كتاب : نثر الدر
المؤلف : الآبي

الباب الحادي عشر : نوادر البخلاء الباب الثاني عشر : كلام الشطار الباب الثالث عشر : العي ، ومخاطبات الحمقى.

الباب الأول
كلام معاوية بن أبي سفيان
قال الهيثم: خرجَ معاويةُ يريد مكة، حتى إذا كان بالأبواء أطلَع في بئرٍ عاديةٍ؛ فأصابتهُ اللقْوة. فأتى مكة، فلما قضى نُسُكه، وصار إلى منزله، دعا بثوبٍ، فلفه على رأسه، وعلى جانب وجههِ الذي أصابه فيه ما أصابه، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، وعنده مروانُ، فقال: إن أكن قد ابتُلِيتُ فقد ابتُلى الصالحون قبلي، وأرجو أن أكونَ منهم وإن عُوقِبتُ فقد عوقب الظالمون قبلي، وما آمَنُ أن أكون منهم، وقد ابتليت في أحسنيِ وما يبدو مني، وما أُحصِى صحيحي. وما كان لي على ربي إلا ما أعطاني والله إن كان عتَبَ بعد خاصَّتكم لقد كنت حدباً على عامتكم، فرحم الله أمرءاً دعا لي بالعافية: قال: فعج الناسُ بالدعاء له، فبكى، فقال مروان: وما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: كبرتْ سِني، و كثر الدمعُ في عيني، وخشيت أن تكون عقوبة من ربي، و لو يزيد، أبصرتُ قصدي. دخل المسْور على معاوية، فقال له:: كيف تركتَ قريشاً؟ قال: أنت سيدها يا أمير المؤمنين، أعلاها كعباً، وأسودها أباً، وأرفعها ذِكراً وأجلها قدراً. قال: كيف تركتَ سعيداً؟ قال: عليلاً. قال: لليدَيْنِ و ِللْفَم:
بِهِ لا بِظَبْيٍ بالصَّريمَةِ أعفَراً
قال: و عمرو بن سعيدٍ صبيٌّ يسمع قوله من وَرائِهِ. فقال: إذاً والله لا يسد جُفرتكَ، ولا يزيد في رزقك، ولا يدفع حتفاً عنك، بل يفتُّ في عضدك، ويهيضُ ظهرك، وينشرُ أمركَ، فتدعو فلا تُجاب، و تتوعدُ فلا تُهاب. فقال معاوية: يا أبا أمية، أراك ها هنا، إن أباك جارانا إلى غاية الشرف، فلم تعلق بآثاره، ولم نقم لمحفاره، ولم تلحق بمضماره، ولم ندن من غباره، هذا مع قوة مكانٍ، وعزة سلطان. وإن أثقل قومنا علينا من سبقنا إلى غاية شرفٍ، فأخذ أبوك علينا القصبة، وملك دوننا الغلبة. رُوِيَ: أن عمَرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - قدم الشام، ومعه عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة، هما على حمارين قريبين من الأرض، فتلقاَّهما معاوية في كوكبة خشناء، فثنى وَرِكَهُ، فنزل، وسلم بالخلافة: فلم يرد عليه، فقال له عبد الرحمن وأبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أحضرت الفتى فلو كلمته. فقال: إنك لصاحبُ الجيشِ الذي أرى؟ قال: نعم. قال: مع شدةِ احتجابِكَ، ووقوف ذوي الحوائج ببابك؟ قال: أجل. قال: لِمَ؟ ويلك قال: لأنا ببلادٍ يكثر بها جواسيس العدو، فإن نحن لم نتخد العدة والعدد للعدو استخف بنا. وهجم على عورتنا. وأنا - بعدُ - عاملُك، فإن وقفتني وقفتُ، وإن استزدتني زِد تُ، وإن استنقصتني نقصتُ. قال: والله لئن كنت كاذباً إنه لرأيٌ أريبٍ، ولئن كنت صادقاً إنه لتدبيرٌ أديب. ما سألتك قطّ عن شيءٍ إلا تركتني فيه أضيقَ من رواجبِ الضرس. لا آمرُك ولا أنهاك. فلما انصرف قال له صاحبه: لقد أحسن الفتى في إصدارِ ما أوردتَ عليه. قال: بحسن إصداره وإيراده جشَّمناه ما جشَّمناه. قال معاوية: معروف زماننا هذا منكر زمانٍ قد مضى، و منكرُ زماننا هذا معروف زمانٍ لم يأتِ. وقال يوماً على المنبر: يا أهل الشام، ما أنتم بخيرٍ من أهل العراقِ ثم ندم فتداركها، فقال: إلا أنكم أعطِيتم بالطاعة، وحُرِموا بالمعصية. ومن كلامه: الفرصةُ خُلسة، والحياء يمنع الرزق، والهيبة خيبة و الحكمة ضالة المؤمن. وقال ذات يومٍ لابنه يزيد: يا بُنيّ، لا تستفسد الحر فساداً لاتُصلحهُ أبداً. قال: بماذا؟ قال: لاتَشْتُمَنَّ له عِرضاً، ولا تضربنَّ له ظهراً، فإن الحُرَّ لا يرى الدنيا عوضاً من هذين، ولكن خذ ما له، و متى شئتَ أن تُصلِحَهُ فمالٌ بمال. و أتى بسارقٍ، فقال: أسرقتَ؟ فقال بعضُ من حضرَ: اصدق أمير المؤمنين. فقال معاوية: الصدقُ في بعض المواطن عجْز. وقال له عمرو بن العاص: قد أعياني أن أعلمَ شجاعٌ أنت أم جبان؟ فقال:
شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصةٌ ... فإن لم تكن لي فرصةٌ فجبانُ

وخطب فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُخْلَقُ للدنيا ولا خُلِقَتْ لهُ، وإن أبا بكرٍ لم يُرِدِ الدنيا و لم تُرِدْهُ، وإن عُمَرَ أرادته الدنيا ولم يُرِدها، وإن عثمانَ أصاب من الدنيا و تركَ، وإن ابن هند تمرغَ فيها ظهراً لبطن، ولو كانت ْرايةٌ أحقُّ بنصرٍ و أقرب إلى هدى كانت رايةَ ابن أبي طالبٍ، وقد رأيتم إلام صارت. وقال لعاملٍ له: كل قليلاً تعملْ طويلاً، إلزمِ العفافَ يلزمك العملُ، وإياَّك والرُّشا يشتدُّ ظهركَ عند الخصام. ورفع يوماً ثندوتَيه بيديه، ثمَّ قال: لقد علِم الناس أن الخيل لا تجري بمثلى، فكيف َ قال النجاشي:
ونجَّى ابن حربٍ سابِحٌ ذو علالةٍ ... أجشُّ هزيمٌ والرماحُ دَوان
وقال: إنِّي لأكرهُ النَّكارة في السيد، وأحِبُّ أن يكونَ غافلاً أوْ مُتَغافِلاَ. وقال لعمرو حين نظر إلى معسكرِ علي - عليه السلام - من طلب عظيماً خاطرَ بعظيمتهِ. وقال لأبي الجهمِ العدوي: أنا أكبرأم أنتَ يا أبا الجهم؟ فقال: لقد أكلتُ من عرسُ أمِّكَ. فقال: عند أيِّ أزواجها؟ قال: في عُرسِ حفصٍ ابن مغيرة. فقال: يا أبا الجهم، أيَّاك والسلطانَ، فإنه يغضب غضبَ الصيِّ، ويعاقبُ عقوبة الأسد، فإن قليلهُ يغلبُ كثير الناس. وقال يوماً: أنا أعرفُ أرخص ما في السوق وأغلاهُ، فقيل: وكيف ذاك؟ فقال: أعلم أن الجيِّدَ رخيصٌ والردئ غالٍ. ولماَّ مات زياد وفد عليه عبيد الله ابنه: فقال له: من استخلف أخي على عمله بالكوفة؟ قال: عبد الله بن خالدٍ أُسيد، قال: فعلى البصرة؟ قال: سمرة بن جندب، فقال له معاوية: لو استعملك أبوك استعملْتُك. فقال له عبيد الله: أنشدك الله أن يقولها لي أحدٌ بعدك: لو ولاَّك أبوك، وعمُّكَ ولَّيتُكَ. فولاَّهُ خراسان. وأوصاهُ فقال: اتق الله ولا تؤثرن على تقواهُ شيئاً، وق عرضك من أن تدنسهُ وإذا أعطيت عهداً ففِ به، ولا تبيعن كثيراً بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، ولا يخرجن منك أمرٌ حتى تبرِمه، فإذا خرج فلا يُرَدَّنَّ عليك. وإذا لقيتَ عدوك فغلبك على ظهرِ الأرضِ فلا يغلبنك في بطنها، وإن احتاج أصحابك أن تواسيهم بنفسك فواسهم، ولا تُطمِعنَّ أحداً في غير حقِّه، ولاتؤيِسَنَّ أحداَ من حقٍّ هو له. وقال له ابن عباس: هل لك في مناظرتي فيما زعمتَ أنك خصمت فيه أصحابي؟ فقال له معاوية: ما تصنع بمناظرتي؟ فأشغب بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك، ويبقى في قلبي ما يضرك. وخطب عند مقدمه المدينة فقال: أما بعد، فإنا قدمنا على صديقٍ مشتبشرٍ، وعدو مستبسر، وناس بين ذلك ينظرون و ينتظرون، فإن أعْطوا منها رضوا، وإن لم يُعْطَوا منها سخطوا. ولستُ أسع الناس كلهم، فإن تكن محمدة فلابد من لائمة، فليكن لوماً هوناً إذا ذُكِرَ غفِرَ، وإياكم والغطمى، التي إن ظهرت أوبقت، ولإن خَفِيَتْ أوتَغَتْ. وقدم معاوية من ولاية كان عمرُ ولاَّهُ إيَّاها فبدأ بعمر - رضي الله عنه - فلما دخل عليه قال له: متى قدِمتَ؟ قال: الآن، وبدأت بك. قال: اذهب فابدأ بأبويك فإن حقنا لم يدخل على حقهما، وابدأ بأمك. قال: فخرجتُ من عنده ودخلت على أمي هند، فقالت: يا بنى، إنه ما ولدت حرة مثلك، وإنك قد أُنْهِضْتَ فانهض، ولإن الذي استعملك قادرٌ أن يعزلك، فاعمل بما وافقه وافقك ذلك أو خالفك. قال: فخرجتُ من عندها فدخلت على أبي، فقال: يا بنىَّ، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا فأساءوا سبقنا، فرفعوا وضيعهم، ووضعوا رفيعنا، وصرنا أذناباَ وصاروا رؤوساً، وقد رأيتهم ولوك جسيماً من غير حاجةٍ بهم إليك ولكنه جد وقع، فاعمل بما وافقهم، إما لربك وإما لهم. قال معاوية لابن الأشعث بن قيس: ما كان جدك قيس بن معديكرب أعطى الأعشى؟ فقال: أعطاه مالاً وظهراَ ورقيقاً وأشياء أُنسيتُها. فقال معاوية: لكن ما أعطاكم الأعشى لا يُنسى.
ذُكِرَ علي - رضي الله عنه - في مجلس معاوية، وعنده أهله، فقال عنبسة بن أبي سفيان: والله إني لأعجب من علي وطلبه للخلافة. فقال معاوية - وضحك - : أما والله إنها سنة كما قال الشاعر:
و ما تركته رغبةً عن جماله ... ولكنها كانت لآخر تُخْطَبُ

ومن كلام معاوية: ثلاثٌ من السؤدد: الصلع، واندِحاء البطن، وترك الإفراط في الغيرة. وقد عيبَ بهذا الكلام، ورُمِيَ بقلَّة الغيرة، وكذلك عابوا قيس بن زهير حين نزل ببعض القبائل، فقال: أنا غيور فخور أنِف، ولكني لا آنف حتى أُضام، ولا أفخَرُ حتى أفعل، ولا أغار حتى أرى. قال أبو عثمان: أظن أنه إنما عني به رؤية السَّبب لا رؤية المواقعة. وقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو، إن أهل العراق قد أكرهوا علياَّ على أبي موسى، وأنا - والله

- وأهل الشام راضون بك، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأي، فأجد الحزَّ وطبق المفصل، ولا تلقَهُ برأيكَ كله. وخطب مرة فقال: أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهرٍ عنود، وزمنٍ شديد، يُصبِحُ فيه المحسِن مسيئاً، ويزداد الظالم عتواً، لا ننتفع بما علمنا، ولانسأل عما جهلنا، ولا نتخوف قارعةً حتى تحُلَّ بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد إلا مهانة نفسه، وكلال حدِّه، ونضيض وقْرِه. ومنهم المصلِتُ لسيفه، المجلِبُ برجله، المعلن بشرِّه، قد أشرط نفسه، وأوبق دينه لحطام ينتهزه، ومقنبٍ يقوده أو منبرٍ يفرعُه، ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمناً، وممَّالك عند الله عوضاً. ومنهم من يطلبُ الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوهِ، وشمر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية. ومنهم من أقعده عن طلب المال ضئولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصر به الحال على حال، فتحلَّى باسم القناعة، وتزيَّن باسم الزهاد، وليس من ذلك في مراح ولا مفدى. وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادِّ، وخائف منقمع، وساكت مكعوم، وداعٍ مخلص، وموجَع ثكلانَ، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، فهم في بحرٍ أجاج أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة، وعظوا حتى ملُّوا، وقُهِروا حتى ذلُّوا، وقُتِلوا حتى قلُّوا، فلتكن الدنيا أقل في أعينكم من حثالة القراظ وقراضة الجلم، واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فإنها قد رفضت من كان أشفف بها منكم. وقال يونس بن سعيد الثَّقفي: اتَّق الله لا أطير بك طيرةً بطيئاً وقوعها. قال: أليس بي وبك المرجِعُ بعدُ إلى الله؟ قال: بلى، فأستغفر الله. طلب زياد رجلاً كان في الأمان الذي أخذه الحسن لأصحابه، فكتب الحسن فيه إلى زياد: أما بعد، فقد علمت ما كنا أخذنا لاصحابنا، وقد ذكر فلانٌ أنك قد عرضتَ له، فأحِبُّ ألا تعرضَ له بخير، فلما أتى زياداً الكتاب، ولم ينسِبه فيه إلى أبي سفيان غضب وكتب: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد فإنه قد أتاني كتابُك في فاسقٍ يؤويه الفساق من شيعةِ أبيك وشيعتك. وأيم الله لأطلبنهم ولو بين جلدك ولحمك، وإن أحب الناس إليَّ لحماً أن آكله لحمٌ أنت منه. فلما قرأه الحسن بعث به إلى معاوية، فلما قرأه غضب و كتب: من معاوية إلى زياد. أما بعد، فإن لك رأيين: رأياً من أبي سفبان ورأياً من سمية. فأما رأيُك من أبي سفيان فحلمٌ وحزم، وأما رأيك من سمية فما يكون من رأي مثلها، وقد كتب إليَّ الحسن بن علي أنك عرضت لصاحبه، فلا تعرض له، فإني لم أجعل لك عليه سبيلاً. وإن الحسن بن علي لا يُرمى به الرَّجوان. والعجبُ من كتابك إليه، لا تنسبه إلى أبيه. فإلى أُمه وكلته؟ وهو ابن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فالآن حين اخترت له. والسلام. وقال لقوم من بني أسد: ما معيشتكم؟ قالوا: التجارة في الرقيق: قال بئس التجارة، ضمان نفس ومئونة ضرس. وقال لجماعة من قريش كانوا عنده: يا معشر قريش، ما بال الناس لأم وأنتم لعلات؟ تباعدون منكم ما قرب الله، وتقطعون ما وصل الله، بل كيف ترجون لغيركم، وقد عجزتم عن أنفسكم؟ أتقولون: كفانا الشرف من كان قبلنا؟ فعندها لزمتكم الحجة، فاكفوه من بعدكم. أولا تعلمون أنكم كنتم رقاعاً في جيوب العربن قد أخرِجتم من حرم ربكم، ومنِعتم ميراث أبيكم. حتى جمعكم الله على رجلٍ فردَّكم إلى بلادكم، وأخذ لكم ما أُخِذَ منكم، فسمَّاكم الله باجتماعكم اسماً دنت لكم به العرب، وردَّ به عنكم كيد العجم، فقال: " فجعلهم كعصفٍ مأكول " ، " لإيلاف قريش " فارغبوا في الألفة التي أكرمكم الله بها، وإياَّكم والفرقة، فقد حذَّرَتكم نفسها، وكفى بالتجربة واعظاً. وقال لعبد الرحمن ابن أم الحكم: بلغني أنك قد لهجتَ بقول الشعر. قال: قد فعلتُ. قال: فإياك و التشبيب بالنساء، فتَغُرَّ الشريفة، وترمي العفيفة، وتقرَّ على نفسك بالفضيحة، وإياك والهجاء، فإنك تحنق عليك كريماً، وتستثير سفيهاً. وإياك والمديح، فإنه طعمة الوقاح، وتفحش السؤال، ولكن افخر بمفاخر قومك وقل من الشعر ما تزيِّن به نفسك، وتؤب به غيرك. وقال لعمرو بن سعيد: ليس بين الملك وبين أن يملك جميع رعيته، أو يملكه جميعهم إلا حزمٌ

أو توان. وقيل له: أنت أنكر أم زياد؟ قال: إن زياداً لا يدع الأمر يتفرق عليه وإنه يتفرق عليَّ فأجمعه. وقال عمرو بن العاص له: ما أشد حبك للمال قال: ولم لا أحبه وأنا أستعبد به مثلك، وأبتاع به مروءتك ودينك؟. قال: السفلة من ليس له نسبٌ معروف، ولا فِعلٌ موصوف. وقال: ثلاثة ما اجتمعن في حر: مُباهتة الرجال، والغيبة للناس، والملال لأهل المروءة. وقال لرجل: من سيد قومك؟ قال: لجأهم الدهرإليَّ. قال: هكذا تكون المخاتلة عن الشرف. وقال صعصعة: يا امير المؤمنين، مالنا نحب أولادنا اشد من حبهم لنا؟ قال: لأنهم منا ولسنا منهم، ولدناهم ولم يلدونا. قدم رجل من مصر عليه، فإنه ليحدثه لإذ حبق، فانتفض وترك الكلام، فقال معاوية: خذ فيما كنتَ فيه، فما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. ودخل عليه رجل مرتفع العطاء فرأى في عينيه رمصاً، فحطَّ عطاءه وقال: يعجز أحدكم إذا أصبح أن يتعهد أديم وجهه. وقال لقريش في خلافته: إني أقع إذا طرتم، وأطيرُ إذا وقعتم، ولو وافق طيراني طيرانكم لاختلفنا. وقال: العيال أرضة المال. وقيل له ما أبلغ من عقلك؟ قال: لم أثق بأحد. ونظر إلى يزيد وهو يضرب غلاماً له، فقال له: لا تفسد أدبك بتأديبه، ولكن وكل به من يؤدبه. روى عن بعضهم أنه قال: قدم معاوية المدينة، فدنوت من المنبر لأحفظ عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنا قدمنا على صديقٍ مستبشر، وعلى عدو مستبسر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون، فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها سخطوا. ولسنا نسع الناس كلهم، فإن تكن محمدةٌ فلابد من لائمة، ليكن لوماً هوناً، إذا ذكر غفر، وإياكم والعظمى التي إن ظهرت أوبقت، وإن خفيت أوتغت. وبلغه أن ابنته امتنعت عن ابن عامرٍ في الافتضاض، فمشى إليها يتوذف في مشيته، وفي يده مخصرة، فجلس، وجعل ينكت في الارض ويقول:و توان. وقيل له: أنت أنكر أم زياد؟ قال: إن زياداً لا يدع الأمر يتفرق عليه وإنه يتفرق عليَّ فأجمعه. وقال عمرو بن العاص له: ما أشد حبك للمال قال: ولم لا أحبه وأنا أستعبد به مثلك، وأبتاع به مروءتك ودينك؟. قال: السفلة من ليس له نسبٌ معروف، ولا فِعلٌ موصوف. وقال: ثلاثة ما اجتمعن في حر: مُباهتة الرجال، والغيبة للناس، والملال لأهل المروءة. وقال لرجل: من سيد قومك؟ قال: لجأهم الدهرإليَّ. قال: هكذا تكون المخاتلة عن الشرف. وقال صعصعة: يا امير المؤمنين، مالنا نحب أولادنا اشد من حبهم لنا؟ قال: لأنهم منا ولسنا منهم، ولدناهم ولم يلدونا. قدم رجل من مصر عليه، فإنه ليحدثه لإذ حبق، فانتفض وترك الكلام، فقال معاوية: خذ فيما كنتَ فيه، فما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. ودخل عليه رجل مرتفع العطاء فرأى في عينيه رمصاً، فحطَّ عطاءه وقال: يعجز أحدكم إذا أصبح أن يتعهد أديم وجهه. وقال لقريش في خلافته: إني أقع إذا طرتم، وأطيرُ إذا وقعتم، ولو وافق طيراني طيرانكم لاختلفنا. وقال: العيال أرضة المال. وقيل له ما أبلغ من عقلك؟ قال: لم أثق بأحد. ونظر إلى يزيد وهو يضرب غلاماً له، فقال له: لا تفسد أدبك بتأديبه، ولكن وكل به من يؤدبه. روى عن بعضهم أنه قال: قدم معاوية المدينة، فدنوت من المنبر لأحفظ عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنا قدمنا على صديقٍ مستبشر، وعلى عدو مستبسر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون، فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها سخطوا. ولسنا نسع الناس كلهم، فإن تكن محمدةٌ فلابد من لائمة، ليكن لوماً هوناً، إذا ذكر غفر، وإياكم والعظمى التي إن ظهرت أوبقت، وإن خفيت أوتغت. وبلغه أن ابنته امتنعت عن ابن عامرٍ في الافتضاض، فمشى إليها يتوذف في مشيته، وفي يده مخصرة، فجلس، وجعل ينكت في الارض ويقول:
من الخفرات البيض، أما حرامها ... فصعبٌ، واما حلها فذلول
وخرج ودخل ابن عامرٍ فلم تمتنع عليه. قال خالد بن الوليد لمعاوية: إن فيك لخصلتين ما أراهما تجتمعان في رجل: إنك تقدم حتى أقول: يريد أن يقتل، وتتأخر حتى أقول يريد أن يهرب. فقال: إني والله أتقدم لأقتل، ولا أتأخر لأهرب، ولكني أتقدم إذا كان التقدم غنماً وأتأخر إذا كان التأخر حزماً، كما قال أخو كنانة:
شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصة ... وإن لم تكن لي فرصة فجبان

وسُئل: ما النبل؟. فقال: الحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة. وقال: الدنيا بحذافيرها الخفض والدعة. وقال له رجلٌ: والله لقد بايعتك وأنا كاره. فقال: لقد جعل الله في الكره خيراً كثيراً. وكتب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما دعاه إلى البيعة: من معاوية بن صخرٍ إلى علي بن أبي طالب: أما بعد، فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك، وانت برئٌ من دم عثمان، كنتُ كأبي بكرٍ وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف. وقد أبى اهل الشام إلا قتالك، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين. ولعمري ما حجتك علىَّ كحجتك على طلحة والزبير، لأنهما بايعاك ولم أبايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام. واما شرفك في الإسلام، وقرابتك من النبي صلي الله عليه وسلم وموضعك من قريش فلست أدفعه. ثم كتب في آخر الكتاب بشعرٍ لكعب بن جعيل أوله:
أرى الشام تكره ملك العراق ... وملك العراق لهم كارهونا.
فأجابه أمير المؤمنين رضي الله عنه: أما بعدُ، فإنه أتاني منك كتابٌ إمرئ ليس له بصرٌ يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتَّبعه. زعمت انه إنما أفسَد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان. ولعمري ما كنتُ إلا رجلاً من المهاجرين، واوردتُ كما أوردوا، وأصدرتُ كما اصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى. وبعد، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أمية. وبنوا عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلىَّ. وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير، وبين أهل الشامِ وأهل البصرة، فلعمري ما الأمر فيما هنالك إلاَّ سواء، لأنها بيعة شاملة، لا يُستَثنى فيها الخيار، ولا يُستأنفُ فيها النظر، وأما شرفي في الإسلام، وقرابتي من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وموضعي من قريش، فلعمري: لو استطعتَ دفعه لدفعته. ثم دعا النجاشي فقال له: إن ابن جعيل شاعر أهل الشام، وأنت شاعر أهل العراق، فأجِبِ الرجل. فقال: يا أمير المؤمنين، أسمعني قوله. قال إذأً أُسمِعَكَ شعر شاعر. فقال النجاشي يجيبه:
دعاً يا معاوي ما لنْ يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرونا
في أبياتٍ كثيرة. يروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاويةَ في اليوم الذي بُويِعَ له بالعهد، فجعل الناس يمدحونه، ويُقَرِّظونه: يا أمير المؤمنين، والله ما ندري أنخدع الناس أم يخدعونا؟. فقال له معاوية: كل من أردتَ خديعته فتخادع لك حتى تبلُغَ منه حاجتك فقد خدعته. وكتب إلى قيس بن سعد بن عبادة، وهو والي مصر لعلي رضي الله عنه: أما بعد فإنك يهودي ابن يهودي، إن غلب أحد الفريقين إليك عزلك، واستبدل بك، وإن غلب أبغضهما إليك قتلك، ومثَّل بكَ، وقد كان أبوك فوق سهمه، ورميَ غرضهِ، فأكثر الحزَّ، وأخطأ المفصل، حتى خذلهُ قومَهُ، وأدركه يومَه، فمات غريباً بحوران. فكتب إليه قيس: أما بعد، فإنك وثن ابن وثن، لم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك، دخلت في الدين كرهاً، وخرجت منهُ طوعاً، وقد كان أبي فوقَ سهمه، ورمي غرضه، فشغبت عليه أنت وأبوك ونظراؤك فلم تبشقّوا غباره، ولم تدرِكوا شأوه، ونحن أنصار الدين الذي خرجتَ منه، وأعداءُ الدين الذي خرجتَ إليه. قال معاوية: الخفض والدعة سعة المنزل، وكثرة الخُدَّام. وذُكِر أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلة، فسمع من عنده غناءً أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان مُلهيك البارحة؟ قال: ذاك ابن خاثر. وقال: إذاً فأخثِر له من العطاء. وذُكِرَ أن معاوية قال لعمرو بن العاص: امضِ بنا إلى هذا الذي تشاغل باللهو، وسعى في هدم مروءته، حتى ننعى عليه فعله - يريد: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدخل عليه وعنده سائب بن خاثر، وهو يُلقيِ على جواري لعبد الله، فأمره عبد الله بتنحيةِ الجواري لدخول معاوية، ووثب سائب بن خاثر، وتنحّى عبد الله عن سريره لمعاوية، فأجلسه إلى جانبه. ثم قال لعبد الله: أعِد إلينا ما كنت فيه، فأمر بالكراسي فأُلقيَتْ، وأخرج الجواري، فتغنَّى سائبٌ بقول قيس بن الخطيم:
ديار التي كادت، ونحن على منى ... تحلُّ بنا لولا نجاءُ الركائبِ

ورددَّه الجواري. فحرَّ معاوية يديه، وتحرَّك في مجلسه، ثم مدَّ رجليه فجعل يضرِبُ بهما وجهَ السرير فقال له عمروٌ: اتَّئد فإن الذي جئتهُ لتلحاهُ أحسُّ منك حالاَ، وأقلُّ حركة. قال معاوية: اسكت، فإن كل كريمٍ طروب. وقال معاوية: أُعِنْتُ على عليِّ بأربع: كنتُ رجلاً أكتم سريّ، وكان رجلاً ظهره، وكنتُ في أطوعِ جندٍ وأصلحهُ، وكان في أخبثِ جندٍ وأعصاه، وتركته وأصحابَ الجمل وقلتُ: إن ظفروا به كانوا أهون عليَّ منه، وإن ظفر بهم اعتددت بها عليه في دينه، وكنت أحَبَ إلى قريش منه، فيالكَ من جامع إليَّ، ومفرقٍ عنه، وعونٍ لي وعونٍ عليه.
قدم معاوية إلى المدينة فدخل عليه عبد الله بن الزبير؛ فأقام عنده يومه وليلته فكانا يتحدثان إلى أن نام معاوية، وعبد الله قاعدٌ، ثم استيقظ، فقال له: خذ بنا في الحديث، فتحادثا ساعة ثم نام معاوية أيضاً، فكانت تلك حاله إلى الصباح فقال له عبد الله: لقد هممتُ بقتْلك غير مرة، فكيف طابت نفسُك أن تنام وأنا معك؟ فقال: يا أبا بكر، فلستَ من قتلةِ الخُلفاء. فقال: تقولُ لي هذا وقد لقيتُ عليَّ بن أبي طالب بالسيف يم البصرة، فقال معاوية: لا جرم، قتَلَكَ وأباك بشماله، وبقيت يمنيهُ فارغةً تطلب قِرناً يصلُحُ لها. وقال معاوية لعمرو بن العاص، حين ذكر له ما رواه عبد الله ابنهُ من قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعماَّرٍ: " تَقْتُلُكَ الفئة الباغيةُ " لا تزال تأتينا بهَنةٍ تدحضُ بها في بولك. أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذي جاء به.
ورُوي أنه قدم المدينة فذكر ابنه يزيد، وعقله وسخاءه، وفضله؛ فقال ابن الزبير: أما أنك قد تركت من هو خيرٌ منهُ. قال معاوية: كأنك أردتَ نفسك يا أبا بكر؟ قال: وإن أردتها فمه؟ قال معاوية: إن بيته بمكة فوق بيتك. قال ابن الزبير: إن الله اختار أبي، واختار الناسُ أباهُ، فاللهُ الفاصِلُ بيني وبينه. فقال معاوية: هيهات: مَنّتُكَ نفسُك ما ليس لك، وتطاولت َ إلى ما لم تنالُه.. إن الله اختارَ عمِّي لدينِه، واختار الناسُ أبي لدنياهُم. فدعا عمِّي أباك فأجابهُ، ودعا أبي عمَّك فاتبعَه، فأين تجِدُكَ إلا معي؟ . قال ابن الزبير: ذاك لو كنتَ من بني هاشم. قال معاوية: دع هاشماً، فإنها تفخر علي بأنفسها، وأفخر عليك بها، وأنا أحبُّ إليها منكَ، وأحبُّ إليكَ منها، وهي أحبُّ إليَّ منك. قال ابن الزبير: إن الله رفع بالإسلام بيتاً، وخفض به بيتاً، فكان بيتي مما رفع الله بالإسلام، قال معاوية: وبيتُ حاطِب بنِ أبي بلتعةَ مما رفع الله. وقيل لمعاوية: أخبرنا عن نفسك في قريشٍ. قال: أنا ابن بُعثطِها، والله ما سوبِقْتُ إلا سبقتُ، ولا خضْتُ برجلي قطٌّ غمرة إلا قطعتُها عرضاً. وكتب إليه الحكم الغفاري: إن المشركين قد جاشوا بأمرٍ عظيمٍ. فكتب: اجعل بكر بن وائل يَلونهم، فإن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لن يَظْهَرَ المشركون على بكرِ بنِ وائلٍ " . وكان يأذنُ للأحنفِ في أوَّلِ من يأْذنُ له، فأَذنَ له يوماَ، ثم أذن لمحمدِ بن الأشعث، فجاء محمدٌ فجلس بين معاوية وبين الأحنفِ، فقال له معاوية: لقد أحسستُ في نفْسِك ذلاًّ، إنِّي لم آذن له قبلك ليكون في المجلس دونك، وإنما كما نملكُ أموركم نملِكُ تأديبكم، فأريدوا ما يُرادُ بكم، فإنه أبقى لنعمتكم، وأحسنَ لأدبِكُم.
قدِمَ معاوية المدينة، فدخل دار عثمان، فقالت عائشة بنتُ عثمان: وا أبتاه وبكتْ. فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهُم أماناً، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضبٌ، وأظهروا لنا طاعةَ تحتها حِقْدٌ، ومع كلُّ إنسانٍ سيفَه، وهو يرى مكان أنصاره، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا أدري أعلينا تكونُ أم لنا؟ ولأن تكوني بنتَ عمِّ أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين. وقال معاوية في النساء: إنهنَّ يغلُبنَ الكرام، ويغلِبْهنَ اللئام. وفَخَرَ عندهُ سليمُ مولى زيادٍ، فقال معاوية: اسكت، فوالله ما أدرك صاحِبُكَ شيئاً بسيفهِ إلا وقد أدركتُ أكثر منه بلساني.؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟

يزيد بن معاوية وولده

كتبَ إلى أهلِ المدينة: أما بعدُ، ف " إن الله لا يغيرُ ما بقَوْمٍ حتَّى يغيِّروا ما بأنفسِهِم وإذا أرادَ اللهُ بقومٍ سوءاً فلا مردَّ لَهُ؟؟؟؟؟؟؟؟، وما لَهُم مِنْ دونِهِ مِن والِ " وإني والله لقد لبِستُكُم فأخلقْتُكُم، ورفقْتُ بكُم فأخرقتُكُم. ثم لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنَّكُمْ وطْأَةً أُقِلُّ بها عددكم، وأذلُّ غابركم، وأترككم أحاديثَ تُنْسَخُ فيها أخباركم مع أخبارِ عادٍ وثمودٍ.
لعلَّ الحلم دلَّ على قومي ... وقد يستجهَلُ الرجل الحليمُ
وقال له مؤدبهُ وهو صغير، فلحن وقال: إن الجواد قد يعثر، فقال المؤدّبُ: أي والله، ويضرَب فيستقيم، فقال يزيد: نعم والله ويكسر أنف سائسهُ. تكلَم يوماً عند معاوية الخطباء فأحسنوا وأكثروا، فقال: والله لأرمينَّهم بالخطيب الأشدقِ، قم يا يزيد فتكلَّم قال ابن الكلبي: كان يُقال ليزيد بن معاوية: أبو القرود، وذلك أنه كان معجباً بها، وأدب قِرداً واستعمله على خمسمائة رجل من أهل الشام، وكان يكنى أبا قيس، فصاد مرة حمار وحش، فحمل أبى قيسٍ عليه، وخلّى عنه فطار به، وخرج من مسكنه، ولزمه القردُ، فجعل يزيد يصيحُ به:
تمسَّك أبا قيسٍ بفضلِ عنانها ... فليس عليها إن هلكت ضمانُ.

وقيل ليزيد: ما الجود؟ قال: إعطاءُ المالِ من لا تعرف، فإنه لا يصير إليه حتى يتخطَّى من تعرِف. وخطب بدمشق فقال: أيها الناسُ، سافروا بأبصاركم في كرُّ الجديدين، ثم أرجعوها كليلة عن بلوغِ الأمل. وإنَّ الماضي عظةٌ للباقي، ولا تجعلوا الغرورَ سبيلَ العجزِ عن الجد، فتنقطع حجتُكُم في موقفٍ الله سائلكم فيه، محاسِبُكم على ما أسلفتم. أيُّها الناس، أمس شاهد فاحذروه، واليوم مؤدِّبٌ فاعرِفوه، وغدٌ رسولٌ فأكرِموه، وكونوا على حذر من هجومِ القدر، فإن أعمالكم مطيات آجالكم والصراطُ ميدانٌ يكثر فيه العثارُ، والسالمُ ناج، والعاثِرُ في النار. يروى: أن عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالداً فقال: يا أخي، لقد هممتُ اليومَ أن أفتِك بالوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئسَ والله ما هننتَ به في ابن أمير المؤمنين، وولِيّ عهد المسلمين فقال: إن خيلي مرت به فتعبَّثَ بها، وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيكَ. فدخل خالد على عبد الملك، والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، لوليدُ ابن أمير المؤمنين، ووليُّ عهد المسلمينَ مرَّت به خيلُ ابن عمه عبد الله بن يزيد، فتعبَّثَ بها وأصغرهُ، وعبدُ الله مطرِقٌ، فرفع رأسهُ فقال: " إن الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزَّةَ أهلها أذلَّة وكذلك يفعلون " فقال خالد: " وإذا أردنا أن نهلِكَ قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمرناها تدميراً " فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني؟ والله لقد دخل عليَّ فما أقام لسانَهُ لحناً. فقال خالد: أفَعَلى الوليدِ تعولِّ؟ فقال عبد الملك: إن كان الوليدُ يلحنُ فإن أخاهُ سليمانَ. فقال: وإنْ كان عبدُ الله يلحنُ فإن أخاه خالدٌ. فقال له الوليد: اسكت، فوالله ما تُعَدُّ في العير ولا في النفيرِ. فقال خالد: اسمع يا أمير المؤمنين، ثم أقبل عيه فقال: وَيحَك، فمن صاحِبُ العير غيري، جدِّي أبو سفيان صاحبُ العير، وجديِّ عتبة بن ربيعة صاحبُ النَّفير، ولكن لو قلت: غُنيماتٌ، وحُبيلاتٌ والطائفُ ورحمَ الله عثمانَ. قلنا: صدقْتَ. أما العيرُ فهيَ عيرُ قريش التي أقبل فيها أبو سفيان من الشام، فنهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففات بها أبو سفيان، وأما النفيرُ فمِن نفرٍ من قريش لاستنفاذ العير، فكانت وقعةُ بدرٍ، وصار ذلك مثلاً حتى قيل في كل من لا يصلح لخيرٍ ولا شر. وقوله: غنيماتُ و حبيلاتٌ. يعني: أن رسول الله - صلى الله عليهِ وسلم - لما أطردَ الحكم بن أبي العاص لجأ إلى الطائف، فكا يرعى غنيماتٍ له. ويأوي إلى حبيلة، وهيَ الكرمة. وقوله: رحِمَ الله عثمانَ، لأنه ردهُ لمَّا أفضى الأمرَ إليه. وذُكر أن الحجاج لما أكرَهَ عبد الله بن جعفرٍ على أن يزوِّجهُ ابنتهُ استأجله في نقلها سنة، ففكر عبد الله في الانفكاكِ منه، فأُلقي في روعهِ خالد بن يزيد بن معاوية، فكتب إليهِ يُعْلُمهُ ذلك، وكان الحجاج تزوجها بإذنُ عبدِ الملك، فورد على خالد كتابه ليلاً، فاستأذن من ساعتهِ على عبد الملك، فقيل: افي هذا الوقت؟ فقال: إنه أمرٌ لا يؤخَّرُ، فأُعلم عبدُ الملك بذلك. فأذن لهُ، فلما دخل إليه قال له عبد الملك: فيم السُّرى يا أبا هاشم؟ قال: أمرٌ جليل، لم آمنْ أن أُؤَخِّرَه، فتحدُثُ عليَّ حادثة، فلا أكونَ قضيتُ حقَّ بيعتك. قال: ما هو؟ قال: تعلمُ أنهُ كان بين حيَّينِ من العداوةِ والبغضاء، ما كان بينَ آل الزبير وبيننا؟ قال: لا. قال: فإنْ تزوجي إلى آل الزبير حلَّل لهم ما كان في قلبي، فما أهل البيتِ أحبُّ إليَّ منهم. قال: إن ذلك ليكون؟ قال: فكيفَ أذِنْت للحجاج أن يتزوَّجَ من بني هاشم، وأنت تعلمُ ما يقولون ويُقالُ فيهم، والحجاج من سلطانِك بحيثُ علمْتَ. قال: فجزاهُ خيراً. وكتب إلى الحجاج يعزمُ عليه أن يطلِّقها، فطلَّقها. فغدا الناس يعزُّونه عنها. وكان فيمن أتاه عمرو بن عتبةَ بن أبي سفيان، فأوقعَ الحجاج بخالدٍ. فقال: كان الأمرُ لآبائه فعجِزَ عنه حتى انتُزِعَ منه. فقال له عمرو: لا تقُل ذلك أيها الأمير، فإن لخالدٍ قديماً سبق إليه، وحديثاً لنْ يًغْلَبَ عليه فلو طلب الأمر لطلبهِ بجد و جَدٍّ، ولكن علم علماً فسلم العلم إلى أهله. فقال: الحجاجُ: يا آل أبي سفيان، أنتم تحبُّون أن تحلُموا، ولا يكون الحلم إلا عن غضب، فنحنُ نغضبكم في العاجل ابتغاءَ مرضاتكم

في الآجل. ثم قال الحجاج: والله لأتزوَّجنَّ من هو أمسُّ بهِ رحماً، ثم لا يمكنه فيه شيء، فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد. تهدد عبد الملك خالداً بالحرمان، فقال خالد: أتُهدِّدني، ويَدُ الله فوقك مانعةٌ، وعطاءُ الله دونكَ مبذولٌ؟ قال رجل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقربُ شيءٍ؟ قال: الأجل. قيل: فما أبعدُ شيءٍ؟ قال: الأمل. قيل: فما آنس شيءٍ؟ قال: الصاحبُ المُواتي. قيل: فما أوحشُ شيءٍ؟ قال: الميِّت. دخل عبد الملك بن مروان على يزيد بن معاوية. فقال: يا أميرَ المؤمنين، إن لك أرضاً بوادي القُرى ليست لها غلَّة، فإن رأيتَ أن تأْمرَ لي بها. فقال له يزيد: إنا لا نُخدع عن الصغير، ولا نبخَلُ بالكبير، وهي لك. فلمَّا ولىَّ قال يزيد: إن أهل الكتب يدَّعون أن هذا يرث ما نحن فيه، فإن كان كما قالوا فقد صانعناه، وإن لم يكن فقد وصلْناه. ولما ولىَّ يزيد مسلمَ بنَ زياد خراسان قال له: إن أباك كفى أخاك عظيماً، وقد استكفيتُك صغيراً، فلا تتَّكِلنَّ على عذرٍ مني، فإني قد اتكلتُ على كفاية منك، وإياك مني قبل أن أقول: إيَّاي منك، فإنَّ الظنَّ إذا أُخلِفَ فيك أخلف منك. وأنت في أدنى حظِّك فاطلُب أقصاه. وقد أتعبك أبوك، فلا تُريحَنَّ نفسك، وكن لنفسِكَ تكُنْ لك، واذكر في يومكَ أحاديثَ غدِكْ. وقال معاويةُ لعمرو بن العاص: إني لأُحِبُّ أنْ تكون في خمسِ خصالٍ. قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: أحب أن يكون جهلٌ أعظم من حلمي، ولا ذنبٌ أكبر من عفوي، ولا عورةٌ إلا وأنا أسعها بستري، ولا فاقةٌ إلا سددتها بجودي، ولا زمانٌ أطول من أناتي، فتبسم عمرو. فقال معاوية: ممن تبسَّمت؟ فإني أعلمُ أنك إن قُلتَ خيراً أضمرتَ شراً. قال: نعم، تمنَّيتُ ضفةً لا تكون إلا لله. قال معاوية: فاستُرها عليَّ. كتب معاوية إلى مروان بن الحكم: والله لفلانٌ أهْوَنُ عليَّ من ذرَّة أو كلبٍ من كلابِ الحرَّة، ثم قال للكاتب: امحِ الحرَّة، فإنه سجعٌ، واكتب من الكلاب. قيل لخالد بن يزيد: أني أصبتُ هذا العلم؟ قال: وافقْتُ الرجال على أهوائهم، ودخلتُ معهم في رأيهم، حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا إليَّ بذات أنفسهم. بعث زياد إلى معاوية بهدايا مع عبيد الله أخي الأشترِ النخعي، وفي الهدايا سفطٌ فيه جوهرٌ لم ير مثله، فقدِمَ عبد الله بالهدايا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن زياداً بعثَ معي بسفطٍ ما أدري ما فيه، وأمرني أن أدفعهُ في خلاءٍ. فقال: أحضره، فلمَّا فتحهُ قال: ما أظُّن رجلاً آثر بهذا على نفسه إلا سيؤْثِرُهُ الله بالجنَّة، ارجع به إليه، فإن من قبله من المسلمين أحق بهذا من معاوية. ثم كتب إلى زياد: إنك رفعتَ إليَّ رايةَ الأشترِ حينَ وضعها الله. بعثتَ مع أخيه بسفطٍ يشهد به علي عند أهل العراق، فاردده عليَّ مع رجلٍ لا يفقهُ عنيِّ، ولا أفقهُ عنه، فردَّهُ إليه زياد مع غلام من غلمانه. قال معاوية ليزيد: إنْ كنْتَ بعدي - وكنْهُ. فابدأ بالخير، فإنه يُعَفِّى، على الشر، وما صنعتَ من شيءٍ فاجعل بينكَ وبين الله ستراً ترجوه له، وتأْملُهُ به. وإيَّاك والقتل فإن الله قاتل القاتلين. وصف معاوية الوليد بن عتبة فقال: إنه لبعيد الغور، سكان الفور، نبتةُ أصلٍ لا يخلف، وسليل فحلٍ لا يقرِف. ودخل خالد بن يزيد دار عبد الملك، وكان يسحبُ ثيابه، فقام إليه عبد الرحمن بن الضحاك، يتلقاه معظِّماَ له، فقال له: بأبي أنت وأمي، لم تطعم الأرض فَضولَ ثيابكَ؟ فقال: إني أكره أن أكونَ كما قال الشاعر: الآجل. ثم قال الحجاج: والله لأتزوَّجنَّ من هو أمسُّ بهِ رحماً، ثم لا يمكنه فيه شيء، فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد. تهدد عبد الملك خالداً بالحرمان، فقال خالد: أتُهدِّدني، ويَدُ الله فوقك مانعةٌ، وعطاءُ الله دونكَ مبذولٌ؟ قال رجل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقربُ شيءٍ؟ قال: الأجل. قيل: فما أبعدُ شيءٍ؟ قال: الأمل. قيل: فما آنس شيءٍ؟ قال: الصاحبُ المُواتي. قيل: فما أوحشُ شيءٍ؟ قال: الميِّت. دخل عبد الملك بن مروان على يزيد بن معاوية. فقال: يا أميرَ المؤمنين، إن لك أرضاً بوادي القُرى ليست لها غلَّة، فإن رأيتَ أن تأْمرَ لي بها. فقال له يزيد: إنا لا نُخدع عن الصغير، ولا نبخَلُ بالكبير، وهي لك. فلمَّا ولىَّ قال يزيد: إن أهل الكتب يدَّعون أن هذا يرث ما نحن فيه، فإن كان كما قالوا فقد صانعناه، وإن لم يكن فقد وصلْناه. ولما ولىَّ يزيد مسلمَ بنَ زياد خراسان قال له: إن أباك كفى أخاك عظيماً، وقد استكفيتُك صغيراً، فلا تتَّكِلنَّ على عذرٍ مني، فإني قد اتكلتُ على كفاية منك، وإياك مني قبل أن أقول: إيَّاي منك، فإنَّ الظنَّ إذا أُخلِفَ فيك أخلف منك. وأنت في أدنى حظِّك فاطلُب أقصاه. وقد أتعبك أبوك، فلا تُريحَنَّ نفسك، وكن لنفسِكَ تكُنْ لك، واذكر في يومكَ أحاديثَ غدِكْ. وقال معاويةُ لعمرو بن العاص: إني لأُحِبُّ أنْ تكون في خمسِ خصالٍ. قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: أحب أن يكون جهلٌ أعظم من حلمي، ولا ذنبٌ أكبر من عفوي، ولا عورةٌ إلا وأنا أسعها بستري، ولا فاقةٌ إلا سددتها بجودي، ولا زمانٌ أطول من أناتي، فتبسم عمرو. فقال معاوية: ممن تبسَّمت؟ فإني أعلمُ أنك إن قُلتَ خيراً أضمرتَ شراً. قال: نعم، تمنَّيتُ ضفةً لا تكون إلا لله. قال معاوية: فاستُرها عليَّ. كتب معاوية إلى مروان بن الحكم: والله لفلانٌ أهْوَنُ عليَّ من ذرَّة أو كلبٍ من كلابِ الحرَّة، ثم قال للكاتب: امحِ الحرَّة، فإنه سجعٌ، واكتب من الكلاب. قيل لخالد بن يزيد: أني أصبتُ هذا العلم؟ قال: وافقْتُ الرجال على أهوائهم، ودخلتُ معهم في رأيهم، حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا إليَّ بذات أنفسهم. بعث زياد إلى معاوية بهدايا مع عبيد الله أخي الأشترِ النخعي، وفي الهدايا سفطٌ فيه جوهرٌ لم ير مثله، فقدِمَ عبد الله بالهدايا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن زياداً بعثَ معي بسفطٍ ما أدري ما فيه، وأمرني أن أدفعهُ في خلاءٍ. فقال: أحضره، فلمَّا فتحهُ قال: ما أظُّن رجلاً آثر بهذا على نفسه إلا سيؤْثِرُهُ الله بالجنَّة، ارجع به إليه، فإن من قبله من المسلمين أحق بهذا من معاوية. ثم كتب إلى زياد: إنك رفعتَ إليَّ رايةَ الأشترِ حينَ وضعها الله. بعثتَ مع أخيه بسفطٍ يشهد به علي عند أهل العراق، فاردده عليَّ مع رجلٍ لا يفقهُ عنيِّ، ولا أفقهُ عنه، فردَّهُ إليه زياد مع غلام من غلمانه. قال معاوية ليزيد: إنْ كنْتَ بعدي - وكنْهُ. فابدأ بالخير، فإنه يُعَفِّى، على الشر، وما صنعتَ من شيءٍ فاجعل بينكَ وبين الله ستراً ترجوه له، وتأْملُهُ به. وإيَّاك والقتل فإن الله قاتل القاتلين. وصف معاوية الوليد بن عتبة فقال: إنه لبعيد الغور، سكان الفور، نبتةُ أصلٍ لا يخلف، وسليل فحلٍ لا يقرِف. ودخل خالد بن يزيد دار عبد الملك، وكان يسحبُ ثيابه، فقام إليه عبد الرحمن بن الضحاك، يتلقاه معظِّماَ له، فقال له: بأبي أنت وأمي، لم تطعم الأرض فَضولَ ثيابكَ؟ فقال: إني أكره أن أكونَ كما قال الشاعر:

قصيرُ الثياب فاحشٌ عند بيتهِ ... وشرُ قريشٍ في قريشٍ مُرَكَّبا
وهذا البيتُ هُجِيَ به الضحاك. قال الجاحظ: لو لم يتكلفْ ما لايعنيه لم يسمع هذا الجواب. قال بعضهم كنتُ عندَ معاويةَ إذ دخل عبدُ الملك، فتحدَّث ونهض، فقال معاويةك إنَّ لهذا الغلام همةً، وخليقٌ أن تبلغَ به همتهُ، وإنه مع ما ذكرت تاركٌ لثلاثٍ أخِذٌ بثلاث، تارِكٌ مساءة الجليس جداًّ وهزلاً، تاركٌ لما يعتذرُ منه، تارك لما لا يعنيه، آخِذٌ بأحسنِ الحديث إذا حدَّثَ، وبأحسنِ الاستماع إذا حُدِّث، وبأهونِ الأمرين عليه إذا خولف. وقال معاوية لابنه يزيد: إذا وليتَ فابسط الخيرَ، فإنه يُعَفِّي على العيب، واتق الله يقِكَ، وإياكَ والقتلَ، فإنَّ الله قتَّل للقاتلين. وقال لعبيد الله بن زياد: يابن أخي، إحفظ عني، لا يكونَنَّ في عسكرِكَ أميرٌ غيركَ، ولاتقولَنَّ على منبَرٍ قولاً يُخالِفُهُ فِعْلُك، ومهما غلبت فلا تُغْلَبَنَّ على ميتةٍ كريمةٍ. وقال معاوية: آفةُ المروءة الكبر وإخوانُ السوء، وآفةُ العلم النسيان، وآفةُ الحلمِ الذُّل، وآفةُ الجودِ السرف، وآفةُ القصد البُخْلِ، وآفةُ المنطق الفُحشِ، وآفة الجلدِ الكسل، وآفةُ الرزانة الكبر، وآفةُ الصمتِ العيّ، وآفة اللبّ العجب، وآفة الظَّرف الصلف، وآفة الحياءِ الضَّعف. وقال: لا جَدَّ إلا ما أقعص عنك ما تكره. وقال: لا تعدنَّ شيئاً، وحسبك جوداً أن تُعْطِيَ إذا سُئِلْتَ. وقال لابنه يزيد: ما المروءة؟ فقال: إذا ابتليتَ صبرتَ، وإذا أعطيتَ شكرتَ، وإذا وعدتَ أنجزْتَ. قال: أنتَ منِّي، وأنا منك يا يزيد. وقال معاوية: المروءة مؤاخاةُ الأكفاء، ومداجاةُ الأعداء. وقال: ما وجدتُ لذةَ شيءٍ ألذَّ عندي غباًّ من غيظٍ أتجرعُهُ، ومن سفهٍ بالحلمِ أقمعُهُ. وقال له رجل: ما أشبه أستك بأستِ أمك فقال: ذاك الذي كان يُعْجِبُ أبا سفيان منها. وأغلظ له الرجل فاحتمله، وأفرط عليه فحلم عنه، فقيل له في ذلك. فقال: لا نَحولُ بين الناسِ وألسنتِهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكِنا. وقال لابنه: يابني، اتَّخِذ المعروف عندَ ذوي الأحسابِ تستمِل به قلوبهم، وتعظم به في أعينِهم، وتكفَّ به عنك عاديتهم. وقال: عليك بصديقك الأولِ، فإنك تلقاهُ على عهْدٍ واحدٍ، تقدَّم العهد أو شطَّتِ الدار. وإيَّاك وكلَّ مستَحدثٍ، فإنه يستَأْكِلُ كلَّ قوم، ويسعى مع كل ريح. ودعا يوماً بصبيٍّ له، فقبَّله، وضمّهُ إليهِ، وقال: من سرَّه الدهر أن يرى كبدهُ تمشي على وجه الأرض فلْيَرَ ولده. رُوي: أنه فُلَّت سرية لمعاوية، وكاد ينالُها الاصطلام، فوجم واغتمَّ غماَّ شديداَ. فقيل له في ذلك. فقالك ما اغْتمامي للسرية فقط، ولكن اغتمامي أن يكون حدث بالحرمين حدثٌ، فكان هذا لذاك، فكتب، ونظر، فإذا مولى لخالد بن أُسيدٍ قد عدا بسيفٍ في الحرمِ مشهورٍ، فكتبَ، فقطعت يده. كان عمر رضي الله عنه فرض للمهاجرين في خمسة آلافٍ، وفرض للناس بعدهم على اقدارهم عندة ففرض لأبي سفيان وضُربائه في ألفين، فلما صار الأمرُ إلى معاوية حطَّ العطاء إلى عطاء أبيه، فصار شرفُ العطاء في ألفينِ. قال معاويةُ يوماً: ما ولدتْ قرشيةٌ خيراً لقريشٍ مني، فقال ابن زُرارة: بل ما ولدَتْ شراً لهم منك فقال: كيف؟ قال: لأنك عوَّدتَهم عادةً يطلبونها من بعدك، فلا يجيبونهم إليها، فيحملون عليهم كحملهم عليك. فلا يحتمِلون وكأنيِّ بهم كالزِّقاق المنفوخةِ في طرقاتِ المدينة.
؟؟؟؟؟؟؟؟

الباب الثاني
؟؟
كلام مروان بن الحكم وولده في الخلفاء
كتب مروان إلى النعمان بن بشير يخطبُ إليه ابنته أُمَّ أبانٍ لابنه عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم. من مروان بن الحكم إلى النعمان بن بشير. سلام عليك، فإني أحمدُ إليكَ الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإن الله ذا المنِّ والبرهان، ؟؟؟ العظمة والسلطان، قد خصَّكم - معاشر الأنصار - بنُصرة دينه، وإعزاز نبيه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وقد جعلك منهم في البيْتِ العميمِ، والفرعِ القديم. وقد دعاني إلى إحباب مصاهرتك والإيثار لك على الأكفاءِ من ولدِ أبي. وقد أحبَبْتُ أن تزوِّجَ ابني عبد الملك بن مروان ابنتك أمَّ أبانٍ بنتَ النعمان، وقد جعلت صداقها ما نطق به لِسانكَ وترنَّمتْ به شفتاك، وبلغهُ مُناك. وحكمت به في بيت المالِ قبلكَ.

فكتب إليه النعمان: من النعمان بن بشير إلى مروان بن الحكم. بدأت باسمي سُنة من رسول الله - صلى الله علية وسلم - وذلك أني سمِعْتُ خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا كتب أحدُكم إلى أحدٍ فلْيبدأ بنفسهِ " . أما بعد، فقد بلغني كتابُكَ، تذكر من مودَّتِك ما أراك صادقاً، فغُنْماً أصبت، وبحظِّك أخذْتَ، ونفسَكَ زكَّيْتَ، لأناَّ ناسٌ قد جعل الله حميداً حُبنا إيماناً، وبُغْضنا نفاقاً. وأما ما أطْنَبْتَ فيه من ذكرُ شرفنا، وقديم سلفنا، ففي مدحِ الله لنا وذكرِهِ إيانا في كتابهِ المنزل، وقرآنه المفصَّل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما أغنى به عن مدح غيره من المخلوقين، فأما ما ذكرْتَ من إيثارك إياي بابنك عبد الملك على الأكفاء من ولد أبيك، فحظِّي منك مردودٌ عليهم، موفَّرٌ لهم غير مشاحٍّ فيه، ولا منافَسِ عليه، وأما ما ذكرتَ من بذْلِك لي من بيت المال قبلي، وبما نطق به لساني، وترنَّمتْ به شفتاي، وبلغه مناى، فلعمري لقد أصبح حظي فيه - والحمدُ لله - أوفرَ من حظِّكَ، وسهْمي فيه أجزلَ من سهمِكَ، وأمري فيه أجوزَ من أمركَ، وبعدُ:
فلو أنَّ نفسي طاوعتني لأصبَحتْ ... لها حفَدٌ مما يُعَدَّ كثيرُ
ولكنها نفسٌ عليَّ كريمةٌ ... عَيوفٌ لأصهارِ اللئامِ قذورُ
في أبياتٍ أُخر قال معاوية لمروان: منْ تَرى لأهل العراق؟ قال: من لا يَفْحجُ الحلوبَ حتى تدنوَ الدِّرَّة، ولايدني العلبة َ حتى تمسَحَ الضرَّةَ. وقال مروان لابنه: آثر الحق، وحصِّنْ مملكتَكَ بالعدل، فإنهُ سورها المنيع الذي لا يُغْرِقُهُ ماءٌ، ولا تحرقُهُ نارٌ، ولا يهدِمُهُ منجنيق. وذكر أبو هريرة معاوية في مجلس فيه مروان فاغتابه، ثم خاف أن يبلُغَ معاوية ذلك، فقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " المجالسُ بالأمانة " وسأل مروان أن يكتم عليه. فقال مروانُ: والله. لما ركبت مني في ظنِّك بي أنيِّ أنقُلُ حديثكَ أعظَمُ ممَّا ركبتَ من معاوية.

عبد الملك بن مروان

خطب فقال: أيُّها الناس، اعملوا لله رغبةً أو رهبةً، فإنكم بناتُ نِعمتهِ، وحصيدُ نقمته، ولا تَغرسُ لكم الآمال إلا ما تجتنيه الآجال. وأقِلُّوا الرغْبةَ فيما يورِثُ العطبَ، فكلُّ ما تزرَعُهُ العاجلة تقلعه الآجلةُ. واحذروا الجديدين، فهما يكراَّن عليكم باقتسام النفوسِ، وهدمِ المأسوس. كفانا الله وإياَّكم سطوة القدر، وأعاننا بطاعته عن الحذر من شرِّ الزمن، ومعضلات الفتَن. بصق عبد الملك، فقصر، فوقع بصاقه على البساط، فقام رجل فمسحهُ بثوبه، فقال عبدُ الملك: أربعة لا يُستحيى من خدمتهم: السلطان والولد، والضَّيف، والدابة وأمر للرجلِ بِصِلة. استأذن رجل عليه، فأذن له، فوقف بين يديه ووعظه، فقال عبد الملك لرجلٍ: قل للحاجب، إذا جاء هذا فلا تمنعه، وإنما أراد أن يعرفَهُ الحاجبُ فلا يأذنَ له. وقال: إني لأعرف عزّة الرجل من ذلته بجلسته. وقال له ابنه الوليد: ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودَّتِها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع. ودخل الشعبي عليه، فخطَّأه في مجلس واحد في ثلاث، سَمِع الشعبي منه حديثاً، فقال: أكتبنيه. فقال: نحن معاشر الخلفاء لا نُكْتِبُ أحداً شيئاً. وذكر رجلاً فكنَّاه فقال: نحن معاشر الخلفاء لا يكنى الرجال في مجالسنا، ودخل إليه الأخطل، فدعا له بكرسي. فقال: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: الخلفاء لا تُسْأَل، فأخجَلهُ في أول مقام. وقال لأخيه عبد العزيز حين وجَّههُ إلى مصر: تفَقَّد كاتبك وحاجبك وجليسك، فإن الغائب يخبره عنك كاتبك، والمتوسِّمُ يعرِفك بحاجبك والخارج من عندك يعرفك بجليسك. وقال: أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوة. وخاض جلساؤه يوماً في مقتل عثمان، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، في أي سنك كنت يومئذٍ؟ قال: كنت دون المحتَلَم. فقال: فما بلغ من حزنك عليه؟ قال: شغلني الغضبُ له عن الحزن عليه. وقال: الهدية السحر الظاهر. وقال لمعلم ولده: روِّ بي الشعر يعرفوا به مكارم الأخلاق، ولا تروِّهم شعرَ هذيل فتزَّين لهم الفرار، ولا شعر أُححية بن الجلاحَ فتحسِّن لهم البخل، وأطعمهم اللحمَ تشتد قلوبهم، وجُزَّ أشعارهم تغلُظ رقابهم. وقال: الفرقُ بين عمرَ وعثمانَ أنَّ عمر ساء ظنُّه فأحكم أمره، وعثمانَ حسن ظنه فأهمل أمره.
ودخل عبدُ الملك على معاوية ومعه بنوه، فلما جلسوا على الكراسي، وأخذوا مجالسهم اغتاظ معاويةُ، ثم قال: كأنك أردت مكاثرتي ببنيك يا بن مروان. وما مثَلي ومثلُكَ، إلا كما قال الشاعر:
يُفاخِرُني بِكَثْرَتِها قريظٌ ... وقبْلي والد الحَجَلِ الصقور
الأبيات.
فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، إنما هؤلاء ولدك ويَدُكَ وعضُدُك، وقد علمتُ إنما خفْتُ عليهم العينَ، وليسو عائدين. كتب عبد الملك إلى الحجاج: إنك قِدْحُ ابن مقبل، يريد قوله:
خروجَ مِنَ الغُمَّى، إذا صُكَّ صَكةً ... بدا والعيونَ المُسْتَكِفَّة تلمحُ
وكتب إليه مرة: أما بعد، فإنك سالمٌ والسلامُ. يريدُ قوله:
يُديرونني عن سالمٍ وأُديرَهم ... وجِلْدَةُ بين العينِ والأنفِ سالمُ
وقال عبد الملك لعبد الله بن مسعدة الفزاري: أتدري أي النساء أفضل؟ قال: اللَّواتي يقول أهل الرجل قد سحرتهُ. وقيل له عَجِلَ عليكَ الشيبُ يا أمير المؤمنين. قال: وكيف لا يعجل عليَّ، وأنا أعرضُ عقلي على الناسِ كل جمعة مرة أو مرتين. يعني خُطْبةُ الجمعة وبعض ما يعرض من الأمور. وخطب مرةً فقال: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعفِ - يعني:عثمان - ولا أنا بالخليفة المداهِنِ - يعني: معاوية - و لا أنا بالخليفة المأْبون يعني يزيد. وقال: لو ألقيتُ الخيزُرانةَ من يدي لذهب شطرُ كلامي. وقال لمعلِّم ولدِه: علِّمهم العومَ، وخُذْهم بقلَّةِ النوم. وقال عبد الملك: لقد كنت أمشي في الزرع فأتقي الجندب أن أقتله، وإنَّ الحجاج ليكتب إليّ في قتل فئامٍ من الناس فما أحفل بذلك.
ومن كلامه: لا تُلْحِفوا إذا سألتم، ولا تبخَلوا إذا سُئِلْتُم. ونظر إلى عُمَرَ بن عبد العزيز وهو غلام، فقال: إنِّي لأرى غلاماً أوشكت همَّتَهُ أن ترفعهُ عن الدنيا. وكان عبد الملك بخيلاً، فقال يوماً لكُثَيِّر: أي الشعر أفضل؟ فقال: كُثير يُعَرِّضُ ببخْلِهِ: أفضله قول المقنَّع الكنْدي:

إنِّي أُحَرِّضُ أهلَ البخل كلُّهُم ... لو كان ينفعُ أهل البخلِ تحريضي
وهي أبيات، فقال عبد الملك - وعرف ما أراد - الله أصدقُ من المقنَّع إذ يقول: " والذينَ إذا أنفقوا لَم يُسرِفوا ولم يَقْتروا وكان بين ذلك قَواما " . ولما سقطت ثنايا عبد الملك في الطست قال: والله لولا الخطبةُ، والنساء ما حفلتُ بها. وذُكر عنده عمرُ فقال: قَلِّلوا من ذِكره، فإنه طعنٌ على الأئمةِ، حسرةٌ على الأمةِ. وقال: اطلبوا معيشةً لا يقدِرُ سلطانٌ جائرٌ على غصبها. فقيل: وما هو؟ قال: الأدب. وكتب إلى الحجاج:جنِّبني دماء آل أبي طالب، فإني رأيتُ بني حربٍ لما قتلوا حُسيناً نزع الله الملك منهم. دخل إليه أعرابي فبرك بين يديه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن الناقة إذا منعت الحليب قَوَّمَتْها العصا، فقال عبد الملك: إذاً تكفئ الإناء، ونكسرُ أنف الحالب. وقال لزُفر بن الحارث: ما ظنُّك بي؟ قال:ظنِّي بك أنك تقتلني، فقال، قد أكذب الله ظنك، وقد عفوتُ عنك. ونازعه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأربى عليه، فقيل له: لو شكوتَه إلى عمه لانتقم لك منه، فقال: مثلي لا يشكو، ولا أعدُّ - أنا - انتقام غيري لي انتقاماً، فلما استخلف قيل له في ذلك، فقال: حِقدُ الُسُّلْطانِ عجز. وقالت له حُبَي المدينية: أقتلتَ عمراً؟ فقال: قتلته وهو أعزُّ عليَّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شَوْلٍ.
وكتب إلى الحجاج ولا توَلينَّ الأحكام بين الناسِ جاهلاً بالأحكام، ولا حديداً طائشاً عند الخصامِ، ولا طمِعاً هلعاً يقرُّبُ أهل الغنى ويبُشُّ بأهل السعة، فيكسر بذلك أفئدة ذوي الحاجة، ويقطع ألسنتهم عن الإدلاء بالحجة، والإبلاغ في الصفة، واعلم أن الجاهل لا يعلم، والحديد لا يفهم، والطائشَ القلقَ لا يعقِل، والطمع الشره لا ينفَعُ عند الحجة، ولا تغني قِبَلَه البيِّنةُ. والسلام. قالوا: أشرفَ يوماً على أصحابه، وهم يذكرون سيرةَ عمر - رضي الله عنه - فغاظه ذلك، فقال: إيهاً عن ذِكْرِ عمر، فإنه إزراءٌ بالوُلاة مفسدة للرعية. وكان إذا أراد أن يولي رجلاً عمل البريدِ سأل عن صدقه ونزاهته وأناته، ويقول: كذبه شكِّك في صدقه، وشرهه يدعوه في الحق إلى كتمانه، وعجلته تهجم بمن فوقه على ما يُؤثْمهُ ويُندِمُه. وقيل له: ما المروءة؟ قال: موالاة الأكفاء، ومداجاةُ الأعداء.
قال له رجل: إني أريد أن أُسرَّ إليك شيئاً، فقال عبدُ الملك لأصحابه: إذا شئتم. فنهضوا، فأرادَ الرجل الكلامَ، فقال له عبدُ الملك: قفْ، لا تمدحني، فإني أعلمُ بنفسي منكَ، ولا تكذبني، فإنه لا رأيَ للكذوب ولا تغتَبْ عندي أحداً. فقال: أفتأْذَنُ يا أمير المؤمنين في الانصراف؟ قال: إذا شئتَ. وقال له رجلٌ من أهلِ الكتابةِ كان موصوفاً بقراءة الكتب وهو بالمدينة: إن بشَّرتُك بشارةً تسرُّك ما تجعلُ لي؟ قال: وما مقدارها في السرور حتى نعلم مقدارها من الجعل؟ قال: أن تملِكَ الأرض. قال: ما لي من مال، ولكن أرأيتَ إن تكلَّفتُ لك جُعْلاً أتأتيني بذلك قبل وقته؟ قال: لا، قال: فإن حرمْتُكَ أتؤخِّرُهُ عن وقته؟ قال: لا. قال: حسبُكَ ما سمعتْ. وكتب إلى الحجاج: إني قد استعملتُك على العراقَيْن صدمة، فاخرج إليهما كميش الإزار شديد العذار منطوي الخصيلة قليل الثميلة، غرار النوم، طويل اليوم. فاضغط الكوفة ضغطة تحبق منها البصرة، وارم بنفسك الغرض الأقصى، فإني قد رميته بك، وأرد ما أردته منك. والسلام. ولما ولي عبد الملك صعد المنبر، فقال بعد الحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن الله اختصنا بالكرامة، وانتجبنا للولاية وآثرنا بالخلافة، وأنا عبد من عبيد الله، وخازن من خزان الله على مقاليد الأرض، فإذا شاء لعبدٍ برزقٍ أنرني فأعطيته، وإذا حرم عبداً أجرى ذلك على يدي، فسلوا الله قضاء حوائجكم، ونجاح طلباتكم، وإليه يكون معادكم، ولا يمنعن رجلاً سألني اليومَ فحرمته أن يسألني غداً، فإنما الأمورُ إلى الله عزَّ وجلَّ وبيده. ولمَّا أتاه خلعُ ابن الأشعث صعد المنبر فقال:
فيومٌ علينا، واليومٌ لنا ... ويومٌ نُساءُ، ويومٌ نسَرُّ

إن أهل العراق استعجلوا قدري قبل انقضاء أجلي، اللهم لا تسلِّط علينا من هوَ شرُّ منا، ولا تسلطنا على من هو خيرٌ منا. اللهم صب سيف أهل الشام على أهل العراق حتى يبلغوا رضاك، فلا تجاوزه إلى سخطك. فقام عدي بن أرطأة من ناحية المسجد، فقال: إنا والله لا نقول كما قال قوم موسى: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكن نقاتل معك، ونجاهد المنافقين، فكان أول يوم عرف فيه عدي. وكان عبد الملك يقول: اللحن هجنة على الشريف، والعجب آفة الرأي. وقال اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه. وقال على المنبر:لم تنصفونا يا معشر الرعية. تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولم تسيروا في أنفسكم ولا فينا بسيرة أصحاب أبي بكر وعمر، نسأل الله أن يعين كلاًّ على كلٍّ. قال عمرو بن عبيد: كتب عبد الملك وصية بيده، وأمر الناس بتدبر ما فيها وهي: إن الله جعل لعباده عقولاً عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم على طاعته، فالناس بين محسنٍ بنعمة الله عليه، ومسيء بخذلان الله إياه، ولله النعمة على المحسن والحجة على المسيء، فما أولى بمن تمت عليه النعمة في نفسه، ورأى العبرة في غيره، بأن يضع الدنيا حيث وضعها الله، فيعطي ما عليه منها ولا يكترث بما ليس له فيها، فإن الدنيا دار فناءٍ ولا سبيل إلى بقائها. ولابد من لقاء الله، فأحذِّركم الله الذي حذركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخرته العجزة قبل أن تصيروا إلى الدار التي صاروا إليها، فلا تقدرون فيها على توبة. وليست لكم منها أوبة، وأنا استخلف الله عليكم، وأستخلفه منكم. وأذن يوماً لخاصته، فأخذوا مجالسهم، وأقبل رجلٌ منهم على عيب مصعب بعد قتله، فنظر إليه عبد الملك نظر كراهية، لما قال، ثم قال: أمسك. أما علمت أن من صغر مقتولاً فقد أزرى بقاتله. ولما قتل عمرو بن سعيد أذن للناس أذناً عاماً، فدخلوا عليه - وجثة عمرو في ناحية البيت - فلما أخذوا مجالسهم تكلم عبد الملك فقال: إرموا بأبصاركم نحو مصارع أهل المعصية، واجعلوا سلفهم لمن غبر منكم غظة، ولا تكونوا أغفالاً من حسن الاعتبار، فتنزل بكم جائحة السطوة، وتجوس خلالكم بوادر النقمة، وتطأ رقابكم بثقلها المعصية، فتجعلكم همداً، رفاتاً، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتاً. وإياي من قول قائلٍ، وسفه جاهل، فإن ما بيني وبينكم أن أسمع النعرة، فأصمم تصميم الحسام المطرور، وأصول صيال الحنق الموتور، إنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السيوف، وأسنة الرماح، فتاب تائب، أو هلك خائب، والتوب مقبول، والإحسان مبذول لمن أبصر حظه، وعرف رشده. فانظروا لأنفسكم، وأقبلوا على حظوظكم، وليكن أهل الطاعة منكم يداً على ذوي الجهل من سفهائكم، واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغد عيشها، ونفيس زينتها، فإنكم من ذاك بين قضيتين: عاجل الخفض والدعة، وآجل الجزاء والمثوبة. عصمكم الله من الشيطان، وفتنته ونزغه، وأيدكم بحسن معونته وحفظه. انهضوا - رحمكم الله - لقبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم، ولا ممنوعة منكم، ولا مكدرة عليكم إن شاء الله. قال: فخرج القوم بداراً كلهم يخاف أن تكون السطوة به. سمع عبد الملك شعر عمر بن أبي ربيعة، فقال: بئس الجار الغيور أنت، وكان يقول: حقد السلطان عجز، والأخذ بالقدرة لؤم، والعفو أقرب للتقوى، وأتم للنعمة.

الوليد بن عبد الملك

جاء إليه رجل فقال: عن فلاناً نال منك. قال: أتريد أن تقتص أوتارك من الناس بي؟. وهرب من الطاعون، فقال له رجلٌ: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: " لن ينفعكم الفرار من الموت أو القتل وإذأً لا تمتعون إلا قليل " فقال الوليد: إنما نريد ذلك القليل. وقال له رجل: عن فلاناً شتمك، فأكب، ثم قال: أراه شتمك. وكان الوليد لحاناً فدخل عليه يوماً رجل من العرب، فقال له الوليد: ما شأنك؟ قال: أود في أنفي واعوجاج. فقال له رجل من أصحابه: إن أمير المؤمنين يقول لك: ما شأنك؟ فقال: كذا وكذا: ودخل إليه آخر فتظلم من ختن له. فقال الوليد: من ختنك؟ فقال: معذر في الحي يا أمير المؤمنين. قال عطاء: قلت للوليد: قال عمرو بن الخطاب: وددت أني سلمت من الخلافة كفافاً لا علي ولا لي. قال: كذبت، الخليفة يقول هذا؟ قلت: أو كذبت؟ قال: فأفلت منه بجريعة الذقن. وقال يوماً: والله لأشفعن للحجاج بن يوسف. وذكر يوماً علياً - رضي الله عنه - على المنبر، فقال: لص بن لص. قال بعضهم: ما أدرى أي أمريه أعجب، لحنه فيما لا يلحن فيه، أو نسبته علياً - رضي الله عنه - إلى اللصوصية، ومر الوليد بمعلم صبيان، فرأى جارية، فقال: ويلك ما هذه الجارية؟ قال: أعلمها القرآن. قال: فليكن الذي يعلمها أصغر منها. ولما استعمل يزيد بن أبي مسلم بعد الحجاج قال: أنا كمن سقط منه درهم فأصاب ديناراً. وسمع يقول على المنبر: عن حدثتكم وكذبتكم فلا طاعة لى عليكم، وإن وعدتكم فأخلفتكم فلا طاعة لي عليكم. قال الجاحظ: فيقول: مثل هذا الكلام ثم يقول لأبيه: يا أمير المؤمنين، قتل أبي فديك. وقال مرة: يا غلام، رد الفرسان الصادان عن الميدان. وكان عبد الملك يقول أضر بالوليد حبنا له، ولم نوجهه إلى البادية، وصلى يوماً فقرأ: " ياليتها كانت القاضية " ، فقال عمر بن عبد العزيز:عليك. وروي عن أبي إسحاق بن قبيصة قال: كانت كتب الوليد تأتينا ملحونة وكذلك كتب محمد أخيه. قال: فقلت لمولى لهم: ما بال كتبكم تأتينا ملحونة، وأنتم أهل الخلافة؟ فأخبره بقولي، فإذا كتاب منه، قد ورد علي: أما بعد، فقد أخبرني فلان بالذي قلت، وما أحسبك تشك أن قريشاً أفصح من الأشعريين. والسلام. ودخل على الوليد شيخان، فقال أحدهما: نجدك تملك عشرين سنة، فقال الآخر:كذبت، بل نجده يملك ستين سنة. قال، فقال الوليد: ما الذي قال هذا لاثٍ بصغري ولا الذي قال هذا يغر مثلي، والله لأجمعن المال جمع من يعيش أبداً، ولأفرقنه تفريق من يموت غداً. وخطب فقال: إن أمير المؤمنين عبد الملك كان يقول: الحجاج جلدة ما بين عيني، ألا وإنه جلدة وجهي كله. ولما مات عبد الملك صعد الوليد المنبر، فجمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لم أر مثلها مصيبة ولم أر مثله ثواباً: موت أمير المؤمنين، والخلافة، فإنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة، والحمد لله رب العالمين على النعمة انهضوا فبايعوا على بركة الله. مات لعبد الملك ابن، فجاء الوليد فعزاه، فقال: يا بني، مصيبتي فيك أعظم من مصيبتي بأخيك، متى رأيت ابناً عزى أباه؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمي أمرتني بذلك. قال: هو من مشورة النساء. وروي أن الوليد قام على المنبر بعد موت عبد الملك، فقال: يالها من مصيبة ما أفجعها وأعظمها، وأشدها وأوجعها وأغمها موت أمير المؤمنين ويالها نعمة ما أعظم المنة من الله تعالى علي فيها، وأوجب للشكر له بها، خلافته التي سربلتها، فكان أول من عزى نفسه وهنأها بالخلافة. فأقبل غيلان بن مسلمة الثقفي، فسلم عليه بالخلافة ثم قال: أصبحت يا أمير المؤمنين ورثت خير الآباء، وسميت خير الأسماء، وأعطيت أفضل الأشياء فعزم الله لك على الرزية بالصبر، وأعطاك في ذلك نوافل الأجر، وأعانك في حسن ثوابه على الشكر، ثم قضى لعبد الملك بخير القضية، وأنزله المنازل الرضية. فأعجبه كلامه وقال: أثقفي أنت؟ قال: نعم وأحد بني معتب. فسأله: كم هو من العطاء؟ فقال: في مائة دينار. فألحقه بشرف العطاء، فكان أمل من ألحق بشرف العطاء. فقال الوليد: لا تذكروا عمر بن الخطاب على أبوابنا ولا عندنا، فإن ذكره طعن علينا.

سليمان بن عبد الملك

تكلم وفد بين يدي سليمان فأخطئوا، وتكلم بعدهم رجل فأبلغ. فقال سليمان: كأن كلامكم بعد كلامه سحابة لبدت عجاجه. وقال: عجبت لهذه الأعاجم، ملكت طول الدهر، فلمم تحتج إلى العرب، وملكت العرب فلم تستغن عنهم. وتغدى سليمان بن عبد الملك عند يزيد بن المهلب، فقيل له: صف لنا أحسن ما كان في منزله. قال: رأيت غلمانه يخدمونه بالإشارة دون القول. وقال: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا وامتطينا الفاره العذراء، فلم يبق من لذتي إلا صديق أطرح بيني وبينه مؤونة التحفظ. سمع سليمان رجلاً من الأعراب في سنة جدبة يقول:
رب العباد مالنا ومالكا؟ ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث، لا أبا لكا
فقال سليمان أشهد أن لا أبا له، ولا ولد له ولا صاحب. قال المبرد: فأخرجه أحسن مخرج. قال سليمان ليزيد بن المهلب: ثلاث أنكرهن منك، خفك أبيض مثل ثوبك، ولا يكون خف الرجل مثل ثوبه، وطيبك ظاهر، وطيب الرجل يشم ولا يرى أثره، وتكثر من مس لحيتك. قال: فغير خفه وطيبه. وقال: ما رأيت عاقلاً بهم أمرٍ إلا كان معوله على لحيته. وخطب فقال: الحمد لله الذي ما شاء صنع، ومن شاء رفع، ومن شاء وضع، ومن شاء أعطى ومن شاء منع. إن الدنيا دار غرور، ومنزل باطل وزينة، تقلب بأهلها، تضحك باكياً، وتبكي ضاحكاً، وتخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، تفقر مثريها، وتقرب مقصيها، ميالة لاعبة بأهلها. عباد الله، اتخذوا كتاب الله إماماً، وارضوا به حكماً، واجعلوه لكم قائداً، فإنه ناسخ لما كان قبله، ولن ينسخه كتاب بعده. اعلموا عباد الله: أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وضغائنه، كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس أدبار الليل إذا عسعس. وكان سليمان يقول: المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث يفخم اللحن كما يفخم نافع بن جبير الإعراب. وجمع بين الزهري وقتادة، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. وقيل: كان أول كلام بارع سمع من سليمان قوله: الكلام فيما يعنيك خيرٌ من السكوت عما يضرك، والسكوت عما يغنيك خير من الكلام عما يضرك. وقال: قد ركبنا الفاره وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا، الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء بأحوج مني إلى جليس يضع عني مئونة التحفظ. وروي عن قحذمٍ قال: فعل سليمان في غداةٍ ما لم يفعل عمر بن عبد العزيز، أطلق ثمانين ألف أسير وكتب أن يبتتوا أي: يزودوا، والبتات: الزاد.

يزيد بن عبد الملك
كتب إليه عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس يستأذنه في غلامٍ يهديه إليه، فكتب إليه يزيد: إن كنت لا بد فاعلاً فليكن جميلاً ظريفاً لبيباً أديباً كاتباً، فقيهاً حلواً، عاقلاً أميناً سرياً، يقول فيحسن، ويحضر فيزين، ويغيب فيؤمن. فكتب إليه: قد التمست صفة أمير المؤمنين، فلم أجدها إلا في القاسم بن محمد، وقد أبى أهله بيعه.
هشام بن عبد الملك
ذكر خالد بن صفوان خالد بن عبد الله القسري عند هشام، فقال هشام: إن خالداً أدلَّ فأمل، وأوجف فأعجف، ولم يترك لأوبة مرجعاً، ولا للصلح موضعاً، وإني لكما قال الشاعر:
إذا انصرفت نفسي عن الشيئ لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
نهض هشام عن مجلسه مرة، فسقط رداؤه عن منكبه، فتناوله بعض جلسائه، ليرده إلى موضعه، فجذبه هشام من يده، وقال: مهلاً إنا لانتخذ جلساؤنا خولاً. عدت لهشام مع دهائه سقطتان إحداهما: أن الحادي حدا به، فقال:
إن عليك أيها البختي ... أكرم من تمشي به المطي
فقال هشام: صدق. والأخرى: أنه ذكر عنده سليمان بن عبد الملك، فقال: والله لأشكونه يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك. وقال له مسلمة أخوه: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيل. وأنت جبان؟ قالك لأني حليم وأني عفيف. وسمع هشام قول الكميت:
مبدياً صفحتي على الموقف المع ... لم، بالله قوتي واعتصامي

فقال: شري الترابي. افتتح هشام الصلاة فأرتج عليه فلم يفتح عليه أحد، فقال: " أليس منكم رجل رشيد " . خطب هشام، حين ولي، أول ما خطب، فقال: الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام. فأخبر بذلك محمد بن عمرو، فقال: لكن عمر بن عبد العزيز كان إذا خطب بكى، ثم قال: " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به " . وكان سعيد بن هشام زانياً يتعرض للنساء، فأخبر بذلك أبوه، فقال: أيزني القرشي؟ إنما مثلك يأخذ مال هذا، ويعطيه هذا، ويقتل هذا. ولما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج، فإن الخلفاء لا يظعنون، ولم نر خليفة ظعن، فقال: أنتم تريدون أن تجربوا بي، ونزل الرصافة وهي برية. وقال: إنا نستعمل الرجل، فنظن به خيراً، فنكشفه عن خير، فما رأينا خيره دون امتحان، ولا تبينا دون تجربة. وذكر أنه وجد لهشام اثنا عشر ألف قميص قد أثر بها كلها. وحج هشام، فلقيته قريش، فنظر إليها الأبرش الكلبي فعجب لجمالها ومنطقها، فقال هشام: إنه والله رب فحل كريم خطر على هجمانها.

الوليد بن يزيد

أتي هشام بعود، فقال للوليد: ما هذا؟ قال: خشب يشقق ثم يرقق، ثم يلصق ثم تعلق عليه أوتار فينطق فتضرب الكرام رؤوسها بالحيطان سروراً به. وما في المجلس أحدق إلا وهو يعلم منه ما أعلمه، وأنت أولهم يا أمير المؤمنين. وقد قيل: إن هذا الكلام هو للوليد بن مسعدة الفزاري مع عبد الله بن مروان. وحكى بعضهم قال: رأيت هشام بن عبد الملك يوم توفي مسلمة بن عبد الملك إذا طلع الوليد وهو نشوان يجر مطرف خز، فوقف على هشام، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبي من بقي لحوق بمن مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختل الثغر فوهى، وعلى إثر من سلف يمضي من خلف، فتزودوا، فإن خير الزاد التقوى. قال: فأعرض هشام ولم يحر جواباً ووجم الناس. وقال: يا بني أمية، إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر. فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزناء وإني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة، وأشهى إلى نفسي من الماء إلى ذي الغلة. ولكن الحق أحق أن يقال. وكان الوليد ماجناً خليعاً منهمكاً في اللذات، مشغوفاً بالخمر، والغناء، مطعوناً في دينه. ولما نعي له هشام قال: والله لأعقبن هذة النعمة بشكرة قبل الظهر. وتكلم بعض جلسائه، ومغنية تغنيه، فكره ذلك وضجر، وقال لبعض الحاضرين: قم فنه، فقام وفاكه والناس حضور والوليد يضحك. وذكرت جارية له أنه واقعها وهو سكران، فلما تنحى عنها أذن المؤذن بالصلاة، فحلف ألا يصلي بالناس غيرها، فخرجت متلثمة فصلت بالناس. وقيل: أنه وثب على ابنة له فافترعها، وإنه كان يلوط بأخٍ له كان مليحاً. وقال الوليد البندار: حججت مع الوليد بن يزيد، وهو ولي عهدٍ وكان هشام أراد خلعه، فأخرجه على الموسم، وعلم أنه لا يترك خلاعته ومجونه، فيفتضح عند أهل الحرمين، فيكون ذلك عذراً إذا أراد خلعه، فقلت له لما أراد أن يخطب: أيها الأمير، إن اليوم يوم يشهده الناس من سائر الآفاق، فأريد أن تشرفني بئ. قال: ما هو؟ قلت: إذا علوت المنبر دعوت بي، فيتحدث الناس بذلك، وبأنك أسررت إلي شيئاً. فقال: أفعل. فلما جلس على المنبر قال: الوليد البندار. فقمت، فقال: أدن مني. فدنوت، فأخذ أذني ثم قال لي: الوليد البندار ولد زنى، والوليد بن يزيد ولد زنى. وكل من ترى حولي أولاد زنى. أفهمت؟ قلت: نعم قال: انزل الآن، فنزلت. وقيل: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه ويثب، فكأنما خلق على ظهر فرسه، فكان الوليد بن يزيد يفعل مثل ذلك، وفعله مرة وهو ولي عهده ثم أقبل على مسلمة بن هشام: فقال له: أبوك يحسن مثل هذا؟ فال مسلمة: لأبي مائة عبد يحسنون هذا. فقال الناس: لم ينصفه في الجواب. وقال عمرو بن عتبة بن أبي سفيان للوليد: إنك تستنطقني بالأنس بك، وأكفت من ذلك بالهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، فأسكت مطيعاً أو أقول مشفقاً؟ قال: كل ذلك مقبول منك، ولله فينا علمٌ نحن صائرون إليه، ونعود فنقول: قال: فقتل بعد أيام. قال العلاء بن المغيرة البندار: قلت للوليد: إني أريد العراق أفلك حاجة يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، بربط. من صنعة زربي. قال حماد الراوية: دخلت على الوليد بن يزيد وإذا عنده رجلان، فقالا: قد نظرنا فيما أمر به امير المؤمنين، فوجدناه يعيش مؤيداً منصوراً، يزجي له الخراج، وتخلص له قلوب الرعية ثلاثين سنة. قال: فقلت في نفسي: والله لأخدعنه كما خدعاه. فقلت: يا أمير المؤمنين، نحن أعلم بالرواية والآثار، وقد نظرنا في هذا الأمر من قبلهما، فوجدناك تعيش على ما ذكر أربعين سنة. قال: فنكت في الأرض ثم قال: لا ما قال هذان يغرني، ولا ما قلت يبطرني، والله لأجبين المال من حله جباية من يعيش الأبد، ولأصرفنه في حقه صرف من يموت في غد. وقد روي مثل هذا الكلام عن الوليد بن عبد الملك.

يزيد بن الوليد بن عبد الملك

لما قتل الوليد بن يزيد قال يزيد خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، والله ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولا حرصاً على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضباً لله ولدينه، وداعياً إلى الله، وإلى سنة نبيه، لما هدمت معالم الهدى، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد، المستحل لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان يؤمن بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفئي في الحسب. فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمري، وسألته ألا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، حتى أراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد بحول الله وقوته، لا بحولي وقوتي. أيها الناس، إن لكم علي ألا أضع حجراً على حجرٍ، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهراً، ولا أكنز كالاً، ولا أعطيه زوجةٌ ولا ولداً، ولا أنقل مالاً من بلدٍ إلى بلدٍ، حتى أسد فقر ذلك البلد وخصاصة أهله، بما يغنيهم، فإن فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه منه، ولا أجمركم في بعوثكم فأفتنكم، وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به من بلادهم، وأقطع نسلهم، ولكن عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم.
فإن أنا وفيت لكم فعليكم السمع والطاعة، وحسن المؤازرة والمكانفة، وإن أنا لم أوف لكم فلكم أن تخلعوني إلا تستتيبوني، فإن تبت قبلتم مني. وإن عرفتم أحداً يقوم مقامي ممن يعرف بالصلاح، يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم، فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من بايعه، ودخل في طاعته.
أيها الناس، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وخطب فقال: الأمر أمر الله، والطاعة طاعة الله، فأطيعوني بطاعة الله ما أطعت الله يغفر الله لي ولكم.
وكتب إلى مروان حين تربص ببيعته: أما بعد، فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر الأخرى، فاعتمد أيتهما شئت، والسلام. وكان يزيد يتأله، ويظهر النسك، فكان أبوه الوليد إذا ذكر بنيه قال: عبد العزيز سيدنا، والعباس فارسنا، ويزيد ناسكنا، وروحٌ عالمنا، وبشرٌ فتانا، وعمر فحلنا، وكان له تسعون ابناً.

مسلمة
قال:عجبت لمن أحفى شعره ثم أعفاه، وقصر شاربه ثم أطاله، أو كان صاحب سراري، فاتخذ المهيرات. وقال: لا أزال في فسحة من أمر الرجل حتى أصطنع عنده يداً، فإذا اصطنعتها لم يكن إلا ربها. ولما حضرته الوفاة أوصى بثلث ماله لأهل الأدب، وقال: صناعة مجفوٌّ أهلها. وكان إذا كثر عليه أصحاب الحوائج وخشي الضجر أمر أن يحضر ندماؤه من أهل الأدب، فيتذاكرون مكارم الناس وجميل طرائفهم ومروءاتهم فيطرب، ويهيج، ثم يقول: ائذنوا لأصحاب الحاجة، فلا يدخل أحد إلا قضى حاجته. وقال هشام: يا أبا سعيد، هل دخلك ذعر قط من حرب شهدتها أو لعدو؟ قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه علي حيلة، ولم يغشني فيها ذعر يسلبني رأيي. قال هشام: هذه البسالة. ودخل على معر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه، فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين؟ قال: بم أوصي؟ فوالله إن لي من مال. فقال: هذه مائة ألف، مر فيها بما أحبت. قال: أو تقبل؟ قال: نعم. قال: تردها على من أخذتها منه ظلماً. فبكى مسلمة ثم قال: يرحمك الله، لقد ألنت منا قلوباً قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً. واستبطأ عبد الملك ابنه مسلمة في مسيره إلى الروم، فكتب إليه:
لمن الظعائن سيرهن تزحف؟ ... سير السفين إذا تقاعس يجدف
فلما قرأ مسلمة الكتاب، كتب في جوابه:
ومستعجبٌ مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وسمع مسلمة رجلاً يتمثل بقول الشاعر، وقد دلي بعض بني مروان في قبره:
ما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
فقال مسلمة: لقد تكلمت بكلمة شيطانٍ، هلا قلت:
إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم

وقال رجل عند مسلمة: ما استرحنا من حائك كندة حتى أتانا هذا المزوني، قال مسلمة: تقول لرجل سار إليه قريعاً قريش، يعني نفسه والعباس بن الوليد. إن يزيد حاول عظيماً ومات كريماً. وكان مسلمة يقول: الروم أعلم، وفارس أعقل. وقال: ما حمدت نفسي على ظفرٍ ابتدأته بعجزٍ، ولا لمتها على مكروه ابتدأته بحزم.
وقال: مروءتان ظاهرتان: الرياش والفصاحة.

مروان بن محمد
دخل عبد الرحمن بن عطية التغلبي على مروان بن محمد، فاستأذنه في تقبيل يده فأعرض عنه، ثم قال له: قد عرف أمير المؤمنين موضعك في قومك، وفضلك في نفسك، وتقبيل اليد من المسلم ذلة، ومن الذمي خديعة، ولا خير لك في أن تنزل بين هاتين.
قالوا: كان يأخذ مروان بن محمد كل سنة من الخزانة قباءين، فإذا أخلقهما ردهما إلى الخزانة وأخذ جديدين.
وكان يقال: إن مروان بن محمد هو ابن إبراهيم بن الأشتر وإن أمه كانت أمة لإبراهيم فأصابها محمد بن مروان يوم قتل الأشتر فأخذها من نفله وهي حامل بمروان، فولدته على فراشه، ولذلك قال ابن عباس السفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة، وابن أمة النخع، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عبد المطلب.
مروان
كتب إلى بعض الخوارج: إني وإياك كالزجاجة والحجر، إن وقع عليها رضها، وإن وقعت عليه فضها.
قال الأصمعي: لما ولي مروان الخلافة أرسل إلى ابن رغبان - الذي نسب إليه بعد ذلك مسجد ابن رغبان - ليوليه؛ فرأى له سجادةً مثل ركبة البعير، فقال: يا هذا؛ إن كان ما بك من عبادةٍ فما يحل لنا أن نشغلك. وإن كان من رياءٍ فما يحل لنا أن نستعملك.
قال عبد الحميد: تعلمت البلاغة من مروان، أمرني أن أكتب في حاجة فكتبت على قدر الموسع، فقال لي: اكتب ما أقول لك: بسم الله الرحمن الرحيم أما آن للحرمة أن ترعى، وللدين أن يقضى، وللموافقة أن تتوخى ووقع إلى عاملٍ بالكوفة: حاب علية الناس في كلامك، وسو بينهم وبين السفلة في أحكامك.
قالوا: وإنما لقب بالحمار لأن أصحاب أبي مسلم لما خرجوا كانوا حمارةً، فكان الواحد إذا استعجل حماره يقول: هر مروان. هس، مروان، فلما ظفروا به استمر به اللقب.
ويعرف بالجعدي، لأنه نسب إلى رأي الجعد بن درهم وزيره، وكان زنديقاً، فكان مروان يعير بأنه على رأيه، ثم إن مروان قتله وصلبه، وبالجعد هذا يعير كل زنديق، قال دعبل:
قل لعبد الرقيب قل: ربي الل ... ه فإن قالها فليس بجعدي
قال عمر بن مروان: عرض أبي بظهر الكوفة ثمانين ألف عربي، ثم قال بعد أن وثق في نفسه بكثرة العدد والعدد: إذا انقضت المدة لم تغن العدة ولا العدة.
قال بعض القرشيين: وفد على مروان بن محمد - وقد تولى الخلافة - ونزل حران قال: فتوالت على بابه الوفود، فخرج إلينا آذنه، فقال: أمير المؤمنين يغسل ثيابه، فمن أراد أن يقيم فليقم، ومن أراد أن ينصرف فلينصرف. فجعل الناس يعجبون من ذلك، ولم يبرح أحد. قال: وخرج من عنده رجل برمح فنصبه على سقفه، وجعل يراعي الشمس، فلما مالت أذن، ولما أذن خرج علينا رجل أزرق أشقر، بخده أثر، فلما نظر إليه عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد قال: أهو هذا أعضه الله ببظر أمه؟ قال: وهو والله يسمعه، فأبده النظر ومر إلى الصلاة، فلما قضاها استدبر القبلة بظهره وأقبل علينا بوجهه، فقال لكاتبه: أمعك أسماء هؤلاء؟ قال: نعم، ودفع إليه قرطاساً، فوقع تحت اسم كل رجلٍ بعشرة آلاف درهم، ولا والله ما عاقبه على ما سمع منه. وكان يقال: لو ذهبت دولة بني مروان على يد غير مروان لقال الناس: لو كان مروان ما ذهبت.
كان أهل حمصٍ ينادون مروان في حصارهم: يا بن مصعب، فيقول: شريف كريم، وينادون: يا بن الأشتر، يا بن زربي، فيقول: خلطتم. وذلك أنه قيل في أمه: إنها كانت لمصعب، وقيل: بل كانت لخباز يقال له: زربي.
وناداه رجل من الخوارج، فقال: يا بن طنفسة. يريد: زربي.
الباب الثالث
كلام الخلفاء من بني هاشم
السفاح
رفع بعض السعاة إليه قصة بسعاية على بعض عماله، فوقع فيها: هذه نصيحة لم يرد بها ما عند الله، ونحن فلا نقبل قول من آثرنا على الله.
ومن كلامه: إن من أدنياء الناس ووضعائهم من عد البخل حزماً، والحلم ذلاً.

ومنه: إذا عظمت المقدرة قلت الشهوة، وقل تبرع إلا ومعه حق مضاع. ومنه:إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة، والصبر حسن إلا على ما أوتغ الدين، وأوهن السلطان. والأناة محمودةٌ إلا عند إمكان الفرصة. قالوا: كلم المنصور أبا العباس في محمد بن عبد الله بن حسن وأهله، فقال: يا أمير المؤمنين، آنسهم بالإحسان، فإن استوحشوا فالشر يصلح ما عجز عنه الخير، ولا تدع محمداً يمرح في أعنة العقوق. فقال: يا أبا جعفر؛ إنا كذلك. ومن شدد نفر، ومن لان تألف، والتغافل من سجايا الكرام، وأحسن ما قال أعشى وائل:
يغضي عن العوراء، لو ... لا الحلم غيرها انتصاره
وكان يقول: إن المقدرة تصغر الأمنية، لقد كنا نستكثر أموراً، فأصبحنا نستقلها لأخس من صحبنا، ثم نسجد شكراً. دخل أبو نخيلة الحماني على أبي العباس، وعنده إسحاق بن مسلم العقلي، فأنشده أرجوزة يمدحه فيها، ويذكر بني أمية، ويقول فيها: أين أبو الورد؟ وأين الكوثر؟ وأين مروان؟ وأين الأشقر؟ فقال إسحاق: في حر أم أبي نخيلة العاهرة؟ فقال أبو العباس: أتقول هذا لشاعرنا؟ قال: قد سمعته يقول لأعدائكم فيكم ما هو أعظم من هذا، فقال زياد بن عبيد الله الحارثي: يا أمير المؤمنين، خذ للرجل بحقه، فقال له أبو العباس: ما أغفلك يا خال أترى قيساً تسلم سيدها وشيخها حتى يحد؟ قال: فما يصنعون؟ قال: يجيئ لألف منهم فيشهدون أن أم أبي نخيلة كانت عاهرة كما قال إسحاق، فتجلب على الرجل بلاءً عظيماً. وخطب بعد قيامه بأيام بالكوفة، فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين. " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " . ما أعدكم شيئاً، ولا أوعدكم إلا وفيت بالوعد والإيعاد. والله لأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة، ولأغمدن سيفي إلا في إقامة الحد، أو بلوغ حق، ولأعطين حتى أرى العطية ضياعاً. إن أهل بيت اللعنة والشجرة الملعونة في القرآن كانوا لكم عذاباً، لا تدفعون معهم من حالة إلا إلى أشد منها، ولا يلي عليكم منهم والٍ إلا تمنيتم من كان قبله، وإن كان لا خير في جميعهم. منعوكم من الصلاة في أوقاتها، وطالبوكم بأدائها في غير ميقاتها، وأخذوا المدبر بالمقبل، والجار بالجار، وسلطوا شراركم على خياركم. فقد محق الله جورهم، وأزهق باطلهم، وأصلح بأهل نبيكم ما أفسدوا منكم. فما نؤخر لكم عطاءاً ولا نضيع لأحدٍ منكم حقاً، ولا نجمركم في بعثٍ، ولا نخاطر بكم في قتال، ولا نبذلكم دون أنفسنا، والله علي شهيد بالوفاء والاجتهاد، وعليكم بالسمع والطاعة. ووقع إلى كاتب جنده وقد شغبوا عليه بالأنبار: بلغ المفترين عني، أبرمتم بأعجاركم، أم عظمت نعمة الله عليكم في دينكم ودنياكم؟ فلا تكونوا عظة العقلاء، وزرية الجهلاء، فتحبط أعمالكم، وتخيب آمالكم، والعطاء غير مؤخر عن وقته إن شاء الله. ودخل عليه عبد الله بن حسن بن حسن، ومعه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف. وكان المجلس غاصاً ببني هاشم وغيرهم، فأشفق الناس من أن يعجل السفاح إليه، أو يعيا بجوابه، فيكون ذلك عاراً عليه. قال: فأقبل عليه غير مغضب ولا منزعج، فقال: إن جدك علياً كان خيراً مني وأعدل. ولي هذا الأمر، فأعطى جديك الحسن الحسن والحسين، وكانا خيراً منك شيئاً، وكان الواجب أن أعطيك مثله فإن كنت قد فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، فما رد عبد الله جواباً، وانصرف والناس يتعجبون من جزاب السفاح.

المنصور
ذكر يوماً ملوك بني مروان، فقال: كان عبد الملك جباراً لا يبالي ما صنع، وكان الوليد لحاناً مجنوناً، وكان سليمان همه بطنه وفرجه، وكان عمر أعور بين عميان، وكان هشام رجل القوم. لما اتصل به خروج محمد وإبراهيم - رضي الله عنهما - شن عليه درعه، وتقلد سيفه وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال:
مالي أكفكف عن سعدٍ وتشتمني ... ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا
جهلاً علينا، وجبناً عن عدو همو ... لبئست الخلتان: الجهل والجبن

أما والله لقد عجزوا عما قمنا به، فما عضوا المكافي، ولا شكروا المنعم. فماذا حاولوا؟ أأشرب رنقاً على غصص، وأبيت منهم على مضض؟ كلا والله أصل ذا رحم حاول قطيعتها، ولئن لم يرض بالعفو ليطلبن مالاً يوجد عندي، فليق ذو نفسٍ على نفسه، قبل أن تمضي عنه، ثم لا يبكى عليه، ولا تذهب ولا تذهب نفسٌ مسرة لما أتاه. وخطب بعد قتله أبا مسلم، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإنه من نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه خبئ هذا الغمد - وأومأ إلى سيفه - وإن عبد الرحمن بايعنا، وبايع لنا على أنه من نكث بنا فقد حل دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا فيه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحد عليه. وروي أنه قال: أيها الناس، لا تنفروا أطراف النعمة بقلة الشكر، فتحل بكم النقمة، ولا تسروا غش الأئمة، فإن أحداً لايسر منكم إلاظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لا نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه خبئ هذا الغمد. أهوى هشام بن عروة إلى يده ليقبلها، فقال له: يا أبا المنذر، إنا نكرمك عنها، ونكرمها عن غيرك. قيل: خلا المنصور مع يزيد بن أسيد، فقال: يا يزيد ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أن تقتله، وتتقرب إلى الله بدمه، فوالله لا يصفو ملكك، ولا تهنأ بعيشٍ ما بقي بك عدوك. قال يزيد: فنفر مني نفرة ظننت أنه سيأتي علي، ثم قال:قطع الله لسانك وأشمت بك عدوك، أتشير علي بقتل أنصح الناس لنا، وأثقلهم على عدونا؟ أما والله لولا حفظي ما سلف منك، وأني أعدها هفوة من رأيك لضربت عنقك، قم لا أقام الله رجليك قال يزيد: فقمت وقد أظلم بصري، وتمنيت أن تسيخ الأرض بي. فلما كان بعد قتله بدهر قال لي: يا يزيد، أتذكر يوم شاورتك في أمر العبد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وما رأيتني قط ادنى إلى الموت مني يومئذ قال: فوالله لكان ذلك رأيي وما لا أشك فيه، ولكني خشيت أن يظهر ذلك منك، فتفسد علي مكيدتي. قال الربيع: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة، والملوك أربعة، فالخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ما نال من عثمان، وما نيل منه أعظم، ولنعم الرجل كان عمر بن عبد العزيز. والملوك: معاوية، وعبد الملك، وهشام، وأنا، ولنعم رجل الحرب كان حمار الجزيرة من رجل لم يكن عليه طابع الخلافة. وقال: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف كان شكوراً، ومن شكر كان كريماً، ومن علم أنما صنع لنفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم في مودتهم، فلا تلتمس من غيرك شكر ما أسديته إلى نفسك. استأذن سوار قاضي البصرة على المنصور، فأذن له، فدخل وسلم، فقال المنصور: وعليك السلام. أدن أبا عبد الله، فقال: يا أمير المؤمنين، أأدنوا على ما مضى عليه الناس أم على ما أحدثوا؟ فقال: بل على ما مضى عليه الناس، فدنا فصافحه ثم جلس، فقال المنصور: يا أبا عبد الله، قد عزمت على أن أدعو أهل البصرة بسجلاتهم، وأشريتهم، فقال: يا أمير المؤمنين، نشدتك الله ألا تعرض لأهل البصرة. فقال: يا سوار، أبأهلالبصرة تهددني؟ والله لهممت أن أوجه إليهم من يأخذ بأفواه سككهم وطرقهم، ويضع السيف فيهم فلا يرفعه عنهم حتى يفنيهم، فقال: يا أمير المؤمنين، ذهبت إلى غير ما ذهبت إليه، إنما كرهت لك أن تتعرض لدعاء الأرملة واليتيم، والشيخ الكبير الفاني، والحدث الضعيف. فقال: يا أبا عبد الله، أنا للأرملة بعل، ولليتيم أب، وللشيخ أخ، وللحدث الضعيف عم، وإنما أريد أن أنظر في سجلاتهم وأشريتهم لأستخرج ما في أيدي الأغنياء، مما أخذوه بقوتهم وجاههم من حقوق الضعفاء والفقراء. فقال: وفقك الله للخير، وأرشدك لما يحب ويرضى. وقال للمهدي: أشبع العباس بن محمد، فإنك إن لم تشبعه أكلك. كتب إليه صاحب أرمينية: إن الجند شغبوا علي، وطلبوا أرزاقهم، وكسروا أقفال بيت المال، وانتهبوه، فأمر بعزله، ووقع: لوعدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا. ووقع في قصة رجل ذكر: أن أمير المؤمنين أمر بأرزاق له، وأن الفضل أبطأ بها: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " قال أبو عبيد الله: سمعت المنصور يقول للمهدي حين عقد له: يا بني، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتلف، والنصر بالتواضع، والرحمة من الله

بالرحمة للناس. أتي المنصور برأس بشير الرحال، وكان خرج مع محمد بن عبد الله - رضي الله عنه - فقال له: رحمك الله، لقد كنت أسمع لصدرك همهمة لا يسكنها إلا برد عدل، أو حر سنان. ولما احتضر قال: يا ربيع، بعنا الآخرة بنومة. قال الربيع: لقب أبو جعفر بأبي الدوانيق، لأنه لما أراد حفر الخندق بالكوفة قسط على كل رجل منهم دانق فضة، وأخذه، وصرفه في ذلك، وقيل غير هذا. وقال للمهدي: ليس العاقل من يتحرز من الأمر الذي يقع فيه، حتى يخرج منه، إنما العاقل من يتحرز من الأمر الذي يخشاه، حتى لا يقع فيه. وقال: عقوبة الحكماء التعريض، وعقوبة السفهاء التصريح. كان لسوار القاضي كاتبان: رزق أحدهما أربعون درهماً، والآخر عشرون درهماً، فكتب إلى المنصور يسأله أن يلحق صاحب العشرين بالأربعين، فأجاب بأن يحط من الأربعين عشرة ويزيدها صاحب العشرين حتى يعتدلا. قال السري بن عبد الله: إني لبمكة مع أبي جعفر المنصور والناس يذكرون معناً، وإراقته الدماء باليمن، فقلت: يا أمير المؤمنين غلامٌ من غلمان بني شيبان، ماله عندك يد تأصرك عليه، ولا رحم يعطفك عليه، قال: فبسر في وهي بسرةً تمنيت أن الأرض انشقت لي فدخلت فيها. قال: فمكثت أياماً ثم أتيته، فسألني عن عن تخلفي، فاعتذرت إليه، فقال لي: أتعرف رجلاً كان يصلي عن يمين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخبرته به، ونسبته إلى عثمان، فقال: ما فعل؟ قلت: قتل بقديد. قال: فآخر كان يصلي قريباً منه؟ قلت: نعم، ذاك ابن أخيه. قال: فما فعل؟ قلت: قتل يوم قديد. قال: فآخر كان يصلي في موضع كذا؟ قلت: نعم. ونسبته إلى الزبير. قال: فما فعل؟ قلت: قتل يوم قديد، فما زال يقترع المجالس يذكر فيها رجلاً قريعاً، ويسألني عنه، فأقول: قتل يوم قديد، فقال لي: لا أكثر الله في عشيرتك مثلك. عجزت عن ثأرك أن تطلب به، حتى إذا قام هذا الغلام الشيباني، فإذا بك تنفس عليه الرفعة. قيل: وكان معنٌ يبسط الأنطاع باليمن، ثم يدعو بأبناء اليمانية الذين حضروا قديداً، فيضرب أعناقهم. وكلما ندر رأسٌ عن رقبته قال: يا لثارات قديد. كان المنصور يقول: الملوك تحمل كل شيء إلا ثلاث خلالٍ: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. وقال: إذا مد عدوك يده إليك فاقطعها إن أمكنك، وإلا فقبلها. وخطب بمكة وقد أمل الناس عطاءه، فقال: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وخازنه على فيئه، أعمل فيه بمشيئته وأقسمه بإرادته، وقد جعلني الله عز وجل قفلاً عليه، إذا شاء أن يفتحني فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس في هذا اليوم الذي عرفكم من فضله ما أنزله في كتابه، فقال جل اسمه: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " ، أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم، وقسم أرزاقكم فيكم، إنه قريب مجيب. فقال ابن عياش المنتوف: أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه. خطب المنصور بالكوفة فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأراد أن يقول: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أذكرك من تذكر به. فقال المنصور: سمعاً سمعاً لمن فهم عن الله، وأعوذ بالله أن أذكر بالله وأنساه، وأن تأخذني العزة بالإثم: " قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين " . وأنت والله ما الله أردت بذلك، ولكن حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها وبقائلها ولو صمت لكان خيراً له، فاهتبلها إذا غفرتها، وإياكم وأخواتها، فإن الموعظة علينا نزلت، ومن عندنا انبثت، فردوا الأمر إلى أهله يصدروه كما أوردوه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ورجع إلى خطبته. كان يقول: الخلفاء أربعة: أبوبكر وعمر وعثمان وعلي على ما نال من عثمان، ومانيل منه أعطم، ولقد كان عمر بن عبد العزيز إمرأ صدقٍ، والملوك أربعة: معاوية وكفاه زياد، وعبد الملك وكفاه حجاجه، وهشام وكفاه مواليه، وأنا ولا كافي لي. وكان معاوية للحلم والأناة وعبد الملك للإقدام والإحجام، وهشام لوضع الأمور مواضعها، ولقد شاركت عبد الملك في قول كثير:رحمة للناس. أتي المنصور برأس بشير الرحال، وكان خرج مع محمد بن عبد الله - رضي الله عنه - فقال له: رحمك الله، لقد كنت أسمع لصدرك همهمة لا يسكنها إلا برد عدل، أو حر سنان. ولما احتضر قال: يا ربيع، بعنا الآخرة بنومة. قال الربيع: لقب أبو جعفر بأبي الدوانيق، لأنه لما أراد حفر الخندق بالكوفة قسط على كل رجل منهم دانق فضة، وأخذه، وصرفه في ذلك، وقيل غير هذا. وقال للمهدي: ليس العاقل من يتحرز من الأمر الذي يقع فيه، حتى يخرج منه، إنما العاقل من يتحرز من الأمر الذي يخشاه، حتى لا يقع فيه. وقال: عقوبة الحكماء التعريض، وعقوبة السفهاء التصريح. كان لسوار القاضي كاتبان: رزق أحدهما أربعون درهماً، والآخر عشرون درهماً، فكتب إلى المنصور يسأله أن يلحق صاحب العشرين بالأربعين، فأجاب بأن يحط من الأربعين عشرة ويزيدها صاحب العشرين حتى يعتدلا. قال السري بن عبد الله: إني لبمكة مع أبي جعفر المنصور والناس يذكرون معناً، وإراقته الدماء باليمن، فقلت: يا أمير المؤمنين غلامٌ من غلمان بني شيبان، ماله عندك يد تأصرك عليه، ولا رحم يعطفك عليه، قال: فبسر في وهي بسرةً تمنيت أن الأرض انشقت لي فدخلت فيها. قال: فمكثت أياماً ثم أتيته، فسألني عن عن تخلفي، فاعتذرت إليه، فقال لي: أتعرف رجلاً كان يصلي عن يمين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخبرته به، ونسبته إلى عثمان، فقال: ما فعل؟ قلت: قتل بقديد. قال: فآخر كان يصلي قريباً منه؟ قلت: نعم، ذاك ابن أخيه. قال: فما فعل؟ قلت: قتل يوم قديد. قال: فآخر كان يصلي في موضع كذا؟ قلت: نعم. ونسبته إلى الزبير. قال: فما فعل؟ قلت: قتل يوم قديد، فما زال يقترع المجالس يذكر فيها رجلاً قريعاً، ويسألني عنه، فأقول: قتل يوم قديد، فقال لي: لا أكثر الله في عشيرتك مثلك. عجزت عن ثأرك أن تطلب به، حتى إذا قام هذا الغلام الشيباني، فإذا بك تنفس عليه الرفعة. قيل: وكان معنٌ يبسط الأنطاع باليمن، ثم يدعو بأبناء اليمانية الذين حضروا قديداً، فيضرب أعناقهم. وكلما ندر رأسٌ عن رقبته قال: يا لثارات قديد. كان المنصور يقول: الملوك تحمل كل شيء إلا ثلاث خلالٍ: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. وقال: إذا مد عدوك يده إليك فاقطعها إن أمكنك، وإلا فقبلها. وخطب بمكة وقد أمل الناس عطاءه، فقال: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وخازنه على فيئه، أعمل فيه بمشيئته وأقسمه بإرادته، وقد جعلني الله عز وجل قفلاً عليه، إذا شاء أن يفتحني فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس في هذا اليوم الذي عرفكم من فضله ما أنزله في كتابه، فقال جل اسمه: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " ، أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم، وقسم أرزاقكم فيكم، إنه قريب مجيب. فقال ابن عياش المنتوف: أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه. خطب المنصور بالكوفة فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأراد أن يقول: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أذكرك من تذكر به. فقال المنصور: سمعاً سمعاً لمن فهم عن الله، وأعوذ بالله أن أذكر بالله وأنساه، وأن تأخذني العزة بالإثم: " قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين " . وأنت والله ما الله أردت بذلك، ولكن حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها وبقائلها ولو صمت لكان خيراً له، فاهتبلها إذا غفرتها، وإياكم وأخواتها، فإن الموعظة علينا نزلت، ومن عندنا انبثت، فردوا الأمر إلى أهله يصدروه كما أوردوه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ورجع إلى خطبته. كان يقول: الخلفاء أربعة: أبوبكر وعمر وعثمان وعلي على ما نال من عثمان، ومانيل منه أعطم، ولقد كان عمر بن عبد العزيز إمرأ صدقٍ، والملوك أربعة: معاوية وكفاه زياد، وعبد الملك وكفاه حجاجه، وهشام وكفاه مواليه، وأنا ولا كافي لي. وكان معاوية للحلم والأناة وعبد الملك للإقدام والإحجام، وهشام لوضع الأمور مواضعها، ولقد شاركت عبد الملك في قول كثير:

يصد ويفضي وهو ليث عرينة ... وإن أمكنته فرصة لا يقيلها
وقال للمهدي ابنه: يا أبا عبد الله، لا تبرمن أمراً حتى تفكر فيه، فإن فكرة العاقل مرآة تريه قبيحه وحسنه. وقال له: يا أبا عبد الله، الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يقيمه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم علة العقوبة، وأنقص الناس مروءة وعقلاً من ظلم من هو دونه. وقال له الربيع: إن لفلان حقاً، فإن رأيت أن تقضيه فتوليه ناحية. فقال: يا ربيع، إن لاتصاله بنا حقاً في أموالنا، لا في أعراض المسلمين ولا أموالهم. إنا لا نولي للحرمة والرعاية، بل للاستحقاق والكفاية، ولا نؤثر ذا النسب والقرابة على ذي الدراية والكتابة، فمن كان منكم كما وصفنا شاركناه في أعمالنا، ومن كان عطلاً لم يكن لنا عذر عند الناس في توليتنا إياه، وكان العذر في تركنا له وفي خاص أموالنا ما يسعه. وكان يقول: لو عرف إبليس أن أحداً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من علي بن أبي طالب لأغرى الناس بنقضه وحطه عن منزلته. وخطب يوم الجمعة، فكان مما حفظ من كلامه: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " أمرٌ مبرم وقضاء فصلٌ، والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعداً للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة غرضاً، والفيء إرثاً وجعلوا القرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، وكأين ترى من بئر معطلة وقصرٍ مشيد. أمهلهم الله حين نبذوا القرآن والسنة، واضطهدوا العترة، واستكبروا وعندوا، وخاب كل جبار عنيد، ثم أخذهم ف " هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزا " . وكتب إليه زياد بن عبيد الله يسأله الزيادة في أرزاقه، ويبالغ في الكتاب. فوقع المنصور في كتابه: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا في رجلٍ أبطراه، وأمير المؤمنين مشفق عليك، فاكتف بالبلاغة.
؟؟؟؟

المهدي

حكي أن رجلاً أتى باب المهدي، ومعه نعلان، فقال: هما نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرف المهدي، فأدخله ووصله، فلما خرج قال المهدي: والله ما هذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أين صارت إليه؟ أبميراثٍ أم بشرى أم بهبة؟ لكني كرهت أن يقال: أهدي إليه نعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقبلها، واستخف بحقها. ولما استخرج أخرج من في السجون، فقيل له: إنما تزري على أبيك، فقال: لا أزري، ولكن أبي حبس بالذنب، وأنا أعفو عنه. وولى الربيع بن أبي الجهم فارس، فقال له: يا ربيع، آثر الحق، والزم القصد، وارفق بالرعية، واعلم أن أعدل الناس من أنصف الناس من نفسه، وأجورهم من ظلمهم لغيره. جزع المهدي على رخيم جاريته جزعاً شديداً، فكان يأتي المقابر ليلاً فيبكي، فبلغ ذلك المنصور، فكتب إليه: كيف ترجو أن أوليك عهد أمة وأنت تجزع على أمة؟ والسلام. فكتب إليه المهدي: يا أمير المؤمنين، إني لم أجزع على قيمتها، وإنما جزعت على شيمتها. والسلام. قالوا: كان المنصور أراد أن يعقد العهد بعد المهدي لابنه صالح المعروف بالمسكين، فوجه إليه المهدي: يا أمير المؤمنين، لا تحملني على قطيعة الرحم، وإن كان لابد من إدخال أخي في هذا الأمر فوله قبلي، فإن هذا الأمر إذا صار إلي أحببت ألا يخرج عن ولدي. وقال لحاجبه الفضل بن الربيع: إني قد وليتك ستر وجهي وكشفه، فلا تجعل الستر بيني وبين خواصي سبب ضغنهم علي بقبح ردك، وعبوس وجهك. وقدم أبناء الدولة، فإنهم أولى بالتقدمة، وثن بالأولياء، واجعل للعامة وقتاً إذا صلوا فيه أعجلهم ضيقه عن التلبث، وحثك لهم عن التمكث. قال الربيع: لما حبس المهدي موسى بن جعفر - رضي الله عنه - رأى في النوم علياً - رضي الله عنه - وهو يقول له: يا محمد، " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " قال الربيع: فأرسل إلي ليلاً فراعني ذلك، وإذا هو يقرأ هذه الآية - وكان أحسن الناس صوتاً - فعرفني خبر الرؤيا. وقال: علي بموسى بن جعفر. فجئته به، فعانقه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا أبا الحسن، إني رأيت أمير المؤمنين - رضي الله عنه - فقرأ علي كذا. أفتؤمنني أت تخرج علي، أو على أحدٍ من ولدي؟ فقال: والله ما ذاك شأني. فقال: صدقت يا ربيع، أعطه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلى أهله بالمدينة. قال الربيع: فأحكمت أثره ليلاً فلما أصبح كان على الطريق خوف العوائق. ودخل العتبي على المهدي فعزاه في أبيه. وهنأه بالخلافة، فاستحسن كلامه وسال عنه، فقيل: هو من ولد عتبة بن أبي سفيان، فقال: أوبقي من أحجارهم ما أرى؟ قيل: كان المهدي يصلي الصلوات كلها في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها، فأقيمت الصلاة يوماً، فقال أعرابي: يا أمير المؤمنين لست على طهر، وقد رغبت إلى الله في الصلاة خلفك، فأمر هؤلاء أن ينتظروني، فقال: انتظروه رحمكم الله، ودخل المحراب، فوقف إلى أن أقبل، وقيل له: قد جاء الرجل، فعجب الناس من سماحة أخلاقه. هاجت ريح سوداء في أيام المهدي، فرؤي وهو ساجد يقول: اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، واحفظ فينا دعوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وإن كنت أخذت العامة بذنبي فهذه ناصيتي بيدك. وكان المهدي يحب الحمام، فأدخل عليه غياث بن إبراهيم، فقيل له: حدث أمير المؤمنين وكان قد بلغه استهتار المهدي بالحمام، فقال: حدثني فلان عن فلان عن أبي هريرة - رفعه - أنه قال: " لا سبق إلا في حافر أو نصل أو جناح " فأمر له بعشرة آلاف درهم فلما قام. قال المهدي، وهو ينظر في قفا غياث: أشهد أن قفاك كذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما استجلبت ذلك أنا، وأمر بالحمام فذبحت.

الهادي

اعتلت أمه الخيزران، فأراد الركوب إليها، فقال عمر بن بزيع ألا أدلك على ما هو انفع من عيادتها، وأجلب لعافيتها؟ قال: بلى. قال: تجلس للمظالم، فقد احتاج الناس إلى ذلك، فرجع وجلس ووجه إليها: إني أردتك اليوم، فعرض من حق الله ما هو أوجب، فملت إليه، وأنا أجيئك في غدٍ إن شاء الله. قال سعيد بن سلم الباهلي صلى بنا الهادي صلاة الغداة فقرأ: " عم يتساءلون " فلما بلغ قوله تعالى: " ألم نجعل الأرض مهاداً " أرتج عليه، فرددها ولم يجسر أحدٌ أن يفتح عليه لهيبته، وكان أهيب الناس، فعلم ذلك فقرأ: " أليس منكم رجل رشيد " ففتحنا عليه، وكنا نعد من محاسنه. وعزى إبراهيم بن سلم عن ابن له، وقد اشتد جزعه عليه، فقال: سرك وهو بلية وفتنة، ويحزنك وهو ثواب ورحمة. وقال لأمه الخيزران حين ولي الخلافة: إن الأمر والنهي لا يبلغه قدر النساء، فلا تخرجن من خفر الكفاية إلى بذلة التدبير، اختمري بخمرتك، وعليك بسبحتك ولا علمتك تعديت ذلك إلى تكليف يضرك، وتعنيف يلزمك، ولك بعد هذا علي الطاعة التي أوجبها الله لك في غير كفر ولا مأثم ولا عار. وأنفذ إليها يوماً أرزاً مسموماً، وقال: استطبت هذا، فأنفذته إليك، فاسترابت به ولم تأكله، ودخل بعقب ذلك إليها، فقال لها: هل أكلت الأرز؟ فقالت: نعم. فقال: لو أكلته لكان الأمر بخلاف هذا. متى أفلح خليفة له أم؟. وشهدوا عنده على رجل بأنه شتم قريشاً، وتعدى إلى ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجلس مجلساً أحضر فيه فقهاء أهل زمانه، وأحضر الرجل الشهود وشهدوا، فتغير وجه الهادي، ونكس رأسه، ثم رفعه، فقال: إني سمعت أبي يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن العباس قال: " من أراد هوان قريش أهانه الله " وأنت يا عدو الله، لم ترض بأن أردت ذلك من قريش حتى تخطيت إلى ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . اضربوا عنقه فقتل.

الرشيد
قال لحاجبه: احجب عني من إذا قعد أطال، وإذا سأل أحال، ولا تستخفن بذي الحرمة، وقدم أبناء الدعوة0 عرض له رجل وهو يطوف بالبيت، فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام فيه خشونة فاحتمله لي. قال: لا، ولا كرامة، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال: " فقولا له قولاً لينا " ولما احتضر قال: وا حيائي من رسول الله. ودعا بعبد الملك بن صالح وعنده ولاة عهده وقواد جنده، فجيئ به وهو يرسف في قيده، فلما مثل بين يدي الرشيد. قال الرشيد:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها وقد همع، وإلى عارضها وقد لمع، وإلى الوعيد قد أورى ناراً، فأقلع عن رؤوس بلا غلاصم، ومعاصم بلا براجم، مهلاً مهلاً بني هاشم، فبي سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، فنذار نذار من حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل. فقال: يا أمير المؤمنين، أأتكلم فذا أو توأماً؟ فقال: بل فذا، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما دلاك، وراقبه فبما استرعاك، ولا تجعل الشكر بموضع الكفر لقول قائل ينهس اللحم، ويلغ الدم، فوالله لقد حددت القلوب على طاعتك، وذللت الرجال لمحبتك، وكنت كما قال أخو بني كلاب.
ومقام ضيق فرجته ... ببياني، ولساني، وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل

فأمر به فرد إلى محبسه. ثم قال: لقد دعوت به، وأنا أرى مكان السيف من صليف قفاه، ثم هأنا قد رثيت له. كتب الرشيد إلى الفضل بن يحيى: أطال الله يا أخي مدتك، وأدام نعمتك، والله ما منعني من إتيانك إلا التطير من عيادتك، فاعذر أخاك، فوالله ما قلاك ولا سلاك، ولا استبدل بك سواك. قال الأصمعي: قال لنا الرشيد ذات يوم: ما التكش عندكم؟ قلت: الذي يتفتى على كبر السن. فقال: أخطأت. التكش: الذي يشرب على غير سماع. قالوا: رفع صاحب الخبر في أيام الرشيد أن صاحب الحبس حبس رجلاً يجمع بين الرجال والنساء في منزله، وأنه سئل عن ذلك، فأقر، وزعم أنه يجمع بينهم بتزويج لا زنية، وبنكاح لا سفاح، وشهد له بذلك جماعة، وتشفع في بابه قوم من الكتاب والقواد، فلم يطلق. فلما قرأ الرشيد ذلك استشاط غضباً حتى انكر جلساؤه ذلك، وظنوا أنه سينكل بالرجل، إلى أن قال: وما سبيلهم على رجل وسع في منزله لصديقه، وأسبل عليه ستره، وسعى فيما يحل له من لذته؟ وهو بعد مستراح للأحرار، وذوي الشرف ةالأقدار، ونحن نعلم أن الشريف والسيد، والأديب والأريب قد تكون عنده العقيلة من بنات عمه، ونساء قومه، وأكفائه، فتحظر عليه شهوته، وتملك عليه أمره، وهي أقبح من السحر، وأسمج من القرد، وأهر من الكلب، وأشد تعدياً من الليث العادي، فيريد شراء جارية أو تزوج حرة، فلا يقدر على ذلك لمكانها، حتى يستريح إلى مثل هذا من الفتيان ويغشى منزل أمثاله من الأحرار، فيجعله سكنه، وينزل به مهمه، فيساعده على حاجته، ويسعى له فيما يحب من لذته، ويستره بمنزله. اكتبوا في اطلاقه والسؤال عن حاله فإن كان كما ذكر عنه من الستر وكان صادقاً فيما حكى عن نفسه ما الفعل أمين على مروءته باكف وينار وأومن من روعته وعرف ما امرنا به فيه. فقال الجميع: سدد الله رأي أمير المؤمنين ووفقه. وعاتبته أم جعفر في تقريظه للمأمون، دون محمد ابنها، فدعا خادماًبحضرته، وقال له: وجه إلى محمد وعبد الله خادمين حصيفين يقولان لكل واحد منهما على الخلوة: ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه؟، فأما محمد فإنه قال للخادم: أقطعك وأعطيك، وأقدمك. وأما المأمون فإنه رمى الخادم بدواة كانت بين يديه، وقال: يا بن اللخناء، أتسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين؟ إني لأرجو أن نكون جميعاً فداءاً له. فرجعا بالخبر، فقال الرشيد لأم جعفر: كبف ترين؟ ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك، وتركاً للحزم. وسايره يوماً عبد الملك بن صالح، فقام رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، طأطئ من إشرافه، واشدد شكائمه، وإلا أفسد عليك ملكك، فقال الرشيد: يا عبد الملك، ما هذا؟ قال: حاسد نعمة، ونافس رتبة أغضبه، رضاك عني وباعده قربك مني، وساءه إحسانك إلي. فقال الرشيد:انخفض القوم وعلوتهم، فتوقدت في قلوبهم جمرة التأسف، فقال عبد الملك:أضرمها الله بالتزيد عندك، فقال: هذا لك وهذا لهم. وأنشده إسحاق الموصلي مدحاً له، فقالك لله در أبياتٍ تجيئ بها ما أحكم أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها فقال إسحاق: هذا الكلام أحسن من شعري. كان الحسن اللؤلؤي يختلف إلى المأمون، يلقي عليه الفرائض، فدخل عليه ليلة وقد صلى العشاء الآخرة، فجعل يلقي عليه، ونعس المأمون فأطبق جفنه، فقال الحسن: أنمت أيها الأمير؟ ففتح عينيه وهو إذ ذاك صبي فقال: عامي والله لم يغذ بالأدب، خذوا بيده ولا تعيدوه إلي. فبلغ ذلك الرشيد، فتمثل بقول زهير:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
وقال لحاجبه: احجب عني من إذا قعد أطال، وإذا سأل أحال، ولا تستخفن بذي حرمة، وقدم أبناء الدعوة. وصعد يوماً المنبر وقد شغب الجند، ثم سكنوا بعد إيقاع بهم، فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على الملائكة المقربين، والأنبياء أجمعين. أما بعد، فقد كان لكم ذنب، وكان لنا عتب، وكان منكم اصطلام، وكان منا انتقام، وعندي بعد هذا التنفيس عن المكروبين، والتفريج عن المغمومين، والإحسان إلى المحسنين، والتغمد لإساءة المسيئين، وألا يكفر لكم بلاء، ولا يحبس عنكم عطاء، وعلي بذلك الوفاء إن شاء الله. ثم نزل. قال سعيد بن سلم: كان فهم الرشيد فهم العلماء. أنشده العماني في صفة الفرس:
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلماً محرفا

فقال الرشيد: دع كأن، وقل: تخال أذنيه حتى يستوي الشعر. أنشد النميري الرشيد شعراً يقول فيه:
ليس كأسياف الحسين ولا بني ... حسن، ولا آل الزبير الكلل
فقال له الرشيد: وما تولعك بذكر القوم لا ينالهم ذم إلا شاطرتهم إياه. قرر ابني هذا منك وفيك، فلا تعدله، فإنما نفارقهم في الملك وحده، ثم لا افتراق في شيء بعده. ماتت أمه الخيزران بعد ثلاث سنين من خلافته، وكان غلتها يوم ماتت مائتي ألف ألف، وستين ألف درهم كل سنة، فاتسع الرشيد بذلك ومات في اليوم الذي ماتت فيه محمد بن سليمان بالبصرة، وقبض الرشيد ما خلفه من الصامت، فكان ثلاثة آلاف ألف دينار، ولم يعرض لغير ذلك من أصناف المال. قال الرشيد يوماً: بلغني أن العامة يظنون بي بغض علي بن أبي طالب. والله ما أحب أحداً حبي له، ولكن ولده هؤلاء أشد الناس بغضاً لنا، وطعناً علينا، و سعياً في إفساد ملكنا، بعد أخذنا بثأرهم، ومساهمتنا إياهم ماحوينا، حتى إنهم لأميل إلى بني أمية منهم إلينا، فأما علي وولده لصلبه، وأولاد أولاده، فهم سادة الأهل، والسابقون إلى الفضل، ولقد حدثني أبي المهدي عن أبيه المنصور بن محمد بن علي عن أبيه عن ابن العباس أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحسن والحسين: " من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني " . وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول في فاطمة - رضي الله عنها - : " فاطمة سيدة نساء العالمين ما خلا مريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم " . قال يزيد بن مزيد: قال لي الرشيد: ما بقي في العرب من يفتك قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: رجل يقتل لي يحيى بن خالد. قال: قلت له: فأنا أقتله وآتيك برأسه. قال: ليس كذا أريد. إنما أريد أن يقتله رجل فأقتله به. قال: فحدثت به الفضل بن سهل بمرو، فوجم واغتم. قال الأصمعي قال لي الرشيد في أول يوم عزم فيه على تأنيسي: يا عبد الملك، أنت أحفظ منا، ونحن أقل منك. لا تعلمنا في ملا، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلاء، واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال، فإذا بلغت من الجواب قدر استحقاقه فلا تزد، وإياك والبداء إلى تصديقنا، أو شدة العجب بما يكون منا. وعلمنا من العلم ما نحتاج إليه، على عتبات المنابر، وفي أعطاف الخطب، وفواصل المخاطبات، ودعنا من رواية حوشي الكلام وغرائب الأشعار، وإياك وإطالة الحديث إلا أن نستدعي ذلك منك. ومتى رأيتنا صادفين عن الحق فأرجعنا إليه ما استطعت، من غير تقرير بالخطأ، ولا إضجار يطول الترداد. قال قلت: أنا إلى حفظ هذا الكلام أحوج مني إلى كثير من البر.

الأمين

قيل لبعض العلماء: كيف كانت بلاغة الأمين؟ قال: والله لقد أتته الخلافة يوم الجمعة، فما كان إلا ساعة حتى نودي: الصلاة جامعة، فخرج ورقي المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه. ثم قال: أيها الناس، وخصوصاً يا بني عباس، إن المنون مراصد ذوي الأنفاس حتم من الله لا يدفع حلوله، ولا ينكر نزوله، فارتجعوا قلوبكم من الحزن على الماضي إلى السرور بالباقي، تجزون ثواب الصابرين، وتعطون أجور الشاكرين. فتعجب الناس من جرأته، وبلة ريقه، وشدة عارضته. وكان المأمون يقول: كان يقول لي الرشيد: وددت لو أن لك بلاغة محمد، وأن علي غرم كذا وكذا. وذكر أن محمد في صباه كان كثير اللعب، وكان المعلم يلقي عليه في الكتاب، وعلى المأمون، وكان محمد يلعب ويحفظ، والمأمون ينسى وهو مقبل على العلم يقصد قصده. ذكر أنه دعا يوماً عبد الله بن أبي عفان ليصطبح، فأبطأ فلما جاء قال: أظنك أكلت. قال: لا والله. قال: والله لتصدقن. قال: نعم يا أمير المؤمنين، فدعا بحكاك فحك أضراسه السفلى، فلما ذهب ليحك العليا قال: يا أمير المؤمنين، دعها لغضبة أخرى، فخلاه. قال الفضل بن مروان: سمعته يقول في خطبته: الناس جميعاً آمنون إلا أصحاب الأهواء. وقال لكاتب بين يديه: دع الإطناب، والزم الإيجاز، فإن للإيجاز إفهاماً، كما أن مع الإسهاب استبهاماً. ولما اشتد طاهر على محمد دخلت عليه أمه أم جعفر باكية، فقال لها: مه، إنه ليس بجزع النساء وهلعهن تشفى الصدور، وتساس الأمور وللخلافة سياسة تلين مرة وتخشن أخرى، لا يسعها صدر المراضيع، ولا تحفظ بإضاعة، فإليك إليك. وكتب محمد إلى طاهر بخطه: إعلم يا طاهر أنه ما قام لنا قائم بحق فتم لأحدنا أمره إلا كان السيف جزاءه منه، فانظر لنفسك أو دع. فقال طاهر - وكان قومٌ يضعفون محمداً عنده على من يقول - : إن هذا مضعف مأفون لعنه الله، لقد قدح بقلبي ناراً من الحذر لا يطفئها أمنٌ أبداً. كان الرشيد أخذ ضيعة من صالح صاحب المصلى. ودفعها إلى أم جعفر فلما ولي الأمين سأله الفضل بن الربيع ردها على صالح، فقال: أنا أعوضه ولاأظلم أبي، ولا أعق أمي. قال بعضهم: كنت واقفاً بين يدي الأمين، فقال لكاتب بين يديه:اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسين سلامٌ عليك. أما بعد، فإن الأمر قد خرج بيني وبين لأخي إلى هتك الستور، وكشف الحرم، ولست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد، لشتات ألفتنا، واختلاف كلمتنا، وقد رضيت أن تكتب لي أماناً لأخرج إلى أخي به، فإن تفضل علي فأهل لذلك، وإن قتلني فمروة كسرت مروة، وصمصامة قطعت صمصامة، ولأن تفترسني السبع أحب إلي من أن ينبحني الكلاب ودفع الكتاب إلى خادم له وقال لي: امض معه. فغيرنا إلى طاهر فقال الآن حين انخرم عنه مراقه وفماقه وبقى مخذولاً: مغلولاً يلوذ بالأمان لا والله أو يجعل في عنقه ساجوراً، ويقول: هأنذا قد نزلت على حكمك. فقلنا: فما الجواب؟ قال: قد سمعتماه فانصرفا إلى الأمين، وأخبراه بذلك، فقال: كذب عبد السوء العاض لهن أمه، والله ما أبلى أوقعت على الموت أو وقع الموت علي. كان الأمين أول من دعي له على المنابر باللقب، وأول من كتب عنه: من عبد الله محمد الأمين. سمع الأمين الفضل بن ربيع يتمثل بقول البعيث:
لشتان ما بيني وبين ابن خالد ... أمية في الرزق الذي الله يقسم
يقارع أتراك ابن خاقان ليله ... إلى أن يرى الإصباح، ولا يتلعثم
وآخذها صهباء كالمسك ريحها ... لها أرج في دنها حين ترشم
فقال له: يا عباسي، لقد علمت ما أردت بتمثلك، أردتني وعبد الله أخي، وأنه يجد بي وأمزح، وما ضر يزيد لعبه، ولا نفع ابن الزبير تيقظه وجده، وما قضي فهو كائن، وإلى الله تصير الأمور.

المأمون

قال يوماً لبعض رهطه:يا نطف الخمار، ونزائع الظئورة، وأشباه الخثولة. وذكر أن الكسائي قام إليه يوماً - وهو يعلمه وهو صغيرٌ - فضربه، وقد كان ذلك اليوم صلى ذلك اليوم قاعداً: أما تستحيي أيها الشيخ، تصلي لله قاعداً، وتضربني قائماً. قال بعضهم: قرأت كتاب ذي الرياستين إلى المأمون، وتوقيع المأمون فيه، فإذا في الكتاب بعد الصدر والدعاء: إن قارئاً قرأ البارحة: " وقلن نسوة في المدينة " ، فأنكرنا ذلك عليه، فذكر أن الكسائي أجازه، وكتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فرددنا علم كتاب الله إلى خليفته. قال: وإذا توقيع المأمون فيه: " عمرك الله - ذا الرياستين - طويلاً في طاعته، وجعلك قائماً بأمر دينه، ذاباً عن حريم أمته، إن لكل علم دستوراً، ودستور هذا العلم القرآن، فعليك بقراءته على ما أجمع عليه، ولا تلتفت إلى مختار قولاً ليعقد له رياسة، والسلام. كتب المأمون إلى طاهر لما قتل علي بن عيسى في رسالة طويلة: إنما لك من هذا الأمر موقع السهم من الرمية، والتسديد والرأي، والتدبير لأبي العباس الفضل بن سهل. وكان يقول: إذا رفعت المائدة من بين يده: الحمد لله الذي جعل أرزاقنا فضلاً على أقواتنا. وقال: ما انفتق علي فتق قط إلا وجدت سببه جور العمال. وقال: أهل السوق سفل، والصناع أنذال، والتجار بخلاء، والكتاب ملوك على الناس. وقيل له: ليس في السرف شرف، فقال: ليس في الشرف سرف، وقال يوماً لبعضهم: متى قدمت، قال: بعد غدٍ يا أمير المؤمنين. فقال: بيني وبينك بعد مرحلتان. ورأى المأمون يحيى بن أكثم يحد النظر إلى الواثق - وهو أمرد - فقال: يا أبا محمد، حوالينا ولاعلينا. تنازع أحمد بن أبي خالد وإبراهيم السندي بحضرة المأمون، فقال أحمد: أمير المؤمنين أفضل من آبائه قدراً، وأرفع محلاً. وقال إبراهيم: بل أمير المؤمنين أرفع أهل دهره، ودوين آبائه. فقال المأمون: يا أحمد، إن إبراهيم يبنيني، وأنت تهدمني، وهو يبرم فتل مريرتي، وأنت تنقضني. قال بعضهم: حضرت المأمون وقد قطعت له ثياب خز، فقال: بطنوها بألوان طرزها. ولما احتضر قال: يا من لا يزول ملكه إرحم من زال ملكه. ضرب رجل على سكته، فأمر بحبسه مؤبداً، فلبى في الحبس ليخرج فرفع إليه الخبر فوقع المأمون: أظن هذا الرجل الخائن قصد خلاف نيته في الحج، وأظهر ضد عزيمته، وقد أخطأت استه الحفرة فإذا حرم الحج بسوء تدبيره، فلن يعدم فتوى صادقه من فريضة محكمة، هو محصر وعليه الهدي، فليأخذ بتعجيله ولا يرخص له في بتأخيره. وسمع رجلاً يقول: قلب الله الدنيا فقال المأمون: إذاً تستوي. واختصم بحضرته بصري وكوفي، فقال للبصري: إرمه بآيتيك المد والجزر، ومحمد بن عباد. ودخل إليه يحيى بن الحسين الطالبي، فقال: يا أمير المؤمنين، حيرتني عارفتك، حتى ما أدري كيف أشكرك. قال: فلا عليك، فإن الزيادة في الشكر على الصنيعة ملق، وإن النقص عي، وحسبك أن تبلغ حيث بلغ بك. وقال لعبد الله بن طاهر:تثبت، فإن الله قد قطع عذر العجول، بما مكنه من التثبت، وأوجب عليه الحجة على القلق، بما بصره من فضل الأناة. فقال ابن طاهر: أأكتبه: فقال: نعم. قالوا: لما وجد عمر بن فرح كتاباً من أهل الكرخ إلى علي بن محمد بن جعفر بن محمد - رضي الله عنهم - جاء به إلى المأمون، فقال المأمون: نحن أولى من ستر هذا ولم يشعه. ودعا علي بن محمد، فقال له: قد وقفنا على أمرك، وقد وهبنا ذلك لعلي وفاطمة - رضي الله عنهما - فاذهب، وتخير ما شئت من الذنوب، فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو. رفع الواقدي قصة إليه يشكو غلبة الدين، وقلة الصبر، فوقع المأمون عليها: أنت رجل فيك خلتان: السخاء والحياء، فأما السخاء. فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فبلغ بك ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم. فان كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك وإن كنا فإن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك. وأنت كنت حدثتني، وأنت على قضاء الرشيد، عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: " يا زبير، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله للعباد على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له. ومن قلل قلل له. قال للواقدي: وكنت أنسيت هذا الحديث، فكانت مذاكرته إياي به أعجب إلي من صلته. وقال للمأمون: الطعام لون واحد. فإذا استطبته فاشبع منه. والندمان

واحد، فإذا استطبته فاستزده حتى تقضي وطرك منه. وذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون، وبين يديه صاع رطب، فقال: أدن فكل. فقال: يا أمير المؤمنين على ما بي؟ وكان وجع العين، فقال: ويحك ولا تهب عينك للرطب. ودخل إليه الطبيب فشكا إليه وجع الأسنان، فقال: يا أمير المؤمنين لا تأكل الرطب ولا تشرب الماء بثلج، فقال: لولاهما ما أردتك. قال بعضهم: رأيت المأمون وقد ضرب غسان بن عباد خمس عشرة درة لإعادته حدثياً على النبيذ. وقال المأمون لمحمد بن يزداد: جئني بمن يكتب بين يدي كتاباً إلى عبد الله بن طاهر، فجاء بسليمان بن وهب، فأملى عليه، ثم نظر إلى خطه فاستجاده. فقال: من تكون يا غلام؟ قال: سليمان بن وهب بن سعيد عبد أمير المؤمنين وابن عبده. قال: وهب بن سعيد الغريق في دجلة؟ قلت: نعم يا سيدي. قال: لله در أبيك ما كان يطفئ ذكاءه إلا دجلة. وقع المأمون في قصة متظلم من أبي عيسى بن الرشيد: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " . وتظلم إليه قوم من قاضي جبل، وذكروا أنه يعض رؤوس الخصوم، فوقع في قصتهم يشنق إن شاء الله. وقال: من أراد أن يطيب عيشه فليدفع الأيام بالأيام. قال أحمد بن أبي خالد: دخلت على المأمون وهو قائم يصفي نبيذاً، فبادرت لأتولى ذلك، فقال: مه أما أحدٌ يكفيني هذا؟، ولكن مجراه على كبدي، فأحببت أن أتولاه بيدي. قال العباس بن المأمون لغلامه: إن رأيت في الرصافة بقلاً حسناً فاشتر لي منه بنصف درهم. فقال مأمون: أما إذا عرفت أن للدرهم نصفاً فوالله لا أفلحت أبداً. قال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون في بستانة، ويده في يدي، فكان في الظل، وأنا في الشمس. فلما بلغنا ما أردنا. ورجعنا صرت أنا في الفيئ وصار هو في الشمس، فدرت إنا إلى الشمس، فقال: ليس هذا بإنصاف، كما كنت أنا في الفيئ ذاهباً فكن أنت في الفيئ راجعاً. قال المأمون:أقمت زماناً أداري الرشيد في أربعة أشياء: منها أنه كان يزعم أن بغداد أطيب بلاد الله، وكنت أستوبئها. وكان يقول:؟ إن وجدت رجلاً يقدم علي بن أبي طالب على من تقدمه ضربته الحد، وكنت ممن يقدمه. وكان يقول: ضعوا الأموال مواضعها، فإنكم إن صرفتموها عن أهلها و وضعتموها في غيرهم كنت كمن بذر في السباخ، وكان المال عندي بمنزلة الحجارة، وأنسيت الرابعة. قالوا: كانت الرابعة حب الرشيد للفضل بن الربيع، وبغض المأمون له. كان يقول: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أوجر عليه ولو عرف الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب. وكان يقول: شرب الماء بالبلح أدعى إلى إخلاص الحمد. وقال الجاحظ: سمعته يقولك الإرجاء دين الملوك. وكان يحب الشطرنج واللعب بها، ويقول: هو لهو فكري. ولم يكن حاذقاً بها، فكان يقولك أنا أدبر أمر الدنيا فأتسع لذلك، وأضيق عن تدبير شبرين في شبرين، وله في الشطرنج شعر معروف. كان العباس ابنه مولعاً بشرى الضياع، والمعتصم أخوه بشرى الغلمان، فكان المأمون إذا رآهما تمثل:د، فإذا استطبته فاستزده حتى تقضي وطرك منه. وذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون، وبين يديه صاع رطب، فقال: أدن فكل. فقال: يا أمير المؤمنين على ما بي؟ وكان وجع العين، فقال: ويحك ولا تهب عينك للرطب. ودخل إليه الطبيب فشكا إليه وجع الأسنان، فقال: يا أمير المؤمنين لا تأكل الرطب ولا تشرب الماء بثلج، فقال: لولاهما ما أردتك. قال بعضهم: رأيت المأمون وقد ضرب غسان بن عباد خمس عشرة درة لإعادته حدثياً على النبيذ. وقال المأمون لمحمد بن يزداد: جئني بمن يكتب بين يدي كتاباً إلى عبد الله بن طاهر، فجاء بسليمان بن وهب، فأملى عليه، ثم نظر إلى خطه فاستجاده. فقال: من تكون يا غلام؟ قال: سليمان بن وهب بن سعيد عبد أمير المؤمنين وابن عبده. قال: وهب بن سعيد الغريق في دجلة؟ قلت: نعم يا سيدي. قال: لله در أبيك ما كان يطفئ ذكاءه إلا دجلة. وقع المأمون في قصة متظلم من أبي عيسى بن الرشيد: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " . وتظلم إليه قوم من قاضي جبل، وذكروا أنه يعض رؤوس الخصوم، فوقع في قصتهم يشنق إن شاء الله. وقال: من أراد أن يطيب عيشه فليدفع الأيام بالأيام. قال أحمد بن أبي خالد: دخلت على المأمون وهو قائم يصفي نبيذاً، فبادرت لأتولى ذلك، فقال: مه أما أحدٌ يكفيني هذا؟، ولكن مجراه على كبدي، فأحببت أن أتولاه بيدي. قال العباس بن المأمون لغلامه: إن رأيت في الرصافة بقلاً حسناً فاشتر لي منه بنصف درهم. فقال مأمون: أما إذا عرفت أن للدرهم نصفاً فوالله لا أفلحت أبداً. قال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون في بستانة، ويده في يدي، فكان في الظل، وأنا في الشمس. فلما بلغنا ما أردنا. ورجعنا صرت أنا في الفيئ وصار هو في الشمس، فدرت إنا إلى الشمس، فقال: ليس هذا بإنصاف، كما كنت أنا في الفيئ ذاهباً فكن أنت في الفيئ راجعاً. قال المأمون:أقمت زماناً أداري الرشيد في أربعة أشياء: منها أنه كان يزعم أن بغداد أطيب بلاد الله، وكنت أستوبئها. وكان يقول:؟ إن وجدت رجلاً يقدم علي بن أبي طالب على من تقدمه ضربته الحد، وكنت ممن يقدمه. وكان يقول: ضعوا الأموال مواضعها، فإنكم إن صرفتموها عن أهلها و وضعتموها في غيرهم كنت كمن بذر في السباخ، وكان المال عندي بمنزلة الحجارة، وأنسيت الرابعة. قالوا: كانت الرابعة حب الرشيد للفضل بن الربيع، وبغض المأمون له. كان يقول: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أوجر عليه ولو عرف الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب. وكان يقول: شرب الماء بالبلح أدعى إلى إخلاص الحمد. وقال الجاحظ: سمعته يقولك الإرجاء دين الملوك. وكان يحب الشطرنج واللعب بها، ويقول: هو لهو فكري. ولم يكن حاذقاً بها، فكان يقولك أنا أدبر أمر الدنيا فأتسع لذلك، وأضيق عن تدبير شبرين في شبرين، وله في الشطرنج شعر معروف. كان العباس ابنه مولعاً بشرى الضياع، والمعتصم أخوه بشرى الغلمان، فكان المأمون إذا رآهما تمثل:

يبني الرجال، وغيره يبني القرى ... شتان بين قرى وبين الرجال
قلق بكثرة ماله وجياده ... حتى يفرقها على الأبطال
وقيل له: إن دعبلاً قد هجاك، فقال: من يجسر أن يهجو أبا عباد على خرقه وعجلته يجسر أن يهجوني. وكان يقول: إذا وضحت الحجة ثقل علي استماع المنازعة فيها. وحدثه يوماً المدائني، فقالك إن معاوية قال: بنو هاشم أسود واحداً ونحن أكثر سيداً. فقال المأمون: يا على إنه قد أقر وادعى، فهو في ادعائه خصم، وفي إقراره مخصوم. قال ابن أبي دواد: سمعته يقول لرجل: إنما هو عذر أو يمين، وقد وهبتهما لك، فلا تزال تسئ وأحسن، وتذنب وأعفو، حتى يكون العفو هو الذي يصلحك. وقال له الحسن بن سهل في رجل مذنب: هبخ لي. قال: وكيف لا أهبه لمن به قدرت عليه. وخطب بمرو - وقد ورد عليه كتاب الأمين يعزيه بالرشيد، ويحثه على أخذ البيعة له - فقال: إن ثمرة الصبر الأجر، وثمرة الجزع الوزر، والتسلم لأمر الله جل وعز فائدة جليلة، وتجارة مربحة، والموت حوض مورود، وكأسٌ مشروبٌ. وقد أتي على خليفتكم - رضي الله عنه - ما أتى على نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما كان إلا عبداً دعي فأجاب، وأمر فأطاع، وقد سد أمير المؤمنين ثلمته وقام مقامه، وفي أعناقكم من العهد ما قد عرفتم، فأحسنوا العزاء عن إمامكم الماضي، واغتبطوا بالنعماء بالوفاء لخليفتكم الباقي. يا أهل خراسان: إن الموت نازل، والأجل طالب، وأمس واعظ، واليوم مغتنم، وغد منتظر. ثم نزل. وكتب إليه يزيد بن عقال يثني على عبد الله بن طاهر، فوقع المأمون في كتابه: عبد الله كما ذكرت، وعلى أكثر مما وصفت. قد حمله أمير المؤمنين فاحتمل، وأثقله فاضطلع. كانوا يسمون أرصاد السلطان المسالح من السلاح، فكره ذلك المأمون فصيره المصالح من المصلحة. وقال: إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه صلح ملكه كله. ورفع أهل الكوفة قصة إليه يشكون عاملاً، فوقع: عيني تراكم، وقلبي يرعاكم، وأنا مول عليكم ثقتي ورضاكم. وشغب الجند فرفع ذلك إيه، فوقع: لا يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب. وناظر يوماً محمد بن القاسم النوشجاني، فجعل يصدقه ويفضي له، فقال له المأمون: تنقاد لي إلى ما تظن أنه يسرني، قبل وجوب الحجة عليك ولو شئت أن أقتسر الأمور بفضل بيان، وطول لسان، وأبهة الخلافة، وسطوة الرياسة لصدقت وإن كنت كاذباً، وصوبت وإن كنت مخطئاً، وعدلت وإن كنت جائراً، ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة، وغلبة الحجة، وإن شر الملوك عقلاً، وأسخفهم رأياً من رضي بقولهم: صدق الأمير. وقف أحمد بن أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه عن الأهواز، فقال له المأمون: أخربت البلاد، وأهلكت العباد. فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفت بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟ فال: العفو والصفح. قال: فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك. قال: قد فعلت. إرجع إلى عملك، فوال مستعطف خير من وال مستأنف. وتأخر سابق الحاج مرة عن وقته، ثم ورد ورفع قصة، فألحق بنقطة الباء نقطة أخرى، وجعله سائق الحاج. وقال له رجل: يا أمير المؤمنين، وانظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان. فقال: لأيهم أنظر؟ لقيس؟ فو الله ما أزلتها عن ظهور خيلها حتى لم يبق لي درهم مروانية عند اضطرارها زبيرية باختيارها. ام لتميم؟ فوالله ما يعرفون إلا الأكل والغدر، وأما اليمن فالعجم أقرب إلينا منهم، وما أحبونا قط، وقضاعة مذبذبة في نسبها، شادة حزم دوابها، تنتظر خروج السفياني لتكون زعمت منه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبياً من مضر، وما خرج اثنان قط إلا كانا ربعيين أو أحدهما، فاغرب قبح الله ما أشرت إليه. ووقع إلى علي بن هشام وقد شكاه غريم له: ليس له من المروءة إن تكون آنيتك من ذهب وفضة، ويكون غريمك عارياً، وجارك طاوياً. وكان يقول: أسلم أبو طالب بقوله:
نصرنا الرسول رسول المليك ... بقضب تلألأ كلمع البروق

وقال المأمون: الرتبة نسب يجمع أهلها، فشريف العرب أولى بشريف العجم من شريف العرب بوضيع العرب، وشريف العجم أولى بشريف العرب من شريف العجم بوضيع العجم، فأشراف الناس طبقة كما أن أوضاعهم طبقة. استقبل الطالبيون المأمون في منصرفه من خراسان إلى العراق في بعض الطريق، يعتذرون مما كان من خروجهم عليه، فقال المأمون: أولنا وأولكم ما تعلمون، وآخرنا وآخركم ما تريدون، وتناسوا ما بين هذين. وركب يوماً فصاح إليه الأنصار، فقال: أين كنتم يوم سقيفة بني ساعدة، والعباس وعلي يريدان نصرتكم؟ فلا تريدوا مني ثواباً. قال يحيى بن أكثم: لما أراد المأمون أن يزوج علي بن موسى، قال لي: يا يحيى تكلم، فهبت أن أقول أنكحت، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت الحاكم الأكبر وأنت أولى بالكلام، فقال: الحمد لله الذي تصاغرت الأمور لمشيئته، ولا إله إلا الله، إقراراً بربوبيته، صلى الله على محمد عند ذكره. وأم بعد، فإن الله تعالى جعل النكاح سنة للأنام، وفصلاً بين الحلال والحرام، وإني قد زوجت ابنتي أم الفضل من علي بن موسى الرضا، وقد مهرتها عنه أربعمائة درهم. وقال المأمون: تمام النعمة أن تستتم بلزوم شكرها، واول منازل الشكر ألا يتوصل إلى معصية منعم بفضل نعمته. قال أحمد بن أبي دواد: قال لي المأمون: لا يتسطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم، وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمة وخدمة، واجتهاد ونصيحة، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهراً، حتى لا يزال الرجل قول: ما أوقع به إلا رغبة في ماله، وإلا رغبة فيما لا تجود النفوس به، أو لعل الحسد والملالة، وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك. وهناك جنايات في صلب الملك، أوفى بعض الحرم لا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، وأن يحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب، ولا يستطيع ترك عقابه، لما في ذلك من الفساد على علمه بأن عذره غير مبسوط عند العامة، ولا معروف عند أكثر الخاصة. نزل رجل فعدا بين يديه، فأشار بيده أن حسبك، فقال له بعض من كان بقرب من المأمون: إركب. فقال المأمون: لا يقال لمثل هذا: إركب، إنما يقال له: إنصرف. تحدث المأمون يوماً، فضحك إسحاق بن إبراهيم المصعبي، فقال: يا إسحاق، أوهلك لشرطتي، وتفتح فاك من الضحك؟ خذوا سواده وسيفه، ثم قال: أنت بالشراب أشبه، ضعوا منديلاً على عاتقه، فقال إسحاق: أقلني يا أمير المؤمنين. قال: قد أقلتك، فما ضحك بعدها. قال المأمون: لأن أقتدي بسيرة أنو شروان أحب إلي من أن أقتدي بسيرة عمر بن عبد العزيز، لأن أو شروان كان عنده أن الحق له، وكان عند عمر أن الحق ليس له، وأقام عليه. وقال لعلي بن هشام: يا علي، إياك وهذه الخصال، فإن الملوك، تحتمل كل شئ ما خلاهن: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم. وقال: ليس من توكل المرء إضاعته للحزم، ولا من الحزم إضاعته للتوكل.

المعتصم

لم أقطع المعتصم أشناساً ضياع الحسن بن سهل، وجه الحسن بقبالاتها إلى أشناس، وكتب إليه: قد عرفت رأي أمير المؤمنين في إخلاصك بهذه الضياع، وأحببت ألا تعرض على عقبك عقبى، فأنفذت لك قبالاتها معتداً في قبولكها بإسباغ النعمة علي، وادخار الشكر لدي، ومتقرباً به إلى سيدي أمير المؤمنين، فرأيك في الامتنان علي بقبولها موفقاً إن شاء الله. فلما قرأ الكتاب أنفذه إلى المعتصم، فوقع فيه: ضيم فصبر، وسلب فعذر، فليقابل بالشكر على صبره، وبالإحسان على عذره. وترد عليه ضياعه، ويرفع عنه خراجه. ولا أؤامر فيه إن شاء الله. قال كاتب العباس بن المأمون: لما تقلد المعتصم الخلافة عرضت له، فترجلت، فلما بصر بي، قال: هذا المجلس الذي لم تزل أكره الناس بحلولي به. قال: فتحيرت، ولم أدر ما أقول، ثم عن لي أن قلت: يا أمير المؤمنين، انت تعفو عما تتيقنه، فكيف تعاقب عما تتوهمه؟ قال: فقال: لو أردت عقابك لتركت عتابك. وكان سبب خروجه إلى " سر من رأى " أن غلمان الأتراك كثروا ببغداد فتولعوا بحرم الناس وأولادهم، فاجتمع إليه جماعة منهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما أحد أحب إلينا مجاورة منك، لأنك الإمام والمحامي عن الدين، وقد أفرط غلمانك، فإما منعتهم منا، وإما نقلتهم عنا. فقال:نقلهم لا يكون إلا بنقلي، ولكني أفتقدهم، وأزيل ما شكوتهم. فنظر فإذا الأمر قد زاد وعظم، وخاف أن يقع بينهم حرب، وعاودوه بالشكوى، وقالوا:إن قدرت على نصفتنا، وإلا فتحول عنا. فقال: أتحول وكرامة فرحل إلى سر من رأى، واتخذها داراً. وكان يقول: الفضل بن مروان عصى الله - عز وجل - وأطاعني، فسلطني الله عليه. وذكر أنه كان معه غلام في الكتاب يتعلم معه، فمات الغلام، فقال له الرشيد: يا محمد، مات غلامك. قال: نعم يا سيدي، واستراح من الكتاب فقال الرشيد: وإن الكتاب ليبلغ منك هذا المبلغ، دعوه إلى حيث انتهى، ولا تعلموه شيئاً، فكان يكتب كتاباً ضعيفاً، ويقرأ قراءة ضعيفة. حكي عن الفضل بن مروان أنه قال: والله لقد كان المعتصم مؤيداً من عند الله في أموره كلها، لقد رجع يوماً من محاربة الروم، وقد سهر ليلته و بقي إلى العشاء، ولم يطعم ولم يشرب، فدخل إلى المأمون فعرفه خبره، فبينما هو يخاطبه إذ صيح: السلاح السلاح، واستفحل أمر الروم، فقال له المأمون: ارجع يا أبا إسحاق إلى موضعك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين. أمضي إلى مضربي وأركب من ثم، فكان المأمون كره هذا منه، ونكس رأسه، واشتد عليه تأخيره لأمره، ففطن المعتصم، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: " كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى " والله لقد رأيتني ومالي من الدواب إلا أربع، ومن الغلمان إلا أربعة، وإني لأقف على باب الحسن بن سهل سائر يومي، وأتمنى أن يأمرني بأمر أنفذ فيه، ولي من كل هذا اليوم ألوف بتفضل أمير المؤمنين، وهو يأمرني بأمر فيه شرفي فأشترط عليه. أنا أمضي من وجهي هذا على هيئتي هذه. فضحك المأمون وقال: أدن إلي، فدنا فقبل بين عينيه، ودعا له بالظفر، وخرج. قال بعضهم: سمعت المعتصم يقول: إذا نصر الهوى بطل الرأي. وقال لأحمد بن أبي دواد لما كان من لتياث العباس بن المأمون ما كان: يا أبا عبد الله، أكره أن أحبسه فأهتكه، واكره أن أدعه فأهمله. فقال: الحبس أصلح الله أمير المؤمنين، فإن الاعتذار خير من الاغترار. وقيل ما رئي أشد تيقظاً في حرب من المعتصم، كانت الأخبار ترد عليه من أرض بابل إلى " سر من رأى " في ثلاثة أيام على عتاق مضمرة، قد أقام على كل فرسخ فرسخين.

واحتاج الناس في حصار عمورية إلى ماء فمد لهم حياضاً من أدم عشرة أميال وغير ذلك، مما سنذكر ذلك بعون الله. وقال الفضل بن مروان: كان المعتصم يختلف إلى علي بن عاصم المحدث، وكنت أمضي معه إليه، فقال يوماً: حدثنا عمرو بن عبيد وكان قدرياً فقال له المعتصم: يا أبا الحسن، أما تروي: " أن القدرية مجوس هذه الأمة " ؟ قال: بلى. قال: فلم تروي عنه؟ قال: لأنه ثقة في الحديث صدوق. قال: فإن المجوسي ثقة في الحديث صدوقاً فيما يقوله أتروي عنه؟ فقال له علي: أنت شغاب يا أبا إسحاق. وقال: كتبنا إلى المأمون عن المعتصم بفتح مدينة، فلما قرأنا الكتاب عليه قال: قل في أوله: وكتابي كتاب منه لخبر، لا معتد بأثر، فزدنا فيه. وقالوا: كان المعتصم من أشد الناس، وكان يسمى ما بين أصبعيه: السبابة، والوسطى: المقطرة. واعتمد بها مرة على ساعد إنسان فدقه. وكتب إليه ملك الروم كتاباً يتهدده فيه، فأمر أن يكتب جوابه، لما قرئ عليه لم يرضه، وقال للكاتب: أكتب. بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد قرأت كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع. " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " . ولما دخل إليه المازيار - وكان شديد الغيظ عليه - قيل له: لا تعجل عليه، فإن عنده أموالاً جمة، فأنشد بيت أبي تمام:
إن الأسود أسود الغاب همتهايوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ولما قبض على عجيف، وقتله بعد قتل العباس بن المأمون بمديدة، وقد كان المأمون قال لعجيف: قد خفت على نفسي فاكتم علي. فوشى به إلى المعتصم فلما حبسه قال له: اصطنعك المأمون فأفشى إليك كلمة، فلم تحفظها عليه، حتى نممتها إلي. قال ابن أبي دواد: كان المعتصم يقول لي: يا أبا عبد الله، عض ساعدي بأكثر قوتك. فأقول: والله يا أمير المؤمنين، ما تطيب نفسي بذلك، فيقول: إنه لا يضرني فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة، فكيف الأسنان. ويقال: أنه طعنه بعض الخوارج، وعليه جوشن، فأقام المعتصم ظهره فقصف الرمح. قال إسحاق الموصلي: سمعته يقول: من طلب الحق بما هو له وعليه أدركه.

الواثق
قيل: إنه لما مات إبراهيم بن المهدي ركب المعتصم حتى صلى عليه، ثم قال الواثق: أقم يا بني حتى تجنه. وقيل: بل لم يصل عليه تحرجاً، وأمر الواثق بالصلاة عليه، فسأل عن وصيته، فوجده قد أمر بمال عظيم أن يفرق على أولاد الصحابة كلهم اولاد علي رضي الله عنه، فقال الواثق: والله لولا طاعة أمير المؤمنين لما وقفت عليه، ولا انتظرت دفنه. ثم انصرف وهو يقول: ينحرف عن شرفه وخير أهله والله لقد دليته في قبره كافراُ، وأمر ففرق في ولد علي - رضي الله عنه - مالاً فاضلاً، فأصاب كل رجل منهم ضعف ما أصاب غيرهم من وصيته. نظر الواثق إلى أحمد بن الخصيب يمشي فتمثل:
من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليان لو شاءا لقد قضياني
خليلي، أما أم عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني
قال فبلغ ذلك سليمان بن وهب، فقال: إنا لله، أحمد بن الخصيب أم عمرو، وأنا الأخرى، فنكبهما بعد أيام. غنى مخارق في مجلس الواثق:
أظلم، إن مصابكم رجل ... أهدى السلم بحبكم؟ ظلم
فغناه رجل فتابعه بعض، وخالفه آخرون، فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين بالبصرة، فذكر له أبو عثمان المازني، قال: فأمر بحملي، وإزاحة علتي فلما وصلت إليه وسلمت قال: ممن الرجل؟ قلت: من بيني مازن. قال: أمن مازن قيس، أم مازن تميم، أم مازن ربيعة، أم مازن اليمن؟ فقلت: من مازن ربيعة. فقال لي: ما اسمك؟ يريد: ما اسمك؟ قال: وهي لغة كثيرة في قومنا، فقلت على القياس: مكر، أي بكر، يا أمير المؤمنين، فضحك وقال: اجلس واطبئن. فجلست، فسألني عن البيت، فأنشدته:
؟؟أظليم، إن مصابكم رجلاً.
فقال: أين خبر إن؟ قلت: ظلم. أما ترى يا أمير المؤمنين أن البيت كله متعلق به، لا معنى له حتى يتم بهذا الحرف، إذا قال:
" أظليم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام إليكم " .
فكأنه ما قال شيئاً، حتى يقول: ظلم. قال: صدقت. ألك ولد؟ قلت: بنية. قال: فما قالت حين ودعتها؟ قلت: أنشدت شعر الأعشى:
تقول ابنتي حين جد الرحيل ... أرانا سواءً ومن قد يتم
أبانا، فلا رمت من عندنا ... فإنا بخيرٍ إذا لم ترم

قال: فما قلت لها؟ قال: قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله. ثم أمر له بألف دينار وكسوة و طيب. وكان الواثق عالماً بكل شيء، وله صنعة حسنة في الغناء، وكان يسمى المأمون الصغير، لأدبه وفضله، وكان المأمون يجلسه، وأبوه المعتصم واقف. وكان يقول: يا أبا إسحاق لا تؤدب هارون، فأنى أرضى أدبه، ولا تعترض عليه في شئ يفعله. قال حمدون: ما كان في الخلفاء أحلم من الواثق، ولا أصبر على أذى وخلاف. كان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري، فوجد المسدود من ذلك، فكان يبلغه عنه ما يكره، فيتجاوزه. وكان المسدود قد هجاه ببيتين كانا معه في رقعة، وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه، فناوله رقعة الشعر، وهو يرى أنها رقعة الحاجة، فقرأها الواثق، فإذا فيها:
من المسدود في الأنف ... إلى المسدود في العين
أنا طبلٌ له شق ... فيا طبلاً بشقين
فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه، فقال للمسدود: قد غلطت بين الرقعتين فاحذر أن يقع مثل هذا عليك. ما زاده على هذا القول شيئاً، ولا تغير له عما كان عليه. دخل هارون بن زياد مؤدبه عليه، فأكرمه وأظهر من بره ما شهره به، فقيل له: يا أمير المؤمنين: من هذا الذي فعلت به ما فعلت؟ قال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمته. قال يحيى بن أكثم: لم يحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب إحسان الواثق، ما مات وفيهم فقير. وقال بعضهم: كنا في دار الواثق، فرفع إليه أن رجلاً ممن يعطي الجند أرزاقهم سأل بعض الجند أن يقدمه، وألح عليه فأبى وقال: إني أستشفع عليك. فقال: شفع لك النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ما شفعته. قال: فرأيت الواثق يرتعد غيظاً، وأمر بإحضار الرجل فأدخل. فقال للذي قرفه: قل ما قلت في وجهه، فأعاد، فتلوى الرجل ساعة وأنكر، فقال الواثق: لولا أن في خطأ لفظك إشارة إلى صواب معناك في الإقرار بالنبوة، واستعظامك، ووضعك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غاية التمثيل، لمثلت بك، ولكن أبطحوه، فضربه إيتاخ بيده ثمانين سوطاً، فقال له وهو يضربه: يا أمير المؤمنين، أتضربني بشهادة واحد؟ فقال: والله لو شهد عليك اثنان لقتلتك، والله لا عملت لي عملاً أبداً. قال الواثق لابن أبي دواد، وقد رجع من صلاة العيد: هل حفظت من خطبتي شيئاً؟ قال: نعم، قولك يا أمير المؤمنين: " ومن اتبع عن هواه شرد عن الحق منهاجه، والناصح من نصح نفسه، وذكر ما سلف من تفريطه، فطهر من نيته، وثاب من غفلته، فورد أجله، وقد فرغ من زاده لمعاده، فكان من الفائزين " .

المتوكل
قال يزيد المهلبي: أنس بي أمير المؤمنين في سبعة أيامٍ فوق أنس محمدٍ كان بي في سبع سنين. فقال: إنما أنست بك في سبعة أيام لأنس محمد كان بك في سبع سنين.
قيل للمتوكل: لم تقلد الحسن بن وهب ديوان الرسائل. قال: أخاف أن يحيض في الديوان. قال علي بن يحيى: تغديت مع المتوكل، فقدم لون كان اشتهاه، فوجد فيه ذبابة، فألقاها وأكل، ثم وجد أخرى وأخرى، فلما رفع من بين يديه قال: أعيدوا علينا هذا اللون غداً، وليكن أقل ذباباً مما هوا اليوم. وكان ولد له تسعة بنين قد سماهم بأسماء الصحابة، فولد له مولود آخر، فقالوا: ما تسميه؟ قال: سموه عبد الرحمن بن عوف. وذكر عنده أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ؛ فقال: لا والله ما ينزل في حلقي. فقال له بعض ندمائه: ولم ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: يقال - والله أعلم - : إنه كان رافضياً. حكى عنه أحمد بن يزيد المهلبي، قال: قال يوماً: يا مهلبي، إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها، وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني. قيل: أقبل المتوكل يوماً، فقام الناس من بعيد، ولم يقم المنتصر حتى قرب منه، ففكر المتوكل وتمثل:
هم سمنوا كلباً ليأكل بعضهم ... ولو أخذوا بالحزم لم يسمن الكلب

وقال أحمد بن يزيد: حضرت المتوكل يوماً وعبيد الله بن يحيى يقول له: قد قدمت رسل الطاغية بكتابه، وهو يعظم أمير المؤمنين، ويسميه - إذا ذكره - السيد، وسأل وضع الحرب أربع سنين، وأهدى بقيمة خمسمائة ألف درهم، فبأي شئ تجيبه؟ قال: أجبه بأن رسولهم نهاهم عن الحرب، وأن رسولنا أمرنا بالحرب، ولا سبيل إلى وضعها إلا بإعطاء الجزية، فإن أحب أن أخففها عنهم فعلت. وأعلمه بأني أرق عليه، لأنه بلغني أنه في سن محمد - يعني المنتصر - وأضعف له الهدية، وأكثر له مما يستطرف في بلاده. كان يقول: إني لأكون غضباناً على إنسان، فيبلغني أن الفتح راضٍ عنه فأرضى، وكذلك إن كنت راضياً فبلغني أنه غضبان غضبت. وقال أحمد بن يزيد، قال لي المتوكل يوماً: يا أحمد، ثيابك في رزمة لا في تخت، قلت: كذاك هي. قال: لا تفعل، فإنها في التخت أبقى وأنقى، بان ذلك لي في تكسيرها. قال إبراهيم بن المدبر، قال المتوكل: إذا خرج توقيعي إليك بما فيه مصلحة للناس، ورفق بالرعية فأنقذه، ولا تراجعني فيه، وإذا خرج بما فيه حيف على الرعية فراجعني، فإن قلبي بيد الله عز وجل. بلغ المتوكل أن أحمد بن حمدون النديم يحمل رقاع الفتح إلى خادمه فائز، فأعد له حجاماً، وأوصاه بما يريد، فلما جلس أحمد مع الجلساء قال: يا أحمد، ما جزاء من أفسد غلام فتى؟ قال: تقطع أذنه، فدعا بالحجام، فقطع من أذنه قطعة، وإنما قال له هذا لأنه كان يحدثه كثيراً بحديث الفتيان والعيارين ويتنادر بذلك بين يديه، ثم نفاه إلى بغداد إلى أن كلمه الفتح فيه، فرضي عنه.

المنتصر
قال: لذة العفو أطيب من لذة التشفي؛ وذلك لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم. ولما تمت له البيعة كان أول شئ عمله أن عزل صالح بن علي عن المدينة، وولاها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد، وقال له: إنما وليتك لتخلفني في بر آل أبي طالب، وضاء حوائجهم، ورفعها إلي، فقد نالتهم جفوة، وخذ هذا المال ففرقه على أقدارهم. فقال له علي بن الحسين: سأبلغ بعون الله رضا أمير المؤمنين، فقال: إذاً تسعد بذلك عند الله وعندي. قال بعضهم: سمعته يوماً وهو يناظر قوماً: والله لا عز وفر باطل، ولو طلع من جبينه القمر، ولا ذل ذو حق، ولو كان العالم عليه. قال بعضهم: سمعت بغا الكبير يقول: ما مشيت بين يدي خليفة أهيب من المنتصر، وقد كان مشيي بين يدي المأمون، والمعتصم، والواثق، والواثق والمتوكل. قال أحمد بن الخطيب: سمعت المنتصر لما عفا عن الشاري يقول: أحسن أفعال القادر العفو، وأقبحها الانتقام.
المستعين
قيل: لما جئ بكتاب الخلع إليه، وقيل له: وقع بخطك فيه، أخذ الكتاب فابتدأ ابن أبي الشوارب يملي عليه، فقال له المستعين: أمسك عافاك الله، ثم كتب: أقر أحمد بن محمد ابن أمير المؤمنين المعتصم بالله: " أنه قد بايع أبا عبد الله المعتز بالله، هذه البيعة المنسوخة في هذا الكتاب، موجباً على نفسه كل الشرائط المثبتة فيه، والعهود المؤكدة. وأشهد الله وملائكته على جميع ذلك، وأشهد من حضر، وكفى بالله شهيداً " . قال: فعجب الناس من فهمه وبلاغته. وقال الحسن بن أبي الشوارب: يا أمير المؤمنين، أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ قال: نعم خار الله لك يا أبا العباس.
المعتز
قال الزبير: لما وفدت على المتوكل قال لي: أدخل إلى أبي العباس يعني المعتز، فدخلت إليه وهو صبي فحدثته وأنشدته فسألني عن الحجاز وأهله، ثم نهضت لأنصرف فعثرت فسقطت، فقال لي المعتز: يا زبير:
كم عثرة لي باللسان عثرتها ... تفرق من بعد اجتماع من لاشمل
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
قال أحمد بن وزير البصري: ما رأيت أحسن وجهاً من المعتز ولا أبلغ خطاباً، قال لي لما ولاني القضاء، يا أحمد قد وليتك القضاء وإنما هي الدماء والفروج والأموال ينفذ فيها حكمك ولا يرد أمرك، فاتق الله، وانظر ما أنت صانع. لما جئ إليه بأمان وصيف و بغا من بغداد على دمائهم وأموالهم وأجاز ذلك، وقع بخطه بين الأسطر: خلا ما فيها من حق لمسلم أو معاهد.
المهتدي

كان يقول: لو لم يكن الزهد في الدنيا، والإيثار للحق، مما لطف الله تعالى لي فيهما، ووققني لهما، وإني لأرجو بذلك الفوز يوم القيامة، لتصنعت بما أفعله للناس، لئلا يكون مثل عمر بن عبد العزيز في خلفاء بني أمية، ولا يكون في خلفاء بني هاشم بعدهم مثله، وهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرب. قال بعضهم: سمعته يوماً يقول لعيسى بن فرخانشاه: عاون على الخير تسلم، ولا تجزه فتندم. فقيل له: إن هذا بيت شعرٍ. قال: ما تعمدت ذلك، ولكني رويت قول الشاعر:
تعاون على الخيرات تظفر، ولا تكن ... على الإثم والعدوان ممن يعاون
وجلس يوماً للمظالم، فرفع إليه في الكسور، فسأل الكتاب عنها، فأخبر بها، فقال: معاذ الله أن ألزم الناس ظلماً تقدم العمل به أو تأخر. أسقطوا هذا الظلم، وهذه الكسور على الناس، فقام الحسن بم مخلد. فقال: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من مال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم - ومد بها صوته - فقال له المهتدي: قد عرفت مذهبك في هذا، وتحريضك الموالي بما ينقص من أمالهم، وما أمتنع من أن أقيم حقاً لله، وأزيل مظلمة قد تقدمت بها الأيام، ولو كان في ذلك كل حيف على بيوت الأموال، ولو نظر الموالي أمرك، وأمر نظرائك لأخذوا منك ما خوفتهم أن يذهب مقداره من أموالهم. فارتعد الحسم وأبلس، ثم كلم المهتدي بعد ذلك فيه فترجع إليه. وتظلم إليه رجل من بعض أسبابه، فأحضره، وحكم عليه بما صح عنده، فقام الرجل وشكر، وقال: أنت والله يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى:
حكمتموه، فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال المهتدي: أما أنت فأحسن الله جزاءك، وأما شعر الأعشى فما رويته، ولكني قرأت اليوم قبل خروجي إلى المجلس قول الله عز وجل: " ونضع الموازين القسط يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين " فما بقي أحدٌ في المجلس إلا بكى.

المعتمد
قال محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان: بعثني أبي ألى المعتمد في شئ، فقال لي: اجلس. فاستعظمت ذلك، فأعاد، فاعتذرت بأن ذلك لا يجوز، فقال لي: يا محمد، إن أدبك في القبول مني خيرٌ من أدبك في خلافي. وقال يوماً لبعض ندمائه: إذا عدم أهل التفضل، هلك أهل التجمل. قال بعض جلسائه: كنا بين يديه ليلة فحمل عليه النبيذ، فجعل يخفق نعاساً. وقال: لا تبرحوا أنتم، ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه كأنه ما شرب شيئاً، فقال: أحضروني من الحبس رجلاً يعرف بمنصور الجمال. فأحضر، فقال: مذ كم أنت محبوس؟ فقال: مذ ثلاث سنين. قال: فاصدقني عن خبرك. قال: أنا رجل من أهل الموصل، كان لي جمل أحمل عليه، وأعود بأجرته على عيلتي، فضاق المكسب بالموصل علي، فقلت: أخرج إلى سرمن رأى، فإن العمل ثم أكثر، فخرجت، فلما قربت منها إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق قد كتب صاحب البريد بخبرهم، وكانوا عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالاً على أن يطلقوه، فأطلقوه، وأخذوني مكانه، وأخذوا جملي، فسألتهم بالله، وعرفتهم خبري، فأبوا، وحبسوني معهم، فمات بعضهم وأطلق بعضهم، وبقيت وحدي. فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار، فجاءوا بها، فقال: ادفعوها إليه. فأخذها، وأجرى له ثلاثين ديناراً في كل شهر، وقال: اجعلوا إليه أمر جمالنا. ثم أقبل علينا، فقال: رأيت الساعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال: يا أحمد وجه الساعة إلى الحبس، فأخرج منصوراً الجمال فإنه مظلوم، وأحسن إليه، ففعلت ما رأيتم، ونام.
المعتضد

حدث العلاء بن صاعد قال: لما حمل رأس صاحب البصرة ركب المعتضد في جيش لم ير مثله، فاشتق أسواق بغداد، والرأس بين يديه، فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب: رحم الله معاوية، وزاد حتى علت أصواتهم، فتغير وجهه وقال: أما تسمع يا أبا عيسى؟ ما أعجب هذا ما ذكر معاوية في هذا الأمر؟ والله لقد بلغ أبي الموت، وما أفلت أنا منه إلا بعد مشارفته، ولقينا كل جهد وبلاء، حتى أرحناهم من عدوهم، وحصنا حرمهم وأموالهم. تركوا أن يترحموا على العباس، أو عبد الله بن العباس، أو من ولد من الخلفاء، وتركوا الترحم على أمير المؤمنين علي، وحمزة وجعفر والحسن والحسين، والله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثراً لا يعاودون بعده مثله. ثم أمر بجمع النفاطين لتحريق الناحية، فقلت: أيها الأمير، هذا من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل غلمة لا أخلاق لهم، ولم أزل أداريه وأرفق به حتى سار. لما ولى المعتضد حسنت آثاره، وأمر بالزيادة في المسجد الجامع بالمدينة، وأمر بتسهيل عقبة حلوان. وأنفق عليها نيفاً وعشرين ألف دينار، وأمر برد المواريث على ذوي الأرحام، وأخر النيروز، واستبد الخراج إلى وقت إدراك الغلات، وعمر الدنيا، وضبط الأطراف، وأحسن السياسة. وقيل: إنه أفضت إليه الخلافة وليس في الخزانة إلا سبعة عشر درهماً زائفة ومات وخلف ما يزيد على عشرين ألف ألف دينار. لما مات عبيد الله بن سليمان وزيره استعان ابنه القاسم ببدر، ليوليه مكان أبيه فسأل المعتضد في بابه وألح، فقال: يا أبا النجم، هذه عشرة آلاف ألف دينار من تركته، خذ نصفها، فقال: يا مولاي، إذا فعلت ما أريد فقد أعطيتني كلها. فقال: قد أجبتك، فاغد به غداً، فوالله لا يقتلك غيره، فلست أعرف بالقوم مني، فكان الأمر على ما ظنه وقاله. وقال مرة: يتحدث الناس بأني بخيل، وقد نصبت لهم بدراً يفرق عليهم ما أجمع، وقد وهبت له منذ أيام عشرة ألاف ألف درهم، لو أردتها ما تأخر عني منها درهم واحد، ولكني والله لا أحب أن أهب قليلاً، ولا يحتمل الحال الذي دفعت إليه الكثير. قال: كان الحسن بن زيد يوجه من طبرستان في كل سنة بمالٍ يفرق على الطالبين سراً، واحتذى ذلك بعده محمد بن زيد أخوه، فبلغ ذلك المعتضد، فوجه إلى علي بن محمد القطان الذي كان المال يصل إليه، وقال: لم يبعث هذا سراً؟ الصواب أن يشهر ليرغب الناس في فعل مثله، ويكثر الدعاء لفاعله. لما قصد المعتضد الأعراب فصار في وسط بيوتهم، وهوفي عدد يسير حتى لحقه بدر قيل له: لو عرفك الأعراب فأقدموا عليك كيف كانت تكون حالك، وحال الناس؟ فقال: لو عرفوني لتفرقوا، أما علمتم أن الرصافية وحدها عشرون ألفاً. قال بعضهم أنشد المعتضد:
وما الأدب الموروث لا در دره ... إذا لم تؤيده بآخر مكتسب
فكان بعد ذلك إذا رأى هاشمياً لا أدب له ينشد البيت، ويقول: الآداب خير من الأنساب، والأعمال خيرٌ من الأموال. ولما خرج راعياً إلى الثغر قال: أنا أرغب الناس في خدمتك على بابك. فقال: أنا فيك ضد اسمك. وقال مرة: عجائب الدنيا ثلاث، اثنان لايريان، وواحدة ترى، فأما اللتان لا تريان فعنقاء مغربٍ، والكبريت الأحمر، وأما التي ترى فابن الجصاص. حدث بعض الكتاب قال: حضرت يوماً دار الموفق فرأيته، وبين يديه أبو العباس ابنه المعتضد بالله، وهو يقول: قد فرقت الرجال من المستأمنة وغيرهم على راشد، ووصيف، وراغب، ويأنس، وتركتني لم تضمم إلي منهم أحداً. فقال له الموفق: إن من معك من الرجال فيه كفاية لك، ولست تحتاج إلى أكثر منهم. فقال له: كأنك استكثرت لي من معي. والله ما ولد العباس بن عبد المطلب مثلي، ولا يولد له أيضاً. فقال له أبوه: صدقت. إنك كذلك، ولهذه العلة لم أزدك على ما معك من الرجال.

المكتفي
نظر إلى رأس صاحب الزنج، وقد أخرج إليه من الخزانة، فقال: لعنه الله، فإنه عدا على الأنساب، كما عدا على الأسلاب.
المقتدر

حكي أن علي بن عيسى الوزير كتب عنه كتاباً إلى ملك الروم، فلما عرض عليه. قال: فيه موضع يحتاج إلى إصلاح، فسألوه عن ذلك - وكان قد كتب في الكتاب: " إن قربت من أمير المؤمنين قرب منك، وإن بعدت بعد عنك " - فقال: ما حاجتي إلى أن أقرب منه؟ كتبوا: " إن قربت من أمير المؤمنين قربك، وإن بعدت بعدك " . ولم يعرف للمقتدر مثل هذا الكلام، ولا مثل هذه الفطنة، وقد ذكرناه على ما حكي، وهو بكلام غيره من الخلفاء أشبه.

الراضي
لما استوزر ابن البريدي، وهو غائب عن حضرته، وأجابه إلى مقترحاته، قال الراضي كالآنف من طرحه الوزارة على من يشترط فيها: إن الوزارة قطعة من الخلافة، ووهنها وهن الخلافة. واستكتبت الفضل بن جعفر وكان كاتباً من بيت كتابة وكان نائباً عني فحسن أثره، وما نالته مهنة من أصحاب بجكم تضع من الوزارة، فلما توفي نظرت إلى من بالحضرة، فإذا هم من قد عرفت، وإن علقت هذا الاسم بواحد منهم لم يمض عليه أسبوع حتى يسأل ما لا يقدر عليه، ويمتهن كل الإمتهان. فنظرت إلى أن أرفع من اعلمه في الزمان، ممن يسلم من هذا، ويبعد عنه، فلم أجد غير ابن البريدي، فاستكتبته لهذه العلة، وليبقى اسم الوزارة على حال صيانة ورفعة.
إبراهيم بن المهدي
كتب إلى أحمد بن يوسف الكاتب: لعن الله زماناً أخرك عمن لا يساوي كله بعضك. وقال محمد بن راشد: سألني إبراهيم بن المهدي عن رجل، فقلت: يساوي فلسين. فقال: زدت في قيمته درهمين. وكتب إلى صديق له: لو عرفت فضل الحسن لتجنبت القبيح وأنا وإياك كما قال زهير:
رذي خطلٍ في القول يحسب أنه ... مصيب، فما يلمم به فهو قائله
عبأت له حلمي، وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه، وهو باد مقاتله
ومن إحسان الله إلينا، وإساءتك إلى نفسك أنا صفحنا عما أمكننا، وتناولت ما أعجزك.
فصلٌ له.
لم يبق لنا بعد هذا الحبس شئ نمد أعينننا إليه إلا الله، الذي هو الرجاء قبله ومعه وبعده.
فصل آخر له
أما الصبر فمصير كل ذي مصيبة، غير أن الحازم يقد ذلك عند اللوعة، طلباً للمثوبة، والعاجز يؤخر ذلك إلى السلوة، فيكون مغبوناً نصيب الصابرين ولو أن الثواب الذي جعل الله لنا على الصبر كان لنا على الجزع لكان ذلك أثقل علينا، لأن جزع الإنسان قليل، وصبره طويل، والصبر في أوان الجزع أيسر مئونة من الجزع بعد السلوة، ومع هذا فإن سبيلنا في أنفسنا على ما ملكنا الله منها ألا نقول ولا نفعل ما كان مسخطاً لله، فأما ما يملكه الله من حسن عزاء النفس، فلا نملكه من أنفسنا. وكتب إلى طاهر: زادك الله للحق قضاءاً، وللشكر أداء. بلغني رسول عنك ما لم أزل أعرفه منك، والله يمتعني بك، ويحسن في ذلك عني جزاءك ومع ذلك فإني أظن أني علمتك الشوق، لأني ذكرته لك، فهيجته منك. والسلام.
فصل آخر
وما الحق إلا حق الله، فمن أداه فلنفسه، ومن قصر عنه فعليها. نسأل الله أن يعمرنا بالحق، ويصلحنا بالتوفيق ويخصنا بالتقوى.
فصل آخر له

وصلني كتابك السار المؤنس؛ فكان أسر طالع إلي، وأحسنه موقعاً مني، إذ كنت أستعلي بعلوك، وأرى نعمتك تنحط إلي، ويتصل بي منها ما يتصل بالأدنين من لحمتك، وحملة شكرك ومظان معروفك، والمقيمين على تأميلك، فلا أعد مني الله ما منحني منك، ولا أزال عني ظلك، ولا أفقدني شخصك. وكتب إلى المأمون: لولا أن يدي أشجع عليه من لساني لشافهته بحاجتي. ولما أدخل على المأمون عند الظفر به سلم عليه، وقال: يا أمير المؤمنين، ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن مد له في الأناة حسن عنده الذنب، وقد جعلك الله فوق كل ذى ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك. فقال المأمون: يا إبراهيم، إني شاورت العباس ابني، وأبا إسحاق أخي في أمرك، فأشارا علي بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت القتل للازم حرمتك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد نصح المشير لما جرت به العادة في السياسة، وحياطة الخلافة إلا أنك أبيت أن تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو، فإن عاقبت فلك نظير، وإن عفوت فلا نظير لك، فإن جرمي أعظم من أن أنطق فيه بعذر، وعفو أمير المؤمنين أجل من أن يفي به شكر. فقال المأمون: مات الحقد عند هذا العذر. فاستعبر إبراهيم، فقال المأمون: ما شأنك؟ قال: الندم، إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام علي، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنه وإن بلغ جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه، وإن لي لشفعة الإقرار بالذنب وحق العمومة بعد الأب فلا يسقط عن كرمك عمك، ولا يقع دون عفوك عندك. فقال له المأمون: لو لم يكن في حق نسبك حق الصفح عنك لبلغك ما أملت حسن تنصلك، ولطف توصلك. ثم أمره بالجلوس، وقال له: ما البلاغة يا إبراهيم؟ قال: أن يكون معناك يجلي عن مغزاك. فقال المأمون: هذا كلام يشذر بالذهب، لقد أذهب به وغراً كان في صدري عليه.

عبد الله بن المعتز
كتب إلى بعض إخوانه: لو كنت أعلم انك تحب معرفة خبري لم أبخل به عليك، ولو طمعت في جوابك لسألت عن خبرك، ولو رجوت العتبى منك لأكثرت عتابك، ولو ملكت الخواطر لم آذن لنفسي في ذكرك. ولولا أن يضيع وصف الشوق لأطلت به كتابي، ولولا أن عز السلطان يشغلك عني لشغلت به سروري، والسلام. وكتب يذم رجلاً: ذكرت حاجة أبي فلان المكنى ليعرف، لا ليكرم، فلا وصلها الله بالنجاح، ولا يسر بابها للانفتاح، وذكرت عذراً نضح به عن نفسه، فوالله ما نضح عنها لكنه نضح عليها، وأنا والله أصونك عنه، وأنصح لك فيه، فغنه خبيث النية، متلقف للمعايب مقلب للسانه بالملق، شائن بالتخلق وجه الخلق، موجود عند النعمة، مفقود عند الشدة، قد أنس بالمسالة، وضري بالرد، فلا تعق عقلك باختياره، ولا توحش النعمة بإذلالها له. وقال ابن المعتز: الخضاب من شهود الزور. ولعبد الله بن المعتز آداب مجموعة، وحكم تمر أكثرها في كلام المتقدمين، وفيها نوادر من كلام أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وغيره، وقد اخترت بعضها، وأوردته هذا المكان، فمنها: إعادة الاعتذار تذكير بالذنب في العواقب شاف أو مريح. العقل غريزة تربيها التجارب. النصح بين الملإ تقريع. أقم الرغبة إليك مقام الحرمة بك، وعظم نفسك عن التعظم، وتطول ولا تتطاول.
الأمل رفيقٌ مؤنسٌ؛ إن لم يبلغك فقد استمتعت به. لا يقوم عز الغضب بذل الاعتذار. الشفيع جناح الطالب. إن بقيت لم يبق الهم. لا تنكح خاطب سرك. من زاد أدبه على عقله كان كالراعي الضعيف مع غنم كثيرة. الدار الضيقة العمى الأصفر.
إذا هرب الزاهد من الناس فاطلبه، وإذا طلبهم فاهرب منه. النمام جسر الشر. لا تشن وجه العفو بالتقريع. إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شيءٍ.
العجر نائمٌ، والحزم يقظان. من تجرأ لك تجرأ عليك. ما عفا عن الذنب من قرع به. أمر المكاره ما لم يحتسب. عبد الشهوة أذل من عبد الرق. لا ينبغي للعاقل أن يطلب طاعة غيره، وطاعة نفسه عليه ممتنعة. الناس نفسان: واجدٌ لا يكتفي، وطالب لا يجد. ذل العزل يضحك من تيه الولاية. كلما كثر خزان الأسرار ازدادت ضياعاً. بشر مال البخيل بحادثٍ أو وارثٍ. الحاسد مغتاظٌ على من لا ذنب له، بخيل بما لم لا يملكه. من أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً. من كثر حقده قل عتابه، وما أكثر من يعاتب ليطلب علة للعفو.

الحازم من لم يشغله البطر بالنعمة عن العمل للعقبة، والمهم بالحادثة عن الحيلة لدفعها. كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحاً فيها. بالمكاره تظهر حيل العقول.
من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم، ولولا من يقبل الجود لك يكن من يجود. العالم يعرف الجاهل، لأنه قد كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم، لأنه لم يكن عالماً.
حسبك من عدوك ذله في قدرتك. إخوان السوء كشجرة النار يحرق بعضها بعضاً. كفى بالظفر شفيعاً للمذنب إلى الحليم. زلة العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير. أوهن الأعداء كيداً أظهرهم لعداوته. من مدحك بما ليس فيك فحقيق أن يذمك بما ليس فيك. أبق لرضاك من غضبك، وإذا طرت فقع قريباً. لا تلتبس بالسلطان في وقت اضطراب الأمور عليه، فإن البحر لا يكاد يسلم صاحبه في حال سكونه، فكيف لا يهلك مع اختلاف رياحه، واضطراب أمواجه؟ النفس المتفردة بطلب الرغائب وحدها تهلك. فساد الرعية بلا ملك كفساد الجسم بلا روحٍ. إذا خلي عنان العقل، ولم يحبس على هوى نفسٍ أو عادة دينٍ أو عصبيةٍ لسلف، ورد بصاحبه على النجاة.
لا تسرع إلى أرفع موضع في المجلس، فالموضع الذي ترفع إليه خير من الموضع الذي تحط عنه. إذا زادك الملك تأنيساً فزده إجلالاً. الغضب يصدئ العقل حتى لا يرى صاحبه فيه صورة حسنٍ فيفعله ولا قبيحٍ فيجتنبه.
من تكلف مالا يعنيه فاته ما يعنيه. الحاسد يظهر وده في اللقاء، وبغضه في المغيب، واسمه صديق، ومعناه عدو. السامع للغيبة أحد المغتابين. لا راحة لحاسد، ولا حياء لحريص. المسئول حر حتى يعد، ومسترق بالوعد حتى ينجز.
لو تميزت الأشياء كان الكذب مع الجبن، والصدق مع الشجاعة، والراحة من اليأس، والتعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والذل مع الدين.
المعروف إليك غلٌ لا يفكه عنك إلا شكرٌ أو مكافأة. لم يكتسب مالاً من لا يصلحه كثرة مال. الميت يعزي ورثته عنه.
من كرمت عليه نفسه هان عليه ماله. من كثر مزاحه لم يسلم من استخفاف به، أو حقد عليه. كثرة الدين تضطر الصادق إلى الكذب، والمنجز إلى الإخلاف. لن يستطيع أحد أن يشكر الله تعالى على نعمة بمثل الإنعام بها. عار النصيحة يكدر لذتها. رب صديق يؤتى من جهله لا من نيته.
أول الغضب جنون، وآخره ندم. انفرد بسرك، ولا تودعه حازماً فيزل، ولا جاهلاً فيخون. علم الإنسان ولده المخلد. المعروف رقٌ، والمكافأة عتقٌ؛ ليكن الأنس أغلى أعلاق مودتك، وأبطأها عرضاً على صديقك.
لا تقطع أخاك إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه، ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعة فيه، فتسد طريقه عن الرجوع إليك، ولعل التجارب أن ترده إليك، وتصلحه لك.
من أحس بضعف حيلته عن الاكتساب بخل. الأمانة رأس مال الجاهل. الجاهل صغيرٌ إن وكان شيخاً، والعالم كبير وإن كان حدثاً.
الميت يقل الحسد له، ويكثر الكذب عليه. الحرص ينقص من قدر الإنسان، ولا يزيد في حظه. إذا نزلت بك النعمة فاجعل قراها الشكر.
الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود. أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه. لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقاً. أحرس منزلتك من الفساد عند سلطانك بمثل ما اكتسبتها به من الجد والمناصحة، واحذر أن يحطك التهاون عما رقاك إليه التحفظ.
اذكر عند الظلم عدل الله فيك، وعند القدرة قدرة الله عليك. لا يحملنك الحنق على اقتراف إثم، فتشفي غيظك، وتسقم دينك. الملك بالدين يبقى، والدين بالملك يقوى. اقبل نصح الشيب وإن عجل. أهل الدنيا كركب يسار بهم، وهم نيام. غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله. كأن الحاسد إنما خلق ليغتاظ. أغن من وليته عن السرقة، فليس تكفيك من لم تكف. عقل الكاتب في قلمه. يشفيك من الحاسد أنه يغتم في وقت سرورك. اقتص من شهوة خالفت عقلك بالخلاف عليها.
التواضع سلم الشرف. السخاء حارس العرض من الذم. لا تستقل شيئاً من زيادة الله لك، فتنفر بقيتها عنك، وقليل يترقي منه إلى كثير خير من كثير ينحط عنه إلى قليل. لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطاً.

الكتاب والج الأبواب، جرئ على الحجاب، مفهم لا يفهم، وناطق لا يتكلم. ما كل من يحسن وعده يحسن إنجازه. وربما أورد الطمع ولم يصدر، وضمن ولم يف. وربما شرق شارب الماء قبل ريه. ومن تجاوز الكفاف لم يغنه إكثار. وكلما عظم قدر المنافس فيه عظمت الفجيعة به. ومن ارتحله الحرص أنضاه الطلب. والأماني تعمي أعين البصائر. والحظ يأتي من لا يأتيه. وأشقى الناس بالسلطان صاحبه، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقاً. ولا يدرك الغني بالسلطان إلا نفسٌ خائفة، وجسمٌ تعبٌ، ودين منثلم - وإن كان البحر كثير الماء فإنه بعيد المهوى، ومن شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة، وما أحلى تلقي النعمة، وأمر عاقبة الفراق. ومن لم يتأمل الأمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله. والتثبت يسهل طريق الرأي إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة.
كل مكروهٍ ختم بمحبوبٍ، وانتهى إلى السلامة، فالهم به زائل، والأجر عليه حاصل. والحوادث الممضة مكسبة لحظوظ جزيلة، منها: ثواب المدخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريف بقدر المنعم وموزن على مقارعة الدهر، وفي الشكر درك المزيد وقضاء حق المنعم، ومواقع أقدار الله لك خير من مواقع آمالك.
بعد العسر يسرٌ، والصبر إلى تفريجٍ. ربما أعقبت السابقة وأدرك المنضى ومن ولج في النائبة صابراً خرج منها مثقفاً. إياك والتقصير، وتمني كل التيسير، ولا تدع الظلم يستمر بك إذا أظلك، وأعلم أن الظالم سريع الوثبة قريب العثرة. ومن لم يعدل عدل الله فيه، ومن حكم لنفسه حكم الله عليه.
لما عرف أهل النقص حالهم عند أهل الكمال استعانوا بالكبر ليعظم صغيراً، ويرفع حقيراً وليس بفاعل. إن الله يمتحن بالإنعام عليك، فأفد من فائدته، واستمد فضلك من فضله.
بكرم الله نبلغ الكرم، ومن نعمه حمد المنعم، وهو المتغمد للذنوب في عفوه، والناشر على الخطائين جناح ستره، الكاشف الضر بيده التي بالعدل عاقبت، والمجيب للدعاء برحمته التي بالتوفيق أنطقت، والجواد بما كان في قدرته، والمنعم قبل الاستحقاق لنعمته، كم سيئة قد أخفاها حلمه حتى دخلت في عفوه، وحسنة ضاعفها فضله حتى عظمت عليها مجازاته.
إنما يعرف اليقين بالله من التقوى.
الناس وفد البلى، وسكان الثري، ورهن المنايا. أنفاس الحي خطاه إلى أجله، وأمله خادع له عن عمله، والدنيا أكذب واعديه، والنفس أقرب أعاديه، والموت ناظرٌ إليه وينتظر فيه أمراً لا يعييه.
على قدر إخلاصك الشكر تزيد عندك النعم، ويسرع إليك المرجو.
إن أمر الله ونهيه ما وقعا إلا على خير في الدنيا قبل الآخرة ندب إليه، أو شر في الدنيا قبل الآخرة حذر منه، ثم وعد بالثواب على طاعتهم له، فيما فيه صلاح أحوالهم تفضلاً منه وامتناناً، ولو كان الله تبارك وتعالى لم ينزل كتاباً ولم يرسل رسولاً، ثم أجمع أهل الأرض على اختيار الأمور تصلحهم، وتشد نظامهم، وتنفي مكروه العواقب عنهم، وتجمع الكلمة، وتديم الألفة، ليكون آية لأفعالهم لا يخالفونها، ولا يستبدلون بها، لم يكنك إلا أمر الله ورسله، ولو أجمعوا على الاجتناب لأمور تدعو إلى الفرقة، وترشح أطفال الضغائن، وتدب عقارب الشر، وتسفك الدماء، وتشظي العصا، وتنقض الحبل، وتشتت الشمل، لم يكن إلا نهي الله عنه ورسله.
لا يزال الإخوان يسافرون في المودة حتى يبلغوا الثقة، فتطمئن الدار، وتقبل وفود التناصح، وتؤمن خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتخل عقد التحفظ. لولا الخطايا أشرق نور الفؤاد.
هي الدنيا تعير وتستعير، ومن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً. العاقل لا يستقبل النعمة ببطر، ولا يودعها بجزع.
الدنيا تطرق بطرقة نقمة، وتنبه برائع نجعه، وتجرع ثكلها كأساً مرة، تقتل معترضة، وتعترض متنكرة، وتقفي بالرضاع، وتنشئ العظام، وتلدح الأعمار، وتنشر الآمال، وتفيد لتكيد، وتسر لتغر، وبهذا الخلق عرفت، وعلى هذا الشرط صوحبت.
الأمور وإن كانت مقدرة فمن تقدير الله في أكثر ما جربنا أن يكون المحتال أقرب إلى المأمول، وأبعد من المحذور، من المفرط في الأمور، المستسلم للخطوب، المؤخر لاستعمال الحزم.

إن الله يبتدئ بمواهب الدنيا، فإذا استرجعها كانت مواهب الآخرة. من عظمت النعمة عليه كثرت الرغبة إليه، فاستجلب بالإنعام منك إنعام الله عليك، واستزد بما تهب ما يهب لك، وعجل إن نويت جوداً، وتأن إن أردت تمنعاً، ولا تكن ممن ولايته مواعيد، وصرفه اعتذار.
العقل كشجرة أصلها غزيرة، وفرعها تجربة، وثمرتها حمد العاقبة، وما أبين وجوه الخير والشر في مرآة العقل إن لم يصدئها الهوى. ما ذل قوم حتى ضعفوا، وما ضعفوا حتى تفرقوا، وما تفرقوا حتى اختلفوا، وما اختلفوا حتى تباغضوا، وما تباغضوا حتى تحاسدوا، وما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض.
تناول الفرصة الممكنة، ولا تنتظر غداً، ومن لغد من حادث بكفيل؟ ما أقل من يحمده المطالب، ويستقل به العاثر، ويرضي عنه السائل وما زالت أم الكرم نزوراً، وأم اللؤم ولوداً. وأكثر الواجدين من لا يجود، وأكثر الأجاود من لا يجد. وما كل من يورق بوعد يثمر بإنجاز.
ولا بد لمن افتقرت حياته إلى المادة، وعهد بقاؤه إلى المطعم والمشرب من يضطر إلى السعي، ويحفز إلى الطلب، فينجح مرة، ويكدي أخرى، وقد قرن الرزق بسببه، والعيش بالتماس مصلحته وبذل الافتقار.
ما كل هفوةٍ تعد ذنباً، ولا كل إنكار يستحق أن يسمى عتباً.
إخوان السوء ينصرفون عند النكبة، ويقبلون مع النعمة، ومن شأنهم التوسل بالإخلاص والمحبة، إلى أن يظفروا بالأنس والثقة، ثم يوكلون الأعين بالأفعال، والأسماع بالأقوال؛ فإن رأوا خيراً ونالوه لم يذكروه ولم يشكروه، وعملوا على أنهم خدعوا صاحبهم وقمروه؛ وإن رأوا شراً أو ظنوه أذاعوه ونشروه؛ فإذا أدمت مواصلتهم فهو الداء المماطل، المخوف على المقاتل؛ وإن استرحت إلى مصارمتهم ادعوا الخبرة بك لطول العشرة؛ فكان كذب حديثهم مصدقاً، وباطله محققاً.
إنما يقتل الكبار الأعداء الصغار، الذين لا يخافون فيتقون. ولا يؤبه لهم وهم يكيدون.
ما ينفع ولد الملك من تأديب المؤدبين إياه؟ وهو يغدو ويروح فيراه على خلاف ما يأمره به المؤدبون، ولم يزل الباطل على نفوس الرجال أخف محملاً، وأحلى طعماً؛ فكيف الصبيان؟ . المؤدب يأمر الغلام بألا يشتم أحداً، ويتجنب المحارم، ويحسن خلائقه، ويعلمه من الفقه الأبواب التي لا غنى بمسلم عن معرفتها، ومن الشعر الشاهد والمثل، ومن الإعراب ما يصلح له لفظه، ومن الغزل أعفه. وهو يرى أباه في كل ساعةٍ بخلاف ما يؤمر به، وتاركاً لما حض عليه؛ حتى إنه ليستثقل اللفظة تجري في مجلسه بإعراب ويصد عن منشدٍ لبين شعر، ولا يخاطب غلامه ولا يمازح جليسه إلا بالشتم واللعنة، ولا يحتشم من ورود محرمٍ، ولا يتقي كبيرةً؛ ثم يراه مع ذلك وقد بلغ غاية آماله من الدنيا؛ فيوشك أن يحدث نفسه بأن أباه لا يخلو من أن يكون علم ما يسام فاطرحه، ورأى أنه لا خير فيه، أو لم يعلم شيئاً من ذلك فلم يضره جهله إياه، ولا صرف عنه حظاً من دنياه، وكلا المعنيين مزهدٌ له في قبول الأدب، ومزينٌ له ترك عنائه، وربح تعبه فيه.
لا تكاد تصح لكذابٍ رؤيا؛ لأنه يخبر عن نفسه في اليقظة بما لم ير فتريه في النوم ما لا يكون.
لا يفسدك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. من المحدثين من يحسن أن يسمع ويستمع، وينفي الإملال ببعض الإقلال، ويزيد إذا استملى من العيون الاستزادة، ويعرف كيف يفصل ويصل، ويحكي ويشير، فذاك يزين الأدب كما يتزين بالأدب.
رب ذنبٍ مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب له، ولا يجاوز به حد الارتياع إلى الإيقاع.
إن للأزمان المذمومة والمحمودة أعماراً وآجالاً كأعمار الناس وآجالهم؛ فاصبروا لزمان السوء حتى يفنى عمره، ويأتي أجله.
أسباب فتن النساء ثلاثةٌ: عينٌ ناظرةٌ، وصورةٌ موافقة، وشهوة قادرةٌ؛ فالحكيم من لم يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة، ولو أن رجلاً رأى امرأةً فوافقته ثم طالبها فتأبت عليه، هل كان إلا تاركها؟ فإن تأبى عليه عقله في مطالبتها كتأبيها عليه في مساعفتها، وقدع نفسه عن لذته، قدع الغيور إياه عن حرمته سليم.
ينبغي للعاقل أن يغني أولاده في حياته ليؤدبهم في حال الغنى، ويعلمهم سياسة النعمة، وإلا ظفروا بالغنى بعده وهم جهالٌ به، فلم يكتسبوا حمده، وأسرعوا للتعري، وحصلوا على ذم الصاحب، وندم العواقب.

اجهل ممن لا يكتسب الإخوان من ينفقهم. مشاورة الحازم المشفق ظفر، ومشاورة المشفق غير الحازم خطر. لا يكن فقرك كفراً، وغناك طغياناً. المشورة راحةٌ لك، وتعبٌ على غيرك.
ما تكاد الظنون تزدحم على أمرٍ مستورٍ إلا كشفته. ينبغي للعاقل أن يكتسب ببعض ماله المحمدة، ويصون ببعضه نفسه عن المسألة.
من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم، واستفاد ما لم يعلم، خير المعروف ما لم يتقدمه المطل، ولم يتبعه المن. المعروف كنزٌ فانظر من تودعه. من ترك العقوبة أغرى بالذنب.

الباب الرابع
كلام جماعة من بني أمية
قال سعيد بن العاص: لا تمازح الشريف؛ فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك.
ودخل عمرو بن سعيد إلى معاوية فقال له: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إلي، ولم يوص بي. قال: فبأي شيءٍ أوصاك؟ قال: أوصاني ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه. فقال معاوية لأصحابه: إن ابن سعيدٍ هذا لأشدق.
قال عنبة بن أبي سفيان لمعلم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاح نفسك؛ فإن عيونهم معقودةٌ بعينك؛ فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح ما استقبحته؛ علمهم كتاب الله، وروهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تكرههم على علمٍ فيملوه، ولا تدعهم فيهجروه، ولا تخرجهم من علمٍ إلى علمٍ حتى يتقنوه فإن ازدحام العلم في السمع مضلة للفهم؛ وعلمهم سير الحكماء، وهددهم بي، وأدبهم دوني ولا تتكل على عذرٍ مني؛ فإني اتكلت على كفايةٍ منك.
أطعم أبو سفيان الناس في حجة الوداع، فقصر طعامه، فاستعان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعانه بألف شاة؛ فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي؛ لقد حاربناك فما أجبناك، وسألناك فما أبخلناك.
قال سعيد بن العاص؛ موطنان لا أعذر من العي فيهما: إذا سألت حاجةً لنفسي، وإذا أكلمت جاهلاً.
وكان سعيد بن العاص والياً على المدينة من قبل معاوية، وكان معاوية يعاقب بينه وبين مروان في ولايتها، وكان يغرى بينهما؛ فكتب إلى سعيد: أن اهدم دار مروان، فلم يهدمها، وأعاد إليه الكتاب بهدمها، فلم يفعل، فعزله، وولى مروان، وكتب إليه: أن اهدم دار سعيد؛ فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها؛ فقال له سعيدٌ: يا أبا عبد الملك؛ أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إلي أمير المؤمنين، ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت. فقال: ما كنت لأفعل. قال: بلى، والله لو كتب إليك لهدمتها، قال: كلا يا أبا عبد الملك؛ وقال لغلامه: انطلق فجئني بكتاب معاوية؛ فجاء به، فقال مروان: كتب إليك يا أبا عثمان في هدم داري، فلم تهدمها ولم تعلمني؟ قال: ما كنت لأهدم دارك، ولا أمن عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا؛ فقال مروان: فداك أبي وأمي، أنت والله أكثر مني ريشاً وعقباً، ورجع فلم يهدم دار سعيد.
وقدم سعيد على معاوية، فقال له: يا أبا عثمان؛ كيف تركت أبا عبد الملك؟ قال: تركته ضابطاً لعملك، منفذاً لأمرك. قال: إنه كصاحب الخبزة كفي نضجها فأكلها. قال: كلا والله يا أمير المؤمنين، إنه لمع قومٍ يحمل بهم السوط، ولا يحل لهم السيف، يتهادون كوقع النبل، سهماً لك وسهماً عليك. قال: ما باعد بينك وبينه؟ قال: خافني على شرفه، وخفته على شرفي. قال: فما ذاله عندك؟ قال: أسره غائباً، وأسوءه شاهداً؟ . قال: تركتنا يا أبا عثمان في هذه الهنات. قال: نعم يا أمير المؤمنين، فتحملت الثقل وكفيت الحزم، وكنت قريباً لو دعوت أجبت، ولو وهيت رفعت.
خطب عتبة بن أبي سفيان بمصر؛ فقال: يا حاملي ألأم آنافٍ ركبت بين أعينٍ، إني إنما قلمت أظفاري عنكم؛ ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاح أمركم إذ كان فساده راجعاً عليكم؛ فإذا أبيتم إلا الطعن على الولاة، والتعرض للسلف؛ فو الله لأقطعن على ظهوركم بطون السياط، فإن حسمت داءكم؛ وإلا فالسيف من ورائكم. فكم من موعظةٍ منا لكم مجتها قلوبكم، وزجرة صمت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم لنا بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحق، إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى.
كتب زيادٌ إلى سعيد بن العاص يخطب إليه أم عثمان ابنته، وبعث إليه بمالٍ وهدايا كثيرة، فلما قرأ كتابه أمر حاجبه بقبض المال والهدايا وقسمها بين جلسائه؛ فقال الحاجب: إنها أكثر من ذلك، فقال: أنا أكثر منها. ففعل؛ ثم كتب إلى زيادٍ: بسم الله الرحمن الرحيم.
" إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى " .

كان أبو سفيان إذا نزل به جارٌ قال له: يا هذا؛ إنك قد اخترتني جاراً واخترت داري داراً؛ فجناية يدك علي دونك، وإن جنت عليك يدٌ فاحتكم حكم الصبي على أهله.
ولى أبو بكر - رضي الله عنه - يزيد بن أبي سفيان ربعاً من أرباع الشام، فرقى المنبر فتكلم، فأرتج عليه، فاستأنف، فأرتج عليه؛ فقطع الخطبة ثم أقبل على الناس؛ فقال: " سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً، وبعد عيٍّ بياناً، وأنتم إلى أميرٍ فعال أحوج منكم إلى أميرٍ قوالٍ. " فبلغ كلامه عمرو بن العاص؛ فقال: هن مخرجاتي من الشام. استحساناً لكلامه.
ذكر العتبي: أن معاوية بن أبي سفيان أسر إلى عمرو بن عنبسة بن أبي سفيان حديثاً، قال عمرو: فجئت إلى أبي، فقلت: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً، أفأحدثك به؟ قال: لا؛ لأنه من كتم حديثه كان الخيار إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً، بعد أن كنت مالكاً. فقلت: أو يدخل هذا بين الرجل وابنه؟ قال: لا، ولكن أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر. قال: فرجعت إلى معاوية، فذكرت ذلك له. فقال: أعتقك أخي من رق الخطأ.
خطب عتبة بن أبي سفيان الناس بالموسم في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديثٌ بالفتنة، فاستفتح، ثم قال: أيها الناس؛ إنا قد ولينا هذا الموضع الذي يضاعف الله عز وجل للمحسنين فيه الأجر، وعلى المسيء الوزر، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمنٍ حتفه في أمنيته. اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم، وإياكم و لو، فقد أتعبت من كان قبلكم، ولن تريح من بعدكم. اسأل الله أن يعين كلاً على كلٍّ.
فنعق أعرابي من مؤخرٍ المسجد، فقال: أيها الخليفة؛ فقال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه. قال: قد أسمعت فقل. قال: والله لئن تحسنوا وقد أسأنا خيرٌ لكم من أن تسيئوا وقد أحسنا؛ فإن كان الإحسان لكم، فما أحقكم باستتمامه وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا رجلٌ من بني عامرٍ يمت إليكم بالعمومة، ويختص إليكم بالخؤولة، وقد وطئه كيد زمانٍ، وكثرة عيال، وفيه أجرٌ، وعنده شكرٌ. فقال عتبة: أستعيذ بالله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
قال داود بن علي لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص، بعد قتله من قتل من بني أمية: أساءك ما فعلت بأصحابك؟ قال: كانوا يداً فقطعتها، وعضداً ففتتها، ومرةً فنقضتها، وجناحاً فنتفته. قال: إني لخليقٌ أن ألحقك بهم. قال: إني إذاً لسعيدٌ.
قيل لأبي سفيان: بم سدت قومك؟ قال: لم أخاصم أحداً إلا تركت للصلح موضعاً.
خطب عثمان بن عنبسةً بن أبي سفيان إلى عتبة بن أبي سفيان ابنته، فأقعده على فخذه، وكان حدثاً؛ فقال: أقرب قريبٍ خطب أحب حبيب، لا أستطيع له رداً، ولا أجد من تشفيعه بداً قد زوجتك، وأنت أعز علي منها، وهي ألوط. بقلبي منك، فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك، وقد قربتك مع قرابتك، فلا تباعدن قلبي منك.
رأى أبو سفيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال للعباس: يا أبا الفضل؛ ما رأيت كاليوم طاعة قومٍ، ولا فارس الأكارم، ولا الروم ذات القرون.
وقال أبو سفيان: إن محمداً لم يناكر أحداً قط. إلا كان معه الأهوال.
يناكر: يحارب، وقيل: يخادع، وقوله: الأهوال مثل قول النبي عليه السلام: " نصرت بالرعب " .
وقال أبو سفيان في غزوة السويق: أما أخذت سيفاً ولا نبلاً إلا تعسر علي، ولقد قمت إلى بكرة قحدةٍ، أريد أن أعرقبها، فما استطبعت سيفي لعرقوبها، فتناولت القوس والنبل؛ لأرمي ظبية عصماء نرد بها قرمنا، فانثنت على سيتاها وانمرط قذذ السهم وانتصل فعرفت أن القوم ليست فيهم حيلةٌ.
وفد ابن عامر على عثمان فدخل عليه - وعنده أبو سفيان - فقال له أبو سفيان: من استخلفت على أهل البصرة؟ قال: زياداً. قال: جد ثديا أمك. استخلفت عليهم رجلاً من الفرس.

وخطب عمرو بن سعيدٍ في فتنة ابن الزبير، فقال: يا أهل المدينة؛ أبنا تضربون سيوفكم؟ . أما إنكم فعلتم فعلتكم الأولى فأقالكم، ولو انتقم بالأول لم تعودوا إلى الثانية، ولكنكم صادفتم مسناً رحيماً، قد فني غضبه، وبقي حلمه؛ فقد وليناكم بالشاب المقتبل الطويل الأمل، البعيد الأجل، حين خرج من الصغر، ودخل في الكبر؛ رفيقٌ عنيف، رقيقٌ كثيف، إن عض نهس، وإن سطا فرس، لا يقعقع له بالشنان، ولا يقرع له بالعصا، يرى ما غاب عنه كما يرى ما حضر.
ورأى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان رجلاً يشتم رجلاً، وآخر يستمع له؛ فقال للمستمع: نزه استماع عن الخناكما تنزه لسانك عن الكلام به؛ فإن السامع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغه في وعائك، ولو ردت كلمة جاهلٍ في فيه لسعد رادها، كما شقي قائلها.
قال أبو سفيان عند ما بلغه تزويج النبي عليه السلام أم حبيبة ابنته. وقيل لأبي سفيان: مثلك تنكح نساؤه بغير إذنه؛ فقال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه.
قال أبو سفيان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : استعملني، فاستعمله على سوق عكاظ، فأتاه رجلان يتنازعان، فقال أحدهما: إن هذا سرق مني مائة دينار، وقال الآخر: ليس كما قال، ولكني استسلفته مائة دينار؛ فأبى أن يسلفنيها، فلما خرج من البيت، جئت برجلين، فأشهدتهما أني آخذٌ من عيبته مائة دينار، وأنها علي له؛ فقال أبو سفيان: أول ما أقضي به أنك لئيمٌ، وأن هذا لا قطع عليه. قال: فأبى المدعي حتى ارتفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد قضيت بقضاء أبي سفيان " .
استعمل عبد الملك نافع بن علقمة بن صفوان على مكة؛ فخطب ذات يومٍ وأبان بن عثمان تحت المنبر، فشتم طلحة والزبير؛ فلما نزل قال لأبان: أرضيتك في المدهنين في أمير المؤمنين؟ قال: لا والله، ولكن سؤتني، حسبي أن يكونا شركاء في أمره. قال أبو عثمان الجاحظ: فما أدري أيهما أحسن: كلام أبان بن عثمان هذا أم كلام إسحاق بن عيسى، فإنه قال: أعيذ علياً بالله أن يكون قتل عثمان، وأعيذ عثمان بالله أن يقتله علي. قال: وذهب إلى معنى الحديث في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أشد أهل النار عذاباً من قتل نبياً أو قتله نبيٌ " .
قالوا: لما استتب الأمر لمعاوية قدم عبد الله بن عباس، وهي أول قدمةٍ قدمها عليه، فدخل وكأنه قرحةٌ يتبجس، فجعل عتبة بن أبي سفيان يطيل النظر إلى ابن عباسٍ، ويقل الكلام معه. فقال ابن عباس: يا عتبة؛ إنك لتطيل النظر إلي، وتقل الكلام معي. ألموجدةٍ فدامت، أو لمعتبةٍ فلا زالت؟ قال له عتبة: ماذا أبقيت لما لا رأيت؟ أما طول نظري إليك فسروراً بك، وأما قلة كلامي معك فقلته مع غيرك، ولو سلطت الحق على نفسك لعلمت أنه لا ينظر إليك عين مبغضٍ.
فقال ابن عباس: أمهيت يا أبا الوليد، أمهيت لو تحقق عندنا أكثر مما ظنناه لمحاه أقل مما قلت.
فذهب بعض من حضر أن يتكلم، فقال معاوية: اسكت. وجعل معاوية يصفق بيديه ويقول:
جندلتان اصطكتا اصطكاكا ... دعوت عركاً إذ دعوا عراكا
إن الداخل بين قريش لحائنٌ نفسه.
كتب عمرو بن سعيدٍ إلى عبد الملك: استدراج النعم إياك أفادك البغي، ورائحة القدرة أورثتك الغفلة، فزجزت عما واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبله، ولو كان ضعف الأسباب يوئس الطالب ما انتقل سلطانٌ ولا ذل عزيزٌ؛ وعن قريبٍ يتبين من صريع بغى، وأسير غفلةٍ، والرحم تعطف على الإبقاء عليك، مع أخذك ما غيرك أقوم به منك.
وقال سعيد بن العاص: قبح الله المعروف إذا لم يكن ابتداءً من غير مسألةٍ، فأما إذا أتاك ترى دمه في وجهه، مخاطراً لا يدري أتعطيه أم لا، وقد بات ليلته يتململ على فراشه، يعاقب بين شقيه؛ مرةً هكذا، ومرةً هكذا؛ من لحاجته، فخطرت بباله أنا وغيري، فميل أرجاهم في نفسه، وأقربهم من حاجته، ثم عزم علي وترك غيري، فلو خرجت له مما أملك لم أكافه، وهو علي أمن مني عليه.

قالوا: لما ولى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك دمشق، ولم يكن في بني أمية ألب منه في حداثة سنه، قال أهل دمشق: هذا غلام شابٌ،ولا علم له بالأمور، وسيسمع منا؛ فقام إليه رجلٌ فقال: أصلح الله الأمير، عندي نصيحةٌ. قال له: ليت شعري ما هذه النصيحة التي ابتدأتني بها، من غير يدٍ سبقت مني إليك؟ قال: جارٌ لي عاص متخلفٌ عن ثغر. فقال له: ما اتقيت الله، ولا أكرمت أميرك؛ ولا حفظت جوارك. إن شئت نظرنا فيما تقول، فإن كنت صادقاً لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أقلناك. قال: أقلني. قال: اذهب حيث شئت لا صحبك الله. إني أراك شر جيلٍ رجلاً.
ثم قال: يا أهل دمشق؛ أما أعظمتم ما جاء به الفاسق؟ إن السعاية أحسب منه سجية، ولولا أنه لا ينبغي للوالي أن يعاقب قبل أن يعاتب كان لي في ذلك رأيٌ، فلا يأتيني أحدٌ منكم بسعايةٍ على أحدٍ بشيء، فإن الصادق فيها فاسقٌ، والكاذب فيها بهاتٌ.
قال: وقع ميراثٌ بين ناسٍ من آل أبي سفيان، فتشاحوا فيه، وتضايقوا فلما قاموا أقبل عمرو بن عتبة على ولده، فقال: إن لقريشٍ درجا تزل عنها أقدام الرجال، وتخشع لها رقاب الأموال، وألسناً تكل عنها الشفار المشحوذة، وغاياتٍ تقصر عنها الجياد المنسوبة فلو كانت الدنيا لهم لضاقت عن سعة أخلاقهم، ولو احتفلت الدنيا ما تزينت إلا بهم.
ثم إن أناساً منهم تخلقوا بأخلاق العوام، فصار لهم رفقٌ باللؤم، وخرق في الحرص، فلو أمكنهم قاسموا الطير أرزاقها، إن خافوا مكروهاً تعجلوا له الغم، وإن عجلت لهم نعمة أخروا عليها الشكر، أولئك أنضاء فكر العجز، وعجزة حمل الشكر.
قال: وقطع عبد الملك أشياء كان يجريها عليهم لتباعدٍ كان بينه وبين خالد بن يزيد بن معاوية؛ فدخل عليه عمرو بن عتبة؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ أداء حقك متعب، ونقصيه فادح، ولنا مع حقك حقٌ عليك؛ لقرابتنا منك، وإكرام سلفنا لك، فانظر لنا بالعين التي نظروا بها إليك، وضعنا بحيث وضعتنا الرحم منك، وزدنا بقدر ما زادك الله.
فقال عبد الملك: أفعل. وإنما يستحق عطيتي من استعطاها، فأما من ظن أنه يستغني بنفسه فسنكله إلى ذلك.
فبلغ ذلك خالد بن يزيد، فقال: أبالحرمان يتهددني؟ ويد الله فوقه مانعةٌ، وعطاؤه دونه مبذول. فأما عمرو بن عتبة فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ.
وكان عبد الملك قد أقطع عمرا نهراً بالبصرة يقال له: هوادر.
خطب سعيد بن العاص أم كلثوم بنت علي - عليه السلام - وبعث مائة ألف درهم، فشاورت الحسن في ذلك، فقال: أنا أزوجك. واتعدوا، ولم يحضر الحسين. فقال سعيد: أين أبو عبد الله؟ فقال الحسن: لم يحضر، وأنا أكفيك. فقال: ولعله كره شيئاً مما نحن فيه. قالوا: نعم. فقال سعيد: لم أكن لأدخل في شيء كرهه أبو عبد الله؛ فتفرقوا عن غير تزويج، وردت المال، فلم يقبله سعيد.
كان أبو سفيان يبني بيتاً، فمر به عمر، فقال: يا أبا سفيان؛ احذر أن تأخذ من الطريق شيئاً، فلما ولى عمر قال أبو سفيان: في است أم دينٍ أذلني لك.
قال سعيد بن العاص لابنه عمرو: إن الولاية تظهر المحاسن والمساوى.
وسئل أبو سفيان: بم سدت قومك؟ قال: لم يقع بيني وبين رجلٍ منازعةٌ إلا تركت للصلح بيني وبينه موضعاً.
وقال سعيد بن العاص: ماشا نمت رجلاً مذ كنت رجلاً؛ لأني لا أشاتم إلا أحد رجلين: إما كريم؛ فأنا أحق من احتمله، وإما لئيمٌ؛ فأنا أولى من رفع نفسه عنه.
قال عبد العزيز بن مروان: ما تأملني رجلٌ قط. إلا سألته عن حاجته، ثم كنت من ورائها.
؟؟

الباب الخامس
نكت لآل الزبير
قدم فضالة بن شريك، على عبد الله بن الزبير؛ فقال: إني سرت إليك الهواجر يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ أما كان لك في البردين ما تسيرهما؟ كأنك تبادر نهباً، لا أبالك، فقال: إن ناقتي قد نقب خفها فاحملني. قال: ارقعها بجلد، واخصفها بهلب، وأنج بها، وسر بها البردين. قال: إنما أتيتك مستحملاً، ولم آتك مستوصفاً. لعن الله ناقةً حملتني إليك. قال: إن وراكبها، فانصرف وهجاه بالأبيات التي يقول فيها:
أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ ... نكدن ولا أمية في البلاد
كان مصعب يقول: المرأة فراشٌ فاستوثروا.

نازع ابن الزبير مروان في مجلس معاوية، فرأى أن ضلع معاوية بن مروان، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن لك حقاً وطاعةً علينا، وإن لنا سطةً وحرمة، فأطع الله يطعك؛ فإنه لا طاعة لك علينا إلا في حق الله، ولا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر.
وقال له مرةً: يا معاوية؛ لا تدع مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه ويضرب صفاتهم بمعوله، لولا مكانك لكان أخف على رقابنا من فراشة، وأقل في أنفسنا من خشاشة. وايم الله لئن ملك أعنة خيل تنقاد له ليركبن منك طبقاً تخافه.
فقال معاوية: إن يطلب هذا الأمر فقد طمع فيه من هو دونه وإن يتركه لمن فوقه؛ وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابةٍ، ولا يذكركم عند ملمةٍ، ويسومكم خسفاً، ويوردكم تلفاً.
قال ابن الزبير: إذاً والله نطلق عقال الحرب، بكتائب تمور كرجل الجراد، تتبع غطريفاً من قريش لم تكن أمه براعية ثلة.
قال معاوية: أنا ابن هند، أطلقت عقال الحرب فأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع، وليس للآكل إلا الفلذة، ولا للشارب إلا الرنق.
ليم مصعب بن الزبير على طول خطبته عشية عرفة؛ فقال: أنا قائم وهم جلوسٌ وأتكلم وهم سكوتٌ ويضجرون.
وكان عبد الله بن الزبير يقول: لا عاش بخيرٍ من لم ير برأيه ما لم ير بعينه.
لما تواقف عبد الملك بن مروان، ومصعب بن الزبير، أرسل عبد الملك إلى مصعب أن انصرف، ولك ولاية العراق ما عشت؛ فأرسل إليه: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا ظالماً أو مظلوماً.
قال عروة بن الزبير: التواضع أحد مصايد الشرف.
لما قال عبد الله بن الزبير: أكلتم تمري، وعصيتم أمري. قال فيه الشاعر:
رأيت أبا بكرٍ وربك غالبٌعلى أمره يبغي الخلافة بالتمر
قال عمر بن شبة: وقف ابن الزبير على باب مية مولاة كانت لمعاوية تدفع حوائج الناس إليها فقيل له: يا أبا بكر تقف على باب مية. قال: نعم. إذ أعيتك الأمور من رءوسها فأتها من أذنابها.
كان عبد الله بن الزبير يسب ثقيفاً إذا فرغ من خطبته بقدر أذان المؤذن، وكان فيما يقول: قصار الخدود، لئام الجدود، سود الجلود، بقية قوم ثمود.
قال عروة: لعهدي بالناس، والرجل منهم إذا أراد أن يسوء جاره سأل غيره حاجته، فيشكوه جاره، ويقول: تجاوزني بحاجته، أراد بذلك شيني.
لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب خطب الناس؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه أتانا خبر مقتل المصعب فسررنا واكتأبنا؛ فأما السرور فلما قدر له من الشهادة، وخير له من الثواب، وأما الكآبة فلوعةٌ يجدها الحميم لفراق حميمه. وإنا والله لا نموت حبجاً كميتة آل أبي العاص. إنما نموت قتلاً بالرماح، وقعصاً تحت ظلال السيوف، فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير خلفاً.
وقال لما أتاه قتله: أشهده المهلب؟ قالوا: لا. كان المهلب في وجوه الخوارج. قال: أفشهده عباد بن الحصين الحبطي؟ قالوا: لا. قال: أفشهده عبد الله بن خازم السلمي؟ قالوا: لا، فتمثل عبد الله بن الزبير:
فقلت لا عيشي جعار، وجرري ... بلحم امرئٍ لم يشهد اليوم ناصره
كان عروة بن الزبير إذا ذكر مقتل عثمان يقول: كان علي أتقى لله من أن يقتل عثمان، وكان عثمان أتقى لله من أن يقتله علي.
قالوا: أقحمت السنة النابغة الجعدي، فلم يشعر به عبد الله بن الزبير حين صلى الفجر، حتى مثل بين يديه يقول:
حكيت لنا الصديق حين وليتنا ... وعثمان والفاروق، فارتاح معدم
فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فأيسر وسائلك عندنا الشعر.
أما صفوة ما لنا فلبنى أسدٍ، وأما عفوتها فلآل الصديق، ولك في بيت المال حقان: حق لصحبتك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحق لحقك في فيء المسلمين. ثم أمر له بسبع قلائص وراحلةٍ وخيلٍ، ثم أمر أن توقر له حباً وتمراً؛ فجعل أبو ليلى يأخذ التمر، فيستجمع به الحب فيأكله، فقال له ابن الزبير: لشد ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى فقال النابغة: أما على ذلك لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما استرحمت قريشٌ فرحمت، وسئلت فأعطت، وحدثت فصدقت، ووعدت فأنجزت فأنا والنبيون على الحوض فراطٌ القادمين " .
قال عروة بن الزبير: ليمنك لئن كنت ابتليت لقد عافيت، ولئن كنت أخذت لقد أبقيت.

وكان عروة يقول لبنيه: يا بني؛ إن أزهد الناس في عالمٍ أهله، هلموا إلي فتعلموا، فإنه يوشك أن تكونوا كبار قوم، إني كنت صغيراً لا ينظر إلي، فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني. فما أشد على امرئ أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله.
ونادى أهل الشام عبد الله: يا بن ذات النطاقين. فقال: إيه والإله، أو: إيهاً والإله.
وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها
وخطب يوماً، فحض على الزهد، وذكر أن ما يكفي الإنسان قليل، فنزغه إنسان من أهل المسجد بنزيغة، ثم خبأ رأسه، فقال: أين هذا؟ فلم يتكلم أحد، فقال: قاتله الله ضبح ضبحة الثعلب، وقبع قبعة القنفذ.
وقال: لما قتل عثمان قلت: لا أستقيلها أبداً، فلما مات أبي انقطع بي، ثم استمرت مريرتي.
ودخل الحجاج إلى عبد الملك، فرأى عنده عروة، فقال: يا أمير المؤمنين أتقعد ابن العمشاء معك على سريرك؟ لا أم له؛ فقال عروة: أنا لا أم لي؟ وأنا ابن عجائز الجنة، ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له يا بن المتمنية؛ فقال عبد الملك: أقسمت عليك ألا تفعل، فكف عروة - أراد بقوله: يا بن المتمنية، قول أم الحجاج، وهي الفارعة بنت همام.
ألا سبيل إلى خمرٍ فأشربها ... أم لا سبيل إلى نصر بن حجاج؟
لما أخرج ابن الزبير ابن العباس من مكة إلى الطائف، مر بنعمان. فنزل فصلى ركعتين، ثم رفع يديه يدعو، فقال: اللهم إنك تعلم أنه لم يك بلدٌ أحب إلي أن أعبدك فيه من البلد الحرام، ولا أحب إلي أن يقبض فيه روحي منه، وإن ابن الزبير أخرجني عنه؛ ليكون أقوى له في سلطانه، اللهم فأوهن كيده، واجعل دائرة السوء عليه.
فلما دنا من الطائف تلقاه أهلها فقالوا: يا بن عم رسول الله، أنت والله أحب إلينا وأكرم علينا ممن أخرجك، هذه منازلنا، تخير فانزل منها حيث أحببت، فنزل منزلاً، فكان يجلس لأهل الطائف في مسجدهم بعد الفجر وبعد العصر، فيتكلم فيحمد الله، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكر الخلفاء فيقول: ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم، ولا أشباههم، ولا مدانيهم؛ ولكنه بقي أقوامٌ يريغون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون جلود الضأن لتحسبوهم من الزاهدين في الدنيا، يراءونكم بأعمالهم، ويسخطون الله بسرائرهم، فادعوا الله أن يقضي لهذه الأمة بالإحسان، فيولي أمرها خيارها وأبرارها، ويهلك شرارها فجارها. ارفعوا أيديكم إلى ربكم، وسلوه ذلكم فيفعلون.
فبلغ الخبر ابن الزبير فكتب إليه: أما بعد؛ فقد بلغني أنك تجلس لأهل الطائف العصرين، تفتيهم بالجهل وتعيب أهل الحلم والفضل، وإن حلمي عنك، واستدامتي فيك جرءاك علي، فاكفف - لا أبا لغيرك - من غربك. واربع على ظلعك، واعقل إن كان لك مقعولٌ، على نفسك، فإنك إن تهنها تجد بها على الناس هواناً، ألم تسمع قول الشاعر:
ونفسك فاكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما
وإني لأقسم له لئن لم تنته عما يبلغني عنك لتجدن جانبي خشناً، ولتجدني إلى ما يردعك عجلاً؛ فر رأيك ممكناً لك، فإن أشفى بك على الردى فلا تلم إلا نفسك والسلام.
فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر أني أفتى الناس بالجهل، وإنما يفتي بالجهل من لم يؤت شيئاً من العلم، وقد - والحمد لله - آتاني الله من العلم ما لم يؤته أباك ولم يؤته إياك.
وذكرت أن حلمك عني هو جرأتي عليك، وتقول: اكفف من غربك واربع على ظلعك، وتضرب لي الأمثال أحاديث الضبع استها.
فمتى رأيتني لعرامك هائباً، وعن حدك ناكلاً؟ وتقول: إن لم أكفف عما يبلغك عني وجدت جانبك خشناً، ووجدتك إلي عجلاً، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى إن أرعيت. فوالله لا أنتهي عن قولٍ بالحق، وصنعة أهل العدل والفضل، وذم الأخسرين أعمالاً. " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " والسلام.
خرج عروة بن الزبير إلى الوليد، فوطئ عظماً، فلم يبلغ دمشق حتى ذهب به كل مذهب؛ فجمع الوليد الأطباء، فأجمع رأيهم على قطعها، فقالوا له: اشرب مرقدا؛ فقال: ما أحب أن أغفل عن ذكر الله، فأحمي له منشار، وكان قطعاً وحسما، فما توجع، وقال: ضعوها بين يدي؛ لئن كنت ابتليت في عضو لقد عوفيت في أعضاء.

فبينا هو على ذلك أتاه نعي ابنه محمد، وكان قد اطلع من سطح على دواب للوليد، فسقط بينها فخبطته؛ فقال عروة: الحمد لله؛ لئن أخذت واحداً لقد أبقيت جماعة؛ ولئن ابتليت في عضو لقد أبقيت أعضاءً.
ثم استأذن الوليد في الرحيل. فلما قرب من المدينة مال إلى ضيعة بالفرع؛ فقيل له: تدع المدينة فقال: ما بقي بها إلا حاسدٌ لنعمة، أو شامت بمصيبة. ويقال: قال: يا أهل المدينة، مجالسكم لاغية، ونفوسكم لاهية، وتقواكم واهية، والبعد منكم عافية.
وأتاه المعزون وفيهم عيسى بن طلحة فقال: يا أبا عبد الله، ما كنا نعدك للسباق، وما فقدنا منك إلا أيسر ما فيك، إذ أبقى الله لنا سمعك وبصرك وعقلك.
فقال عروة: " لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " .
ويقال: إنه لم يظهر منه مع ما أصابه جزعٌ غير هذا اليسير.
وتنقص بعض آل الزبير علياً رضي الله عنه؛ فقال له أبوه: والله ما بنى الناس شيئاً قط إلا هدمه الدين، ولا بنى الدين شيئاً قط. فاستطاعت الدنيا هدمه، ألم تر إلى عليٍّ، كيف تظهر بنو مروان عيبه وذمه، فلكأنما يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء؟ وترى ما يندبون به موتاهم من المديح، فو الله لكأنما يكشفون عن الجيف.
ذكر معاوية لابن الزبير بيعة يزيد، فقال ابن الزبير: أنا، أناديك ولا أناجيك؛ إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تقدم، وتفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التندم؛ فضحك معاوية وقال: تعلمت، أبا بكر الشجاعة عند الكبر.
مر عبد الله بن حسن بن حسنٍ - رضي الله عنهم - بعامر بن خبيب بن عبد الله بن الزبير وهو بمر، فقال له: نزلت مراً فمرر عليك عيشك فقال: بل نزلت مراً في مالٍ طاب لي أكله؛ إذ أنت متلوثٌ في أدناس بني مروان. فقال عبد الله: أما والله لولا عمتي - يعني: صفية بنت عبد المطلب - كنت كبعض بني حميد - يعني حميد بن أسد بن عبد العزى - في شعاب مكة. فقال له عامر: فمنة عمتي عليك أعظم، لولا عمتي كنت كبعض بني عقيل بالأبطح - يعني: بعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
قال عبد الله بن عروة: انطلقت مع عبد الله بن الزبير حتى قعدت بين يدي الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وخطب إليه ابنته، قال: فجعل يغمز يدي غمزاً شديداً؛ فلما قمنا قلت له: لقد تصعدك اليوم الكلام تصعداً ما رأيت مثله. قال: إنه الحسن بن فاطمة. لا والله ما قامت النساء عن مثله.
ولما قتل مصعبٌ قال عبد الله: إن مصعباً أنفذناه إلى العراق؛ فأغمد سيفه، وسل أيره؛ فبلغ ذلك عبد الملك، فقال: لكن أبا خبيب أغمد سيفه وخيره وأيره.
قال قدامة: لما جاءنا قتل الوليد بن يزيد أتيت عبد الله بن عروة، فأخبرته بقتل الوليد وقيام يزيد بن الوليد؛ فقال عبد الله: أوقد فعلوها؟ أنا أبو بكرٍ. والذي نفسي بيده لخروجها من أيديهم أسرع من سير ذكوان.
قيل: وكان ذكوان مولى لقريش، سار من مكة إلى المدينة في ليلةٍ فقال:
إن الذي كلفتها سير ليلةٍ ... من أهل منى نصاً إلى أهل يثرب
لما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد قال ابن الزبير: قتلت بنو أمية حيتها؛ فقال عبد الله بن صفوان: الحية والله القاتل.
قالوا: لما هم عبد الله بن الزبير بما هم به من أمر بني هاشمٍ وإحراقهم وأنه كان ذلك من ولايته على رأس خمس سنين، لم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن بحرفٍ في خطبة، فعوتب على ذلك؛ فقال: والله ما تركته علانيةً إلا أن أكون أقوله سراً، وأكثر منه، ولكن رأيتني إذا ذكرته طالت رقاب بني هاشمٍ، واشرأبت ألوانهم، ولم أكن لأذكر لهم سروراً وأنا أقدر عليه.
ثم صعد المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني حاظر لهم حظيرة، فمضرمها عليهم ناراً، فإني لا أقتل إلا آثماً كفاراً أفاكاً سحاراً، والله ما رضي بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفراً. ولا ترك فيهم خيراً ولا رضيهم لولايةٍ، أهل كذبٍ استفرغ رسول الله - صلى الله عليه - صدقهم.
فقام إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال: وفقك الله يا أمير المؤمنين، فأنا أول من أعانك عليهم. وقام عبد الله بن صفوان فقال: يا بن الزبير، أيم الله ما قلت صواباً، ولا هممت برشد، أرهط. رسول الله صلى الله عليه وسلم تعيب، وإياهم تقتل؟ والعرب حولك، والله لئن لم ينصرهم الناس لينصرهم الله منك.

قال. فقال ابن الزبير: اجلس يا أبا صفوان؛ فإنك لست بناموسٍ وبلغ الخبر عبد الله بن العباس؛ فخرج يتوكأ على يد ابنه حتى دخل المسجد، فقصد قصد المنبر، فقال: أيها الناس، إن ابن الزبير يقول: أن لا أول ولا آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله إن أول من ألف الإلف، وأجاز عيرات قريش لهاشم، وما شدت بعيراً لسفرٍ، ولا أناخت بعيراً لحضرٍ إلا بهاشمٍ، وإن أول من سقى بمكة عذباً، وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب، ثم لقد نشأت ناشيتنا مع ناشيتهم، فإن كنا لقالتهم إذا قالوا، وخطباؤهم إذا نطقوا، وما عددت مجداً كمجد أولنا، ولا كان فيها مجدٌ لغيرنا، إلا في كفر ماحقٍ، ودينٍ فاسقٍ، وضلةٍ ضالة في عشواء عمياء، حتى اختار لها الله نوراً، وبعث لها سراجاً، فأخذه طيباً من طيب، لا يسب بمسبةٍ، ولا تغوله غائلةٌ. فكان أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا، ثم إن السابقين إليه لمنا اللسان، ثم إنا لخير الناس بعده صلى الله عليه وسلم أظهرهم أدباً، وأكرمهم حسباً، والعجب عجباً، أن ابن الزبير يعيب أولاً وآخراً من كان له لسانٌ نطق. كذب أو صدق. متى كان عوامٌ بن عوامٍ يطمع في صفية، لقد جلست الفرس بغلاً، أما والذي لا إله غيره إنه لمصلوب قريشٍ، وإنه لأم عفي تغزل من استها، ليس لها سوى بيتها. من أبوك يا بغل؟ قال: أمي الفرس.
قالوا: صلى عبد الله بن الزبير بالناس، ثم التفت إليهم فقال: لا يبعدن ابن هند؛ إنه كانت فيه مخارج لا نجدها في أحدٍ بعده، والله إن كنا لنفرقه فيتفارق لنا، وما الليث الحرب على براثنه بأجرأ منه. وإن كنا لنخدعه، وما ابن ليلةٍ من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا.
والله لوددت أنا متعنا به ما دام من هذا الجبل حجر - وأشار إلى أبي قبيسٍ - لا يتخون له عقلٌ، ولا بنفض له مرةٌ.
قال عروة: ما بر والديه من أحد النظر إليهما.
قال مصعب بن عبد الله، قال لي أبي: يا بني من استغنى عن الناس احتاجوا إليه؛ فأصلح مالك، وأقل من مجالسة الناس، فإني قد رأيت رجالاً يقتبس منهم، ولا جاه يدفعون به عنهم، ولا جود يفضلون به عليهم. استغنوا بأموالهم، وجلسوا؛ فأتاهم الناس.
بلغ عروة أن ابنه عبد الله يقول الشعر، فدعا به يوماً. فقال: أنشدني، فأنشده؛ فقال: إن العرب تسمى الناقص. الناقص: الذي يمشي على ثلاث قوائم الهزروف، فشعرك هذا هو الهزروف.
لما قطعت رجل عروة، ومات ابنه حمد الله. ونظر إلى رجله، ثم قال: أما والله إني لأرجو ألا أكون مشيت بها معصية لله قط. أيمنك لئن كنت أخذت لقد أعطيت، كان لي أربع جوارح فأخذت واحداً وتركت ثلاثاً؛ وكان لي أربعة بنين، فأخذت واحداً وتركت ثلاثة.
قالوا: كان عبد الله بن الزبير يسجد ليلةً، ويركع ليلة، ويقول ليلة.
روى الزبير بن بكار عن عمه مصعب، قال: لما صار عليٌّ - رضي الله عنه - بالقرب من البصرة بعث ابن عباس، فقال: إيت الزبير فاقرأ عليه السلام، وقل له: يا أبا عبد الله؛ كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة؟ .
فقال ابن عباس: أفلا آتي طلحة؟ قال: إذاً تجده كالثور عاقصاً قرنه في الحزن يقول هذا سهل.
قال: فأتيت الزبير، فوجدته في بيتٍ حارٍّ يتروح، وعبد الله بن الزبير في الحجرة. فقال: مرحباً بك يا بن لبابة، أجئت زائراً أم سفيراً؟ قلت: كلا. أحببت إحداث العهد بك، وابن خالك يقرأ عليك السلام ويقول لك: عرفتنا بالمدينة، وأنكرتنا بالبصرة، فقال:
علقتهم، إني خلقت عصبة ... قتادةً تعلقت بنشبه
فلن أدعهم حتى ألف بينهم.
فأردت منه جواباً غير ذلك، فقال: غدا نرفع المصاحف، ونحاكمك إليها، فخرجت، فقال عبد الله: قل بيننا وبينك دم خليفة، ووصية خليفة، واجتماع اثنين وانفراد واحد، وأم مبرورةٌ فعلمت أنه ليسر مع هذا الكلام لينٌ.
قال الزبير بن بكار: فقدمت العراق فرأيت عمي مصعباً ترك هذا الحديث، فقلت له: لم تركته؟ قال: إني رأيت الزبير في المنام يتعذر من أمر الجمل؛ فقلت له: كيف يتعذر من أمر الجمل وأنت القائل:
علقتهم، إني خلقت عصبة ... قتادةً تعلقت بنشبه
فلن أدعهم حتى ألف بينهم؟ فقال: لم أقله.
حدث وهب مولى آل الزبير أنه قال: كنت مع عبد الله بن الزبير بمكة في ولايته؛ فكتب إليه رجل كتاباً يعظه فيه:

أما بعد؛ فإن التقوى في أهلها علاماتٍ يعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم؛ من صبر على البلاء ورضي بالقضاء، وشكر للنعمة، وذل لحكم القرآن، وإنما الإمام كالسوق، يحمل إليها ما زكا فيها، فمن كان من أهل الحق أتاه أهل الحق بحقهم، ومن كان من أهل الباطل أتاه أهل الباطل بباطلهم؛ فانظر أي الإمامين أنت. والسلام.
قال: فكان عبد الله يعجب من بلاغة هذه الرسالة وإيجازها، ويضعها تحت فراشه، ويتعاهد قراءتها.
كان لعبد الله بن عروة مولاةٌ يقال لها: شهدة، ففزعت ليلاً؛ فسمعها نقول: اللهم إن أحسنت فأحسن إلي، وإن أسأت فأسئ إلي. فقال: أي شهاد، عتق ما يملك إن لم يكن هذا أقل مالك عند ربك.
قال عبد الله بن عروة بن الزبير: إلى الله أشكو عيبي ما لا أدع، ونعتي ما لا آتي، وإنما يبكي للدنيا بالدين.
نازع عبد الله بن الزبير أخاه عمراً، والأمير بالمدينة سعيد ابن العاص، فاستعلى عبد الله في القول؛ فأقبل سعيدٌ على عمرو، فقال: إيهاً يا بن أبي؛ فأقبل عليه عبد الله، فقال: هيها يا بن أبي أحيحة، فو الله لأنا خيرٌ منك، ولأبي خيرٌ من أبيك: ولأمي خيرٌ من أمك، ولخالي خيرٌ من خالك، ولجدي خيرٌ من جدك. ثم، الله رفع بالإسلام بيوتاً ووضع به بيوتاً، فكان بيتي من البيوت التي رفع، وكان بيتك من البيوت التي وضع، وإن خنس أنفك، وانتفخت لغاديدك.
اختصم رجلان في حدٍّ بينهما بالأعوص، فتهاترا وتخاصما، فأتيا الزبير بن هشام بن عروة، وجعلاه حكماً بينهما. قال: فقال لهما: كان رجلان من بني إسرائيل اختصما في أرضٍ، فأذن الله للأرض، فكلمتهما فقالت: لقد ملكني سبعون أعور، وليس منهم الآن أحدٌ على ظهر الأرض. قال: فتفرقا. وقال كل منهما: لا حاجة لي بها، وتراداها.
قيل لعروة الزبيري حين حمل إلى الرشيد مقيداً: اختصب. فقال: حتى أعلم أرأسي لي أم لكم؟ فأدخل عليه في سلسلةٍ، فقال: كنت أشتهي أن أراك فيها، اخلعوا عليه. يا أمير المؤمنين؛ خلعة شتاءٍ لا خلعة صيف.

الباب السادس
نوادر أبي العيناء ومخاطباته
حمله بعض الوزراء على دابةٍ، فانتظر علفها، فلما أبطأ عليه قال: أيها الوزير هذه الدابة حملتني عليه أو حملته علي.
قال له المتوكل يوماً: إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساءوا؛ فقد رضي الله عن عبدٍ فمدحه؛ فقال: " نعم العبد إنه أوابٌ " وغضب على آخر فزناه. قال: ويلك أيزني الله أحداً؟ قال: نعم. قال الله تعالى: " عتلٍّ بعد ذلك زنيم " ، والزنيم: الدخيل في القوم وليس منهم.
وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل يوماً: هل رأيت طالبياً قط. حسن الوجه؟ قلت: نعم، رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنةً واحداً، قال: تجده كان يؤاجر وكنت أنت تقود عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين، قد بلغ هذا من فراغي، أدع الموالي مع كثرتهم وأقود على الغرباء. فقال المتوكل للفتح: أرت أن أشتفي منهم فاشتفى لهم مني.
قال: وقال لي يوماً: لا تكثر الوقيعة في الناس. فقلت: إن لي في بصري شغلاً عن ذلك. فقال: ذاك أشد لحقدك على أهل العافية.
وقال له يوماً المتوكل: إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال: " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " .
وقال يوماً بحضرته لخراشة: ابن كم أنت؟ قال: ابن نيفٍ وخمسين. قال أبو العيناء: زانيةً.
ودخل يوماً إلى ابن ثوابة؛ فقال: بلغني ما خاطبت به أمس أبا الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم يجد عرضاً فيضعه، ولا مجداً فيهدمه، وبعد فإنه عاف لحمك أن يأكله، وسهك دمك أن يسفكه. فقال: ما أنت والكلام يا مكدي؟ فقال أبو العيناء: لا تنكر على ابن ثمانين، وقد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعول على إخوانه، فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا من يستنزل ماء أصلاب الرجال، يستفرغه في جوفه؛ فيقطع أرزاقهم، ويعظم إجرامهم.
فقال ابن ثوابة: ما تشاجر اثنان إلا غلب ألأمهما. فقال له: بها غلبت أبا الصقر.
وقال ثوابة يوماً: كتبت أنفاس الرجال. قال: حيث كانوا وراء ظهرك.
وقال له يوماً نجاح بن سلمة: ما ظهورك وقد خرج توقيع أمير المؤمنين في الزنادقة؟ فقال: نستدفع الله عنك وعن أصهارك.
ودخل على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وهو يلعب بالشطرنج، فقال: في أي الحيزين أنت؟ فقال: في حيز الأمير أيده الله.

وغلب عبيد الله فقال: يا أبا العيناء؛ قد غلبنا، وقد أصابك الندب خمسون رطلاً ثلجاً. فكن أنت في حيلتها. قال: فقام ومضى إلى ابن ثوابة، وقال: إن الأمير يدعوك؛ فلما دخلا قال: أيد الله الأمير، قد جئتك بجبل همذان وما سيذان، فخذ منه ما شئت.
وقال يوماً لولد حجاج بن هارون: في أي باب أنت من النحو؟ قال: في باب الفاعل والمفعول. فقال: أنت في باب أبويك إذاً.
ومر على دار عدو له؛ فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا: كما تحب. قال: فما بالي لا أسمع الرنة والصراخ؟ .
ووعده ابن المدبر بدابةٍ، فلما طالبه قال: أخاف أن أحملك عليه فتقطعني ولا أراك. فقال: عدني أن تضم إليه حماراً لأواظب مقتضياً.
ووعده أن يحمله على بغل، فلقيه في الطريق؛ فقال: كيف أصبحت يا أبا العيناء؟ قال: أصبحت بلا بغلٍ؛ فضحك من قوله، وبعثه إليه. وحمله بعضهم على دابةٍ، فاشتراها ابن الرجل منه بثمنٍ أخره، ولقيه بعد أيامٍ، فقال: كيف أنت يا أبا العيناء؟ قال: بخيرٍ يا من أبوه يحمل وهو يرجل.
وقالت له قينة: هب لي خاتمك أذكرك به. فقال: اذكريني بالمنع.
وقالت له قينة: أنت أيضاً يا أعمى فقال لها: ما أستعين على وجهك بشيءٍ أصلح من العمى.
وقال لصاعدٍ: أنت خيرٌ من رسول الله؛ فقال: ويلك كيف؟ قال: إن الله تعالى قال له: " ولو كنت فظاً غليظ القلي لانفضوا من حولك " ؛ وأنت فظ ولسنا ننفض.
وقال ابن السكيت يوماً: تراك أحطت بما لم أحط به. قال: ما أنكرت؛ فو الله لقد قال الهدهد، وهو أخس طائرٍ لسليمان: " أحطت بما لم تحط به " .
وقال: - وقدم إلى مائدةٍ - عليها أبو هفان وأبو العيناء - فالوذج، فقال أبو هفان: لهذه أحر من مكانك في جهنم. فقال أبو العيناء: إن كانت هذه حارةً فبردها بشعرك.
وقال له صاعدٌ يوماً: ما الذي أخرك عنا؟ قال: بنيتي. قال: وكيف؟ قال: قالت: يا أبه؛ قد كنت تغدو من عندنا فتأتي بالخلعة السرية والجائزة السنية، ثم أنت الآن تغدو مسدفاً، وترجع معتماً، فإلى من؟ قلت: إلى أبي العلاء ذي الوزارتين. قالت: أيعطيك؟ قلت: لا. قالت: أيشفعك؟ قلت: لا. قالت: أفيرفع مجلسك؟ قلت: لا. فقالت: يا أبه، " لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً " .
وقال له عبد الله بن سليمان: إن الأخبار المذكورة في السخاء وكثرة العطاء أكثرها تصنيف الوراقين، وأكاذيبهم قال: ولم لا يكذبون على الوزير أيده الله.
وقال له محمد بن مكرم: لهممت أن آمر غلامي بدوس بطنك. فقال: الذي تخلفه على عيالك إذا ركبت، أو الذي تحمله على ظهرك إذا نزلت؟ .
وقال يوماً لقينةٍ: كم تعدين؟ قالت: ثلاثين سنة. قال: أنت ابنة ثلاثين سنة منذ ثلاثين سنة.
وقيل له: إلى من تختلف اليوم؟ قال: إلى من يختلف عليه.
وأكل عنده سائلٌ فأكثر؛ فقال: يا هذا أطعمناك رحمةً فصيرتنا رحمةً.
وقال له بعض من ناظره: أبلعني ريقي؛ فقال: قد أبلعتك دجلة والفرات.
وقيل له: ما تقول في ابني وهب؟ قال: " وما يستوي البحران هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابه وهذا ملحٌ أجاجٌ " سليمان أفضل. قيل: وكيف؟ قال: " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراطٍ مستقيمٍ " .
وقيل له: ما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم؟ قال: هما الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما.
وقال يوماً لرجل دخل من النصرانية في الإسلام: أتشرب الخمر؟ قال: بلى. قال: لقد أصبت عين الرأي، إذ دخلت في عزة هذه الدعوة، وثبت على شرائط تلك النحلة.
ولما استوزر صاعد بعقب دخوله من النصرانية في الإسلام صار أبو العيناء إلى بابه، فقيل: يصلي. فعاد فقيل: يصلي. فقال: معذورٌ لكل جديدٍ لذة.
وقال يوماً لرجل سلم عليه: من أنت؟ . قال: رجلٌ من ولد آدم. قال: ادن مني عانقني، فما ظننت أنه بقي من هذا النسل أحد.
وقال له أحمد بن سعيدٍ الباهلي: إني أصبت لباهلة فضيلةً لا توجد في سائر العرب. قال: وما هي؟ قال: لا يصاب فيهم دعي، فقال: لأنه ليس فوقهم من يقبلهم، ولا دونهم أحدٌ فينزلون إليه.
وحضره يوماً ابن مكرم فأخذ يؤذيه؛ فقال له ابن مكرم: الساعة والله أنصرف. فقال: ما رأيت من يتهدد بالعافية غيرك.
وقال له يوماً ما يعرض به: كم عدد المكدين بالبصرة؟ قال: مثل عدد البغائين ببغداد.

وقدم ابن مكرم من سفر، فقال له أبو العيناء: ما أهديت لي؟ . قال: قدمت في خف. قال: لو قدمت في خف لخلفت نفسك.
وقال له ابن مكرم: مذهبي الجمع بين الصلاتين. قال: صدقت، ولكن تجمع بينهما بالترك.
وقال له ابن بدرٍ يوماً وهو على بابه: أهذا المنزل؟ قال: نعم، فإن أردت أن ترى سوء أثرك فانزل.
قال له أبو الجماز: كيف ترى غنائي؟ قال: كما قال الله عز وجل: " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " .
ولقى أبا الجماز يوماً على حمار صغير؛ فقال: لقد ساءني حين اضطرك الدهر إلى ركوب أصغر أولادك.
وقال له يوماً: هل تذكر سالف معاشرتنا؟ قال: إذ تغنينا ونحن نستعفيك.
وقال لعلي بن الجهم: إنما تبغض علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأنه كان يقتل الفاعل والمفعول، وأنت أحدهما. قال له: يا مخنث. فقال: " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه " .
وقيل له: إن ابن نوحٍ النصراني عاتبٌ عليك؛ فقال: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " .
وقال له بعضهم: إني لا أرتضي نيتك. فقال: أجل؛ لأني أعتقد الإسلام.
وقال له عبيد الله بن يحيى بن سليمان: اعذرني، فإني مشغولٌ. فقال: إذا فرغت لم أحتج إليك.
وسلم نجاح بن سلمة إلى موسى بن عبد الملك ليستأديه مالاً، فتلف في المطالبة؛ فلقي بعض الرؤساء أبا العيناء، وقال له: ما عندك من خبر نجاح؟ قال: " فوكزه موسى فقضى عليه " ؛ فبلغت كلمته موسى ابن عبد الملك؛ فلقيه فقال: أبي تولع؟ والله لأقومنك. فقال: " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس " .
وقال يوماً لابن مكرم: ألست عفيفاً؟ قال: بلى، ولكنك عفيف الفرج زاني الحرم. فقال: إنما ذاك منذ تزوجت بأمك. وغداه ابن مكرم؛ فقدم إليه عراقاً، فلما جسه قال: قدركم هذه طبخت بالشطرنج.
وقدم إليه يوماً قدراً فوجدها كثيرة العظام؛ فقال: هذه قدرٌ أم قبر؟ .
وأخبر أن ابنه أعتق عبده؛ فقال: إن جاز له هذا فليطلق على أمه الزانية.
وقال له رجلٌ من بني هاشم: بلغني أنك بغاء. قال: ولم أنكرت ذاك مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مولى القوم منهم " ؟ . قال: إنك دعي فينا. قال: بغائي صحح نسبي فيكم.
وسأل الجاحظ كتاباً إلى محمد بن عبد الملك في شفاعة لصاحبٍ له؛ فكتب الكتاب، وناوله الرجل، فعاد به إلى أبي العيناء، وقال: قد أسعف. قال: فهل قرأته؟ قال: لا؛ لأنه مختوم. قال: ويحك، فض طينةٍ أولى من حمل ظنةٍ، لا يكون صحيفة المتلمس؛ ففض الكتاب؛ فإذا فيه: موصل كتابي سألني فيه أبو العيناء، وفد عرفت سفهه وبذاء لسانه، وما أراه لمعروفك أهلاً، فإن أحسنت إليه فلا تحسبه علي يداً، وإن لم تحسن لم أعتده عليك ذنباً والسلام.
فركب أبو العيناء إلى الجاحظ. وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان، فخجل الجاحظ، وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتي فيمن أعتني به. قال: فإذا بلغك أن صاحبي قد شتمك فاعلم أنه علامته فيمن شكر معروفه.
وأكل عند ابن مكرم، فسقي على المائدة ثلاث شرباتٍ باردة، ثم استسقى فسقى شربةً حارة؛ فقال: لعل مزملتكم تعتريها حمى الربع.
وممن انتصف من أبي العيناء محمد بن مكرم، فإنه صادفه ساجداً وهو يقول: يا رب سائلك ببابك. فقال: تمتن على الله بأنك سائله وأنت سائل كل باب.
وسمع محمد بن مكرم رجلاً يقول: من ذهب بصره قلت حيلته. فقال له: ما أغفلك عن أبي العيناء.
وولد لأبي العيناء ابنٌ؛ فأهدى إليه حجراً. يريد قول النبي صلى الله عليه وسلم: " وللعاهر الحجر " .
ومنهم العباس بن رستم؛ فإنه قال يوماً لأبي العيناء: أنا أكفر منك. فقال: ولم؟ قال: لأنك تكفر ومعك خفيرٌ مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دواد، وأنا أكفر بلا خفارة.
صحب رجلٌ مفلسٌ جماعةً فقسموا له قسمة، فاشترى دابةً وكسوةً، فكان إذا حلف يقول: وإلا فدابتي حبيسٌ وثيابي صدقة. ثم قسموا له قسمة أخرى؛ فاشترى داراً وخادماً، فكان إذا حلف يقول: وإلا فدابتي حبيسٌ وثيابي صدقةٌ وغلامي حرٌّ، وداري مقبرةٌ. فقال أبو العيناء: طالت أيمانه ابن الزانية.

كان لمحمد بن مكرم غلامٌ يتعشقه، وكان يرمي به؛ فدخل أبو العيناء يوماً إليه، ؟ فقال له: يا أبا العيناء، أما ترى غلامي سديفاً مع إكرامي له، وفعلي به ومحبتي له، وكثرة ما أصله به من الأمول، وينتفع بجاهي، ولا يشكر لي ذلك، ولا تظهر عليه النعمة، ولا يرى عنده دينارٌ ولا درهم. قال أبو العيناء: نعم يا سيدي كسب الكناسين لا يكون له بركة.
وقال له أبو علي البصير يوماً: ويلك إن لم تغضب لي بالصناعة فاغضب لي وتعصب بالعمى؛ فقال أبو العيناء: كذبت يا عاض بظر أمه. أنا من عميان الحمير، وأنت من عميان العصا.
وقال الكافي له: كيف أكتب اللؤم، بلام أو لامين؟ فقال صور نفسك.
ودخل إلى المتوكل، فقدم إليه طعام؛ فغمس أبو العيناء لقمته في خل كان حامضاً، فأكلها وتأذى بالحموضة، وفطن المتوكل فجعل يضحك فقال: لا تلمني يا أمير المؤمنين، فقد محت الإيمان في قلبي.
وقال له السدري: أشتهي أن أرى الشيطان. فقال: انظر في المرآة.
قال أبو العيناء: رأيت محمد بن مكرم يصلي صلواته كلها ركعتين ركعتين؛ فقلت: يا محمد، ما هذا الذي أراك تفعله؟ قال: عزمت وحياتك على الخروج إلى قم إلى عند أبي.
قيل لأبي العيناء: لم اتخذت خادمين أسودين؟ فقال: أما أسودان فلئلا أتهم بهما، وأما خادمان فلئلا يتهما بي.
ونظر إلى رجل قبيح الوجه؛ فقال: كأنما خلق هذا الرجل ليعلم الناس نعمة الله عليهم.
وقدم صديقٌ له من بعض الأعمال السلطانية؛ فدعاه إلى منزله وأطعمه وجعل الرجل يكثر الكذب، فالتفت أبو العيناء إلى من كان معه فقال: نحن كما قال الله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " .
وقيل: ابن كم أنت؟ فقال: قبضة، يعني: ثلاثاً وتسعين.
وقيل له: كيف حمدك لفلان؟ ؛ فقال: أحمده للؤم الزمان، فأما عن حسن اختيار فلا.
وقال أبو العيناء: قلت لغلام ابن مكرم - ومعه دراهم - : من أين لك هذه الدراهم؟ فقال: ألي تقول هذا ودار الضرب في سراويلي؟ .
قال ابن مكرم لأبي العيناء: أحسبك لا تصوم شهر رمضان. فقال: ويحك. وتدعني امرأتك أن أصوم.
قال أبو العيناء: مررت يوماً في دربٍ بسر من رأى. فقال لي غلامٌ: يا مولاي؛ في الدرب حملٌ سمين، والدرب خالٍ، فأمرته أن يأخذه، وغطيته بطيلساني، وصرت به إلى منزلي؛ فلما كان الغد جاءتني رقعةٌ من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك، ضاع لنا بالأمس في الدرب حمل؛ فأخبرني صبيان دربنا أنت سرقته؛ فتأمر برده متفضلاً.
قال أبو العيناء: فكتبت إليه: يا سبحان الله ما أعجب هذا الأمر مشايخ دربنا يزعمون أنك بغاءٌ وأكذبهم أنا، ولا أصدقهم، وتصدق أنت صبيان دربكم أني أنا سرقت الحمل.
قال: فسكت وما عاودني بشيء.
قال أبو العيناء: أنا أؤاكل الناس منذ ثلاثين سنة، ما آثرني إنسانٌ على نفسه بباذنجانةٍ مضيرة قط.
وأكل مرة ديكبراكة، وغسل يده عدة مرات فلم تنق؛ فقال: كادت هذه القدر أن تكون نسباً وصهراً.
قال يوماً لابن ثوابة: إذا شهدت على الناس ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون شهد عليك أنتن عضو فيك.
قال بعض الهاشميين لأبي العيناء: بلغني أنك تخبأ العصا. قال: وهو ذا تدعونها تظهر حتى أخبأها أنا.
ودق عليه إنسانٌ الباب فقال: من هذا؟ . قال: أنا. قال: هذا والدق سواء.
وقال أبو العيناء: أدخل على المتوكل رجلٌ قد تنبأ؛ فقال له: ما علامة نبوتك؟ قال: أن يدفع إلي أحدكم امرأته؛ فإني أحبلها في الحال. فقال يا أبا العيناء: هل لك أن تعطيه بعض الأهل؟ فقلت: إنما يعطيه من كفر به؛ فضحك وخلاه.
ولقيه رجلٌ من إخوانه فقال له: أطال الله بقاءك، وأدام عزك وتأييدك وسعادتك، فقال أبو العيناء: هذا العنوان، فكتاب من أنت؟ .
وقال له يوماً عبيد الله بن يحيى الوزير - في أمر شهد عليه فيه بشهادةٍ؛ فقال أبو العيناء: لو كان هذا في غير دولتك لتمنيت له دولتك. فقال: إن الشهود عليك كثيرٌ. قال: أكثر منهم الذين شهدوا عليك بإغلاء السعر والزيادة فيه؛ فإن صدقتهم علي فصدقهم عليك.
وقال له يوماً: أعز الله الوزير نحن في عطلتك مرحومون، وفي وزارتك محرومون. ويوم القيامة كل نفسٍ بما كسبت رهينةٌ.
ولما تقطر بعبيد الله فرسه قال أبو العيناء: قتل الجواد الجواد.
واستجفى بعض الرؤساء أبا العيناء؛ فقال له: أنا والله على بابك أوجد من الكذب على أبواب بني خاقان.

وصار يوماً إلى باب عبيد الله؛ فقال له سعدٌ حاجبه: هو مشغول يا أبا عبد الله. فقال: ففي شغله أريد لقاءه. قال: ليس إلى ذلك سبيل. فقال له: رزقكم الله العود إلى البيت الحرام وانصرف. فقال سعد: دعا علينا لعنه الله، والله إن كنا بمكة إلا حيث نفينا.
قال أبو العيناء، هنأت عبيد الله بن يحيى يوماً بالعيد، ودعوت له دعاءً طويلاً؛ فقال لي الحسن بن مخلد: حسبك يا أبا عبد الله؛ فقلت: يا أبا الحسن، أعزك الله. إن أبا محمد يستثقل الدعاء لأنه لا يثق بالمدعو.
وقال له عبيد الله: ما دعاك إلى الوقيعة في موسى بن عبد الملك بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال: إني والله ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت لك سريرته.
ودخل عليه يوماً وعنده نجاح بن سلمة، وأحمد بن إسرائيل وهما يسارانه؛ فقال: يا أبا الحسن: " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " ؛ فقال نجاح: كذبت يا عدو الله؛ فقال: " لكل نبإٍ مستقرٌ وسوف تعلمون " .
ودخل إلى نجاح بن سلمة؛ فقال: لا تدنس حصير صلاتي قبحك الله. فقال أبو العيناء له: لا. ولكن متمرغ فسقك.
وسقط نجاحٌ عن دابته؛ فوثب إليه إبراهيم بن عتابٍ، فأخذه من الأرض؛ فقال أبو العيناء: يا أبا الفضل، لميتةٌ مجهزة أصلح من عافيةٍ على يد ابن عتاب.
وقيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت والله من المملقين الذين لا يطمع فيهم نجاح بن سلمة.
وقال يوماً لابن ثوابة: يحتاج عقلك إلى صمتٍ يستره، ونطقك إلى عقلٍ يسدده.
وقال له ابن مكرم: كان ابن الكلبي صاحب البريد يحب أن يشم الخراء فقال: لو رآك لترشفك.
وقال ابن مكرم يوماً: ما في الدنيا أعقل من القحبة؛ لأنها تطعم أطايب الطعام، وتسقي ألذ الشراب وتأخذ دراهم وتتلذذ. فقال له أبو العيناء: فكيف عقل والدتك؟ قال: أحمق من دغة يا عاض كذا.
وعرضت له حاجةٌ إلى بغا، فلقيه، فقال: ألق الفتح بن خاقان فلقيه فوعده، ثم لقيه فوعده؛ فلما كان في المرة الثالثة ألقاه على سبيل ضجرٍ فقال: أما علمت أن من طالب السلطان احتاج إلى ثلاث خلال؟ فقال: وما هن؟ أعز الله الأمير. قال: عقلٌ وصبرٌ ومالٌ. فقال أبو العيناء: ولو كان لي عقلٌ لعقلت عن الله أمره ونهيه، ولو كان لي صبرٌ لصبرت منتظراً لرزقي أن يأتيني، ولو كان لي مالٌ لاستغنيت به عن تأميل الأمير، والوقوف ببابه.
وسأل أحمد بن صالح حاجةً فوعده، ثم اقتضاه إياها فقال: حال دونها هذا المطر والوحل؛ فقال أبو العيناء: فحاجتي إذاً صيفية.
ودخل على عبد الرحمن بن خاقان - وكان شاتياً - فقال له عبد الرحمن: كيف ترى هذا البرد يا أبا عبد الله؟ فقال: تأبى نعماك أن أجده.
وكان بحضرة عبيد الله بن سليمان؛ فأقبل الطائي فعرف مجيئه، فقال: هذا رجلٌ إذا رضي عشنا في نوافل فضله، وإذا غضب تقوتنا بقايا بره.
وسأل إبراهيم بن ميمون حاجةً فدفعه عنها، واعتذر إليه وأعلمه أنه قد صدقه؛ فقال له: قد والله سرني صدقك؛ لعوز الصدق عنك، فمن صدقه حرمانٌ فكيف يكون كذبه؟ .
وقال لبعضهم: أعطيتني برك تفاريق، وعقوقك جملة.
وقال: رأيت حمالاً قد حمل على رأسه شيئاً بنصف درهم؛ فلما أراد الرجوع اكترى إلى ذلك الموضع حماراً بأربعة دوانيق.
وقال له رجلٌ: كان أبوك أكمل منك؛ فقال: إن أبي كنت أنا به، ولم يك بي، فهو أولى بالكمال مني.
وقال في رجلين فسد ما بينهما: تنازعا ثوب العقوق، متى صدعاه صدع الزجاجة ما لها من جابر.
قال: قال لي المتوكل: امض إلى موسى بن عبد الملك. واعتذر، ولا تعرفه أني وجهتك. فقلت له: تستكتمني بحضرة ألفٍ؟ قال: إنما عليك أن تنفذ كما تؤمر به. قلت: وعلي أن أحترس مما أخاف منه.
وقال له المتوكل: أكان أبوك مثلك في البيان؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته لرأيت عبداً لك لا ترضاني عبداً له.
ووعده أبو الصقر شيئاً وقال له: غداً؛ فقال أبو العيناء: إن الدهر كله غد، فهل عندك موعد مخلىً من المعاريض؟ . قال له رجلٌ قد حضر: قد استعمل المعاريض قومٌ صالحون: حدثنا فلانٌ عن فلانٍ . .، فقال أبو العيناء: من هذا المتحدث في حرماننا بالأسانيد؟ .
وداس رجلٌ نبتاً له وقال: باسم الله. فقال: لم ترض بذبحها حتى تذكيتها.
وداس آخر يده، وقال: باسم الله. فقال: البقرة تذبح ويقول ذابحها: باسم الله.
وشكا إليه رجلٌ ابنه؛ فقال أبو العيناء: لقد دخل في العدد وخرج من العدد.

ولقيه بعض الكتاب في السحر؛ فقال له متعجباً منه ومن بكوره: يا أبا عبد الله، أتبكر في مثل هذا الوقت؟ فقال: أتشاركني في الفعل، وتفردني في المتعجب؟ .
ودخل على محمد بن عبد الملك، فجعل لا يكلمه إلا بأطرافه؛ فقال: إن من حق نعمه أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك، فإن من أوحش انقبض عن المسألة، وبكثرة المسألة مع النجح يدوم السرور. فقال له محمد: أما إني أعرفك فضولياً كثير الكلام وأمر به إلى الحبس؛ فكتب إليه: قد علمت أن الحبس لم يكن من جرمٍ تقدم إليك، ولكن أحببت أن تريني مقدار قدرتك علي؛ لأن كل جديدٍ يستلذ، ولا بأس أن ترينا من عفوك حسب ما أريتنا من قدرتك.
فأمر بإطلاقه، ثم لقيه بعد أيامٍ، فقال: يا أبا العيناء، ما تزورنا حسب نيتنا فيك؟ . فقال: أما نيتك فمتأكدة، ولكن أرى أن الذي جدد الاستبطاء فراغ حبسك، فأحببت أن تشغله بي.
واعترضه يوماً أحمد بن سعيد، فسلم عليه؛ فقال أبو العيناء: من أنت؟ قال: أحمد بن سعيد؛ فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إلي من أسفل، فماله ينحدر علي من علو؟ قال: لأني راكب. قال: لا إله إلا الله. لعهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله في رغيفٍ لأعضك بما تكره.
وقال يوماً لعبيد الله بن سليمان: إلى كم يرفعني الوزير، ولا يرفع بي رأساً؟ .
وقال له يوماً: كيف حالك؟ فقال: أنت الحال، فإذا صلحت صلحت. وقربه يوماً؛ فقال: تقريب الولي وحرومان العدو.
وقيل له: أتشرب النبيذ؟ فقال: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " .
وقال يوماً لعبيد الله بن يحيى: أيها الوزير، قد برح بي حجابك؛ فقال له: ارفق. فقال: لو رفق بي فعلك رفق بك قولي.
وقال يوماً لعيسى بن فرخانشاه، وقد بالغ أحمد بن المدبر: أتبالغه، وشطر اسمك عني، وما بقي فثلثا مسي؟ .
وقيل: لا تعجل، فإن العجلة من الشيطان؛ فقال: لو كان كذلك لما قال موسى عليه السلام: " وعجلت إليك رب لترضى " .
قال ابن وثاب لأبي العيناء يوماً: أنا والله أحبك بكليتي. فقال أبو العيناء: إلا عضوٌ واحدٌ منك أيدك الله؛ فبلغ ذلك ابن أبي دواد، فقال: قد وفق في التحديد عليه.
وقال: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة. قال لي أبي: يا بني؛ إن الله قرن طاعته بطاعتي؛ فقال: " اشكر لي ولوالديك " . فقلت: يا أبت إن الله ائتمنني عليك، ولم يأتمنك علي؛ فقال: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " .
وقبل يد سليمان بن وهب؛ فقال: أنا أرفعك عن هذا. فقال أبو العيناء: أترفعني عما يرتفع الناس إليه؟ .
وقيل له: ما تقول في مالك بن طوق؟ فقال: لو كان في زمان بني إسرائيل، ثم نزلت آية البقرة ما ذبحوا غيره.
وقال لبعض الكتاب: والله ما هو إلا أن يزيلك القدر عن القدرة حتى تحصل على المذمة والحسرة.
وقال: فلج بعض المجان، فرأيته وهو يأكل سمكاً ولبناً، فعاتبته على ذلك؛ فقال: آمن ما يكون الطريق إذا قطع.
وقال: ما لقى إبليس من المبلغين كلما نسوا لعنوه.
ودخل على المتوكل وهو يبني الجعفري؛ فقال له: يا أبا العيناء؛ كيف ترى دارنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الناس يبنون الدور في الدنيا، وأنت تبني الدنيا في دارك.
وسأله المتوكل عن ميمون بن إبراهيم صاحب البريد، فقال: يد تسرق، واستٌ تضرط، مثله مثل يهوديٍّ سرق نصف جزيته، فله إقدامٌ بما أدى، وإحجامٌ بما أبقى، إساءته عمدٌ، وإحسانه تكلف.
وتكلم ابن ثوابة يوماً فتقعر ثم لحن؛ فقال له أبو العيناء: تقعرت حتى خفتك، ثم تكشفت حتى عفتك.
وقال له أبو الصقر: ما أخرك عنا؟ قال: سرق حماري، وكرهت منه العواري، وذلة المكاري.
قال يوماً لجارية مغنية: أنا أشتهي أن أييكك. قالت: ذاك يوم عماك. قال: يا ستي؛ فالساعة بالنقد فقد سبق الشرط - يعني: العمى.
قال: قلت لغلامي وقد رأيت في السوق مشجباً: اشتر لنا هذا المشجب. فقال: يا سيدي فما تلبس إذا ألقيت ثيابك على المشجب؟ .
بات أبو العيناء عند ابن مكرم، فجعل ابن مكرم يفسو عليه، فقام أبو العيناء وصعد السرير، فارتفع إليه فساؤه، فصعد السطح فبلغته رائحته، فقال: يا بن الفاعلة، ما فساؤك إلا دعوة مظلوم.
وذكر أبو العيناء للعباس بن رستم، فقال: ليس تهضمه معدتي، وتأدى ذلك إلى أبي العيناء؛ فقال: قل له: إن كان من تحب يجب أن تهضمه معدتك فيجب أن تكون قد سحت أباك وأمك منذ ثلاثين سنةً.

وكان أبو العيناء في مجلس، وإلى جنبه مغنٍّ باردٌ، فأقبل على أبي العيناء وقال: يا سيدي كم بيننا وبين الشتاء؟ قال: هذه المسورة.
دعا أبو العيناء بعض أصدقائه، فقال: أتوضأ وأجيئك. فقال: أخشى ألا ترجع إن ذهبت تتوضأ. قال: ولم؟ قال: لأنك كما أنت وضوء.
وقال له يوماً ابن مكرم: يا أبا العيناء، كل شيء لك من الناس حتى أولادك.
وقال أبو العيناء في ابن مكرم: هو إذا غزا فمطية جنده، وإذا قفل فظعينة عبده.
أهدى أبو علي البصير إلى أبي العيناء كيرينجات، وكتب عليها: " ادخلوها بسلامٍ آمنين " فردها وكتب عليها: " فرددناه إلى أمه كي تقر عينها " .
وقال لرجل: ما بال الأحمق يرزق والأديب يحرم؟ فقال: إن هذه الدنيا لدار اختبارٍ، فأحب الرازق أن يعلمهم أن الأمور ليست إليهم.
وقال أبو العيناء: غلات السواد كلها تباع بكف المودح فهلا اكتفى من ذلك بنقر يسير.
قيل له: كيف تركت فلاناً مع قومه؟ قال: " يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً " .
وقال له أبو علي البصير: في أي وقت ولدت؟ قال: قبل طلوع الشمس، قال: لذلك خرجت سائلاً؛ لأنه وقت انتشار السؤال.
وقال أبو العيناء لرئيسٍ كان عنده وهو يخفض كلامه: كأنك قد طفل بك في منزلك.
وقدم إليه ابن مكرم جنب شواءٍ. قال: ليس هذا جنباً، هذا شريحة قصب.
وذكر ولد عيسى بن موسى، فقال: كأن آنفهم قبورٌ نصبت على غير القبلة.
ودخل على إسماعيل القاضي، وجعل يرد عليه إذا غلط أعزه الله؟ ، كأنك أحطت بما لم يحط به، فقال: نعم، لم لا أرد على القاضي؟ ، وقد رد الهدهد على سليمان؛ فقال: " أحطت بما لم تحط به " وأنا أعلم من الهدهد، وسليمان أعلم من القاضي.
وقال رجل: ما أنتن إبطك قال: نلقاك - أعزك الله - بما يشبهك.
وقال له رجلٌ من ولد سعيد بن مسلم: إن أبي يبغضك. فقال: يا بني؛ إن لي أسوةً بآل محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال لرجل: والله ما فيك من العقل شيءٌ إلا مقدار ما تجب به الحجة عليك، والنار لك.
قال أبو العيناء: وصفت الحمامات بحضرة ابن عتابٍ، فقال: دعوني من هذا. ما قامت النساء عن حمامٍ أطيب من حمام أصحاب الخنا.
قال المتوكل: لولا ذهاب بصر أبي العيناء لأردت منادمته، وبلغه ذلك، فقال: قولوا له: إني إن أعفيت من قراءة نقوش الخواتم، ورؤية الأهلة صلحت لغير ذلك. وأنهى ذلك إلى المتوكل فضحك وأمر بمنادمته.
قال أبو العيناء: سمعت جاراً لي أحمقٌ وهو يقول لجارٍ له: والله لهممت أن أوكل بك من يصفع رقبتك، ويخرج هذه الجفون من أقصى حجرٍ بخراسان.
ودخل إلى ابن مكرمٍ؛ فقال له: كيف أنت؟ قال: كما تحب؛ فقال: فلم أنت مطلق؟ .

من رسائل أبي العيناء وكلامه المستحسن
كتب إلى أبي الوليد بن أبي دواد: جعلت فداك، مسنا وأهلنا الضر، وبضاعتنا المودة والشكر؛ فإن تعطنا أكن كما قال الشاعر:
أنا الشهاب الذي يحمي دياركم ... لا يخمد الدهر إلا ضوءه يقد.
وإن لم تفعل فلسنا ممن يلمزك في الصدقات؛ " فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " .
قال ابن مكرم: من زعم أن عبد الحميد أكتب من أبي العيناء إذا أحس بكرمٍ أو شرع في طمعٍ فقد وهم.
كتب إلى عبيد الله بن سليمان وقد نكبه وأباه المعتمد، وهما مطالبان بمالٍ، يبيعان له ما يملكان من عقار وأثاثٍ، وعبدٍ وأمةٍ. وأعطى بخادمٍ أسود لعبيد الله خمسون ديناراً؛ فكتب إليه أبو العيناء: قد علمت - أطال الله بقاءك - أن الكريم المنكوب أجدى على الأحرار من اللئيم الموفور لأن اللئيم يزيد مع النعمة لؤماً، ولا تزيد محنة الكريم إلا كرماً، هذا متكلٌ على رازقه، وهذا يسيء الظن بخالقه. وعبدك إلى ملك كافورٍ فقيرٌ، وثمنه على ما اتصل به يسير؛ فإن سمحت فتلك منك عادتي، وإن أمرت بأخذ ثمنه فمالك منه مادتي. أدام الله لنا دولتك، واستقبل بالنعمة نكبتك، وأدام عزك وكرامتك.
فوهب الخادم إليه.
قال أبو العيناء: قال ملكٌ لبنيه: صفوا لي شهواتكم من النساء. فقال الأكبر: تعجبني القدود والخدود والنهود. وقال الأوسط: تعجبني الأطراف والأعطاف والأرداف. وقال الأصغر: تعجبني الشعور والثغور والنحور.

كان بين أبي العيناء وبين إبراهيم بن رباح خلة ومودة وصداقةٌ قديمة؛ فلما نكب مع الكتاب في أول خلافة الواثق أنشأ أبو العيناء كلاماً حكاه عن بعض الأعراب؛ فلما وصل إلى الواثق وقرئ عليه. قال: واضع هذا الكلام ما أراد به غير إبراهيم بن رباح، وكان أحد أسباب الرضا عنه. ونسخة الكلام: قال: لقيت أعرابياً من أهل البادية، فقلت: ما عندك من خبر البلاد؟ قال: قتل أرضاً عالمها. قلت: فما عندك من خبر الخليفة؟ قال: تبحبح في عزةٍ فضرب بجرانه، وأخذ الدرهم من مصره، وأرعف كل قلم خيانته.
قلت: فما عندك من خبر ابن أبي دواد؟ قال: عضلةٌ لا تطاق، وجندلةٌ لا ترام، ينتحى بالمدى لنحره فتحور، وتنصب له الحبائل حتى يقول: الآن، ثم يضبر ضبرة الذئب، ويتملس تملس الضب، والخليفة يحنو عليه، والعراق يأخذ بضبعيه.
قلت: فما عندك من خبر عمر بن فرج؟ فقال: ضخامٌ حضجر وغضوبٌ هزبرٌ، قد أهدفه القوم لبغيهم، وانتضوا له عن قسيهم، وأحر له بمثل مصرع من يصرع منهم.
قلت: فما عندك من خبر ابن الزيات؟ قال: ذاك رجلٌ وسع الورى بشره، وبطن بالأمور خبره، فله في كل يومٍ صريعٌ لا تظهر فيه آثار مخلبٍ ولا نابٍ، إلا بتسديد الرأي.
قلت: فما عندك من خبر إبراهيم بن رباح؟ قال: ذاك رجلٌ أوبقه كرمه، وإن يفز للكرام قدحٌ فأحر بمنجاته، ومعه دعاءٌ لا يخذله، وفوقه خليفةٌ لا يظلمه.
قلت: فما عندك من خبر نجاح بن سلمة؟ قال: لا دره من خافض أوتادٍ، يقد كأنه لهب نارٍ، له في الفينة بعد الفينة جلسة عند الخليفة كحسوة طائر، أو كخلسة سارق، يقوم عنها، وقد أفاد نعماً، وأوقع نقما.
قلت: فما عندك من خبر الفضل بن مروان؟ قال: ذاك رجلٌ حشر بعد ما قبر، فله نشرة الأحياء، وفيه خفوت الموتى.
قلت: فما عندك من خبر أبي الوزير فقال: إخاله كبش الزنادقة. ألا ترى أن الخليفة إذا أهمله خضم فرتع، حتى إذا أمر بنقضه أمطر فأمرع؟ .
قلت: فما عندك من خبر أحمد بن الخصيب؟ فقال: أحمد أكل أكلة نهم؛ فأخلف خلفة بشم.
قلت: فما عندك من خبر المعلى بن أيوب؟ قال: ذاك رجلٌ قد من صخرة، فصبره صبرها، ومسه مسها.
قلت: فما عندك من خبر أحمد بن إسرائيل؟ قال: كتومٌ غرورٌ، وجلدٌ صبورٌ، له جلد نمر، كلما قدوا له إهاباً أنشأ الله له إهاباً.
قلت: فما عندك من خبر عبد الله بن يعقوب؟ قال: " أمواتٌ غير أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون " .
قلت: فما عندك من خبر سليمان بن وهب؟ فقال: ذاك رجلٌ اتخذه السلطان أخاً، فاتخذ نفسه للسلطان عبداً.
قلت: فما عندك من خبر أخيه الحسن؟ : فقال: شد ما استنوقت مسألتك ذاك حرمةٌ حبست بجريرة المجرم، ليس في القوم في خلٍّ ولا خمرٍ، هيهات:
كتب الحبس والخراج عليهم ... وعلى المحصنات جر الذيول
قال: قلت: أين منزلك فأؤمك؟ قال: ما لي منزلٌ. إنما أستتر في الليل إذا التبس، وأظهر في النهار إذا تنفس.
وهذا كلامٌ لأبي العيناء، نسبه إلى جماعةٍ من كتاب الحضرة وغيرهم في ذم أحمد بن الخصيب وزير المستعين، قال: ذكر عند أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر أحمد بن الخصيب؛ فقال: ما زال يخرق ولا يرقع، وما زلت منذ ارتفع، أتذكر الذي فيه وقع. وذكر بغا؛ فقال: أبطرته النعمة، فعاجلته النقمة.
وذكر جعفر بن عبد الواحد فقال: أحسن حسناته سيئةٌ، وأصغر سيئاته كبيرة.
وذكر هارون بن عيسى فقال: كانت دولته دولة المجانين خرجت من الدنيا والدين.
وذكر عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بأترجة، فقال: بعد من الشرف فتحامل عليه، وقرب من ضلٍّ فمال إليه.
وذكر إسحاق بن إبراهيم المصعبي؛ فقال: ما كان أتم شرته، إن دنوت منه غرك، وإن بعدت منه ضرك.
وذكره وصيف فقال ترك العقلاء على يأسٍ من مرتبته، والجهال على رجاءٍ لدرجته، وذكره موسى بن بغا؛ فقال: لولا أن القدر يغشي البصر ما نهى بيننا ولا أمر.
وذكره صالح بن وصيف؛ فقال: تجبر وتكبر وتذمر ودبر فدمر.
وذكره سليمان بن يحيى فقال: لم تتم له نعمة؛ لأنه لم تكن في الخير همة.
وذكره الفضل بن عباس فقال: إن لم يكن تاريخ البلاء فما أعظم البلوى.
وذكره الفضل بن مروان قال: فما أجهل من يستجهله أولم يخبر بأمر يجهله؟ .
وذكر عيسى بن فرخانشاه؛ فقال: أعقل منه مجنون، وأحسن منه معدوم.

وذكره إسحاق بن منصورٍ؛ فقال: لو طلب العافية لوجدها، ما أدبرت عنه حتى أدبر عنها.
وذكره الحسن بن مخلد، فقال: لئن كان دخل مدخلا لا يشبهه لقد خرج مخرجاً يشبهه.
وذكره أحمد بن إسرائيل؛ فقال: كنا إذا عصيناه عرضنا بأنفسنا، وإذا أطعناه فسد تدبيرنا.
وذكره داود بن محمد الطوسي. فقال: ما أحسن قط إلا غلطاً، ولا أساء إلا تعمداً.
وذكره المعلى، فقال: ما أعجب ما نكب ونعمته أعجب من نكبته.
وذكره ميمون بن إبراهيم، فقال: لو تأمل رجل أفعاله فاجتنبها، لاستغنى عن الآداب أن يطلبها.
وذكره ابن أبي الشوارب، فقال: كان يحمد المحسنين، ويجتنب أفعالهم، ويذم المسيئين، ويعمل أعمالهم.
وذكره خالد بن صبيح، فقال: هو كما قال فلانٌ: ملأ يساره سلحا، وبسط يمينه سطحا، وقال: انظروا في سطحي، وإلا لطختكم بسلحي.
وذكره شجاع بن القاسم، فقال: الحزم ما فعلنا، ولو لم نعاجله لعاجلنا.
وذكره داود بن الجراح، فقال: كان لا يرضى أحداً ولا يرضاه أحد، فضروه إذ لم يرضوه، ولم يضرهم إذ لم يرضهم.
وذكره أحمد بن صالحٍ، فقال: كان لا يغتم إلا لما فاته من الشر ولا يسر إلا بما فاته من الخير.
وذكره محمد بن نحاح، فقال: لئن كانت النعمة عظمت على قومٍ خرجت عنهم، لقد عظمت المصيبة على قومٍ نزلت فيهم.
وذكره علي بن يحيى، فقال: لم يكن له أولٌ يرجع إليه، ولا آخرٌ يعول عليه، ولا عقلٌ فيذكر عاقلٌ لديه.
وذكره علي بن الحسن الإسكاف، فقال: كان الجاهل يغبطنا بتكرمته، والعاقل يرحمنا من سوء عشرته.
وذكره ابن محمد بن فيروزٍ، فقال: حظٌّ في السحاب، وعقلٌ في التراب.
وذكره محمد بن موسى بن شاكر المنجم، فقال: قبحه الله إن ذكرت له ذا فضلٍ تنقصه لما فيه من ضده، أو ذكرت ذا نقص تولاه لما فيه من شكله.
وذكره يزيد المهلبي، فقال: كانت يده تمنع، ونفسه لا تشبع، ويرتع ولا يرتع.
وذكره ابن طالوتٍ، فقال: كان العقل مأسوراً في سلطانه، فلما سيره أطلق من لسانه.
وذكره محمد بن علي بن عصمة، فقال: ما كان أقرب وليه مما يكره، وعدوه مما يحب.
وذكره ابن جبل؛ فقال: ما زال ينقص ولا يزيد، ويتوعد حتى حل به الوعيد.
وذكره عبد الله بن محمدٍ، فقال: لو أقام لسرنا؛ فأما إذ سار فقد أقمنا.
وذكره ابن حمدون؛ فقال: لئن فضحته القدرة لقد جملته النكبة.
وذكره ابن أبي الأصبع، فقال: ما علمت خدمة الشياطين، إلا أيسر من خدمة المجانين؛ كان غضبه علينا إذا أطعناه أشد من غضبه إذا خالفناه.
وذكره إبراهيم بن رباح؛ فقال: كان لا يفهم ولا يفهم، وينقض ما يبرم.
وذكره سعيد بن حميدٍ فقال: كان إذا أصاب أحجم، وإذا أخطأ صمم.
وذكره سعيد بن عبد الملك، فقال: كان يخافه الناصح، ولا يأمنه الغاش، ولا يبالي أن يراه الله مسيئاً.
وقال المتوكل يوماً لأبي العيناء: كيف شربك النبيذ؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال: دع هذا عنك ونادمنا. فقال: يا أمير المؤمنين إن أجهل الناس من جهل نفسه، ومهما جهلت من الأمر فلن أجهل نفسي، أنا امرؤ محجوب، والمحجوب مخطوفٌ؟ إشارته، ملحودٌ بصره، وينظر إلى من لا ينظر إليه؛ وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم، وأخرى، فلست آمن أن تنظر إلي بعين غضبان وقلبك راضٍ، أو بعينٍ راضٍ وقلبك غضبان، ومتى لم أميز بين هاتين هلكت.
ولم أقل هذا جهلاً بمالي في المجلس من الفائدة؛ فأختار العافية على التعرض للبلية.
قال أبو العيناء، قال لي المتوكل يوماً: بلغني أنك رافضي. فقلت: ألدينٍ أم لدنيا؟ فإن أك للدين ترفضت فأبوك مستنزل الغيث، وإن أك للدنيا ففي يديك خزائن الأرض. وكيف أكون رافضياً، وأنا مولاك، ومولدي البصرة، وأستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة؟ فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك. قلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرق بين الإمام والمأموم، والتابع والمتبوع؛ إنما ذاك حامل درة، ومعلم صبية، وآخذٌ على كتاب الله أجرة. قال: لا تقل؛ فإنه مؤدب المؤيد. قال: قلت: يا أمير المؤمنين: لم يؤدبه حسبةً، إنما أدبه بأجرة، فإذا أعطيته حقه فقد قضيت ذمامه.
عزى أبو العيناء ابن الرضا رضي الله عنهما عن ابنه؛ فقال له: أنت تجل عن وصيتنا، ونحن نقل عن عظتك. وفي علم الله ما كفاك، وفي ثواب الله ما عزاك.

وكتب إلى عبيد الله بن سليمان: أنا وولدي وعيالي زرعٌ من زرعك؛ إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى. وقد مسني منك جفاءٌ بعد بر، وإغفالٌ بعد تعهد، حتى شمت عدوٌّ، وتكلم حاسد، ولعبت بي ظنون رجال
وشديدٌ عادةٌ منتزعة
وعزاه عن أبيه، فقال: عقم والله البيان، وخرست الأقلام، ووهى النظام.
وكتب إلى عيسى بن فرخانشاه: أنا أحمد الله على ما تأتت إليه أحوالك، ولئن كانت أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة، ولئن أبدت الأيام مقابحها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك.
وكتب إلى صديق له تولى ناحية: أما بعد؛ فإني لا أعظك بموعظة الله؛ لأنك غنيٌّ عنها، ولا أرغبك في الآخرة؛ لمعرفتي بزهدك فيها. ولكني أقول كما قال الشاعر:
أحاربن عمرٍ قد وليت ولايةً ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
وكاثر تميماً بالغنى، إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق
واعلم أن الخيانة فطنة، والأمانة خرق، والجمع كيسٌ، والمنع صرامة، وليست كل يوم ولايةٌ، فاذكر أيام العطلة، ولا تحقرن صغيراً، فمن الذود إلى الذود إبل، والولاية رقدةٌ، فتنبه، قبل أن تنبه وأخو السلطان أعمى، عن قليل سوف يبصر. وما هذه الوصية التي أوصى بها يعقوب بنيه، ولكني رأيت الحزم أخذ العاجل، وترك الآجل.
وكتب إلى عيسى بن فرخانشاه: أصبحت منك بين أمرين عجيبين؛ إن غبت عنا - ولا يغيبنك الله - لزمنا الخوف، واستخف بنا الناس، ولاحظونا بالوعيد، وسدوا علينا أبواب المنافع؛ فإذا ظهرت ففقرٌ حاضر، وأمل كاذبٌ، وحرمانٌ شامل، كنت أسألك كذا فاستكثرته، وما ظننتك تستكثر. هذا الولي مؤمل بي إليك، فكيف لولدك الذي غذى بعمتك وتخرج في دواوينك، فوالله ما كان أملٌ سواك، ولا خطر من مكاره الدنيا شيءٌ فأخطرتك بقلبي إلا هان وخف عندي.
وكتب إلى بعضهم: نحن أعز الله الأمير إذا سألنا الناس كف الأذى سألناك بذل الندى، وإذا سألناهم العدل، سألناك الفضل، وإذا سررناهم بسط العذر سررناك باستدعاءٍ البر.
وكتب في فصل: قد آمن الله خائفك من ظلمك، وسائلك من بخلك، والعائذ بك من مالك، والمستزيد لك من علمك، وإن الله لم يزل يعطيك إذا أعطيت، ويزيدك إذا زدت.
أخبرنا الصاحب - رحمه الله تعالى - أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل قال: أخبرنا أبو العيناء، وقال مرة أخرى أحمد بن خلف قال أبو العيناء: أتيت عبد الله بن داود الخريبي؛ فقال: ما جاء بك؟ فقلت: طلب الحديث، قال: اذهب فتحفظ القرآن، قلت: قد حفظت القرآن. قال: فاقرأ: " واتل عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه " . قال: فقرأت العشر، قال: فاذهب الآن وتعلم الفرائض. قال: قلت: قد تعلمت الجد والصلب والكبد، قال: فأيما أقرب إليك: ابن أخيك أو ابن عمك؟ قال: قلت: ابن أخي، قال: ولم؟ قلت: لأن أخي من أبي، وعمي من جدي. قال: اذهب الآن وتعلم العربية. قلت: علمت ذاك قبل هذين. قال: فلم؟ قال عمر بن الخطاب: يا لله، يا للمسلمين. قال: قلت: فتح تلك للاستغاثة، وكسر هذه للاستنصار. قال: لو حدثت أحداً حدثتك.
سب رجلٌ من العلوية أبا العيناء، فقال له أبو العيناء: ما أحوج شرفك إلى من تصونه حتى تكون فوق من أنت دونه.
وكتب إلى بعضهم: ثقتي بك تمنعني من استبطائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى إذكارك. ولست آمن مع استحكام ثقتي بطولك، والمعرفة بعلو همتك اخترام الأجل؛ فإن الآجال آفات الآمال، فسح الله في أجلك، وبلغك منتهى أملك.
؟؟

الباب السابع
نوادر مزبد
صب مزبدٌ يوماً الماء على نفسه، فسألته امرأته عن ذلك؛ فقال: جلدت عميرة، ثم رآها بعد أيام تصب الماء على نفسها فسألها فقالت: جلدت عميرة فجلدتني.
أخذه بعض الولاة وقد اتهمه بالشرب، فاستنكهه، فلم يجد منه رائحةً، فقال: قيؤه. قال: يضمن عشائي أصلحك الله؟ .
قيل له مرة - وقد أفحش في كلامه - : أمل على كاتبيك خيراً. قال: أكره أن أخلط عليهما.
وادعى رجل عليه شيئاً، وقدمه إلى القاضي، فأنكره، وسأله إقامة البينة؛ فقال: ليس لي بينةٌ. قال: فأستحلفه لك؟ قال: وما يمين مزبد أصلحك الله؟ فقال مزبد: ابعث، أصلحك الله، إلى ابن أبي ذئب فاستحلفه له.

وتناول رجلٌ من لحيته شيئاً، فسكت عنه، وكان الرجل قبيح الوجه، فقال: ويحك لم لا تدعو لي؟ فقال: كرهت أن أقول صرف الله عنك السوء فتبقى بلا وجه. وقيل له: أيسرك أن هذه الجبة لك؟ قال: نعم، وأضرب عشرين سوطاً. قيل: ولم تقول دلك؟ قال: لأنه لا يكون شيءٌ إلا بشيءٍ.
وأتاه أصحابٌ له يوماً؛ فقالوا له: يا أبا إسحاق؛ هل لك في الخروج بنا إلى العقيق، وإلى قباء، وإلى أحد ناحية قبور الشهداء؛ فإن يومنا كما ترى يوم طيب. قال: اليوم يوم الأربعاء ولست أبرح من منزلي. قالوا: وما تكره؟ . يوم الأربعاء فيه ولد يونس بن متي عليه السلام. قال: بأبي وأمي أنتم فقد التقمه الحوت. قالوا: فهو اليوم الذي نصر فيه النبي عليه السلام يوم الأحزاب. قال: أجل، ولكن بعد إذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنون.
أردف مزبد رجلاً على بغلةٍ، فلما استوى الرجل قال: اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين فقال مزبد: اللهم قنعه حربةً، يسأل ربه منزلاً مباركاً وهو بين استي واست البغلة.
استأذن مزبد على بعض البخلاء وقد أهدى له تين في أول أوانه، فلما أحس بدخوله تناول الطبق، فوضعه تحت السرير، وبقيت يده معلقة، ثم قال لمزبد: ما جاء بك في هذا الوقت؟ قال: يا سيدي؛ مررت الساعة بباب فلان، فسمعت جاريته تقرأ لحناً ما سمعت قط أحسن منه، فلما علمت من شدة محبتك للقرآن، وسماعك للألحان، حفظته، وجئته لأقرأه عليك. قال: فهاته، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم.
" والزيتون وطورسنين. " .
فقال: ويلك أين التين؟ قال: تحت السرير.
هبت ريحٌ شديدة، فصاح الناس: القيامة، القيامة. فقال مزبد: هذه قيامةٌ على الريق بلا دابة الأرض والدجال ولا القائم.
ونظر يوماً إلى مغربيٍ أسود وهو ينيك غلاماً رومياً، فقال: كأن أيره في استه كراع عنز في صحن أرز. مرض مرة، فعاده رجل وقال له: احتم. فقال: يا هذا؛ أنا ما أقدر على شيءٍ إلا على الأماني أن أحتمي منها.
ورأى مزبداً رجلٌ بالرها، وعليه جبة خز، وكان قد خرج إليها فحسنت حاله، وقال: يا مزبد؛ هب لي هذه الجبة. فقال: ما أملك غيرها، فقال الرجل: فإن الله تعالى يقول: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ " فقال: والله أرحم بعباده أن ينزل هذه الآية بالرها، في كانون وكانون، وإنما نزلت بالحجاز في حزيران وتموز.
قيل له - وقد اشترى حماراً - : ما في هذا الحمار عيبٌ إلا أنه ناقص النفس بليدٌ يحتاج إلى عصاً. قال: إنما كنت أغتم لو كان يحتاج إلى بزماورد. فأما العصا فإنها سهل.
احتاج مزبدٌ أن يبيع جبته لسوء حاله، فنادى عليها المنادي، فلم يطلب بشيءٍ؛ فقال: مزبد: ما كنت أعلم أني كنت عرياناً إلى الساعة.
وقع بينه وبين رجل كلامٌ فقال له الرجل: تكلمني وقد ن. . . ت أمك فرجع مزبد إلى أمه، فقال لها: يا أمه، تعرفين بلبل؟ قالت: أبو علية؟ قال: نا..ك يشهد الله . . أنا أسألك عن اسمه، فتجيبنني عن كنيته.
قيل لمزبد: لم لا تكون كفلانٍ؟ - يعني رجلاً موسراً - فقال: بأبي أنتم، كيف أتشبه بمن يضرط ويشمت، وأعطس فألطم.
ونظر إلى رجل كثير شعر الوجه؛ فقال له: يا هذا؛ خندق على وجهك لا يتحول رأساً.
وقال له رجلٌ: من شجك ها هنا؟ - وأشار إلى استه - قال: الذي شج أمك في موضعين.
ودخل بيته، وبين رجلي امرأته رجل ين . . ها وباب الدار مفتوح؛ فقال: سبحان الله أنت على هذه الحال والباب مفتوحٌ؟ أليس لو دخل غيري كانت الفضيحة.
ونظر يوماً إلى امرأته تصعد في درجة؛ فقال: أنت الطلاق إن صعدت، وأنت الطلاق إن وقفت، وأنت الطلاق إن نزلت. فرمت بنفسها من حيث بلغت. فقال لها: فداك أبي وأمي إن مات مالكٌ احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم.
وسكر يوماً؛ فقالت امرأته: أسأل الله أن يبغض النبيذ إليك. فقال: والفتيت إليك.
ورثى مع امرأةٍ يكلمها؛ فقيل: ما تريد منها؟ قال: أناظرها في مسألة من النكاح.
وقيل: ما تقول في القبلة؟ قال: السباب قبل اللطام.
ونظروا إليه وبين يديه نبيذ أسود؛ فقالوا له: ما نبيذك هذا؟ قال: أما ترون ظلمة الحلال فيه؟ .
واشترى مرةً جاريةً فسئل عنها، فقال: فيها خلتان من خلال الجنة: بردٌ وسعة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11