كتاب : ربيع الأبرار
المؤلف : الزمخشري

محمود بن مروان بن أبي الجنوب:
أعاد لنا المعتز أيام جعفر ... وأحيا لنا بالعدل والجود جعفرا
إمام له في كل قلب محبة ... كوالده قولاً وفعلاً ومنظراً
قال ابن السماك للرشيد: إن الله تعالى قد وهب لك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، ولم يجعل فوق قدرك قدراً، فلا تجعل فوق شكرك شكراً.
علي عليه السلام: إن شر الناس إمام جائر ضل وضل به، فأفات سنة مأخوذة، وأحيى بدعة متروكة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالإمام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها.
ابن المبارك: دخل أسقف نجران على مصعب بن الزبير، فرماه بشيء فشجه، فقال له الأسقف: اجعل لي أماناً حتى أخبرك بما في الإنجيل، قال: لك ذلك. قال: فيه ما للأمير والغضب ومن عنده يطلب الحلم؟ وما للأمير والجور ومن عنده يطلب العدل؟ وما للأمير والبخل ومن عنده يطلب البذل.
يحيى بن يحيى لأن ألقى الله بكل ذنب أحب إلي من أن آخذ منهم، يعنى السلاطين.
من صحب السلطان قبل أن يتأدب فقد غرر بنفسه.
قال سلمة الأحمر للرشيد: يا أمير المؤمنين، لو كنت في فلاة فعطشت بكم تشتري شربة ماء؟ قال: بنصف ملكي. قال: فإن شربتها فأبت أن تخرج؟ قال: بالنصف الآخر. قال: فلعن الله ملكاً يباع بشربة وبولة.
ابن المبارك:
أنا من استطعت هدا ... ك الله عن باب الأمير
لا تذرها واجتنبها ... إنها شر مزور
أبو هريرة رفعه: ويل الأمراء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام لو أن ذوائبهم كانت معلقة في الثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض، وإنهم لم يلوا عملاً.
ابن عباس رفعه: إن من أشراط الساعة إماتة الصلوات، واتباع الشهوات، واتباع الهوى، ويكون أمراء خونة، ووزراء فسقة. فوثب سلمان فقال: بأبي وأمي، إن هذا لكائن؟ قال: نعم، عندما يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الملح في الماء، ولا يستطع أن يغير. قال: أو يكون ذلك؟ قال: نعم يا سلمان، إن أذل الناس يومئذ المؤمن، يمشي بين أظهرهم بالمخافة، إن تكلم أكلوه، وإن سكت مات بغيظه.
عمر رضي الله عنه: عنه صلى الله عليه وسلم: ويل لديان الأرض من ديان السماء، إلا من أمر بالعدل وقضى بالحق، ولم يقض على هوى ولا قرابة، وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه.
ربيعة الجرشي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من رجل عظيم سلطانه، قليل وفاؤه، لدينه هضام، وعن آخرته نوام.
أبو هريرة: أخنع الأسماء عند الله أن يقال له ملك الأملاك أي أذلها. ويروي أنخع أي اقتل.
قال عمر رضي الله عنه لرجل: من سيد قومك؟ قال: أحوجهم الدهر إلي. فقال عمر: هكذا المخاتلة عن الشرف.
نزل عيسى عليه السلام دمشق فوجد ملكها يطعم الناس الطعام في صحاف الذهب والفضة، فذهب هو وأصحابه إلى بردى، فأخرجوا كسراً معهم فأكلوه، وشربوا من الماء. ثم قال عيسى: لا تدخلوا على الملوك، ولا تأكلوا من طعامهم، ولا تعجبوا بما أوتوا، واعجبوا مما يفعل بهم يوم القيامة.
لزمت بعض أمراء بلخ كفارة يمين، فسأل فقيهاً، فقال: كفر بالصيام. فبكى. لأن في أمره بالصيام أن جميع ما يملكه حرام ولا شيء له.
لقمان: لا تقارب السلطان إذا غضب ولا البحر إذا مد.
لقمان: ثلاث فرق يجب على الناس مداراتهم: الملك المسلط، والمرأة، والمريض.
أبو ذر: قلت يا نبي الله، كم كتاباً أنزل الله؟ قال: مئة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيت خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. قلت: فما كانت صحف إبراهيم؟ فذكر أن فيها قد أفلح من تزكى إلى آخر السورة. وفيها: يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لن أردها ولو كانت من كافر.
علي عليه السلام: تباعد من السلطان الجائر، ولا تأمن خدع الشيطان فتقول متى أنكرت نزعت، فإنه هكذا هلك من كان قبلك، وإن أبت نفسك إلا حب الدنيا وقرب السلاطين، وخالفتك عما فيه رشدك، فأملك عليك لسانك، فإنه لا بقية للموت عند الغضب، ولا تسل عن أخبارهم، ولا تنطق بأسرارهم، ولا تدخل فيما بينهم.

الثوري: وإياك الأمراء أن تدنو منهم وتخالطهم في شيء من الأشياء وإياك أن تخدع فيقال له: تشفع وترد مظلمة، فإنما ذلك خديعة إبليس اتخذها فخاً.
قال الحجاج للحسن: أنت القائل: قاتلهم الله! قتلوا عباد الله على الدرهم والدينار؟ قال: نعم، قال: أما علمت سطوتي؟ أما اعتبرت بقتلي أكفاءك ولم يتكلوا بشطر من ذلك؟ قال: حملني على ذلك ما أخذ الله على العلماء، وتلى قوله تعالى: " لتبيننه للناس ولتكتمونه " فسكن غضبه، وأمر أن يدهنوا شعره ثم ندم. وتوارى الحسن فلم يقدر عليه.
كاتب: أعطي قوس السيادة باريها، وأضيفت إلى كفئها وكافيها، وفسخ به شرط الدنيا الفاسد في إهداء حظوظها إلى أوغادها، ونقض حكمها الجائر في العدول بها عن نجباء أولادها. رمقته عين الملك وهو جنين، وجهرته وهو ماء مهين، وقد كان يحيى أوتي الحكمة صبيا، وعيسى كلم الناس في المهد.
غاية النوك خدمة الملوك.
أمارة الطمع أمارة الطبع.
صحب عمرو بن عمار الطائي النعمان بن المنذر، وكان النعمان أقشر أحمر الحماليق، معربداً، فعربد على عمرو فقتله. فقال أبو قردودة الطائي:
لقد نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تقربن احمر العينين والشعره
إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيرانهم شروره
يا جفنة كإزار الحوض قد كفؤوا ... ومنطقاً مثل وشي اليمنة الحبره
عبد الملك بن عمرو: رأيت في ديوان معاوية بعد موته كتاباً من ملك الصين الذي علا مربطه ألف فيل، وبنيت داره بلبن الذهب والفضة، والذي تخدمه بنات ألف ملك، والذي له نهران يسقيان الألوة، إلى معاوية.
قيل ليزيد بن المهلب: ما أحسن ما مدحت به؟ قال: قول زياد الأعجم:
فتى زاده السلطان في الحمد رغبة ... إذا غير السلطان كل خليل
قال الأولون: ليس في الأرض عمل أكد لأهله من سياسة الأعوام.
وقد قال الهذلي:
وإن سياسة القوام فأعلم ... لها صعداء مطلعها طويل
الجاحظ: ليس شيء ألذ ولا أسر ولا أنعم من عز الأمر والنهي، ومن الظفر بالأعداء، ومن اعتقاد المنن في أعناق الرجال. لأن هذه الأمور هي نصيب الروح، وحفظ الذهن، وقسمة النفس.
أبو الفتح السبتي:
يا قوم أرعوني أسماعكم ... حتى أؤدي واجب القرض
أشهد حقاً أن سلطانكم ... ليس بظل الله في الأرض
الملك خلافة الله في عباده وبلاده، وليس يستقيم أمر خلافته مع مخالفته.
كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
أنوشروان: كل الناس أحقاء بالسجود، وأحقهم بذلك من رفعه الله عن السجود لأحد من خلقه.
ونحوه ما أنشدنيه صديق لي من أهل الشام:
قرن الشجاعة بالخضوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
بعض السلف: يا بني، اتق السلطان، فإنه يغضب غضب الصبي، ويصول صيال الأسد.
يقال لأتم مدة الخلفاء ميدان الخلفاء، وهي مدة دوران المشتري أربع وعشرون ساعة. ولم يستكملها إلا الرشيد والمقتدر، وقد قال عقال ابن شيبة بن عبد الملك بن هلال للرشيد: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي خصك بطول البقاء، وجاوز بك ميدان الخلفاء. فتغير وجهه، فما عاش بعدها إلا أقل من سنة.
وليس من آداب الملوك أن يعرض لهم بما يؤذن بالموت.
وعن نصر بن أحمد أن شاعراً جاءه ليلة السذق بقصيدة في أولها عدد أسذاقه وكانت إحدى وعشرين، فأنكر العدد واغتاظ، ولم يسمع ما بعده، ولم يسذق بعدها، إذ لم يدر عليه الحول.
كانت خلافة عبد الله بن المعتز يوماً وبعض يوم، ولقب بالمنتصف بالله، وضربت مثلاً فيما لا تطول مدته وحين قتل لم يجسر على مرثيته إلا ابن بسام فقال:
لله درك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لولا ولا ليت فينقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب

في يتيمة بن المقفع، وهي رسالته المضروب بها المثل في البلاغة، مثل: قليل مضار السلطان في جنب كثير في منافعه، كمثل الغيث الذي هو سقيا الله، وبركة السماء وحياة الأرض ومن عليها، وقد يتأذى به السفر، ويتداعى به البنيان، وتدر سيوله فيهلك الناس والدواب، ويموج له البحر، وتكون فيه الصواعق، فلا يمتنعن الناس إذا نظروا إلى آثار رحمة الله في الأرض التي أحيا، والنبات الذي أخرج، والرزق الذي بسط، عن أن يعظموا نعمة ربهم ويشكروها، ويلغوا ذكر خواص البلاء التي دخلت على خواص. ومثل الرياح التي يرسلها الله بشرى بين يدي رحمته فيسوق بها السحاب، ويجعلها لقاحاً للأشجار، وروحاً للعباد، يتنسمونا منها، ويتقلبون فيها، وتجري فلكهم، وتقد نيرانهم بها، وقد تضر بكثير من الناس في برهم وفي بحرهم، فيشكوها الشاكي، ويتأذى بها المتأذي، فلا يزيلها ذلك عن منزلتها التي جعلها الله بها، وقدرها سبباً لقوام عباده، وتمام نعمته.
ومثل الشتاء والصيف، والليل والنهار، وما فيها من قليل المضار وكثير المنافع. ولو أن الدنيا كانت سراء وكانت نعماؤها من غير كدر، وميسورها من غير معسور، لكانت الدنيا إذاً هي الجنة التي لا يشوب مسرتها مكروه.
أبو العيناء في بعض أصحاب السلطان: لله دره من ناقد أوتار، ومدرك أوتار، يلتهب كأنه شعلة نار. بات على مدرجة الخائفين ينتظر إلى أن تزل بأمره قدمه فيحكم في ماله قلمه، له في الفينة بعد الفينة جلسة عند الخليفة كحسوة طائر، أو خلسة سارق، يقوم عنها وقد أفاد نعماً، وأوقع نقماً.
بعض الأشراف:
فلا تحسب السلطان عاراً عقابه ... ولا ذلة عند الحفائظ والأصل
لقد قتل السلطان عمراً ومصعباً ... قريعي قريش واللذين هما مثلي
عماد بني العاص الرفع عماده ... وقوم بني العوام آنية النحل
أراد قتل عبد الملك عمرو بن سعيد الأشدق ومصعب بن الزبير. وجعل بني العوام أواني النحل لكرمهم وطيبهم.
قالوا: السكر ثلاث: سكرة الشباب، وسكرة الولاية، وسكرة الشراب، وهي أهونها. وقد خمسها من قال:
سكرات خمس إذا مني المر ... ء بها صار خلسة الشيطان
سكرة المال والحداثة والعش ... ق وسكر الشراب والسلطان
وسمعه بعض الزهاد فقال: أين هو من سكرة الموت؟ وقرأ: وجاءت سكرة الموت بالحق.
الصابي: وقعت الخلافة في الخلاف، وبرز الشر من الغلاف.
سليمان بن المهاجر البجلي حين قتل أبو سلمة الخلال:
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يثناك كان وزيرا
الحجاج: سلطان تخافه الرعية خير من سلطان يخافها.
شياطين السلاطين سلاطين الشياطين.
الملك من لا يسلم الإسلام، ولا يفارق الفرقان، ولا يمل الملة، ولا يعدل عن العدل، ولا يجور على الجار.
إذا ساد اللئام باد الكرام.
أجهل الناس من كان على السلطان مدلاً.
هذه أحوال لم تدر بمثلها أحوال، وأقوال لم يقل مثلها أقوال.
قال رجل لأسد بن عبد الله: أصلح الله الأمير، إن لي عندك يداً. قال: وما هي؟ قال: دخلت المقصورة وليس لك مجلس فيها فقمت لك عن مجلسي، فقال: إن هذه ليد، فما حاجتك؟ قال: تستعملني على أبيورد. قال: وما تصنع بولايتها؟ قال: أصيب منها مائة ألف. قال: عليها رجل له منا ناحية، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، قال: لم تقض ذمامه. قال: كيف؟ قال: منعتني تسليم الأمرة. قال: قد سوغناك مائة الألف واستعملناك على أبيورد.
أبو ميمون الأنباري الكاتب:
يا وزراء الملك لا تفرحوا ... أيامكم أقصر أيام
وزارة مختصر عمرها ... أطولها يقصر عن عام
إبراهيم بن أبي عبلة: دخلت على هشام، فقال: يا غلام، اكتب له على مصر. فقلت: أو يعفيني أمير المؤمنين ؟ فغضب حتى اصفر وجهه، وقال: إذا استعنا بخياركم ذكروا نحو هذا فتركته حتى سكن غضبه ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول: إن عرضنا الأمانة، والله ما أكرههن إذ أبينا، ولا عاب عليهن إذ كرهن، فتبسم ثم قال: أبيت يا ابن أبي عبلة إلا ما أبيت.
قال ابن إسحاق: أبو جاد، وهوز، وحطى، وكلمون، وسعفص، وقرشيات، بنو المحض بن جندل، كانوا ملوكاً، ملك أبو جاد بمكة، وهوز وحطى بوج، والباقون بمدين. وإنما أصاب مدين العذاب في ملك كلمون.

صالح بن علي الهاشمي: جاءتني امرأة موسوسة بواسط، فقالت لي: بأبي أنتم، ما أكثر ظلم الناس لكم! قلت: فيم ذاك؟ قالت: يزعمون أن الخلفاء منكم ظلمة، ولو كانوا كذلك ما ولاهم الله خلافته، أليس يقول: لا ينال عهدي الظالمين. فلو كان ظلمة لم ينله عهده.
راشد الكاتب في علي بن هشام:
صحبتك إذ أنت لم تصحب ... وإذا لا غيرك الموكب
وإذ أنت تكثر ذم الزمان ... ومشيك أضعاف ما تركب
وإذ أنت تفرح بالزائرين ... ونفسك نفسك تسجب
فقلت كريم له همة ... ينال فأدرك ما أطلب
فنلت فأقصيتني عامداً ... كأني ذو عرة أجرب
ففي الناس إذ ضاق بي ما لدي ... ك ولم ترع لي حرمة مذهب
كسرى: موت ألف سيد أهون من ارتفاع سفلة.
قيل لرجل أصابته حاجة: لو خالطت هؤلاء فأصبت من دنياهم، فقال: دعوني عنكم، فإني قد أصبت من فقر الدنيا ما لا أحب أن أجمع إليه من فقر الآخرة.
ابن شبرمة: قلت لأبي مسلم حين أمر بمحاربة عبد الله بن علي: أيها الأمير إنك تريد عظيماً من الأمور، فقال: يا ابن شبرمة، إنك بحديث تفلق معانيه، وشعر توضح قوافيه، اعلم منك بالحرب. إن هذه الدولة قد أطردت أعللامها، وخفقت ألويتها، واتسعت أفئيتها، فليس لمنوئها، والطامع فيها، يد تنيله شيئاً من قوة الوثوب عليها. فإذا تولت مدتها قدح الوزع بذنبها فيها.
قال رجل لأبي الدوانيق وهو المنصور: أين ماء كنت تحدث به في أيام بين أمية أن الخلافة إذا لم تقابل بإنصاف المظلومين من الظالمين، وإن لم تعارض بالعدل بالرعية وقسم الفيء بالسوية، كان عاقبة أمرها بواراً، وحاق لبولاتها سوء العذاب؟ فتنفس ثم قال: قد كان ما تقول، ولكنا استعجلنا ما في الفانية على ما في الباقية، وكان قد انقضت هذه الدار، فقال له: فانظر على أي حال تنقضي، فقال: لعامة تقول: تباً تباً لعالم أصاره علمه غرضاً لسهام الخطايا، وهو عالم بسرعة مواقع المنايا، اللهم إن تقض للمؤمنين صفحاً فاجعلني منهم، وإن تهب الظالمين فرجاً فلا تحرمني ما يتطول به المولى على أخس عبيده.
جودرز بن سابور: لا تثق بمودة الملوك، فإنهم يوحشونك من أنفسهم آنس ما كنت بهم.
خسرو بن فيروز: شر السلاطين من خافه البريء.
أردشير قال لابنه: يا بني، الملك والدين إخوان لا غناء لأحدهما عن الآخر. فالدين أسّ، والملك حارس، وما لم يكن له أس فهو مهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع.
هرمز بن نرسى: شكى له أهل اصطخر احتباس القطر، فوقع: إذا بخلت السماء بقطرها جادت يد الملك بدرها.
بهرام بن نرسى: أبلغ الأشياء في تشييد الملك تدبيره بالعدل، وحفظه بالعفو.
هرمز بن سابور: نحن كالنار من قاربها كثر عليه ضررها، ومن باعدها لم ينتفع بها.
يزدجرد: نحن معاشر الملوك لا نشبه الآدميين إلا بالصور والخلق، فأما الأخلاق والهمم فبيننا وبينهم فيها التفاوت البعيد.
بهرام جور: لا شيء أضر بالملوك من استخبار من لا يصدق إذا خبر، واستكفاء من لا ينصح إذا دبّر.
أنوشروان: ما عدل من جارت قضاته، ولا صلح من فسدت كفاءته.
لايستغنى أعلم الملوك عن الوزير، ولا أحد السيوف عن الصقال، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعقل النساء عن الزوج.
جلس الاسكندر يوماً فما رفع إليه أحد حاجة، فقال: ما أعد اليوم من أيام ملكي.
ملك الخزر: من طباع الملوك إنكارهم القبيح من غيرهم، واحتمالهم إياه من أنفسهم.
حسان بن تبع الحميري: لاتثقن بالملك فإنه ملول، ولا بالمرأة فإنها خؤون، ولا بالدابة فإنها شرود.
عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند موته: هذا ما عهد أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقى فيها الفاجر، إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برّ وعدل فذلك علمي به، وإن جار وبدّل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " .
عمر رضي الله عنه: أشقى الولاة من شقيت به رعيته.
عثمان رضي الله عنه: ما يزع الله السلطان أكثر مما يزع بالقرآن.

معاوية رضي الله عنه: ماأخاف على ملكي إلا ثلاثة: الحسين بن علي وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، قيل: فلم لا تقتلهم؟ فقال: فعلىمن أتأمر؟ زياد بن أبيه: طوبى لمن له دويرة تؤويه، وتجارة تكفيه، وجارية ترضيه، ولا نعرفه نحن فنؤذيه.
عبد الملك: أنصفونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر. نسأل الله أن يعين كل على كل.
الحجاج: جور السلطان خير من ضعفه، لأن ذلك يخص، وهذا يعم.
أبو العباس السفاح: ما أقبح بنا أن تكون الدنيا بأيدينا وأولياؤنا خالون من أيادينا! قرأ الرشيد قوله تعالى: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي " ،فقال: لعنه الله، ادعى الربوبية بملك مصر، والله لأولينها أخس خدمي، فولاها الخصيب. وكان على وضوئه.
أخذ في مبايعة المهتدي بالله قبل أن يخلع المعتز نفسه، فقال المهتدي: لا يجتمع أسدان في غابة، ولا فحلان في عانة.
ابن المعتز: من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة.
وعنه: إذا زادك الملك تأنيساً وإكراماً فزده تهيباً واحتشاماً.
وعنه: من صحب السلطان فليصبر على قسوته كصبر الغواص على ملوحة بحره.
وعنه: لا تلبس السلطان في أيام الفتنة فإن البحر لا يسلم راكبه في حال سكونه، فكيف إذا عصفت رياحه، والتطمت أمواجه؟ محمد بن زيد الداعي: ما أشبه دولة السامانية في طول ثيابها مع قلة كفاءتها إلا بالسماء المرفوعة بغير عمد.
أبو علي الصنعاني: إياك والملوك، فإن من والاهم أخذوا ماله، ومن عاداهم أخذوا رأسه.
سيف الدولة الحمداني: السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها.
المطيع لله: باسمنا يدفع عن سواد الأمة وبياض الدعوة.
عضد الدولة: الدنيا أضيق من أن تسع ملكين.
محمود بن سبكتكين: شكر له أخوه كثرة نفقاته وصدقاته على أهل غزنة عام القحط، فقال: يا أخي، لو كانوا قوماً أجانب لكانت البشرية توجب مواساتهم، فكيف وهم أخواننا في الدين، وأصحابنا في الملك، وجيراننا في البلد؟ فأي عذر لنا مع سعة المال في تمييزهم عن العيال؟ وعاتب والي خورجان على القتل فقال: إن جرح المال يوسى بتعويض وإخلاف، وليس لإتلاف النفوس تلاف.
قيل لبهزرجمهر: كيف اضطربت أمور آل ساسان؟ فقال: استعانوا بأصاغر العمال على أكابر الأعمال، فآل أمرهم إلى شر مآل.
السلطان لا يتوخى بكرامته الأفضل ولكن الأدنى، كالكرم لا يتعلق بأكرم الشجر ولكن بأدناها منه.
ظفر بن الليث: سمعت أبو داود وقد ولي بلخ ثمانين سنة يقول: والله، ما حللت حبوتي لحرام قط، ولا ارتشيت درهماً في الحكم ولو علمت ان صلاح رعيتي في يميني لبذلتها.
هرمز بن نرسي لما دنت وفاته وامرأته حامل بسابور عقد التاج على بطنها. وقام الوزراء بتدبير المملكة حتى ولد. وأغار العرب على نواحي فارس في صباه، فلما أدرك انتخب من أهل النجدة وأوقع بالعرب فنهكهم بالقتل. ثم خلع أكتف سبعين ألفاً فسمي ذا الأكتاف. وأمرهم حينئذ بإرخاء الشعور، ولبس المصبغة والأزر، وإن يسكنوا بيوت الشعر، وأن لا يركبوا الخيل إلا أعراء.
كتب الاسكندر إلى أرسطاليس يعلمه بما افتتح من البلاد، ويعجبه من قبة ذهب وجدها في بلاد الهند. فأجاب: إني رأيتك تتعجب من قبة عملها الآدميون، وتدع التعجب من هذه القبة المرفوعة فوقك، وما زين به من الكواكب وأنوار الليل والنهار. وأما البلدان فليكن ملكك بالتودد إلى أهلها، لا كقهر الراعي غنمه بالعصا، فإنك في طاعة لمودة أحمد بدءاً وعاقبة من طاعة القهر والإستطالة.
فحدث به المأمون فقال: لقد حث على التودد فأحسن، وقد أدبنا الله قبل معرفتنا بحكمة أرسطاليس بقوله: " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " .
العتابي في الرشيد:
إمام له كف يضم بنانها ... عصا الدين ممنوعاً من البري عودها
وعين محيط بالبرية طرفها ... سواء عليها قربها وبعيدها
محمد بن مكرم الكاتب في أحمد بن إسرائيل وزير المعتز:
إن زماناً أنت مستوزر ... فيه زمان عسر أنكد
يذمك الناس جميعاً فما ... يلقاك واحد منهم يحمد
طرف الذي استكفاك في ملكه ... أمر الرعايا عائر أرمد

لما بويع لأبي العباس السفاح اعترضه المحيس بن أرطاة الأعرجي فقال:
أهلاً وسهلاً بخيار الناس ... بهاشمي أهل الندى والباس
تدولوها يا بني العباس ... تداول الأكف للأمراس
فقال: نعم إن شاء الله، وأمر له بمائتي دينار.
يوسف الجوهري في المتوكل:
إن الخلافة لم تزل مشتاقة ... يسمو إليك سريرها والمنبر
حتى اتاك بها الذي أعطاكها ... ليعزها بك إنه بك أخبر
ولئن أتتك وتلك أفضل رتبة ... للطالبين لأنت منها أكبر
ابن عباس: دخلت على علي بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال: والله هي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حداً من حدود الله، أو أدفع باطلاً.
وقال للأشتر حين ولاه مصر: وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر منه على نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفيء إليك ما غرب عنك من عقلك.
وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك.
وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظره في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً.
وعنه: ولقد لقيه دهاقين الأنبار فترجلوا له واشتدوا بين يديه، فقال: ما هذا الذي صنعتموه؟ قالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون به على أنفسكم، وتشقون به في آخرتكم. وما أخسر المشقة وراءها العذاب! وما أربح للراحة معها الأمان من النار.
وعنه: صاحب السلطان كراكب الأسد يغبط بموقعه، وهو أعلم بموضعه.
عابد: ينظر أهل البصائر إلى الملوك بالتصغير والرحمة، وأهل الغفلة بالتعظيم والغبطة.
وقف ملك من ملوك بني إسرائيل على مريض، فقال: ما لك؟ قال: أرحمك، قال: يا رب مرحوم من سقم هو شفاؤه ومغبوط بنعمة هي داؤه.
تزوج ملك من بني إسرائيل بنت ملك، فقالت له: إن أولى الناس بمعرفة النعم من غذي بالنعم، وما احسن من طلب نعيم الآخرة بترك نعيم الدنيا! فهل لك أن تدع ما نحن فيه ونتعبد؟ فلبساً المسوح وتعبداً.
إسحاق بن إبراهيم:
باب الأمير عراء ما به أحد ... إلا امرؤ واضع كفاً على ذقن
أبو العرجاء حمال موسى بن عيسى: لما نزلنا بستان بني عامر بعثني محمد بن سليمان إلى الحسين بن علي صاحب فخ لأتجسس له، فمضيت فما رأيت إلا مصلياً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف أو معداً للسلاح، فرجعت وقلت: ما أظن القوم إلا منصورين، وأخبرته بخبرهم. فصفق بيده وبكى حتى ظننت أنه سينصرف، ثم قال: هم والله أكرم خلق الله، وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم، ولو أن صاحب القبر، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، نازعنا الملك لضربنا خيشومه بالسيف، وسار إليهم وفعل ما فعل.
ولما احتضر محمد بن سليمان كانوا يلقنونه الشهادة، وهو يقول: ألا ليت أمي لم تلدني، ولم أكن شهدت حسيناً يوم فخ ولا الحسن.
إبراهيم بن عبد الله بن رجاء الجلاني في المتوكل:
إذا ما امرؤ طالت إلى المجد كفه ... فكفك منها في ذرى المجد أطول
وحسبك أن الله فوق وحده ... وإنك فوق الناس بالحق تعدل
وقف على الحسن أعمى فقال: تصدقوا على من لا قائد له يقوده، ولا بصر يهديه. فأشار إلى عبيد الله بن زياد وقال: ذاك والله صاحب هذه الدار ما كان له من حشمه قائد يقوده إلى خير، وما كان له من قبل نفسه بصر يبصر به.

علي عليه السلام: حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها الله لكل على كل، فجعلها نظاماً لا لفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.
وإذا غلبت الرعية وإليها وأجحف الوالي برعيته اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار.
أسر مروان بن الحكم يوم الجمل، فكلم فيه الحسن والحسين فخلاه علي، فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين، فقال: ألم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته، أنها كف يهودية، ولو بايعني بيده لغدر بسيفه، أما أن له أمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن لده يوماً أحمر.
نوف البكلي: خطب أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة، وهو قائم على حجارة نصبت له، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وكان جبينه ثفنة بعير، ثم قال: أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وأبرد برؤوسهم إلى الجنة؟ ثم ضرب يده إلى لحيته فأطال البكاء، ثم قال: أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة، وأماتوا البدعة.
ثم نادى بأعلى صوته الجهاد عباد الله، ألا وأني معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج. فعقد للحسين في عشرة آلاف ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلى صفين.
فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم، فتراجعت العساكر فكنا كالأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان.
أتى جرير بن عبد الله البجلي معاوية لأخذ البيعة لعلي رضي الله عنه، فدافعه فقال له: إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بداً، ولا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بداً. فقال معاوية: أنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن، إنه أمر له ما بعده بأبلعني ريقي، فلما كان من الغد رفع عقيرته بسمع من جرير:
تطال ليلي واعترتني وساوس ... لآت أتى بالترهات البسابس
أتاني جرير والحوادث جمة ... بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكايده والسيف بيني وبينه ... ولست لأثواب الدنيء بلابس
إن الشام أعطت طاعة يمنية ... تواضعها أشياخها في المجالس
فإن يفعلوا اصدم علياً بجبهة ... تغث عليه كل رطب ويابس
وإني لأرجو خير ما نال نائل ... وما أنا عن ملك العراق بيائس
المستعين حين خلع:
كل ملك مصيره للذهاب ... غير ملك المهيمن الوهاب
كل ما قد ترى يزول ويفنى ... وتجازي العباد يوم الحساب
أبو زبيد الطائي:
إذا نلت الإمارة فاسم منها ... إلى العيوق بالسبب الوثيق
ولا تك عندها حلواً فتحس ... ولا مراً فتنشب في الحلوق
وكل إمارة إلا قليلاً ... مغيرة الصديق على الصديق
أبو حفص العدوي:
في صاعد وأخيه وابنه عظة ... لمن تسمى وزيراً بعدهم أبدا
فقل لذي نخوة من بعد نخوتهم ... وظالم ظلمهم لا تأمن القراد

لما اشتدت شوكة العراق على عبد الملك خطب فقال: إن نيران العراق قد علا لهيبها، وكثر حطبها، فجمرها ذاك، وزنادها وار، فهل من رجل ذي سلاح عنيد، وقلب شديد، يندب لها؟ فقال الحجاج: أنا يا أمير المؤمنين، فجبهه مرات. ثم أعاد الكلام فلم يقم غيره، فقال: كيف تصنع إن وليتك؟ قال: أخوض الغمرات، واقتحم الهلكات، فمن نازعني حاربته،ومن هرب طلبته، ومن لحقت قتلته. أخلط عجلة بأناة، وشدة بلين، وتبسماً بازدراء. وعلى أمير المؤمنين أن يجرب، فإن كنت المطلي قطاعاً، وللأرواح نزاعاً، وللأموال جماعاً، ولا استبدل بي. فقال عبد الملك من تأدب وجد بغيته، اكتبوا كتابه.
وروي أنه قال: علي بابن القرناء، فلما رآه قال: هذا غلام ثقيف الموصوف في كتاب دانيال. ليكشف عن صدره، فإذا هو بشامة سوداء في وسطها نكت حمر.
فقال: هذا ورب موسى، ليقتلن بعدد كل نكتة في شامته كذا وكذا، وهي النكتة التي يعطاها السفاكون.
وذكر أنه في الكتاب شاب أنزع بطين في اسمه حاء وجيمان.
أعرابي: حاجب المرء عامله على عرضه.
آخر: حاجب المرء بعضه، وكاتبه كله.
وكان عمرو بن سعيد بن سلم في حرس المأمون ليلة، فبرز المأمون يتفقد الحرس، فقال له: من أنت؟ قال: عمرو عمرك الله وابن سعيد أسعدك الله، ابن سلم سلمك الله. فقال: أنت تكلؤنا الليلة، قال الله يكلؤك يا أيمر المؤمنين، وهو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين فقال المأمون،
إن أخا هيجاك من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك ... شتت فيك شمله ليجمعك
ادفعوا له أربعة آلاف دينار. قال عمرو: فوددت الأبيات طالت.
قال زياد لابنه: عليك بالحجاب، فإنما تجرأت الرعاة على السباع بكثرة نظرها إليها.
سعيد بن المسيب: نعم الرجل عبد العزيز لولا حجابه، أن داود ابتلى بالخطيئة لحجابه.
قال بواب المأمون يوماً للوقوف على الباب: كم تقفون؟ اختاروا واحدة من ثلاث: إما أن تقفوا ناحية من الباب، وإما أن تجلسوا في المسجد، ثم سكت. قالوا: فالخصلة الثالثة؟ فلم يحسن أن يثلث فقال: جئتمونا بكلام الزنادقة. فأنهيت إلى المأمون فضحك. وأمر له بألف درهم وقال: لولا أنها نادرة جهل لاستحق أكثر.
استأذن رجل على أمير، فقال: قولوا له أن الكرى قد خطب إلى نفسي، وإنما هي هجعة ثم أهب. فخرج الحاجب فقال: قد قال كلاماً لا أفهمه، إلا أنه لا يريد أن يأذن لك.
علي عليه السلام: إنما أمهل فرعون مع دعواه لسهولة إذنه وبذل طعامه.
قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على معاوية، فطال مقامه ببابه فصاح: من يستأذن لي اليوم فاستأذن له غداً؟ فبغت معاوية فأذن له وأكرمه.
ولى يزيد بن المهلب ابنه مخلداً جرجان، وقال له: استظرف الكاتب، واستعقل الحاجب.
أبو الشعيب الكوفي في بشر بن مروان:
بعيد مراد العين مارد طرفه ... حذار الغواشي باب دار ولا ستر
ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكن بشراً أيسر الباب للتي ... يكون لها في غبها الحمد والشكر
قال عمرو بن مرة الجهمي لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من أمير ولا وال يغلق بابه من دون ذوي الحاجة والخلة والمسألة إلا أغلق الله أسباب السماوات دون حاجته وخلته ومسألته.
قيل لأبي سفيان: إن عثمان حجبك، فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني.
من وجد باباً مغلقاً وجد إلى جنبه باباً مفتوحاً.
استأذن النابغة على النعمان. فقال الحاجب: الملك على شرابه، فقال: هو وقت الملق تقبله الأفئدة وهي جذلى للرحيق والسماع، فإن تبلج فلق المجد عن غر مواهبه فأنت قسيم ما أخذت.
ابن المبارك:
أرى أناساً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالدين على دنيا الملوك كما ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
قام رجل بين يدي بعض الملوك، فقال له: لم قمت؟ قال: لأجلس فولاه.
في بعض ولاة بني مروان:
إذا ما قطعتم ليلكم بمدامكم ... وأفنيتم أيامكم بنام
فمن ذا الذي يغشاكم في ملمة ... ومن الذي يأتيكم لسلام

رضيتم من الدنيا بأيسر بلغة ... بلثم غلام أو بشرب مدام
ولم تعلموا أن اللسان موكل ... بمدح كرام أو بذم لئام
قال أبو جعفر لسلم بن قتيبة في قتل أبي مسلم، فتلا: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. فقال: حسبك يا أبا قتيبة، هذا الرأي.
قال أبو جعفر لشبيب بن شبة: عظني، فقال: إن الله لم يرض لك أن يكون فوقك أحد من خلقه، فلا ترض له من نفسك بأن يكون له عبد هو أشكر منك.
لا يحمل النير ردفاً، ولا يصلح ملك بين نفسين.
شاعر
جعل ابن حزم حاجبين لبابه ... سبحان من جعل ابن حزم يحجب
قال زياد لعمر رضي الله عنه: أعن خيانة عزلتني أم عن تقصير؟ قال: لا عن واحد منهما، ولكن أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعية.
وعنه رضي الله عنه: العمل كبير فانظر كيف تخرج منه.
أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر، فغاظه ذلك فقال: إيهاً عن ذكر عمر فإنه أزرى بالولاة.
الملك في أرباب السيوف لا في ربات الشنوف.
البديع: نهت الحكماء عن خدمة الملوك، وقالوا إن الملوك إذا خدمتهم ملوك، يستعظمون في الثوب رد الجواب، ويستقلون في العقاب ضرب الرقاب، يعثرون على عثرة فيبنون لها مناراً ويستوقدون بها ناراً، فكن من الملوك مكانك من الشمس، إنها لتؤذيك والسماء لها مدار، والأرض لها دار. فكيف لو أسفت قليلاً ودنت يسيراً؟ العاقل من طلب سرباً لواذاً منهم وهرباً، أو ابتغى في الأرض نفقاً، فراراً منهم وفرقاً.
فحيم: شر السلاطين من أمنه الجريء وخافه البريء.
كان الوليد بن عبد الملك صاحب بنا واتخاذ للضياع، فكان الرجل في زمانه يلقى الآخر فلا يسأله إلا عن بنائه وضيعته. وكان سلسمان صاحب أكل ونكاح، فلا يتساءلون إلا عن التزوج والتسري وصفة الطعام. وكان عمر بن عبد العزيز ديناً، فيلقى الرجل الآخر فيقول: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى يتم ما جعلت على نفسك من الصوم؟ كتب أبو حازم المدني إلى عمر بن عبد العزيز: اتق الله ولا تكن للظالمين ولياً، وإياك أن تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت له بتبليغ الرسالة مصدق، وهو عليك بسوء خلافته في أمته شهيد.
كان عمر بن عثمان بن معمر يسترسل مع جلسائه ولا يتكبر عليهم، فقال له بعض من يتنصح: إن الوالي ينبغي له أن يمسك نفسه ويتكبر على أهل عمله. فقال: إنكم إذا وليتم ولاية وضعتموها هاهنا، وأشار إلى رأسه، ونحن إذ ولينا وضعناها هاهنا، وأشار تحت قدميه.
سعيد بن العاص: يا بني إن الولايات محن الرجال تبدي محاسنهم ومساويهم، فإن وليت فاستطعت أن تكون ذكراً حسناً فافعل.
عمرو بن العاص: يا بني إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد خطوم خير من سلطان غشوم، وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم.
استأذن سعيد بن مالك على معاوية فحجب فهتف بالبكاء، فسعى إليه الناس وفيهم كعب فقال: ما يبكيك؟ قال: وما لي لا أبكي وقد ذهب الأعلام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاوية يتلعب بهذه الأمة. فقال كعب: لا تبك فإن في الجنة قصراً من ذهب يقال له عدن، أهله الصديقون والشهداء، وأنا أرجو أن تكون من أهله.
عمر رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما استعملت أحداً من الطلقاء.
أراد عمر أن يعزل المغيرة بن شعبة عن العراق بجبير بن مطعم ون يكتم ذلك. وأمره بالجهاز، فأحسن بذلك المغيرة، فأمر جليساً له أن يدس امرأته، وكانت تسمى لقاطة الحصى، لتدور في المنازل حتى دخلت منزل جبير بن مطعم، فوجدت امرأته تصلح أمره، فقلت: إلى أين يخرج زوجك؟ قالت: إلى العمرة. قالت: كتمك، ولو كانت لك عنده منزلة لأعلمك. فجلست متغضبة، فدخل عليها جبير وهي كذلك، فلم تزل به حتى أخبرها، وأخبرت لقاطة الحصى، ودخل المغيرة على عمر فقال: بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيراً. فقال: كأني بك يا مغيرة فعلت كذا، فقص عليه الأمر كأنما شاهده، وقال: أنشدك الله هل كان كذلك؟ قال: اللهم نعم. ثم صعد المنبر فقال: أيها الناس من يدلني على المخلط المزيل نسيج وحده؟ فقام المغيرة فقال: ما يعرف ذلك في أمتك أحد غيرك. فولاه، ولم يزل والي العراق حتى طعن عمر.
علي عليه السلام: لا يصلح لكم يا أهل العراق إلا من أخزاكم وأخزاه الله.

ودعا عليهم سعد بن أبي وقاص فقال: اللهم لا ترضهم بأمير، ولا ترض أميراً بهم.
أبو هريرة: ويل للعرب من شر قد اقترب. اللهم لا تدركني مارة الصبيان.
لما أراد طاهر أن ينفذ رأس الأمين إلى المأمون قال لمحمد بن الحسين بن مصعب: صر إلى أمير المؤمنين بهذا الرأس والبردة، وقل له: وجهت إليك الدنيا والآخرة.
الحسين بن الضحاك في المأمون:
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مميزة بين الضلالة والرشد

المنطق، وذكر الخطب، والشعر
والفصاحة والبلاغة، والعي، والإفحام، والإيجاز، وما اتصل بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أفصح العرب غير أني من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر.
ولما ردته حليمة السعدية إلى مكة نظر إليه عبد المطلب وقد نما نمو الهلال، وهو يتكلم بفصاحة، فامتلأ سروراً وقال: جمال قريش، وفصاحة سعد، وحلاوة يثرب.
وكان شبيب بن شيبة من أفصح الناس وهو من بني سعد، وفيه يقول أبو نخلة:
إذا غدت سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها
من مطلع الشمس إلى مغيبها ... عجبت من كثرتها وطيبها
وعنه صلى الله عليه وسلم: سيكون بعدي أمراء يعظون الحكمة على منابرهم قلوبهم أنتن من الجيف.
سمع النبي صلى الله عليه وسلم من عمه العباس، فقال له: بارك الله لك يا عم في جمالك. أي في فصاحتك.
وعنه عليه الصلاة والسلام الجمال في اللسان.
وقال صلى الله عليه وسلم لحسان: قل فوالله لقولك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام.
أقبح الكلام إكثار تنبسط حواشيه، وتنقبض معانيه، لا يرى معه أمد، ولا ينتفع به أحد.
يونس بن حبيب: ليس لعيي مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء ولو حك بنافوخه عنان السماء.
العجلة قيد الكلام.
مطرف: إن للكلام الطيب حول العرش دوياً كدوي النحل.
أطال خطيب بين يدي الإسكندر فزبره، وقال: ليس تحسن الخطبة بقدر طاقة الخاطب، ولكن على حسب طاقة السامع.
أعرابي: نحن أمراء الكلام، فينا وشجت أعراقه، ولنا تعطفت أغصانه، وعلينا تهدلت ثماره، فنجني منه ما أحلولي وعذب، ونترك منه ما املولح وخبث.
قال المهدي للربيع: أخبرني عن أرق بيت قالته العرب، قال: بيت امرئ القيس وما ذرفت عيناك. فقال: هذا بيت قد داسته العامة، ولكن:
ومما شجاني أنها يوم أعرضت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أفادت من بعيد بنظرة ... إلي التفاتاً أسلمته المحاجر
قيل في عمرو بن الأهتم المنقري وهو المكحل، وكان من الخطباء الشعراء: كأن شعره في مجالس الملوك حلل منشرة.
العتابي في أبي نؤاس: لو أدرك الخبيث الجاهلية لما فضل عليه أحد.
أبو نؤاس للمحدثين كامرئ القيس للأوائل، وهو فتح لهم هذه الفطن ودلهم على المعاني.
دعبل: جمعت بين أبي نؤاس ومسلم فأنشده: أجارة بيتينا أبوك غيور وأنشده مسلم قصيدته التي فيها:
لله من هاشم في أرضه جبل ... وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل
فقلت لأبي نؤاس: كيف رأيته؟ قال: هو أشعر الناس بعدي، وسألت مسلماً فقال: أنا أشعر الناس بعده.
جرير: أدركت الأخطل وله ناب واحد، ولو أدركته وله نابان لأكلني.
سئل علي عليه السلام عن اللسان، فقال: هو معيار أطاشه الجهل وأرجحه العقل.
قال المعتصم لأحمد بن داؤد: إني لأسألك عما أعرف لأسمع حسن ما تصف.
قلما ينصف اللسان في وصف إساءة أو إحسان.
زياد ابن أبيه: الشعر أدنى مروءة السري، وأسرى مروءة الدني.
قال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: بلغني أنك لهجت بقول الشعر، قال: هو ذاك، قال: فإياك والمدح، فإنه طعمة الوقاح من الرجال، وإياك والهجاء، فإنك تحنق به كريماً، وتستثير به لئيماً، وإياك والتشبيب بالنساء، فإنك تفضح الشريفة، وتغر العفيفة. ولكن أفخر بمفاخر قومك، وقل من من الأشعار ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك.
قيل لأبي علي الأموي: دعبل أشعر أم الطائي؟ فقال: إما إني والله خائف أن أصفع دعبلاً بنعل الطائي فأضع من قدر صاحبها.
سهل بن هارون: اللسان والشعر الجيد لا يكادان يجتمعان في أحد.

سمع خالد بن صفوان مكثاراً يتكلم، فقال: يا هذا، ليست البلاغة بخفة اللسان، وكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى، والقصد إلى الحجة.
ابن المعتز
ليس له ناقد فيعرفه ... وآفة التبر ضعف منقده
عبيد بن سفيان العكلي:
فتى كان يعلو مفرق الحق قوله ... إذا الخطباء الصيد عضل قيلها
علي عليه السلام: اللسان سبع إن خلا عقر.
سمع الرشيد أولاده يتعاطون الغريب في محاورتهم، فقال: لا تحملوا ألسنكم على الوحشي من الكلام، ولا تعودوها الغريب المستشنع، ولا السفساف المتصنع، واعتمدوا سهولة الكلام ما ارتفع عن طبقات العامة، وانخفض عن درجة المتشدقين، وتمثل ببيت الخطفي جد جرير:
إذا نلت إنسي المقالة فليكن ... به ظهر وحشي الكلام محرما
عرضت على المتوكل جارية شاعرة، فسأل أبا العيناء أن يستجيزها، قال: أحمد الله كبيراً. فقالت: حين أنشاك ضريرا، فقال: يا أمير المؤمنين قد أحسنت في إساءتها. فاشتراها.
قيل للفرزدق: ما صيرك إلى القصار بعد الطول؟ فقال: إني رأيتها في الصدور أولج، وفي المحافل أجول.
قال بعض الشعراء:
أ زبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب
فبادر العبيد ليقعوا به، فقالت زبيدة: كفوا عنه فإنه لم يرد إلا خيراً، ومن أراد خيراً فأخطأ خير ممن أراد شراً فأصاب، سمع الناس يقولون: قفاك أحسن وجه غيرك، وشمالك أندى من يمين سواك. فقدر أن هذا مثل ذاك. أعطوه ما أمل وعرفوه ما جهل.
قال أبو سفيان لابن الزبعري: لو أسهبت، فقال: حسبك من الشعر غرة واضحة، أو سمة فاضحة.
فيلسوف: كما أن الآنية تمتحن بأطنابها، فيعرف صحيحها من منكسرها، فكذلك الإنسان يتعرف حاله بمنطقه.
قال عبد الملك لرجل: حدثني، قال: يا أمير المؤمنين افتتح، فإن الحديث يفتح بعضه بعضاً.
خالد بن صفوان: لا تكون بليغاً حتى تكلم أمتك السوداء، في الليلة الظلماء، في الحاجة المهمة، بما تتكلم به في نادي قومك. وإنما اللسان عضو إذا مرنته مرن وإذا أهملته حار.
حكيم: إن اللسان إذا كثرت حركته رقت عذبته.
دعبل:
يسل من فكيه كالحسام ... صفيحة تلعب بالكلام
قيل لسهل بن هارون: ما البلاغة؟ فقال: الكلام المنحدر على الغريزة على رسل تحدر الدر من عقد أسلمته كف جارية إلى حجرها، لا يحمل فيه اللسان على غير مذهب السجية فيظهر فيه فج التكلف.
أعرابي: أخذ بزمام الكلام فقاده أسهل مقاد، وساقه أحسن مساق، حتى استرجع به القلوب النافرة، واستصرف به الأبصار الطامحة.
وقع جعفر البرمكي على ظهر رقعة قصيرة: إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عياً.
أعرابي: كان والله مطلول المحادثة، ينبذ إليك الكلام على أدراجه، كأن في كل ركن من أركانه قلباً يعقل.
قيل لأعرابي: ما بال مراثيكم أجود؟ فقال: لأنا نقولها وأكبادنا تحترق.
سئل بعض العلماء عن بلاغة الأمين فقال: والله لقد اتته الخلافة يوم الجمعة، فما كان إلا ساعة حتى نودي الصلاة قائمة، فخرج ورقى المندر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، وخصوصاً يا بني العباس، إن المنون مراصد ذوي الأنفاس، حتم من الله لا يدفع حلوله، ولا ينكر نزوله، فارتجعوا قلوبكم من الحزن على الماضي إلى السرور بالباقي تجروا أثواب الصابرين، وتعطوا أجور الشاكرين. فتعجبوا من بلة ريقه وجودة عارضته.
ذكر الحسن بني الأمية وخطبهم فقال: أخصب ألسنة وأجدب قلوب.
قال المبرد: قلت لمجنون أجز لي هذا البيت:
أرى اليوم يوماً قد تكاثف يومه ... وإبراقه فاليوم لا شك ماطر
فقال:
وقد حجبت فيه السحائب شمسه ... كما حجبت ورد الخدود المعاجر
أعرابي: قد رعى الشيح، واستروح تلك الريح.
رؤبة: ما رأيت أروى لأشعارنا من أبي مسلم من رجل يرتضح لكنة أعجمية.
قال أبو زيد: وإذا قال رؤبة لرجل يرتضح لكنة فهو من أفصح الناس.
فيلسوف: من كانت له حكمة أو أدب فلينطق به، فإن السكوت أولى بالجاهل من الأديب.
أعرابي: كان لسانه أرق من ورقة، وألين من سرقة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: ما بقي من لسانك؟ فأخرج لسانه حتى ضرب بطرفه جبهته، ثم قال: والله ما يسرني به مقول من معد، والله لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه.
عرض عقبة بن رؤبة على أبيه شعراً فقال: كيف تراه؟ قال: إن أباك ليعرض له مثل هذا يميناً وشمالاً فلا يلتفت إليه.
قيل لابن المقفع: لم لا تقول الشعر؟ فقال: الذي يجيئني لا أرضاه، والذي أرضاه لا يجيئني.
قال الهيثم بن الصالح لابنه: يا بني، إذا أقللت من الكلام أكثرت الصواب، وإذا أكثرت من الكلام أقللت من الصواب، قال: يا أبه، فإن أكثرت وأكثرت، يعني كلاماً وصواباً، قال: يا بني، ما رأيت موعوظاً أحق بأن يكون واعظاً منك.
أنشد الجاحظ:
فإن المنبر الشرقي يشكو ... على العلاف اسحاق بن شمر
اضبي على خشبات ملك ... كمركب ثعلب ظهر الهزبر
الأحنف: الكلام أفضل من الصمت، لأن الصمت لا يعدو فضله فاعله، وفضل المنطق ينتفع به من سمعه.
الكلمة مربوقة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت فهي سبع مجرد أو نار تلهب.
حصر خطيب بعد قوله الحمد لله فكرره، فقال مخنث: الذي ابتلانا بك.
قيل لكثير: كيف تصنع إذا عز عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة، والرياض المعشبة، فيسهل علي أريضه، ويسرع إلي أحسنه.
آخر: ما استدعى شارد الشعر بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخضر الخالي. وله أوقات يسرع فيها أتيه ويسمح أبيه.
قيل لزيد بن علي: الصمت خير أم الكلام؟ فقال: أخذ الله المساكنة! فما أفسدها للسان وأخلبها للحصر! فوالله لمماراة ساعة أسرع هدم العي من النار في يبيس العرفج. ومن السيل في الحدور.
أفحم النابغة الجعدي أربعين عاماً، ثم إن بني جعدة غزوا وظفروا، فاستخفه الفرح، فرام القريض فذل له ما استصعب عليه. فقالوا والله لنحن بإطلاق لسان شاعرنا أسر منا بالظفر بعدونا.
بعض المازنيين:
ختم الإله على لسان غداقر ... ختماً فليس على الكلام بقادر
وإذا أراد النطق خلت لسانه ... لحماً يحركه لصقر نافر
كان بعض ولد الزبير يسأل عما لا يحفظ من شعر عمر بن أبي ربيعة، فإذا ذكر له شيء كتبه ويده ترتعد من الفرح.
كان جرير إذا أنشد شعر عمر بن أبي ربيعة قال: شعر تهام إذا أنجد وجد البرد، حتى إذا سمع قوله:
رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشي فيخصر
فقال: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.
أبو نؤاس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال؟ قيل للزهري: ها هنا قوم نساك يعيبون رواية الشعر، قالوا نسكوا نسكاً أعجمياً.
وعن مسلم بن يسار سمعت ابن المسيب ينشد شعراً، فقلت: أتنشد الشعر؟ فقال: أو ما تنشدون؟ قلت: لا، قال: لقد نسكتم نسكاً أعجمية، وقد قال رسول الله: شر النسك نسك الأعاجم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشعر جزل من كلام العرب يشفى به الغيظ، ويوصل به إلى المجلس، وتقضى به الحاجة.
الخليل بن أحمد: الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاؤوا، وجاز لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تسهيل اللفظ وتعقيده، ومد مقصوره وقصر محدوده، والجمع بين لغاته، والتوصيف بين صلاته، واستخراج ما كلت الألسن عن نعته، والأذهان عن فهمه. يبعدون القريب، ويقربون البعيد، يحتج بهم ولا يحتج عليهم.
بعض الروم: اختصار المعاني وحذف الفضول سلالة البلاغة.
شاعر:
أبى الشعر إن أن يفيء رديئه ... علي ويأبى منه ما كان محكماً
فيا ليتني إذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت مفحماً
مدح الفرزدق هشاماً فأجازه بأربعة آلاف، فتسخطها وتمثل ببيت زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضع ... يغره من لا يتقي الشتم يشتم
ومدحه جرير فكان مثل ذلك، فحكي للفرزدق فقال: نعم شيطاننا واحد، يلم به مرة وبي مرة.
سئل بعضهم عن البلاغة فقال: من عمد إلى معان كثيرة فأداها بلفظ قليل، أو معان قليلة ففخمها بلفظ جليل.
قال سليمان بن زيد العدوي لعمرو بن عبيد: يا أبا عثمان، قلبي متأق من الشعر. فقال له: قل في رفض الدنيا. فجعل شعره في الزهد.

قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلغ بك الجنة، وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك، وعواقب غيك. حتى قال: كأنك تريد تخير اللفظ في حسن إفهام.
الشعبي: كنت أحدث عبد الملك وهو يأكل، فيحبس اللقمة، فأقول: أجزها أصلحك الله فإن الحديث من ورائك، فيقول: والله لحديثك أحب إلي منها.
ابن عيينة: الصمت منام العلم، والمنطق يقظته، ولا منام إلا بيقظة، ولا يقظة إلا بمنام.
ابن المبارك رحمه الله:
وهذا اللسان بريد الفؤاد ... يدل الرجال على عقله
ليث بن نصر بن سيار: كنت أجمع بين رؤبة وابنه عقبة فيتسابان، فيقول له عقبة: أنا أشعر منك، فيقول له رؤبة: أسكت فانك ذهبان الشعر. يريد يسقط شعرك فلا يروى، وهو صفة على فعلان من الالذهاب، كذلك فرس قطوان وصميان.
سئل يونس بن حبيب: أي الثلاثة أشعر؟ يعني جريراً والفرزدق والأخطل. قال: اتفقت العلماء على أن أشعرهم الأخطل. قيل من هم؟ قال: أبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن أبي اسحاق، وميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، وعيسى بن عمر، هؤلاء الذين طرقوا الكلام وماشوه، فعملوا أمثلة وأبنية، لا كمن تحكون عنهم لا بدبريين ولا نحويين.
الفضل بن الربيع: إن من الشعر بيوتاً ملس المتون، قليلة العيون، إن فقدتها لم تبالها، وإن سمعتها لم تفكه لها.
وصف رجل قوماً بالعي فقال: منهم من ينقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه، ومنهم من لا يبلغ كلامه إذن جليسه ومنهم من يقتصر الآذان فيحملها إلى الأذهان شراً طويلاً.
قيل لمعافي بن عمران: ما تقول في رجل يقول الشعر يلهج به؟ قال: هو عمرك فافنه بما شئت.
ابن الرومي:
لقد ذهب الشعر والقائلوه ... وقل البصير بأبصارهم
فلو أن محتسبا عادلاً ... على الشعراء وأشعارهم
لأفلت من يده عشرهم ... ودرر تسعة أعشارهم
لقمان: يا بني، لا تقبل بحديثك على من لا يسمعه، فإن نقل الصخور من رؤوس الجبال أيسر من لا يسمع.
عمر رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قسا قلبه، ومن قسا قلبه قل ورعه.
زياد بن أبيه: الحديث أسمعه من عاقل أجب من سلافة فتئت بماء نغب في يوم ذي وديقة.
يجيش صدره إذا ارتجل كما جاش بجزل الخطب المرجل.
إن هذه الأبيان لا تتجاوز الأبيات.
ليس من الصيارفة الجهابذة، وما كلامه إلا من خرافات الهرابذة. الهرابذة جمع هربذ وهو القائم على نار المجوس.
يقال: للمسحل: ينحت عن غير عضاهه، ويغرف من غير مياهه.
الكلمة إذا ندت من الفم لم يملك مقودها.
شاعر:
القول لا تملكه إذا نما ... كالسهم لا تملكه إذا رمى
لقي وجه الصواب، ولقن فصل الخطاب.
من هو أقل من الصواب في مفرقي يتتبع الصواب في منطقي.
قال أعرابي لابنه: مالك ساكتاً والناس يتكلمون؟ قال: لا أحسن ما يحسنون. قال: إن قيل لا فقل أنت نعم، وإن قيل نعم فقل أنت لا، وشاغبهم ولا تقعد غفلا لا يشعر بك.
كان ذو الرمة يقول: إذا قلت كأن ولم أجد لها مخرجاً فقطع الله لساني.
أبو جعدة: ما أبرم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمراً قط إلا تمثل ببيت شعر معقر بن حمار البارقي:
الشعر لب المرء يعرضه ... والقول مثل نوافذ النبل
منه القصر عن رميته ... ونوافذ يذهبن بالخصل
سئل جرير عن نصيب فقال: هو أشعر أهل جلدته. فقال عمر ابن لجأ: ما يقال لمثله أشعر أهل جلدته، ولا أشعر أهل بلدته. يقال: أشعر الناس وإن كان فيهم من هو أشعر منه.
لكل شيء لسان، ولسان الزمان الشعر.
أبو بكر رضي الله عنه: مر به رجل معه ثوب، فقال: أتبيعه؟ قال: لا رحمك الله. فقال أبو بكر: قد قومت ألسنتكم لو تستقيمون، ألا قلت: لا ورحمك الله.
ومنه ما حكي أن المأمون قال ليحيى بن أكثم: هل تغديت؟ قال: لا وأيد الله أمير المؤمنين. فقال المأمون: ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعها! وكان الصاحب يقول هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ.
يقال للحشو الحسن، نحو قوله وبلغتها، حشو اللوزينج، وللحشو القبيح حشو الأكر.
قال جحظة: أنشدت أبا الصقر فقال: يا أبا الحسن،لا تزال تأتينا بالغرر الدرر إذا جاءنا غيرك بحشو الأكر.

محمد بن الحسين بن علي: إني أكره أن يكون مقدار اللسان من الرجل فاضلاً على مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه زائداً على مقدار عقله.
حج مع ابن المنكدر شبان، فكانوا إذا رأوا امرأة جميلة قالوا قد برقنا، وهم يظنون أنه لا يفطن، فرأوا قبة فيها امرأة فقالوا بارقة، وكانت قبيحة، فقال ابن المنكدر صاعقة.
وكان أصحاب أبي علي الثقفي إذا رأوا جميلة قالوا: حجة، فعنت لهم قبيحة، فقال لهم داحضة.
شر الخطباء من إذا خطب خبط.
اللسان سبع صغير الجرم عظيم الجرم.
أطال ربيعة الرأي الكلام وعنده أعرابي، فقال له: ما تعبدون البلاغة فيكم؟ قال: ضد ما كنت فيه منذ اليوم.
عمر رضي الله عنه: أقل أهل المروءات أقداراً من كان الشعر دليل مروءته.
وفد عمر بن أبي ربيعة على عبد الملك فرحب به وأجلسه على سريره، فقال: يا أبا الخطاب، هل أطرفتنا ببعض مديحك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن آل المغيرة كانوا يمدعون ولا يمدحون، ولست أول من أبدع ذلك فيهم. فقال: إذا كان الشاعر من قريش فليكن مثله.
عيسى بن فرخانشاه:
سحبان يقصر عن بحور بيانه ... عجزاً ويغرق منه تحت عباب
وكذاك قس ناطقاً بعكاظه ... يعيي لديه بحجة وجواب
استوفد الفضل بن سهل مسلم بن الوليد من البصرة إلى مرو فأمره بمعارضة دالية طرفة، فكان يغدو ويروح يكتب بين كل سطرين سطراً، فلما فرغ قال المأمون: تمن. قال: قرية القر بجرجان. فاشتريت له، فهي اليوم لعقبه.
كان شبيب بن شيبة المنقري أحد الخطباء المصاقع، فأمره المهدي بقتل رجل من أسارى الروم فأبى، فقال أبو الهول الحميري:
فزعت من الرومي وهو مقيد ... فكيف إذا لاقيته وهو مطلق
فتح شبيباً عن قراع كتيبة ... وأدن شبيباً من كلام يلفق
فلم يخطب بعدا هذا البيت خطبة إلا وفيها اضطراب.
كتب إبراهيم بن المهدي: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعاً في نيل البلاغة، فإن ذلك العناء الأكبر، وعليك بما سهل مع تجنبك الفاظه السفل.
قال شبيب بن شيبة: ما رأيت أبين بياناً، ولا أرق لساناً، ولا أربط جأشاً، ولا أبل ريقاً، ولا أغمض عروقاً، ولا أومض بروقاً، في تناثر كلامه، إذا وقف للخطبة على مقامه، من صالح ابن أمير المؤمنين أبي جعفر.
قال من سمع ذلك: ما رأيت بعد ذلك صالحاً إلا أربدت عيني عنه وعن كنه النظر إليه هيبة وجلالاً.
قالت جارية ابن السماك له: ما أحسن كلامك لولا أنك تكثر تكراره، وتكرار ترداده! قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه قد مله من فهمه.
بعث إلى الوليد عمه عبد الله بقطيفة، وكتب إليه: بعثت إليك بقطيفة حمراء حمراء حمراء. فكتب إليه: وصلت القطيفة وأنت يا عم أحمق أحمق أحمق.
عمر رضي الله عنه: تعلموا محاسن الشعر فإنه يدل على مكارم الأخلاق.
مكتوب في التوراة: لا يعاد الحديث مرتين.
الشعبي: وجهني عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز، فقدمت عليه مصر وهو واليها، فقدمت على رجل سخي صدوق اللسان، فقلت له يوماً: أصلح الله الأمير، إنك تبلغ في منطقك وأنت في مجلسك. ولا تفعل ذلك على منبرك، فقال: يا شعبي، إنني لأستحي من الله أن أقول على منبري خلاف ما يعلم الله من قلبي.
القول على حسب همة القائل يقع، والسيف بقدر عضد الضارب يقطع.
دارا الأكبر: خير الكلام حمد من خلق ورزق، وأنطق ووفق.
حزر بن عمرو الكندي قال لابنه امرئ القيس: يا بني إن أحسن الشعر أكذبه، ولا يحسن الكذب بالملوك.
لما ورد قتيبة بن مسلم خراسان قال: من كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فلينبذه، ومن كان في فيه فيلفظه، ومن كان في صدره فلينفثه. فتعجبوا من حسن تفصيله.
تكلم قوم عند سليمان بت عبد الملك فأساءوا، ثم تكلم رجل فأحسن، فقال: كان كلامه غب كلامهم مطرة لبدت عجاجه.
قال المهتدي بالله الخليفة من بني العباس: عاون على الخير تغنم، ولا تجزه فتندم. فقيل له: هذا بيت شعر. فقال والله ما تعمدته.
قال المعتضد لأحمد أبي الطيب: يا سرخسي، إن في لسانك طولاً وفي عقلك قصراً.
قال معاوية لصحار بن عياش العبدي: ما هذه البلاغة فيكم؟ قال: شيء يعتلج في صدورنا فنقذفه على ألسنتنا كما يقذف البحر الزبد.

أوفد زياد ابنه عبيد الله على معاوية، فقال له: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أفرضت الفرائض؟ قال: نعم، قال: أرويت الشعر؟ قال: لا. فكتب إلى زياد: بارك الله لك في ابنك، فقد وجدته كاملاً، فروه الشعر، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: ارووا الشعر فإنه يدل على محاسن الأخلاق وينفي مساوئها، وتعلموا الأنساب فرب رحم مجهولة قدو صلت بعرفان النسب، وتعلموا من النجوم ما يدلكم على سبلكم في البر والبحر ولا تجاوزوا.
ولقد هممت بالهرب يوم صفين فما ثبتني إلا قول عمرو بن الأطنابة:
أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
بعضهم: ما كتبت كتاباً إلى ابن المقفع فاجتهدت في إيجازه إلا كتب أوجز منه. كتبت إليه نحن صالحون فكيف أنتم؟ فكتب: نحن لكم.
قيل للعتابي: ما البلاغة؟ قال: كل من أفهمك حاجته دون إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ. قيل له: وما الإستعانة؟ قال: أما تراه إذا حدث قال: يا هناه، واسمع إلي، وأفهم، وألست تفهم؟ هذا كله عي وفساد.
أنشد عبد الرحمن بن حسان أباه شعراً، فقال: يا بني، إن شيطاني جاءني بهذا كله البارحة فرددته عليه.
قال معاوية لدغفل النسابة: ابغني رجلاً يسامرني أعلم منك، استريح منك إليه ومنه إليك. فقال يا أمير المؤمنين، أنا أعلم مني. فضحك معاوية وقال: أظن كثرة الكلام قد أغفل عقل دغفل.
أبو عمرو بن العلاء: لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يتكلف حوك الشعر.
اجتمع الشعراء عند موت المهدي، واندس بينهم اسكاف، فأنكروه فسألوه، فقال: شاعر، فاستنشدوه فقال: مات الخليفة أيها الثقلان، فأعجبوا بمفتتح شعره، فقالوا: تمر في المصراع الثاني، فقال: فكأنني أفطرت في رمضان. فاستضحكوا منه.
ورثى عبد الله بن طاهر رجل فقال:
مات الأمير وكان بازاً قارحاً ... نعم المجبر للطحال الفاسد
دخل على المأمون جماعة من بني العباس، فاستنطقهم فوجدهم لكناً مع يسار وهيئة، فقال: ما أبين الخلة فيهم! لا أقول في أيديهم ولكن في ألسنتهم.
خطب المأمون فقال: اتقوا الله عباد الله، وأنتم في مهل، بادروا للأجل، ولا يغرنكم الأمل، فكأني بالموت قد نزل، فشغلت المرء شواغله، وتولت عنه بواطله، وهيئت أكفانه، وبكاه جيرانه، وصار إلى المنزل الخالي، بجسده البالي، قد فارق الرفاهية، وعاين الكراهية، فوجهه في التراب عفير، وهو إلى ما قدم فقير.
ما رأيت على امرأة أحسن من شحم، ولا على رجل أحسن من فصاحة.
الشعبي: ما سمعت أحداً يخطب إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يخطئ ما خلا زياداً فإنه لا يزداد إكثاراً إلا ازداد إحساناً.
ارتج على خالد بن عبد الله القسري فقال: إن هذا القول يجيء أحياناً ويذهب أحياناً، فيمتد عند مجيئه سببه، ويعز عند غروبه طلبه، وربما كوبر فأبى، وعولج فقسا، وقد يختلج من الجريء جنانه، وقد يرتج على البليغ لسانه.
كان أيوب يقول: ما أحد سمع كلام الحسن إلا ثقل عليه كلام الرجال بعده.
أعرابي:
إني إذا استنشدت لا أحنبطي ... ولا أزيد كثرة القميطي
الأحنف سمعت كلام أبي بكر حتى مضى، وكلام عمر حتى مضى، وكلام عثمان حتى مضى، وكلام علي حتى مضي، ولا والله ما رأيت فيهم أبلغ من عائشة.
قال معاوية: ما رأيت أبلغ من عائشة، ما أغلقت باباً فأرادت فتحه لا فتحته، ولا فتحت باباً فأرادت إغلاقه إلا أغلقته.
ابن عون: كنت أشبه لهجة رؤبة بلهجة الحسن.
قال المنتجع لرجل: ما علمت ولدك؟ قال: الفرائض. قال: إنما ذلك علم الموالي لا أبالك، علمهم الرجز فإنه يهرت اشداقهم.
لم ير قط أعلم بالشعر والشعراء من خلف الأحمر. وكان يعمل الشعر على ألسنة الفحول من القدماء فلا يميز عن مقولهم، ثم نسك وكان يختم القرآن كل يوم وليلة. وبذل له بعض الملوك مالاً خطيراً على أن يتكلم في بيت شعر شكوا فيه فأبى.
أنشد أبو مقاتل الضرير الحسن بن زيد بن علي قصيدة أولها: الله فرد وابن زيد فرد. فزبره و قال: بغيك التراب، هلا قلت: وأين زيد عبد، ونزل عن سريره فسسجد لله، وعفر جبينه وكرر: الله فرد وابن زيد عبد.
ابن برد الشامي الفقيه:
قد جاءني لك شعر لم يكن حسناً ... ولا صواباً ولا قصداً ولا سددا
وجدت فيه عيوباً غير واحدة ... ولم أزل لعيوب الشعر نتقدا

كأن ذا خبرة بالشعر جمعه ... ثم انتقى لك منه شر ما وجد
إني نصحتك فيما قد أتيت به ... من الفضائح نصه الوالد الولدا
فعد عن ذاك وادفنه كما دفن ... هر خراها ولم تعلم به أحدا
كان بين سلمة بن عياش القرشي وبين أبي حية النميري صداقة، فقال لأبي حية يوماً: اتدري ما يقول الناس؟ قال: ما يقولون؟ قال: يزعمون أني أشعر منك. فقال أبو حية: إنا لله هلك الناس.
محمد بن عبد الله بن إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم: قال لي أبي: يا بني، أنا شاعر، وأبي شاعر، وجدي شاعر، وجد أبي شاعر. لا ينقطع بك الحبل.
أتى امرؤ القيس قتادة بن التوأم اليشكري وإخوته، فقال للحارث أجز: أحار ترى بريقاً هب وهناً. فقال: كنار محبوس تستعر استعاراً. فقال قتادة:
أرقت له ونام أبو شريح ... إذا ما قلت قد هدأ استطارا
أبو شريح كنية الحارث، فقال الحارث:
كأن هزيزه بوراء غيب ... عشار وله لاقت عشارا
فقال أخوهما الثالث:
قلما أن علا شرجي أضاخ ... وهت أعجاز ريقه فحارا
فلم يترك ببطن أسر ظبياً ... ولم يترك بجلهتها حمارا
فقال امرؤ القيس: إني لأعجب من بيتكم هذا كيف لا يحترق عليكم من جودة شعركم. فقيل لهم بنو النار.
عبد الله بن المعتز: شعر آل أبي حفصة كماء أسخن وصب في قدح، فكان أيام مروان الأكبر على حرارته، ثم انتهى إلى عبد الله بن السمط، ثم إلى إدريس وأبي الجنوب فبرد، ثم إلى مروان الأصغر فاشتد برده، ثم إلى أبي متوج فسخن لبرده، ثم إلى متوج فجمد.
أبو أحمد يحيى بن المنجم:
رب شعر نقدته مثل ما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا
لو تأنى لقالة الشعر ما أس ... قط منه حلواً به الأشعارا
علي عليه السلام: وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ولم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً.
وسئل علي عليه السلام عن أشعر الشعراء، قال: إن القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها، فإن كان ولا بد فالملك الضليل.
محمد بن أبي عائشة: إذا أراد المتكلم بكلامه غير الله زل عن قلوب جلسائه كما يزل الماء عن الصفا.
حسان بن ثابت: إنا إذا نافرتنا العرب فأردنا أن نخرج الحبرات من شعرنا أتينا بشعر قيس بن الخطيم، كان من النبيت بن مالك بن أوس.
الجاحظ: كان واصل بن عطاء ينزع الراء من كلامه المرتجل، ولست أعني خطبه المحفوظة ورسائله المجلدة، لأن ذلك يحتمل الصنعة. وقال فيه أبو الطروق الضبي:
عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحق باطله
زعم بشار أن المسلمين كفروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: وعلي أيضاً؟ فأنشد: وما شر الثلاثة أم عمرو. فقال واصل عند ذلك: أما لهذا الملحد أما لهذا الأعمى المشنف المكتني بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أن الغيلة سجية من شجايا الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه في جوف منزله في يوم حفله، ثم كان لا يتولى ذلك منه إلا عقيلي أو سدوسي. أبدل الملحد من الكافر، والأعمى من الضرير، والمشنف من المرعث، وأبا معاذ من بشار وابن برد. والغالية من المنصورية والمغيرية، ويبعج من يبقر، وبعث من أرسلت. وذكر بني عقيل وبني سدوس لأنه كان نازلاً فيهم.
وكان بشار قبل أن يدين بالرجعة يمدح واصلاً، فمن قوله فيه يذكر خطبة ارتجلها ونزع منها الراء:
تكلف القول والأقوام قد حفلوا ... وعبروا خطباً ناهيك من خطب
فقام مرتجلاً تغلي بداهته ... كمرجل القين لما حف باللهب
وجانب الراء لم يشعر به أحد ... قبل التصفح والإغراق في الطلب
قال معاوية يوماً: من أفصح الناس! فقام رجل من جرم فقال: قوم تباعدوا عن فراتية العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال معاوية: فمن أولئك؟ قال: قومي.
سئل حماد الراوية عن شعر عمر بن أبي ربيعة، فقال: ذلك الفستق المقشر لا يشبع منه.
الأصمعي: أنشد ابن أبي ربيعة عبد الله بن عباس أو طلحة بن عبيد الله قصيدة، فما زال شانقاً ناقته حتى كتبت له.

قحطت البادية في أيام هشام بن عبد الملك، فقدمت عليه العرب، فهابوا أن يتكلموا، وفيهم درواس بن حبيب، ابن ست عشرة سنة، له ذؤابة وعليه شملتان، فوقعت عليه عين هشام، فقال لحاجبه: ما يشاء أحد أن يدخل علي إلا دخل حتى الصبيان! فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقاً، فقال: يا أمير المؤمنين، إن للكلام نشراً وطياً وإنه لا يعرف ما في طيه غلا بنشره، فإن أذنت لي أن انشره نشرته. قال: انشر لا أبا لك! وقد أعجبه كلامه مع حداثة سنة، فقال: إنه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنفقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لله تعالى ففرقوها في عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين. فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً. فأمر البوادي بمائة ألف دينار وله بمائة ألف درهم.
فقال: أرددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب، فإني أخاف أن تعجز عن بلوغ كفايتهم. فقال: أما لك حاجة؟ قال: مالي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين. فخرج وهو أنبل القوم.
مر الزبير رضي الله عنه بمجلس من الصحابة وحسن ينشدهم من شعره وهم غير نشاط لما يسمعون، فجلس معهم الزبير وقال: ما لي أراكم غير أذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ فلقد كان يعرض به لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن استماعه ويحول عليه أثوابه، ولا يشتغل عنه بشيء. فقال حسان:
أقام على عهد النبي وهديه ... حواريه والقول بالفعل يعدل
وإن امرءاً كانت صفية أمه ... ومن أسد في بيتها لمرفل
فكم كربة ذب الزبير بسيف ... عن المصطفى والله يعطي ويجزل
ثناؤك خير من فعال معاشر ... وفعلك يا ابن الهاشمية أفضل
كان الحسين بن علي يعطي الشعراء، فقال له، فقال: خير مالك ما وقيت به عرضك.
أبو الزناد: ما رأيت أروى للشعر من عروة.
فقلت له: ما أرواك يا أبا عبد الله! فقال: ما روايتي مع رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت شعراً.
تناشدوا عند عمر رضي الله عنه قول طرفة:
ولو ثلاث هن من لذة الفتى ... وجدك لم أحفل ولو قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنباً ... كسيد الفضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهنكة تحت الخباء المعمدي
فقال عمر: وأنا والله لولا ثلاث: أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب لله، أو اجالس قوماً يتلقطون أطايب الحاديث كما يتلقط أطايب الثمر، لأحببت أن أكون قد لحقت بربي.
امتدح أبو أسماء علياً عليه السلام بصفين فقال:
وجدنا علياً إذ بلونا فعاله ... صبوراً على اللأواء صلب المكاسر
هو الليث إن جربته وندبته ... مشى حاسراً للموت أو غير حاسر
يجود بنفس للمنايا كريمة ... علي إذا ما جاد كل مغاور
يصول علي حين يشتجر القنا ... ويضرب رأس المستميت المساور
فقال له عليه السلام: رحمك الله أبا أسماء، وأسمعك خيراً وأراكه، فإنك من قوم نجباء، أهل حسبة ووفاء. ووهب له مملوكاً.
ومدحه كعب بن زهير بشعر يقول فيه:
صهر النبي وخير الناس كلهم ... فكل من رامه بالفخر مفخور
فأجازه بجائزة سنية، وكساه، ووهب له فرساً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل ويقول: كفى الإسلام والشيب للمرء ناهياً. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً، فجعل لا يطيقه، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله. وتلا: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " .
الفرزدق: ما رأيت أحداً أشعر من ابن حطان. فقال له ابن شبرمة: كيف ذاك؟ قال: لو أراد أن يقول مثل ما نقول لقال، وإنا لا نحسن ما قاله.
عن ابن شبرمة: ليتني كويت بكل بيت قلته كية تبلغ العظم، مع ما أني لم أقذف محصنة، ولم أنف رجلاً من أبيه.

في الحديث: لما فتحت مكة رن إبليس رنة، فاجتمعت إليه ذريته فقال: أيأسوا من أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومهم هذا، ولكن أفتنوهم في دينهم، وأفشوا فيهم النوح والشعر.
بشار بن برد يصف نفسه:
زور ملوك عليه أبهة ... يعرف من شعره ومن خطبه
لله ما راح في جوانحه ... من لؤلؤ لا ينام عن طلبه
يخرج من فيه في الندى كما ... يخرج ضوء السراج من لهبه
ترنو إليه الحداث غادية ... ولا تمل الحديث من عجبه
تلعابة تعكف الملوك به ... تأخذ من جده ومن لعبه
يزدحم الناس كل شارقة ... ببابه مشرعين في أدبه
لما ظهر السفاح وصعد المنبر بالكوفة: وعمه داود دونه بمرقاة، أراد الكلام فلم يؤاته، فقال لداود تكلم، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
عباد الله، شكراً شكراً، إنا والله ما خرجنا لنحتفر فيكم نهراً، ولا لنبتني قصراً، ولا لنسير سيرة الجبابرة الذين ساموكم الخسف، ومنعوكم النصف. أظن عدو الله مروان أن لن يقدر عليه؟ أرخى له في زمانه حتى عثر في فضل خطامه. فالآن عاد الأمر إلى نصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، وأخذ القوس باريها، وصار السهم إلى النزعة، ورجع الحق إلى مستقره، إلى أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة.
خرج الربيع من عند المنصور ومعه رقعة فيها بيت شعر:
وهاجرة نصبت لها جبيني ... يقطع حرها ظهر العصاية
وقال أجيزوه، فما أجازه إلا بشار فقال:
وقفت بها القلوص ففاض دمعي ... على خدي وأقصر واعظايه
أول شعر قاله الرشيد أنه حج في أول خلافته، فدخل داراً يفيد، فرأى في صدرها:
ألا يا أمير المؤمنين الا ترى ... فديتك هجران الحبيب كبيرا
فكتب تحته:
بلى أيها المشعرات وما مشى ... بمكة مرفوع الأظل حسيرا
إسحاق الموصلي: أنشد الرشيد قولي فيه:
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال: لا كيف، الله در أبيات تأتينا بها، وما أحكم أصولها أو أحسن فصولها، وأقل فضولها! فقلت هذا الكلام، والله أحسن من شعري.
عن محمد بن عباد: قال المأمون: من أحسن المراثي عندي مرثية زياد الأعجم فخذها علي. فأنشدها كلها وترك هذا البيت:
همل ليالي فوقهن بزانه ... يغشى الأسنة فوق نهد قارح
فقال المأمون: هاه هاه، ما أنشدت هذا البيت، وإنه لمن خيرها، يهدد المنايا فيقول: هلا أتيت في تلك الساعة. فعجبت من حسن علمه بالشعر.
واستنشد لأبي نواس فأنشد:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
فقال: هذا هو الشعر، لا قوله: ألا هبي بسلحك فالطخينا.
وكان مشغوفاً بشعره، ويتأسف على فقده، ويقول: ذهب ظرف الزمان بموته، وانحطت مرتبة الشعر بذهابه.
تكلم المأمون فأحسن، فأفقبل سهل بن هارون على الناس فقال: مالكم تسمعون فلا تعون؟ وتشاهدون فلا تفهمون؟ وتفهمون فلا تتعجبون؟ وتتعجبون فلا تصنعون؟ والله إن أمير المؤمنين لبفعل ويقول في اليوم القصير مثل ما فعل بنو مروان وقالوا في الدهرالكويل. على أن عربكم كعجمهم، وعجمكم كعبيدهم، ولكن قدر الدواء مجهول عند من لم يبتل بالماء.
وكان المأمون قد تغير له، فرجع فشكره.

النساء، ونكاحهن، وطلاقهن، وخطبهن
ومعاشرتهن، والأعراس بهن، وما يحمد ويذم منهن وما اتصل بذلك سعيد بن عامر بن حاتم: عن النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن امرأة من نساء الجنة أشرفت إلى الأرض لملأت الأرض بريح المسك، ولأهبت ضوء الشمس والقمر. وكان سعيد بن عامر يقول لامرأته: والله إني لأختارك عليهن، ودفع يده في صدرها.
عبد الله رفعه: يسطع نور في الجنة، فإذا هي حوراء ضحكت في وجه زوجها.

وعنه صلوات الله عليه وسلامه: أخوف ما أخافه عليكم فتنة النساء. قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: إذا لبسن ريط الشام، وحلل العراق، وعصب اليمن، وملن كما تميل أسنمة البخت، فإذا فعلن ذلك كلفن المعسر ما ليس عنده.
وعنه صلوات الله عليه وسلامه: استعيذوا بالله من شرار النساء. وكونوا من خيارهن على حذر.
أبو بكر رضي الله عنه بلغه أن الفرس ملكت عليها بنت أبرويز فقال: ذل من أسند أمره إلى امرأة.
مر عمر رضي الله عنه بباب دار فسمع جلبسة وزحاماً، فقال: ما جمع هؤلاء؟ قالوا: زوج فلان، فقال: أين مناخلكم حكيم: الملك هو المملوك إلا أن ثمنه عليه.
آخر: أعص النساء وهواك واصنع ما شئت.
تزوجت فاطمة المهلبية عيسى بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، فقال ابن أبي عيينة:
فإنك قد زوجت من غير خبرة ... فتى من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلت من رهط النبي فإنه ... وإن كان حر الأصل عبد الشمائل
فقد ظفرت كفاه منك بطائل ... وما ظفرت كفاك منه بطائل
قيل لفيلسوف: أي السباع أحسن؟ قال: المرأة.
خطب قرشي إلى الكميت وأخذ يفتخر عليه، فقال: يا هذا، إن أجبناك لم نبلغ السماء، وإن رددناك لم نبلغ الماء، وقد رددناك.
أعرابي: هو أملح من المداري في شعور العذارى.
شاور رجل آخر في تزويج امرأة، فقال: إن كنت تريدها خالصة لك من دون المؤمنين فلا تطمع.
العرب: شر النساء الحميراء المحياض، والسويدء الممراض.
عوتب الكسائي في ترك التزوج فقال: مكابدة العفة عنهن أيسر من الاحتيال لمصلحتهن.
قيل لأعرابي يجمع بين ضرائر: كيف تقدر عليهن؟ قال: كان لنا شباب يأرهن علينا، ومال يصورهن إلينا، ثم قد بقي لنا خلق حسن فنحن نتعايش.
عمر رضي الله عنه: البكر كالبرة تطحنها وتعجنها وتخبزها، والثيب عجالة الراكب تمر وأقط.
قيل لجارية: أ بكر أنت قالت: قد كنت فعافى الله.
جاء سلمان رضي الله يخطب قرشية ومعه أبو الدرداء، فدخل وذكر سابقة سلمان وفضله، فقالوا: لا نزوجه، ولكن إن أردت أنت زوجناك. فتزوجها ثم خرج، فقال: يا أخي قد صنعت شيئاً وأنا أستحي منك، وأخبره، فقال سلمان: أنا أحق أن أستحي منك، أخطب امرأة كتبها الله لك.
خطب بنت دقيانوس غني وفقير، فاختار الفقير، فسأله الإسكندر، فقال: كان الغني جاهلاً فكان يخاف عليه الفقر، وكان الفقير عاقلاً فكان يرجى له الغنى.
خطب رجل جارية فرد عنها، وقيل: أنا سمعت ما قيل فيها:
يظل خطابها ميلاً عمائمهم ... كأن أنضاءهم أنضاء حجاج
لها أب سيد ضخم وأخوتها ... مثل الأهلة يسستثنيهم الهاجب
قال بعض الخلفاء: الإمام ألذ مجامعة، وأغلب شهوة، وأحسن في التبذل، وآنق في التذلل. فقال جليس له: لتردد دماء الحياء في وجه الحرة أحسن من تبذل الأمة.
قالت امرأة الجماز له: أي شيء يطبب في هذا اليوم يا سيدي؟ قال: الطلاق يا سيدتي.
كانت عند بعض الملوك ثلاث نسوة، فقال للفارسية: أي وقت هذا؟ قالت: سحر، قال: وما يدريك؟ قالت: وجدت ريح الرياحين. وقالت العربية: وجدت برد خلخالي، وقالت النبطية: كزني ما في بطني.
أيمن بن خريم:
يميت الخلاط عتاب النساء ... ويحيى اجتناب الخلاط العتابا
قيل لشيخ كانت امرأته تثمارة: أما أحد يصلح بينكما؟ قال: لا، مات الذي كان يصلح بيننا.
النبي صلى الله عليه وسلم : أعروا النساء يلزمن الحجال.
خطب مغمور مغمورة، فقيل لوليها: تعمم لكم فزوجتموه؟ قال: إنا قد تبرقعنا قبل أن يتعمم لنا.
الأصمعي: تكلم أعرابي فطمح به لسانه فقال: لا تنكحن واحدة فتحيض إذا حاضت وتمرض إذا مرضت، ولا تنكحن اثنتين فتكون بين شرتين، ولا تنكحن ثلاثاً فتكون بين أثاف، ولا تنكحن أربعاً فيفلسنك ويهرمنك ويبخلنك ويحقرنك.
قيل له: حرمت ما أحل الله؟ قال: سبحان الله كوزان وقرصان وعبادة الرحمن.
قال مصعب لسكينة: أنت مثل البغلة لا تلدين. قالت لا والله، ولكن أبى كرمي أن يقبل لؤمك.
بعضهم: رأيت بطريق مكة أعرابية ما رأيت أحسن منها، فقعدت أنظر إليها متعجباً من جمالها، فجاء شيخ قصير يأذنها فسارها ومضى، فقت من هذا؟ قالت: زوجي، قلت: كيف ترضى مثلك بمثله؟ فقالت:

أيا عجباً للخود يجري وشاحها ... تزف إلى شيخ من القوم تنبال
دعاني إليه أنه ذو قرابة ... فويل الغواني من بني العم والخال
قيل لأعرابي: ما خلفت لأهلك؟ قال: الحافظين، قيل: وما هما؟ قال: أعريهن فلا يبرحن، وأجيعهن فلا يمرحن.
قيل لرجل: مات عدوك، فقال: وددت أنكم قلتم تزوج.
قيل لمالك بن دينار: لو تزوجت. قال: لو استطعت لطلقت نفسي.
قال طاووس لإبراهيم بن ميسرة: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: ما يمنك من التزوج إلا عجز أو فجور.
دخل ابن أبي علقمة على بلال بن أبي بردة وحمزة بن بيض ينشد:
ومن لا يرد مدحي فإن مدائحي ... توافق عند الأكرمين تؤامي
نوافق عند المشتري الحمد بالندى ... نفاق بنات الحارث بن هشام
فقال: يا ابن أخي: وما بلغ من نفاق بنات الحارث؟ فقال: كان يزوجهن ويسوقهن ومهورهن إلى بعولتهن. فقال: والله لو فعل هذا إبليس ببناته لنافست فيهن الملائكة المقربون.
تزوج أعرابي فقيل له: كيف وجدتها؟ فقال: رصوفاً رشوفاً أنوفاً. أراد ضيقة الفرج طيبة المقبل والأنف.
ووصف أعرابي امرأة فقال: ما ثديها بناهد، ولا شعرها بوارد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد.
جنى شيخ من غسان على بعض ملوكهم، فهرب إلى بلاد تميم، فحالف زرارة بن عدس، فخطب إليه ابنته علي بعض بنيه وقال: قد علمت أن بني أشرف قومهم، وهم معبد ولقيط وحاجب وعلقمة فاختر لهذه الحجر أكرم فحل. فكره الشيخ قوله ودافعه. فلما مات زرارة قال لأهله: إن حكيمهم قد هلك، وهؤلاء شباب ولست آمن أن يحملوني على ما أكره من انكاحهم. فاحتمل في جوف الليل. فلما بلغ المأمن أنشأ يقول:
رغبت بها عن حاجب وابن أمه ... لقيط وعن تلك الرجال الركائك
ولو كنت في غسان أبرزت وجهها ... وأنكحتها من بعض تلك الصعالك
قال ابن لهيقة: قلت لزيد بن حبيب: إذا دخل رجل المسجد بأي رجليه يبدأ؟ قال: أما سمعت ما يقول للعروس ضعي رجلك اليمنى على المال والبنين؟ لما وجه إلى عبد الملك رأس ابن الأشعث، بعث به مع خادم له إلى امرأة من كندة كانت ناكحاً في قريش، فلما رأته قالت: مرحباً بزائر لا يتكلم، وملك بن ملوك طلب ما يستحقه، فأبى عليه القدر. فأراد الخادم أن يرد الرأس، فقالت: كلا والله، ثم أمرت به فغسل ورجل وطيب، ثم قالت: شأنك الآن. فرجع الخادم إلى عبد الملك فأخبره. فلما دخل عليه زوجها قال له: إن قدرت أن تصيب منها سخلة فأفعل.
نظر عامر بن حصين إلى رجل شجاع فأعجبه، وتزوج أخته طمعاً في أن ينزع ولدها إليه. فابتكرت بجارية فقال: الحمد لله، ثم ثنت بأخرى فقال: الحمد لله، ثم ثلثت فقال: الحمد لله، ثم ربعت فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
مرت بعمر رضي الله عنه عجوز تبيع اللبن، فقال: لا تشوبي لبنك بالماء ولا تغشي المسلمين. قالت نعم يا أمير المؤمنين. ثم مر فقال: يا عجوز، ألم أعهد إليك؟ قالت: والله ما فعلت. فقالت بنت لها من خبائها: أغشاً وكذباً جمعت على نفسك؟ فقال عمر لولده: أيكم يتزوجها لعل الله أن يخرج منها نسمة طيبة؟ فقال عاصم بن عمر: أنا أتزوجها يا أمير المؤمنين. فولدت له أم عاصم، فتزوجها عبد العزيز بن مروان فولدت له عمر بن عبد العزيز.
أبو شمر الغساني:
لا تأمنن على النساء أخاً أخ ... ما في الرجال على النساء أمين
حر الرجال وإن تعفف جهده ... لا بد أن بنظرة سيخون
أبو الشعثاء: كانت لي امرأتان، فكنت أعدل بينهما حتى في القبل.
زفت معاذة إلى صلة بن أشيم فبات ليلة الزفاف يتهجد، فقيل له، فقال: دخلت بيتاً فذكرت النار، يعني الحمام، ثم دخلت بيتاً فذكرت الجنة، يعني بيت العروس، فما زال فكري فيهما حتى أصبحت.
النخعي: إن من اقتراب الساعة طاعة النساء.
قال الوليد بن يزيد لابن ميادة: من خلفت عند أهلك؟ قال رقيبين لا يخالفانني طرفة عين الجوع والعرى.
الأحنف: ولأفعى حالك في يدي أحب إلي من أيم رددت عنها كفؤاً.
لقمان: لا تشهد العرسات فإنها ترغبك في الدنيا وتنسيك الآخرة، وأشهد الجنائز فإنها تزهدك في الدنيا وترغبك في الآخرة.

علي عليه السلام: إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن. واكفف أبصارهن بالحجاب، فإن شدة الحجاب خير لهن من الإرتياب. وليس خروجهن بأضر من دخول من لا يوثق به عليهن. وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل. ولا تملك المرأة من أرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة. ولا تعد بكرامتها نفسها، ولا تطمعها فيما لغيرها. وإياك والتغاير في غير موضع الغيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم، والبريئة إلى الريب.
من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه.
في البكر: أشهى المطي ما لم يركب، وأحب اللآلئ ما لم يثقب.
في الثيب: تزوج امرأة كفى فيها الصحة.
فلان في بيته نمرة، إذا كانت امرأته سيئة الخلق.
النبي صلى الله عليه وسلم: أوثق سلاح إبليس النساء.
علي عليه السلام: لا تطيعوا النساء على حال، وتأمنوهن على مال، فإنهن إن تركن وما يردن أوردن المهالك، وعصين المالك، وأزلن المالك، ينسين الخير، ويحفظن الشر، يتهافتن في البهتان، ويتمادين في الطغيان.
عمر رضي الله عنه: أكثروا لهن من قول لا، فإن نعم تغريهن على المسألة.
هي ممسكة للفضلين. أي تصون الفرج والمال.
عبد السلام بن أبي سليمان في النكاح:
تزوجت ألفاً ثم طلقت مثله ... فلم أترك مالاً ولم أترك وفرا
فأنت أقلنيها فإن عدت بعدها ... فألفيت لي عذراً فلا تقبل العذرا
طلق رجل امرأته فلما أرادت الارتحال قال: اسمعي وليسمع كل من حضر: إني والله اعتدتك رغبة، وعاشرتك بمحبة، ولم توجد منك زلة، ولم تدخلني عنك ملة، ولكن القضاء كان غالباً.
فقالت المرأة: جزيت خيراً من صاحب ومصحوبة، فما استرثت خيرك، ولا شكوت ضميرك، ولا تمنيت غيرك، ولم أزد إليك إلا شرها، ولم أجد لك في الرجال شبهاً، وليس لقضاء الله مدفع، ولا من حكمه علينا ممنع.
شكا رجل امرأته، فقيل له: هلا طلقتها. فقال: هي حسناء فلا تفرك، وأم عيال فلا تترك.
كأنها أم خارجة يقال لها خطب فتقول نكح.
وما هي إلا نظرة فتذبل رجلاها وتسقط للجنب.
بخر فلان امرأته بمثلته، وأولاها الهقمة، وتلقاها الأثافي: إذا طلقها ثلاثاً.
شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب قلة غشيان زوجها فقالت: إني أجنب عنه في الشهر مرة، فقال عمر: إن في ذلك شقاء للعاشق، وحملاً للنائق.
خطب الحسن رابعة، فقالت بشرط أن أدع أنا تسعاً وأنت واحدة.
قال: وما هي؟ قالت يزعمون أن الشهوة تسع منها للنساء وواحدة منها للرجال، فأبى، فنقمت عليه. فسمعت بعد ذلك موعظته فقالت:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض
الأبكار أشد حباً وأقل خباً.
خالد بن صفوان المنقري:
عليك إذا ما كنت لا بد ناكحاً ... ذوات الثنايا الغر والأعين النجل
وكل هضيم الكمح خفاقة الحشا ... قطوف الخطا بلهاء وافرة العقل
المرأة تشرب النبيذ فيسكر من لبنها الرضيع، وتشرب دواء المشي فتعتريه الخلفة فلذلك اختار الحكماء لأولادهم الظئر البريئة من الأدواء وغيرها.
كانت كندة أغلى الناس مهوراً، ربما مهرت الواحدة ألف بعير، ولا يمهر بأقل من مائة بعير. فصارت مهور كندة مثلاً في الغلاء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أهذب ملك غسان، وضع مهور كندة. وقال: أعظم النساء بركة أحسنهن وجوهاً وأرخصهن مهراً.
لما زوج الوليد بن عبد الملك ابنه عبد العزيز أم حكيم بنت يحيى بن الحكم، وأمها بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وكان يقال لها الواصلة، لأنها وصلت الشرف بالجمال، أمهرها أربعين ألف دينار، وأمر عدي بن الرقاع فقال:
قمر السماء وشمسها اجتمعا ... بالسعد ما غابا وما طلعا
ما وارت الأستار مثلهما ... فيمن رأى منهم ومن سمعا
دام السرور له بهما ولها ... وتهنيا طول الحياة معا
فقال الوليد: لئن أقللت فقد أحسنت، وأجزل له الجائزة.
وكانت بنو مخزوم تسمى ريحانة قريش، وكان هشام بن المغيرة المخزومي أعز نفساً على قريش وكنانة. وكانوا يؤرخون بثلاثة أشياء، يقولون: كان ذلك زمن بناء الكعبة، وعام الفيل، وعام موت هشام. فكانت الجارية تولد لآل الحارث بن هشام فيتباشرون بها.

خرج السيد الحميري فتلقته فرجة بن الفجاء الخارجية راكبة فرساً، وكانت برزة فصيحة جميلة، فتحاورا أحسن حوار، إلى أن خطب إليها نفسها فقالت: أعلى ظهر الطريق؟ فقال: ألم يكن نكاح أم خارجة أسرع؟ فاستضحكت وقالت: نصبح وننظر ممن. فقال:
إن تسأليني بقومي تسألي رجلاً ... في ذروة العز من أحياء ذي يمن
إني امرؤ حميري حين تنسبني ... جدي رعين وأخوالي ذوو يزن
فعرفته وقالت: يمان وتميمية، ورافضي وحرورية، كيف يجتمعان؟ فقال: على أن لا نذكر سلفاً ومذهباً. فتزوجته سراً. فأقاما في عيشة راضية.
يقال في الإستخبار عن ولادة المرأة: أأحلبت ناقتك أم أجلبت؟ أي أولدت أنثى تحلب أم ذكراً يجلب للبيع؟ قيل لرجل: ما عندك في النكاح؟ قال: ما يقطع حجتها ولا يبلغ حاجتها.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل هم بطلاق امرأته وزعم أنه لا يحبها: أو كل بيت بني على الحب؟ فأين الرعاية والذمم؟ مسلمة: ثلاثة لا أعذرهم: رجل أحفى شعره ثم أعفاه، ورجل قصر ثيابه ثم أطالها، ورجل كان عنده سراري ثم تزوج حرة.
داود عليه السلام: امرأة السوء لبعلها كالحمل الثقيل على الشيخ الكبير، والمرأة الصالحة له كالتاج المخوص بالذهب، كلما رآها قرت عينه.
مر سليمان عليه السلام بعصفور يدور حول عصفورة، فقال: هل ترون ما يقول؟ يقول: زوجيني نفسك حتى أسكنك غرفة بدمشق، وكذب ما بدمشق غرفة، ولكن كل خاطب كذب.
الجماع يصلع الإنسان، وربما كان أصلع فإذا جامع نبت شعره.
قال داود لسليمان عليهما السلام: أمش خلف الأسد ولا تمش خلف امرأة.
استشار رجل داود في التزوج، فقال: سل سليمان وأخبرني بجوابه. فصادفه ابن سبع سنين يلعب مع الصبيان يركب قصبة، فقال: عليك بالذهب الأحمر، والفضة البيضاء، واحذر الفرس لا يضربك. فلم يفهم. فقال له داود: الذهب الأحمر البكر والفضة البيضاء الشيب الشابة، ومن وراءهما كالفرس الرموح.
لقي عيسى عليه السلام إبليس، وهو يسوق خمسة أحمرة عليها أحماله، فسأله، فقال: أحمل تجارة وأطلب مشترين، أما أحدهما فالجور، قال: من يشتريه؟ قال السلاطين. قال: فما الثاني؟ قال: الكبر، قال فمن يشتريه؟ قال: الدهاقين. قال: فما الثالث؟ قال: الحسد، قال: فمن يشتريه؟ قال العلماء. قال: فما الرابع؟ قال: الخيانة، قال: فمن يشتريها؟ قال: التجار. قال: فما الخامس، قال: الكيد، قال: فمن يشتريه؟ قال: النساء.
قيل للاسكندر: لو استكثرت من النساء ليكثر ولدك، ويدوم بهم ذكراك. فقال دوام الذكر بتحسين السيرة والسنن، ولا يحسن بمن غلب الرجال أن تغلبه النساء.
علي بن أبي طالب عليه السلام: النساء شر كلهن، وشر ما فيهن قلة الإستغناء عنهن.
يحيى بن أكثم: نعم لهو المرأة الغزل.
قيل لأعرابي: إن فلاناً يخطب فلانة، قال: أموسى من عقل ودين؟ قالوا: نعم، قال: فزوجوه.
قال عبد الملك لابن الرقاع: كيف علمك بالنساء؟ قال: إنا والله أعلم الناس بهن، وأنشأ يقول:
قطاعية العينين كندية الحشا ... خزاعية الأطراف طائية الفم
لها حكم لقمان وصورة يوسف ... ومنطق داود وعفة مريم
عمر بن ربيعة، وكان المنصور كثيراً ما ينشده:
إنها بين عامر بن لؤي ... حين تعزي وبين عبد مناف
ولها في المطيبين جدود ... ثم نالت ذوائب الأحلاف
بنت عم النبي أكرم من يم ... شي بنعل على التراب وحافي
لا تراها على التبذل والزي ... نة إلا كدرة الأصداف
سئل المغيرة بن شعبة عن النساء فقال: بنات العم أحسن مواساة والغرائب أنجب، وما ضرب رؤوس الأقران مثل ابن السوداء.
قال الحجاج لابن القرية: أي النساء أحب إليك؟ قال: الودود الولود، التي أعلاها عسيب، وأسفلها كثيب، آخذهن من الأرض إذا جلست، وأطولهن في السماء إذا قامت، التي إن تكلمت رودت، وإن صنعت جودت، وإن مشت تأودت، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الحصان من جارها، الهلوك إلى بعلها.
وعن خالد بن صفوان: حصان من جارها، ماجنة على بعلها.
النبي صلى الله عليه وسلم : إنما النساء لعب فتخيروا.

استعمل عثمان رضي الله عنه الوليد بن عقبة بن أبي معيط على صدقات كلب؟ فتزوج له نائلة بنت القرافصة بن الأحوص النصراني، فقال: زوجتني نصرانية؟ قال: إن رأتك أسلمت، فقدم بها وقد أسلمت. فلما خلا بها قال لها: أتأتينا أم نأتيك، قالت: بل نأتيك ونعمة عين، تكلفنا إليك السير من أرض قومي وهي أبعد من ناحية البيت.
فقال: إنك ترين شيباً وتعلياً في السن، وإن عندي بقية من علالة. فقالت: إن أحب الأزواج إلي من ذهبت عنه متعة الشباب، ووثقت برأيه حلمه. فقيل له: كيف رأيت؟ فقال: ما دخلت على امرأة أوفى عقلاً منها، ولا أحرى أن تغلبني على عقلي.
قال أسماء بن خارجة لبنته ليلة هدائها. عليك بأطيب الطيب وهو الماء، وبأحسن الحسن وهو الكحل والحناء. وإياك وكثرة المعاتبة فهي مقطعة للمودة، والغيرة في غير موضعها فهي مفتاح الطلاق.
أهدت أعرابية بنتها فقالت لها: أي بنية، إنك قد فارقت الحواء الذي منه خرجت، والعش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. ثم أوصتها بوصايا منها: عليك بالتعهد لموضع عينيه وأنفه، لا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلا طيب ريح، والتعرف لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
تزوج الحسن بن علي امرأة، فبعث إليها مائة خادم، مع كل خادم ألف درهم.
حكيم: منيتك نفسك، فإن شئت فأخرجه، وإن شئت فلا.
آخر: لا تحقر شيئاً يخرج منك مثلك، يعني الجماع.
أطول الناس أعماراً الخصيان. ولم ير فيما يعاشر الناس أعمر من البغال، ولا أقصر عمراً من العصافير.
أراد الحسن تزويج بنته من رجل، فقيل: من حاله ويساره كيت وكيت، وله مائة ألف ما يحركها. فقال: أما والله ما اجتمعت مائة ألف عند رجل إلا من ظلم، وأبى أن يزوجه.
علي عليه السلام: سمعت رسول الله يقول لعثمان: لو أن لي أربعين بنتاً لزوجتك واحدة حتى لا يبقى منهن أحد.
سهل بن معاذ الجهني رفعه: من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى في الله، وأنكح في الله، فقد استكمل الإيمان.
وعنه عليه الصلاة والسلام: من ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر تواضعاً كساه الله حلة الكرامة، ومن زوج لله توجه الله تاج الملك.
علي عليه السلام رفعه: لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء، فإن اللبن يعدي.
قال موسى بن عبد الله بن الحسن لامرأته أم سلمة، وكانت من ولد أبي الصديق:
فإني زعيم أن أجيء بضرة ... فريسية فراسة للضرائر
فأجابه الربيع بن سليمان مولى الحسنين:
أبنت أبي بكر تريد بضرة ... لعمرك قد حاولت إحدى الكبائر
الرحال بن محدوج النميري:
فلا بارك الرحمن في عرس أهلها ... عشية زفوها ولا فيك من بكر
فما غرني إلا خضاب بكفها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
أتوني بها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقاً كله ذلك الشهر
ألا ليتهم رفضوا إلي مكانها ... شديد القصيري ذا عرام من النمر
إذا شد لم ينكل وإن هم له يهب ... شديد الوقاع لا ينهنه بالزجر
هو معذور في أقوائه لجاهليته، وشغل بما دهي به عن تسوية القوافي.
طاهر بن سيار العجلي:
رأيت مواعيد النساء كأنها ... سراب لمن تاد المتساهل خاتل
ومنتظر الموعود منهن كالذي ... يؤمل يوماً أن تلين الجنادل
زوج المهلب قادة بن مقرب اليشكري امرأة من الأزد فقال فيها:
تجهزي للطلاق وانشمري ... هذا جزاء الجوامح الشمس
لليلتي حين بت طالقة ... ألذ عندي من ليلى العرس
بت لديها بشر منزلة ... لا أنا في نعمة ولا فرسي
هذا على الح لا قضيتم له ... وبت ما إن يسوغ لي نفسي
فقال يزيد بن المهلب: راجعها، فقال:
بالله جهد اليمين أحلف ما ... قرت بها عين من يضاجعها
ظلت عن الخير لا تطيق له ... فعلاً فتالله لا أراجعها
كان غيلان بن سلمة الثقفي أحد حكام فيس في الجاهلية، وكانت له ثلاثة أيام يوم يحكم فيه، ويوم ينشد فيه، ويوم ينظر فيه إلى جماله. وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة، فأسلم فخيره رسول الله فاختار أربعاً فصارت سنة.

علي عليه السلام: لا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول. أن كنا لنؤمن الكف عنهن وإنهن لمشركات، وأن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالقهر والهراوة فيعير بها وعقبه من بعده.
وعنه: المرأة عقرب حلوة اللسبة.
وعنه: جهاد المرأة حسن التبعل.
وعنه: خيار خصال النساء شرار خصال الرجال الزهو والجبن والبخل، فإذا كانت المرأ مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيء يعرض لها.
وكان في أصحابه فمرت امرأة جميلة فرمقوها، فقال: إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فيلمس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته. فقال بعض الخوارج: قاتله كفراً ما أفقهه! فوثبوا ليقتلوه، فقال: رويداً إنما هو سب بسبب، أو عفو عن ذنب.
وعنه: المرأة الصالحة ليست من الدنيا، إنما هي من الآخرة لأنها تفرغك لها. ولو كنت تطبخ وتسرح وتفرش لشغلك ذلك.
تميم بن خزيمة التميمي:
قالوا نكحت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ منظومة ... ثقبت وحبة لؤلؤ لم تثقب
فأجابته امرأة:
إن المطية لا يلذ ركوبها ... ما لم تذلل بالزمام وتركب
والدر ليس بنافع أربابه ... ما لم يؤلف في النظام وينقب
خطب بعض الظرفاء خطبة نكاح فقال: الحمد لله الذي جعل في الطلاق اجتلاباً للأرزاق، فقال تعالى: وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته. أوصيكم عباد الله بالسلوة والملالة، والتجني والجهالة، واحفظوا قول الشاعر:
اذهبي قد قضيت فيك فضالي ... وإذا شئت أن تبيني فبيني
تعاهدوا نساءكم بالسب، وعاودوهن بالضرب، وكونوا كما قال الله: فاهجروهن في المضاجع.
ثم إن فلاناً في خمول نسبه، ونقصان أدبه، خطب إليكم فازهدوا فيه.
فرق الله بينهما، وعجل لهما حينهما.
يقال: أشأم على الأزواج من عاتكة بنت الفرات. رأت في المنام أنها كسرت ثلاثة ألوية، فتزوجها ثلاثة من الرؤساء فماتوا.
وأشأم من حبيب بنت قيس، مات عنها عدة أزواج. فقال عمر رضي الله عنه من أراد الشهادة العاجلة الحاضرة فليتزوج بها.
كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عند عبد الله بن أبي بكر الصديق، وكان معجباً بها، فشغلته عن مغازيه، فأمره أبوه بطلاقها، ففعل فقال:
أعاتك لا أنساك ماذر شارق ... وما لاح نجم في السماء محلق
ولم أر مثلي اليوم طلق مثلها ... ولا مثلها من غير جرم نطلق
لها خلق جزل ورأي ومنصب ... وخلق سوي في حياء ومصدق
فأمره أبو بكر بمراجعتها. ثم أصابه حجر في حصار الطائف، فمات شهيداً، فرثته بقولها:
أقسمت لا تنفك عيني سخينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
ثم خطبها عمر رضي الله عنه، فلما أولم بها قال عبد الرحمن بن أبي بكر: ياأمير المؤمنين أتأذن أن أدخل راسي على عاتكة؟ فأدخل رأسه فقال:
آليت لا تنفك عيني قريرة ... عليك ولا ينفك جلدي أصفرا
فنشجت نشيجاً عالياً. فقال عمر: ما أردت إلى هذا غفر الله لك! ثم خطبها الزبير بعد عمر، فكانت تخرج إلى المسجد بالليل، فقال لها: لا تخرجي، فقالت: لا أزال أخرج أو تمنعني. وكان يكره أن يمنعها، لقوله عليه السلام: لا تمنعوا أماء الله مساجد الله. فقعد لها متنكراً في جوف الليل فقرصها، فتركت الخروج. فقال لها: ما بالك لا تخرجين؟ فقالت: كنت أخرج والناس ناس، ففسد الناس، فبيتي أوسع لي.
خرج صخر بن عمرو بن الشريد أخو الخنساء في غزاة، فجرح فمرض، فقال بعض عواده لامرأته: كيف أصبح صخر؟ فقالت: لاحي فيرجى ولا ميت فينسى، لقينا منه الأمرين. وسأل أمه فقالت: أصبح بنعمة الله صالحاً، ولا يزال بخير ما رأينا سواده بين أيدينا كأصلح ما يكون عليل. فقال صخر:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدنان
فأي امريء ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقا وهوان

لعمري لقد أيقظت من كان نائماً ... وأسمعت من كان له أذنان
أهم بأمر الحزم لو استطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
كان قد خبأ سيفه تحت فراشه، فلما جلست رفع السيف ليضربها به فلم يقدر، فهو معنى قوله: أهم بأمر الحزم.
شيخ من بلعنبر كان يقول: النساء ثلاث: معينة لينة عفيفة مسلمة. تعين أهلها على العيش، ولا تعين العيش على أهلها. وأخرى وعاء للولد. وأخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء.
علي عليه السلام: خير نسائكم العفيفة في فرجها، الغلمة لزوجها.
عروة بن الزبير: ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع أحد نفسه بعد الكفر بالله بمثل منكح سوء. ثم قال: لعن فلانة، ألفت بني فلان بيضاً طوالاً فقلبتهم سوداً قصاراً.
بغثر الأسدي:
وأول خبث الماء خبث ترابه ... وأول خبث القوم خبث المناكح
أبو عمرو بن العلاء عن رجل: لا أتزوج امرأة حتى أنظر إلى ولدي منها، قيل: كيف؟ قال: أنظر إلى أبيها وأمها بأنها تجيء بأحدهما.
عمر رضي الله عنه: يا بني السائب قد أضويتم فانكحوا في النزائع.
الأصمعي عن بعض العرب: بنات العم أصبر، والغرائب أنجب، وما ضرب رؤوس الأبطال كإبن أعجمية.
الزبرقان بن بدر: أحب كنائني إلي الذليلة في نفسها، العزيزة في رهطها، البرزة الحية، التي في بطنها غلام ويتبعها غلام. وأبغض كنائني إلي الطلعة الخبأة، التي تمشي الدفقي، وتجلس الهنبقعة، الذليلة في رهطها، العزيزة في نفسها، التي في بطنها جارية ويتبعها جارية.
هند: المرأة غل فإنظر ما تضع في عنقك.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سليم تنر إلى امرأة. فقال: شمي عوارضها وإنظري إلى عقبيها.
قال الأصمعي إذا اسود عقب المرأة أسود سائرها. قال النابغة:
ليست من السود أعقاباً إذا انصرفت ... ولاتبيع بجنبي نخلة البرما
حضر أبو طالب نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها، ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر، فقال الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وضئضئي معد وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس.
ثم إن محمد بن عبد الله بن أخي، من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به براً وفضلاً وكرماً وعقلاً، ومحتداً ونبلاً، وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل ورزق حائل، قد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصدقات ما عاجله وآجله في مالي. وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم خطر جليل.
تزوج عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله قطام بنت علقمة من تيم الرباب، وكانت خارجية، فقالت: لا أقنع إلا بصداق أسمية، وهو ثلاثة آلاف درهم وعبد وأمة وأن تقتل علي بن أبي طالب، فقال لها: لك ما سألت إلا علياً، وكيف لي به؟ قالت: تروم ذلك غيلة، فإن سلمت أرحت الناس من شر وأقمت مع أهلك، وإن أصبت دخلت الجنة. فقال:
ثلاثة آلاف وعد وقينة ... وقتل علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي وإن علا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
النبي صلى الله عليه وسلم في الاشراط: وتركب ذوات الفروج على السروج من أمة لعنة الله عندها.
يقال في الخاطب المردود: خطب إليهم فرمل أنفه وغسل من الدرمك فوه. قال:
اغسل من الدرمك عني فاكاً
تزوج الفضل بن الربيع منصرفه من الحج بدوية من بني كلاب، فقال عثمان بن سالم مولى بني لوذان:
نأت شعثاء عنك فما تزور ... ولطت دونها عنك الستور
فراحت في القباب الحمر خود ... مبتلة لها وجه نظير
وأمست دونها حرس شداد ... وأبواب مظاهرة ودور
فقلت لمنكحي شعثاء مولى ... وفي أحيائها حسب وخير
أمن عوز تزوجها للوالي ... لحاك إلهك العالي القدير
سئل عبد الله بن الزبير عن المتعة، فقال: الذئب يكنى أبا جعدة. يريد أنها تسمى متعة وهي زنا.
سمع عمر رضي الله عنه ذات ليلة من بيت مغنية تقول:
تطاول هذا الليل وازداد جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لحرك من هذا السرير جوانبه

فأمر برد زوجها.
خطب محمد بن الوليد بن عتبة إلى عمر بن عبد العزيز أخته، فقال: الحمد لله ذي العز والكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء. أما بعد فقد أحسن بك ظناً من أودعك حرمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوجناك على ما في كتاب الله، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
دخل الأشعث على علي عليه السلام صبيحة بنائه على بعض نسائه. فقال: كيف وجد أمير المؤمنين أهله؟ قال كالخير من امرأة قباء جباء. قال: وهل يريد الرجال من النساء غير ذلك؟ قال: كلا، حتى تروي الرضيع، وتدفئ الضجيع.
وبعث عبد الملك إلى الحجاج يطلب امرأة من أجمل نساء أشراف العراق، فأرسل في كل ناحية حتى وصفت له كاملة في الجمال غير أنها طرطبة. فقال زوجنيها فإنها أدفأ للضجيع وأسقى للرضيع.
جاء صياد إلى أبروير بسمكة أعجبه سمنها، فأجازه بأربعة آلاف درهم، فخطأته شبرين وقالت: إن جاءك فقل أ ذكر كانت أم أنثى؟ فإن قال ذكراً أو أنثى فطلب منه الآخر. فسأله، فقال: كانت أنثى، فقال: جئني بذكرها، فقال: عمر الله الملك، كانت بكراً لم تتزوج. فقال: زه، وأمر له بثمانية آلاف درهم. وقال: اكتبوا في الحكمة: الغدر ومطاوعة النساء يورثان الغرم الثقيل.
خطب أبان بن عثمان بن عفان إلى معاوية بنته، فقال: إنما هما ابنتان، فإحداهما عند أخيك عمرو والأخرى عند ابن عامر، فتولى أبان وهو يقول:
تربص بهذا أن يموت ابن عامر ... ورملة يوماً أن يطلقها عمرو
فإن صدقت أمنيتي كنت مالكاً ... لا حديهما إن طال بي وبها العمر
زوج إبراهيم بن النعمان بن بشير الأنصاري ابنته يحيى بن أبي حفصة، فعيره طلبة بن قيس بن عاصم بقوله:
لعمري لقد جللت نفسك حزية ... وخالف فعل الأكبرين الأكابر
ولو كان جداك اللذان توافيا ... ببدر لما راما صنيع الألائم
فقال إبراهيم:
وما تركت عشرون ألفاً لتائل ... مقالاً فلا تجهر بذكر الألائم
وإن رآك قد زوجت مولى فقد مضت ... به سنة قبلي وحب الدراهم
ابن يزداد بن سويد في جارية له:
أيا من بها أرضى من الناس كلهم ... وإن كنت أخشى تيهها وازورارها
لو أن الأماني خيرت فتخيرت ... من الحسن إنساناً لكنت اختيارها
كانت قريش تستحب للخاطب أن يطيل، وللمخطوب إليه أن يوجز. فخطب رجل إلى عمر بن عبد العزيز فأطال، فأجابه عمر بن عبد العزيز فقال: الحمد لله ذي العزة والكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء، إن الرغبة منك دعتك إلينا، والرغبة فيك أجابتك. وقد زوجتك على ما أمر الله به، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
أبو دهبل الجمحي في عبد الله بن عثمان من ولد حكيم بن حزام:
تمطت به بيضاء فرع كريمة ... هجان وبعض الوالدات عرام
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف حين جهزه إلى دومة الجندل: إن فتح الله عليك فتزوج بنت ملكهم. فتزوج تماضر بنت الأصبغ بن ثعلبة بن جهضم، وكانت جميلة، وهي التي صولحت عن ربع ثمنها بثمانين ألف دينار.
خطب عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي من فاطمة عليهما السلام، وقال: زوجنيها وأنا أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد. فقال: هي صغيرة، وأنا أبعثها إليك، فإن رضيتها فقد زوجتكما. فبعثتها ببرد وقالت لها: قولي له هذا البرد الذي قلت له. فقال: قولي لقد رضيت رضي الله عنك. فتناول قناعها فقالت: لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك. وقالت لأبيها: بعثني إلى شيخ سوء. فقال: مهلاً يا بنية فإنه زوجك.
فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال: رفئوني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل سبب ونسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري. وصار لي به السبب والنسب فأردت أن أجمع إليه الصهر.
وولد منها لعمر زيد ورقية. وأما زيد الأصغر وعبيد الله بن عمر فقد ولدا من أم كلثوم بنت جرول من خزاعة.

وخرج زيد من عند معاوية فأبصر بسر بن أرطاة على دكان ينال من علي رضي الله عنه، فصعد الدكان واحتمله وضرب به الأرض، وطفر عليه فدق ضلعين من أضلاعه. فقال معاوية: أبعد الله بسراً، أبعد الله بسراً. أ يشتم هذا الرجل وهو يسمع؟ أما علم أن زيداً بين علي وعمر، وأم زيد ابنة علي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وماتت أم كلثوم وزيد في وقت واحد، وصلى على جنازتهما سعيد ابن العاص، وكان والي المدينة. وقال له الحسين بن علي عليهما السلام: تقدم، ولولا أنك أمير ما قدمتك.
قال سعيد بن المسيب للمطلب بن السائب: ما يمنعك أن تتخذ أهلاً؟ قال: ليس عندي مهر. قال: وكم عندك؟ قال ثلاثة دراهم، قال: زوجتك بها بنت سعيد. ثم قال لأمها زوجته: لو مشطت بنيتي وغيرت يديها، فلما فعلت قال: أخرجي بها إلى المسجد العشاء الآخرة، فلما حاذى بيت المطلب قرع بابه وقال: أهلك بارك الله لك فيهم.
قال عبد الله بن عمر لأبيه: أخطب علي بنت نعيم النحام، فخطبها، فرده وقال: لي ابن أخ مضعوف لا يزوجه الرجال، فإذا تركت لحمي ترباً فمن يذب عنه؟ زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رقية ثم أم كلثوم، فلما ماتت عنه قال: ألا أبا أيم، ألا أخا أيم يزوج عثمان، فقد زوجته بنتي، ولو أن عندي عشراً لزوجتهن إياه واحدة واحدة.
أتى الحسن بن علي في جارية زفت إلى بيت رجل فوثبت عليها ضرتها، وضبطها بنات عم لها ففتضنها بإصبعها. فاستفتى الحسن فقال: إحدى دواهيكم يا أهل الكوفة! ولا علي لها اليوم فما ترون؟ قالوا: أنت أعلم، قال: فإني أرى أن التي افتضتها زانية، عليها صداقها، وجلدها مائة. وأرى اللائي ضبطنها مفتريات عليهن جلد ثمانين.
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليخطب له أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان. فبعث إليها امرأة كانت تقوم على نسائه فبشرتها بذلك، فأعطتها سوارين وخواتيم من فضة. واستحضر من بالحبشة من المسلمين، وخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله،وأنه النبي الذي بشر به عيسى بن مريم.
أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة.
وسمع بذلك أبو سفيان فقال: ذلك الفحل لا يقرع أنفه.
محمد بن كعب القرظي المرأة المؤاتية إحدى الحسنين.
رجاء بن حيوة: إذا تزوج العبد صرخ إبليس صرخة يجمع إليه جنوده، فيقولون: ما بك يا سيدنا؟ فيقول: عصم اليوم ابن آدم من فخ كنت أصيده به.
عن عمر رضي الله عنه: أنه أتى أهل بيت من الأزد، وفتاتهم في خدرها قريباً منه، فقال: إن مروان بن الحكم يخطب إليكم فتاتكم وهو سيد شباب قريش، وإن جرير بجيلة يخطب إليكم وهو سيد أهل المشرق، وإن أمير المؤمنين يخطب إليكم، يريد نفسه. فقالت الفتاة: أجاد أمير المؤمنين؟ قال نعم، للجد جئت. قالت زوجوا أمير المؤمنين. فتزوجها، وولدت منه.
قال أبو الأسود الدؤلي لبنيه: يا بني، أحسنت إليكم صغاراً وكباراً وقبل أن تولدوا. قالوا: يا أبانا، قد علمنا إحسانك صغاراً وكباراً، أ فرأيت قبل أن تولد قال: قد طلبت لكم موضعاً في النساء لكي لا تعيروا.
في الحديث: تنكح النساء على أربع: الجمال، والنسب، والمال، والدين، فمن نكح للجمال عاقبه الله بالغيرة، ومن نكح للنسب عاقبه الله بالذل، فلا يخرج من الدنيا حتى يكسر جبينه، ويشج وجهه، وتخرق ثيابه وجيبه عليه. ومن نكح للمال لم يخرجه من الدنيا حتى يبتليه بمالها، ثم يقسي قلبها عليه فلا تعطيه قليلاً ولا كثيراً. ومن نكح للدين أعطاه المال والجمال والنسب وخير الدنيا والآخرة.
دخل بعض المتقدمين داره، وقد أرضعت امرأة لم يرضها ولده، فأخذه وعلقه وضرب قفاه حتى قاء اللبن، وقال: لا أدعه يتفرق في عروقه، وينشأ على خلقها.
أراد نوح بن أبي مريم قاضي مرو الروذ أن يزوج ابنته، فاستشار جاراً له مجوسياً فقال: سبحان الله! الناس يستفتونك وأنت تستفتيني! قال: لا بد أن تشير علي، قال: إن رئيسنا كسرى كان يختار المال،ورئيس الروم قيصر كان يختار الجمال، ورئيس العرب كان يختار النسب، ورئيسكم محمد كان يختار الدين، فأنر أنت لنفسك بمن تقتدي.

كان شاذان بن عبد في مجلسه وحوله الناس، فجاءته امرأة فقالت: أ أنت شاذان بن عبد؟ ففاضت عيناه وقال: ألا من رآني فلا يتزوجن امرأة ذات مال، لأن امرأتي رفعت اسم أبي عني. وكان عبد رجلاً غنياً زوج شادان بنته فنسب إليه، ونسي اسم أبيه.

النصيحة، والموعة، والزجر عن القبيح
والشفقة، والرحمة، وما يجري مجراها جرير بن عبد الله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم.
وعنه صلى الله عليه وسلم : الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه فقد أحسن صلته.
مطرف: وجدنا أنصح العباد لله الملائكة، ووجدنا أخشى العباد لله الشياطين.
أكثم: رأي النصيح دليل لا يجور.
النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه.
مسعرر: ما نصحت أحداً إلا فتش عن عيوبي.
من كتم السلطان نصحه، والأطباء مرضه، والإخوان بثه، فقد خان نفسه.
قال بعض الخلفاء لجرير بن يزيد: إني قد أعددتك لأمر. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله ورسوله قد أعد لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك، ويداً مبسوطة بطاعتك، سيفاً مشحوذاً على عدوك.
أنشد الأصمعي:
النصح أرخص ما باع الرجال فلا ... ترده على ناصح نصحاً ولا تلم
إن النصائح لا تخفى مناهجها ... على الرجال ذوي الألباب والفهم
آخر:
ومن يكن الأشرار شبعة ... فليس إلى موحي النصيحة سامعا
رأي مخضته ونصح محضته.
قال رجل لعمر بن عبد العزيز في وفاة ابنه عبد الملك: آجرك الله يا أمير المؤمنين، وأشار بشماله، فقال عمر: أسر بيمينك، فقال: سبحان الله! أما في موت عبد الملك ما يشغلك؟ قال: لا، ما في موت عبد الملك ما يشغلني عن نصيحة المسلم.
نصح الصديق تأديب، ونصح العدو تأنيب.
في نوابغ الكلم: وجد قريناً يناصحه فنه قرناً يناطحه.
مامنع قول الناصح أن يروقك، وهو الذي ينصح خروقك.
كان معاذ بن مسلم الهراء النحوي - قيل له الهراء لأنه يبيع الهروي - صديق الكميت بن زيد، وكانا يتشيعان، فنهاه أن يأتي خالد ابن عبد الله القسري، فخالفه، فحبسه وعزم على قتله، فقال معاذ:
نصحتك والنصيحة إن تعدت ... هوى المنصوح عز لها القول
فخالفت الذي لك فيه ح ... فغالك دون ما أملت غول
آخر:
يخبركم أنه ناصح ... وفي نصحه حمة العقرب
سليمان الخواص: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه عن رؤس الناس فإنها فضيحة.
محمد بن تمام: الموعظة جند من جنود الله، ومثله مثل الطين يضرب به على الحائط فإن استمسك نفع، وإن وقع أثر.
أبو جعفر المصري: إنما القلب بمنزلة القمع الذي يصب فيه الزيت أو العسل فيخرج منه وتبقى فيه لطاخته.
علي عليه السلام: ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بلغت في إيلامه فإن العاقل متعظ بالأدب، والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب.
أنشد الجاحظ:
وليس يزجركم ما توعظون به ... والبهم يزجره الراعي فينزجر
آخر:
أهان وأقصى ثم ينصحونني ... ومن ذا الذي يعطي مودته قسرا
آخر:
تنخلت آرائي وسقت نصيحتي ... إلى غير طلق للنصيح ولا هش
آخر:
ولقلما تجدي نصيحة قائل ... أفعاله أفعال غير مصيب
كتب رجل إلى صديق له: أما بعد، فعظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك. واستحي من الله بقدر قربه منك، وخفه بقدر قدرته عليك، والسلام.
الأصمعي: كان يقال: منك من نهاك، وليس منك من أغراك. من كان له من نفسه واعظ، كان له من الله حافظ.
خذ نفسك عن هواها بالشكائم، وائنها عن رداها بالخزائم.
أنشد المبرد:
أهدت لي اللوم أوفى وهي المة ... واللوم تجزع منه جلة الإبل
وما نصحت لحي ما نصحت لهم ... واحتلت لو أرشدت عمياءهم حيلي
أشار فيروز بن حصين على يزيد بن المهلب أن لا يضع يده في يد الحجاج، فلم يقبل منه، وصار إليه، فحبسه وأهله. فقال فيروز:
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

أمرتك بالحجاج إذ أنت قادر ... فنفسك ول اللوم إن كنت لائماً
فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما
أم الدرداء: من وع أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه.
ابن مسعود رفعه: من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة.
دخل عامل لعمر رضي الله عنه فوجده مستلقياً وصبيانه يلعبون على بطنه، فأنكر ذلك. فقال: كيف أنت مع أهلك؟ قال: إذا دخلت سكت الناطق. قال: اعتزل، فإنك لا ترفق بأهلك وولدك، فكيف ترفق بأمة محمد.
أنس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يعودهم، فإذا امرأة تنسج برداً وعندها صبي لها، فتارة تضرب بحقها، وأحياناً تقبل على صبيها، فقال أترون هذه ترحم صبيها؟ قالوا: نعم، قال لله أرحم بعباده من هذه بصبيها.
محيسن بن أرطاة الأعرجي:
عرضت نصيحتي مني ليحيى ... فقال غششتني والنصح مر
وما بي أن أكون أعيب يحيى ... ويحيى طاهر الأخلاق بر
ولكن قد أتاني أن يحيى ... يقال عليه في بقعاء شر
فقلت له تجنب كل شيء ... يقال عليك أن الحر حر
من أصفر وجهه عند النصيحة أسود لونه من الفضيحة.
أعرابي: ما أم واحد بين صفين بأشفق مني عليها.
النبي صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاظمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أبو موسى رفعه: إذا مر أحدكم في مسجدنا وفي سوقنا، ومعه نبل، فليقبض على نصالها بكفه، أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء. قال أبو موسى: والله ما متنا حتى سددناها بعضنا في وجوه بعض.
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس.
عبد العزيز بن أبي رواد: كان الرجل إذا رأى من أخيه شيئاً أمره في ستر، ونهاه في ستر، فيؤجر في نهيه، ويؤجر في ستره.
عمر رضي الله عنه: إذا رأيتم أخاكم ذا زلة فقوموه وسددوه، وادعوا الله أن يرجع به إلى التوبة فيتوب عليه. ولا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم.
لقمان: إن الموعظة تشق على السفيه، كما يشق الصعود الوعر على الشيخ الكبير.
أوحى الله إلى داود عليه السلام: إنك إن أتيتني بعد لي آبق كتبتك عندي جهبذاً، ومن كتبته عندي جهبذاً لم أعذبه بعدها أبداً.
لقمان: يا بني، ارحم الفقراء لقلة صبرهم، وارحم الأغنياء لقلة شكرهم، وارحم الجميع لطول غفلتهم.
شاعر:
أدنى الأعاجيب إلى تعسي ... أنصح غيرء وأغش نفسي
الموصلي:
كأنني حين ألحاها وأزجرها ... في الجهل بالجهل أوصيها وأغريها
آخر:
أصبحت في هيئة المرأة يخبرنا ... صفاؤها بالذي فيها من الكدر
أنا له كالجفن الواقي لمقلته.
إني وسعد كالحوار وأمه ... إذا وطئته لم يضره اعتمادا
نصح رجل لهشام فقال: لا تعدن يا أمير المؤمنين عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنك المرتقى السهل إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب، وأن للأمور بغتات فكن على حذر.
فحدث الهادي بهذا الخبر، وفي يده لقمة، فأمسك حتى سمعه مرات.
وفي وصية علي عليه السلام: يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، قال: لا. قال: إن رأيت أن لا تسيء إلى من تحبه فافعل.
أبو حازم المدني: ثنتان إذا عملت بهما أصبت خير الدنيا والآخرة لا أطول عليكم. قيل: وما هما يا أبا حازم؟ قال: تتحمل ما تكرهه إذا أحبه الله، وتترك ما تحبه إذا كرهه الله.
وعظ ابن السماك الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هو دبيب من سقم، حتى تزل قدم، ويقع ندم، فلا توبة تنال، ولا عثرة تقال، فاتق الله.
علي عليه السلام رفعه: قال الله تعالى: يا ابن آدم، لا يغرنك ذنب الناس عن ذنبك، ولا نعمة الناس عن نعمتك، ولا تقنط الناس من رحمة الله وأنت ترجوها لنفسك.
وعظ مجوسي أبا مسلم فقال: قل ما يقبل، وخذ ما يسهل، وافعل ما يجمل.

النعمة وشكرها، والاشادة بذكرها، وغمطها
وكفرانها، والإمتنان بها، وما شابه ذلك.

معاذ بن جبل: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة؟ فقال: أتدري ما تمام النعمة؟ قال: يا رسول الله دعوة دعوتها أريد بها الخير. قال: فإن تمام النعمة الفوز من النار ودخول الجنة.
وعنه صلى الله عليه وسلم : ما عظمت نعمة الله على أحد إلا عظمت مؤونة الناس عليه.
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة حين صفح: فعلوا بك وفعلوا، قال: إني سميت محمداً لأحمد.
ولما بلغه صلى الله عليه وسلم هجاء الأعشمي لعقلمة بن علاثة، نهى أصحابه أن يرووه، وقال: إن أبا سفيان شعث مني عند قيصر فرد عليه علقمة وكذب أبا سفيان. قال ابن عباس: فشكر له ذلك.
قام رجل من الأنصار إلى عمر رضي الله عنه فقال: اذكر بلائي إذ فاجأك ذو سفه يوم السقيفة والصديق مشغول. فقال عمر بأعلى صوته: ادن مني، فدنا منه، فأخذ بذراعه حتى استشرفه على الناس، وقال: ألا أن هذا رد عني سفيهاً يوم السقيفة، ثم حمله على نجيب، وزاد في عطائه، وولاه قومه، وقرأ: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
علي عليه السلام: احذروا نفار النعم، فما كل شارد مردود.
وعنه: إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.
وعنه: إذا رأيت أخاك يتابع عليك نعمة فاحذره.
بعض السلف: إن كفران النعم بوار، وقلما أقشعت نافرها فرجعت إلى نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار، ولا تحسب أن ستر الله غير مقلص عما قليل إذا أنت لم ترج لله وقاراً.
أتى عمرو بن معد يكرب مجاشع بن مسعود السلمي بالبصرة، فقال له: اذكر حاجتك، قال: حاجتي صلة مثلى. فأعطاه عشرة آلاف درهم، وفرساً من بنات الغبراء، وسيفاً قلعياً ودرعاً حصبنة وغلاماً خبازاً.
فلما خرج من عنده قيل له: كيف وجدت صاحبك؟ قال: لله بني سليم! ما أشد في الهيجاء لقاءها! وأكرم في الكرامات عطاءها! وأثبت في المكرمات بناءها! لقد قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها، وهاجيتها فما أفحمتها.
ولله مسؤولاً نوالاً ونائلاً ... وصاحب هيجا يوم هيجا مجاشع
إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
حكيم: الشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، ونشر اللسان، ومكافأة اليد.
شاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
النبي صلى الله عليه وسلم : لا تصلح الصنيعة إلا عند ذي حسب ودين ، كما لا تصلح الرياضة إلا في نجيب.
مر زياد بن أبيه بأبي العريان المكفوف، فقال: رب أمر قد نقصه الله، وعبد قد رده الله. فكتب به زياد إلى معاوية، فأمر أن يبعث إليه بألف دينار ويمر به، ففعل. فقال: رحم الله أبا سفيان كأنها تسليمته ونعمته، فعرف معاوية ذلك، فكتب إلى أبي العريان:
ما لبثتك الدنانير التي حملت ... أن لونتك أبا العريان ألواناً
فكتب إليه جواباً:
من يسد خيراً يجده حيث يطلبه ... أو يسد شراً يجده حيثما كانا
فأبعث لنا صلة تحيا النفوس بها ... قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا
أعرابي: من كان مولى نعمتك فكن عبد شكره عليها.
آخر: الكريم يرعى في حق اللفة وحرمة اللحظة.
مسلم بن دارة: ما زلت أستجفي عائشة رضي الله عنها في قولها بمنة الله لا بمنتك. حتى سألت أبا زرعة الرازي فقال: ولت الحمد أهله.
أعرابي: رب منع ألذ من عطاء، وشوك أنهد من وطاء.
بكر بن عبد الله المزني: كن عداداً لنعم الله، فإنك إن أحصيتها كنت قمناً أن تشكرها، وإذا نسيتها كنت قمناً أن تكفرها.
ابن عائشة: كان يقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم بها إلا كان حقيقاً على الله أن يزيلها عنه.
علي عليه السلام: أقل ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه.
أنشد أبو العباس ابن عمارة:
أعارك ماله لتقوم فيه ... بواجبه وتقضي بعض حقه
فلم تقصد لطاعته ولكن ... قويت على معاصيه برزقه
علي عليه السلام: وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك. وإن اليسير من الله أعظم من الكثير من خلقه.
كاتب: آجر لساني فضلك المتظاهر، وملك أعضائي إحسانك المتناصر.
شاعر:
ولو أن لي في كل منبت شعرة ... لساناً يطيل الشكر فيك لقصرا

آخر من الكتبة: طال إحسانه قمم الأقوال، ونظر إلى الشكر من مكان عال.
عيسى عليه السلام: لو لم يعذب الله أحداً على معصيته لكان ينبغي أن لا يعصى شكراً لنعمه.
جعفر بن محمد: إني رأيت المعروف لا يتم إلا بثلاث: تعجيله، وستره، وتصغيره. فإنك إذا عجلته هنأته، وإذا سترته أتممته، وإذا صغرته عظمته.
خرج قوم إلى الصيد فطردوا ضبعاً حتى ألجأوها إلى خباء أعرابي، فأجارها وجعل يطعمها، فبينا هو نائم إذ وثبت عليه فبقرت بطنه ومرت، وجاء ابن عم له يطلبه فإذا هو بقير، فتبعها حتى قتلها، وقال:
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أم عامر
أعد لها لما استجارت بيته ... أحاليب ألبان اللقاح الدوائر
وأسمنها حتى إذا ما تمكنت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروف على غير شاكر
اشكر لمن أنعم عليك، وانعم على من شكرك.
الصاحب: وللنعم من الشكر تمائم، تحرسها من عين النمائم.
أعرابي: من خاف أن يسأل عن الشكر طاب نفساً عن النعم.
محمد بن حبيب الراوية: إذا قل الشكر حسن المن. ويروى إذا جحدت الصنيعة حسن الامتنان.
سابور: من لم ترب معروفه فكأنه لم يصنعه.
أنوشروان: الإنعام لقاح، والشكر نتاج.
قال الحجاج لابن القرية: ما أضيع الأشياء؟ قال: مطر جود في أرض سبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، وسراج يوقد في الشمس وجارية حسناء تزف إلى عنين أعمى وصنيعة تسدى إلى من لا يشكر.
كان يقال: من عجزت مقدرته على المكافأة، ولسانه عن الشكر، فلا يعجز عن معرفة النعمة، ومودة المنعم.
مر أبو الديك المعتوه بمن ينشد:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع
فقال: كذب شاعركم، بل يصرف المعروف إلى أهله وغير أهله، وإلا كيف ينالني وكنيتي أبو الديك وأنا معتوه؟ والبيت لقيس بن يزيد بن هلال النخعي، وبعده:
فإذا صنعت صنيعة فاقصد بها ... وجه الإله وما يثيبك أودع
وسمعها جعفر بن محمد عليهما السلام فقال: قاتل الله قائل هذا الشعر يأمر الناس بالبخل، لكني أقول:
يد المعروف غنم حيث كانت ... تحملها كفور أو شكور
فعند الشاكرين لها جزاء ... وعند الله ما كفر الكفور
وقيل إن قائلهما عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو الملقببقطب السخاء.
جاء رجل إلى أحمد بن داؤد، فقال: أيها القاضي، ما لي إليك حاجة سوى عموم معرفتك. ثم أنشأ يقول:
ما لي إلى ابن دؤاد حاجة ... تدني إليه ولا له عندي يد
إل يد عمت فكنت كواحد ... ممن يعين على الثناء ويحمد
نال الأباعد نفعه فشكرته ... والحر يشكر أن ينال الأبعد
أبو عصمة: شهدت سفيان وفضيلاً فما كانا يتذاكران إلى أن يتفرقا إلا النعم، يقولان: أنعم علينا بكذا، وفعل بنا كذا.
الحسن: إذا استوى يوماك فأنت ناقص. قيل: كيف ذاك؟ قال: إن الله زادك في يومك هذا نعماً فعليك أن تزداد له فيه شكراً.
عبد الأعلى بن حماد النرسي: دخلت على الموكل فقال: يا أبا يحيى، هممنا أن نصلك بهير فتدافعت الأيام. فقلت: يا أمير المؤمنين، بلغني عن جعفر بن محمد الصادق: من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة، وأنشد:
لأشكرن لك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
قال رجل لسعيد بن العاص وهو أمير الكوفة: يدي عندك بيضاء. قال: وما هي؟ قال: كبت بك فرسك، فتقدمت إليك غلمانك فرفعت بضبعك، وهززتك مراراً، ثم سقيتك ماء، ثم أخذت بركابك حتى ركبت. قال: فأين كنت؟ قال: حجبت عنك، قال: فقد أمرنا لك بمائتي ألف درخم، وبما يملكه الحاجب تأديباً له أن يحجب مثلك وهذه وسيلتك.
أعرابي: اللهم إن شكره عظم في نفسي فأعظم في نفسه ثوابك.
أبو فراس الحمداني:
وما نعمة مكفورة إن صنعتها ... إلى غير ذي شكر بمانعتي أخرى
سآتي جميلاً ما حييت فإنني ... إذا لم أفد شكراً أفدت به أجراً

خرج أوس بن حجر حتى إذا كان بأرض بني أسد تقحمت به ناقة ظماً فاندقت فخذه وشردت. فلما أصبح غدت إلى جوار يجنين الكمأة فرأيته، فأجلين غير واحدة، فقال لها: من أنت؟ قالت حليمة بنت فضالة بن كلدة، فأعطاها حجراً وقال لها: قولي لأبيك يقول ابن هذا أئتني. فبلغته، فقال: لقد أتيت أباك بمدح كبير أو هجاء طويل. واحتمل بيته فبناه عليه، وأخدمه حليمة. فقال:
لعمرك ما ملت ثواء ثوبها ... حليمة إذ ألقى مراسي مقعد
ولكن تلقت باليدين ضمانتي ... وحل بفلج فالقنافذ عودي
ولم تلهها تلك التكاليف إنها ... كما شئت من أكرومة وتفرد
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب ... وقصرك أن يثنى عليك وتحمد
قدم عقفان بن قيس بن عاصم المنقري مكة، فنزل على أروى بنت كريز أم عثمان بن عفان فأكرمته، فقال عند رحيله:
خلف على أروى سلاماً فإنما ... جزاء الثوي أن يعف ويحمدا
سلاماً أتى من وامق غير عاشق ... أراد رحيلاً ما أعف وأمجدا
علي عليه السلام: من امتطى الشكر بلغ به المزيد.
جعفر بن محمد: النعم وحشية فاشكلوها بالشكر.
الحسن: أوطد الناس نعمة أشد في الشكر نهمة.
العتابي: استوثقوا من عرى النعم بالشكر.
داود: إلهي كيف أشكر لك وأنا لا أطيق الشكر إلا بنعمتك؟ فأوحى إليه: يا داود، ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال: بلى يا رب. قال: فإني أقتصر على ذلك منك شكراً.
من جعل الحمد خاتمة للنعمة جعله الله فاتحة للمزيد.
كان يقال: أحيوا المعروف بإماتته.
بعض الخوارج: ضاع معروف واضع المعروف في غير أهله.
النبي صلى الله عليه وسلم : أنا شريك المكفرين. أي الذين تكفر نعمتهم.
مر عمرو بن يزيد الأسدي على الحسن، فقام إليه فسأله عن حاله، وألطف في سؤاله. فقال عمرو بن عبيد: أتقوم لهذا؟ فقال: إنه صنع إلي جميلاً في أيام الخوف، ونقلني من مكان إلى مكان، فأنا أشكر له ذلك وأرعاه.
قال وهب: ترك المكافأة من التطفيف.
ابن السماك: النعمة من الله على عبده مجهولة فإذا فقدت عرفت.
من لم يشكر الله على النعمة فقد استدعى زوالها.
فلان يلقح النعمة بشكرها، ويفيحها بدوام ذكرها.
الشكر يقي النعمة من الارتجاع، ويجعلها في حمى من الانتزاع.
موسى صلوات الله عليه: يا رب، دلني على خفي نعمتك، فقال: النفسان، يدخل أحدهما وهو بارد، ويخرج الآخر وهو حار، ولولاهما لفسد عيشك. وهل تبلغ قيمة نفس منهما؟ كان الصاحب يقول: أنا استحسن قول البحتري: الشكر نسيم النعم.
حكيم: لا تصطنعوا ثلاثة: اللئيم فإنه بمنزلة السبخة، والفاحش فهو يرى أن الذي صنعت إليه إنما هو لمخافة فحشه، والأحمق فهو لا يعرف قدر ما أسديت إليه.
وإذا اصطنعت الكريم فاصنع المعروف واحصد الشكر.
من مدحك بما ليس فيك فلا تأمنن بهته إياك، ومن أظهر لك شكر ما لم تأت فاحذر أن يكفر بنعمتك.
تعليم الأبله إبطال للعلم،واصطناع الكفور إضاعة للنعمة، فعليك بارتياد الموضع قبل الإقدام على العمل.
الشكر أفضل من النعم لأنه يبقى وتلك تفنى.
كان المهدي يقول: ما توسل أحد إلي بوسيلة، ولا تذرع بذريعة، هي أقرب من تذكيري يداً سلفت مني إليه، أتبعها بأختها، وأحسن ربها. لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
محمود الوراق:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتسع العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر
أبو شراعة القيسي
بني رياح أعاد الله نعمتكم ... حتى المعاد وأسقى ربعكم ديما
لم يلبسوا نعمة الله مذ خلقوا ... إلا تلبسها إخوانهم نهما
سلمة ابن أبان الكاتب: ليس يجني الثمار من شجر الشوك وغرس الثناء إلا الكريم.
مسعر بن كلدام:
العرف من يأته يحمد مغبته ... ما ضاع عرف ولو أوليته حجرا
دخل أبو نخيلة على السفاح ينشده، فقال: وما عسيت تقول في بعد قولك لمسلمة:
أ مسلم إني يا ابن كل خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض

شكرتك إن الشكر حبل من التقى ... وما كل من أوليته صالحاً يقضى
وأحييت لي ذكرى وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنه من بعض
وسمعه الرشيد فقال: هكذا يكون شعر الأشراف! مدح صاحبه ولم يضع من نفسه.
البذال بن بذل في علي بن يحيى المنجم:
يا ابن يحيى وما المغالط والجا ... حد مثل المقر بالتقصير
لا أراني بالقول أبلغ من شك ... رك بعض الذي يجن ضميري
أي يوم يمضي ولم تسقني في ... يه بنوء من راحتيك غزير
أنت حصني وحسن رأيك مالي ... وأياديك عزتي ونصيري
معاوية بن صخر لقريش:
إذا أنا أعطيت القليل شكوتم ... وإن أنا أعطيت الكثير فلا شكر
فكيف أداوي داءكم ودواؤكم ... يزيدكم داء لقد عظم الأمر
سأحرمكم حتى تذل صعابكم ... وأبلغ شيء في صلاحكم الفقر
قطري بن الفجاءة الخارجي أسره الحجاج ثم من عليه وقال: أتعاود القتال يا عدو الله؟ قال: هيهات! غل يداً مطلقها، وأرق رقبة معتقها، ثم قال:
أ أقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته
أ أقول جار علي لا إني إذن ... لأحق من جارت عليه ولاته
وتحدث اذلأقوام أن صنيعة ... غرست لديه فحنظلت ثمراته
إني إذن لأخو الجهالة والذي ... طمت على إحسانه جهلاته
هذا وما ظني بجبن فيكم ... إني لمطرق مشهد وغلاته
كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: إني احتفرت نهراً لأهل البصرة عذب به ماؤهم، ولم أر عليه شكراً، فليأذن لي أمير المؤمنين أن أسكره. فكتب إليه ثكلتك أمك يا عدي، أ فما شرب منه أحد فقال الحمد لله؟ إن الله حين أدخل أهل الجنة الجنة رضي الله عنهم أن قالوا الحمد لله، بها ثواباً من نهرك.
عمر بن عبد العزيز: تذاكر النعم شكر.
نصر بن سيار عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : من أنعم على رجل نعمة فلم يشكره فدعا عليه استجيب له.
ثم قال نصر: اللهم إني قد أنعمت على بني بسام فلم يشكروا، اللهم فاقتلهم. فقتلوا كلهم.
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: من أنعم عليه نعمة فأنعم على الناس فقد أخذ أماناً من الذم، وخلع ربقة سوء العواقب من عنقه.
علي بن الحسين عليهما السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن ليشبع من الطعام فيحمد الله فيعطيه من الأجر ما يعطي الصائم القائم. إن الله يحب الشاكرين.
محمد بن علي عليهما السلام: ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده عليها، ولا أذنب عبداً ذنباً فعلم أن الله قد اطلع عليه، وإن شاء غفر له، وإن شاء آخذه به، إلا غفر له قبل أن يستغفره.
علي عليه السلام رفعه: ما عظمت نعمة الله على عبد إلا عظمت عليه مؤونة الناس. فمن لم يحتمل تلك المؤونة للناس عرض تلك النعمة للزوال.
جعفر بن محمد: أحيوا المعروف بإماتته، فإن المنة تهدم الصنيعة.
شاعر:
ولا عيب في معروفكم غير أنه ... يبين عجز الجاهدين عن الشكر

النوم، والاحتلام، والسهر، والرؤيا
وما جاء من عجائب التأويلات، وما يتعلق بذلك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من أحد ينام إلا ضرب على صماخه بجرير معقد، فإن هو استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإن هو توضأ حلت عقدة أخرى، فإن قام فصلى حلت العقد كلها. فإن هو لم يستيقظ ولم يتوضأ ولم يصل أصبحت العقد كلها كهيأتها، وبال الشيطان في أذنيه.
وقالت أم خالد بن خالد بن سعيد بن العاص لمولاة لها عند السحر: حللي عقد الشيطان، ليست بساعة نوم.
كان زمعة بن صالح يصلي ليلاً طويلاً، فإذا أسحر نادى أهله:
يا أيها الركب المعرسونا ... أكل هذا الليل ترقدونا
فيتواثبون من بين باك وداع ومستغفر ومتوضئ. فإذا أصبح نادى: عند الصباح يحمد القوم السرى.
ابن عباس: عن النبي صلى الله عليه وسلم : أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل.

قالت أم سليمان بن داود عليهما السلام لسليمان: يا بني، لا تكثر النوم، فإن صاحب النوم يجيء يوم القيامة مفلساً.
الثوري: كان يعجبهم إذا كان الرجل فارغاً أن ينام طلباً للسلامة. وكان يقول: ما أعرف في زماننا أمثل من النوم.
ورؤي الثوري يقول للطبيب: دلني على شيء إذا أردت النوم جاءني، فقال أكثر من دهن رأسك.
العرب: نومة الضحى في الصيف مبردة، وفي الشتاء مسخنة.
قيل للحسن: إن ابن سيرين ما احتلم قط. فقال: إن الاحتلام عرس النساك إذا علم الله منهم العفاف.
إن نومة الضحى مخلفة للفم.
ابن الجهم: إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم تناولت كتاباً من كتب الحكم، فأخذ اهتزازي للفوائد، والأريحية التي تعتريني، أشد من نهيق الحمار، وهدة الهدم.
شاعر:
إلا إن نومات الضحى تورث الفتى ... خبالاً ونومات العصير جنونا
الحارث بن الحارث المكي: إني لأعجب ممن يستلقي على فراشه، ويطبق عينيه يبتغي النوم، كيف لا يقوم يصلي حتى تغلبه عيناه؟ فلا نوم ألذ من ذلك النوم.
طاووس: لئن تختلف السياط على ظهري أحب إلي من أن أنام يوم الجمعة والإمام يخطب.
محمد بن النضر الحارثي: ترك النوم قبل مدته بسنتين إلا القيلولة.
مكحول: من أوى إلى فراشه ثم لم يتفكر فيما صنع في يومه، فإن عمل خيراً حمد الله، وإن أذنب استغفر الله، كان كالتاجر الذي ينفق ولا يحسب حتى يفلس ولا يشعر.
كان شداد بن أوس الأنصاري على فراشه كأنه حبة على المقلى، وهو يقول: اللهم إن النار منعتني النوم.
شاعر:
غيرت موضع مرقدي ... ليلاً ففارقني السكون
قل لي فأول ليلتي ... في حفرتي أنى تكون
خوات بن جبير: نوم أول النهار خرق، وأوسطه خلق، وآخره حمق.
وعن العباس بن عبد المطلب أنه مر بابنه وهو نائم نومة الضحى، فركله برجله وقال: قم لا أنام الله عينك، أ تنام في ساعة يقسم الله فيها الرزق بين عباده؟ أو ما سمعت ما قالت العرب إنها مكسلة مهزلة، منساة للحاجة؟ والنوم على ثلاثة أنواع: نومة الخرق، ونومة الخلق، ونومة الحمق. فنومة الخرق نومة الضحى، ونومة الخلق هي التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أمته فقال: قيلوا فإن الشياطين لا تقبل. ونوة الحمق بعد العصر، لا ينامها إلا سكران أو مجنون أو مريض.
الصبي إلى أربع سنين لا يحلم حلماً يعتد به، ومنهم من لم يحلم إلى أن أسن، ومنهم من لم يحلم البتة.
قيل لعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك: ما أذهب ملككم؟ قال: نوم الغدوات، وشرب العشوات.
هشام بن عبد الملك لولده: ولا تصطبحوا فإنه شؤم ونكد.
أبو دلف العجلي:
أمالكتي ردي علي فؤاديا ... ونومي فقد شردته عن وساديا
ألا تتقين الله في قتل عاشق ... أمت الكرى عنه فأحيا اللياليا
علي عليه السلام: ينام الرجل على الثكل ولا ينام على الحرب. يعني أنه يصبر على قتل الولد ولا يصبر على سلب المال.
ابن سيرين: لا يحتلم ورع إلا على أهله.
سلمان الفارسي: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
عمر بن أبي ربيعة:
فلو كنت ماء كنت صوب غمامة ... ولو كنت ليلاً كنت رابعة العشر
ولو كنت لهواً كنت تعليل ساعة ... ولو كنت نوماً كنت إغفاءة الفجر
يقال بات فلان بليلة أنقد، وهو القنفذ، أي ساهراً.
قيل للتميمي: كيف بت البارحة؟ فطول كساءه في الأرض ثم نام عليه وتوسد يده، وقال: هكذا بت.
يحيى بن اليمان: رأيت رجلاً نام، وهو أسود الرأس واللحية، شاب يملأ العين، فرأى في منامه كأن الناس قد حشروا، وإذا بنهر من نار وجسر يمر عليه الناس، فدعي فدخل الجسر، فإذا هو كحد السيف، يمور به يميناً وشمالاً. فأصبح أبيض الرأس واللحية.
رأى رجل في منامه كأنه يصب الزيت في الزيتون. فقال ابن سيرين: إن صدقت فإنك تفعل بأمك. فكان كما قال.
أتى دومة بنت معتب آت في المنام فقال لها:
ألا أبشرن بولد ... أشبه شيء بالأسد
إذا الرجال في كند ... تغالبوا على بلد
كان له حظ الأشد
فولدت المختار بن أبي عبيد. وذلك في سنة الهجرة.
رؤي غزوان الصوفي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال:
حاسبونا فدققوا ... طالبونا فحققوا

ثم مشوا فأعتقوا
لما انصرف أبو مسلم من حرب عبد الله بن علي رأى في المنام كأنه على فيل، والشمس والقمر في حجره. فقصه على عابر سبيل، فقال: الرسم. فقبض عشرة آلاف درهم. ثم قال: اعهد عهدك فإنك هالك. وقرأ: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر.
رأى رجل كأنه ينظر في لوح من ذهب. فقيل: يذهب بصرك. فعمي.
قال رجل لسعيد بن المسيب: رأيت كأني بلت خلف المقام. قال: فهو عبد الملك، قال يلي أربعة من صلبه الخلافة.
وروي أنه قال: رأيت كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول في ذيل عبد الملك أربع مرات. فقال: إن صدقت رؤياك خرج من صلبه أربع خلفاء.
رأى علي بن الحسين مكتوباً على صدره قل هو الله أحد، فاستعبر سعيد فقال: بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه.
الشافعي رحمه الله: رأيت علياً عليه السلام في المنام، فقال لي: ناولني كتبك، فناولته، فأخذها فبددها. فأصبحت أخاً كآبة فأتيت الجعد فأخبرته، فقال: سيرفع الله شأنك، وينشر علمك.
ابن مسعود رفعه: من رآني في منامه فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي.
بات أبو الهندي بمرو على سطح، وكان إذا نام تقلب تقلباً قبيحاً، فشدوا رجله بحبل، فتدحرج وبقي معلقاً برجله، واختنق فمات.
النبي صلى الله عليه وسلم : الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر، فإذا وقعت فلا تقصها إلا على واد أو ذي رأي.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت كأن رأسي قد قطع وكأني أنظر إليه. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأية عينين كنت تنظر إلى رأسك؟ فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي. فأولوا رأسه بنبيه، ونظره إلى اتباع سنته.
قال رجل لعلي بن الحسين: رأيت كأني أبول في يدي. فقال: تحتك محرم. فنظروا فإذا بينه وبين امرأته رضاع.
كان مع صلة بين أشيم أعرابي، فقال: يا أبا الصهباء، رأيت كأنك أتيت بثلاث شهدات، فأخذت اثنتين وأعطيتني واحدة. فقال: الشهادة إن شاء الله. فغزوا فاستشهد أبو الصهباء وابنه والأعرابي.
أنشد أبو غانم الثقفي:
رقدت رقاد الهيم حتى لو أنني ... يكون رقادي مغنماً لفنيت
فقلت: لمن هذا البيت؟ فقال: لرقاد من رقاد العرب.
أبو حنيفة رحمه الله: رأيت كأني نبشت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضممت عظامه إلى صدري. فهللني، فسألت ابن سيرين، فقال: ما ينبغي لأحد من أهل هذا الزمان أن يرى هذه الرؤيا. قلت: أنا رأيتها. قال: إن صدقت رؤياك لتحيين سنة نبيك.
شاعر:
وليلك شطر عمرك فاغتنمه ... ولا تذهب بنصف العمر نوما
آخر:
وكيف يكون النوم أم كيف طعمه ... صفا النوم لي إن كنتما تصفان
فلان لا يتصالح جفناه.
رأى رجل غراباً وقع على أعظم أطم بالمدينة فقال ابن المسيب: يتزوج أفسق الفاسقين أشرف امرأ بالمدينة.
رأى نبطي الحجاج بن يوسف الثقفي في المنام، فقال له: إلى ما صيرك ربك؟ قال: وماذا عليك يا ابن الفاعلة؟ فقال: ما سلمنا من فعلك حياً ولا من سبك ميتاً.
نام عبود، وكان عبداً أسود حطاباً في محتطبه أسبوعاً، فضرب به المثل فقيل: قد نام نومة عبود.
قيل تماوت على أهله وقال: اندبوني لأعلم كيف تندبوني إذا مت. فسجي وندب، فإذا به قد مات.
وقال عبد الله بن الحجاج:
قوموا فأهل الكهف مع عب ... ود عندكم صراصر
يقال إن ملك الرؤيا ينسخ من اللوح المحفوظ ما كتب للعبد فيريه في منامه.
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيد بن أبي العيص في الجنة بعد موته، فأولها لولده عتاب بن أسيد.
وعنه صلى الله عليه وسلم : الرؤيا الصالحة بشارة للمؤمن بما له عند الله من الكرامة في الآخرة.
قال أشعب لرجل: رأيتك مطلياً بعذرة. فقال: هو عملك الخبيث ألبسكه الله، وعملي الطيب ألبستنيه. قال: في الرؤيا شيء آخر، قال: وما هو؟ رأيتك تلحسني ورأيتني ألحسك.
المعلى بن علاء الطائي:
كم ليلة ذدت الرقاد وأنتما ... تتنازعان حواشي الأحلام
وحملتما لوماً علي وربما ... كان الملام أحق باللوام

رأى نوف البكالي صاحب علي عليه السلام كأنه يسوق جيشاً، ومعه رمح طويل في رأسه شمعة تضيء للناس. فتأولها بالشهادة، فخرج إلى الغزو، فلما وضع رجله في الركاب قال: اللهم أرمل المرأة رأيتم الولد وأكرم نوفاً بالشهادة. فوجدوه وفرسه مقتولين مختلطاً دمه بدم فرسه وقد قتل رجلين.
أبو سليمان الداراني: إنما يرى العبد الرؤيا ليثبت فإذا أخلص انقطع عنه كثرة الرؤيا.
كان أبو سالم يقول: الرؤيا كلام يكلم الله به عبده.
رأى عبد الملك في منامه أن أم هشام شقت رأسه فلطمت من دماغه عشرين لطمة، فطلقها. ثم بعث إلى سعيد بن المسيب فسأله، فقال: تلد غلاماً يملك عشرين سنة. فندم.
رأى شرحبيل بن حسنة رؤيا فقصها على أبي بكر رضي الله عنه، فقال: نامت عينك ورأيت خيراً.
جابر بن عبد الله: كنا ننام في المسجد ومعنا علي بن أبي طالب، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قوموا لا تناموا في المسجد، فقمنا لنخرج، فقال: أما أنت يا علي فنم، فإنه قد أذن لك.
ابن عمر: تضرعت إلى ربي سنة أن يريني أبي في النوم، حتى رأيته وهو يمسح العرق عن جبينه، فسألته فقال: لولا رحمة الله لهلك أبوك. إنه سألني عن عقال بعير الصدقة، وعن حياض الإبل، فكيف عن الناس؟ فسمع بذلك عمر بن عبد العزيز، فصاح وضرب بيد على يد وقال: فعل هذا بالطاهر التقي، فكيف بابن المترف عمر بن عبد العزيز؟ سئل ابن سيرين عن رجل رأى في منامه كأنه يمضغ شدقة، فقال: هذا رجل يغتاب أقرباءه.

الوفاء، وحسن العهد، ورعاية الذمم
والأمانة والثقة، وكتمان الأسرار، وما أشبه ذلك أبو بكر رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر، عليك بصدق الحديث، ووفاء بالعهد، وحفظ الأمانة، فإنها وصية الأنبياء.
نزل ناس من محارب إلى جنب المدينة، فاشترى منهم رسول الله جزوراً بوسق من تمر. فلما ذهب بها وتوارى في بيوت المدينة، قالوا: أعطينا رجلاً لا نعرفه. فقالت عجوز منهم: لقد رأيت وجه رجل ما كان ليلبسه غدراً. فما كان إلا أن أرسل إليهم فدعاهم، ثم أمر بالتمر فنشر على نطع، ثم قال: كلوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم وفاهم ثمنهم. فقالوا: ما رأينا كاليوم في الوفاء.
أوصت أعرابية أبناً لها فقالت: يا بني، اعلم أنه من اعتقد الوفاء والسخاء فقد استجاد الحلة بربطتها وسربالها، وإياك والنمائم فإنها تنبت السخائم، وتفرق بين المحبين، وتحسي أهلها الأمرين.
ليس شيء أوفى من قمرية، فإنها إذا مات ذكرها لم تقرب آخر بعده، ولا تزال تنوح عليه إلى أن تموت.
شاعر:
أشدد يديك بمن بلف وفاءه ... إن الوفاء من الرجال عزيز
علي عليه السلام: الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله ؟ قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها. وينتهز فرصتها من لا خريجة له في الدين.
وقد عدي بن حاتم على عمر رضي الله عنه، وكان قد ثبت إسلامه في الردة، فقال: أ تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، أنت الذي آمن إذ كفروا، ووفى إذ غدروا.
وكان مع علي عليه السلام في حروبه، وفقئت عينه يوم الجمل، وهو القائل لمعاوية:
يجادلني معاوية بن حرب ... وليس إلى الذي يبغي سبيل
يذكرني أبا حسن علياً ... وحظي في أبي حسن جليل
قال المنصور لاسحاق بن موسى العقيلي، وكان قبله خصيصاً عند مروان بن محمد، وقد ضمن غلاماً من بني أمية: ما ضمانك له إلا حباً لبني أمية؟ فقال: هذا وفائي لمن له عندي يد وقد زالت عنه الدولة، فكيف وفائي لمن له عندي يد والدولة عليه باقية؟ فاستحسن قوله وأطلق له الغلام من غير ضمان.
الوفاء وفاء لمن لا ترجوه ولا تخافه.
إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وإلى بكائه على ما مضى من زمانه.

أتى حاجب بن زرارة التميمي في جدب أصاب قومه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرى، فسأله أن يأذن لهم في دخول بلاده حتى يمتاروا. فقال: إنكم معشر العرب قوم غدر. فقال: إني ضامن للملك ألا يفعلوا، قال: فمن لي بأن تفي؟ قال: أرهنك قوسي. فضحك من حوله، فقال كسرى: ما كان ليخالف، فقبلها منه وقال: يا حاجب، إن قوسك لقصيرة معوجة، قال: أيها الملك، إن وفائي طويل مستقيم. فمات حاجب، فطلبها ابنه عطارد فردت عليه، وكساه كسرى حلة. فلما أسلم عطارد أهداها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، فباعها بأربعة آلاف درهم.
وبقيت قوس حاجب فخراً لبني تميم، قال أبو تمام:
إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها ... فخاراً على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
وقد ملح المطراني في قوله:
تزهى علينا بقوس حاجبها ... زهو تميم بقوس حاجبها
وللمصنف في صباه:
أكل وفاء كان في قوس حاجب ... وأنت جمعت الغدر في قوس حاجب
أتى عمر رضي الله عنه بتاج كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه، فرأى من الدر والياقوت شيئاً لم ير مثله، فكره أن يمسه بيده، فأخذ عوداً فجعل يقلب ذلك وينظر إليه. فلما أطال النظر قال: إن الذي أدى هذا لأمين. فقال له علي: يا أمير المؤمنين، إنك أديت الأمانة إلى الله، فلما أديتها إلى الله أديت إليك.
قال لقمان لابنه: إذا كان خازنك حفيظاً وخزانتك أمينة سدت في دنياك وآخرتك.
عروة بن محمد عن أبيه رفعه: ثلاث إذا رأيتهن فعندك عندك: خراب العامر وعمارة الخراب، وأن يكون الغزو رفداً، وأن يتمرس البعير بالشجرة.
ابن عباس: أتى رسول الله التجار فقال: يا معشر التجار، إن الله باعثكم يوم القيامة فجاراً إلا من صدق ووصل وأدى الأمانة.
ابن عمر رفعه: خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال: هذه أمانة استودعتكها. الفرج أمانة، والسمع أمانة، والبصر أمانة، واللسان أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
أخذ لبنت أبي قحافة طوق يوم الفتح، فقال أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشدكم الله والإسلام طوق أختي. قالها ثلاثاً، فلم يجبه أحد، فقال: يا أخية احتسبي طوقك فإن الأمانة في الناس قليل.
مكتوب في التوراة: الأمين من أهل الأديان كلها عائش بخير.
لقمان: يا بني كن أميناً تعش غنياً.
النبي صلى الله عليه وسلم : الأمانة غنى.
اتقوا النعمة أن تقول كفرت، والأمانة أن تقول أخفرت.
شاعر:
سقى الله أطلال الوفاء بكفه ... فقد درست أحلامه ومنازله
قال رجل لسليمان رضي الله عنه: يا أبا عبد الله، فلان يقرئك السلام. فقال: أما أنك لو لم تفعل لكانت أمانة في عنقك.
قال حارث بن عوف بن أبي حارثة للنبي صلى الله عليه وسلم : أجرني من لسان حسان فلو مزج به البحر لامتزج. فحدث بذلك ابن عائشة فقال: أوجعه قوله:
وأمانة المري حيث لقيته ... مثل الزجاجة صدعها لا يجبر
قدم مكة كهمس بن سعد البارقي ورجل من بني زبيد، فظلم البارقي أبي بن خلف، فقال:
أتظلمني ما لي بمكة ظالماً ... أبي ولا قومي لدي ولا صحبي
وناديت قومي بارقاً لتجيني ... وكم دون قومي من فياف ومن سهب
سيأبى لكم حلف الفضول ظلامتي ... بني خلف والحق يؤخذ بالغصب
وظلم الزبيدي العاص بن وائل السهمي، فصعد الجبل رافعاً عقيرته:
يا للرجال لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدر والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر
هل مخفر من أخي سهم بقدرته ... فعادل أم ضلال نال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فتحالف ثلاث نفر الزبير عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل العباس أولهم، والمتحالفون بنو هاشم، وقيل بنو عبد مناف، وزهرة، وتيم بن مرة، وأسد بن عبد العزى. وزاد بعضهم الحارث بن فهر رهط أبي عبيدة. فقال من عداهم من قريش: لقد دخل هؤلاء في فضول من الأمر فسمي حلف الفضول.

وقيل سمي بذلك تشبيهاً له بحلف كان بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ من القوي للضعيف، وللغريب من القاطن، قام به رجال من جرهم يقال لهم الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة فقيل لهم حلف الفضول جمعاً لأسماء هؤلاء كما يقال سعد السعود. وقيل سمي بذلك لما فيه من الشرف والفضل. وقيل لأنه شيء تفضلوا به.
وشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول: لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفاً لو دعيت إلى مثله اليوم لأجبت. وكانت صورة الحلف: والله القابل، إنا ليد على الظالم حتى نأخذ للمظلوم حقه ما بل بحر صوفة.
دعا معاوية قيس بن سعد بن عبادة إلى مفارقة علي عليه السلام حين تفرق عنه الناس، فكتب إلى معاوية: يا وثن بن وثن، تدعوني إلى مفارقة علي بن أبي طالب والدخول في طاعتك، وتخوفني بتفرق أصحابه عنه، وانثيال الناس عليك، واجفالهم إليك، فو الله الذي لا إله غيره لا سالمتك أبداً وأنت حربه، ولا دخلت في طاعتك وأنت عدوه، ولا اخترت عدو الله على وليه، ولا حزب الشيطان على حزبه، والسلام.
سأل المنصور بعض بطانة هشام عن تدبيره في بعض حروبه مع الخوارج، فقال: فعل كذا وصنع كذا رحمه الله. فقال المنصور: قم عليك لعنة الله. تطأ بساطي وتترحم على عدوي! فقام الرجل وهو يقول: والله إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي. فقال المنصور ارجع يا شيخ، فإني أشهد أنك جهيض حرة، وغراس شريف. ودعا له بمال، فأخذه وقال: لولا جلالة أمير المؤمنين وامتطاء طاعته ما لبست لأحد بعده نعمة. فقال له المنصور: مت إذا شئت، لله أنت! فلو لم يكن في قومك غيرك لكنت قد أبقيت لهم مجداً مخلداً.
قال عمرو بن العاص: إذا أفشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حل. فقيل له: كيف؟ قال أنا كنت أحق بصيانته.
المهلب: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر، وأعلى أخلاقه نسيان ما أسر إليه.
فيلسوف: القلوب أوعية السرائر، والشفاه أقفالها، والألسنة مفاتيحها، فليحفظ كل منكم مفتاح وعاء سره.
حكيم: ضع سرك عند من لا سر له عندك.
لا يصلح للسر إلا لسانان وأربع آذان.
رجل من بني سعد:
إذا ما ضاق صدرك عن حديث ... فأفشته الرجال فمن تلوم
إذا عاتبت من أفشى حديثاً ... وسري عنده فأنا الظلوم
أوس بن حجر:
ليس الحديث بنهيي بينهن ولا ... سر يحدثنه في الحي منشور
قيل لأعرابي: ما بلغ من حفظك للسر؟ قال: أفرقه تحت شغاف قلبي ثم لا أجمعه، وأنساه كأني لم أسمعه.
فلان كتوم الرغاء، بعيد مقبل السر، حنيت عليه أضالعه، وتلاقت عليه حيازيمه.
الجاحظ: تقول العرب: من ارتاد لسره فقد أشاعه، وأرى الأول قد أذن في واحد وهو قوله.
سرك دمك فانظر أين تريقه.
أبو الشيص:
ضع السر في صماء ليست بصخرة ... صلود كما عانيت من سائر الصخر
ولكنها قلب امرئ ذي حفيظة ... يرى ضيعة الأسرار قاصمة الظهر
كان يقال: أحزم الناس الذي لا يفشي سره إلى صديقه، مخافة أن يقع بينهما شر فيفشيه عليه: حكيم: قلوب الأحرار قبور الأسرار.
بزرجمهر: الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار حمق.
نصيب:
وقد طال كتمانيك حتى كأنني ... برجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي ... سلمت وهل حي على الناس يسلم
سلمة اليشكري:
إذا ما غفرت الذنب يوماً لصاحب ... فلست معيداً ما حييت له ذكرا
ولست إذا ما صاحب حال عهده ... وعندي له سر مذيعاً له سرا
مر أبو بكر رضي الله عنه بجارية سوداء تطحن لمولاتها، فقالت مولاتها: يا أبا بكر اشترها فإنها على دينك. فلما علم أنها مسلمة حكم مولاتها، فاشتراها على المكان ودفع ثمنها، وقال: قومي يا جارية. فقالت: يا أبا بكر، إن لها علي حقاً بقديم ملكها، فأئذن لي أن استتم طحينها. ففعل.
عاذ الفرزدق ببكر بن وائل في بعض مخاوفه، ثم ارتحل عنهم ذاماً لهم. فقال رجل منهم:
لقد بوأتك الدار بكر بن وائل ... وردت لك الأحشاء إذ أنت مجرم
زمان تمنى أن تكون حمامة ... بمكة واراها الستار المحرم
فإن تنأ عنا لا تضرنا وإن تعد ... فإنا على العهد الذي كنت تعلم

كان قيس بن الرقيات مع مصعب، فلما قتل تردد هارباً في البلاد، حتى عاذ بعبد الله بن جعفر ليستشفعه إلى عبد الملك. فقام ابن جعفر بين يديه وقال: حاجة، قال: حاجاتك كلها مقضية إلا دم ابن قيس. قال: فهذه حاجتي، فأطرق هنيهة ثم قال: على أن تضع يده في يدي. فلما دخل عليه - وقد أمر قبل بعساس خلنج، فملئت ألبان البخت يحمل العس جماعة، ثم صفت بين يديه - قال له: أين هذه العساس من عساس مصعب حين تقول:
جلب الخيل من تهامة حتى ... وردت خيله جبال زرنج
يلبس الجيش بالجيوش ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج
قال: لا أين أمير المؤمنين لو طرحت كلها في أصغر عس من أعساس مصعب لتقلقلت داخله. قال: قاتلك الله! أبيت إلا كرماً. وعفا عنه ووصله.
كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزي بن عبد شمس، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنته زينب، تاجراً تضاربه قريش بأموالها فخرج إلى الشام سنة الهجرة فلما قدم عرض له المسلمون فأسروه، وقدموا به المدينة ليلاً. فلما صلوا الفجر قامت زينب على باب المسجد فقالت: يا رسول الله، قد أجرت أبا العاص وما معه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت. ودفع إليه جميع ما أخذ منه، وعرض عليه الإسلام، فأبى وخرج إلى مكة. فدعا قريشاً وأطعمهم ثم دفع إليهم أموالهم. وقال: هل وفيت؟ قالوا: نعم قد أديت الأمانة ووفيت. قال: اشهدوا جميعاً أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وما منعني أن أسلم إلا أن تقولوا أخذ أموالنا. ثم هاجر فأقره رسول الله على النكاح الأول. وتوفي سنة ثنتي عشرة.
قال رجل لراهب: قتلت تسعة وتسعين، فهل لي من توبة؟ قال: لا . قال: لأكملن بك مائة، فقتله. ثم ذهب إلى راهب آخر فقال له: قتلت مائة، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، على أن تطيعني ولا تعصيني، فقال له: قاسمني العمل. قال أنا بين يديك. فأراد أن يخبز فقال: علي العجين والإلزاق وعليك السجر. فاستجر التنور يوماً وقال للراهب: قم فالزق، فقال: اذهب واجلس في التنور، فذهب فجلس فيه، فجاء الراهب ينظر، فإذا الرجل قاعد في التنور، ما به إلا أنه يرشح عرقاً. فقال له: قم فاخرج فأنت خير مني. فجوزي بوفائه.

الوقاحة، والسفاهة، والجسارة
وقلة المبالاة، وذكر الغوغاء والحشوة، ونحو ذلك النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.
حكيم: الخرس خير من الكذب، والخصاء خير من الزنا. والمعيشة بالجهد والفاقة خير من المعيشة بالبذاء وقلة الحياء.
ذكر رجلاً وقحاً: لو دق بوجهه الحجارة لرضها، ولو خلا بأستار الكعبة لسرقها.
ابن سلام: العاقل شجاع القلب، والأحمق شجاع الوجه.
هو صفيق الدرقة، صليب الحدقة.
الفاقة خير من الصفاقة.
الصخر هش عند وجهك في الوقاحة.
يقال: وجوههم وأيديهم حديد. أي وقاح بخلاء.
لما حضرت أد بن مر الوفاة عدل بإرثه عن تميم إلى سائر ولده، فعاتبه تميم، فقال: يا بني، إني لم أفعل بك ذلك لذنب استحقيته. ولكن للثقة بما في يدك من عوض يغنيك عن إخوتك، ويفقرهم إليك، ويكسبك السؤدد. قال: وما هو يا أبه؟ قال: صفاقة وجهك.
أنوشروان: أربع قبائح، وهي في أربعة أقبح: البخل في الملوك، والكذب في القضاة، والحدة في العلماء، والوقاحة في النساء.
أبو عثمان الناجم:
لك عرض مثلم من قوا ... رير ووجه ململم من حديد
صفاقة العينين خير من غلة دارين.
في النصائح الصغار: الوجه ذو الوقاحة من وجوه الرقاحة، يفيء على صاحبه الأنفال، ويفتح الأقفال، ويلقطه الأرطاب، ويلقمه ما استطاب، ويجسره على قول المنطيق، وييسر له فعل ما لا يطيق.
وكل ذي وجه حيي ذو لسان عيي، معتقل لا ينشط لمقال، ولا ينشط من عقال. لا يزال ضيق الذرع، بكي الضرع، يشبع غيره وهو طيان، ويعطش وصاحبه ريان.
ولكن لا كل من يتوقح، ولا ما يتربح ويتوقح. فلعمري ما النائل الوقح إلا ما ناله الوقح. وأيم الله إن الرشحة في الجبين أحسن من الشمم في العرنين، ولئن تغر عرضك وما في سقائك جرعة خير أن تملك البحر وما في وجهك مزعة.

نافر رجل من جرم رجلاً من الأنصار إلى قرشي، فقال للجرمي: أبالجاهلية تفاخره أم بالإسلام؟ قال: كيف وقد آوو رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه حتى أظهر الله الإسلام؟ قال الجرمي: وكيف يكون قلة الحياء؟ كان يقال: اثنان لا يتفقان أبداً القناعة والحسد. واثنان لا يفترقان أبداً الحرص والقحة.
هجا أبو الهول الفضل بن يحيى، ثم أتاه راغباً إليه، فقال له: بأي وجه تلقاني؟ قال: بالوجه الذي ألقى به ربي وذنوبي إليه أكثر. فضحك ووصله.
شاعر:
أكول لأرزاق العباد إلى شنا ... صبور على سوء الثناء وقاح
من جسر أيسر، ومن هاب خاب.
المسترسل موقى، والمحترس ملقى.
شاعر:
لا تكونن في الأمور هيوبا ... فإلى خيبة يصير الهيوب
آخر:
إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً ... وتستح مخلوقاً فما شئت فاصنع
من سبح في النهر الذي فيه التمساح عرض نفسه للهلكة.
علي عليه السلام: إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه.
كان الحسن: إذا ذكر أهل السوق والغوغاء قال: قتلة الأنبياء.
وقال علي عليه السلام فيهم: إذا اجتمعوا ضروا، وإن تفرقوا نفعوا. قيل: قد علمنا مضرة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟ يرجع أصحاب المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم. كرجوع البناء إلى بنائه، والنساج إلى منسجه، والخباز إلى مخبزه.
وعنه: وأنتم معاشر أخفاء الهام، سفهاء الأحلام.
بعض السلف: لا نسبوا الغوغاء، فإنهم يطفئون الحريق، ويخرجون الغريق، ويسدون البثوق.
أبو العبر وهو من عقب علي بن عبد الله بن عباس:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وباللذة المستهتر اللهج
الأحنف: ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا.
حكيم: لا يخرجن أحد من بيته وقد أخذ في حجرته قيراطين من جهل، فإن الجاهل لا يدفعه إلا الجهل. أراد السفه.
قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
الحارث بن حلزة الشكري: الجاهل من لا جاهل له، أي الجاهل من لا سفيه له يدفع عنه، قال:
ال أن يتهضموا ... أخا الحلم ما لم يستعن بجهول
صالح بن جناح:
إذا كنت بين الجهل والحلم قاعداً ... وخيرت أيا شئت فالحلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصفا ... ولم يرض منك الحلم فالجهل أمثل
ما جزاء السفيه سب، ولكن إذا عدا الطور تنتزع أنيابه.
الأحنف بن قيس:
وذي ضعن أمت القول عنه ... بحلم فاستمر على المقال
ومن يحلم وليس له سفيه ... يلاق المعضلات من الرجال
شاعر:
لا بد للسؤددمن أرماح ... ومن عديد تتقي بالراح
ومن سفيه دائم النباح
أتى علي عليه السلام بجان ومعه غوغاء، فقال: لا مرحباً بوجوه لا ترى عند سوءة.
الفند الزماني:
وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان
وفي الشر نجاة حي ... ن لا ينجيك إحسان

الهدية، والرشوة
وما جاء في الإهداء والإستهداء، وذكر من ارتشى في الحكم وغيره.
أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر هدية فردها، فقال: يا عمر، لم رددت هديتي؟ قال: لأني سمعتك تقول: خيركم من لم يقبل شيئاً من الناس. فقال: يا عمر، إنما ذاك ما كان عن ظهر مسألة، فأما ما أتاك من غير مسألة فإنما هو رزق ساقه الله إليك.
قالت أم حكيم الخزاعية: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أتكره رد اللطف؟ قال: ما أقبحه؟ لو أهدي إلى ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت.
قالت: وسمعته يقول: تهادوا فإنه يورث الحب، ويذهب بغوائل الصدر.
ابن عباس رفعه: ما أهدى المسلم لأخيه أفضل من كلمة حكمة، يزيده الله بها هدى، ويرده بها عن الردى.
وعنه رفعه: نعمت العطية، ونعمت الهدية كلمة حكيمة تسمها فتنطوي عليها، ثم تحملها إلى أخ لك مسلم تعلمه إياها.
الحسن: تهاديتم الأطباق ولم تتهادوا النصائح.
الجاحظ: ما استعطف السلطان، ولا استرضى الغضبان، ولا استلت السخائم، ولا استدفعت المغارم بمثل هذه الهدايا.
في نشر المهاداة طي المعاداة.
التهادي سنة متقبلة، ومكرمة متقيلة.
عائشة: اللطفة عطفة تزرع في القلوب المحبة.

وعنها: كان رسول الله يقبل الهدية، ويثيب عليها ما هو خير منها.
وعنه عليه السلام: الهدية رزق من الله، فمن أهدي إليه شيء فليقبله.
وعنه: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة.
وعنه: تهادوا تحابوا.
قدم غلام لعلي رضي الله عنه، فأهدى للحسن والحسين دون ابن الحنفية. فتمثل علي بقول عمرو بن كلثوم:
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
فأهدى إليه.
الجاحظ:
لو كنت لا أهدي إلى أن أرى ... شيئاً على قدرك أو قدري
لكنت أهدي سدرة المنتهى ... ترفل في أثوابها الخضر
كتب المؤيد إلى المتوكل مع قارورة دهن: إن الهدية متى كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لصفت ودقت كانت أبهى وأحسن. وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أوقع وأنفع.
كتب إبراهيم بن إسماعيل إلى المأمون يوم النيروز: وجهت إلى أمير المؤمنين جام فضة مذهبة، فيها سبع تفاحات من مسك وعنبر ومسك وصندل وكافور وزعفران وعود، وتفاءلت لأمير المؤمنين باجتماعها وفيوح رائحتها أن يملك الأقاليم السبعة، وأن يفوح عدله وحسن سيرته مع رعيته كفيوحها إن شاء الله.
أهدى مرة أبو الهذيل إلى مويس بن عمران دجاجة وصفها له بصفات، ثم لم يزل يذكرها كلما ذكر شيء ما بجمال أو سمن قال أحسن وأسمن من الدجاجة التي أهديتها لكم. وإن ذكروا حادثاً قال: كان ذلك قبل أن أهدي لكم الدجاجة بشهر، وما كان بين هذا وبين إهداء الدجاجة إلا أيام قلائل. فسارت مثلاً لمن يستعظم شيئاً يهديه أو يذكره.
لبعضهم:
وإن امرءً أسدى إلي صنيعة ... وذكرنيها مرة للئيم
أهدى رجل إلى امرأة الحارث بن يحامر الأشعري قاضي دمشق هدية، فكلمته حتى قضى له، فقال عبد الملك بن مروان:
إذا رشوة من باب بيت تقحمت ... لتسكن فيه والأمانة فيه
سعت هرباً منها وولت كأنها ... حليم تنحى عن جوار سفيه
سفيان الثوري: إذا أردت أن تتزوج فأهد للأم.
ميمون بن مهران: إذا كانت حاجتك إلى كاتب فليكن رسولك إليه الطمع.
النبي صلى الله عليه وسلم : الهدية تجلب السمع والبصر والقلب.
أبو العالية: إذا دخلت الهدية صر الباب وضحكت الأسكفة.
كان ابن عباس يروي: من أهديت إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها. فأهدى إليه صديق ثياباً من ثياب مصر، وعنده قوم، فذكر الخبر فقال: إنما ذلك فيما يؤكل ويشرب، أما في ثياب مصر فلا.
كعب الأحبار: قرأت فيما أنزل الله على أنبيائه الهدية تفقاً عين الحكيم.
وفي نوابغ الكلم: إن البراطيل تنصر الأباطيل.
شفع مسروق لرجل شفاعة، فأهدى له جارية، فغضب وقال: لو علمت أن في نفسك هذا ما تكلمت فيها، ولا أتكلم فيما بقي منها أبداً، سمعت ابن مسعود يقول: من شفع شفاعة ليرد بها حقاً، أو يدفع بها ظلماً فأهدي له فقبل بذلك السحت. قالوا: ما كنا نرى السحت إلا الأخذ علىالحكم. قال: الأخذ على الحكم كفر.
كان شقيق يقول لجاريته: يا بركة، إن جاءك أصحابي بشيء فخذيه إن جاءك يحيى بشيء فرديه. وكان يحيى ابنه قاضياً على الكناسة.
كتب الحمدوني إلى جارية اسمها برهان وقد حج مواليها:
حجوا مواليك يا برهان واعتمروا ... وقد أتتك الهدايا من مواليك
فأطرفيني مما أطرفوك به ... ولا تكن طرفتي غير المساويك
ولست أقبل إلا ما جلوت به ... ثنيتيك وما رددت في فيك
كان إبراهيم بن أدهم إذا أهدي إليه شيء لم يرده، وكأفأ بمثليه، فإذا لم يجد إلا ثوبه خلعه.
شربت الزريقاء جارية ابن رامين الدواء، فأهدى لها ابن المقفع ألف دراجة على جمل قراسية.
عمر رضي الله عنه: لا تولوا اليهود والنصارى، فإنهم يقبلون الرشى، ولا تحل في دين الله الرشى. قال الرشيدي: فأصحابنا اليوم أقبل للرشى منهم.
أبو إدريس الخولاني: قال موسى عليه السلام: يا رب، من يسكن حضيرة القدس؟ قال: الذين لا ينظرون بأعينهم في الزنا، ولا يضعون أموالهم في الربا، ولا يأخذون في حكم الله الرشى.
شاعر:
إذا أتت الهدية دار قوم ... تطايرت الأمانة من كواها
الهدية أجلها أقلها، وأشفها أخفها.

لقلة الهدية معنيان يوحيان القبول، وإن كان لك عند المهدي يد فلا تستنقصها لمزيده، وإن كان مبتدئاً فالتفضل لا يستقل.
شاعر:
تفضل بالقبول علي إني ... بعثت بما يقل لعبد عبدك
كاتب: هذا يوم جرت فيه العادة بإلطاف العبيد السادة، وقدر الأمير يجل عما تحيط به المقدرة، وفي سؤدده ما جل، ولا يستقل لعبده ما قل، فإن رأى أن يتطول بقبول القليل تطوله بإهداء الجزيل فعل.
شاعر:
رأيت كثير ما يهدي قليلا ... لعبدك فاقتصرت على الدعاء
بعث إبراهيم بن المهدي بجراب ملح وجراب أشنان إلى المأمون وكتب: قصرت البضاعة عن بلوغ الهمة، وكرهت أن تطوى صحيفة البر خالية من الذكر، فبعثت بالمبدوء لبركته، وبالمختوم به لنظافته.
كان كل واحد من أبي صالح كاتب الرشيد، وسعدان بن يحيى كاتب زبيدة صاحب مصانعات. فدخل الرشيد يوماً عليها فقال: أما سمعت ما قيل في كاتبك:
صب في قنديل سعدا ... ن مع التسليم زيتا
وقناديل بنيه ... قبل أن يخفي الكميتا
إن سعدان بن يحيى ... قد بنى للقمط بيتا
قالت: ما قيل في كاتبك أشنع، فأنشدته:
قنديل سعدان على ضوئه ... فرخ لقنديل أبي صالح
تراه في مجلسه أحولاً ... من لمحه للدرهم اللائح
فاستحي الرشيد. ومن ثم قيل: صب في قنديله زيتاً إذا رشاه.وسمو المصانعة قندلة، كما تسمى البرطلة. قال:
إذا ما صب في القنديل زيت ... تحولت القضية للمقندل
فبرطل إن أردت الأمر يمشي ... فما يمشي إذا ما تبرطل
وقال ابن لنكك:
أراكم تقلبون الحكم قلباً ... إذا ما صب زيت في القنادل
متابعة الأرطال تبطل سورة الأبطال، مثل فيمن ارتشى فسكن.
في بعض الحديث: استدروا الهدايا برد الظروف، إن حبس الظرف ليس من الظرف.
كتب إبراهيم بن المهدي إلى أخ له: لو كانت التحفة على حسب ما يوجبه حقك لأجحف بنا أداء حق من حقوقك، ولكنها على حسب من يخرج من الوحشة، ويوجب الأنس. والسلام.
قدم علي بن عيسى بن ماهان على الرشيد من خراسان، فسأله أن يركب مع خواصه إلى الميدان لينظر إلى هداياه. وقد أمر علي بكنس الميدان وفرشه بالآس والرياحين، وأقام في أحد جانبيهأربعة آلاف غلام تركي، وعليهم اللباس المرتفع والمناطق المعرقة بالفضة، وبيد كل واحد شهري من فره الدواب، كلها مجللة مبرقعة بالديباج، وعلى رأس كل غلام عمامة من جنس لباسه. وفي الجانب الآخر أربعة آلاف وصيفة تركية، عليهن الديباج والمناطق المعرقة بالذهب، مسبلات الشعور، على كل واحدة تخت ثياب الملحم الفاخر وغيره. وقد بسط في صدر الميدان بسط عليها الأنطاع صبت عليها الأموال حتى صارت جبلاً عظيماً، وبحذائها نوافج المسك مثلها.
فلما رجع (الرشيد) فنزل قال: يا جعفر أين كنا عن هذه الأموال قال: يا أمير المؤمنين، أسرك أن أخذ علي بن عيسى أموال الفقراء والأرامل وجاءك بها ناراً يتقرب بها إليك؟ والله لتعلمن إذا وضحت الأمور أنك تستوخم فائدتها، ولتنفقن بدل كل درهم ديناراً. ثم لا تنجو.
فقال موسى الهادي: عادلت الرشيد حين خرج إلى خراسان، فتنفس تنفسة كادت نفسه تخرج، ثم قال: لله جعفر بن يحيى! وذكر كلمته، وقال: كانت أقوى الأسباب في تغيري للبرامكة. وقد والله أنفقت بدل كل درهم ديناراً، وأراني لا أنجو.
أهدى معاوية إلى الدؤلي هدية فيها حلوى، فقالت ابنته: ممن هذا يا أبه؟ فقال: هذا من معاوية، بعث بها يخدعنا عن ديننا. فقالت:
أبالشهد المزعفر يا ابن حرب ... نبيع عليك أحساباً ودينا
معاذ الله كيف يكون هذا ... ومولانا أمير المؤمنينا
بلغ الحسن بن عمارة أن الأعشى يقع فيه ويقول: ظالم ولي الظالم. فأهدى إليه. فمدحه الأعشى بعد ذلك وقال: الحمد لله الذي ولى علينا من يعرف حقوقنا. فقيل له: كنت تذمه ثم مدحته. فقال: إن خيشمة حدثني عن عبد الله أن رسول الله قال: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
أهديت لقتادة نعل رقيقة، فقال: تعرف عقل الرجل بسخف هديته.
عبد الملك بن مروان: ثلاثة أشياء تدل على مقدار عقول أربابها:

الكتاب يدل على مقدار عقل كاتبه، والرسول يدل على مقدار عقل مرسله، والهدية تدل على مقدار عقل مهديها.
كان يقول: أهدوا إلى الولاة فإنهم إن يقبلوا أحبوا.
لم يرتش حكم في الجاهلية غير ضمرة بن ضمرة النهشلي، تنافر إليه عبادة بن أنف الكلب الصيداوي ومعبد بن نصلة الفقعسي، فرشاه عبادة مائة بعير، فنفره على معبد.
الأصمعي: وقفت في البدو على شيخ محتب بعقل يقضي بين أهل الحلة بالحق، فقلت: يا أعرابي، هل نظرت في الفقه؟ فقال: وما الفقه قلت: فما هذه الإصابة قال: تنوي الخير وتقول ويوفق الله. فقلت: فهل تميل مع أحد الخصمين لجعل؟ فضحك وقال: إذاً لا ينزل التوفيق.
الحسن: كان القاضي في بني إسرائيل إذا اختصم إليه الخصمان رفع أحدهما الرشوة في كمه فأراها إياه، فلا يسمع إلا قوله. فأنزل الله قوله: سماعون للكذب أكالون للسحت.
أهدى عمر بن جوي وكان على الري إلى اسحاق بن سعيد بن عمارة الكلاعي وهو على مصر فقال:
وإن امرءً أهدى إلي ودونه ... لكل بريد مسرع ألف فرسخ
لمستوجب نصحي ومحض مودتي ... وانزاله في القلب منزلة الأخ
أهدى عمرو بن مسعدة الكاتب إلى المأمون فرساً، وكتب إليه:
يا أماماً لا يدا ... نيه إذا عد إمام
فضل الناس كما يف ... ضل نقصاناً تمام
قد بعثنا بجواد ... مثله ليس يرام
فرس يزهى به لل ... حسن سرج ولجام
دونه الخيل كما دو ... نك في الفضل الأنام
وجهه صبح ولكن ... سائر الخلق ظلام
والذي يصلح لل ... مولى على العبد حرام
عبد الوهاب بن رؤبة بن العجاج تعذرت عليه حاجة فرشا دراهم فقضيت له، فقال:
لما رأيت الشفعاء بلدوا ... وسألوا أميرهم فأنكدوا
نامستهم برشوة فأقردوا ... وسهل الله بها ما شددوا
أنشد المبرد:
وكنت إذا خاصمت خصماً كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم
فلما تنازعنا الخصومة غلبت ... علي وقالت قم فإنك ظالم
غيره:
إذا توسلت إلى حاجة ... فبالرشى فهي رشاء النجاح
ولا تؤمل غيرها شافعاً ... فكل ما دون الرشى كالرياح
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة، فأهدى له خارجة بن زيد بن ثابت ألف عذق موز، وألف قرعة عسل أبيض، وألف شاة، وألف دجاجة، ومائة أوزة، ومائة جزور. فقال سليمان: أجحفت بنفسك يا خارجة، قال: يا أمير المؤمنين، قدمت بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت في أهل بيتي مالك بن النجار، ثم سأل عن دينه فقيل خمسة وعشرون ألف دينار، فقضاها عنه وأعطاه عشرة آلاف دينار.
لما خرج الأحنف مع مصعب أرسل إليه مائة ألف درهم، فجلست زبراء جاريته بين يديه وأرسلت عينها. فقال: ما يبكيك؟ قالت: مالي لا أبكي عليك إذا لم تبك على نفسك؟ بعد نهاوند ومر الروذ صرت تجمع بين غارين من المسلمين؟ قال: نصحتني والله في ديني إذ لم أنتبه لذلك، وأمر بفساطيطه أن تقوض.
فبلغ ذلك مصعباً فقال: من دهاني في الأحنف؟ قيل: زبراء. فبعث إليها بثلاثين ألفاً، فجلست بين يديه وأرخت عينها. قال: مالك يا زبراء؟ قالت: جئت بإخوانك من البصرة تزفهم رف العروس، حتى إذا صيرتهم في نحور أعدائهم أردت أن تفت في أعضادهم وتشمت بهم! قال: صدقت. يا غلام رد المضارب مكانها.
أهدى عثمان لعائشة هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ابعثي منها إلى النسوة. قالت: ما من واحدة إلا وقد أتاها مثلها، فقال: اللهم لا تنساها لعثمان.
أهدى معاوية إلى سعيد بن العاص يوم النيروز كسى كثيرة، وآنية ذهب وفضة. فقال للرسول: ما قدرت لنفسك في طريقك فخذه، ثم فرق سائرها على أصحابه، ولم يأخذ إلا ثوباً واحداً.
عن نافع عن ابن عمر كانت تأتيه جوائز المختار فيأخذها.
أهدى ملك الروم إلى المأمون، فقال: اهدو له ما يكون مائة ضعف، ليعلم عز الإسلام ونعمة الله علينا به. ثم قال: ما أعز الأشياء عندهم؟ قالوا: المسك والسمور. قال: وكم في الهدية منهما؟ قالوا: مائتا رطل، ومائتا جلد. قال زيدوهم مثل ذلك.

اليأس، والقناعة، والرضا والتوكل

والتفويض إليه، والنزاهة عن المطمع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبة وسواء ابني خالد: لا تيأسا من روح الله ما تهزهزت رؤوسكما، فإن أحدكم يولد أحمر لا قشر عليه ثم يكسوه الله ويرزقه.
وعنه عليه الصلاة والسلام: القناعة مال لا ينفد.
حدث الأعمش عن أبي وائل قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان الفارسي، فجلسنا عنده فقال: لولا أن رسول الله نهانا عن التكلف لتكلفت لكم، ثم جاء بخبز وملح ساذج لا أبزار عليه، فقال صاحبي: لو كان في ملحنا صعتر. فبعث سلمان بمطرته فرهنها على الصعتر. فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي أقنعنا بما رزقنا. فقال سلمان: لو قنعت بما رزقك الله لم تكن مطهرتي مرهونة.
لقمان الحكيم: كفى بالقناعة عزاً، وبطيب النفس نعيماً.
عيسى عليه السلام: اتخذوا البيوت منازل، والمساجد مساكن، وكلوا من بقل البرية، واشربوا من الماء القراح، واخرجوا من الدنيا بسلام.
عباد بن منصور: كان بالبصرة من هو أفقه من عمرو بن عبيد وأفصح، ولكنه أصبر عن الدرهم والدينار، فساد أهل البصرة.
قال له خالد بن صفوان: لم لا تأخذ مني؟ قال: لا يأخذ أحد من أحد إلا ذله، وأنا أكره أن أذل لغير الله. وكان معاشه من دار غلتها كل شهر دينار.
كان الناس يكسبون الرغائب بعلم الخليل، وهو فيما بين أخصاص البصرة لا يلتفت إلى الدنيا ولا يطلبها.
سأل ابن سيرين عن أرخص ما يباع في السوق، فقيل: السمك الصغار. فقال: اجعلوا أدمي منه.
وهب: أرملت مرة حتى كدت أقنط، فأتاني آت في المنام ومعه شبه لوزة، فقال: افضض، ففضضتها فإذا حريرة فيها ثلاثة أسطر: لا ينبغي لمن عقل عن الله أمره، وعرف لله عدله، أن يستبطئ الله في رزقه. ثم أعطاني فأكثر.
قيل للحسن: إن أبا ذر كان يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة. فقال الحسن: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن الاختيار من الله لم يتمن أنه في غير الحال التي اختارها الله له.
العمري: انقطعتم إلى غير الله فما ضيعكم، فإن انقطعتم إلى الله خفتم الضيعة.
في بعض الكتب: يقول الله: يا ابن آدم، أتخاف أن أقتلك بطاعتي هزلاً وأنت تتفتق بمعصيتي سمناً؟ قيل لأبي حازم: ما مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس. وروى شيئان لا عيلة علي معهما: الرضا عن الله والغنى عن الناس.
العمري: يا ابن آدم، الطير لا يأكل رغداً، ولا يخبئ لغد، وأنت تأكل رغداً، وتخبئ الغد. فأحسنت الطير الظن بالله، وأسأت ظنك بالله.
حبس عمر بن عبد العزيز الغداء على مسلمة حتى برح به الجوع ثم دعا بشربة سويق فسقاه، حتى إذا انتفخ بطنه دعا بالغداء، فلم يقدر على الأكل. فقال: يا مسلمة، أما يكفيك من الدنيا ما ترى؟ قال: بلى، قال: فعلام التهافت في النار؟ وروي: التقحم.
أنشد المبرد:
إن ضن يحيى بما في بطن راحته ... فالأرض واسعة والرزق مبسوط
إن الذي قدر الأرزاق حكمته ... لم ينسني قاعداً والرحل محطوط
عبد الواحد بن زيد: ما أحسب شيئاً من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا، ولا أعلم درجة أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة.
قال ابن شبرمة في محمد بن طارق: لو أن أحداً اكتفى بالتراب لاكتفى به.
أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: قل لعبادي المستخطين لرزقي: إياكم أن أغضب فأبسط عليكم الدنيا.
قالت رابعة لسفيان: أترى الله عليك غضبان؟ قال: لا أدري، قالت: ومن أعلم بذلك منك؟ أنظر إن كنت عنه راضياً فهو عنك راض.
قيل: متى يكون العبد راضياً عن ربه؟ قالت: إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة.
كان عبد الله بن مرزوق من ندماء المهدي، فسكر يوماً ففاتته الصلوات فجاءت جارية بجمرة فوضعتها على رجله، فانتبه مذعوراً، فقالت له: لم تصبر على نار الدنيا، فكيف تصبر على نار الآخرة؟ فقام فصلى الصلوات، وتصدق بما معه، وذهب يبيع البقل.
فدخل عليه فضيل وابن عيينة، فإذا تحت رأسه لبنة وما تحت جنبه شيء، فقالا: إنه لم يدع أحد شيئاً إلا عوضه الله منه بدلا، فما عوضك مما تركت له؟ قال: الرضا بما أنا فيه.

إبراهيم التيمي: اشترى أبي عبيداً بأربعة آلاف درهم من البصرة فبنوا له داره، ثم باعهم بربح أربعة آلاف درهم. فقلت له: لو عدت إلى البصرة فاشتريت مثل هؤلاء فربحت. فقال يا بني، ما فرحت بذلك حين أصبته، ولا حدثتني نفسي بإصابة مثله.
أصابت داود الطائي ضيقة شديدة، فجاءه حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركه أبيه، فقال: هي من مال رجل ما أقدم عليه أحداً في زهده وورعه وطيب كسبه، ولو كنت قابلاً من أحد شيئاً لقبلتها إعظاماً للميت وإيجاباً للحي، ولكن أحب أن أعيش في عز القناعة.
الثوري: ما وضع أحد يده في قصعة غيره إلا ذل له.
وعنه: لم يفقه عندنا من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة.
مسعر بن كدام: من صر على الخل والبقل لم يستعبد.
فضيل: أصل الزهد الرضا عن الله، ألا تراه كيف يصنع بعبده كما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها؟ تطعمه مرة صبراً، ومرة خبيصاً، تريد بذلك ما هو أصلح له.
وعنه: من رضي بما قسم الله له بارك الله له فيه ووسعه، ومن لم يرض لم يبارك له فيه ولم يوسعه.
في التوراة: يا ابن آدم، أطعني فيما أمرتك، ولا تعلمني ما يصلحك.
إبراهيم بن أدهم كان من أهل النعم بخراسان، وأصله من بني عجل، فبينما هو مشرف من أعلى قصره إذ نظر إلى رجل في فيء قصره، أكل رغيفاً وشرب عليه ماءً ثم نام. فقال: ما أصنع بالدنيا والنفس تقنع بما رأيت؟ فخرج سائحاً إلى الله تعالى.
أقبل عليه رجل أثر السفر فقال: أنا غلامك بعثني إخوتك ومعي عشرة آلاف دينار وفرش وبغلة، فقال له: إن كنت صادقاً فأنت حر، وما معك لك، اذهب ولا تخبر به أحداً.
من باع الحرص بالقناعة فقد ظفر بالغنى.
رويم البغدادي: الصبر ترك الشكوى، والرضا استلذاذ البلوى.
المحاسبي: من استغنى بشيء دون الله فقد جهل قدر الله تعالى.
عيسى عليه السلام: الشمس في الشتاء صلائي، ونور القمر سراجي، وبقل البرية فاكهتي، وشعر الغنم لباسي، أبيت حيث يدركني الليل، ليس لي ولد يموت، ولا بيت يخرب، أنا الذي كببت الدنيا على وجهها.
شاعر:
إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يلق في ظلها هماً يؤرقه
عليه السلام: أكل من تمر دقل، ثم شرب عليه الماء وضرب على بطنه فقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله، ثم تمثل:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
الحسن: الحريص الراغب والقانع الزاهد كلاهما مستوف أكله، غير مزداد ولا منتقص مما قدر له، فعلام التهافت في النار؟ جابر رفعه: لا تستبطؤا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغه آخر رزق هو له، فاجملوا في الطلب، أخذ الحلال وترك الحرام.
ابن عمر رفعه: أجملوا في الطلب، فوا الذي بعثني بالحق إن الرزق ليطلب أحدكم كما يطلبه الموت.
ابن مسعود رفعه: ليس أحد بأكيس من أحد، فقد كتب له النصيب والأجل، وقسم المعيشة والعمل، فالناس يجرون فيهما إلى منتهى.
عيسى عليه السلام: انظروا إلى طير السماء، تغدو وتروح، وليس معها شيء من أرزاقها، لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن زعمتم أنكم أكبر بطوناً من الطير، فهذه الوحوش من البقر والحمر لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها.
سويد بن غفلة إذا قيل: قد ولي فلان، قال: حسبي كسرتي وملحي.
وفد عروة بن أذنية على هشام بن عبد الملك. فقال: ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني
كأن حظ امرئ غيري سأبلغه ... لا بد لا بد أن يجتازه دوني
وقد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق؟ يا أمير المؤمنين وعظت فأبلغت، فخرج فركب ناقته ونصها إلى الحجاز راجعاً.
فلما كان من الليل تعار هشام على فراشه، فذكر عروة فقال: رجل من قريش قال حكمة ووفد علي فجبهته ورددته. ووجه إليه ألفين، فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة وأعطاه المال. فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له: كيف رأيت قولي؟ سعيت فأكديت، فرجعت فأتاني رزقي في منزلي.
عمر رضي الله عنه: تعلموا أن الطمع فقر، وأن اليأس غنى، وأن المرء إذا يئس من شيء استغنى عنه.

أنس: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث طوائر، فأطعم خادمه طائراً فلما كان من الغد أتته به، فقال لها: ألم أنهك أن ترفعي شيئاً لغد؟ فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد.
عبد الله بن عمر رفعه: لقد أفلح من أسلم، ورزقه الله كفاقاً، وقنعه الله تعالى بما آتاه.
مالك بن دينار: لما بعث الله عيسى بن مريم كب الدنيا على وجهها، ثم رفعها الناس حتى بعث الله تعالى محمداً فكب الدنيا على وجهها، ثم رفعناها بعد، فما لقينا منها؟ سليمان عليه السلام: كل العيش قد جربنا لينه وشدته، فوجدنا يكفي منه أدناه.
اشترى عمر بن عبد العزيز عنباً بدانقين فأكله هو وامرأته فاطة بنت عبد الملك بن مروان، فقال: يا فاطمة، كان يأتي أهلك منه أوقار البغال، فلم يكن ينالنا ما أكلنا من هذين الدانقين.
لقمان: يا بني، اجعل همك فيما خلقت له، ولا تجعل همسك فيما كفيته.
في وصيى علي عليه السلام: وألجيء أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز.
وفيها: وأعلم علماً يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، فإنك في سبيل من كان قبلك. فأحسن في الطلب، وأجعل في المكتسب، فإنه رب طلب جر إلى حرب، وليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم.
وفيها: وقد يكون اليأس إدراكاً، إذا كان الطمع هلاكاً.
ولي عبد الله بن عامر العراق، فقصده صديقان له أنصاري وثقفي، فلما سارا تخلف الأنصاري وقال: الذي أعطى ابن عامر العراق قادر أن يعطيني. ووفد الثقفي وقال: أحرز الحظين. فلما دخل قال له: ما فعل زميلك الأنصاري؟ ووصله بأربعة آلاف دينار، ووصل الأنصاري بضعفها. فخرج الثقفي وهو يقول:
أمامة ما حرص الحريص بنافع ... فعفتي ولا زهد القنوع بضائر
خرجنا جميعاً من مساقط روسنا ... على ثقة منا بجود ابن عامر
فلما أنخنا الناعجات ببابه ... تخلف عنا اليثربي ابن جابر
وقال ستكفيني عطية قادر ... على ما يشاء اليوم للخلق قاهر
فإن الذي أعطى العراق ابن عامر ... لربي الذي أرجو لسد مفاقري
فقلت خلا لي وجهه ولعله ... سيجعل لي حظ الفتى المتزاور
فلما رآني سال عنه صبابة ... إليه كما حنت ظؤور الأباصر
فأبت وقد أيقنت أن ليس نافعاً ... ولا ظائراً شيء خلاف المقادر
حين حج الرشيد ماشياً أعياه المشي يوماً، فاستلقى على قفاه في ظل ميل، فوقف عليه من قال له:
وما تصنع بالدنيا ... وظل الميل يجزيك
عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب. ولا تستخلعي ثوباً حتى ترقعيه، وإياك ومجالسة الأغنياء.
الحسن: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وكان يخطب في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، فإذا خرج عطاؤه تصدق به، وأكل من سفيف يده.
جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخزائن الدنيا كلها على بغلة شهباء، فقال له: هذه الدنيا خذها، ولا ينقصك حظك عند الله بها شيئاً، فقال يا جبريل، لا حاجة لي فيها، يا جبريل، جوعتين ويريد بنا الردى.
وجد مكتوباً على حائط: يا ابن آدم، ما أنت ببالغ أملك، ولا بسابق أجلك، ولا بمغلوب على رزقك، ولا بمرزوق ما ليس لك، فعلام تقتل نفسك؟ قال زاهد لصبيانه يرزقكم الله الذي يرزق العصافير في الدو.
صالح المري: تغدو الطير خماصاً، وتروح بطاناً، واثقة بأن لها في كل غدوة رزقاً لا يفوتها. والذي نفسي بيده إنكم لو غدوتم إلى أسواقكم على مثل إخلاصها رجعتم وأنتم أبطن من بطون الحوامل.
أنشد الجاحظ للحسين بن الضحاك:
يا روح من حسمت قناعته ... سبب المطامع في غد وغد
من لم يكن لله متهماً ... لم يمس محتاجاً إلى أحد
أوحي إلى موسى عليه السلام: أ تدري لم رزقت الأحمق؟ قال: لا يارب، قال ليعلم أن الرزق ليس بالاحتيال.
وهب بن منبه في قوله تعالى: لنحيينه حياة طيبة، قال: القناعة.
أنشد حماد لبعض العرب:
ولا تجزع إذا أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في زمن طويل

ولا تظنن بربك سوء ظن ... فإن الله أولى بالجميل
وإن العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كل قيل
فلو أن العقول تسوق رزقاً ... لكان المال عند ذوي العقول
قال الله تعالى ليوسف عليه السلام: أنظر إلى الأرض، فانفرجت فرأى ذرة على صخرة معها الطعام، فقال: أتراني لم أغفل عنها وأغفل عنك وأنت نبي بن نبي بن نبي.
قال عيسى عليه السلام للحواريين: أنتم أغنى من الملوك. قالوا: كيف؟ قال: لأنكم لا تطلبون وهم في الطلب.
دخل علي عليه السلام المسجد، وقال لرجل: أمسك على بغلتي.
فخلع لجامها وذهب به. وخرج علي وفي يده درهمان ليكافئه فوجدها عطلاً، فركبها ومضى، فأعطى غلامه الدرهمين ليشتري بها لجاماً، فوجد الغلام اللجام في السوق وقد باعه السارق بدرهمين. فأخذه بالدرهمين. فقال علي: إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قدر له.
قيل لراهب: من أين تأكل؟ فأشار إلى فمه وقال: من خلق هذه الرحى أتاها بالطحين.
عاتب الفضل بن الربيع علي بن الهيثم كاتبه يوماً على تأخره فقال:
أظن والظنون قد تعدى ... أني لا أصيب منه بدا
أعد منه ألف يد عدا
وانصرف ولم يعمل للسلطان بعد ذلك.
أبو شراعة القيسي:
إن الغنى عن لئام الناس مكرمة ... وعن كرامهم أدنى إلى الكرم
ذو الحرق الطهوي:
ولما أتاني تغلب قد نبت به ... لقاح بني أرطاة قلت لتغلب
إذا حدثتك النفس أنك قادر ... على ماحوت أيدي الرجال فجرب
سليمان بن المهاجر البجلي:
كسوت جميل الصبر وجهي فصانه ... به الله عن غشيان كل بخيل
فلم يبتذل وجهي بخيل ولم أقم ... على بابه يوماً مقام ذليل
وإن قليلاً يستر الوجه أن يرى ... إلى الناس مبذولاً لغير قليل
عميرة بن طارق التميمي:
ولا تعذليني إن رأيت معاشراً ... لهم نعم دثر وأن كنت مصرما
متى ما نكن في الناس نحن وهم معاً ... نكن منهم أكسى جنوباً وأطعما
قال العلاء بن زياد لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصماً، لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال علي به، فقال له: يا عدي نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك! قال: ويحك! أني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يبيغ بالفقير فقره.
وعنه: إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله في نفسه فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله أكرم وأعظم من الكثير من غيره. ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس.
وعنه: يا ابن آدم، لا تحمل يومك الذي لم يأتك على يومك الذي قد أتاك، فإنه إن يكن من عمرك يأت الله فيه برزقك.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم: بقيت في عظم المؤونة، أحتاج في غدائي إلى شاة، وفي عشائي إلى شاة، تلبس امرأتي في حيضها القوهي، وفي طهرها الشطوي. فقال إبراهيم: ما أتي أهلك إلا من قبلك، لو اقتصرت لاقتصروا. فأصبح الرجل صائماً وأفطر على فول بدانق. فأخبر إبراهيم أن امرأته تلبس في طهرها الزطى.
ورث داود الطائي من أبيه داراً ودنانير، فكان كلما خرب في الدار بيت انتقل إلى غيره ولم يعمره، ولم يزل يتقوت بالدنانير حتى كفن في آخرها.
وقف الملك على سقراط وهو في المشرقة قد أسند ظهره إلى حب كان يأوى إليه، فقال: سل حاجتك. قال: حاجتي أن تزيل عني ظلك فقد منعني المرفق في الشمس. فدعا له بذهب وبكسى فاخرة من الديباج والقصب، فقال: ليس بسقراط حاجة إلى حجارة الأرض وهشيم النبت ولعاب الدود. إن حاجته إلى شيء يكون معه أنى توجه.
إبراهيم بن متمم بن نويرة:
ولا تهلكن النفس لوماً وحسرة ... على الشيء سداه لغيرك قادره
ولا تيأسن من صالح أن تناله ... وإن كان شيئاً بين أيد تبادره
وأنك لا تعطي أمرءً حظ غيره ... ولا تمنع الشق الذي الغيث ناصره

صلى معروف خلف إمام، فلما انفتل قال له: من أين تأكل؟ قال: أصبر حتى أعيد ما صليت خلفك، قال: ولم؟ قال: لأن من شك في رزقه شك في خالقه.
أبو حازم: ما لم يكتب لي لو ركبت ذنب الريح ما أدركته.
التقى عبد الرحمن بن عوف وأبو ذر الغفاري، فقبل عبد الرحمن ما بين عيني أبي ذر لكثرة سجوده، وقبل أبو ذر يمين عبد الرحمن لكثرة صدقته. فلما افترقا بعث عبد الرحمن إليه ببدرة، وقال لغلامه: إن قبلها منك فأنت حر. فأبى أن يقبلها، فقال الغلام: اقبل رحمك الله فإن في قبولها عتقي، فقال أبو ذر: إن كان عتقك فيه ففيه رقي، ورده.
وجد مكتوباً على حائط مدني:
نعم الصديق صديق لا يكلفنا ... ذبح الفراخ ولا شي الفراريج
يرضى بلونين من كشك ومن عدس ... فإن تشهى فزيتون بطسوج
قال علي لعمر رضي الله عنهما: إن سرك أن تلحق بصاحبك فأقصر الأمل، وكل دون الشبع، وانكس الإزرار، وارفع القميص، واخصف النعل، تلحق بهما.
أبو صالح: حدثت أبا زيد النحوي بقول ابن عباس: ما رضي الله الناس بشيء من أقسامهم كما رضاهم بأوطانهم. فقال: بلى والله، وبأحسابهم، قلت: كيف؟ قال: تراه من عكل أو سلول أو محارب وهو يفاخر، وهو قوله تعالى: كل حزب بما لديهم فرحون. وقد افتخر الحائك بحياكته فقال:
وما أنا خياط أخرق اصبعي ... ويشغلني التغضين عبد الطبائب
ولكنني ضراب حقة حائك ... ورام لسهم أسود الرأس صائب
وقال الأول:
كل امرئ في نفسه ... أعلى وأشرف من قرينه
وقال الجاحظ: إن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم في مصالحهم، ولولا ذلك لاختاروا كلهم الملك والسياسة أو التجارة والفلاحة، وفي ذلك ذهاب المعاش وبطلان المصلحة. فكل صنف من الناس مزين لهم ماهم فيه، فالحائك إذا رأى من صاحبه تقصيراً أو خرقاً قال: يا حجام، والحجام إذا رأى مثل ذلك من صاحبه قال: يا حائك. فأراد الله تعالى أن يجعل الاختلاف سبباً للائتلاف، فسبحانه من مدبر.
وترى البدوي في بيت من قطعة كساء معمد بعظام الجيف مع كلبه، لباسه شعلة من وبر أو شعر، ودواؤه بول الإبل، وطيبه القطران وبعر الظبي، وحلي امرأته الودع، وثماره المقل، وصيده اليربوع، في مفازة لا يسمع فيها إلا تنئيم بومة وزقاء هامة وعواء ذئب، وهو راض بذلك مفتخر به.
عمر بن أبي عمر النوفاني:
غلا السعر في بغداد من بعد رخصه ... وإني في الحالين بالله واثق
فلست أخاف الضيق والله واسع ... غناه ولا الحرمان والله رازق
التهستاني:
غني بلا دنيا عن الناس كلهم ... وإن الغنى إلا عن الشيء لا به
العمركي:
نظرت فلما لم أر الناس كالناس ... أمت رجائي واسترحت إلى اليأس
الحارث النجراني:
صبرت النفس لا أهل ... لع من حادثة الدهر
رأيت الرزق لا يك ... سب بالعرف ولا النكر
ولا بالعقل والدين ... ولا بالجاه والقدر
ولا بالسلف الأم ... ثل أهل الفضل والذكر
ولا بالسمر اللو ... ن ولا بالقضب البشر
ولا يدرك بالطيش ... ولا الجهل ولا الهذر
ولكن قسم تجري ... بما ندري ولا ندري
قيل لعلي عليه السلام: لو سدت على رجل باب بيت وترك فيه من أين يأتيه رزقه؟ قال: من حيث يأتيه أجله.
وعنه عليه السلام: ولقد كان في رسول الله كاف لك في الأسوة، ودليل على ذم الدنيا وكثرة مساوئها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها.
وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله إذ يقول: إني لما أنزلت إلي من خير فقير. والله ما سأله إلا خبزاً يكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذب لحمه.
وإن شئت ثلثت بداود صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة، فقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها؟ ويأكل قرص الشعير من ثمنها.

وإن شئت قلت في عيسى بن مريم، فلقد كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم. ولم تكن له زوج تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه.
فتأس بنبيك، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله أبغض شيئاً فأبغضه، وصغر شيئاً فصغره. ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله، وتعظيمنا ما صغر الله لكفى به شقاقاً لله ومحادة عن أمره.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العري، ويردف خلفه. ويكون الستر على باب بيته فيه التصاوير، فيقول: يا فلانة غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها. فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن يغيب زينتها عن عينه. ولقد كان لك في رسول الله ما يدلك على مساوئها وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله أ أكرم الله محمداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال أهانه، فقد كذب والعظيم، وإن قال أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزوايا عن أقرب الناس إليه. خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً. ثم يضع حجراً على حجر، فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم به علينا سلفاً نتبعه، وقائداً نطأ عقبه! والله لقد وقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: أغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السري.
جاء فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة فلم يجد عندهم شيئاً للعشاء وهم بغير سراج، فجلس ليله يبكي من الفرح، يقول: بأي يد كانت مني؟ بأي شيء يترك مثلي على هذه الحال؟ لما لقي هرم أويسا قال: السلام عليك يا أويس بن عامر، قال: وعليك السلام يا هرم بن حيان. قال هرم: أما أني عرفتك بالصفة، فكيف عرفتني؟ قال: أرواح المؤمنين تشام كما تشام الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. قال: أوصني، قال: عليك بالأسياف، يعني السواحل، قال: فمن أين المعاش؟ قال: أف، خالط الشك الموعظة، أتفر إلى الله بدينك وتتهمه في رزقك؟ اليأس واقع والرجاء بلاقع.
منصور الفقيه:
الموت أسهل عندي ... بين القنا والأسنه
والخيل تجري سراعاً ... مقطعات الأعنه
من أن يكون لنذل ... علي فضل ومنه
طلبت الرزق في مظانه فأعياني رزقي إلا يوماً بيوم.
عمر بن عبد العزيز في خطبته: أيها الناس، إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فاجملوا في الطلب.
وقع ذو الرياستين: أجمل في الطلب تكفك المقادير، ما هو كائن لك أتاك على ضعفك وما هو عليك لم تدفعه بقوتك.
أنشد ابن الأعرابي:
أبا مالك لا تسأل الناس والتمس ... بكفيك رزق الله فالله أوسع
فلو تسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
أعرابي:
أ تيأس أن يقارنك النجاح ... فأين الله والقدر المتاح
قال رجل لرسول الله صلوات الله عليه وسلامه: أوصني، فقال: عليك باليأس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر.
إذا وجدت الشيء في السوق فلا تطلبه من صديق.
عبد الأعلى القاص: المؤمن ثوبه علقه، ومرقته سلقة، وسمكته شلقة، وخبزته فلقة.
قيل لأعرابية: من أين معاشكم؟ فقالت: لو لم نعش إلا من حيث نعلم لم نعش.
أعرابي: أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك، ولا يحقرك بها من فوقك.
المعري:
إذا كنت تبغي العيش فابغ توسطاً ... فعند التناهي يقصر المتطاول
توفى البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل
أعرابي: استظهر على الدهر بخفة الظهر.
أصيب أعرابي ببعير لم يكن له غيره، فقال: يا رب اصنع ما شئت فإن رزقك عليك.
قيل لرابعة: ألا نكلم السلطان يصلح منزلك؟ فقالت: والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟ حجت أعرابية على ناقة لها، فقيل لها: أين زادك؟ فقالت: ما معي إلا ما في ضرعها.
قال رجل لابن سيرين: ما فعلت بغلتك؟ قال: بعتها، قال: ولم؟ قال: لمؤونتها، قال: أفتراها خلقت ورزقها عندك؟

النبي صلى الله عليه وسلم : لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً.
خالد بن صفوان: كن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً أقل ما تكون في الباطن مالاً، فإن الكريم من كرمت عند الحاجة خلته، واللئيم من لؤمت عند الفاقة طعمته.
دخل رجل على خالد بن عبد الله القسري، فقال: أيها الأمير، أكلمك بجرأة اليأس أم بهيبة الأمل؟ فقال: بل بهيبة الأمل، فأكرمه وقضى حاجته.
هشام بن إبراهيم البصري:
وكم ملك جانبته عن كراهة ... لإغلاق باب لتشديد حاجب
ولي في غنى نفسي مراد ومذهب ... إذا انصرفت عني وجوه المذاهب
ليس ينبغي للمرء أن يكون في دنياه إلا كالمدعو إلى وليمة، إن أتته صحفة تناولها، وإن فاتته لم يرصدها ولم يطلبها.
محمد بن وهيب:
أجارتنا إن القداح كواذب ... وأكثر أسباب النجاح مع اليأس
آخر:
رخي البال ليس له عيال ... خلي من حربت ومن دهيت
وأكبر همه مما عليه ... تذابح من ترى خلق وقوت
آخر:
قطعي يدي بيدي أخف علي من ... مدي إلى نكد لأخذ يد يدا
غضب الإله علي إن أك راضياً ... ليدي بأن تمتاح من يده يدا
عثمان بن عفان رضي الله عنه:
غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... وإن مسها حتى يضر بها الفقر
وما عسرة فأصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يسر
قال أبو نيرز وهو من أبناء ملوك العجم، رغب في الإسلام وهو صغير، فأتى رسول الله فأسلم، وكان معه، فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها: جائني علي عليه السلام، وأنا أقوم بالضبعين عين أبي بيزر والبغيبغة، فقال: هل عندك من طعام؟ قلت: طعام لا أرضاه لك، فرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة. فقال علي به. فقام إلى الربيع فغسل يده ثم أصاب منه شيئاً، ثم رجع إلى الربيع فغسل يده بالرمل، ثم ضم يديه فشرب بهما حس من الماء وقال: يا نيرز: إن الأكف أنظف من الآنية، ثم مسح ندى الماء على بطنه، ثم قال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله.
ثم أخذ المعول فجعل يضرب بالمعول في العين، فأبطأ عليه الماء، فخرج وجبينه ينضح عرقاً وهو ينشفه بيده. ثم عاد فأقبل يضرب فيها وهو يهمهم، فانثالت كأنها عنق جزور. فخرج مسرعاً وقال: أشهد أنها صدقة. علي بدواة وصحيفة، فكتب: هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على أهل المدينة وابن السبيل، ليقي الله وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعان ولا ترهنان حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين. إلا أن يحتاج الحسن والحسين فهما طلق لهما، وليسا لأحد غيرهما.
فركب الحسن دين فحمل إليه معاوية بعين نيزر مائتي ألف دينار، فقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء.
قارف الزهري ذنباً فساح، فلقيه علي بن الحسين، فقال: يا زهري لقنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شيء أعظم من ذنبك. فقال الزهري: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.

الخيل، والبغال، والحمير، والفروسية
النبي صلى الله عليه وسلم : عليكم بإناث الخيل، فإن ظهورها حرز، وبطونها كنز.
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أي المال خير؟ قال: سكة مأبورة، ومهرة مأمورة.
وعنه عليه الصلاة والسلام: لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها، فإن معارفها أدفاؤها، وأذنابها مذابها. والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة.
جرير بن عبد الله البجلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرس بإصبعه وهو يقول: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة.
وعنه: الخيل ثلاثة أجر وستر ووزر، فأما الذي له الأجر فرجل حبس خيلاً في سبيل الله فما سنت له شرفاً إلا كان له أجر.
ورجل استعف بها وركبها ولم ينس حق الله فيها فذلك الذي له ستر. ورجل حبس خيلاً فخراً ونواءً على أهل الإسلام فذلك الذي عليه الوزر.
وعنه في صفة البراق: يضع حافره منتهى طرفه.
أعرابي في وصف فرسه: ما طلبت عليها إلا لحقت، وما طلبت إلا فت.

أرسل بعض الأمراء ابن عم له، وكان صاحب قنص، إلى الشام يشتري له خيلاً، فقال: لا علم لي بها. فقال: كل شيء تستحسنه في الكلب فاشترطه في الفرس. فقدم بخيل لم يكن في العرب مثلها.
إذا بلغ الفارس المنزل لم يكن له هم إلا التمدد، وقود الفرس، والإستراحة من اللغوب. وترى التركي إذا عاين في ذلك الوقت بعض الصيد ابتدأ الركض بمثل نشاطه الأول قبل السير.
ورث سليمان عليه السلام عن أبيه ألف فرس، فاستعرض تسعمائة منها فشغلته عن ذكر الله تعالى، فمسح بالسوق والأعناق، وبقيت مائة. ثم إن وفداً من أهل مصر قدموا عليه، فلما رجعوا طلبوا زاداً يبلغهم بلادهم، فأعطاهم فرساً، وقال هذا زادكم، وهو مصيب لكم من الصيد في كل منزل ما يكفيكم. فكانوا لا ينزلون منزلاً إلا حملوا عليه واحداً، فيصيد لهم كل صيد أرادوه، فسموه زاد الركب. ومنه أصل كل فرس عربي.
لم يكن فرس مثل شبذير كسرى أبرويز في زمانه عظم خلق، وكرم خلق، وجمعاً لشرائط العنق. ولما نفق لم يركب إلا الفيل، وكان هذا الفرس من خصائص أبرويز. وما قدروا أن ينعوه إليه، فسألوا فلهبذ المغني أن يعرض به، فغنى بشيء معناه: شبذير لا يسعى ولا يرعى ولا ينام، فقال: قد مات إذن. فقال فلهبذ: من الملك سمعت.
وكان أشقر مروان يشبه به، واشتراه مروان بثلثمائة ألف درهم، وصار إلى السفاح بعده. وهرم وتحطم، فكان لكرامته عليهم يحمل في محفة عاج وينقل من مرج إلى مرج.
ساير عبد الحميد مروان، فقال له: طالت صحبة هذه الدابة لك. فقال: من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علتها، قال: كيف سيرها؟ قال: همها أمامها، وسوطها عنانها، وما ضربت قط إلا ظلماً.
أراد علي بن هشام مسايرة شبيب بن شيبة، فقال: كيف لي بها وأنا على برذون إن تركته وقف، وإن ضربته قطف، وأنت على فرس إن تركته ساروان ضربته طار؟ فحمله على فرس عتيق.
أسامة بن سفيان البجلي:
أمست بأكناف ذي قار مخيمة ... وأنت في جحفل يهدي إلى الشام
يخرجن من مستطير النقع دامية ... كان آذانها أطراف أقلام
كتب الأخفش سعيد بن مسعدة النحوي إلى المعذل بن غيلان:
أردت الركوب إلى حاجة ... فمر لي بفاعلة من دببت
فأجابه:
بريذننا يا أخي غامز ... فأنعم وكن فاعلاً من عذرت
لما غلب المختار بن عبيد الله على الكوفة وقع بينه وبين عدي بن حاتم، فهم عدي بالخروج عليه، ثم عجز لكبر سنه، وقد بلغ مائة وعشرين سنة، فقال:
أًصبحت بأكناف ذي قار مخيمة ... وأنت في جحفل يهدي إلى الشام
يخرجن من مستطير النقع دامية ... كان آذانها أطراف أقلام
كتب الأخفش سعيد بن مسعدة النحوي إلى المعذل بن غيلان:
أردت الركوب إلى حاجة ... فمر لي بفاعلة من دببت
فأجابه:
بريذننا يا أخي غامز ... فأنعم وكن فاعلاً من عذرت
لما غلب المختار بن عبيد الله على الكوفة وقع بينه وبين عدي بن حاتم، فهم عدي بالخروج عليه، ثم عجز لكبر سنه، وقد بلغ مائة وعشرين سنة، فقال:
أصبحت لا أنفع الصديق ولا ... أملك ضراً للشانئ الشرس
وإن جرى بي الجواد منطلقاً ... لم تملك الكف رجعة الفرس
عمرو بن الأسلع:
أتتك كأنها عقبان دجن ... تجاذب في حناجرها اليراع
عمرو بن معاوية بن المنتفق فارس مشهور من بني عامر قلده معاوية أرمينية وأذربيجان والأهواز:
إني امرؤ للخيل عندي مزية ... على فارس البرذون أو فارس البغل
وإني على هول الجنان لنازل ... منازل لم ينزل بها نازل قبلي
عن بعض الراضة: إنما يجمح البرذون ليصرع راكبه فقط، إلا ترى أنه إذا رمى به وقف؟ إلا برذوناً واحداً فإني رأيته شد عليه بعد أن ألقاه يكدمه ويرمحه. وكان الناس يشدون عليه فيتنحى عنه ويشد عليهم، فإذا جفلوا من بين يديه رجع إليه يكدمه ويرمحه.
شك عمر رضي الله عنه في العتاق والهجن، فدعا سليمان بن ربيعة الباهلي بطست فيه ماء، ثم قدمت الخيل فما ثنى سنبكه عربه، وذلك أن العتاق قود دون الهجن.
النبي صلى الله عليه وسلم : اربطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأعجازها، وقلدوها ولا تقلدوها بالأوتار.

أبو هريرة رفعه: إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله سخرها لكم لتبلغكم بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم.
وقف الهيثم بن المطهر على باب الخيزران على دابته، فبعث إليه الكاتب في دارها: انزل عن ظهر دابتك، فقد جاء في الأثر: لا تجعلوا في ظهور دوابكم مجالس، فبعث إليه: إني رجل أعرج وإن خرج صاحبي خفت أن لا أدركه. فبعث إليه: إن لم تنزل أنزلناك. قال: هو حبيس إن أنزلتني عنه أقضمه شهراً، فانظر أيهما خير له تعب ساعة أو جوع شهر؟ قال: هذا شيطان فاتركوه.
نظر ابن سيابة إلى مبارك التركي على دابة، فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا رب، هذا حمار وله دابة، وأنا إنسان وليس لي حمار! وأنشد أبو محلم لنفسه:
ما يصنع الليل والنهار ... ما للفتى منهما انتصار
من لم يؤدبه والداه ... أدبه الليل والنهار
كم من حمار له جواد ... وسيد ما له حمار
الفرس لا يحب الماء الصافي فلا يضرب بيديه كما يضرب بهما عند الكدر فرحاً به، لأنه يرى فيه شخصه فيفزعه ولا يراه في الكدر، كما أن الإبل لا يعجبها إلا الماء الغليظ. وأما الثور فيحب الماء الصافي.
كان يقال لعبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب رواض البغال، لأنه كان ركاباً لها. قال له صفوان بن عمرو بن الأهتم: مالك ولهذا المركب الذي لا يدرك عليه الثأر، ولا ينجيك يوم الفرار؟ فقال: إنه نزل عن خيلاء الخيل، وارتفع عن ذلة العير، وخير الأمور أوساطها. فقال صفوان: إنا نعلمكم فإذا علمتم تعلمنا منكم.
بعضهم: إذا اشتريت بغلة فاشتراها طويلة العنق ثجدة في نجابها، مشرقة الهادي تجده في طاعتها، مجفرة الجوف تجده في صبرها.
رأيتك على عير لئيم، ثم رأيتك قد أدمت ركوب هذه البغلة. فقال: البغال أعدل، وسيرها أقصد.
كانت لابن سيرين بغلتان، بغلة لخاصة نفسه وبغلة للعارية.
الهدايا النفيسة والطرف العجيبة التي أهدتها بلقيس إلى سليمان عليه السلام إنما كانت على البغال الشهب.
نظر أعرابي إلى بغل قد تفاج ليبول فاستحثه صاحبه، فقال: إنها إحدى الغوائل قطع الله منك الوتين.
ابن خازم الباهلي:
ما لي رأيتك لا تدو ... م على المودة للرجال
خلق جديد كل يو ... م مثل أخلاق البغال
وله:
ومتى اختبرت أبا العلاء وجدته ... متلوناً كتلون البغل
كان خالد بن عثمان بن عفان بالسقيا، فقال: هذا يوم الجمعة، لم لا أجمع مع أمير المؤمنين؟ إنها للسوءة السوآة. فركب بغلة له لا تساير فسار تسعين ميلاً، فأتى المدينة وقت الصلاة فخر ميتاً، ونفقت البغلة.
حمل زيد الضبي البردخت الشاعر على بغل فصرعه فقال:
أقول للبغل لما كاد يقتلني ... لا بارك الله في زيد وما وهبا
أعطاني الحتف لما جئت أسأله ... وأمسك الفضة البيضاء والذهبا
الجاحظ: كان بعض الراضة يكوم بغلة، فأدغم عليها ذات يوم فتأخرت حتى أسندته إلى زاوية وضغطته حتى مات.
وجه المأمون ثمامة ليتعرف على أخبار البريد فقال: رأيت بغلاً على معلف وهو يقرأ: وما دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وآخر قد عدا على رجل عليه طيلسان أخضر ظن أنه حزمة من علف فطرحه فوقف يشمه، وآخر يغني بقوله:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... كيما أنال به كريم المأكل
بعض أهل العراق: كنت عند قاضي مصر فسمعته يقول لبعض جلسائه: أريد بغلة أصيب منها. فقلت: هو أمجن الناس! يتكلم بنحو هذا وهو قاضي المسلمين! فقيل لي: عافاك الله! ما منا أحد إلا وعنده بغلات يصيب منهن. فزدت إنكاراً حتى فسر لي أن البغلات جوار من رقيق مصر، نتاج ما بين الصقالبة وجنس آخر، لهن أبدان ودثارة وجدارة.
كان لعكرمة بن ربعي الفياض بغل يؤثره على كل مركوب، وله فيه:
لم أر شيئاً بين شيئين مثله ... أشد انتزاعاً للتشابه في الأصل
تقسمه أطرافه فاستوى له ... بقسمة عدل من يدي حكم عدل
قال أهل التجربة: ليس في جميع الحيوان الذي يعايش الناس أطول عمراً من البغل، ولا أقصر عمراً من العصفور، لكثرة سفاد العصفور وقلة ذلك من البغل.

قالوا: ولذلك وجدنا طول الأعمار في الرهبان وأصحاب الصوامع وفي الخصيان.
ابن عباس: نهى رسول الله أن ننزي حماراً على فرس. ونهانا أن نأكل الصدقة، وأمرنا أن نسبغ الوضوء.
أبو هريرة: إن رسول الله كان يسمي الأنثى من الخيل فرساً.
قيل لوهرز الفارسي حين أراد رمي مسروق بن أبرهة الأشرم: وقد نزل عن الفيل وركب الفرس، فقال: دعوه فإنه على مركب من مراكب الفرسان، فأطال الوقوف حتى مل ظهر دابته فأتوه ببغل فركبه، فقيل لوهرز: نزل عن الفرس وركب البغل، فقال: نزل عن مراكب الملوك ومعاقل الفرسان ثم ركب البغل ابن الحمار.
شاعر:
وإني إذا ما المرء آثر بغله ... على نفسه آثرت نفسي على بغلي
وأبذله للمستعيرين ظهره ... بلا علة ما دام ينقاد في الحبل
الفرس يشم رائحة الحجرمن مسافة ميل فيقلق في مكانه ويحمحم، ويقف عن القضم وقد خبط بيده آنفاً وحمحم إلى ناسفه.
بغلة أبي دلامة مثل في كثرة العيوب، وفيها يقول:
وتفزع من صقاع الديك شهراً ... وتنفر للصفير وللخيال
إذا استعجلتها عثرت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال
شفار تقدم كل سرج ... تصير دفتيه على القذال
وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسؤال
فتقطع منطقي وتحول بيني ... وبين حديثهم مما توالى
وألف عصا وسوط أصبحي ... ألذ لها من الماء الزلال
وكانت قارحاً أيام كسرى ... وتذكر تبعاً عند الفصال
وتذكر إذ نشا بهرام جور ... وذو الأكتاف في الحقب الأوالي
أبو قموص كنية البغل. وقدم بغل إلى أعرابية لتركبه فقالت: أبو قموص لعله شحدود أو حبوص، أو كما يكنى به قموص.
الشحدود: السيء الخلق بالدال غير المعجمة، والحبوص الشديد العدو.
تساير مروان بن أبي حفصة وعباد بن شبل الصنعاني على بغلتيهما، وكانت بينهما صداقة، فقال ابن شبل في بغلة مروان:
أرى الشهباء تخبز إذ غدونا ... برجليها وتعجن باليدين
فقال مروان:
أرى خلق القطاة فازدريها ... ويملأ منظر الشهباء عيني
وقال أيضاً:
لعمر أبيك لو غير ابن شبل ... هجا الشهباء قطعه الهجاء
ولكن عرضه عندي وعرضي ... إذا ميلت بينهما سواء
في رسالة عبيد الله بن سليمان بن وهب: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان مقبلاً على حمار ومعه ابنه (معاوية) يقوده ويزيد يسوقه: لعن الله الراكب والقائد والسائق.
عبد الحميد الكاتب: لا تركب الحمار، فإنه إن كان فارهاً أتعب يدك، وإن كان بليداً أتعب رجلك.
فضل الرقاشي: نظر يوماً إلى حمار فاره تحت ابن قتيبة، فقال: قعدة نبي وبذلة جبار.
كان عيسى عليه السلام يسيح في الأرض، فقيل له: لو اتخذت حماراً. فقال: أنا أكرم على الله من أن يبتليني بحمار.
العير عار لا يركبه إلا عيار.
ما ينبغي لمركب الدجال أن يكون مركب الرجال. يقولون إن الحمار مطية الدجال.
المصنف:
فإن الحمار ومن فوقه ... حماران شرهما الراكب
حمار عثرة نخرة، تبوع للحجرة، أي كثير العثار والتحير.
قال ابن مكرم لنخاس: أريد أن تبتاع لي عيراً ليس بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر. إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، يصر إذا ركبته بأذنيه، ويلعب بيديه، ويمرح برجليه، استنهضته هام، وإن استوقفته قام، وإن أقللت علفه صبر وإن أكثرته شكر. فقال اصبر قليلاً فإن مسخ القاضي حماراً اشتريته.
قال موسى للخضر: أي الدواب أحب بإليك؟ قال الفرس والحمار والبعير، لأن الفرس مركب أولي العزم من الرسل، والبعير مركب هود وصالح وشعيب ومحمد، والحمار مركب عيسى وعزيز. وكيف لا أحب شيئاً أحياه الله بعد موته قبل الحشر.
تمنع الحمار لعسره ونكده أن يدخل السفينة، وإبليس لعنه الله آخذ بذنبه، فقال نوح عليه السلام: أدخل يا ملعون، ولم يكن ثم ملعون غيري.
عير أبي سيارة مثل في القوة والصحة، وهو حمار أسود أجاز عليه الناس من منى إلى المزدلفة أربعين سنة.
وكان خالد بن صفوان والفضل بن عيسى الرقاشي يختاران ركوب الحمار، ويجعلان أبا سيارة قدوة لهما وحجة.

وقيل للفضل: لم تركبه؟ فقال: لأنه أقل الدواب مؤونة، وأكثرها معونة، وأسلمها جماحاً، وأخفضها مهوى، وأقربها مرتقى، يزهى راكبه وقد تواضع، ويدعى مقتصداً وقد أسرف في ثمنه، ولو شاء أبو سيار لركب جملاً مهرياً، أو فرساً عربياً، ولكنه امتطى عيراً أربعين سنة.
وقال خالد: عير من نسل الكداد، أصحر السربال، محملج القوائم، مفتول الأجلاد، يحمل الرجلة، ويبلغ العقبة، يقل داؤه، ويمنعني أن أكون جباراً. ولولا ما في الحمار من المنافع لما امتطاه أبو سيارة أربعين سنة.
فعارضهما أعرابي فقال: الحمار إن أوقفته أدلى، وإن تركته ولى، كثير الروض، قليل الغوث، سريع إلى الفرارة، بطيء في الغارة، لا ترفأ به الدماء، ولا تمهر به النساء، ولا يحلب في الإناء.
وحمار طياب مثل في الضعف والهزال، وكان طياب سقاءً، قد استقى عليه زماناً طويلاً. وكان في جوار أبي علالة المخزومي، فتولع به في شعره، وله فيه:
يا سائلي عن حمار طياب ... ذاك حمار حليف أوصاب
كأنه والذباب تأخذه ... من وجه تيغار دوشاب
وحمار القصار مثل في سوء الحال، يقال: كان يوم فلان كيوم حمار القصار، إن جاع شرب وإن عطش شرب.
حمير مصر لا تخرج البلاد أمثالها، وكان الخلفاء لا يركبون غيرها في دورهم وبساتينهم. وكان المتوكل يصعد في منارة سر من رأى على حمار مريسي، ومريس قرية من قرى مصر، وطول المنارة تسع وتسعون ذراعاً.
حكيم: خذ من الحمار شكره وصبره، ومن الكلب نصحه لأهله، ومن الغراب كتمانه للسفاد.
رأى عبادة تحت مخارق برذوناً يقرمط، فقال: برذونك هذا يمشي على استحياء.
الأقيشر في حماره:
إذا ما انتحى في لجة الماء لم ترم ... قوائمه حتى يؤخر بالحمل
وإذ بلغ الضحضاح فحج بائلاً ... صبوراً على ضرب الهراوة والركل
وآخر:
أيا منزلي مالي عليك كرامة ... إذا أنت لم تكرم علي جوادي
أبو المهوض الأسدي:
نجى إياداً ولخماً كل سلهبة ... واستلحم الموت أصحاب البراذين
عداوة الحمار للغراب مثل، قال:
عاديتنا لا زلت في تباب ... عداوة الحمار للغراب
يزيد بن مسلمة بن عبد الملك:
عودته فيما أزور حبائبي ... إهماله وكذاك كل مخاطر
فإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر
شاعر:
جرى والجياد فلما جرى ... حثا في وجوه الجياد الثرى
روث الحمار إذا عصر وهو حار وشرب ماؤه نفع من الحصاة، وهو دواء للضرس المأكول.
وقيل لميسرة الفراس وهو أحد الأكلة: كيف تصنع إذا جهدتك الكظة والعرب تقول: إذا كنت بطنا فعدك زمنا؟ قال: آخذ روثاً حاراً واعصره واشرب ماؤه، فاختلف عليه مراراً، فلا ألبث أن يلصق بطني بصلبي، واشتهي الطعام.
زياد بن وهب في صفة الفرس:
شديد الفقار طويل العذار ... أمين الشظا لا يخاف العثارا
بعيد مداه كما أمرت قواه ... إذا السوط أفزعه قلت طارا
مبين له السبق عند الرهان ... في الحرب ترزق منه الوقارا
كان لغني فرس مشهور يعرف بالضاري. قال أبو عبيدة: هو الضاري بن الأوج بن الدينار بن هجنس بن زاد الراكب. فلما نفقنعته عجوز من بني عامر إلى نسائهم، وقالت: أربعن يا نساء بني عامرفقد رزئتن غرة من غرر المجد، ألا إن الضاري قد نفق. فما بقيت امرأة من نساء بني عامر إلا كسرت رباعتها عليه. وفيه قيل:
غداة صبحنا بطرف أعوجي ... من نسب الضاوي ضاوي غني
كان لعمر بن عبد العزيز برذون يحتطب عليه ويستقي، وكان يركبه.
جاءت فرس لهشام سابقة فسأل الشعراء أن يقولوا فيها فاستمهلوا، فقال أبو النجم: هل لك فيمن ينقذك إذ استنسؤوك، قال: هات، فقال:
أشاع للطراد فيه ذكرها ... قوائم عوج أطعن أمرها
مليونة شد المليك أسرها ... أسفلها وبطنها وظهرها
يكاد هاديها يكون شطرها
فأمر له بجائزة سنية.

كان يزيد بن عبد الملك وهو يزيد الناقص مدر بالخيل، فبلغه عن فرس لرجل من عبد القيس فراهة واستيلاء في الحلب على القضب، فوجه إليه من يشتريه له، فقال: لا أبيعه إلا بحكمي، فبذلوا له عشرة آلاف دينار. فقال: لو أعطيتموني بوزن الفرس مائة مرة دنانير ما بعته إلا بحكمي. قالوا: فما حكمك؟ قال: ترك لعن علي بن أبي طالب. فكتب يزيد إلى الآفاق بذلك وأخذ الفرس. فترك لعنه إلى اليوم.
عبد الله بن عمران بن أبي فروة: كنت أسير مع الغمر بن يزيد، فاستنشدني فأنشدته لعمر ابن أبي ربيعة: ودع لبابة قبل أن تترحلا. فأمر غلامه فحملني على بغلة فلما أراد غلامه أن يأخذها قلت: هو أشرف من أن يحملني على بغلة ثم يأخذها. فقال له: دعها، ذهبت لبابة والله ببغلة مولاك.
سوبق بين الخيل فجاء فرس من بني جعدة متقدماً، فارتجز الجعدي يقول:
غاية مجد رفعت فمن لها ... نحن حويناها فكنا أهلها
لو ترسل الطير لجئنا قبلها
فلم ينشب أن سبقه فرس ابن طلحة فقال عمر بن عبد العزيز للجعدي: سبقك والله ابن السباق إلى الخيرات.
عثر بالعباس بن محمد بن علي فرسه فمات، فقيل: يقتل الجواد الجواد.
قال محمد بن سليمان بن علي لبشار: ما حبسك عنا؟ قال: ركبت حماري فسقط ميتاً في الطريق، فلم أعرف سبب موته حتى رأيته البارحة في المنام فسألته فقال لي:
سيدي خذ بي أتانا ... عند باب الإصبهاني
سحرتني برقاها ... وثناياها الحسان
وبخدين أسيلي ... ن وجيد الشيفران
ولها إذن ذراع ... بذراع الشاهمان
فبها مت ولو عش ... ت بها طال هواني
فضحك محمد وقال: وما الشيفران يا أبا معاذ؟ قال: ومن يدري غريب الحمار؟ فأمر له بحمار فاره.
أنس: ركب عمر رضي الله عنه برذوناً فهزه، فنزل عنه وقال: ما يصلح هذا إلا أن يذهب عليه صاحبه إلى الغائط.
شاعر:
... إيجاف كل منير الوجه بسام
يخرجن من مستطير النقع دامية ... كأن آذانها أطراف أقلام

الإبل، والبقر، والغنم
وما يتصل بها وينسب إليها عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى رسول الله جن وذرفت عيناه، فأتاه فمسح ذفريه فسكت، فقال: لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها! فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه.
سهل بن الحنظلية: مر رسول الله ببعير قد لصق ظهره ببطنه، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة.
أبو هريرة رفعه: تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيراً منها ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فلم أرها. كان سعيد بن هند يقول: ما أراها إلا هذه الأقفاص التي تستر بالديباج.
ما خلق الله خيراً من الإبل، إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
قيل لأعرابي: ما الناقة القرداح؟ قال: التي كأنها تمشي على أرماح. يريد طول القوائم.
أهدى الرحيل بن الكلب ناقة لهشام بن عبد الملك فلم يقبلها. فقال: يا أمير المؤمنين، أرددت ناقتي وهي هلواع، مرياع، مرباع، مقراع، مسياع، ميساع، حلبانة ركبانة. فضحك وقبلها وأمر له بألف درهم.
المرياع: التي تقدم الإبل ثم تعود. والمرباع التي تعجل اللقاح، والمقراع: التي تلقح أول ما يقرعها الفحل. والمسياع: السمينة من السياع، قال القطامي :
فلما أن جرى سمن عليها ... كما بطنت بالفدن السباعا
والهلواع: الخفيفة. والمسياع: الواسعة الخطو.
دجاجة بن ذروة الضبي جاهلي:
إبلي بحمد الله ضامنة القرى ... إذا طرقها بالعشي الطوارق
محبسة لابن السبيل تنوبها ... حقوق وتبريها السنون العوارق
الجمل يجب في المجهدة سنامه، والكبش تقطع إليته، وهما يصبران.
الغنوي: إذا تصوب الرزم أرسلت الفحول في النعم، فضربت في خيار الإبل ومتعطراتها، وهي التي تتحسن للفحل بنقيها وحسن حالها.

عطار رفعه: الغنم بركة موضوعة، والإبل جمال لأهلها.
قيل لبنت الخس: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى. قيل: ففي مائة من الضأن؟ قالت: غنى. قيل: ففي مائة من الإبل؟ قالت: منى.
بعض القصاص: مما أكرم الله به الكبش أن خلقه مستور العورة من قبل ومن دبر، ومما أهان به التيس أن جعله مهتوك الستر مكشوف القبل والدبر.
النبي صلى الله عليه وسلم: امسحوا رغام الثماء، ونقوا مرابضها من الشوك والحجارة، فإنه ما من مسلم له شاة إلا قدس كل يوم مرة، فإن كانت له شاتان قدس كل يوم مرتين.
أكل أبو الدرداء طعاماً دعاه إليه رجل من أصحابه، ثم قال: الحمد لله الذي أطعمنا الخمير وألبسنا الحبير بعد الأسودين الماء والتمر. ورأى عنده ضانية فقال: أطب مراحها، واغسل رغامها، فإنها من دواب الجنة، وهي صفوة الله من البهائم.
يقال: أقفط من تيس بني حسان. ومن تكاذبهم أنه قفط سبعين عنزاً بعد ما فريت أوداجه. قال الفرزدق:
لعمرك ما تدري فوارس منقر ... أفي الأست أم في الرأس تلقي الشكائم
وألهى بني حمان عسب عتودهم ... عن المجد حتى أحرزته الأكارم
وفي ديوان المنثور: هم أفخر به من بني تميم بقوسها، ومن بني حمان بتيسها.
تقول العرب : قالت الضانية: أولا رخالا، وأجز جفالاً، واحلب كثباً عجالاً، ولم تر مثلي مالاً.
أبو سعيد الخدري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبش أملح أقرن فحيل. ينظر في سواد ويأكل في سواد ويمشي في سواد.
الضأن تلد في السنة مرة، وتفرد ولا تتئم. والمعز تلد مرتين، وتضع الثلاث وأكثر. والنماء والبركة في الضأن. والخنزيرة ربما ولدت عشرين خنوصاً ولا نماء فيها.
يقال في المدح هو كبش من الكباش، وفي الذم هو تيس من التيوس.
إسحاق بن حسان في الثور:
وأغلب فضفاض جلد اللبان ... يدافع غبغبه بالوظيف
شاة سعيد مثل في الهزال، وهي شاة أهداها سعيد بن أحمد إلى الحمدوني، فنثر فيها كنانته، منها قوله:
يقول لي الإخوان حين طبختها ... أتطبخ شطرنجاً عظاماً باللحم
وكذلك شاة منيع، وهي شاة جار لمحمد بن بشير عبثت ببستان له في منزله، فوصفها بجميع أوصاف الرداءة.
أبو أيوب كنية الجمل، كني بذلك لصبره على البلاء. قال ابن الرومي في أبي أيوب سليمان بن عبد الله بن طاهر وكان قد مدحه فلم يجزه:
يا أبا أيوب هذي كنية ... من كنى الأنعام قدماً لم تزل
ولقد وفق من كنانها ... وأصاب الحق فيها وعدل
أنت شبه للذي تكنى به ... ولبعض الخلق من بعض مثل
قد قضى قول لبيد بيننا ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل
عمر بن نصر القصافي التميمي:
خوص نواج إذا صاح الحداة بها ... رأيت أرجلها قدام أيديها
قال دعبل: قال القصافي الشعر ستين سنة فلم يعرف له إلا هذا البيت.
الجاموس أجزع خلق الله من عض جرجسة وبعوضة، وأشده هرباً منها إلى الماء، وهو يمشي إلى الأسد رضي البال، رابط الجأش، ثابت الجنان.
علي عليه السلام: إنما مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار كن في غيضة، أسود وأحمر وأبيض ومعهن أسد، فكان إذا أراد واحداً منهن اجتمعن عليه فلم يطقهن. فقال للأسود والأحمر: إن هذا الأبيض يفضحنا في غيضتنا بياضه فخلايا عني آكله، ففعلا، فلم يلبث أن قال للأسود: إن هذا الأحمر يفضحنا فلو خليتني آكله، فخلاه. ثم قال للأسود: إني آكلك، قال: خلني أصوت ثلاثة أصوات، فصاح ثلاثاً: ألا إنما أكلت يوم أكل الأبيض. ألا إنما دهيت يوم قتل عثمان.
كان لأبي الدرداء جمل اسمه دمون، فكان إذا أعاره لأحد قال: لا تحملوا على جملي إلا كذا فإنما يطيق ذلك، فلما حان قال: لا تحملوا على جملي إلا كذا فإنما يطيق ذلك. فلمان حان ما تطيق.

الوحوش من السباع وغيرها، وأحوالها
وما يصطاد منها ويتألف، وما أشبه ذلك

لما تلا رسول الله والنجم وما هوى قال عتبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم. فقال صلى الله عليه وسلم : سلط الله عليك كلباً من كلابه. فخرج مع أصحابه في عير إلى الشام، حتى إذا كانوا بمكان يقال له الزرقاء زأر الأسد، فجعلت فرائصه ترعد، فقالوا: من أي شيء ترعد فرائصك؟ فوالله ما نحن وأنت إلا سواء، فقال لهم: إن محمداً دعا علي، ولا والله ما أظلت السماء من ذي لهجة أصدق من محمد. ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه، ثم جاء النوم فحاطوا أنفسهم بمتاعهم ووسطوه بينهم وناموا. فجاء الأسد يهمس يستنشي رؤوسهم رجلاً رجلاً حتى انتهى إليه فضغمه ضغمة كانت إياها. فسمع وهو بآخر رمق يقول: ألم أقل لكم أن محمداً أصدق الناس.
دخل أبو زبيد الطائي على عثمان رضي الله عنه، فقال: من أين؟ فقال: خرجت في صبابة من أفناء قريش وقبائل العرب ذوي سارة حسنة، ترتمي بنا المهاري بأكسائها القيروانات، على فتو البغال عليها العبدان تقود جياد الخيل، نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام. فاخروط بنا السير في حمارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه، وذبلت الشفاه، وسالت المياه، وأذكت الجوزاء العزاء، وذات الصيهد، وصر الجندب، وضاف العصفور الضب في وجاره، قال قائلنا: أيها الركب غوروا بنا في صنوج هذا الوادي، فإذا واد قد بدا عن يميننا، كثير الدغل، دائم الغلل، أشجاره مغنة، وأطياره مرنة، فحططنا رحالنا في أصول دوحات كنهيلات متهدلات، فأصبنا من فضلات المزاود وأتبعناها بالماء البارد. فأنا لنصف حر يومنا ومصاولته ومطاولته إذ صر أقصى الخيل بأذنيه، وفحص الأرض بيديه، ثم ما لبث أن جال فال، وفعل فعله الذي يليه واحداً إثر واحد، فتضعضعت الخيل وتقهقرت البغال، وتكعكعت الإبل، فمن نافض لشكاله، وناهض بعقاله، فعلمنا أن قد أتينا، وأنه السبع، ففزع كل منا إلى سيفه فاستله من جربانه، ثم وقفنا له رزدقاً، فأقبل يتطالع في مشيته كأنه مجنوب في هجار، لبلاعيمه غطيط، ولصدره نحيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض، كأنه يحبط هشيماً، أو يطأ صريماً. وإذا هامة كالمجن، وخد كالمسن، وعينان سجروان، كأنهما سراجان يتقدان، وكتد مغبط، وزور مفرط وقصرة ربلة، ولهزمة رهلة، وعضد مفتول، وساعد مجدول، وكف خشنة البراثن، إلى مخالب كأنها المحاجن. ثم كشر فأفرج، وزأر فأرهج، ونهم فبربر، ونحط فجرجر، فاستقدم تخال البرق تتطاير من خلال جفونه، من عن شماله ويمينه، فلا وذي بيته في السماء، ما اتقيناه إلا بأخ لنا من فزارة، ضخم الجزارة، فوقصه وقصة مفظعة، فتفضفض متنه، وبقر بطنه، وجعل يلغ في دمه.
فذمرت أصحابي، فبعد لأي ما أجابوا، فهجهجنا به، فكر مقشعراً زئيره، كأن به شيهماً حولياً، فاختلج من دوني رجلاً أعجز ذا حوايا، فنفضه نفضة تزايلت منها الأوصال، فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل، وانخزلت المتون، ولصقت البطون وساءت الظنون، هناك ابتلى المؤمنون، ثم قال:
عبوس شموس مصلخد مكابر ... جريء على الأقران للقرن قاهر
براثنه شئن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضا في وجهه الشر ظاهر
يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر
فقال عثمان: أسكت، أسكت الله نأمتك، فقد خشيت أن يثب علي.
عارض أسد رفقة، فخرج إليه رجل فاختطفه وبرك عليه، فهاجوه ثم قالوا للرجل: ما حالك؟ قال: لا بأس علي، ولكن سلح الأسد في سراويلي.
قد يجيء الأسد إلى قلس السفينة بالليل فيتشبث به، فيحسب الملاحون أنه التف على شجرة أو صخرة، فيذهب المداد ليخلصه، فيتمدد الأسد ويلتصق بالأرض ويغمض عينيه ليخفي وميضهما. فإذا دنا وثب عليه فحطمه، فلا يكون للملاحين هم إلا العبور والفرار.
بنو أسد حراص على أكل الكلاب، وقد أكل أسدي جرو كلب، فقيل له: أ تأكل الكلب وقد قيل فيكم:
إذا أسدي جاع يوماً ببلدة ... وكان سميناً كلبه فهو آكله
فقال:
رضينا بحظ الليث طمعاً وشهوة ... فسائل أخا الحلفاء إن كنت لا تدري
وذلك أن الأسد أحرص شيء على لحم الكلاب. وقيل لا يحرص على أكل الكلاب حباً للحمه، ولكنه يقصد القرية أو الصرم ليتطرف من النعم، فتنبح الكلاب فتهيج الناس، فيحرص عليها حنقاً وغيظاً.
الأسد لا يدنو من النار، ولا يأكل الحار ولا الحامض وكذلك أكثر السباع.

وتقول الروم: إن الأسد يذعر من صوت الذئب، ولا يدنو من المرأة الطامث، وهو قليل الشرب للماء. وثلاثة من الحيوان ترجع في قيئها، الأسد والكلب والسنور. وأربع أعين تضيء بالليل، عين الأسد والنمر والسنور والأفعى.
السباع العادية تصاد بالمغويات وهي آبار تحفر في أنشاز من الأرض، ولذلك يقال: قد بلغ السيل الزبى.
الأسد والنمر متعاديان، وأما الببر فلا يعادي واحداً منهما لسلامة ناحيته وقلة شره، وهما لا يعرضان له لما يعرفان من عجز من عجزهما عنه.
الهند أصحاب الببور والفيل، كما أن النوبة أصحاب الزرافات دون غيرهم من الأمم. وأهل غانة تكثر النمور في بلادهم، ولذلك كان لباسهم جلود النمور.
أشراف السباع ثلاثة الببر والأسد والنمر، وأشراف البهائم ثلاثة الكركدن والفيل والجاموس.
الأسد يأكل الملح على سيل التملح والتحمض كالفرس. لا شيء أشد حضراً من الأسد يمشي ثلاثين فرسخاً في ليلة لطلب الملح.
شاعر:
الليث ليث وإن جزت براثنه ... والكلب كلب وإن طوقته ذهبا
الذئب يأتي الجمل فيقبض بفقميه على حجامي عينه فيلحس عينه بلسانه حاسياً فكأنما قورت عينه تقويراً لما أعطي من قوة النفس، ولسانه أشد برياً للحم والعصب من لسان البقر للخلي. وليس في الأرض يعض على عظم إلا ولتكسر العظم صوت بين لحييه إلا الذئب، فإن لسانه يبري العظم بري السيف ولا يسمع له صوت. كما قال الزبير بن عبد المطلب:
وينهي نخوة الجهال عني ... غموض الحد ضربته صموت
وفي أمثالهم: ضربه ضربة كأنما أخطأه، يريدون سرعة المر.
إذا دمي الذئب وثب عليه صاحبه فأكله. وربما رأيت الذئبين متساندين على من يتعرضان له، فإذا أصاب أحدهما خدشة أنحى عليه صاحبه وترك التعرض له.
وإذا دمي الإنسان فشم الذئب منه رائحة الدم، لم ينج منه، وإن كان أشد الناس قلباً وأتمهم سلاحاً.
والببر إذا دمي استكلب حتى خافه السباع.
والحية إذا خدشت طلبها الذر فلا يكاد تنجو منه.
وإذا عض الإنسان الكلب طلبه الفأر فبال عليه، وفيه هلكته، فيحتال له بكل حيلة وإذا أغد البعير طلبته القردان.
في صفة الذئب:
هو الخبيث عينه فزاه ... أطلس يخفي شره غباره
في رأسه شفرته وناره ... بهم بني محارب مزداره
حميد بن ثور:
ترى طرفيه يعملان كلاهما ... كما اهتز عود السلسم المتتابع
ينام بإحدى مقليته ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
يزعمون أن النمرة لا تضع ولدها إلا وهو متطوق بأفعى، وأنها تعيش وتنهش إلا أنها لا تقتل.
خلا معاوية بجارية له خراسانية، فلما هم بها نظر إلى وصيفة له مقبلة، فتركها وخلا بالوصيفة. ثم قال للخراسانية: ما اسم الأسد بالفارسية؟ قالت: كفتار. فخرج وهو يقول: أنا الكفتار. فقيل له: يا أمير المؤمنين، الكفتار الضبع، فقال: قاتلها الله! أدركت ثأرها. والفرس إذا استقبحت صورة قالت: روى كفتار.
كتب عمر بن يزيد بن عمير الأسدي إلى قتيبة بن مسلم حين عزل وكيع بن أبي سود عن رئاسة بني تميم وولاها ضرار بن حصين الأسدي: عزلت السباع ووليت الضباع.
سئل أبو هريرة عن الضبع، فقال: الفرغل؟ تلك نعجة من الغنم. يعني أنها حلال الأكل، وهو مذهب الشافعي رحمه الله. وعند أبي حنيفة لا تحل لأنها سبع كالذئب.
زعموا أن الضبع تكون عاماً ذكراً وعاماً أنثى.
لا يعرف الالتحام عند السفاد إلا في الكلاب والذئاب. وإذا هجم الصائد على الذئب والذئبة متسافدين قتلهما كيف شاء.
وحدث الجاحظ عن أحمد بن المثنى قال: كنت في بعض صحارى جوخي إذ عرض لي ذئب فلم يزل يراوغي حتى ديرني وأيقنت بالهلكة، إذا ذئبة مستسفدة، فما تلعثم أن ركبها وتركني. فلما تلاحما مشيت إليهما بسيفي حتى قتلتهما، وكان ذلك من صنع الله تعالى وتأخر الأجل.
قال المنتجب محمد بن أرسلان في صفة أهل الزمان:
هم ما هم سباع ضاريات ... وتأبى أن تشاكلها السباع
فأجابه عبد الله الفقير إليه:
هم شر السباع فلا ذئاب ... مكلحة الوجوه ولا ضباع
هم ضرر أناخ بغير نفع ... عليك وربما نفع السباع
معلمها يحوش عليك صيداً ... ونفسك بينهم صيد شعاع

فيا نهشاً بأنياب وفرساً ... تحلم عنده العبس الجياع
الأسد لا يثب على الإنسان للعداوة ولكن للطعم، ولو مر به وهو شبعان لم يعرض له.
الفهد أنوم الخلق، وأما الكلب فنومه نعاس، ونومة الفهد مصمت. قال حميد بن ثور:
ونمت كنوم الفهد عن ذي حفيظة ... أكلت طعاماً دونه وهو جائع
ويقال إن السباع تشتهي ريحه وتستدل بريحه على مكانه، وتعجب بصوته فتصغي إليه إصغاء شديداً. وقد علم شهوة الأسد والنمر السباع لريحه فلا يكون على علاوة الريح. وإذا اصطيد مسناً كان أنفع في الصيد لأهله من الجرو الذي يربونه، لأن الجرو يخرج خباً، ويخرج المسن على التأديب صيوداً غير خب ولا مواكل.
وقصد العامة أن الفهود مسخ اليهود، والصبيان يصيحون بالفهد يا يهودي. والصائد يشد وراءه شداً حتى ينبهر ويحفى فيأخذه. فإذا أخذه غطى عينيه وأدخله في وعاء، ثم أدخله بيتاً مظلماً ووضع عنده مصباحاً، ولا زمة الليل والنهار، ولم يدعه يرى الدنيا، وهيأ شيئاً كظهر الدابة وأخذه بركوبه. وأطعمه بيده حتى يستأنس. وإناث الفهود أصيد، وكذلك إناث عامة الجوارح.
الثعلب يعلم أن تماوته يجوز على الصائد ولا يجوز على الكلاب فإذا أحس بصائد استلقى ونفخ خواصره حتى لا يشك أنه ميت فيجوزه، فإذا أحس بالكلب وثب كأنه البرق، لأن الكلب لا يخفى عليه الميت من المغشي عليه من المتماوت، ولذلك لا يحمل من مات من المجوس إلى الناووس حتى يدني منه كلب فيعمل ما يستدل به على حاله.
وقد يتماوت الكلب، قال بعضهم: رأيت جرواً مهزولاً ضربه الصبيان وعقروه، فتمدد لهم كالميت، فضربوه بأرجلهم فلم يتحرك حتى أيقنوا بالموت فخلوه. فنظرت فإذا هو قد فتح عينيه وتأمل، ثم وثب وهرب.
وسلاح الثعلب سلاحه، وهو أنتن من سلاح الحبارى. فإذا تعرض للقنفذ، ولقيه شوكه واستدار كالكرة صلح عليه، فانسدخ مما يغشى عليه من نتن سلاحه، فعندها يقبض على مراق بطنه.
وإذا كثرت البراغيت في فروة الثعلب تناول ففيه صوفة، ثم يدخل في الماء قليلاً قليلاً. والبراغيث ترتفع إلى أن يغمس خطبه، فتجتمع في الصوفة، ثم يرميها في الماء ويثب إلى الشط.
ربما كانت الأرض ملبسة بالجليد، مغشاة بالثلج، والكلاب العاقل المجرب لا يدري أين مكان الوحش، فلا يزال يتبصر ويتشمم حتى يقف على أفواه الحجرة ويثير الذي فيها.
أبو عبيدة: خرج رجل إلى جبانة بلده مع أخيه وجار له ينتضر الرفاق وتبعه كلب له، فضربه ورماء بحجر فلم ينته، فلما قعد ربض بين يديه، وجاء عدو له يطلب بطائلة، فجرح جراحات، وطرح في بئر قريبة القعر، وحثي عليه التراب، وقد فر أخوه وجاره، والكلب ينبح حوله. ثم أتاه عند انصراف العدو وكشف التراب عن رأسه حتى تنفس، ومر ناس فاستشالوه وأدوه إلى أهله، وسمي الموضع ببئر الكلب، وقيل في ذلك.
يعود عنه جاره وشقيقه ... وينبش عنه كلبه وهو ضاربه
اقتنى رجل جرواً ثم غاب عنه سنة ورجع وهو كلب شاغر، فعرفه وتبصبص حوله، وصاح صبيحة السرور بقدومه. وكان يثب على كل أحد ويتوعده، وقد زجره صاحبه عن صديق له ثلاث مرات، فاستثناه بعد ذلك عن الناس فلم يهر عليه.
الكلبة تحيض في كل سبعة أيام، وأكثر ما تضع اثنا عشر جرواً وذلك في الفرط، والغالب خمسة أو ستة، وربما وضعت واحداً.
ويعيش الكلب في الأكثر أربع عشرة سنة، وربما بلغ عشرين سنة. وللكلب ثلاثة أصناف من المرض: الكلب، والذبحة، والنقرس. ويكنى أبا خالد، قال ابن الرومي:
أ خالد لا تكذب فلست بخالد ... بزعمك بل أنت المكنى بخالد
وللكلب خبر منك لؤمك شاهدي ... عليه وما دهري بإبعاد شاهدي
آخر:
هو الكلب إلا أن فيه ملالة ... وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب
كان يقال لمالك بن مسمع ابن قتيل الكلاب لأن أباه مسمع بن سنان لجأ في الردة إلى قوم من عبد القيس، فكان كلبهم ينبح، فخاف أن يدل على مكانه فقتله، فقتل به.
قال بعضهم:
تعدو الذئاب على من كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الحامي
وعن عمر بن أبي ربيعة أنه عرض لبعض الحواج، فلما أرادت الطواف استصحبت أخاً لها فتمثلت به.
يقال: عليه واقية كواقية الكلاب للئيم تطول سلامته، قال دريد ابن الصمة حين ضرب امرأته بالسيف فسلمت:

وأبقاهن أن لهن لؤماً ... ووافية كواقية الكلاب
محمد بن الجهم: دعاني المأمون يوماً فقال: قد نبغ لك أخ يقول الشعر فأنشدني له، فلم أذكر إلا قوله في الكلب:
أوصيك خيراً به فإن له ... سجية لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في غسق اللي ... ل إذا النار نام موقدها
فقال: أحسن الموصي بالكلب، وأمر لي بمال.
وكان العرب تسمي الكلب داعي الضمير، وهادي الضمير، وداعي الكرم، ومتمم النعم، ومشيد الذكر، لما يجلب من الأصناف بنباحه. والضمير الضيف الغريب، من أضمرته البلاد إذا غيبته. وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح ولم تثبت النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي، وجعلوا لها مظل وربطوها إلى العمد لتسنوحش فتنبح فتهدي الضلال.
وصف للمتوكل كلب بأرمينية يفترس الأسد، فأرسل من جاء به. فقال له الطريحي: يا أمير المؤمنين، هنأك الله بما خصك به من نيل مباغيك، وإدراك محابيك. فما شيء يصغر مع طلب أمير المؤمنين عن أن يهنأ به، أو يرغب إلى الله في زيادته.
فقال المتوكل: هو لك جزاء عن هذه التهنئة، فبعه مني بحكمك. فباعه منه بألفي دينار. فألقاه على أسد فتواثبا وتناهشا حتى وقعا ميتين.
كلب القصاب يشبه به الفقير يجاور الغني، فيرى من نعيمه وبؤس نفسه ما يفت كبده. ويقال: كلاب القصابين أسرع عمى من غيرها بعشر سنين.
خرج المهدي يوماً يتصيد فصاد ظبياً، ورمى علي بن سليمان فأصاب كلباً، فضحك المهدي، وقال لأبي دلامة: قل. فقال:
قد رمى المهدي ظبياً ... رمية شك فؤاده
وعلي بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما كل ام ... رئ يأكل زاده
فأمر له بعشرة آلاف.
شاعر:تخيرت من الأخلا - ق ما ينفي عن الكلب
فإن الكلب مجبو ... ل على النصرة والذب
وفي يحفظ الدا ... ر وينجيك من الكرب
فلو أشبهته لم ت ... ك طاعوناً على القلب
كان لأعرابي بنيان، أحدهما مستهتر بالكلاب والثاني بالحملان، فقال:
مالي أراك مع الكلاب جنيبة ... وأرى أخاك جنيبة الحملان
فأجابه:
لولا الكلاب وهرشها من دوننا ... كان الوقير فريسة الذؤبان
قيل لرجل: ما بال الكلب يشغر إذا بال؟ قال: يخاف تتلوث دراعته. قيل: أو للكلب دراعة؟ قال: هو يتوهم أنه بدراعة.
الخنزير يحتمل من السهم النافذ والطعن الجائف ما لا يحتمله غيره. والخنفساء في ذلك أعجب. وكذلك الضب.
رأى أحدهم أثر ست أرجل في مواضع كثيرة، فقال: ما أعرف دابة لها ست أرجل، فسأل عن ذلك، فقيل له: إن الخنزير يركب الخنزيرة وهي ترتع، فربما قطعت أميالاً ويداه على ظهرها ورجلاه خلف رجليها.
المهاجر بن حبيب يكره الضحك في موطنين: عند إطلاعك في القبر فإنه مدخل عظيم، وعند رؤية القردة لأنهم كانوا عباداً لله فمسخوا.
التفت ابن الرومي يوماً إلى أبي الحسن الخفش وهو يحكي مشيته، فقال:
هنياً يا أبا حسن هنيئاً ... بلغت من الفضائل كل غاية
شركت القرد في قبح وسخف ... وما قصرت عنه في الحكاية
وله:
ليتهم كانوا قروداً فحكوا ... شيم الناس كما تحكي القرود
الدب يقيم أولاده تحت شجرة الجوز فيصعد ويرمي بالجوز إليها إلى أن تشبع، وربما قطع من الشجرة الغصن العبل الضخم الذي لا يقطع إلا بالفأس والجهد، ثم يشد به على الفارس فلا يصيب منه شيئاً إلا هتكه.
الدبة تضع ولدها كندرة لحم غير متميزة الجوارح. فهي تخاف عليه الذر، فلا تزال رافعة له في الهواء أياماً حتى يشتد وتفرج أعضاءه.
الوعل يأكل الحيات والأفاعي أكلاً ذريعاً، وقد يجد القناص رؤوسها ناشبة الأسنان في عنقه وجلد وجهه، لأنه إذا هم بأكلها بدرته فعضته وهو يأكلها، فتبقى الرؤوس معلقة به. ويصيبه العطاش العظيم عند أكلها.
وعن داود عليه السلام: شوقي إلى المسيح مثل الأيل الذي أكل الحيات فاعتراه العطش الشديد، تراه كيف يدور حول الماء.
وليس من الدواب شيء ينصل قرنه كل عام إلا الوعل، فإذا علم أنه غير ذي قرن عديم السلاح لم يظهر مخافة السباع. فإذا نجم قرنه لم يجد بداً من أن يمضغه ويعرضه للشمس والريح. فإذا اشتد ظهر.

وبقراره في مكان واحد إلى أن يشتد قرنه يركبه الشحم ويسمن، فيكثر من الجولان والتردد حتى يذهب شحمه ويشتد لحمه، ويحتال في التحفظ من السباع عند ذلك. فإذا كان صدعاً برز وامن. قال عصام بن زفر:
ترجو الثواب من صبيح يا جمل ... قد مصه الدهر فما فيه بلل
إن صبيحاً ظاعن محتمل ... فلائذ منك بشعب من جبل
كما يلوذ من أعاديه الوعل
احضر جعفر بن سليمان على مائدته بالبصرة يوم زاره الرشيد ألبان الظباء وزبدها وسلاها ولبأها، فاستطاب الرشيد طعومها، فسأل عنها، فأمر جعفر غلمانه فأطلقوا فأطلقوا عن سرب من الظباء ومعها الخشفان حتى مرت تجاه الرشيد، فاستخفه الفرح والتعجب، فقال جعفر: هي من حلب هذه الظباء. وكان جعفر قد أخذها وهي صغار فرباها حتى تناتجت عنده.
والظبي يخضم الحنظل خضماً ويمضغه وماؤه يسيل من شدقيه، وأنت تتبين فيه الاستلذاذ والإستحلاء لطعمه، ويرد البحر فيشرب الماء الأجاج، كما تغمس الشاة لحيها في الماء العذب. فأي شيء أعجب من حيوان يستعذب ملوحة البحر ويستحلي مرارة الحنظل؟ أنشد الجاحظ:
إذا ابتدر الناس المعالي رأيتهم ... قياماً بأيديهم مسوك الأرانب
أي لا كسب لهم إلا صيد الأرنب وبيع جلدها.
يقال للأرنب مفزعة الجن. أي إنها تحيض فلا يقربها. ومن شأنها إذا طلبت أن تقلب أكفها فتطأ على مآخيرها لئلا يقتص أثرها، وهو توبيرها، يقال: وبرت الأرنب، وهو من الوبر، لأنها تمشي على وبر أكفها.
يقال للسنور أبو سعد، وعطسة الأسد. لأنهم يزعمون أن أصحاب السفينة تاذوا بالفأرة، فأخرج الله من عطسة الأسد السنور فأفناه.
الهر يجمع العض بالناب والخمش بالمخالب، لأنه يجمع الأنياب والمخالب. وليس كل سبع كذلك. وهو يناسب الإنسان فيعطس، ويمتطي، ويغسل وجهه بلعابه، ويلطع وبر ولده حتى يصير كأن الدهن يجري في جلده.
السنانير يترددن صارخات في طلب السفاد، فكم من حرة خجلت، وذي غيرة هاجت حميته، وعزب حرك منه شبقه. والسنور يألف الدار. والكلب يألف أهل الدار. وهو ضعيف الهامة وهي من مقاتله، وفوه كفم الكلب، وهو طيب النكهة. والفتيات يقبلن السنانير ويخبرن عن طيب أفواهها.
قال السندي بن شاهك: ما أعياني أحد من التجار إلا باعة السنانير يأخذون السنور الأكال للفراخ، العياث في الطيور، الوثاب على الأقفاص، فيدخلونه في قفص فيه الطير، فإذا رآه المشتري رأى شيئاً عجباً، وظن أنه ظفر بحاجته. فإذا مضى به إلى البيت تبين أنه اشترى شيطاناً يأكل طيره وطير جيرانه، ولا يبقى ولا يذر.
وزعموا أن كل من أكل هراً أسود لم يعمل فيه سحر. وزعموا أن السكينة التي في تابوت موسى رأس هر.
والهرة تحمل خمسين يوماً.
سنور عبد الله مثل في مرجو في صغره فإذا شب تراجع. ومن أمثال العامة: السنور في صغره بدرهم فإذا كبر بيع بثلث درهم.قال بشار:
كسنور عبد الله بيع بدرهم ... صغيراً فلما شب بيع بقيراط
أبو بكر العلاف في مرثية الهر:
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا فنعت بالغدد
أطعمك الغي لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرشد
ولم تزل للحمام مرتصداً ... حتى سقيت الحمام بالرصد
ما كان أغناك عن تسورك ... البرج ولو كان جنة الخلد
لم يرحموا صوتك الضعيف ... كما لم ترث منها لصوتها الغرد
أذاقك الموت من أذاق كما ... أذقت أطياره يداً بيد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
عاقبة البغي لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
كم أكلة أدخت حشما شره ... فأخرجت روحه من الجسد
إن الزمان استفاد منك ومن ... يظلم بعين الزمان يستفد

قد جعل الله في طبع الفيل الهرب من السنور والوحشة منه. وحكي عن هارون مولى الأزد، الذي كان يرد على الكميت ويفخر بقحطان وكان شاعر أهل المولتان، أنه خبأ معه هراً تحت حضنه، ومشى بسيفه إلى الفيل والسيف في خرطومه، والفيالون يذمرونه، فلما دنا منه رمى بالهر في وجهه، ففر هارباً وتساقط الذين على ظهره، وكبر المسلمون، وكان سبب الهزيمة.
الفيلة تضع لسبع سنين ولداً مستوي الأسنان، فيحتالون لأخذ ذلك الولد، فيعيش عندهم ثمانين سنة إلى المائة، وعمر الوحشية أطول.
وإذا احتمت المرأة من نجوها مع العسل لم تحبل أبداً. وإذا علق على شجرة لم تحمل في تلك السنة.
ويزعمون أن الغوغاء إذا صاحوا بها: يا حجام بابك! غضبت وركلت الصائح. ولا غرو أن تفهم ذلك كما يفهم كثير من الحيوان اسمه وما يخاطب به.
ويعملون من جلد الفيل ترساً، فيكون أصلب من كل ترس.
طرف لسان الفيل إلى داخل، وأصله إلى خارج، بخلاف جميع الحيوان. وتقول الهند لولا أن لسان الفيل مقلوب لتكلم إذا لقن.
لا ثدي لحيوان في صدره إلا الإنسان والفيل.
والفيل أضخم الحيوان وأعظمه جرماً، وما ظنك بخلق ربما كان في نابيه أكثر من ثلثمائة من وهو مع ذلك أملح وأظرف وأطرب من كل خفيف الجسم رشيق، حتى فضل في رشاقته على الببغاء، وهو من أعجب العجب. وربما مر الفيل مع عظم بدنه خلف القاعد فلا يشعر بوطئه، ولا يحس بممره، لخفة همسه، واحتمال بعض بدنه لبعض.
أركب أبو الجلال الهدادي الفيل أيام الحجاج، فصاح: الأرض، وأراد أن يرمي بنفسه فرقاً حتى أنزلوه، فقال:
وما كنت يوم الفيل فوق مطية ... ولكن على وطفاء جون ربابها
أنشد ابن الأعرابي:
هو البعوضة إن كلفته كرماً ... والفيل في كل أمر خالط اللوما
أنشد الجاحظ:
ولو أبصرت الستر ... لوجيهه تهاويل
وفيه الفيل منقوشاً ... وفي مشفره طول
لقالت ابعدوا استر ... فلا يأكلني الفيل
زعم هارون مولى الأزد أنه مشى إلى الفيل، فلما دنا منه وثب عليه وثبة فتعلق بنابيه، والهند يزعمون أنهما قرناه يخرجان مستبطنين حتى يخرقا الحنك ويخرجا أعقفين، فجال به جولة كاد يحطمه، وكان رجلاً أيداً رابط الجأش، فاعتمد على أصول النابين فانقلعا من أصلهما، وأدبر الفيل، وبقي القرنان في يده، وكانت الهزيمة. وأنشأ يقول:
ولما رأيت السيف في رأس هضبة ... كما لاح برق من خلال غمام
تغامسته حتى لزقت بصدره ... فلما هوت لازمت أي لزام
وعذت بقرنيه أريد لبانة ... وذلك من عادات كل محامي
فجال وهجيراه صوت مخضرم ... وأبت بقرني يذبل وشمام
خرطوم الفيل أنفه، وبه يوصل الطعام إلى جوفه، وبه يقاتل، ومنه يصيح، وصياحه ليس في مقدار جرمه، ويضرب به الأرض، ويرفع به إلى السماء، وهو مقتل من مقاتله، وهو جيد السباحة، وإذا سبح رفعه صعداً، كما يغيب الجاموس جميع بدنه إلا منخريه. ويقوم خرطومه أيضاً مقام عنقه. والخرق الذي فيه لا ينفذ، وإنما هو وعاء إذا ملأه من طعام أو ماء أو لجه فيه، لأنه قصير العنق لا ينل ماء ولا مرعى.
وللبعوضة خرطوم إلا أنه أجوف، فإذا طعنت به في جلد فاستقت الدم قذفت به إلى جوفها، فهو لها كالبلعوم.
أبو الشمقمق:
يا قوم إني رأيت الفيل بعدكم ... فبارك الله لي في رؤية الفيل
رأيت بيتاً له شيء يحركه ... فكدت أصنع شيئاً في السراويل
الزندبيل مختلف فيه، بعضهم يجعله نوعاً فيقول: الفيلة نوعان، فيل وزندبيل، كالبختي والعربي، والجاموس والبقر، ويجعله بعضهم الذكر منها، وبعضهم الأنثى، وبعضهم العظيم منها.
إذا اغتلم الفيل لم يكن لسواسه هم إلا الهرب بأنفسهم، وربما رجع وحشياً . وقد اغتلم فيل لكسرى فلم يقم له شيء، حتى دنا من مجلس كسرى فأقنع عنه كل من معه إلا رجل من خواصه شد عليه بطبرزين في يده، فضربه في جبهته ضربة غاب فيها، فصدف عنه. فقال له كسرى: ما أنا بما وهب الله لي من الحياة على يدك بأسر مني بالذي رأيت من الجلد والوفاء، وحين لم تخطىء فراستي فيك، ولم يزل رأيي فيك إذ اختصصتك.

الجاحظ: وقد رأيت أنا في عين الفيل صحة الفهم والتأمل، وما شبهت نظره إلا بنظر ملك عظيم الكبر راجح الحلم.
وقال سهل بن هارون:
إذا ما رأيت الفيل ينظر قاصداً ... ظننت بأن الفيل يلزمه الفرض
الفيل ضئيل الصوت ليس صوته على قدر جرمه.
وعن جابر الجعفي: رأيت الشعبي خارجاً، فقلت: إلى أين؟ قال: أنظر الفيل. فأتى الحيرة فنظر إليه.
كما يبصبص الكلب بذنبه إذا ألقيت غليه الكسرة كذلك الفيل إذا قدم إليه علفه تمسح وتملق.
ومن أعاجيب الفيل أن سوطه الذي يحث به ويضرب محجن حديد، أحد طرفيه في جبهته والآخر في يد راكبه، فإذا أراد منه شيئاً غمزه في لحمه.
أول شيء يؤدبون به الفيل ويعلمون السجود للملك. خرج كسرى أبرويز لبعض الأعياد، وقد صفوا له ألف فيل، وقد أحدقت به وبها ثلاثون ألف فارس، فلما بصرت به الفيلة سجدت له، فما رفعت رؤوسها حتى جذبت بالمحاجن وراطنها الفيالون.
الفيل يعرق عرقاً غليظاً غير سائل، أطيب رائحة من المسك. وربما وجد الناس في بيوتهم جرذاً أسود يجدون منه ريح المسك. وقيل هو الذي يخبأ الدراهم. ولا تعرض لعرق الفيل تلك الريح إلا في بلاد خاصة.
عظام الفيل كلها عاج، إلا أن جوهر نابه أكرم وأثمن. ولولا شرف العاج وقدره لما فخر الأحنف بن قيس على أهل الكوفة في قوله: نحن أكثر منكم عاجاً وساجاً وديباجاً وخراجاً.
كنية الفيل أبو الحجاج، وكانت كنيته محمود فيل الحبشة أبا العباس.
لسان الفيل صغير بالقياس إليه وقليلاً ما يدلعه.
قال أبو علي بن سيناء: رأيت الفيل نزا على الفيل بجرجانية خوارزم، فألصق نابه بكفلها واستعان به حتى علاها فضربها. ولا عادة للفيل في السفاد في غير بلاده. ومن غريب ما رأيت هناك أن الأسد المجلوبة إليها كانت تتسافد وتلد، وكذلك الفهود.
عنبسة الفيل النحوي سمي بذلك لأن معدان أباه كان يروض فيلاً للحجاج. فلما أنشد عنبسة هجاء جرير للفرزدق قال الفرزدق:
لقد كان في معدان والفيل زاجر ... لعنبسة الراوي علي القصائدا
جرى عليه النبز.
وقيل لغيلان الراجز راكب الفيل، ولسعدوية الطيوري عين الفيل لأن الحجاج كان يحسبهما عليه. فإذا سمي أهل البصرة إنساناً بفيل فصغروه قالوا: فيلويه، كما يجعلون عمراً عمرويه وحمداً حمدويه.
الطرماح في صفة ثور وحش:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
ابن عرس صعب وحشي لا يكاد يتدرب، وهو مع ذلك يصيد لصاحبه العصافير، يقابل به بيت العصفور فيلج عليه فيأخذه وفراخه ولا يقتله حتى يأخذه منه، ولا يزال كذلك ولو طاف به على ألف جحر.
القنفذ وابن عرس إذا ناهشا الأفاعي والحيات تعالجا بأكل السعتر البري.
الكركدنة تكون نزوراً، وأيام حملها كأيام حمل الفيلة، ولذلك قل هذا الجنس. وما من حيوان إلا وهو ناقص عند غايته النقص الفاحش.
وتزعم الهند أنه إذا كان ببلاد لم يدع فيها شيئاً من الحيوان حتى يكون بينه وبينه مائة فرسخ من جميع جهات الأرض هيبة له وهرباً منه. ويسمى الحمار الهندي. وله قرن واحد في وسط جبهته. ويزعمون انه يخرج رأسه من بطن أمه فيأكل من أطراف الشجر، فإذا شبع أدخل رأسه. ويزعمون أنه ربما نطح الفيل فرفعه بقرنه، فلا يشعر بمكانه حتى يتقطع على الأيام.
قالوا في قرن الكركدن إن غلظه يبلغ شبرين، وليس بطويل جداً، وهو محدد الرأس شديد الملاسة في مدمج صلب لا يمتنع عليه شيء. وإذا قطعوه ظهرت في مقاطعه صور عجيبة.
إذا اجتمع في الفيل أن يكون وحشياً ومغتلماً لم يقم له شيء. إلا الكركدن، وإنه ليهجم عليه فيحجم عنه حتى تذهب عنه سكرة الغلمة فلا يطور طواره ولا يحل بأداني أرضه.
في أعلى بلاد النوبة تجتمع السباع والوحوش والدواب الكثيرة، وذلك في حمارة القيظ إلى شرائع المياه فيتسافدن، فمن ذلك الزرافة وهي اشتركا وفلفل وقيل هي ولد النمر من الجمل ابن عرس أشد عداوة للفأر من السنور. والشاة أشد فرقاً من الذئب منها من الأسد والنمر والببر، مع كون هؤلاء أقوى عليها. والحمام أفرق من الشاهين منه من الصقر والبازي.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9