقتراف. ورَبُّ المعروف يؤثرهُ أهلُ الفضْل والدين، والإحسانُ إلى المسيء من أفْعال المتّقين، وعلى كلِّ حالة فلي ذمامٌ وحُرمةٌ وتأْميلٌ، وخدمةً إن كانتْ الإساءةُ تُضيعُها، فرعايةُ الوزير - أيدهُ اللهُ - تحفظُها.
كتب بعضهم إلى آخر: أما بعدُ: فقد كُنْتَ لنا كلُّك فاجعل لنا بعضك ولا ترض إلا بالكُلِّ منَّا لك.
كتب يحيى بن خالد إلى الرشيد من الحبس: يا أميرَ المؤمنين، إنْ كان الذْنبُ خاصاً فلا تعمنَّ بالعُقوبة، فإن الله يقولُ: " ولا تزرُ وازرةٌ وزْر أخْرى " .
وجُد في كتاب لجعفر بن يحيى أربعةُ أسطر بالذهب: الرزقُ مقسومٌ، والحريصُ محرومٌ، والبخيلُ مذمومٌ، والحسودُ مَغْمومٌ.
قال منصورُ بنُ زياد. الكاتبُ: للمعلى بن أيُّوب: والله إني لأبذلُ، وإني لأقدر وإني لأختارُ، وإني لأستشير، وإني لأحب مع طيب لخير، وحسن المنظر، وإني لأعشقُ البهاء كما تتعشقُ المرآة الحسناءُ، وإني مع ذلك لأدخُل دارك فأحقر كل شيء في داري. فما العلةُّ؟ قال: أو ما تعلمُ؟ قال لا. قال لأني أقدَمُ عني منك.
كان نقش محمد بن داودَ الجرْاح: من نمٍّ إليك نمِّ عليك.
قال مسلم بن الوليد: سألت الفضل بن سهل حاجةً. فقال: أشوقك اليوم بالوعد، وأحْبوك غداً بالإنجاز، فإني سمعت يحيى بن خالد يقول: المراعيد شبكةٌ من شباك الكرام، يصيدون بها محامدَ الأحرار ولو كان المعْطي لا يَعدُ، لارتفعت مفاخرُ إنجاز الوَعْد، ونقَص فضل صدق المقال.

ووقَع الفضل إلى تميم بن مخرمَة الأمور بتمامها، والأعمال بخواتيمها، والصنائع باستدامتها، وإلى الغاية ما يجْري الجَواد، فهناك كشفت الخبرة قناع الشَّك، فحمِد السابق، وذمِّ السِّاقط.
كان يحيى بن خالد: يقول لسْتَ ترى أحداً تكبِّر في إمارة إلا وقد دَل على أن الذي نال فوق قدره، ولسْت ترى أحداً تواضع في الإمارة إلا وهو في نفسه أكبر مما نال من سُلطانه.
احتاج يحيى في الحَبْسٍ إلى شيء فقيل له: لو كتبتَ إلى صديقك فلان فقال: دعُوه يكن صَديقاً.
وحضر الفضل بن الربيع جنازة ابن حمدون بعْدَ نكبة البرامكة، فذكرَهم، وأطراهم، وقرظهم، وقال: كنا نعتب عليهمْ، فصرنْا نتمنِّاهمْ وتبكي عليهمْ، ثم أنشد متمثلاً.
عتبتُ على سلم فلَّما فقدْتُه ... وجريت أقواماً بكيت على سَلم
قال الفضل بن سهل: رأيت جملة السخِّاءِ حسن الظن بالله، وجملة البخل سوء الظنِّ بالله، وقال الله تعالى: الشيطان يعدُكم الفقرَ. وقال: " وما أنفقتم من شيء فهو يخلف " احتيج أن يكتب على المعتضد كتابٌ يشهد عليه فيه العُدول، وفلما عُرضت النسخة عن عبيد الله بن سليمان، وكان ابن ثوابة قد كتبها كما يكتب في الصكاك في صحة عقله، وجَواز أمْره له وعليْه، فضرَب عليْه عبيد الله وقال: هذا لا يجوز أنْ يقال للُخليفة، وكتب: في سلامة من جسْمه، وأصالة من رأيه.
قام رجلٌ إلى الرشيد يحيى بنُ خالد يسايره فقال: يا أميرَ المؤمنين أنا رجلٌ من المُرابطة وقدْ عطبتْ عابتي.
فقال: يعْطى ثمن دابّته خمْسمائة درهم. فغمزه يحيى، فلما نزل، قال يأبَهُ. أومأت إلي بشيء لم أفهمهُ.
فقال: يا أمير المؤمنين. مثلُك لا يجري هذا المقدارُ على لسانهِ، إنما يَذكر مثلُك خمسة آلاف ألفٍ إلى مائةِ ألف. قال: فإذا سُئِلتُ مِثل هذا، كيف أقولُ؟ قال: تقولُ: تُشتَرى له دابّةٌ: يُفْعَل بهِ ما يُفْعلُ بأمثاله.
لما صار نعيم بن حَازم إلى الحسن بن سهل أقبل يقول: ذنبي أعظمُ من المساء، أكثرُ من الماء.
فقال الحسنُ له: لا عليكَ. تقدمتْ لك خِدمة، وتوسّطت منك طاعةٌ وعقِّبتَ باعتذار، وما للذنبِ بين هذه مَقَر، وليس ذنبُك في الذنوبِ بأعظمَ من عفْو أمير المؤمنين في العفو، وأصلح أمره.
دخلَ الأصْمَعي إلى الحسنِ بن سَهْل فقال: يا أصمعي: ما أحْسنُ الكَلامِ؟ فقال: أصلح الله الأميرَ. ما فَهمتْهُ العامةُ، وقدمته الخاصة.
قال رجلٌ لعبد الحميد أخُوكَ أحبُّ إليكَ أم صديقُك؟ قال: إنما أحِب أخي إذا كان صديقاً.
قال ثُمامةُ: لما دخل الفضلُ بنُ سهل إلى الرشيد - وقد وصفهُ لهُ يحيى بنُ خالد - حضر فلم ينطق، فأنكر الرشيدُ ذلك، فقال: يا أميرَ المؤمنين: إنَّ من أبيْنَ الدلالةِ على فراهةِ الخادِم شِدّةُ إفراطِ هيبتهِ لسيده، فقال الرشيد: أحْسنت، إن كنت لتقولُ هذا، وإن كان هذا شيئاً أدركك عند انقطاعك، إنه لأحسنُ وأحسنُ وأحسنُ، ثم ضمهُ إلى المَأمون.
وقال الفضل بن سهل: الرأي يَسُدّ ثُلمَ السيف، والسيف لا يسُد تُلَم الرأي.
قال ابنُ الزيَّات الوزير: لا يتصورنًّ لك التواني بصورة التوكُّل، فتخلدَ إليه، وتُضيع الحْزمَ، فإن الله ورسوله أمرا بغير ذلك، قال الله تعالى: وشاروهْم فِي الأمر فإذا عزمْت فتوكل على الله، فجعل التوكل بعد العزم، والمشورةِ.
وقال النبي عليه السلام لصاحب الناقةِ: اعقلها وتوكّل.
قال رجلُ لعبيد الله بن سليمان: لو كان للوزير بي عنايةٌ ما كان علي نابي الطرف، ولا كنتُ من دركي منه على حرف، فقال عبيدُ الله: أيها الرجل. على رسْلِك، فعسى نظري لك في الإعراض عنك، ولعل اُستصلاحي إيُاك بالانقباض منك ثق باهتمامي بك إلى أوَان إسعافك، فإن تقربُّك إلي بتعريضكِ أجلبُ للنيل إليك مِن تباعدِك عني باقتضائك. وأعلم أني وزير.
وقّع ابنُ الزيات إلى بعْض عماله: توهمتُك شهماً كافياً، فوجدتك رسْماً عافياً، لا محامياً ولا واقياً.

أخبرنا الصاحبُ - رحمهُ الله - قال: أخبرنا عبدُ الله بنُ محمد الأيجي قال: أخبرنا محمد بن الحسن الأزدي. قال أخبرنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: ورد علينا عاملٌ من أهل الكوفة، لم أر في عمال السلطان بالبصرة أبرَعَ منه، فدخلتُ مسلماً عليه. فقال: يا سجستاني مَن علماؤكم بالبصرة؟ قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازني أعلمنا بالنحو، وهلالُ الرأي من أفقهنا، والشاذكُوني من أعلمنا بالحديثِ، وأنا - رحمك اللهُ - أنسبُ إلى علم القرآن، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط. قال: فقال لكاتبه: إذا كان غداً فاجمعهُم لي، قال: فجمعنا فقال: إيكم المازني؟ قال أبو عثمان: هانذا يرحمك الله، قال هل تجزئ في كفارة الظهار عتقُ عبدٍ أعورٍ؟ فقال المازني: لستُ صاحبَ فقه. أنا صاحبُ عربية، فقال: يا زيادي. كيف تكتبُ كتاباً بين رجل وامرأة خالعها على الثلاثِ من صداقها؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم هلال الرأي. قال يا هلالُ: كم أسند ابنُ عون عن الحسن؟ قال: ليس هذا مِن علمي، هذا من علم الشاذكُوني، قال: يا شاذكوني. من قرأ: " فتثبتُوا أن تصيبوا قال: ليس هذا من علمي: هذا من علم أبي حاتم. قال يا أبا حاتم: كيف تكتبُ كتاباً إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصةَ أهل البصرة وما أصابُهم في الثمرة. وتسألُه لهم النظرَ والنظرة؟ فقلت: لستُ - رحمك اللهُ - صاحب بلاغة وكتابة: أنا صاحبُ قرآن. فقال: ما أقبحَ بالرجل أن يتعاطى العلم خمسين سنة لا يعْرف إلا فنَّا واحدا، حتى إذا سئل عن غيره، لم يُحل فيه ولم يُمِرّ، لكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئُل عن كل هذا لأجاب.
قال يحيى بن خالد: ما رأيت شِريبَ خمر نزع، ولَّصا أقلع، وصاحب فواحشٍ رجع.
وقال: ما سقطَ غُبارُ موكبي على أحد إلا أوجبتُ حقَّهُ.
كتب أبو صالح بن يزدَاد إلى جعفر بن محمود: ما زلتُ - أيدَّكَ الله - أذم الدهرَ بذمك إياه، وأنتظر لنفسي ولك عقبَاه، وأتمنى زوَال حَال من لا ذنب له إلى رجاء عاقبةٍ محمودة، تكون لك بزوَالِ حالهِ، وتركت الإعْذارَ في الطلب على اختلال شديد إليه، وضنَّا بالمعروفِ عندي إلا عن أهله، وحبساً لشكري إلاّ من مستحقه.
فوقعَ جعفر: لم أوخر ذكرَك تناسياً لحقك، ولا إغفالاً لواجبك، ولا إرجاءً لِمُهمِّ أمرِك، ولكن يرقَبتُ اتْساع الحال وانفساحَ الأعْمال لأخصِّك بأسْناها خطراً، وأجَلِّها قدْراً، وأعْودِها ينفعٍ عليك، وأوْفرها رزقاً لك، وأقربها مسافةً منك، وإذا كُنت ممن يحفرُهُ الإعْجال، ولا يتسعُ له الإمُهال، فسأختارُ لك ما يشير إليه الوَقت، وأقَدمُ النظرَ فيه وأجعلُه أول ما أمَضيه.
قال الحسنُ بنُ سهل: لا يكسد رئيس صِناعة إلا في شر زمان، وأخس سلطان.
اعتل ذو الرّياستين بخُرَاسانَ مدةً طويلة ثم أبَلّ واستقلّ وجلس للناس فدخلُوا إليه وهنئُوه بالعافية، فأنصت لهمْ حتى تقضي كلامهم، ثم اندفع فقال: إن في العلل نِعماً لا ينبغي للعقلاء أن يجهلُوها، منها تمحيصٌ للذنب، وتعريضٌ لثواب الصبْر، وإيقاظٌ من الغفلةِ، وإذكارٌ بالنعمةِ في حال الصحة، واستدعاءٌ للتوبة، وحضًّ على الصدقةِ، وفي قضاء اللهِ وقدره بعد الخيارُ. فانصرف الناس بكلامه، ونسوا ما قال غيره.
كتب عَمْرو بن مسعدةَ: وأنا أحبُّ أن يتقَّررَ عِندك أن أملي فيك أبعد من أن أختلسَ الأمور اختلاس من يرى أن في عاجِلك عوضاً من آجلِك، وفي الذاهبِ من يومِك بدلاً من المأْمولِ في غدك.
كتبَ ابن الفراتِ على بن محمد، ومحمد بنُ داودَ، ومحمد بنُ عبدون رقُعةً إلى العباس بنِ الحسنِ الوزيرِ يستزيدون فيها، فوقع بخطٍ على ظهرها ما حالكم حال مستنيد، ولا فوق ما أنا عليهِ لكم مِن مزيد، فإن تكن الاستزادةُ من مال فهو موفورٌ عليكُم، وإن نكن من رأي فالأعمالُ لكُم، ولي اسْمها، وعلي عبُثُها، وثِقلُ تدبيرها وأقول لعلي بنِ محمد من بينكمْ: ما يطيقُ نفسه تدللا واعتداداً أمن بِؤُس كانت هذه الاستزادة أم من بطر النعمةِ، ودلالِ الترفة، ولي في أمرِ جماعتكم نظرٌ ينكشِفُ عن قريب، حَسْبي، وحسبكم الله ونعمَ الحسيبُ - .
قال عبيد الله بنُ سليمان: كنتُ أكتبُ بين يَدي أبي سليمان داودَ ابن الجراح فقال لي يوماً: أصلحْ قلمَكَ، وأكتب أطالَ اللهُ بقاءك، وأعزك، وأكرمَك، وأتم نعمتَهُ عليك، وإحسانه إليكَ.

كُتبتُ الوكيل - أعزك اللهُ متصلةٌ بشُكرك، والضيْعةُ ضيْعَتُكَ، وكلُ ماتيهَ في أمرِها فموقعهُ يحسنُ مني وشُكري عليْه يتضاعفُ، وخطاباً في هذا المعنى. وكانت هذه المخاطبةُ لا يخاطبُ بها إلا صاحبُ مصرَ أو فارس، فقلتُ: قد ابْتاعَ ضَيعةً بأحَدِ الموْضعين! ثم أصْلح الكتاب فقال: عنونْه إلى الرخجي وكان يتقلَّد النهرَوانَ الأوسط - ثم رمى إلى كتاباً لصاحبِ بريد، فقالَ: وقع عليه. أنتَ أعزّك الله تقفُ على ما تضمنُه هذا الكتابُ، ولئن كان ما تضمنُه حقاً لأفعلنَّ ولأصْنعنَّ.
وخطاباً أغلظ فيه، ثم قال: عَنْوِنه للرخجي فعجبت من الكتابيْن. وفطن لما في نفسي فقال: أظنُّك قد أنكرْت الخطابيْن. هذه غايتي خدَمْتُها وهذا حقُّ سلطاني استوفيتُه.
وقعَ أبُو صالح بنُ يزدادَ في وزارتهِ إلى عامل خافهُ: ليس عليك بأسٌ ما لم يكن منك يأسٌ وإلى آخر قد تجاوزتُ عنك وإن عدتَ أعدْتُ إليك، فاصْرفنهُ عنك. وإلى آخرَ أدلَّ بكفاية: أدْللت فأضللت فاستصْغرْ ما فعلت تَبلغ ما أملت.
خاصمَ أحمدُ بنُ يوسفَ رجلاً بين يدي المأمون وكان صفي المأمونُ إليه على أحمد فعرف أحمدُ ذلك: فقال يا أميرَ المؤمنين إنه يستملي من عينيك ما يلقاني به، ويستبينُ بحركتك ما تجُنهُ له وبُلوغُ إرادتك أحب إلي من بلوغ أملي ولذةُ إجابتِك أثُر لدي من لذة ظفري. وقد تركتُ لهُ ما نازعني فيه، وسَلمتُ إليه ما طالبني به. فكشر ذلك المأمونُ له.
كان أحمدُ بن يوسف يكتبُ بين يدي المأمون منهُ السكين فدفعَها إليه، والنصَابُ في يدهِ، فنظرَ إليه المأمون نظر مُنكر، فقال: علي عمْد فعلتُ ذلك، ليكون الحدُّ لأمير المؤمنين. فعجب الناسُ مِن سُرْعةِ جوابه وشِدة فِطنتِه.
قال إبراهيمُ بنُ لعباس: واللهِ لو وزُنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاسن الناس لرجحَت وهي قولُه: " إنكُمْ لن تسعوا الناسَ بأموالكم فسعوهُم بأخلاقكُم " .
هذا أبو عباد كان كريمَ العهدِ، كثيرَ البذل، سريعاً إلى فعل الخير فطمسَ ذلك سوءُ خُلُقهِ، فما نرى له حَامِداً.
وقع ابنُ يزدَاد إلى عامل: ما بُين لنا منك حُسنُ أثر، ولا يأتينا عنك سار حبرٍ وأنت - مع ذلك دائباً - تمدحُ نفسَك، وتصف كفايتك والتصفحُ لأفعَالِكَ يكذبُك، والتتبُّع لآثارك يردُّ قولَك، وهذا الفعلُ إن اتكلتَ عليه، وأخلدتَ إليه، أعْلقكَ الذّمَّ، وألحقكَ العجز، فليكُن رائِدُ قولِك مصدِّقاً لموجودِ فِعْلِكَ إن شاء اللهُ.
قال أبو العْيناء: سمعتُ الحسن بن سهل يقولُ: كانَ أنُوشروانَ له أربعة خواتيمَ: خاتمٌ للخَراج، نَقشُه العدْلُ، وخاتمٌ للضّياه نقشهُ العمارةُ، وخاتمٌ للمعونةِ نقشُه الأناةُ، وخاتمُ للبريد نقشُهُ الرجاءُ، وما نحنُ مِن هذا في شيء.
اعتل بعضُ إخوان الحسن بن سهل، فكتب الحسنُ إليه: أجدني وإياك كالجسم الواحِدِ إذا خص عضواً منه ألمٌ عمَّ سائِرَه فعَافاني الله بعافيتِك وأدام لي الإمتاع بك.
كتب محمد بن عبد الملك الزيات إلى إبراهيمَ بن العباس الصُّولي: قلةُ نَظرك لنفسِكَ حرَمتك سَناء المنزلةِ، وإغفالُك حظَّك حَطَّكَ عَن أعْلى الدرجَة، وجهلُك بقدر النِّعْمةِ أحلَّ بكَ البأُس والنِّقَمةَ حتى صرتَ من قُوّة الألم معْتاضاً شِدّةَ الوَجَل، ومن رجاءِ الغدِ متعرِّضاً يأْسَ الأبَد، وركبتَ مطيَّة المخافةِ بعد مَجْلس الأمن والكرامةِ، وصرتَ معرَّضاً للرحمة بعدما تكنَّفتْك الغبطةُ. وقد قال الشاعر:
إذا ما بدأتَ أمرأ جاهلاً ... ببرٍّ فقصرَ عن جهلِه
ولمْ ترهُ قابلاً للجميل ... ولا عَرفْ الفضل من أهله
فسِمهُ الهوانَ فإن الهوان ... دواءُ لذي الجهل مِنْ جُهله
قد فهمتُ كتابك، وإغراقَك، وإطنابك، وإضافةً ما أضفتَ بتزويق الكتب بالأقلام، وفي كفاية الله غنى عنك يا إبراهيمُ، وعِوضٌ منك، وهو حَسُبنا ونعم الوكيل.
قيل ليعقوبَ بن داود: لم لا تسمع الغناءَ؟ قال: يحلّ عُقدةَ حلمي.

ذكر الفضل بن الربيع يوماً الأمين، فقال: ينام نومَ الظربَان، وينتبه انتباه الذئب. همَّتُه بطنُه ولذتُه فرجة لا يفكرِّ في زوال نعْمَة ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد شمر له عبد الله عن ساقه، وفوق له أسَدًّ أسْهمه، يرميه على بُعد الدَّار بالحَتْف الفاقدِ، والإوت القاصدِ قد عبأ له المنايا على متُون الخيل، وناط له البلايا بأسنة الرماح وشِفار السُّيوف، ثم تمثَّل بشعر البعيث:
يقارعُ أتراكَ ابنِ خاقانَ ليله ... إلا أنْ يَرى الإصباحَ لا يتلعثم
فيصبح مِنْ طول الطَّرادِ وجسمه ... نحيل وأضحى في النعيم أصِمَّم
فشتَّان ما بيني وبين ابن خَالد ... أميةَ في الرِّزق الذي اللهُ يقسَّم
ثم قال يا أبا الحارث: ونحْنُ نجري إلى غاية إن قصرنا عَنها ذُممْنا، وإن اجتهدَنا في بُوغها انقطعْنا. وإنما نحنُ شعب من أصْل إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعُفْنا. إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاءَ الأمةِ الوكعاءِ، يُشاورُ النساءَ ويعْتزم على الرؤيا، قد أمْكن أهل الخسَارة واللَّهو من سَمْعه. فهم يمنُّونهُ الفوز والظَّفر ويعدونُه عقبى الأيام. والهلاكُ أسرع إليْه من السيل إلى قيعان الرَّمْل.
ذكر سليمانُ بن وهب أحمدَ بن أبي دَوْاد وإحسانه إليه حين نكبهُ الواثقُ، فقالَ لما جار علينَا بالنكبة الزمانُ، وجَفانا من أجْلها الإخوانُ، أنصفنا ابنُ أبي دواد مِنهم بتفضُّله، وكفانا الحاجة إليهم بتفقُّدِهِ، فكأنا وإياهُ كما قال الحطيئة.
جاورتُ أل مقلَّد فوجدْتُهم ... إذا لا يكادُ أخُو جوار يُحمَدُ
ايامَ مَن يُرِدِ الصَّنيعةَ يصْطِنعْ ... فينا ومن يُرد الزَّهادَة يزهدُ
كتب علي بنُ عيسى بن ماهان إلى الرَّشيد كتاباً يقولُ فيه: إنَّ البرامكة زنادقةٌ، وكان لهُ فيهمْ بُعْدُ رأى فدفع الكتاب إِلَى جعفر وقال علمني بقصده إياكم يزيل فاكتب بج فأجبه جواباً جميلاً، فقال جعفر: والله يا أميرَ المؤمنين، ما ندري على أي الحالتين نشكُرك؟ أعلى إعلامك إيانا بما كان، أم على تجاوزك عمَّا قال.
ثم وقَّع في كتاب علي بن عيسى: حبب اللهُ إليك الوَفاء فقد أبغضُتَهُ، وبغّض إليك الغدْر فقدْ أحبْبته إنا وإن جرَت الأمورُ بخلاف ما نحب منك فلن نبْعُد عمَّا نحبُّ لك، وفي كثير إحسانك عندنا ما يعفِّى على قليل إساءتك وقد نسينا هذه عن لمْ تذكِّرْناها بأخت لها. والسلام.
عتب أحمد بنُ خالد على أحمد بن هشام في أمر كان بينُهما فاعتذر إليه، فقال ابنْ أبي خالد: لا اقبلْ لك عُذراً حتى أتى إليك. فقال: والله لئن فعلت لا استعَدْيتُ عليْك إلا ظُلمك، ولا أطمعني فيك إلى بغْيُك.
قال الفضلُ بن يحيى لبعض المتحرِّمين به: أعتذر إليك بصالح النية، وأحتجُّ عليك بغالب القضاء.
وكتب إلى عامل له: بئسَ الزادُ إلى المعاد العدوانُ على العباد.
وقال لرجلٍ استْبطأ عنْدَهُ الرشيدَ - وكان منْ أهل بيْته - إنَّما شغلَ عنك أميرَ المؤمنين حُقوقُ أهل الطاعة دونك، ولو قد فرغ فيهمْ إليك لم يُؤثر مَن دونك عليك. فقام أبوه يحيى، فقبَّل رأسَه.
كتب محمدُ بن عبد الملك إلى عبد الله بن طاهر: لو لم يْكن من فضل الشُّكر إلا أنَّه يُرى بين نعمة مقصورة عليه أو زيادة منتظرة، فقال: عبدُ الله لكاتبه: كيف ترى. مَسْمع هاتين الكلمتين؟ فقال: كأنهُمَا قُرْطان بينهما وجَهٌ حسنٌ.
رَقع جعفرُ بنُ يحيى على ظهر كتاب لعلي بن عيسى: حبب الله إليك الوفاء - ياخي - فقد أبغضته، وبعض إليك الغَدْر فقد أحببته. إني نظرت في الأشياء لأجدَ فيها ما يُشبُهكُ. فلما لمْ أجدْ رجتُ إليك فشَّبهتُك بك. ولقد بَلغ من حسْن ظنك بالأيَّام أن أمنت السلامَة مع البغْي، وليَس هذا من عَادتِها.
قال يحيى بنُ خالد: ذُلُّ العَزْل يضْحَكُ مِنْ تيهِ الولاية.
وقال الفضلُ بنُ مروان: إنَّ الكاتِب مثلُ الدُّولاب إذا تعطَّل تكَّسرَ.

قال المأمونُ لأحمدَ بن يوسُف: إنَّ أصْحَاب الصَّدقاتِ تظلموا مِنْك، فقال: يا أميرَ المؤْمنين والله ما رضى أصحابُ الصدقاتِ عنْ رسول اللهِ صلى الله عليهُ وسلَّمَ حتى أنزل اللهُ فيهم: " ومنهمْ مَن يَلمزُك في الصَّدقات فإن أعْطُوا منها رضوا، وإن لمْ يُعْطَوْا منها إذا همْ يسْخطون فكيف يرضوْن عني؟ فاسْتضْحك المأْمونُ، وقال لهُ: تأمَّل أحُوالهُم، وأحْسن النَّظرَ في أمرهمْ.
قال أحمد بن الخصيب للمنتصر: يا أميرَ المؤمنين: إنَّ الناسَ قد نسبوا إليك ما نسبوا واستفَظعوا ذلك، فأنت كما قال الشاعر:
وذنبي ظاهرٌ لا ستر عنهُ ... لطالبه وعذري بالمغيبِ
فأحسنْ إلى الناس يُحبُّوكَ، وأفْشِ فيهْم العدْل يحمدوك، ولا تُطْلِق لغيرْك عليهم لِساناً ولا بداً فيَذمُّوك.
قال أبُو عبَّاد. ما جَلَسَ أحدٌ بين يدي إلا تمثَّل لي أني سأجلس بين يدْيِه.
قال الحسنُ بنُ وهب: كاتب رئيسَكَ بما يستحقُّ. وما دونك بما يستوجب، وكاتب صديقك كما تكاتب حبيبَك، فإنَّ غزل المودَّة أدقُّ من غزل الصَّبَابة.
قال إبراهيُم بن العباس: السلطان كالثعبان ونعم الرُّشا ألذُّ شيءٍ.
قال عبيد الله بن سليمان: أستؤذن لنجاح بن سلمة عَلي أبي، وكان بينهما ذلك التباعدُ فقال أبي: يا بني تفقَّدُه إذا دَخل، فانظر، فإن نظر إلى ما بين يديه فلم يأْت لخلَّة. وإن نظر إلى السَّقف، فعرفنا ما عنده.
كتب كاتبٌ لرجاء الحصَارى كتاباً عنه فلمَّا عَنونه، كتب مِنْ أبي فلان. فقال له رجاءٌ: لمَ كنيت: من أبي؟ فقال: هَو أجلُّ لك. والسلطان إذا عظم قدْر رجل ذكره بالكنية فيكفي ذلك الرّجل. فقال له: السُّلطان أولى بما يفعله، ولكنَّك نسْبتني إلى أسفلَ، وإنما ينتسب الناسُ إلى فوقَ. ويحك؟ كل شيء تضمُّه إلى أب وابن فإنِّما تذكُره للتعريف، ولأنْ أعرف بأبي أحبُّ إلي من أن أعرَف بابْني. أكتب من فلان ابن فلان.
وَلي الرشيدُ عاملاً خراجَ طَساسيج السَّواد، فقال لجعفر ويحْيى: أوْصياه. فقال جعفرٌ: وفِّرْ واعْمُر. وقال يحيى: أنصِفْ وانتصف. وقال الرشيدُ يا هذا: أحْسِنْ واعْدل. ففضَّل الناسُ كلام الرَّشيد. فقيل لهما: لمَ نقصَ كلامكما عن كلامه؟ فقال جعفرٌ: لا يعتدُّ هذا نقصاناً إلا مَن لا يعرف ما لنا وما عَلينا. إنما أمَرْنا بمَا عليْنا أن نأْمَر به، وأمير المؤمنين بما له أن يأْمرَ به؟ قال رجلٌ ليحيى بن خالد - وكان مِنْ صنائعهِ: إني سمعتُ الرشيدَ وقد خرجتَ من عندهِ يقولُ: قَتلنِي اللهُ إنْ لمْ أقْتلْك، فاحْتلْ لنفِسكَ. فقال: اسْكُتْ يا أخي، إذا جاءَ الإدبارُ كان العطبُ في الحيلةِ.
وأمَرَ يحيى كاتبيْن من كُتَّابهِ أن يكتُبَا كتاباً في معنى واحد، فكّتبا، واخُتصَر أحدهُما، وأطَال الأخُر، فلّما قرأ كتاب المختصِر، قال: مَا أجدُ مَوْضع مَزيد. ثم قرأ كِتاب المطيلِ، فقال: مَا أجدُ موضِع نُقْصان؟ اعتذر رجلٌ إلى أبي عبد الله، فلما أبْرم قالَ: ما رَأيتُ عُذْراً أشْبَه باسْنِنان ذنبٍ من هذا.
قال بعضُهم الإبنِ الزياتِ: أنا أمت إليك بجِوَاري لك، وأرغبُ في عَطفك. فقال: أمَّا الجوارُ فنسبٌ بني الحِيطانِ، وأمّا العَطفُ والرقةُ فهُما للصبيانِ والنساء.
وناظَره رجل فصَالحهُ على مال، فقال له: عجَّل به. فقال الرجلُ.. أظُلمّ وتعجيلٌ؟ قال: فصُلحٌ وتأْجيل؟ قيل ليحيى بن خالد: غيِّر حاجَبك. قال: فمْن يعرف إخواني القُدماء؟

قال عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر: أتاني كتابُ المعْتز، وكتابُ أحمدَ بن إسْرائيل. مَع رسول، ومعهُ رأس بغُا. وفي الكُتُب أن أنصِّبَهُ عَلى الجانبين، فلمْ أفَعل وكتبتُ إلى أحمدَ بن إسرائيل: قد أوجَب اللهُ علي نُصح أمير المؤمنين من جهاتٍ: مِنها مَا تقتضيِه الدِّيانةُ، وتوجُبُهُ الإمامةُ، ومنْها اصطناع آبائه لخدمهمْ من أسْلافي، ومنها اختصاصه إياي بجميل رأيهِ، ومع هذا فلمْ أكْن لأوخّر عَنك رأياً مع ما أنا علية من المناصَحةِ والشُّكر. وإنّ الكُتُب وردت علي بنصب رأسِ بُغا في الجانِبيْن، وقد أخرت ذلك حتى يعودَ إلى الأمرُ بما أعملُ عليْه وبُغا فقدْ علمْتُ أنَّه عَدَوُّ أمير المؤمنين وعدوّك وقد أراحَ اللهُ منهُ حيثُ لم تتَهمْوا فيه، وأخافُ أن تتبعَكُم الأتراكُ عند أوَّل شَغْبة به، ويطالبوكم بدمِهِ. ويجعلُوا ذلكِ ذريعةً إلى إيقاع سُوءٍ، وكان الصَّوَابُ عندي أن يغسِلهُ أميرُ المؤمنين ويُصَلِّي عليْه، ويدفنهُ ويُظهر حزناً، ويقول: ما أحِبُّ أن يصَاب صغيرٌ مْنكم ولا كبيرُ، وقد غمَّني أمْرُ بغا ولو وَصَل إلى لزدتُ في مرتْبِته، وما يُشبهُ هذا.
فوردَ على كتابُ أحمد بن إسرائيل يشكُر ما كان مني ويحلف أنَّهُ سبقني إلى هذا الرأي، واجتهدَ فيهِ، فما أمْكنه إلا أن يفعل ما فعَل، ولمْ يقبلْ قوله. وفي آخر كتابه. واعلمْ أنَّه قد حدث بعدَك وهو مما لا نعْرفُه نحنُ، ولا أنت - رأيٌ للحُرَم والخدَم يُقبَل ويعملُ عليه، وهذا فتح للخطأ وإغلاقُ للصوَّاب فانصب الرأسَ قليلاً، ثُمَّ أنفِذهُ إلى خراسَان.
كُتب إلى جَعْفر بن يحيى أنَّ صَاحب الطريق قَدْ اشتطّ؟َ فيما يطلبُ من الأموال، فوقّع جعفرٌ: هذا رجلٌ منقطعٌ عن السلطان، وبين ذُؤبانِ العَرَب، بحيث العددُ والعُدَّةُ، والقلوب القاسيةُ، والأُنوفُ الحميةْ، فليُمدَدْ من المال بما يستصلح به من معه ليدفع به عدوَّه فغن نفقاتِ الحروب يُستَظهرُ لها ولا يُستظهرُ عليها.
وأكثر الناسُ شكيةَ عاملٍ فوقع إليه في قِصَّتهم يا هذا قد كثر شاكُوك، وقلَّ حامِدوك، فإمِّا عدلتَ إمِّا اعتزلتَ.
وكان يقول: إن قدرتُم أن تكُون كتبُكُم كلّها توْقيعات فافعلوا.
كتب الفضلُ بنُ سهل في كتاب جواب ساعٍ: ونحن نرى أنَّ قبول السِّعاية شرٌ من السعاية، لأنّ السعاية دلالةٌ، والقبول إجازةٌ، فاتقوا الساعي فإنه لو كان في سعَايته صادقاً لكان في صدقِه لئيماً، إذْ لم يحفَظ الحرمة ولم يسْتُر العورة.
كان يحيى بنُ خالد يقول: مَن تسبَّب إلينا بشفاعة في عَمَل فقدْ حلِّ عندنا محلَّ من ينهضُ بغيرِه، ومن لم ينهض بنفسهِ لمْ يكن للعمل أهلا.
قال ثُمامة: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهُدوَّ والتمهُّل والجَزالة، والحلاوة، وإفهاماً بُغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطقٌ يستغني بمَنطقهِ عن الإشارة لاستغني جعفرٌ عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة.
وقال مرة: ما رأيتُ أحداً كان لا يتحبَّسُ، ولا يتوقَّفُ، ولا يتلجْلج، ولا يرتقبُ لفظاً قد استدعاه من بُعْدٍ، ولا يلتمس التخلُّصَ إلى معنى قد تعصى عليه، بَعْد طلبهِ له: مِن جعْفر بن يحيى.
وقال: قُلتُ لجعْفر ما البيانُ؟ قال: أن يكون الأسم يُحيطُ بمعناك، ويُجلِّي عن مغزاك، ويُخرجه من الشّركة، ولا تستعينُ عليه بالكفرة. والذي لا بد منه أن يكون سَليماً من التكلف بعيداً مِن المنعة، بريئاً من التعقد، غنياً عن التأْويل.
قال الجاحظُ: هذا هُو تأْويلُ قول الأصْمعي: البليغ مَن طبَّق المَفصِل، وأغناك من المقسّر.
كتب يحيى بنُ خالد إلى بعضهم: قد حملَّتُ حَاجتي فلاناً لا لأنَّ شُكري ضعُف عن حَبْل أياديك، بل أحبْبتُ أن يكون لي أعوانٌ على شُكرك وشهودُ على فضلِك.
وقال لأبنْهِ. جعْفر: يا بُني، ما دَام قلمُك يعرفُ فأمْطِرهُ معروفاً وكان يحيى يقول: كيف يلام الملوك على ما يفعلون؟ وإذا أساءُوا وجدوا مَنْ يُزيِّن لهم سُوءَ ما يعملون، ويزكي ما يفْعلُون؟ وقال الفضلُ بنُ يحيى: الصبرُ على أخ تعتِبُ عليْه خيْرٌ من أخ تستأْنِفُ مودَّته.
وقال أحمدُ بنُ يوسف: لا تجوزُ قطيعةُ الصِّدِيق، ولا يُحمَلُ الأمر فيها إلا على واحدٍ من اثنين ليسَ في واحد منهما عُذْرٌ: إمَّا سُوءُ اختيار في نفسِ الصَّداقةِ أوْ ملالٌ.

قال أبو الحسين بنُ سَعْد: كنتُ بين يدي علي بن عيسى الوزير، فرأيتُ له أقْلاماً رديَّةً البري، فأصْلحتُها، فقالَ: يا أبَا الحُسْين. عليك بالكتابةِ فهذهِ تجارةٌ.
قال الفضلُ بنْ سَهْل: مَنْ أحَّب الازديادَ من النعمةِ فليشكرْ، ومَنْ أحَبَّ المنزلة عند سَلُطانهِ فلْيكْفهِ، ومن أحبَّ بقاء عِزّة فليُسقِطْ الدَالة. ومن أحب السَّلامة فليلزم الحذر؟

الباب الثامن
نكت مستحسنة للقضاء
قال شُريح: إنَّا لا تَعِيبُ الشهودَ، ولا نلقِّن الخصومَ، ولم نُسلَّط على أشْعاركم وأبْشاركم، إنما نَقْضي بينكم، فمن سَلَّم لقضائنا فَيِها، ومَنْ لا، أمَرنْا به إلى السّجن.
كتب الفضلُ بن الربيع إلى عبدِ الله بن سوَّار يسألُه أن يشتري له ضيعةٌ فكتب إليه: إن القضاء لا يُدنَّس بالوَكالة.
قال الزّهري: ثلاثٌ إِذَا كُنَّ في القاضي فليسَ بقاض إذا كره اللَّوائَم، وأحبَّ المحامد، وكَرهَ العَزْل.
قال أيُّوب: إن مِن أصحابي مَنْ أرجو دعوتَه، ولا أجيز شهادَته.
وقال سوَّار: ما أعُلمُ أحداً من أصحابي أفضلَ من عَطاء السُّلمي، ولو شَهد عنْدي علي فَلْسين ما أجَزْتُ شهادتَه - يذهبُ إلى أنَّه ضعيفٌ ليسَ.
وكان أبو هريرة لا يُجوِّز شهادةَ أصحاب الحمير.
وسُئل قتادة عن شهادة الصَّيرفيَّ.
فقال: لا تَجوز شهادتُه.
ولِيَ عبيدُ الله بنُ أبي بكرة قضاءَ البصرة فجعل يُحاني الناسَ فقيل له في ذلك، فقال: وما خيرُ رجل لا يقطعُ لأخيه مِن دينه؟ قال شريح: الحِدَّةُ كنيةُ الجهل.
قال ابنُ شُبُرمة لرجل: أتشربُ النبيذَ؟ قال: أشربُ الرِّطلين والثلاثة فقال: والله ما شربته شُرب الفِتْيان، ولا تركتَه ترك القُرآن وقيل لهُ: لم تركت النبيذ؟ فقالَ إن كان حلالاً فحظي تركتُ، وإن كان حراماً فبالحزم أخذتُ.
وسُئل شَريكٌ عَن النبيذ. فقال: قد شربه قوم صالحَون يُفتدى بهم فقيل: كَمْ أشربُ؟ قال: مَالا يشْرَبُك.
لما ولي يحْيى بنُ أكثم قضاء البصْرة استصغروا سنْهُ، فقال لهُ رجلٌ كمْ سنُّ القاضي أعزَّهُ الله؟ فقال: سِنُّ عتاب بن أسِيْدِ حين ولاهُ. رسولُ الله صلى الله عليهِ وسلم مكة، فجعل جوابه احتجاجاً.
ساوَم عُمرُ بنُ الخطّاب أعْرابيَّاً بفرس له فلمَّا قامَت عْلى ثمن أخذها منهُ عمرُ أنهُ فيها بالخيار، إن رضى أمْسَك، وإن كره ردَّ، فحمل عُمَرُ عليْها رجلاً يُشوِّرُها فوقعتْ في بئر فتكَّسرت، فقال الأعرابي ضمنت فرسي يا أميرَ المؤمنين، قال: كلاَّ، فإني لمْ أرْضها. فقال الأعرابي فاجْعل بيني وبينك رجُلاً من المسلمين. فجعلا بينهمَا شريحاً، فقصَّا عليهِ القصَّة، فقالَ شريحُ ضمِنْت يا أميرَ المؤمنين فرسَ الرجُل، لأنك أخذتَها على شيءٍ معْلُوم، فأنت لها ضامِنٌ حتى تردَّها عليْهِ، فقبل ذلك عمر، وبعث شريحاً على قضاء الكوفةِ.
سئل شريكٌ عن النبيذِ. فقال: اشربْ مِنْهُ ما وافقك، ودَعْ منهُ ما جنى عليك، وذُمَّه إذا ذمَّهُ الناس، ولا نْصرُهُ، فبئْسَ المنْصورُ، واللهِ.
سئل الشَّعْبيُّ عَنْ مَسْأَلة فقال: لا عِلمَ لي بها. فقيل: لا تستحي؟ قال: ولم أسْتحي ممَّا لم يستحي منهُ الملائِكُة حين قال: " لا علمَ لنا إلا ما علَّمْتنا؟ كان شريحٌ يقولُ: مَنْ سأل حاجةً فقد عَرض نفسه على الرق فإن، قضاها المسئولُ استبعدَهُ بها، وإنْ ردَّه عنها رجع حُراً، وهُمَا ذليلان: هذا بذُلِّ اللُّؤم، وذاك بذُلِّ الرَّدَّ.
قال بكارُ بن محمد رأيتُ سَوار بن عبد الله - وأراد أن يحكمَ فرفع رأسَهُ إلى الَّسماء وترقْرقتْ عيناهُ ثمَ حكم.
وكتب إليه المنصور في مَال كَانَ له على سلمة بن سَعيدِ: لماَّ مات سَلمةُ وكان عليه دَيْن للناس وللمنصُور، وكتب إليه: استوفِ لأمير المؤمنين دَيْنه، وفرق ما يبقى الغُرمَاء. فلم يلتفِتْ إلى كتابه، وضرَب للمنصور بسهم في المال كما ضرب لواحد من الغُرمَاءِ ثم كتب إليهِ إني رأيتُ أميرَ المؤمنين غريماً من الغُرماء. فكتب إليه: ملِئتِ الأرض بك عَدْلاً.

قال الهيْثم: ما رأيتُ ابن شُبْرمَة قطُّ. إلا وهُو متهيئٌ، كأنه يُريد الرُّكوب، فذٌكرَ لك لهُ - وأنا حَاضِرٌ - فقال: إنَّ الرَّجل لا يستجمعُ له رأيه حَّتى يجْمَع علْيه ثيابَهُ، ثم قال: إنَّ رجلاً من الحي كان له شرفٌ، قال لدَهْقان الفلّوجة يا هذا؟ إنما رُبَّما انتشرَ على أمرئ في الرأي، فهلْ عِنْدَك مشهورةٌ؟ قال: نعمْ احْتبِ وتهَّيأْ، والبَسْ ثيابك، ثم اهمُمْ بما تريد فهو اجمع لرَأيك، فليسَ مِنْ أحد يفعلُ مثل ذلك إلا اجتمع لهُ رأْيُهُ.
قال الحسنُ بنُ قحْطبة: دخلتُ على المهدِي نفسهِ وقدْ دخل شريكٌ فسلّم فقال: لا سَلَّم اللهُ عَليْك يا فاسِقُ. فقال شريكٌ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الفاسِق علامات تعرفُ: شرب الخمور، واتخاذ القينات والمعازفِ، قال: قتلني اللهُ إن لم أقتلْك. قال: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيتُ فِي المنام كأنِّي مُقبلٌ عليْك أكلِّمك وأنت تُكلِّمُنِي مِن قفاك. فقال لي المعبِّر: هذا رجلٌ يَطأُ بِسَاطك وهو مُخالِفٌ لك. قال شريك: إن رؤْيَاك ليست برؤْيا يوسف بن يعْقُوب. وإنَّ دِمَاءَ المسلمين لا تُستحلُّ بالأحْلام. فنكّسَ المهديُّ رأسَهُ، ثم أشار إليه: أنِ اخُرجْ، فخرجَ وخرجتُ خلفه. فقال لي: أمَا رأيت ما أرادَ صاحبُك أن يفْعَل؟ فقلْتُ: اسكُتْ فلِلَّهِ أبُوك!! قال ابن شُبْرمُة لإياس بن معاوية: شكلي وشكلُك لا يتفقان: أنت لا تشْتهي أن تسْكُت، وأنا لا أشتهي أنْ أسْمَع.
كان طارقٌ صاحبَ شرطةِ خالدِ بن عبد اللهِ القسْري، فمرّ بابنِ شُبْرُمَة وهو في موْكبِه. فقال ابنُ شُبرمة: سَحابةُ صَيف عن قليل تقشَّعُ اللهُمَّ لي ديني ولهُمْ دُنْياهُم. فاستعْملَ ابن شبرمة بعد ذلك القضاء. فقال له ابنهُ أتذكر قولك يومَ مرِّ طارقٌ في موْكبهِ؟ فقال: يا بُنَّي إنهمُ يجدُون مثل أبيك، ولا يجد مِثْلهُمْ أبُوك، إن أباكَ أكل منْ حلوائِهم وحُطَّ في أهْوائِهم.
قِيلَ لشريك: أكان مُعاوِيةُ حليماً؟ قال: لو كان حليماً ما سفَّهَ الحقَّ، وقاتل علياً.
وقال: لو كان حليماً ما حملَ أبناءَ العَبيد على حُرَمه، ولمَا أنْكح إلاَّ الأكْفاءَ.
قالوا: وأصوبُ مِنْ ذلك قولُ الآخر: كان معاويةُ يتعرَّضُ ويحلُم إذا أسْمع، ومَن تعرَّض للسَّفه فهو سفيه.
قيل للشعبيِّ: ما أحسنَ البراعة في الإماءِ! فقال: تورُّد ماءِ الحياء في وجه الحُرِّ أحسنُ.
دخل شريحٌ على بعض الأُمراء، فقال الأميرُ: يا جارية، هاتي عوداً. فجاءته بعُود يضرب. فلما بصُر به الأميرُ خَجل، وقال: نِعْم هذا أُخذ البارحة مع إنسان في الطَّوف. اكسروهُ. ثم صبر قليلاً، وقال: يا جاريةُ. هاتي عوداً للبخورِ. فقال شُرَيح: أتخافُ أن تغلطَ مرةً ثانيةً؟؟ شهد رجلٌ من جلسان الحسن بشهادة عند إياس بن معاوية، فردّه، فشكا الرجلُ ذلك إلى الحَسن. فأتاه الحسن فقال: يا أبا واثِلةَ، لم ردَدْتّ شهادة فلان؟ فقال: يا أبا سعيد، إن اللَّهَ يقول " مِمَّن ترضوْن مِن الشهداء " وليس فلان مِمّن أرضى.
وشهد عند عُبيدِ الله بن الحسن رجلٌ من بني نهْشل على أمر، فقال له: أترْوي قول الأسْود بن يعْفر: نام الخلِيُّ فما أحِسُّ رُقادي فقال له الرجل: لا. فقال: تُردَّ شهادتُه. وقال: لو كان في هذا خيرٌ لروَى شرف أهلِه.
جاء رجلٌ إلى شريح فكلَّمه بشيء، وأخفاهُ. فلما قام قال له رجل: يا أبا أميَّة، ما قال لك؟ قال: بابن أخي. أو ما رأيته أسَّرهُ منك؟ كان شريح عند زياد - وهو مريض - فلمَّا خرجَ مِن عنده أرسل إليه مسروقُ بنُ الأَجدع رسولاً وقال: كيف تركت الأميرَ؟ فقال: تركتُه يأْمُر وينهى. قال مسروق: إنه صاحب عويص، فأرجع إليه وأسأَلْهُ: ما يأْمر وما ينهى؟ قال: يأْمُر بالوصية وينهى عن النّوْح.
ومات ابنُ لشريح فلم يشعر بموته أحدٌ، ولم تصرخ عليه صارخةٌ، فقيل له: يا أبا أميّة، كيف أمسى ابنُك؟ قال: سكن علزه ورجاهُ أهله. وما كان منذ اشتكى أسكن من الليلة.
حكى عن الشعبي أنه قال: شهدتُ شريحاً، وجاءته امرأةٌ تخاصم زوجَها، فأَرسلتْ عينيها، فبكت. فقلتُ: يا أبا أميَّة، ما أظن هذه البائسة إلا مظلومةً.
فقال: يا شعبيُّ، إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً يبْكُون.
كان شريح إذا قيل له: كيف أصبحْت يا أبا أميَّة؟ قال: أصبحتُ ونصفُ الناس غضابٌ.

تقدم إلى شريح قومٌ فقالوا: إنَّ هذا خطب إلينا فقلنا له: ما تبيعُ؟ فقال: أبيع الدوابَّ. فزوَّجَّناه، فإذا هُو يبيعُ السنانيرَ. قال: أفلا قلتُم له: أيَّ الدواب من الدَّواب؟ وأجاز النكاح.
قال الشعْبيُّ: كان شريحٌ: يقولُ: إياكُمْ والجوابَ، فقُلنا له يا أبا أميَّة. إنَّك لتكُثِر مِن هذا. قال: قد آن لكُم أن تَسلْوني.
تقدمَ إلى رجلان، فأكثرَ على أحدُهما، فقلتُ: أظنُّك ضعيفاً؟ قال: ما عَلي ظنِّك خرَجتُ مِن أهلي، فكرهتُ أن يجيء منه غيرُ هذا فكففتُ عنه.
أتى عَدي بنُ أرطاة شريحاً ومعهُ امرأةٌ له من أهل الكوفة يخاصِمُها، فلما جَلس بين يدي شريح. قال عدي: أين أنت؟ قال: بينك وبيني الحائظِ. قال إني امرؤ من أهل الشَّام. قال: بعيدٌ سحِيق. قال: وإنِّي قدِمتُ العراق: قال: خيرَ مَقْدم.
قال: وقد تزوّجتُ هذه المرأة. قال: بالرِّفاءِ والبنين. قال: وإنَّها ولدتْ غُلاماً.
قال: ليْهنِك الفارسُ. قال: وقد أردتُ أن أنقلها إلى داري. قال: المرء أحقُّ بأَهله.
قال: قد كنتُ شرطْتُ له دارها. قال: الشرطُ. أمْلكُ. قال: أقض بيْننا. قال: قد فعلتُ.
قال: فعلى مَن قضيت؟ قال: على ابنِ أمِّك.
انصرف شريحٌ يوماً مِن مجلس القضاءِ، فلقيهُ رجلٌ، فقال: أمَا حان لك يا شيخُ أن تخاف الله وتستحي،؟ قال: ويلك! مِن أي شيء؟. قال: كبرت سنُّكُ، وفسَد ذِهنُك، وكثرُ نِسيانُك، وادّهن كاتبك وارتشي ابنُك، فصارت الأُمُورُ تجوزُ عليك. فقال: لا واللهِ لا يقولها لي أحد بعْدَك. واعَتزل عَن القضاءِ، ولزمَ منِزله: قال الشَّعْبي: أصاب متأَمِّلٌ أوْ كادَ، وأخطأَ مُسْتعجلٌ أو كاد.
كان شريحٌ في منزل القَضاءِ، فَنظرَ إلى رجل من أعوانه قائِمٍ، فضحك فقال: أتضحك؟ ويلك، وأنَا أتقلَّبُ بَيْنَ الجنَّة والنار.
أقام رجلٌ شهوداَ عند شريح فاستَحلَفه، فتلكَّأ، فقال له: ساء ما تثنى على شهودك.
وقضَى شريحٌ بالكوفة ستين سنة، ولاه عمرُ بن الخطاب، وبقي إلى أيام الحجاج.
كان رجلٌ يقال له خُنَيْس يجلس إلى الشعْبي، فتحدَّث الشَّعْبيُّ يوماً، فقال له خنيسٌ: أتَّق الله ولا تكذب. فقال له الشعْبيُّ: ويحكَ يا خُنَيس ما أحْوجَكَ إلى مُحَدْرَج شديدِ الفتل، ليِّن المَهزَّة، عظيم الثمرة، قد أخذَ مِن عَجْب ذَنَب إلى مغرز عنُق، فيوضَعُ على مِثل ذلِك منكَ، فتكثرُ له رقصَائُك من غير جَذل، قالَ: وما هو يا أبا عَمْرو؟ قال: هو والله أمرٌ لنا فيه أرَبٌ، ولَكَ فيه أدبٌ.
كان لشريح حائِط مائِلٌ، فقال له جارٌ له: حائطُكَ هذا مائِلٌ. قالَ: لا تُفَارقني أو يُنْقَض. قال: فنقضَهُ مِن ساعته.. فقال الرجلُ: لا تعْجَل يا أبَا أمية. فذاكَ إليْكَ. قال: بعْد أن أشْهدتَ علَّي؟ قال الشعبْي: وجَّهني عبد الملك بنُ مروان إلى مِلك الرُّوم، فلماَّ قدِمتُ عليه ودَفعْتُ إليه كتاب عبد الملك جعل يُسائِلُني عن أشياءَ، فأُخبرُهَ بها، فأقمتُ عنده أياماً، ثم كتب جوابَ كتابي، فلمَّا انصَرفتُ رفعتُه إلى عبد الملك فجعل يقرؤه، ويتغَّير لونُه، ثم قال: يا شعْبيُّ: علمتَ ما كتب الطاغيةُ؟ قلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ. كاتب الكتُبُ مختومةً ولم لْم تكُن مختومةً ما قرأتُها. وهي إليكَ. قال: إنه كتبَ: إنّ العجبَ من قوم يكُونُ فيهم مثلُ من أرَسَلتَ به إلىَّ فيملِّكون غيْرهُ. قال: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، ذاك لأنَّه لم يركَ. قال: فَسرِّىَ عنه، ثم قال: حسدني علْيكَ، فأرادَ أن أقْتلك.
سأل رجلٌ الشَّعْبيَّ، قالَ: أتَشْرَبُ نبيذَ الجرِّ الأخْضر؟ قال: نعمْ، وأشربُ نبيذ الدَّن.
سأل رجلٌ الشعْبيَّ عن رجل لَطم عيْن رجل فشرقتْ أوْاغرَوْقت: متى تقاد منها.
قال الشعبي: قدِمتُ على عبدِ الملك، فما رأيتُ أحسن حديثاً مِنْه إذا حدَّثَ، ولا أحسَن إنْصاتاً منه إذا حُدِّثَ، ولا أَعْلَم منه إذا خُولِفَ، وأخطأتُ عنده في أربع: حدثني يوماً بحديث، فقلتُ: أعِدْهُ علي يا أمير المؤمنين، فقال: أمَا عَلمتَ انه لا يُستعادُ أميرُ المؤمنين؟ وقلت له حين أذنَ لي عليه: أنا الشعْبيُّ يا أميرَ المؤمنينَ. فقالَ: ما أدْخلنَاكَ حتى عرفْناك. وكنَيتُ عند رجلاً فقال: أمَا علمتَ أنه لا يُكنْى أحدٌ عند أمير المؤمنين وسألتُه أنْ يكتبَني حديثاً. فقال: إنَّا نُكْتِبُ ولا نَكْتُب.

لما أخذ الحجاجُ الشعبي - وكان خرج عليه مع ابن الأشْعث، قال: يا شعبيُّ، ألمْ أرفع مِن قدرك، وبلغتُ بك شرف العطاءِ، وأوْفدتُك علي أمير المؤمنين، ورضيتُك جليساً لي ومحدِّثاً؟ قال: بلى. أصلح اللهُ الأميرَ. قال: فما أخرجك مع ابن الأشعثِ تقاتلني على غير دين ولا دُنيا؟ فأين كنت مِن هذه الفِتنةِ؟ فقال: أصلح اللهُ الأمير، أوْحش الجنابُ، وأحْزن بنا المنزلُ، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر، وفقدنا صالِحَ الإخوان، وشملتنا فتنةٌ لم نكن فيها بررةً أتقياءَ، ولا فجرةً أقوياءَ. فضحِك الحجاجُ، وعفا عنه.
قال الشعبيُّ: مَنْ أمِن الثٌّقل ثقُل.
أسْمَع رجلٌ الشعبي كلاماً، وعدَّد فيه خِصالاً قبيحةً - والشعبي ساكتُ - فلما فرغ الرجلُ مٍِن كلامه، قال: واللِّهِ لأغيظنَّ مَن أمَرك بهذا إن كُنت صادقاً، فغفرَ اللهُ لي، وإن كنت كاذِباً فغفرَ اللهُ لكَ.
قيل: يا أبا عَامر: ومَن أمرهُ بهذا؟ قال: الشيطانُ.
خطب رجل إلى قوم، فجاؤوا إلى الشعبي يسألونه عنهُ - وكان عارفاً به - فقال: هو والله - ما علمتُ - نافذُ الطَّعنِة، ركينُ الجلسةِ. فزوَّجوهُ، فإذا هو خياطٌ. فأتوْهُ، فقالوا. غدرتنا.
فقال: ما فعلتُ، وإنه لكما وصفتُ.
وقيل لهُ وقد بنى بأهلهِ: كيف وجدت أهلك؟ قال: فلِم أرخيتُ السِّتر إذن؟ لما قدم الشعبيُّ من البصرة قالوا له: وكيف تركت إخواننا من أهل البصرة؟ قال: تركُتهم قد سادَهُم مولاهم، وذاك أنه استغنى عنهُمْ في دُنياهم واحْتاجُوا إليه في ديِنهم. يعني الحسن الصريَّ.
وكان الشعبي يقولُ: لو كانت الشَّيعةُ من الطير لكانوا رخماً ولو كانوا من الدوابِّ لكانوا حَمِيراً.
قال العشبي: لا تُقدِمُوا على أمْر تخافون أن تقصِّروا فيه، فإن العاقل يحجزُه عن مراتب المُقدَّمين ما يرى من فضائِل القصِّرين. ولا تعدُوا أحداً عِدَةً لا تستطيعون إنجازها، فإنَّ العاقل يحجزه عن مَحْمدة المواعيد ما يرى مِن المذمَّة في الخُلْفِ، ولا تُحدِّثوا أحداً من الناس تخافون تكذيبَهُ، فإن العاقل يُسلِّيه عما في الحديثِ ما يَرى من مَذلَّة التكذيب، ولا تسألُوا أحداً من الناس تخافُون منعه، فإن العاقل يحجزه عما نالهُ السائلُ ما يرى من الدَّناءة في الطَّمَع.
تحدث الشعبيُّ يوماً عند ابن عُمر، فقال: إنه ليحدِّثنا بمواطِن شهدْناها وغاب عنها، فكأنَّه شهدها وغِبْنا عنها.
قال الشعبيُّ: تعامل الناسُ فيما بينهم بالدِّين زمناً طويلاً، ثم بالوَفاءِ حتى ذهب الوفاءُ، ثم بالمروءة حتَّى ذهبت المروءةُ، ثم بالحياءِ حتى ذهب الحياءُ، ثم صاروا إلى الرَّغبة والرَّهبةِ.
قال: العِلم أكثرُ مِن أن يُحصَى، فخُذُوا مِن كلِّ شيء أحْسَنهُ.
وكان يقول: ما رأيتُ مِثلي: ما أشاءُ أن أرى أحداً أعلمَ بشيء منِّي إكلا وجدتُه.
وقيل له: مالك لا تأتي السُّلطان؟ قال: أخافُ خصلتين: طعامهم الطَّيب، ولباسَهم اليِّن.
وكان يقول: الخالُ زينب، والثؤلول شيْنٌ.
وقال: أقلُّ ما أحسِنُه الشعرُ، ولو أنشدتكم شهرا لما فني مَا عندي.
وذكروا معاوية يوماً عنده، فقال رجل: كان حليماً. فقال الشعبي: ويحك!! وهل أغمدَ سيفَه وفي قلبه شيءٌ على أحَدٍ، ولكن قل: كانت له سياسةٌ وعَقل.
وقال الشعبي: إنَّ كرامَ الناس أسرعهم مودةً وأبطؤهم عداوةً مثل الكُوز مِن الفضةِ يبطئُ الانكسار، ويُسرعُ الانجِبَار، وإن لئامَ الناس أبطؤهم مَودةً، وأسرعُهم عداوةً مثلُ الكوز من الفَخَّار يسرع الإنكسار ويبطئُ الانجبار.
وقال ابن شبرمة: مَنْ بالغ في الخصومة أثِمَ، ومن قصَّر خصِم.
وقال: منْ لزم العفَاف هانت عليه موجِدةُ الملُبوك.
دخل رجلٌ على عيسى بن موسى بالكوفة فكلَّمه، وحضر عبدُ الله بن شُبْرمة فأعانه، وقال: أصلحك اللهُ. إنّ له شرفاً، وبيتاً وقدَماً. فقيل لابن شبرمة: أتعْرفُه؟ قال: لا. قالُوا: فكيف أثنيتَ عليه؟ قال: قلتُ: إن له شرفاً، أي: أذُنين ومَنكبين، وبيتاً يأوي إليه، وقدماً يطأُ عليها.
وقال له رجل: صنعتَ إلى فُلان، وصنعت، فقال: اسكت، فلا خير في المعروف إذا أحصى. وكان إذا وُلِدَ له غلام يقول: اللهم اجعله بّاتقِيا، واجعل لذَّته في بلدِه.

قيل: بينا رقبةُ بن مَصْقلةَ القاضي في حَلقة إذ مرَّ رجل غليظُ العُنق، فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله، وهذا الذي ترى مِن أعبدِ الناس. فقال رقبةُ: إني لأرى لهذا عُنقُاً قلِّما وقذتها العبادةُ.
قال: فمضى الرجل، ثم عاد قاصداً إليهم، فقال رجل لرقبة: يا أبا عبد الله، أخبرُهُ بما قلت، لا تكون غيبةً. قال: نعم. أخْبرهُ حتى تكون نميمةً.
وكان رقبةُ يقول: أيُّ مجلسٍ المسجدُ لو كان عليك فيه إذنٌ! وقال: ما رأيت كذبةً أحضر من كذِبِة الذين يتّكِئون في المسجد، فإذا أقيمت الصَّلاةُ قلتَ لأَحدهم: نِمت، فيقول: واللهِ ما نِمتُ وقد خَرِىَ.
ودخل رقيةٌ المسجد الأعظم، فألقى نفسه إلى حلقةِ قوم، ثم قال: قتيل فالوذج رحمكم اللهُ.
قالوا: عند مَن؟ قال: عند من حكم في الفُرقة، وقضى في الجماعة يعني بلال بن أبي بُردْة.
ذكرت الآراء عند رقبة، فقال: أمّا الرافضةُ فإنَّهم اتخذوا البهتان حُجَّةً، والْعضِيهة مغلبةً. وأما النَّيديَّةُ فإني أظنُ الذي وضع لهم رأيَهُم امرأة. وأما الخوارجُ فأعرابٌ جُفاةٌ لا يعقِلون. وأما المُرْجئةُ فإنهَّم على دين الملك وأما المعتزلةُ فوالله ما خرجتُ إلى ضيعتي قطُّ إلا ظننتُ إني لا أرجعُ حتى يتركوا دينهُم.
وقيل له: إنك لتُكثر الشكَّ. قال: وهل ذاكُم إلا المحاماةُ عن اليقين.
اختصم إلى شُريح امرأتان في وَلد هِرَّة، فقال: ألْقُوها مع هذه، فإن هي قرَّت، ولزَّت، واسبطرَّت فهي لها. وإن هي هرَّت، وفرَّت، وازبأرّت فليست لها.
وقال الشعبي: ما طلع السماكُ قطُّ إلا غارزاً ذنبه في بُرد.
وكان إذا سُئِل عن مُعضلة، قال: ربَّاهُ ذاتُ وَبر أعيت قائدَها، وسائقها لو ألقيت على أصحاب محمَّد لأعضلت بهم.
قال شريح: القضاء جمْرٌ، فارفع الجمْر عنك بعُودين، يعني: الشاهدين.
روى عن شقيق بن سَلمة قال: وقعت فتنةُ ابنِ الزبير فاعتزل شريحٌ القضاء، وقال: لا أقضِي بني اثنين في فتنةً. قال: فغدوتُ عليه ذات يوم. فقلتُ: يا أبا أُمية، كيف أصبحت؟ قال: أحمدُ الله العزيزُ الجبّار إليك: وقعت الفتنةُ تسع سنين فما أخبرت ولا اسْتُخبرت. قلتُ: يا أبا أمية لقد صبرتَ. قال: فيكف بهواي في أحدِ الفريقين؟ قال شريح يوماً لأصحابه: لقد أكلتُ اليوم لحماً قد أتى عليه عشرون سنة.
فقالوا: سبحان الله. أبداً تأْتينا بالعجائب. فقال: كانت عندي ناقةٌ قد أتت عليها عشرون سنة، فنحرْتُها، وأكلتُ من لحمها.
ورُثى شريح بجولُ في الأسواق، والطرقِ، فقيل: ما غدَا بِك؟ فقال: عسْيتُ أن أنظرَ إلى صورة حسنة.
كان يقالُ: أوَّلُ من أظهر الجوْر من القضاة في الحكم بلالُ بن أبي بردةَ بن أبي موسى، وكان أميراَ البصرة، وقاضيَها. وكان يقول: إن الرجُلين ليتقدَّمان إلي، فأَجدُ أحدَهما أخفَّ على قلبي، فأَقضى له. وفيه يقول رُؤُبة: وأنت يا بن القاضِيَيْن قاضٍ يريد أبَاهُ أبا بُردةَ.
وكان الحجاجُ ولاة القضاءَ حين استعفى شُريح، فاستشارهُ فيمن يولِّيه. فقال شُريحٌ. عليك بالشريفِ العفيفِ أبي بردة. وجدُّه أبو موسى وهو قاضي عُمر، وأحدِ الحكمين.
وذُكر أنَّ رجلاً جاء إلى بلال يسعى إليه بآخر. قال: فأقعدهُ، وأرسل في المسألة عنه. فذُكر له، أنَّه يُعرفُ بغير أبيهِ المنتسب إليه. فقال بلالٌ: أنا أبو عمرو، حدثني أبي عن جدِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الساعي بالناس لغير أبيه الذي يُنسب إليه " شهد سوَّارُ بن عبد الله العَنبري عند بلال بشهادة، وشهدَ معه رجلٌ أخرُ ليس بذاكٍ. فقال بلالٌ: يا سوَّارُ، ما تقولُ في هذا الرجل؟ قال: إنما جئتُ شاهداً لا مُزكِّياً. قال: فحضر هذا معك هذه الشهادة؟ قال: نعم: فأجازهُ.
خاصم رجلٌ خالد بن صفوان إلى بلال، فقضى الرجلُ عليه. فقام خالدٌ وهو يقولُ: سحابةُ صيف عن قليل تقشَّعُ.
فقال بلال: أما إنها لا تتقشع حتى يصيبك منها شُؤبوبُ برد، وأمر به إلى الحبس.
فقال خالد: علام تحبسُني؟ فوالله ما جنيتُ جنايةً فقال بلال: يخبرنا عن ذلك بابٌ مُصمَتٌ، وأقيادٌ ثِقالٌ، وقيِّم يقال له: حفصٌ.
قال بلال: إذا رأيتَ الرجل لجُوجاً مماريا، معجَباً برأيه، فقد تمَّت خَسارتُه.

كان إياسُ بن معاوية بن قرّة صادق الظنّ، لطيفاً في الأُمور، وتولىَّ قضاءَ البصرة في أيام عمر بن عبد العزيز. واختصم إليه رجلان في مُطرف خزِّ، وأنبجانِّي، فادَّعى كلُّ واحد منهما المطرف الخزَّ أنه له، وأنَّ الأنبجاني للآخرِ. فدعا إياس بمشط. وماءٍ، قبلَّ رأسَ كلِّ واحد منهما. ثم قال لأحدهما: سرِّح رأسك. فخرج في المُشط غفرُ المطرف وفي مشط الآخر غفرُ الأبجاني. فقال: يا خبيثُ، الأنبجاني لك. فأمرَّ فدفع المطرف إلى صاحبه.
استودع رجلٌ رجلاً من أمناءِ إياس مالاً، وخرج الرجلُ إلى مكة. فلما رجع طالبه بالمال فجحده، فأتى إياساً فأخُبرهُ، فقال إياسٌ علِم أنك أتيتني؟ قال: لا. قال فنازعته عند أحد؟ قال: لا. لا يعلم أحدٌ بهذا. قال: فانصرِف، واكتب أمرك ثم عُد إليّ بعد يومين. فمضى الرجل، دعا إياس أمينه ذلك. فقال: قد حضر مال كثيرٌ، وأريد أن أصيِّرَه إليك أتحصِّننَّ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأَعِدَّ موضعاً للمال، وقوماً يحملونه. وعاد الرجل إلى إياس، فقال له: انطلِق إلى صاحبِك، فاطلُب مالك، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقْل له: أنِّي أخُبِر القاضي. فأتى الرجلُ صاحبهُ، فقال: مالي، وإلا أتيتُ القاضي، وشكوتُ إليه. فدفع إليه ماله، ورجع الرّجلُ إلى إياس فأخبره، وجاء الأمينُ لموعِدِه، فزجره إياسُ وقال: لقد بان يا خائن.
قال إياس لقوم من أهل مكَّة: قدمنا بلادكم، فعرفنا خِياركم، وشراركم قالوا: وكيف عرفتم؟ قال: كان معنا أخيارٌ، وأشرارٌ نعرِفُهم، فلحِق كلُّ جنس بجنسه.
كان إياسُ يقول: الخبُّ لا يخدعُني، ولا يخدع ابن سيرين، ويخدع الحَسن، ويخدعُ أبي.
وتبصروا هلال شهرِ رمضان وهم جماعةٌ، وفيهم أنسُ بن مالك وقد قاربَ المائةَ، فقال: قد رأيتُه. فقال إياسٌ: أشِر إلى موضعه. فجعل يشيرُ، ولا يروْنَه. ونظر إياس إلى أنس فإذا شَعرةٌ من حاجبه بيضاءُ قد انثنتْ، فصارت على عينهِ، فمسَحها إياسٌ وسوَّاها، ثم قال: يا أبا حمزةَ أرِنا موضِع الهلال. فنظرَ، فنظر، فقال: ما أرى شيئاً.
قال رجل لإياس: هل ترى علي بأْساً إن أكلتُ تمراً؟ قال: لا قال: فهل ترى بأْساً إن أكلتُ معه كَيُسوماً؟ قال: لا. قال: فإن شربتُ عليهما ماءً؟ قال: جائزٌ. قال الرجل: فلم تحرِّم السُّكر وإنما هو ما ذكرتْه لك؟ فقال إياس: لو صبْبتْ عليك ماءً. هل كان يضرُّك؟ قال: لا. قال: فإن نثرتُ عليك تراباً وتبناً، هل كان يضرُّك؟ قال: لا. قال: فإن أخذتُ ذلك، وخلطتُه، وعجنتُه، وجعلتُ منه لبنةً عظيمةً، فضربت بها رأسَكَ، أكان يضُرُّك؟ قال: كنت تقتلُني. قال: فهذا مثلُ ذلك.
كان إياس يقولُ: مَن أرادَ الصلاح فعليه: بحُميدِ الطًّويل وتدرُون ما يقول؟ يقول لهذا: انقص قليلاً، ولهذا: زد قليلاً، فينقطعُ الأثر بذلك. ومن أراد الفُجورَ فليأْخُذ صالحَ بن خلاف وتدرون ما يقولُ للمدَّعي عليه؟: اجحَد ما عليك، وللمدَّعِي: ادَّع ما ليس لك.
أتى إياس حلقةً من حلقات قريش في مسْجدٍ دمشقَ، فاستولى على المجلس، ورأوْه ذميماً، باذَّ الهيئة، فاستهانوُا به. فلما عرفُوه اعتذرُوا إليه، وقالُوا: الذَّنبُ بينَنَا، وبينك مقسومٌ، فإنك أتيتَنا في زيِّ مسكين، تكلِّمُنا بكلام الملوك.
أخذ الحكمُ بنُ أيُّوب إياسَ بن معاوية في ظِنَّة الخوارج، فقال له الحكمُ: إنك خارجيٌ منافق، وأوسَعه شتماً. ثم قال له: إيتنِي بكَفيل. فقال: أكْفُل أيُّها الأمير. فما أحَدٌ أعرفَ منكَ بي. قال: وما عِلمِي بك وأنا من أهل الشام، وأنتَ مِن أهلِ العراق؟ فقال له إياس: ففِيمَ هذه الشَّهادةُ منذُ اليوم؟ فضحِكَ وخلَّى سَبيله.
كان ابن أبي ليلى وِلي القضاء لبني أمية، وبعدهم لبني العباس. وقيل: وهو أول من تولى قضاءَ بغداد. وقيل: بل أوَلُ من تولاها من القُضاة شَريك.
وقال سفيانُ بن عُيَيْنةَ: شهد محمدُ بنُ عبد الرحمن بن الأسودِ عند ابن أبي ليلى بشهادة، فتوقَّف في شهادتِه. قال ابْن عيينة: فناظرتُ. بن أبي ليلى في ذَلك، وقلت له: أني لك بالكوفة رجلٌ مثلهُ؟؟ فقال: هو كذَلك، إلاَّ أنّ الذي شهد به عظيمٌ، والرجل فقيرٌ. قال: فأعجبني هذا من قوله.
وأخذَ علي ابنِ أبي ليلى رجلٌ جُلَسائه كلمةً، فقال له ابنُ أبي ليلى: أهد إلينا مِن هذا ما شئت. وكان يقولُ: أحذِّرُكم الثِّقات.

دعا المنصورُ ابن أبي ليلى، فأَرادَهُ على القضاء، فأبى، فتوعّده إن لم يفعْل، فأبى أن يفعل، ثم إنَّ غدَاء المنصور حضرَ، فأتى فيما أتى بصحفة فيها مثالُ رأس. فقال لابن أبي ليلى: خُذ أيها الرجلُ مِن هذا. قال ابنُ أبي ليلى: فجعلتُ أضرب بيدي إلى الشيء، فإذا وضعتُه في فَمي سال، لا أحتاجُ إلى أن أمضغهُ. فلما فَرغ الرجل جعل يلحسُ الصحفةَ. فقال لي: يا محمدُ. أتدري ما كنت تأكُل؟ قلتُ: لا - والله - يا أمير المؤمنين. قال: هذا مخُّ النِّينان معقودٌ بالسكَّر الطَّبَرزَذ. وتدري بكم تقوَّم هذه الصَّحفةُ علينا؟ قلت: لا، يا أمير المؤمنين. فقال: تقومُّ بثلاث مائة وبضعةَ عشر. أتدري: لِمَ ألحسُها؟ هذه صفحةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا أطلبُ البَركةَ بذلك. فلما خرج ابنُ ليلى من عنده رفعَ رأسَه إلى الربيع. فقال: لقد أكل الشَّيخ عندما أكلةً لا يفلِحُ بعدها أبداً.
فلما كان عَشى ذلك اليوم راح ابنُ أبي ليلَى إلى المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، فكرتُ فيما عرضت علي، فرأيتُ أنه لا يسَعُني خِلافُك. فولاه القضاءَ. ثم قال للربيع: كيف رأيتَ حَدسي؟ روى عن العباس بن محمد أنَّه قال: لمَّا أرادَ المنصورُ شريكَ بنَ عبد الله على القضاءِ قالَ: أريد " ُ أن تكلِّم أميرَ المؤمنين ليُعفيَني. فقلت له: إنَّ أبا جعفر إذا عزم أمراً لم تُردّ عَزماتُه. قال: فلما قام، وأقَرَّه على القضاء قلتُ له: إن أميرَ المؤمنين المهديَّ ألينُ عَريكةً من الماضي. فقال: أما الآن فلاَ، فإني أخشى شماتَة الأعداء.
قال بعضُ أصحاب الحديث: سأَلتُ شريكاً عن النبيذ، فقال لي أمّا أنا فلا أتركُهُ حتى يكونَ أسوأ عملي.
وقال شريك لرجل: كم تشربُ من النبيذ؟ فقال: الرِّطلَ والرِّطلين.
فقال: يا أخي، ما شربتَه شُرب الفِتيان، ولا تركتهُ ترك القرآن.
ذكر عند شَريك العربُ والعجمُ، فغضِب، وقال ذهبَ العربُ الذين كانوا إذا غضِبُوا كفروا.
وقال عبدُ الله بنُ مُصعَب الزُّبيري لِشريك: بلغني أنك تشتُم أبا بكر وعُمَر. فقال: والله ما أشتُم الزبير، فكيف أشتُمُهما؟ مر؟ّ شريكٌ بالبصرة - وكان خرج مع المنصور إليها - فسألُوه أن يحدثهم فقال: يأْتيني أحدُهم مُشتَمِلاً على أن يسأَلني الحديث.
وقال أبو عبيدةَ: البلاءُ مُوكَّلِ بالمنطِق. كانَ جدُّ هذا: شريك يَعملُ الدّنَّ بوزارةً فقتل رجلاً، وهربَ إلى خُراسان، فقدم ابنُه وادَّعى إلى العَرب.
وكان شريك مِنَ النخع وقيل: إن جدّه هو سنان ابن أنس قاتل الحسين صلى الله عليه ولَعَن قاتِله.
ولما عُزل شريك عن القضاءِ قام إليه رجل، فقال: الحمدُ لله الذي عزَلك فقد كنت تُطيل النَّشوةَ، وتَقبل الرّشوةَ، وتوطىُّ العشوةَ. فقال رجلٌ فخنقه. فجَعل يصيح: قتلِني يا أبا عبدِ الله - جعلني الله فِداك - فقال شريك: قد ذلَّ مَن ليس له سَفيهٌ.
وسئل عن أبي حنيفة، فقال: أعلَمُ الناسِ بما لا يكونُ، وأجَهلُهم بما يكونُ.
ودخل على المهدي فقال له: يا شريكُ، بلغني أنَّك فاطميُّ. فقال: أتحبُّ فاطمةَ؟ أعثرَ الله من لا يحبُّ فاطمةَ. فقال المهدي: آمين فلما خرج شريكٌ قال المهديُّ لمن عنده: لَعنهُ الله، ما أظنُّهُ إلا عَنَاني.
وقال له يوماً: أيُّنا أشرفُ: نحن أم ولدُ عليَّ؟ فقال شريك أمَّا مثلَ فاطمة حتى تُساويُهم في الشَّرف.
ولما دعاه المهديُّ إلى القضاء قال له: لا اصلُحُ لذلك. قال: ولَم ذلك قال: لأني نسَّاءٌ. قال: عليك بمضغِ اللُّبان. قال: إني حَدِيدٌ. قال: قد فرض لك أمير المؤمنين فالُوذَجةَ توقرك. قال: إني امرُؤ أقضى على الوارد، والصادرِ.
قال: اقضِ عليَّ، وعلى والدي. قال: فاكفِني حاشِيتَك. قال: قد فعلتُ.
فكانت أول رُقْعة وردت عليه خالصةُ جاريةُ المهدي. فجاءت لتتقدَّم الخصْم، فقال: وراءَك مع خصْمِك مِراراً. فأبَتْ. فقال: وراءكِ بالخَنْاءُ قالت: يا شيخُ، أنت أحمقُ.
قال: قد أخْبرتُ مولاك، فأبى عَلي. فجاءت إلى المهدي تشكو إليه فقال لها: الْزميِ بيتَكِ، ولا تعْرضي له.
قال ابنُ أبي ليلى: ما لِقينا مِن هُنئ، كلما تُوجِّهت لنا قضيةٌ نقضَها علينا أبو حنيفة.
وشهد أبو حنيفة عِنْد شريك، فلم يُجز شهادَته، وقال: يكف أجيزُ شهادةَ قوم يزعمون أن الصَّلاةَ ليستْ من الإيمان.

وكان بانُ شُبْرُمة يقول: لأنْ استعمِلَ خائناً بصيراً بعملِه أحَبُّ إليَّ من أن أستعمل مُضيِّعا لا يُبصِر العملَ.
ودخل سوَّارُ بن عبد الله علي المنصور - والمصحفُ من حجره، وعيناهُ تهملان - فقال السلام عليكم. يا أمير المؤمنين فقال يا سوَّارُ، ألاَ مرةً على المؤمنين؟؟ هدمتَ ديني، وذهبت بآخرتي، وأفسدت ما كان من صالح عملي. قال سَّوارُ: فانتهزتُها فُرصةً، وطلبتُ ثواب الله في عظته فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك جديرٌ بالبُكاءِ، حقيقٌ بطُول الحُزن ما أقمت في الدنيا. وقد استرعاك اللهُ أمر المسلمين، واستحفظك أموالهم، يسألك عما عملت فيما أسترعاك في اليوم الذي أعلمت في كتابه، فقال " يومئذ يصدُرُ الناس أشتاتاً لُيروْا أعمالهم. فمن يَعملْ مِثْقالَ ذرَّةٍ خيراً يّرَهُ ومن يعمل مِثقْال ذَرَّة شراً يره " . فازداد بُكاءً، وقال: " يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وكُنْتُ نَسْياً مَنّسياً " . ثم قال يا سوَّارُ إني أُعالج نفسي، وأُعاتبها منذ وليتُ أمور المسلمين على حمل الدِّرّة على عُنقي، والمشي في الأسواق على قدمي، وأن أسدَّ بالجريش من الطعام جوْعتي، وأوارىَ بأَخشن الثِّياب عورتي، وأضعَ قدر من أراد الدُّنيا، وأرفع قدْر من أراد الآخرة، وسعى لها، فلم تُطْعني، وعصتْني، ونفرتْ نُفوراً شديداً.
قال سوّار لا تجتِّسمها يا أمير المؤمنين صعاب الأُمور، ولا تُحمِّلها ما لا تُطيق، وألزمها أربع خصال تسلمْ لك دنياك وأخرتُك: أقم الحدود واحكُم بالعدل، واجْبِ الأموال من وُجوهها، واقسمها على أهلها بالحقِّ.
خاصم عبد الله بنُ عبدْ الأعلى الكريزي مولى له في أرض إلى سوَّار - وكان جدُّهُ أقطعها جدَّه - فقال سوار: إني لأرغبُ بك عن هذا، تُنازعُه في أرض أقطعها جدُّك جدَّه؟ فقال الكريزي الشحيح أغدرُ من الظالم. فنكس سوارُ طويلاً، ثم رفع رأسَه، فقال: اللهمَّ أردُدْ على قريش أخطارها.
دعا الرشيدُ أبا يوسف القاضي ليلاً فسأله عن مسألة، فأفتاه.
فأمر له بمائة ألف درهم فقال: إنْ رأي أميرُ المؤمنين أن يأْمر بتعجيلها قبل الصُّبح. فقال: عجِّلوها له. فقيل: إن الخازن في بيته، والأبواب مغلقةٌ. فقال أبو يوسف: وقد كنتُ في بيتي والدروب مُغلقة، فحين دُعي بي فُتِحتُ وقال له الرشيدُ: بلغني أنَّك لا ترى لُبس السَّواد. فقال: يا أمير المؤمنين. ولم؟ وليس في يدي شيءٌ أعز علي منه. قال: ما هُو؟ قال: السواد الذي في عيني.
وسُئل مرة عن السَّواد، فقال: النُّورُ في السَّواد - يريد سواد العين وكان خالد بن طليق الخُزاعي قاضياً، فاختصم إليه اثنان، فكان أحدُهُما كلما أراد أن يتكلَّم غمزه الشرطي ألا يتكلم. فلما كثُر ذلك عليه قال: أيُّها القاضي، أتقضي على غائب؟ فقال: لا. فقال أنا غائبٌ إذا لم أترك أن أتكلَّم.
وكان خالد تمياها صلفاً، وقال يوماً لمحمد بن سليمان - مع محلِّه وشرفه وثروته - نحنُ وأنتُم في الجاهلية كهاتين. وجمع بين إصبعيه.
كان عُبيدُ بن ظبيان قاضي الرَّقَّة، فجاءه رجلٌ واستعدَاه على عيسى بن جعفر، وكان الرشيدُ إذا ذاك بالرَّقة فكتب ابنُ ظبيان إلى عيسى أمَّا بعد أطال الله بقاءَ الأمير وحفظه وأتم نعمته عليه. أتاني رجلٌ فذكر أنَّ له عَلَى الأمير خمسمائة ألف درهم. فإن رأى الأميرُ - أعزَّه الله - أن يحضر مجلس الحكم، أو يُوكِّل وكيلاً يُناظر عنه فعل.
ودفع الكتاب إلى الرُّجل، فأتى باب عيسى، فدفع كتابه إلى الحاجب، فأوصله إليه، فقال له: كُل هذا الكتاب!! فرجع إلى القاضي فأخبرَه. فكتب إليه: أبقاك الله وحفظك، وأتمَّ نعمتهُ عليك. حضر رجلٌ يقال له فلانُ بنُ فلان وذكر أنَّ له عليك حقّاً، فصر معه إلى مجلس الحكم، أو وَكيلك إِن شاء الله.
ووجه الكتاب مع عَوْنَيْنِ من أعوانه، فحضرا باب عيسى، ودفعا الكتاب إليه، فغضب ورمَى به، فأخبراه.
فكتب إليه: حَفِظك الله وأبقاك - لا بُدَّ من أن تصير أنت وخصمك إلى مجلسِ الحُكم، فإن أبيت أنهيتُ ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله.
ووجَّه بالكتاب، فرَمى به عيسى. فعادا، وأبلغاهُ، فختم قِمَطُره، وانصرف، وقعد في بيته.

وبلغ الخبرُ الرشيدَ، فدعاه، فسأله، فأخبرَه بالقِصَّة حَرفا حَرفاً. فقال لإبراهيم بن عثمان صاحب شُرطته: صِر إلى باب عيسى بن جعفر، فاختم أبوابَه كلَّها، ولا يَخرجنَّ أحدٌ منها، ولا يدخلّنَّ حتى يخرج إلي الرجل من حقه، أو يصير معهُ إلى الحاكم.
فأحاط إبراهيم مع أصحابه بالدار، وختم الأبواب. فظنَّ عيسى أنه قد حَدث للرشيد رأيُ في قتلهِ، ولم يدْر ما سببُ ذلك؟ وارتفع الصِّياحُ، وصراخُ النساء مِن داره، وقال مِن وراء الباب ادْعُوا أبا إسحاق لأكلِّمه. فجاء إبراهيمُ، فقال له عيسى ويلك!! ما حالُنا؟ فأخبره بالأمر فأمر بأن يُحضر خمسمائة ألفِ درهم من ساعتها، وتُدفع إلى الرجل وأخبر الرشيد فأمر بفتح أبوابه.
وكان عباد بنُ منصور التاجي على قضاءِ البصرة في أيام أبي جعفر وأصحاب الحديث يُضعفون حديثه، ويقولُون كان قدريا.
وتقدم إليه برذوّيْه ومعه امرأةٌ تخاصمه في مهْرها وكان جميلةً. فقال كمْ مهْرُك؟ قال: مائتا درهم فقال عباد: ويحك يا برذويه!! ما أرخص ما تزوَّجْتَها؟؟ قال: أفَلا أوليكها أصلحك الله.
ذكر أنه لما حكم وفَرض يحيى بنُ أكثم فرضهُ المشهور للغلمان عابه الناسُ فكتب إلى المأْمون: يا أمير المؤمنين. قد أكرم الله أهل جنَّتِه بأن أطاف عليهم الغِلْمانَ في وقت كرامته، لفضلِهم في الخِدمةِ على الجواري، وامتنَّ عليهم بذلك. فما الذي بلغني عاجلاً مِن طلب هذه الكرامةِ المخصوصِ بها أهلُ القُرْبة عند الله؟؟ فوقع المأمون: اذكْر يا يحيى مِنْ كتاب الله ما كنا عنه غافلين، فلا يُعْترضُ عليه فيما يقدّر من الأرزاق في فرْضِه، ولا لمبْلغهم في العِدادِ، وقُرْب الولاء، فإنَّ أمير المؤمنين يحبُّ ما أحبَّ اللهُ، ويرضْاهُ لخاصته.
وكان له من المأْمون محلٌّ عظيم.
وذكر بختيشوعُ أنه سمع المأْمون يقول - لما جاوز الدّرب بالرقة: يا أيها الناس إني لا آمنُ الحِدْثان، فإن كان فيحيى بنُ أكْثم معكُمْ حتى نُبلغكُم مأْمنكُم، ثم تختارُون لأنفسكم.
ورفع محمد بنُ عمران صاحبُ البريد إلى المأمون ذكر خوْض الناس في يحيى بن أكثم وما يقولون في تهتكه. فدعا به، ثم قال له: كم تكْثِرُ علي في أمر يحيى؟ رجل فسد عليه عضْوٌ من أعضائه، وصلح لي؟ أأْستفْسِد؟ ثم سخط عليه. وكتب في معناه كتاباً طويلاً إلى إسحاق بن إبراهيم من الثَّغْر يقول لأبيه: فلما استشفَّ أميرُ المؤمنين حاله وسيرته ألفاهُ بعيداً من الإيمان، قريباً من الكفر، لِهجاً باللّواط، مْؤثراً للحرام على الحلال، قد أعلن الفِسق، وأظهر المُرُوق، وجاهر بالمعاصي، وأظْهر الملاهي، ورخّص في الدَّنِّ، وخالف دين المسلمين، فرأى أميرُ المؤمنين أن إخراجهُ من عسْكره، وبعده من جواره، أسلمُ له، أصْرف للمكروه عنه، فأسْلُبهُ - قبحهُ اللهُ - القنا والقلْنسُوة، وخُذْ منه السَّيف.
وكان المأْمون قد أمر بأن يفرض له الحُدود، وكان الكاتبُ الذي أمرِ فْرضهم يقال له زيدٌ فقال فيه بعضُهم:
يا زيدُ يا صاحب فرْض الفراش ... أكلُّ هذا طلباً للمعاش؟
مالي أرى يا زيدُ حمْلائكُمثبتتْ في الدِّفْتر قبل الكباش
ولما خرج المأْمونُ إلى الأُردنِّ - ويحيى معه - شكا الحمالُ الغلمان، وقال المأُمون: إنه يتظافرُون من محْمل إلى محمل، فقال له المأْمون: لم لا تنهاهم؟ فقال: لا ينتهُون. فقال له: لعلك ترى فيهم ما يرى يحْيى.
وتقدم المأْمونُ بين يديه مع رجل ادَّعى عليه ثلاثين ألف دينار. فطُرح للمأْمون مُصلَّي يجلس عليه. فقال يحيى: لا تأْخُذْ على خصْمك شرف المجلس، ولم تكُنْ للرجل بيٍّنةٌ، فحلف المأْمونُ. فلما فرغ وثب يحيى، فقام على رجْليه، فقال: ما أقامك؟.
فقال: إني كنتُ في حقِّ الله حتى أخذتُه منك، وليَس الآن من حقِّك أن أتصدَّر علْيك. فأعطى الرجل المأْمونُ ما ادَّعاه، وهو ثلاثون ألف دينار، وقال: خذْهُ إليك، إني - واللهِ - ما كنتُ لأحلِف على فجَرة. ثم أسْمح لك بالمال، فأُفسد ديني ودنيايَ. والله ما دفعتُ إليك هذا المال الساعة إلاّ خوفاً من هذه العامَّة، فلعلها ترى أنْ تناولْتُك من هذه القُدرة، ومنعتك حقَّك بالاستطالةِ عليك. فأما الآن فإنك تعلمُ أني ما كنتُ لأسمح باليمين والمال.
وأمرَ ليحيى بثلاثين ألف دينار. وتصدَّق بثلاثين ألف دينار.

وكان يحيى يقول: سياسةُ القضاء أسدُّ من القضاء.
كان أبو خَازِم عبدُ الحميد بن عبد العزيز الكوفي قاضياً للمعتمدِ. ودخلَ إلى عُبيْد الله بن سليمان، فسأله عن النَّبيذِ، فقال: هُو عند أصحابي كماء دجْلَة، غيرَ أنَّه يُودِي.
وجَرى بينَه وبين عُبيد الله شيءٌ، فقام أبو خَازِم عن المجالس، وأخذ قلَنْسُوته عن رأسه بيده، فقال عبيدُ الله: انظروا ما صَنَع أبُو خازم، أخذ قلنسوتَه بيده يُعْلِمنا أنه ما يُبالي إنْ عزلتُه.
ومات في أيامه الضّبعيُّ صاحبُ الطعام، وله أطفالٌ، وعليه ديونٌ، وللمعتضِد عليه أربعةُ آلاف دينار: فقال المعتضدُ لعبيد الله بنِ سليمان: قل لعبد الحميد أنْ يدفع إلينا هذا المالَ من تركة الضَبعي. فذكر له ذلك، فقال أبو خازم: إن المعتضِدَ كأسوة الغُرمَاءِ في تَرِكة الضبعي. فقال له عبيد الله: أتدري ما تقولٌ؟ فقال أبو خازم: هو ما قلتُ لك.
وكان المعتضد يلحُّ على عُبيد الله في اقتضاء المال: وعبيدُ الله يؤخِّرُ ما قال له أبو خازم فلما ألحَّ عليه أخبَرهُ بما قال أبُو خازم، فأطَرق المعتضدِ، ثم قال: صدَق عبد الحميد، هو كما قال نحن كسائر الغُرماء وأسْوتهم.
تقدم رجل إلى أبي خازم، وقدَّم أباهُ يطالبُه بدين له عليه. فأقر الأبُ بذلك. فأراد الأبنُ حبس أبيه بالدين. فقال له أبو حازم: هل لأبيك مال؟ قال: لا أعلمهُ. قال: فُمْذ كمْ داينْتَهُ بهذا المال؟ قال: منذ كذا وكذا. قال: فقد عرضتُ عليك نفقة أبيك من وقت المُدانية. فحبس الابن، وخلَّي عن الأبد.
وكان إسماعيل بنُ إسحاقُ قاضياً للمعتمد بمدينة السلام. فدخل على الموفق، فقال له: يا إسماعيلُ: ما تقول في هذا النبيذ؟ فقال له: أيها الأميرُ، إذا أصبح الإنسانُ وفي رأسه منه شيء. قال ماذا؟ قال الموفق: يقُولُ: أنا مخمورٌ. قال: فهو كاسمه.
قدم البلاذُري إلى الحسن بن أبي الشوارب في ديْن عليه، فادَّعى غريمهُ مائتي دينار. فذكر البلاذري معاملةً بينهما. وعادةً جرت بالنّظرة. فقال له القاضي: أنظرهُ. فقال: لم أطالبه إلا وقد علمتُ الساعة نعمته. فقال البلاذري: صدق أيها القاضي، إني من الله لفي نعم، لا أقومُ بشكرها، أولها: نعمةُ الإسلام - وهي التي لا تعدلُها نعمةٌ. ثم نعمةُ العافية - هي أفضلُ النِّعم بعدَها - وما يُقضي من هاتين الدينُ. فقال القاضي لغريمه: انصرف، ورُحْ إلى فراح إلى القاضي، فأعطاه عنه مائتي دينار.
كان يحيى بنُ سعيد الأنصاري قاضياً للرشيد، وكان خفيف الحال وكان له مجلس من السُّوق. فلما ولي القضاءَ، وارتفع شأْنُه لم يترك مجلسه في السوق. فقيل له في ذلك، فقال: مَن كانت له نفسٌ واحدةٌ لم يغيَّره الإقتارُ، ولا المالُ.
كان البَرْقيُّ عفيفاً، صالحاً، وولي قضاءً مدينة السلام أيام المعتمد، وكان قد ولاه قبل ذلك يحيى بنُ أكثم. فقيل له: وليتَ البرقي القضاءَ - وهو رجلٌ من أهل السواد؟ فقال يحيى: ألم تسمع قول الله تعالى: " وما أرسلْنا مِن رَّسُول إلا بِلِسَانِ قَوْمه " قال بعضُهم: رأيتُ البرقيّ يوماً. هو يقرأ علينا شيئاً من حديث سُفْيانَ - فقال له رجل كان معنا: يا أبا العباس. فقال إليه البرقي، وضرب لحيته، وقال له: أنا قاض مُذ كذا وكذا سنةً!! تقولُ: هيا يا أبا العباس.
وذكر أن البرقي صار إلى عبد العزيز الهاشمي - وكان صديقهُ - فهو معه جالسٌ إذ دخل عليه رجلٌ فسلم، وقعدَ، فقال له عبدُ العزيز: ما خبرُك؟ قال: قد وليت السَّواني لأسني الماء للحاج. ثم دعا بكُوز من ماء فشربهُ. ثم صبر ساعةً، فدعا بكوز آخر فشربه، ثم صبر ساعةً، ودعا بكوز آخر - والبرقيُّ يراهُ - فقال لعبد العزيز: يا أبا القاسم، هذا قد وَلي السواني. لئن خرج هذا إلى مكة ليشربن كل ما يسنى.
كان عبد الملك بنُ عمير قاضي الكوفة، فهجاهُ هُذيلٌ الأشجعي بأبيات فيها:
إذا ذاتُ دلٍّ كلمتهُ بحاجة ... فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
فكان عبدُ الملك يقول: قاتلهُ الله. والله لرُبما جائتني النحنحةُ وأنا في المتوضأ، فأذكرُ ما قال فأردُّها.
قالت امرأةٌ لشُريح: إنك قضيت على وظلمتني - والله يدخلُك النار.
فقال شريحٌ لها: أما أنا فلا أدخُلُها إلا بعد سبعة، وهم: الذي علمني، والذي ولاني، والذي جاء بك إلي، والشاهدان والمُزكِّيان.

قال الوايق لأحمد بن أبي دُواد: إن حوائجك، ومسائلك تستنفد بيوت الأموال. فقال يا أمير المؤمنين، أتخافُ الفقر والله مادتُك.
قال بعضُهم: سمعت ابن أبي دُواد يقولُ: إين لأكرهُ أن أكلِّم الخلفاءَ بحضرة ابن الزيات خوفاً من أن أعلِّمه التأتِّي لها.
وكان المعتصمُ غضب على خالد بن يزيد بن مزيد. فلم يزل به أحمدُ بن أبي دواد حتى عفا عنه، وأعطاه، وولاه، وخرج على الناس بالخلع وهم ينتظرون رأسهُ. فقام بعد ذلك رجلٌ إلى خالد، فقال: يا سيِّد العرب فقال: ذلك ابنُ أبي دُواد.
وكان أبو العيناء يقول: كان أحمدُ بنُ أبي دُواد إذا رأى صديقه مع عدوِّه صديقهُ.
وقال أبو العيناء: ما رأيتُ مثل ابن أبي دُواد من رجل قد مُكِّن من الدنيا ذلك التمكين، كنت أراهُ في مجلس سقفُه غير مُغرى، جالس على مسح وأصحابُه معه يتدَّرنُ القميصُ عليه فلا يبدَّلهُ، حتى يعاتبَ في ذلك، ليست له همةٌ ولا لذةٌ من لذات الدنيا إلا أن يحمل رجُلاً على منبر، وآخر على جذع.
وقال له المعتصمُ في أمر العباس بن المأْمون: يا أبا عبد الله، أكرهُ أن أحبسه، فأهتكه وأكرهُ أن أدعه فأُهمله. فقال له ابن أبي دُواد: الحبسُ - يا أمير المؤمنين - فإن الاعتذار خيرٌ من الاغترار.
وكان الأفشين يحسدُ أبا دُلف، ويبغضُه للغربية، والشجاعة أبا والجُود. فاحتال عليه حتى شُهد عليه بخيانة فجلس له، وأحضرهُ، وأحضر السياف لقتله. وبلغ ذلك أحمد بن أبي دواد، فركب مع من حضره من عُدْوله. ودخل على الأفشين وقد جيء بأبي دلفُ ليُقتل. فوقف، ثم قال: إني رسولُ أمير المؤمنين إليك بألا تحدث في القاسم حدثاً حتى تحمله إليه مسلماً. ثم التفت إلى العُدُول، فقال: أشهدوا أني أديتُ الرسالةَ والقاسُم حي مُعافى. وخرج فلم يقدم الأفشينُ عليه.
وصار ابنُ أبي دواد من وقته إلى المعتصم، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أديتُ عنك إلى الأفشين رسالةٌ لم تقُلها لي، لا أعتدُّ بعمل عملته خير منها، وإني لأرجُو لك يا أمير المؤمنين بها الجنة. وخبره الخبر، فصوب رأيه، وأمر بالإفرج عن أبي دُلف..
وكان أحمدُ بنُ أبي دُواد بعد ذلك يقرَّظُ أبا دلف ويصفُه للمعتصم، فقال له: يا أبا عبد الله، إن أبا دلف حَسنُ الغناء، جيِّدُ الضرب بالعود فقال: يا أميرَ المؤمنين، القاسمُ في شجاعته وبيته في العرب يفَعلُ هذا!! ثم أحب المعتصمُ أن يَسمعهُ ابنُ أبي دُواد. فقال له يوماً: يا قاسْم، غنّني. فقال، والله ما أستطيعُ ذلكَ - وأنا أنظرُ إلى أمير المؤمنين - هيبة وإجلالاً. قال: فاجلس من وراءِ ستارة. ففعل وغنى.
وأحضر ابن أبي دُواد، وأجلَسه وقال: كيف تسمعُ هذا الغناء؟ قال: أميرُ المؤمنين أعلمُ به، ولكنِّي أسمعُ حسناً. فغمز غلاماً، فهتك السِّتارة، فإذا أبُو دلف.
فلما رأى أبو دلف ابن أبي دُواد وثب قائماً، واقبل على ابن أبي دُواد، فقال: إني أجُبرتُ على هذا. فقال: ما ماجنُ. لولا دربتُك في الغناء، منْ أينَ كنت تأتي مثل هذا؟ هبْك أجُبرْت على أن تُغني، مَنْ أجُبرَك على أن تُحسن؟ ذكر ابنُ أبي دواد أبا الهذيْل، فقال: كلامُه مُطلٌّ على الكلام كإطلال الغَمام على الأنام.
لما مات عبدُ الله بن طاهر قال الواثقُ لأحَمد بن أبي دُواد: قد عزمتُ يا أبا عبد الله - على أن أقَلِّد إسحاق بن إبراهيم خراسان. فقال: لرأي أمير المؤمنين فضْلُه، غير أني رأيتكُم تحفظُون الأخْلافَ للأسلاف. فقال: حسْبُك. وعقد لطاهر بن عبد الله.
قال العدلي الشِّطْرنجي للواثق: يا أمير المؤمنين. ما قَمرني فلانٌ إلا أني كنت سكْرانَ. فقال لابن أبي دُواد: يا أبا عبد الله. فأقم عليه الحد. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنه قد أقرَّ على نفسه بالسُّكْر. فقال: هذا إقرارُ افتخار لا إقرارُ اعتراف.
قال يحيى بنُ أكثم: نلتُ القضاءَ، وقضاءَ القُضاة، والوزارة، ما سُررتُ بشيء مثل قول المُستمْلي: من ذكرتَ - رحمك الله؟

دخل عبدُ الرحمن بنُ إسحاق القاضي على إسحاق بن إبراهيم الظاهري، فبينا هو يخاطبُه إذا وقعت عينُه على قطعة وتر للعود كانتْ على البَساط، فأخذها، وجعل يلفُّها على يده، ويبعثُ بها سَهْوا. ورآهُ إسحاق فقال: يا أبا محمد: لا تغلطْ، وتخرجْ وفي يدك ما فيها، فتلْقَى من العامة مثلما لقينا منك. فاستحى عبدُ الرحمن وألقاها، وضرب إسحاقُ الفراشين ألْف مقْرعة بهذا السَّبب.
لما قال دِعْبلُ في المعتصم:
ملوكُ بَنِي العباسِ في الكُتب سبعةٌ ... ولم يأتينا في ثامن لهم كُتبُ
كذلك أهلُ الكهف في الكهف سبعةٌ ... خيار إذا عُدُّوا وثامنُهم كلبُ
لقد ضاع أْمرُ الناس حين يسُوسُهم ... وصيفٌ وأشْناسٌ وقد عظُم الخطبُ
نذر المعتصمُ دمَه، وطُلب طلباً شديداً، فتوارى وهرب.
فسمع ابنُ أبي دواد المعتصم يوماً يقول: لأقْتلن دْعَبلا. قال: ولم؟ قال: هجاني. قال: يا أمير المؤمنين. إن دعبلا شريفٌ، وعنده من الفضل ما يردَهُ عْن هذا. ولكن أخبرني من المُبْلغُ لك ذلك عنْه؟ قال: عمِّي إبراهيمُ المهدي. قال: أتاك الخبرُ، أنَّ إبراهيم موتورٌ، ففي حُكْمك قبولُ قول حاقد مُحْفظَ. قال: معاذَ الله. قال: إن دعبلاً هتك إبراهيم عمَّك بقوله أيام تولِّيه الخلافة:
إن كانَ إبراهيمُ مُضْطلعاً بها ... فَلتصلُحن من بعده لمخارق
ولتَصْلُحَنْ من بعد ذاك لزلزلٍ ... ولتصلحن من بعده للمارق
فضحك وقَال: أجلْ. إن كانَ إبراهيمُ خليفةٌ فمخارق وليُّ عْهد، وقد صفَحنَا عمَّا أَردْنا. قال: إن أمير المؤمنين أجلٌّ من أن يعْمُرَ قلباً بحزْن ساخطاً، ولا يعمره بسرور راضياً. قال: فاحكُمْ يا أبا عبد الله. قال: خمسون ألف درهم يرمٌّ بها حاله. فقبض المال، وأنفذ الكتابُ إلى مصرَ، وكان دعبلٌ بها فلمْ يشكْرهُ دعبل وكافأه بأن قال فيه:
سحقتْ أمُّهُ ولاط أبُوه ... ليت شعْري عنه، فمنْ أين جاء؟
في أهاج كثيرة له فيه.
وسُعي بأبي تمام إلى المعتصم أنَّه قال في شعريٍ مدح به أبا سعيد الثفري.
تزحزحي عن طريق المُجِد يا مضرُ ... هذا ابنُ يوسف لا يُبقي ولا يذرُ
فنذر المعتصمُ دمه. فقام ابنُ أبي دواد، فكذب عنه، وحَلف مجتهداً: أن هذا الشعر ليس من طرفِ شعر أبي تمام حتى استنقذه من سَخطِهِ. فكافأَهُ أبو تمام أحسن مكافأة، وشكره أحسن شكر، ومدحهُ بقصائدهِ المشهورة فيه.
غضب المهديُّ يوماً على شريك فقال: يا بن الزانية. فقال شريك: أمة يا أمير المؤمنين. فما عِلمتُها إلا صوّامةً قوّامة. فقال له: يا زنديقُ، لأقتْلنَّك. فقال شريك، وكان جهوريَّ الصوتِ - : إن للزنادقة علامات يُعرفون بِهَا، شربهم القهواتِ، واتخاذهم القّيناتِ، ونومهم عن العتماتِ فأطَرق المهديُّ، وقام شريك، فخرج.
ذكر أنَّ جماعةً من الرؤساء باتُوا عند أبي دُواد فلما أخذوا مضاجعَهم إذا الخدمُ قد أخرَجُوا لكل واحد منهم جاريةً. قال: فاحتشموا مِن ذاك.
وبات الجواري ناحيةً، وقام، بعضُهم، فلما أصبحنا وجه بجاريةِ كل واحد إلى منزله، ومعها وصيفةٌ.
دخل ابنُ أبي دُواد إلى الواثق - وقد أتى بابن أبي خالد الذي كان بالسِّند، فقال: والله، لأضربنَّك بالسِّياط. ووالله لا يكلٍّمُني فيك أحدٌ من الناس إلى ضربتُ بطنه، وظهرَه. فسكت حتى ضربه عشرين سوطاً. ثم قال: يا أمير المؤمنين، في هذا أدبٌ، وفي دُونِه استصلاح، ومجاوزتُه سرفٌ. وإنما أبقى عليك من القصاصِ. قال: أو ما سمِعتَ يميني ألا يكلمني فيه أحدٌ إلا ضربتُ ظهره وبطنه.
قال: قد سمعتُ. لكن يُكفِّر أميرُ المؤمنين، ويأتي الذي هُو إلى الله عز وجل أقربُ، وعنده أفضلُ. قال: خليا عنه. كفِّر يا غلامُ عن يميني.
سُئل رجلٌ من البُلغاءِ عن يحيى بن أكثم، وأحمدَ بن أبي دُواد: أيُّهما أنبلُ؟ فقال: كان أحمد يجدُّ مع جاريته وابنته، ويحيى يهزلُ مع خصمه وعدوِّه. وكان ابنُ أبي دواد يتحلل عن أن يخاطب بالوزارة، والقضاء فلا يخاطبُ إلا بالكُنيه.
وكذلك روحُ بنُ حاتم المهلَّبي ولِي إفريقية والبصرة، والكوفة، وأرمينية وغير ذلك، فلم يُسُمَّ بالإمرة قطُّ، وإنما كان يكنَّى بكُنيته، وكان يكنَّى أبا خلف. وكذلك السِّنديُّ بنُ شاهك.

وقال ابنُ الزيَّات يوماً لابن أبي دواد في مناظرة بينهما: لستُ بنبطي، ولا دَعي - يعرض به. فقال: ما دُونك أحدٌ فتنزل إليه، ولا فوقك من يقبلُك فتنتمي إليه.
قال الحسنُ بن وهب: شكرتُ أبا عبد الله أحمد بن أبي دواد على شيء كان منه.
فقال لي: لا أحُرَجك اللهُ، ولا إيّانا إلاّ أن نعرف مَالنا عند الأصدقاء.
وتخطى بعضُ بني هاشم رقاب الناس عند ابن أبي دواد، فقال: يا بُني، إن الأدب ميراثُ الأشراف، ولست أرى عِندك مِن سَلفِك ميراثاً. فاستحسَن كلامَه كلُّ من حضر.
قال الواثق يوماً لأحمد بن أبي دواد في رجل حُمِل إليه من بعض النواحي: قد عزمَتُ على ضرب عُنقه. فقال: لا يحِلّ لك يا أمير المؤمنين. قال: فأضربه بالسِّياط. قال: ظهر المسلم حِمى إلا من حد. قال له: أنت أبداً تعترض علي. قال: يا أمير المؤمنين، أخافُ عليك العامَّة. قال: وما عسى العامَّةُ تفعلُ؟ قال: أقولُ: يا أمير المؤمنين ولا تغضب. قال: قُل. قال إذا رأوْك قد جُرْت في الحكم، أخذوا بيدك فأقامُوك عن مجْلِسِك، وأجْلْسوا غيرك. قال: فأمْسك الواثقُ، ولم يحر جواباً، وزال المكروه عنْ ذلك الرجل.
وقال ابنُ أبي دْواد: موتُ الأحرار أشدُّ من ذهاب الأموال.
وقال: الشجاعةُ شجاعةٌ في القلب، والبخلُ شجاعةٌ في الوَجْهِ.
قال رجل لابن شُبْرُمة: ذهب العلمُ إلا غُبَّراتٍ في أوعيةِ سوء.
وقال الشعبي: كان بين عبدِ الله بنِ شريح وبين قوم خصومةٌ. فقال: يا أبهْ. إن بيني وبين قوم خصومةً، فإنْ كان الحقُّ لي خاصمتهُم. قال: اذكر لي قصَّتك. فذكر ماله، قال: إيتني بهم. فلما أتاهُ بِهم قضى على ابنه، فقال لمْا رجع: يا أبه. لو لمْ أخُبِرك بقصتي كان أعذر لك عندي.
فقال: يا بُني أنت أعزُّ علي من ملءِ الأرض مثلهمْ، واللهُ أعزُ علي منك، كرهتُ إن أخبَرتُك أن القضاء عليك أن تخافهم فتصالحهم.

الباب التاسع
كلام السحن البصري
كان الحجاجُ يقولُ: أخطبُ الناس صاحبُ العمامة السوداءِ بين أخصَاص البصرة، إذا شاء تكلمَ، وإذا شاءَ سكت يعني الحسن كتب إليْه عُمر بنُ عبد العزيز: أن أعني ببعض أصحابك. فكتب إليه الحسنُ: أما بعد. فإنه مَن كان من أصحابي يريد الدنيا فلا حاجة لك فيه، ومَن كان يريد الآخرة فلا حاجة له فيما قَبَلك، ولكن عليك بذوي الإحسان فإنهم إن لم يتقوا استحيُوا، وإن لم يستحيُوا تكرموا.
وقال: كن في الدنيا كالغريب الذي لا يجزعُ من ذُلِّها ولا يشارك أهلها في عزِّها. للناس حالٌ وله حالٌ أخرى، قد أهمته نفسه، وعلم لما بعْد الموت، فالناس منه في عاقبة، ونفْسهُ منه في شُغل.
ذكروا أنه سمع رَجلاً يقُولُ: أهْلَك اللهُ الفُجَّارَ فقال: إذن نَسْوحِشُ في الطُّرق.
قال أعرابي المحسن: علِّمني ديناً وسُوطا، لا ذاهباً شطُوطاً، ولا هابطاً هبوطاً.
فقال الحسنُ: لئن قُلت ذلك، إن خيرَ الأمور لأوْساطُها.
وقال لهُ رجلٌ: إني أكرَهُ الموت. قال: ذاك أنك أخرت مالك ولو مقدمتهُ لسرك أن تلحق به.
وقال: اقدّعُوا هذه النُّفوسَ فإنها طُلعةٌ، واعْصُوها فإنكُمْ إن أطعتموها تنزِع بكُمْ إلى شرِّ غاية، حادثُوها بالذِّكر فإنها سَريعةُ الدُّثور.
قال عنبَسَةُ: شهدْتُ الحسن يقُولُ - وقال له رجلٌ بلغنا أنك تقولُ: لوْ كان علي بالمدينة يأْكُل من حَشفها كان خيراً لهُ مما صَنع - فقال الحسنُ: يالُكِعُ أما والله لقد فقدتُموه سَهماً من مَرَامي الله غير سَئُوم عن أمر الله ولا سروقة لمال الله. أعْطى القرآن عَزائمَهُ فيما عليه، ولهُ، فأحلَّ حلالهُ، وحرّم حَرامَهُ، حتى أورْدَهُ ذلك رياضاً مونقةٌ، وحدائق معدِقةً ذاك ابنُ أبي طالب يا لُكعُ.
وقال الحسَنُ: لا تزُولُ قدمُ ابن أدَم حتى يُسْأَل عَن ثلاث: شبابه: فيم أبلاه؟ وعمْره: فيم أفناهُ؟ وماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ورأى رجلاً يكيد بنفسه فقال: إن أمْرأً هذا آخرهُ لجديرٌ أن يزهدَ في أوله، وإن امرأً هذا أولُه لجدير أن يخاف آخره.
وقال: بع دنياك بآخرتك تربحُهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرَهُما جميعاً.
وقال: مَن أيقن بالخلف جادَ بالعطية.
وقال: مَن خاف الله أخاف الله منه كل شيءٍ، ومَن خاف الناسَ أخافهُ اللهُ من كل شيءٍ.
وقال: ما أُعْطى أحدٌ شيئْاً من الدُّنيا إلا قيل لهُ: خذه ومثله من الحرْص.

قال الحَسنُ: إن قوماً جعلُوا تواضُعَهُمْ في ثيابهم، وكبرَهُمْ فِي صرورهم حتى لصَاحبُ المدْرعة في مدْرعَته أشدُّ فرحاً من صاحب المُطرف بمطْرفه.
وقال: مَن كان قبْلكُم أرقُّ قلوباً، وأصْفقُ ديناً، وأنتُمْ أرقَّ منهُمْ ديناً، وأصْفقُ قلوباً.
قيل لخالد بن صفوان: مَن أبلغُ النَّاس؟ قال: الحَسنُ البصريُّ لقوله فضحَ الموْتُ الدُّنيا. لوْ عقل أهلُ الدُّنيا خربت الدُّنيا.
وقال: أهينُوا الدُّنيا فو الله لأهنأُ ما تكُونُ حين تُهينُونها.
وقال له رجلٌ: ما تقول في الدُّنيا؟ قال: حَلالُها حسابٌ، حرامها عذابٌ. فقال له: ما رأيتُ أوْجز من كلامك. فقال الحسنُ بل كلامُ عمرَ بن عبد العزيز أوجزُ من كلامي.
كتب إليه بعضُ عُمَّال حمْص: أما بعد: فإنَّ مدينة حمْص قد تهدمت، واحتاجَت إلى إصلاح.
فكتب إليه عمر: حصِّنها بالعْدل، ونقِّ طُرقها من الجورْ. والسلامُ.
قال الحسن لفرقْد: يا أبا يعْقُوب. بلغني أنَّك لا تأكل الفالوُذج. قال: يا أبا سَعيد. أخافُ ألا أودي شُكرَهُ. قال: يا لكُع!! هلت تؤدى شكرَ الماء البارد؟؟ وسَمعَ رجلاً يشكُو علَّةً به إلى آخر. فقال: أمَا أنَّك تشكُو مَن يرحمك إلى مَن لا يرْحَمك.
وقيل لهُ: مَن شرُّ الناس؟ قال: الذي يرى أنَّهُ خيرُهم.
وقال: قدْ ذم اللهُ الثِّقَل في القُرآن بقوله " فإذا طعمْتُمْ فانتشروا " وقال: الدُّنيا كُلُّها غمُّ، فما كان فيها من سرور فهو ربحٌ.
وقال: إن الله - جل ثناؤهُ - لم يأْمرْ نبيَّه عليه السلامُ بمشاوَرة أصحابه لحاجة منهُ إلى آرائهمْ، ولكنَّهُ أحبَّ أن يُعَلِّمه ما في المشورة منْ البَركة.
ويُروي عَنهُ أنه قال منذُ دَهر ندْعُو الله فنقولُ: اللهم استعمل علينا أخيارنا فأعظمْ بها مصيبةً ألا يُسْتجاب لنا، وأعظمُ من ذلك أن يكون اسْتجيب لنا فيكون هؤلاءِ خيارنا.
وذكر الدنيا فقال: المؤمنُ لا يجزعُ من ذُلِّها ولا يُنافس في عزِّها.
وقال: أربعٌ قواصم للظهر: إمامٌ تُطيعُه ويُضلُّك، وزوْجةٌ تأْمنُها وتخونُك، وجارٌ إن علم خيراً سترهُ، وإن علم شرّاً نشرَهُ وفقرٌ حاضرُ لا يجدُ صاحبُه عنه شارداً.
ووصف الأسواق. فقال الأسْواقُ موائد الله مَن أتاها أصَاب منها.
وقال: من عمل بالعَافية فيمَن دونه رزُق بالعافية ممن فوقهُ وقيل لهُ: كيف رأيت الوُلاة يا أبا سَعيد؟ قال رأيتهُمْ يبْنون بكل ريع أيةً يعْبثُون. ويتخذُون مصانع لعَلهُمْ يخلدون. وإذا بطشُوا بطشُوا جبارين.
وكان يقولُ: ذمُّ الرجل نفسَهُ في العَلانية مدَحٌ لها في السِّر.
وقال: مَن وسَع اللهُ عليه في ذات يده فلم يخف أن يكُون ذلك مكراً من الله به فقد أمن مخُوفاً، ومَن ضيق اللهُ عَليه في ذات يده فلم يرْجُ أن يكُون ذلك نظراً من الله لهُ فقد ضيّع مأْمولاً.
وقال: إن من عظيم نعم الله على خلقه أنْ خلق لُهمْ النار يحُوشُهم بها إلى الجنة.
وقال لرجُل: كيْف طلبك للدُّنيا؟ قال شديد. قال: فهل أدْركت منها ما تُريد؟ قال: لا. قال فهذه التي تطلُبها لم تدرك منها ما تريد فكيف بالتي لا تطلُبها؟ وقال: ابنُ آدم أسبرُ الجُوع، صريعُ الشَّبع.
وذكر يوماً الحجاج فقال: أتانا أعيْمشَ أخيفشَ. له جُمَيْعةٌ يُرَجِّلُها فأخرج إلينا لماماً قِصارا، والله ما عرق فيها عنانٌ في سبيل الله.
فقال: بايعوني. فبايعْناهُ ثم رقى هذه الأعوادَ ينظر إلينا بالتصغير، وننظر إليه بالتعظيم، يأْمُرنا بالمعروف ويجتنبُه، وينهانا عن المنكر ويرتكُبه.
وسُئل عن قوله تعالى: " إنْ الذين يَشْتَرُون بعَهْد الله وأيْمانِهِمْ ثمناً قليلاً " ما الثمنُ القليلُ؟ قال: الدُّنيا بحذافيرها.
وقال: الدنيا تطلبُ الهاربَ منها، وتهرُبُ من الطالب لها، فإن أدْركت الهارب منها جرحَتهُ، وإن أدركها الطَالبُ لها قتلتُه.
وقال: رُب هالك بالثناء عليْه، ومغرور بالستر عليْه، ومسْتدرَج بالإحُسان إليه.
وقال: عن لمْ تُطعْك نفسُك فيما تحملُها عليْه مما تكرَهُ فلا تُطعْها فيما تِحملُك عليه. مما تهوى.
وقال تشبه زيادٌ بعمرَ فأفرط. وتشبه الحجاج بزياد فأفرط، وأهلك الناسَ.
وقال: المؤُمنُ لا يحيفُ على مَن يُبْغِض، ولا يأْثم فيمن يُحبُّ.

وقال لهُ بعضُ الجُند في زمن بني أمَية: تُرَى أن آخذ أرزاقي أوْ أتركها حتى آخذ من حَسَناتهم يوم القيامَة؟ قال: مُرْ فخُذ أرزاقك، فإن القوم يوم القيامة مفاليُس.
وكتب إلى أخ له: أما بعد: فإن الصِّدق أمانةٌ، والكذب خيانةٌ والإنصاف راحةٌ، والإلحاح وقاحةٌ، والتواني إضاعةٌ، والصِّحة بضاعةٌ، والحزم كباسةٌ، والأدَب سياسة.
وقال: يا ابن آدم. اصحب الناسَ بأي خُلأق شئت يصحَبُوك بمثله. وقال: الرِّجالُ ثلاثةٌ، رجلٌ بنفسه، وآخر بلسانه، وآخر بماله.
وقال له رجُل: لي بُنيةً وأنها تُخطبُ. فمّن أزوِّجُها؟ قال: زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمَها، وإن أبغضها لمْ يظلمْها.
وقال: كنا في أقوام يخزُنُون ألسنتهُم، ويُنفقُون أوراقهم، فقدْ بقينا في أقوام يخزنُون أوراقُهم، وينفِقُون ألْسِنتهم.
وكتب إلى عُمرَ بن عبدِ العزيز. أمَّا بعدُ: فكأنْك بالدنُّيا لم تكُن، وكأنْك بالآخرة لم تَزَلْ.
وقيل له في أمير قدِم البصرة، وعليه دَيْنٌ قد قضاهُ. فقال: ما كان قطُّ أكثر دَيْناً منه الآن.
وقال: ينادي مناد يوم القيامةِ: من لهُ عَلى الله أجرٌ فليقُمْ، فيقُومُ العافُون عن النّاس. وتلا قوله تعالى: " فمن عفا، وأصْلح فأجْرهُ على الله " اجْتاز نخَّاسٌ مع جارية بهِ. فقال أتبيعُها؟ قال: نعَمْ. قال: أفترضى أن تقبض ثمنها الدِّرهم والدِّرهمْين حتى تستوفي؟ قال: لا: قال: فإن الله عزَّ وجل قد رضى في الحُور العين بالفلسِ والفلسَين.
وطلب ثوباً ليَسْتتِر به، فقيل لهُ: بثلاثةَ عَشر درهماً ونِصف. فقال خُذ أربعة عشر. فالمُسْلم لا يُشاطرُ أخاهُ الدِّرهمَ.
وقيل له: ما بالُ الناس يُكرمون صاحب المال؟ قال: لأن عشيقهُم عنده.
وكان بلالُ بن أبي بُردة أكُولاً. فقال الحسنُ فيه: يتكئ على شمالهِ. ويأْكل غيرَ مَاله، حتى إذا كظَّه الطعامُ يقولُ: ابغُوني هاضُوما. ويَلك!! وهل تهضم إلا دينك!! وكان الحسنُ إذا دخل خَتَنُة تنحى عن مكان له، ويقول: مرْحباً بمن كفى المؤنثة، وستر العورةَ.
ومن كلامه: مسكينٌ بانُ آدم، مكتومٌ الأجَل والعِلل، أسيرُ الجُوع والشَّبع.
ونظر إلى جنازة قد ازدحَم الناسُ عليها فقال: ما لكُم تزدَحُمون؟؟ ها هي تلك ساريتُه في المسجد اقعدوا تحتها، وصنعُوا ما كان يصنع حتى تكونوا مثله.
وقال لشيخ في جنازة: أتُرى أن هذا الميِّت لو رجع إلى الدنيا يعملُ علماً صالحاً؟ قال: نعمْ قال له: إن لم يكن ذاك فكنْ أنتَ ذاك.
ونظر إلى قصور المهالبةِ، فقال: يا عجباً رفعوا الطين، ووضعُوا الدِّين، وركُبوا البراذِين، واتخذوا البساتين، وتشبهوا بالدَّهاقين فذرهم في غمُرنهم حتى حِين.
وكان يقول في دعائه: اللهم إنا نعوذُ بك أن نملَّ معافاتك. فقيل له في ذلك.
فقال: أن يكون الرجلُ في خفض عيش فتدْعُوه نفسهُ إلى سَفر.
ودخل إلى مريض قدْ أبلَّ من علَّته، فقال له: إنَّ الله ذكرك فاذكُرْه وأقالك فاشكُره.
ويقالُ: إنَّ أوّل كلامه أنَّه صلى يوماً بأصحابه، ثم انفتل، وأقبل عليهم، فقال: أيها الناسُ، إني أعظُكُم، وأنا كثيرُ الإسْراف على نفسي، غير مصلح لها، ولا حاملها على المكروه من طاعة ربِّها. قد بلوْتُ نفسي في السراءِ والضَّراءِ، فلمْ أجدْ لها كثير شُكر عند الرجاء ولا كبير صبر عند البلاء ولو أن الرجل لَمْ يعظ أخاه وحتى بحكمَ أمْرَ نفسه، ويكمل في الذي خُلق له من طاعة ربه لقلَّ الواعظونُ الساعون إلى الله بالحثِّ على طاعته، ولكن في اجتماع الإخوان واستماع حديث بعضهم من بعض حيّاة للقلوب، وتذكيرٌ من النِّسيان. أيها الناسُ إنما الدنيا دارُ مَن لا دار لَهُ، وبها يفرحُ من لا عَقل لهُ، فأنزلُوها منزلتها. ثُمَّ أمْسَك.
ولما مات أخوهُ بكى، فقيل لَهُ: أتبكي يَا أبا سَعيد؟ فقال: الحمد لله الذي لمْ يجعل الحزنَ عاراً على يعقُوب.
وقال: إذا خرجتَ من منزلك فلقيت من هُو أسنُّ منك فقُل: هَذَا خيرٌ مني عبَدَ الله قبْلي، وإذا لقيت من هُوَ دونك فِي السنِّ فقل: هَذَا خيرٌ مني عصيْتُ الله قبلهُ. وإذا لقيتَ من هو مثلُك فقل: هذا خيرٌ مني أعرفُ من نفس مَالاً أعرفُ منه.
وكان يقولُ: يَا عجباً لقوم قَدْ أمروا بالزاد، وأوذنُوا بالرحيل، وأقام أولهُم عَلَى آخرهم، فليْت شعري مَا الَّذِي ينتظرون؟

ونظرَ إلى الناس فِي مصلى البصرة يضحكُون، ويلعبون فِي يوم عيد، فقال: إن الله - عزّ وجلّ - جعلَ الصوم مضماراً لعباده ليستبقُوا إلى طاعته، ولعمْري لو كُشف الغطاءُ لشُغل محْسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإسَاءته عن تجْديد ثوم، أو ترطيل شعر: وكان يقول: اجعل الدُّنيا كالقنطرة تجوزُ عَلَيْهَا ولا تعمرها وقال تلقى أحدهُم أبيْض بضا يملخُ فِي الباطل مَلخاً، وينفض مذروْيه، ويضربُ أصدريه، يقولُ هأنذا فاعرفُوني قَدْ عرفناك، فمَقتك اللهُ ومقتك الصالحُون.
وقال: نِعَمْ اللهِ أكثر من أن تُشكرَ إلا مَا أعان عَلَيْهِ. وذُنوب ابن آدم أكثر من أن يسْلم منها إلا ما عفا عنه وَكَانَ يقولُ ليسَ العجبُ ممن عطب كَيْفَ عطب؟ إنما العجبُ ممن نجا كَيْفَ نجا؟ وكان يقولُ: حادثُوا هَذِهِ القُلُوب فإنها سريعةُ الدُّثُور، واقدَعُوا هَذِهِ الأنفس فإنها طلعةٌ، فإنكم إلا تقدعُوها تنزع بكُم إلى شرِّ غاية.
وقال لمطرِّف بن عبد الله بن الشخير: يَا مطرَفُ، عظ أصحابك. فقال مطرِّفُ: إني أخافُ أن أقولَ مَالا أفعلُ. فقال الحسنُ: يرحمك الله وأيُّنا يفعلُ مَا يقُولُ؟ يود الشَّيطانُ أنه ظفِر بهذهِ منكم، فلمْ يأْمرْ أحدٌ بمعروف، وَلَمْ ينه عن منكر.
وكان يقولُ: مَا حَاجةُ هؤلاء، السلطان، إلى الشرطِ. فلما ولي القضاءَ، كثُر عَلَيْهِ الناس فقال: لا بُدَّ للِنَّاسِ مِن وزعَةٍ.
وكان يقُولُ: لِسَانُ العاقِل مِن وراءِ قلبهِ فإن عرض لَهُ القولُ نظرَ فإن كَانَ لهُ أن يقول قال، وإنْ كَانَ عليْه القولُ أمسْك، ولسانُ الأحمق أمام قلْبه فإذا عرَض لهُ القولُ قال عليهِ أوْ لهُ.
وكان الحسنُ ينُكر الحكُومة، وكان يذكر عُثمان فيترحم عليْه، ويلَعنُ قتلتهُ، ويقول: لو لم نلعْنهُم للَعُنَّا. ثم يذكُر علياً - عليه السلام - فيقول: لمْ يزلْ أمير المؤمنين علي رحمهُ الله - يتعرفُ النصر، ويساعدهُ الظفر حتى حكّم. ولمَ تُحكِّم والحقُّ معك؟ ألا تمضي قدُماً - لا أباك - وأنْت على الحقِّ.؟؟ قال المبِّرد: قوله: لا أبالك كلمةُ فيها جفاءُ. والعربُ تستعمُلها عند الحثِّ على أخْذ الحّقِّ والإغْراءِ.
وذكر الخوارج: فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلُوا أصابَعْهم في آذانهم وأصرُّوا واستكبروا استكباراً، فسار إليهم أبوُ الحسن فطحنهُم.
وقال: لو لم يُصب ابنُ آدم الصِّحة والسَّلامة لأوشكا أن يرداه إلى أرْذل العمُر فحدِّث بذلك محَّمدُ بن جعفر فأعجَبه، وقال: سبحان الله ما أعجَب كلام العرب وأشبه بعضه ببعض؟؟ والله لكان النَّمر بنْ توْلب، سمع هذا. فقال:
يُسر الفتى طولُ السَّلامة جاهداً ... فكيف ترى طول السَّلامة يفْعلُ؟
وقال حميد بن ثور وحسْبُك داءً أنْ تصحَّ وتسْلما.
وكان يدعُو ويقُولُ: اللَّهُم أعْطنا قوةً في عبادتك، وبصراً في كتابك، وفهْماً في حكمك، وأتنا كِفْلين مِنْ رحْمتِك. بيِّض وجُوْهنا بنُورك، واجْعلْ راحتنا في لِقائِك، واجعلْ رغبتنا فيما عنْدَك مِن الخير. اللهمَّ إننَّا نعُوذُ بك منْ العَجز والكسل، والهرم، والجُبْن، البُخل اللهم إنَّا نعوذُ بك مِنْ قُلُوب لا تخشعُ، وأنْفُس لا تشبعُ، اللَّهُم إنَّا نُعِيذ بك أنْفسَنا وأهلينا وذرارينا من الشيطان الرَّجيم.
وقال: إنَّما تعظُ مُسترْشداً ليفهم، أو جاهلاً ليتعلم، فأمَّا منْ وضع سيفه وسوطهُ: أحذرني فما لك ولهُ؟ وقال: إنَّ قوماً لسُوا هذه المطارف العتاق، والعمائِمَ الرِّقاق، وأوْسعُوا دُورهم، وضيَّقُوا قبورهُم، وأسْمنُواً دواتهم، وأهزلُوا ديِنهُم، طعام أحدهمْ غصْب، وخادِمُه سُخره، يتكئ على شمالهِ، ويأْكل من غير مالهِ، حتى إذا أدركْتهُ الكظَّةُ، قال: هلمي يا جَاريةُ. هاضُوماً. ويلك!! وهل تحطم إلا دينك؟.. أين مساكينك؟ أيْن يتامالك؟ أيْن ما أمَرك اللهُ به أين؟ أين؟؟.
ورأى رجلاً يمشي مشيةً منْكرةً. قال: يخْلجُ في مشْيِه خلجان المجنُون. لله في كلِّ عُضْو منهُ لقمةٌ، وللشَّيطْان لعبةٌ.
كان أبو الحسن اسمُه يسارٌ، واسُم أمِّه خيرةُ، مولاةٌ لأمِّ سلمة أمِّ المؤمنين، وكانت خيرةُ ربما غابتْ فيبْكي الحسنُ فتعطيه أمُّ سلمة ثدْيها تُعلِّلُه بهِ، وإلى أن تجيءَ أمهُّ فدرَّ عليه ثديُها. فيرون أن تكل الحكمة والفصاحة، مِنْ برَكةِ ذلك. ونشأَ الحسنُ بوَادي القُرىِ.

وشكا إليه رجلٌ ضِيق المعاش، فقال: ويحَك!! أهاهُنا ضيقٌ أوْ سعةٌ إنَّما الضيقُ والسَّعةُ أمامك.
وقال: لوْلا قِصَر هِمَم الناس ما قامتْ الدُّنيا.
وقال: يا بْن آدَم: إنما أنْت عَدَدْ أيامك إذا مضى يومٌ مضى بعْضُك وتذاكُروا عنْدهُ أمْرَ الصَّحابةِ. قال الحسنُ: رحمهُم الله، شهدُوا وغِبنْا وعَلموا وجَهلْنا، وحفِظْوا ونسينا. فما أجْمعُوا عليْه اتبْعَناهُ، وما اختلفُوا فيه وقفناه.
وقال: حَقُّ الوَالِد أعظمُ وبر والوَالدة ألزمُ.
وقال: عاشر أهْلك بأحسن أخْلاقك، فإنَّ الثَّواءَ فيهم قليلٌ.
وقال: السُّؤالُ نصفُ العِلْم، ومُدَاراةُ الناس نصفُ العَقْل، والقصدُ في المعيشة نصفُ المعيشة. وما عال مُقْتصدٌ.
وقال: خف الله خوفاً أنَّك لو أتيتهُ بحَسناتِ أهْل الأرض لم يقبلْها منْك وأرْجُ الله رجاءً ترى أنَّك إنْ أتيتهُ بسيِّئاتِ أهْل الأرض غفرها لك.
وقال: مَا استْودَع اللهُ رجلاً عقْلاً إلا اسْتنْقذهُ به يوماً ما.
وقال: المؤمنُ من لا يَحِيفُ على مَنْ يُبغْض، ولا يأْثُم فيمَنْ يحب.
ودخل إليْهِ أمْردُ حَسنُ الوجْهِ، فالتفت إلى أصْحابه، فقال: لقد ذكَّرني هذا الفتى الحُور العِين.
ووُلِدَ لهُ غلامٌ فقال لهُ بعضُ جُلسَائِه: بارك الله لك في هِبَتِه، وزادَك في نعْمتِهِ. فقال الحسنُ: الحمدُ للهِ على كلِّ حَسنة، ونسْأَلهُ الزيادَة مِنْ كلِّ نعْمة، ولا مرْحباً بمَنْ كُنْتُ مُقِلاً أنْصبَني، وإنْ كُنْتُ عنيّاً أذْهلني لا أْرضى بسعْي له سَعْياً، ولا بكدِّي عليه في الحياة كدَّاً، حتى أشْفِق عَلْيهِ بعد وفاتي من الفاقةِ، وأنا في حَال لا يصلُ إلى مِنْ همةً حُزنٌ، ولا مِن فرَحه سُرُورٌ.
وقال: عِزُّ الشَّريف أدبُهُ، وعزُّ المؤمِن استِغْناؤه عن الناس.
وقال: العلمُ في الصغر كالنَّقْش على الحجَر، وفي الكبرَ كالرِّقُم على الماءِ.
وقال: ما أنْعَمَ اللَّهُ على عبد نعُمةً إلا وَعَليِهُ فيها تبعةٌ إلا سُليمْان فإنَّ الله - قال: " هذا عطاؤنا فأمننُ أو أمسكْ بغير حساب.
وقال: لا أبالك، إنْ لم تكُنْ حليماً فتحلَّمْ فإنَّه قلَّ رجلٌ يتشبَّهُ بقوم إلا أوشك أنْ يكُون مِنهُمْ.
وقال: لا تشترِين عَداوَة رجل بمودَةِ ألفِ رجُل.
وقيل أهلك فلانٌ فجْأةً. فقال: لوْ لمْ يهْلِكْ فجأةً لمرض فجْأةً.
وقال: مَنْ زهِدَ في الدُّنْيا ملكها، ومَن رغِب فيها عبدَها.
وكان يقولُ: الحُريصُ الجاهِدُ، والقانعُ الزِّاهدُ كِلاهُمَا مُسْتْوفٍ أكُلهُ عز فُنقص شيئاً قُدرَّ لهُ، فعَلام التَّهافُتُ في النَّار؟.
وسَمع رجُلاً يقُولُ: الشَّحيحُ أعْذر مِن الظَّالِم فقال: والله إنَّ رجُلين أعْذرُهما الشَّحيحُ لرَجُلاَ سوءٍ. وقال: إنَّ الله تفرَّدَ بالكمالِ ولمْ يُعَرِّ أحَداً من النُّقصانِ.
قال له رجلٌ: يا أبا سَعيد، ما تقُولُ في الغناء؟ قال: نِعْم الشيءُ الغني تصلُ به الرَّحِمَ، وتفُكُّ بهِ العاني، وتُنفِّسُ به عن المكُروب.
قالَ: لستُ عنْ هَذَا أسْأَلُكَ، إنما أسْأَلُكَ عَن الغنِاء قَالَ يوماً هو أتعرفُ منْهُ شيئاً؟ قالَ: نعَمْ: قالَ: فهاتِهِ. فانْدَفَع يُغني، ويَلْوي شِدقَيْهِ، ومِنخَريْهِ، ويكسِرُ عيْنيْهِ: قَالَ: فَبُهِتَ الحسَنُ، وجَعَل يعْزُبُ عنهُ بعضُ عَقْله حتى فَعَلَ كَمَا فَعَلْ الرَّجلُ يحركِ عَيْنيهِ، وكَسْر حاجبْيهِ، ثم قَالَ لما تَنبَّهَ مِنْ سِنَتِه: أمسكْ يا هَذا، قَبَّح اللهُ هَذَا. مَا كْنتُ إلا في حُلْم.
قالُوا: وَلي الحَسنُ القضَاء فَمَا حُمِدَ. يريدُ أنَّه لَوْ حُمِدَ إنْسانٌ فِي ولاية أوْ فضاء لحُمِدَ الحسَنُ.
وقال: يا بُنَ أدَمَ تعفَّفْ عنَ مَحارم الله تكُن عابداً، وارْضَ بما قَسَم اللهُ لكَ مِن الرزق تكُنْ غنياً. صَاحب الناسَ بما تُحبُّ أنْ يُصاحِبُوكَ بهِ تكُنْ عَدْلاً، وإيَّاكَ وكثرةَ الضَّحكِ فإنَّه يُميتُ القَلْبَ. لقَدْ كانَ قَبلَكَ أقْوامٌ جَمَعُوا كَثيراً، وأمَّلوا بَعيداً، وبَنَوْا شديداً، فأصْبحَ جمْعُهم بُوراً، ومَسَاكنهُم قُبوراً، وأمَلُهْم غُرُوراً.

وقالَ: يا بْنَ آدَمَ لا تُجاهِدِ الطلب جهادَ الغَالِب، ولا تَتَّكلْ علَى القَدَر اتكالَ المُسْتسْلم، فإنَّ ابتغاءَ الفضل من الشرةِ، والإجُمالَ في الطَّلب مِنْ العِفَّةِ، وليْسَتِ العِفَّةُ بدافعة رزْقاً، ولا الحِرصُ بجالب فضْلاً، وإنَّ مِن الحِرصُ اكتسابَ الإثْم.
وقَالَ: اشْكُرْ لِمنْ أنُعَمَ عليكَ، وأنعِمْ على مَنْ شَكَر لَكَ، فإنَّهُ لا زَوَالَ للنعم إذا شَكَرْتَهَا، ولا إدَامةً إذا كَفَرْتَهَا، والشَّكُر زَيادةٌ في النِّعم، وأمَانٌ من الغِيرَ.
وقالَ: إنَّ الله تباركَ وتعالى لمْ يقْصُصْ عليْنا ذُنُوبَ الأنبياءِ عليْهم السلامُ تعييراً لهُمْ، إلا إزْرَاءً بهمْ، ولكنَّهُ قَصَّها عليْنَا كليلا نَيْأًس من التوبة.
وقال: مثلُ المنافِق مَثلُ الدرهم القسي ينفُق في الناس ما لمْ يُعرفُ، فإذا عُرفِ كسدَ.
وقيل لهُ: أيحسد المؤمنُ أخاهُ؟ قال: لا أبَالَك؟ إنِستَ إخُوَةَ يُوسف عليْهِ السلامُ.
وقالَ: أوْعَد عمُر فَعوفي، وأوْعَد زيادٌ فابْتلُي.
عادَ الحسنُ عبد الله بن الأهْتَم في مرضِهِ الذي ماتَ فيه، فأقْبلَ عبدْ الله بضْربُ ببَصرِه إلى صُنْدوق في جَانبِ البيْتِ، ثم قالَ للحَسن، يا أبا سعيد: ما تقُولُ في ماِئة ألف من هذا الصُّندوقِ لم يؤد منها زكاةٌ، ولمْ يُوصَلْ بِها رحمٌ؟ فقال الحسن ثكلتك أمك فلم أعددتها قال أعددتها لورعة الزمان ومكاثرةِ الإخْوانِ، وجَفْوةِ السُّلطانِ، ثم مَاتَ فحضَر الحسنُ جنازتهُ فلما دفِنَ ضَربَ بإحْدى يديهِ على الأخرى، ثم قَالَ: إنْ هَذَا أتَاهُ شيْطانُهُ، يخذرهُ روية زمانه، وجفوةَ سلْطانه، ومكَاثُرة إخْوانِهِ فيما اسْتودَعَهُ اللهُ إيَّاهُ، ثُمَّ خرجَ منْه حَريباً سليباً لم يؤدِّ مِنْها زكاة، ولمْ يصل منها رحِماً. ثم التفَتَ فَقالَ: أيُّها الوارِثُ كلْ هنيئاً، فقَد أتاكَ هذا المالُ حلالً، فلا يكُنْ عَلْيكَ وَبَالاً. أتاك مِمنْ كَانَ له جَمُوعاً مَنُوعاً، يلجّجُ فِيه لُججَ البحار، ومفاوز القفار. مِنْ باطل جَمعَهُ ومِنْ حق منَعهُ، لم ينْتفع بهِ. فِي حياته، وضرهُ بعد وفاتِه، وجمعَهُ فأوعَاهُ، وشدَّه فأوْكَاهُ، إنَّ يومَ القيامة ليومٌ ذُو حَسرات، وإنَّ أعْظَامَ الحسَرات أنْ تَرى مالكَ في ميزانِ غَيْركَ ذَاكَ رجلٌ أتاهُ اللهُ مالاً حلالاً فبَخلَ أن يُنْفقَهُ في طاعةِ اللهِ فورثَهُ اللهُ غَيْرَه. فأنفقَهُ في طاعةِ الله. فيا لَهَا حسرةً لا تُقَالُ، ورحمةً لا تُنَال، فإنا لله وإنَّا إليه راجعُون.
وقال: ابنَ آدم: بعْ دُنْياكَ بآخِرتِك تربَحْهُما جميعاً، ولا تَبعْ آخرتكَ بدنْياك فتخسرهما جميعاً.
يا بن آدم: وإذا رأيْت النَّاس في الخير فنافسُهم فيهِ، وإذا رأيتَ الناس في الشرِّ فلا تغبطهم الثواء قليل ها هنا والبقاء طويل هناك أمتكم أخِر الأُمم وأنتُمْ آخِر أمّتِكُمْ، وقدْ يسرِعُ بخياركُمْ فماذا تنتظُرون؟ المعاينة: فكأنْ قَد. هيْهاتَ هيهاتَ ذهبت الدنيا لحالِ بالها، وبقيتِ الأعمالُ قَلائدَ في أعُناقِ بني آدم، فيا لها موعظةً لو وافقَتْ قبولاً! إنهُ والله لا أمة بعد أمتكُم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتابَ بعدَ كتابكم. أنْتُم تسوقُونَ الناسَ والساعةُ تسُوقُكُمْ، وإنما ينُتظرُ بأولكمْ أن يَلْحق أخِركم. مَنْ رأى محمداً صلى الله عليه فقد رآهُ غَادياً رائِحاً، لم يَضَعْ لَبنةً على لبنة ولا قصَبةً عَلَى قصبة رفع لَهُ علم فشمر إِلَيْهِ فالوحاء العطاء والنجاء علام تعرجون. أتيتُهم ورب الكعبةِ أسرع بخياركم وأنتُم كل يوم ترذُلُون. فما تَنْظرون؟؟ إن اللهَ بعثَ محمداً صلى الله عليه عَلىَ علم مِنْهُ، واختارَهُ لنفْسِهِ، وبعثَهُ برسالته، وأنْزَالَ عليهِ كتابهُ، وكانَ خَيرتَهُ من خَلقِهِ، ورسولهُ إلى عباده، وثُم وضَعَهُ من الدّنْيا موضِعاً ينظُرُ إليْه أهلُ الأرْض، وأتَاهُ مِنْها قوتاً وبُلْغةً ثم قَالَ: " لقد كان لكم في رسُول اللهِ أسوةٌ حسنةٌ " فرغب قومٌ عَنْ عَيشهِ، وسَخطوا ما رضي لهُ ربهُ، فأبعدَهُمُ اللهُ واسْحقَهُم.

وابنَ أدمَ: طأْ بقدمكَ الأرْضَ فإنها بعد قليل قبرُكَ واعْلم أنكَ لم تزَلْ في هَدْم عمرك مذُ سقطتَ من بطن أمك. رحِم الله عبداً نظر ففكر، وفكر فاعتبرَ، واعتبر فأبصَر، وأبصرَ فصبرَ، فلقدْ أبْصَرَ أقوامٌ فلمْ يصبرُوا فذهبَ الجزعُ بقلوبهم، ولم يُدْركُوا ما طَلَبُوا، ولم يَرْجعُوا إلى ما فارقُوا يا بنَ آدَمَ اذكر قولهُ " وكلُ إنُسان ألزَمناهُ طائِرهُ في عُنقُهِ ونُخرجُ له يومَ القيامة كتاباً يلُقَاهُ منْشوراً. اقُرَأ كتابكَ كفى بنفْسِكَ اليومِ عليكَ حسبياً " ابن آدمَ عَدَل عليك من جعلكَ حسيبَ نفسكَ. خُذُوا مِن الدُّنيا ما صَفَا، وذرُوا ما كدر. فليْس الصفْوُ ما عادَ كَدراً، ولا الكَدر ما عادَ صَفَاء. دَعُوا ما يُريُبكُمْ إلا مالاَ يُريبكُمْ. ظَهَر الجفاءُ، وقلتِ العُلَماء، وعَفَتِ السُّنةُ وشاعَت البدْعةُ. لَقدْ صَحبتُ أقواماً صُحْبتَهُم قرةٌ العْين وجلاءُ الصدْر، ولقد رأيتُ أقْواماً كانُوا مِنْ حَسناتهم أنْ تُرَد عليهم أشفقَ منكُم من سيئاتكم أن تُعذبُوا عليها، وكانُوا فيما أحَل اللهُ لهم مِن الدنْيا أزْهدَ مِنْكُم فيما حَرمَ عليْكُم مِنْها أسْمَعُ حسيساً ولا أرى أنيساً. ذَهبَ الناسُ، وبقيتُ في النِّسْنَاس، لو تكاشَفْتُم ما تَدافَنْتُمْ. تَهاديْتُم الأطباق، ولم تهادَوْا النصائح.
قال عمرُ بنُ الخطاب: رحمَ اللهُ مَنْ أهدى إليْنا مَساويَنَا. أعِدوا الجوَابَ فإنكُم مسئُولُون. المؤمن من لا يأخذ دينهُ عن رأيه، ولكنه يأخذُهُ من قبَل ربه، وإن هذا الحق قد أجْهدَ أهْلهُ، وما يَصْبُر عليْه إلا مَنْ عرفَ فضلهُ، ورجا عاقبتَهُ، فمن حمد الدنيا ذم الآخرة، وليس بكرهُ لقاءَ الله إلا مقيمٌ على سخطه. بابن آدَمَ إن الإيمانَ ليس بالتحلي ولا التمني، ولكنهُ ما وقَر في القلْب، وصدقتْهُ الأعمالُ.
وكانَ إذا قرأ " ألْهَكُمُ التكاثُرُ " قالَ: عم ألهاكم؟ عن نَار الخُلود، وجنة لا تبيد. هذا والله فضَحَ القَوْمَ، وهتك السترْ، وأبدي العورةَ، تُنْفِقُ مثل دينك في شهوتكَ سرفاً، وتمنع في حق الله درهماً! ستعلَم يالُكَع!!.
الناسُ ثلاثةٌ: مؤمنٌ، وكافرٌ، ومنافقٌ: فأما المؤمنُ فقدْ ألجَمهُ الخوفُ وقومهُ ذكرُ العَرْض. وأما الكافرُ فقد قمعهُ السيفُ، وشردَهُ الخَوفُ، وأذعَنَ بالجزْيةِ، وأسْمَح بالضريبة. وأما المنافقُ ففي الحُجراتِ والطرقَات، ويُسروُّن غَيرَ ما يُعْملُون، ويُضْمُرونَ غَيْرَ ما يُظْهرُونَ، فاعُتبرُوا إنْكارَهُم ربهُم بأعْمَالهمْ الخَبيثَةِ. ويْلَكَ! قَد قَتَلْتَ وَليَّهُ، ثُم تَتَمَنى عليهِ جنتهُ! ابنَ آدمَ. كيف تكونُ مُسْلماً - ولم يسْلَمْ مِنْكَ جارُك؟ وكيفَ تكُونَ مؤمناً - ولمْ يأمنْك الناسُ.
وكانَ يقولُ: رحِمَ اللهُ أمرأً اكْتَسَب طيِّباً، وأنْفَقَ قصْداً، وقَدم فضْلاً. وجِّهُوا هذِهِ الفضولَ حيثُ وجهَها اللهُ، وضَعُوهَا حيثُ أمَر اللهُ، فإن مَنْ كانَ قَبْلكُمْ كانُوا يأْخُذُون مِن الدُّنْيا بُلْغَتَهُمْ، ويْؤثرون بالفَضْل ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها فلا والله ما وجدَ ذُو لُب فِيَها فرحاً، وإياكُم وهذه السُّبُلَ المُتفرِّقة التي جماعُها الضلالةُ وميعْادُها النارُ.
ابنَ أدَم: إنْ كانَ لا يُغْنيكَ مَا يكُفيكَ فليْسَ هَاهُنَا شيءٌ يُغْنيكَ، وإنْ كانَ يُغْنيكَ ما يَكفيكَ فالُقليلُ مِنَ الدُّنْيا يَكفيكَ.
ابْنَ أدَمَ: لا تَعْملْ شيْئاً مِن الحقِّ ريَاءً ولا تَتْركُهُ حَيَاءً.
وكانَ إذَا ذُكرَ الحجاجُ قال: يتْلُوا كتابَ الله على لخْم وجذام ويَعظُ عظةَ الأزَارقِة، ويَبْطِشُ بَطْش الجبارين.

وبعث عمرُ بنُ هُبيرةَ إلى الحسنِ، وابنِ سيرين، والشْعبي فقدمُوا عليْهِ فقال: إنهُ تأْتيني مِنْ أمير المؤمنين كتبٌ أعرِفُ في تنفيذِها الهلَكةَ فإنْ أطَعتُه عَصيْتُ الله فماذا تَروْن؟ فقال الحَسنُ. يا بنَ سيرين أجبِ الأمير فسَكَتَ ثم قالَ: يَا شعْبيُّ أجبِ الأمير - فتكلم الشعْبي بكلام هَيْبةً وتقيةٌ فقال: يا أبا سَعيد، وما تَقُول؟ فقالَ: أما إذْ سألْتنِي فإنه يَحِقُّ على أنْ أجِيبَكَ، وإن الله مَانُعِكُ مِنْ يزيدَ، ولن يمنعَكَ يزيدُ مِن اللهِ، وإنه يوشكُ أن ينظلَ بكَ مَالكٌ من السماء فيَسْتنزِلكَ مِنْ سريرك إلى سعةِ قَصْركِ ثُم يخرجَكَ من سَعةِ قَصْرِك إلى بَاحةِ دَارِك ثم يخرجكَ من باحة دَارِكَ، إلى ضيق قَبْركِ، ثُم لا يُوسِعُ عليْكَ إلا عملُك. يا بْنَ هُبيرةَ إني أنْهَاكَ عنِ الله أن تعرضَ لهُ فإنما جَعلَ اللهُ السلطانَ ناصراً لعبادِهِ، ودِينِه، فلا ترْكَبُوا عبادَ الله بُسلْطان الله فتُذلوهُم، فإنه لا طاعةَ لمخلُوق في مَعْصيةِ الله.
يا بْن هُبيرةَ إني قَد أدُركتُ ناساً من صَدْرِ هذِه الأمةِ كانوا فيما أحَل الله لهُم أزهدَ مِنكُمْ فيما حرم الله علْيكُمْ، وكانُوا لِحَسنَاتِهِم ألا تُقْبلَ أخُوَفَ مِنكُمْ لسيئاتِكم ألا تُغُفَرَ. وكانُوا والله لثوابِ الآخرِة بِقلوبهم أبصرَ مِنْكُمْ لمتاع الدُّنيا بأعُينكمِ، فكانُوا والله عَن الدنُّيا وهي إليهِمْ مُقْبلةٌ أشد إدباراً مِنْ إقبالكم علْيها وهي عنكم مُدْبرةٌ.
يا عُمَرُ، إني أخوفُكَ مقاماً خَوفكَهُ اللهُ مِنْ نفْسِهِ، فقالَ: " ذلكَ لمن خافَ مقامي وخَافَ وَعيد " . يا عُمرُ. وإن تكُنْ مَعَ يَزيد يكْفك الله بائَقَتَهُ. وإنْ تكُنْ مَعَ يَزيدَ عَلى الله يَكلِكَ إليهِ.
قال فبكَى عُمَرُ ثم قامَ بعَبْرَتِهِ وأرْسَلَ إليهِمْ مِنَ الغَد بإذنهم وجائزتهمْ وأعْطَى الحَسنَ أرْبَعةَ آلاف دِرهم وكُل واحد منهُما ألَفيْنِ ألفَينِ فخرج الشعبي إِلَى المسجد فحدث الناس ساعة ثُمَّ قال: من قدر منكم يَا أيُّها الناسُ أنْ يُؤْثَر اللهَ على خَلْقه فليَفْعَلْ، فإن الأميرَ ابنَ هبيرةَ أرسَلَ إلي وإلى الحسنِ وبنِ سِيرينَ، فسألَنَا عَنْ أمْرِ اللهِ. فوالله ما عَلمَ الحسنُ مِنْه شيئاً جهِلتُهُ ولا علمتُ شيئاً جَهِلهُ ابنُ سِيرينَ، ولكن أردْنا وجَه ابن هبيرةَ فأقصَانا الله، وقصّرنا فقصّر لنا، وأراد الحسنُ وَجْه الله فحباهُ وزاده.
وروى أن الشعْبي قال لابنِ هُبيرة: لا عليكَ أيها لأميرُ. إنما الوالي والدٌ يخطئ ويصيبُ، وما يرد عليك مِنْ رأي أمير المؤمنين فإن استطعت أن ترده فرده وإلا فلا ضيْرَ عليك. فقال: مَا تقُول يا أبا سَعيد؟ فقال الحَسنُ: قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: " من استرعاهُ اللهُ رعيةً فلم يُحطْ من ورائِها بالنَّصيحةِ حرمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنة " . وأمَّا رأيُ أمير المؤمنين فإذا وردَ عليْك فاعُرضْهُ عَلَى كتاب الله فإنْ وافقَه فأمْضهِ، وإنْ خالفهُ فأرْددهُ، فإنَّ الله يمنعك مِنْ يزيدَ من الله ولن يمنعك يزيد من الله. ثم أقْبَل على الشعبي فقال: ما لك ويْلك يا شعُبيُّ!! يقولُ الناس: الشعبي فقيهُ أهُله الكُوفةِ تدْخُلُ عَلى جَبَّار مِن الجَبابرَةِ فتُزيِّنُ له المعصية. فقال: واللهِ يا أبا سَعيد لقد قُلْتُ وأنا أعُلم ما فيه. قال: ذاك أؤكُد للُحجِةَّ عَليك وَأبْعد لك مِن العذر.
وقال الحسنُ: لا دين إلا بمروءة.
وشتمَهُ رجلٌ وأربى عليْهِ. فقال لهُ الحسنُ: أمَّا أنْتَ فَمَا أبْقيْتَ شيئاً وما يَعْلَم اللهُ أكثر.
ودَخَلَ عليْه فَرْقد وعليه صٌوفً وعَلَى الحَسن مُطْرف خَزٍّ، فجعَلَ ينظُر إليْه، فقَال الحسنُ: ما تَنْظرُ؟ على ثيابُ أهْل الجنة، وعليك ثيابُ أهْل النَّار، وإنَّ أحَدهُمْ جَعَلَ زُهْدهُ في ثيابِه، وكِبرَهُ في صدرْه، فَلَهُواَ أَشدُّ عجَباً بصُوفِه مِنْ صَاحب المطرفِ بمْطرَفِهِ.
وقالَ الحَسَنُ: ذكَر اللهُ الثِّقَلَ في القرآن فقال عزَّ وجَلَّ: " فإذا طِعمتُمْ فانتشِرُوا " وقال: حَسْبُك مِنْ شرفِ الفَقْر أنَّكَ لا تَرىَ أحداً يَعْصِي الله ليَفتقِرَ.
وقال: مَا أحْسَنَ الرُّجُلَ نَاطِقاً عالماً، ومسْتَمعاً وَاعياً، وخَائِفاً عَامِلاً.

وقال: إنَّ أهل بَدْر أسْلَموا مِنْ خشية اللهِ، وإنَّ الناسَ أسْلموا مِن خشَيَةِ أهُل بدْر.
وقالَ: لولاَ أن الله عَزَّ ذِكُرهُ أذَلَّ ابن أدَم بثلاث ما طَأْطَأ رأسَهُ، وإنَّهُ مَع ذلكَ لوثابٌ: يمْرَضُ فجأَةً، ويموتُ فجْأةً ويَفْتقِر فَجْأةُ.
وقَالَ: السِّوَاكُ مطْهَرةٌ للفم، مَرضاةٌ للرَّب، مقُرَبَةٌ مِن الملائِكةِ، مَنْفَرَةٌ للشَّيَاطين، ويَجْلُو البَصَر، ويُقِلُّ البَلْغم، ويُصْلِحُ المعِدَة، ويشُد اللَّثَتةَ ويُذْهِبُ الحفر.
وقالَ: أشدُّ النَّاس صُرَاخاً يومَ القيامة رجلٌ سَنَّ ضلالةً فاتُّبع عليها، ورَجلٌ سيءُ المَلكة، ورجلٌ فَارغ مكفي استعَان على مَعَاصِي الله بِنعَمِهِ.
ولما مات الحجَّاجُ قالَ الحسنُ: الَّلهُمَّ أنْتَ أمتَّهُ فاقْطعْ عَليْنَا سُنَّتهُ، فإنَّهُ أتَانا أخَيْفِشَ أعَيْمِش، يمدٍ بيد قصيرة البَنان. والله ما عَرق فيها عنانٌ في سَبيل الله، يُرجِّلُ جُمَّته ويخْطِر في مشيته، ويَصْعَد المنبرَ فيهْدِرُ حتى تفوته الصَّلاةُ، لا مِن اللهِ يتقي، ولا مِن الناس يستحي، فَوْقهُ الله وتحتهُ مائةٌ ألف أوْ يزيدون، لا يقُولُ لَهُ قائلٌ: الصَّلاةَ أيُّها الرَّجلُ. ثمَّ يقولُ الحسنُ هَيْهاتَ. حَالَ دُونَ ذَلِكَ الَّسيْفُ والسَّوْط.
وكَانَ يقُولُ: إنما كانتْ خطيئةُ أبيكُمْ أدَم عليْهِ السلامُ في أكْلَة وهي بليَّتكُمْ إلى يومِ القيامةِ.
وقَالَ للصُّوفيينَ: إنْ كانَتْ هَذِهِ سَرِيرَتَكُم فَقْدَ أظهر تمُوهاً، وإنْ كانَتْ خلافاً لما أعْلَنْتُمْ فقدْ هَلَكْتُمْ.
وقَالَ: العِصْمةُ مَا لَمْ تجدْ، والعِفةُ إذَا قَدرْتَ.
وقَالَ: مَنْ بَدَلَ دِرهَمَهُ أحبهُ الناسُ طَوْعاً وكَرْهاً.
وقَالَ: كيْفَ للرجُل بإحُراز دينهِ وهُو يطلُبُ معَاشَهُ مِمنْ لا يُزَكى عَملَهُ.
وقال: مَنْ تعززَ بالمعْصِيةٍ أوْرَثُهُ الله الذِّلةَ.
وقالَ: مَن اتكلَ على حُسْنِ اختيارِ اللهِ لهُ لم يتمَن أنهُ في غَيرِ حَالتهِ التي اختارها اللهُ لهُ.
وقال: مَنْ لمْ يُؤمن بالقدرِ كَفرَ، ومن حملَ ذنبهُ على اللهِ فجرَ.
وقال: رُب مَحْسُود عَلَى رَجاءٍ هو بلاؤهُ، ومَرْحوم مِنْ سقَم هُوَ شِفاؤُه، ومغُبوطِ بِنعمة هي داؤه.
وقالَ: لهذه القُلوبِ إقْبَالٌ وإدبارٌ، فإذا أقْبَلتْ فاحُملُوها على النوافِل، وإذا أدْبرتْ فاحُمِلُوها على الفَرائضِ.
وقَالَ: تجري الأمورُ على المقاديرِ والناس لا يَقْبلُونَ المعَاذِيرَ.
وقال: حَسْبُكَ مِن العِلمْ أن تَخْشَى اللهَ، وحَسْبُكَ مِنَ الجَهْل أنْ تُعْجَبَ بِعِلُمِكَ.
وقالَ: وجدتُ خَيْرَ الدُّنْيا والآخرة في صَبْرِ ساعة.
وقال: جَهد الحقُّ الناسَ فلا يَصْبِرُ لهُ إلا مَنْ عَرفَ فضْلَهُ ورجَا عاقِبتَهُ.
وسألَه رجلٌ فَقَالَ: غُلامٌ يتعلمُ القِرآنَ، وأبُوهُ بأْمُرهُ أنْ يتعلمَ الشِّعْرَ فقال. يتعلمُ القُرآنَ ويتعلمُ مِنَ الشِّعْرِ ما يُرْضِي أَبَاهُ.
وقَالَ: لأن أقْضِي حاجةَ أخ أحبُّ إلي مِنْ أنْ اعْتَكِفَ سنَةً.
وروُي عَنْ أبي عَمُرِو بن العلاء أنهُ قال: ما رأيتُ قَرَوييْنِ أفْصَحَ مِن الحًسن والحجاج.
ونَظَرَ أعْرابي إلى الحَسن، فقيلَ لهُ: يكفَ تراهُ؟ فقال: أرى خيْشُوم حُرٍّ.
وقَالَ لهُ رجلٌ يا أبو سعيد. فقَالَ الحسنُ: شغلَكَ كَسْبَ الدوَانِيقِ عنْ أنْ تقُولُ يا أبَا سَعيد.
وقَالَ لهُ آخَرُ: يا بُو سَعيد. فقالَ: أينَ غذيِتَ قالَ: بلا يلة. قال: مِنْ هذا أتيتَ.
وقال: من دخلَ مَدَاخِلَ التُّهَمةِ لَم يكُنْ لَهُ أجرُ الغَيْبةِ.
وقال: من أمَّلً فَاجِراً كانَ أدنَى عُقُوبَتِهِ الحرمانُ.
دخَل أعْرابيُّ البَصْرة، فقال: مَنْ سَيِّدُّهُم؟ قَالُوا: الحَسنُ بنُ أبي الحَسن.
قال: وبِمَ؟ قالوا: اسْتَغْنَى عما في أيْديهم من دُنْيَاهُمْ. واحُتَاجوا إلى ما في يديه من دينه. فقالَ: بخ بخ. بهذا سَادهُمْ.
وسَمعَ الحسنُ رجلاً يصفُ الفالوذَج فقالَ: فُتَاتُ البُرِّ بلُعابِ النحُلِ بخالِصِ السمْنِ. مَا عَابَ هَذا مُسْلِمٌ.

الباب العاشر
نُكَتٌ مِنْ كَلام الشِّيَعة

أخُبرنَا الصاحبُ كافي الكفَاةِ رحمةُ اللهِ عليْهِ قالَ: أخبرنا عبدُ اللهِ بنُ محمَّد، قالَ: أخْبرَنَا عبْدُ الله بنُ الحسن، قال: أخُبرَنَا سهْلُ بنُ محمد قَالَ: أخُبرنَا عبْدُ الرَّحمَن بن المثنى قال: عبد الملك فلما بلغ إِلَى العظة قام إِلَيْهِ رجل من آل صُوحانَ. فقالَ: مَهْلاً مَهْلاً. تأُمُرونَ فلا تأُتَمرونُ، وتَنْهَوْنَ ولا تنتهُون، وتعظُون ولا تتعظُونَ. أفَنَقْتَدي بسيرتكُمْ في أنْفُسكُم أمْ نُطيع أمُركُمْ بأَلْسنَتكُم؟ فإنْ قُلْتُم: اقتَدُوا بسيرتنَا فإني؟ وكَيْفَ وَمَا الحُجَّةُ؟ ومَا النصيرُ منَ الله بإقتداء سيرَة الظَّلمَة الفسَقة، والجَورة الخَونة الذين اتخَذُوا مال الله دُولا، وعبيدهُ خَولاً وإن قلتم: اقبلُوا نَصيحتنَا، وأطيعُوا أمرنا، فكْيفَ يَنُصَحُ لغيره مَنْ يَغُش نَفْسَهَ.؟ أمْ كيْفَ تَجبُ الطاعةُ لمنْ لمْ تَثُبتْ عنْدَ الله عدالَتُه؟ وإنْ قلُتْم خُذوا الحكمَةَ من حُيثُ وجدتُموهَا، وأقبلُوا العظَةَ ممَّن سَمعتُموهَا فَعلامَ وليْنَاكم أمْرَنَا، وحَكَّمْناكُمْ في دمائنا وأمْوالنَا؟ أمَا علمتُمْ أنَّ فينَا مَنْ هُوَ أنْطَقُ منْكُم باللغَات وأفْصَحُ بالعِظاتِ؟ فَتحلْحلوا عنها أولاً، فأطْلِقُوا عِقَالَها، وَخَلُّوا سَبيلَهَا يَبتْدِرْ إليها ألُ رسُول الله صلى الله عليه وعليهم الذينَ شَرَّدْتُموهُمْ في البلادِ، وفرَّقتُموهُمْ في كُلِّ وَاد، وبل تثْبت في أيْديِكُمْ لانْقِضاءِ المُدَّةِ وبُلُوغ المُهْلةِ، وعِظَم المحنةِ. إن لكُلّ قائم قَدَراً لا يعْدُوهُ ويوما لا يخُطوه، وكتاباً معدَه يتلُوهُ " لا يُغادِرُ صغيرَةً، ولا كبيرة إلا أحْصاها " و " سَيَعْلَمُ الذين ظلموا أيَّ مُنْقَلَب يَنْقِلبون " . قال ثُمَّ أجْلسَ الرَّجُلُ فطُلِبَ فَلَمْ يُوجَدْ.
نَظَر شريفٌ إلى رءوسِ بنيِ أمية - وقد حُمِلتْ إلى أبي العبَّاسِ فقَامَ وقَالَ: هذِه رؤسٌ ربَّاهَا النِّفاقُ، ورَّبتهُ، وغَذَّاهَا الكُفْرُ وغَذَّتْهُ، ودَعاهَا الجْهلُ فأجَابتْهُ. صَرفُوا الصَّدقاتِ في الشَّهواتِ، والفيءَ في الغي والغانِمَ فيِ المحارمِ.
لمَّا ماتَ الصادِقُ عليْه السلامُ قَالَ أبو حَنيْفَةَ لشَيْطان الطَّاق مَاتَ إمَامُك. قَالَ: لكن إمامَكَ لا يموتُ إلى الحشْرِ. يعْني السُّنَّةَ.
قالَ مُعَاويةُ لأبي الأسود: لَوْ كُنْتَ أحَدَ الحكمَيْنِ ما كُنْتَ صانعاً؟ قالَ: كْنْتُ أقولُ: أليْسَ أحقَّ الناسِ أنْ يُتخَيَّر منهم المهاجرُون والأنصَارُ؟ فإنَّهُ كانَ يقالُ: بَلَى: فكنتُ أقُولُ: فاعُتزِلُوا مَنْ ليْسَ منهُمْ. قال معاويةُ الحمدُ لله الذي كفانَاكَ.
جَلسَ مُعاويةُ بالكُوفة يُبَايعُ على البراءة منْ على عليْهِ السلام فجاء رجلٌ مِنْ بني تميم فأراده. عَلى ذلكَ فقالَ: يا أميرَ المُؤمنين. نُطيعُ أحُياءَكُم ولا نتبرأ من موتاكُم. فالتفت إلى المُغيرةِ، فقال: إنَّ هذا رجلٌ. فاسْتَوْصِ به خيْراً.
قال الشَعبي: مَا لقينَا منْ علي بن أبي طالب: إنْ أحَبَبْناهُ قُتِلْنَا وإنْ أبغْضَنَاه هَلكْنَا.
قال عبدُ الملك بن مروانَ لعبد الله بن عبد الأعلى الشاعر: أخْبرني عَنْ أكْرَم العَرب؟ قالَ: يا أميرَ المُؤمنين: قد سمعتَ كَما سمعت، وعلمتَ كما علمت. قال: أقْسم عليكَ لتخبرني.
قال: أكرم العَرب مَنْ يحبُّ ألا يكونَ من غَيرهَا، ولا يحب غَيرَه أن يكونَ إلا منْهَا. وألام العَربَ مَنْ يحب أنْ يكونَ منْ غيرهَا ولا يحب غَيره أنْ يكونَ مِنْها. قَالَ، فَوضَعَ عَبد الملكِ يدَه على منِكبه وقَالَ: لو مسَحتُكَ لتناثَر منْكَ ترابٌ. يعرِّض له بحب علي عليه السلام وبني هاشم.
كان أبو الهذَيْل يقول: أوَّل سِهام مَنْ تحب آل محَّمد صلى الله عليه وعليهم التي لا يطيش عنْ أعدَائهم قولهم: الحمد لله على طيبِ المولد.
قال يونس: قلت للخُليلِ: ما بال أصحَابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كأنهم بَنو أمٍّ وإخوة، وعلي كنه ابن عَلَّة؟ فقال لي: منْ أين لَكَ هَذَا السؤال؟ فقلْت: أريد أن تجيبني. قالَ عَلَي أنْ تكْتم علي ما دمتْ حياً. قلْت: أجَلْ. قالَ تقدَّمَهم إسلاماً، وبذَّهم شَرَفاً، وفَاقَهم علْماً، ورَجَحَهم حلْماً، وكانَ أكْثرَهم زهْداً، فَخسروه والناسُ إلى أشُكَالِهم أميل.

قال المتوكل لبعض العلوية: ما يقول ولُد أبيكَ في العباسِ؟ قال: يا أميرَ المؤمنين ما يقول ولَد أبي في رَجُلٍ فَرض الله حقَّ رسُولهِ على عِبَادِهِ: وفَرضَ حقَّه عَلَى رسُوله. قال له: والفرق بينَنَا وبينَكم. قال: ذَاكَ بيِّنُ. لوْ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسَلَّم حياً: أكانَ حَلالاً لهُ أن يكُونَ حُرَمي متكشفاتِ الروؤس؟ قَالَ: نَعَمْ.
سُئِلَ أحمدُ بنُ حنبل عَنْ قول الناسِ: على قَسِيمُ الجنَّةِ والنَّار. فقَالَ: هذا صحيحُ لأنَّ النبي عليه السلامُ قالَ لعلي: " لا يحبُّك إلا مؤمِنٌ ولا يُبغضُكَ إلا مُنَافقٌ " والمؤمن من الجنَّةِ والمُنافِقُ في النِّار.
لمَّا قدِمَ طلحةُ والزبيرُ البصْرة قامَ المطرفُ بنُ عبد الله خطيباً في مَسْجدِهَا، فقالَ: أيُّها الناسُ: إنّ هذيْن الرَّجُلين - يعني طلحَةَ والزبيرَ - لما أضَلا دينَهُمَا ببلدِهما جاءَا يطلبانِهِ في بلدِكُمْ، ولو أصابَاه عندَكُمْ ما زَادَاكُمْ في صَلاتِكُمْ، ولا في زَكَاتِكُمْ، ولا في صَومْكم ولا في حجِّكُمْ، ولا غَزْوكُم، وما جَاءَا إلا لينَالاَ دُنْياهُمَا بدينكُمْ، فلا تَكْونَنَّ دُنْيا قوم آثَرَ عِندكُم مِن دينكُمْ والسَّلامُ.
وكان بعضُ قضاة الكُوفَةِ يذكرُ يوماً فضائلَ أمير المؤمنينَ - صلوات الله عليهِ - وحضرهُ بعَث الحشوية فقالَ للقاضي: لا أراك تذْكُرُ مِنْ فضَائِلِ أبي بكر وعُمرَ شيئاً. فقالَ القاضي: يا أحمقُ، نحنُ نذكُرُ المُقاتِلَةَ وأنْتَ تَذَكُر النظارَةَ.
لقي أبُو موسى الأشعريُّ أعرابياً، قَدْ قِدمَ من دومة والجْنَدل، فقال: يا أعرابيُّ، ما عِنْدَكَ مِن خَيرَ الناس؟ قال: تركْتُهُم يَا يلعَنُونَ ثلاثةً قال: مَنْ هُمْ؟ قال: الأشعري، وأبَا مُوسِى، وعبدَ اللهِ بنَ قيس، كان بعضُ أهل البصرة يتَشِّيعُ وكان لهُ صديقٌ يفد إليه ويوافقه في مَذْهَبه فأودَعهُ مالاً فجَحَدهُ، فاضطْرَّ إلى أن قالَ لمُحمدِ بن سليمان، وسأله أن يحضرهُ، ويُحلفه بحق علي عليه السلام، ففعل ذلك. فقال: أعزَّ اللهُ الأميرَ. هذا الرجلُ صَديقي، وهو أعزُّ علي، وأجلُّ عنْدي منْ أنْ أخلف لهُ بالبراءة مْن مُخْتلفٍ في ولايته وإيمانه، ولكني أحلف له بالبَراءة منْ المتفق على إيمَانهما وولايتهما: أبي بكر وعمَرَ، فضحك محمَّد بن سليمان، والتزم المال، وخلَّى عَن الرَّجل.
قالَ أبو معاويةَ الضَّريرُ: بعثَ هشام بنُ عبد الملكِ إلى الأعْمش أن أكتُبْ إلى بمنَاقب عُثمانَ ومساوئ علي على فأخذَ الأعمشُ القرطاس، فأدخلهُ في فم شاة، فأكلتهُ. وقال: قُلْ هذا جَوابُهُ. فرجَع الرسولُ ثُم عَادَ فأتى الأعمشَ. فقالَ الرسولُ. إنَّهُ قد آلى أنْ يَقْتُلَني إنْ لمِ آتِهِ بالجواب وتحمل إليْه بإخُوانِه. فقالُوا: يا أبَا مُحمد افتِده مِن القَتْل. فلماَّ ألحُّوا قال: اكُتبْ بسم الله الرحمن الرحيم.. أما بعدُ. فلوْ كَانتْ لعثمانَ مناقبُ أهل الأرض ما نَفَعَتْكَ، ولو كانَتْ لعلى مساوئ أهْل الأرض ما ضَرَّتكَ فعليْكَ بخُويصةِ نَفْسِكَ. والسَّلامُ.
قال ابنُ الفرق: رأيْتُ المختارَم مسْتُورَ العْين. قلتُ: مَنْ فَعل بكَ هذا قطعَ الله يدهُ فقال: ابنُ الفَاعلة عبيدُ الله بنُ زياد، والله لأقطَعَنَّ أنَامِلهُ وأباجلَهُ، ولأقتُلن بالحسيْن عَدَدَ مَنْ قُتِلَ بيْحيى بن زكريا. ثم قال. يا بنَ الفرق، وإن الفْتنَةَ قدْ ألقتْ خِطامَها، وخبطتْ وشمسَت. ثم قَالَ: ورَافِعةَ ذيْلَهَا، وقائِلة: ويلها بدجلة أو حولها!!! قال عبيدُ الله بن زياد لبعْض بني بكر بن وائل: ما تقولُ فينا وفي الحُسَيْن وفي قَتْلنا إيَّاهُ؟ فقالَ: ما أقُولُ؟ يجي جدُّه يومَ القيامةِ فيشفَعُ له ويجيءُ جدك فيشفعُ لكَ.
كان أبُو الأسودِ يتشيع وكان ينزلُ في بني قشير - وهُمْ عثمانيةٌ فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصْبحَ شكا ذلك فشكاهُم مرةً، فقالوا لَهُ ما نَحنْ نَرْميكَ وَلكنِ الله. فقالَ كذبتْمْ - والله - لو كَانَ اللهُ يرِميني لما أخْطَأني.

كان سُفْيانُ بنُ عُييْنةَ إذا يُشِّر بمَوْلُود مِن العلّوَيةِ أعطى بشَارةً، وإذا نُعى إليْه واحدٌ جلَسَ للتعزيةِ. فقِيلَ لهُ في ذلكَ. فقالَ: يذهبُ أمانٌ، ويزيدُ أمانٌ، همْ أمانُ أهْل الأرْض مِن العذاب. سمعْتُ عمْرَو بن ديِنار عن ابن عباس أنَّ رسولَ الله صلى الله عليهَ. قال: النجُومُ أمانٌ لأهْل السِّماء، وأهلُ بيتي أمانٌ لأْمتي.
قال عبد اللهِ بنُ عباس المخزومي: قلتُ: يا عمُّ، حدثني عما كان من صفو الناس معَ علي وإنما هو غُلامٌ منْ قريش، ولأبي بكْر مِن السابقةِ ما قدْ عَلمتَ، قَالَ: إن علياً كانَ ما شئْتَ من ضرس قاطع، والسلطةِ في العشيرة، والقدم في الإسْلام، والصِّهر لِرَسُول الله صلى الله عليه، والعِلْم بالقُرآن، والفقْه في السُّنَّة، والنَّجدة في الحرْب، والجُودِ بالماعُون.
دخَلَ أبوْ الطفيْل عامرُ بنُ وائلة الكنانيُّ على معاويةَ فقالَ لهُ: أْنتَ مِنْ قَتله عُثْمانَ؟ قالَ: لا. ولكنني مِمنْ حضَرهُ فلم يَنْصرْهُ. قالَ: ومَا منعَكَ منْ نَصْره؟ قَالَ: لمْ ينصرْهُ المُهَاجروُنَ والأنْصارُ. قالَ معاويةُ: لقد كان حقهُ واجباً، وكان يجبُ عليهمْ أنْ ينصروهُ. قال: فَمَا منَعَكَ منْ نُصْرتَه يَا أميرَ المؤْمنينَ ومَعكَ أهْلُ الشَّام؟ قالَ: أومَا طَلَبي بدمِهِ نصرةٌ لهُ؟ فضَحكَ عامِرٌ فقال: أنْتَ والله وعثمان كقولِهِ: لأعْرفنَّكَ بعْدَ الموتِ تندُوبُني وفي حياتي ما زَوَّدْتَني زادي فقال لهُ معاويةُ: دَعْ هذا عنْكَ، وقُلْ لي: ما بقَّاهُ الدهر مِنْ ثُكْلِكَ على علي ابنْ أبي طالب فقالَ: ثُكْلُ العجوز المِقْلاتِ، والشَّيخ الرَّقوبِ قالَ: فكيْفَ حبُّكَ لَهُ؟ فقالَ: حُبُّ أمِّ مُوسى لموسَى، وإلى الله أشْكُو التَّقْصيرَ.

الباب الحادي عشر
كلام الخوارج
من كلام أبي حمزةَ: تَقْوى اللهِ أكرمُ سَريرة، وأفضلُ ذَخِيرة، مِنْها ثقَةُ الوَاثق، وعليْها مِقَةُ الوَامِق. ليعمَل أمرؤ فِي فكَاك نَفْسِهِ وهو رخي اللبَب، طويلُ السَبَب، وليعْرفَ مَمدَّ يَدِه، ومَوضِعَ قَدَمِهِ، وليَحْذَر الزَّلَلَ والعلَ التي تقْطَعُ عَنِ العمَل. رحِمَ اللهُ عبداً آثَرَ التَّقْوىَ، واستشْعرَ وشعارَها واجتنىَ ثمارها. باعَ دَارَ النفدِ بدار الأبَدِ. الدُّنْيا كروْضَة اعتمَّ مَرْعَاهَا، وأعْجَبتْ مَنْ يَراهَا، تمجُّ عروقُها الثرى، وتنظفُ فروعها الندي، حتى إذا بلغَ العُشْب إناهُ، وانْتَهى الزبرج منتهاه، ضعفَ العُمودُ، وذوي العُودُ، وتولي مِن الزَّمان مالا يُعود، فَحنَتِ الرياحُ الورقَ، وفرقتْ مَا أتسقَ، فأصبحَ هشيماً تذروهُ الرياحُ وكان اللهُ على كل شيء مُقْتَدِراً.
كان شبيب يقُولُ: الليلُ يكْفيكَ الجَبَانَ ونِصْفَ الشُّجَاع.
أتى الحجاجُ بامْرَأة مِنْ الخَوارج، فقالَ لِمنْ حَضَر: ما تروْنَ فِيها؟ قالُوا: اقْتُلْها. فقالَتْ: جُلُساءُ أخيكَ خيرٌ مِنْ جُلسائكَ: قال: مَنْ أخي؟ قالتْ: فِرْعُونُ: لما شاورَ جُلساءهُ في موسى " قالوا أرْجِهُ وأخَاهُ وأبعثْ في المدَائِنِ حاشرين " فأمَرَ بقَتْلِهَا.
مرَّ رجلٌ من الخوارج بدار تُبنى، فقال: مَنْ هذا الذي يُقيم كفيلاً؟ أخذ ابنُ زياد بنَ أديَّةَ: أخَا أبي بلال، فقطعه يديه، ورجليه، وصلبه على بابِ دارِه فقال لأهله وهو مصْلوبٌ: انظروا إلى هؤلاء الموكَّلين بي فأحسِنُوا إليهم فإنهم أضيافكم.
أني عتابُ بن وَرْقَاء بامرأة من الخوارج فقال لها: يا عدوةَ الله، ما دعاكِ إلى الخروج؟ أمَا سمعتِ الله تعالى يقول:
كُتِبَ القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جرُّ الذيول
قالت: يا عدو الله، أخرجني قلةُ معرفتك بكتاب الله.
كان الجنيد بن عبد الرحمن يلي خراسان في أيام هشام، فظفر بصبيح الخارجي، وبِعده، مِن أصحابه، فقتلهُم جميعاً، غيرَ رجل أعمى كان فيهم. فقال له الأعمى: أنا أدلُّك على أصحاب صبيح، وأجازيك بما صنعتَ، فكتب له قُوماً. فكان الجنيد يقتلهم حتى قتل مائةً. فقال له الأعمى عند ذلك: لعنكم الله. تزعُم أنه يحلُّ لك دمي. وأني ضالَ. ثم تَقبلُ قولي في مائة فتقتلهم. لا - والله - ما كتبتُ لك من أصحاب صبيح رجلاً وما هُمْ إلا منكم فقدَّمه، وقتله.

دخل أبو حمزة - واسمه يحيى بن المختار - مكة، فصعد منبرها متوكئاً على قَوْس له عربية، فحمد الله، وأثنى عليه. ثم قال: أيُّها الناسُ، إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان لا يتقدمُ ولا يتأخَّرُ إلا بأمْرِ اللهِ وإذْنِه ووحيهِ، أنَزلَ اللهُ له كتاباً بيَّنَ لهُ فيهِ ما يأْتي وما يتقي، فلم يَكُ في شَكِّ مِنْ دينهِ، ولا شُبْهة منْ أمْرهِ، ثم قبضَهُ اللهُ إليهِ، وقد علمَ المسْلمينَ معالم دينهِ، وولى أبا بكر صلاتَهُمْ وولاه المسلمونَ أمر دُنْياهُمْ حيثُ ولاهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليْه وسلم أمْرَ دينهِم، فقَاتَل أهْلَ الردِة، وعملَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ومَضى لسَبيِلهِ - رحمهُ اللهُ - وولي عمرُ بنُ الخطاب، فسارَ بسيرةِ صَاحبهِ، وعَمِلَ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وجبى الفيءَ، وفَرضَ الأعْطِيةَ، وجمَعَ الناسَ في شَهْرِ رمضانَ، وجلدَ في الخَمْرِ ثمانينَ، وغَزَا العدوَّ في بلادِهمْ، ومَضَى لسبيلهِ رحمهُ اللهُ.
وولي عثمان بن عفانَ فسارَ ستَّ سنين بسيرةِ صاحبيهِ، وكانَ دُونَهَما ثم سَارَ في الستِّ الأواخرِ بما أحبطَ الأوائلَ، ثم مَضى لسبيلهِ، وولي علي بنُ أبي طَالب فلم يَبْلُغ من الحق قصْداً، ولم يرفْع له منَاراً. ثُم مضَى لسبيله، وولي معاوية بنُ أبي سُفيانَ لَعينُ رسولِ الله وابنُ لعينِه فاتخذَ عبادَ الله خولاً، ومالَ اللهِ دُولاً، ودينهُ دَغَلاً فالعنُوهُ لعنَهُ اللهُ. ثم ولي يزيدُ بن معاوية، يزيدُ الخمورِ، ويزيدُ القُرودِ، ويزيدُ الفُهودِ، الفاسقُ في بطنِهِ، المأبُونُ في فَرْجِهِ، ثم اقتصهُمْ خليفةً خليفةً. فلما انتهى إلى عُمَرَ بن عبد العزيزِ أعْرَضَ عن ذِكْرِهِ. ثم ولي يزيدُ بنُ عبد الملك الفاسقُ في بْطِنه المأبُونُ في فَرِجهِ الذي لم يؤنس منه رُشدٌ، ولم يُرْعَ له عهْدٌ. وقد قالَ اللهُ في أموال اليتامى " فإن آنستُمْ منهُمْ رُشداً فادْفعُوا إلَيهِمْ أموْالَهُم " .
فأمرُ أمة محمد أعظمُ يأكلُ الحرامَ، وبِشرْبُ الحرامَ، ويلْبس الحُلَّة قُومِّتْ ألفَ دينار قد ضُرِبتْ فيها الأبشارُ، وهُتِكتْ فيها الأسْتَارُ، وأخِذتْ مِن غير حِلِّها. حَبابة عن يمينِهِ، وسلامةُ عن يَسَارهِ يُغنيانِه حتى إذا أخذَ الشرابُ مِنْهُ كلَّ مأخذ قَدَّ ثوبَهُ، ثم التفَتَ إلى إحداهُمَاَ فَقالَ: ألا أطيرُ؟ نَعمْ، فِطِرْ إلى النَّارِ.
وأما بنُو أمية فَفٍِرقَةٌ الضلالةِ، بْطشُهمْ بطْشُ جَبْريَّة، يأخُذُونَ بالظنة، ويقْضُونَ بالهوى، ويقتُلُون على الغضبِ، ويحْكُمون بالشفَاعة، ويأخُذُونَ الفَريضَةَ مِنْ غيرِ موضعها، ويضعُونَها في غير أهْلِها، وقد بيَّن الله أهْلَهَا فجعلَهُم ثمانيةَ أصناف. قالَ: " إنِّما الصدقاتُ للفقراء " إلى آخر الآية فأقبلَ صِنْفٌ تاسعٌ لَيْسَ مِنْهمَا فأخَذَها كلَّها. تْلكُمُ الأمةُ الحاكِمةُ بغَيْرِ مَا أنْزَل اللهُ.

خطبة قطري بن الفجاءة
أمَّا بعدُ: فإني أحذِّرُكم الدنيا فإنها حُلوة خَضِرةٌ، حُفَّتْ بالشهوات وراقتْ بالقليل، وتَحبَّبتْ بالعاجلةِ، وخلّبتْ بالآمال، وتَزيَّنتْ بالغُرور ولا تَدْمَ حَبْرتها، ولا تؤْمنُ فجيعتْها، وغرارة ضرارة، وحائلةٌ زائلةٌ، ونافِدةٌ بائدةٌ، أكالةٌ غَوَّالة، لا تعْدُو - إذا تناهتْ إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرِّضَا عنها - أنْ تكونَ كما قال اللهُ تعالى " كماء أنْزَلَناهُ من السماء، فاختلط به نباتُ الأرض فأصبحَ هشيماً تذروه الرياحُ وكان اللهُ على كل شيء مقتدراً.
مع أن امرأ لم يكن منها في حَبْرة إلا أعقبتْهُ بعدها عبرة ولم يلْقَ من سرائها بطناً إلا منحتْه من ضَرائها ظهْراً ولم تَظِله غيمةُ رخاءٍ إلا هطلتْ عليه مُزْنةُ بلاء، وحريةٌ إذا أصبحتْ له منتصرةً، أنْ تُمسي له خاذلةً مُتنَكرة، وإن جانِبٌ مِنْها أعذوذبَ واحد ولي أمر عليه منها جانبٌ وأوبى.

وإنْ آتت امرأ من غضارتها ورقاً أرهقته من نوائبها تعباً. ولم يْمس منها امرؤ في جنَاح أمنٍ إلا أصبحَ مِنْها على قوادمِ خوف. غرّارةٌ غرورٌ ما فيها، فانيةٌ فإن من عليها لا خيرَ في شيء من زاد منها إلا التقوى. من أقل منها استكثرَ مما يؤمنهُ، ومن استكثر منهَا استكْثَر مِما يُوبقُه ويطيل حُزنه، ويبكي عينَه، كم واثقٍ بها فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعتْه، وذي احتيال فيها قد خدعته، وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيراً، وذي نخوة قد ردْتهُ ذليلاً، ومن ذي تاج قد كبتْه لليدين، وللفَم.
سلطانُها دُوَلٌ، وعيشُها رنَق وعذبها أجَاجٌ وحُلوُها صَبرٌ، وغذاؤها سِمامٌ، وأسْبابها رِمامٌ، وقطافُها سَلَع، حيُّها بعَرَضِ موت، صحيحُها بعَرَضِ سقم، منيعُها بِعَرضِ اهتضَام. مليكُها مسلُوب، وعزيزُها مغْلوبٌ، وسليمُها منكُوب، وجارها محروبٌ، مع أنَّ وراء ذلك سكراتِ الموت، وهولَ المطلعِ، والوقوفَ بين يدي الحكم العدل " ليجزي الذين أساءْوا بِما عَملوا ويجزي الذينَ أحْسنُوا بالحُسْنى " .
ألستُم في مساكن من كان قَبْلكم أطولَ أعْمارً، وأوضح منكُم آثاراً، وأعد عديداً، وأكثفَ جُنوداً، وأشدَّ عُنوداً.
تُعبِّدوُا للدنيا أي تعبُّد، وآثَرُوها أي إيثار، وظعَنُوا عنها بالكُره والصغَار فهل بلَغكُم أنَّ الدنيا سمحَتْ لهم نفْساً بِفدْية، أو أغْنَتْ عنهم فيما قد أهلكتْهُم بخَطْب؟ بل قدْ أرهقتْهُم بالفوادح، وضَعْضَعْتهُمُ بالنوائب، وعقرتهُم بالفجائع. وقد رأيتُم تنكُّرَها لمنْ دَانَ لها، وآثَرها وأخْلَدَ إليها حين ظَغنُوا عنها لفراقِ الأبَد إلى آخرِ المُسْند.
هل زودتَهْمُ إلا السغَب، وأحلَّتهم إلا الضّنْكَ، أوْ نورت لَهم إلا الظُّلمةَ أو أعقُبتْهم إلا الندامة؟ أفهذه تُؤثرون أمْ علي هذه تَحْرِصُون؟ أم إليها تطمئنون؟ يقولَ الله عز وجل: " مَنْ كان يُريد الحياةَ الدنيا وزِينتَها نُوَفِّ إليهم أعْمالهم فيها وهم فيها لا يُبْخَسُون " فبئستْ الدارُ لمنْ أقامَ فيها فاعلُموا - وأنتم تعلمون - أنكم تَارِكُوها لا بُدَّ، فإنما هي كما وصفَها اللهُ باللعب، واللهو. وقد قال الله تعالى: " أتبنْون بكُلِّ ريع أيةً تَعْبَثُون وتتَّخذُونَ مصانعَ لعلكم تَخْلُدون وإذا بطشتُم بطَشتُم جبارين " .
ذكر الذين قالوا: " من أشدُّ منا قوةً " ثم قال: حُملُوا إلى قُبورهم فَلا يُدعَون رُكْباناً، وأنْزِلوا فلا يُدعَوْنَ ضيفَاناً، وجعل الله لهم من الضريح أجْناناً، ومن الترابِ أكْفاناً، ومن الرفُّات جِيراناً، وهم جِيرةٌ لا يُجِيبون داعياً، ولا يمنعُون ضَيماً. إن خَصبوا لم يَفْرحُوا، وإن قَحطوا لم يقُنطوا. جَميعٌ وهم آحاد، جِيرةٌ وهم أبْعادٌ، مُتَناءْون لا يزورُون ولا يُزَارُون.
حُلماءُ قد ذهبتْ أضْغانُهم، وجُهلاءُ قد ماتتْ أحقادهُمْ، لا يُخشى فجْعهُمُ، ولا يُرْجَى دَفْعُهمُ، وكما قال الله تعالى: " فتلْكَ مساكُنهم لم تُسْكَنْ منْ بعْدِهِم إلا قليلاً وكُنَّا نحنُ الوارِثين " .
واستبدلَوا بظَهْرِ الأرض بطْناً، وبالسَّعة ضِيقاًُ، وبالأهل غُربةً، وبالنور ظُلمة، ففَّارَقُوها كما جاءُوها حُفاةً، عراةً، فُرادى، غيرَ أنْ ظعنُوا بأعمالهم إلى الحياد الدائمة، وإلى خلود الأبَد، يقولُ الله تبارك وتعالى: " كما بدأنا أول خلق نُعيدُه وعداً علينا إنا كُنَّا فَاعِلينَ " .
فاحذَروا ما حذَّركُم الله، وانتفعُوا بمواعظه، واعتصمُوا بحَبْله. عَصَمنا اللهُ وإياكم بطاعته، ورزَقنا إياكُم أداءَ حقِّه.
قالوا: لما أخذ أبو بيهس الخارجي، وقُطِعتَ يداهُ، ورِجْلاهٌ، تُرك يتمرغُ في الترابِ. فلما أصْبح قال: هل أحدٌ يُفْرِغُ على دَلْوين؟ فإني احتلمتُ في هذه الليلةِ. هذا إن كان صَادقاً فهو عجيبٌ، وإنْ كان قالهُ استهانةً بمَنْ فَعلَ ذلك فهو أعجبُ.
قال بعضُهم: سمعتُ أبا بلال في جنازة وهو يقولُ: ألا كلُّ ميتةٍ ظنُونٌ إلا ميتةَ الشجاء. قالوا: وما ميْتةُ الشجاء؟ قالَ: امرأةٌ أخذها زيادٌ فقطعَ يديْها، ورجليها، فقيل لها: كيف تريْنَ يا شجَاءُ؟ قالتْ: قد شَغلني هولُ المطَّلَع عن بَرْدِ حَدِيدكم.
قال الحجاج لامرأة من الخوارج: اقرئي شيئاً من القرآن. فقالتْ: " إذا جاء نَصْر الله والفتْحُ، ورأيتَ الناسَ " " يخرجونَ فقَالَ: ويحك يدخُلُون.

قالتْ: قد دَخَلُوا، وأنتَ تُخْرِجُهم.
وقال الحجاجُ لأخرى: لأحصدنكُمْ حصْداً. قالتْ: أنتَ تحصُدُ، والله يزرَعُ، فانظُرْ أينَ قُدْرةُ المخلُوقِ من قدرةِ الخالق؟ رأت أخرى منهُمْ رجلاً بضًّا فقالتْ إني لأرى وجهاً لم يُؤثِّرْ فيه وضوء السبرَات.
كان شبيبُ الخارجي ينعى لأمة: فَيُقَالُ: قُتِلَ: فلا تُصَدِّقُ، إلا أنْ قِيل لَها: غَرِقَ: فولولتْ، وصدقَتْ. فَقِيلَ لَهَا في ذلكَ. فقالتْ: إني رأيتُ حين ولدتُهُ إنهُ خَرجَ مني نارٌ فعِلمتْ أنهُ لا يُطفئُهُ إلا الماءُ.
وقَفَ رجُلٌ على أبي بيْهَسَ وقَدْ أمِرَ بقَطْع يديه ورجليه فقال: ألا أعْطيكَ خاتماً تتختُم بِهِ؟ فقالَ لَهُ أبو بيْهسُ: أشْهَد أنَّكَ إنْ كُنت مِنَ العَرب فأنت مِن هذيل، وإن كنت مِن العجَم فأنت بَرْبَري. فسُئِل عَنه فإذا هو منْ هذيل وأمهُ بَربْرِيَّةٌ.
أتى رجُلٌ من الخَوارج الحسنَ البصري، فقالَ لَهُ: ما تَقولُ في الخَوارج قالَ: هُمْ أصْحَابُ دُنيا، وقَالَ: ومن أينَ قُلتَ وأحدهُمْ يمْشي في الرُّمح حتى ينكَسرَ فيه، ويخرج من أهله ووَلَده؟ فَقَالَ الحسنُ: حدثني عن السلطان أيَمْنعُكَ من إقَامَة الصلاة، وإيتَاءٍ الزَّكَاة، والحجِّ والعُمْرة؟ " قَالَ لاَ. قَالَ: فأرَاهُ إنما مَنَعَكَ الدنُّيا فقاتلتَ.
نَزَلَ رجُلٌ من الخَوارج عَلى أخ لهُ منهُمْ في اسْتتارة منَ الحجَّاج، وأرادَ صاحبُ المنزل شُخُوصاً إلى بلد آخَرَ لحَاجة لهُ، فقَالَ لامرأته: يا زرقَاءُ أوصيك بضَيْفي هَذا خيراً وبَعُدَ لِوجهتهِ. فلما عَادَ بَعْدَ شهر قال لَهَا: يا زرقاءُ. كيف رأيْتِ ضيفنا؟ قالت ما أشغلهُ بالعمى عن كلِّ شيء وكان الضيفُ أطبقَ عينهُ فلم ينظُرْ إلى المرأة والمنزل إلى أنْ عَادَ زَوْجُهَا.
اجتمعَ ثلاثةٌ من الخوارج فعقد اثْنَان لِواحِد، وخَرجُوا يمْشُونَ خلْفَهَ يَلْتمِسونَ شيْئاً يركَبُهُ، فجعَلَ الأثْنان يِتَلاحيان، فالتَفتَ إليهمَا وقال: ما هذهِ الضَّوضاءُ التي أسمَعُهَا في عَسْكِري؟؟ كبرَ رجُلَ منهمْ وهَرمَ حتى لم يكُنْ بهِ نهوضٌ، فأخَذّ منزلاً على ظهر الطريق، فكلما جاءَ مطرٌ وابتلتْ الأرضُ أخذَ زجاجاً، وكَسَرهَ، ورماهُ في الطريق، فإذا مر إنسانٌ وعَقَرَ رجلَهُ الزُّجاجُ قَالَ الخارجي من وَرَاءِ البَاب: لأحُكْمَ إلا لِلَّهِ ثُم يقولُ: اللهُمَّ إنَّ هَذا مجْهُودي.
لِقي رجلٌ بعضَ الخوارج بالموْقِفِ عشيةَ عرفةَ، فَقال لهُ: مَنْ حج في هَذِه السنةِ منْ أصْحابكم؟ فَقالَ: ما حَجَّ غيري. فقالَ لَه: إنِّما بَاهي اللهُ عزَّ وجَلَ ملائِكتَهُ في هّذِهِ السنةِ بشقِّ محُملِهِ.
وأحْضَرا الحجَّاج رجُلاً من الخوارج، فمنَّ عليهِ، وأطْلَقُه، فلما عَادَ إلى أصْحابِه، قالُوا لَهُ: إنَّ اللهَ مخَلِّصُك مِنْ يدِهِ ليزيدَك بصيرةً في مذهبكِ، فلا تُقصِّرْ في الخُروج عليْهِ. فقالَ. هيْهاتَ. غل يداً مطلقُها، استرقَّ رقَبَةً معْتِقُهَا.
نَظرَ رَجلٌ مِنَ الخوارج إلى رَجل مِنْ أصُحاب السُّلطان يتصدَّقُ على مِسْكين فقَالَ: انظْرْ إليهم: حَسناتُهم مِنْ سيِّآتِهم.
قال المنْصُورُ لبعَض الخوارج - وقد ظَفِرَ بهِ: عرفني مَنْ أشدُّ أصحابي إقْداماً كَان في مبارزتِك. فقالَ: ما أعَرِفهُمْ بوجُوهِهم، ولكني أعْرفُ أقْفَاءَهُمْ. فقُلْ لَهُمْ يُدْبروا حتى أصِفَهم، فاغتَاظَ وأمَر بقتْلِهِ.
قال الحجاجُ لرجل منهمْ: والله إني لأبْغِضُكُم. فقالَ الخارجيُّ: أدْخَل اللهُ أشدنا بُغْضاً لصاحِبهِ الجنةَ.
وقيلَ إنَّ أوَّلَ مَنْ حكَّم عُروةُ بن أدَيَّة وهو عروة بنُ حُدير أحد بني ربيعةَ ابن حنظلةَ. وأديَّة جَدَّةٌ له وهو ممَّن نجا مِن حرْب النَهْرَوان، وبَقِي إلى أن أتى به زياد فقتَلًهُ ثم دَعَا مؤْلاهُ، فقالَ: صِفْ لي أمورَهْ. فقالَ: أأُطِنبُ أمْ أخْتصِر؟ فقَالَ: بلْ اختَصِرْ فَقالَ: ما أتيتُهُ بطَعام بنهار قطُّ، ولا فَرَشْتُ له فِراشاً بلّيْل قطُّ.
وكان زيادٌ سألهُ عن مُعاوية فَسَبَّهُ، وسألهُ عن نفْسهِ، فقالَ: أولكَ لزينْةَ، وآخركَ لدعْوة وأنتَ بعد عاص لربِّك.

قالَ المبِّردُ: قد اسْتَهْوى رأيُ الخوارج جماعةً من الأشرَاف، يُروْى إنَّ المُنْذِرَ بنَ الجارودِ كان يرى رأيهُمْ، وكانَ يزيدُ بن أبي مسلم صاحبُ الحجَّاج يراهُ ونُسِبَ إليه عِكْرَمةُ مَولى ابْن عبَّاسِ ومالكُ بنُ أنس.
وروى أنَّه كان يذكُرَ عثمانَ، وعلياً، وطلحَةَ، والزُّبيرَ فيقولُ: واللهِ ما اقْتَتَلوا إلا على الثريدِ الأعْفَر.
وأما أبُو سَعيد الحسنُ البصريُّ فإنه كان يُنْكرُ الحكُومةَ ولا يرى رأيَهُمْ.
ذكَرُوا أنَّ عبدَ الملك أتوهُ برجل من الخَوارج، فأرادَ قتله، فأدخل على عَبد الملك ابن لهُ صغيرٌ - وهو يْبكي - فقال الخارجيُّ: دَعْهُ بيكِ فإنَّهُ أرْحبُ لِشدتُهِ، وأصَح لدِمَاغِه، وأذْهُبُ لصَوتِهِ، وأحُرى ألا تأْبى عليهِ عينُه إذا حَفزَته طاعَةُ الله فاستدْعى عَبْرَتَها. فأُعجبَ عبدُ الملكِ بقولهِ. وقالَ لهُ مُتعجِّباً: أمَا يشغَلُكُ ما أنْتَ فيه عَن هَذَا؟ فقالَ: ما يَنْبغي أنْ يَشْغَلَ المؤمِنَ عَنْ قول الحقِّ شيءٌ. فأمَرَ عبْدُ المَلكِ بحَبْسِه، وصَفَحَ عَنْ قَتْلِهِ.
كانَ جماعةٌ من الخَوارج تجمعَتْ بعْد حرب النَّهروان فَتأسفُوا علي خِذْلانِهم أصْحابَهُمْ، فقَامَ مِنْهُم قائمٌ يقالُ لهُ المُسْتَوردُ مِن بني سَعْدِ ابن زيدِ مناة، فحمدَ الله، وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى اللهُ عليهِ، ثُمَّ قالَ: إن رسُول اللهِ - صلى الله عليهِ - أتانا بالعَدْل تخْفقُ راياتُه، وتَلْمع مَعَالُمه ويبلِّغُنَا عَنْ رَبِّهِ وينصَحُ لأمتِه حتى قبضَهُ اللهُ مخيراً مختاراً، ثُم قَامَ الصدِّيقُ فَصدّقَ عن نبيهِ، وقاتَل مَنْ ارْتدَّ عَن دِين ربِّهِ، وذكَرَ أن الله عز وجَلَ قَرَنَ الصلاةَ بالزَّكاةِ، فرأى تْعطيلَ إحداهُما طعْناً على الأخرى، لا بل عَلَى جميع منازِلِ الدينِ، ثم قبَضَهُ اللهُ إليه مَوفُوراً. ثم قَامَ الفارُوقُ، ففرق بين الحق والباطل مسوياً بين الناس، ولا مؤثراً لأقاربه، ولا مُحَكماً في دين ربه، وها أنتُم تَعلَمُون ما حَدَثَ: واللهُ يقولُ: " وفضَّل اللهُ المُجاهدين على القاعدين أجرأ عظيماً " وكان المستوردُ كثيرَ الصلاة شديدَ الاجتهاد، وله آدابٌ محفوظةٌ عنْه.
كان يقول: إذا أفُضيت بسرى إلى صديقي فأفشاه لم ألمه لأني كنْت أولى بحفظه.
وكان يقول: لا تفْش إلى أحد سراً. وإنْ كانَ لك مخْلصاً إلا على جهة المشاورة.
وكان يقول: كن أحْرصَ على حفْظ سر صَاحبك منكَ على حَقْن دَمك وكانَ يقول: أقَلُّ ما يدلُّ عَلَيْه عائب النِّاس معْرفته بالعيوب ولا يعيب إلا معيبٌ.
وكان يقول: المال غير باقٍ فآشْتَر به منَ الحمْد ما يبْقى عليكَ.
وكان يقول: بذل المال في حقه استدعاءٌ للمزيد من الجواد.
وكانَ يُكثِرُ أنْ يَقولَ: لو ملكت الدُّنْيا بحَذافيرها. ثم دُعيت إلى أنْ أسْتقيلَ بها خطيئةً علي لفعَلْت.
ولما أتى عبيدُ الله بن زياد بعروةَ بن أدية - وكانَ قد أصيبَ في سَريَّة للعلاء بن سُويْد في استتاره - قال له عبيدُ الله: جهزْتَ أخاكَ علي: فقال: والله لقد كنت به ضَنيناً وكانَ لي عزاً. ولقد أردت له ما أريده لنفسي، فعزَم عزماً فمضَى عليه، وما أحبُّ لنفسي إلا المقامَ وتَرْكَ الخروج. قال له: أفأنتَ على رأيه؟ قال: كنَّا نعبد رباً واحداً. قال أما لأمثلنَّ بكَ. قال فاخترْ لنفسك من القصَاص ما شئْتَ. فأمرَ به فَقطعوا يَديْه ورجْلَيه. ثم قال: كيفَ تَرى؟ قال أفسدتَ علي دنْياي وأفسدتُ عليك آخرتَك.
وفي كتاب لنافع بن الأزرق كتبه إلى قعدَة الخوارج: ولا تطْمَئنُّوا إلى الدنيا فإنها غّرارةٌ، مكَّارة، لذتها نافذةٌ، ونعيمها بائد. حُفت بالشهوات اغترارا، وأظهرتْ حَبْرةً، وأضمرتْ عَبرة، فليس لآكلٍ منها أكلةٌ تسرُّه، ولا شربة تونقه إلا دنا بها درجةً إلى أجله، وتباعدَ بها مسافةً منْ أمله. وإنما جعلها الله دار لمنْ تزوَّد منها إلى النَّعيم المقيم، والعيش السليم، فلَنْ يرضى بها حازمٌ داراً، ولا حكيم بها قراراً، فاتقوا الله، " وتزودوا فإنَّ خَيْرَ الزادِ التَّقْوى " والسلام على من اتبع الهدى.

ولما حاربهم المهلّب يسلى، وسليري فُقتِل رئيسهم: ابن الماخور اجتمعوا على الزبير بن علي من بني سليط، وبايعوه، فرأى فيهم انكسار شديداً، فقال لهم: اجتمعوا. فحمد الله وأنثى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه - ثم أقبل عليهم فقال: إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجرٌ، وهو على الكافرين عقوبةٌ وخزي. وإن يُصبْ منكم أميرُ المؤمنين فما صار إليه خيرً مما خلف. وقد أصبتم فيهم مسلمَ بن عُبيْس، وربيعاً لأجْذم، والحجاجَ بن بَاب، وحارثه بن بدر، وأشجيتم بالمهلب، وقتلتم أخاه المعارك. والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: " إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القومَ قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصاً، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالاً. فلا تُغلبُنَ عن الشكر في حينه، والصبْر في وقته. وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض والعاقبة للمتقين.
ولما استرد مصْعبٌ المهلبَ من وَجْه الأزارقة، وولاه الموصلَ شاور الناسَ فيمن يستكفيه أمْرَ الخوارج، فقال قومٌ: وَلِّ عبيدَ الله بنَ أبي بكرة. وقال قوم: ولِّ عمر بن عبيد الله بن معمر. وقال قوم: ليس لهم إلا المهلبُ فارْدده إليهم.
وبلغتْ المشورة الخوارجَ، فأداروا الأمَر بينهم. فقال قطريُّ بن الفجاءة المازني: إنْ جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة أتاكْم سيدٌ، سمح، كريم، جواد، مُضيعٌ لعسكره، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم شجاعٌ بَطلٌ، فارسٌ، يقاتل لدينه، ولملكه، وبطبيعة لم أرَ مثلها لأحد، فقد شهدتُه في وقائع فما نودي فِي القوم لحرب إلا كان أولَ فارس يطلع حتى يشدِّ على قِرنْه فيضربه.
وإنْ ردّ المهلب فهو مَنْ قد عرفتموه، إن أخذْتم بطرَف ثوب أخَذَ بطرفه الآخر، ويمدُّه إذا أرسلْتموه، ويرسله إذا أمْددتموه. لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه، وإلا أن يرى فرصةً فينتهزَها، فهو الليث المبرُّ، والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم.
ولما قُتل مُصعب أتى الخبر الخوارجَ ولمْ يأْت المهلَّبَ وأصُحابه، فتواقفوا يوماً على الخندق، فناداهم الخوارج: ما تقولون في المُصعب؟ فقالوا: إمام هدي: قَالوا: فما تقولون في عبْد الملك ؟ قالوا: ضَالُّ مُضل. فلما كان بعدَ يومين أتى المهلب قتلُ المصعَب، وأنَّ النَاسَ قدْ اجتمعوا على عبد الملك ووردَ عليه كتاب عبد الملك بولايته. فلما تواقفوا نَاداهمُ الخوارج ما تقولونَ في مصْعب؟ قالوا: لا نخبركمْ. قالوا: فما تقولونَ في عبد الملك قالوا: إمام هُدى. قالوا: يا أعْداءَ الله، بالأمْس ضالٌّ مُضل، واليومَ إمام هدي. يا عَبيدَ الدُّنْيا عليْكمْ لعنة الله.
أتى الحجاج بأمْرأة منَ الخوارج فجَعلَ يكلِّمها، وهي مُعْرضةٌ عنْه فقالَ لها بعْض الشُّرط: يكلمكِ الأمير وأنْت معُرضةٌ عنْه؟ قالت إني لأستحي من الله أن أنظر إِلَى من لا ينظر إليه أتى زياد بامرأة منهم فقال: أما والله لأحصدنكم حصداً ولأخفينكم عداً قالت: كلا إِن القتل ليزرعنا قَال: فلما هَمَّ بقَتْلها تسترَتْ بثوبْهَا فقالَ: اتَتسْترينَ - وقد هَتَكَ الله ستْرَك؟ قالَتْ: أي والله أَتَستر ولكن الله أبدى عورةَ أمكَ على لسانك، إذْ أقرَرْتَ أنَّ أبَا سفْيَانَ زَنَى بها، فأمَرَ بقَتْلهَا.
وقال الحجَّاج لرَجل منْهمِ: أجَمعْتَ القرآنَ؟ فقال: أمَتفرِّقاً كان فأجمَعه قالَ: أتقرؤه ظاهراً قالَ: بَلْ أقرؤه وأنا أبْصره. قَالَ أفتحفظه؟ قالَ: أخَشيت فراره فأحْفَظه. قال: ما تَقول في أمير المؤمنين عَبدْ الملك؟ قال: لعَنه الله، ولَعَنكَ مَعَه. قالَ،: إنكَ مقْتولٌ. وكيْفَ تلْقَى الله؟ قالَ: ألقاه بعَملي وتلْقَاه بدمي.
كَانَ عمْران بن حطان منْ أقُبح النَّاس وجْهاً، وأسْمَجهم منظراً، وكانتْ له امرأةٌ كأنَّها القمَرُ أديبةٌ، فَصيحةٌ. فقالَتْ له يوْماً: أنَا وأنْتَ في الجنَّة جميعاً. قَالَ: وكيْفَ عَلمت؟ قالَتْ: لأني ابتليت بكَ فصَبْرت، وأعْطيتَ مثلىَ فشكرت، والصابرون والشاكرون في الجنة.
قَتَل زياد رجلاً منْ الخوارج بعْد أنْ سأله عَنْ عثمانَ فتبرأ منه، وعن معاويةَ فسبه، وعَنْ نفْسه فقَالَ: إنكَ أولكَ لزينة، وآخركَ لدعوة وأنتَ بعْد - عاص لربكَ. فأمَرَ به فضربتْ عنه. ثم قال لمؤمن له: صفُ لي أمورَه قالَ: أأطنبُ أم أختصرُ؟ قال: بل اختصر. فقالَ مَا أتيْه بطعام بنهار قطُّ، ولا فرشت لَهُ فراشاً بليل قط.

كان بالمدينة رجلٌ من الخَوارج قالَ بعْضهم: فرأيته يَحْذف قنَاديل المسْجدِ بالحصى، فيكْسرها. فقلْت لَهُ: مَا تصْنَع؟ قَالَ: أنَا - كما ترى - شيخٌ كبيرٌ، لا أقْدر لهُمْ عَلَى أكْر من هَذَا، أغرمُهُمْ قنْديلاً، قنْديلَيْنِ فِي كلِّ يوم. وصلى الله عَلَى محمد وآله.
وهذا مختصر عمله الصاحب رحمهُ الله وسماه

الكشف عن مناهج أصناف الخوارج
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله عَلَى النبي محمد، وآله أجمعين. سألتَ أن أذكرَ لَكَ ألقابَ طوائف الخوارجِ، وذَرْواً من اختلافها. وأنا أثبتُ مَا يحضر حفْظي. عَلَى أنَّ هَذِهِ الألقابَ تجمع أصولاً، وفروعاً، فربَّ طائفة لحقها لقبٌ ثُمَّ تفرّد من جملتها فريق فلحقهم لقبٌ آخر.
والذي يجمعهم من القول تكفير أمير المؤمنين - صلوات الله عَلَيْهِ وتكفيرُ عثمان، وإنكارُ الحكمين، والبراءةُ منهما، وممَّن حكَّمهما أو تولى أحداً ممن صوَّبهما. وأول من حكم بصفيِّن عُروة بن حُدَير: أخو أبي بلال مرْداس، وقيل عاصم للمحاربي، وأول من تشرى رجلٌ من يشكُرَ، وَكَانَ أميرهم - أولَ مَا اعتزلوا - عبد الله بن الكَوَّاء، وأمير قتالهم شبت بن ربعي، ثُمَّ بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبي.
ذكر ألقاب فرَقهم مع جمل منْ مذاهبِهم
الأزارقة: أصحاب نافع بن الأزرق، يبرءُون من القعَدة.
النجدية: أصحابُ نَجْدةَ بنِ عامر الأسدي. تتولى أصحاب الكَبائر من الخوارجِ إذ لمْ يُصِروا. ومَن أصر منهُم فهو مُشرِكٌ عندَهُمْ.
الإباضية: أصحابُ عبد الله بن إباضِ التميمي. فأما عبد الله بنُ يحيى الأباضي الملقَّب بطالب الحق فهُواَ منْسُوبٌ إليهمْ ومعهُ خَرجَ أبُو حمزَةَ الخارجي الصفرية: أصحابُ زياد بنِ الأصفرِ وقيلَ أصحابُ عبدْ الله الصفار العطرية: أصْحابُ عطيةَ بنِ الأسْود الحنفي منْ المنكرينَ عَلَى نَافع.
العَجَاردة: أصحابُ عبد الكريم بن عجرد، وهم عَطوية، إلا أنهم يوجِبُونَ دُعاءَ الأطفال عند بُلُوغهم والبراءةَ منهُمْ قبْلَ ذَلِكَ.
الميمْونيةُ: ميْمون هَذَا عبدُ لعبد الكريم بنِ عجرَد ويقولُ بالعَدْلِ، ويَرَى قتْلَ السُّلطانِ خاصَّة، ومَنْ رضى ظُلْمةَ، وأعَانَهُ دُونَ سائر الناس ويحكى عنهم أن التزوجَ ببنات الأبنِ وبنات البنَات، وبنات بنَات الأخَوات وبنات بني الإخوة جائزٌ، وأن سُورة يوسُفَ ليستْ من القرآنِ. وأكَثرُ من بسجِسْتان ميْمونيةٌ، وعجاردةُ. وقيلَ ميمون رجلٌ من أهلِ بلْخ.
الخلفية: يقولُون بالجَبْرِ، ويخالفُون الميْمونيَّةَ فِي العَدْلِ.
الحمزْيَّة: أصحابُ حَمزة بن أدْرك. يقولُون. بالعَدْل. وَلَهُ فارَقُوا الخَليفيةَ.
الخازمية: وهم الشعيبية أصلُهم عجاردة، وهمْ أصحابُ شُعيب يقولُون: إنَّ الولاية والعَداوَة صفتَان فِي ذات القديم. وهُم مجْبِرة.
المعْلومية: مِنَ الخَازميَّة يقولون: مَنْ لَمْ يَعْلمِ الله بجميع أسْمائه، وعرَفَه ببعضها فَهُو عارفٌ بِهِ.
المجْهولية يقولون: مَنْ لَمْ يعلم الله عَز وجل بجميع أسمائه فهو جاهلٌ بِهِ.
الصلتية: عَجَاردةٌ أصحابُ عثمان بن أبي الصلْت. يقولُون: إذا استجاب الرجلُ للإسلام برِئْنا من أطْفالهم حَتَّى يُدْركوا.
الثعالبة: عجاردةٌ، وصاحبهُم ثعلبةُ، خالفَ عبْد الكريم بن عجرد فيما قاله فِي الطفل.
الأخْنَسيَّة: أصحابُ، الأخْنَس يحرِّمون البنات، والغيلة ويقفون عَمَّن فِي دار التَّقية حَتَّى يعُرفوه.
العبْدية: رأوا أخْذَ زكاةِ أمْوالِ عبيدهم إذا استَغَنَوا، وإعْطاءهُم إذا افتقروا.
الشَّيبانيةُ أصحابُ شَيبان بن سَلَمة.
الزيادية: أصحابُ زياد بن عبد الرحمن.
العُشريَّة: وهم الرشيدية، كانوا يرون فيما سُقي بالأنهار الجارية نصف العْشر، وخالفت الزياديةَ فِي إيجابها العُشرَ.
المكرمية: أصحاب أبي مكرم. قالت: تارك الصلاة كافرٌ. ومن أتى كبيرةً فهو جاهلٌ بالله. وقالت بالموافاة.
الفُدَيكية: أصحاب أبي فُديك الَّذِي غلب عَلَى عسكره نجدةُ، وأنكر عَلَيْهِ.
الحَفْصيَّة وصاحبهم حَفْصُ بن أبي المقدام وهم إباضيّة: زَعم أنَّ مَنْ عَرف الله ثُم أنكر الأنْبياء أو غير ذَلك فهو كافر. وَلَيْسَ بمشْرك.

اليزيدية: رئيسهم يزيد بنُ أنيسة يتولى الإبَاضيَّة كلَّها. والمحكِّمة الأُولى. ويزعم أن الله يبعثُ رسولاً من العجم ويُنْزل عَلَيْهِ كتاباً بغيْر شريعتنا ويكونون صابئبين.
الحارِثية: أصحابُ الحارث الإباضي. يقولُون بالعدلِ وأنَّ مخالفيهم كفارٌ غيْر مشْرِكين تحلُّ مناكحتُهم، ويحرم سبيهم. ودارُ مخالفيهم دارُ توحيد إلا عسكرَ السُّلطان فإنه دارُ بغي. وأنِّ مُرْتكبي الكبائر موحَّدون غير مؤمنينْ.
الواقفية: وقفتْ فِي جَوازِ بيع الأمَةِ مِنْ مُخالفيهم، ويُسمونَ: صاحب المرأةِ.
الضحاكية: يقالُ لهم: أصحابُ النِّساء. وجوزوا تزويج المرأةِ المسلمة مِنْ كُفّارِ قومِهِم فِي دار التَّقية.
البَيْهسيَّة: أصحابُ أبي بَيْهَس هَيْصم بن جابر. كفَّر مَنْ حرَّم بيعَ الأمَة من المخَالفين. وكلُّ ذنْب لَمْ يحكُمْ اللهُ تعالى فِيهِ حُكْماً مُغلظاً فهو مغْفُورٌ عنده.
الْعَونْيَّةُ: تقولُ: إذا كفَرَ الإمامُ كفرتِ الرعيةُ: الغائبُ، والشاهد.
السؤالية: تقُولُ: مَنْ أقام الشَّهادتين، وواليَ أولياء الله، وعادي أعداءهُ فهو مُسْلِمٌ إلى أن يُبْتَلى فِي غير ذَلِكَ.
التَّفْسيريةُ: رئيسُهم الحكم بن يحيى الكوفي. ومِنْ قَوْلهم: إنِّ مَنْ شَهد شَهادة أخِذَ بتْفسيرها وكَيْفيَّتها.
الصالحية: أصْحابُ صالح بن مسَرح.
الشَّمراخية: مِنْ قولهم: إنَّ قتْلَ الأبوين المخَالِفّيْن حرامٌ فِي دار التقيَّة، ودار الهجرة.
البدعية: يقْطعونَ عَلَى أنفسِهم وموافِقيهم أنَّهم فِي الجنَّةِ.
الخشَبيَّة: رئيسُهم أبُو الخَشب.
المغْروريًّة: صُفريةٌ وموضِعُهم البيضاءُ من المغرب، وصاحِبُهم المغْرورُ بنُ طالُون.
والبلاد الَّتِي يغْلِبُ عَلَيْهَا الخارجيةُ الجزيرةُ وأطرافُ الموْصلِ.
وشهرزور، والبحرين وسِجِسْتانَ، وتَاهرت.
وكثير مِن أذْرَبيجانَ. وهم يُلقَّبون بالخوارج لخروجِهم عَلَى الإمام العادل عَلَيْهِ السلام، والمَارقةِ لإخبار النبي صلى الله عَلَيْهِ وسلم وَعَلَى آله لأنهم. يَمْرقُون من الدِّين، والحَرُورية لنزولهم حَروراءَ. والمُحكمة لقولها كثيراً: لا حُكْمَ إلا لله. ولقَّبتْ أنفسَها: الشُّراة، أي أنا شريْنا أنفسَنا فِي طاعة الله. ومضَغوا كتبهم عبد الله بن يزيد، ومحمد بن حرب، ويحيى بن كامل، واليمانُ بن دياب. وأصولُ الخوارج الإباضيَّةُ، والأزارقةُ والصُّفرية، والنجدِية. فإذا ذكِرتْ فِرقةٌ مِن هَذِهِ الفرق عُلِم أنها مُباينةٌ للفِرَق الثَّلاثِ.
ثم سائرِ الألقاب تتبيَّن بتفْصيلِ مقالاتِهم، وإلى الله نبْرأ من جماعتهم، ونسأله أن يصلي عَلَى النبي. وابنِ عمه الرضى، وأهلِ بيته الذين أذهبَ الله عنهم الرِّجسَ وطهرَّهم تطهيرا.
أدْخِلَ رجلٌ من الشُّراة إلى الحجاج فاسْتحقرهُ، ثُمَّ قال لَهُ: ويْحكَ!! مَا أخرجَك؟؟ فواللهِ مَا أظنُّك تعْرِفَ مواقِيتَ الصَّلاة. فقال: ذاكَ لو اتكلتُ عَلَى تعْليمك يَا حجّاجُ، كنتُ بالحري أن أنزلَ بهذهِ المنزلةِ. قال: مَا أخْرجَكَ؟ قال: مَخافَةُ يوم أنا وأنتَ إلى نصير. قال: وَمَا ذَالك اليوم؟ قال: أول آخِرٌ، وأخِرٌ أولٌ. مستقبلٌ أول، مستدْبِرٌ آخِر. لا بعدَهُ أجَلٌ ولا فِيهِ عمَل، ولا فِيهِ مسْتغِيثٌ، ولا إلى غيره مَذْهب، يأْمَنُ فِيهِ الخائفُ، ويخف فِيهِ الأمِنُ، ويعزُّ الذليلُ ويذلُّ فِيهِ العزيزُ وَفِي مِثْل هذا مَا أقْلقَ مِثلي عن الفِراش، والأئمةُ تعْدِلُ، فكيْفَ إذا كانتْ تَضِلُّ وتُضلِّلُ؟ فاقضِ مَا أنتَ قاضٍ. قال: أجزِعتَ من الموتِ؟ قال: واللهِ مَا جزعتُ مِن قضاءِ، ولا أسفتُ من بلاءٍ، ولا كرهت لربي لقاءً، وللموت مَا خلقتُ، ومالي حاجةٌ إلا فِيهِ. فهل يجزعُ الرجلُ من قَضاء حاجتِهِ؟ قال: أمَا والله لأعجِّلنَّ لَكَ من العذابِ الأدْنَى دُونَ العذابِ الأكبر.
قال: أمَا واللهِ لو علمتُ أنَّ بيدك تعْجيلَه لعلمْتُ أنَّ بيدك تأْخيرَه.
قال: والله لأقتُلنَّك. قال: لا يعزُّ اللهُ بقتلي باطِلاً ولا يُبطِلُ بِهِ حقاً. ولئن قتلْتَني لأُخاصمنَّكَ بحيث يزولُ عنْكَ وعن أبي الزَّرقاء عزُّكُما ولا يدْفعُ عنكُما سلطانُكُما، وحيثُ لا يُقْبل لكما عذْرٌ ولا تنفعكُما حجُةٌ. أمر بقَتْله.

الباب الثاني عشر
الغلط والتصِحيف

قال بعضهم: خَالِفْ تَذْكُرْ. فقيل لَهُ: إنَّما هو تْذْكَر فقال،: هَذَا أول الخِلاف.
وقرأ بعضهم فِي كتاب: أنَّ النبي عَلَيْهِ السلام بَلعَ قَدِيداً، وإنَّما بلَغ قُدَيداً.
وقرأ آخَر: أنَّه كَانَ يُحِبُّ العسل يومَ الجمعة، وإنمَّا هو الغُسْلَ وقرأ آخر: أنه كَانَ يكره النَّوم فِي القِدْر، وإنَّما هو الثَّوم.
وقرأ آخر: ولا يرِث جميلٌ إلا بُثينةَ، وإنما هو لا يُورَّثُ حميلٌ إلا ببيِّنة وقال آخر: إذا أردْتَ أن ننعظ فادخل المقابرَ، وإنما هو تتَّعِظُ وقرأ رجل عَلَى ابن مجاهد: بل عَجَنْتَ، ويَسْجرون. فقال: أحْسَنْتَ، مع العَجْن يُسْجَرُ التَّنُّور.
كتب صاحبُ الخبر بأصْبهانَ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر: إنَّ فلاناً القائدَ يلبس خُرلخيةً، ويقعد مع النساء: فكتب إلى العامِل: ابعث إلى بفُلان وخرلخيته. فَصّحفَ القارئُ. وقرأ: وجزَّ لِحْيَتهُ، ففعل ذَلِكَ بِهِ، وأشْخصَهُ.
علِّق سترٌ عَلَى بعض أبواب أمِّ جعفر، وَكَانَ أمر أنْ يُكَتب عَلَيْهِ المسيدة الميمونة المباركةِ فأغفلَ الناسخُ الراءَ. ودخل الرشيد فقرأهُ الميمونةِ المناكة فأمَرَ بتمْزيقه.
وكان كافي الكُفاة يكرهُ أن يكونَ فِي مخاطباتِ النِّساء حراستُها ونظرها وعقلها، ويقول: لا يُؤمَنُ أنْ يُصَحَّفَ فيقرأ: حِراسْتُها، وعَقْلُها، ويظْرها.
وكان حمَّادٌ الراويةُ لا يقرأُ القرآنَ فاستقرى فقرأ، ولمَ يَزِلَّ إلا فِي أربعة مَواَضِعَ: عذابي أصيبُ بِهِ منْ أسَاءَ. وَمَا كَانَ اسِتغفارُ إبراهيم لأبيه إلا عن مَوْعدة وعدها أباه. ومِن الشَّجر ومما يغْرسون. بل الذين كفَروا فِي غِرَّةٍ وشِقاق.
وقد رُوي أنه صحَّفَ فِي نيِّف وعشرين موْضعاً كلها متشابهة وأنا أذكُرها جميعاً مِنْ بعدُ بإذن الله.
غضب كاتِبُ المأْمون عَلَى غُلامه فرماه بالدَّواة، وشجَّه، فلما رأى الدَّمَ يسيل قال: صدق الله تعالى: والذين " إِذَا مَا غَضِبوا هم يَغْفِرون " فبلغ ذَلِكَ المأمونَ. فأنَّبه.
وقال: ويلَكَ! أما تُحسنُ أن تقْرأ آيةً من القُرآنِ؟ فقال بلى والله إني لأقرأُ من سُورة واحدة ألفَ آية.
قال بعضُهُم: قرأ عبدُ الله بنُ أحمدَ بن حَنبل فِي الصَّلاة: اقرأ باسم ربِّك الَّذِي خُلِق.
فقيل لَهُ: أنت وأبوك فِي طرفي نقيض. زعَم أبُوك أن القرآنَ لَيْسَ بمخْلوق، وأنت قَدْ جعلْت ربَّ القرآنِ مخلوقاً.
وحكى أنَّ المحامِلي المحدِّث قرأ: وفاكهةً وإبا. فقيل لَهُ: الألفُ مفتوحةٌ. فقال: هو فِي كتابي محفوظٌ مضْبوطٌ.
وحكِي أنَّ ابنَ أبي حاتم قرأ: فصيامُ ثلاثة أيام فِي الحج وتِسْعة إذا رجعتم، تلك عشرةٌ كاملةٌ.
كان اسمَ أبي العتاهية: زيدٌ فنقش عَلَى خَاتِمه أيا زيد ثق فكَانَ الناس يتنادَلُوَنَه: أنَا زِنْدِيق.
قال بعضُهم: سمعتُ ابْنَ شاهين المحدِّثَ فِي جامع المنْصور يقول فِي الحديث: نهى النبيُّ عَلَيْهِ السلام عن شقيق الحطب. فقال بعض الملاحين: يَا قومُ، فكيف نعملُ والحاجةَ ماسةٌ، وهو شقيق الخطب.
قال: وسمعتُه مرة أخرى وهو يفسِّر قولَه تعالى: " وثيابَك فَطَهِّر " فقال: قيل لا تَلْبسها عَلَى غدرة. وهو لا تلبسها عَلَى عَذِرة.
وكان كيسانُ مستمِلي ابن الأنباري، وكانَ أعْمى القلبِ فَسُمع ابنُ الأنباري وهو يقول: كيسانُ يسمعُ غيرَ مَا أقولُ، ويكتبُ غير ما يسمعُ ويقرأ غيرَ مَا يكتُبُ، ويحفظُ غيرَ مَا يقرؤه.
وحكى عنه أنه كَانَ يكتبُ مَا يسمعُ فِي الخزف، ويجمعهُ فِي حُبِّ، فاشترى راويةَ ماءٍ فغلطَ السَّقَّاءُ بيْنَ حُبِّ الماء وحُبِّ الخَزف، فصبَّ الماءَ فِي حبِّ العِلْم فرأيْنا كيسانَ وَقَدْ وضع يدَه على رأسه، وذهب علمه كلُّه.
وقالوا تقدَّمتِ امرأةٌ إلى عمرَ فقالت: أبا غَفَر حَفْصٍ اللهُ لكَ. فقال: مالك: أغْفَرتِ؟ قالت: صلَعَتْ فرقتُك.
قرأ الباغنْدي: وكلُّ شيءٍ فَعلُوه فِي الدُّبُر فصِيح بِهِ مِنْ جَوانِب المجِلس. فقال: يَا قومُ لا تضجُّوا فالباءُ منْقوط.
وروى أبُو ربيعة المحدِّثُ أن النبي عَلَيْهِ السلامُ كَانَ يغْسِلُ خُصى الحمار. قيل: وَلَمَ ذاكَ يَا أبا ربيعةَ؟ قال كَانَ يُظْهر تواضُه بذلك. والخبر أنه كانَ يغْسِلُ حَصَى الجمار.
قال بعضُ المحدِّثين: حدثني فُلانٌ عن فُلان عن سَبْعةَ وسبعينَ، يريد عن شُعبَة وسفيان.

كَانَ يزْدَانفَ ذار فِيهِ لُكْنةٌ، وَكَانَ يجْعلُ الحاءَ هاءً، أمْلى عَلَى كاتبٍ لَهُ: والهَاصلُ ألفُ كُرٍّ. فكتبها الكاتِب بالهاء. كما لفَظَها، فأعادَ عَلَيْهِ الكلام، فأعاد عَلَيْهِ الكاتب الكتاب، فلما فطن لاجتماعهما عَلَى الجهل، قال: أنتَ لا تُهْسِن تكتبُ، وأنا لا أهسِنُ أمْلي. فكتُبْ: الجاصل ألف كُر فكتبها بالجيم معجمةً.
قالتْ أمُّ ولد لجرير لبعَض ولدِها: وقَع الجرْدانُ فِي عجَان أمِّكم. أبْدلتْ الذال دالاً وضمت الجيمَ، وجعلت العجين عِجَاناً. وإنما أرادتْ وقَع الجرذانُ فِي عَجين أمِّكم.
ودخل رجلٌ عَلَى آخَرَ وهو يأْكل أتْرجّاً، وعَسَلاً. فأراد أنْ يقول السَّلامُ عليْكُم. فلفَظ عَسَليكم.
ودخلت جاريةٌ روميةٌ عَلَى بعضهم لتسأَل عن مَولاتها، فبصُرتْ بحمار قَدْ أدْلى، فقالتْ: قالتْ مولاني كيفَ أيْر حِمَاركم؟ قال بعضُ الجَّهال إلى عالِم، وسأله عَنْ قول الشَّاعر.
يوم تُبدي لَنَا قتيلةُ عن جيد فقال: مَا العَنْجيدُ؟ وسأل عن قولهِ تعالى: " والهدْى مَعْكوفاً " فقال: مَنْ كَانَ كُوفاً من أصحاب البني عَلَيْهِ السلام.
وسأل آخرُ عن قولِهمْ: " زاحم بِعَوْد أوْ دَعْ " فقال: مَا الأوْدَع؟.
كان أحْمد بنُ موسى بن إسحاقَ من قُضاة السُّلطان بأصْبهانَ، فأملى يوماً عَلَى أصحاب الحديث: حدثني فلانٌ عَنْ فُلان عن هِند أنَّ المعتُوهَ يُريد عن هنْد أنَّ المغيرةَ.
وكانَ أهل البصرة يرْوون عن علي عَلَيْهِ السلامُ أنه قال: إِلاَّ إنَّ خراب بصْرتِكمُ هَذِهِ يكونُ بالريح، فما أقْلعُوا عن هَذَا التَّصحيفِ إلا بعدْ مائَتي سنة عند خرابها بالزنْج.
وقيل فيما روي عن النبي عَلَيْهِ السلام أنَّهُ قال: تختَّموا بالعقيق. إنما هو " تَخيمَّوا بالعقيق " ، لواد بالمدينةِ.
وروى بعضُ جلَّةِ المحدِّثين: أنَّ مرحباً اليهودي قتلهُ عَلَى يوم حُنَيْن وإنما قتَله يوم خيْبرَ.
وروى آخرُ: الجارُ أحقُّ بصُفَّتِه، يريد بصقَبهِ.
وروى آخر: لا بأْسَ أنْ يصلي الرجلُ وَفِي كُمِّه سِنَّورةٌ، وإنَّما هي سبُّورة وهي الألواحُ من الآبنوسِ يكتبُ فِيهَا التَذكرة.
وروى آخر: عمُّ الرجل ضيقُ أبيه. إنما هو صِنْو.
وروى آخرُ: لُعِن اليهود، حرمتْ عليهم الشحومُ فحملُوها. وإنما هو فجمَّلُوها، أذَابُوها.
وروى بعضُهم: أنَّ الحارثَ بن كَلَدة كَانَ يقولُ الشمسُ تثقل الريح، وإنّما هو تَتْفُلُ الريح.
وقالوا: كَانَ يجْلسُ فِي مًقثاة. وإنما هو فِي مَقْناة.
وروَوْا: أنه نهى عن لُبْس القَسي وإنما هو القُسِي لضَربٍ من الثياب ورووا أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وَعَلَى يده سخلة تبْعَر. وإنَّما هو تَيْعُر من اليَعَار. وهو صوتُها.
قال بعضُهم: قال الرياشي لي يوماً - وَقَدْ جئتُ مِنْ مجلس ابن أبي الشَّوارب: أرني مَا أملي عليكُمْ، فأريْتُه، فمرَّ بِهِ هَذَا الحديثُ: آخِر مَا يجازفُ بِهِ المؤمن عَرقُ جَبينه.
فقال الرياشي: مَا أحوجَ هؤلاء إلى بعض عِلْمنا إنما هو يُحارفُ، والحريفُ الشَّريك، يقالُ: فُلان حَريف فلان، أي شريكُه ومُحاسِبُه.
وقال بعضُهم: حضرتُ رجلاً من الكُبراء - وَقَدْ قرأ فِي المصحفَ: يَا عيسى ابنَ مريم اذكُرْ نِعْمتي عَليك وَعَلَى والديك.
وقرأ بعضهم: والعاديات صُبْحاً.
وقال آخر: فكذَّبُوهما فَغدرْنَا بثالث وقيل: إنّ سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامِله عَلَى المدينةِ: أحْص المخنثين: يريدُ: عُدَّهم.
فقرأ الكاتب: أخْص، فَخَصَاهُمْ.
ومِمَّنْ أخَجلَهُ التصحيفُ فِي مجالس الخُلفاء أحمدُ بنُ أبي خالد وزير المأْمون، فإنَّه حضر مجْلسَه للمظالم يقرأ عليْه القصصَ، وَكَانَ فَهماً، فمرت بِهِ قصةٌ مكتوبٌ عَلَيْهَا: فُلان البَريدي، فقرأها: الثريدي فقال المأمون أبو العباس جائعٌ. هاتُوا لَهُ ثَريدةً. فقُدمتْ إليه، وأكْرهَهُ عَلَى أكلها، وغسَلَ يدَه، وعاد إلى تصَفّح القصَص، فمرتْ بِهِ قصةٌ مكتوبٌ عَلَيْهَا فلان الحمصي فقرأها الخبيصي. فقال المأْمون: كان غداءُ أبي العباس غيرْ كاف، لا بُدَّ للثريدة من أن تُتَبع بخَبيصة. فقُدمت إليه، وأكلها.
ومنهم شجاعُ بنُ القاسم. قرأ عَلَى المتوكّل: حَاضِرُ طيئ0 فقرأه جاء ضريطي.

كان للمتوكل صاحب خَبر يقال لَهُ ابنُ الكلْبي، وَكَانَ يرْفَعُ كلٌ مَا يسمعهُ من غثٍّ وسمين، وجِدٍّ وهَزْل ليَمين كَانَ حلّفَه بِهَا، فرفَع يوماً وعربْدت علَيهْا وجرحَتها فِي صَدْغَها، ولمْ ينقُط. الغيْنَ، فقرأها المتوكِّلُ فِي صَدْعِا. ثُمَّ قال: إنَّا لله تعطل علي ابن الكبي مَناكُه.
وقرأ علىَ عُبيدِ الله بن زياد كاتبُهُ كتابَ عبيدِ الله بن أبي بكرة: أنَّه وجَد ابنَ أديَّةَ مع جماعة من الخارج فِي شُرْب. فقال ابنُ زياد: كيفَ لي بأن يكُون الخوارجُ يرون الشُّرْب. وإنما هو سَرَب.
الحروفُ التي ذكر أن حَمَّادا صحَّفَها من القرآن وأوحى ربُّك إلى النحل أن اتخذي من الجبالِ بيوتاً ومن الشجر ومما يغرسون وَمَا كَانَ استِغفَارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن مَوعدةٍ وعَدَها أبَاه.
ليكون لهم عَدْواً وحَربَا وما يجْحد بآياتنا إلا كلُّ جبَّار كَفُور.
وعزَّزُوه ونصروه وتُعززُوهُ ونُوقّرُوه.
لكل امرىءٍ يومئذ شأنٌ يعْفيه. بالفاء هم أحْسنُ أثاثاً وزشياً عذابي أصيب بِهِ مَن أسَاءَ.
يوم يُحْمى غَليُها فِي نار جهنم.
فبادوا ولاتَ حينَ مناصٍ ونَبْلُو أخياركم صِيغَة الله، ومَن أحسنُ مِنَ الله صيغة فاستعانهُ الَّذِي مِن شِيعتهِ سلامٌ عليكُم لا نتَّبعُ الجاهلين قل إن كَانَ للرحمن وَلدٌ فأنا أول العائذِين.
حكى أبو حاتم أنه كَانَ يقرأ شعرَ المتلمس علي الأصمعي، وأرادَ أن يقولَ: إغنيتُ شأني فأغنُوا اليومَ شأنكُم واستحمقُوا فِي مِرَاس الحربُ أو كِيُسوا.
قال: فَغلطتُ، وقُلْتُ: أغنيتُ شأني. قال: فقالَ الأصمعي بالعجلة: فأغنوا اليومَ تَيْسكُم، وأشارَ إلي، فَضحِكَ جَميعُ الحاضرين.
وقَدِم محمدُ بنُ الحسن الفقيهُ العِرَاقَ، واجتمع الناسُ عَلَيْهِ يسألونَهُ، ويَسْمعُون كلامَهُ، فَرْفَع خَبُره إلى الرِشيدِ، وقيلَ لهُ: إنِّ معهُ كتَابَ الزيديةِ فَبعثَ بمنْ كَبَسهُ وحملَهُ وحَملَ معه كُتبَهُ، فأمَر بتفْتيشِها، فقال مُحمدٌ: فَخشيتُ عَلَى نَفْسي من كتاب الحيل من الرشيد. فقال لي الكاتبُ مَا ترجمةُ هَذَا الكتاب؟ فقالت كتاب الخيل فرمى بِهِ.
ونذكر الآن بعض مَا أُخذ من العلماء مِنَ التصَّحيف قال كيسانُ: سمعتُ أبا عبيدة ينشد:
ما زالَ يَضْربُني حَتَّى خَزِيتُ لَهُ ... وحالَ من دُونِ بَعْضِ البغْيةِ الشَّفَقُ
قال: فقلتُ خزيت خَزيتَ؟؟ وضحكتُ، فغضبَ وقال: فكيف هو؟ قلتُ: إنما هو خَذِيتُ. قال: فانْخَزَلَ وَمَا أحارَ جَواباً.
وروى أيضاً أبُو عُبَيْدة أبياتَ لقيط فِي يوم جَبَلةَ
يَا قَومُ قَدْ حرَّقْتموني باللَّوْم ... وَلَمْ أقاتِلْ عامرا قبلَ اليوْم
سيان هذَا والعِنَاقُ والنّوم ... والمَشْرَبُ الباردُ فِي ظلِّ الدَّوْم
وقال يعني فِي ظل نخل المُقْل: فقال الأصْمعيُّ: قَدْ أحالَ ابنُ الحائِك لأنه ليسَ بنجد دَوْمٌ. وجبلةُ بنجْد، وإنما الرَّاوية فِي الظل الدّوم، أي الدَّائِم.
وروى الأصمعي بيت أوس بن حَجَر
أجَوْنُ تدَارَكْ ناقتي بِقرى لَهَا ... وأكبرُ ظني أنَّ جَونْاً سَيفْعلُ
فقال ابْنُ الأعرابي: صَحف الدعي، وإنّما هو تدَارَكْ نَاقَتي بقُرَابها، أي مَا دُمتُ أطْمعُ فِيهَا. وفي مَثلٍ للعرَب: " الفِرارُ بقراب أكيسُ " .
وروى بيتَ الحارث بن حلزة
عَنَتاً باطلاً وظلْماً كما تُعْتَ ... زُ عن حَجْرة الربيضِ الظباءُ
وقال: العَنزة: الحَربةُ يُنحر بِهَا. فرد عَلَيْهِ أبُو عَمْر وقال: إنما هو تُعتر، ومن العَتيرة وهي ذَبيحةُ الصَّنم روى بيتُ الحُطيئة:
وغَررتني وزعمْتَ أنْ ... نَكَ لا تَنِي بالضَّيفِ تأْمر
وقال أبو عمرو: إذا صحفتُم فصحفوا مِثلَ تصحيفه وإنَّما هو لابنٌ بالصيفِ تَامِرٌ.
وروى بيت عنترة:
وآخَر منهمُ أجْررْتُ رُمْحي ... وَفِي البَجَليِّ مِعْبلةٌ وَقيِعُ
فقال كيسانُ: لَهُ: إنما هُو فِي البجْلي - بإسكان الجيم - منسوبٌ إلى بجْلةَ بطْن مِنْ بَني سُلَيم وروى لذي الرُّمِة:
عين مطحْلبةُ الأرجاء طَاميةٌ ... فِيهَا الضّفادعُ والحِيتانُ تصّطخِبُ.

فقيل: هو يَصْطحبُ، لأن الحيتانَ لا تصْطخبُ، ولا صوتَ لَهَا. وروى لرؤبةَ: شمطاءُ تَنْوي الغيظ حين تَرأمُ فقيل: إنما هو تَبْوى، أي تجعلُه بمنزلةِ البو روى أبو عمْرو بن العَلاء بيتَ امرئ القيس
تأوبني دائي القديمُ فَغلِّسا ... أحاذرُ أن يشتد داني فأنكَسَا
فقال أبو زَيد: هَذَا تصحيفٌ لأن المتأوبَ لا يكونُ مغَلساً فِي حالِ واحدة لأن غلس: أتى فِي آخِر الليل، وتأوبَ جاء فِي أوله، وإنما هُو معلساً، أي اشتد وبرح.
وروى المفضَّل للمخَّبل:
وإذا ألمَّ خيالُها طَرفتْ ... عيْني فماءُ شُئونها سَجم
فقال لَهُ خلفٌ: إنَّما هو طُرِفَتْ عَيْني. فرجَع عنْهُ.
وروى لامرئ القيس:
نَمُسُّ بأعْراف الجيادِ أكُفنّا ... إذا نَحنُ قمنا عَنْ شِواءٍ مَضهَّب
فقال له خلفٌ: إنَّما هُو نمشُّ، وهو مسحُ اليَد. ومِنْه - قِيلَ للمنديل: مَشُوشٌ. وأنشد - والأصمعيُّ حاضرٌ.
وذاتِ هدمٍ عَارٍ نَواشِرُها ... تُصْمِتُ بالماء تَوْلباً جَذَعا
فجعل الذَّال معجمة، وفتحها، وذهب إلى الأجْذَاع. فقال الأصمعيُّ: إنما هو: توْلَباً جَدِعا بالدَّال غير معجمة مكسورة، أي: سيئ الغِذاءِ. فضجَّ المفضَّلُ، ورفع صوتَه، فقال له الأصمعيُّ: لو نفخْتَ في شَبُّور اليهودِ لمْ ينفَعْك. تكلَّمْ كَلامَ النَّمل وأصِبْ.
وروى
بيْنَ الأراكِ وبني النَّخل تشْدخُهم ... رزقُ الأسِنَّة في أطرافِها شَامُ
فقال الأصْمعِيُّ: يا أبا العباس: لعل الرماحَ استحالَتْ كأَفْر كُوبات، فهي تشدخُ.
فقال: كيفَ رويتَهُ يا أبا سَعيد؟ فقال: تَسْدحُهُمْ. والسَّدْح: الصَّدْع.
وقد أخِذَ على الخليل في كتابه العين حروفٌ كثيرةٌ منها: يومُ بغُاث بالغَيْن المنقوطة، وهو يومٌ مشهورٌ بين الأوس والخزرج، وهو بعاثٌ بالعين غير المنقوطة.
وقال في حرف الخاءِ: فَخَجَجْنَا. وهو بالحاء غير منقوطَة. وقال: الخضبُ: الحيَّة وإنما هو: الحِضْب. وقيل: إنَّ ذلك من غَلط اللَّيث على الخَليل.
وكان الأصمعيُّ ينكر على الخليل روايتَه لهذا البيتِ.
أفَاطِمُ إني هالِكٌ فَتَبيَّني ... ولا تَجْزعِي كلُّ النِّسَاء يَتيُم
وقال: إنَّما تَئِيمُ مِنْ آمَتِ المرأةُ تَئِيم إذا ماتَ زَوْجُها.
وأنشد أبو الخطاب الأخْفشُ
قالتْ قتيلةُ مَالهُ ... قد جُلِّلَتْ شيباً شَوَاتُهْ
فقال أبو عمرو: صَحَّفتَ، وإنَّما هُو سرَاتُهْ. فسكَتَ أبُو الخطَّاب ثم أقْبل على القوُم، وقال: بلْ هُو صحَّفَ، وإنما هي شَواتُه. والشَّواةُ: جلدةُ الرأسِ.
وذكر أنّ ابنَ الأعْرابي أنْشد بيْتَ جَرير - وعندهُ عبد الله بن يعقوب -
وبُكرةَ شَابك الأنياب عاتٍ ... مِنْ الحيِّاتِ مَسْموم اللُّعاب
فقال له عبد الله: إنما هو نُكْزَةُ، مِن قوْلهم: نَكَزتْهُ الحيَّةُ وذكر عبد الله بن يعقوب أنَّه سمعَ ابنَ الأعرابي يقول: تَلَع الشيبُ في رأسه فذهب به إلى أعلى الرأس، من التلعةِ. فقال: إنما هُو بلَّعَ: أي طلَع. ويُقال منه: بَلَّع النَّجم. ومنه اشتقاقُ سَعْد بُلَع.
وذكر عسل بن ذكوان أن ابنَ الأعرابي صحَّفَ بيت الهُذَلي
أرقتُ له مثل لمْع البشِير ... يقلِّبُ بالكفِّ قُرْصاً خَفيفاً
وإنَّما هُو فَرضاً، أي تُرْساً وكان يخالف ابن الأعرابي الأصمعي في بيت للحطيئَةِ، ويدعى كُلُّ واحد منهما على الآخر التصحيف. والبيتُ.
كَفَوْا سَنَتَيْن بالأضْيافِ نَقْعاً ... علَى تلك الجفان مِن النقى
هذه رواية ابن الأعرابي. والنّقْعُ عنده: النّحر. والنَّقى: الحُوارى. فيقول كَفَى الأضْيافَ، جمع ضْيف سَنَتَيْن وروايةُ الأصْمعي:
كُفُوا سَنِتِينَ بالأصْيَافِ بُقْعاً ... على تلكَ الجفار من النفى
وسَنِتينَ عندَه: من أسْنَتَ القومُ: من أسْنَتَ القومُ: إذا أجْدبُوا، والأصْيافُ: جمع الصَّيف، والبُقْع: يعني أنَّهم بُقْعُ الظُّهُور. من النفي: نَفِي الأرْشِيةِ، إذَا اسْتَقَوْا للناسِ. والجفارُ: جمع الجَفْر. وهي البئرُ البعيدةُ الماء وروى الكسائي
كأنَّ تحتَ رَيْطهَا القَشِيب ... أعْيسَ مِنْها، لاَ مِنَ الكَئيب

فبلغتْ روايتُه أبَا عبيدة. فقال: أبْلغُوهُ أنَّ الرِّوايةَ: أعْيَس مُنْهالاً مِنَ الكثِيب فهو منهالٌ. فقال الكِسَائي: أصاب الشَّيخُ، وأخطأْتُ أنا.
وروى الفراءُ.
يا قَاتلَ اللهُ صِبياناً تجيءُ بهم ... أم الهُنَيِّينَ مِنْ زَنْدٍ لها وارى
فقيل له: إنَّما هُو أمُّ الهُنَيْبِر وهي الضَّبَعُ. ويقال لها أم عامر.
فقال: هكذا أنْشَدَنيه الكِسَائي، فأحال على الكسائي.
حكى أبو الحسن الطوسي، قال: كُنَّا في مَجْلِس اللحياني وهو عَلى أن يُملي نَوادِره ضِعْفَ مَا أمْلى. فقال: " مُثَقَّلٌ اسْتَعَان بذَقنِهِ " فقامَ ابنُ السكِّيتِ إليه - وهو حَدثٌ - فقال: يا أبَا الحسن: إنَّما تقول العربُ: " مُثقَّلٌ اسْتَعان بدَفيْهِ " ، لأن البعيرَ إذا رَامَ النُّهوضَ استعانَ بجنْبيْه. فقطَع الإمْلاءَ. فلمَّا كانَ في المجلس الثاني أمْلَى: تقولُ العربُ: " هو جاري مُكَاشِري " فقام إليه ابنُ السكِّيت.
وقال: أعَزك اللَّهُ، إنما " هو جَاري مُكاسِري " . أي كسْرُ بيْتي إلى كسْر بيته. فقطع الإملاءَ، وما أمْلَى بَعْدَ ذَلك.
وقال: مَن احتجَّ عَن اللحْياني: البعيرُ إذا رَام النُّهوضَ اسْتَعانَ بعُنُقه وذَقنِه. والمثلث علَى ما رَواه اللحياني صحيحٌ.
وروى ابنُ السِّكيت.
هَرِقْ لها مِنْ قَرْقَرىَ ذَنْوبا ... إن الذَّنوب تَنْفَعُ المغْلُوبَا
فقال ثَعْلب: إنما تَنقَع: أي تُرْوِي.
قال ابنُ دُرَيد: وجدتُ للجاحظ في كتاب البيان تصحيفاً شَنيعاً، فإنَّه حدَّثني محمدُ بنُ سَلام، قال: سَمِعتُ يونُسَ يقولُ: ما جاءنا مِن أحدٍ مِنْ روائع الكَلام ما جاءَنَا عن النبي صلى الله عليْهِ وسلَّمَ.
إنَما هُو عن البتِّي: عن أبي عثمان البَتِّي. فَأَمَّا النبيُّ عليه السلامُ فلاَ شَكَّ عِنْد المِلِّي والذمي أنَّه كَانَ أفْصَحَ الخَلْق.
أنشدَ أبُو البيدْاءِ الرَّماحي أبَا عَمْرو
ولو أنَّ حياَّ للمنَايا مقاتِلاً ... يكونُ لقاتَلْتٌ المَنِيَّةَ عَنْ مَعْن
فتي لا يقولُ الموتُ مِنْ حرّ وَقُعِهِ ... لك ابنُكَ خُذْه ليس مِنْ سمتي دعْني
فقال له أبو عَمْرو: صحَّفتَ، إنّما هُو: قِتالاً يقُولُ.
روى الكلابي بيتَ عمرَ بن أبي ريبعةَ.
كأن أحورَ مِنْ غزلان ذي بقر ... أهدى له شَبَهُ العينين والجِيدَا
فقال ابنُ الأعرابي له: صحفْتَ. إنَما هُو سِنةُ العْينيْنِ.
روى عن قَتَادة قال: حضرتُ الحسن - وقد سُئِل - عن قوله جلّ وعز " جَعَل ربُّكِ تَحْنَكِ سَريّاً " فقال: إن كان لسَرياً، وإن كانَ لكريمأ. وقالوا: مَنْ هو؟ قال: المسيح. فقال له حميدُ بن عبد الرحمن: أعِدْ نَظَراً، إنما السَّريُّ: الجدولُ فتمعَّرَ له، وقالَ: يا حميدُ، غَلَبتْنَا عليك الإماءُ.
قال إبراهيم بن حمزةَ: سمعتُ عن أبي دأب ينشد لأبي ذؤيب الهُذلي.
ويم بذاتِ الدَّير..
فقلت له: وما لُهذَيل والدّيَارات؟ إنَّما هو بذات الدَّبرْ، وهي أكَمةٌ في بلادِهم. فقال: لا أدْري، كذا سَمِعتُه.
قال: ثم سمعتُه من قائلٍ ذلك العامَ في المسجد الحرامِ يُنْشده بذاتِ الدَّبْر.

هذه حروف وكلمات من المصحف
الذي يستعمله الناس عمداً لا سهواً كتب أبو تمام الطائي رُقعة إلى محمد بن عبد الملك بن صاحل يسأله فيها مُحالاً، وكتب على عُنْوانها حبيب.
فأخذه محمد ونقطة خبيث.
ورفع آخر رقعةٌ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وعليها حريث بنُ الفارس وكان اسمَ الرجل، فجعلَه محمد خريتَ في الفراش وكتب تحته: بئسما فعلْتَ.
ونهض الحسنُ بن وهب ذاتَ ليلة من مجلسِ ابنِ الزَّيات بنيه أي بت به.
وَقف رجلٌ على الحسن البصري فقال: اعتمِرُ، أخْرجُ، أبادِرُ. فقال الحسن: كذبوا عليه، ما كان ذلك. يريد السائلُ: أعثمانُ أخرج أبا ذرٍّ؟ ومن تصحيف محمد بن طاهر: متملْمِل. يريد: مَنْ ملَّ مُلَّ.
وقال المعتصم يوما لطَّباخ له فَارسي: حَاسبت رشيد. فقال: زِنْ نبيذ أراد المعتصمُ: جاء شَتيت رسيد، أي أدَركَ غَدَاؤك وقال لأخر: رسيد، أي أدْرَك.
وقال المتوكِّلُ يوما ليحيى بنِ ماسَوَيْه: بعتُ بيْتي بِقَصْرَين. فقال له يحيى: أخِّر الغِذاء. أراد المتوكل: تعشَّيتُ فضرني. فأجابه ابنُ ماسويه بالعلاج.
ومن هذا الجنس

حروف وكلمات من المصحف عمداً لا سهواً الخِنْصر: الحبُ ضَر. مَتَى ألج ببيتِ هند؟: ميِّت الحب شهيدَ.
نرجس طري: برح بي نظري. بمطرف تَستُري: نَمَّ طَرفي بسِرى. طَسْتٌ حَسنٌ: طبيبي: حبيبي. القَبَعْثَريَ وحَلُبس: ألفْتِ غَيْري وخلَّيتني فنعت بتكْفيلي: في عيْنيكَ قتْلى. وحموه حدَّثك بشأني: حمر خَدَّيك سباني خشخاشٌ: حبيبٌ خانَني. مِشمشةٌ ثقيلةٌ: مَنْ يَنَمْ يُنبَّه بقُبلة - صِينية حَسنةٌ: صَبٌّ نبَّه حَبيبه. محبرَةُ آبنوس: مُحِب زَها ببوس.
كلنى بيمينك فبعْني بحبتَّين: كلُّ شيء مِنْك في عَيْني حَسنٌ. لببُ سرج مُضِري: ليس ترحم ضُرى. مَسعودٌ: متى تعود؟ الثوبُ يماني بثوب: ألْتوتْ ثم اسْتوتْ سَعيد بنُ جبير: نَبْتٌ عند نرْجس. فرُّوج مُسَمَّن بحبِّة: تودُّ جَمْش مَنْ تُحبه. تحت الفيل مِرْوحةُ خَيش: تحبُّ القُبل مِن وجُهٍ حَسَن. حَبَشٌ بن حنين: حبيبي بتَّ بخير. سكْباج: ثنيك باخ. كشكيَّةَ: كنت نكتة. قلْنُسوة خَضْرا: قلبي يتوهجُ ضُراً. لمازحٍ مقَالٌ يضم: لمَّا رَحمَ قال: نعَمْ.
سوقي جرَّ بعيري: فتش تجرِّبُ غيْري. ضرَب عَيْني بنواتين: صريعٌ بين نِسْرين. وآسٍ مسلم بن قيس: متى يُلِمُّ بي بنُو أمية. أليتُ بربي قد خضعتُ راهباً: الشُّربُ بقدح صغير أهْنأ. أسرتْني بيدي: اشربْ سيِّدي.
ومن المقلوب: ظلمتنا: أنت ملط. كرهَتَنا: أنت هِرك. دعُوتنا: أنْتَ وغْد. أرحتنا: أنت خرا. جَفَوتنا: أنْتَ وقح: ووقع بعضُ الوزراء: غَرَّك: عرك فصَار: قصار. ذلك: دلّك. فاخْش: فَاحش. فعْلك: فعلَّك. بهذا: تهدأ.
وقع محمدُ بن عبد الملك بن طاهر إلى ابنه: يا بُني: يا بْني: مصيبة: مضْنية. أمرضى: أمْرُ صبي. مجذورٌ: محذورٌ. عليْه: عِلَّته. بقرع: يفرع قلْبي: لمُبِّي. وأله: وإلهٌ. أحمرُ: أحمدُ. وقدْ: وفَد وصَيفٌ: وصنَّف رجَاله: رجّالَة يحتلُّ: بخيل وقَّع بعضهم على رُقْعة رَجل: هذا: هذّا.
كان محمد بن نفيس غيوراً، فأخُبر أنَّ جاريةً له كتبتْ إلى خَاتمها: مَنْ ثَبَتَ نبتَ حُبهُّ. فدعاها فَوقَفها علَى ذلك، فقالت: لا - والله - أصلحكَ الله، ما هُو ما قِيلَ لك، ولكني كتبتُ على خاتَمي: من يَتُبْ يُثَبْ جَنةً.
ومِنَ الغلطِ. قول نحيت وكان الحجاجُ وجَّه إلى مطهر بن عمَّار بن ياسر عبدَ الرحمن بن سلي الكلْبي. فلما كان بحُلوان أتبعه مدَداً، وقدم إليه بذلك كتاباً مع نحيت الغلط - وكان يقال له ذلك لكثرة غَلَطِه - ، فمرَّ بالمدَدِ وهُمْ يُعرضُون بخَانقين. فلما قَدِم علَى عبد الرحمن قال: أينَ تركت مدَدنا؟ قال: تركتُهم يُخنقُون بعَارضين. قال: أو يُعَرضُون بخانقين. قال: نعم: اللهم لا تُخانِقْ في باركين.
ولما ذهب ليجْلسَ ضَرط، وأراد عبد الرحمن أن يقولَ له: ألا تفدي؟ فقال: ألا تضْرطُ؟ قال: قد فعلتُ، أصْلحَك الله - قال: ما هذا أردتُ قال صدقتَ، ولكن الأميرَ غلط كما غلطنا.
قال بعضُهم: سمعتُ بعضَ الكتاب الأكَابر يقولُ: أنا أسْتَاكُ بالعراق يريدُ بالأراك.
وقال آخر: سمعتُ بعضَهم يقولُ: جَعْدة الطريق فأنكَر صاحِبُه، وقال: الجعْدةُ هو ما يوضع فيه السِّهام.
وقرأ الخطيبُ في المسْجدِ الجامع: والسَّماءِ والطَّارق. فقال: يخرج مِنْ بين التُّرب والصّلائب.
وقال الوَليد بنُ عبد الملك لسُليمانَ بن خالِد بن الزُّبير يوماً - وعروةُ جالسٌ عنده - ما سِنُّك؟ فقال: قُتِلتُ أيام وُلد مُصْعبٌ.

الباب الثالث عشر
نوادر من النحو واللحن
سمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجُلاً قرأ، فلَحنَ فقال أرشدوا أخاكم.
قال الأصْمَعي: قلتُ لأبي مَهْديّة: كيف تقولُ: لا طِيبَ إلا المسكُ قال: فأينَ أنت عن العنبر؟ قلتُ: فقل لا طِيبَ إلا المسكُ والعنبر. فقال: أين أنت عن البان؟ قلتُ: قُلْ لا طِيبَ إلا المِسكُ والعنبرُ والبَانُ. قَال: فأيْنَ أنْت عن أدْهان محُمر؟ قال قلتُ: فقل لا طيبَ إلا المسكُ والعنبر والبانُ وأدهانُ محمَرّ. قال: فأين أنت عن فارة الإبل صادرةً؟ عمِلَ بعضُ النَّحُويين كتاباً في التَّصغير، وأهداهُ إلى رئيس كان يختلفُ إليه، فَنَقص عطَّيتَه، فصنَّف كتاباً في العطف، وأهدَاهُ إليه، وكتب معه: رأيتُ بابَ التصغير قد صغرني عِنْد الوزير، أرجُو أنْ يعطِفَهُ على بابُ العطفِ.

سمعت الصاحبَ - رحمة اللهُ - يقول: كان سببُ اتصال ابن قريعَةَ القاضي بالوزير أبي محمد المهلبي أن ابنَ قريعةَ كان قَيِّمَ رحى له، فرفعَ إليه حِساباً، فيه درهمان ودانقان، وحَبَّتان، فدعاهُ، وأنكرَ عليه الإعرابَ في الحساب.
فقال: أيُّها الوزيرُ، صارَ لي طَبْعاً، فلستُ أستطيع له دَفْعاً. فقال: أنا أزيلُه عنك صَفْعاً. ثم استداناهُ بعد ذلك، وقرَّبُه.
قال نحوي لرجل: هل ينصرفُ إسماعيلُ؟ قال: نعم. إذا صلى العشاءَ فما قُعوده؟ وحكى أن جماعةً عند محمد بن بحر اختلَفُوا في بناءِ سَراويل، فدخل البرقيُّ.
وقال: فيم كنتُم؟ قالُوا: في بناء سَراويلَ. فما عندَك فيه؟ قال: مثلُ ذراع البكْر أو أشدُّ.
قال النوشجَانُ: حضرتُ مجْلِسَ المبرِّدِ، فسمِعنا وَاحداً يقول: في حرامِ أصْبهان.
فقال أبو العباس: هذا قد شتمَك على مذْهب قول الله تعالى: " واسْأَلِ القريةَ " .
سمع ذو الرُّمة رجلاً يقول: على فُلان لعْنةَ اللهِ. فقال: لم يرْضَ بواحدة حتى شفَعَها بأخْرى. وذلك أنه لما سَمِعهُ مفتوحاً قدَّر أنَّه أرادَ التثنيةَ: لعنتَا الله.
قيل لرجل كان يكْثُر اللَّحنُ في كلامِه: لو كنتَ إذا شككتَ في إعراب حَرْف وتخلصْت مِنْه إلى غيْره، مِنْ غير أنْ تُزيلَ المعنى عن جهته، كان الكلامُ واسِعاً عليك، فلقي رجلاً كان مشهوراً بالأدب. فأراد أنْ يسأله عنْ أخيه، وخشي أن يَلْحنَ في مُخَاطَبَتِه، فذهبَ إلى أنْ يتخلَّص عِنْد نفُسِه إلى الصَّواب. فقال: أخُوك، أخيك، أخاك هَا هُنا؟ فقال له الرجلُ: لا، لُو، لي ماهر حاضرٌ.
وقف نحوي على صاحب باذِنْجان، فقال له: كيف تبيعُ؟ قال: عِشرين بدانق. قال: ما عليك أن تقولَ: عشرون بدانق!! فقدَّر أنَّه يسْتزيدُه. فقالَ: ثلاثين بدانق. فقال: وما عليكَ أن تقولَ: ثَلاثون؟ فما زالاَ على ذلك إلى أن بلَغَ تِسْعين. فقال: وما عليْكَ أنْ تقُولَ يتسَعون؟ فقال: أراكَ تَدورُ على المائتون، وهذا ما لا يكون.
ومر نحوي بقصَّاب - وهو يسْلُخ شاةً - فقال: كيفَ المسْتْطرَقُ إلى درْب الرآسِين؟ فقال القصابُ: اصبرْ قليلاً حتى يخرج الكرْشُ وأدلَّك على الطريق.
وقدم نحوي خَصْماً له إلى القاضي، وقال له: لي عليكَ مائتان وخَمْسون درهماً.
فقال لخَصمه: ما تقول؟ فقال: اصلح الله القاضي، الطلاقُ لازمٌ له إنْ كان إلا ثَلاثمائة. وإنما تَرك منها خمْسين ليُعلمَ القاضي أنه نحوي.
وقدَّم آخر خصْماً له إلى القاضي، وقال: لي عليه ديناران، صحيحان، جيِّدان.. قال: القاضي: ما تقولُ؟ قال: أعز الله القاضي، هذا بغيضٌ. قال: بلى. قال فأصْفَعه؟ قال: إذنْ تَزنُ قال: لا أبالي قال القاضي: وأنا شريكُك. زنْ أنت دينار وأزِنُ أنا دينار وأصْفَعه.
دقَّ رجل باب بعْضِ النحويين، فقال صاحبُ الدَّار: مَنْ ذا؟ قال: أنا الذي أبو عمرو الجصَّاص عقد طَاقَ بابِ هذه الدار. قال النحويُّ: ما أرى لك من صِلَةِ الذي شيئاً. فانصرِفْ راشداً.
قيلَ: النحو مِلْحُ العلم، ومتى اسْتُكْثِر مِن الملح في الطَّعام فَسدَ.
سمع المازني قَرْقَرةً مِنْ بطنِ رجُل، فقال: هذه ضَرْطةُ مضْمرَةٌ.
قيل: لأبي سعيد السيرافي: ما علامةُ النَّصب في عَمْرو. فقال: بُغْضُ علي بن أبي طالب وأنشد ذو الرمة
وعينان قال الله كُونا فكانتا ... فُعولان بالألباب ما تَفْعل الخمر
فقال له عيسى بن عُمر: فَعْولَيْن. فقال ذو الرمة: لو سَلَحْتَ كان خيراً لك. أترى الله أمَرَهُما أن يسحرا.
مرَّ أبُو علقمة بأغْلال قد كُتِبَ عليه رُبِّ سُلِّم لأبي فلان. فقال لأصحابه: لا إله إلا اللهُ يلحنُون، ويربحون.
قال رجل للحسن البصري يا بُو سعيد: أنا أفْسِي في ثوبي، وأصلي يجوزُ؟ قال: نعَمْ. لا أكثرَ اللهُ في المسلمين مِثلكَ.
وجاء إليه رجلٌ فقال: ما تقولُ في رجل ماتَ، وترك أبيه وأخيه؟ فقال له الحَسنُ: ترك أباهُ، أخاه. فقال: فما لأباه وأخاه فقال الحسن فما لأبيه وأخيه؟ فقال الرجلُ: إني أراك كُلَّما طاوعتُك تخالفني.
قال سعيدُ بن سلم: دخلت على الرشيد فجَهدني، وملأ قلبي، فلحن، فخفَّ على أمرُه.
قال الزُّهري: أحْدثُ الناسِ مروءةً أحبُّ إلي من طلب النحو.
سمع أبو عمرو أبا حنيفة يتكلَّم في الفِقه، ويلحَنُ، فاسْتحسَن كلامه، واستقبحَ لحْنه.

فقال: إنه لخطابٌ لوْ ساعَدهُ صواب. ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوجُ إلى إصلاح لسانِك مِن جميع الناس.
قال أبو سعيد السِّيرافي: سمِعتُ نفطويه يقول: لحنُ الكُبراءِ النَّصبُ، ولحنُ الأوساطِ الرَّفعُ، ولحنُ السفلةِ السْرُ.
دخل خالُد بنُ صَفوان الحمام. وفيه رجلٌ مع ابنه - فأرادَ أن يُعرِّف خالداً بلاغته فقال لابنه، يا بني، أبدأ بيداك وثنِّ برجُلاك. ثم التفت إلى خالد، فقال: يا أبا صَفوان، هذا كلامٌ قد ذهب أهلُه. فقال خالدٌ: هذا كلامٌ ما خلق الله لهُ أهلاً.
قال أبو هِفَّان: رأيت بعض الحَمْقى يقول لآخرَ: قدْ تعلمتُ النحوَ كلَّه إلا ثلاث مَسائل. قال: وما هي؟ قال: أبو فلان، وأبا فلان، وأبى فلان. قال: هذا سهلٌ. أما أبو فُلان فللملوك، والأُمراءِ، والسلاطين، والقُضاة. وأمَّا أبا فلان فللبناة والتُّجار، والكُتَّاب. وأمَّا أبي فلان فلِلسِّفل والأوْغاد.
قال السيرافي: رأيتُ رجلاً من المتكلِّمين ببغداد بلغ به نقصُه في معرفة العربية أنهُ قال في مجلس مشهور، بين جماعة حضور: إن العْبدَ مُضطرُّ، وإنَّ الله مُضطِرُّ بكسر الطاءِ، وزعمَ أنَّ القائل: الله مضطرُّ كافرٌ.
قال رجلٌ للحسن البصري: إن هذا الرّجُل قد زوَّج أمَّه مِن رجل نبطي. فقال له الرجلُ: يأبُو سعيد. هذا محروم. يريد محَرَّم. فقال الحسنُ: كذا أشتهي أن تكون لغةُ مَن زوج أمَّه.
قيل لأعرابي: هذا قصرٌ. بما ارتفع. فقال: بالجصِّ والأجُرِّ.
مدح شاعرٌ طلحة صاحب البريد بأصبهان، فلم يُثِبه. فقال: لو كنتُ من مدحي بلا صفد لاكتلتُ مِن طلحةٍ كُرين مِن خير. فقال له طلحةُ: لحنت، لأنك صرفتَ طلحة، وطلحةُ لا ينصرف. فقال له: الذي لا ينصرفُ طلحةُ الطلحات فأما أنت فتبلغُ الصِّين بنفخة.
قيل لأعرابي: كيف تقولُ: ضرب عبد الله زيد؟ فقال: كما قُلتَ. قيل: لِمَ؟ قال: لشر أحسبه وقع بينهما.
قدِم رجلٌ على بعض الولاة، فقال له: مِن أين أقبلت؟ قال: من أرْض اللهُ.
قال: وأين تُريد؟ قال: بيت الله. قال: ومِمَّن أنت لا أمَّ لك؟ قال: مِن تيم الله. فأمَر بوجيء عُنُقِه. فقال: بسم الله. فقال: اتركوا ابن الخبيثةِ. فلو ترك الرفع وقتاً تركهُ السَّاعة.
قال أبو العَينْاء: دخل رجلٌ إلى عَليل: فقال له: لا إله إلا الله، وإن شئت لا إلهٌ إلا الله، والأولى أحبُّ إلى سيبيويه فقال أبو العليل: حَرَمني اللهُ أجْرَه إن لم يكن مَشهدُك له أشدَّ علي مِن مؤْته.
قال رجلٌ لآخر: تأْمرُ بشيئاً؟ قال: بتقوى اللهِ، وإسقاطِ الألف. قال خلف قلتُ لأعرابي: ألقي عليك بيتاً؟ قال: على نفسِك فألُقِه.
قال رجلٌ من البَلديينَ لأعرابي - وأراد مَسْأَلته عن أهلهِ - كيف أهلكَ؟ قال - بكسْر اللام. فقال الأعرابي: صَلْباً. لأنه أجَابه على فهمِه، ولم يعلمْ أنه أرادَ المسأَلة عن أهله.
قال الجاحظ: قال بشر المريسي لجلسائه: قضى اللهُ لكم الحوائجَ على أحسن الوجوه، وأهنؤها. فقال له قاسمٌ التمارُ: هذا على قوله:
إن سُليَمْي والله يكلؤُها ... ضنَّت بشيء مَا كَانَ يرزؤها
فصار احتجاجُ قاسم أطيبَ مِن لحْن بشر.
وقال: قدَّم رجلٌ من النحويين رجُلاً إلى السُّلطان فِي دَين لَهُ عَلَيْهِ، فقال: أصلح الله الأميرَ، لي عَلَيْهِ درهمان. فقال خصمه لَهُ: والله - أصْلحك الله ثلاثةُ دراهمَ ولكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهماً.
وكان سابق الأعمى يقرأ: " الخالقُ البارئ المُصور " فكان ابن جَابان إذا لقيهُ قال: يَا فاسقُ مَا فعل الحرفُ الَّذِي تُشركُ بالله فِيهِ؟ قال: وقرأ مرة: " ولا تُنْكحُوا المشركين حَتَّى يؤمنوا " بفتح تاء تنكحوا، فقال ابن جابان: وإن آمنُوا لَمْ نَنكحهم.
سمع أعرابي رجلاً يقول: أشهد أنَّ مُحمَّداً رسول الله بالفتح، فقال: يفعل مَاذَا؟ قيل لأعرابي: كَيْفَ تقولُ استخذيت أو استخزيت؟ فقال: لا أقولهما. قيل: ولِمَ؟ قال: العربُ لا تستخذي.
سَكر هارون بن محمد بن عبد الملك ليلة بَيْنَ يدي الموَفَّق، فقام لينصَرف، فغلبهُ السُّكرُ، فقام فِي المضرب. فلما انصرف الناسُ جاء راشدٌ الحاجبُ، فأنبههُ وقال: يَا هارونُ انصرف.

فقال بسكره: هارونُ لا ينصرفُ. فسمع الموفَّق فقال: هارون لا ينصرفُ فتركه راشدٌ فلما أصبح الموفقُ وقف عَلَى أن هارون بات فِي مَضرَبه. فقال: يَا راشِدٌ أيبيتُ فِي مضربي رجلٌ لا أعلم بِهِ؟ فقال: أنت أمَرْتني بهذا، قلتَ: هارونُ لا ينصرف. فقال: إنَّا لله - وضحك - أردْتُ الإعراب وظننت أنت غيْرهُ.
يقال: إن يزيدَ بن المهلَّب كَانَ فصيحاً لَمْ يُؤخذ عليْه زلةٌ فِي لفظ إلا واحدةً، إنه قال عَلَى المِنبر - وذكرَ عبد الحميدِ بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب فقال - : وهذه الضبُعةُ العرْجاءُ. فاعتْدَّت عَلَيْهِ لحْناً، لأن الأنثى إنَّما يُقالُ لَهَا الضَّبعُ، ويقال للذكر الضبعَانُ.
قيل: كَانَ خالد بن صفوان يدخُلُ عَلَى بلال بن أبي بُردة يحدَّثُه، فيلحنُ. فلما كثُر ذَلِكَ عَلَى بلا قال لهُ: أتحدثني أحاديث الخلفاء، وتلحنُ لحن الستات. وَكَانَ خالدٌ بعْد ذَلِكَ يأتي المسجدَ ويتعلَّمُ الإعراب.
كان الشِّيْرَجّيُ إماماً من أئمة الحنبلية، اجتاز بمسجد فِيهِ معْزّي فخرج عَلَيْهِ منه نحْوي بِغيضٌ. فقال لَهُ الشيرجي: من المُتوفي؟ فقال النحوي: الله نبيه. وقال زنديقٌ: واللهُ رفعهُ إلى الحَشر.
قرأ الوليد بنُ عبد الملك يوماً عَلَى المنبر: " يَا ليتَها كَانَتْ القاضية " فقال عمر بن عبد العزيز: عَلَيْكَ.
سُئِل نحْوي عن تصغير عُبَيْد الله. فقال: ليسَ فِي سجدتي السَّهو سَهوٌ.
وذُكر أنَّ مُعاوية قال: كَيْفَ أبو زيادٍ؟ فقالوا: ظريفٌ عَلَى أنه يلحنُ.
فقال: أو ليسَ ذَاكَ أظرف لَهُ؟ أرادوا اللَّحن الَّذِي هو الخطأ. وذهب معاويةُ إلى اللَّحن الَّذِي هو الفطنةُ.
قالوا: كَانَ سبب عَمل أبي الأسود الدؤلي النَّحو هو أول من وضعهُ، وقيل إن أميرَ المؤمنين علياً عَلَيْهِ السلام جعل لَهُ مِثالاً فبنى عَلَيْهِ واحْتذاه أن أبا الأسود سمع رجلاً يقرأ: " إن الله بريءٌ مِن المشركين ورسولُه " بالخفض. وسمع ابنته تقول: مَا أطيبُ الرُّطب؟ وهي تُريد التَّعجب، وظن أنها تريد الاستفهام، فعمل شيئاً من النَّحو، وغرضهُ عَلَى أمير المؤمنين عَلَيْهِ السلام. فقال: مَا أحسنَ هَذَا النحو الَّذِي أخذتَ فِيهِ. فُسمي نحْواً.
مر الشعبي بناس من الموالي يتذاكرون النَّحو، فقال: لئن أصْلحتموه إنِّكُم لأوّلُ من أفسدَه.
وروى أن الحجاج قرأ: إنا من المجرمون مُنتقمون.
وكان محمد بن سليمان يقول فِي خُطبته: إن الله وملائكتهُ برفع الملائكة فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ. قال فخرجُوا لَهَا وَجهاً، وَلَمْ يدَعِ الرَّفع.
قال بعضهم: قلتُ لواحد مِن أين جئت؟ قال: مِن عند أهلُونا. قال: فقلتُ لَهُ: قل: أهلينا. قال: سبحان الله نعْدِل عن قول الله تعالى " شغلتنا أموالُنا وأهلونا " قدم العُريانُ بنُ الهيثم عَلَى عبد الملك، فقيل لَهُ: تحفَّظْ من مَسْلمةَ فإنه يقول: لأن يُلقمني رجلٌ حجراً أحبُّ إلي مِن أن يُسْمعني لحْناً. فأتُاه العُريانُ ذات يوم، فسلَّم عليْهِ. فقال لَهُ مَسْلمةُ: كمْ عطاءك؟ فقال العُريان ألْفين. فقال: كمْ عطاؤك؟ قال: ألفان. فقال: مَا الَّذِي دعاك إلى اللَّحن الأول؟ فقال: لحنَ الأمير، فكرهتُ أن أعرِب، وأعْرَب فأعرَبتُ. فاسْتحسَن قوله، وزاد عطاءه.
قال رجلٌ لآخر: مَا فعل فُلان بحماره؟ قال: أنا بسرت بالباء. قال: وأنا أيضاً بسرتُ بالباء.
وقال أعرابي: كنتُ أظن أبا المهاجر رجلاً صالحاً، فإذا هو يلحنُ.
قال يونسُ: كُنا ننظُر إلى الشباب فِي المسجدِ الجامع بالبصرة يخطرْ بَيْنَ السواري. فنقول: إما أن يكون قرشياً أو نحُوياً.
قيل لبعض النحويين: مَا تقول فيمن سَها فِي سَجْدَني السَّهو؟ فقال: لَيْسَ للتصغير تصغيرٌ.

الباب الرابع عشر
نوادر المخنثين
قال بعضُهم: شهدتُ مجْلسا فِيهِ قينةٌ تغني، فذهبت تتكلف صيحة شديدة فانقطعت. فصاحت من الخجل: اللصوصَ اللصوصَ. فقال لَهَا مُخنَّثاً كَانَ فِي المجلس: والله يَا زانيةُ مَا سُرق من البيت شيءُ غيرُ حَلقِك.
استوهب رجلٌ من مخنَّث فِي الحمَّام خطمياً، فمنعَه. فقال: سُبحان الله!! تمنعني الخطمي وقفيزٌ منه بدرهم؟؟ فقال المخنُّثُ: فاحسبُ حِسابك أنت عَلَى أربعة أقفزة بدرهم، كم يصيبك بلا شيء؟

قال جَحْظةُ: فاخرني بعضُ المخنّثين فقال: يَا أبا الحسن، وَفِي الدُّنيا مثلُ المخنثين؟ قلتُ: كَيْفَ؟ قال: إن حدَّثوا ضحكتُم، وإن غنُّوا أطرِبتم، وإن ناموا نكتُم.
قال المتوكل لعبادة: مَا تقول فِي تطبيل سَلمان المخنَّث؟ قال: هو حسنٌ، ولكنَّه مثلُ الهيْضة يأتي بأكثرَ مما يُحتاجُ إليه.
سمع مخنثُ أن صومُ عَرفَة كفارةُ سنة، فصام إلى الظهر، ثُمَّ أفطرَ، وقال: يكْفيني ستةُ أشهر.
قيل لآخرَ: تُناك فِي الأسْت؟ فقال: أو لي موضعٌ آخرُ؟ وقل لآخر: أما تٌُستحي من أن تُناكَ؟ فقال: ذوقوا، ثُمَّ لُومُوا.
ودخل مخنثٌ الحمَّام، فنظرَ إلى رجل طويلِ الخُصيتين، قصير الأير، فقال سخنتْ عيْنُك. الغِلالة أطْولُ من القميص.
وسمع آخر قوماً يقولون: إن من كَثْرة الحِجامة يعرضُ الأرتعاش. وأخذ شَعره يوماً وارتعش فقال يَا رب أخذتُ شَعري. لَمْ أحتجم.
مر عيسى بنُ موسى بعد أن خلعهُ المنصورُ - وَكَانَ ولي عهدٍ بعدَه وقدَّم المهدي عَلَيْهِ - بمخنَّثٍ.
فقال: إنسانُ مَنْ هَذَا؟ قال المخّنثُ: هَذَا الَّذِي كَانَ غداً فصار بعدْ غد.
قيل لعبادة: منْ يضربُ علي ابن أبي العَلاء؟ قال: ضِرْسه.
مرتْ امرأة بمخنّث حسن الوجْه - ومعها ابنةٌ لَهَا - فقالت: ليت لابنتي حسن وجْهك.
قال: وطلاقي. قالتْ: تَعِستَ. قال: فتأْخذين مَا صَفا وتتركين مَا كَدر؟ وصف مخّنثٌ امرأةً فقال: كَأَنَّ رَكَبَها دارةُ القمر، وكأن شفْريها أير حمار فَلوى.
سمع آخر رجلا يقولُ: دعَا أبي أربعةَ أنفسِ، وأنْفَق عَلَيْهِم أرْبعمائة دينار، فقال: يَا بنَ البَغِيضةِ لعلَّة ذَبحَ لهم مغنيتين، وزامرةً، وإلا فأربعمائة فِي أيش أنفقها؟ قال شيخٌ لقرقر المخنثِ: أبُو مَنْ أنت؟ قال: أم أحمد فديتُك!! سمع شاهِكُ المخنَّثُ رجلاً يصفُ الكَرفْس، وأنَّه جيد لفتْح السَّدد. فقال: لا كَانَ الله لَكَ. أنا إلى سدِّ الفتح أحوج.
تاب مخنثٌ، فلقيه مخنّث آخرُ، فقال: يَا أبا فلان: أيش حَالك؟ قال: قَدْ تُبتُ.
قال: فمن أينَ معَاشُك؟ قال: بقيتْ لي فضيلةٌ من الكَسْب القَديم فأنا أتمزَّزُ لَهَا.
فقال: إِذَا كَانَتْ نفقتُك مِنْ ذَلِكَ الكَسْب فلحم الخنْزير طري خيرٌ من قَدِيد.
رأى عبادة دابةً مخارق - وهي تُقرْمِط مَشْيهَا - فقال: يَا مخارقُ برذونُك هَذَا يمشي عَلَى استحياء.
عُرض عَلَى عبادة خادِمٌ فقال: أنا لا أركبُ سفينةً بغير دَقَل.
قُدِّم إلى عبادةَ رغيفٌ يابسٌ، فقال: هَذَا نُسِج فِي أيام بني أمية ولكن بلا طراز.
ضُربَ طويسٌ فِي الشراب فقيل لَهُ: كيْفَ كَانَ جَلَدك عَلَى وقع السياطِ؟ قال: بلغني أني كنتُ صَبُوراً.
كان للمتوكل مضحكان مخنثان يقالُ لأحدهما شعرةٌ وللآخر بعْرة. فقال أحدهما لصاحبه: مَا فعل فلا نٌ فِي حاجتِك؟ قال: مَا فتَّني ولا قَطعك ذُكِرت العراقُ لمخنّث مِنْ أهل الشَّام، فقال: لعَن الله العِراقَ، لا يُشربُ ماؤها أو يصْلب، ولا يشربُ نَبيذُها أو يضرَب.
قال الجماز: مات مخنّث يقال لَهُ نويفل فرآهُ إنسانٌ فِي النوم كأنه يقول لَهُ: أيش خَبرك يَا نُويْفل؟ فقال: لا تسألْ. فيقولُ لَهُ: إلى أين صِرتَ يَا نويْفل؟ قال: إلى النار. قال: ويْلك!! فمني ينيكَ فِي النَّار قال: ثمَّ يزيد بن معاوية لَيْسَ يُقصِّر فِي أمْرئ.
نظر مخنَّث إلى رجل دَميم الوَجْهِ فقال: وجهُك هَذَا نموذج جهنم. اخْرج إلى الدنيا.
قال عبادة لمكار: نِكني يَخْت أي يَخْتْ قال: وكيف ذَاكَ؟ قال: تُدْخِلُه يابسا فإما أنْ ينْدقَّ أيرك، وإما أن ينشَقَّ استي.
كان لمخنّث جاريةُ نفيسةٌ، فقالت لَهُ يوماً: ويْلك!! مَنْ أبْلاني بك؟ فقال: من أبْلاكِ بحَرك، سوًّد وجهَهُ وشقَّ وَسطه، وقطع لسانَه، وجعل إلى جانبه صُرَّةً لَهُ.
قال ابن قريعة كَانَ لبعض المخنثُين أير عظيم. فكان يقول: اشتهي من ينيكُني بأيري.
وقيل لمخنّث: لا تتنور؟ قال: إذا كثر الدغَل أخذ الناس طريق الجادة.
قال آخر: الأسْتُ مِسن الأير، والقُبلة بريد النَيك.
نَظَرَ مخنّثٌ إلى مسجد صغير لطيف، فقال لآخر: أما تريد هَذَا المسجد؟ مَا أملحَهُ، لا يصلح والله إلا أن يُحُمل فِي السَّفر.

نظر مخنَّث إلى رجل مِنْ ولدِ أبي موسى الأشعري يَمْشي وهُو يتبخْتر فقال: انظروا إلى مشيَةِ مَنْ خَدَعَ أباه عمرو ابن العاص.
أصاب رجلاً الحُصْر. فقيل لَهُ: احتقن. قال: لو كَانَ قَدْر حُمٌّصةٍ مَا قدرتُ عَلَيْهِ، فقال لَهُ مخنَّث كَانَ حاضِراً: لأنَّكَ ضيْعْتَ نفسَك فِي صغرك.
تقرى مخّنثٌ فأتَى جبل لُكام عَلَى أن يتعبَّد فِيهِ، فأخذ زادَه وصَعد، وسار عَلَى سهل، فنفدَ زادُه وجلس قَدْ أعيا فرفع رأسَه فإذا بينَه وبين الجبل مسافةٌ، وتطلَّع إلى أسْفلَ، فإذا هُوا قَدْ قطَع أكْثره، فنظر إلى الجبل وقال: واشماتتي بكَ فِي يوم أراك كالعِهْن المنْفُوش.
جلس قومٌ فِي مجْلس - ومعهُم مخنَّث - وقال رجلٌ منهم: أنا أشتهي كشكيةً حَامِضة وضرط. فقال المخنثُ: قطع الله ظهْرَ الكشْكيَّةِ، مَا أسْرعَ مَا تَنفُخُ البطنَ!! قال عبادة يوماً للمتوكل: قَدْ عُمِل بي البارحة كذا وكذا دفعةً. فقال لَهُ المتوكل: ويْحكَ!! أما أعْييتَ؟ قال: إنّما يعْيا البريد لا الطريق.
ضُربَ مَخنَّثٌ بالسِّياط فسَلَح. فقيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فقال: ويَلَكُم!! فما ذي أدَّخِرهُ إذاً؟ قال: إذَا أرادَ المخنَّثُ أنْ يعيبَ صاحِبهَ قال: لا - والله - بَلَى مَا أنْتَ بمَخنَّث ولا أنْتَ إلى رجلٌ جيِّدٌ.
كان عبادةُ يُسمي السراويلَ مقطرة الإست.
نَظرَ مُخَنَّثٌ إلى رجل يغْسِلُ اسْتَه، ويَسْتقصِي جداً. قال: عافات الله!! تُريدُ: يُشْربُ بِهَا سَويقٌ؟ كانَ بالمدينة مخنَّثٌ يُكنى أبا الخَزِّ، وَكَانَ مليحاً، فَدخَلَ عليْه لِصٌّ ليلةً، فجمعَ مَا وجَدَ فِي بيته، وأبُوا الخَزِّ ينْظُرُ إليه، لا يجْتريءُ عَلَى أن يُكلِّمهُ، فلما أراد اللص الخُروجَ قال لهُ: فدَيتُكَ. مَا اسمُكَ؟ قال: نافعٌ قال: نافعٌ واللهِ لغيْري.
تلَّبس مُخَنَّثٌ. واحتارَ، فقال لَهُ رجلٌ: إلى أيْنَ يَا خرَا؟ قال: إلى شَاربك.
قال المتوكلُ يوماً لجُلَسائِه: أتعلمونَ مَا أولُ مَا عتَب المسلمون عَلَى عثمانَ؟ فقال أحدُهم: نعم. يَا أميرَ المؤمنين، إنه لمَّا قُبض النبيُّ عَلَيْهِ السلام قام أبو بكر عَلَى المنبر دون مَقام النبي عَلَيْهِ السلام بمْرقَاة. ثُمَّ قام عمرُ دون مَقام أبي بكر بمرْقاة.
فلما وَلي عثمانُ صعد ذروة المنبر، فأنكر المسلمون ذَلِكَ عليه، وكانُوا أرادوا مِنْه أن ينزل عن مَقام عُمر بمَرقاة. فقال عبادةُ: يَا أمير المؤمنين. مَا أحدٌ أعْظمَ مِنةً عَلَيْكَ، ولا أسْبَغ معروفاً من عُثمانَ. قال: وكيفَ. ويْلك! قال: لأنه صعد ذِرْوة المنبر، فلو أنه كُلما قام خليفةٌ نزل عَنْ مقام من تقدَّمهُ مرقاة كنتَ أنت تخطبُ علينا من بَيْنَ جَلْوتي.
دخل مخنث ذات يوم نهراً ليغتسل، فجاء قوم من آل أبي مُعَيط. وجعلوا يرمُونَه، وعرَفهُم فقال: لا ترْموني فَلسْتُ بنبي.
نظر عبادة إلى زُنام الزامرِ يبكي عَلَى بِنْت لَهُ ماتتْ، فقال: قُطع ظَهْرك!! كأنك والله مطبخ يَكِف.
وقال عبادة: كلُّ شيء للرجالِ لَهُ معنى إلا اللُّحي، والخُصي.
وقال بعض المخَنَّثين: إِذَا كَانَ المغني بارداً فصاحبُ البيْتِ عليلُ القَفَا..
أخِذ مخنثٌ فِي شيء، وأحْضِرَ عند الوالي، فأمر بضَربْه، فصاح: يَا سيدي. كذَابُوا والله علي كما كَذبُوا عَلَى المُري. قال: وكيف كذبوا عَلَى المري؟ قال: هو منِ البُر؟ يقولون هو من الكامَخ. فضَحك الوالي، وخلاهُ.
وقيل لمخنَّث كَانَ يتجر: لَمْ لا تركبُ البحرَ فإنَّ فِيهِ الغني والتمولَ؟ قال: يَا غافلُ. أنا أعصيه منذُ أربعين سنة، أذهبُ فأضع يدي فِي يده؟ اجتاز مخنث بنائحةٍ جالسة عَلَى باب دار، فقال لَهَا، مَا جلوسُك ها هنا؟ قالت: خيرٌ. قال: لو كانَ خيْرا كنتُ أنا هاهُنا لا أنْت.
نظر مُخنَّث إلى رجُل مُقيد قَدْ أخرج للعَرْض، وهو ينظرُ إلى غُلام أمْردَ فقال: العصفور فِي الفَخِّ وقلُبه فِي سوقِ العلفِ.
قال سمسنة المخنثُ لرجل كَانَ يكتب كتاباً إلى معرفة السمسنة: أقرئه سَلامي فِي كِتابك. قال: قد فعلتُ. قال: فأرني اسمي الَّذِي يشبهُ الدابَّة الَّتِي تدخل الآذان.
ووصف مخنث الحرِ، فقال: كأنه أنُو شروان فِي صَدْر الإيوان، مَكورٌ كأنه سَنام ناقة صالح، موطأ كأنه أليةُ كبش إبراهيم، غليظ الشفتين، كأنه شفةُ بقرة بني إسرائيل.

لقى مخّنث آخر ليودِّعه، فقال: أحمدُ الله عَلَى بُعد سفَرِك، وانقطاع أثَرك، و شِدة ضَررِك فقال له: أنا أسْتودِعك العمى. والضَنى، وانقطاع الرزق من السما.
وقال مخنثٌ لآخر: أراني الله وَجْهك الساطور، وفِي عَيْنيْكَ الكافُور، وَفِي شقَّ استك الناسور.
وقال آخر: ضَحكُ الحرُ يومَ الخِتانِ ضحكُ النعجة بَيْنَ الذئاب، ضَحكُ الدُّب بَيْنَ الكِلابِ، ضَحِكُ الرأس عن الرآسي، ضحك البغاية إذا عزلْتها الدَّاية.
ومرَّ آخر بقاضٍ وهو يقولُ: إنَّ إسرافيل مُلتقِم الصُّور، ينْظُر متى يُؤمَرُ بالنَّفخ.
فقال: إنا لله، إنْ عَطَس افْتضحْنا.
قال عَلانُ شدْق - وَكَانَ قبيحاً جداً: مررتُ بمخنَّث يعْزلُ عَلَى حَائِط فقال لي: مِنْ أيْن أتيْت؟ قلتُ: مِن البَصْرَةِ. فقال. لا إله إلا اللهُ!! تغَّير كُلُّ شيء حَتَّى هَذَا!! كانتْ القُرودُ تُجلبُ مِن اليَمن. الآن تجيءُ من العِرَاق.
وحجّ مخنًّثٌ فرأى إنساناً قبيحاً يرمي بالجمار، فقال لَهُ المخنَّثُ: بأبي أنْت، لستُ أشِيرُ عَلَيْكَ أنْ تعودَ إلى هَذَا المكان. قال: ولمَ؟ ألستُ مسْلماً؟ قال: بلى، ولكن لا أرى لَكَ أن تبْخل عَلَى أهْل النار بهذا الوجْهِ.
نظرَ مخنّث إلى رجل قصِير عَلَى حِمار صَغير، فقال: هُما تؤْأمان.
وقال بعضُ المخنثين: كَانَ لي أسْتاذٌ مخّنث يقالُ لَهُ زائدةُ، فمات. فرأيتهُ فِي النَّوم فقلتُ لَهُ: مَا فعل اللهُ ربُّك بك؟ قال: أدْخلني النار.
قلت: فمَنْ توْرُك فِيهَا؟ قال: هيهات!! انقلبت المسألةُ أنا تور فرعون.
غمز عبادة رجُلاً فِي دْرب، ووقف لَهُ عَلَى باب دار، وجَعل الرجلُ يدفع فِيهِ، فأشْرفتْ عَلَيْهِ امرأة، وصاحتْ: اللصوص. فرفع عبادةُ رأسَه إليها، وقال لَهَا: يَا بظراءُ. النقْب فِي حائطي أوْ حائطك!! قيل لمخنث: مَا أقْبحَ استك!! قال: تراها لا تصْلُح للخرا!! ضرب عاملُ المدينة مخنثاً عشرَ درر، فضرط إحدى عشرة. فقال لَهُ ويلكَ!! ضربتكُ عشر، وتضرط إحْدى عشرة؟؟ قال لَه: ويْلكَ أصْلحك اللهُ، البدءُ كَانَ مني. فضحك، وخلاهُ.
قال بعضهم لمخنّث: لقد قمتُ إليك لأدخِلنَّك مِن حيثُ خرجْتَ، فنظر إلى نفْسه وَكَانَ عظيمَ الجثَّةِ ثُمَّ قال: يَا أخي. إنْ فعلتَ ذَاكَ إنَّك لرَفيق.
قيل لمخنّث: مَنْ تَرى يرغَبُ فيك مع قُبْحكَ؟ فقال: الحمارُ إذا جاع أكَل المِكْنَسَة.
نظَر رجلٌ إلى أير ابنهِ فِي الحمام - وهو كبيرٌ - فضربهُ، وقال: مَا طال أيركَ إلا مِنْ كثْرةِ مَا تُناك. فقال مخنثٌ كَانَ معَهُ فِي الحمَّام: لا تَفْعَلْ، فلو كانَ هَذَا حقاً لكانَ أيرى وَبظر أمِّه قَدْ بلَغَا مكةَ.
قال مخنثٌ لامرأة: لولا أنَّ الحق مُرٌّ لسألتك عن شيء. قالت: مَا يغْضَبُ من الحق إلا أحمقُ، فسلني يَا بنَ الفاجرةِ. فقال لَهَا: لَم صار فمك بالعرضِ وحركِ بالطولِ؟ قالت اسكت يَا بن الفَاجرة قال هَذَا مما كنا فِيهِ.
ناك رجلٌ مخّنثاً فِي بيْت فِيهِ تِبْنٌ، وَكَانَ أيره يزلِقُ من استِ المخنثِ ويتلوثُ بالتبن، ويرده الرجلُ. فقالَ المخنثُ، حَبيبي. هو ذا نيكُك أو تحْشوا مسورة؟؟؟ قيل لمخنث: كَمْ سِنُوك؟ قال: خمسٌ وتِسْعونَ. قيل: فَلِمَ لا تتزوجُ؟ قال: ليْس فِي رجال هَذَا الزمانِ خيرٌ.
قيل لآخر: مَا تحبُ من الثياب؟ قال: التكة قيل: فمن السلاح؟ قال العَمُود. قيل: فمن اللحم؟ قال العصيب قيل: فمن البُقُول؟ قال: القِثَّاء. قيل: فمن البَوارِد؟ قال: الهلْيون. قيل: فمن الفَاكهة؟ قال: الموزُ. قيل فمن الحَلواء؟ قال: الحلاقيم. قيل: فأي مَنازلِ مكة أفضلُ؟ قال: ذات عِرْق. قيل فمَنْ خير الصحابة؟ قال: الزبير. قيل: فما أُحْسنُ شيء فِي الإنسان؟ قال الأير.
قال رجل لمخنّث: صح لي بذلك المُجتاز. فقالَ: وَمَا اسمهُ؟ قال: هِلالٌ. فجعل يناديه: يَا رأسَ الشَّهر.
ضرب مخنثً يدَه إلى أير رجل، وجعل يشغلهُ بالكلام، ثُمَّ قال لهُ فِي كلامه: من بقي من أهل بيتك؟ فقال: هَذَا الَّذِي فِي يدك؟ تاب مخنّثٌ، فلما كانَ فِي بعض الأيام لَقيهُ مخنثٌ آخر، فقال لَهُ التائبُ: أما آن لَكَ أن تتوبَ؟؟ ويل مِنْ عَاصِم. قال: ومَنْ عاصمٌ؟ قال: خازنُ جهنم. قال: أخيي، لو تختثت خَمسين سنة أخرى كَانَ أصلح لَكَ من أنْ ترجَفَ بالملائكة. متى غزلوا مالك، وولوا عاصِمَ؟

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11