كتاب : نثر الدر
المؤلف : الآبي

وقال مرة: إن أخي يلقى الله منذ ثلاثين سنة بصحيفته مملوءةً خمراً، وهو لم يشرب منها جرعة؛ فقيل له: كيف ذلك؟ قال: هو منذ ثلاثين سنة يبكر كل يوم في طلب الخمر، فلا يجد إليها سبيلاً لفاقته، وعزمه صحيح على شربها لو وجدها.
قيل له: ما بال حمارك يتبلد إذا توجه نحو المنزل، وحمر الناس إلى منازلها أسرع؟ قال: لأنه يعرف سوء المنقلب.
دخل يوماً على قينة وهي تغني:
عادا قلبي من الطويلة عادا
وإنما هو عيد. فقال مزبد: وثمود، فإن الله لم يفرق بينهما.
وقيل له: أيولد لابن ثمانين؟ قال: نعم. إذا كان له جارٌ ابن ثلاثين.
واتهمه رجل بشيءٍ فاعتذر إليه، وقال: إن كنت فعلت هذا فمسخني الله كلباً أنهس عراقيب الملائكة في الموقف.
وقالت امرأة مزبد - وكانت حبلى، ونظرت إلى قبح وجهه - : الويل لي إن كان الذي في بطني يشبهك؛ فقال لها: الويل لي إن كان الذي في بطنك لا يشبهني.
لقي مزبد رجلاً، فقال له: من أنت؟ قال: قرشي والحمد لله؛ فقال مزبد: الحمد لله في هذا الموضع ريبة.
سمع مزبدٌ رجلاً يقول عن ابن عباسٍ: " من نوى حجةً وعاقه عائق كتبت له " . فقال مزبد: ما خرج العام كله كراءٌ أرخص من هذا.
وقيل له: ما ورثت أختك عن زوجها؟ فقال: أربعة أشهرٍ وعشرا.
أسلم نصراني، وفعل في الإسلام فعلاً قبيحاً؛ فقال مزبد: انظروا إلى هذا الذي أسخط المسيح، ولم يرض محمداً.
دفع مرةً إلى والي مكة، وقد أفطر في شهر رمضان؛ فقال له الوالي: يا عدو الله؛ تفطر في شهر رمضان قال: أنت أمرتني بذلك. قال: هذا شرٌّ، كيف أمرتك؟ ويلك. قال: حدثت عن ابن عباسٍ: أنه من صام يوم عرفة عدل صومه سنة، وقد صمته. فضحك الوالي وخلاه.
واعتل علةً، وأشرف منها إلى الهلاك، وأراد أن يوصي، فدعا بعض أوليائه، وأوصى إليه، وكتب كتاب وصيته، وأمر للوصي بشيءٍ؛ فلما فرغ من الكتابة رآه مزبدٌ وهو يترب الكتاب؛ فقال وهو على تلك الحال: نعم يا سيدي، فهو أقضى للحاجة.
ونظر إلى قومٍ مكتفين يذهب بهم إلى السجن؛ فقال: ما قصة هؤلاء؟ قالوا: خيرٌ. قال: إن كان خيراً فاكتفوني معهم.
وطلب من داره بعض جيرانه ملعقةً، فقال: ليت لنا ما نأكله بالأصابع.
وجلس يوماً يأكل السمك والجبن وقال: ومن أين يعلم السمك وهو ميتٌ أني أكلت الجبن؟ وخاصم مرة امرأته، وأراد أن يطلقها؛ فقالت له: اذكر طول الصحبة. قال: والله ما لك عندي ذنبٌ غيره.
وقال يوماً لامرأته: اتخذي لي قريصاً فقد اشتهيته. قالت: فأين حوائجه؟ قال: فلا حصر البرد لفقده حتى ننظر في باقي الحوائج.
وحضر مع محبوبٍ مجلساً فعربدوا عليهما، فقام محبوبٌ يقاتلهم، ويفتري عليهم؛ فقال مزبد: اسكت يا أخي، فإن القوم سكارى، يذهب شتمنا ضياعاً.
ومرت به امرأةٌ قبيحة؛ فقال: لعنها الله، كأن وجهها وجه إنسانٍ رأى شيئاً فزع منه.
وهبت بالمدينة ريحٌ صرصر، أنكرها الناس وفزعوا؛ فجعل مزبدٌ يدق أبواب جيرانه ويقول: لا تعجلوا بالتوبة؛ فإنما هي - وحياتكم - زوبعة، وسوف تنكشف الساعة.
ونام مرةً بالمسجد، فدخل رجلٌ فصلى، فلما فرغ قال: يا رب؛ أنا أصلي وهذا نائم.
فقال مزبد: يا ابن أم؛ سل ربك حاجتك. ولا تحرشه علينا.
وقالت له امرأته مرةً: قد تمزق خفي، ولا يتهيأ لي أن أخرج. قال لها: أيما أحب إليك؟ أن تشتري خفاً أو أني. . ك الليلة أربعة. قالت: هذا الخلق يتهيأ أن يدافع به الوقت.
وكانت ليلة الفطر مرةً، فعلا مزبد منارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نادى: ألا سمع سامعٌ، إنا قد شردنا رمضان، فمن آواه فقد برئت منه الذمة. فسمعه الوالي؛ فضربه مائة سوطٍ؛ فقال: ما أبالي ما كنت لأدع لذتها.

وكانت بالمدينة جاريةٌ، يقال لها: بصبص، مغنية، يجتمع الأشراف عند مولاها لسماع غنائها، فاجتمع عندها يوماً محمد بن عيسى الجعفري، وعبد الله بن مصعب الزبيري، في جماعة من أشراف المدينة، فتذاكروا أمر مزبد وبخله، فقالت بصبص: أنا آخذ لكم منه ردهماً. فقال لها مولاها: أنت حرةٌ إن لم أشتر لك مخنقةً بمائة دينار إن فعلت هذا، وأشتري له مع ذلك ثوب وشيٍ بمائة دينار، وأجعل لك مجلساً بالعقيق أنحر فيه بدنة لم تركب، ولم تقتب. فقالت: جيء به، وأرفع الغيرة عني. قال: أنت حرةٌ إن منعتك منه ولو رأيته قد رفع رجليك، ولا عاديته على ذلك ن حصلت منه الدرهم؛ فقال عبد الله بن مصعب: أنا لكم به زعيم.
قال عبد الله: فصليت الغداة في مسجد المدينة، فإذا أنا به قد أقبل؛ فقلت: أبا إسحاق؛ أما تحب أن ترى بصبص؟ فقال: بلى والله. امرأته طالق إن لم يكن الله ساخطاً على في أمرها فقد جفتني، وإلا فأنا أسأله منذ سنةٍ أن ألقاها فلا تجيبني.
فقلت: إذا صليت العصر فأتني هاهنا. فقال: امرأته طالق إن برح يومه من هاهنا إلى العصر.
قال: فتصرفت في حوائجي حتى فاتت العصر، فدخلت المسجد فوجدته؛ فأخذت بيده فأتيتهم به، وأكل القوم، وشربوا حتى صليت العتمة، ثم تساكروا وتناوموا.
فأقبلت بصبص على مزبد؛ فقالت له: يا أبا إسحاق؛ كأني - والله - في نفسك تشتهي أن أغنيك الساعة:
لقد رحلوا الجمال ليه ... ربوا منا فلم يئلوا.
قال لها: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ. فغنته إياه فقالت له: أي أبا إسحاق كأني بك تشتهي أن أقوم من مجلسي فأجلس إلى جنبك، فتدخل يدك في جلبابي، فتقرص عكني قرصاتٍ وأغنيك:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به
فقال لها: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام. وما تكسبه الأنفس غداً، وبأي أرضٍ تموت. قالت: نعم؛ فقام فجلس إلى جنبها وأدخل يده في جلبابها، وقرصها وغنت له.
ثم قالت: برح الخفاء. أنا أعلم أنك تشتهي أن تقبلني شوق التين، وأغنيك هزجاً:
أنا أبصرت بالليل ... غلاماً حسن الدل
كغصن البان قد أصب ... ح مسقياً من الطل
فقال: امرأته طالقٌ إن لك تكوني نبيةً مرسلةً فقبلها، وغنته.
ثم قالت: يا أبا إسحاق رأيت قط أنذل من هؤلاء؟ يدعونك، ويخرجوني إليك، ولا يشترون لنا ريحانا بدرهم، هلم درهماً نشتري به ريحاناً. فوثب وصاح: واحرباه أي زانية أخطأت استك الحفرة، انقطع والله عنك الوحي الذي كان يوحي إليك، ووثب من عندها وجلس ناحية. فعطعط بها القوم، وعلموا أن حيلتها لم تنفذ عليه، وعادوا لمجلسهم، وخرج مزبد من عندهم فلم يعد إليهم.
وقيل لمزبد: أيسرك أن يكون عندك قنينة شراب؟ فقال: يا بن أم؛ ومن يسره دخول النار بالمجان.
وضعت امرأته المنخل على فراشه، فجاء، فلما رآه تعلق بوتد كان في داره، فقالت امرأته: ما هذا؟ قال: وجدت المنخل في موضعي، فصرت في موضعه.
قالت امرأة مزبدٍ لجارةٍ لها: يا أختي؛ كيف صار الرجل يتزوج بأربعةٍ، ويملك من الإماء ما يشاء، والمرأة لا تتزوج إلا واحداً ولا تستبد بمملوكٍ؟ . قالت لها: يا حبيبتي؛ قومٌ الأنبياء منهم، والخلفاء منهم، والقضاة منهم، والشرط منهم، تحكموا فينا كما شاءوا، وحكموا لأنفسهم بما أرادوا.
قال مزبد: جاءني صديقٌ لي فقال: ألا تسأل فلاناً التاجر أن يقرضني مائة درهم؟ على رهن وثيق، فإني بضيق، منقطع بي، فقلت: إنه يفعل، فما الرهن؟ قال: اكتب له على نفسي بالقذف، وأشهد العدول، فإن وفيته حقه وقت المحل، وإلا استعدى علي، وأقام البينة بأني قذفته، حتى أحد حد القاذف. فقلت له: يا أخي؛ هذا رهنٌ تقل رغبة التجار فيه.
كان لمزبد غلام، وكان إذا بعثه في حاجةٍ جعل بينه وبينه علامة، أن يكون إذا رجع سأله فقال: حنطة أو شعير، فإذا كان عاد بالنحج قال: حنطة، وإن لم يقض الحاجة قال: شعير. فبعثه يوماً في حاجةٍ، فلما انصرف قال: حنطةٌ أم شعير؟ قال: خرا. قال: ويلك وكيف ذلك؟ قال: لأنهم لم يقضوا الحاجة، وضربوني وشتموك.
صلى مزبد ذات يوم في منزله، وجعل يدعو في دبر صلاته، وسمعته امرأته. فقال: اللهم أصليني. فقالت: أما هذا يا رب فلا تشركني فيه. فقال: يا فاعلة، " تلك إذاً قسمةٌ ضيزى " .
وسمع رجلاً يقول لآخر: إذا استقبلك الكلب في الليل فاقرأ:

" يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطانٍ " فقال مزبد: الوجه عندي أن يكون معك عصاً أو حجر، فليس كل كلبٍ يحفظ القرآن.
ووقع بينه وبين امرأته خصومةٌ، فحلف: لا يجتمع رأسي ورأسك على مخدة سنةً؛ فلما طال ذلك عليه قال: نقتنع باجتماع الأرجل إلى وقت حلول الأجل.
وغضب عليه بعض الولاة وأمر بحلق لحيته؛ فقال له الحجام: انفخ فمك حتى أحلق. قال: يا بن الفاعلة؛ أمرك أن تحلق لحيتي أو تعلمني الزمر؟ .
واشتهت امرأته فالو ذجاً، فقال: ما أيسر ما طلبت عندنا من آلته أربعة أشياء، وبقي شيئان تحتالين فيهما أنت. قال: وما الذي عندنا؟ قال: الطنجير والإسطام والنار والماء. وبقي: الدهن والعسل؛ وهما عليك.
وسئل يوماً عن عدد أولاده، فقال: عهد الله في رقبته إن لم تكن امرأته تلد أكثر مما يني..ها.
قال يوماً: قد عزمت في هذه السنة على الحج، وأصلحت أكثر ما أحتاج إليه، قالوا: وما الذي أصلحت؟ قال: تحفظت التلبية.
وقيل له: كيف حبك لأبي بكر وعمر؟ قال: ما ترك الطعام في قلبي حباً لأحد.
ودخل على بعض العلوية؛ فجعل يعبث به ويؤذيه، فتنفس مزبد الصعداء وقال: صلوات الله على المسيح، أصحابه منه في راحة. لم يخلف عليهم ولداً يؤذيهم.
وجاء غريمٌ له يوماً يطالبه بحقٍ له؛ فقال له: ليس لك اليوم عندي شيء، وحشره الله كلباً عقوراً ينهش عراقيب الناس في الموقف، ولو علقنه من الشريا بزغبة قثاءةٍ ما أعطيتك اليوم شيئاً.
باع جاريةً على أنها طباخةٌ، ولم تحس شيئاً فردت، فلم يقبلها، وقدم إلى القاضي، وطولب بأن يحلف أنه ملكها وكانت تطبخ وتحسن فاندفع وحلف بيمينٍ غليظةٍ أنه دفع إليها جرادةً فطبخت منها خمسة ألوانٍ وفصلت منها شريحتين بالقديد سوى الجنب، فإنها شوته. فضحك من حضر، وأيس خصومه من الوصول منه إلى شيءٍ فخلوه.
وقالت له امرأته في خصومة بينهما: يا مفلس، يا قرنان. قال: إن صدقت فواحدةٌ من الله والأخرى منك.
وقيل له: كم كانت سنك أيام قتل عثمان؟ فقال: كنت أول ما قاذفت.
جمع مزبد بين رجل وعشيقته في منزله، فعابثها ساعة، ثم أراد أن يمد يده إليها، فقالت: ليس هذا موضعه، وسمع مزبدٌ قولها فقال: يا زانية، فأين موضعه؟ بين الركن والمقام؟ أم بين القبر والمنبر؟ والله ما بنيت هذه الدار إلا للقحاب والقوادات، ولأدفع ثمن خشبها إلا من القمار، فأي موضع للزنى أحق منها؟ .
وشكا إليه رجل سوء خلق امرأته؛ فقال له مزبد: بخرها بمثلثة. يريد: الطلاق.
وقيل له: صوم يوم عرفة يعدل صوم سنة. فصام إلى الظهر ثم أفطر فقال: يكفيني صوم نصف سنةٍ فيه شهر رمضان.
قيل لمزبد وقد عضه كلب: إن أردت أن يسكن فأطعم الكلب الشريد، فقال: إذاً لا يبقى في الدنيا كلبٌ إلا جاءني وعضني.
وقيل له: إن النبي عليه السلام قال: " إذا رأيت شخصاً بالليل فكن بالإقدام عليه أولى منه عليك " قال: أخاف أن يكون قد سمع هذا الحديث فأقع فيما أكره.
كان مزبدٌ الغاضري في حبس محمد بن عبد الله - رضي الله عنه - حين ظهر بالمدينة؛ فلما أمسى في الليلة التي قتل محمدٌ في صبيحتها وجعل يقول: معنا علم الغيب. قيل: وكيف ذاك؟ قال: ما في الدنيا قومٌ يعرفون آجالهم غيرنا، إذا أصبحنا جاءت.
وقيل له: قد بيض الناس جميعاً في سائر الآفاق. فقال: وما ينفعنا من ذلك؟ وهذا عيسى بن موسى بعقوبنا، اعملوا على أن الدنيا كلها زبدة. قال: فبهذا سمي مزبداً.
كان لامرأة مزبد صديقٌ فضربها وشجها، ودخل مزبد فرآها على تلك الحال؛ فقال لها: مالك ويلك؟ قالت: سقطت من الدرجة، فقال لها مزبد: أنت طالقٌ، إنك لو سقطت من بنات نعش ما أصابك هذا كله.
زفت إلى مزبد امرأةٌ قبيحة، فجاءت إليه الماشطة، فقالت: بأي شيءٍ تصبحها؟ قال: بالطلاق.
دفع مزبد إلى والي المدينة ومعه زق، فأمر بضربه، فقال: لم تضربني؟ قال: لأن معك آلة الخمر. قال: وأنت - أعزك الله - معك آلة الزنى.
وجلس مرة على الطريق يبول وهو سكران، وعليه طيلسان خلق، فمر به رجلٌ فأخذ طيلسانه؛ فالتفت إليه مزبد وقال: يا بني، صرف عنك السوء.
قال مزبد لرجل: كم تعلف حمارك؟ قال: نخرةً بالغداة، ونخرة بالعشى؛ فقال: اتق الله لا تحمر عليك.

دفع مزبد في ذنبٍ إلى الوالي؛ فضربه خمسةً وسبعين سوطاً، ثم ظهر له براءة ساحته، فأحضره واستحله، فقال مزبد: لا، ولكن تقاصني بها كلما أذنبت ذنباً، فكان يسحب له كل مرة إذا أذنب بعشرةٍ ومثلها إلى أن نفدت وفضل عليه شيء.
وقال مزبدٌ يوماً: مجالسة العضاة الحمر التي لا ورق لها خيرٌ من مجالسة الناس اليوم. لم يبق إلا ظروفٌ قد عصرت أرواحهم فأخرجت، وليس في أجسادهم أرواح، أطوف نهاري أجمع ما أرى إلا ظرفا. فقال له إنسان: قد بقيت في الناس بقيةٌ. فقال مزبد: تلك البقية مثلث البلح ثلاثة في ثفروقٍ.

الباب الثامن
نوادر أبي الحارث جمين
قيل له: ما تقول في فالوذجة؟ قال: والله لو أن موسى لقي فرعون بفالوذجةٍ لآمن، ولكنه لقيه بعصا.
وقيل له يوماً: ما تشتهي؟ فقال: نشيش مقلاةٍ بين غليان قدرٍ على رائحة شواءٍ.
وكان لا يأكل الباذنجان، فكايده محمد بن يحيى واتخذ ألوانه كلها باذنجان، فجعل كلما قدم لون فرابه الباذنجان فيه توقاه، وأقبل على الخبز والملح؛ فلما عطش قال: يا غلام، اسقني ماءً ليس فيه باذنجان.
وكتب يوماً إلى صديق له: أوصيك بتقوى الله، إلا أن ترى غير ذلك خيراً منه.
وقيل له: سبقت ببرذونك هذا قط؟ قال: بلى، مرة، دخلنا زقاقاً لا منفذ له وكنت آخر القوم؛ فلما رجعنا كنت أول الموكب.
ودخل جماعة من إخوانه، فاشتهوا عليه لوناً يطبخه لهم، فدنا أحدهم من القدر ليذوقها، وأخرج قطعة لحم وأكلها، وفعل كل واحد منهم كذلك؛ فقال أحدهم: هي طيبةٌ لكنها تحتاج إلى شيءٍ لا أدري ما هو؟ فقال أبو الحارث: أنا أعلم، هو ذا تحتاج إلى اللحم.
وحكى دعبلٌ قال: بلغني أن أبا الحارث قد فلج، فاغتممت لظرفه وملاحته، فصرت إليه فوجدته في عافية؛ فحمدت الله وسألته عن خبره؟ فقال: دخلت الحمام وأكلت السمك، ودعوت المزين فأخذ شعرى، فظن الفالج لما رأى المزين عندي أني احتجمت؛ فلما علم أنه أخذ من شعري تركني وانصرف.
ونظر يوماً إلى برذون يستقى عليه، فقال:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه
لو أن هذا هملج ما كان هذا.
وأكل يوماً مع الرؤساء بيضاً مسلوقاً، فجعل يأكل الصفرة، وينحى البياض إلى بين يدي أبي الحارث عبثاً به؛ فقال لما طال ذلك عليه - وتنفس الصعداء - : سقى الله روح العجة فما أعدلها.
ودخل إلى بعض أصدقائه يوماً، فقال له: ما تشتهي؟ قال: أما اليوم فماء حصرم، وأما غداً فهريسة.
قال بعضهم: دخلت على جمين أعوده من مرضٍ به، فقلت له: ما تشتهي؟ فقال: أعين الرقباء، وألسن الوشاة، وأكباد الحساد.
مر رجلٌ به فسلم عليه بسوطه، فلم يرد عليه؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: سلم علي بالإيماء، فرددت عليه بالضمير.
وسأله يحيى بن خالد عن مائدة ابنه؛ فقال: أما مائدته فمن نصف كسرة، وأما صحافه فمنقورةٌ من قشور حب الخشخاش، وما بين الرغيف والرغيف مد البصر، وما بين اللون واللون فترة ما بين نبي ونبي. قال: فمن يحضرها: قال: خلقٌ كثيرٌ من الكرام الكاتبين. قال: فيأكل معه أحد؟ قال: نعم، الذبان. قال: سوءة له هذا، فشوبك مخرق وأنت بفنائه يطور، فلو رقعت قميصك. قال: ما أقدر على إبرة، قال: هو يعطيك، قال: والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً في كل إبرةٍ خيطٌ، ثم جاء جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يسألونه إبرة يخيط بها يوسف قميصه الذي قد من دبرٍ ما أعطاهم.
وجاء إليه رجل يسأله شيئاً، وقال: قد قطع علي الطريق. قال: فعلي إذا قطع الطريق.

ولقيه رجلٌ - وقد تعلق به غلام - فقال: يا أبا الحارث؛ من هذا؟ قال: هذا غلام الفضل بن يحيى، كنت عند مولى هذا أمس، فقدم إلينا مائدةً عليها رغيفان عملا من نصف خشخاشة سوى ما ذهب عند النحت، وثريدة في سكرجةٍ، وخبيصة في مسعط، فتنفست الصعداء فدخل الخوان وما عليه في أنفي، فمولاه يطالبني بالقيمة. قال الرجل: استغفر الله مما تقول، فأومأ إلى غلامٍ معه وقال: غلامي هذا حرٌ إن لم يكن لو أن عصفوراً وقع على بعض قشور ذلك الخشخاش الذي عمل منه ذلك، لما رضي مولى هذا حتى يؤتى بذلك العصفور مشوياً بين رغيفين، والرغيفان من عند العصفور. ثم قال: وعلي المشي إلى بيت الله الحرام، إذا عطشت بالقرعاء رجعت إلى دجلت العوراء حتى أشرب منها ماءً، لو أن مولى هذا كلف في يوم قائظٍ شديد الحر أن يصعد على سلم من زبد، حتى يلتقط كواكب بنات نعشٍ كوكباً كوكباً؛ لكان ذلك أسهل عليه من أن يشم شام تلك الثريدة، أو يذوق ذائقٌ تلك الخبيصة.
فقال الرجل: عليك لعنة الله، وعلي إن سمعت منك شيئاً بعد هذا.
وقيل له وهو على نبيذ: كل من هذا الطين السيراني فإنه نظيف؛ فقال: ومتى بلغك أن في بطني وكفاً.
وقيل له: ما تغديت عند فلان؟ قال: لا، ولكني مررت ببابه وهو يتغدى. قيل: وكيف علمت ذلك؟ قال: رأيت غلمانه ببابه، بأيديهم قسي البنادق يرمون الطير في الهواء.
وقال له الرشيد: لم لا تدخل إلى محمد بن يحيى؟ فقال: أدخل والله يا أمير المؤمنين، وأما أكسى من الكعبة، وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود. قيل لأبي الحارث: ما تقول في جواذب بطٍ في يوم صائف؟ . قال: نعم، في يوم من أيام تموز في حمام حار بمنى.
قيل لجمين - وقد رأى سوداء قبيحة - : ابتلاك الله بحبها قال: يا بغيض لو ابتلاني بحبها كانت عندي من الحور العين، ولكن ابتلاك الله بأن تكون في بيتك وأنت تبغضها.
وقال له الرشيد: اللوزينج أم الفالوذج؟ قال: أحضرهما يا أمير المؤمنين، فأحضرا، فجعل يأكل من هذا وهذا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، كلما أردت أن أشهد لأحدهما غمزني الآخر بحاجبه.
قال بصري لجمين: يأتينا المد والجزر في كل يوم مرتين. قال: يستأذن الله في هلاككم مرتين، وكأن قد.
ورأوا عليه جبةً قد تخرقت، فقيل له: ما هذا؟ قال: غنت بقول الشاعر:
لقا فؤادي، لقد بلى جزعاً ... قطعه البين والهوى قطعا
ثم قيل له بعد ذلك: كيف تغني جبتك؟ فقال: قد كانت تغنى، وقد صارت تلطم في مأتم.
ودعته امرأةٌ كان يحبها، فجعلت تحادثه ولا تذكر الطعام، فلما طال ذلك به قال: جعلني الله فداءك، لا أسمع للغداء ذكراً. قالت له: أما تستحي أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ قال: جعلني الله فداءك، لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعةً لا يأكلان شيئاً لبزق كل منهما في وجه صاحبه.

الباب التاسع
نوادر الجماز
قال الجماز لأبي شراعة: كيف تجدك؟ قال: أجدني وقيذاً من دماميل قد ظهرت في أقبح المواضع. قال: ما أرى في وجهك منها شيئاً.
قال بعض إخوان الجماز - وقد دخل إليه وهو يطبخ قدراً - : لا إله إلا الله ما أعجب الرزق فقال الجماز: أعجب منه الحرمان. امرأته طالق إن ذقتها.
وقال له السهري: ولد لي البارحة ابنٌ كأنه الدينار المنقوش. فقال الجماز: لا عن أمه.
صلى رجلٌ صلاةً خفيفة؛ فقال له الجماز: لو رآك العجاج لسر بك. قال: ولم؟ قال: لأن صلاتك رجز.
وتغدى عند إنسان هاشمي ومر الغلام بصحفةٍ؛ فقطر منها شيءٌ على ثوب الجماز، فقال الهاشمي: يا غلام؛ اغسل ثوبه. فقال الجماز: دعه، فمرقتكم لا تدسم الثوب.
وسمع محبوساً يقول: اللهم احفظني؛ فقال: قل اللهم ضيعني حتى تنفلت.
وقالت له امرأته في يوم غائمٍ: ما يطيب في هذا اليوم؟ فقال: الطلاق.
أدخل يوماً غلاقاً إلى منزله، فلما دخل ادعى أنه هو فعل بالجماز، فبلغه ذلك؛ فقال: قد حرم اللواط إلا بولي وشاهدين.
ودخل مع صاحبٍ له إلى قثمٍ بن جعفر؛ فتغديا عنده وتحدثا، وأراد قثم أن يقيل، فدعا غلاماً رومياً وضيئاً فقال: قف هاهنا، فقال الجماز لصاحبه: قم بنا نعرج. قال: إلى أين؟ قال: إلى السماء، فقد نزلت ملائكة الليل.

رأى رجلٌ من ولد عبيد الله بن زياد كأن النبي وعلياً وفاطمة - عليهم السلام - في داره، فصام وتصدق تبركاً برؤياه، وقصها والجماز حاضر؛ فقال: أتدري لم جاءوك؟ قال: لا. قال: جاءوك ليشكروك على فعل أبيك بابنهم، فانخذل الرجل وود أنه لم يذكر من ذلك شيئاً.
وذكر يوماً رجلاً قام من عنده؛ فقال: كأن قيامه من عندنا سقوط جمرةٍ من الشتاء.
وقيل له: ما بقى من شهوتك للنساء؟ فقال: القيادة عليهن.
قال الجماز: رأيت عجوزاً تسأل وتقول: من تصدق علينا بكسرةٍ أطعمه الله من طيبات باب الطاق.
وقال: قلت لرجلٍ: قد زاد سعر الدقيق؛ فقال: أنا لا أبالي لأني أشتري الخبز.
قال: قلت لرجلٍ رمد العين: بأي شيءٍ تداوي عينيك؟ فقال: بالقرآن ودعاء الوالدة. قلت: اجعل معهما شيئاً يقال له: العنزروت.
قال: رأيت بالكوفة رجلاً وقف على بقال فأخرج إليه رغيفاً صحيحاً؛ فقال: أعطني كسراً، وبصرفه جزرا.
وقال: حرم النبيذ على ثلاثة عشر نفساً: على من غنى الخطأ، واتكأ على اليمنى، وأكثر أكل النقل، وكسر الزجاج، وسرق الريحان، وبل ما بين يديه، وطلب العشاء، وقطع البم، وحبس أول قدح، وأكثر الحديث، وامتخط في منديل الشراب، وبات في موضع لا يحتمل المبيت.
طالب الجماز امرأته بالجماع، فقالت: أنا حائض، وتحركت فضرطت؛ فقال لها: قد حرمتنا خير حرك، فاكفينا شر استك.
قال ابن عمار: تذاكرنا ضيق المنازل، فقال الجماز: كنا على نبيذٍ لنا، فكان أحدنا إذا دخل الكنيف، وجاء القدح، مديده إلى الساقي فناوله إياه. .
قال الجماز: مررت بنجادٍ - في قنطرة البردان طويل اللحية - وامرأته تطالبه بشيء لها عنده وهو يقول: رحمك الله. متاعك جافٌ ويحتاج إلى حشوٍ كثير، وأنت من العجلة تمشين على أربع.
أملى خالد بن الحارث أحاديث حميد عن أنس، فكانت نسخته فيها سقط. وكان الجماز يستملي عليه، فقال خالد: حدثنا حميدٌ عن أنس، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم. هكذا في نسختي، وهو رسول الله إن شاء الله. فقال الجماز: حدثكم حميد بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشك أبو عثمان في الله، فقال خالد: كذبت يا عدو الله، ما شككت في الله، وتضاحك أهل المجلس، وأصلحت النسخة.
وكان يأكل عند سعيد بن سلم على مائدةٍ دون مائدته، فإذا رفع من مائدة سعيدٍ شيء وضع على المائدة التي عليها الجماز؛ فالتفت الجماز؛ فقال: يا أبا عمرو، وهذه عصبةٌ لتلك، كما يقال: وما بقى فللعصبة.
وقال له المتوكل: أي شيء أهديت لي يوم العيد؟ قال: حلقة رأسي.
وأدخل يوماً غلاماً، فلما بطحه فسا فسوةً منكرة، فقال الجماز: ويلك هوذا، تذري من قبل أن ندرس.
ودخل عليه ثقيلٌ يعوده من مرضه؛ فلما نهض قال للجماز: تأمر بشيءٍ. قال: نعم بترك العودة.
وقال لرجل: ما أخرك عنا؟ ؛ فقال: أصابتني خلفة؛ فقال الجماز: ما أبين الخلفة في وجهك.
شهى جعفر بن سليمان أصحابه؛ فتشهى كل إنسان منهم جنساً من الطعام؛ فقال للجماز: فأنت ما تشتهي؟ قال: أن يصح ما اشتهوا.
وسأل يوماً غلاماً، وأدخله مسجداً؛ فلما فرغ منه أقبل المؤذن، فقام الجماز، وخرى في المحراب؛ فقال المؤذن: يا عدو الله، أعلم على أنك فجرت بالغلام في المسجد؛ لأنه ليس لك بيت. ما حجتك في أن قذرت بالمحراب؟ قال: علمت أنه يشهد علي يوم القيامة، فأحببت أن أجعله خصمي لئلا تقبل شهادته علي.
ودفع إلى القصار قميصاً ليغسله، فضيقه، ورد عليه قميصاً صغيراً؛ فقال: ليس هذا قميصي، قال: بلى هو قميصك ولكنه توزى وفي كل غسلةٍ يتقلص ويقصر؛ فقال الجماز: فأحب أن تعرفني في كم غسلةٍ يصير القميص زراً؟ .
وقيل له: لم تقصر شعرك؟ قال: أليس قليل ما أجئ به كثيراً في جنب ما يعطونني.
وحضر دعوة بعض الناس فجعل رب البيت يدخل ويخرج ويقول: عندنا سكباجةٌ تطير طيراناً، عندنا قليةٌ تطير في السماء، فلما طال ذلك على الجماز وجاع قال: يا سيدي، أحب أن تخرج لي رغيفاً مقصوص الجناح إلى أن تقع ألوانك الطيارات.
ونظر إلى غلام؛ فقال: هذا كان من المطففين. قيل: وكيف ذاك؟ . قال: كان إذا ناكه الواحد، وكان وقت الفراغ، فرج بين فخذيه.
ووجد مع غلام في موضع خالٍ، وقد حلا سراويلهما، فقيل له: ما تصنع؟ ، قال: نتخاير بالتكك.

قال الجماز: اجتزت ببابٍ وصاحب الدار يقاتل امرأته ويقول: لأحملن عليك اليوم مائة رجل، فجلس شيخ كان خلفي على الباب ينتظر؛ فلما طال دق الباب وقال: تريد أن تحمل على هذه القحبة أو انصرف.
رأى رجلٌ الهلال فاستحسنه؛ فقال له الجماز: وما تستحسن منه؟ فو الله إن فيه لخصالاً لو كانت إحداهن في الحمار لرد بها؛ قال: وما هي؟ قال: إنه يدخل الروازن، ويمنع من الدبيب، ويدل على اللصوص، ويسخن من الماء، ويخرق الكتان، ويورث الزكام، ويحل الدين، ويزهم اللحم.
كان المتوكل يحدث عن الجماز؛ فكتب في حمله، فلما دخل عليه لم يقع الموقع الذي ظنه؛ فقال المتوكل: تكلم فإني أريد أن أستبرئك. فقال الجماز: بحيضةٍ أو بحيضتين؛ فضحكت الجماعة.
وقال له الفتح: قد كلت أمير المؤمنين فيك حتى ولاك جزيرة القرود، فقال له الجماز: أفلست في السمع والطاعة أصلحك الله؟ ، فحصر الفتح وسكت.
فقال له بعض من حضر: إن أمير المؤمنين يريد أن يهب لك جاريةً. فقال: ليس مثلي من غرم نفسه، ولا كذب عند أمير المؤمنين. إن أرادتني أن أقود عليها، وإلا فمالها عندي شيء؛ فأمر له المتوكل بعشرة آلاف درهم، وأخذها وانحدر؛ فمات فرحاً.
و قال له بعض ولد المتوكل في هذا المجلس: يا شيخ، ألا تستحي مما تقول؟. قال: لا. قال ولم؟ . قال: حتى أرى من يستحيا منه.
رئي الجماز ين..ك غلاماً خلف الدرب من قيامٍ؛ فقيل له: إيش تعمل؟ . قال: هو ذا أبصر أنا أطول أم هو.

الباب العاشر
نوادر المجانين
قال مجنونٌ - ولقى الناس منصرفين من الجمعة - : أيها الناس: " إني رسول الله إليكم جميعاً " . فقال له مجنونٌ آخر: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " .
وكان بهلول من مجانين الكوفة، وكان يتشيع؛ فقال له إسحاق ابن الصباح: أكثر الله في الشيعة مثلك. قال: بل أكثر الله في المرجئة مثلي، وأكثر في الشيعة مثلك.
ومر موسى بن أبي الروقاء، فناداه صباحٌ الموسوس: يا بن أبي الروقاء أسمنت برذونك، وهزلت دينك، أما والله إن أمامك لعقبةً لا يجوزها إلا المخف فحبس موسى برذونه؛ فقيل له: هذا صباحٌ الموسوس.قال: ما هو بموسوس؟ .
قال ثمامة: قال لي مجنون مرةً: يا ثمامة، تزعم أنت أن الاستطاعة إليك؟ قلت: نعم. قال: فإن كنت صادقاً فاخر ولا تبل.
وقف رجلٌ على بهلول؛ فقال له: تعرفني؟ ؛ فقال بهلول: إي والله، وأنسبك نسبة الكمأة، لا أصلٌ ثابتٌ، ولا فرعٌ نابت.
ودعا الرشيد بهلولاً ليضحك منه؛ فلما دخل دعا له بمائدةٍ فقدم عليها خبزٌ وحده، فولى بهلولٌ هارباً؛فقال له: إلى أين؟ .قال: أجيئكم يوم الأضحى، فعسى أن يكون عندكم لحمٌ.
أخرج بلال بن أبي بردة من حبسه مجنوناً يمازحه، فقال له: أتدري لم أخرجتك؟ قال: لا. قال: لأسخر منك. قال: إن المسلمين حكموا حكمين فسخر أحدهما على بالآخر.
قال المبرد: دخلت يوماً دير هزقل، فرأيت في صحن الدار مجنوناً، فدلعت لساني في وجهه، فنظر إلى السماء، وقال: الحمد والشكر من حلوا ومن ربطوا.
قال بعضهم: رأيت بحمصٍ مجنوناً يقول: يا قوم، من يتعلم: لا أدري؟ يا هذا، تعلم: لا أدري؛ فإنك إذا قلت: لا أدري علموك حتى تدري وإذا قلت: أدري سألوك حتى لا تدري.
رمى بهلولٌ رجلاً فشجه؛ فقدم إلى الوالي، فقال له: لم رميت هذا؟ . قال: ما رميته ولكنه دخل تحت رميتي.
وقال بهلولٌ يوماً: أنا والله أشتهي من فالوذج ومن سرقين، فقالوا: والله لنبصرته كيف يأكل، فاشتروا له الفالوذج، وأحضروا السرقين؛ فأقبل على الفالوذج واكتسحه، وترك السرقين، فقالوا له: لم تركت هذا؟ . قال: أقول لكم، أما - والله - يقع لي أنه مسمومٌ، من شاء منكم يأكل ربع رطلٍ حتى آكل أنا الباقي.
وجاء مجنونٌ فوقف عند شجرة ملساء، فقال: من يعطيني نصف درهم حتى أصعد؟ فعجب الناس وأعطوه، فأحرزه، ثم قال: هاتوا سلما. قالوا: ما كان السلم في الشرط. قال: وكان بلا سلم في الشرط؟ .
ووقف بهلول على رجل، وقال: خبرني عن قول الشاعر:
وإذا نبا بك منزلٌ فتحول
كيف هو عندك؟ . قال: جيدٌ. قال: فإن كنت في الحبس فكيف تتحول؟ . قال: فانقطع الرجل، فقال بهلول: الصواب قول غيره:
إذا كنت في دارٍ يسوءك أهلها ... ولم تك مكبولا بها فتحول

أصيب إسحاق بن محمد بن الصباح الكندي بابنٍ له، فجزع؛ فدخل أهل الكوفة يعزونه، ودخل فيهم بهلول؛ فقال: أيسرك أنه بقى وأنه مثلي؟ . قال: لا والله، وإنها لتعزية.
قال بعضهم: جاءنا جعيفران في سوق أصحاب اللؤلؤ، فوهب له إنسانٌ حبةً من الحب الصغار؛ فقال له رجل: أتبيعها بطسوج؟ ، فقال: إن كان بطسوج بادرونا فنعم.
هرب مجنون من الصبيان، ودخل دهليزا، وأغلق الباب في وجوههم وجلس؛ فخرج إليه صاحب الدار، فقال: لم دخلت داري؟ . قال: من أيدي هؤلاء أولاد الزنى. فدخل صاحب الدار، وأخرج طبقاً عليه رطب كثير، فجلس المجنون يأكل، والصبيان يصيحون على الباب؛ فأخرج المجنون رأسه إلى صاحب الدار، فقال: بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
قيل لمجنون كان بالبصرة: عدلنا مجانين البصرة. قال: كلفتموني شططا، أنا على عد عقلائهم أقدر.
كان ببغداد مجنونٌ يلبس فروةً مقلوبة، فإذا قيل له في ذلك قال: لو علم الله أن الصوف إلى داخلٍ أجود عمل الصوف إلى داخل.
قال الفزاري: رأيت مجنوناً يسوى رأس سكران، ويقول له: يؤيؤ، والله لا أفلحت أبداً.
قيل لمجنون: أين المولد؟ . قال: المولد البصرة، والمنشأدير هزقل.
شد مجنونٌ على رجل بالبصرة، فأخذه الرجل فضربه. فقال الناس: إنه مجنون، وجعل المجنون من تحته: ويحكم أفهموه.
قيل لمجنون: أيسرك أن تصلب في صلاح هذه الأمة؟ . قال: لا، ولكن يسرني أن تصلب الأمة في صلاحي.
قال داود المصاب لصديق له: رأيت البارحة رؤيا نصفها حق، ونصفها باطل، رأيت كأني قد حملت على عاتقي بدرة، فمن ثقلها خريت فانتبهت فرأيت الخرا، ولم أر البدرة.
سمع مجنونٌ رجلاً يقول: اللهم لا تأخذنا على غفلة. فقال: إذاً لا يأخذك أبداً.
قال بعضهم: كان بالشام مجنونٌ يستطرف حديثه، قال: رأيته يوماً وقد رفع رأسه إلى السماء وهو يقول: الناس كذا يعملون، وهذيانٌ كثير. قيل له: ما تقول؟ ويحك. قال: أعاتب ربي. قيل: فكذا يخاطب الله. قال: قلت له: بدل ما خلقت مائةً وجوعتهم لو كنت تخلق عشرةً وتشبعهم لكان خيراً.
جاء مجنونٌ إلى يزيد بن هارون، فقال له: يا أبا خالد؛ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لولا أن الكلاب أمةٌ من الأمم لأمرت بقتلها، ولكن اقتلوا منها كل أسود بهيم " . قال يزيد: نعم. فقال المجنون: أليس قد قال الله تعالى: " وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ " . فمن نذير الكلاب؟ قال: فتحير يزيد في جوابه. فقال له المجنون: تحب يا أبا خالد أن أعرفك نذير الكلاب؟ قال: نعم، فأخذ حجراً فرمى به كلباً بالقرب منه؛ فعدا الكلب يعوي وينبح؛ فقال: يا أبا خالد؛ الحجر نذير الكلاب.
سأل بعض الولاة عن أبي نصر الهروي ليعبر له رؤيا رآها، فقيل له: هو بمرو يأوي الصحراء؛ فبعث إليه، فأتي به؛ فقال: إني رأيت كأن في كمي عصافير؛ فجعلت تفلت واحدةً واحدة، وتطير؛ فلما كان آخر عصفورةٍ كادت تفلت، فحبستها.
قال المجنون: أكلت عدسية، فبت تضرط ليلتك؛ فلما كان آخرها أردت أن تسلح فحبسته. فقال الوالي: اسكت قبحك الله. قال: هو والله ما قلت. فلما خرج قال الرجل: والله ما أخطأ شيئاً.
رثي بهلول مغموماً يبكي؛ فقيل: ما يبكيك؟ . قال: كيف لا أبكي؟ وقد جاء الشتاء وليس لي جبة. فقيل: لا تبك؛ فإن الله لا يدعك بلا جبة. قال: بلى والله. عام أولٍ تركني بلا جبة ولا سراويل، وأخاف أن يدعني العام بلا جبة ولا سراويل ولا قلنسوة.
قال بعضهم: مررت يوماً ببهلول، وهو يأكل فرنية حواري مع دجاجة، فقلت له: يا بهلول؛ أطعمني مما تأكل، فقال: ليس هذا لي - وحياتك - هذا دفعته إلي أم جعفرٍ آكله لها.
نظر رجلٌ إلى جماعةٍ من المجان حول مجنون، فقال له: ادخل إلى بعض المواضع حتى يتفرقوا عنك. قال: إذا جاعوا انصرفوا.
قيل لبهلول: تأخذ درهماً وتشتم فاطمة؟ . قال: لا، ولكن هاتوا نصف درهمٍ حتى أشتم عائشة، وأزيدكم أباها.
كان الجهجاه مجنوناً، وكان يدعي الخلافة، فأدخل على الرشيد، وعنده أبو يوسف القاضي، فقال: جعفر بن يحيى كالهازئ به: هذا أمير الضراطين. يزعم أنه أمير المؤمنين. قال: لو كنت كذلك أوسع إمرةً من صاحبك؛ لأن الضراط عامٌ، والإيمان خاصٌ.

قال له الرشيد: لأضربنك بالسياط حتى تقر بالزندقة. قال: فإذا أقررت ترى قتلي؟ .قال: نعم، قال: فالتفت إلى أبي يوسف، وقال: يا يعقوب؛ ليس لصاحبنا فقهٌ.
قيل لبهلول: أيكفي اثنين رأسٌ واحد؟ . قال: إذا كان أحدهما نائماً.
وحضر مجلساً فيه قوم يتذاكرون الحديث، فرووا عن عائشة أنها قالت: لو أدركت ليلة القدر ما سألت ربي إلا العفو العافية. فقال بهلول: والظفر بعليٍّ يوم الجمل.
وحكى أن صاحب المارستان أتاه بقدح فيه دواء، وقال له: اشرب يا بن الزانية؛ فقال: هات حتى أشربه والله أعلم أنك أحق به مني.
ولما حمل إلى المارستان سأل الناس أن يأذنوا له في أن يلم ببيته، ويوصي أهله بشيءٍ، فمنعوه، فقرأ: " فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون " .
وقيل له: ما تشتهي من الفاكهة الرطبة؟ . قال: لحمٌ. قيل: فمن اليابسة؟ قال: قديدٌ، قيل: فمن الشراب؟ .قال: مرقة. قيل: فمن السماع؟ . قال: نشيش المقالي.
قال قوم لمجنون بالبصرة أديب: عظنا، وهم يهزءون به؛ فقال: هذه قصورهم، وهذه قبورهم. فأبكاهم.
قال أبو العيناء: حضرت أبا دينارٍ وأبا لقمان الممرورين يتناظران عند ابن أبي دواد؛ فقال أبو لقمان لأبي دينار:من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، قال ابن دواد: أبو بكر الصديق. فقال أبو لقمان: أم الكاذب زانية. قال ابن أبي دواد: هذا كلام قد انتهى إلى آخره.
كان بهلولٌ يجمع ما يوهب عند مولاة له من كندة، وكانت له كالأم، وربما أخفي عنها شيئاً ودفنه، فجاء يوماً بعشرة دراهم كانت معه إلى خربة فدفنها فيها، ولمحه رجلٌ، فلما خرج بهلولٌ ذهب الرجل فأخذ الدراهم، وعاد بهلول فلم يجدها. وقد كان رأى الرجل يوم دفنها فعلم أنه صاحبه، فجاء إليه فقال: اعلم يا أخي أن لي دراهم مدفونة في مواضع كثيرةٍ متفرقة، وأريد أن أجمعها في موضعٍ دفنت فيه هذه الأيام عشرة دراهم؛ فإنه أحرز من كل موضع، فاحسب بالله كم تبلغ جملتها. قال: هات. قال: خذ عشرين درهما في موضع كذا، وخمسين في موضع كذا، حتى طرح عليه مقدار ثلثمائة درهم. ثم قام بين يديه ومر؛ فقال الرجل في نفسه: الصواب أن أرد العشرة إلى موضعها، حتى يجمع إليها هذه الجملة ثم آخذها، فردها. وجاء بهلول فدخل الخربة، وأخذ العشرة، وخرى مكانها، وغطاه بالتراب ومر، وكان الرجل مترصداً لبهلول وقت دخوله وخروجه؛ فلما خرج مر بالعجلة، فكشف عن الموضع، وتلوثت يده بالخرا، ولم يجد شيئاً، وفطن لحيلة بهلول عليه. ثم إن بهلولاً عاد إليه بعد يومين فقال: احسب يا سيدي؛ عشرين درهماً، وخمسة عشر درهماً، وعشرة دراهم، وشم يدك. فوثب الرجل ليضربه، وعدا بهلول.
وولى بعض بني هاشم الكوفة، فلما صعد المنبر قال: الحمد لله، وارتج عليه، فجعل يكرر ذلك؛ فقال بهلول: الذي ابتلانا بك.
وجاز بهلول بسوق البزازين، فرأى قوماً مستجمعين على باب دكان ينظرون إلى نقبٍ قد نقب على بعضهم، فاطلع في النقب، ثم قال: وكلكم لا تعلمون ذا من عمل من؟ قالوا: لا. قال: فإني أعلم. فقال الناس: هذا مجنونٌ يراهم بالليل ولا يتحاشونه، فأنعموا له القول لعله يخبر بذلك. فسألوه أن يخبرهم. فقال: إني جائع، فهاتوا أربعة أرطال رقاقٍ ورأسين، فأحضروا ذلك وأكل، فلما استوفى قال: هوذا أشتهي شيئاً حلواً، فأحضروا له رطلين فالوذج فأكله، وفرغ منه وقام وتأمل النقب، ثم قال: كأنكم الساعة لستم تعلمون هذا من عمل من؟ . قالوا: لا. قال: هذا من عمل اللصوص لا شك. وعدا.
ولع الصبيان بعيناوة، وصاحوا عليه، ورموه، فهرب منهم فاستقبلته امرأةٌ معها صبيٌ صغير، فدنا منها ولطم الطفل لطمةً كادت تأتي عليه، فقالت المرأة: قطعت يدك إيش أذنب هذا إليك. قال: يا قحبة؛ هذا يكون غداً شراً من هؤلاء الكشاخنة.

ركب الهادي يوماً، فنظر إلى مجنون يلقب بكسرة؛ ويرمى من يقول هذا اللقب، ويعمل العجائب؛ فأمر بحمله إلى الدار، فقال له: لم تشتم الناس إذا قالوا لك: كسرة؟ . قال: ولم تضرب الأعناق إذا قيل لك: موسى اطبق؟ . قال: أنا لا أغضب من هذا. قال: فصح أنت بي ثلاث مراتٍ، وأصيح مرتين فننظر من يحرد. قال: قد رضيت. فقال الهادي: يا كسرة؛ يا كسرة. ثلاث مرات، وطولها، فلم يلتفت المجنون، ولم يتحرك ولم يحرد، ثم صاح: يا موسى اطبق. فلم يتحرك الهادي، فقال المجنون: ما يتغافل إلا من أمه قحبة. فحرد الهادي، ودعا بالنطع والسيف، فقال المجنون: كيف رأيت؟ كان المجنون واحداً، صرنا اثنين. وأنا أيضاً هكذا؛ لو قالوا: يا كسرة؛ يا رغيف. ألف سنة ما باليت، ولكن كذا يقولون لي إذا تغافلت. فضحك الهادي وأمر له بجائزة.
قال بعضهم: رأيت مجنونين قد رفعا إلى بعض أصحاب الشرط، وقد تواثبا وتخاصما؛ فقال لأحدهما: لم فعلت هذا؟ . قال: لأنه وثب علي وشجني؛ فقال: لم بدأته بالرفس، ومددت خصيته، قال: يا ولد النجس من بين الأمراء؛ بهذا اللباس الذي عليه لا تكفيه فرد خصية؟ .
ونظروا إلى ماني الموسوس يأكل تمراً، ويبتلع نواه، فقيل: لم لا ترمي بالنوى؟ . قال: هكذا وزنوه علي.
قيل لبهلول: يقع في الطفشيل قتٌ؟ . قال: نعم إذا كان للبقل.
وكتب مجنون إلى آخر: بسم الله الرحمن الرحيم.
وأمتع بك؛ كتبت إليك ودجلة تطفح، وسفن الموصل تنحدر، وما يزداد الصبيان إلا لعنة، والحجر إلا قلةً؛ فلا تنم إلا وعند رأسك حجران، وكن كما قال الأول: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ " . وإياك والموت فإنه طعام سوءٍ. وكتبت لأربع عشر يوماً بقيت إلى عاشوراء الأول سنة افتصد عجيف.
كان بمكة رجلٌ يرمى بأنه لقيطٌ، ولا يعرف له أب، وكان موسراً، وكان بها مجنونٌ يقصده كثيراً فيبره ويحسن إليه، فجاء المجنون يوماً، فرآه قاعداً محزوناً منقبضاً؛ فقال: جعلت فداك ما لك كذا؟ . قال: لا شيء. قال المجنون: بلى، قد عرفت، ترى ليس بمكة ولد زنىً غيرك. هم أكثر ذاك فلا تغتم.
قيل لمجنون: لم صار الدينار خيراً من الدرهم، والدرهم خيراً من الفلس؟ . قال: لأن الفلس ثلاثة أحرف، والدرهم أربعة أحرف، والدينار خمسة أحرف.
ولى العلاء بن عمرو بلاد سارية، وكان جائراً فأصاب الناس القحط، وأمسكت السماء قطرها؛ فخرجوا يستسقون، وصعد العلاء المنبر؛ فقال في دعائه: اللهم ارفع عنا البلاء والغلاء. فوثب معتوهٌ كان بها فقال: والعلاء؛ فإنه شرٌّ من الغلاء، وأغلظ من البلاء. فضحك الناس، وخجل العلاء وانصرف.
ودخل داود المصاب بستاناً، فتعلقت بشوبه شوكةٌ، فالتفت وقال: والله لولا أنك بهيمةٌ لكسرت أنفك.
قال بعضهم: مررت بعليان المجنون، وهو جالسٌ في محلة بني ضبة، فقلت له: يا أبا الحسن؛ من أفضل عندك؟ أبو بكرٍ أم علي؟ فقال: أما في بني ضبة فأبو بكر.
حج موسى بن عيسى ببهلول معه، فأقبل موسى يدعو عند البيت ويتضرع، وبهلول يقول: لا لبيك ولا سعديك. فقال له ابنه العباس: ويلك تقول هذا القول للأمير في مثل هذا الموقف. قال: أقول له ما أعلم أن الله يقول له.
قيل لبهلول: عدلنا مجانين البصرة. قال: هذا يكثر ويبعد جداً، ولكن إن أردتم عددت لكم عقلاءهم.
سأل بعضهم أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ ، فقال: الجزء الذي لا يتجزأ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقال له: وليس في الأرض لا يتجزأ غيره. قال: بلى، حمزة جزءٌ لا يتجزأ، وجعفرٌ جزءٌ لا يتجزأ. قال: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ . قال: أبو بكر يتجزأ، وعمر يتجزأ، وعثمان يتجزأ مرتين، وطلحة يتجزأ مرتين. قال: فما تقول في معاوية؟ . قال: معاوية جزء لا يتجزأ ولا يتجزأ.
قيل لأبي زيد المجنون: ما العشق؟ قال: نيكٌ كله.
قيل لمجنون: ما فعلت حتى ضربك الصبيان؟ قال:
وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلا ما جنى لسعيد

لما مات والد بهلول خلف ستمائة درهم، فحظر عليه القاضي، فجاءه يوماً، وقال: أيها القاضي؛ ادفع إلي مائة درهم، حتى أقعد في الحلقات فإن أحسنت أن أتجربها دفعت إلي الباقي. فدفع إليه ذلك، فذهب وأتلفه وعاد إلى مجلس القاضي. وقال: إني قد أتلفت المائة، فتفضل بردها فقد أسأت إذ دفعت إلي ذلك، ولم يثبت عندي رشدي. فقال القاضي: صدقت، والتزم المائة في ماله.
كان مجنونٌ يؤذيه الصبيان، فقال له رجلٌ: تريد أن أطردهم عنك؟ . فقال: نعم، وتنطرد أيضاً معهم.
قال مجنونٌ: ليس في الدنيا أجل مني، لا أحاسب في الدنيا ولا في الآخرة.
قال الرشيد لبهلول: من أحب الناس إليك؟ فقال: من أشبع بطني. فقال: أنا أشبعك، فهل تحبني؟ . قال: الحب بالنسيئة لا يكون.
كان مجنونٌ يختلف إلى المآتم، ويدعو، ورسمه أن يعطى درهمين، فاتفق أن آل الزبرقان لم يمت منهم أحدٌ سنين كثيرة، ثم مات منهم واحد فحضر المجنون، وأعطي درهم واحداً. فقال: من كثرة ما تموتون حتى نقصتم رسمي.
وكان مجنونٌ آخر يحضر المآتم، ورسمه أن يعطى ثلاثة أرغفة فحضر يوماً بعض المواضع وأعطي ستة أرغفة؛ فلما أراد أن يخرج قال لأصحاب التعزية: اذكروا أنه قد بقى لكم علي ميتٌ آخر.
قال: لما ضمت المدينة إلى الحجاج مع مكة خرج إليها؛ فبينا هو يسير إذ قال لأصحابه: تأخروا حتى أحدث نفسي؛ فتاخروا. ومضى على حماره حتى انتهى إلى مبقلة، فإذا رجلٌ جالسٌ على شفير بئرٍ، فوقف عليه فقال: ما يقول الناس في أميرهم؟ . فقال: يقولون: ظالمٌ متعدٍ ملعونٌ. قال الحجاج: أتعرفني؟ . قال: لا. قال: أنا الحجاج. قال الرجل: أتعرفني أنت؟ . قال: لا. قال: أنا مولى بني ثور، أصرع في كل شهرٍ ثلاثة أيام، اليوم أولها وأشدها؛ فضحك الحجاج ولم يتمالك، ومضى، ولحقه الناس.
قيل لبهلول: أتأكل في السوق وأنت تجالس جعفر بن محمد رضي الله عنه؟ . قال: حدثني مالكٌ عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مطل الغني ظلمٌ لقيني الجوع، والخبز في كمي؛ فكرهت أن أمطله.
ورثى في مقبرة؛ فقيل له: هلا خالطت الناس؟ . فقال: إني بين قوم إن حضرت لم يؤذوني، وإن غبت لم يغتابوني. قيل له: فادع الله، فإن الناس في ضر وشدة من الغلاء. فقال: وما علي من ذلك، ولو بلغت الحبة ديناراً، وإنما علي أن أعبد الله كما أمرني، وعليه أن يرزقني كما وعدني.
قيل لبهلولٍ: وزن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بالأمة فرجحا. فقال: كان بالميزان غبن.
وجاء بهلولٌ فوقف بحذاء حفص بن غياث القاضي، فقال: هوذا، أجد البرد في قدمي ورأسي. فأمر له بقلنسوةٍ وخفين. فلما كان اليوم الثاني وقف بهلول بحذائه؛ فقال له: مالك؟ . قال: جزى الله القاضي عن الأطراف خيراً؛ فأمر له بقميصٍ وسراويلٍ.
جاءت امرأة دندان المجنون إلى القاضي؛ فقالت: أصلحك الله، إنه يجيعني ويضربني. قال القاضي: ما تقول؟ . قال دندان: أما الضرب فنعم، وأما الجوع فهي طالقٌ ثلاثاً إن لم تجئ معي إلى منزلي مع أصحابك أيها القاضي، فقال لأصحابه: قوموا بنا لا يحنث. فقام القاضي، وذهب معه، فلما دخل جاء به إلى مزبلة فيها رجيعٌ عظيم، فقال: أصلحك الله. هذا يخرج من بطن جائعٍ؟ . قال: أخزاك الله، فإنك أحمق. قال: أحمق مني من أطاع المجانين.
كان بهلول يوماً جالساً والصبيان يؤذونه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. يعيده مراراً، فلما طال أذاهم له أخذ عصاه وقال: حمي الوطيس، وطابت الحرب، وأنا على بينةٍ من ربي. ثم حمل عليهم وهو يقول:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أفيها كان حتفي أم سواها
فتساقط الصبيان بعضهم على بعض، وتهاربوا، فقال: هزم القوم وولوا الدبر. أمر أمير المؤمنين - رضي الله عنه - ألا نتبع مولياً، ولا ندفف على جريح، ثم رجع وجلس وطرح عصاه، وقال:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
وقفده رجلٌ كانت قد أرضعته امرأةٌ يقال لها مجيبة، وكانت رعناء، فقال بهلول: كيف لا تكون أرعن، وقد أرضعتك مجيبة؟ فوالله لقد كانت تزق لي الفرخ فأرى الرعونة في طيرانه.
وقف رجلٌ علي بهلول، فقال له: قد وقفت أنت هاهنا، والأمير يعطي المجانين كل واحد درهمين، فقال بهلول: فاعرض علي درهميك.

قال الفضل بن يحيى لجعيفران المجنون: لم لا تصير إلي؟ فقال: لأنت بحرٌ ولا أحسن أن أسبح، فوصله بمالٍ.
قيل لبهلول: ما تقول في رجل مات وخلف أماً وزوجة وبنتاً؟ فقال: للأم الثكل، وللابنة اليتم، وللزوجة الحرب، وما بقي فللعصبة.
وقال له الرشيد: أبو بكر وعمر خير من عليٍّ، فقال: واحدٌ: لا يجوز بإزاء اثنين، ولكن علي والعباس خيرٌ من أبي بكر وعمر.
قال بعضهم: رأيت شيخاً قد سكر وسقط وسط الطريق، وهو ينخر، ومجنون واقفٌ على رأسه يقول: يا مخذول، تسكر وتنخر؟ . ما تركت للصلح موضعاً.

الباب الحادي عشر
نوادر البخلاء
قال بعضهم لبخيل: لم لا تدعوني يوماً؟ . قال: لأنك جيد المضغ، سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيأت أخرى. قال: فتريد مني إذا أكلت لقمة أن أصلي ركعتين، ثم أعود إلى الثانية؟ .
دخل واحدٌ إلى بعضهم وهو يأكل، ومعه آخر؛ فقال الداخل: تعال كل. قد تغديت. فقال: هذا أيضاً زعم أنه تغدى.
ودخل آخر على بعضهم وبين يديه طبق عليه تين؛ فلما أحس بالداخل غطى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للداخل: كن أنت في الحجرة الأخرى حتى أفرغ من بخوري.
أكل ابن المدبر يوماً عند ابن الفياض، فقدمت جوذابة في نهاية الجودة، وأمعن ابن المدبر فيها؛ فلم يصبر ابن الفياض حتى قال له: أليس زعمت أنك لست صاحب جوذاب؟ .
قال بعضهم: حضرت مائدة بعضهم فضرب رب البيت يده إلى رغيف. ثم قال: يقولون خبري صغار. أي: أخو قحبة. يتم من هذا رغيفاً؟ .
وقال بعض المبخلين لرجلٍ على مائدته: اكسر ذلك الرغيف. فقال: دعه يبتلى به غيري.
دعا بخيلٌ قوماً، واتخذ لهم طعاماً، فلما جلسوا يأكلون وهو قائم يخدمهم، وأمعنوا في الأكل جعل صاحب البيت يتلو فيما بينه وبين نفسه: " وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً " .
وكان جعفر بن سليمان بخيلاً على الطعام، فرقعت المائدة من بين يديه وعليها دجاجة، فوثب عليها بعض بنيه وأكل منها، وأعيدت عليه من غد؛ فلما رآها وقد أكل منها شيء. قال: من هذا الذي تعاطى فعقر؟ قالوا: ابنك فلان. فقطع أرزاق بنيه كلهم، فلما طال عليهم قال بعض بنيه: أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فأمر برد نصف أرزاقهم.
وقف واحدٌ على الحطيئة ليستقريه فمنعه، فقال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي. قال: بل عليهما تبردا. قال: وما عندك غير هذا؟ . قال: بلى، هراوةٌ من أرزن معجزة. قال: إني ضيف. قال: للضيفان أعددتها.
قال أبو الأسود الدؤلي - وكان بخيلاً - : لو أطعنا المساكين في أموالنا كنا أسوأ حالاً منهم.
قال الجاحظ: حدثني بعض أصحابنا قال: كنا منطلقين إلى رجلٍ من كبار أهل العسكر، وقد كان لبثنا عنده يطول؛ فقال له بعضنا: إن رأيت أن تجعل لنا أمارة إذا ظهرت خففنا، ولم نتعبك بالقعود، فقد قال أصحاب معاوية مثل الذي قلنا لك؛ فقال: أمارة ذلك إذا قلت: إذا شئتم. وقال أصحاب يزيد مثل ذلك، فقال: إذا قلت: على بركة الله. وقيل لعبد الملك؛ فقال: إذا ألقيت الخيزرانة من يدي، فأي شيء تجعل لنا أصلحك الله؟ فقال: إذا قلت: يا غلام، الفداء.
نظر الكندي إلى رجل يكسر درهماً صحيحاً؛ فقال: ويحك لا تفرق بين الله ورسول.
قال جحظة: دخلت وأنا في بقايا علةٍ على كاتب، فقدم إلينا مضيرة، فأمعنت فيها، فقال: جعلت فداك، أنت عليل، وبدنك نحيل، واللبن يسحيل، فقلت: والعظيم الجليل لا تركت منها كثير ولا قليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال رجلٌ من أهل المدينة: أتيت صاحب بر، وكان بخيلاً؛ فقلت له: هب لي فلساً. قال: ليس معي. قلت: فهب لي من هذا البر ما أشرب به ماء. قال: فأعطاني خمس حبات؛ فقلت له: لا يسقيني الشارب بها ماءً؛ فقال: احمل عليه كما حملت علي.
كان يعمل لمعاوية لونٌ من المخ، لا يشاركه فيه أحد، فأتي به فضرب عبد الله بن جعفر بيده فيه، وقال: إنما أردت به أنسك يا أمير المؤمنين. قال: ما آنستني، ثم استحيا؛ فأرسل إليه عشرة آلاف؛ فقال عبد الله: كم في هذه من لون مخ؟ .
وقال لرجلٍ واكله: ارفق بيدك؛ فقال له: وأنت فاغضض بصرك.
قيل لبعضهم: كيف سخاء فلانٍ؟ . قال: عينه دولاب اللقم في أيدي الأضياف.
تغدى أعرابيٌّ عند معاوية؛ فنظر معاوية إلى شعرةٍ في لقمته؛ فقال: يا أعرابي خذ الشعرة من لقمتك؛ فقال: وإنك لتراعيني حتى تبصر الشعرة في لقمتي، والله لا أكلت معك أبداً.

كان خالد بن صفوان بخيلاً، فحدث ذارع من أهل البصرة قال: دعاني خالدٌ فقسمت له مالاً، وأقمت حسابه، فلما كان عند الظهر دعا بالغداء فجاءوه بدجاجةٍ، وجاءوني بزيتونٍ وبصل؛ فقال: تشتهي أن تأكل من هذه الدجاجة؟ فقلت: وما عليك لو أكلت منها؟ . قال: إذا كنت أنا وأنت في مالي سواء فما ينفعني مالي؟ .
وقال آخر: كنت عند رجلٍ من جلة الناس، فقدمت لو زينجة رطبة، فأكل واحدةً وأكلت واحدة، ثم أكل أخرى وأكلت أخرى؛ فالتفت إلي؛ فقال: إذا أكلت كما آكل فأين فضل المالك؟ .
أكل عند بخيل، وأمعنوا في الأكل، وأراد أن يقطعهم؛ فقال: ليس هذا أكل من يريد أن يتعشى.
حقن عمر بن يزيد الأسدي بحقنةٍ فيها دهن؛ فلما حركه بطنه كره أن يذهب الدهن ضياعاً، فدعا بطستٍ وجلس عليه، ثم قال: صفوا هذا الدهن فإنه يصلح للسراج.
وأوصى بعضهم ابنه؛ كن مع الناس كلاعب الشطرنج يحفظ شيئه.
كان بالكوفة رجلٌ من المصلحين - وهذا لقب المقدمين منهم في اللؤم - فبلغه أن بالبصرة رجلاً من المصلحين مقدماً في شأنه، فقام الكوفي، وصار إلى البصرة ليلقى صاحبه، فلما قدم عليه قال له: من أنت؟ . قال: أنا مصلحٌ من أهل الكوفة، وقد بلغني خبرك، فرحب به، وأدخله البيت وأجلسه، وأخذ قطعة ومر ليشتري له شيئاً يأكله، فلما خرج إلى السوق دنا من البقال؛ فقال: عندك خبز؟ فقال: عندي خبزٌ كأنه السمن؛ فقال المصلح في نفسه: لم لا أشتري ما نعته به؟ فذهب إلى آخر، وقال: أعندك سمن؟ فقال: عندي سمنٌ كأنه الزيت؛ فقال في نفسه: أذهب فآخذ ما نعته به، فذهب إلى بقالٍ آخر؛ فقال: عندك زيت؟ قال: عندي زيت كأنه الماء، فقال في نفسه: عندي والله راوية ماء. فرجع إلى البيت، وأخذ الماء في غضارة وقدمه إلى الكوفي وقال: كل هذا، فإنه نعت النعت، فقال الكوفي: أنا أشهد أنكم أحذق بالإصلاح منا بألف درجة.
قال مزبدٌ: أهل الكوفة إذا عتق عندهم التنور دقوه وجعلوه في الفتيت.
قال بعضهم: بت عند رجلٍ من أهل الكوفة. وهو من الموسرين المعروفين بحسن الحال، وله صبيان نيامٌ بحيث أراهم، فرأيته في الليل يقوم فيقلبهم من جنب إلى جنب؛ فلما أصبحنا قلت له: رأيتك يا أبا جعفر البارحة تفعل كيت وكيت. قال: نعم، هؤلاء الصبيان يأكلون وينامون على اليسار، فيمريهم الطعام فيصبحون جياعاً، فأنا أقلبهم من اليسار إلى اليمين؛ لئلا ينهضهم ما أكلوه سريعاً.
قال بعضهم: دخلت الكوفة فسمعت امرأةً تقول: يا أبا جعفر الدقاق، حسيبك الله - وقد اجتمع الناس عليهما - فقال الدقاق: مالك؟ قالت: أعطيتني كيلجة دقيق ما جاء منها إلا ثمانون رغيفاً. قال: يا مسرفة، إذا كنت تخبزين رغفاناً مثل الأرحبة فأي ذنب لي؟ .
وقال بعضهم: رأيت بالكوفة سائلاً يتصدق، ومعه منهزة، فقلت له: ما هذه؟ . قال: أصيد بها الكسر. قال: وإذا هو كلما رموا إليه بكسرةٍ من تلك الروازين طارت بها الريح، فتلقاها بالمنهزة.
قال آخر: رأيت بالكوفة صبياً ومعه قرصة، وهو يكسر لقمةً لقمةً، ويرمي بها إلى شقٍّ في بعض الحيطان يخرج منه دخانٌ، ويأكلها. قال: فبقيت أتعجب منه، إذ وقف عليه أبوه يسأله عن خبره؛ فقال الصبي: هؤلاء قد طبخوا سكباجة حامضةً كثيرة التوابل؛ فأنا أتأدم برائحتها. قال: فصفعه أبوه صفعةً صلبة كاد يقطع بها رأسه وقال: تريد تعود نفسك من اليوم ألا تأكل خبزاً إلا بأدم.
انتقل قصابٌ من بغداد إلى الكوفة، وفتح بها دكاناً، وذبح شاةً سمينة، وقعد من غدوة إلى العصر لم يبع شيئاً، ولم يقف عليه أحدٌ؛ فلما كان العصر إذا هو بعجوزٍ معها زبيل نخالة؛ فقالت له: يا ابني، أعطني بهذه النخالة لحماً، وقطعه بحياتك تقطيعاً حسناً. قال: فحرد البغدادي، وقال: لعن الله بلداً يباع فيه اللحم بالنخالة. فولت العجوز متعجبةً منه وهي تقول: ويلٌ لي. هذا بغداديٌّ صلف، لا يبيع إلا بالنوى.
قال: ورأيت صبيةٌ قد وقفت على بقال بالكوفة، وأخرجت إليه رغيف شعير، وقالت له: قالت أختي: أبدل هذا الرغيف بالكسر وأعطها بصرفه جزرا.
قال بعضهم: احتجت بالكوفة إلى دقيق الحواري، فسألت عنه وعن موضعه. فقالوا: لا تصيبه إلا عند الصيادلة، يبيعونه للدماميل.

وقال آخر: كنت عند صديقٍ لي بالكوفة، فإذا بجاريةٍ أمه قد جاءت ومعها كوزٌ فارغ؛ فقالت: تقول أمك إن يومنا يومٌ شديد الحر. فاملأ لي هذا الكوز من مزملتكم؛ فقال لها: كذبت، فإن أمي أعقل من أن تبعث كوزاً فارغاً. اذهبي واملئي الكوز من ماء حبكم، حتى نصبه في حبنا، ثم نملأه من المزملة، حتى يكون شيءٌ بشيءٍ.
قال ورأيت واحداً بالكوفة قد دنا من بقالٍ وأعطاه مقدار حبة. وقال: أعطني بهذا جبناً؛ فقال له البقال: شمه وانصرف، ويبقى عليك طسوج.
نزل بكوفيٍّ ضيفٌ، فقال لجاريته: يا جارية، أصلحي لضيفنا فالوذجاً. قالت: الجارية: ليس عندنا شيء. قال: ويلك فهاتي قطيفة إبريسم حتى ينام.
قال الضيف: يا سيدي، فليس بين الفالوذج والقطيفة رغيفٌ وقليل جبنٍ؟.
وقال آخر: رأيت كوفياً يخاصم جاراً له ويقاتله، فقلت: ما قصتكما؟ ؛ فقال أحدهما: زارني زائرٌ، فتشهى على رءوساً، فأطعمته، وأخذت العظام؛ فرميت بها على باب داري أتجمل بها، وأكبت العدو، فجاء هذا، وأخذها من داري، وجعلها على باب داره.
وكان بعض المياسير منهم له والدةٌ عجوز: فقيل لها: كم يجري عليك ابنك؟. قالت: درهماً في كل أضحى. قيل: يا سبحان الله درهم في كل أضحى. قالت: نعم، وربما أدخل الأضحى في الأضحى.
وكان بعضهم يأكل ومعه على المائدة ابنه وزوجته؛ فقال: لعن الله الزحمة؛ فقال له ابنه: يا أبه، تعنيني؟ فليس ها هنا غيري وغير أمي. اقل فترى أعني نفسي؟ .
خرج نفرٌ من أهل مرو في سفر، وصبروا على ترك السراج للارتفاق بما يرجع عليهم منه حتى أبلغ ذلك إليهم، فاتفقوا على أن يخرج كل واحد منهم شيئاً للسراج، وامتنع واحدٌ منهم من أن يعطي شيئاً؛ فكانوا إذا أسرجوا شدوا عينيه بمنديل إلى وقت النوم ورفع السراج.
حكي عن بعض البخلاء أنه قال: إذا رأيت الجبن على مائدةٍ رحمت صاحبها لكثرة ما يؤكل من خبزه.
ودعا آخر منهم على صاحبه؛ فقال له: إن كنت كاذباً فعشيت السكارى بجبن، فرأى أنه قد بالغ في ملاعنته والدعاء عليه.
عمل سهل بن هارون كتاباً مدح فيه البخل، وأهداه إلى الحسن ابن سهلٍ، فوقع على ظهره: قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه.
قال رجلٌ لغلام: بكم تعمل معي؟ . قال: بطعامي. قال له: أحسن قليلاً. قال: فأصوم الاثنين والخميس.
قال أبو نواس: قلت لرجلٍ من البخلاء: لم تأكل وحدك؟ فقال: ليس هذا سؤالاً، وإنما السؤال على من أكل مع الجماعة؛ لأن ذلك تكلفٌ وهذا هو الأصل.
قيل لرجل: من يحضر مائدة فلان؟ . قال: الملائكة. قال: لم أرد هذا. من يأكل معه؟ . قال: الذبان.
ومدح رجلٌ البخل؛ فقال: كفاك من كرم الملائكة أنه لم يبلهم بالنفقة، وقول العيال: هات، هات.
قال دينارٌ الحجام: حجمت أبا جعفر المنصور في خلافته؛ فأعطاني أربعة دوانق فضة، وأخذت شعر سعيد بن أبي عروبة؛ فأمر لي بقوصرة فارغة.
قال بعض البخلاء: فرحة السكر قلة الاحتشام، وفرحة الخمار قلة الإنفاق.
وقال آخر: من كثرت نفقته كثر ندمه، ومن كثر ندمه قلت دعواته.
قيل على مائدة بعض البخلاء: ما أحسن الأيدي على المائدة؛ فقال صاحب المائدة: مقطعة.
قال الكندي: من ذل البذل أنك تقول: نعم. مطأطئاً رأسك، ومن عز المنع أنك تقول: لا. رافعاً رأسك.
اشترى كوفيٌّ مزادة ماءٍ برغيف؛ فقال لصاحبه: كيف ترى استرخاصي هذه المزادة؟ . قال: فيها غلاء غصة.
استسلف بعض الصيارفة من بقال كان على بابه درهمين وقيراطا؛ فقضاه بعد ستة أشهرٍ درهمين وثلاث حبات.
فقال البقال: سبحان الله ألا تستحيي؟ أنت رب مائة ألف درهم، رأنا بقالٌ لا أملك مائة فلس، تنقضني بعد هذه المدة الطويلة؛ فقال: ما توهمت منك ما ظهر لي من قلة معرفتك بالحساب. أسلفتني - أبقاك الله - في الصيف درهمين وأربع شعيرات؛ فقضيتك في الشتاء درهمين وثلاث شعيرات شتوية نديةٍ أرزن من أربع شعيرات يابسةٍ صيفية، وما أشك أن معك فضلاً.
دخل هشام بن عبد الملك حائطاً له فيه أشجار فاكهة، ومعه أصحابه، فجعلوا يأكلون منه، ويدعون له بالبركة؛ فقال هشام: كيف يبارك فيه وأنتم تأكلون؟ ، ثم قال: يا غلام. اقلع هذا واغرس مكانه الزيتون.

قال المنصور للوضين بن عطاء: ما عيالك؟ . قال: ثلاث بناتٍ والمرأة. قال؛ فقال: أربعٌ في بيتك. قال: فردد ذلك حتى ظننت أنه سيصلني. قال: ثم رفع رأسه؛ فقال أنت أيسر العرب، أربعة مغازل تدور في بيتك.
أرسل مروان بن أبي حفصة غلامه بفلس وسكرجة يشتري له زيتاً؛ فلما جاء بالزيت استقله، وقال للغلام: خنتني يا خبيث. قال الغلام: كيف أخونك من فلس؟ . قال: أخذت الفلس لنفسك، واستوهبت الزيت.
وكان مروان من أبخل الخلق: اجتاز مرةً بامرأةٍ من العرب، فأضافته؛ فقال لها: علي إن وهب لي أمير المؤمنين مائة ألف درهمٍ أن أهب لك درهماً، فأعطاه سبعين ألفاً، فأعطاها أربعة دوانيق.
وسقى إنسانٌ بخيلٌ ضيفاً له نبيذاً عتيقاً على الريق، فتأوه الرجل؛ فقيل له: لم لا تتلكم؟ فقال: إن سكت مت، وإن تكلمت مات رب البيت.
وكان بعض البخلاء يأكل نصف الليل، فقيل له في ذلك، فقال: يبرد الماء وينقمع الذباب، وآمن فجأة الداخل، وصرخة السائل، وصياح الصبيان.
دخل أبو الأسود الدؤلي السوق يشتري شيئاً، فقال الرجل: ادن أقاربك؛ فقال: إن لم تقاربني أنت باعدتك أنا. قال: بكم؟ . قال: طلب بكذا. قال: أراك تحدث بخيرٍ قد فات.
شكا بعض البخلاء بخله إلى بعض الحكماء؛ فقال له: ما أنت ببخيل؛ لأن البخيل هو الذي لا يعطي من ماله شيئاً، ولست أيضاً بمتوسط الجود؛ لأن المتوسط هو الذي يعطي بعض ماله، ويمنع بعضه، ولكنك في غاية الجود؛ لأنك تريد أن تعطي مالك كله. يعني: أنه يدعه كله لوارثه.
قال صعصعة: أكلت عند معاوية لقمة؛ فقام بها خطيباً. قيل له: وكيف ذاك؟ . قال: كنت آكل معه، فهيأ لقمةً ليتناولها، وأغفلها، فأخذتها فسمعته بعد ذلك يقول في خطبته: أيها الناس، أجملوا في الطلب فرب رافع لقمةٍ إلى فيه تناولها غيره.
استأذن جحظة على صديقٍ له مبخلٍ؛ فقال غلمانه: هو محمومٌ؛ فقال لهم: كلوا بين يديه حتى يعرق.
وقال جحظة: أكلت مع بخيلٍ مرة؛ فقال لي: يا هذا، ما رأيت أذل من الرغيف في يدك.
أصاب أعرابيٌّ درهماً في كناسة الكوفة؛ فقال: أبشر أيها الدرهم، وقر قرارك فطالما خيض فيك الغمار، وقطعت فيك الأسفار، وتعرض فيك للنار.
أهل مروٍ موصوفون بالبخل، ومن عادتهم إذا ترافقوا في سفرٍ أن يشتري كل واحدٍ منهم قطعة لحم، ويشدها في خيط، ويجمعون اللحم كله في قدرٍ، ويصبون عليه الماء ويطبخونه، ويمسك كل واحدٍ منهم طرف الخيط الذي قد شده في لحمه، فإذا نضجت القدر جر كل واحد خيطه، وتفرد بأكل ما فيه، وتسعدوا على المرقة.
ويحكى أن واحداً منهم لم يخرج ثمن البرر للسراج؛ فشدوا عينه لئلا يرى السراج.
قال: ومن طرائف أمورهم أنهم يستعملون الخادم في ستة أعمالٍ في وقتٍ واحدٍ: تحمل الصبي، وتشديد اليريند في صدرها، فتدور وتطحن وفي ظهرها سقاء تمخضه باختلافها وحركتها، وتدوس طعاماً قد ألقي تحت رجليها، وتلقى الحنطة في الرحا، وتطرد العصافير عن طعام قد وكلت به.
كان بعض البخلاء، إذا صار في يده خاطبه وناجاه، وفداه واستبطاه، وقال: بأبي أنت وأمي. كم من أرضٍ قطعت، وكيسٍ خرقت، وكم من خاملٍ رفعت، وكم من رفيع أخملت لك عندي ألا تعرى ولا تضحى، ثم يلقيه في كيسه ويقول: اسكن على اسم الله في مكانٍ لا تزول عنه، ولا تزعج منه.
ذكر ثمامة محمد بن الجهم، فقال: لم يطمع أحداً في ماله إلا ليشغله بالطمع فيه عن غيره، ولا شفع لصديقٍ، ولا تكلم في حاجةٍ إلا ليلقن المسئول حجة منع، وليفتح على السائل باب حرمان.
تناول رجلٌ من بين يدي بعض الأمراء البخلاء بيضةً؛ فقال: خذها؛ فإنها بيضة العقر، وحجبه بعد ذلك.
قال الواقدي: خرجت أنا وابن أبي الزناد إلى بعض المواضع بالمدينة، ورجعنا نصف النهار في يوم صائفٍ؛ فقال: ما أحوجنا إلى شربة ماءٍ باردٍ فإذا نحن بسعيدٍ مولى ابن أبي الزناد؛ فقلت له: ابعث لنا شربة ماء؛ فقال: نعم وكرامة - اجلس - وبادر مستعجلاً، فدخل الدار ومكث طويلاً، ثم خرج إلينا؛ فقال: تعودون العشية إن شاء الله.
قال العتبي: لو بذلت الجنة للأصمعي بدرهمٍ لا ستنقص شيئاً.
سأل متكففٌ الأصمعي؛ فقال: لا أرتضي لك ما يحضرني؛ فقال السائل: أنا أرضى به؛ فقال الأصمعي: هو، بورك فيك.

أعطى المنصور بعضهم شيئاً ثم ندم؛ فقال له: لا تنفق هذا المال واحتفظ به؛ وجعل يكرر عليه ذلك؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت فاختمه حتى ألقاك به يوم القيامة؛ فضحك وخلاه.
كان رجلٌ على طعام بعض البخلاء؛ فأخذ عراقاً فلم يجد عليه لحماً، فوضعه ليأخذ غيره؛ فقال صاحب البيت: العب بمسك.
قال بعضهم: فلان عينه دولاب لقم أضيافه.
قال بعضهم لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب؛ فقال الغلام: هذا خطأ. أغلق الباب، ثم أقدم الطعام؛ فقال: أحسنت أنت حر.
قال أبو العيناء: أكلت مع بعض أمراء البصرة؛ فقدم إلينا جدي سمينٌ، فضرب القوم بأيديهم إليه؛ فقال: ارفقوا به فإنه بهيمة.
أكل أعرابي مع أبي الأسود رطباً وأكثر، ومد يده أبو الأسود إلى رطبةٍ يأخذها؛ فسبقه الأعرابي إليها وأخذها فسقطت في التراب؛ فأخذها وجعل يمسحها ويقول: لا أدعها للشيطان؛ فقال أبو الأسود: ولجبريل وميكائيل لو نزلا.
قال بعض الكوفيين: علامة نجابة الصبي في ثلاثٍ: عرامته، وجبنه وبخله؛ فإنه لا يكون شديد العرامة إلا من جودة نفسه، ولا يبخل إلا من معرفته، ولا يجبن إلا من عقله.
كان زيد بن محمد بن زيد الداعي مبخلاً؛ فلما أسر بعد مقتل أبيه بجرجان، وحمل إلى بخارى وحبس مدةً، ثم أفرج عنه سعى به بعض أعدائه إلى السلطان؛ فقال: إن زيداً قد حدث نفسه بالخروج عليك والدعاء إلى نفسه، وإثارة الفتنة؛ فقال أبو عبد الله الجيهاني - وكان وزيراً - : إن زيداً ما دام يبنى الحمام من اللبن والطين ببخارى لا يسمو بنفسه إلى ذلك. وكان قد فعل ذلك مع عفونة أرض بخارى، وقلة ثبات الأبنية بها. فصدقوه وأمنوا جانبه ولم يتعرضوا له.
سأل رجل أبا الأسود شيئاً فمنعه؛ فقال له: يا أبا الأسود، ما أصبحت حاتمياً؛ فقال: بل أصبحت حاتمياً. أما سمعت حاتماً يقول:
أماوي، إما مانعٌ فمبين ... وإما عطاءٌ لا ينهنهه الزجر
كان أحيحة بن الجلاح بخيلاً، فكان إذا هبت الصبا طلع من أطمه؛ فنظر إلى ناحية هبوبها، ثم يقول: هبي هبوبك. قد أعددت لك ثلثمائة وستين صاعاً من عجوة، أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات فيرد علي ثلاثاً لصلابتها.
كان خالد بن صفوان قد أجرى لولده في الشهر ثلاثين درهماً؛ فكان يقول: إن الثلاثين لأعبث في المال من السوس في الصوف في الصيف.
عذل بعض البخلاء على بخله؛ فقال: يا قوم؛ هب الناس يلوموننا على التقصير فيما بيننا وبينهم، ما بالهم يلوموننا على التقصير فيما بيننا وبين أنفسنا؟ .
سمع أبو الأسود رجلاً يقول: من يعشي الجائع؟ . فعشاه، ثم ذهب السائل ليخرج، فقال: هيهات. على أن تؤذي المسلمين الليلة؛ فوضع رجله في الأدهم، وقال: لا تروع مسلماً سائراً الليلة.
ووقف على بابه سائلٌ وهو يأكل؛ فقال: السلام عليكم. قال: كلمةٌ مقولة. قال: أدخل؟ . قال: وراءك أوسع. قال: إن الرمضاء قد أحرقت رجلي. قال: بل عليها. وأغلق دونه الباب.
وكان يمر به فتىً، وأبو الأسود على باب داره، فيدعوه إلى الغداء فيتورك على دابته ويأكل وأبو الأسود على دكانٍ له صغير؛ فلما كثر ذلك دس إليه إنساناً معه دبة فيها حصى؛ فلما تورك الفتى ليأكل حرك الدبة فنفرت الدابة وسقط الفتى، فاندقت عنقه.
أرسلت امرأةٌ من قوم أبي الأسود ابنها إليه أنه يعيرها القدر، ويعلمه أن أمه نذرت أن تجعل للحي طعاماً؛ فقال أبو الأسود: سلوها؛ فإن كانت قدرنا دخلت في نذرها، وإلا فلتطلب غيرها.
وقف أعرابي على أبي الأسود وهو يتغدى، فسلم عليه، فرد عليه، ثم أقبل على الأكل، ولم يعرض عليه؛ فقال له الأعرابي: أما إني قد مررت بأهلك. قال: ذاك كان طريقك. قال: هم صالحون. قال: كذاك فارقتهم. قال: وامرأتك حبلى. قال: كذاك عهدتها. قال: ولدت. قال: ما كان لها بد من أن تلد. قال: ولدت غلامين. قال: كذاك كانت أمها. قال: مات أحدهما. قال: ما كانت تقوى على إرضاع اثنين. قال: ثم مات الآخر. قال: ما كان ليبقى بعد أخيه. قال: وماتت الأم. قال: حزناً على ولدها. قال: ما أطيب طعامك. قال: ذلك حداني على أكله. قال: أف لك ما ألأمك. قال: من شاء سب صاحبه.
سأل رجلٌ يحيى بن أكثم شيئاً؛ فقال: كيف أعطيك وفي أربع خلال: أنا تميمي، ومولدي البصرة، ومنشئي بمرو، وأنا قاضٍ.

وذكر بعضهم أنه أكل معه، فأتوا بثريدة عظيمة؛ فلما أمعن فيه وجد في وسطها قصعةً مكبوبة، والثريد فوقها.
وذكر بعض من كان ينادم بعض كبراء هذا الوقت. قال: أكلت معه من قصعة واحدةٍ؛ فكان الذي يليه من الثريد خبز حواري، والذي يليني خبز خشكار.
قل أبو سهل الرازي القاضي: دخلت على يحيى بن أكثم يوماً، والمائدة بين يديه، والغلام واقف؛ فقال لي: يا محمد، هذا غلامي، يأتي علي وقتٌ لا أدري ما اسمه؛ وهذا حدا سلم الحادي بالمنصور في طريقه إلى الحج؛ فحدا يوماً بقول الشاعر:
أغر بين حاجبيه نوره ... يزينه حياؤه وخيره
ومسكه يشوبه كافوره.
فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل، ثم قال: يا ربيع؛ أعطه نصف درهم؛ فقال سلم: نصف درهمٍ يا أمير المؤمنين؟ والله لقد حدوت لهشامٍ فأمر لي بثلاثين ألف درهم؛ فقال له المنصور: ما كان له أن يعطيك ثلاثين ألف درهمٍ من بيت مال المسلمين. يا ربيع، وكل به من يستخرج منه هذا المال. قال الربيع: فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه ألا يلزمه مئونةً في خروجه وقفوله، ويحدو له.
تزوج عمرو بن حريث ابنة أسماء بن خارجة؛ فقالت له يوماً: ما أحسبك وأبي تقرآن من كتاب الله إلا حرفين. قال: وما هما؟ . قالت: كان أبي يقرأ: " وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه وهو خير الرازقين " وأنت تقرأ: " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " .
قال أبو العيناء: دعاني جارٌ إلى وليمةٍ، وكان بخيلاً، فرأيته يدور على المائدة ويتنفس الصعداء، ويقول: " وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً " .
قال محمد بن أبي المعافى: كان أبي متنحياً عن المدينة، وكانت إلى جنبه مزرعةٌ فيها قثاء، وكنت صبياً قد ترعرعت؛ فجاءني من جيراننا أقرانٌ لي، وكلمت أبي ليهب لي درهماً أشتري لهم به قثاء، فقال لي: أتعرف حال الدرهم؟ كان في حجرٍ في جبلٍ، فضرب بالمعاول حتى استخرج، ثم طحن، ثم أدخل القدور، وصب عليه الماء، وجمع بالزئبق، ثم أدخل النار فسبك، ثم أخرج فضرب، وكتب في أحد شقيه: لا إله إلا الله. وفي الآخر: محمدٌ رسول الله. ثم صير إلى أمير المؤمنين فأمر بإدخاله بيت ماله، ووكل به عوج القلانس، صهب السبال، ثم وهبه لجاريةٍ حسناء جميلة. وأنت والله أقبح من قرد، أو رزقه رجلاً شجاعاً، وأنت والله أجبن من صفرر، فهل ينبغي لك أن تمس الدرهم إلا بثوبٍ؟ .
حكى بعضهم أنه أكل على مائدة بعضهم، قال: فطافت علينا هرةٌ وصاحت: فألقيت إليها لقمةً من حواري؛ فقال صاحب الدار: إن كان ولا بد فمن الخشكار.
وذكر غيره أنه كان في دعوة بعض التجار المياسير، فألقى للسنور لقمة خبزٍ، ثم أراد أن يثنيها؛ فقال التاجر: دع، فليست الهرة لنا، إنما هي للجيران.
كان زياد بن عبيد الله الحارثي على المدينة، وكان فيه جفاءٌ وبخلٌ، فأهدى إليه كاتبٌ له سلاسلاً فيها أطعمة، قد تنوق فيها، فوافقه وقد تغدى، فقال: ما هذا؟ . قالوا: غذاءٌ بعث به الكاتب، فغضب وقال: يبعث أحدهم ابن اللخناء بالشيء في غير وقته. يا خيثم بن مالك - يعني: صاحب الشرط - ادع أهل الصفة يأكلون هذا. فبعث خيثم الحرس يدعون أهل الصفة. فقال الرسول الذب جاء بالسلال: أصلح الله الأمير. لو أمرت بهذه السلال تفتح وينظر إلى ما فيها. قال: اكشفوها، فكشفت؛ فإذا طعامٌ حسنٌ من سمكٍ ودجاج وفراخٍ وجداء، وأخبصة وحلوى؛ فقال: ارفعوا هذه السلال. قال: وجاء أهل الصفة؛ فقال: ما هذا؟ . قالوا: أهل الصفة، أمر الأمير بإحضارهم؛ فقال: يا خيثم، اضربهم عشرة أسواط. فإنه بلغني أنهم يفسون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الباب الثاني عشر
كلام الشطار
ومن يجري مجراهم، ونوادرهم
حكى بعضهم أن شاطراً افتخر. قال: فحفظت من كلامه:

أنا الموج الكدر، أنا القفل العسر، هذا وجهي إلى الآخرة، تأمر بشيء؟ لك حاجة إلى مالكٍ خازن النار؟ . أنا النار، أنا العار، أنا الرحا إذا دار، أنا مشيت مشيت سبوعين بلا رأس، لولا أني عليلٌ لنخرت نخرة نصفها صاعقة ونصفها زلزلة. أضعك في جيبي، وأنساك حتى تعفن الساعة، أقطف رأسك وأجعله زر قميصي، أو أستنشقك فلا أعطسك إلا في الجيم، أو أشربك فلا أبولك إلا على الصراط إذا صاح آدم: وامفقوداه. والك لو كلمني الفيل لم يخرس، أبو البحر لم ييبس، أو عضني الأسد لم يضرس، أو رآني نمروذٌ لم يتقدس. أصدقائي أكثر من خوص البصرة، وخردل مصر، وعدس الشام، وحصى الجزيرة، وشوك القاطول، وحنطة الموصل وقصب البطائح، ونبق الأهواز، وزيتون فلسطين. والك أنا أشرب الرمل أخرى صخرا، أبلع النوى أخرى نخلا.
قال: وسمعت واعظأً منهم يقول: يا بني، لوطوا؛ فإن الناس يلوطون، وازنوا؛ فإن الناس يزنون، وإياكم أن تنا..وا؛ فو الله ما يسرني أن رجلاً أومأ إلى استي بأيرٍ من خراسان، وأنه بويع لي بالخلافة.
سمعت فقيهاً لهم يقول: سألت سابلويه الباقلاني: لم لا يجوز الن..ك بين الفخذين؟ فقال: لأنه يكره الجمع بين الأختين.
قال سعيد بن حميد: رأيت حارساً يشكو إلى آخر واحداً منهم خبب غلامه؛ فأطال الشكاية، ثم تنفس الصعداء وأنشأ يقول:
كلما قلت قد رضى ... وتعشى وكل شي
جاء عمرو فخببه ... وبقينا بغير شي
قال بعضهم: مررت بباب الطاق، وحارسان يأكلان، فمر بهما حارسٌ آخر وخلفه كلب؛ فقال أحدهما لصاحبه: رأيت مثل هذا الكلب؟ أجرش أبرش حسن الشية، أعزل الذنب. فقال الآخر: لا ونور الله إن كان الكلب كلبه، وإنما استعاره يتجمل به.
قال بعضهم: نزلت في معسكرٍ بإزاء قومٍ من الجند، ومعهم مغنٍّ يتغنى بالعجائب، سمعته يغني:
من لقلبٍ ما يفيق من ألمٍ ... هائماً يهذي بخراز الأدم
قال: فطرب أحدهم وقال ويلاه سنةً. وحاتك، ألمن الشعر؟ سيدي. قال: للخنساء. قال: ومن الخنساء؟ . قال: فتى من الأنباء.
قال بعضهم: رأيت يوماً مكارياً - وهو عريان - وعليه سراويل خلقٌ متمزقٌ وفية تكة تساوي ديناراً؛ فقلت: لو بعت هذه التكة فقال: لا تفعل يا شاطر مروة الرجل تكته.
قال: ورأيت واحداً منهم وقد قام في جماعةٍ من أصحابه؛ فقال: يا فتيان هوذا، أشرب وأسقكيم؛ فقال له واحد منهم: اشرب فديتك كلنا، واسق أي بعضنا شئت.
قال: ورأيت شاطراً وقد وقف على قبر شاطر؛ فقال: رحمك الله أبا لاش. كنت والله - ما علمت - حاد السكين، فاره الصديق، إن نقبت فجرذٌ، وإن تسلقت فسنور، وإن استلبت فحدة، وإن ضربت فأرضٌ، وإن شربت فحب، ولكنك اليوم وقعت في زاوية سوء.
قيل لبعض الشطار: كلما شهد شاهد قبلت شهادته؟ . قال: لا حتى أعلم أنه ابتلى فصبر، وأنه لا يخبب على الأصدقاء، ولا يسرق الجيران.
وقال بعضهم: إن الله تبارك وتعالى كان أرحم بالفتيان أن يجعل الناس كلهم فتياناً؛ فإنه لا يجوز لفتىً أن يسرق متاع فتى، ولا يخبب صديق فتى، ولا يطلب أثر فتى إلا أن يكون الغلام هو الذي يريده، ونحن لا بد لنا من مالٍ ننفقه، وصديق نتخذه، فلو كان الناس كلهم فتياناً هلكنا.
ضرب حارسٌ أمه، فعوتب على ذلك؛ فقال: قد قلت لها عشرين مرة، وهذه الثالثة: إذا كنت سكران فلا تكلميني، فإن الشيطان نارٌ يرتعد.
وذكر بعضهم أنه حضر مجلساً فيه غلام وضيء الوجه أديب، وهناك شاب مخنجر اللحية يتشطر، فأخذ الغلام تفاحة، فعبث بها ساعةً، ثم حيا بها الفتى الشاطر، فلم ينهنه أن أكلها والغلام ينظر إليه؛ فقال الغلام: سوءةً لك ولوماً، أتأكل التحيات؟ فقال: إي والله، والصلوات الطيبات.
قال بعضهم: كنت في بيت قمري الخبني، وداخل عليه صاحبٌ له، فبلغه عن آخر من أصحابه أنه زناه؛ فاغتاظ، وجعل يلعنه؛ فقلنا له: زنه كما زناك أو اسكت. قال: أنا لا أزنيه، ولا أكون سفيهاً، ولكني أرجو أن يزينه الله من فوق سبع سموات.
قال: سمعت حارساً يقول: أنا أني...ك أم من زعم أن النار في النوم ليس هي سلطان عزلت، فرأيت في النوم كأن النار أحرقت كوخي، وشرائح عملي حتى لا تترك لي قصبةً؛ ففزعت فلم أصبح حسناً، حتى سمعت دق الباب فإذا نوفيل المصلحي قد وضع في يدي المزراق، ومقود قلادة قرطاس، وخاتم طين بتسلم العمل، فإن الملك عقيم.

قال بعضهم: كان لي صديقٌ يقامر، وكنت أوبخه وألومه أبداً على ذلك؛ فأتاني يوماً وقال: يا أبا فلان. تقول لي: لا تقامر. قد رهنت والله منديلي الذي اشتريته بثلاثة عشر درهماً على عشرين درهماً، وهذا يا أبا فلان ربح عظيم.
قال بعضهم: سمعت بباب الطاق شيخنا من سفلة الناس يقول لآخر أسفل منه: ويحك يا محمد، لا تتعجب من ابني عفويه، أخوين أحدهم: مرعوشي والآخر فضلي. قال له: وإيش في هذا - هوذا - القرآن فيه جيدٌ وفيه رديءٌ. قال: ويحك: كيف يكون الردئ في القرآن؟ قال: نعم: " قل هو الله أحدٌ " بألف دينار، وبجنبها " تبت " تساوي حبتين أستغفر الله.
قال بعضهم: قلت لشاطرٍ: فلانٌ ليس يعدك شيئاً؛ فقال: والله لو كنت ليس أنا أنا، وأنا ابن من أنا منه لكنت أنا أنا وأنا ابن من أنا منه. فكيف؟ وأنا أنا وأنا ابن من أنا منه.
اختصم اثنان من الشطار إلى قاضٍ لهم، يقول كل واحد: أنا أفتى منك؛ فقال القاضي لأحدهما: الخبيص أحب إليك أم الفالوذج؟ فقال: الخبيص. وقال الآخر: الفالوذج. فحكم للذي فضل الفالوذج، فسئل عن الحجة؛ فقال: لأن الخبيص يعمل من السكر، والسكر من القند، والقند من القصب، والقصب يمصه الصبيان في الكتاتيب، والصبيان ليس لهم فتوة؛ والفالوذج يعمل من العسل، والعسل من الشهد، والشهد من النحل، والنحل يأوي الجبل، والجبل يكون فيه الصعاليك والصعاليك فتيان.
قال الجماز: رأيت شاطراً وقف على جماعة وقد جرد سكينه وقال: من كلم منكم حمدان الغلام؟ ؛ فقال أحدهم: أنا. قال: فلا حسنٌ ولا جميل. قال: فاجهد جهدك؛ فقال: خذلني الله لو كان غيرك. قال: أنا غيري. قال: والله لو كان غير هذا الموضع. قال: فنحن بفرغانة. فرد صاحبه السكين في قرابه وقال: ويحك، أنت طالب شرٍّ فتيان باب الشام كلهم سعاتر. مالك كذا روش؟ أي: جدبة.
اجتمع أربعة نفرٍ من الشطار يقال لأحدهم: صحناة، ولآخر حرملة، وللثالث: غزون، وللرابع طفشيةٌ، ومعه غلام أمرد يريد أن ينقطع إلى واحد منهم. وكل واحدٍ يطلبه لنفسه؛ فتحاكموا إلى شيخ منهم؛ فقال الشيخ: ليذكر كل واحدٍ ما فعله، وما يقدر عليه حتى أخير الغلام؛ فيصير إلى من أحب؛ فقام صحناة؛ فقال: وال أمك، لو تراني، ضبعوني في عينك، يا بن العلامة. أنا هامان أنا فرعون، أنا عاد، أنا الشيطان الأقلف، أنا الدب الأكشف، أنا البغل الحرون، أنا الحرب الزبون، أنا الجمل الهائج، أنا الكركدن المعالج، أنا الفيل المغتلم، أنا الدهر المصطلم، أنا العير الشارد، أنا، السبع الوارد، أنا سرداب التضريب، أنا بوق الحرب، أنا طبل الشغب، محبوسٌ شرقي غربي، مضربٌ قائم نائم مبطوط الإليتين، معطل الدفتين. أبلغ أسنةً أخرى جواشن، لو ضرب ربك عنقي ما مت بعد سنة. وهذا حمدان فروجٌ في حجري بالأمس، حتى جنى جنايةً رزق الطلب، وحملان - وبيته - ضرب ألفاً فما عبس عسى ينطق أحد.
فقال حرملة: يا بن الصفعان، أنا حبست في أجمةٍ، أكلت ما فيها من السباع، وجعلت الحشيش نقلى، أنا طوف الله الجائح في بحر قلزم. لو كلمني رجلٌ يعثر بسباله لعقدت شعر أنفه إلى شعر استه، وأديره حتى يشم فساه، يابه القنفذ؛ لو كلمني رجل لم الكمه لكمة فأبدد عظامه قلا تجتمع في شهر لو كلمني رجلٌ لم أخرج أنفه وأحرزه في قربةٍ، وأصفعه صفعة، فأبلع رأسه مع رطلين خرا. يابه الجرادة املأ عينك مني والك وأنت زريق الجنى: طعامي الصبر، وريحاني الدم، ونقلي أدمغة الأفاعي. أنا أسست الشطارة، أنا بويت العيارة. يا بن الزارعة الفارشة الهارشة القلاشة النفاشة. من يتكلم؟ . قولوا.
فقام غزون وقال: إيش تقول لي يا بن الطبزدانة؟ ، أنا القدر والجذر والممزوج بالضجر، أنا أبو إيوان كسرى، حولت المحابس والمطابق، وقطعت أكباد الخلائق، أنا أخرق الصفين، وأضرب العسكرين، رفيقي صياح الكلم، وجعفر ابن الكلب، وموسى سلحة، وعيسى ركبة، وكردويه الباقلاني.

وفروج السماط، ودكرويه المكاري. انفوني - ونور الله - إلى الشاش وفرغانة، وردوني إلى: طنجة، وإفرنجة، وأندلس، وإفريقية. ابعثوا بي إلى قاف، وخلف الروم وإلى السد، وإلى يأجوج ومأجوج إلى موضع لم يبلغ ذو القرنين، ولم يعرفه الخضر، أنا شهدت الغول عند نفاسها، وحملت جنازة الشيطان غير جبان، أنا فرعون ذو الأوتاد. إن لم أقبض روحك مشيت سبعةً بلا رأس، قطع ذنبي في كل كرم، قطعت عروقي بكل خنجر، رضت عظامي بكل منجل، لو نخرت نخرةً لخرت صوامع النصارى، وتحطمت قصور بني إسرائيل. لو عضني - ونور الله - الأسد لضرس، ولو كلمني إبليس لخرس، ولو رآني العفريت لخنس.
قال طفشية: أنا قتلت ألف، وجرحت ألف، وأنا في طلب ألف، يا بن الخادمة، يتهيأ لفرعون أخي القحبة أن يقطب في وجهي، أو يقوم بقربي، أو يناظرني كلمةً وكلمة، رأسي مدورة ولحيتي خنجرية، وسبالي مفصلي، واستي خرساء، وأنا مشهور في الآفاق بضرب الأعناق، لا يجوز علي المخراق؛ أنا الربيع إذا قحط الناس، أنا العنى إذا كثر الإفلاس، أنا أشهر من العيد، سل عني الحديد، وفي المطبق الجديد. البيضة مني تسوي ألف، لو حضنت خرج منها ألف شيطان، أنا شققت شدق النمر، وصيرت على الأسد الإكاف، يا كلب انبح، أنا الشجر، أنا الأبحر، أنا تنور يسجر، صديق صديقي، وزورٌ من عنتر، من الجلندا، من كركر، من الأسد، من طاهر الأعور. إبليس إذ آنى قطر. ولو كلمني رجلٌ رأسه من نحاس، ورجليه من رصاص، أصفعه صفعةً فأصير أنفه في قفاه، أنا السهل الهاطل، أنا المقت الشاطر، أنا بلاع القناطر، إن لم ألعب بك في الطبطاب، وأفسيك فسو الصعو في الرطاب باسم شيطاني مستلاب، أنا أقسى من الحجر، وأهدى من القطاة، وأزهى من الغراب، وأحذر من العقعق، وأولع من الذباب، وألج من الخنفساء، وأحد من النورة وأغلى من الترياق، وأعز من السم، وأمر من العلقم، وأشهر من الزرافة.
أنا الموج الكدر، أنا القفل العسر، رأسي سندان، نابي سكين جزار، يدي مطرقة حداد: إيش تقول؟ صادقني وسل عني، أنا صعصعة الحي. أنا خيرٌ لك من غيري. هوذا وجهي إلى الآخرة، لك حاجةٌ إلى ربك؟ هوذا أجد ريح الدم. إيش ترون؟ من ينطق؟ .
فسكت القوم، وبادر الغلام وأخذ بيده وصادقه.
كان بمرو رجلٌ يتفتى ويتشطر، ولم يكن له يومٌ من أيام الفتيان قط ولا فتكةٌ من فتكانهم، إلى أن وقع بينه وبين رجل قصارٍ ضعيفٍ شر، فضربه ضرباً وجيعاً وأذله فكان يفتخر بذلك ويتطاول عند الفتيان به، فتأذى جيرانه بواحد قصابٍ جلد؛ فجاءوه وقالوا: فلان قد تأذينا به، فتكشف عنا شره وتذله. وتكفيناه. فقال: لا أدري من فلان؟ ، ولكن إذا شئتم ضربت لكم القصار وأنزلت كل مكروه به.
وقع بين شاطرٍ وشبه له كلامٌ؛ فقال أحدهما للآخر: لولا أنك أكبر سناً مني لجرحتك، ثم مضى غير بعيد، فوقع بينه وبين آخر. فقال: والله لولا أنك أصغر مني لقاتلتك، فقال له رفيقه: يا بن الزانية، متى يتفق لك توأمٌ تقاتله؟ .
قال بعضهم: مررت بواحدٍ وهو يقول: يا من أمه زورق تسع ألف كرٍّ بالمعدل خردل.
قال بعضهم: رأيت شاطراً يضرب بالقلس، وهو ينظر إلى الأرض؛ فلما بلغ الضرب مائةً قال له الوالي: ارفع رأسك. فقال: يا سيدي، بقي رأسها. قال: وما معنى: بقي رأسها؟ . قال الجلاد: كنت أضربه وهو يصور برجله في الأرض بطةً وقد بقي رأسها.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دخلت على فتيانٍ من أهل المدينة يشربون، وإذا هم متكئون على كلابٍ كردية؛ فقال بعضهم: هاتوا وسادة لأبه محمد؛ فجاءوا بكلب؛ فلما اتكأت عليه قالوا: هاتوا له أيضاً مخدةً؛ فجاءوا بجرو؛ فلكا تناولوا الأقداح جاء غلامٌ وفي يده قداحة يقدح في لحية من يحبس القدح.
عزل حارس ناحيةٍ؛ فجاء قومٌ إلى المعزول يتوجعون له؛ فقال بعضهم: لو كان غريباً عذرناه، وإنما العجب أنه أخوك؛ فقال: اعذروه فإن الملك عقيقٌ، يريد عقيم.

كان عثمان الخياط من كبار الفتيان والشطار؛ فقال: ما سرقت جاراً قط ولو كان عدواً، ولا سرقت كريماً رأنا أعرفه، ولا خنت من خانني. ولا كافأت غدراً بغدر، ولقد قتلت بيدي أكثر من مائة خناق ومبنج؛ لأنهما لا يقتلان ولا يسلبان إلا عند وجوب الحرمة، وعند الاسترسال والثقة. وكان يسمى الخياط لأنه نقب نقباً فأخرج كل شيءٍ كان في البيت، حتى دثار الدار صاحب الدار وشعاره، ثم خرج وسد النقب، وسواه تسويةً كأنه خاطه أو رفاه، فلقب بالخياط.
وكان سليمان بن طرادٍ منهم، وكان لا يقعد في دهليزه، ولا يشرب من جناحه، بل يصير في قصرٍ من قصور الأبلة، ولا يطلع في كوةٍ، ويأمر بذلك أصدقاءه وأصحابه، ويقول: إن تعودتم النظر إلى الماء والخروج إلى المتنزهات جزعتم من الحبس لم تدفعوا ضيماً، ولم تكسبوا مالاً.
وكان يقول: لا يعجبني الفتى يكون لحاظاً. وكان صاحب إطراقٍ.
وكان يقول: إياكم وفضول النظر، يدعو إلى فضول القول والعمل.
ومنهم بابويه؛ وكان شيخاً كبيراً ذا رأي ونجدة، وصدق وأمانة، وهمةٍ بعيدة، وأنفةٍ شديدة.
وكان محبوساً بعدة دماء فلما نقب حمير بن مالك السجن، وقام على باب النقب يشرب الناس ويحميهم؛ ليستتم الكرامة، وجاء رسوله إلى بابويه، فقال: أبو نعامة ينتظرك، وليس له هم سواك، وما بردت مسمارً، ولا فككت حلقة، وأنت قاعد غير مكترثٍ ولا محتفلٍ وقد خرج الناس حتى الضعفاء؛ فقال بابويه: ليس مثلي يخرج في الغمار، وتدفع عنه الرجال. لم أشاور ولم أؤامر. ثم يقال لي الآن: كن كالظعينة، والأمة، والشيخ الفاني. والله لا أكون في الجنة تابعاً ذليلاً.
فلم يبرح، وخرج سائر الناس - وإجرامه وحده كإجرام الجميع - فلما جاء الأمير ودخل السجن فلم ير فيه غيره قال للحرس: ما بال هذا؟ . فقصوا عليه القصة؛ فضحك وقال له: خذ أي طريق شئت؛ فقال بابويه: هذا عاقبة الصبر.

الباب الثالث عشر
العي ومكاتبات الحمقى
كتب بعض الرؤساء إلى وكيلٍ له في ضيعةٍ: وقد وصلت النعاج، وهي: تسع نعاج. وتسع نعاجٍ أربعٌ ونصفٌ نعاج.
وكتب فلان ابن فلان في الوقت المؤرخ فيه.
قال بعضهم: ما من شرٍّ من دين؛ فقيل له: ولم ذاك؟ . قال: من جراء يتعلقون.
قال قاسم التمار في كلام له: بينهما كما بين السماء إلى قريبٍ من الأرض.
وقال أيضاً: لو رأيت إيوان كسرى كأنما رفعت عنه الأيدي أول من أمس.
وقال الجاحظ: قال لي ابن بركة: يا أبا عثمان، لا تثقن بقحبةٍ ولو كانت أمك. قال: فلم أر تأديباً قط أبعد من جميع الرشد من هذا.
قرأت لبعض كتاب الزمان في كتاب سلطان أنشأن: ما سمع قرعي هذا. يريد: ما قرع سمعي.
وبعض كتاب الأمراء يوقع في الصكاك والمناشير: اللهم ألبسنا العافية.
وكان بعض أكابر كتاب عضد الدولة يوقع في الصكاك: الحمد لله فتاح المغاليق؛ فكتب بعض البغداديين تحت توقيعه: شربي وشربك مذ جئنا على الريق.
تظلم أهل قم إلى عبد الله القمي وزير ركن الدولة من أخيه - وكان واليهم - ورفعوا إليه رقعة؛ فوقع في قصتهم: من دفع في أخي درهماً دفعت فيه ديناراً؛ فإن ودى ودى، وإن لا ودى خرج من دقه وجلده حتى ودى؛ والسلام.
قال بعضهم: جئت إلى كاتبٍ وسألته كتاب شفاعةٍ إلى بعض أصدقائه؛ فكتب: يجب أن تصونه وتحوطه، وترد عليه خطوطه. قال: فقلت: الرجل لم يعرفني قط وليس معه شيءٌ من خطوطي؛ فقال: إن أردت أن تأخذ الكتاب فخذه، وإلا فإني لا أضيع سجعي.
قال بعضهم: كتب إلى جامع الصيدلاني كتاباً؛ فكتب جوابه. وجعل عنوانه مني إلى ذاك الذي كتب إلي.
كتب ابن المتوكل إلى محمد بن عبيد الله يطلب فهداً؛ فكتب إليه: نحرت عند مقام لا إله إلا الله؛ صلى الله على سيدي فديته، إن كان عندي مما طلبته وزن دنقٍ فلا تظن يا سيدي أني أبخل عليك بالقليل دون الكثير فضلاً عن الكثير، والسلام.
وكتب معاوية بن مراون - وكان محمقاً - إلى الوليد بن عبد الملك: قد بعثت إليك بقطيفةٍ حمراء حمراء حمراء؛ فكتب في جوابه: قد وصلت، وأنت أحمق أحمق أحمق.
قال أبو العيناء: كتب بعضهم إلى صديقٍ له: بسم الله الرحمن الرحيم.
وأمتع بك، حفظك الله واتقي لك من للنار سوء الحساب. كتبت إليك والدجلة تطفح، وسفن الموصل هاهنا، والخبز رطلين؛ فعليك بتقوى الله، وإياك والموت؛ فإنه طعام سوءٍ، والسلام.

وكتب بعض الهاشميين إلى السندي بن شاهك.
باسم الله وأمتع بك: إن أخا خادمي أخذ رجلاً من الشرط بسبب كلب يقال له موسى، وموسى ليس عندنا يداعى؛ فإن رأيت أن تأمر بسبيل تخليته فعلت إن شاء الله.
وكتب بعض ولد المتوكل إلى أبي أحمد الموفق: أطال الله بقاءك يا عمي، وأدام عزك وأبقاك: أنا " - وحق النبي صلى الله عليه وسلم - أحبك أشد من المتوكل وأشد من والدي، ولا أحتشمك أيضاً. وقد جابوا لك مطبوخ من عكبرا، فأحب أن تبعث إلي منه خمس دنان وإلا ثلاث خماسيات، ولا تردني فأحرد بحياتي.
وكتب بعض الهاشميين إلى علي بن يحيى بن المنجم: بسم الله الرحمن الرحيم.
أستوهب الله المكاره كلها فيك يا سيدي برحمته، وأحب يا سيدي أنت أن تسقيني زبيب نبيذٍ وعسلٍ، فإني عندي رجلٌ يشرب المطبوخ إن شاء الله.
وكتب إلى صديقٍ له: فدتك نفسي. أنا وحدي، والجواري عندي، وأنا وأبو إسحاق وأبي العباس في البستان، موفقاً إن شاء الله.
وكتب إلى آخر يستعير منه دابة: أردت الركوب في حاجةٍ إن شاء الله؛ فكتب إليه الرجل: في حفظ الله.
قال أبو العيناء: شكا بعض جيران محمد بن عبيد الله بن المهدي إليه أذى غلمانه للجيران؛ وسأله أن ينهاهم. فكتب إليه محمد قبل كل شيء؛ فصحبك الله، أمالي بخيرٍ حين تشكو الغلمان بسبب الجيران لم هم مملوكين. وكم ثمن دارك؟ . لو كانت مثل قصر الخليفة حتى، لم أكن أمتنع من هبتها لغلامك ولو خرجت عن دخول بغداد. إني والله لو كنت حارس الكلب إذا كنت غائباً عنها. وأعوذ بالله لو كلمتك عشر سنين؛ فانظر الآن أنت إلي، علي المشي إلى بيت الله - أعني به الطلاق - وثلاثين حجةً أحرار لوجه الله، وسبيلي حبسٌ في دواب الله. فعلت موفقاً إن شاء الله.
قال: وكتب زنقاح - وهو محمد بن أحمد بن علي بن المهدي - إلى طبيبه: ويلك يا بو حنا، وأتم نعمته عليك. قد شربت الدواء خمسين مقعداً، المغص والتقطيع يقتلان بطني، والرأس فلا تسل له مصدعاً بعصابةٍ مذ بعد أمس، فلا تؤخر احتباسك عني. فسوف أعلم أني سأموت، وتبقى أنت بلا أنا. فعلت موفقاً إن شاء الله.
وكتب إلى صديقٍ له يطلب منه بخوراً.
شممت منك اليوم - وحق الله عزك الله - رائحةً طيبةً وذلك وحياتك بإطراح الحشمة موفقاً، إن شاء الله.
قال: وكتب آخر إلى أبيه من البصرة: كتابي هذا ولم يحدث علينا إلا خير والحمد لله، إلا أن حائطنا وقع، فقتل أمي وأختي وجاريتنا، ونجوت أنا والسنور والحمار. فعلت إن شاء الله.
قال أبو العيناء: شكا بعض الكتاب في نكبته وكان قد وزر فقال: أخذوا مالي، وقلعوا أسناني إلا أن داري لم تبرح مكاني.
قال أبو هفان: سمعت بعض الحمقى يخاصم امرأته، وفي جيرتهم أحمق آخر، فاطلع عليهم؛ فقال: ما هذا، اعمل مع هذه كما قال الله تعالى: " إما إمساكٌ بإيش اسمه، وإما تسريحٌ بإيش يقال له " فضحكت من حسن بيانه.
وكتب آخرٌ إلى صديقٍ له يعزيه عن دابته: بسم الله الرحمن الرحيم. جعلني الله فداك، بلغني منيتك بدابتك، ولولا علةٌ نسيتها إليك حتى أعزيك في نفسي.
جاء رجلٌ إلى الرشيد؛ فقال:يا أمير المؤمنين، إني قد هجوت الرافضة. فقال: هات. فأنشد:
رغيفاً وسمناً وزيتوناً ومظلمة ... من أن ينالوا من الشيخين طغيانا
فقال: ويلك فسره لي. قال: يا أمير المؤمنين، معك مائة ألف رجل من الجند لا تعرفه، كيف أعرفه أنا وحدي؟ .
قال أبو عثمان: حدثني مسعدة بن طارق قال: والله إنا لوقوفٌ على حدود دار فلان للقسمة - ونحن في خصومةٍ - إذا أقبل سيد بني تميم وموسرهم، والذي يصلي على جنائزهم؛ فلما رأيناه مقبلاً أمسكنا عن الكلام؛ فأقبل علينا؛ فقال: حدثوني عن هذه الدار هل ضم منها بعضٌ إلى بعضٍ أحداً؟ . قال مسعدة: فأنا منذ ستين سنة أفكر في كلامه، ما أدري ما عنى به.
كانت علامة أبي الحمار لما تقلد ديوان الخراج في سنة الفتنة، التي كان يوقعها في الصكاك: لا إله إلا الله. ما أعجب ما نحن فيه. فكان بعض الكتاب بعد ذلك يقول: لا والله، ما نحن إلا في علامة أبي الحمار.

حكى عن حمزة بن نصير - مع جلالته عند سلطانه، وموضعه من ولائه - : أنه دخل على امرأته، وعندها ثوب وشى؛ فقالت له: كيف هذا الثوب؟ . قال: بكم اشتريته؟ . قالت: بألف درهم. قال: قد - والله - وضعوا في استك مثل ذا، وأشار بكفه مقبوضة مع ساعده؛ فقالت: لم أزن الثمن بعد. قال: فخاصهم بعد في يدك. قالت: فأختك قد اشترت شراً منه بألفين. قال: إن أختي تضرط من استٍ واسعة. قالت: ولكن أمك عرض عليها فلم ترده. قال: لأن تلك في استها شعرة.
قال أحمد بن الطيب: هذا كلام الخرس أحسن منه.
قال أبو هفان: رأيت شيخاً بالكوفة قاعداً على باب دار، وله زي وهيئة وفي الدار صراخ. فقلت: يا شيخ، ما هذا الصراخ؟ ، فقال: هذا رجلٌ افتصد فبلغ المبضع شادروانه فمات. يريد: بلغ المبضع شريانه.
وصف بعضهم امرأةً؛ فقال: عينها الأخرى أكبر من عينها الأخرى.
كتب بعض من وزر بالري آنفاً كتاباً في معنى أبيه إلى صديق له ببغداد - وكان قد حج أبوه - : هذا الكتاب يوصله فلانٌ ابن فلان، وهو والدي، وقديم الصحبة لي، واجب الحق علي، ولي بأمره عناية.
ودخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد، على أن يشتري طعاماً من طعامهم في بعض البيادر؛ فقال لها: إني قد رأيت متاعك. فقال هاشمية: قل طعامك. قال: وقد أدخلت فيه يدي فإذا متاعك قد خم وحمى. وقد صار مثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب، أليس قد قلبت الشعير، فأعطنا ما شئت، وإن وجدته فاسداً.
ودخل أبو طالب هذا على المأمون؛ فقال: كان أبوك يا با خيراً لنا منك، وأنت يا با ليس تعدنا، وليس تبعث إلينا، ونحن يا با تجارك وجيرانك. والمأمون في كل ذلك يتبسم.
قال الجاحظ: كتب رجلٌ إلى صديقٍ له: بلغني أن في بستانك آساً بهمنياً فهب أي أمراً من أمر الله العظيم.
قال: وهو الذي قال: كان عياشٌ وثمامة حتى يعظمني تعظيماً ليس في الدنيا مثله.
فلما مات ثمامة صار ليس يعظمني تعظيماً ليس في الدنيا مثله.
وكان ابنٌ لسعيدٍ الجوهري يقول: صلى الله تبارك وتعالى على محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وكان بالري وراقٌ حسن الخط، وكان إذا كتب اسم الله تعالى أو اسم النبي في القرآن أو الشعر بعدهما ما يكتبه الانسان في سائر المواضع فكان يكتب في القرآن: " إن الله - عز وجل - يأمر بالعدل والإحسان " . " وما محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل " .
وكان يكتب في الشعر:
إن تقوى ربنا عز وجل خير نفلوبإذن الله تبارك وتعالى ريثي وعجل
ويكتب:
هجوت محمداً صلى الله عليه وسلم فأجبت عنه: وعند الله تعالى في ذاك الجزاء
وقال الجاحظ قلت لنفيس غلامي: بعثتك إلى السوق في حاجةٍ فلم تقضها؛ فقال: يا مولاي، أنا ناقةٌ من مرضي، وليس في ركبتي دماغ.
وقال الجاحظ: قال الحجاج لأبي الجهير الخراساني النخاس: أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان؟ ؛ فقال: شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في مدائنها، وكما يجيء يكون. قال الحجاج: ما تقول؟ . قال بعض من كان قد اعتاد الخطأ وكلام العلوج بالعربية: يقول: شركاؤنا بالأهواز وبالمدائن يبعثون إلينا هذه الدواب؛ فنحن نبيعها على وجوهها.
قال ابن أبي فنن: طلبت من عبد الله بن أحمد بن الخصيب بخوراً؛ فكتب إليه: فدتك نفسي من السوء برحمته، كتابي إليك وأنا وحدي، والجواري عندي؛ فأما البخور فإن أبا العباس في الحمام إن شاء الله.
وكتب بعض الشيوخ الفضلاء إلى شيخ من العدول بالري نفقت بغلته: نبئت أن الشيخ قد مات بغلته، هيهات هيهات.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وعلى آله الطاهرين وسلم تسليماً.
/الفصل الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا إلى الجنة بتوفيقه وتوقيفه، وعدل بنا عن النار بتحذيره وتخويفه، وأرسل رسله مبشرين برحمته الواسعة، ومنذرين بنعمته النازعة، وخص محمدا صلى الله عليه وعلى آله من بينهم في الآخرة بالحوض والشفاعة، والشرف والكرامة.

وبالدرجات العلا، وبسدرة المنتهى وفي الدنيا بالبرهان الباهر، والسلطان القاهر، والمعجز الساطع، والسيف القاطع، والصراط المستقيم، والسبع المثاني والقرآن العظيم،وجعل أمته أكثر الأمم عددا، وأوسطهم سددا، وأطولهم أمدا، وأهداهم قصدا، وأبينها رشدا، ونسخ بملته الملل، وبنحلته النحل، ووصل شريعته باليوم الآخر، وجعلها خاتمة الشرائع والأوامر.
وأيده بسيفه المهند، وسهمه المسدد، وشباته المرهفة، وقناته المثقفة، خاصف النعل، وآكل الطير، وقسيم الجنة والنار، فقتل غطارفة قريش، وجبابرة هوازن وثقيف، وطواغيت قريظة والنضير، حتى أذعن المعاند، وأقر الجاحد، وذل الباذل وتطامن الشماخ، وظهر دين الله، وتب أعداء الله، " وقيل بعداً للقوم الظالمين " .
اللهم إنا نشكرك على نعمتك التي نرى توفيقك لشكرها نعمة أخرى، هي بالحمد لها أولى، وبالثناء عليها أحرى، أنعمت علينا بحسب قدرتك المطيفة بالخلق، وكلفتنا من الشكر بقدر قوتنا الضعيفة على أداء الحق، ورضيت منا بالميسور من الحمد، وبالعفو من الشكر دون الجهد، فأنت المحمود على نعمتك، والمعبود لعزتك، والمدعو وحدك لا شريك لك، أحاط علمك بالخفية، وانبسطت يدك بالعطية، وأذل عزك الجبابرة، وقهر ملكك الملوك القاهرة، مالك الخلق .الأمر، ومنشئ السحاب ومنزل القطر.
نعوذ بك من الخضوع والقنوع ، والقلة والذلة ، والمهانة والاستكانة ، والطبع والطمع ، ومن الحسد المضنى ، ومن الحرص المعنى ، ومن الغضاضة في النفس ، والخصاصة في الحال ، ومن سوء المآب وشر المال ، ومن كل ما تطأطأ له الرءوس وتطامن له النفوس .
كما نعوذ بك من البصر والأشر ، والبذخ والنخوى ، وسوء احتمال الغنى والثروى ، والاستئثار بالخير والنعمة ، وقساوة القلب وقلة الرحمة ، ومن استضعاف العائل ، وانتهار السائل ، ومن سوء الملكة عند الاقتدار ، ومن التعدي عند الانتصاف ، والاعتداء عند الانتصار ، ومن الاستهانة بذي القربى الضعيف ، والجار المهين ، والاستطالة على ما ملكتنا رقابة من ملك اليمين .
اللهم أنت أعلم بمصالح أحوالنا وعواقب أعمالنا ، فسددنا لما فيه خير الدنيا وخير الاخرة ، وصل على محمد النبي وعترته الطاهرة هذا هو الفصل الرابع من كتاب نشر الدر ، وهو أحد عشر بابا : الباب الاول : كلام شرائف النساء الباب الثاني : نكت من كلام سائر نساء العرب وجواباتهن المستحسنة الباب الثالث : الحيل والخدائع الباب الرابع : نكت من كلام الحكماء الباب الخامس : جنس آخر من الحكم والآداب ، وهو ما جاء على لفظ الأمر والنهى الباب السادس : جنس آخر من الحكم والأمثال الباب السابع : نكت في سياسة السلطان وأدب الرعية الباب الثامن : نوادر الجوارى والنساء المواجن الباب التاسع : نوادر القصاص الباب العاشر : نوادر القضاء ومن يتقدم إليهم الباب الحادي عشر : نوادر لأصحاب النساء والزناة والزواني.

الباب الأول
كلام للنساء الشرائف
فاطمة ابنة رسول الله
عليها السلام
قالوا: لما بلغ فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر منعها فدكا لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس ثم أمهلت هنيهة، حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بحمد الله والثناء عليه 347 والصلاة على رسوله صلى الله عليه، ثم قالت:

" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " . فإن تعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، بالغاً بالرسالة، مائلاً عن سنن المشركين، ضارباً لشبحهم، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذاً بأكظام المشركين، يهشم الأصنام ويفلق الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشيطان، وتمت كلمة الإخلاص، " وكنتم على شفا حفرة من النار " ، ثهزة الطامع، ومذقة الشارب، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، يخطفكم الناس من حولكم، حتى أنقذكم الله برسوله صلى الله عليه بعد اللتيا واللتي، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب " كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله " . أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة للمشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها بسيفه - ويخمد لهيبها بحده مكدوداً في ذات الله. وأنتم في رفاهة فكهون آمنون وادعون.
حتى إذا اختار الله لنبيه صلى الله عليه دار أنبيائه ظهرت حسكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً بكم، فدعاكم فألقاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة ملاحظين؛ ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً؛ فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لما يندمل. أبماذا زعمتم: خوف الفتنة؟ " ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " ، فهيهات فيكم، وأنى بكم، وأنى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، زواجره بينة، وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ " بئس للظالمين بدلا " " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تشربون حسوا في ارتغاء، ونصير منكم على مثل حز المدى وأنتم الآن تزعمون لا إرث لنا " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون " إيها معشر المسلمة المهاجرة؛ أأبتز إرث أبيه؟ أبى الله في الكتاب يا بن قحافة، أن ترث أباك ولا أرث أبيه. لقد جئت شيئاً فرياً، فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم لله، والزعيم محمد صلى الله عليه، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون " ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون " ثم انكفأت على قبر أبيها صلى الله عليه فقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبشة ... لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... واختل أهلك فاحضرهم ولا تغب
وذكر أنها لما فرغت من كلام أبي بكر والمهاجرين عدلت إلى مجلس الأنصار فقالت: يا معشر الفئة، وأعضاد 348 الملة، وحضنة الإسلام، ما هذه الفترة في حقي؟ والسنة في ظلامتي؟ أما كان لرسول الله صلى الله عليه أن يحفظ في ولده؟ لسرع ما أحدثتم! وعجلان ذا إهانة أتقولون: مات محمد صلى الله عليه؟ فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه وفقد راتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وخشعت الحبال، وأكدت الآمال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته صلى الله عليه، وتلك نازلة علن بها كتاب الله في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم، تهتف في أسماعكم ولقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله صلى الله عليهم. " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين " .

إيها بني قيلة؛ أأهتضم تراث أبيه وأنتم بمرأى مني ومسمع؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الحيرة، وفيكم العدد والعدة، ولكم الدار، وعندكم الجنن، وأنتم الألى نخبة الله التي انتخب لدينه، وأنصار رسوله صلى الله عليه، وأهل الإسلام والخيرة التي اختار الله لنا أهل البيت فنابذتم العرب، وناهضتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح نأمركم فتأتمرون، حتى دارت لكم بنا رحا الإسلام، ودر حلب الأيام وخضعت نعرة الشرك، وباخت نيران الحرب، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فأنى حرتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام، وأسررتم بعد التبيان، لقوم نكثوا " أيمانهم اتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين " .
ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فعجتم عن الدين، ومججتم الذي وعيتم، ولفظتم الذي سوغتم " إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد " ألا وقد قلت الذي قلته عن معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم، واستشعرته قلوبكم. ولكن قلته فيضة النفس، ونفثة الغيظ. وبثة الصدر، ومعذرة الحجة فدونكموها فاحتقبوها مدبرة الظهر، ناقبة الخف، باقية العار مرسومة بشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة. فبعين الله ما تفعلون " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعلموا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون.
قالوا: لما مرضت فاطمة عليها السلام دخل النساء عليها وقلن: كيف أصبحت من علتك يا بنة رسول الله؟ قالت: أصبحت والله عائفة لدنياكم، قاليةً لرجالكم؛ لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنئتهم بعد أن سبرتهم، فقبحاً لفلول الحد، وخطل الرأي " ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون " لا جرم لقد قلدتهم ربقتها، وشنت عليهم غارتها فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين.
ويحهم. أين زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين، والطبن بأمر الدنيا والدين " ألا ذلك هو الخسران المبين " ما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا والله نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته وتنمرة في ذات الله، وتالله لو تكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه لاعتقله، ولسار بهم سجحاً لا يكلم خشاشه ولا يتعتع 349 راكبه، ولأوردهم منهلاً روياً فضفاضاً، تطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً، وقد تحيز بهم الرأي، غير مستحل منه بطائل، إلا بغمر الناهل، أو دعة سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.
ألا هلم فاستمع. وما عشت أراك الدهر عجباً وإن تعجب فعجب لحادث إلى ملجأ لجئوا واستندوا، وبأي عروة تمسكوا، " لبئس المولى ولبئس العشير " .
واستبدلوا والله الذنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " ويحهم " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون " .
أما لعمر إلهك لقد لقحت فنظرة ريث ما تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب دما عبيطا، وذعافاً ممقراً، فهنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن أنفسكم أنفساً، وطامنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً فيا حسرة بكم، وقد عميت عليكم " أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " .

عائشة أم المؤمنين
رضي الله عنها
روى أنه لما كان يوم الجمل قامت عائشة فتكلمت فقالت: أيها الناس، إن لي عليكم حق الأمومة وحق الموعظة، لا يتهمني إلا من عصى ربه. قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي، وخصني من كل بضع وبي ميز مؤمنكم من منافقكم، وفي رخص لكم في صعيد الأبواء وأبي رابع أربعة من المسلمين، وأول مسمى صديقاً.
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض فوقذ النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشت يهود، وأنتم حينئذ جحظ تنتظرون العدوة، وتستمعون الصيحة، فراب الثأي، وأوذم العطلة، وامتاح من المهوات، واجتهر دفن الرواء؛ فقبضه الله واطئاً على هامة النفاق، مذكياً نار حرب المشركين، يقظان في نصرة الإسلام، صفوحاً عن الجاهلين.
وروي أنها قالت:

تبرأت إلى الله من خطب جمع شمل الفتنة، وفرق أعضاء ما جمع القرآن أنا نصب المسألة عن مسيري؟ هذا، ألا وإني لم أجرد وإثماً أدرعه، ولم أدلس فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صدقاً وعذراً واعتذاراً وتعذيراً، وأسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، وأن يخلفه في أمته أفضل خلافة المرسلين.
قال: فانطلق رجل بمقالتها هذه إلى الأحنف، فقال الأحنف أبياتاً كثيرة يقول فيها:
فلو كانت الأكنان دونك لم يحد ... عليك مقالاً ذو أذاةٍ يقولها
فبلغ عائشة مقالته فقالت: لقد استفرغ حلم الأحنف هجاؤه إياي إلي كان يستجم مثابة سفهه؟ إلى الله أشكو عقوق أبنائي.
قال بعضهم: شهدت عائشة يوم الجمل وقد ثاب إليها الناس فقالوا: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن عثمان، فقالت: إنا نقمنا على عثمان 350 ثلاثاً: إمرة الفتى، وضرب السوط، وموقع الغمامة المتحاماة، حتى إذا أعتبنا منهن مصتموه موص الثوب بالصابون، ثم عدوتم به الفواقر، أو الفقر الثلاث: حرمة الإسلام، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام. والله لعثمان كان أتقاهم للرب، وأوصلهم للرحم، وأعفهم للفرج، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وروي أنه بلغها أن ناساً يتناولون أبا بكر، فأرسلت إلى أزفلة من الناس، فلما حضروا أسدلت أستارها، وأعلت وسادها، ثم دنت فحمدت الله، وأثنت عليه، وصلت على نبيه صلى الله عليه وسلم، وعذلت وقرعت وقالت: أبي وما أبيه! أبي والله لا تعطوه الأيدي، طود منيف، وظل مديد، هيهات هيهات!! كذبت الظنون. أنجح والله إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
فتى قريش ناشئاً، وكهفها كهلاً، يريش مملقها، ويفك عانيها ويلم شعثها ويرأب صدعها حتى حلته قلوبها، ثم استشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله، حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيى فيه ما أمات المبطلون.
وكان رحمة الله عليه غزير الدمعة، وقيذ الجوانح شجي النشيج، فانفضت إليه نسوان مكة وولدانها، يسخرون منه، ويستهزئون به. " الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " وأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت إليه قسيها، وفوقت له سهامها وامتثلوه غرضاً فما حلو له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وألقى بركه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجاً، ومن كل شرعة أشتاتاً وأرسالاً اختار الله جل اسمه لنبيه صلوات الله عليه وسلامه وتحياته ما عنده، فلما قبض الله رسوله ضرب الشيطان برواقه، ومد طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده، وماج أهله وبغى الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت نهزها، ولات حين التي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم؟ فقام حاسراً مشمراً قد جمع حاشيتيه، ورفع قطريه، فرد نشز الدين على غره، ولم شعثه بطبه، وأقام أوده بثقافه، فامذقر النفاق بوطئه، وانتاش الدين فنعشه.
فلما أراح الحق على أهله، وأقر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها حضرته منيته، نضر الله وجهه، فسد ثلمته بنظيره في الرحمة ومقتفيه في السيرة والمعدلة؛ ذلك ابن الخطاب، لله أم حملت به، ودرت عليه. لقد أوحدت، ففنخ الكفرة ودنخها، وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض ونجعها، فقأت أكلها، ولفظت خبأها؛ ترأمه ويصدف عنها، وتصدى له ويأباها، ثم وزع فيئها فيها، وودعها كما صحبها. فأروني ماذا ترتأون. وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم أو يوم ظعنه إذ نظر لكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وقالت: لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها، قبض رسول الله صلى الله عليه، فاشرأب النفاق، وارتدت العرب قاطبة. وعاد أصحاب محمد كأنهم معزى مطيرة في خفش، فما اختلفوا فيه من أمر إلا طار أبي بغلائه وغنائه.
ومن رأى ابن الخطاب علم أنه كان عوناً للإسلام، كان والله أحوذياً نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها.
ولما هلك أبو بكر الصديق رحمه الله قامت على قبره فقالت:

نضر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزاً بإقبالك عليها. ولئن كان أعظم المصائب بعد رسول الله صلى الله عليه رزؤك، وأكبر الأحداث بعد فقدك، إن كتاب الله ليعد بحسن العزاء عنك حسن العوض منك، فنحن نتنجز من الله موعوده بالصبر عليك، ونستعيضه منك بالاستغفار لك؛ أما لئن كانوا قاموا بأمر الدنيا لقد قمت بأمر الدين حين وهى شعبه وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه، فعليك سلام الله سلام توديع غير قاليةٍ لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.
روي عن ابن عباس قال: بعثني علي عليه السلام بعد دخوله البصرة إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى بلادها، فأتيتها فدخلت عليها، فلم يوضع لي شيء أجلس عليه، فتناولت وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها، فقالت: يا بن عباس: أخطأت السنة؛ قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا. فقلت: ما هذا بيتك الذي أمرك الله أن تقري فيه، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك. ثم قلت: إن أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى بلادك. قالت: وأين أمير المؤمنين؟ ذاك عمر. فقلت: ذاك عمر وعلي. قالت: أبيت أبيت. قلت: أما والله ما كان إباؤك إلا قصير المدة، عظيم التبعة، قليل المنفعة، ظاهر الشؤم: بين النكد. وما عسى أن يكون إباؤك؟ وما كان أمرك إلا كحلب شاة، حتى صرت لا تأمرين ولا تنهين، ولا تأخذين ولا تعطين، وما كان مثلك إلا كقول أخي بني أسد:
مازال إهداء الضغائن بيننا ... نثو الحديث وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن صوتك فيهم ... في كل نائبة طنين ذباب
قال: فبكت حتى سمعت نحيبها من وراء الحجاب ثم قالت: إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله؛ والله ما من بلد أبغض إلي من بلد أنتم به. قال: قلت: ولم ذاك؟ فوالله لقد جعلناك للمؤمنين أماً، وجعلنا أباك صديقاً. قالت: تكلمني يا بن عباس أتمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت به علي. قال: فأتيت علياً فأخبرته بقولي وقولها. فقبل بين عيني ثم قال: " ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " .
وروي أن عائشة قالت: مكارم الأخلاق عشر: صدق الحديث، وصدق البأس، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
روي عن هوذة بن نافع قال: سألت عائشة ما الذي حملك على قتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قالت: لأنت أجرأ من خاصي الأسد.
وكتبت إليها أم سلمة لما همت بالخروج إلى البصرة: يا عائشة؛ إنك جنة بين رسول الله صلى الله عليه وبين أمته، وحجابك مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تملخيه، وسكني عقيراك فلا تصحريها لو ذكرتك قولةً من رسول الله صلى الله عليه لتهششت تهشش الرقشاء المطرقة. ما كنت قائلة لرسول الله صلى الله عليه لو لقيك ناصةً قعوداً من منهل إلى منهل؟ قد برحت عهيداه، وهتكت ستره. إن عمود الدين لا يرأب بالنساء، ولا يقام بهن إذا انصدع. حماداهن خفض الأعراض، وقصر 352 الوهازة. اجعلي قاعدة البيت قبرك حتى تلقيه وأنت على ذلك.
فقالت عائشة: يا أم سلمة، ما أعرفني بنصحك! وأقبلني لوعظك وليس الأمر حيث تذهبين، ما أنا بمغترة بعد قعود، فإن أقم ففي غير حرج، وإن أخرج ففي إصلاح بين فئتين من المسلمين متشاحنتين.
وقيل لعائشة إن قوماً يشتمون أصحاب محمد صلى الله عليه فقالت: قطع الله عنهم العمل ما أحب أن يقطع عنهم الأجر.
ورأت رجلاً متماوتاً فقالت: قطع الله عنهم العمل ما أحب أن يقطع عنهم الأجرولأت رجلاً متماوتاً.
ما هذا؟ فقالوا: زاهد. فقالت: قد كان عمر رضي الله عنه زاهداً، فكان إذا قال أسمع وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب في ذات الله أوجع.
وذكر أنها لما احتضرت جزعت. فقيل لها: أتجزعين يا أم المؤمنين وأنت زوجة رسول الله صلى الله عليه وأم المؤمنين وابنة أبي بكر الصديق؟ فقالت: إن يوم الجمل معترض في حلقي. ليتني مت قبله أو كنت نسياً منسياً.
وروي عن أبي الأسود قال: أنفذني عثمان بن حنيف مع عمران بن حصين إلى عائشة فقلنا: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن مسيرك هذا أعهد عهده رسول الله صلى الله عليه أم رأي رأيته؟ قالت:

بل رأي رأيته حين قتل عثمان إنا نقمنا عليه ضربة السوط. وموقع السحابة المحمية، وإمرة سعيد والوليد فعدوتم عليه فاستحللتم منه الحرم الثلاث،حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام، بعد أن مصناه كما يماص الإناء فاستتبناه، فركبتم منه هذه ظالمين. أغضبنا لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيفكم؟ قلت: ما أنت وسيفنا وسوط عثمان؟ وأنت حبيس رسول الله صلى الله عليه. أمرك أن تقري في بيتك، فجئت تضربين الناس بعضاً ببعض. قالت: وهل أحد يقاتلني أو يقول غير هذا؟ قلت: نعم. قالت: ومن يفعل ذلك؟ أزنيم بن عامر؟ هل أنت مبلغ عني يا عمران؟ قال: لا لست مبلغاً عنك خيراً ولا شراً، قلت: لكني مبلغ عنك. هات ما شئت. قالت: اللهم اقتل مذمماً قصاصاً بعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وأدرك عماراً بحفرته في عثمان.
وروي أنها كانت تقول: لا تطلبوا ما عند الله من عند غير الله بما يسخط الله.
وكانت تقول: لله در التقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء.
وقالت يوم الحكمين: رحمك الله يا أبت، فلئن أقاموا الدنيا فلقد أقمت الدين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه، وانقبضت عما إليه أصغوا، وشمرت فيما عنه ونوا، واستصغرت من دنياك ما أعظموا، ورغبت بدينك عما أغفلوا؛ أطالوا عنان الأمن واقتعدت مطي الحذر، فلم تهضم دينك، ولم تنس غدك، ففاز عند المساهمة قدحك، وخف مما استوزروا ظهرك.
وروي أنه لما قتل عثمان قالت: أقتل أمير المؤمنين؟ قالوا: نعم، قالت: فرحمه الله وغفر له. أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحق وتأييده، وإعزاز الإسلام وتأكيده، أحوج منكم إلى ما نهضتم إليه، من طاعة من خالف عليه، ولكن كلما زادكم الله نعمةً في دينكم ازددتم تثاقلاً في نصرته طمعاً في دنياكم. أما والله لهدم النعمة أيسر من بنائها، وما الزيادة إليكم بالشكر بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر، وأيم الله لئن كان فني أكله، واخترم أجله، لقد كان عند رسول الله صلى الله عليه كذراع 353 البكر الأزهر، ولئن كانت الإبل أكلت أوبارها إنه لصهر رسول الله صلى الله عليه، ولئن كان برك عليه الدهر بزوره وأناخ عليه بكلكله، إنها النوائب تترى تلعب بأهلها وهي جادة وتجذبهم وهي لاعبة، أما والله لقد حاط الإسلام وأكده، وعضد الدين وأيده، ولقد هدم الله به صياصي الكفر، وقطع به دابر المشركين، ووقم به أركان الضلالة، فلله المصيبة به ما أفجعها والفجيعة به ما أوجعها! صدع الله بمقتله صفاة الدين، وثلمت مصيبته ذروة الإسلام.
وقالت: من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن أرضى الناس بإسخاط الله عز وجل ذكره وكله الله إلى الناس.
وقالت: إنما النكاح رق فلينظر امرء من يرق كريمته.
وقالت: خرجت أقفو آثار الناس يوم الخندق، فسمعت وئيد الأرض خلفي، فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ.
وقالت لها امرأة: أأقيد جملي؟ قالت: نعم، قالت: أقيد جملي؟ فلما علمت ما تريد قالت: وجهي من وجهك حرام؛ تعني بالجمل زوجها أي أوحده عن النساء.
وقالت: لا تؤدي المرأة حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على ظهر قتب لم تمنعه وقالت: كان النبي صلى الله عليه يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه وسمعت يوم الجمل تكبيراً عالياً فقالت: اسكتوا؛ فإن التكبير في هذا الموضع فشل.
وروي عن زينب بنت أبي سلمة قالت: كنت يوماً عند عائشة، إذ دخل رجل معتم عليه أثر السفر. فقال: قتل علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت عائشة:
إن تك ناعياً فلقد نعاه ... نعي ليس في فمه التراب
ثم قالت: من قتله؟ قال: رجل من مراد. قالت: رب قتيل لله بيدي رجل مراد. قالت زينب: فقلت: سبحان الله! أتقولين مثل هذا لعلي مع سابقته وفضله. فضحكت وقالت: بسم الله، إذا نسيت فذكريني.

زينب بنت علي
عليها السلام
قيل: لما قتل الحسين عليه السلام، ووجه ابن زياد لعنه الله رأسه والنسوة إلى يزيد لعنه الله، أمر برأس الحسين عليه السلام فأبرز في طست، وجعل ينكت ثناياه بقضيب وينشد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... الأبيات المعروفة.
فقالت زينب بنت علي عليها السلام:

صدق الله ورسوله يا يزيد " ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون " أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء، فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى، أن بنا هواناً على الله، وبك كرامة؟ وأن هذا لعظيم خطرك؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان فرحاً حين رأيت الدنيا مستوسقة لك، والأمور متسقة عليك، وقد مثلت ونفست. وهو قول الله تبارك وتعالى " ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين " .
أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك نساءك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه؟ قد هتكت ستورهن 354، وضحكت بحوجهن مكتئبات تخدى بهن الأباعر، ويحدو بهن الأعادي، من بلد إلى بلد لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوفهن القريب والبعيد، ليس معهن ولي من رجالهن، وكيف يستبطأ في بغضتنا من نظر إلينا بالشنف والشنان، والإحن والأضغان؟ أتقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
غير متأثم ولا مستعظم، وأنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟ ولم لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة، بإهراقك دماء ذرية محمد صلى الله عله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، ولتردن على الله وشيكاً موردهم، ولتؤدن أنك عميت وبكمت، وإنك لم تقل:
فاستهلوا وأهلوا فرحاً
اللهم، خذ بحقنا، وانتقم لنا ممن ظلمنا! والله ما فريت إلا في جلدك ولا خرزت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله برغمك، وعترته ولحمته في حظيرة القدس، يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث، وهو قول الله تبارك وتعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين " وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين، إذا كان الحكم الله والخصيم محمد، وجوارحك شاهدة عليك. فبئس للظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً، مع أني - والله - يا عدو الله وابن عدوه أستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، غير أن العيون عبرى، والصدور حرى وما يجري ذلك أو يغني عنا، وقد قتل الحسين عليه السلام، وحزب الشيطان يقربنا إلى حزب السفهاء، ليعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، وهذه والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات. فلئن اتخذتنا مغنماً لتجدننا مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ يا بن مرجانة ويستصرخ بك، وتتعاوى وأتباعك عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد زودك معاوية قتلك ذرية محمد صلى الله عليه؛ فوالله ما اتقيت غير الله، ولا شكواي إلا إلى الله، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا يرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبداً، والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبان الجنان، فأوجب لهم الجنة.
أسأل الله أن يرفع لهم الدراجات، وأن يوجب لهم المزيد من فضله فإنه ولي قدير.

أم كلثوم بنت علي
روي عن بعضهم قال: رأيت أم كلثوم بنت علي بالكوفة، ولم أر خفرة والله أنطق منها، كأنما تنطق وتقرع عن لسان أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقد أومأت إلى الناس وهم يبكون على الحسين - رضي الله عنه - أن اسكتوا فلما سكنت فورتهم، وهدأت الأجراس. قالت: أبدأ بحمد الله والصلاة على أبيه. أما بعد، يا أهل الكوفة يا أهل الختر والخدل؛ ألا فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي " نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم " ألا وهل فيكم إلا الصلف والشنف، ملق الإماء وغمر الأعداء وهل أنتم إلا كمرعى على دمنة، وكفضة على ملحودة. ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون؟ إي والله، فابكوا؛ فإنكم والله أحرياء بالبكاء، فابكوا كثيراً 355 واضحكوا قليلاً، فلقد فزتم بعارها، وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب الجنة، ومنار محجتكم، ومدرة حجتكم، ومفزع نازلتكم؟ فتعساً ونكساً! لقد خاب السعي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة. " لقد جئتم شيئاً إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا " .

ما تدرون أي كبد لرسول الله صلى الله عليه فريتم، وأي كريم له أبرزتم، وأي دم له سفكتم. لقد جئتم بها شوهاء خرقاء طلاع الأرض والسماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دماً، " ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون " فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا تحفزه المبادرة، ولا يخاف عليه فوت الثأر كلا إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد.
ثم ولت عنهم. قال: فرأيت الناس حيارى وقد ردوا أيديهم إلى أفواههم ورأيت شيخاً كبيراً من بني جعفي وقد اخضلت لحيته من دموع عينيه، وهو يقول:
كهولهم خير الكهول ونسلهم ... إذا نسل ل يبور ولا يخزي

حفصة أم المؤمنين
خطبت حفصة بنت عمر فقالت: الحمد لله الذي لا نظير له والفرد الذي لا شريك له.
وأما بعد، فكل العجب من قوم زين الشيطان أفعالهم، وارعوى إلى صنيعهم، ودب في الفتنة لهم، ونصب حبائله لختلهم، حتى هم عدو الله بإحياء البدعة، ونبش الفتنة، وتجديد الجور بعد دروسه، وإظهاره بعد دثوره، وإراقة الدماء، وإباحة الحمى، وانتهاك محارم الله عز وجل بعد تحصينها، فتضرم وهاج وتوغر وثار غضباً لله نصرة لدين الله، فأخسأ الشيطان ووقم كيده، وكفف إرادته، وقدع محبته، وصعر خده السبقة إلى مشايعة أولى الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه، الماضي على سنته، المقتدي بدينه، المقتص لأثره؛ فلم يزل سراجه زاهراً؛ وضوؤه لامعاً ونوره ساطعاً.
له من الأفعال الغرر، ومن الآراء المصاص، ومن التقدم في طاعة الله عز وجل اللباب، إلى أن قبضه الله إليه، قالياً لما خرج منه، شانئاً لما نزل من أمره، شنفاً لما كنا فيه، صباً إلى ما صار إليه، وائلاً إلى ما دعي إليه، عاشقاً لما هو فيه.
فلما صار إلى التي وصفت، وعاين ما ذكرت أومأ بها إلى أخيه في المعدلة ونظيرة في السيرة، وشقيقه في الديانة، ولو كان غير الله أراد لأمالها إلى ابنه، ولصيرها في عقبه، ولم يخرجها من ذريته، فأخذها بحقها، وقام فيها بقسطها، لم يؤده ثقلها، ولم يبهظه حفظها، مشرداً للكفر عن موطنه ونافراً له عن وكره، ومثيراً له من مجثمه، حتى فتح الله عز وجل على يديه أقطار البلاد، ونصر الله يقدمه، وملائكته تكنفه، وهو بالله معتصم، وعليه متوكل، حتى تأكدت عرا الحق عليكم عقداً، واضمحلت عرا الباطل عنكم حلاً، نوره في الدجنات ساطع، وضوؤه في الظلمات لامع، قالياً للدنيا إذ عرفها، لافظاً لها إذ عجمها، وشانئاً لها إذ سبرها؛ تخطبه ويقلاها، وتريده ويأباها، لا تطلب سواه بعلاً، ولا نبغي سواه نحلاً356 أخبرها أن التي يخطب أرغد منها عيشاً، وأنضر منها حبوراً، وأدوم منها سروراً، وأبقى منها خلوداً، وأطول منها أياماً، وأغذق منها أرضاً، وأنعث منها جمالاً، وأتم منها بلهنية، وأعذب منها رفنية فبشعت نفسه بذلك لعادتها، واقشعرت منها لمخالفتها، فعركها بالعزم الشديد حتى أجابت وبالرأي الجليد حتى انقادت، فأقام فيها دعائم الإسلام، وقواعد السنة الجارية، ورواسي الآثار الماضية وأعلام أخبار النبوة الظاهرة، وظل خميصاً من بهجتها، قالياً لأثاثها، لا يرغب في زبرجها ولا تطمح نفسه إلى جدتها حتى دعي فأجاب، ونودي فأطاع على تلك الحال؛ فاحتذى في الناس بأخيه فأخرجها من نسله، وصيرها شوري بين إخوته، فبأي أفعاله يتعلقون؟ وبأي مذاهبه يتمسكون؟ أبطرائقه القويمة في حياته، أم بعدله فيكم عند وفاته، ألهمنا الله وإياكم طاعته، وإذا شئتم ففي حفظ الله وكلاءته.
عائشة بنت عثمان
قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام في ماله بينبع فلما قتل عثمان بن عفان خرج إليه عنق من الناس يتساعون، تشتد بهم دوابهم فاستطاروا فرحاً، واستفزهم الجذل، حتى قدموا به فبايعوه، فلما بلغ ذلك عائشة ابنة عثمان صاحت بأعلى صوتها: يا ثارات عثمان! إنا لله وإنا إليه راجعون! أفنيت نفسه، وطل دمه في حرم رسول الله صلى الله عليه، ومنع من دفنه؟ اللهم لو يشاء لامتنع، ووجد من الله عز وجل حاكماً، ومن المسلمين ناصرأ، ومن المهاجرين شاهداً، حتى يفئ إلى الحق من شذ عنه، أو تطيح هامات وتفرى غلاصم وتخاض دماء، ولكن استوحش مما أنستم به، واستوخم ما استمرأتموه.
يا من استحل حرم الله ورسوله، واستباح حماه، لقد كره عثمان ما أقدمتم عليه، ولقد نقمتم عليه أقل مما أتيتم إليه، فراجع فلم تراجعوه، واستقال فلم تقيلوه.

رحمة الله عليك يا أبتاه. أحتسبت نفسك وصبرت لأمر ربك، حتى لحقت به. وهؤلاء الآن قد ظهر منهم تراوض الباطل، وإذ كاء الشنآن، وكوامن الأحقاد، وإدراك الإحن والأوتار. وبذلك وشيكاً كان كيدهم وتبغيهم وسعي بعضهم ببعض، فلما أقالوا عاثراً، ولا استعتبوا مذنباً، حتى اتخذوا ذلك سبيلاً إلى سفك الدماء، وإباحة الحمى، وجعلوا سبيلاً إلى البأساء والعنت.
فهلا علنت كلمتكم، وظهرت حسدتكم، إذ ابن الخطاب قائم على رءوسكم، ماثل في عرصاتكم؛ يرعد ويبرق بإرغائكم، يقمعكم غير حذر من تراجعكم إلا في بينكم؛ وهلا نقمتم عليه عوداً وبدءاً إذ ملك، وتملك عليكم من ليس منكم بالخلق اللين، والخصم العضل يسعى عليكم، وينصب لكم، لا تنكرون ذلك منه خوفاً من سطوته، وحذراً من شدته، أن يهتف بكم متقسوراً، أو يصرخ بكم متعذوراً. إن قال صدقتم قالته وإن سأل بذلتم سألته، يحكم في رقابكم وأموالكم كأنكم عجائز صلع، وإماء قصع، فبدأ مفلتاً ابن أبي قحافة بإرث نبيكم على بعد رحمه وضيق بلده، وقلة عدده فرقأ الله شرها، زعم الله دره ما أعرفه لما صنع؛ أو لم يخصم الأنصار بقيس؟ ثم حكم بالطاعة لمولى أبي حذيفة؟ يتمايل بكم يميناً وشمالاً، قد خطب عقولكم، واستمهر وجلكم، 357 ممتحنا لكم، ومعترفاً أخطاركم، وهل تسمو هممكم إلى منازعته ولولا تيك لكان قسمه خسيساً وسعيه تعيساً؛ لكن بدر بالرأي، وثنى بالقضاء وثلث بالشوري ثم غدا سامراً مسلطاً درته على عاتقه فتطأطأتم له تطأطؤ الحقة، ووليتموه أدباركم حتى علا أكتافكم ينعق بكم في كل مرتع، ويشد منكم على كل مخنق، لا يبتعث لكم هتاف ولا يأتلق لكم شهاب يهجم عليكم بالسراء، ويتورط بالحوباء عرفتم أو أنكرتم، لا تألمون ولا تستنطقون، حتى إذا عاد الأمر فيكم ولكم، في مونقة من العيش، عرقها وشيج، وفرعها عميم، وظلها ظليل تتناولون من كثب ثمارها أنى شئتم رغداً، وحلبت عليكم عشار الأرض درراً، واستمرأتم أكلكم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، في خصب غدق، وأوق شرق، تنامون في الخفض وتستلينون الدعة، ومقتم زبرجة الدنيا وحرجتها، واستحليتم غضارتها ونضرتها وظننتم أن ذلك سيأتيكم من كثب عفواً، ويتحلب عليكم رسلاً، قانتضبتم سيوفكم، وكسرتم جفونكم، وقد أبى الله أن تشام سيوف جردت بغياً وظلماً، ونسيتم قول الله عز وجل " إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً. " فلا يهنينكم الظفر. ولا يستوطنن بكم الحضر، فإن الله بالمرصاد، وإليه المعاد، والله ما يقوم الظليم إلا على رجلين، ولا ترن القوس إلا على سيتين فأثبتوا في الغرز أرجلكم، فقد هداكم في المتيهة الخرقاء كما أضل أدحيته الحسل. وسيعلم كيف يكون إذا كان الناس عباديد، وقد نازعتكم الرجال واعترضت عليكم الأمور، وساورتكم الحروب بالليوث، وقارعتكم الأيام بالجيوش، وحمي عليكم الوطيس، فيوماً تدعون من لا يجيب، ويوماً تجيبون من لا يدعو. وقد بسط باسطكم كلتا يديه يرى أنهما في سبيل الله؛ فيد مقبوضة وأخرى مقصورة، والرؤوس تندر عن الطلى، والكواهل كما ينقف التنوم. فما أبعد نصر الله من الظالمين وأستغفر الله مع المستغفرين.

أروى بنت الحارث
قيل: دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم وهي عجوز كبيرة، فلما رآها قال: مرحباً بك يا عمة. قالت: كيف أنت يا بن أخي، لقد كفرت بعدي النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، بغير بلاء كان منك ولا من آبائك في الإسلام؛ ولقد كفرتم بما جاء به محمد صلى الله عليه. فأتعس الله الجدود، وصغر منكم الخدود، حتى رد الله الحق إلى أهله، وكانت كلمة الله هي العليا، ونبينا محمد صلى الله عليه هو المنصور على من ناوأه ولو كره المشركون.
فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظاً ونصيباً وقدراً، حتى قبض الله نبيه صلى الله عليه مغفوراً ذنبه، مرفوعة درجته، شريفاً عند الله مرضياً، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى في آل فرعون، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم؛ وصار سيد المسلمين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى، حيث يقول: " ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " ولم يجمع بعد رسول الله صلى الله عليه لنا شمل، ولم يسهل لنا وعر، وغايتنا الجنة، وغايتكم النار.
فقال عمرو بن العاص:

أيتها العجوز الضالة أقصري من قولك، وغضي من طرفك.
قالت: ومن أنت 358 لا أم لك؟ قال: عمرو بن العاص. قالت: يا بن اللخناء النابغة، أتكلمني؟ اربع على ظلعك، واعن بشأن نفسك، فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها، ولا كريم منصبها. ولقد ادعاك ستة من قريش كلهم يزعم أنه أبوك، ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر، فأنت فأتم بهم، فإنك بهم أشبه.
فقال مروان: أيتها العجوز الضالة؛ ساخ بصرك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك. قالت: يا بني؛ أتتكلم؟ فوالله لأنت بسفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم، وإنك لشبهه في زرقة عينيك، وحمرة شعرك، مع قصر قامته، وظاهر دمامته. ولقد رأيت الحكم ماد القامة ظاهر الهامة سبط الشعر. وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب فاسأل أمك عما ذكرت لك فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.

رؤيا رقيقة
قال مخرمة بن نوفل: حدثتني أمي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف، قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأرقت اللحم، وأدقت العظم فبينا أنا نائمة، لاهم أو مهمومة إذا أنا بهاتف يهتف بصوت صحل اقشعر له جلدي: معاشر قريش إن النبي الأمي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه، وهذا أوان نجومه ألا فحي هلا بالخصب والحيا؛ ألا فانظروا منكم رجلاً وسيطاً عظاماً جساماً أبيض بضاً أوطف الأهداب، أشم العرنين سهل الخدين، له نجر يكظم عليه وسنة تهدى. إليه ألا فليدلف هو وولده، وليدلف معه من كل بطن رجل، فليشنوا من الماء، وليمسوا من الطيب ثم ليستلموا الركن، وليرقوا أبا قبيس، وليدع، وليؤمن القوم على دعائه، فغثتم ما شئتم.
قالت: فأصبحت - علم الله - مذعورة قد وله قلبي، واقشعر جلدي لما رأيت في منامي فقصصت رؤياي، ونمت في شعاب مكة، فوالحرمة والحرم، ما بقي أبطحي إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا عبد المطلب. فتنامت إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فشنوا ومسوا واستلموا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفقوا يزفون حواليه؛ ما إن يبلغ سعيهم مهله، حتى إذا استووا بذروة الجبل قام عبد المطلب، ومعه رسول الله صلى الله عليه، غلام قد أيفع أو كرب، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم كاشف الكربة، وساد الخلة، أنت عالم غير معلم، مسئول غير مبخل هذه عبداك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنتهم التي أذهبت الظلف والخف، فاسمعن اللهم لنا، وأمطرن غيثاً مغدقاً مريعاً. فما راموا الكعبة حتى تفجرت السماء بمائها، وكظ الوادي بشجيجه فلسمعت شيخان قريش وجلتها؛ عبد الله بن جدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب: هنيئاً لك أبا البطحاء هنيئاً لك.
هند بنت عتبة
قالت هند بنت عتبة لأبيها: إني امرأة قد ملكت أمري، فلا تزوجني رجلاً حتى تعرضه علي فقال: لك ذاك. وقال لها ذات يوم: إنه قد خطبك رجلان من قومك، ولست مسمياً لك واحداً منهما، حتى أصفه لك؛ أما الأول ففي الشرف الصميم، والحسب الكريم، تخالين به هوجاً من غفلته، وذلك إسجاح من شيمته، حسن 359 الصحابة، سريع الإجابة، إن تابعته تابعك، وإن ملت كان معك، تقضين عليه في ماله، وتكتفين برأيك عن مشورته.
وأما الآخر ففي الحسب الحسيب، والرأي الأريب، بدر أرومته، وعز عشيرته، يؤدب أهله ولا يؤدبونه؛ إن اتبعوه أسهل بهم، وإن جانبوه توعر عنهم، شديد الغيرة، سريع الطيرة، صعب حجاب القبة إن حاج فغير منزور، وإن نوزع فغير مقسور، قد بنيت لك كليهما.
قالت: أما الأول فسيد مضياع لكريمته، موات لها؛ فما عسى إن لم تعتص أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت خبائها إن جاءته بولد أحمقت وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت. أطو ذكر هذا عنى لا تسمه لي.
وأما الآخر فبعل الحرة الكريمة، إني لأخلاق هذا لوامقة، وإني له لموافقة، وإني لآخذه بأدب البعل، مع لزومي قبتي وقلة تلفتي، وإن السليل بيني وبينه لحري أن يكون المدافع عن حريم عشيرته، الذائد عن كتيبتها المحامي عن حقيقتها، المثبت لأرومتها، غير متواكل ولا زميل عند صعصعة الحروب.
قال: ذلك أبو سفيان بن حرب. قالت: فزوجه ولا تلقني إليه إلقاء الشكس ولا تسمه سوم الضرس، ثم استخر الله عز وجل في السماء يخرلك في القضاء. فزوجها أبا سفيان. وكان الآخر سهيل بن عمرو.
قيل:

إنه لما نخس هبار بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه بلغ هنداً، فقامت مسندة ظهرها إلى الكعبة وقالت: أبابنة محمد يفعلون هذا!
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك
روي عن أبي هريرة، أنه قال: لما كان الفتح قال لي خالد بن الوليد: يا أبا هريرة، اذهب بنا إلى هند بنت عتبة، لعلك تقرأ عليها بعض القرآن لينفعها الله. قلت: انطلق. فدخلنا عليها كأنها والله فرس عربي، وكأن وراء عجيزتها رجلآً جالساً. فقال لها خالد بن الوليد: يا أم معاوية؛ هذا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه، جئتك به ليتلو عليك القرآن ويذكرك أمر الإسلام. قالت: هات. قال أبو هريرة: فقلت: " بسم الله الرحمن الرحيم " : " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير " . حتى انتهيت إلى قوله جل وعز: " ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير " . فقالت: لأوسدن الكعبة. ما سمعنا بشاعر قط ينتحل خلق السموات والأرض إلا شاعرهم هذا. قال: فقال خالد: قم يا أبا هريرة، فوالله لا تسلم هذه أبداً. فقمنا فخرجنا من عندها.
وكانت هند تقول: النساء أغلال فليختر الرجل غلاً ليده.
وكانوا يشبهون عائشة أم المؤمنين بهند في عقلها.

رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب
كانت عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه، ساكنة بمكة مع أخيها العباس بن عبد المطلب، فرأت رؤيا قبل يوم بدر، وقبل قدوم ضمضم عليهم، ففزعت منها، فأرسلت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب من ليلتها، فجاءها فقالت: رأيت الليلة رؤيا قد أشفقت منها، وخشيت على قومك الهلكة. قال: وماذا رأيت ؟ قالت: لن أحدثك حتى تعاهدني ألا تذكرها لقومك؛ فإنهم إن سمعوها آذونا وأسمعونا مالا نحب. فعاهدها العباس فقالت: رأيت راكباً أقبل على راحلة من أعلى مكة يصيح بأعلى صوته: يا آل غدر، اخرجوا في ليلتين أو ثلاث، ثم أقبل يصيح حتى دخل المسجد على راحلته، فصاح ثلاث صيحات، ومال عليه الرجال والنساء والصبيان، وفزع الناس له أشد الفزع. قالت: ثم أراه مثل ظهر الكعبة على راحلته فصاح ثلاث صيحات فقال: يا آل غدر، يا آل فجر اخرجوا في ليلتين أو ثلاث. ثم أراه مثل علي أبي قبيس كذلك يقول: يا آل غدر ويا آل فجر حتى أسمع من بين الأخشبين من أهل مكة، ثم عمد لصخرة عظيمة فنزعها من أصلها ثم أرسلها على أهل مكة، فأقبلت الصخرة لها حس شديد، حتى إذا كانت عند أصل الجبل ارفضت، فلا أعلم بمكة بيتاً ولا داراً إلا وقد دخلتها فلقة من تلك الصخرة. فقد خشيت على قومك.
ففزع من رؤياها العباس ثم خرج من عندها، فلقي الوليد بن عقبة بن أبي ربيعة من آخر تلك الليلة، وكان خليلاً للعباس، فقص عليه رؤيا عاتكة وأمره ألا يذكرها لأحد، فذكرها لأبيه عتبة، وذكرها عتبة لأخيه شيبة، فارتفع الحديث حتى بلغ أبا جهل واستفاض في أهل مكة.
فلما أصبحوا غدا العباس يطوف، فوجد في المسجد أبا جهل، وأبا البخترى في نفر من قريش يتحدثون، فلما نظروا إلى العباس ناداه أبو جهل: يا أبا الفضل؛ إذا قضيت طوافك فهلم إلينا. فلما قضى طوافه جاءهم فجلس إليهم، فقال له أبو جهل: ما رؤيا عاتكة؟ قال: ما رأت من شيء قال أبو جهل: أما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء. إنا كنا وأنتم كفرسي الرهان، فاستبقنا المجد منذ حينٍ. فلما تحاكت الركب قلتم: منا نبي. فما بقي إلا أن تقولوا: منا نبية. لا أعلم في قريش أهل بيت أكذب رجلاً ولا امرأة منكم. فآذوه أشد الأذى وقال أبو جهل: زعمت عاتكة أن الراكب قال: اخرجوا في ليلتين أو ثلاث، فلو قد مضت هذه الثلاث تبينت قريش كذبكم، وكتبنا سجلاً أنكم أكذب بيت في العرب رجلاً وامرأة. أما رضيتم يا بني قصي أن ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء والرفادة حتى جئتمونا بنبي منكم. فقال له العباس: هل أنت منته، فإن الكذب فيك وفي أهل البيت. فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل جهولاً ولا خرقاً.
ولقى العباس من عاتكة فيما أفشى عليها من رؤياها أذى شديداً. فلما كان مساء الليلة الثالثة من الليالي التي رأت فيها عاتكة الرؤيا جاءهم الراكب الذي بعث به أبو سفيان وهو ضمضم بن عمرو الغفاري فصرخ:

يا آل غالب ابن فهر؛ انفروا فقد خرج محمد صلى الله عليه وأهل يثرب لأبي سفيان فاحذروا عيركم. ففزعت قريش أشد الفزع وأشفقوا من رؤيا عاتكة. وقال العباس: هذا زعمتم كذبي وكذب عاتكة. فنفروا على كل صعب وذلول، فأظفر الله رسوله صلى الله عليه ببدر.

فاطمة بنت عبد الملك بن مروان
روى عن عطاء قال: قلت لفاطمة بنت عبد الملك: أخبريني عن عمر بن عبد العزيز. قالت: أفعل، ولو كان حياً ما فعلت. إن عمر رحمه الله كان قد فزع للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه 361، فكان إذا أمسى مساء لم يفرغ فيه من حوائج الناس في يومه دعا بسراجه الذي كان يسرج له من ماله ثم صلى ركعتين، ثم أقعى واضعاً رأسه على يديه، تسيل دموعه على خديه يشهق الشهقة تكاد ينصدع لها قلبه، أو تخرج لها نفسه، حتى يرى الصبح.
وأصبح صائماً فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين؛ ألشيء كان منك ما كان؟ قال: أجل، فعليك بشأنك، وخليني وشأني. فقلت: إني أرجو أن أتعظ. قال: إذاً أخبرك، إني نظرت قد وجدتني وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، ثم ذكرت الفقير الجائع، والغريب الضائع، والأسير المقهور، وذا المال القليل والعيال الكثير، وأشياء من ذلك في أقاصي البلاد، وأطراف الأرض، فعلمت أن الله عز وجل سائلي عنهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيجي، لا يقبل الله مني فيهم معذرة، ولا يقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، فرحمت والله يا فاطمة نفسي رحمةً دمعت لها عيني، ووجع لها قلبي، فأنا كلما ازددت ذكراً ازددت خوفاً فأيقظي أودعي.
أم سلمة أم المؤمنين
في حديث أم سلمة أنها أتت عائشة لما أرادت الخروج إلى البصرة فقالت لها: إنك سدة بين رسول الله صلى الله عليه وأمته، وحجابك مضروب على حرمته، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه وسكن عقيراك فلا تصحريها. الله من وراء هذه الأمة، لو أراد رسول الله صلى الله عليه أن يعهد إليك عهداً. علت علت بل قد نهاك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرطة في البلاد؛ إن عمود الإسلام لا يثاب بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن أن صدع، حماديات النساء غض الأطراف وخفر الأعراض، وقصر الوهازة.
ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه عارضك بعض الفلوات ناصة قلوصاً من منهل إلى آخر أن يعين الله مهواك، وعلى رسوله تردين قد وجهت سدافته. - ويروى سجافته - وتركت عهيداه. لو سرت مسيرك هذا ثم قيل: ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً، هاتكة حجاباً قد ضربه علي.
اجعلي حصنك بيتك، ووقاعة الستر قبرك، حتى تلقيه وأنت على تلك أطوع ما تكونين لله ما لزمته، وأنصر ما تكونين للدين ما جلست عنه، لو ذكرتك قولاً تعرفينه نهسته نهش الرقشاء المطرقة.
فقالت عائشة: ما أقبلني لوعظك! وليس الأمر كما تظنين، ولنعم المسير مسير فزعت فيه إلي فئتان متناجزتان - أو متناحرتان - إن أقعد ففي غير حرج، وإن أخرج فإلى ما لا بد من الازدياد منه.
قولها: قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه أي لا توسعيه بالحركة والخروج يقال: ندحت الشيء: إذا وسعته. ومنه يقال: أنا في مندوحة عن كذا. أي في سعة. ومن رواه فلا تبدحيه فإنه من البداح وهو المتسع من الأرض وعقيراك: من عقر الدار.
وعلت من العول، وهو الميل. ومن رواه: علت بالكسر فهو من عال في البلاد يعيل.
والفرطة: من الفرط. وهو السبق والتقدم.
لا يثاب: لا يرد يقال ثبت إلى كذا أي عدت إليه.
حماديات: جمع حمادي مثل قولك قصاراك.
الوهازة: قيل هو الخطو.
السدافة: الحجاب والستر، من أسداف الليل: إذا ستر بظلمته.
ملتقطات من كلامهن
قالت هند بنت عتبة وقد عزيت عن يزيد بن أبي سفيان لما مات فقيل لها: إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلفاً منه. قالت: أومثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها لخرج من أيها شاء.
قالت خالدة بنت هاشم بن عبد مناف لأخ لها - وقد سمعته تجهم صديقاً له: أي أخي، لا تطلع من الكلام إلا ما قد روأت فيه قبل ذلك، ومزجته بالحلم، وداويته بالرفق؛ فإن ذلك أشبه بك. فسمعها أبوها هاشم فقام إليها فاعتنقها وقبلها وقال: واهاً لك يا قبة الديباج. فلقبت بذلك.
قالت عائشة للنبي عليه السلام وقد دخل عليها: أين كنت يا رسول الله؟ قال: كنت عند أم سلمة. قالت:

أما تشبع. فتبسم. وقالت: يا رسول الله؛ لو مررت بعدوتين إحداهما عافية لم يرعها أحد، وأخرى قد رعاها الناس، أيهما كنت تنزل؟ قال: بالعافية التي لم يرعها الناس. قالت: فلست كأحد من نسائك.
روي أن عمر نهى أبا سفيان عن رش باب منزله لئلا يمر به الحاج فيزلقون فيه، فلم ينته. ومر عمر فزلق ببابه فعلاه بالدرة وقال: ألم آمرك ألا تفعل هذا. فوضع أبو سفيان سبابته على فيه. فقال عمر: الحمد لله الذي أراني أبا سفيان ببطحاء مكة أضربه فلا ينتصر، وآمره فيأتمر. فسمعته هند بنت عتبة فقالت: احمده يا عمر فإنك إن تحمده فقد أراك عظيماً.
كانت زينب بنت سليمان بن علي تقول: من أراد أن يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده. ألم تسمع إلى قولهم: سمع الله لمن حمده. فخف الله لقدرته عليك واستحي منه لقربه منك.
وقالت زينب: لو أدرك المنصور ما ساس به المأمون بني أبي طالب لخرج له عما يملك.
لما تزوجت خديجة رضوان الله عليها برسول الله صلى الله عليه وسلم كست أباها حلة وخلقته ونحرت جزوراً، فلما أفاق الشيخ قال: ما هذا الحبير وهذا العبير وهذا العقير؟ فقالت خديجة: زوجتني محمداً وهو كساك هذا.
قيل: ما رئيت ابنة عبد الله بن جعفر ضاحكة بعد أن تزوجها الحجاج فقيل لها: لو تسليت، فإنه أمر قد وقع. فقالت: كيف وبم؟ فوالله لقد ألبست قومي عاراً لا يغسل درنه بغسل.
ولما مات أبوها لم تبك عليه. فقيل لها: ألا تبكين على أبيك؟ قالت: والله إن الحزن ليبعثني وإن الغيظ ليصمتني.
مات ابن لزينب بنت سليمان بن علي فوجه المأمون بصالح بن الرشيد للصلاة عليه، فقال لها صالح: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: قد كنت على الركوب، فعرضت لي علة، وقد وجهت صالحاً ليقوم مقامي، عظم الله أجرك، فإنما فقدت شخصه، وثوابه مذخور لك. قال: فظهر غضبها، ورفعت ابناً لابنها الميت فقالت: صل على أبيك وقالت:
سبكناه ونحسبه لجيناً ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
أما إنه لو كان يحيى بن الحسين بن زيد لوضعت ذيلك في فيك، وعدوت خلف جنازته.
لما دخل المأمون بغداد دخلت عليه أم جعفر فقالت: يا أمير المؤمنين 363 أهنئك بخلافة قد هنأت بها نفسي عنك قبل أن أراك. ولئن فقدت ابناً خليفةً لقد عوضت ابناً خليفة لم ألده. وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، فأسأل الله أجراً على ما أخذ، ومتاعاً بما وهب.
دخلت فاطمة بنت الحسين على هشام بن عبد الملك، فقال لبعض جلسائه: حركها بشيء تغضب منه. فقال يا أمير المؤمنين: إنها لا تعرف الشر. فقالت له: أيهاً عنك. علمي به جنبنيه.
روى عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان قال: جمعتنا أمنا فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت: يا بني؛ إنه والله ما نال أحد من أهل السفه بسفههم شيئاً ولا أدركوه من لذاتهم إلا وقد ناله أهل المروءات، فاستتروا بستر الله.
وذكر أن فاطمة أعطت ولدها من حسن بن حسن ما ورثته منه، وأعطت ولدها من عبد الله بن عمرو بن عثمان مورثها منه، فوجد ولد حسن بن حسن في أنفسهم لأن ما ورثت من عبد الله بن عمرو كان أكثر فقالت لهم: يا بني، إني كرهت أن يرى أحدكم شيئاً من مال أبيه بيد أخيه، فيجد من ذلك في نفسه فلذلك فعلت ما فعلت.
ودخلت مع أختها سكينة على هشام بن عبد الملك، فقال هشام لفاطمة: صفي لنا يا بنة حسين ولدك من ابن عمك، وصفي لنا ولدك من ابن عمنا قال: فبدأت بولد الحسن قالت: أما عبد الله فسيدنا وشريفنا والمطاع فينا، وأما الحسن فلساننا ومدرهنا وأشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم شمائل وتقلعاً ولوناً - وكان رسول الله عليه السلام إذا مشى تقلع فلا تكاد عقباه تقعان بالأرض - وأما الذان من ابن عمكم فإن محمداً جمالنا الذي نباهي به، والقاسم عارضتنا التي نمتنع بها، وأشبه الناس بأبي العاص بن أمية عارضة ونفساً. فقال: والله لقد أحسنت صفاتهم يا بنة حسين. ثم وثب فجبذت سكينة بردائه فقالت: والله يا أحول لقد أصبحت تهكم بنا. أما والله ما أبرزنا لك إلا يوم الطف، قال: أنت امرأة كثيرة الشر.

الباب الثاني
نكت من كلام النساء
ومستحسن جواباتهن وألفاظهن

مرت امرأة جميلة على مسجد بني نمير بالبصرة وعليه جماعة منهم فقال بعضهم: ما أكبر عجيزتها، وقال آخر: إنها ملفوفة. وقال آخر: أنا أجيئكم بخبرها. فتبعها وضرب يده على عجيزتها. قال: فالتفتت إليه وقالت: " الحق من ربك فلا تكونن من الممترين " ثم انصرفت إلى بني نمير فقالت: يا بني نمير؛ والله ما حفظتم في قول الله جل وعز، ولا قول الشاعر؛ قال الله تبارك وتعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " وقال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلاباً
364 - قالت امرأة من نمير وحضرتها الوفاة، وأهلها مجتمعون: من الذي يقول:
لعمرك ما رماح بني نمير ... بطائشة الصدور ولا قصار
قالوا: زياد الأعجم. قالت: فإني أشهدكم أن له الثلث من مالي. وكان الثلث كثيراً.
وقالت امرأة لزوجها: إن أكلك لاقتفاف، وإن شربك لاشتفاف، وإن ضجعك لالتفاف. تنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف.
طلق أعرابي امرأته فقالت له: جزاك الله خيراً؛ لقد كنت كثير المرق، طيب العرق، قليل الأرق، قال: وأنت فجزاك الله خيراً؛ لقد كنت لذيذة المعتنق عند الكرى والأرق، ولكن ما قضى الله قد سبق.
تزوج أعرابي امرأة أشرف منه حسباً ونسباً فقال: يا هذه: إنك مهزولة. فقالت: هزالي أولجني بيتك.
لما قتل حاجب بن زرارة قراد بن حنيفة قالت قبائل بني دارم لحاجب: إما أن تقيد من نفسك، وإما أن تدفع إلينا رجلاً من رهطك. فأمر فتىً من بني زرارة بن عدس أن يذهب إليهم حتى يقاد. فمروا بالفتى على أمه وحسبوها تجزع فيدفع حاجب إليهم غيره. فقالت: إن حيضة وقت حاجباً الموت لعظيمة البركة.
قالت أعرابية وقد دفع إليها علك لتمضغه: ما فيه إلا تعب الأضراس وخيبة الحنجرة.
قيل لرملة بنت الزبير: ما لك أهزل ما تكونين إذا كان زوجك شاهداً؟ قالت: إن الحرة لا تضاجع بعلها بملء بطنها. كأنها لم تأمن قرقرة البطن وغير ذلك.
نظر رجل إلى امرأتين يتلاعبان فقال: مرا لعنكما الله فإنكن صواحبات يوسف. فقالت إحداهما: يا عمي فمن رمى به في الجب: نحن أم أنتم؟ ومرت جارية بقوم ومعها طبق مغطى فقال بعضهم: أي شيء معك على الطبق؟ قالت: فلم غطيناه؟ قال الجاحظ: من الأسجاع الحسنة قول الأعرابية حين خاصمت ابنها إلى عامل الماء: أما كان بطني لك وعاء؟ أما كان حجري لك فناء؟ أما كان ثديي لك سقاء.
وقالت امرأة: أصبحنا ما يرقد لنا فرس، ولا ينام لنا حرس.
مر رجل بامرأة من غاضرة، وإذا ابن لها مسجى بين يديها، وهي تقول: يرحمك الله يا بني. فوالله ما كان مالك لبطنك، ولا أمرك لعرسك، ولا كنت إلا لين العطفة، يرضيك أقل مما يسخطك. قال: فقال لها: يا أمه، ألك منه خلف؟ قالت: بلى ما هو خير منه: ثواب الله والصبر على المصيبة.
ولما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون إلى أمه يعزيها فيه، وقال: يا أمه؛ لا تحزني على الفضل؛ فإني خلف لك منه. فقالت له: وكيف لا أحزن على ولد عوضني خلفاً مثلك، فتعجب المأمون من جوابها. وكان يقول: ما سمعت جواباً قط كان أحسن منه ولا أخلب للقلب.
حكي أن عجوزاً من الأعراب جلست في طريق مكة إلى فتيان من قريش يشربون نبيذاً لهم، فسقوها قدحاً فطابت نفسها وتبسمت ثم سقوها قدحاً آخر، فاحمر وجهها وضحكت فسقوها قدحاً ثالثاً، فقالت: أخبروني عن نسائكم بالعراق، أيشربن من هذا الشراب؟ قالوا: نعم. قالت: زنين ورب الكعبة.
365 - سئلت أعرابية فقيل لها: أتعرفين النجوم؟ قالت: سبحان الله أما أعرف أشياخاً وقوفاً علي كل ليلة؟ قيل لامرأة أصيبت بولدها: كيف أنت والجزع؟. قالت: لو رأيت فيه دركاً ما اخترت عليه، ولو دام لي لدمت له.
مر أعرابي بجارية جابة تمدر حوضاً لها، فقال: من دل على بعير بعنقه علاط. وبأنفه خزام، تتبعه بكرتان سمراوان؟ فقال القوم: حفظ الله علينا وأمسك عليك. والله ما أحسسنا لها خبراً.. فقالت الجارية: لا حفظ الله عليك يا عدو الله. فقيل لها: ما ذاك؟ قالت: إنه ينشد سوءته.
قال بعضهم: شهدت امرأة بالبادية، وبين يديها ابن لها يجود بنفسه فوثبت عليه فأغمضته وعصبته وترحمت عليه، ثم تنحت. فقالت:

ما حق من ألبس النعمة، وأطيلت له العافية، وأديمت به النظرة ألا يعجز عن التوثق لنفسه، من قبل حل عقوده، والحلول بعقوته، والحيالة بينه وبين نفسه.
قالت أعرابية في الزوج: لا أريده ظريفاً ولا ظريفاً ولا رجل أهله ولا السمين الألحم، ولكني أريده الضحوك ولاجاً، الكسوب خراجاً.
خطب رجل ابنة عم له فأخبرها أبوها بذلك فقالت: يا أبه، سله ما لي عنده؟ فسأله فقال: ألطف برها، وأحمل ذكرها، وأعصي أمرها. فقالت: زوجنيه.
لما أهديت ابنة عبد الله بن جعفر إلى الحجاج نظر إليها في تلك الليلة وعبرتها تجول في خدها، فقال: مم بأبي أنت؟. قالت: من شرف اتضع، ومن ضعة شرفت.
ولما كتب عبد الملك إلى الحجاج بطلاقها قال لها: إن أمير المؤمنين أمرني بطلاقك قالت: هو أبر بي ممن زوجنيك حكم بلال بن أبي بردة بالتفريق بين رجل وامرأته، فقالت له المرأة: يا بن أبي موسى إنما بعثتم بالتفريق بين المسلمين.
نزل رجل بامرأة من العرب فقال لها: هل من لبن أو طعام يباع؟ فقالت: إنك للئيم أو حديث عهد باللئام. فاستحسن ذلك منها وخطبها فتزوجها.
حدث بعضهم قال: خرجت إلى ناحية الطفاوة فإذا أنا بامرأة لم أر أجمل منها. فقلت: أيتها المرأة؛ إن كان لك زوج فبارك الله له فيك، وإلا فأعلميني. قال: فقالت: وما تصنع بي وفي شيء لا أراك ترتضيه. قلت: وما هو؟ قالت: شيب في رأسي. قال: فثنيت عنان دابتي راجعاً. فصاحت بي: على رسلك أخبرك بشيء. فوقفت وقلت: ما هو يرحمك الله؟ فقالت: والله ما بلغت العشرين بعد، وهذا رأسي - فكشفت عن عناقيد كالحمم - وما رأيت في رأسي بياضاً قط، ولكن أحببت أن تعلم أنا نكره مثل ما يكره منا. وأنشدت:
أرى شيب الرجال من الغواني ... بموضع شيبهن من الرجال
قال: فرجعت خجلاً كاسف البال.
وصفت امرأة نساء فقالت: كن صدوعاً في صفاً ليس لعاجز فيهن حظ.
قيل لابنة الخس: من تريدين أن تتزوجي؟ فقالت: لا أريده أخا فلان ولا ابن عم فلان، ولا الظريف، ولا المتظرف، ولا السمين الألحم ولكني أريده كسوباً إذا غدا، ضحوكاً إذا أتى، أخال ولا تيمنه وقيل لها: من أعظم الناس في عينيك؟ قالت: من 366 كانت لي إليه حاجة.
قيل لأعرابية قد حملت شاة تبيعها: بكم؟ قالت: بكذا. قيل لها: أحسني. فتركت الشاة ومرت لتنصرف. فقيل لها: ما هذا؟ قالت: لم تقولوا أنقصي، وإنما قلتم: أحسني. والإحسان ترك الكل.
قالت قريبة الأعرابية: إذا كنت في غير قومك فلا تنس نصيبك من الذل قيل لأعرابية: ما أطيب الروائح؟ قالت: بدن تحبه، وولد تربه.
سأل رجل الخيزران حاجة، وأهدى إليها هدية فردتها وكتبت إليه: إن كان الذي وجهته ثمناً لرأي فيك فقد بخستني في القيمة، وإن كان استزادة فقد استغششتني في النصيحة.
قتل قتيبة أبا امرأة وأخاها وزوجها ثم قال لها: أتعرفين أعدى لك مني؟ قالت: نعم: نفس طالبتني بالغداء بعد من قتلت لي.
تقدمت امرأة إلى قاضٍ فقال لها القاضي: جامعك شهودك كلهم؟ فسكتت فقال كاتبه: إن القاضي يقول: جاء شهودك معك؟ قالت: نعم. ثم قالت للقاضي: ألا قلت كما قال كاتبك. كبر سنك، وذهب عقلك. وعظمت لحيتك فغطت على عقلك؛ وما رأيت ميتاً يحكم بين الأحياء غيرك.
قالت أعرابية لزوجها، ورأته مهموماً: إن كان همك بالدنيا فقد فرغ الله منها، وإن كان للآخرة فزادك الله هماً بها.
قال الأصمعي: سمعت أعرابية تقول: إلهي؛ ما أضيق على من لم تكن دليله، وأوحشه على من لم تكن أنيسه! وافتخرت جاريتان من العرب بقوسي أبويهما. فقالت إحداهما: قوس أبي طروح مروح، تعجل الظبي أن يروح. وقالت الأخرى: قوس أبي كرة، تعجل الظبي النفرة.
قال عتبة بن ربيعة لابنته هند: قد خطبك إلي رجلان؛ خطبك السم ناقعاً، وخطبك الأسد عادياً. فأيهما أحب إليك أن أزوجك؟ قالت: الذي يأكل أحب إلي من الذي يؤكل. فزوجها أبا سفيان، وهو الأسد العادي وكان الآخر سهيل بن عمرو.
سمعت امرأة بدوية وهي ترقص ابناً لها وتقول: رزقك الله جدا يخدمك عليه ذوو العقول، ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الجدود.
قال ابن أبي طاهر: حدثني علي بن عبيدة قال:

تزاورت أختان من أهل القصر، فأرهقتهما الصلاة، فبادرت إحداهما فصلت صلاةً خفيفة، فقال لها بعض النساء: كنت حرية أن تطولي الصلاة في هذا اليوم شكراً لله حين التقينا. قالت: لا، ولكن أخفف صلاتي اليوم وأتمتع بالنظر إليها، وأشكر الله في صلاتي غداً.
قالت الخنساء: النساء يحببن من الرجال المنظراني الغليظ. القصرة، العظيم الكمرة، الذي إذا طعن حفر، وإذا أخطأ قشر، وإذا أخرج عقر.
قيل لأعرابية في البادية: من أين معاشكم؟ فقالت: لو لم نعش إلا من حيث نعلم لم نعش.
قيل لامرأة من كلب: ما أحب الأشياء من الرجال إلى النساء: قالت: ما يكثر الأعداد، ويزيد في الأولاد؛ حربة في غلاف بحقوى رجل جاف، إذا عافى أوهن، وإذا جامع أثخن.
قالت عائشة للخنساء، إلى كم تبكين على صخر، وإنما هو جمرة في النار؟ قالت: ذاك أشد لجزعي عليه.
جاءت امرأة إلى عدي بن أرطاة تستعديه على زوجها، وتشكو أنه عنين لا يأتيها، فقال عدي: إني لأستحي للمرأة أن تستعدي على زوجها من 367 مثل هذا. فقالت: ولم لا أرغب فيما رغبت فيه أمك فلعل الله أن يرزقني ابناً مثلك.
وقالت أعرابية لرجل: ما لك تعطي ولا تعد؟ فقال لها: مالك وللوعد؟ قالت: ينفسخ به الصبر، وينتشر فيه الأمل، ويطيب بذكره النفس، ويرجى به العيش، وتربح أنت به المرح بالوفاء.
قيل لامرأة: صفي لنا الناقة النجيبة، قالت: كالعقرب إذا همت، وكالحية إذا التوت، تطوي الفلاة وما انطوت.
صرخت أعرابية ذات يوم، فقال لها أبوها: مالك؟ قالت: لسعتني عقرب، قال: أين؟ قالت: حيث لا يضع الراقي أنفه.
خطب أعرابي امرأة وكان قصيراً فاحش القصر، عظيم الأنف جداً فكرهته فقال: يا هذه، قد عرفت شرفي وأنا مع ذلك كريم المعاشرة، محتمل المكروه. فقالت: صدقت مع حملك هذا الأنف أربعين سنة.
كانت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة عند يزيد بن أبي سفيان فمات عنها فخطبها علي عليه السلام فردته فقيل لها: أتردين علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه، وزوج فاطمة وأبا الحسن والحسين، وحاله في الإسلام حاله؟ قالت: نعم. لا أوثر هواه على هواي. ليس لامرأته منه إلا جلوسه بين شعبها الأربع، وهو صاحب صر من النساء.
ثم خطبها عمر فردته. فقيل أتردين أمير المؤمنين الفاروق، وحاله في الإسلام حاله؟ قالت: نعم لا أوثر هواه على هواي، يدخل عابساً ويخرج عابساً، ويغلق علي بابه وأنا امرأة برزة.
ثم خطبها الزبير فردته. فقيل لها: أتردين الزبير حواري رسول الله وابن عمته وحاله في الإسلام حاله؟ قالت: نعم. لا أوثر هواه على هواي. يد فيها قروني، ويد فيها السوط.
ثم خطبها طلحة فقالت: زوجي حقاً. يدخل علي بساماً ويخرج بساماً، إن سألت بذل، وإن أعطى أجزل، وإن أذنبت غفر، وإن أحسنت شكر. فتزوجته.
فأولم ثم دعا هؤلاء النفر وهي في خدرها وكذلك كانوا يفعلون. فقال علي عليه السلام: يا أبا محمد إيذن لي أكلم هذه فأذن له. فقال: يا أم أبان تستري. فتسترت ثم رفع سجف الحجلة فقال: يا عدية نفسها خطبتك وليس بقرشية عني رغبة بعد فاطمة بنت رسول الله، فرددتني، وخطبك الزبير حواري رسول الله وابن عمته فرددته واخترت علينا ابن الصعبة قالت: فلو وجدت نفقاً لدخلت فيه. قالت: فأحلت على الزاملة التي تحمل كل شيء فقلت: أمر قضي، وما كان ذاك بيدي فقال: صدقت رحمك الله. أما على ذلك فقد نكحت أصبحنا وجهاً، وأسخانا كفاً، وأكرمنا للنساء صحبة. ثم قال: يا أبا محمد، سلها عما قلت لها فإني لم أقل إلا الذي تحب. قال: لا أسألها عنه أبداً.
نظرت عجوز أعرابية إلى امرأة حولها عشرة من بنيها كأنهم الصقور فقالت: ولدت أمكم حزناً طويلاً.
خرج معاوية ذات يوم يمشي، ومعه خصي له حتى دخل على ميسون بنت بحدل، وهي أم يزيد فاستترت منه. قال: أتستترين منه وإنما هو مثل المرأة؟ قالت: أترى أن المثلة به تحل ما حرم الله.
خطب عثمان بن عفان نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص الكلبي وكان نصرانياً فقال لابنه ضب: تحنف وزوجها أمير المؤمنين. ففعل وحملها إلى المدينة. فلما أدخلت إليه قال لها: أتقومين إلي أم أقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك عرض 368 السماوة وأنا أريد أن أكلفك طول البيت. فلما جلست بين يديه قال:

لا يروعنك هذا الشيب قالت: أما إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهل السيد قال: حلي إزارك. قالت: ذاك بك أحسن.
فلما قتل أصابتها ضربة على يدها وخطبها معاوية فردته وقالت: ما يحب الرجال مني؟ قالوا: ثناياك. فكسرت ثناياها وبعثت بها إلى معاوية.
وقال: ذلك مما رغب قريشاً في نكاح نساء كلب. تزوج الزبير أم مصعب، وتزوج الحسين عليه السلام أم سكينة، وتزوج مروان أم عبد العزيز.
استعمل المنصور رجلاً على خراسان فأتته امرأة في حاجة فلم تر عنده غناء. فقالت: أتدري لم ولاك أمير المؤمنين؟ قال: لا. قالت: لينظر هل يستقيم أمر خراسان بلا وال.
قال بعضهم: خطبت امرأة فأجابت فقلت: إني سيء الخلق. فقالت: أسوأ خلقاً منك من يلجئك إلى سوء الخلق.
قيل: إن الحسن رضي الله عنه طلق امرأتين قرشية وجعفية وبعث إلى كل واحدة منهما عشرين ألفاً. وقال للرسول: احفظ ما تقول كل واحدة منهما فقالت القرشية: جزاه الله خيراً. وقالت الجعفية: متاع قليل من حبيب مفارق. فراجعها وطلق الأخرى.
وكانت عند الحسن بن الحسين امرأة فضجر يوماً وقال: أمرك في يدك فقالت: أما والله لقد كان في يدك عشرين سنة فحفظته، أفأضيعه في ساعة صار في يدي. قد رددت إليك حقك. فأعجبه قولها وأحسن صحبتها.
قالت الخيزران: قبح الله الخدم ليس لهم حزم الرجال ولا رقة النساء.
كتب المأمون إلى شكلة أم إبراهيم بن المهدي يتوعدها فأجابته: أنا يا أمير المؤمنين أم من أمهاتك، فإن كان ابني عصى الله فيك فلا تعصه في، والسلام.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: رأيت هنداً بمكة جالسة، كأن وجهها فلقة قمر وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاماً إن عاش ليسودن قومه. فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فلا جبره الله.
قيل لأم الرشيد: أتخافين الموت؟ قالت: كيف لا أخافه؟ ولو كنت عصيت مخلوقاً ما أحببت لقاءه. فكيف ألقى الله وقد عصيته؟ كانت الفارعة بنت مسعود الثقفية أم الحجاج عند المغيرة بن شعبة، فدخل عليها ذات يوم حين أقبل من صلاة الغداة وهي تتخلل. فقال: يا فارعة؛ لئن كان هذا التخلل من أكل اليوم إنك لجشعة، وإن كان من أكل البارحة إنك لبشعة. اعتدى فأنت طالق. فقالت: سخنت عينك من مطلاق. ما هو من ذا ولا ذاك. ولكني استكت فتخللت من شظية من سواكي. فاسترجع ثم خرج فلقي يوسف بن الحكم بن أبي عقيل. فقال: إني قد نزلت اليوم عن سيدة نساء ثقيف، فتزوجتها فإنها ستنجب. فتزوجها فولدت له الحجاج.
دخلت ليلى الأخيلية على الحجاج. فقال لأصحابه: ألا أخجلها لكم؟ قالوا: بلى. قال: يا ليلى، أكنت تحبين توبة؟ قالت: نعم أيها الأمير. وأنت لو رأيته أحببته.
قال ابن عياش: تزوج الوليد بن عبد الملك ثلاثاً وستين امرأة، وكان أكثر 369 ما يقيم على المرأة ستة أشهر، وكان فيمن تزوج ابنة عبد الله بن مطيع العدوي، وكانت جميلة ظريفة، فلما أهديت إليه قال لسماره الذين كانوا يسمرون عنده: لا تبرحوا - وإن أبطأت - حتى أخرج إليكم. ودخل بها وانتظروه حتى خرج إليهم في السحر وهو يضحك. فقالوا: سرك الله يا أمير المؤمنين. فقال: ما رأيت مثل ابنة المنافق. يعني عبد الله بن مطيع - وكان ممن قتل مع ابن الزبير، وكان بنو مروان يسمون شيعة ابن الزبير: المنافقين - لما أردت القيام أخذت بذيلي وقالت: يا هذا؛ إنا قد اشترطنا على الجمالين الرجعة. فما رأيك؟ فأعجب بها وأقام عليها ستة أشهر ثم بعث إليها بطلاقها.
قال بعضهم: قالت لي جارية لي: ظهر يا مولاي الشيب في رأسك. فقلت: هو ما لا تحبونه. فقالت: إنما يثقل علينا الشيب على البديهة، فأما شيب نشأ معنا فنحن ننظر إليه بالعين الأولى.
افتخر على شاهفريد أم يزيد بن الوليد نساء الوليد العربيات فقالت: ليست منكن امرأة إلا وفي عشيرتها من يفخر عليها، ولا يقر لها بالشرف والفضل. وليس في الدنيا أعجمية تفخر علي. وكانت من أولاد يزدجرد. ولذلك يقول يزيد بن الوليد: أنا ابن كسرى وأبي مروان، وقيصر جدي، وجدي خاقان.
عرضت عنان جارية الناطفي على الرشيد وهو يتبختر، فقال لها: أتحبين أن أشتريك؟ فقالت: ولم لا يا أحسن الناس خلقاً وخلقاً؟ فقال:

أما الخلق فقد رأيته، فالخلق أنى عرفته؟ قالت: رأيت شرارة طاحت من اليجمرة فلمعت في خدك فما قطبت لها ولا عاتبت أحداً.
لما بنى المأمون ببوران مد يده إليها فحاضت، فقالت: أتى أمر الله فلا تستعجلوه. ففطن المأمون ووثب عنها.
كان معاوية يمشي مع أمه فعثر، فقالت له: قم لا رفعك الله - وأعرابي ينظر إليه - فقال: لم تقولين له هذا؟ فوالله إني لأظنه سيسود قومه. فقالت: لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه.
قال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: جمعتنا أمنا فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت: يا بني إنه والله ما نال أحد من أهل السفه بسفههم شيئاً، ولا أدركوه من لذاتهم إلا وقد ناله أهل المروءات بمروءاتهم. فاستتروا بستر الله.
لما قصد المعتضد بني شيبان اصطفى منهم عجوزاً سريعة الجواب فصيحةً، فكان يغري بينها وبين الجلساء، فجاءت يوماً فقعدت بلا إذن فقال لها خفيف السمرقندي الحاجب: أتجلسين بين يدي أمير المؤمنين، ولم يأذن لك؟ فقالت: أنت جار ذلك وحاجبه، كان يجب أن تعرفني ما أعمل قبل دخولي إذ لم تكن لي عادة بمثله. ثم قامت. فتغافل المعتضد عنها فقالت: يا سيداه؛ أقيام إلى الأبد، فمتى ينقضي الأمد؟ فضحك وأمرها بالجلوس.
قالوا: طاف علي بن عبد الله بن العباس بالبيت، وهناك عجوز قديمة وعلي قد فرع الناس كأنه راكب والناس مشاة. فقالت: من هذا الذي قد فرع الناس؟ فقيل: علي بن عبد الله بن العباس، فقالت: لا إله إلا الله إن الناس ليرذلون. عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه فسطاط أبيض ويقال: إنه كان علي إلى منكب أبيه عبد الله 370. وكان عبد الله إلى منكب أبيه العباس وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب.
قالت هند بنت عتبة لأبي سفيان بن حرب لما رجع مسلماً من عند رسول الله صلى الله عليه إلى مكة في ليلة الفتح فصاح: يا معشر قريش، ألا إني قد أسلمت، فأسلموا، فإن محمداً قد أتاكم بما لا قبل لكم به. فأخذت هند رأسه وقالت: بئس طليعة القوم. والله ما خدشت خدشاً. يا أهل مكة. عليكم الحميت الدسم فاقتلوه.
وقالت هند: إنما النساء أغلال، فليختر الرجل غلا ليده.
وذكرت هند بنت المهلب النساء فقالت: ما زين بشيء كأدب بارع تحته لب ظاهر.
وقالت أيضاً: إذا رأيتم النعم مستدرة فبادروا بالشكر قبل حلول الزوال.
قدمت ليلى الأخيلية على الحجاج ومدحته. فقال: يا غلام؛ أعطها خمسمائة، فقالت: أيها الأمير، اجعلها أدماً. فقال قائل: إنما أمر لك بشاء. قالت: الأمير أكرم من ذاك. فجعلها إبلاً إناثاً استحياء. وإنما كان أمر لها بشاء أولاً.
كانت آمنة بنت سعيد بن العاص عند الوليد بن عبد الملك، فلما مات عبد الملك سعت بها إحدى ضراتها إلى الوليد. وقالت: لم تبك على عبد الملك كما بكت نظائرها. فقال لها الوليد في ذلك فقالت: صدق القائل لك أكنت قائلة: يا ليته بقي حتى يقتل أخاً لي آخر كعمرو بن سعيد.
كانت ابنة هاني بن قبيصة عند لقيط بن زرارة، فقتل عنها وتزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطاً. فقال لها ذات مرة: ما استحسنت من لقيط؟ فقالت: كل أموره كانت حسنة. وكني أحدثك إن خرج مرة إلى الصيد وقد انتشى، فرجع إلي وبقميصه نضح من دم صيده والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشراب من فيه. فضمني ضمة وشمني شمة، فليتني كنت مت ثمة. قال: ففعل زوجها مثل ذلك ثم ضمها إليه وقال: أين أنا من لقيط؟ فقالت: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان قالوا: كان ذو الإصبع العدواني غيوراً، وكان له بنات أربع لا يزوجهن غيرة؛ فاستمع عليهن مرة وقد خلون يتحدثن، فذكرن الأزواج حتى قالت، الصغرى منهن: زوج من عود خير من قعود. فخطبهم فزوجهن.
ثم أمهلهن حولاً، ثم زار الكبرى فقال لها: كيف رأيت زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم أهله، وينسى فضله. قال: حظيت ورضيت. فما مالكم؟ قالت: خير مال. قال: وما هو؟ قالت: الإبل، نأكل لحمانها مزعاً، ونشرب ألبانها جرعاً وتحملنا وضعفتنا معاً. فقال: زوج كريم ومال عميم.
ثم زار الثانية فقال: كيف رأيت زوجك؟ قالت: يكرم الحليلة ويقرب الوسيلة قال: فما مالكم؟ قالت: البقر. قال: وما هي؟ قالت: تألف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك السقاء، ونساء مع نساء. قال: رضيت وحظيت.

ثم زار الثالثة فقال: كيف رأيت زوجك؟ فقالت: لا سمح بذر، ولا بخيل حكر. قال: فما مالكم؟ قالت: المعزى. قال: وما هي؟ قالت: لو كنا نولدها فطماً، ونسلخها أدماً، لم نبغ بها نعماً. فقال: جذوة مغنية.
ثم زار الرابعة فقال: كيف رأيت زوجك؟ فقالت: شر زوج؛ يكرم نفسه ويهين عرسه. قال: فما مالكم؟ قالت: شر مال؛ الضأن. قال: وما هي؟ قالت: جوف يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصم 371، لا يسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن. فقال: أشبه امأ بعض بزه، فأرسلها مثلاً.
وقفت امرأة من تميم على قبر الأحنف. فقالت: لله درك من مجن في جنن، ومدرج في كفن. نسأل الله الذي فجعنا بوجهك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك ودليل الخير دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك. فوالله لقد كنت في المحافل شريفاً، وعلى الأرامل عطوفاً، ولقد كنت في الجود مسوداً، وإلى الخليفة موفداً، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين.
قال ثمامة: لما دخل المأمون بغداد دخلت عليه زبيدة أم الأمين، فجلست بين يديه فقالت: الحمد لله، أهنيك بالخلافة، فقد هنأت بها نفسي قبل أن أراك؛ ولئن كنت قد فقدت ابنا خليفة، لقد اعتضت ابناً خليفة، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت عينها منك، وأنا أسأل الله أجراً على ما أخذ، وإمتاعاً بما وهب. فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه. ماذا تراها بقت في هذا الكلام لبلغاء الرجال.
تزوج عبد الملك لبابة بنت عبد الله بن جعفر فقالت له يوماً: لو استكت فقال: أما منك فأستاك. وطلقها فتزوجها علي بن عبد الله بن العباس وكان أقرع لا يفارقه قلنسوته. فبعث إليه عبد الملك جارية وهو جالس مع لبابة، فكشفت رأسه على غفلة لترى ما به. فقالت للجارية: قولي له: هاشمي أصلع أحب إلينا من أموي أبخر.
اجتمعت إحدى عشرة امرأة فتعاهدن ألا يكتمن أخبار أزواجهن شيئاً فقالت الأولى: زوجي لحم جمل غث، على جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، ويروى فينتقل.
وقالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، وإني أخاف ألا أذره إن أذكره أذكر عجره وبجره.
قالت الثالثة: زوجي العشنق إن انطلق أطلق، وإن أسكت أعلق.
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
قالت السادسة: زوجي عياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك، أو جمع كلاً لك.
قالت السابعة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.
قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النادي.
قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك! مالك خير من ذلك، له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع وما أبو زرع! أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلى نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنق، وعنده أقول فلا أقبح، وأشرب فأتقنح، وأرقد فأتصبح.
أم أبي زرع وما أم أبي زرع! عكومها رداح، وبيتها فياح.
ابن أبي زرع وما ابن أبي زرع! كمسل شطبة، وتشبعه ذراع الجفرة.
بنت أبي زرع وما بنت أبي زرع! طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها، وغيظ جارتها.
جارية أبي زرع وما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثاً ولا تنقث 372 ميرتنا تنقيثاً، ولا تملا بيتنا تعشيشاً.
خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطياً، وأراح على نعما ثرياً. وقال: كلي أم زرع وميري أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع.
وفي حديث قيلة حين خرجت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان عم بناتها أراد أن يأخذ بناتها منها.
قالت: فلما خرجت بكت هنيهة منهن وهي أصغرهن، حديباء كانت قد أخذتها الفرصة، عليها سبيج لها من صوف فرحمتها فحملتها معها فبينا هما يرتكان، إذ تنفجت الأرنب. فقالت الحديباء والقصية:

والله لا يزال كعبك عالياً. قالت: وأدركني عمهن بالسيف، فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسيه. وقال: ألقي إلي ابنة أخي يا دفار فألقيتها إليه، ثم انطلقت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبينما أنا عندها ليلةً، تحسب عيني نائمة، إذ دخل زوجها من السامر، فقال: وأبيك لقد أصبت لقيلة صاحب صدق، حريث بن حسان الشيباني فقالت أختي: الويل لي، لا تخبرها فتتبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها، ليس معها رجل من قومها.
قالت: فصحبت صاحب صدق، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصليت معها الغداة حتى إذا طلعت الشمس دنوت، فكنت إذا رأيت رجلاً ذا رواء أو ذا قشر طمح بصري إليه، فجاء رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك السلام. وهو قاعد القرفصاء، وعليه أسمال مليتين، ومعه عسيب نخلة مقشور غير خوصتين من أعلاه قال: فتقدم صاحبي يبايعه على الإسلام. ثم قال: يا رسول الله، اكتب لي بالدهناء لا يجاوزها من تميم إلينا إلا مسافر أو مجاور. فقال: يا غلام؛ اكتب له قالت: فشخص بي وكانت وطني وداري فقلت: يا رسول الله، الدهناء مقيد الجمل، ومرعى الغنم، وهذه نساء بني تميم وراء ذلك. فقال: " صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان " . قالت: ثم أمر عليه السلام فكتب لي في قطعة أدم أحمر: لقيلة والنسوة وبنات قيلة لا يظلمن حقاً ولا يكرهن على منكح، وكل مؤمن مسلم لهن نصير، أحسن ولا تسئن. " وقال صلى الله عليه: أيلام ابن هذه أن يفصل الخطة، وينتصر من وراء الحجرة.
قالت: فلما رأى حريث أنه قد حيل دون كتابه صفق إحدى يديه على الأخرى ثم قال: كنت أنا وأنت كما قال الأول: حتفها حملت ضأن بأظلافها. قالت: فقلت: أما والله لقد كنت دليلاً في الليلة الظلماء، جواداً لذي الرحل، عفيفاً عن الرفيقة، صاحب صدق حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه. على أني أسأل حظي إذا سألت حظك. قال: وما حظك من الدهناء؟ لا أبا لك!! قالت: مقيد جملي تسأله لجمل امرأتك. قال: أما إني أشهد رسول الله صلى الله عليه أني لك أخ ما حييت إذ أثنيت هذا علي عنده. قالت: إذ بدأتها فإني لا أضيعها.
وقف المهدي 373 وقد حج على امرأة من طيء فقال: ممن العجوز؟ قالت: من طيء قال: ما منع طيئاً أن يكون فيها آخر مثل حاتم؟ قالت: الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك.
قالوا: سارت بنو سعد إلى بكر بن وائل، وكانت فيهم جارية عاشق فاكتلأت تنظر، فرأت رجلاً معتجراً بشقة برد متنكباً قوسه فلاحت لها صفحة القوس، فأنبهت أباها وقالت: يا أبه: إني رأيت متن سيف أو صفحة قوس على موضع السلاح في الشمال، من رجل أجلى الجبين براق الثنايا، كأن عمامته ملوية بشجرة. فقال: يا بنيه، إني لأبغض الفتاة الكلوء العين. قالت: والله ما كذبتك. فصاح في قومه فأنذرهم. فقالوا: ما نية ابنتك في هذه الساعة. إنها عاشقة، فاستحيا الشيخ فانصرف. فقالت ابنته: ارتحل؛ فإن الجيش مصبحك. ووقعت بنو سعد ببكر بن وائل فقتلوا وملأوا أيديهم من السبي والغارة.
قال الأصمعي: قيل لامرأة: علام تمنعين زوجك القضة؟ فإنه يعتل بك. فقالت: كذب والله، إني لأطأطئ الوساد وأرخي اللباد.
قال بعضهم: سمعت أعرابية بالحجاز ترقي رجلاً من العين فقالت: أعيذك بكلمات الله التامة، التي لا تجوز عليها هامة، من شر الجن وشر الإنس عامة، وشر النظرة اللامة، أعيذك بمطلع الشمس، من شر ذي مشي همس، وشر ذي نظر خلس، وشر ذي قول دس، من شر الحاسدين والحاسدات، والنافسين والنافسات، والكائدين والكائدات.
نشرت عنك بنشرة نشار، عن رأسك ذي الأشعار، وعن عينيك ذواتي الأشفار، وعن فيك ذي المحار، وظهرك ذي الفقار، وبطنك ذي الأسرار، وفرجك ذي الأستار، ويديك ذواتي الأظفار، ورجليك ذواتي الآثار، وذيلك ذي الغبار، وعنك فضلاً وذا إزار، وعن بيتك فرجاً وذا أستار. رششت بماء بارد ناراً، وعينين أشفاراً، وكان الله لك جاراً.
وفدت سودة بنت عمارة الهمدانية على معاوية فقال لها: ما حاجتك؟ قالت:

إنك أصبحت للناس سيداً، ولأمرهم متقلداً، والله مسائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقدم علينا من ينوء بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة. هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، وأخذ مالي، يقول لي: قوهي بما أستعصم الله منه، وألجأ إليه فيه، ولولا الطاعة لكان فينا عزة ومنعة؛ فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك.
قال معاوية: أتهددينني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس، فأردك إليه، ينفذ فيك حكمه. فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول:
صلى الإله على جسم تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال لها: ومن ذاك؟ قالت: علي بن أبي طالب عليه السلام. قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذا؟ قالت: قدمت عليه في متصدق قدم علينا قبله، والله ما كان بيني وبينه إلا ما بين 374 الغث والسمين، فأتيت علياً عليه السلام لأشكو إليه ما صنع، فوجدته قائماً يصلي. فلما نظر إلي انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته الخبر. فبكى ثم قال: اللهم إنك أنت الشاهد علي وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك. ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب، فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم " قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان " " ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ " إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام. فأخذته منه والله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام فقرأته.
فقال لها معاوية: لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئاً ما تفطمون. ثم قال: اكتبوا لها برد مالها والعدل عليها. قالت: إلي خاصة أم لقومي عامة. قال: ما أنت وقومك. قالت: هي والله إذاً الفحشاء واللؤم. إن كان عدلاً شاملاً، وإلا فأنا كسائر قومي. قال: اكتبوا لها ولقومها.
وأوفد معاوية الزرقاء بنت عدي بن غالب فقال لها: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين صفين، توقدين الحرب، وتحضين على القتال؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين؛ إنه قد مات الرأس، وبقي الذنب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر قال لها: صدقت. فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟ قالت: ما أحفظه قال: ولكني والله أحفظه. لله أبوك! لقد سمعتك تقولين: أيها الناس؛ إنكم في فتنة، غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صماء لا يسمع لقائلها، ولا ينقاد لسائقها.
أيها الناس؛ إن المصباح لا يضيء في الشمس، وإن الكواكب لا تقد في القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، وإن الزف لا يوازن الحجر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن استخبر أخبرناه، إن الحق كان يطلب ضالته، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، وغلب الحق باطله، فلا يعجلن أحد فيقول: كيف وأنى. ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
ألا إن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في الأمور عواقباً إلى الحرب قدماً غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده.
ثم قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه، فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين، وأدام سلامتك. مثلك من بشر بخير وسر جليسه. قال لها: وقد سرك ذلك؟ قالت: نعم والله، لقد سرني قولك فأنى بتصديق الفعل؟ فقال معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أحب إلي من حبكم له في حياته.
وأوفد أم الخير بنت الحريش البارقية فقال لها: كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله رويته من قبل 375 ولا دونته بعد. وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة. فإن شئت أن أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت. قال: لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيكم حفظ كلام أم الخير؟ قال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد. قال: هاته. قال:

نعم كأني بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية، وهي على جمل أرمك وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته، تقول: " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم " . إن الله قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونور السبيل، ورفع العلم؛ فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمة، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ أفراراً عن أمير المؤمنين، أم فراراً من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتداداً عن الحق؟ أسمعتم الله عز وجل يقول: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم. " ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرعية، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع إليه كلمة التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر، إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك بها ثارات بني عبد شمس.
ثم قالت: " فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون " صبراً معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم؛ فكأني بكم غداً قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة، لا تدري أين يسلك بها في فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى. " وعما قليل ليصبحن نادمين " تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة. إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنة نزل النار.
أيها الناس، إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطئوا الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون. وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه. فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه، وزوج ابنته، وأبي ابنيه، خلق من طينته، وتفرع من نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينته، وعلم المسلمين وأبان ببغضه المنافقين. فلم يزل كذلك يؤيده الله عز وجل بمعونته، وبمضي على سنن استقامته، لا يعرج لراحة الدار.
ها هو مفلق الهام، ومكسر الأصنام، إذ صلى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرق جمع هوازن. فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً، وردة وشقاقاً. قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق 376 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فقال معاوية: والله يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي. ووالله لو قتلتك ما حرجت في ذلك. قالت: والله ما يسوءني يا بن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني بشقائه. قال: هيهات يا كثيرة الفضول: ما تقولين في عثمان بن عفان؟ قالت: وما عسيت أن أقول فيه؟ استخلفه الناس وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون.
فقال معاوية: إيهاً يا أم الخير. هذا والله أوصلك الذي تبنين عليه. قالت: " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " ما أردت لعثمان نقصاً. ولقد كان سباقاً إلى الخيرات وإنه لرفيع الدرجة. قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر. وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة.
قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: يا هذا لا تدعني كرجيع الضبع يعرك في المركن قال: حقاً لتقولين ذلك. وقد عزمت عليك. قالت: وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه؟ وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه بالجنة. ولقد كان سباقاً إلى كل مكرمة من الإسلام. وإنى أسألك بحق الله يا معاوية؛ فأن قريشاً تحدث أنك من أحلمها، فأنا أسألك بأن تسعني بفضلك، وأن تعفيني من هذه المسائل. وامض لما شئت من غيرها. قال: نعم وكرامة قد أعفيتك، وردها مكرمة إلى بلدها.
ذكر أن الجمانة بنت المهاجربن خالد بن الوليد نظرت إلى عبد الله بن الزبير وهو يرقى المنبر، يخطب بالناس في يوم جمعة فقالت حين رأته رقى المنبر: أيا نقار انقر. أما والله لو كان فوقه نجيب من بني أمية، أو صقر من بني مخزوم لقال المنبر: طيق طيق. قال:

فأنمي كلامها إلى عبد الله بن الزبير، فبعث إليها فأتي بها فقال لها: ما الذي بلغني عنك بالكاع؟ قالت: الحق أبلغت يا أمير المؤمنين، قال: فما حملك على ذلك؟ قالت: لا تعدم الحسناء ذاماً. والساخط ليس براض. ومع ذلك فما عدوت فيما قلت لك أن نسبتك إلى التواضع والدين، وعدوك إلى الخيلاء والطمع. ولئن ذاقوا وبال أمرهم لتحمدن عاقبة شأنك، وليس من قال فكذب كمن حدث وصدق. وأنت بالتجاوز جدير، ونحن للعفو أهل فاستر على الحرمة، تستتم النعمة، فوالله ما يرفعك القول ولا يضعك. وإن قريشاً لتعلم أنك عابدها وشجاعها، وسنانها ولسانها، حاط الله لك دنياك، وعصم أخراك، وألهمك شكر ما أولاك.
ذكر الأصمعي عن أبان بن تغلب قال: خرجت في طلب الكلأ، فانتهيت إلى ماء من مياه كلب، وإذا أعرابي على ذلك الماء ومعه كتاب منشور يقرؤه عليهم، وجعل يتوعدهم. فقالت له أمه وهي في خبائها. وكانت مقعدة كبراً: ويلك! دعني من أساطيرك. لا تحمل عقوبتك على من لم يحمل عليك، ولا تتطاول على من لا يتطاول عليك. فإنك لا تدري ما يقربك إليه حوادث الدهور، ولعل من صيرك إلى هذا اليوم أن يصير غيرك إلى مثله غداً، فينتقم منك أكثر مما انتقمت 377 منه، فاكفف عما أسمع منك ألم تسمع إلى قول الأول:
لا تحقرن الفقير علك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه
قال المهدي بن أبان: قلت لولادة العبدية - وكانت من أعقل النساء - إني أريد الحج فأوصيني. قالت: أوجز فأبلغ، أم أطيل فأحكم. فقلت: ما شئت. قالت: جد تسد، واصبر تفز. قلت: أيضاً. قالت: لا يتعد غضبك حلمك، ولا هواك علمك، وفي دينك بدنياك، وفر عرضك بعرضك، وتفضل تخدم، واحلم تقدم.
قلت: فمن أستعين؟ قالت: الله. قلت: من الناس؟ قالت: الجلد النشيط، والناصح الأمين.
قلت: فمن أستشير؟ قالت: المجرب الكيس، أو الأديب الصغير. قلت: فمن أستصحب؟ قالت: الصديق المسلم، أو المداجي المتكرم. ثم قالت: يا أبتاه؛ إنك تفد إلى ملك الملوك، فانظر كيف يكون مقامك بين يديه.
روي أن رسول الله صلى الله عليه خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة لا عابس ولا مفند. صلى الله عليه وسلم.
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره بمكة ما ذكر. ولو كنت وافقته لالتمست صحبته، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.
قال أبان بن تغلب: سمعت امرأة توصي ابناً لها وأراد سفراً فقالت: أي بني، أوصيك بتقوى الله، فإن قليله أجدى عليك من كثير عقلك، وإياك والنمائم. فإنها تورث الضغائن، وتفرق بين المحبين؛ ومثل لنفسك مثال ما تستحسن لغيرك ثم اتخذه إماماً، وما تستقبح من غيرك فاجتنبه، وإياك والتعرض للعيوب فتصير نفسك غرضاً، وخليق ألا يلبث الغرض على كثرة السهام، وإياك والبخل بمالك، والجود بدينك. فقالت أعرابية معها: أسألك إلا زدته يا فلانة في وصيتك قالت: أي والله؛ والغدر أقبح ما يعامل به الإخوان، وكفى بالوفاء جامعاً لما تشتت من الإخاء ومن جمع العلم والسخاء فقد استجاد الحلة، والفجور أقبح خلة وأبقى عاراً.
قامت امرأة عروة بن الورد العبسي بعد أن طلقها في النادي فقالت: أما إنك والله الضحوك مقبلاً، السكوت مدبراً، خفيف على ظهر الفرس، ثقيل على متن العدو، رفيع العماد، كثير الرماد، ترضي الأهل والجانب. قال: فتزوجها رجل بعده فقال: أثني علي كما أثنيت عليه. قالت: لا تحوجني إلى ذلك فإني إن قلت قلت حقاً فأبى، فقالت: إن أكلك لاقتفاف وإن شربك لاشتفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف.
بعث النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر إلى نسوة من العرب منهن فاطمة بنت الخرشب وهي من بني أنمار بن بغيض، وهي أم الربيع بن زياد وإخوته، وإلى قيلة بنت الحسحاس الأسدية وهي أم خالد بن صخر بن الشريد، وإلى تماضر بنت الشريد، وهي أم قيس بن زهير وإخوته كلهم، وإلى الرواع النمرية، وهي أم يزيد بن الصعق فلما اجتمعن عنده. قال: إني قد أخبرت بكن، وأردت أن أنكح إليكن فأخبرنني عن بناتكن. فقالت: فاطمة عندي الفتخاء العجزاء، أصفى من الماء، وأرق من الهواء، وأحسن من السماء.
وقالت تماضر: عندي منتهى الوصاف، دفيئة اللحاف، قليلة الخلاف.
وقالت الرواع: عندي الحلوة الجهمة، لم تلدها أمة.
وقالت قيلة:

عندي ما يجمع صفاتهن وفي ابنتي ما ليس في بناتهن.
فتزوج إليهن جميعاً فلما أهدين إليه دخل على ابنة الأنمارية فقال: ما أوصتك به أمك؟ قالت: قالت لي: عطري جلدك، وأطيعي زوجك، واجعلي الماء آخرطيبك.
ثم دخل على ابنة السلمية فقال: ما أوصتك به أمك؟ قالت: قالت لي: لا تجلسي بالفناء، ولا تكثري من المراء، واعلمي أن أطيب الطيب الماء.
ثم دخل على ابنة النمرية فقال: ما أوصتك به أمك؟ قالت: قالت لي: لا تطاوعي زوجك فتمليه، ولا تعاصيه فتشكعيه، واصدقيه الصغار، واجعلي آخر طيبك الماء.
ثم دخل على ابنة الأسدية فقال: ما أوصتك به أمك؟ قالت: قالت لي: أدنى سترك، وأكرمي زوجك، واجتنبي الإباء، واستنظفي بالماء.
وكانت امرأة من العرب عند رجل فولدت له أولاداً أربعة رجالاً ثم هلك عنها زوجها فتزوجت بعده، فنأى بها زوجها عن بنيها وتزوجوا بعدها ثم إنها لقيتهم فقالت: يا بني، إني سألتكم عن نسائكم فأخبروني عنهن. قالوا: نفعل. فقالت: لأحدهم أخبرني عن امرأتك. فقال: غل في وثاق، وخلق لا يطاق، حرمت وفاقها، ومنعت طلاقها.
وقالت للثاني: كيف وجدت امرأتك؟ قال حسن رائع، وبيت ضائع، وضيف جائع.
وقالت للثالث: كيف وجدت امرأتك؟ قال: دل لا يقلى، ولذة لا تقضى وعجب لا يفنى، وفرح مضل أصاب ضالته وريح روضة أصابت ربابها.
قالت: فهلا أصف لكم كيف وجدت زوجي. قالوا: بلى، قالت: حيل ظغينة، وليث عرينة، وظل صخر وجوار بحر.
كانت حميدة بنت النعمان بن بشير بن سعد تحت روح بن زنباع فنظر إليها يوماً تنظر إلى قومه جذام وقد اجتمعوا عنده فلامها. فقالت: وهل أرى إلى جذاماً؟ فوالله ما أحب الحلال منهم فكيف الحرام.
قالت الجمانة بنت قيس بن زهير العبسي لأبيها لما شرق ما بينه وبين الربيع بن زياد في الدرع: دعني أناظر جدي، فإن صلح الأمر بينكما، وإلا كنت من وراء رأيك. فأذن لها: فأتت الربيع فقالت: إن كان قيس أبي فإنك يا ربيع جدي، وما يجب له من حق الأبوة علي إلا كالذي يجب عليك من حق النبوة لي. والرأي الصحيح تبعثه العناية، وتجلي عن محضه النصيحة. إنك قد ظلمت قيساً بأخذ درعه، ولأجد مكافأته إياك سوء غرمه، والمعارض منتصر، والبادي أظلم، وليس قيس ممن يخوف بالوعيد ولا يردعه التهديد، فلا تركنن إلى منابذته، فالحزم في متاركته، والحرب متلفة للعباد، ذهابة بالطارف والتلاد، والسلم أرخى للبال، وأبقى لأنفس الرجال. وبحق أقول. لقد صدعت بحكم، وما يدفع قولي إلا غير ذي فهم.
وقال المدائني: لما أهديت بنت عقيل بن علفة إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان بعث مولاة له لتأتيه بخبرها قبل أن يدخل بها، فأتتها فلم تأذن لها، أو كلمتها فأحفظتها فهشمت أنفها، فرجعت إليها فأخبرته، فغضب من ذلك، فلما دخل عليها قال: ما أردت إلى عجوزنا هذه؟ قالت: أردت والله إن كان خيراً أن تكون أول من لقي بهجته، وإن كان شراً أن تكون أحق من ستره.
لما انهزم الناس عن المختار مر أبو محجن الثقفي بأمة واسمها دومة فقال: يا دومة ارتد في حلفي. قالت: والله لئن يأخذني هؤلاء أحب إلي من أن أرى خلفك.
كانت رقاش بنت عمرو عند كعب بن مالك فقال لها يوماً: اخلعي درعك قالت: خلع الدرع بيد الزوج. قال: اخلعيه لأنظر إليك قالت: التجرد لغير نكاح مثلة.
كان تميم الداري يبيع العطر في الجاهلية وكان من لخم، فخطب أسماء بنت أبي بكر في جاهليته فماكسهم في المهر فلم يزوجوه. فلما جاء الإسلام جاء بعطر يبيعه فساومته أسماء فماكسها فقالت له: طالما ضرك مكاسك، فلما عرفها استحيا وسامحها في بيعه.
أرسل مسلمة بن عبد الملك إلى هند بنت المهلب وخطبها على نفسه، فقالت لرسوله: والله لو أحيا من قتل من أهل بيتي وموالي ما طابت نفسي بتزويجه بل كيف يأمنني على نفسه، وأنا أذكر ما كان منه وثأري عنده. لقد كان صاحبك يوصف بغير هذا في رأيه.
وخطب عبد الملك بن مروان رملة بنت الزبير بن العوام فردته وقالت لرسوله: إني لا آمن نفسي على من قتل أخي. وكانت أخت مصعب لأمه. كانت أمهما الكلبية.
دخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر في اليوم الذي قتل فيه، فقال:

يا أمة؛ خذلني الناس حتى أهلي وولدي ولم يبق معي إلا اليسير ومن لا دفع عنده أكثر من صبر ساعة من النهار. وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ قالت: إن كنت على حق تدعو إليه فامض عليه، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيتلعبوا بك. وإن قلت: إني كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا فعل من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما تقع به يا بن الزبير. والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل.
قال لها: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً إلى الله. والله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تهتك محارمه. ولكني أحببت أن أطلع رأيك فيزيدني قوة وبصيرة مع قوتي وبصيرتي. والله ما تعمدت إتيان منكر ولا عملاً بفاحشة، ولم أجر في حكم، ولم أغدر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي فرضيت به. بل أنكرت ذلك ولم يكن شيء عندي آثر من رضا ربي.
اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. قالت له: والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسناً بعد أن تقدمتني أو تقدمتك، فإن في نفسي منك حرجاً حتى أنظر إلى ما يصير أمرك.
ثم قالت: اللهم ارحم طول ذاك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة وبره بأمه. اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فاثبني في عبد الله ثواب الشاكرين. فودعها وقال: يا أمه لا تدعي الدعاء لي قبل قتلي ولا بعده. قالت: لن أدعه لك. فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. فخرج وهو يقول:
فلست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
وقال لأصحابه: احملوا على بركة الله. وحارب حتى قتل.
وروي أنه دخل على أمه أسماء وهي عليلة، فقال: يا أمه. إن في الموت لراحة. فقالت: يا بني؛ لعلك تتمنى موتي. فوالله ما أحب أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك؛ فإما أن تظفر بعدوك فتقر عيني وإما أن تقتل فأحتسبك. قال: فالتفت إلى أخيه عروة وضحك.
فلما كان في الليلة التي قتل في صبيحتها دخل في السحر 381 عليها فشاورها، فقالت: يا بني لا تجيبن إلا خطة تخاف على نفسك القتل. قال: إنما أخاف أن يمثلوا بي. قالت: يا بني؛ إن الشاة لا تألم السلخ بعد الذبح.
خطب عمران بن موسى بن طلحة هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري فردته، وأرسلت إليه: إني والله ما بي عنك رغبة، ولكن ليس زوجي إلا من لا يؤدي قتلاه ولا يرد قضاؤه، وليس ذلك عندك.
حجت أم حبيب بنت عبد الله بن الأهتم فبعث إليها الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام فخطبها، فقالت: إني لم آت هذا البلد للتزويج، وإنما جئت لزيارة هذا البيت فإذا قدمت بلدي وكانت لك حاجة فشأنك. قال: فازداد فيها رغبة، فلما صارت إلى البصرة أرسل إليها فخطبها، فقال إخوتها: إنها امرأة لا يفتات على مثلها برأي، وأتوها فأخبروها الخبر، فقالت: إن تزوجني على حكمي أجبته. فأدوا ذلك إليه فقال: امرأة من تميم، أتزوجها على حكمها. ثم قال: وما عسى أن يبلغ حكمها لها؟ قال: فأعطاها ذلك. فقالت: قد حكمت بصداق أزواج النبي صلى الله عليه وبناته، اثني عشر أوقية من الفضة. فتزوجها على ذلك، وأهدى لها مائة ألف درهم. فجاءت إليه فبنى بها في ليلة قائظة على سطح لا حظار عليه، فلما غلبته عينه أخذت خمارها فشدته في رجله، وشدت الطرف الآخر في رجلها.
فلما انتبه من نومه رأى الخمار في رجله. فقال: ما هذا؟ قالت: أنا على سطح ليس عليه حظار، ومعي في الدار ضرائر، ولم آمن عليك وسن النوم، ففعلت هذا حتى إذا تحركت تحركت معك. قال: فازداد فيها رغبة، وبها عجباً. ثم لم يلبث أن مات عنها فكلموها في الصلح عن ميراثه. فقالت: ما كنت لآخذ له ميراثاً أبداً، وخرجت إلى البصرة، فبعث إليها نفر يخطبونها منهم يزيد بن معاوية - لعنه الله - وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر فأتاها إخوتها فقالوا لها: هذا ابن أمير المؤمنين، وهذا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه، وهذا ابن حواريه، وهذا ابن عامر أمير البصرة. اختاري من شئت منهم. قال: فردتهم جميعاً. وقالت: ما كنت لأتخذ حماً بعد ابن رسول الله صلى الله عليه.
وقال المدائني:

أتى عبيد الله بن زياد بامرأة من الخوارج، فقطع رجلها وقال لها: كيف ترين؟ فقالت: إن في الفكر في هول المطلع لشغلاً عن حديدتكم هذه. ثم قطع رجلها الأخرى وجذبها، فوضعت يدها على فرجها. فقال: إنك لتسترينه. فقالت: لكن سمية أمك لم تكن تستره قال المهدي للخيزران أم موسى وهارون ابنيه: إن موسى ابنك يتيه أن يسألني حوائجه. قالت: يا أمير المؤمنين، ألم تك أنت في حياة المنصور لا تبتدئه بحوائجك، وتحب أن يبتدئك هو؟ فموسى ابنك كذلك يحب منك. قال: لا، ولكن التيه يمنعه. قالت: يا أمير المؤمنين؛ فمن أين أتاه التيه؟ أمن قبلي أم قبلك؟ روي عن بعضهم أنه قال: بينا أنا ذات يوم بالبادية، فخرجت في بعض الليالي في الظلم، فإذا أنا بجارية كأنها علم، فأردتها على نفسها فقالت: ويحك! أما لا زاجر من عقل إذ لم يكن لك ناه من دين؟ قلت لها: والله ما يرانا شيء إلا الكواكب. قالت: ويحك. وأين مكوكبها؟! 382 قال الجاحظ: لما مات رقبة بن مصقلة أوصى إلى رجل ودفع إليه شيئاً. فقال: ادفعه إلى أختي. فسأل الرجل عنها فخرجت إليه فقال لها: أحضريني شاهدين يشهدان أنك أخته. فأرسلت جاريتها إلى الإمام والمؤذن ليشهدا لها. واستندت إلى الحائط فقالت: الحمد لله الذي أبرز وجهي، وأنطق عني، وشهر بالفاقة اسمي. فقال الرجل: شهدت أنك أخته حقاً. ودفع الدنانير إليها، ولم يحتج إلى شهادة من يشهد لها.
خطب سعيد بن العاص عائشة بنت عثمان. فقالت: لا أتزوج به والله أبداً، فقيل لها: ولم ذلك؟ قالت: لأنه أحمق، له برذونان أشبهان، فهو يتحمل مؤونة اثنين واللون واحد.
ذكر رجل من قريش سوء خلق امرأته بين يدي جارية له كان يتحظاها فقالت له: إنما حظوظ الإماء لسوء خلائق الحرائر.
اختلف الحجاج وهند بنت أسماء بن خارجة في بنات قين، فبعث إلى مالك بن أسماء فأخرجه من الحبس، وسأله عن الحديث فحدثه ثم أقبل على هند. فقال لها: قومي إلى أخيك. فقالت: لا أقوم إليه وأنت ساخط عليه. فأقبل الحجاج على مالك فقال: إنك والله - ما علمت - للخائن لأمانته، اللئيم حسبه، الزاني فرجه. فقالت هند: إن أذن الأمير تكلمت. فقال: تكلمي. فقالت: أما قول الأمير: الزاني فرجه، فوالله لهو أحقر عند الله وأصغر في عين الأمير من أن يجب لله عليه حد فلا يقيمه.
وأما قول الأمير: اللئيم حسبه فوالله لو علم مكان رجل أشرف منه لصاهر إليه.
وأما قوله: الخائن أمانته. فوالله لقد ولاه الأمير فوفر، فأخذه بما أخذ به فباع من وراء ظهره. ولو ملك الدنيا بأسرها لافتدى بها من هذا الكلام.
أتى البرد على زرع عجوز بالبادية، فأخرجت رأسها من الخباء ونظرت إلى الزرع قد احترق فقالت - ورفعت رأسها إلى السماء - : اصنع ما شئت فإن رزقي عليك.
قيل لرابعة: إن التزوج فرض الله عز وجل فلم لا تتزوجين؟ فقالت: فرض الله قطعني عن فرضه.
كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عند عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقتل عنها، فخلف عليها عمر بن الخطاب فقتل عنها، فخلف عليها الزبير، فقتل، فخلف عليها محمد بن أبي بكر فقتل. فقال عبد الله بن عمر: من سره الشهادة فليتزوج عاتكة. فبلغها ذلك فقالت: من سره أن يكون بيضة البلد، حبلى لا تطير ولا تلد فليكن كعبد الله. فبلغ ذلك عبد الله بن جعفر الطيار فضحك وقال: ما هو كما قالت إنه لمصباح بلد، وابن كهف الإسلام.
وقد روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: من اشتاق إلى الشهادة فليتزوج عاتكة.
وقد روي أنه رضي الله عنه خطبها فقالت: يا أمير المؤمنين أنا أرب بك عن القتل.
كان عمرو أحد بني كاهل يغزو فهما فيصيب منهم فوضعوا له رصداً على الماء فأخذوه فقتلوه. ثم مروا بأخته جنوب فقالوا: إنا طلبنا عمراً أخاك. قالت: لئن طلبتموه لتجدنه منيعاً، ولئن ضفتموه لتجدنه مريعاً، ولئن دعوتموه لتجدنه سريعاً. قالوا: قد أخذناه وقتلناه وهذا سلبه. قالت: لئن سلبتموه لتجدون ثنته 383 وافية، لا حجزته جافية ولا ضالته كافئة. ولرب ثدي منكم قد افترشه ونهب قد اقترشه، وضب قد احترشه.

زوج رجل من بني أسد بنتاً له تدعى أم مالك من ابن أخ له يدعى مرة بن الجعد، كان شرطاً من الرجال دميماً، فجامحته وانسلت بالليل، فوافقت المدينة تستعدي حسن بن زيد العلوي على أبيها. فلما وقفت بين يديه نادت: إنا بالله وبك يا بن رسول الله، قد جاوزت إليك مخاوف، وقطعت نتائف. أنتعل الحفى، وأحتمل الوجى عائذة بالله وبك من والد مغبون، وقرين مأفون، شراني بأوكس الأثمان، وعكسني بدار مذلة وهوان، من زوج كأنه كلب مصرور، على جيفة ممطور، في يوم صر مقرور، قد شرد بغضه نوم الجفون واستجلب قلاه ماء الشئون. فالنوم موثق، والدمع مطلق، إذا استجم الدمع أفاضته أحزانها، وإذا فاض وكف بأسجانها. نؤمل من عدلك ما نشر الله به حسن الظن بك، فآنسها في الوحشة وأطمعها في الإنجاح، ثم أنشدته شعراً لها فقام الحسن بأمرها حتى بلغت مرادها.
لما قال النابغة للخنساء: ما رأيت ذا مثانة أشعر منك. قالت له: ولا ذا خصيتين. وقال لها عمر: يا خنساء ما أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر. قال: يا خنساء؛ إنهم في النار. قالت: ذاك أطول لعويلي عليهم. وكانت تقول:
كنت أبكي لصخر على الحياة ... وأنا أبكي له الآن من النار
قالت عمرة بنت مرداس بن أبي عامر، وهي عروس أمها الخنساء في شيء كرهته. فقالت الخنساء: يا حمقاء؛ والله لكأنها بظير أمة ورهاء. أنا والله كنت أكرم منك بعلاً، وأرقى منك نعلاً، وأحسن منك عرساً، وأتم منك أنساً؛ إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، وأشرب اللبن غضاً قارصاً، ومحضاً خالصاً، لا أنهش اللحم، ولا أذيب الشحم، ولا أرعى البهم، كالمهرة الصنيع، لا مضاعة ولا عند مضيع، عقيلة الحسان الحور، أضيء في طخية الديجور، وذلك في شبيبتي قبل شيبي. وقامت مغضبة.
قال بعضهم: مررت على هند بنت المهلب، فرأيت بيدها مغزلاً تغزل به، فقلت لها: تغزلين؟ قالت: نعم سمعت أبي يذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أعظمكن أجراً أطولكن طاقة، وهو يطرد الشيطان ويذهب بحديث النفس " .
وروي عن عائشة أنها قالت: المغزل في يد المرأة مثل الرمح في يد الغازي.
قيل للخنساء: لم يكن صخر كما وصفت. قالت: وكيف ذاك؟ فوالله لقد كان ندي الكفين، يابس الجنبين؛ يأكل ما وجده، ولا يسأل عما عهده.
قيل لحبي المدينية: ما السقم الذي لا يبرأ، والجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم لا يجدي عليه. قيل: فما الشرف؟ قالت: اعتقاد المنن في أعناق الكرام، يبقى للأعقاب على الأحقاب.
ذكر نسوة أزواجهن فقالت إحداهن: زوجي عوني في الشدائد، والعائد دون كل عائد، إن غضبت عطف، وإن مرضت لطف.
وقالت الأخرى: زوجي لما عناني كاف، ولما أسقمني شاف، عناقه كالخلد، ولا يمل طول العهد.
وقالت الأخرى: زوجي الشعار حين أجرد، والأنس حين أفرد، والسكن حين أرقد.
384 - قالت امرأة من أهل البادية: لا يعجبني الشاب يمعج معج المهر طلقاً أو طلقين ثم يضطجع بناحية الميدان، ولكن أين أنت من شيخ يضع قب استه بالأرض ثم سحباً وجراً؟! قال بعضهم: رأيت بالمدينة امرأة بين عينيها سجادة، وعليها ثياب معصفرة، فقلت لها: ما أبعد زيك من سمتك! فقالت:
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني جانب ونصيب
قال الزبير بن بكار: قالت بنت أختي لزوجتي: خالي خير رجل لأهله، لا يتخذ ضرة ولا يشتري جارية. فقالت المرأة: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر.
حجت فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أم الكملة؛ الربيع وعمارة وقيس وأنس، وكانت حجتها هذه في الجاهلية، فقال لها رجل من أهل مكة: من أشرف ولدك؟ قالت: الربيع. لا بل عمارة. لا بل قيس. لا بل أنس. ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أسود.
وكان يقال للربيع الكامل، ولأنس الطويل؛ ولقيس الوقاعة، ولعمارة دالق وإنما قيل له ذلك أنه كان يدلق الخيل في كل وجه. وفيهم يقول الشاعر:
بنو جنية ولدت سيوفاً ... صوارم كلها ذكر صنيع
قيل لرملة بنت الزبير: ما بالك أهزل ما تكونين إذا حضر زوجك. فقالت: ما أقبح المرأة الشريفة أن تضاجع زوجها بملء بطنها.
خرج الحارث ين عوف المري خاطباً إلى أوس بن حارثة بن لأم الطائي. فقال لابنته الكبرى: يا بنية؛ هذا سيد قومه قد أتاني خاطباً لك. فقالت:

لا حاجة لي فيه. إن في خلقي ضيقاً يصبر عليه القرباء، ولا يصبر عليه البعداء.
فقال للتي تليها: قد سمعت ما قالت أختك قالت: زوجنيه، فإني إن لم أصلح للبعداء لم أصلح للقرباء. فزوجه وضرب عليه قبة، ونحر له الجزور. فمد يده إليها فقالت ابنة أوس: تمد إليها اليد بحضرته؟ قال: فتحمل بها فلما كان بالطريق مد يده إليها. فقالت ابنة أوس: أردت أن تمتع بها في سفرك كما تمتع بسفرتك، فكف عنها. فلما حل في أهله - وقد وقعت الحرب بين عبس وذبيان - فمد يده إليها فقالت: لقد أخطأ الذي سماك سيداً. أتمد يدك إلى النساء وقومك يتناحرون.
قال: فما وضع يده عليها حتى أصلح بين قومه وتحمل دياتهم، ثم دخل بها فحظيت عنده.
خرج محمد بن واسع في يوم عيد ومعه رابعة، فقال لها: كيف ترين هذه الهيئة؟ فقالت: ما أقول لكم؟ خرجتم لإحياء سنة وإماتة بدعة، فأراكم قد تباهيتم بالنعمة، وأدخلتم على الفقير مضرة.
قالت امرأة من بني تغلب للجحاف بن حكيم في وقعة البشر التي يقول فيها الأخطل:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ... إلى الله فيها المشتكى والمعول
ففض الله عمادك، وأكبى زنادك، وأطال سهادك، وأقل زادك، فوالله إن قتلت إلا نساء أسافلهن دمى وأعاليهن ثدى - وكان قد قتل النساء والذرية. فقال لمن حوله: لولا أن تلد مثلها لاستبقيتها وأمر بقتلها. فبلغ ذلك الحسن البصري فقال: إنما الجحاف جذوة من نار جهنم.
قالت أم عمير الليثية 385 للعوفي في مجلس الحكم: عظم رأسك فبعد فهمك، وطالت لحيتك فغمرت قلبك. وإذا طالت اللحية انشمر العقل. وما رأيت ميتاً يقضي بين الأحياء قبلك.
قال ابن الأحنف بن قيس لزبراء جارية أبيه: يا زانية. فقالت: والله لو كنت زانية لأتيت أباك بابن مثلك.
طلق أعرابي امرأته فذمها فقالت: وأنت والله - ما علمت - تغتنم الأكلة في غير جوع، ملح بخيل، إذا نطق الأقوام أقعصت، وإذا ذكر الجود أفحمت؛ لما تعلم من قصر باعك، ولؤم آبائك، وتستضعف من تأمن، ويغلبك من تخاف، ضيفك جائع، وجارك ضائع، أكرم الناس عليك من أهانك، وأهونهم عليك من أكرمك. القليل عندك كثير، والكبير عندك حقير. سود الله وجهك، وبيض جسمك، وقصر باعك، وطول ما بين رجليك؛ حتى إن دخل انثنى، وإن رجع التوى.
قال بعضهم: كنت عند فاطمة بنت المهلب أعرض عليها طيباً فقمت وتركت المتاع بين يديها، فلما جئت قالت: بئس ما صنعت، لا تأمنن امرأة قط على رجل ولا على طيب.
قال أبو عمرو بن العلاء: خرجت ذات ليلة أطوف، فإذا أنا بامرأة قد فضح وجهها ضوء القمر متعلقة وهي تقول: إلهي؛ أما وجدت شيئاً تعذب به إلا النار. ثم ذهبت، فنمت ثم عدت فوجدتها وديدنها أن تقول ذلك. قلت: لو عذب بما سوى النار، فكان ماذا؟ قالت: يا عماه؛ أما والله لو عذب بغير النار لقضينا أوطاراً.
جعل ابن السماك يوماً يتكلم وجارية له حيث تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده. قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهم. قالت: إلى أن يفهم ما لا يفهمه قد مله من فهمه.

الباب الثالث
الحيل والخدائع
قدم بعضهم رجلاً إلى القاضي وادعى عليه مالاً فقال: صدقوا أسألهم أن يؤخروني حتى أبيع مالي أو عقاري أو رقيقي أو إبلي. فقالوا: كذب أيها القاضي. ما له قليل ولا كثير. ولكنه يريد مدافعتنا فقال: أصلحك الله. فقد شهدوا بالعدم. فخلى سبيله.
قال بعضهم: خرجت ليلة فإذا أنا بالطائف قد أقبل: فلما رأيته من بعيد صحت: المستغاث بالله وبالطائف. فقال لي الطائف: مالك؟ قلت: قوم سكارى في بيتي قد عربدوا، وسلوا السكاكين، وجئت في طلبك لتخلصني منهم. فقال: ايش بين يدي. فمشيت ودخلت البيت، وأغلقت الباب، وصعدت السطح وتطلعت عليه وقلت: انصرف مأجوراً فقد تصالحوا.
سئل بعضهم عن رجل أرادوا أن يزوجوه فقال: إن له شرفاً وبيتاً وقدماً فنظروا فإذا هو ساقط سفلة. فقيل له في ذلك، فقال: ما كذبت شرفه أذناه، وقدمه التي يمشي عليها، ولا بد من أن يكون له بيت يأوي إليه.
قال معاوية لأبي هوذة الباهلي: لقد هممت أن أحمل جمعاً من باهلة في سفينة ثم 386 أغرقهم. قال أبو هوذة: إذا لا ترضى باهلة بعدتهم من بني أمية. قال:

اسكت أيها الغراب الأبقع - وكان به برص. قال أبو هوذة: إن الغراب ربما درج إلى الرخمة حتى ينقر دماغها، ويقتلع عينيها. فقال يزيد: ألا تقتله يا أمير المؤمنين. قال: مه. ونهض معاوية ثم وجهه في سرية فقتل. فقال معاوية ليزيد: هذه أخفى وأصوب.
لما بايع الرشيد ولده تخلف رجل مذكور من الفقهاء، فأحضره وقال له: لم تخلفت عن البيعة؟ قال: عاقني يا أمير المؤمنين عائق فأمر بقراءة كتاب البيعة عليه. فلما قرئ قال: يا أمير المؤمنين هذه البيعة في عنقي إلى قيامي الساعة فلم يفهم الرشيد ما أراد، وقدر أنه يريد إلى قيام الساعة وذهب ما كان في نفسه عليه.
قيل لبعض الفقهاء: لم استجزتم استعمال الحيل في الفقه؟ فقال: الله تعالى علمنا ذلك فإنه قال: وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث " .
لما حبس المقفع، وألح عليه صاحب الاستخراج في العذاب خشي على نفسه فقال لصاحب الاستخراج: عندك مال وأنا أربحك ربحاً ترضاه؟ وقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني، فعيني مقدار هذا النجم. فلما صار عليه مال ترفق به مخافة أن يموت تحت العذاب فيتوى ماله.
جحد رجل مال رجل فاحتكم إلى إياس بن معاوية فقال للطالب: أين دفعت إليه هذا المال؟ قال: عند شجرة في مكان كذا. قال: فانطلق إلى ذلك الموضع لعلك تتذكر كيف كان أمر هذا المال، ولعل الله يوضح لك سبباً. فمضى الرجل وجلس خصمه فقال إياس بعد ساعة: أترى خصمك بلغ موضع الشجرة. قال: لا بعد. قال: يا عدو الله أنت خائن. قال: أقلني أقالك الله. فاحتفظ به حتى أقر ورد المال.
قال معاوية لعمرو: أنت أدهى أم أنا؟ قال عمرو: أنا للبديهة وأنت للأناة. قال: كلا. قال عمرو: أدن مني رأسك أسارك، فأدنى رأسه فقال عمرو: هذا من ذاك. هل ها هنا أحد غيرك.
قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني غير غلام من بني الحارث بن كعب. فإني ذكرت امرأة منهم فقال: أيها الأمير لا خير لك فيها. قلت: ولم؟ قال: رأيت رجلاً يقبلها. فأضربت عنها فتزوجها الفتى. فأرسلت إليه: ألم تعلمني كذا وكذا من أمرها. قال: بلى رأيت أباها يقبلها.
كان لعبد الله بن مطيع غلام مولد قد أدبه وخرجه وصيره قهرمانه، وكان أتاهم قوم من العدو في ناحية البحر. فرآه يوما يبكي فقال: مالك؟ قال: تمنيت أن أكون حراً، فأخرج مع المسلمين قال: وتحب ذاك؟ قال: نعم. قال: فأنت حر لوجه الله فاخرج. قال: فإنه قد بدا لي ألا أخرج. قال: خدعتني والله.
كان عمر بن هبيرة أمياً لا يقرأ ولا يكتب. وكان إذا أتاه كتاب فتحه ونظر فيه كأنه يقرؤه فإذا نهض من مجلسه حملت الكتب معه. فيدعو جارية كاتبة ويدفع إليها الكتب فتقرأها عليه ويأمرها فتوقع بما يريد، ويخرج الكتاب. فاستراب به بعض كتابه فكتب كتاباً على لسان بعض العمال وطواه منكساً أعلاه إلى أسفله، فلما أخذه ونظر فيه ولم ينكره تحقق أنه أمي. 387 قال بعض القضاة لرجل: كيف أقبل شهادتك وقد سمعتك تقول لمغنية: أحسنت؟ قال: أليس إنما قلت ذلك بعد سكوتها. فأجاز شهادته.
أتى معن بن زائدة بثلاثمائة أسير من حضرموت فأمر بضرب أعناقهم، فقام منهم غلام حين سال عذاره فقال: أنشدك الله أن تقتلنا ونحن عطاش فقال: اسقوهم ماء. فلما شربوا قال: اضربوا أعناقهم. فقال الغلام: أنشدك الله أن تقتل ضيفانك. قال: أحسنت. وأمر بإطلاقهم.
كان بالأهواز رجل له زوجة، وكانت له أرض بالبصرة، فكان يكثر الإنحدار إليها فارتابت زوجته وتتبعت أثره، فوقفت على أنه قد تزوج بالبصرة فاحتالت حتى صار إليها خط عم البصرية، وبعث به إلى رجل يحكي كل خط رآه، وأجازته، حتى كتب كتاباً عن لسان عم البصرية إلى زوجها يذكر أن المرأة قد ماتت، ويسأله التعجيل إليه لأخذ ما تركت وسمى مالها وجاريتها. ودست الكتاب مع ملاح قدم من البصرة، فلما وصل إليه الكتاب قرأه فلم يشك فيه، ودخل وقال لامرأته: اعملي لي سفرة. قالت: ولم؟ قال: أريد البصرة. قالت: كم هذه البصرة؟! قد رابني أمرك. لعل لك بها امرأة، فأنكر، فقالت: احلف. فحلف أن كل امرأة له غيرها طالق، سكوناً إلى أن تلك قد ماتت، وما يضره ذلك. فلما حلف قالت: دع السفرة. قد أغناك الله عن البصرة. قال: وما ذاك؟ قال: قد طلقت الفاسقة. وحدثته بالقصة فندم.

مر شبيب بن يزيد الخارجي على غلام قد استنقع في الفرات. فقال: يا غلام. اخرج إلي أسائلك. فنظر الغلام فعرف شبيباً. فقال: إني أخاف. فهل أنا آمن إلى أن أخرج وألبس ثيابي؟ قال: نعم. قال: فوالله لا ألبسها اليوم ولا أخرج. فقال شبيب: أوه، خدعني الغلام. وأمر رجلاً بحفظه لئلا يصيبه أحد بمعرة ومضى، وسلم الغلام.
قال الأعمش: أخبرني تميم بن سلمة أن رجلاً شهد عند شريح وعليه جبة ضيقة الكمين. فقال شريح: أنتوضأ وعليك جبتك هذه؟ قال: احسر عن ذراعك. فحسر، فلم يبلغ كم جبته إلى نصف الساعد. فرد شهادته.
قدمت امرأة زوجها إلى أبي عمر القاضي، وادعت عليه مالاً، فاعترف به فقالت: أيها القاضي خذ بحقي ولو بحبسه. فتلطف لها لئلا تحبسه، فأبت إلا ذلك، فأمر به، فلما مشى خطوات صاح أبو عمر بالرجل وقال له: ألست ممن لا يصبر على النساء؟ ففطن الرجل فقال: بلى أصلح الله القاضي. فقال: خذها معك إلى الحبس. فلما عرفت الحقيقة ندمت على لجاجها وقالت: ما هذا أيها القاضي؟ قال: لك عليه حق، وله عليك حق. ومالك عليه لا يبطل ما له عليك. فعادت إلى السلاسة والرضا.
أخذ عبد الملك رجلاً كان يرى رأي الخوارج فقال له: ألست القائل:
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال إنما قلت: ومنا أمير المؤمنين. وناديتك، فخلى سبيله.
كان يختلف إلى أبي حنيفة رجل يتحمل بالستر الظاهر، والسمت البين فقدم رجل غريب وأودعه مالاً خطيراً، وخرج حاجاً، فلما عاد طالبه بالوديعة فجحده، فألح الرجل عليه فتمادى، فكاد صاحب المال يهيم 388، ثم استشار ثقة له فقال له: كف عنه، وصر إلى أبي حنيفة، فدواؤك عنده.
فانطلق إليه وخلا به وأعلمه شأنه، وشرح له قصته فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بهذا أحداً، وامض راشداً، وعد إلي غداً. فلما أمسى أبو حنيفة جلس كعادته للناس، وجعل كلما سئل عن شيء تنفس الصعداء. فقيل له في ذلك فقال: إن هؤلاء - يعني السلطان - قد احتاجوا إلى رجل يبعثونه قاضياً إلى مكان. وقالوا لي: اختر من أحببت. ثم أسبل كمه وخلا بصاحب الوديعة، وقال له: أترغب حتى أسميك. فذهب يتمنع تحلية. فقال له أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تحب. فانصرف الرجل مسروراً يظن الظنون بالجاه العريض، والحال الحسنة.
وصار رب المال إلى أبي حنيفة فقال: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا، ولوح بذكري وكفاك، فمضى الرجل واقتضاه وقال له: اردد على مالي وإلا شكوتك إلى أبي حنيفة. فلما سمع ذلك وفاه المال. وصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه رجوع المال إليه فقال له: استره عليه.
ولما غدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعاً في القضاء نظر إليه أبو حنيفة وقال له: نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
قال أبو يوسف: بقيت على باب الرشيد حولاً لا أصل إليه، حتى حدثت مسألة. وذلك أن بعض أهله كانت له جارية، فحلف أنه لا يبيعها إياه ولا يهبها له. وأراد الرشيد شراءها فلم يجد أحداً يفتيه في ذلك.
فقلت لابن الربيع: أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من الفقهاء عنده الشفاء من هذه الحادثة. فدخل فأخبره، فأذن لي، فلما وصلت مثلت، فقال: ما تقول؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أقوله لك وحدك أبو بحضرة الفقهاء؟ قال: بل بحضرة الفقهاء، ليك الشك أبعد، وأمر فحضر الفقهاء، وأعيد عليهم السؤال. فكل قال: لا حيلة عندنا فيه، فأقبل أبو يوسف فقال: المخرج منها أن يهب لك نصفها، ويبيعك نصفها، فإنه لا يقع الحنث. فقال القوم: صدق. فعظم أمري عند الرشيد، وعلم أن أتيت بما عجزوا عنه.
كان المغيرة من كبار المدمنين للشراب، فقال لصاحب له يوم خيبر: قد قرمت إلى الشراب. ومعي درهمان زائفان فأعطني زكرتين فأعطاه. فصب في إحداهما ماء، وأتى بعغض الخمارين فقال: كل بدرهمين. فكال في زكرته فأعطاه الدرهمين فردهما، وقال: هما زائفان. فقال: ارتجع ما أعطيتني فكاله وأخذه، وبقيت في الزكرة بقية فصبها في الفارغة، ثم فعل ذلك بكل خمار حتى ملا زكرته ورجع ومعه درهماه.
قال الأصمعي: حمل يزيد بن مره شيئاً على رأس حمال فعاسره في الكراء فقال له: أثبت أن الذي على رأسي لك. فأرضاه.

وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون وخرج يحيى بن أكثم وجلس على طرفه فقال أحمد: يا أمير المؤمنين؛ إن يحيى صديقي وأخي، ومن أثق به في أمري كله ويثق بي، وقد تغير عما كنت أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه. فإني له على مثله. فقال المأمون:389 يا يحيى؛ إن فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصتهم. وما يعد لكما عندي أحد. فما هذا النزاع بينكما؟ فقال له يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، وأني أثق بمثل ذلك منه. ولكنه رأى منزلتي هذه منك فخاف أن أتغير له يوماً، فأقدح فيه عندك، فتقبل قولي فيه فأحب أن يقول هذا لتأمرني بأمر لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره بسوء عندك. فقال المأمون: أكذاك هو يا أحمد؟ قال: نعم. قال: أستعين الله عليكما. ما رأيت أتم دهاء ولا أقرب فطنة منكما.
استأذن أخو صفية بنت حيي بن أخطب على سليمان بن عبد الملك وهو خليفة فقال للآذن: خال أمير المؤمنين. فدخل فقال: بالباب رجل يدعي أنه خال أمير المؤمنين. فقال: أدخله. فلما رآه عرفه فقال: أنت لعمري خالي. أي إني مؤمن.
أرسل فتى من العرب إلى ابنة عم له ولم يكن له مال، ومانت كثيرة المال وخطبها ناس كثير، فقال: يابنة عم؛ هل لك في فتىً كاسٍ من الحسب، عار من النشب، يتقلقل في دارك، ويقبض غلة غلمانك، ويقلبك عن يمينك لشمالك، ويدخل الحمام في كل يوم مرتين؟ فتزوجته. دخل سلم بن زياد على الحجاج في أموال قبضها عنه فقال له: من أنت؟ قال: سلم. قال: ابن من؟ قال: ابن زياد. قال: ابن من؟ قال: ابن من شاء الأمير. فرد عليه أرضه.
أتى وكيع بن أبي سود إياس بن معاوية وهو قاض ليشهد عنده بشهادة، فقال: مرحباً بك يا أبا مطرف، ما جاء بك؟ قال: جئت لأشهد قال: مالك وللشهادة. إنما يشهد الموالي والتجار والسقاط. قال: صدقت وانصرف. فقيل له: خدعك ولم يقبل شهادتك فردك. فقال: لو علمت لعلوته بالقضيب.
كان أبو بردة ولي القضاء بعد الشعبي بالكوفة، فكان يحكم بأن رجلاً لو قال لملوك لا يملكه: أنت حر. أنه يعتق ويؤخذ المعتق بثمنه.
قال: فعشق رجل من بني عبس جارية لجار له فجن بها وجنت به، فكان يشكو ذاك فلقيها يوم فقال لها: إلى الله أشكو قالت: بلى والله إن لك حيلة، ولكنك عاجز. هذا أبو بردة يقضي في العتق بما قد علمت فقال لها: أشهد إنك لصادقة.
ثم قدمها إلى مجلس يتجمع فيه قوم يعدلون فقال: هذه جارية آل فلان أشهدكم إنها حرة فألقت ملحفتها على رأسها. وبلغ ذلك مواليها فجاءوا فقدمتهم إلى أبي برده وقدموا الرجل فأنفذ عتقها، وألزم الرجل ثمنها، فلما أمر به إلى السجن خاف إذا ملكت أمرها أن تصير إلى أول من يطلبها، وأن تخيب فيما صنع في أمرها. فقال: أصلح الله القاضي، لا بد من حبسي قال: نعم أو تعطيهم ثمنها. قال: فليس مثلي يحبس في شيء يسير. أشهدكم أني قد أعتقت كل مملوك لأبي بردة، وكل مملوك لآل أبي موسى، وكل مملوك لمذحج. فخلى سبيله، ورجع عن ذلك القضاء فلم يحكم به.
لما خرج الأحنف مع مصعب أرسل إليه بمائة ألف درهم ولم يرسل إلى زبراء جاريته بشيء، فجاءت حتى قعدت بين يدي الأحنف ثم أرسلت عينيها. فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: مالي 390 لا أبكي عليك، إذ لم تبك على نفسك. أبعد نهاوند ومرو الروذ صرت إلى أن تجمع بين غارين من المسلمين؟ فقال: نصحتني والله في ديني، إذ لم أنتبه لذلك. ثم أمر بفساطيطه فقوضت.
قال: فبلغ ذلك مصعباً، فقال: من دهاني في الأحنف؟ فقيل: زبراء. فبعث إليها بثلاثين ألف درهم. فجاءت حتى أرخت عينيهل بين يديه فقال: ما لك يا زبراء؟ قالت: جئت بإخوانك من أهل البصرة تزفهم كما تزف العروس، حتى إذا صيرتهم في نحور أعدائهم أردت أن تفت في أعضادهم. قال: صدقت والله. يا غلام؛ دعها. قال: فاضطرب العسكر بمجيء زبراء مرتين فذهبت مثلاً.
بلغ قتيبة بن مسلم أن سليمان بن عبد الملك يريد عزله واستعمال يزيد ابن المهلب فكتب إليه ثلاث صحائف وقال للرسول: إن دفع كتابي الأول إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثاني، فإن شتمني عند الثاني فادفع إليه الثالث، فدفع إليه الكتاب الأول، فإذا فيه: إن بلائي في طاعة أبيك وأخيك كذا، وأنت تقرأ كتبي يزيد.
قال:

فرمى بالكتاب إلى يزيد، فأعطاه الثاني فإذا فيه: كيف تأمن يزيد على أسرارك وكان أبوه لا يأمنه على أمهات أولاده.
قال: فشتمه، فدفع إليه الثالث فإذا فيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد فلأوثقن لك أخية لا ينزعها المهر الأرن. قال: فقال سليمان: ما أرانا إلا قد عجلنا على قتيبة. يا غلام؛ جدد له عهده على خراسان خطب سلمان إلى عمر بن الخطاب ابنته فلم يستجز رده، فأنعم له وشق ذلك عليه وعلى ابنه عبد الله بن عمر. فشكى عبد الله ذلك إلى عمرو بن العاص فقال له: أفتحب أن أصرف سلمان عنكم؟ فقال له: هو سلمان، وحاله في المسلمين حاله. قال: أحتال له حتى يكون هو التارك لهذا الأمر، والكاره له. قال: وددنا ذلك. فمر عمرو بسلمان في طريق فضرب بيده على منكبه وقال له: هنيئاً لك أبا عبد الله. قال: وما ذاك؟ قال: هذا عمر يريد أن يتواضع بك فيزوجك. قال: وإنما يزوجني ليتواضع بي؟! قال: نعم. قال: لا جرم والله لا خطبت إليه أبداً.
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أن يقدما عليه، فقدم عمرو من مصر والمغيرة من الكوفة فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت عليه فاشك الضعف واستأذنه أن تأتي الطائف أو المدينة. فإني إذا دخلت عليه سألته ذلك فإنه يظن أنا نريد أن نفسد عليه.
فدخل المغيرة فسأله أن يعفيه ويأذن له. ودخل عليه عمرو وسأله مثل ذلك فقال له معاوية: قد تواطأتما على أمر، وإنكما لتريدان شراً. ارجعا إلى عمليكما.
كان الإسكندر لا يدخل مدينة إلا هدمها وقتل أهلها حتى مر بمدينة كان فيها مؤدبه. فخرج إليه وألطفه الإسكندر وأعظمه فقال له مؤدبه: إن أحق من زين رأيك وسدده وأتى كل ما هويت لأنا. وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك فأنا أحب ألا تشفعني فيهم، وأن تحلف يميناً أعتذر بها عند القوم فاحلف 391 لي عندهم أنك لا تشفعني في شيء أسألك، وأن تخالفني في كل ما سألتك. فأعطاه من ذلك مالاً يقدر على الرجوع عنه في دينه، فلما توثق منه قال: فإن حاجتي أن تدخلها وتخربها وتقتل من فيها. قال: ما إلى ذلك سبيل ولا بد من مخالفتك وقد كنت مؤدبي وأنا إليك اليوم أحوج. فلم يدخلها وضمه إليه.
أصابت المسلمين جولة بخراسان، فمر فيهم شعبة بن ظهير على بغلة له فرآه بعض الرجالة فتقدر له على جذم حائط، فلما حاذ به حال في عجز بغلته. فقال له : اتق الله فإنها لا تحملني وإياك. قال: امض فإني والله ما أقدر أن أمشي. قال: إنك تقتلني وتقتل نفسك. قال: امض فهو ما أقول لك. قال: فصرف شعبة وجه البغلة قبل العدو فقال له: أين تريد؟ قال: أنا أعلم أني مقتول، فلأن أقتل مقبلاً خير من أن أقتل مدبراً.
فنزل الرجل عن بغلته وقال: اذهب في حرق الله.
اشترى شريك بن عبد الله جارية من رجل فأصاب بها عيباً، فقال للذي اشتراها منه: قد ظهر بها عيب. قال: ما عليك. هي رخيصة، وإن أحببت بعتها لك بربح. قال: فافعل. فدفع الجارية إليه وأقام أياماً ثم أتاه فقال له: لم أصب منها ثمناً أرضاه. فقال له شريك: فخذها واردد علي الثمن. فقال له الرجل: أبعد ما وكلتني لأبيعها ورضيت تردها علي؟ فقال: صدقت والله خدعتني.
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله جالساً مع رجل فقال له: يا بني؛ احذر هذا، لا تشترين منه شيئاً، فإنه يتبرأ إلى الرجل من العيب. والرجل لا يفطن لذلك.
قال: فمر عبد الله بن عمر بذاك الرجل يوماً ومعه غلام وضيء، فقال له: تبيعه؟ قال: نعم. قال: بكم؟ قال: بكذا. قال له: هل به عيب. قال : ما علمت أن به عيباً إلا أنا ربما أرسلناه في الحاجة فيبطئ فلا يأتينا حتى نبعث في طلبه. فقال عبد الله: وما هذا؟ فاشتراه منه.
فلما صار إليه أرسله في حاجة فهرب، فطلبه أياماً حتى وجده، فأتى صاحبه ليرده عليه بالإباق، فقال له: ألم أخبرك أنا ربما أرسلناه في الحاجة فلا يرجع حتى نرسل في طلبه؟ فعلم أنه قد خدعه.
كان مع يوسف بن عمر رجل يقال له عبدان يأنس به ولا يحجبه في دار نسائه. فقال له يوماً: أنا أطول أم أنت؟ وكان عبدان طويلاً. قال: فقلت في نفسي: وقعت والله في شر. إن قلت: أنا. خفت أن يقول: يصغرني. وإن قلت أنت قال:

تهزأ بي. فقلت: أصلحك الله؛ أنت أطول مني ظهراً وأنا أطول رجلين منك. فقال: أحسنت.
كان شعبة بن المخش مع زياد، وكان أكولاً دميماً، فقال له زياد: يا شعبة مالك من الولد؟ قال: تسع بنات. قال: أين جمالهن من جمالك؟ قال: أنا أجمل منهن وهن آكل مني. قال: ما أحسن ما سألت لهن، وألحق بناته في العيال.
قال الأصمعي: ذكروا أن محمد بن الحنيفية أراد أن يقدم الكوفة أيام المختار. فقال المختار حين بلغه ذلك: إن في المهدي علامة، يضربه في السوق رجل ضربة بالسيف فلا يضره، فلما بلغه ذلك أقام.
سأل عبد الله بن الزبير معاوية شيئاً فمنعه فقال: والله ما أجهل أن ألزم 392 هذه البنية فلا أشتم لك عرضاً ولا أقضب لك حسبا. ولكن أسدل عمامتي من بين يدي ذراعاً ومن خلفي ذراعاً أقعد في طريق أهل الشام، وأذكر سيرة أبي بكر وعمر فيقول الناس: هذا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وابن الصديق. فقال معاوية: حسبك بهذا شراً، وقضى حاجته.
قال أعرابي لمعاوية: قال أعرابي لمعاوية: استعملني على البصرة. فقال: ما أريد عزل عاملها. قال: فأقطعني البحرين. قال: ما إلى ذلك سبيل. قال: فمر لي بألف درهم. فأمر له بها. فقيل للأعرابي في ذلك فقال: لولا طلبي الكثير ما أعطاني القليل.
أتى رجل الأحنف فلطمه. فقال له: لم لطمتني؟ قال: جعل لي جعل على أن ألطم سيد بني تميم. قال: ما صنعت شيئاً. عليك بجارية بن قدامة فإنه سيدهم. فانطلق فلطم جارية، فأخذه وقطع يده. وإنما أراد الأحنف ذلك به.
قال قوم من قريش: ما نظن أن معاوية أغضبه شيء قط. فقال بعضهم: إن ذكرت أمه غضب. فقال نالك بن أسماء المنى القرشي - وهي أمه - وإنما قيل لها أسماء المنى لجمالها: والله لأغضبنه إن جعلتم لي جعلاً. فجعلوا له جعلاً وأتاه وقد حضر الموسم فقال: يا أمير المؤمنين ما أشبه عينيك بعيني أمك. قال: تلك عينان طالما أعجبتا أبي سفيان. يا بن أخي؛ خذ جعلك ولا تتخذنا متجراً.
ثم دعا معاوية مولاه سعداً فقال له: أعدد لأسماء المنى دية ابنها فإني قد قتلته وهو لا يدري. ورجع الغلام فأخذ جعله. فقال له رجل منهم: إن أتيت عمرو بن الزبير فشبهته بأمه فلك ضعفا جعلك. فأتاه فقال له: يا بن الزبير؛ ما أشبه وجهك بوجه أمك. فأمر به فضرب حتى مات. فبعث معاوية إلى أمه بديته وقال:
ألا قل لأسماء المنى أم مالك ... فإني لعمر الله أقتل مالكا
قيل لأعرابي: أنشرب قدحاً من لبن حازر ولا تتنحنح؟ قال: نعم فأخذه في حلقه مثل الزجاج فقال: كبش أملح. فقيل له: إنك تنحنحت فقال: من تنحنح فلا أفلح. ومد صوته فقضى وطره.
قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان: إياكم والطمع فإنه يردي. والله لقد هممت أن أفتك بالحجاج، فإني لواقف على بابه بدير الجماجم، إذا بالحجاج قد خرج على دابة، ليس معه غير غلام، فأجمعت على قتله فكأنه عرف ما في نفسي قال: فقال: ألقيت ابن أبي مسلم؟ قلت: لا. قال: فالقه فإن عهدك معه على الري. قال: فطمعت وكففت فأتيت يزيد بن أبي مسلم فسألته فقال: ما أمرني بشيء.
وقال عمرو بن يزيد الأسيدي: خفنا أيام الحجاج، وجعلنا نودع متاعنا، وعلم جار لنا، فخشيت أن يظهر أمرنا، فعمدت إلى سفط فجعلت فيه لبناً ودفعته إليه، فمكث عنده حتى أمنا. فطلبت منه، فقال لي: أما وجدت أحداً تودعه لبناً غيري.
لقي الحجاج أعرابياً خالياً بفلاة فسأله عن نفسه فأخبره بكل ما يكره وهو لا يعرفه. فقال: إن لم أقتلك فقتلني الله. قال الأعرابي: فأين حق الاسترسال؟ فقال الحجاج: أولى. وأعرض عنه.
توجه عمرو بن العاص حيث فتح قيسارية إلى مصر وبعث إلى علجها فأرسل إليه: أن أرسل إلي رجلاً من أصحابك 393 أكلمه. فنظروا فقال عمرو: ما أرى لهذا أحداً غيري. فخرج ودخل على العلج، فكلمه فسمع كلاماً لم يسمع مثله قط، فقال: حدثني. هل في أصحابك مثلك؟ قال: لا تسل عن هواني عليهم؛ إلا أنهم بعثوني إليك وعرضوني لا يدرون ما تصنع بي.
فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه، وخذ ما معه.
فخرج من عنده، فمر برجل من نصارى العرب من غسان فعرفه فقال: يا عمرو، إنك قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. فرجع فقال له الملك: ما ردك؟ قال:

نظرت فيما أعطيتني فلم أجده يسع بني عمي، فأردت أن أجيئك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، وتكسوهم هذه الكسوة، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. قال: صدقت. فاعجل بهم. وبعث إلى البواب أن خل سبيله، فخرج عمرو وهو يلتفت حتى إذا أمن قال: لا أعود لمثلها أبداً. فما فارقها عمرو حتى صالحه، فلما أتي بالعلج قال: أنت هو؟ قال عمرو: نعم على ما كان من غدرك.
كانت لأيمن بن خزيم الأسدي منزلة عند معاوية، وكان معاوية قد ضعف عن النساء، فكان يكره أن يذكر عنده رجل يوصف بالجماع فجلس ذات يوم وفاختة قريبة منه حيث تسمع الكلام فقال: يا أيمن؛ ما بقي من طعامك وشرابك وجماعك وقوتك؟ فقال: أنا والله يا أمير المؤمنين آكل الجفنة الكثيرة الدرمك والقدر، وأشرب الرفد العظيم ولا أنقع بالغمر، وأركض بالمهر الأرن ما أحضر، وأجامع من أول الليل إلى السحر.
قال: فغم ذلك معاوية، وكلامه هذا بأذني فاختة، فجفاه معاوية. فشكا أيمن ذلك إلى امرأته فقالت: أذنبت ذنباً. فوالله ما معاوية بعابث ولا متجن قال: لا والله إلا كذا وكذا. قالت: هذا والله الذي أغضبه عليك قال: فأصلحي ما أفسدت. قالت: كفيتك.
فأتت معاوية فوجدته جالساً للناس، فدخلت على فاختة فقالت: مالك؟ قالت: جئت أستعدي على أيمن. قالت: وماله؟ قالت: ما أدري أرجل هو أم امرأة. وما كشف لي ثوباً منذ تزوجني. قالت: فأين قوله لأمير المؤمنين؟ وحكت لها ما قال. فقالت: ذاك والله الباطل.
وأقبل معاوية فقال: من هذه عندك يا فاختة. قالت: هذه امرأة أيمن جاءت تشكوه. قال: ومالها؟ قالت: زعمت أنها لا تدري أرجل هو أم امرأة، وأنه لم يكشف لها ثوباً منذ تزوجها. قال: كذاك هو؟ قالت: نعم ففرق بيني وبينه فرق الله بينه وبين روحه! قال معاوية: أو خيراً من ذلك، هو ابن عمك، وقد صبرت عليه دهراً. فأبت فلم يزل بها يطلب إليها حتى سمحت له بذلك فأعطاها وأحسن إليها وعادت منزلة أيمن عند معاوية كما كانت.
كتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد؛ فإنه قد كبرت سني، ورق عظمي واقترب أجلي، وسفهني سفهاء قريش، فرأى أمير المؤمنين في عمله موفق.
وكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنك فإنك أكلت سنك عمرك، وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك فإني لو كنت أستطيع أن أدفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان، وأما ما ذكرت من سفهاء قريش فإن حلماء قريش أنزلوك هذا المنزل، وأما ما ذكرت من العمل فضح رويداً يدرك الهيجا حمل. فاستأذن معاوية 394 في القدوم فأذن له. قال الربيع بن هذيم: فخرج المغيرة وخرجنا إلى معاوية فقال له: يا مغيرة كبرت سنك، واقترب أجلك، ولم يبق منك شيء، ولا أظنني إلا مستبدلاً بك، قال: فانصرف إلينا ونحن نعرف الكآبة فيه. فقلنا: ما تريد أن تصنع؟ قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر ولا عمر، وقد اجترح الناس، فلو نصبت لنا علماً من بعدك نصير إليه، مع أني كنت قد دعوت أهل العراق إلى يزيد فركبوا إليه، حتى جاءني كتابك. قال: يا أبا محمد؛ انصرف إلى عملك فأحكم هذا الأمر لابن أخيك. قال: فأقبلنا على البريد نركض، فقال: يا ربيع؛ وضعت والله رجله في ركاب طويل ألغى على أمة محمد. قال: فذاك الذي دعا معاوية إلى البيعة ليزيد.
مر حاجب بن حميضة بقاص يقص في النجدية باليمامة، فذكر عثمان بن عفان فنال منه. فقال حاجب: لعن الله شركما. فأخذوه وقالوا: يا عدو الله تلعن مسلماً وتولي كافراً؟ فقال: لا تعجلوا. فأتوا نجدة فأخبروه فقال: يا أمير المؤمنين، عثمان شرهما. قال: خلوا أخاكم.
حلف رجل من الأعراب باليمامة ألا يكشف لامرأته ثوباً، فسأل القاضي فأمره باعتزالها. فقالت مريم بنت الحريش: لتكشف هي ثوبها صاغرة قميئة. فأمرها القاضي بذلك.
اختلف إبراهيم بن هشام وقرشي في حرف، فحكما أبا عبيدة بن محمد بن عمار، فقال: أما أفرس الكلامين فما يقول الأمير، وأما ما يقول النحويون الخبثاء فما يقول هذا.

حدث المدائني أن مخارق بن غفار ومعن بن زائدة في فوارس لقيا رجلاً ببلاد الشرك ومعه جارية لم ير مثلها شباباً وجمالاً، فصاحوا به أن خل عنها ومعه قوس له فرمى بعضهم وجرحه، فهابوا الإقدام عليه، ثم عاد ليرمي فانقطع وتره فأسلم الجارية واستند في جبل كان قريباً منه، فابتدروا الجارية وفي أذنها قرط فيه درة فانتزعه بعضهم من أذنها فقالت: وما قدر هذه؟ فكيف لو رأيتم درتين قلنسوته؟ فاتبعوه فقال: مالكم؟ ألم أدع لكم بغيتكم؟ قالوا: ألق ما في قلنسوتك. فرفع قلنسوته عن رأسه، فإذا فيها وتر للقوس قد كان أعده فأنسيه من الدهش. فلما رآه عقده في قوسه فولى القوم ليست لهم همة إلا أن ينجوا بأنفسهم وخلوا عن الجارية.
قدم هدبة بن الخشرم ليقاد بابن عمه زيادة، وأخذ ابن زيادة السيف وقد ضوعفت له الدية حتى بلغت مائة ألف درهم، فخافت أم الغلام أن يقبل ابنها الدية ولا يقتله فقالت: أعطى الله عهدا لئن لم تقتله لأتزوجنه فيكون قد قتل أباك ونكح أمك. فقتله.
وحدث المدائني أن قوماً من المسلمين أسروا قوماً من الروم وكان فيهم فتيان أخوة فضربوا أعناقهم، وأخذوا أمهم وهم لا يعرفونها، فأحبت أن تقتل ولا تبقى بعد ولها، فقالت للذي صارت إليه: إن علمتك شيئاً تتخذه فلا يحيك فيك السلاح، تخلى سبيلي؟ قال: نعم. فأخذت أشياء سترتها عنه فطلت بها رقبتها وقالت: دونك أضرب وشد، فإن السيف لا يعمل 395 في فضرب رقبتها فحز رأسها فعلم أنها خدعته.
لما بلغ يزيد ومروان ابنا عبد الملك لعاتكة بنت زيد ين معاوية قال لها عبد الملك: قد صار ابناك رجلين، فلو جعلت لهما من مالك ما يكون لهما به فضيلة على أخوتهما. قالت: اجمع لي أهل معدلة من موالي ومواليك فجمعهم وبعث معهم روح بن زنباع الجذامي - وكان يدخل على نسائهم - فدخل كهولتهم وجلتهم وقال له: أخبرها برضائي عنها، وحسن لها ما صنعت. فلما دخلوا عليها أخذ روح في ذلك فقالت: يا روح، أتراني أخشى على ابني عيلة وهما ابنا أمير المؤمنين، أشهدكم أني قد تصدقت بمالي وضياعي على فقراء آل أبي سفيان. فقام روح ومن معه. فلما نظر إليه عبد الملك مقبلاً قال: أشهد بالله لقد أقبلت بغير الوجه الذي أدبرت به. قال: أجل. تركت معاوية في الإيوان آنفاً. وخبره بما كان. فغضب فقال: مه يا أمير المؤمنين، هذا العقل منها في ابنيك خير لهما مما أردت.
قال المدائني: أتى عليه السلام برجل ذي مروءة قد وجب عليه حد. فقال لخصمائه: ألكم شهود؟ قالوا: نعم. قال: فأتوني بهم إذا أمسيتم ولا تأتوني بهم إلا معتمين. فلما أمسوا اجتمعوا فأتوه، فقال لهم علي عليه السلام: نشدت الله رجلاً لله عنده مثل هذا الحد إلا انصرف قال: فما بقى أحد فدرأ الحد.
قال المدائني: كان الحجاج حسوداً لا ينشىء صنيعة إلا أفسدها فلما وجه عمارة بن تميم اللخمي إلى ابن الأشعث وعاد بالفتح حسده، فعرف ذلك عمارة، وكره منافرته، وكان عاقلاً رفيقاً فظل يقول: أصلح الله الأمير أنت أشرف العرب، من شرفته شرف، ومن صغرته صغر، وما ابن الأشعث وخلعه حتى استوفد عبد الملك الحجاج وسار عمارة معه يلاطفه ولا يكاشفه، وقدموا على عبد الملك، وقامت الخطباء بين يديه في أمر الفتح، فقام عمارة فقال: يا أمير المؤمنين؛ سل الحجاج عن طاعتي وبلائي. فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، لقد أخلص الطاعة، وأبلى الجميل. وأظهر البأس، من أيمن الناس نقيبة، أعفهم سيرة. فلما بلغ آخر التقريظ قال عمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فرضى الله عنك. قال عمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين، ولا حفظه ولا عافاه، وهو الأخرق السيء التدبير، الذي قد أفسد عليك العراق، وألب عليك الناس، وما أتيت إلا من خرقه وقلة عقله، وفيالة رأيه، وجهله بالسياسة، ولك يا أمير المؤمنين منه أمثالها إن لم تعزله. فقال الحجاج: مه يا عمارة، فقال: لامه ولا كرامه يا أمير المؤمنين كل امرأة لي طالق وكل مملوك لي حر إن سرت تحت راية الحجاج أبداً. فقال عبد الملك: ما عندنا أوسع لك.
خطب رجل امرأة فقالت له: إن في تقززا، وأخاف أن أرى منك بعض ما أتقزز منه فتنصرف نفسي عنك . قال الرجل:

أرجو ألا ترى ذلك. فتزوجها فمكثت أياماً ثم قعد معها يتغدى فلما رفع الخوان تناول ما سقط من الطعام تحت الخوان فأكله، فنظرت إليه وقالت: أما كان يقنعك ما على الخوان حتى تلتقط ما تحته 396 قال: إنه بلغني أنه يزيد في القوة على الني..، فكانت بعد ذلك تفعله، وتفت الخبز كما تفت للفروج.
قال الكندي: كان فيما مضى رجل زاهد وقع عليه من السلطان طلب، فبقي مدلها لا يدري ما يصنع وذاك أنه أذكيت عليه العيون، وأخذت له المراصد، فجاء إلى طنبور فأخذه ولبس ثياب البطالين، وتعرض للخروج من باب البلد، فجاء إلى الباب وهو يتهادى في مشيته كالسكران، فقالت العيون له عند الباب: من أنت؟ قال: من أنا؟ ومن ترى أكون؟ أنا فلان الزاهد. وقاله متهزئاً. فقال القوم ضاحكين: ما أحمقه! وخلوا سبيله. فخرج ونجا وإنما فعل ذلك لئلا يكذب.
عرض شريح ناقة للبيع، فقال له المشتري: كيف غزارتها؟ قال: احلب في أي إناء شئت. قال: فكيف وثاقها: قال: احمل على الحائط ما شئت. قال: فكيف وطاؤها؟ قال: افرش ونم. قال: كيف نجاؤها. قال: هل رأيت البرق قط؟ قال بعضهم: ركض رجل دابة وهو يقول: الطريق، الطريق. فصدم رجلاً لم ينح، فاستعدى عليه، فتخارس الرجل فقال العامل: هذا أخرس. قال: أصلحك الله. يتخارس عمداً، والله ما زال يقول: الطريق. الطريق. فقال الرجل: فما تريد وقد قلت لك الطريق؟ قال العامل: صدق.
قال: كانت ابنة عبد الله بن معروف عند أبي حرثان فمات، ولم يصل إليها لقوتها، فتزوجها أبو دلف، فكانت تمانعه سنة لا يصل إليها، فقال له معقل أخوه: ما أنت برجل. وقد عجزت عن امرأة. فقال: أحب أن تبعث جاريتك فلانة تكلمها. فبعث بها وأمر أبو دلف امرأته أن تلوي العمود في عنق الجارية إذا أتتها وتتركه. ففعلت فرجعت إلى معقل فقال: أشهد أن أخي معذور، فما قدر عليها أبو دلف حتى احتال عليها، بأن قال لها يوماً: ما أظنك ببكر. فأمكنت من نفسها.
كان بالكوفة لعبد الملك بن رامين مولى بشر بن مروان جارية يقال لها: سلامة الزرقاء. وكان روح بن حاتم المهلبي يهواها ولا تهواه، ويكثر غشيان منزل مولاها، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه، فقال لها: إن روح بن حاتم قد ثقل علينا. فقالت: فما أصنع؟ قد غمر مولاي ببره. قال: احتالي.
فبات عندهم روح ليلة م الليالي فأخذت سراويله. فغسلته، فلما أصبح سأل عن سراويله. فقالت: غسلناه. فظن أنه قد أحدث فيه فاحتيج إلى غسله، واستحيا من ذلك، وانقطع عنها، وخلا وجهها لابن جميل.
لما استخلف سليمان بن عبد الملك دفع عمال أخيه الوليد إلى يزيد بن المهلب وأمره ببسط العذاب عليهم، واستخراج المال منهم، وكان فيهم رجل من بني مرة فقال ليزيد: أما أنا فلست بذي مال، ولا تنتفع بتعذيبي ولكن عشيرتي تفكني بأموالهم، فأذن لي في أن أجول فيهم. فأذن له فقال لهم: إن أمير المؤمنين قد أخذني بمال، والمال عندي، ولكن أكره أن أقر بالخيانة، فاضمنوا له هذا المال عني وأطلقوني من حبسه، ولا غرم عليكم فإني مضطلع بأداء هذا المال.
فنهض وجوه عشيرته في أمره، وضمنوا المال عنه وأطلقوه، فلما أخذوا بالمال قالوا للرجل: أد المال كما زعمت. فقال: يا نوكى أتظنون 397 أنني اختنت مالاً تعرضت فيه للمأثم وسخط الخليفة وعقوبته، وأؤديه اليوم طائعاً، وقد صيرت ما أطالب به في أعناقكم، لبئس ما ظننتم اغرموه من أعطياتكم وأنا فيه كأحدكم. ففعلوا ذلك وهو كأحدهم.
مر شبيب الخارجي على غلام في الفرات مستنقع في الماء فقال له شبيب: اخرج إلي أسائلك. فقال: فأنا آمن حتى ألبس ثيابي؟ قال: نعم. قال: فوالله لا ألبسها.
خرج المغيرة بن شعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، وكانت له عنزة يتوكأ عليها فربما أثقلته، فيرمي بها على قارعة الطريق فيمر بها المار فيأخذها. فإذا صاروا إلى المنزل عرفها فأخذها المغيرة. ففطن له علي عليه السلام فقال: لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لئن أخبرته لا ترد ضالة بعدها. فأمسك.
كان عبد الله بن عمرو بن غيلان على البصرة من قبل معاوية، فخطب يوماً على منبرها، فحصبه رجل من بني ضبة، فأمر به فقطعت يده فأتته بنو ضبة فقالوا:

إن صاحبنا جنى على نفسه ما جنى، وقد بلغ الأمير في عقوبته، ونحن لا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين فتأتي من قبله عقوبة تعم أو تخص. فإن رأى الأمير أن يكتب كتاباً يخرج به أحدنا إلى أمير المؤمنين أنه قطعه على شبهة وأمر لم يصح. فكتب لهم بذلك إلى معاوية فأمسكوا الكتاب حتى توجه إلى معاوية ووافاه الضبيون، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه قطع صاحبنا ظلماً، وهذا كتابه إليك. فقرأ الكتاب وقال: أما القود من عمالي فلا سبيل إليه. ولكن إن شئتم وديت صاحبكم . فوداه من بيت المال وعزل عبد الله عن البصرة.
قدم ابن عم لكاتب الحجاج عليه وسأله أن يشغله، فكره الكاتب ذلك لسطوة الحجاج، فلما فرغ من بناء مسجد واسط أمر الكاتب أن يكتب إلى صاحب الموصل في حمل حصى رضراضٍ لفرشه، فكتب الكتاب، وأنفذ ابن عمه فتسلم الحصى، فلما حصل في الزوارق قال للعامل: ليس من الحصى الذي أراده الأمير. قال: وكيف هو؟ قال: أمرت ألا أقبل حصاة أكبر من الأخرى، ولا ما فيه عوج. فكبر ذلك عليه، وكره سطوة الحجاج فعرض عليه عشرة آلاف درهم رشوة، فأبى، فلم يزل يزيده إلى أن أعطاه مائة ألف درهم، فقبلها وانحدر. فلما وافى أخبر ابن عمه بذلك، فقال: حبذا الإمارة ولو على الحجارة. وبلغ الخبر الحجاج فضحك وأعجبه فعله، وأمر له بخمسين ألف درهم وولاه عملاً جليلاً.
قتل رجل نصرانياً، فعرض على أخيه الدية فلم يقبلها، وكان الرجل صديقاً لبشر المريسي، فقال بشر للنصراني: إن لم تقم شاهدين عدلين يشهدان أن أخاك لم يزل يؤدي الجزية إلى أن مات لم تجب لك الدية. فانقطع وطل دمه.
ومن نوادر الأعمش أن أبا جعفر المنصور وجه ببدرة، وأمر بأن تدفع إلى أفقه أهل الكوفة، فأتى بها أبو حنيفة وابن أبي ليلى فلم يعرضا لها وأتى الأعمش فقال للرسول: هاتها. فقال: حجتك. قال: تسأل أبا حنيفة وابن أبي ليلى عن أفقه 398 أهل الكوفة بعدهما فإنهما يدلانك علي، فتجيز شهادتهما لي وتبطلها لأنفسهما فأتى الرجل المنصور فأخبره فقال: صدق.
حكى عن الزهري أنه قال: قدم معاوية المدينة، فدخل المسجد وسعد بن أبي وقاص جالس إلى ركن المنبر فصعد معاوية المنبر فجلس في مجلس النبي عليه السلام فقال له سعد: يا معاوية؛ أجهلت فنعلمك، أم جننت فنداويك؟ فقال: يا أبا إسحاق؛ إني قدمت على قوم على غير تأهب لهم، وأنا باعث إليهم بأعطياتهم إن شاء الله. فسمع الناس كلام معاوية ولم يسمعوا كلام سعد وانصرف الناس وهم يقولون: كلمه سعد في العطاء فأجابه إليه.
قيل: جاء مازيار لعبد الله بن طاهر فأعلمه أن بازياً له انحط على عقاب فقتلها. فقال: إنه هو قتل العقاب. قال: اقتله فإني لا أحب لشيء أن يجترئ على ما فوقه. أراد أن يبلغ ذلك المأمون فيحظى عنده ويسكن إلى جانبه.
لما عزل أحمد بن عثمان عن قضاء أصبهان تعرض له رجل وقت خروجه فقال: الحمد لله الذي أراحنا من بغضك. فأمر بحبسه وقال لشهود كانوا معه: اشهدوا أن هذا في حبسي بحق وجب عليه. فكان كلما ورد قاض وفتش عن المحبسين لم يعرف ذلك الحق الذي حبس به فبقي على ذلك زماناً حتى توصل إلى تنجز كتاب منه بعد حين فأطلقه.
شهد رجل عند سوار على آخر فقال سوار: أظن الحكم قد توجه عليك فقال: أتجيز شهادة رجل ممدود؟ فقال سوار: أتارس أم رامح؟ فقال: تارس، فقال: ذلك شر. سأعيد المسألة عنه ونما أراد أنه مأبون. فتعجب من حضر من حيلة الرجل وفطنة سوار.
هم الأزارقة بقتل رجل فنزع ثوبه واتزر ولبى وأظهر الإحرام فخلوا سبيله لقول الله جل وعز: " لا تحلوا شعائر الله " غضب المأمون على رجل وقال: لأقتلنك ولآخذن مالك. اقتلوه. فقال أحمد بن دؤاد: إذا قتلته فمن أين تأخذ المال؟ قال: من ورثته. فقال: إذاً تأخذ مال الورثة، المال للورثة، وأمير المؤمنين يأبى ذلك. فقال: يؤخر حتى يستصفى ماله. فانقرض المجلس وسكن غضبه وتوصل إلى خلاصه.
لما حبس المأمون إبراهيم بن المهدي عند أحمد بن أبي خالد أخذ في العبادة والصلاة، فدخل إليه أحمد وقال: أمجنون أنت؟ أتريد أن يقول المأمون: هو يتصنع للناس. فيقتلك. قال: فما الرأي؟ قال: أن تشرب وتطرب وتستحضر القيان. فأخذ في ذلك ودخل أحمد على المأمون فقال له: ما خبر الغادر؟ فقال:

أصون سمع أمير المؤمنين عما هو فيه من الخسارة والشرب. فقال: والله لقد شوقتني إليه. وصار ذلك أحد أسباب الرضا عنه.
قيل: إن المعذل مر بقوم وسلم فلم يجيبوه. فقال: لعلكم تظنون ما يقال من الرفض. اعلموا أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً من تنقص واحداً منهم فهو كافر وامرأته طالق. فسر القوم ودعوا له. فقال بعض أصحابه: ويحك ما هذه اليمين؟ فقال: إني أردت بقولي واحداً منهم علي بن أبي طالب وحده.
لما أراد شيرويه قتل أبيه وجه إليه من يقتله فلما دخل عليه قال له كسرى: إني أدلك على شيء لوجوب حقك علي يكون فيه غناك.. قال: ما هو؟ قال: الصندوق الفلاني. فذهب الرجل إلى شيرويه فأخبره الخبر فأخرج الصندوق 399 فإذا فيه ربعة وفي الربعة حق وعلى الحق مكتوب: فيه حب من أخذ منه واحدة افتض عشرة أبكار، وكان أمره في الباه كذا وكذا. فأخذ شيرويه منه حبة كان هلاكه منها. فكان أول ميت أخذ ثأره من قاتله.
ومرض مولى لسعيد بن العاص. ولم يكن له من يخدمه ويقوم بأمره، ولا يجد أيضاً ما يحتاج إليه. فبعث إلى سعيد، فلما أتاه قال له: إنه ليس لي وارث غيرك، وها هنا ثلاثون ألف درهم مدفونة، فإذا مت فخذها بارك الله لك فيها. فقال سعيد حين خرج من عنده: ما أرانا إلا وقد أسأنا إلى مولانا وقصرنا في تعاهده وهو من شيوخ موالينا. فبعث إليه وتعاهده ووكل به من يخدمه. فلما مات كفنه وشهد جنازته فلما رجع إلى البيت أمر بأن يحفر الموضع فلم يجد شيئاً. وجاء صاحب الكفن فطالب بالثمن فقال: والله لقد هممت أن أنبش عن ابن الفاعلة.
بعث يزيد بن معاوية عبيد الله بن عضاه الأشعري إلى ابن الزبير فقال له: إن أول أمرك كان حسناً فلا تفسده بآخره. فقال ابن الزبير: إنه ليست ليزيد في عنقي بيعة. قال له: ولو كانت أكنت تفي بها؟ قال: نعم. قال: يا معشر المسلمين قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم ليزيد، وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته.
وقال ابن الزبير لامرأة في كلام جرى: أخرجي المال من تحت استك. فقالت لمن حضر: أسألكم بالله هذا من كلام الخلفاء؟ فقال بعضهم: لا. فقالت لابن الزبير: كيف رأيت هذا الخلع الخفي.
جاءت امرأة إلى أبي حنيفة فقالت: إن زوجي حلف بطلاقي إن أطبخ قدراً أطرح فيه مكوكاً من الملح فلا يتبين طعم الملح فيما يؤكل منها. فقال لها: خذي قدراً واجعلي فيها الماء واطرحي فيها مكوك ملح، واطرحي فيها بيضاً واسلقيه، فإنه لا يوجد طعم الملح في البيض.
افتعل رجل كتاباً عن المأمون إلى محمد بن الجهم في دفع مال إليه، فارتاب به محمد، وأدخله على المأمون. فقال المأمون: ما أذكر هذا. فقال الرجل: أكل معروفك تذكر يا أمير المؤمنين؟ قال: فلعل هذا مما نسيت وقد فعلت. قال: ادفع إليه يا محمد ما في الكتاب.
كان حوثة الضمري صديقاً لعبد الملك وخرج مع ابن الزبير فلما قتل ابن الزبير استاء من الناس وأحضر حوثة فقال له عبد الملك: كنت مني بحيث علمت فأعنت ابن الزبير. قال: يا أمير المؤمنين؛ هل رأيتني قط في حرب أو سباق أو نضال إلا والفئة مغلوبة بحرقي، وإنما خرجت مع ابن الزبير لتغلبه بي على رسمي. فضحك عبد الملك وقال: قد والله كذبت ولكني عفوت عنك.
قالت خيرة بنت ضمرة القشيرية امرأة المهلب للمهلب: إذا انصرفت من الجمعة فأحب أن تمر بأهلي. فقال: إن أخاك أحمق. قالت: فأحب أن تمر بنا. فجاء وأخوها جالس فلم يتوسع له فجلس المهلب ناحية ثم أقبل عليه فقال: ما فعل ابن عمك فلان؟ قال: حاضر. قال: أرسل إليه. ففعل فلما نظر إلى المهلب غير مرفوع المجلس قال: يا بن اللخناء؛ المهلب جالس ناحية، وأنت في صدر المجلس وواثبه. فتركه المهلب وانصرف فقالت له خيرة: أمررت بأهلي؟ قال: نعم وتركت أخاك الأحمق يضرب.
قالوا: إن الحجاج بن يوسف قال ذات يوم لمحمد بن عمير بن عطارد: اطلب 401 لي امرأة حسيبة أتزوجها: قال: طلبتها إن زوجتها. قال: ومن هذا الذي يمتنع من تزويجي؟ قال: أسماء بن خارجة. يدعي لا أنه كفء لبناته إلا الخليفة.
قال: فأضمرها الحجاج إلى أن دخل إليه أسماء فقال: ما هذا الفخر والتطاول؟ قال: أيها الأمير؛ إن تحت هذا سبباً. قال: بلغني أنك تزعم أن لا كفء بناتك إلا الخليفة. فقال:

والله ما الخليفة بأحب أكفائهن إلي، ولنظرائي من العشيرة أحب إلي منه، لأن من خالطني منهم حفظني في حرمتي، وإن لم يحفظني قدرت على أن أنتصف منه. والخليفة لا نصف منه إلا بمثيئته، وحرمته مضيمة مطرحة يقدم عليها من ليس مثلها، ولسان ناصرها أقطع. قال: فما تقول في الأمير؟ فإن الأمير خاطب هندا. قال: قد زوجته إياها بصداق نسائها. وحولها إليه.
فلما أتى على الحديث حولان دخل إلى الحجاج فقال: هل أتى الأمير ولد، نسر ونحمد الله على هبته. قال: أما من هند فلا. قال: ولد الأمير من هند وغير هند عندي بمنزلة. قال: والله إني لأحب ذلك من هند. قال: فما يمنع الأمير من الضر، فإن الأرحام تتغاير. قال: أو تقول هذا القول وعندي هند؟ قال: أحب أن يفشو نسل الأمير. قال: فممن؟ قال: على الأمير بهذا الحي من تميم، فنساؤهم مناجيب. قال: فأيهن؟ قال: ابنة محمد بن عمير. قال: إنه يزعم أن لا فارغة له. قال: فما فعلت فلانة ابنته؟ فلما دخل إليه محمد بن عمير قال: ألا تزوج الأمير؟ قال: لا فارغة لي: قال: فأين فلانة؟ قال: زوجتها من ابن أخي البارحة. قال: أحضر ابن أخيك؛ فإن أقر بها ضربت عنقه. فجيء بابن أخيه، وقد أبلغ ما قال الحجاج. فلما مثل بين يديه قال: بارك الله لك يا فتى. قال: في ماذا؟ قال: في مصاهرتك لعمك البارحة. قال: ما صاهرته البارحة ولا قبلها. قال: فانصرف راشداً. ولم ينصرف محمد حتى زوجه ابنته.
وحضر بعد ذلك من الأيام جماعة من الأشراف باب الحجاج فحجب الجميع غير أسماء ومحمد. فلما دخلا قال: مرحباً بصهري الأمير سلاني ما تريدان أسعفكما فلم يبقيا عانياً إلا أطلقاه، ولا مجمراً إلا أقفلاه.
فلما خرجا أتبعهما الحجاج بمن يحفظ كلامهما. فلما فارقا الدار ضرب أسماء يده على كتف محمد وأنشأ يقول:
جزيتك ما أسديته بابن حاجب ... وفاء كعرف الديك أوقذة النسر
في أبيات كثيرة. فعاد الرجل فأخبر الحجاج فقال: لله در ابن خارجة! إذا وزن بالرجال رجح.
حكي عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كان علي عليه السلام لا يحضر الخصومات ويقول: إن لها قحماً وإن الشيطان يحضرها. فكان قد جعل خصومته إلى أخيه عقيل فلما كبر ورق حولها إلي، فكان إذا دخلت عليه خصومة أو نوزع في شيء قال: عليكم بابن جعفر فما قضي عليه فعلي، وما قضى له فلي. قال: فوثب طلحة بن عبيد الله على ضفيرة كان علي ضفرها، وكان له إحدى عدوتي الوادي وكانت الأخرى لطلحة. فقال طلحة: حمل علي السيل وأضر بي. قال: قاختصمنا فيها إلى عثمان فلما كثر الكلام فيها منا قال: إني أركب معكم في موكب من المسلمين غدا، فإن رأيت ضرراً أخرته.
قال: فركب وركبنا ومعه ومعاوية في قدمة عليه من الشام فو الله لكأني أنظر 401 إليه على بغلة له بيضاء يعنق أمام الموكب ونحن نتداول الخصومة وإذ رمي معاوية بكلمة عرفت أنه ردفني بها قال: يا هذان؛ إنكما قد أكثرتما. أرأيتما هذه الضفيرة أكانت في زمن عمر الخطاب؟ قال: فلقننيها. فقلت: نعم، والله إن كانت في زمن عمر. قال: فقال الموكب جميعا: فلا والله لو كان ضرراً ما أقره عمر. فالله يعلم ما انتهينا إليها حتى يرد عليه القضاء إن قيل: إن كانت لفي زمن عمر. فلما انتهى إليها عثمان قال: والله ما أرى ضرراً. وقد كانت في زمن عمر ولو كان ظلماً ما أقره.
خرج رجل من بني سليم على المنصور فظفر به فأمر أن يضرب بالسياط. فلما أقيم بين العاقبين. قال: يا أمير المؤمنين إن عقوبتي تجل عن السياط، وعفوك يجل عن التثريب. فإما عاقبتني عقوبة مثلى وإما عفوت عفو مثلك. قال: قد عفوت. وخلاه.
أتى زياد برجل فأمر بضرب عنقه. فقال: أيها الأمير؛ إن لي بك حرمة قال: وما هي؟ قال: كان أبي جارك بالبصرة. فقال: ومن أبوك؟ قال: قد والله نسيت اسم نفسي، فكيف اسم أبي؟ قال: فرد زياد كمه إلى فمه وضحك وخلى سبيله.
مر زياد بأبي العريان فقال: من هذا؟ فقالوا: زياد بن أبي سفيان. فقال: رب أمر قد نقضه الله، وعبد قد رده الله. فسمعها زياد فكره الإقدام عليه وكتب بها إلى معاوية، فأمره بأن يبعث إليه بألف دينار، ويمر به ويسمع ما يقول. ففعل زياد ذلك، ومر به فقال من هذا؟ قالوا: زياد. فقال:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11