كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي

بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَفْضَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَبُرْهَانُ الْمُحَقِّقِينَ كَهْفُ الْأَئِمَّةِ وَالْفُضَلَاءِ زُبْدَةُ نَحَارِيرِ الْعُلَمَاءِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَعُمْدَةُ فُضَلَاءِ الزَّمَانِ بَدْرُ الدِّينِ أبو عبد اللَّهِ محمد بن الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عبد اللَّهِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ سَقَى اللَّهُ ثَرَاهُ وفي دَارِ الْخُلْدِ مَأْوَاهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَسَّسَ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ بِأُصُولِ أَسَاسِهِ وَمَلَّكَ من شَاءَ قِيَادَ قِيَاسِهِ وَوَهَبَ من اخْتَصَّهُ بِالسَّبْقِ إلَيْهِ على أَفْرَادِ أَفْرَاسِهِ وَأَوْلَى عِنَانَ الْعِنَايَةِ من وَفَّقَهُ لِاقْتِبَاسِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له شَهَادَةً يَتَقَوَّمُ منها الْحَدُّ بِفُصُولِهِ وَأَجْنَاسِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الذي رَقَى إلَى السَّبْعِ الطِّبَاقِ بِبَدِيعِ جِنَاسِهِ وَآنَسَ من الْعُلَا نُورًا هَدَى الْأُمَّةَ بِإِينَاسِهِ صلى اللَّهُ عليه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسلم تَسْلِيمًا كَثِيرًا ما قَامَتْ النُّصُوصُ بِنَفَائِسِ أَنْفَاسِهِ وَاسْتُخْرِجَتْ الْمَعَانِي من مِشْكَاةِ نِبْرَاسِهِ أَمَّا بَعْدُ فإن أَوْلَى ما صُرِفَتْ الْهِمَمُ إلَى تَمْهِيدِهِ وَأَحْرَى ما عُنِيَتْ بِتَسْدِيدِ قَوَاعِدِهِ وَتَشْيِيدِهِ الْعِلْمُ الذي هو قِوَامُ الدِّينِ وَالْمَرْقَى إلَى دَرَجَاتِ الْمُتَّقِينَ وكان عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ جَوَادَهُ الذي لَا يُلْحَقُ وَحَبْلَهُ الْمَتِينَ الذي هو أَقْوَى وَأَوْثَقُ فإنه قَاعِدَةُ الشَّرْعِ وَأَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ كُلُّ فَرْعٍ وقد أَشَارَ الْمُصْطَفَى صلى اللَّهُ عليه وسلم في جَوَامِعِ كَلِمِهِ إلَيْهِ وَنَبَّهَ أَرْبَابُ اللِّسَانِ عليه فَصَدَرَ في الصَّدْرِ الْأَوَّلِ منه جُمْلَةٌ سَنِيَّةٌ وَرُمُوزٌ خَفِيَّةٌ حتى جاء الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ محمد بن إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه فَاهْتَدَى بِمَنَارِهِ وَمَشَى إلَى ضَوْءِ نَارِهِ فَشَمَّرَ عن سَاعِدِ الِاجْتِهَادِ وَجَاهَدَ في تَحْصِيلِ هذا الْغَرَضِ السَّنِيِّ حَقَّ الْجِهَادِ وَأَظْهَرَ دَفَائِنَهُ وَكُنُوزَهُ وَأَوْضَحَ إشَارَاتِهِ وَرُمُوزَهُ وَأَبْرَزَ مُخَبَّآتِهِ وَكَانَتْ مَسْتُورَةً وَأَبْرَزَهَا في أَكْمَلِ مَعْنًى وَأَجْمَلِ صُورَةً حتى نَوَّرَ بِعِلْمِ الْأُصُولِ دُجَى الْآفَاقِ وَأَعَادَ سُوقَهُ بَعْدَ الْكَسَادِ إلَى نَفَاقٍ وَجَاءَ من بَعْدَهُ فَبَيَّنُوا وَأَوْضَحُوا وَبَسَطُوا وَشَرَحُوا حتى جاء الْقَاضِيَانِ قَاضِي السُّنَّةِ أبو بَكْرِ بن الطَّيِّبِ وَقَاضِي الْمُعْتَزِلَةِ عبد الْجَبَّارِ فَوَسَّعَا الْعِبَارَاتِ وَفَكَّا الْإِشَارَاتِ وَبَيَّنَا الْإِجْمَالَ وَرَفَعَا الْإِشْكَالَ وَاقْتَفَى الناس بِآثَارِهِمْ

وَسَارُوا على لَاحِبِ نَارِهِمْ فَحَرَّرُوا وَقَرَّرُوا وَصَوَّرُوا فَجَزَاهُمْ اللَّهُ خَيْرَ الْجَزَاءِ وَمَنَحَهُمْ بِكُلِّ مَسَرَّةٍ وَهَنَاءٍ ثُمَّ جَاءَتْ أُخْرَى من الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَجَرُوا ما كان وَاسِعًا وَأَبْعَدُوا ما كان شَاسِعًا وَاقْتَصَرُوا على بَعْضِ رُءُوسِ الْمَسَائِلِ وَكَثَّرُوا من الشُّبَهِ وَالدَّلَائِلِ وَاقْتَصَرُوا على نَقْلِ مَذَاهِبِ الْمُخَالِفِينَ من الْفِرَقِ وَتَرَكُوا أَقْوَالَ من لِهَذَا الْفَنِّ أَصَّلَ وَإِلَى حَقِيقَتِهِ وَصَّلَ فَكَادَ يَعُودُ أَمْرُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَتَذْهَبُ عنه بَهْجَةُ الْمُعَوَّلِ فَيَقُولُونَ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ أو وِفَاقًا للجباني ( ( ( للجبائي ) ) ) وَتَكُونُ لِلشَّافِعِيِّ مَنْصُوصَةً وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالِاعْتِنَاءِ مَخْصُوصَةً وَفَاتَهُمْ من كَلَامِ السَّابِقِينَ عِبَارَاتٌ رَائِقَةٌ وَتَقْرِيرَاتٌ فَائِقَةٌ وَنُقُولٌ غَرِيبَةٌ وَمَبَاحِثُ عَجِيبَةٌ مَنْهَجُ الْمُؤَلِّفِ وَمَصَادِرُهُ وقد اجْتَمَعَ عِنْدِي بِحَمْدِ اللَّهِ من مُصَنَّفَاتِ الْأَقْدَمِينَ في هذا الْفَنِّ ما يَرْبُو على الْمِئِينَ وما بَرِحَتْ لي هِمَّةٌ تَهُمُّ في جَمْعِ أَشْتَاتِ كَلِمَاتِهِمْ وَتَجُولُ وَمِنْ دُونِهَا عَوَائِقُ الْحَالِ تَحُولُ إلَى ان مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِنَيْلِ الْمُرَادِ وَأَمَدَّ بِلُطْفِهِ بِكَثِيرٍ من الْمَوَادِّ فَمَخَضْتُ زُبْدَ كُتُبِ الْقُدَمَاءِ وَوَرَدْتُ شَرَائِعَ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْعُلَمَاءِ وَجَمَعْت ما انْتَهَى إلَيَّ من أَقْوَالِهِمْ وَنَسَجْت على مِنْوَالِهِمْ وَفَتَحْت منه ما كان مُقْفَلًا وَفَصَّلْت ما كان مُجْمَلًا بِعِبَارَةٍ تُسْتَعْذَبُ وَإِشَارَةٌ لَا تُسْتَصْعَبُ وَزِدْت في هذا الْفَنِّ من الْمَسَائِلِ ما يُنِيفُ على الْأُلُوفِ وَوَلَّدْت من الْغَرَائِبِ غير الْمَأْلُوفِ وَرَدَدْت كُلَّ فَرْعٍ إلَى أَصْلِهِ وَشَكْلٍ قد حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَكْلِهِ وَأَتَيْت فيه بِمَا لم اسبق إلَيْهِ وَجَمَعْت شَوَارِدَهُ الْمُتَفَرِّقَاتِ عليه بِمَا يُقْضَى منه الْعَجَبُ وَإِنَّ اللَّهَ يَهَبُ لِعِبَادِهِ ما يَشَاءُ أَنْ يَهَبَ وَأَنْظِمُ فيه بِحَمْدِ اللَّهِ ما لم يَنْتَظِمْ قَبْلَهُ في سِلْكٍ وَلَا حَصَلَ لِمَالِكٍ في مِلْكٍ وكان من الْمُهِمِّ تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَخِلَافِ أَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُخَالِفِينَ من أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ وَلَقَدْ رَأَيْت في كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْخَلَلَ في ذلك وَالزَّلَلَ في كَثِيرٍ من التَّقْرِيرَاتِ وَالْمَسَالِكِ فَأَتَيْت الْبُيُوتَ من أَبْوَابِهَا وَشَافَهْت كُلَّ مَسْأَلَةٍ من كُتَّابِهَا وَرُبَّمَا أَسُوقُهَا بِعِبَارَاتِهِمْ لِاشْتِمَالِهَا على فَوَائِدَ وَتَنْبِيهًا على خَلَلٍ نَاقِلٍ وما تَضَمَّنَتْهُ من الْمَآخِذِ وَالْمَقَاصِدِ فَمِنْ كُتُبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه الرِّسَالَةُ واخْتِلَافُ الحديث وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ وَمَوَاضِعُ مُتَفَرِّقَةٌ من الْأُمِّ وَشَرْحِ الرِّسَالَةِ لِلصَّيْرَفِيِّ وَلِلْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَلِلْجُوَيْنِيِّ وَلِأَبِي الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيِّ وَكِتَابُ الْقِيَاسِ لِلْمُزَنِيِّ وَكِتَابُ الرَّدِّ على دَاوُد في إنْكَارِهِ الْقِيَاسَ لِابْنِ سُرَيْجٍ وَكِتَابُ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ له أَيْضًا وَكِتَابُ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ لِلصَّيْرَفِيِّ

وَكِتَابُ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَأَبِي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بن الْقَاضِي في رِيَاضِ الْمُتَعَلِّمِينَ وَأَبِي عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُحَمَّدِ بن يحيى بن سُرَاقَةَ الْعَامِرِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ بن كَجٍّ وَأَبِي بَكْرِ بن فُورَكٍ وَالْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالشَّيْخِ أبي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٍ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ في الْأُصُولِ وَالتَّحْصِيلِ لِلْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ وَشَرْحُ الْكِفَايَةِ وَالْجَدَلِ لِلْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَاللُّمَعُ وَشَرْحُهَا لِلشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَالتَّبْصِرَةُ وَالْمُلَخَّصُ وَالْمَعُونَةُ وَالْحُدُودُ وَغَيْرُهَا من كُتُبِهِ وَكِتَابُ الشَّيْخِ أبي نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَكِتَابُ أبي الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيِّ من أَصْحَابِنَا وَالْأَوْسَطُ لِابْنِ بَرْهَانٍ وَالْوَجِيزُ له وَالْقَوَاطِعُ لِأَبِي الْمُظَفَّرِ بن السَّمْعَانِيِّ وهو أَجَلُّ كِتَابٍ لِلشَّافِعِيَّةِ في أُصُولِ الْفِقْهِ نَقَلَاتٍ وَحِجَاجًا وَكِتَابُ التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ لِلْقَاضِي أبي بَكْرٍ وهو أَجَلُّ كِتَابٍ صُنِّفَ في هذا الْعِلْمِ مُطْلَقًا وَالتَّلْخِيصُ من هذا الْكِتَابِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَمْلَاهُ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ والبرهان لِلْإِمَامِ وَشُرُوحُهُ وقد اعْتَنَى بِهِ الْمَالِكِيُّونَ الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وابن الْعَلَّافِ وابن الْمُنِيرِ وَنَكَتَ عليه الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمُقْتَرِحُ جَدُّ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ لِأُمِّهِ وَمُخْتَصَرُ النُّكَتِ لِابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الإسكندراني وَمُخْتَصَرُهُ لِابْنِ الْمُنِيرِ وَالْمُسْتَصْفَى لِلْغَزَالِيِّ وقد اعْتَنَى بِهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا فَشَرَحَهُ أبو عبد اللَّهِ الْعَبْدَرِيُّ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُسْتَوْفَى وَنَكَتَ عليه ابن الْحَاجِّ الْإِشْبِيلِيُّ وَغَيْرُهُ وَاخْتَصَرَهُ ابن رُشْدٍ وابن شَاسٍ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ وابن رَشِيقٍ وَالْمَحْصُولُ وَمُخْتَصَرَاتُهُ وَشُرُوحِهِ لِلْأَصْفَهَانِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَالْأَحْكَامُ لِلْآمِدِيِّ وَمُخْتَصَرُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالنِّهَايَةُ لِلصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ وَالْفَائِقُ وَالرِّسَالَةُ السَّيْفِيَّةُ له وابن دَقِيقِ الْعِيدِ في الْعُنْوَانِ وَشَرْحُ الْعُمْدَةِ وَشَرْحُ الْإِلْمَامِ وَبِهِ خَتَمَ التَّحْقِيقَ في هذا الْفَنِّ وفي مَوْضِعٍ من شَرْحِ الْإِلْمَامِ يقول أُصُولُ الْفِقْهِ هو الذي يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عليه وَمِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كِتَابُ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَاللُّبَابُ لِأَبِي الْحَسَنِ الْبُسْتِيِّ الْجُرْجَانِيِّ وَكِتَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَتَقْوِيمُ الْأَدِلَّةِ لِأَبِي زَيْدٍ وَالْمِيزَانُ لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ وَالْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ لِأَبِي الْفَضْلِ الْخُوَارِزْمِيَّ وَكِتَابُ الْعَالَمِيِّ وَالْبَدِيعُ لِابْنِ السَّاعَاتِي وكان اعلم أَهْلِ زَمَانِهِ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَمِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ الْجَامِعُ لِأَبِي عبد اللَّهِ مُحَمَّدِ بن أَحْمَدَ بن مُجَاهِدِ بن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيِّ الْبَصْرِيِّ وَنَقَلْت عنه بِالْوَاسِطَةِ وَالْمُلَخَّصُ لِلْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْإِفَادَةُ وَالْأَجْوِبَةُ الْفَاخِرَةُ له وَالْفُصُولُ لِأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ وَالْمَحْصُولُ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ وَكِتَابُ أبي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيِّ شَارِحِ مُسْلِمٍ وَالْقَوَاعِدُ لِلْقَرَافِيِّ وَغَيْرُهُ

وَمِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ التَّمْهِيدُ لِأَبِي الْخَطَّابِ وَالْوَاضِحُ لِابْنِ عَقِيلٍ وَالرَّوْضَةُ لِلْمَقْدِسِيِّ وَمُخْتَصَرُهَا لِلطُّوفِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَمِنْ كُتُبِ الظَّاهِرِيَّةِ كِتَابُ أُصُولِ الْفَتْوَى لِأَبِي عبد اللَّهِ مُحَمَّدِ بن سَعِيدٍ الدَّاوُدِيِّ وهو عُمْدَةُ الظَّاهِرِيَّةِ فِيمَا صَحَّ عن دَاوُد وَكِتَابُ الْإِحْكَامِ لِابْنِ حَزْمٍ وَمِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْعُمْدَةُ لِأَبِي الْحُسَيْنِ وَالْمُعْتَمَدُ له وَالْوَاضِحُ لِأَبِي يُوسُفَ عبد السَّلَامِ وَالنُّكَتُ لِابْنِ الْعَارِضِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَمِنْ كُتُبِ الشِّيعَةِ الذَّرِيعَةُ لِلشَّرِيفِ الرَّضِيِّ وَالْمَصَادِرُ لِمَحْمُودِ بن عَلِيٍّ الْحِمْصِيِّ وهو على مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ وَغَيْرُ ذلك مِمَّا هو مُبَيَّنٌ في مَوَاضِعِهِ وَسَمَّيْته الْبَحْرَ الْمُحِيطِ وَاَللَّهَ أَسْأَلَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مُقَرَّبًا لِلْفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ

فَصْلٌ أَوَّلُ من صَنَّفَ في الْأُصُولِ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه أَوَّلُ من صَنَّفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ صَنَّفَ فيه كِتَابَ الرِّسَالَةِ وَكِتَابَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَاخْتِلَافِ الحديث وَإِبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ وَكِتَابَ جِمَاعِ الْعِلْمِ وَكِتَابَ الْقِيَاسِ الذي ذَكَرَ فيه تَضْلِيلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُجُوعَهُ عن قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ ثُمَّ تَبِعَهُ الْمُصَنِّفُونَ في الْأُصُولِ قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ لم نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حتى وَرَدَ الشَّافِعِيُّ وقال الْجُوَيْنِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ لم يَسْبِقْ الشَّافِعِيَّ أَحَدٌ في تَصَانِيفِ الْأُصُولِ وَمَعْرِفَتِهَا وقد حكى عن ابْنِ عَبَّاسٍ تَخْصِيصُ عُمُومٍ وَعَنْ بَعْضِهِمْ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لم يُقَلْ في الْأُصُولِ شيئا ولم يَكُنْ لهم فيه قَدَمٌ فَإِنَّا رَأَيْنَا كُتُبَ السَّلَفِ من التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فما رَأَيْنَاهُمْ صَنَّفُوا فيه أَلَا تَرَى أَنَّ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ كان أَكْبَرَ سِنًّا منه وكان مُتَقَدِّمًا في الْعِلْمِ وكان يَأْخُذُ بِرِكَابِهِ فَيَتْبَعُهُ وَيَتَعَلَّمُ منه 1 هـ وَلَيْسَ كما قال بَلْ هو أَصْغَرُ من الشَّافِعِيِّ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ ابا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ كان يَتْبَعُ الشَّافِعِيَّ في الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ وَرُبَّمَا يُخَالِفُهُ في الْأُصُولِ كَقَوْلِهِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ في الْفُرُوعِ وَلَيْسَ ذلك مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَكَقَوْلِهِ لَا صيغه لِلْعُمُومِ قال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَنُقِلَ مُخَالَفَتُهُ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ وَنُصُوصَهُ وَرُبَّمَا يَنْسُبُ الْمُبْتَدَعُونَ إلَيْهِ ما هو بَرِيءٌ منه كما نَسَبُوا إلَيْهِ أَنَّهُ يقول ليس في الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ وَلَا في الْقُبُورِ نَبِيٌّ وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ في الْإِيمَانِ وَنَفْيُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ في الْأَزَلِ وَتَكْفِيرُ الْعَوَامّ وَإِيجَابُ عِلْمِ الدَّلِيلِ عليهم وقد تَصَفَّحْت ما تَصَحَّفْت من كُتُبِهِ وَتَأَمَّلْت نُصُوصَهُ في هذه الْمَسَائِلِ فَوَجَدْتهَا كُلَّهَا خِلَافَ ما نُسِبَ إلَيْهِ وقال ابن فُورَكٍ في كِتَابِ شَرْحِ كِتَابِ الْمَقَالَاتِ لِلْأَشْعَرِيِّ في مَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ اعْلَمْ أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ يَذْهَبُ في الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَنَصُّ قَوْلِهِ في كِتَابِ التَّفْسِيرِ في بَابِ إيجَابِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ على الْمَأْمُومِ خِلَافُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ وفي إثْبَاتِ آيَةِ الْبَسْمَلَةِ في كل سُورَةٍ آيَةً منها قُرْآنًا مُنَزَّلًا فيها وَلِذَلِكَ قال في كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ بموافقه أُصُولَهُ

فَصْلٌ في بَيَانِ شَرَفِ عِلْمِ الْأُصُولِ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلُومَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ الْأَوَّلُ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالثَّانِي لُغَوِيٌّ كَعِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْعَرُوضِ وَالثَّالِثُ الشَّرْعِيُّ وهو عِلْمُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَصْنَافِ ثُمَّ أَشْرَفُ الْعُلُومِ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ وَمَعْرِفَةُ ذلك بِالتَّقْلِيدِ وَنَقْلُ الْفُرُوعِ الْمُجَرَّدَةِ يَسْتَفْرِغُ جَمَامَ الذِّهْنِ وَلَا يَنْشَرِحُ بها الصَّدْرُ لِعَدَمِ أَخْذِهِ بِالدَّلِيلِ وَشَتَّانَ بين من يَأْتِي بِالْعِبَادَةِ تَقْلِيدًا لِإِمَامِهِ بِمَعْقُولِهِ وَبَيْنَ من يَأْتِي بها وقد ثَلَجَ صَدْرُهُ عن اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّاسُ في حَضِيضٍ عن ذلك إلَّا من تَغَلْغَلَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَكَرَعَ من مَنَاهِلِهِ الصَّافِيَةِ وَأَدْرَعَ مَلَابِسَهُ الضَّافِيَةَ وَسَبَحَ في بَحْرِهِ وَرَبِحَ من مَكْنُونِ دُرِّهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في كِتَابِ الْمَدَارِكِ وهو من أَنْفَسِ كُتُبِهِ وَالْوَجْهُ لِكُلِّ مُتَصَدٍّ لِلْإِقْلَالِ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِحَاطَةَ بِالْأُصُولِ شَوْقَهُ الْآكَدَ وَيَنُصَّ مَسَائِلَ الْفِقْهِ عليها نَصَّ من يُحَاوِلُ بِإِيرَادِهَا تَهْذِيبَ الْأُصُولِ وَلَا يَنْزِفُ جَمَامَ الذِّهْنِ في وَضْعِ الْوَقَائِعِ مع الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ مع الذُّهُولِ عن الْأُصُولِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى خَيْرُ الْعِلْمِ ما ازْدَوَجَ فيه الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَاصْطَحَبَ فيه الرَّأْيُ وَالشَّرْعُ عِلْمُ الْفِقْهِ وَأُصُولُ الْفِقْهِ من هذا الْقَبِيلِ فإنه يَأْخُذُ من صَفْوِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ سَوَاءَ السَّبِيلِ فَلَا هو تَصَرَّفَ بِمَحْضِ الْعُقُولِ بِحَيْثُ لَا يَتَلَقَّاهُ الشَّرْعُ بِالْقَبُولِ وَلَا هو مَبْنِيٌّ على التَّقْلِيدِ الذي لَا يَشْهَدُ له الْعَقْلُ بِالتَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ وَلِأَجْلِ شَرَفِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَرِفْعَتِهِ وَفَّرَ اللَّهُ دَوَاعِيَ الْخَلْقِ على طُلْبَتِهِ وكان الْعُلَمَاءُ بِهِ أَرْفَعَ مَكَانًا وَأَجَلَّهُمْ شَأْنًا وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا وَأَعْوَانًا وقال أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ الْأُصُولُ اعْلَمْ ان النَّصَّ على حُكْمِ كل حَادِثَةٍ عَيْنًا مَعْدُومٌ وَأَنَّ لِلْأَحْكَامِ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَأَنَّ الْفُرُوعَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِأُصُولِهَا وَأَنَّ النَّتَائِجَ لَا تُعْرَفُ حَقَائِقُهَا إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِمُقَدِّمَاتِهَا فَحُقَّ أَنْ يُبْدَأَ بِالْإِبَانَةِ عن الْأُصُولِ لِتَكُونَ سَبَبًا إلَى مَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في نِسْبَةِ الْأُصُولِ إلَى الْفِقْهِ فَقِيلَ عِلْمُ الْأُصُولِ بِمُجَرَّدِهِ كَالْمَيْلَقِ

الذي يُخْتَبَرُ بِهِ جَيِّدُ الذَّهَبِ من رَدِيئِهِ وَالْفِقْهُ كَالذَّهَبِ فَالْفَقِيهُ الذي لَا أُصُولَ عِنْدَهُ كَكَاسِبِ مَالٍ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَلَا ما يَدَّخِرُ منه مِمَّا لَا يَدَّخِرُ وَالْأُصُولِيُّ الذي لَا فِقْهَ عِنْدَهُ كَصَاحِبِ الْمَيْلَقِ الذي لَا ذَهَبَ عِنْدَهُ فإنه لَا يَجِدُ ما يَخْتَبِرُهُ على مَيْلَقِهِ وَقِيلَ الْأُصُولِيُّ كَالطَّبِيبِ الذي لَا عَقَارَ عِنْدَهُ وَالْفَقِيهُ كَالْعَطَّارِ الذي عِنْدَهُ كُلُّ عَقَارٍ وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُ ما يَضُرُّ وَلَا ما يَنْفَعُ وَقِيلَ الْأُصُولِيُّ كَصَانِعِ السِّلَاحِ وهو جَبَانٌ لَا يُحْسِنُ الْقِتَالَ بِهِ وَالْفَقِيهُ كَصَاحِبِ سِلَاحٍ وَلَكِنْ لَا يُحْسِنُ إصْلَاحَهَا إذَا فَسَدَتْ وَلَا جِمَاعَهَا إذَا صَدَعَتْ فَإِنْ قِيلَ هل أُصُولُ الْفِقْهِ إلَّا نُبَذٌ جُمِعَتْ من عُلُومٍ مُتَفَرِّقَةٍ نُبْذَةٌ من النَّحْوِ كَالْكَلَامِ على مَعَانِي الْحُرُوفِ التي يَحْتَاجُ الْفَقِيهُ إلَيْهَا وَالْكَلَامِ في الِاسْتِثْنَاءِ وَعَوْدِ الضَّمِيرِ لِلْبَعْضِ وَعَطْفِ الْخَاصِّ على الْعَامِّ وَنَحْوِهِ ونبذه من عِلْمِ الْكَلَامِ كالكلا م في الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَكَوْنِ الْحُكْمِ قَدِيمًا وَالْكَلَامِ على إثْبَاتِ النَّسْخِ وَعَلَى الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ وَنُبْذَةٌ من اللُّغَةِ كَالْكَلَامِ في مَوْضُوعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَصِيَغِ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَنُبْذَةٌ من عِلْمِ الحديث كَالْكَلَامِ في الْأَخْبَارِ فَالْعَارِفُ بِهَذِهِ الْعُلُومِ لَا يَحْتَاجُ إلَى أُصُولِ الْفِقْهِ في شَيْءٍ من ذلك وَغَيْرُ الْعَارِفِ بها لَا يُغْنِيهِ أُصُولُ الْفِقْهِ في الْإِحَاطَةِ بها فلم يَبْقَ من أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا الْكَلَامُ في الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالتَّعَارُضِ وَالِاجْتِهَادِ وَبَعْضِ الْكَلَامِ في الْإِجْمَاعِ من أُصُولِ الدِّينِ أَيْضًا وَبَعْضِ الْكَلَامِ في الْقِيَاسِ وَالتَّعَارُضِ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْفَقِيهُ فَفَائِدَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِالذَّاتِ حِينَئِذٍ قَلِيلَةٌ فَالْجَوَابُ مَنْعُ ذلك فإن الْأُصُولِيِّينَ دَقَّقُوا النَّظَرَ في فَهْمِ أَشْيَاءَ من كَلَامِ الْعَرَبِ لم تَصِلْ إلَيْهَا النُّحَاةُ وَلَا اللُّغَوِيُّونَ فإن كَلَامَ الْعَرَبِ مُتَّسِعٌ وَالنَّظَرُ فيه مُتَشَعِّبٌ فَكُتُبُ اللُّغَةِ تَضْبِطُ الْأَلْفَاظَ وَمَعَانِيَهَا الظَّاهِرَةَ دُونَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ التي تَحْتَاجُ إلَى نَظَرِ الْأُصُولِيِّ بِاسْتِقْرَاءٍ زَائِدٍ على اسْتِقْرَاءِ اللُّغَوِيِّ مِثَالُهُ دَلَالَةُ صِيغَةِ افْعَلْ على الْوُجُوبِ ولا تَفْعَلْ على التَّحْرِيمِ وَكَوْنُ كُلٍّ وَأَخَوَاتِهَا لِلْعُمُومِ وَنَحْوُهُ مِمَّا نَصَّ هذا السُّؤَالُ على كَوْنِهِ من اللُّغَةِ لو فَتَّشْت لم تَجِدْ فيها شيئا من ذلك غَالِبًا وَكَذَلِكَ في كُتُبِ النُّحَاةِ في الِاسْتِثْنَاءِ من أَنَّ الْإِخْرَاجَ قبل الْحُكْمِ أو بَعْدَهُ وَغَيْرُ ذلك من الدَّقَائِقِ التي تَعَرَّضَ لها الْأُصُولِيُّونَ وَأَخَذُوهَا من كَلَامِ الْعَرَبِ بِاسْتِقْرَاءٍ خَاصٍّ وَأَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ لَا تَقْتَضِيهَا صِنَاعَةُ النَّحْوِ وَسَيَمُرُّ بِك منه في هذا الْكِتَابِ الْعَجَبُ الْعُجَابُ

المقدمات
تعريف أصول الفقه أصول الفقه مركب تتوقف معرفته على معرفة مفرداته من حيث التركيب لا من حيث كل وجه تعريف الأصل فالأصول جمع أصل وأصل الشيء ما منه الشيء أي مادته كالوالد للولد والشجرة للغصن ورده القرافي باشتراك من بين الابتداء والتبعيض وبأنه لا يصح هنا
معنى من معانيها وأجاب الأصفهاني عن الأول بأن الاشتراك لازم لكن يصار إليه في الحدود حيث لا يمكن التعبير بغيره وعن الثاني بأن من لابتداء الغاية وقال الآمدي ما استند الشيء في تحقيقه إليه وقال أبو الحسين ما يبني عليه غيره وتبعه ابن الحاجب في باب القياس ورد بأنه لا يقال إن الولد يبنى على الوالد بل يقال فرعه وقال الإمام هو المحتاج إليه ورد بأنه إن أريد احتياج الأثر إلى المؤثر لزم إطلاقه على الله تعالى وإن أريد ما يتوقف عليه الشيء لزم إطلاقه على الجزاء والشرط وقد التزمه في المباحث المشرقية فقال لا تبعد تسمية الشروط واندفاع الموانع أصولا باعتبار توقف وجود الشيء عليها وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام كل ما أثمر معرفة شيء ونبه عليه فهو أصل له فعلوم الحس أصل لأنها تثمر معرفة حقائق الأشياء وما عداه فرع له وقال القفال الشاشي الأصل ما تفرع عنه غيره والفرع ما تفرع عن غيره وهذا أسد الحدود فعلى هذا لا يقال في الكتاب إنه فرع أصله الحس لأن الله تعالى تولاه وجعله أصلا دل العقل عليه قال والكتاب والسنة أصل لأن غيرهما يتفرع عنهما وأما القياس فيجوز أن يكون أصلا على معنى أن له فروقا تنشأ عنه ويتوصل إلى معرفتها من جهته كالكتاب أصل لما ينبني عليه وكالسنة أصل لما يعرف من جهتها وهو فرع على معنى أنه إنما عرف بغيره وهو الكتاب أو غيره وكذلك السنة والإجماع قال وقيل إن القياس لا يقال له أصل ولا فرع لأنه فعل القائس ولا توصف الأفعال بالأصل

والفرع وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي الأصل ما عرف به حكم غيره والفرع ما عرف بحكم غيره قياسا عليه وقال الماوردي في الحاوي قيل الأصل ما دل عليه غيره والفرع ما دل على غيره فعلى هذا يجوز أن يقال في الكتاب إنه فرع لعلم الحس لأنه الدال على صحته هذا الاعتراض يصلح أن يدخل به كثير من العبارات السالفة على اختلافها فليتأمل وقال ابن السمعاني في القواطع قيل الأصل ما انبنى عليه غيره وقيل ما يقع التوصل به إلى معرفة ما وراءه وهما مدخولان لأن من أصول الشرع ما هو عقيم لا يقبل الفرع ولا يقع به التوصل إلى ما وراءه بحال كدية الجنين والقسامة وتحمل العاقلة فهذه أصول ليست لها فروع فالأولى أن يقال الأصل كل ما ثبت دليلا في إيجاب حكم من الأحكام ليتناول ما جلب فرعا أو لم يجلب

ويطلق في الاصطلاح على أمور
أحدها الصورة المقيس عليها على الخلاف الآتي إن شاء الله تعالى في القياس في تفسير الأصل الثاني الرحجان كقولهم الأصل في الكلام الحقيقة أي الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز الثالث الدليل كقولهم أصل هذه المسألة من الكتاب والسنة أي دليلها ومنه أصول الفقه أي أدلته الرابع القاعدة المستمرة كقولهم إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل وهذه الأربعة ذكرها القرافي وفيه نظر لأن الصورة المقيس عليها ليست معنى زائدا لأن أصل القياس اختلف فيه هل هو محل الحكم أو دليله أو حكمه وأيا ما كان فليس معنى زائدا لأنه إن كان أصل القياس دليله فهو المعنى السابق وإن كان محله أو حكمه فهما يسميان أيضا دليلا مجازا فلم يخرج الأصل عن معنى الدليل وبقي عليه أمور أحدها التعبد كقولهم إيجاب الطهارة بخروج الخارج على خلاف الأصل يريدون أنه لا يهتدي إليه القياس

الثاني الغالب في الشرع ولا يمكن ذلك إلا باستقراء موارد الشرع الثالث استمرار الحكم السابق كقولهم الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل له الرابع المخرج كقول الفرضيين أصل المسألة من كذا عدد الأصول التي يبنى الفقه عليها ثم اختلفوا في عدد الأصول فالجمهور على أنها أربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس قال الرافعي في باب القضاء وقد يقتصر على الكتاب والسنة ويقال الإجماع يصدر عن أحدهما والقياس الرد إلى أحدهما فهما أصلان قال في المطلب وفيه منازعة لمن جوز انعقاد الإجماع لا عن أمارة ولا عن دلالة وجوز القياس على المحل المجمع عليه واختصر بعضهم فقال أصل ومعقول أصل فالأصل للكتاب والسنة والإجماع ومعقول الأصل هو القياس قال ابن السمعاني وأشار الشافعي إلى أن جماع الأصول نص ومعنى فالكتاب والسنة والإجماع داخل تحت النص والمعنى هو القياس وزاد بعضهم العقل فجعلها خمسة وقال أبو العباس بن القاص الأصول سبعة الحس والعقل والكتاب والسنة والإجماع والقياس واللغة والصحيح أنها أربعة وأما العقل فليس بدليل يوجب شيئا أو يمنعه وإنما تدرك به الأمور فحسب إذ هو آلة العارف وكذلك الحس لا يكون دليلا بحال لأنه يقع به درك الأشياء الحاضرة وأما اللغة فهي مدركة اللسان ومطية لمعاني الكلام وأكثر ما فيه معرفة سمات الأشياء ولا حظ له في إيجاب شيء وقال الجيلي في الإعجاز أربعة الكتاب والسنة والقياس ودليل البقاء على النفي الأصلي وردها القفال الشاشي إلى واحد فقال أصل السمع هو كتاب الله تعالى وأما السنة والإجماع والقياس فمضاف إلى بيان الكتاب لقوله تعالى ^ تبيانا لكل شيء ^ النحل 89 وقوله ^ وما فرطنا في الكتاب من شيء ^ الأنعام 38 وروي عن ابن مسعود أنه لعن الواصلة والمستوصلة وقال ما لي لا ألعن من لعنه الله فقالت امرأة قرأت كتاب الله فلم أجد فيه ما تقول فقال إن كنت

قرأتيه فقد وجدتيه ! ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ! الحشر 7 وأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة فأضاف عبد الله بن مسعود بلطيف حكمته قول الرسول إلى كتاب الله وعلى هذا إضافة ما أجمع عليه مما لا يوجد في الكتاب والسنة نصا قلت ووقع مثل ذلك للشافعي في مسألة قتل المحرم للزنبور قال الأستاذ أبو منصور وفي هذا دليل على أن الحكم المأخوذ من السنة أو الإجماع أو القياس مأخوذ من كتابه سبحانه لدلالة كتابه على وجوب اتباع ذلك كله تعريف الفقه والفقه لغة اختلف فيه فقال ابن فارس في المجمل هو العلم وجرى عليه إمام الحرمين في التلخيص وإلكيا الهراسي وأبو نصر بن القشيري والماوردي إلا أن حملة الشرع خصصوه بضرب من العلوم ونقل ابن السمعاني عن ابن فارس أنه إدراك علم الشيء وقال الجوهري وغيره هو الفهم وقال الراغب هو التوسل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم وفي المحكم لابن سيده الفقه العلم بالشيء والفهم له والظاهر أن مراده بهما واحد وهو الفهم لأنه فسر الفهم بمعرفة الشيء بالقلب ومعرفة الشيء بالقلب هو العلم به ومثله قول الأزهري فهمت الشيء عقلته وعرفته وأصرح منه قول الجوهري فهمت الشيء فهما علمته وظهر بهذا أن الفهم المفسر به الفقه ليس فهم المعنى من اللفظ ولا فهم غرض المتكلم ونقل الفقه إلى علم الفروع بغلبه الاستعمال كما أشار إليه ابن سيده حيث قال غلب على علم الدين لسيادته وشرفه كالنجم على الثريا والعود على المندل قال ابن سراقة وقيل حده في اللغة العبارة عن كل معلوم تيقنه العالم به عن فكر وقال أبو الحسين في المعتمد وتبعه في المحصول فهم غرض المتكلم ورد بأنه يوصف بالفهم حيث لا كلام وبأنه لو كان كذلك لم يكن في نفي الفقه عنهم منقصة ولا تعيير لأنه غير متصور وقد قال تعالى ! ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ! الإسراء 44

وقال ابن دقيق العيد وهذا تقييد للمطلق بما لا يتقيد به وقال الشيخ أبو إسحاق وصاحب اللباب من الحنفية فهم الأشياء الدقيقة فلا يقال فقهت أن السماء فوقنا قال القرافي وهذا أولى ولهذا خصصوا اسم الفقه بالعلوم النظرية فيشترط كونه في مظنة الخفاء فلا يحسن أن يقال فهمت أن الاثنين أكثر من الواحد ومن ثم لم يسم العالم بما هو من ضروريات الأحكام الشرعية فقيها فإن احتج له بقوله تعالى ^ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ^ هود 91 وقوله ^ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا النساء 78 قلنا هذا يدل على أن الفهم من الخطاب يسمى فقها لا على أنه لا يسمى فقها إلا ما ما كان كذلك وقد قال تعالى ^ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ^ الأعراف 179 وهذا لا يختص بالفهم من الخطاب بل عدم الفهم مطلقا من الأدلة العقلية والسمعية وطرق الاعتبار ثم المراد من الفهم الإدراك لا جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص ما يرد عليه من المطالب خلافا للآمدي الذهن والذهن عبارة عن قوة النفس المستعدة لاكتسابها الحدود الوسطى والآراء وقال ابن سراقة الفهم عبارة عن إتقان الشيء والثقة به على الوجه الذي هو به عن نظر ولذلك يقال نظرت ففهمت ولا يقال في صفات الله سبحانه فهم يقال فقه بالكسر فهو فاقه إذا فهم وفقه بالفتح فهو فاقه أيضا إذا سبق غيره إلى الفهم وفقه بالضم فهو فقيه إذا صار الفقه له سجيه واستعمل لاسم فاعله فقيه لأن فعيلا قياس في اسم فاعل فعل ووقع في عبارة بعضهم أنه اختير له فعيل لأن فعيلا للمبالغة فاستعمالها فيمن صار الفقه له سجية أولى وهذا ليس بصحيح أعني دعوى أن فعيلا هاهنا للمبالغة لأن الألفاظ المستعملة للمبالغة هي التي كانت على صيغة فحولت عنها إلى تلك الألفاظ للمبالغة ولذلك يقع في كلامهم ما حول للمبالغة من فاعل إلى مفعال أو فعيل أو فعول أو فعل وأما فقيه فهو قياس لأن فعيلا مقيس في فعل فهو مستعمل فيما هو قياسه من غير تحويل نحو عليم وشفيع فإن المتكلم يحولهما عن شافع وعالم لقصد المبالغة ولا مخلص عن هذا إلا ان يدعى أنه خولف تقديرا

بمعنى أن الواضع حوله عن فاعل لقصد المبالغة فإن قلت ليس من شرط الفقيه أن يكون له سجية ولهذا قال الرافعي في الوقف على الفقهاء إنه يدخل فيه من حصل منه شيئا وإن قل وقضيه هذا حصوله بمسمى مسألة واحدة قلت ليس كذلك لما سأذكره من كلام الشيخ أبي إسحاق والغزالي وابن السمعاني وغيرهم من الأئمة ولعل مراده من حصل حتى صار له سجية وإن قلت الفقه في الاصطلاح وأما في اصطلاح الأصوليين فالعلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية فالعلم جنس والمراد به الصناعة كما تقول علم النحو أي صناعته وحينئذ فيندرج فيه الظن واليقين وعلى هذا فلا يرد سؤال الفقه من باب الظنون ومن أورده فهو اختيار منه لاختصاص العلم بالقطعي وخرج بالأحكام العلم بالذوات والصفات والأفعال وبالشرعية العقلية والمراد بها ما يتوقف معرفتها على الشرع وبالعملية عن العلمية ككون الإجماع وخبر الواحد حجة قاله الإمام وقال الأصفهاني خرج به أصول الفقه فإنه ليس بعملي أي ليس علما بكيفية عمل قال ابن دقيق العيد وفيه نظر لأن الغاية المطلوبة منها العمل فكيف يخرج بالعملية وقال الباجي هو احتراز عن أصول الدين واعلم أن أصول الدين منه ما ثبت بالعقل وحده كوجود الباري ومنه ما ثبت بكل من العقل والسمع كالوحدانية وهذان خارجان بقوله الشرعية ومنه ما لا يثبت إلا بالسمع كمسألة أن الجنة مخلوقة وأن الصراط حق وهذا من الفقه لوجوب اعتقاده وعدل الآمدي وابن الحاجب عن لفظ العملية إلى الفرعية لأن النية من مسائل الفقه وليست عملا وليس بجيد لأنها عمل والظاهر أن لفظ العملية أشمل لدخول وجوب اعتقاد مسائل الديانات التي لا تثبت إلا بالسمع فإنها من الفقه كما سبق بخلاف الفرعية وبالمكتسب علم الله تعالى وما يلقيه في قلب الأنبياء والملائكة من الأحكام بلا اكتساب وبالأخير عن اعتقاد المقلد فإنه مكتسب من دليل إجمالي قاله الإمام وقيل علم المقلد لم يدخل في الحد بل هو احتراز عن علم الخلاف وأما عند

الفقهاء فقال القاضي الحسين الفقه افتتاح علم الحوادث على الإنسان أو افتتاح شعب أحكام الحوادث على الإنسان حكاه البغوي عنه في تعليقه وقال ابن سراقة حده في الشرع عبارة عن اعتقاد علم الفروع في الشرع ولذلك لا يقال في صفاته سبحانه وتعالى فقيه قال وحقيقة الفقه عندي الاستنباط قال الله تعالى ! ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ! النساء 83 واختيار ابن السمعاني في القواطع أنه استنباط حكم المشكل من الواضح قال وقوله صلى الله عليه وسلم رب حامل فقه غير فقيه أي غير مستنبط ومعناه أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلال واستنباط فيها وقال في ديباجة كتابه وما أشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر فطنته استخرج درا وغيره مستخرج آجرا ومن المحاسن قول الإمام أبي حنيفة الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها قيل وأخذه من قوله تعالى ^ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت 286 وقال الغزالي في الإحياء في بيان تبديل أسامي العلوم إن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على وقائعها وإنما هو في العصر الأول اسم لمعرفة دقائق آفات النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا قال تعالى ^ ليتفقهوا في الدين ولينذروا ^ التوبة 123 والإنذار بهذا النوع من العلم دون تفاريع السلم والإجارة وعن أبي الدرداء لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك أمك وهل رأيت فقيها بعينك إنما الفقيه هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بذنبه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف ولذلك قال الحليمي في المنهاج إن تخصيص اسم الفقه بهذا الاصطلاح حادث قال والحق أن اسم الفقه يعم جميع الشريعة التي من جملتها ما يتوصل به إلى معرفة الله ووحدانيته وتقديسه وسائر صفاته وإلى معرفة أنبيائه ورسله عليهم

السلام ومنها علم الأحوال والأخلاق والآداب والقيام بحق العبودية وغير ذلك قلت ولهذا صنف أبو حنيفة كتابا في أصول الدين وسماه الفقه الأكبر تنبيه علم من تعريفهم الفقه باستنباط الأحكام أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه اصطلاحا وأن حافظها ليس بفقيه وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح المستصفى قال وإنما هي نتائج الفقه والعارف بها فروعي وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها ونحوه قول ابن عبد السلام هم نقله فقه لا فقهاء وقال الشيخ أبو إسحاق في كتاب الحدود الفقيه من له الفقه فكل من له الفقه فقيه ومن لا فقه له فليس بفقيه قال والفقيه هو العالم بأحكام أفعال العباد التي يسوغ فيها الاجتهاد وقال الغزالي إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها فليس بفقيه حكاه عنه ابن الهمداني في طبقات الحنفية وقال ابن سراقة الفقيه من حصل له الفقه وذكر الشافعي في الرسالة صفة المفتي وهو الفقيه فذكر سبع عشرة خصلة تأتي في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى أصول الفقه لغة ما استند إليه الفقه ولم يتم إلا به وفي الاصطلاح مجموع طرق الفقه من حيث إنها على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال وحالة المستدل بها فقولنا مجموع ليعمها فإذن بعضها بعض أصول الفقه لا كلها وقولنا طرق ليعم الدليل والأمارة على اصطلاح الأصوليين وخرج بالإجمال أدلة الفقه من حيث التفصيل فلا يقال لها في عرف الأصوليين أصول فقه وإن كان التحقيق يقتضي ذلك إذ هو أقرب إلى الفقه وأقل تخصيصا ولأنه يوافق قولنا هذا الحديث أصل لهذا الحكم ولهذا الباب وحينئذ فاتخاذ الأدلة في آحاد مسائل الفروع من أصول الفقه ويكون الإجمال شرطا في علم أصول الفقه لا أنه شرط فيها أو جزء منها قال ابن دقيق العيد ويمكن الاقتصار على الدلائل وكيفية الاستفادة منها والباقي كالتابع والتتمة لكن لما جرت العادة بإدخاله في أصول الفقه وضعا أدخل فيه حدا

قلت وعليه جرى الشيخ في اللمع والغزالي في المستصفى وابن برهان في الأوسط وقال أصول الفقه أدلة الفقه على طريق الإجمال وكيفية الاستدلال به وما يتبع ذلك 1 هـ بل قد يقال الدليل هو الأصل بالذات والباقي بالتبع لضرورة الاستدلال بالدليل قال صاحب المعتمد والمراد بكيفية الاستدلال هاهنا الشروط والمقدمات وترتيبها معه ليستدل بالطرق على الفقه هذا ما أطبق عليه الأصوليون والفقهاء يطلقون ذلك على القواعد الكلية التي تندرج فيها الجزئيات كقولهم الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن وقولهم يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وغير ذلك من القواعد العامة التي يندرج فيها الفروع المنتشرة وعليه سمى الشيخ عز الدين كتابه القواعد ويقال إنه أول من أخترع هذه الطريقة ويوجد في كلام الإمام والغزالي متفرقات منها هل الأصول هذه الحقائق أنفسها أو العلم بها طريقان وكلام القاضي أبي بكر يقتضي أنه العلم بالأدلة وعليه البيضاوي وابن الحاجب وغيرهما وقطع الشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين في البرهان والرازي والآمدي بأنه نفس الأدلة ووجه الخلاف أنه كما يتوقف الفقه على هذه الحقائق يتوقف أيضا على العلم بها فيجوز حينئذ إطلاق أصول الفقه على القواعد أنفسها وعلى العلم بها والثاني أولى لوجوه أحدها أن أصول الفقه ثابت في نفس الأمر من تلك الأدلة وإن لم يعرفه الشخص وثانيها أن أهل العرف يجعلون أصول الفقه للمعلوم فيقولون هذا كتاب أصول الفقه وثالثها أن الأصول في اللغة الأدلة فجعله اصطلاحا نفس الأدلة أقرب إلى المدلول اللغوي وهذا بخلاف الفقه فإنه اسم للعلم كما سبق والتحقيق أنه لا خلاف في ذلك ولم يتواردوا على محل واحد فإن من أراد اللقبي وهو كونه علما على هذا الفن حده بالعلم ومن أراد الإضافي حده بنفس الأدلة ولهذا لما جمع ابن الحاجب بينهما عرف اللقبي بالعلم والإضافي بالأدلة نعم الإمام في المحصول عرف اللقبي بالأدلة يجب تأويله على إرادة العلم بها ثم المراد بالأدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال

وقال إمام الحرمين والغزالي هي ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع ومنعا أن تكون القوانين الكلية الظنية من أصول الفقه وقال في التلخيص الذي ارتضاه المحققون أن ما لا ينبغي فيه العلم كأخبار الآحاد والمقاييس لا يعد من أصول الفقه فإن قيل فأخبار الآحاد والمقاييس لا تفضي إلى العلوم وهي من أدلة أحكام الشرع قيل له إنما يتعلق بالأصول تثبيتها أدلة على وجوب الأعمال وذلك مما يدرك بالأدلة القاطعة وأما العمل المتلقى منها فيتعلق بالفقه دون أصوله وقال في البرهان فإن قيل معظم المسائل الشرعية ظنون قلنا ليست الظنون فقها وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون ولذلك قال المحققون أخبار الآحاد والأقيسة لا توجب العمل لذاواتها وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهو الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد وقيام الأقيسة قال وهما وإن لم يوجدا إلا في أصول الفقه لكن حظ الأصولي إبانه القاطع في العمل بها ولكن لا بد من ذكرها ليبني المدلول عليه ويرتبط الدليل به وتبعه ابن القشيري وقال أطلق الفقهاء لفظ الدليل على أخبار الآحاد والقياس وهو خلاف هين وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْغَرَضُ من أُصُولِ الْفِقْهِ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ وَمَعْرِفَةُ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّ من اسْتَقْرَأَ أَبْوَابَهُ وَجَدَهَا إمَّا دَلِيلًا على حُكْمٍ أو طَرِيقًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ كَمَعْرِفَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالْعِلَلِ والرحجان ( ( ( والرجحان ) ) ) وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعْرِفَةٌ مُحِيطَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ على الْأَحْكَامِ وَمَعْرِفَةُ الْأَخْبَارِ وَطُرُقِهَا مَعْرِفَةٌ بِالطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الدَّلَائِلِ الْمَنْصُوصَةِ على الْأَحْكَامِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَةَ في هذه الْعُلُومِ كَأُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالطِّبِّ هل هِيَ مَنْقُولَةٌ أو لَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فيه احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ كَالْعَقَبَةِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ من الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةِ قال وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْغَلَبَةِ يَتَقَيَّدُ بِمَا فيه الْأَلِفُ وَاللَّامُ أو الْإِضَافَةُ وَأَسْمَاءُ هذه الْعُلُومِ تُطْلَقُ عُرْفًا مع التَّنْكِيرِ وَالْقَطْعِ عن الْإِضَافَةِ كما تَقُولُ فُلَانٌ يَعْرِفُ فِقْهًا وَنَحْوًا

قُلْت وَبِالْأَوَّلِ صَرَّحَ ابن سِيدَهْ وَغَيْرُهُ كما سَبَقَ وَبِالثَّانِي صَرَّحَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ في الْكَلَامِ على الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَالطُّرْطُوشِيُّ في أَوَائِلِ كِتَابِهِ وقال فَيَكُونُ من الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ وهو مُقْتَضَى كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وما رَجَّحَ بِهِ الثَّانِي فيه نَظَرٌ لِأَنَّهُ مع التَّنْكِيرِ لم يَخْرُجْ عن الْعِلْمِيَّةِ فإن الْعِلْمَ يُنْكِرُ تَحْقِيقًا أو تَقْدِيرًا الثَّانِي إذَا ثَبَتَ أنها مَنْقُولَةٌ فَهِيَ أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ أو أَعْلَامُ أَجْنَاسٍ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَبُولِهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْعِلْمُ لَا يَقْبَلُهُ وَلِاشْتِهَارِهَا في الْعُرْفِ كَاشْتِهَارِ لَفْظِ الدَّابَّةِ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وقد ثَبَتَ أنها لَيْسَتْ بِعَلَمٍ هذا إذَا كانت غير مَعْرِفَةٍ أَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ بِالْإِضَافَةِ وَنُقِلَ إلَى هذا الْعَلَمِ الْخَاصُّ أو غَلَبَ عليه فَهُوَ عَلَمُ جِنْسٍ لِأَنَّهُ الْمُمَيِّزُ لِهَذَا الْجِنْسِ بِخُصُوصِهِ من غَيْرِهِ من الْأَجْنَاسِ الثَّالِثُ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ يُطْلَقُ مُضَافًا وَمُضَافًا إلَيْهِ وَيُطْلَقُ عَلَمًا على هذا الْعِلْمِ الْخَاصِّ وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فَمِنْهُمْ من عَرَّفَ الْإِضَافِيَّ وَمِنْهُمْ من عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ وَمِنْهُمْ من جَمَعَ بين النَّوْعَيْنِ وَالصَّوَابُ تَعْرِيفُ اللَّقَبِيِّ وَلَيْسَ ثَمَّ غَيْرُهُ وَأَمَّا جَزَاؤُهُ حَالَةَ التَّرْكِيبِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْلُولٌ على حِدَتِهِ إنَّمَا هو كَغُلَامِ زَيْدٍ إذَا سَمَّيْت بِهِ لم يَتَطَلَّبْ مَعْنَى الْغُلَامِ وَلَا مَعْنَى زَيْدٍ وَلَيْسَ لنا حَدَّانِ إضَافِيٌّ وَلَقَبِيٌّ وَإِنَّمَا هو اللَّقَبِيُّ فَقَطْ

فَصْلٌ الْغَرَضُ من عِلْمِ الْأُصُولِ وَحَقِيقَتُهُ وَمَادَّتُهُ وموضوعة وَمَسَائِلُهُ يَجِبُ على كل طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَعْلَمَ ما الْغَرَضُ منه وما هو وَمِنْ أَيْنَ وَفِيمَ وَكَيْفَ يُحَصَّلُ حتى يَتَمَكَّنَ له الطَّلَبُ وَيَسْهُلَ وَالْأَوَّلُ فَائِدَتُهُ وَالثَّانِي حَقِيقَتُهُ وَمَبَادِئُهُ وَالثَّالِثُ مَادَّتُهُ التي منها يَسْتَمِدُّ وَالرَّابِعُ موضوعة وَالْخَامِسُ مَسَائِلُهُ أَمَّا الْفَائِدَةُ فَهِيَ الْغَايَةُ الْمُوَصِّلَةُ لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَلِلسَّبَبِ الْغَائِيِّ اعْتِبَارَانِ أَوَّلُ الْفِكْرِ وَيُسَمَّى الْبَاعِثَ وَمُنْتَهَاهُ وهو آخِرُ الْعَمَلِ وَيُسَمَّى الْفَائِدَةَ وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ وهو اقْتِنَاصُهُ بِحَدٍّ أو رَسْمٍ أو تَقْسِيمٍ وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِرْشَادُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَإِيضَاحُهُ قال الْمَازِرِيُّ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ في التَّعْلِيمِ لِلْغَيْرِ وَأَمَّا الطَّالِبُ لِنَفْسِهِ إذَا لَاحَ له حَقِيقَةُ ما يَطْلُبُ صَحَّ طَلَبُهُ وَإِنْ لم يُحْسِنْ عِبَارَةً عنه صَالِحَةً لِلْحَدِّ فَلَا يَكُونُ هذا شَرْطًا إلَّا في حَقِّ من أَرَادَ التَّعْلِيمَ لَا التَّعَلُّمَ وَأَمَّا الْمَادَّةُ فذكر إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَتَابِعُوهُ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ مُسْتَمَدٌّ من ثَلَاثَةِ عُلُومٍ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَمَّا الْكَلَامُ فَلِتَوَقُّفِ الْأَدِلَّةِ على مَعْرِفَةِ الْبَارِي تَعَالَى بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ من ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ على أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ على دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُبَيَّنٌ في عِلْمِ الْكَلَامِ فَيُسَلَّمُ هُنَا وَتَخُصُّ النَّظَرَ في دَلِيلِ الْحُكْمِ هُنَا بِعِلْمِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُخَاطَبٍ وَقُدْرَةِ الْعَبْدِ كَسْبًا لَيُكَلَّفَ وَتَعَلُّقِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِيُوجَدَ الْحُكْمُ وَرَفْعِ التَّعَلُّقِ فَيُنْسَخَ وَصِدْقِ الْمُبَلِّغِ لِيُبَيِّنَّ وَأَمَّا الْعَرَبِيَّةُ فلان الْأَدِلَّةَ جَاءَتْ بِلِسَانٍ الْعَرَبِ وَهِيَ تَشْتَمِلُ على ثَلَاثَةِ فُنُونٍ عِلْمِ النَّحْوِ وهو عِلْمُ مَجَارِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ رَفْعًا وَنَصْبًا وَجَرًّا وَجَزْمًا وَعِلْمُ اللُّغَةِ وَهِيَ تَحْقِيقُ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ في ذَوَاتِهَا وَعِلْمُ الْأَدَبِ وهو عِلْمُ نَظْمِ الْكَلَامِ وَمَعْرِفَةُ مراتبة على مُقْتَضَى الْحَالِ وَإِنَّمَا يَكُونُ هذا مَادَّةً لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأُصُولِ وهو الْخِطَابُ دُونَ مَسَائِلِ

الْأَخْبَارِ وَالْإِجْمَاعُ وَالنَّسْخُ وَالْقِيَاسُ وَهِيَ مُعْظَمُ الْأُصُولِ ثُمَّ إنَّ الْمَادَّةَ فيه لَيْسَتْ على نَظِيرِ الْمَادَّةِ من الْكَلَامِ فإن الْعِلْمَ بها مَادَّةٌ لِفَهْمِ الْأَدِلَّةِ وَأَمَّا الْفِقْهُ فلانه مَدْلُولُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّتُهُ وَلَا يُعْلَمُ الدَّلِيلُ مُجَرَّدًا من مَدْلُولِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ في وَجْهِ اسْتِمْدَادِهِ من عِلْمِ الْكَلَامِ إنَّ عِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ فيه أَلْفَاظٌ لَا تُعْلَمُ مُسَمَّيَاتُهَا من غَيْرِ أُصُولِ الدِّينِ لَكِنَّهَا تُؤْخَذُ مُسَلَّمَةً فيه على أَنْ يُبَرْهِنَ في غَيْرِهِ من الْعُلُومِ أو تَكُونَ مُسَلَّمَةً في نَفْسِهَا وَهِيَ الْعِلْمُ وَالظَّنُّ وَالدَّلِيلُ وَالْأَمَارَةُ وَالنَّظَرُ لِأَنَّ لَفْظَ الطُّرُقِ يَشْمَلُ ذلك كُلَّهُ وَالْحُكْمُ أَيْضًا إذْ لَا بُدَّ فيه من خِطَابٍ شَرْعِيٍّ وَلَا يَثْبُتُ ذلك بِالدَّلِيلِ في غَيْرِ أُصُولِ الدِّينِ وما ذُكِرَ منه غَيْرُ ما عَدَّدْنَاهُ فَهُوَ تَبَعٌ وَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ هذه الْأُمُورِ في مَعْرِفَةِ هذا الْعِلْمِ لِيَتَوَقَّفَ منه إذَنْ على بَعْضِهِ لَا على كُلِّهِ وَإِلَى هذا أَشَارَ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ اسْتِمْدَادَ أُصُولِ الْفِقْهِ من شَيْءٍ وَاحِدٍ وهو قَوْلُ الرَّسُولِ الذي دَلَّ التَّكَلُّمُ على صدقة فَيُنْظَرُ في وَجْهِ دَلَالَتِهِ على الْأَحْكَامِ إمَّا بِمَلْفُوظِهِ أو بِمَفْهُومِهِ أو بِمَعْقُولِ مَعْنَاهُ ومستنبطة وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُ الْأُصُولِيِّ ذلك قَوْلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَفِعْلَهُ قال وَقَوْلُ الرَّسُولِ إنَّمَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ وَكَوْنُهُ حُجَّةً من عِلْمِ الْكَلَامِ وَهَذَا ليس بِمَرَضِيٍّ فإن من جُمْلَةِ ما يُوجَدُ فيه من عِلْمِ الْكَلَامِ مَعْرِفَةَ الْعِلْمِ وَالظَّنَّ وَالدَّلِيلَ وَالنَّظَرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا سَبَقَ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ نَظَرَ الْأُصُولِيِّ لَا يُجَاوِزُ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ مَمْنُوعٌ فإنه يَنْظُرُ في الِاسْتِصْحَابِ وَالْأَفْعَالِ قبل الشَّرْعِ وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّا ليس بِقَوْلِ الرَّسُولِ وَلَا فِعْلَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَادَّةَ على قِسْمَيْنِ إسْنَادِيَّةٍ مُقَوَّمَةٍ فَالْمُقَوَّمَةُ دَاخِلَةٌ في أَجْزَاءِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ وَهِيَ الْفِقْهُ وَالْإِسْنَادِيَّة ما اسْتَنَدَتْ إلَى الدَّلِيلِ كَعِلْمِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أُصُولَ الْفِقْهَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ عِلْمَ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا عِلْمُ الْكَلَامِ دَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ وهو دَلِيلُ الْأُصُولِ فَاسْتَنَدَ إلَى الدَّلِيلِ وَكَذَلِكَ مَادَّةُ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يُجْعَلُ الْفِقْهُ مَادَّةً لِلْأُصُولِ وهو فَرْعُ الْأُصُولِ وَمَادَّةُ كل شَيْءٍ أَصْلُهُ فَهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فَرْعًا أَجَابَ الْمُقْتَرِحُ في تَعْلِيقِهِ على الْبُرْهَانِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ الْفِقْهُ في الْأُصُولِ من حَيْثُ الْجُمْلَةِ فَيُذْكَرُ الْوَاجِبُ بِمَا هو وَاجِبٌ وَالْمَنْدُوبُ بِمَا هو مَنْدُوبٌ لِأَنَّ هذا

الْقَدْرَ مُبَيِّنٌ حَقِيقَةَ الْأُصُولِ وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ أَنْ يُذْكَرَ جُزْئِيَّاتُ الْمَسَائِلِ فإن ذِكْرَهَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ تَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ على الْفِقْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ تَتَوَقَّفُ على مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ إذْ يَسْتَحِيلُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا أُصُولَ فِقْهٍ ما لم يُتَصَوَّرْ الْفِقْهُ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى مَعْرِفَةٍ إضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَعَرَّفَ بها وَلَا يُمْكِنُ التَّعْرِيفُ إلَّا على تَقْدِيرِ سَبْقِ مَعْرِفَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُرَكَّبِ يَتَوَقَّفُ على الْعِلْمِ بِمُفْرَدَاتِهِ ضَرُورَةً وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ فَشَيْءٌ يَبْحَثُ عن أَوْصَافِهِ وَأَحْوَالِهِ الْمُعْتَبَرَةِ في ذلك الْعِلْمِ وهو مَعْنَى قَوْلِ الْمَنْطِقِيِّينَ مَوْضُوعُ كل عِلْمٍ ما يُبْحَثُ فيه عن أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ أَيْ ما يَلْحَقُ الشَّيْءَ لِذَاتِهِ كَالتَّعَجُّبِ اللَّاحِقِ لِلْإِنْسَانِ لِذَاتِهِ لَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ أو لِجُزْئِهِ كَالْمَشْيِ اللَّاحِقِ له بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا أو لِأَمْرٍ يُسَاوِيهِ كَالضَّحِكِ اللَّاحِقِ له بِوَاسِطَةِ التَّعَجُّبِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَعْرَاضُهُ الذاتيه وقد يَكُونُ لِأَعَمَّ دَاخِلٍ فيه كَالْحَرَكَةِ لِلْإِنْسَانِ لَكِنَّهُ مَهْجُورٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِرُجُوعِ مَوْضُوعَاتِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ إلَيْهِ فَمَوْضُوعُ الْفِقْهِ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ وَمَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةِ وَمَوْضُوعُ الْهَنْدَسَةِ الْمِقْدَارُ وَمَوْضُوعُ الطِّبِّ بَدَنُ الْإِنْسَانِ فإن هذه الْأَشْيَاءَ هِيَ مَجَالُ الْبَحْثِ في هذه الْعُلُومِ يُبْحَثُ فيها عن أَعْرَاضِ هذه الْأَشْيَاءِ اللَّاحِقَةِ بها كما أَنَّهُمْ شَبَّهُوا ما يُبْحَثُ في كل عِلْمٍ عن أَعْرَاضِهِ وَأَحْوَالِهِ بِمَادَّةٍ حِسِّيَّةٍ يَضَعُهَا إنْسَانٌ بين يَدَيْهِ لِيُوقِعَ فيها أَثَرًا ما كَالْخَشَبِ الذي يُؤَثِّرُ فيه النَّجَّارُ حتى يَصِيرَ سَرِيرًا أو بَابًا وَكَالْفِضَّةِ التي يُؤَثِّرُ فيها الصَّائِغُ حتى يَصِيرَ خَاتَمًا أو سِوَارًا وَنَحْوَهُ وَأَمَّا مَبَادِئُ كل عِلْمٍ فَهِيَ حُدُودُ مَوْضُوعِهِ وَأَجْزَائِهِ وَأَعْرَاضِهِ مع الْمُقَدِّمَاتِ التي تُؤَلَّفُ عنها قِيَاسَاتُهُ وَذَلِكَ كَحَدِّ الْبَدَنِ وَأَعْضَائِهِ وما يَعْرِضُ لها من صِحَّةٍ وَسَقَمٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الطِّبِّ وَحَدُّ الْفِعْلِ وَأَصْنَافُهُ وَأَشْخَاصُهُ وما يَعْرِضُ له من حِلٍّ وَحُرْمَةٍ وَنَحْوِ ذلك بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الْفِقْهِ وَحَدُّ اللَّفْظِ وما يَعْرِضُ من صَوَابٍ وَخَطَأٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّحْوِ وهو جَمْعُ مَبْدَأٍ ومبدا الشَّيْءِ هو مَحَلُّ بِدَايَتِهِ وَسُمِّيَتْ حُدُودُ مَوْضُوعِ الْعِلْمِ وَأَجْزَاؤُهُ وَمُقَدِّمَاتُهُ التي هِيَ مَادَّةُ قِيَاسَاتِهِ مَبَادِئَ لِأَنَّهُ عنها وَمِنْهَا يَنْشَأُ وَيَبْدُو وَأَمَّا مَسَائِلُ كل عِلْمٍ فَهِيَ مَطَالِبُهُ الْجُزْئِيَّةُ التي يُطْلَبُ إثْبَاتُهَا فيه كَمَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا لِلْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ

وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِهَا لِأُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمَوْضُوعُ قد يَكُونُ وَاحِدًا كَالْعَدَدِ لِلْحِسَابِ وقد يَكُونُ كَثِيرًا وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَنَاسُبٌ أَيْ مُشَارَكَةٌ إمَّا في ذَاتِيٍّ كما إذَا جُعِلَ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ مَوْضُوعَاتِ النَّحْوِ لِاشْتِرَاكِهَا في الْجِنْسِ وهو الْكَلِمَةُ وَإِمَّا في عَرَضِيٍّ كما إذَا جُعِلَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ وَأَجْزَاؤُهُ وَالْأَدْوِيَةُ وَالْأَغْذِيَةُ مَوْضُوعَاتِ الطِّبِّ لِاشْتِرَاكِهَا في غَايَةٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ وَمَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ قد اجْتَمَعَ فيه الْأَمْرَانِ فإنه إمَّا وَاحِدٌ وهو الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ من جِهَةِ إنَّهُ مُوَصِّلٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَإِمَّا كَثِيرٌ وهو أَقْسَامُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ من هذه الْجِهَةِ لِاشْتِرَاكِهَا إمَّا في جِنْسِهَا وهو الدَّلِيلُ أو في غَايَتِهَا وهو الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاخْتَلَفُوا هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلْمِ أَكْثَرُ من مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا فَقِيلَ يَجُوزُ مُطْلَقًا غير أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْرَكَهُ في أَمْرٍ ذَاتِيٍّ أو عَرَضِيٍّ كَالطِّبِّ يُبْحَثُ فيه عن أَحْوَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا وَقِيلَ يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الِانْتِشَارِ وَاخْتَارَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ من الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلًا وهو إنْ كان الْمَبْحُوثُ عنه في ذلك الْعِلْمِ إضَافِيًّا جَازَ كما أَنَّهُ يُبْحَثُ في الْأُصُولِ عن إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْحُكْمِ وَالْمَنْطِقُ يُبْحَثُ فيه عن إيصَالِ تَصَوُّرٍ أو تَصْدِيقٍ إلَى تَصَوُّرٍ أو تَصْدِيقٍ وقد يَكُونُ بَعْضُ الْعَوَارِضِ التي لها مَدْخَلٌ في الْمَبْحُوثِ عنه نَاشِئَةً عن أَحَدِ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَبَعْضُهَا عن الْآخَرِ فَمَوْضُوعُ هذا الْعِلْمِ كِلَا الْمُتَضَايِفَيْنِ وَإِنْ كان غير إضَافِيٍّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعِلْمِ ثُمَّ إنْ كان إضَافِيًّا فَقَدْ يَكُونُ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ مَوْضُوعَ ذلك الْعِلْمِ كَأُصُولِ الْفِقْهِ وقد يَكُونُ أَحَدُهُمَا كَعِلْمِ الْمَنْطِقِ فإن مَوْضُوعَهُ الْقَوْلُ الشَّارِحُ وَالدَّلِيلُ من حَيْثُ إنَّهُ يُوَصِّلُ إلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ

الدَّلِيلُ يُطْلَقُ في اللُّغَةِ على أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الرُّشْدُ لِلْمَطْلُوبِ على مَعْنَى أَنَّهُ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ وَمُظْهِرُهَا فَيَكُونُ مَعْنَى الدَّلِيلِ الدَّالَّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَعَلِيمٍ وَقَدِيرٍ مَأْخُوذٌ من دَلِيلِ الْقَوْمِ لِأَنَّهُ يُرْشِدُهُمْ إلَى مَقْصُودِهِمْ قال الْقَاضِي وَالدَّالُّ نَاصِبُ الدَّلَالَةِ وَمُخْتَرِعُهَا وهو اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَمَنْ عَدَاهُ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ وَعِنْدَ الْبَاقِينَ الدَّالُّ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ وَاسْتُبْعِدَ إذْ الْحَاكِي وَالْمُدَرِّسُ لَا يُسَمَّى دَالًّا وهو ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الدَّالُّ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ على وَجْهِ التَّمَسُّكِ بها وَيُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ وَأَنْكَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ في كِتَابِ الْحُدُودِ قال وَلَا حُجَّةَ في قَوْلِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى يا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ لِأَنَّ ذلك ليس من قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا هو من قَوْلِ أَصْحَابِ الْعَكَّاكِينَ وَحَكَى غَيْرُهُ في جَوَازِ إطْلَاقِ الدَّلِيلِ على اللَّهِ وَجْهَيْنِ مُفَرَّعَيْنِ على أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ هل تَثْبُتُ قِيَاسًا أَمْ لَا لَكِنْ صَحَّ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ يا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي على طَرِيقِ الصَّادِقِينَ الثَّانِي ما بِهِ الْإِرْشَادُ أَيْ الْعَلَامَةُ الْمَنْصُوبَةُ لِمَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ الْعَالَمُ دَلِيلُ الصَّانِعِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ حَقِيقَةُ الدَّلِيلِ الدَّالُّ وَقِيلَ بَلْ الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ على الْمَدْلُولِ بِنَاءً على اسْتِعْمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ في اللُّغَةِ وقال صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلدَّالِ حَقِيقَةً وَصَارَ في الْعُرْفِ اسْمًا لِلِاسْتِعْمَالِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وفي الِاصْطِلَاحِ الْمُوَصِّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فيه إلَى الْمَطْلُوبِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَيُسَمَّى دَلَالَةً وَمُسْتَدَلًّا بِهِ وَحُجَّةً وَسُلْطَانًا وَبُرْهَانًا وَبَيَانًا وَكَذَلِكَ قال الْقَاضِي أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ قال وَسَوَاءٌ أَوْجَبَ عِلْمَ الْيَقِينِ أو دُونَهُ انْتَهَى وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يُسَمَّى الدَّلِيلُ حُجَّةً وَبُرْهَانًا وَقِيلَ بَلْ هُمَا اسْمٌ لِمَا دَلَّ عليه صِحَّةُ الدَّعْوَى وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في الْفَرْقِ بين الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّلِيلَ ما دَلَّ على مَطْلُوبِك وَالْحُجَّةُ ما مَنَعَ من ذلك وَالثَّانِي الدَّلِيلُ ما دَلَّ على صَوَابِك وَالْحُجَّةُ ما دَفَعَ عَنْك قَوْلَ مُخَالِفِك

1 هـ وَخَصَّ الْمُتَكَلِّمُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ ما دَلَّ بِالْمَقْطُوعِ بِهِ من السَّمْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ وَأَمَّا الذي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَيُسَمُّونَهُ أَمَارَةً وَحَكَاهُ في التَّلْخِيصِ عن مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ أَيْضًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُصَنِّفُونَ في أُصُولِ الْفِقْهِ يُطْلِقُونَ الدَّلِيلَ على الْأَعَمِّ من ذلك وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا كَالشَّيْخِ أبي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَحَكَاهُ عن أَصْحَابِنَا وَسُلَيْمٍ الرَّازِيّ وَأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ من الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَاضِي أبي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَالزَّاغُونِيِّ من الْحَنَابِلَةِ وَحَكَاهُ في التَّلْخِيصِ عن جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ عن أَهْلِ اللُّغَةِ وَحُكِيَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عن بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ قِيلَ وَلَعَلَّ منشأة قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ الْأَدِلَّةَ الظَّنِّيَّةَ لَا تُحَصِّلُ صِفَاتٍ تَقْتَضِي الظَّنَّ كما تَقْتَضِي الْأَدِلَّةُ الْيَقِينِيَّةُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُحَصِّلُ الظَّنَّ اتِّفَاقًا عِنْدَهَا وَلِهَذَا يَقُولُونَ إنَّ الظَّنِّيَّاتِ ليس فيها تَرْتِيبٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَلَيْسَ فيها خَطَأٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ كما يقول ذلك الْمُصَوِّبَةُ وقال ابن الصَّبَّاغِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ في إطْلَاقِ اسْمِ الدَّلِيلِ على الظَّنِّيِّ وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْفَصْلُ بين الْمَعْلُومِ وَالْمَظْنُونِ فَأَمَّا في أَصْلِ الْوَضْعِ فلم يَخْتَلِفُوا في أَنَّ الْجَمِيعَ يُسَمَّى دَلِيلًا وَضْعًا وَكَذَلِكَ قال ابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ الْفُقَهَاءُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُتَكَلِّمُونَ وهو رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ عِيَارِ النَّظَرِ قال أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ مَعْنَى الدَّلِيلِ مُظْهِرُ الدَّلَالَةِ وَمِنْهُ دَلِيلُ الْقَوْمِ وقال إنَّ تَسْمِيَةَ الدَّلَالَةِ دَلِيلًا مَجَازٌ وَإِنْ كان إذَا قِيلَ له لو كان الدَّلِيلُ مُظْهِرَ الدَّلَالَةِ لَوَجَبَ على الْمَسْئُولِ عن الدَّلَالَةِ إذَا قِيلَ له ما الدَّلِيلُ أَنْ يَقُولَ أنا لِأَنَّهُ هو الْمُظْهِرُ لِلدَّلَالَةِ أَجَابَ بانه لو قِيلَ من الدَّلِيلُ قال أنا وإذا وَقَعَ السُّؤَالُ بِحَرْفِ ما عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّؤَالُ عن الدَّلَالَةِ لِأَنَّ ما إنَّمَا يُسْأَلُ بِهِ عَمَّا لَا يُوصَفُ بِالتَّمْيِيزِ وقال عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ الدَّلِيلَ هو الدَّلَالَةُ وهو ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ ما لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وَعَلَى هذا فَتَسْمِيَةُ الدَّالِّ على الطَّرِيقِ دَلِيلًا مجازا 1 هـ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الدَّلَالَةُ مَصْدَرُ قَوْلِك دَلَّ يَدُلُّ دَلَالَةً وَيُسَمَّى دَلِيلًا مَجَازًا من بَابِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِمْ رَجُلٌ صَوْمٌ وَأَمَّا الدَّالُّ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه فَقِيلَ هو الدَّلِيلُ وَقِيلَ هو النَّاصِبُ

لِلدَّلِيلِ وهو اللَّهُ تَعَالَى الذي نَصَبَ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قال الْإِمَامُ وَلَيْسَ لِلدَّلِيلِ تَحْصِيلٌ سِوَى تَجْرِيدِ الْفِكْرِ من ذِي فِكْرَةٍ صَحِيحَةٍ إلَى جِهَةٍ يَتَطَرَّقُ إلَى مِثْلِهَا تَصْدِيقٌ أو تَكْذِيبٌ أَقْسَامُ الدَّلِيلِ وَيَنْقَسِمُ الدَّلِيلُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ سَمْعِيٍّ وَعَقْلِيٍّ وَوَضْعِيٍّ فَالسَّمْعِيُّ هو اللَّفْظِيُّ الْمَسْمُوعُ وفي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هو الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَالِاسْتِدْلَالَ وَأَمَّا عُرْفُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ فَلَا يُرِيدُونَ بِهِ غير الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعَ قَالَهُ الْآمِدِيُّ في الْأَبْكَارِ الثَّانِي الْعَقْلِيُّ وهو ما دَلَّ على الْمَطْلُوبِ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى وَضْعٍ كَدَلَالَةِ الْحُدُوثِ على الْمُحْدِثِ وَالْإِحْكَامِ على الْعَالِمِ الثَّالِثُ الْوَضْعِيُّ وهو ما دَلَّ بِقَضِيَّةِ اسْتِنَادِهِ وَمِنْهُ الْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ على الْمَعَانِي في اللُّغَاتِ قال وَأَلْحَقَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةَ على صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال ما دَلَّ عَقْلًا لَا يَتَبَدَّلُ وما دَلَّ وَضْعًا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَدَّلَ لَكِنَّ الْإِمَامَ في الْإِرْشَادِ اخْتَارَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَقْلِيَّةٌ وهو قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وسياتي عن ابْنِ الْقَطَّانِ أَيْضًا وقال الْآمِدِيُّ في الْأَبْكَارِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ شَيْخُنَا وَالْقَاضِي وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ على صِدْقِ الرَّسُولِ لَيْسَتْ دَلَالَةً عَقْلِيَّةً وَلَا سَمْعِيَّةً أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ ما يَدُلُّ عَقْلًا يَدُلُّ بِنَفْسِهِ وَيَرْتَبِطُ بِمَدْلُولِهِ لِذَاتِهِ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ وقد تَقَعُ الْخَوَارِقُ عِنْدَ تَصَرُّمِ الدُّنْيَا مع عَدَمِ دَلَالَتِهَا على تَصْدِيقِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ فإنه لَا إرْسَالَ وَلَا رَسُولَ إذْ ذَاكَ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ السَّمْعِيَّةَ مُتَوَقِّفَةٌ على صدقة فَلَوْ تَوَقَّفَ صِدْقُ الرَّسُولِ عليها لَكَانَ دَوْرًا بَلْ دَلَالَتُهَا على صدقة غَيْرُ خَارِجٍ عن الدَّلَالَاتِ الْوَضْعِيَّةِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ التَّصْدِيقِ فَكَانَتْ نَازِلَةً من اللَّهِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ صَدَقَ ثُمَّ الْعَقْلِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى ما يَقْتَضِي الْقَطْعَ كَالْأَدِلَّةِ في أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَإِلَى ما لَا يَقْتَضِيهِ وَكَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى ما يَقْتَضِي الْقَطْعَ وهو يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَإِلَى ما لَا يَقْتَضِيهِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْمُقَايِسِ السَّمْعِيَّةِ فَكَمَا لَا يُوصَفُ بِاقْتِضَاءِ الْعِلْمِ لَا يُوصَفُ بِاقْتِضَاءِ غَلَبَةِ الظَّنِّ قال وَهَذَا مِمَّا يَزِلُّ فيه مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ

بِحُصُولِ الظَّنِّ في أَثَرِهَا من غَيْرِ تَضَمُّنِهَا وَيَتَنَوَّعُ الْعَقْلِيُّ إلَى اسْتِقْرَائِيٍّ وَتَمْثِيلِيٍّ وَاقْتِرَانِيٍّ وَاسْتِثْنَائِيٍّ مُتَّصِلٍ أو مُنْفَصِلٍ وَيَتَأَلَّفُ الْمُتَّصِلُ من الْمُتَلَازِمَاتِ وَالْمُنْفَصِلُ من الْمُتَضَادَّاتِ وَنَوَّعَهَا الْأَصْحَابُ أَرْبَعَةً بِنَاءُ الْغَائِبِ على الشَّاهِدِ وَإِنْتَاجُ الْمُقَدِّمَاتِ النَّتَائِجَ وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُتَّفَقِ عليه على الْمُخْتَلَفِ فيه وَنَازَعَ ابن الْقُشَيْرِيّ في الْأَوَّلِ وقال عِنْدَنَا لَا أَصْلَ لِبِنَاءِ الْغَائِبِ على الشَّاهِدِ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ بَاطِلٌ وَإِنْ قام دَلِيلٌ على الْمَطْلُوبِ في الْغَائِبِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ الشَّاهِدِ وَإِلَّا فَذِكْرُ الشَّاهِدِ لَا مَعْنَى له وَلَيْسَ في الْمَعْقُولَاتِ قِيَاسٌ قال وَكَذَا قِيَاسُ الْمُخْتَلَفِ فيه على الْمُتَّفَقِ عليه بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ في الْمَعْقُولَاتِ وَسَتَأْتِي هذه الْمَسْأَلَةُ في كِتَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُشْتَرَطُ في الدَّلِيلِ الْوُجُودُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمِيًّا وَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الْآيَاتِ على كَذِبِ الْمُتَنَبِّئِ وَبِعَدَمِ الْأَدِلَّةِ وَالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ على انْحِصَارِ أَوْصَافِ الْأَجْنَاسِ فِيمَا أَدْرَكْنَاهُ وَالدَّلِيلُ لَا يَقْتَضِي مَدْلُولَهُ وَلَا يُوجِبُهُ إيجَابَ الْعِلَّةِ مَعْلُولَهَا بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَدْلُولِ على ما هو بِهِ كَالْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحُدُوثَ لَمَّا دَلَّ على الْمُحْدِثِ اسْتَحَالَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُوجِبُهُ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ على ما هو بِهِ وَالْقَصْدُ بهذا التَّحَرُّزُ من قَوْلِ بَعْضِهِمْ الدَّلِيلُ يُوجِبُهُ كَذَا وَالدَّلَالَةُ تَقْتَضِي مَدْلُولَهَا كَذَا وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ مُحْتَاجًا لِدَلِيلٍ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ قال فَمَنَعَهُ قَوْمٌ وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ وَقَالُوا الْأَدِلَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى ما هو بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ وَإِلَى ما هو في ثَوَانِي الْعَقْلِ مُحْتَاجٌ إلَى دَلِيلٍ وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ في مَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّا إذَا أَقَمْنَا دَلِيلًا على حُدُوثِ الْعَالَمِ مَثَلًا فَهَلْ الْمَدْلُولُ حُدُوثُ الْعَالَمِ أو الْعِلْمُ بِحُدُوثِهِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُدُوثَ الْأَكْوَانِ دَالٌّ على حُدُوثِ الْجَوَاهِرِ سَوَاءٌ نَظَرَ النَّاظِرُ أو لَا وَاخْتَلَفُوا في الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ هل تُفِيدُ الْقَطْعَ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا نعم وَحَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَعَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا

وَالثَّانِي أنها لَا تُفِيدُ وَالثَّالِثُ وهو اخْتِيَارُ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ أنها تُفِيدُ الْقَطْعَ إنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ أو معقوله كَالتَّوَاتُرِ وَلَا تفيد ( ( ( يفيد ) ) ) الْيَقِينَ إلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِ أُمُورٍ عَشَرَةٍ عِصْمَةِ رُوَاةِ نَاقِلِيهَا وصحه إعْرَابِهَا وَتَصْرِيفِهَا وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصِ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ اللَّفْظِيِّ قِيلَ ولم يذكر النَّسْخَ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ عِنْدَهُ في التَّخْصِيصِ بِالْأَزْمَانِ قال الْقُرْطُبِيُّ في أُصُولِهِ وما ذَكَرَهُ صَحِيحٌ غير أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في حُصُولِ الْيَقِينِ حُصُولُ هذه الْأُمُورِ مُفَصَّلَةً في الذِّهْنِ فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد حَكَمَ على الْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بها بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ لَا أَقَلَّ منها وَلَا أَكْثَرَ وَأَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَرِ الذي لم يَجِدْ الْهَدْيَ صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَإِنْ لم يَخْطِرْ لنا تَفْصِيلُ هذه الْأُمُورِ بِالْبَالِ وَهَذَا كما يقول في الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِنْ لم يَشْعُرْ الذِّهْنُ بِتَفْصِيلِ شُرُوطِهِ حَالَةَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ وَكَذَا الْقَوْلُ في الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ فإنه قد يَحْصُلُ لنا الْيَقِينُ بِهِ قبل إحْضَارِ تِلْكَ الْأُمُورِ بِالْبَالِ قال وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا على ذلك لِئَلَّا يَسْمَعَ الْقَاصِرُ كَلَامَ الْإِمَامِ هذا فَيَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ حتى يَخْطِرَ له تِلْكَ الْأُمُورُ بِبَالِهِ وَيَعْتَبِرَهَا وَاحِدًا وَاحِدًا فَتَشُكَّ نَفْسُهُ مِمَّا حَصَلَ له من الْيَقِينِ من الْأَدِلَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَنَّ تِلْكَ الْأُمُورِ أو بَعْضِهَا بِالدَّلِيلِ ظَنٌّ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ قَرَائِنُ عَقْلِيَّةٌ أو حَالِيَّةٌ فَيَحْصُلُ الْيَقِينُ منها انْتَهَى وردة غَيْرُهُ بِأَنَّ بَعْضَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ قد بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ كَرَفْعِ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي قَطْعِيَّةَ جَمِيعِ النَّقْلِيَّاتِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ من التَّرَاكِيبِ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِمَدْلُولِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ جَمِيعَ التَّوَاتُرَاتِ وقال غَيْرُهُ الْمَقْصُودُ من هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ إذَا أَدَّى إلَى إثْبَاتِ أَمْرٍ وَقَامَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ على نَفْيِ ذلك الْأَمْرِ فإن الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ في هذا الْمَحَلِّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُعَارِضٌ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ كما يُتَصَوَّرُ الْمُعَارَضَةُ بين الْعَقْلِيِّ وَالنَّقْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ

مَسْأَلَةٌ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنْكَرَ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ وَذَهَبَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ إلَى أنها صَحِيحَةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُحْوِجْنَا إلَيْهَا لِأَنَّ أَوَّلَ مَحْجُوجٍ بِالسَّمْعِ آدَم عليه السَّلَامُ حَيْثُ قِيلَ له لَا تَأْكُلْ فَدَلَّ على أَنَّ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ قد كُفِينَا الْأَمْرَ فيها وَاسْتَقْلَلْنَا بِالسَّمْعِ قال وَعِنْدَنَا أَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ بها نَدْرِي الْأَشْيَاءَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعْجِزَةِ إنَّمَا دَلَّ عليها الْعَقْلُ وقال تَعَالَى ^ فما أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ من شَيْءٍ ^ الأحقاف 26 ولم يُرِدْ سُبْحَانَهُ بِالْأَفْئِدَةِ قِطْعَةَ اللَّحْمِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّمْيِيزَ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اُحْتُجَّ على أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الْفُؤَادُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الذي عليه الْإِسْلَامِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْعُقُولَ طُرُقُ الْمَعْلُومَاتِ قال وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ من الْمُحَدِّثِينَ ذلك وَقَالُوا لَا يُعْرَفُ شَيْءٌ إلَّا من قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم فَرْعٌ قَضَايَا الْعُقُولِ وَقَضَايَا الْعُقُولِ ضَرْبَانِ ما عُلِمَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وهو مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ على خِلَافِ ما هو بِهِ كَالتَّوْحِيدِ فَيُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ وَإِنْ كان عن اسْتِدْلَالٍ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وما عُلِمَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وهو ما يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ على خِلَافِ ما هو بِهِ كَآحَادِ الْأَنْبِيَاءِ إذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَيُوجِبُ عِلْمَ الِاسْتِدْلَالِ وَلَا يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ لِحُدُوثِهِ عن دَلِيلِ الْعَقْلِ لَا عن ضَرُورَتِهِ وَاخْتُلِفَ في أُصُولِ النُّبُوَّاتِ على الْعُمُومِ هل تُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أو بِدَلِيلِهِ على اخْتِلَافِهِمْ في التَّعَبُّدِ بِالشَّرَائِعِ هل اقْتَرَنَ بِالْعَقْلِ أو يَعْقُبُهُ فَذَهَبَ من جَعَلَهُ مُقْتَرِنًا بِالْعَقْلِ إلَى إثْبَاتِ عُمُومِ النُّبُوَّاتِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَذَهَبَ من جَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا عن الْعَقْلِ إلَى إثْبَاتِهَا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ضَابِطٌ الْبَاحِثُ عن الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْبَاحِثُ عن الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إمَّا في إثْبَاتِهِ أو في نَفْيِهِ فَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ له من دَلِيلٍ مُثْبِتٍ وهو الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وما يَتْبَعُ ذلك كما سَيَأْتِي وفي الثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ دَلِيلٍ

فَهُوَ الْمُعَبَّرُ عنه بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمَعْنَى ذلك أَنَّ ما لم يَتَعَرَّضْ له الشَّرْعُ بَاقٍ على النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ على ما تَقَرَّرَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ دَلِيلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِوُجُودِ دَلِيلٍ بَاقٍ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ إمَّا أَنْ لَا يَسْتَلْزِمَ النَّفْيَ لِمَعْقُولِيَّتِهِ أو يَسْتَلْزِمَ وَالْأَوَّلُ نُصُوصُ الْأَدِلَّةِ وَالثَّانِي هو الْمَانِعُ وَفُقْدَانُ الشَّرْطِ فَائِدَةٌ أَدِلَّةُ النَّفْيِ أَوْسَعُ من أَدِلَّةِ الْإِثْبَاتِ أَدِلَّةُ النَّفْيِ أَوْسَعُ من أَدِلَّةِ الثُّبُوتِ لِأَنَّ كُلَّ ما يَدُلُّ على الثُّبُوتِ يَدُلُّ على النَّفْيِ وقد يَدُلُّ الشَّيْءُ على النَّفْيِ وَلَا يَدُلُّ على الثُّبُوتِ أَصْلًا كَالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لَا دَلِيلَ على النَّافِي

النَّظَرُ لُغَةً الِانْتِظَارُ وَتَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ نحو الْمَرْئِيِّ وَالرَّحْمَةُ وَالتَّأَمُّلُ وَيَتَمَيَّزُ بِالْمُعَدِّي من حُرُوفِ الْجَرِّ وفي الِاصْطِلَاحِ الْفِكْرُ الْمُؤَدِّي إلَى عِلْمٍ أو ظَنٍّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ الْفِكْرُ هو انْتِقَالُ النَّفْسِ من الْمَعَانِي انْتِقَالًا بِالْقَصْدِ وَذَلِكَ قد يَكُونُ بِطَلَبِ عِلْمٍ أو ظَنٍّ فَيُسَمَّى نَظَرًا وقد لَا يَكُونُ كَأَكْثَرِ حديث النَّفْسِ فَلَا يُسَمَّى نَظَرًا بَلْ تَخَيُّلًا وَفِكْرًا وَالْفِكْرُ أَعَمُّ من النَّظَرِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَصْدَ النَّاظِرِ الِانْتِقَالُ من أَجْزَاءِ الْحَدِّ وقال في الْبُرْهَانِ حَقِيقَةُ النَّظَرِ تُرَدَّدُ في أَنْحَاءِ الضَّرُورِيَّاتِ وَمَرَاتِبِهَا وقال فِيمَا بَعْدُ عِنْدَنَا مُبَاحَثَةٌ في أَنْحَاءِ الضَّرُورِيَّاتِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَسَالِيبِهَا وقد اعْتَرَفَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ تَنْقَسِمُ إلَى هَاجِمٍ عليه وَيُسَمَّى ضَرُورِيًّا وَإِلَى ما يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ فَيُسَمَّى نَظَرِيًّا قِيلَ وَهَذَا نَقْضٌ لِقَوْلِهِ إنَّ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ وَأَمَّا حَصْرُ النَّظَرِ في الضَّرُورِيَّاتِ فَلَا يَسْتَقِيمُ فإنه قد يَكُونُ في غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ ضَرُورَةً ثُمَّ هو مَنْقُوضٌ بِالشَّكِّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ النَّظَرُ هو الْفِكْرُ الذي يَطْلُبُ بِهِ من قام بِهِ عِلْمًا أو ظَنًّا وهو مُطَّرِدٌ في الْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بِهِ من بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ فإنه لَا يُطْلَبُ بها بَلْ عِنْدَهَا فَيَكُونُ شَرْطًا لِلطَّلَبِ كَذَا حَكَاهُ عنه الْآمِدِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ وَأَجَابَ عَمَّا اعْتَرَضَ بِهِ عليه ثُمَّ اخْتَارَ خِلَافَهُ وَلَيْسَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ حَدَّانِ مُخْتَلِفَانِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ هو الْفِكْرُ في الشَّيْءِ الْمَنْظُورِ فيه طَلَبًا لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ أو صِفَةٍ من صِفَاتِهِ وقد يُفْضِي إلَى الصَّوَابِ إذَا رُتِّبَ على وَجْهِهِ وقد يَكُونُ خَطَأً أذا خُولِفَ تَرْتِيبُهُ وقال الْغَزَالِيُّ في الِاقْتِصَادِ إذَا أَرَدْت إدْرَاكَ الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ فَعَلَيْك وَظِيفَتَانِ إحْدَاهُمَا إحْضَارُ الْأَصْلَيْنِ أَيْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ في ذِهْنِك وَهَذَا يُسَمَّى فِكْرًا وَالْآخَرُ يَسُوقُك إلَى التَّفَطُّنِ لِوُجْهَةِ لُزُومِ الْمَطْلُوبِ من ازْدِوَاجِ الْأَصْلَيْنِ وَهَذَا يُسَمَّى طَلَبًا قال فَلِذَلِكَ من جَرَّدَ الْتِفَاتَهُ إلَى الْوَظِيفَةِ الْأُولَى جَدَّ النَّظَرَ بِأَنَّهُ الْفِكْرُ وَمَنْ جَرَّدَ

الْتِفَاتَهُ إلَى الثَّانِيَةِ قال إنَّهُ طَلَبُ عِلْمٍ أو غَلَبَةُ ظَنٍّ قال وَمَنْ الْتَفَتَ إلَى الْأَمْرَيْنِ جميعا قال إنَّهُ الْفِكْرُ الذي يَطْلُبُ بِهِ من قام بِهِ عِلْمًا أو غَلَبَةَ ظَنٍّ قالوا وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ له صُورَةٌ في الْقَلْبِ وَلِذَلِكَ وَرَدَ تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللَّهِ وَلَا تَفَكَّرُوا في اللَّهِ وقال بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ الْفِكْرُ مَقْلُوبُ الْفَرْكِ غير أَنَّ الْفِكْرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الْمَعَانِي وقال الْقَاضِي أبو يَعْلَى في كِتَابِهِ الْمُعْتَمَدِ الْكَبِيرِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ مَعْنًى غَيْرُ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ بَلْ يُوجَدُ عَقِبَهُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُفَكِّرُ أَوَّلًا في الْجِسْمِ هل هو قَدِيمٌ أو حَادِثٌ وما دَامَ مُفَكِّرًا فَهُوَ شَاكٌّ ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ ذلك في الدَّلِيلِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ وَالْفِكْرُ مُتَغَايِرَيْنِ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْفَرْقُ بين الْجِدَالِ وَالنَّظَرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّظَرَ طَلَبُ الصَّوَابِ وَالْجِدَالَ نُصْرَةُ الْقَوْلِ وَالثَّانِي النَّظَرُ الْفِكْرُ بِالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَالْجِدَالُ الِاحْتِجَاجُ بِاللِّسَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَسْأَلَةٌ أَقْسَامُ النَّظَرِ وَأَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّهُ إمَّا جَازِمٌ أو لَا وَكُلُّ وَاحِدٍ إمَّا مُطَابِقٌ أو لَا وَإِنْ شِئْت قُلْت إمَّا صَحِيحٌ أو فَاسِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ إمَّا جَازِمٌ أو غَيْرُ جَازِمٍ فَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ هو النَّظَرُ الْمُطَابِقُ وَالْفَاسِدُ هو الذي لم يُفِدْ الْمَطْلُوبَ إمَّا لِلْخَطَأِ في التَّرْتِيبِ أو أَنَّهُ قُصِدَ بِهِ شَيْءٌ فَأَفَادَ غَيْرَهُ أو لم يُفِدْ شيئا أو بِغَيْرِ ذلك وَقَسَّمَهُ الْآمِدِيُّ إلَى صَحِيحٍ وهو ما قد وَقَفَ النَّاظِرُ فيه على وَجْهِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ وَنَاقَضَ ذلك بِقَوْلِهِ إنَّ الصَّحِيحَ منه يُفِيدُ الْعِلْمَ مع أَنَّهُ لَا يَرَى الظَّنَّ عِلْمًا بَلْ ضِدًّا لِلْعِلْمِ وهو أَحَدُ طُرُقِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِلسُّوفِسْطَائِيَّةِ النَّافِينَ لِلْحَقَائِقِ وَالسُّمَنِيَّةِ الْقَائِلِينَ

بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَشَرْطُهُ الْعَقْلُ وَانْتِفَاءُ ما فيه كَالْغَفْلَةِ وَهَلْ السَّهْوُ عن النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالنِّسْيَانُ له ضِدٌّ له أَمْ لَا فيه احْتِمَالَانِ لِلْقَاضِي أبي يَعْلَى وَعِنْدَهُ لَا يَكُونُ غَيْرُ الْعِلْمِ ضِدًّا له لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ الظَّنَّ ليس عِلْمًا وَأَنْ لَا يَكُونَ جَاهِلًا بِالْمَطْلُوبِ وَلَا عَالِمًا بِهِ من كل الْوُجُوهِ وَلَا من وَجْهٍ تَطْلُبُهُ لاستحاله تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ إنَّهُ يُنَافِي الْعِلْمَ بِمَا يَنْظُرُ فيه لِأَنَّ النَّظَرَ طَلَبٌ وَطَلَبُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَيُنَافِي الْجَهْلَ بِهِ لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ عَالِمًا وهو يَصْرِفُهُ عن الطَّلَبِ قِيلَ لَكِنْ هذا في الْمُرَكَّبِ وهو يُنَافِي الْبَسِيطَ أَيْضًا ولم يَذْكُرْهُ وَأَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ في الدَّلِيلِ لَا في شُبْهَةٍ بِمَعْنَى أَنْ يَقَعَ نَظَرُهُ على الدَّلِيلِ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ إذَا أَخْطَأَ الدَّلِيلَ لم يَصِحَّ نَظَرُهُ وَلِهَذَا أَخْطَأَ من أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لم يُوَفَّقْ في نَظَرِهِ لِإِصَابَةِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا وَقَعَ على شُبْهَةٍ أَدْرَكَ الدَّلِيلَ غَيْرُهُ وَأَنْ يَسْتَوْفِيَ شُرُوطَ الدَّلِيلِ وَتَرْتِيبُهُ على حَقِيقَةٍ بِتَقْدِيمِ ما يَجِبُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرِ ما يَجِبُ تَأْخِيرُهُ وَأَنْ يَعْلَمَ الْوُجُوهَ التي تَدُلُّ منها الْأَدِلَّةُ وَلَا يَكْفِيهِ الْعِلْمُ بِذَاتِ الدَّلَالَةِ مع الذُّهُولِ عن الْوَجْهِ الذي منه تَدُلُّ الدَّلَالَةُ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ عِلْمَ الِاكْتِسَابِ لَا عِلْمَ الضَّرُورَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو الْمَنْصُورِ يَجِبُ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا عن الْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ أو الْبَدَاهَةِ لَا مَدْخَلَ لِلنَّظَرِ فيه ثُمَّ يَعْلَمُ الضَّرُورِيَّاتِ الْحِسِّيَّةَ وَالْبَدِيهِيَّةَ وَإِلَّا لم يَتَمَكَّنْ من رَدِّ الْغَائِبِ إلَى مَحْسُوسٍ أو مَعْلُومٍ بِالْبَدَاهَةِ ثُمَّ يَعْلَمُ وُجُودَ الدَّلِيلِ على ما يَسْتَدِلُّ بِهِ عليه ثُمَّ يَعْلَمُ وَجْهَ تَعَلُّقِ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ وَمِنْ ثَمَّ لم يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال على صِدْقِ الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ من لَا يَعْرِفُ وُجُودَ الْقُرْآنِ في الْعَالَمِ وَلَا من عَرَفَ وُجُودَهُ ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ ظَهَرَ على يَدَيْهِ وَلَا من عَرَفَ ظُهُورَهُ عليه ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ تَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ فَعَجَزُوا عن مُعَارَضَتِهِ بمثله قال وَمِنْ شَرْطِهِ إذَا كان دَلِيلُهُ يَدُلُّ على شَيْئَيْنِ فاكثر أَنْ يُجْرِيَهُ فِيهِمَا فَأَمَّا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ في أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ وَيَمْنَعَ من الِاسْتِدْلَالِ بِهِ في الْآخَرِ فإنه مُفْسِدٌ لِلدَّلِيلِ على غَيْرِ نَفْسِهِ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ على أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ لِأَنَّ الْمُحْكَمَاتِ كما دَلَّتْ على كَوْنِ فَاعِلِهَا عَالِمًا دَلَّتْ على أَنَّ له عِلْمًا فإذا لم يُجْرُوا هذه الدَّلَالَةَ في عِلْمِ الْبَارِي لم يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُ بها على كَوْنِهِ عَالِمًا قُلْت وَمِنْهُ اسْتِدْلَالُ الْحَنَفِيَّةِ على صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ

وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ ليس له الْإِقْبَاضُ وَالْحَدِيثُ كما دَلَّ على جَوَازِ الْعَقْدِ دَلَّ على جَوَازِ الْإِقْبَاضِ فإذا لم يَسْتَدِلُّوا بِهِ على عَدَمِ امْتِنَاعِ الْإِقْبَاضِ لم يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُمْ على جَوَازِ الْعَقْدِ وإذا اجْتَمَعَتْ هذه الشُّرُوطُ كان النَّظَرُ مُثْمِرًا لِلْعِلْمِ وَمُنْتِجًا له وَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ منها كان فَاسِدًا ولم يَقَعْ بَعْدَهُ عِلْمٌ قال أبو يَعْلَى في الْمُعْتَمَدِ وَكُلُّ جُزْءٍ من النَّظَرِ الصَّحِيحِ يَتَضَمَّنُ جُزْءًا من الْعِلْمِ خِلَافًا لِابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ إنَّ كُلَّ جُزْءٍ من النَّظَرِ لَا يَتَضَمَّنُ جُزْءًا من الْعِلْمِ بَلْ لَا يُثْمِرُ إلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ فإذا اسْتَوْفَى النَّظَرَ حَصَلَ بَعْدَهُ الْعِلْمُ وَهَذَا كَالنَّظَرِ في حُدُوثِ الْعَالَمِ فَإِنَّنَا نَنْظُرُ أَوَّلًا في إثْبَاتِ الْأَعْرَاضِ فإذا نَظَرْنَا فيه حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْعَرَضِ فَقَطْ ثُمَّ نَنْظُرُ ثَانِيًا في حُدُوثِهِ فَنَعْلَمُ حُدُوثَهُ وَرُبَّمَا تَكُونُ الْأَدِلَّةُ على وُجُودِ الْأَعْرَاضِ أو حُدُوثِهَا مَبْنِيَّةً على أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَجِبُ النَّظَرُ فيها فَيَحْصُلُ لنا الْعِلْمُ بِكُلٍّ من النَّظَرِ في تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عِلْمًا وَكَذَلِكَ النَّظَرُ في سَائِرِ الْأَدِلَّةِ قُلْت وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ فإنه إنْ أُرِيدَ عِلْمٌ ما فَالْحَقُّ ما قَالَهُ أبو يَعْلَى وَإِنْ أُرِيدَ الْمَقْصُودُ بِالنَّظَرِ فَالْحَقُّ ما قَالَهُ الْآخَرُونَ وَنَظِيرُهُ الْخِلَافُ الْفِقْهِيُّ أَنَّ الْحَدَثَ هل يَرْتَفِعُ عن كل عُضْوٍ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ أو يَتَوَقَّفُ على تَمَامِ الْأَعْضَاءِ

مسألة
النَّظَرُ مُكْتَسَبٌ النَّظَرُ مُكْتَسَبٌ بِالِاتِّفَاقِ وإذا وُجِدَ بِشُرُوطِهِ أَفَادَ الْعِلْمَ وَقَالَتْ الْحُكَمَاءُ النَّظَرُ في الْإِلَهِيَّاتِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ في الْهَنْدَسِيَّاتِ وَالْحِسَابَاتِ وَيَقَعُ الْعِلْمُ عَقِبَهُ على الْمَشْهُورِ وَقِيلَ مع آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَائِهِ حَكَاهُ عبد الْجَلِيلِ في شَرْحِ اللَّامِعِ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَاخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ حُصُولِهِ على أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وَبِهِ قال الْأَشْعَرِيُّ إنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ عَادَةً بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَحُصُولِ الشِّبَعِ عَقِبَ الْأَكْلِ وَالرَّيِّ عَقِبَ الشُّرْبِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَكَانَ خَرْقُهُ جَائِزًا وَعَدَمُهُ مُمْكِنًا وَهَاهُنَا حُصُولُ الْعِلْمِ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَحْصُلَ عَقِبَ كَمَالِ النَّظَرِ وَالثَّانِي وهو مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالتَّوَلُّدِ وهو الْحَاصِلُ عن

الْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ كَحَرَكَةِ السَّهْمِ عن الرمى وَيَجِبُ وُقُوعُهُ بَعْدَ النَّظَرِ كَوُقُوعِ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ عَقْلًا بِإِيجَابٍ ذَاتِيٍّ أَيْ ذَاتُهُ مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَضَمُّنِ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُنْتِجَةِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ الذي لَا بُدَّ منه لَا يَكُونُ النَّظَرُ عِلَّةً وَلَا مُوَلَّدًا وهو قَوْلُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقال الْآمِدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ من فُرُوعِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا على أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ مُوَلِّدٍ لِلْعِلْمِ بِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ على أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَفْعَلُ إلَّا ما هو قَادِرٌ عليه وَأَنَّ قُدْرَةَ الْإِنْسَانِ لَا تُوجَدُ قبل مَقْدُورِهَا وإذا ثَبَتَ لنا هذا الْأَصْلُ بِدَلِيلٍ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْوَاقِعُ عَقِبَ النَّظَرِ من فِعْلِ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لو كان من فِعْلِهِ لَوَجَبَ كَوْنُهُ قَادِرًا عليه بِقُدْرَةٍ تقارنة أو تُقَارِنُ الْقُدْرَةَ على سَبَبِهِ الذي هو النَّظَرُ وهو مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَقَدُّمَ الْقُدْرَةِ على مَقْدُورِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

مسألة
الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَ النَّظَرِ اُخْتُلِفَ في الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَقِبَ النَّظَرِ فَمَنْ قال في الْأُولَى بِالتَّضَمُّنِ أو الْإِيجَابِ الذَّاتِيِّ قال إنَّهُ ضَرُورِيٌّ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَمَنْ قال إنَّهُ بِالْعَادَةِ فَلَيْسَ بِضَرُورِيٍّ لِجَوَازِ خَرْقِهَا فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ عن كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا إذْ الضَّرُورِيُّ هو الذي يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يَتَأَتَّى منه الِانْفِكَاكُ عَقْلًا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَحَيْثُ قُلْنَا إنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ يَتَضَمَّنُ تَرْتِيبَ الْعِلْمِ بَعْدَهُ فَالنَّظَرُ الْفَاسِدُ وفي الشُّبْهَةِ لَا يقتضى الْجَهْلَ وَلَا الشَّكَّ وَلَا شيئا من أَضْدَادِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَتَعَلَّقُ بِمَدْلُولِهِ وَالشُّبْهَةُ لَا تَعَلُّقَ لها بِأَضْدَادِ الْعُلُومِ

مسألة
النظر واجب شرعا
النَّظَرُ وَاجِبٌ شَرْعًا قال ابن الْقُشَيْرِيّ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قام على وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ وما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ الْأَصَحُّ أَنَّ النَّظَرَ لَا يَجِبُ على الْمُكَلَّفِينَ إلَّا ان يَكُونُوا شَاكِّينَ فِيمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فَيَلْزَمُهُمْ الْبَحْثُ عنه وَالنَّظَرُ فيه إلَى أَنْ يَعْتَقِدُوهُ أو يَعْرِفُوهُ قال وَمَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وما يَمْتَنِعُ عليه يَتَعَلَّقُ بِالْخَاصَّةِ وَهُمْ قَائِمُونَ بِهِ عن الْعَامَّةِ لَا في تَعْرِيفِ ذلك لهم وَمِنْ الْمَشَقَّةِ الظَّاهِرَةِ وَإِنَّمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِاعْتِقَادِهِ وقال بَعْضُ نُبَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ هذا الذي قَالُوهُ من وُجُوبِ النَّظَرِ مَبْنِيٌّ على ان كُلَّ إنْسَانٍ ابْتِدَاءً غَيْرُ عَارِفٍ بِاَللَّهِ حتى يَنْظُرَ وَيَسْتَدِلَّ فَيَكُونُ النَّظَرُ أَوَّلَ الطَّاعَاتِ وَهَذَا خِلَافُ ما عليه السَّلَفُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فإنه لَا يُوجَدُ قَطُّ إنْسَانٌ إلَّا وهو يَعْرِفُ رَبَّهُ عز وجل وَلَا يُعْرَفُ له حَالٌ لم يَكُنْ فيها مُقِرًّا حتى يَنْظُرَ وَيَسْتَدِلَّ اللَّهُمَّ إلَّا من عَرَضَ له ما أَفْسَدَ فِطْرَتَهُ ابْتِدَاءً فَيَحْتَاجُ معه إلَى النَّظَرِ نعم النَّظَرُ الصَّحِيحُ يُقَوِّي الْمَعْرِفَةَ وَيُثَبِّتُهَا فإن الْمَعَارِفَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ على الْأَصَحِّ قلت وَهَذَا جُمُوحٌ إلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ ضَرُورِيَّةٌ لَا نَظَرِيَّةٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ إذْ لو كانت ضَرُورِيَّةً لَكَانَ التَّكْلِيفُ بها مُحَالًا وَنَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِمَعْرِفَتِهِ قال تَعَالَى ! ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) ! محمد 19 وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ تَفْرِيقًا على الْقَوْلِ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى على بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَحَدُهَا أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وهو الْمَنْقُولُ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَالثَّانِي أَنَّهُ النَّظَرُ الْمُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وهو الْمَنْسُوبُ إلَى الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَالثَّالِثُ الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ وهو اخْتِيَارُ الْإِمَامِ في الْإِرْشَادِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى ذلك وهو اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الحديث وَالْخَامِسُ قَوْلُ أبي هَاشِمٍ الشَّكُّ وَنُقِلَ عن ابْنِ فُورَكٍ لِامْتِنَاعِ النَّظَرِ من

الْعَالِمِ فإن الْحَاصِلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبٌ وَلَا يَمْتَنِعُ من الشَّاكِّ وَزَيَّفَهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ في الْعَقْلِ الْهُجُومُ على النَّظَرِ من غَيْرِ سَبْقِ تَرَدُّدٍ وَالسَّادِسُ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالسَّابِعُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالثَّامِنُ قَبُولُ الْإِسْلَامِ وَالْعَزْمُ على الْعَمَلِ ثُمَّ النَّظَرُ بَعْدَ الْقَبُولِ وَالتَّاسِعُ اعْتِقَادُ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَالْعَاشِرُ التَّقْلِيدُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ النَّظَرُ وَلَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ الشَّكِّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فَيَلْزَمُ الْبَحْثُ عنه حتى يَعْتَقِدَهُ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ رُبَّمَا تَتَدَاخَلُ وَتَخْتَلِفُ في الْعِبَارَةِ وقال الرَّازِيَّ في التَّحْصِيلِ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْوَاجِبِ الْوَاجِبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ في أَنَّهُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ من يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً وَالنَّظَرُ عِنْدَ من لَا يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً وَإِنْ أُرِيدَ من الْوَاجِبِ كَيْفَ كان فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْقَصْدُ قُلْت بَلْ مَعْنَوِيٌّ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ في التَّعْصِيَةِ بِتَرْكِ النَّظَرِ على من أَوْجَبَهُ دُونَ من لَا يُوجِبُهُ وقال صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ النَّظَرُ فَمَنْ أَمْكَنَهُ زَمَانٌ يَسَعُ النَّظَرَ التَّامَّ ولم يَنْظُرْ فَهُوَ عَاصٍ وَمَنْ لم يُمْكِنْهُ أَصْلًا فَهُوَ كَالصَّبِيِّ وَمَنْ أَمْكَنَهُ ما يَسَعُ لِبَعْضِ النَّظَرِ دُونَ تَمَامِهِ فَفِيهِ احْتِمَالٌ وَالْأَظْهَرُ عِصْيَانُهُ كَالْمَرْأَةِ تُصْبِحُ طَاهِرَةً فَتُفْطِرُ ثُمَّ تَحِيضُ فَإِنَّهَا عَاصِيَةٌ وَإِنْ ظَهَرَ أنها لم يُمْكِنْهَا إتْمَامُ الصَّوْمِ وقال ابن فُورَكٍ بِسَبَبِ هذا الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ في الْمَعْرِفَةِ أَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ أو كَسْبِيَّةٌ فَمَنْ قال ضَرُورِيَّةٌ قال أَوَّلُ فَرْضٍ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَنْ قال كَسْبِيَّةٌ قال أَوَّلُ فَرْضٍ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى الْمَعْرِفَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ في أَوَّلِ الْكَلَامِ على الْقِيَاسِ أَنْكَرَ أَهْلُ الحديث وَكَثِيرٌ من الْفُقَهَاءِ قَوْلَ أَهْلِ الْكَلَامِ إنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ النَّظَرُ وَقَالُوا إنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ مَعْرِفَةُ اللَّهِ على ما وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَلَوْ قال الْكَافِرُ أَمْهِلُونِي لِأَنْظُرَ فَأَبْحَثَ فإنه لَا يُمْهَلُ وَلَا يُنْظَرُ وَلَكِنْ يُقَالُ له أَسْلِمْ في الْحَالِ وَإِلَّا فَأَنْتَ مَعْرُوضٌ على السَّيْفِ قال وَلَا أَعْرِفُ في ذلك خِلَافًا بين الْفُقَهَاءِ وقد نَصَّ عليه ابن سُرَيْجٍ انْتَهَى وهو عَجِيبٌ فَقَدْ حَكَوْا في كِتَابِ الرِّدَّةِ وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا تَعَيَّنَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ

فقال عَرَضَتْ لي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا لِأَعُودَ إلَى ما كُنْت عليه هل يُنَاظَرُ لِإِزَالَتِهَا فيه وَجْهَانِ وقال الْقَاضِي أبو يَعْلَى في الْمُعْتَمَدِ إذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ أَوَّلَ النَّظَرِ فإنه يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عليه وَعَلَى تَرْكِ ما بَعْدَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ على تَرْكِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ عِقَابًا أَعْظَمَ من عِقَابِ تَرْكِ النَّظَرِ الثَّانِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مثله خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ إنَّمَا يُعَاقَبُ على تَرْكِ فِعْلِ الْأَوَّلِ غير أَنَّ عِقَابَهُ عَظِيمٌ يَجْرِي مَجْرَى الْعِقَابِ على تَرْكِ كل النَّظَرِ مَسْأَلَةٌ النَّظَرُ الْفَاسِدُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ قد سَبَقَ أَنَّ النَّظَرَ الْفَاسِدَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ وهو الْمَشْهُورُ وَقِيلَ يَسْتَلْزِمُهُ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَسَادَ إنْ كان مَقْصُورًا على الْمَادَّةِ اسْتَلْزَمَ الْجَهْلَ لِأَنَّ من اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ وَاعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ قَدِيمٍ غَنِيٌّ عن الْغَيْرِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ غَنِيٌّ عن الْمُؤَثِّرِ وهو جَهْلٌ مُحَالٌ وَإِنْ كان الْفَسَادُ مَقْصُورًا على الصُّورَةِ أو يَشْمَلُ الصُّورَةَ وَالْمَادَّةَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَقَوْلِنَا لَا شَيْءَ من الْإِنْسَانِ بِحَجَرٍ وَكُلُّ حَجَرٍ جَمَادٌ يَلْزَمُ لَا شَيْءَ من الْإِنْسَانِ بِجَمَادٍ عِلْمًا وَإِنْ كانت صُورَةُ الْقِيَاسِ غير صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ إيجَابِ الصُّغْرَى ضَابِطٌ الْإِدْرَاكُ الْإِدْرَاكُ بِلَا حُكْمٍ تَصَوُّرٌ وَمَعَ الْحُكْمِ تَصْدِيقٌ لَكِنْ مَجْمُوعُهُمَا أو الْحُكْمُ وَحْدَهُ فيه خِلَافٌ فَذَهَبَ الْقُدَمَاءُ إلَى أَنَّهُ الْحُكْمُ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ وَمَالَ إلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ وهو جَهْلٌ إنْ كان جَازِمًا غير مُطَابِقٍ وَتَقْلِيدٌ إنْ طَابَقَ وَإِنْ لم يَكُنْ لِمُوجِبٍ وَعِلْمٌ إنْ كان لِمُوجِبٍ عَقْلِيٍّ أو حِسِّيٍّ أو مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا وهو الْمُتَوَاتِرَات وَإِنْ لم يَكُنْ جَازِمًا فَإِنْ تَسَاوَى طَرَفَاهُ فَهُوَ الشَّكُّ وَإِلَّا فالراحج ( ( ( فالراجح ) ) ) ظَنٌّ صَادِقٌ إنْ طَابَقَ أو كَاذِبٌ إنْ لم يُطَابِقْ وَالْمَرْجُوحُ وَهْمٌ وَلَا يَرِدُ قَوْلُ الْقَائِلِ اعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ حَادِثٌ وَكُلُّ حَادِثٍ لَا بُدَّ له من سَبَبٍ فَكَيْفَ يَقُولُونَ في الِاعْتِقَادِ له بِالْمُوجِبِ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِالْمُوجِبِ ما ذَكَرْنَا وَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ ليس عن بُرْهَانٍ حِسِّيٍّ أو عَقْلِيٍّ أو مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا وَأُورِدَ بِأَنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ لَا

حُكْمَ فيه فَكَيْفَ يُورَدُ في قِسْمِ الْحُكْمِ وَأَيْضًا فَالْوَهْمُ يُنَافِي الْحُكْمَ بِالشَّيْءِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّاكَّ له حُكْمَانِ مُتَسَاوِيَانِ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاكِمٌ بِجَوَازِ وُقُوعِ هذا النَّقِيضِ بَدَلًا عن النَّقِيضِ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ وَالظَّانُّ حَاكِمٌ وَيَلْزَمُ منه وُجُودُ الْوَهْمِ وَحُكْمُهُ بِالطَّرَفِ الْآخَرِ يَكُونُ مَرْجُوحًا فَظَهَرَ أَنَّ الشَّاكَّ حَاكِمٌ وَكَذَلِكَ الْوَاهِمُ نعم جَعْلُهُمْ التَّقْلِيدَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ لَا لِمُوجِبٍ لَا يَعُمُّ أَنْوَاعَ التَّقْلِيدِ بَلْ يَخُصُّ الصَّحِيحَ منه وَجَعْلُهُمْ الْجَهْلَ هو الْحُكْمَ الْجَازِمَ من غَيْرِ مُطَابَقَةٍ لَا يَعُمُّ أَنْوَاعَ الْجَهْلِ بَلْ يَخُصُّ الْمُرَكَّبَ وَيَخْرُجُ عنه الْجَهْلُ الْبَسِيطُ الذي هو عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا من شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ وَسَمَّى الدَّارِمِيُّ من أَصْحَابِنَا الْوَهْمَ تَجْوِيزًا قال النَّوَوِيُّ وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الشَّكُّ وَالظَّنُّ مُتَرَادِفَانِ قُلْت وَهَذَا إنَّمَا قَالُوهُ في الْأَحْدَاثِ لَا مُطْلَقًا أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ يُرِيدُونَ التَّسَاوِيَ او الْمَرْجُوحَ وَإِلَّا فَهُوَ يَقَعُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ كما قَالَهُ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الِاعْتِكَافِ قال الدَّارِمِيُّ وَمَنْ قال بهذا يسمى الرَّاجِحَ غَالِبَ الظَّنِّ ثُمَّ رُجِّحَ أَنَّ مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ هو الشَّكُّ وَالرَّاجِحُ ظَنٌّ وَالزَّائِدُ في الرُّجْحَانِ غَالِبُ الظَّنِّ

مسألة
في العلم قال أبو بكر النقاش سمي علما لأنه علامة يهتدي بها العالم إلى ما قد جهله الناس وهو كالعلم المنصوب بالطريق واختلفوا في العلم المنقسم إلى تصور خاص أو تصديق خاص وهما اللذان يوجبان لمن قام به تمييزا لا يحتمل النقيض هل يحد أم لا يحد والقائلون بأنه
لا يحد ومنهم أبو الحسين البصري اختلفوا فيتوجهه فقيل لأن المنطقيين اشترطوا في الحد الجنس الأقرب وإن لم يوجد ذلك في العلم واشترطوا ذكر جميع الذاتيات كما يقال عرضي لون سواد والأول جنس أقرب وفي العلم لا يقال عرضي علم فلهذا لا يحد وقال الأصوليون لأنه لم يوجد له عبارة دالة على حقيقته وماهيته فلا يحد وقال أبو الحسين بن اللبان لأنه أظهر الأشياء فلا معنى لحده بما هو أخفى منه حكاه بعض شراح اللمع وحكي عن ابن مجاهد الطائي أنه منع إطلاق الحد في العلم وإنما يقال حقيقة العلم كذا لأن الحقائق لا يختلف القديم والحادث بخلاف العلم قال

والذي ذكره أصحابنا إنما هو مجاز فأجروا الحد مجرى الاسم توسعا وقال الرازي ضروري إذ به تعرف الأشياء فلو عرف العلم لوجب أن يعرف بغيره لاستحاله تعريف الشيء بنفسه والغرض أن غيره متوقف عليه فيلزم الدور ثم قال في موضع آخر هو حكم الذهن الجازم المطابق لموجب كما سبق في الضابط فكأنه قال بأنه ضروري ويحد وهذا تناقض فإن قيل الذهني تعريفه تصديقي والمدعى معرفته تصوري فلا تناقض قلنا إن كان كذلك لكن التعريف للنسبة في التصديق تعريف لتصور لأن النسبة ليست تصديقا بل مقررة وقال غيره ضروري ولا يحد وهو قضية نقل ابن الحاجب عنه والموجود في المحصول ما ذكرته أولا وقال إمام الحرمين والقشيري والغزالي يعسر تعريفه بالحد الحقيقي وإنما يعرف بالتقسيم والمثال ثم يعرض في روم التوصل إليه إلى انتفاء الفرق بينه وبين أضداده واعترض عليهم الآمدي بأن القسمة المذكورة إن لم تكن مميزة له عما سواه فليست معرفة وإن كانت مميزة فذلك رسم وهذا إنما يرد لو أحالا الرسم وهو غير ظاهر من كلامهم والمختار أنه يعرف بالحد الحقيقي كغيره فقال القدماء هو معرفة المعلوم على ما هو به وأورد بأنه تعريف الشيء بنفسه وبما لا يعرف إلا بعد معرفته وهو باطل لأن المعلوم مشتق من العلم ورتبة المشتق في المعرفة متأخرة عن رتبة المشتق منه وقد أخذ في تعريف العلم فيلزم ما ذكرنا وأجيب بأنهم تجوزوا في المعلوم وقيل إنه منقوض بعلم الله فإنه لا يسمى معرفة إجماعا كما قاله الآمدي وبمعرفة المقلد إذ ليست علما وبأن فيه زيادة وهو قوله على ما هو به إذ المعرفة عندهم هي العلم والعلم إنما يكون مطابقا واحدا ولهذا قال الإمام لو اقتصر على قوله معرفة لكفى وقيل ذكرت للإشعار بأنها من الصفات المتعلقة وللإشارة إلى نفي قول من يقول بوجود علم ولا معلوم وهم بعض المعتزلة واستحسن ابن عقيل قول بعضهم إنه وجدان النفس الناطقة الأمور بحقائقها وهذا تعريف المجهول بمثله أو دونه فإن العلم أظهر من وجدان النفس أو مثله ثم هو غير جامع لخروج علم الله وغير مانع لوجدان المقلد وليس بعلم وقال القفال الشاشي إثبات الشيء على ما هو به وقال ابن السمعاني الأحسن أنه إدراك

العلوم على ما هو به والأولى كما قاله في التلخيص إنه معرفة العلوم فيشمل الموجود والمعدوم ولا نظر إلى الاشتقاق حتى يلزم الدور قال ولو قلت ما يعلم به العلوم لكان أسد وقد أومأ شيخنا أبو الحسن إلى أنه ما أوجب لمحله الاتصاف بكونه عالما وقيل تبين المعلوم على ما هو به وقيل هو المعرفة ورد بأنه لا يقال لعلم الله معرفة ولا يقال له عارف وحكى الأستاذ أبو إسحاق في كتاب شرح ترتيب المذهب إجماع المتكلمين على أن الله تعالى لا يسمى عارفا ودفع الاستدلال بحديث تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة بأنه لا يقطع به ونقل المقترح في شرح الإرشاد عن القاضي أنه سمى علم الله معرفة لهذا الحديث ثم ضعفه بأن الخطاب لم يسق لبيان العلم ولا أطلق لفظ المعرفة هاهنا عليه وإنما أراد ثمرة العلم وهو الإقبال في الإلطاف عليه ولهذا لا يسمى الباري عارفا انتهى وقيل المراد المجازاة وخرج عليه قول ابن الفارض قلبي يحدثني بأنك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرف

مسألة
تفاوت العلوم
هل تَتَفَاوَتُ الْعُلُومُ فيه قَوْلَانِ قال في الْبُرْهَانِ وَأَئِمَّتُنَا على التَّفَاوُتِ وَقَرَّرَهُ الْمَازِرِيُّ وقال الْأُرْمَوِيُّ في التَّحْصِيلِ إنَّهُ الْحَقُّ وقال ابن التِّلِمْسَانِيُّ الْمُحَقِّقُونَ على عَدَمِ تَفَاوُتِهَا وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بِحَسَبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ وَاخْتَارَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في كِتَابِ التَّرْجِيحِ وَالْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَالْأَنْبَارِيُّ في شَرْحِهِ وَنَقَلَ في الْبُرْهَانِ في التَّرْجِيحِ عن الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَعْقُولَاتِ لَا تَرْجِيحَ فيها قُلْت بِنَاءً على انه لَا يُمْكِنُ تَعَارُضُهَا بِخِلَافِ تَفَاوُتِهَا في رُتْبَتِهَا فإنه مُمْكِنٌ عِنْدَ

الْمُحَقِّقِينَ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ عَدَمَ التَّفَاوُتِ في نَفْسِ الْعِلْمِ بَلْ في طريقة بِالنِّسْبَةِ إلَى كَثْرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ وَقِلَّتِهَا وَوُضُوحِهَا وَخَفَائِهَا وقال الْقَرَافِيُّ وَقَعَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ بين الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ وَالْأَفْضَلِ الْخُونَجِيِّ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ عَدَمَ التَّفَاوُتِ وَعَكَسَ الْخُونَجِيُّ قال الْقَرَافِيُّ وَلِأَجْلِ التَّفَاوُتِ قال أَهْلُ الْحَقِّ رُؤْيَةُ اللَّهِ يَعْنِي في الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عِبَارَةٌ عن خَلْقِ عِلْمٍ بِهِ هو أَجْلَى من مُطْلَقِ الْعِلْمِ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ إدْرَاكِ الْحِسِّ إلَى الْمُحَسِّ بِهِ قال وَكَذَلِكَ سَمَاعُ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ قال وَهَذِهِ عَقَائِدُ لَا تَتَأَتَّى إلَّا على الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّفَاوُتِ ا 1 هـ وَظَاهِرُ كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ لَا تَتَفَاوَتُ قال وَإِنَّمَا جاء ذلك من جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ الدَّلَائِلِ أَوْضَحُ من بَعْضٍ كَالْبَصَرِ الْمُدْرِكِ لِمَا قَرُبَ إلَيْهِ إدْرَاكًا بِخِلَافِ ما بَعُدَ منه عن الْمَسَافَةِ وَإِنْ كان الْإِدْرَاكُ من جَوْهَرٍ وَاحِدٍ فَمِنْهُ ما يَقَعُ جَلِيًّا وَمِنْهُ ما يَقَعُ مع التَّحْدِيقِ وَالتَّأَمُّلِ وَكَذَلِكَ مَنْزِلَةُ الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ تَفَاوُتُهَا فإنه قال امْتَحَنَ اللَّهُ عبادة وَفَرَّقَ بين وُجُوهِ الْعِلْمِ فَجَعَلَ منه الْخَفِيَّ وَمِنْهُ الْجَلِيَّ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لو كانت كُلُّهَا جَلِيَّةً لَارْتَفَعَ التَّنَازُعُ وَزَالَ الِاخْتِلَافُ وما اُحْتِيجَ إلَى تَدَبُّرٍ وَفِكْرٍ وَلَبَطَلَ الِابْتِلَاءُ ولم يَقَعْ الِامْتِحَانُ وَلَا وُجِدَ شَكٌّ وَلَا ظَنٌّ وَلَا جَهْلٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ حِينَئِذٍ يَكُونُ طَبَقًا وَلَوْ كانت كُلُّهَا خَفِيَّةً لم يُتَوَصَّلْ إلَى مَعْرِفَةِ شَيْءٍ منها إذْ الْخَفِيُّ لَا يُعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَكَانَ جَلِيًّا قال اللَّهُ تَعَالَى ! ( هو الذي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) ! آل عمران 7 قال وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ ليس بِخَفِيٍّ وَلَا جَلِيٍّ ثَبَتَ أَنَّ منه ما هو جَلِيٌّ وَمِنْهُ ما هو خَفِيٌّ 1 هـ فَحَصَلَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا التَّفَاوُتُ وَعَلَى هذا وَقَعَ الْفَرْقُ بين عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَحَقِّ الْيَقِينِ وقد أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابن حِبَّانَ في صَحِيحِهِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال ليس الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ إنَّ مُوسَى لم يُلْقِ الْأَلْوَاحَ لَمَّا سمع عن قَوْمِهِ وَأَلْقَاهَا حين رَآهُمْ

وقال أَئِمَّةُ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إنْ كان بِالْأَدِلَّةِ فَهُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ فإذا قَوِيَ فَهُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ فإذا فَنِيَ فيه فَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ وَيُقَالُ عِلْمُ الْيَقِينِ كَالنَّاظِرِ إلَى الْبَحْرِ وَعَيْنُ الْيَقِينِ كَرَاكِبِ الْبَحْرِ وَحَقُّ الْيَقِينِ كَمَنْ غَرِقَ في الْبَحْرِ 1 هـ وقد أُورِدَ على الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ التَّفَاوُتِ أَنَّهُ يَكُونُ عِلْمُ الْأُمَمِ مُمَاثِلًا لِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ صلى اللَّهُ عليهم وسلم وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلْمَهُمْ مُفَاوِتٌ لِعِلْمِنَا وَكَذَلِكَ رُجْحَانُ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ على بَعْضِهِمْ في الْمَعَارِفِ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اطَّلَعَ على صِفَةٍ لِلْبَارِي تَعَالَى لم يَطَّلِعْ عليها غَيْرُهُ فَيَكُونُ ذلك رَاجِعًا إلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ بِمَعْلُومٍ آخَرَ وَلَيْسَ ذلك تَفَاوُتًا في الْعِلْمِ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلِمَ رَبُّهُ بِوُجُوهِ أَدِلَّةٍ لم نَطَّلِعْ نَحْنُ على جَمِيعِهَا فَيَرْجِعُ التَّفَاوُتُ إلَى أَعْدَادِ الْمَعْلُومِ لَا إلَى نَفْسِ الْعِلْمِ وَأَمَّا رُجْحَانُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ فَمَحْمُولٌ على زِيَادَةِ الْمَعَارِفِ وَتَوَالِيهَا إذَا حَصَلَتْ بِلَا فَتْرَةٍ وَلَا غَفْلَةٍ ثُمَّ إذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بهذا الِاعْتِبَارِ تَفَاوَتَ الْعَارِفُونَ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْغَفْلَةِ وَكَثْرَتِهَا وَقِلَّةِ الْمَعَارِفِ وَكَثْرَتِهَا وَلِهَذَا قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لو تَعْلَمُونَ ما أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى كَثْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ لَا إلَى التَّفَاوُتِ في الْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِالْمَعْلُومِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كانت الْإِشَارَةُ إلَى هذا لَقَالَ لو تَعْلَمُونَ كما أَعْلَمُ فَهَذِهِ عِبَارَةُ التَّفَاوُتِ في نَفْسِ الْعِلْمِ وقال أَيْضًا في التَّفَاوُتِ بِاعْتِبَارِ اعْتِرَاضِ الْغَفَلَاتِ قِلَّةً وَكَثْرَةً لو تَكُونُونَ كما تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ مُشِيرًا إلَى أَنَّ الْغَفْلَةَ تَخْتَلِسُهُمْ في غَيْبَتِهِمْ عنه وَتَتَحَامَاهُمْ بِحَضْرَتِهِ تِلْكَ الْحَضْرَةُ الْمُقَدَّسَةُ صَلَوَاتُ اللَّه على صَاحِبِهَا وَسَلَامُهُ فَإِنْ قِيلَ إذَا تَعَذَّرَ التَّفَاوُتُ في ذَوَاتِ الْعُلُومِ فَلِمَ لَا أُضِيفَ التَّفَاوُتُ إلَى طُرُقِهَا فَمِنْهَا الْبَدِيهِيُّ وَمِنْهَا النَّظَرِيُّ قُلْنَا إذَا حُقِّقَتْ الْحَقَائِقُ فَكُلُّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ يَتَوَقَّفُ على عِلْمٍ بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ

فَإِنْ قُلْت فَنَرَى بَعْضَ الْمَعَارِفِ يَصْعُبُ وَبَعْضُهَا يَسْهُلُ قُلْت ذلك التَّفَاوُتُ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ نَشَأَ عن كَثْرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ لِلْعِلْمِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ مَعْلُومَاتٌ تَرَتَّبَ بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَلِكُلِّ مَعْلُومٍ مُقَدِّمَتَانِ فما جاء التَّفَاوُتُ إلَّا من جِهَةِ كَثْرَةِ الْمُحَصَّلِ من الْمَعَارِفِ وَقِلَّتِهِ لَا من بُعْدِ الطَّرِيقِ وَقُرْبِهَا وَالْمَعْلُومُ وَاحِدٌ مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ الْعِلْمُ إمَّا قَدِيمٌ فَلَا يُوصَفُ بِنَظَرٍ وَلَا ضَرُورَةٍ لِتَعَالِي اللَّهِ عن الضَّرُورَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إلَى النَّظَرِ وهو وَاحِدٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْلُومَاتِ على حَقَائِقِهَا تَعَلُّقًا سَابِقًا له حُكْمُ الْإِحَاطَةِ بِمَعْلُومَاتِهِ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا إذْ ليس يَتَوَقَّفُ على ارْتِسَامِ صُوَرِهَا وَلَا يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِهَا وَلَا يُوصَفُ بِالْكَسْبِ وَلَا بِالضَّرُورَةِ بَلْ عِلْمٌ حُضُورِيٌّ وَوَاجِبِيٌّ ذَاتِيٌّ قال صَاحِبُ التَّلْوِيحَاتِ كُنْت مُتَفَكِّرًا في الْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَكَيْفَ صُورَةُ تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ فَأَخَذَتْنِي سِنَةٌ من نَوْمٍ فَخَطَرَ لي شَيْخٌ له أُبَّهَةٌ جَمِيلَةٌ فَعَرَضْت عليه ما أنا فيه مُفَكِّرًا فقال لي أَتَعْقِلُ ذَاتَك فَقُلْت له نعم فقال تَعَقُّلُك بِاكْتِسَابِ صُورَةٍ خَارِجَةٍ عن ذَاتِك فَقُلْت له لَا فقال هذا حَلُّ ما أنت فيه مُفَكِّرٌ ثُمَّ قال لي هذا التَّعَقُّلُ الْوَاجِبِيُّ الْحُضُورِيُّ الذَّاتِيُّ ثُمَّ تَرَكَنِي وَانْصَرَفَ فَيَا لَهْفَ نَفْسِي على تِلْكَ السِّنَةِ الْعِلْمُ الْحَادِثُ وَإِمَّا حَادِثٌ وَيَنْقَسِمُ إلَى ضَرُورِيٍّ وَإِلَى نَظَرِيٍّ لِأَنَّهُ إنْ كَفَى مُجَرَّدُ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ في الْجَزْمِ بِهِ فَضَرُورِيٌّ وَإِلَّا فَنَظَرِيٌّ وَلَا خِلَافَ كما قَالَهُ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ في انْقِسَامِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِمَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في التَّصَوُّرِ فَقِيلَ ليس منه كَسْبِيٌّ بَلْ جَمِيعُ التَّصَوُّرَاتِ لَا تُكْتَسَبُ بِالنَّظَرِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ في الْمُحَصَّلِ فقال إنَّ التَّصَوُّرَاتِ كُلَّهَا بَدِيهِيَّةٌ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ يَنْقَسِمُ إلَى الْكَسْبِيِّ وَالْبَدِيهِيِّ قِيلَ وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ بُطْلَانُهُ لِأَنَّهُ يَكَادُ يَكُونُ من قِسْمَيْ الضَّرُورِيِّ لِأَنَّهَا لو كانت بَدِيهِيَّةً لَمَا وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا طَالِبَةً لِتَصَوُّرِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ وَلَمَا طَلَبَتْ أَيْضًا حُدُوثَ الْعَالَمِ أو إمْكَانَهُ وَلَمَا اخْتَلَفَتْ الْعُقَلَاءُ في ذلك وهو بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ لَا جَرَمَ في

غَيْرِ هذا الْكِتَابِ وَافَقَ الْجُمْهُورَ فَالتَّصَوُّرُ الْبَدِيهِيُّ كَمَعْرِفَةِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالنَّظَرِيُّ كَمَعْرِفَةِ الْمَلَكِ وَالرُّوحِ وَالتَّصْدِيقُ الْبَدِيهِيُّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَالنَّظَرِيُّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ قِيلَ الضَّرُورِيُّ هو الذي لَا يَرِدُ عليه شَكٌّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الذي لَا يَقَعُ عن نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَقْلِيِّ منه أَمَّا الْحِسِّيُّ فَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا فَإِنْ كان الْحِسِّيُّ سَمْعًا فَهُوَ الْمُتَوَاتِرَاتُ وَإِلَّا فَالتَّجْرِيبَاتُ وَالْحَدْسِيَّاتُ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ قد يَحْصُلُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّجْرِبَةُ مَرَّاتٍ وَصَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَعْضِ كُتُبِهِ وابن الْقُشَيْرِيّ إلَى أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ جَلِيَّةٌ وَأَنَّ النَّظَرَ هو التَّرَدُّدُ في انحاء الضَّرُورِيَّاتِ غير أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ لَمَّا انْقَسَمَتْ إلَى مَهْجُومٍ عليه في الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَإِلَى ما يَحْتَاجُ فيه إلَى فِكْرٍ سَمَّى أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ ضَرُورِيًّا وَالْآخَرَ نَظَرِيًّا قال ابن الْقُشَيْرِيّ ثُمَّ الضَّرُورِيُّ يَقَعُ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقًا ابْتِدَاءً من غَيْرِ نَظَرٍ مُتَقَدِّمٍ عليه وَأَمَّا النَّظَرِيُّ فَعِنْدَ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ مَقْدُورٌ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أنها مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَتَعَلَّقُ بها اكْتِسَابٌ قال وَهَذَا الذي كنا سَمِعْنَاهُ قَدِيمًا من مَذْهَبِ الْكَرَّامِيَّةِ لِأَنَّ من تَمَّمَ نَظَرَهُ حَصَلَ له الْعِلْمُ شَاءَ أو أبي فَلَوْ كان الْعِلْمُ مُكْتَسَبًا له لَتَوَقَّفَ على اخْتِيَارِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في كِتَابِهِ الْجَامِعِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْعُلُومَ الْحَادِثَةَ بِأَسْرِهَا ضَرُورِيَّةٌ وَإِنَّمَا الْمَقْدُورُ طَلَبُهَا بِالنَّظَرِ الْمُفْضِي إلَيْهَا فإذا تَمَّ النَّظَرُ وَانْدَفَعَ عن مَرَاسِمِهِ أَضْدَادُ الْعِلْمِ بِالْمَنْظُورِ فيه حَصَلَ الْعِلْمُ لَا مَحَالَةَ من غَيْرِ إيثَارٍ وَدَرْكُ اقْتِدَارِهِ وهو بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعُلُومَ التي تَعْقُبُ النَّظَرَ تَقَعُ وُقُوعَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وما عَدَاهَا من الْأَفْعَالِ الْمَقْدُورَةِ فَقَدْ ظَنَّ أَمْرًا بَعِيدًا ثُمَّ إنَّ الْأُسْتَاذَ انْفَرَدَ بِقَوْلٍ لم يُتَابَعْ عليه فقال يَجُوزُ فَرْضُ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ على رَأْيِ الْجُمْهُورِ من غَيْرِ تَقَدُّمِ نَظَرٍ عليه فَيَكُونُ الْعِلْمُ في حَقِّ من اقْتَدَرَ عليه ولم يَنْظُرْ كَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْوَاقِعَةِ على مُوجِبِ إيثَارِ الْمُتَّصِفِ بها وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ

وَتَحَصَّلَ لنا مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ تَصَوُّرُهَا وَتَصْدِيقُهَا وَلَيْسَ هذا قَوْلًا بِإِنْكَارِ النَّظَرِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ إذَا تَمَّ وَقَعَ الْعِلْمُ عَقِبَهُ ضَرُورَةً لَا مَقْدُورًا الثَّانِي كُلُّهَا كَسْبِيَّةٌ الثَّالِثُ وهو الصَّحِيحُ بَعْضُهَا ضَرُورِيٌّ وَبَعْضُهَا كَسْبِيٌّ الرَّابِعُ الْمُتَعَلِّقُ بِذَاتِ اللَّهِ وَبِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ ضَرُورِيٌّ وَغَيْرُهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَسْبِيًّا وَيَرِدُ عليه أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ مُثَابٌ عليها وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَفِعْلِهِ الْخَامِسُ التَّصَوُّرَاتُ ضَرُورِيَّةٌ وَالتَّصْدِيقَاتُ مُنْقَسِمَةٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ في الْمُحَصَّلِ وَيَرِدُ عليه ما أُورِدَ على الذي قَبْلَهُ وَلَعَلَّهُ يقول إنَّ الْمَعْرِفَةَ ضَرُورِيَّةٌ وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَاتَّفَقَتْ الْأَشَاعِرَةُ على أَنَّ ما كان نَظَرِيًّا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ ضَرُورِيًّا لِأَنَّهُ ليس فيه إلَّا خَلْقُ الْمَقْدُورِ بِدُونِ الْقُدْرَةِ وَلَا امْتِنَاعَ منه لِأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ عِنْدَنَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ من طَرِيقِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا طَرِيقُ الْوُجُودِ فَقَدْ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا الْيَوْمَ على أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ في الدُّنْيَا مُكْتَسَبَةٌ لَا تَقَعُ إلَّا عن نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَإِنَّمَا تَقَعُ في الْآخِرَةِ ضَرُورِيَّةً وَاخْتَلَفُوا هل يَقَعُ مَقْدُورًا مُكْتَسَبًا من غَيْرِ نَظَرٍ فَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الضَّرُورِيُّ نَظَرِيًّا فيه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْجَوَازُ وَالْمَنْعُ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ ما كان من الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ لَا يَتِمُّ الْعَقْلُ إلَّا بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ نَظَرِيًّا وما ليس كَذَلِكَ يَجُوزُ وَطُرُقُ الْعِلْمِ على الْمَشْهُورِ مُنْحَصِرَةٌ في ثَلَاثَةٍ عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَحِسٍّ وَعَنَوْا بِالْحِسِّ عُلُومَ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْعَادَاتِ وَاضْطَرَبُوا في عُلُومِ الْإِلْهَامِ وَالتَّوَسُّمِ والمحادثه قال الْغَزَالِيُّ لَعَلَّهُمْ عَنَوْا بِالْإِلْهَامِ أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ يَنْحَصِرُ في الْحِسِّ وَالِاسْتِدْلَالِ قال وَالسَّمْعُ دَاخِلٌ في جُمْلَةِ عُلُومِ الْحِسِّ لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ مَحْسُوسٌ ثُمَّ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ صَوَابِهِ وَخَطَئِهِ تُدْرَكُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَنُقِلَ عن بَعْضِ الْأَوَائِلِ حَصْرُهَا في الْحِسِّ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وهو غَلَطٌ في النَّقْلِ عَنْهُمْ بَلْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْمَعْلُومَ ما يَتَشَكَّلُ في الْحَوَاسِّ وما لَا يَتَشَكَّلُ وَيُفْضِي إلَيْهِ نَظَرُ الْعَقْلِ فَهُوَ مَعْقُولٌ فَاصْطَلَحُوا على

الْفَرْقِ بين الْمَعْلُومِ وَالْمَعْقُولِ فَتَوَهَّمَ من سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ لَا مَعْلُومَ إلَّا الْمَحْسُوسُ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ إلَّا بِالْحِسِّ وَتُوُهِّمَ من قَوْلِهِمْ إنَّ النَّظَرِيَّاتِ مَعْقُولَاتٌ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ إلَّا بِالنَّظَرِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ في إدْرَاكِ الْحَوَاسِّ هل هو من قَبِيلِ الْعُلُومِ وَآخِرُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ ليس منها وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَأَطْلَقُوا الْخِلَافَ وَلَا شَكَّ أَنَّ هُنَاكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أَحَدُهَا إدْرَاكُ الْحِسِّ الْمَحْسُوسِ وَالثَّانِي الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسِ وَالثَّالِثُ الْعِلْمُ بِعُلُومٍ أُخْرَى تَنْشَأُ عن الْمَحْسُوسِ وَالرَّابِعُ لَا إشْكَالَ في أَنَّهُ عِلْمٌ وهو مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ قَطْعًا وَهَلْ الثَّانِي يُخَالِفُ الْأَوَّلَ أو هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ هذا مَحَلُّ الْخِلَافِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في هذا الْخِلَافِ فقال أبو الْقَاسِمُ الْإِسْكَافُ إنَّهُ لَفْظِيٌّ وَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ على أَنَّ الْمُدْرَكَ وَالْمَعْلُومَ وَاحِدٌ وَالْإِدْرَاكُ وَالْعِلْمُ بِالْمُدْرَكِ مُخْتَلِفَانِ وقال تِلْمِيذُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ مَعْنَوِيٌّ على الْقَوْلِ بِالْأَحْوَالِ كما أَنَّ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ وَالْحَادِثَ يَجْمَعُهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مع الْقَطْعِ بِاخْتِلَافِهِمَا وَحَكَى الْقَرَافِيُّ قَوْلَيْنِ في أَنَّ الْإِدْرَاكَ لِلْحَوَاسِّ أو لِلنَّفْسِ بِوَاسِطَةِ الْحَوَاسِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ الذي قَالَهُ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ وَنَرْتَضِيهِ أَنَّ جُمْلَةَ الطُّرُقِ التي يُدْرَكُ بها الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ وَالِاسْتِدْلَالِيَّة تَنْحَصِرُ في أَدِلَّةٍ خَمْسَةٍ الْعُقُولِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ قال وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَطْلُبُهُ الْمُنَجِّمُونَ من مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ بِذَهَابِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَجْمِ كَذَا الرُّؤْيَا وَأَمَّا الرُّؤْيَا فَقَدْ جاء في الحديث إنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ جُزْءٌ من سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا من النُّبُوَّةِ وَهَذِهِ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ كُلُّهَا طُرُقُ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ فإن لهم طُرُقًا في الْعُلُومِ لَا نَصِلُ إلَى شَيْءٍ منها إلَّا بِالْخَبَرِ قال وهو مِثْلُ ما يَعْرِفُونَ من كَلَامِ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ وَالْوَحْيِ وَغَيْرِ ذلك وَالرُّؤْيَا من تِلْكَ الْجُمْلَةِ قال وقد اجْتَهَدْت في تَحْصِيلِ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ ما هِيَ فَبَلَغْت منها إلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وقد ذَكَرْتهَا في كِتَابِ الْوَصْفِ وَالصِّفَةِ وأنا في طَلَبِ الْبَاقِي

قال وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالرُّؤْيَا شَيْءٌ حتى لو رَأَى وَاحِدٌ في مَنَامِهِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَهُ بِحُكْمٍ من الْأَحْكَامِ لم يَلْزَمْهُ ذلك انْتَهَى قُلْت وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ في ذلك وَجْهًا وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَنَامِ إلَّا في حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ أو بِتَقْرِيرِهِمْ وَعَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ إنْ كان أَمَرَهُ بِأَمْرٍ ثَبَتَ عنه في الْيَقِظَةِ خِلَافُهُ كَالْأَمْرِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أو مَنْدُوبٍ لم يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ لم يَثْبُتْ عنه في الْيَقِظَةِ خِلَافُهُ اُسْتُحِبَّ الْعَمَلُ بِهِ قُلْت وَمِنْ ثَمَّ لم يَجِبْ الْحَدُّ على من قَذَفَ امْرَأَةً بِأَنَّهَا وُطِئَتْ في النَّوْمِ وَلَا عليه إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى في النَّوْمِ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ أَنَّ رَجُلًا قال لِرَجُلٍ إنَّهُ وَطِئَ أُمَّهُ في النَّوْمِ فَحَمَلَهُ إلَى عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فقال أَقِمْهُ في الشَّمْسِ وَاضْرِبْ ظِلَّهُ قال الشَّافِعِيُّ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ

فصل
في مراتب العلوم
قال أَئِمَّتُنَا مَرَاتِبُ الْعُلُومِ عَشَرَةٌ الْأُولَى عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَلِذَاتِهِ الثَّانِيَةُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَانْحَطَّتْ هذه عن الْأُولَى لِلْحَاجَةِ فيها إلَى الْفِكْرِ في ذَوَاتِ الْمُتَضَادَّاتِ وَتَضَادِّهَا الثَّالِثَةُ الْعِلْمُ بِالْمُحَسَّاتِ وَانْحَطَّتْ عن الثَّانِيَةِ لِتَطَرُّقِ الْآفَاتِ إلَى الْحَوَاسِّ الرَّابِعَةُ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ وَانْحَطَّتْ عَمَّا قَبْلَهَا لِإِمْكَانِ التَّوَاطُؤِ على الْمُخْبِرِينَ وَأَيْضًا لَا بُدَّ من فِكْرٍ وَلِهَذَا قال الْكَعْبِيُّ إنَّ الْعِلْمَ عَقِبَهُ نَظَرِيٌّ الْخَامِسَةُ الْعِلْمُ بِالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَانْحَطَّتْ لِمَا فيها من الْمُعَانَاةِ وَالْمَقَاسَاتِ وَتَوَقُّعِ الْغَلَطَاتِ السَّادِسَةُ الْعِلْمُ الْمُسْتَنِدُ إلَى قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ كَخَجَلِ الْخَجِلِ وَكَوَجَلِ الْوَجِلِ وَغَضَبِ الْغَضْبَانِ وَانْحَطَّتْ لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ في مَحَالِّ الْأَحْوَالِ

السَّابِعَةُ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَانْحَطَّتْ لِأَنَّ النَّظَرِيَّ مُنْحَطٌّ عن الضَّرُورِيِّ الثَّامِنَةُ الْعِلْمُ بِجَوَازِ النُّبُوَّاتِ وَجَوَازِ وُرُودِ الشَّرَائِعِ التَّاسِعَةُ الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزَاتِ إذَا وَقَعَتْ الْعَاشِرَةُ الْعِلْمُ بِوُقُوعِ السَّمْعِيَّاتِ وَمُسْتَنَدُهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ يَنْضَبِطُ بِالضَّابِطِ سَبَبُهُ الذِّهْنُ قَبْلَهُ وَالْعِلْمُ الْعَادِيُّ يُخَلِّي الْعَكْسَ لَا يَنْضَبِطُ سَبَبُهُ حتى يَحْصُلَ هو فإذا حَصَلَ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَهُ قد كَمُلَ وَلَوْ رُوجِعْنَا في أَوَّلِ زَمَنِ كَمَالِهِ لم يَكُنْ لنا شُعُورٌ بِهِ حَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرَاتِ فإن السَّامِعَ لَا يَزَالُ يَتَرَقَّى في الظُّنُونِ تَرَقِّيًا خَفِيًّا حتى يَنْتَهِيَ إلَى عَدَدٍ حَصَلَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ قِيلَ له أَيُّ عَدَدٍ حَصَلَ لَك عِنْدَهُ الْعِلْمُ لم يَفْطِنْ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ الْعَادِيَّةُ بِجُمْلَتِهَا وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ من الْعُلُومِ ما يَقُومُ بِالنَّفْسِ وَلَا تَشْعُرُ النَّفْسُ بِهِ أَوَّلَ قِيَامِهِ وهو من الْعَجَبِ الثَّانِي أَنَّ هذه الْعُلُومَ تَتَفَاوَتُ كما بَيَّنَّا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ وَالْحِسِّيَّاتِ رَاجِحَةٌ على النَّظَرِيَّاتِ وَأَمَّا أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ تَتَرَجَّحُ على الْحِسِّيَّاتِ أو الْعَكْسُ فَمَحَلُّ نَظَرٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَرَجَّحَ بَعْضُ الْبَدِيهِيَّاتِ على بَعْضٍ وَكَذَا الضَّرُورِيَّاتُ وَالنَّظَرِيَّاتُ فإن كُلَّ ما كان مُقَدِّمَاتُهُ أَجْلَى وَأَقَلَّ كان رَاجِحًا على ما ليس كَذَلِكَ وَلِهَذَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ تَفْرِقَةً بين عِلْمِهِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ الْكُلَّ أَعْظَمُ من الْجُزْءِ وَبَيْنَ عِلْمِهِ بِثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَالْخَلَاءِ وَغَيْرِهِمَا من الْمَسَائِلِ النَّظَرِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ مع أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقِينِيًّا على اعْتِقَادِهِ لَا يُقَالُ إنَّهُ وَإِنْ اعْتَقَدَ ذلك في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ ليس كَذَلِكَ في نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّا نَقُولُ يَلْزَمُ مِثْلُهُ في كل نَظَرِيٍّ فلم يَحْصُلْ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ منها الثَّالِثُ قال الْإِمَامُ في بَابِ الْأَخْبَارِ من الْبُرْهَانِ الْعُلُومُ الْحَاصِلَةُ عن حُكْمِ الْعَادَاتِ مَبْنِيَّةٌ على قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَلَا تَنْضَبِطُ انْضِبَاطَ الْمَحْدُودَاتِ وَهَذَا كَالْعِلْمِ بِخَجَلِ الْخَجِلِ وَوَجِلِ الْوَجِلِ وَغَضَبِ الْغَضْبَانِ فإذا وُجِدَتْ هذه الْقَرَائِنُ تَرَتَّبَ عليها عُلُومٌ بَدِيهِيَّةٌ لَا يَأْبَاهَا إلَّا جَاحِدٌ وَلَوْ رَامَ وَاجِدُهَا ضَبْطَهَا لم يَقْدِرْ وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه من شَاهَدَ رَضِيعًا قد الْتَقَمَ ثَدْيَ امْرَأَةٍ

ورآى منه آثَارَ الِامْتِصَاصِ وَحَرَكَةَ الْغَلْصَمَةِ لم يَسْتَرِبْ في وُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ وَحَلَّ له أَنْ يَشْهَدَ شَهَادَةً تَامَّةً بِالرَّضَاعِ وَلَوْ أَنَّهُ لم يَشْهَدْ بِالرَّضَاعِ وَلَكِنْ شَهِدَ بِالْقَرَائِنِ الْحَامِلَةِ له على الشَّهَادَةِ لم يَثْبُتْ الرَّضَاعُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ما يَسْمَعُهُ الْقَاضِي وَصْفًا لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْعِيَانِ وَاَلَّذِي يُفْضِي بِالْعَايِنِ إلَى دَرْكِ الْيَقِينِ يَدِقُّ مُدْرَكُهُ عن عِبَارَةِ الْوَصَّافِينَ وَلَوْ قِيلَ لِأَذْكَى خَلْقِ اللَّهِ قَرِيحَةً وَأَحَدِّهِمْ ذِهْنًا افْصِلْ بين حُمْرَةِ وَجْنَةِ الْغَضْبَانِ وَبَيْنَ حُمْرَةِ الْمَوْعُوكِ لم تُسَاعِدْهُ عِبَارَةٌ فإن الْقَرَائِنَ لَا يَبْلُغُهَا غَايَاتُ الْعِبَارَاتِ وَمِنْ ثَمَّ لم يَتَوَقَّفْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ على عَدَدٍ مَحْصُورٍ وَلَكِنْ إذَا ثَبَتَ قَرَائِنُ الصِّدْقِ ثَبَتَ الْعِلْمُ بِهِ مَسْأَلَةٌ الِاخْتِلَافُ في الْمُحِسَّاتِ اخْتَلَفُوا في الْمُحِسَّاتِ فَقِيلَ كُلُّهَا في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَقِيلَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مُقَدَّمَانِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من قَدَّمَ الْبَصَرَ على السَّمْعِ لِتَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَمِنْهُمْ من سَوَّى بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ من قَدَّمَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَشِعَّةِ الْمُتَعَرِّضَةِ لِلتَّعْرِيجَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَلِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَخْتَصُّ دَرْكُهُ بِجِهَةٍ بِخِلَافِ الْبَصَرِ وَاخْتَارَ ابن قُتَيْبَةَ هذا وقال قَدَّمَ اللَّهُ السَّمْعَ على الْبَصَرِ فقال ^ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ يونس 42 ثُمَّ قال ^ وَمِنْهُمْ من يَنْظُرُ إلَيْك ^ يونس 43 وقال إنَّ اللَّهَ لم يَبْعَثْ أَصَمَّ وَمِنْ الْأَنْبِيَاءِ عُمْيَانًا وقال أَئِمَّتُنَا وَهَذَا فُضُولٌ منه وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فَقَدَّمَ أبو الْحَسَنِ ما يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ على ما يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَقَدَّمَ الْقَلَانِسِيُّ ما يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ على ما يُعْلَمُ بِالْمُحِسَّاتِ لِأَنَّ تَعَرُّضَ الْحَوَاسِّ لِلْآفَاتِ أَكْثَرُ من تَعَرُّضِ الْعَقْلِ لها قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَكُلُّ هذا تَكْثِيرُ الْجَوْزِ بِالْعَفِنِ وقد أخترنا أَنَّ الْعُلُومَ ضَرُورِيَّةٌ لَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ نعم قد يَطُولُ الطَّرِيقُ وَيَقْصُرُ فَيَتَرَتَّبُ الْأَمْرُ لِذَلِكَ وَأَمَّا الْعُلُومُ في أَنْفُسِهَا فَلَا تَرَتُّبَ فيها

مسألة
تعليق العلم بأكثر من معلوم واحد
مَنَعَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِأَكْثَرَ من مَعْلُومٍ وَاحِدٍ لَكِنْ قَيَّدَهُ بِمَا لَا يَتَلَازَمُ

وَأَجَازَ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ الْحَادِثِ بِمَعْلُومَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُعْلَمَ أَحَدُهُمَا وَيُجْهَلَ الْآخَرُ وَهِيَ مَعْلُومَاتُ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ كَالْعِلْمِ بِفَوْقٍ فإنه يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْلَمَ فَوْقَ من يَجْهَلُ تَحْتَ بِخِلَافِ ما لَا يَتَلَازَمُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلِأَنَّهُ من اتِّحَادِ الْعُلُومِ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ أَنْ يُعْلَمَ ضِدَّانِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى جَمْعِ النَّقِيضَيْنِ وَأَمَّا أبو الْحَسَنِ الْبَاهِلِيُّ أُسْتَاذُ الْقَاضِي فإنه اخْتَارَ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِمَعْلُومَاتٍ وَمَنَعَهُ في النَّظَرِيَّاتِ

مسألة
هل يقارن العلم بالجملة الجهل بالتفصيل
يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ في الْجُمْلَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل يُقَارِنُ الْعِلْمُ بِالْجُمْلَةِ الْجَهْلَ بِالتَّفْصِيلِ فَرَآهُ الْقَاضِي مُقَارِنًا له ولم يَرَهُ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وهو الْأَصَحُّ لِأَنَّا نَعْلَمُ كَوْنَ هذا الْعَرْضِ عَرْضًا وَنَجْهَلُ كَوْنَهُ سَوَادًا وَتَارَةً يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَرَضًا وَنَعْلَمُ كَوْنَهُ سَوَادًا فَلَيْسَ من ضَرُورَةِ الْعِلْمِ بِالْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ الْجَهْلُ بِالْوَصْفِ الْحَاضِرِ قال الْمَازِرِيُّ وَمِنْ هذا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ ما أَطْلَقَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْتَرْسِلُ عِلْمُهُ على ما لَا يَتَنَاهَى من غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِتَفَاصِيلِ آحَادِهِ قال وَدِدْت لو مَحَوْته بِدَمِي وفي نُسْخَةٍ بِمَاءِ عَيْنِي وَكَذَا قال غَيْرُهُ وَظَنُّوا أَنَّ الْإِمَامَ يُوَافِقُ الْفَلَاسِفَةَ في نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَهَذَا سُوءُ فَهْمٍ عن الرَّجُلِ وَلَيْسَ ذلك مُرَادَهُ وَيَتَحَاشَى عنه بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْعِلْمَ هل يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَتَنَاهَى تَعَلُّقًا إجْمَالِيًّا أو تَفْصِيلِيًّا فَهُوَ يقول كما أَنَّ ما لَا يَتَنَاهَى لَا يَدْخُلُ في الْوُجُودِ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ وَهُمَا سَوَاءٌ في الِاسْتِحَالَةِ لِأَنَّهُ لو دخل في الْعِلْمِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَبْقَى من الْمَعْلُومَاتِ شَيْءٌ أَمْ لَا فَإِنْ لم يَبْقَ شَيْءٌ فَقَدْ تَنَاهَى وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فما حَصَلَتْ الْإِحَاطَةُ وَهَذَا الذي أَرَادَهُ رضي اللَّهُ عنه وهو شَنَّعَ عليه فيه أَيْضًا لَكِنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ فإن مُنْكِرَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ يقول لَا يَعْلَمُ شيئا منها أَصْلًا لَا ما دخل في الْوُجُودِ وَلَا ما لم يَدْخُلْ وَأَمَّا هذا الذي أَرَادَهُ الْإِمَامُ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لم يَدْخُلْ في الْوُجُودِ لِعَدَمِ تَنَاهِيهِ أَمَّا ما دخل الْوُجُودَ فإنه يُعْلَمُ وهو قَرِيبٌ من مَذْهَبِ جَهْمٍ وَهِشَامٍ غير أَنَّهُمَا يَقُولَانِ بِعُلُومٍ حَادِثَةٍ وَالْإِمَامُ يقول بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَدِيمٍ وقد صَرَّحَ في الْبُرْهَانِ أَيْضًا بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَقِّ فقال في النَّسْخِ في الْكَلَامِ مع

الْيَهُودِ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ النَّسْخَ يَمْتَنِعُ من جِهَةِ إفْضَائِهِ إلَى الْبَدَاءِ وَالْقَدِيمُ مُتَعَالٍ عنه فَلَا حَقِيقَةَ لِهَذَا فإن الْبَدَاءَ إذَا أُرِيدَ بِهِ تَبْيِينُ ما لم يَكُنْ مُبَيَّنًا في عِلْمِهِ فَلَيْسَ هذا من شَرْطِ النَّسْخِ فإن الرَّبَّ تَعَالَى كان عَالِمًا في أَزَلِهِ بِتَفَاصِيلِ ما لم يَقَعْ فِيمَا لَا يَزَالُ انْتَهَى وفي هذا الْكَلَامِ أَخْذٌ بيده وهو مُتَأَخِّرٌ عن الذي قَالَهُ في صَدْرِ الْكِتَابِ وَحَكَى الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عن وَالِدِهِ الْإِمَامِ ضِيَاءِ الدِّينِ عن أبي الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ كان يقول لِلَّهِ تَعَالَى مَعْلُومَاتٌ لَا نِهَايَةَ لها وَلَهُ في كل وَاحِدٍ من تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ مَعْلُومَاتٌ أُخْرَى لَا نِهَايَةَ لها على الْبَدَلِ وهو تَعَالَى عَالِمٌ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ على التَّفْصِيلِ وَإِنَّمَا أَوْضَحْت ذلك لِبَيَانِ أَنَّ الْإِمَامَ لم يَخْرُجْ عن عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ على ظَاهِرِهَا وَلَا مُتَعَلَّقَ فيها عليه وهو من جَلِيلِ ما يُسْتَفَادُ مَسْأَلَةٌ هل يُوجَدُ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ له لم يَقُلْ ذلك إلَّا أبو هَاشِمٍ فإنه قال الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ عِلْمٌ بِلَا مَعْلُومٍ وهو ظَاهِرُ الْفَسَادِ مَسْأَلَةٌ طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ قال الْمُتَكَلِّمُونَ يُعْرَفُ الشَّيْءُ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا بآثارة كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصْنُوعِ على الصَّانِعِ وَبِالْمَبْنِيِّ على الْبَانِي الثَّانِي بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ الثَّالِثُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَيُعْرَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِآثَارِهِ بِلَا خِلَافٍ قال اللَّهُ تَعَالَى ! ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الْآفَاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ ) ! فصلت 53 وَاخْتَلَفُوا هل يُعْرَفُ بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ فَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ في أَكْثَرِ كُتُبِهِ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ يُعْرَفُ وَنُسِبَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِهِ وَيُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ من الْأَصْحَابِ وَالثَّالِثُ أَقْوَى من الثَّانِي وَالثَّانِي من الْأَوَّلِ وقال بَعْضُهُمْ لَا

نُسَلِّمُ قُوَّةَ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدَةِ على مَعْرِفَةِ الذَّاتِ مُطْلَقًا بَلْ فيه تَفْصِيلٌ وهو أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ في حَقِّ عَارِفٍ لِلذَّاتِ أَقْوَى منها في مَعْرِفَتِهَا بِخِلَافِ من لم يَعْرِفْ الذَّاتَ قِيلَ وَهَذَا لَا مَحِيصَ عنه فإن من وُضِعَ بين يَدَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ من بلخش وَبِنَفْشِ وَزُجَاجٍ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهَا لَا تُفِيدُهُ الْمُشَاهَدَةُ في مَعْرِفَةِ الذَّاتِ شيئا وَأَبْلَغُ من ذلك أَنَّا نُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عن غَيْرِهِ من الْحَيَوَانَاتِ بِالْمُشَاهَدَةِ وقد حَارَتْ الْأَلْبَابُ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَيَتَرَتَّبُ على هذا أَنَّ اكْتِفَاءَ الْأَصْحَابِ بِالرُّؤْيَةِ كَالصِّفَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا في حَقِّ الْعَالِمِ بِالْمَوْصُوفِ لِتُزِيلَ الرُّؤْيَةُ الضَّرَرَ عنه أَمَّا في حَقِّ من لَا تُفِيدُهُ الرُّؤْيَةُ فَلَا يُتَّجَهُ الِاكْتِفَاءُ بها وَيُؤَيِّدُهُ ما نُشَاهِدُهُ في الْعُقَلَاءِ من مُعَانَدَتِهِمْ على ما لَا يَعْرِفُونَ لَا يَكْتَفُونَ بِرُؤْيَتِهِمْ بَلْ يَسْتَصْحِبُونَ الْخَبِيرِينَ بِذَلِكَ وقد حَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ التَّصْرِيَةِ وَجْهًا أَنَّ الْعِيَانَ لَا يَكْفِي في حَقِّ من لَا يُفِيدُهُ الْعِيَانُ مَعْرِفَةً وَأَنَّهُ يُخَرَّجُ على الْخِلَافِ في بَيْعِ الْغَائِبِ وَلَا أَثَرَ لِعِيَانِهِ قال وَهَذَا الْوَجْهُ فِيمَا لو اشْتَرَى زُجَاجَةً ظَنَّهَا جَوْهَرَةً وَاسْتَشْهَدَ بِمَسْأَلَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ في فَتَاوِيهِ إحْدَاهُمَا لو رَأَى الْعَيْبَ ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ عَيْبُ فإنه يَثْبُتُ له الْخِيَارُ إذَا كان يَخْفَى على مِثْلِهِ الثَّانِيَةُ لو رَأَى الْعَيْبَ وَعَلِمَ أَنَّهُ عَيْبٌ وَلَكِنَّهُ ظَنَّ غير الْعَيْبِ الذي في نَفْسِ الْأَمْرِ وَرَضِيَ بِمَا ظَنَّهُ لَا بِمَا هو عَيْبٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ ثَبَتَ له الْخِيَارُ إذَا كان الذي في نَفْسِ الْأَمْرِ أَشَدَّ ضَرَرًا وَفِيمَا قَالَهُ هذا الْفَاضِلُ نَظَرٌ فَقَدْ أَطْبَقَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ على أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ بِالْمُشَاهَدَةِ هو أَتَمُّ النَّظَرِ في حَقِّ كل أَحَدٍ يُنْعِمُ اللَّهُ عليه سُبْحَانَهُ بِرُؤْيَتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ قبل ذلك لِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فيه عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ هذا الْمَرْئِيَّ هو الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَلَا بُدَّ من ذلك لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّكْيِيفِ مُسْتَحِيلَةٌ في حَقِّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا بُدَّ من هذا الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لِتَصِحَّ الرُّؤْيَةُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وتمثيلة بِالْجَوَاهِرِ الثَّلَاثَةِ ضَعِيفٌ إذْ مع الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَا يَبْقَى مِثَالٌ بَلْ قد قال الْأَئِمَّةُ مَعَارِفُ الْآخِرَةِ كُلُّهَا ضَرُورِيَّةٌ في حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ اللَّهُمَّ إلَّا ان نَقُولَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الذي يَخْلُقُهُ اللَّهُ لهم كَافٍ في مَعْرِفَةِ الذَّاتِ ثُمَّ تَنْضَمُّ إلَيْهِ الْمُشَاهَدَةُ فَيَكُونُ أَتَمَّ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ ثُمَّ ما رَأَيْته من أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الرُّؤْيَةُ لَا يُتَّجَهُ الِاكْتِفَاءُ بها في حَقِّهِ وَأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَزُولُ عنه بِذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ في أَنَّ الْغَبْنَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ إذَا كان بِمِقْدَارِ

الثُّلُثِ فَصَاعِدًا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ وَعَنْ أَحْمَدَ كَمَالِكٍ وَعَنْهُ يُثْبِتُ إذَا كان بِمِقْدَارِ السُّدُسِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ قَضِيَّةُ حِبَّانَ بن مُنْقِذٍ وَأَنَّهُ كان يُخْدَعُ في الْبَيْعِ فقال له صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَشَرَعَ له اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَوْ كانت الْخَدِيعَةُ تُثْبِتُ الْخِيَارَ لَمَا احْتَاجَ إلَى قَوْلِهِ لَا خِلَابَةَ وَلَا إلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ بَلْ كان خِيَارُ الْغَبْنِ كَافِيًا فَدَلَّ على أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ على ان الرُّؤْيَةَ بِالصِّفَةِ لَا تُفِيدُ إلَّا في حَقِّ الْعَالِمِ بِالْمَوْصُوفِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ السَّلَامَةُ عن الْعُيُوبِ فَلَا يُغْتَفَرُ فيها ما يُغْتَفَرُ في غَيْرِهَا مَسْأَلَةٌ الْجَهْلُ الْجَهْلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا من شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ وَيُسَمَّى بَسِيطًا وَقِيلَ لَا يُطْلَقُ عليه جَهْلٌ وَاخْتَارَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ على ما سَيَأْتِي وَقِيلَ إنَّ هذا التَّعْرِيفَ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ الظَّنِّ عِنْدَ من لَا يَرَاهُ عِلْمًا وَالشَّكُّ وَالْغَفْلَةُ وَإِصْلَاحُهُ عَدَمُ كل عِلْمٍ أو ظَنٍّ أو شَكٍّ أو وَقْفٍ عَمَّا من شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أو مَظْنُونًا أو مَشْكُوكًا او مَوْقُوفًا فيه مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ وَيُسَمَّى مُرَكَّبًا وقال الْآمِدِيُّ اعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ على خِلَافِ ما هو عليه في نَفْسِ الْأَمْرِ وَنُقِضَ بِالنَّظَرِ الْمُطَابِقِ عَكْسًا فإن النَّاظِرَ ما لم يَكُنْ عَالِمًا أو ظَانًّا فَهُوَ جَاهِلٌ لِكَوْنِهِ ضِدًّا لَهُمَا عِنْدَهُ فَيَكُونُ النَّاظِرُ إذَنْ جَاهِلًا مع أَنَّ اعْتِقَادَهُ مُطَابِقٌ وهو بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ عَدَمِيٌّ يُقَابِلُ الْعِلْمَ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَبِالثَّانِي وُجُودِيٌّ يُقَابِلُ الْعِلْمَ تَقَابُلَ الضِّدَّيْنِ وَالثَّانِي يُقَالُ فيه أَخْطَأَ وَغَلِطَ وَمُخَاطَبَتُهُ مُخَاطَبَةُ عِنَادٍ وَمُخَاطَبَةُ الْأَوَّلِ مُخَاطَبَةُ تَعْلِيمٍ قال الرَّازِيَّ وَاَلَّذِي يُمْكِنُهُ طَلَبُ الْعِلْمِ هو صَاحِبُ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ فإنه لَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ البتة لِأَنَّهُ وَإِنْ كان لَا يَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ

يَعْلَمُ فَصَارَ صَارِفًا له عن طَلَبِهِ وَهَلْ الْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا ذَاتِيَّةٌ أو لِلصَّارِفِ فيه احْتِمَالَانِ وقال السَّمْعَانِيُّ في الْكِفَايَةِ اُخْتُلِفَ في الْجَهْلِ فَقِيلَ هو عَدَمُ الْعِلْمِ وهو بَعِيدٌ وَقِيلَ تَصَوُّرُ الْمَعْلُومِ بِخِلَافِ ما هو بِهِ وَقِيلَ اعْتِقَادُ الْمَعْلُومِ على خِلَافِ ما هو عليه انْتَهَى وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الْجَهْلُ اعْتِقَادُ الْمَعْلُومِ على خِلَافِ ما هو بِهِ وَلَا بَأْسَ بِالِاعْتِقَادِ في حَدِّ الْجَهْلِ 1 هـ وَهَذَا تَعْرِيفٌ لِلْمُرَكَّبِ فَقَطْ إذْ الْبَسِيطُ لَا اعْتِقَادَ فيه أَلْبَتَّةَ فكانه ليس بِجَهْلٍ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ فِعْلُ جَمَاعَةٍ من أَئِمَّتِنَا وَحَكَوْا خِلَافًا عن الْمُعْتَزِلَةِ في أَنَّ الْجَهْلَ هل هو مِثْلُ الْعِلْمِ فَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ على أَنَّهُ مِثْلٌ له وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ من اعْتَقَدَ كَوْنَ زَيْدٍ في الدَّارِ مَثَلًا وَلَيْسَ هو فيها فإن اعْتِقَادَهُ الْأَوَّلَ الذي هو جَهْلٌ من جِنْسِ الثَّانِي الذي عَلِمَهُ وما بِهِ الِافْتِرَاقُ من كَوْنِ زَيْدٍ في الدَّارِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَعَدَمُهُ في الْأُخْرَى أَنَّهُ خَارِجٌ عن مُوجِبِ الِاخْتِلَافِ بين الِاعْتِقَادَيْنِ وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ اعْتِقَادَ الْمُقَلِّدِ لِلشَّيْءِ على وَفْقِ ما هو عليه مِثْلُ الْعِلْمِ وَهَذَا الْكَلَامُ من الْمُعْتَزِلَةِ لَسْنَا نُوَافِقُهُمْ عليه غير أَنَّا نَقُولُ اتَّفَقُوا على أَنَّ هذا مَخْصُوصٌ بِالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ أَمَّا الْبَسِيطُ إنْ قِيلَ إنَّهُ جَهْلٌ فَلَا خِلَافَ في كَوْنِهِ ليس مِثْلًا لِلْعِلْمِ فإن عَدَمَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مِثْلًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ تَنْبِيهٌ من تَصَوَّرَ في الذَّاتِ أَوْصَافًا لم تَكُنْ فَهَلْ هو جَاهِلٌ بِالذَّاتِ من حَيْثُ إنَّهَا ذَاتٌ أو بها من حَيْثُ إنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِخِلَافِ ما اعْتَقَدَ وقد يُقَالُ الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ هل هو جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أو من بَعْضِ الْوُجُوهِ الظَّاهِرُ الثَّانِي وَمِنْ ثَمَّ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ من أَهْلِ الْقِبْلَةِ وقد اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا نَكَحَ امْرَأَتَيْنِ وَشَرَطَ فِيهِمَا الْإِسْلَامَ أو في إحْدَاهُمَا النَّسَبَ أو الْحُرِّيَّةَ فَاخْتُلِفَ هل يَصِحُّ النِّكَاحُ وَالْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ هو الْجَدِيدُ الصَّحِيحُ مَأْخَذُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مُعَيَّنٌ لَا يَتَبَدَّلُ بِالْخَلَفِ في الصِّفَةِ وَالْقَوْلُ بِالْفَسَادِ مَأْخَذُهُ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ وَأَخَذَ ابن الرِّفْعَةِ من هذا الْخِلَافِ تَكْفِيرَ مُنْكِرِي صِفَاتِ اللَّهِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ التَّكْفِيرِ كما أَنَّ الْأَصَحَّ هُنَا صِحَّةُ النِّكَاحِ لَكِنَّ الْمَذْكُورَ في الْبَيْعِ إذَا قال بِعْتُك هذا الْفَرَسَ فَكَانَ بَغْلًا أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ الصِّحَّةِ

مسألة
الظن
الظَّنُّ هو الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ من اعْتِقَادَيْ الطَّرَفَيْنِ وَكَذَا رُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ لَا اعْتِقَادُ الرَّاجِحِ أو الرُّجْحَانِ فَاعْتِقَادُ الرُّجْحَانِ لِمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ إمَّا مُحَقَّقٌ عن بُرْهَانٍ وهو الْعِلْمُ أو لَا وهو التَّقْلِيدُ وَالْجَهْلُ فَهُوَ مُتَعَلَّقُ نَفْسِ الرحجان ( ( ( الرجحان ) ) ) وهو في نَفْسِهِ ثَابِتٌ لَا رحجان ( ( ( رجحان ) ) ) فيه وَأَمَّا رُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ بِأَنْ يَكُونَ في النَّفْسِ احْتِمَالَانِ مُتَعَارِضَانِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرْجَحُ في نَظَرِهِ فَالْأَوَّلُ قد يَكُونُ مَوْجُودًا في الْخَارِجِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا في الذِّهْنِ وَقِيلَ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَقْوَى من الْآخَرِ وَنُقِضَ بِالْجَزْمِ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ وَلَيْسَ بِظَنٍّ وَقِيلَ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْمُجَوَّزَيْنِ وَفِيهِ إجْمَالٌ لِأَنَّ التَّغْلِيبَ إمَّا في نَفْسِ الْمُجَوَّزِ وَإِمَّا في نَفْسِ الْأَمْرِ وقد يَكُونُ جَزْمًا وقد لَا يَكُونُ وَالثَّانِي قَرِيبٌ وقال الْآمِدِيُّ أَخِيرًا إنَّهُ تَرَجُّحُ أَحَدِ مُمْكِنَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ في النَّفْسِ على الأخر من غَيْرِ قَطْعٍ وَتَارَةً إنَّهُ تَرَجُّحُ وُقُوعِ أَحَدِ مُمْكِنَيْنِ على الْآخَرِ من غَيْرِ قَطْعٍ وَقَوْلُهُ من غَيْرِ قَطْعٍ يَعْنِي عِنْدَ ذِكْرِ الِاحْتِمَالِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ من غَيْرِ قَطْعٍ بِالتَّرْجِيحِ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ تَرَدُّدٌ بين إرَادَةِ رُجْحَانِ الِاعْتِقَادِ وهو الْحَقُّ وَبَيْنَ رُجْحَانِ الْمُعْتَقَدِ أو اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ وَلَيْسَ ذلك ظَنًّا مَسْأَلَةٌ الظَّنُّ طَرِيقُ الْحُكْمِ وهو طَرِيقٌ لِلْحُكْمِ إذَا كان عن أَمَارَةٍ وَلِهَذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَخَبَرِ الْمُقَوِّمِينَ وَالْقِيَاسِ وَإِنْ كانت عِلَّةُ الْأَصْلِ مَظْنُونَةً وَشَرَطَ ابن الصَّبَّاغِ في الْعِدَّةِ لِلْعَمَلِ بِالظَّنِّ وُجُودَ أَمَارَةٍ صَحِيحَةٍ وَعَدَمَ الْقُدْرَةِ على الْعِلْمِ كما يُعْمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ مع عَدَمِ النَّصِّ وَالْأَوَّلُ يُوَافِقُ تَصْحِيحَ الْفُقَهَاءِ في الِاجْتِهَادِ في الْأَوَانِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الظَّنِّ من غَيْرِ أَمَارَةٍ وَالثَّانِي يُخَالِفُ تَجْوِيزَهُمْ الِاجْتِهَادَ في الْأَوَانِي مع الْقُدْرَةِ على الْيَقِينِ قال وَالظَّنُّ يَقَعُ عِنْدَ الْأَمَارَةِ كما يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَ الدَّلِيلِ

وقال صَاحِبُ الْعُمْدَةِ لَا يَقَعُ عن الْأَمَارَةِ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِاخْتِيَارِ النَّاظِرِ في الْأَمَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يَنْظُرُونَ في الْأَمَارَةِ وَيَخْتَلِفُونَ في الظَّنِّ وَلَوْ كان كما ذُكِرَ لَعُمِلَ بِالظَّنِّ من غَيْرِ أَمَارَةٍ مَسْأَلَةٌ تَفَاوُتُ الظُّنُونِ وفي تَفَاوُتِ الظُّنُونِ قَوْلَانِ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ في تَفَاوُتِ الْعُلُومِ فَقِيلَ لَا تَتَفَاوَتُ كما لَا تَتَفَاوَتُ الْعُلُومُ وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ الْأَدِلَّةُ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ بَلْ الظَّنُّ يَقْبَلُ الْأَشَدِّيَّةَ وَالْأَضْعَفِيَّةَ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَرُبَّ شَكٍّ في أَصْلِ الشَّيْءِ وَشَكٍّ في وَصْفِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْأَصْلِ فَالشَّكُّ في الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ يُقَابِلُهُ احْتِمَالَانِ وَالشَّكُّ في الْوَصْفِ خَاصَّةً يُقَابِلُهُ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ وَلِهَذَا قال مَالِكٌ رضي اللَّهُ عنه من شَكَّ هل طَلَّقَ أَمْ لَا فَشَكُّهُ وسوسه فَيَسْتَصْحِبُ الْحِلَّ وَلَوْ حَلَفَ يَقِينًا ثُمَّ شَكَّ هل حَنِثَ أَمْ لَا فَشَكُّهُ هَاهُنَا مُعْتَبَرٌ يُوجِبُ الِانْكِفَافَ وَالْحَظْرَ وَهَلْ هو وُجُوبُ قَضَاءٍ أو وُجُوبُ إرْشَادٍ لَا إلْزَامٌ من الْقَاضِي فيه خِلَافٌ لِلْمَالِكِيَّةِ قال ابن الْمُنِيرِ فَإِنْ قُلْت هل يَقِفُ أَحَدٌ إذَا ظَنَّ شيئا ما على قَدْرِ ذلك الظَّنِّ كما يَقِفُ على أَصْلِ الظَّنِّ قُلْت لَا يَقِفُ أَحَدٌ على ذلك إلَّا تَقْرِيبًا إنَّمَا الذي يُتَوَقَّفُ علية يَقِينًا هو الْعِلْمُ وَمِثَالُهُ في الْمَحْسُوسَاتِ أَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ مَوْجُودٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَيُثْبِتُهُ الْعَقْلُ وَلَكِنْ لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ وَإِنْ أَثْبَتَ تَفَاوُتًا بين الْأَجْرَامِ صِغَرًا وَكِبَرًا لَكِنَّهُ إثْبَاتٌ بِالتَّقْرِيبِ لَا بِتَحْقِيقِ أَعْدَادِ الْجَوَاهِرِ بِأَعْدَادِ الْجَوَاهِرِ كَإِنْكَارِ الظُّنُونِ وَلِهَذَا يقول الْفُقَهَاءُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ في الْأَجْوَدِ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عليه تَحْقِيقًا إذْ ما من أَجْوَدَ مَفْرُوضٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَجْوَدُ منه وَمِنْهُمْ من أَجَازَهُ تَنْزِيلًا لِلَّفْظِ على الْقَرِيبِ وَعَلَى ذلك يُحْمَلُ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ هذا الظَّنُّ أَعْلَى الظُّنُونِ يَعْنُونَ من أَعْلَى الظُّنُونِ الْوَاضِحَةِ فيه

مسالة
أَقْسَامُ الظَّنِّ وَأَقْسَامُهُ خَمْسَةٌ أَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن أُمُورٍ مُسَلَّمَةٍ وهو الْعِلْمُ الظَّنِّيُّ الذي مُسْتَنَدُهُ قَضِيَّةٌ أو قَضَايَا مُسَلَّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا ثَانِيهَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن أُمُورٍ مَشْهُورَةٍ وهو ظَنٌّ مُطَابِقٌ مُسْتَنِدٌ إلَى أُمُورٍ مَشْهُورَةٍ بِالتَّصْدِيقِ عِنْدَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَثَالِثُهَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن أُمُورٍ مَقْبُولَةٍ في الْعَقْلِ بِسَبَبِ حُسْنِ الظَّنِّ بِمَنْ أُخِذَتْ عنه رَابِعُهَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ وهو ظَنٌّ مُطَابِقٌ مستندة قَرَائِنُ أَحْوَالٍ ظَاهِرَةٍ خَامِسُهَا ما كان عن وَهْمٍ في غَيْرِ مَحْسُوسٍ وهو ما أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِهِ قُوَّةُ الْوَهْمِ وَجَعَلَهُ من الْعِلْمِ الظَّنِّيِّ وَلَيْسَ بِهِ تَجَوُّزٌ مَسْأَلَةٌ الشَّكُّ الشَّكُّ قال الْعَسْكَرِيُّ أَصْلُهُ من قَوْلِهِمْ شَكَكْت الشَّيْءَ إذَا جَمَعْته بِشَيْءٍ يَدْخُلُ فيه وَالشَّكُّ هو اجْتِمَاعُ شَيْئَيْنِ في الضَّمِيرِ وقال أبو هَاشِمٍ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ اعْتِقَادَانِ يَتَعَاقَبَانِ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَأَفْسَدُوهُ بِمَا إذَا زَالَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِاعْتِقَادٍ آخَرَ وقال في قَوْلِهِ الْآخَرِ عَدَمُ الْعِلْمِ وهو فَاسِدٌ لِحُصُولِهِ من الْجَمَادِ وَالنَّائِمِ وَلَا يُوصَفُ بِالشَّكِّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ اسْتِوَاءُ مُعْتَقَدَيْنِ في نَفْسِ الْمُسْتَرِيبِ مع قطعة أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ اسْتِوَاءُ وَقَوْلُهُ الْمُسْتَرِيبِ فإن أَحَدَهُمَا يُغْنِي عن الْآخَرِ إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِرَابَةٌ مع ظُهُورِ أَحَدِهِمَا وَلَا اسْتِوَاءٌ مع عَدَمِ اسْتِرَابَةٍ وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَامِعٍ لِمَا إذَا ظُنَّ عَدَمُ الِاجْتِمَاعِ فإنه خَرَجَ بِقَوْلِهِ مع قَطْعِهِ أَنَّهُمَا لَا

يَجْتَمِعَانِ وقال الْآمِدِيُّ وَصْفُ كُلٍّ من الْأَمْرَيْنِ بِكَوْنِهِ مُعْتَقَدًا وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَلُّقُ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِهِ وَذَلِكَ مع الِاسْتِوَاءِ مُحَالٌ وقد يَمْنَعُ الِاسْتِحَالَةَ إذْ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ في الْجَازِمِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هو الِاسْتِرَابَةُ في مُعْتَقَدَيْنِ وَأَفْسَدَهُ الْآمِدِيُّ بِأَنَّهُ جَمْعٌ بين الِاسْتِرَابَةِ وَالِاعْتِقَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الْإِفْسَادُ فَاسِدٌ لِعَدَمِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الِاسْتِرَابَةَ في تَعْيِينِ الْمُرَادِ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَالِاعْتِقَادَ لصلاحيه إرَادَةِ كل وَاحِدٍ وقد يَكُونُ من غَيْرِ جَزْمٍ فَيَكُونُ ذلك تَرَادُفًا نعم هو غَيْرُ جَامِعٍ لِمَا إذَا كانت الِاسْتِرَابَةُ في غَيْرِ نَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ من وَقْفٍ وَشَكٍّ وَغَيْرِهِ وَغَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ الِاسْتِرَابَةِ في مُعْتَقَدَيْنِ في وَقْتَيْنِ فإنه ليس بِشَكٍّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ وُقُوعًا وقال الْآمِدِيُّ الْأَقْرَبُ أَنَّ الشَّكَّ التَّرَدُّدُ في أَمْرَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ لَا تَرْجِيحَ لِوُقُوعِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ في النَّفْسِ انْتَهَى وَيَرِدُ على الْجَمِيعِ التَّقَيُّدُ بِالْأَمْرَيْنِ فإن الشَّكَّ قد يَكُونُ بين أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ كما لو شَكَّ هل زَيْدٌ قَائِمٌ أو قَاعِدٌ أو نَائِمٌ وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ الشَّكَّ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا التَّرَدُّدُ في ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ تَرَدُّدًا على السَّوَاءِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ بَلْ يَحْكُمُ بِأَحَدِهِمَا مع تَجْوِيزِ نَقِيضِهِ تَجْوِيزَ اسْتِوَاءٍ قال وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَرْقُ ما بين الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فإن الْأَوَّلَ مِنْهُمَا قد يَكُونُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ على الِاحْتِمَالَيْنِ وقد يَكُونُ لِدَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ عَلَيْهِمَا وَأَمَّا الثَّانِي فإنه لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَإِلَّا لم يَكُنْ ذلك الْحُكْمُ يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالتَّشَهِّي قال وَاَلَّذِي يَدُلُّ على أَنَّ الْأَوَّلَ شَكٌّ وَإِنْ لم يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ من الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ من تَوَقَّفَ عن الْحُكْمِ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ يُقَالُ إنَّهُ شَاكٌّ في وُجُودِهِ وَنَفْيِهِ انْتَهَى وَنَبَّهَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على فَائِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الشَّكَّ لَا بُدَّ وان يَكُونَ مع قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْأَمْرَيْنِ وقال هو اعْتِقَادُ أَنْ يَتَقَاوَمَ سَبَبُهُمَا ذَكَرَهُ في النِّهَايَةِ في أَبْوَابِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ على أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ في الْأَمْرَيْنِ من غَيْرِ قِيَامِ ما يَقْتَضِي ذلك لَا يُسَمَّى شَكًّا وَكَذَلِكَ من غَفَلَ عن شَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَسْأَلُ عنه لَا يُسَمَّى شَاكًّا

وَكَلَامُ الرَّاغِبِ يُوَافِقُهُ فإنه قال هو اعْتِدَالُ النَّقِيضَيْنِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَتَسَاوِيهِمَا وَذَلِكَ قد يَكُونُ لِوُجُودِ أَمَارَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ عِنْدَهُ في النَّقِيضِ أو لِعَدَمِ الْأَمَارَةِ فِيهِمَا وَالشَّكُّ رُبَّمَا كان في الشَّيْءِ هل هو مَوْجُودٌ أو لَا وَرُبَّمَا كان في جِنْسِهِ أَيْ أَيُّ جِنْسٍ هو وَرُبَّمَا كان في بَعْضِ صِفَاتِهِ وَرُبَّمَا كان في الْغَرَضِ الذي لِأَجْلِهِ وُجِدَ وَالشَّكُّ ضَرْبٌ من الْجَهْلِ وهو أَخَصُّ منه لِأَنَّ الْجَهْلَ قد يَكُونُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالنَّقِيضِ أَصْلًا فَكُلُّ شَكٍّ جَهْلٌ وَلَيْسَ كُلُّ جَهْلٍ شَكًّا قال تَعَالَى وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ منه مُرِيبٍ وَأَصْلُهُ إمَّا من شَكَكْت الشَّيْءَ أَيْ خَرَقْته فَكَانَ الشَّكُّ الْخَرْقَ في الشَّيْءِ وَكَوْنَهُ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ الرَّائِي مُسْتَقَرًّا يَثْبُتُ فيه وَيَعْتَمِدُ عليه وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا من الشَّكِّ وهو لُصُوقُ الْعَضُدِ بِالْجَنْبِ وَذَلِكَ أَنْ يَتَلَاصَقَ النَّقِيضَانِ فَلَا يَدْخُلُ الْفَهْمُ وَالرَّأْيُ لِتَخَلُّلِهِ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا يَقُولَانِ الْتَبَسَ الْأَمْرُ وَاخْتَلَطَ وَأَشْكَلَ وَنَحْوَهُ من الِاسْتِعَارَاتِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْإِحْيَاءِ في الْبَابِ الثَّانِي في مَرَاتِبِ الشُّبُهَاتِ الشَّكُّ عِبَارَةٌ عن اعْتِقَادَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ نَشَآ عن سَبَبَيْنِ وقال في الْبَابِ الثَّالِثِ في الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ إنَّهُ عِبَارَةٌ عن اعْتِقَادَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ لَهُمَا سَبَبَانِ مُتَقَابِلَانِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَدْرُونَ الْفَرْقَ بين ما لَا يُدْرَى وَبَيْنَ ما لَا يُشَكُّ فيه وقال قبل ذلك إذَا دَخَلْت بَلَدًا غَرِيبًا وَدَخَلْت سُوقًا وَوَجَدْت قَصَّابًا أو خَبَّازًا أو غَيْرَهُ وَلَا عَلَامَةَ تَدُلُّ على كَوْنِهِ مُرِيبًا أو خَائِنًا وَلَا ما لَا يَدُلُّ على نَفْيِهِ فَهَذَا مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى حَالُهُ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ مَشْكُوكٌ فيه وقال في الْبَابِ الثَّانِي لو سُئِلَ الْإِنْسَانُ عن صَلَاةِ الظُّهْرِ التي أَدَّاهَا قبل هذا بِعِدَّةِ سِنِينَ كانت أَرْبَعًا أو ثَلَاثًا لم يَتَحَقَّقْ قَطْعًا أنها أَرْبَعُ وإذا لم يَقْطَعْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا وَهَذَا التَّجْوِيزُ لَا يَكُونُ شَكًّا إذَا لم يَحْضُرْهُ سَبَبٌ أَوْجَبَ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ ثَلَاثًا فَلْيُفْهَمْ حَقِيقَةُ الشَّكِّ حتى لَا يَشْتَبِهُ بِالْوَهْمِ وَالتَّجْوِيزِ بِغَيْرِ سَبَبٍ

مَسْأَلَةٌ الشَّكُّ لَا يُبْنَى عليه حُكْمٌ وَالشَّكُّ لَا يَنْبَنِي عليه حُكْمٌ شَرْعِيٌّ إذَا كان هُنَاكَ أَصْلٌ اُسْتُصْحِبَ على خِلَافِهِ وَاسْتَثْنَى ابن الْقَاصِّ في التَّلْخِيصِ من ذلك إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً وقد خُولِفَ فيها مَسْأَلَةٌ الْوَهْمُ الْوَهْمُ هو الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ قال ابن الْخَبَّازِ وهو كَنُفُورِ النَّفْسِ من الْمَيِّتِ مع الْعِلْمِ بِعَدَمِ بَطْشِهِ وَنُفُورِهَا من شُرْبِ الْجَلَّابِ في قَارُورَةِ الْحَجَّامِ وَلَوْ غُسِلَتْ أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَا يَنْبَنِي عليه شَيْءٌ من الْأَحْكَامِ إلَّا في قَلِيلٍ كَوَهْمِ وُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ تَحَقُّقِ عَدَمِهِ فإنه يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ عِنْدَنَا وَنِيَّةُ الْجُمُعَةِ لِمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا فَيَأْتِي بِهِ وَنَحْوُهُ مَسْأَلَةٌ السَّهْوُ وَالْخَطَأُ السَّهْوُ ما تَنَبَّهَ صَاحِبُهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ وَالْخَطَأُ ما لَا يَتَنَبَّهُ صَاحِبُهُ أو يَتَنَبَّهُ بَعْدَ إتْعَابٍ قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ في الْمِفْتَاحِ وَقِيلَ السَّهْوُ الذُّهُولُ عن الْمَعْلُومِ وَظَاهِرُ كَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ تَرَادُفُهُ مع النِّسْيَانِ وقال ابن الْأَثِيرِ في النِّهَايَةِ السَّهْوُ في الشَّيْءِ تَرْكُهُ من غَيْرِ عِلْمٍ وَالسَّهْوُ عنه تَرْكُهُ مع الْعِلْمِ خَاتِمَةٌ لَا شَكَّ في أَنَّ الْعِلْمَ وَجَمِيعَ أَضْدَادِهِ ما خَلَا الشَّكَّ فيها حُكْمٌ وَأَمَّا الشَّكُّ فَاخْتَلَفُوا فيه وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الشَّاكَّ حَاكِمٌ بِكُلٍّ من الْأَمْرَيْنِ بَدَلَ الْآخَرِ وَالْمَشْهُورُ

خِلَافُهُ إذَا عَلِمْت ذلك فَالْمَحْكُومُ بِهِ في الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالظَّنِّ هو الْمَعْلُومُ وَالْمُعْتَقَدُ وَالْمَظْنُونُ وَالْمَحْكُومُ بِهِ في الشَّكِّ إنْ قُلْنَا إنَّهُ حُكْمٌ الْأَمْرُ أَنَّ الْمَشْكُوكَ فِيهِمَا أو نَفْيَ غَيْرِهِمَا وَأَمَّا الْوَهْمُ فَهَلْ الْمَحْكُومُ بِهِ الْمَوْهُومُ أو الْمَظْنُونُ فيه بَحْثٌ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا إشْكَالٌ لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ الْمَوْهُومُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الظَّانُّ ليس حَاكِمًا لِمَا يُقَابِلُ ظَنَّهُ فَيَكُونُ حَاكِمًا بِالضِّدَّيْنِ مَعًا يَحْكُمُ بِالْقِيَامِ مَثَلًا رَاجِحًا وَبِعَدَمِ الْقِيَامِ مَرْجُوحًا وَكَيْفَ يَحْكُمُ الذِّهْنُ بِمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ خِلَافُهُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَهْمُ مَعْدُودًا في الْقِسْمَةِ الْحُكْمِيَّةِ وهو مُخَالِفٌ لِكَلَامِهِمْ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالطَّرَفِ الرَّاجِحِ وإذا قُلْنَا بِأَنَّ الشَّكَّ لَا حُكْمَ فيه لِمَا يَلْزَمُ من الْحُكْمِ مع الْمُسَاوَاةِ فَلَأَنْ يَقُولُوا بِامْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِالْمَرْجُوحِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى خَاتِمَةٌ أُخْرَى الْجَهْلُ وَالظَّنُّ وَالشَّكُّ أَضْدَادُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ الْجَهْلَ مُمَاثِلٌ لِلْعِلْمِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ اعْتِقَادَ الْمُقَلِّدِ لِلشَّيْءِ على ما هو عليه مِثْلُ الْعِلْمِ خَاتِمَةٌ أُخْرَى يُطْلَقُ الْعِلْمُ على الظَّنِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ إذْ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ في ذلك لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَقَوْلِهِ وما شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا سَمَّوْا غير الْمُطَابِقِ عِلْمًا فَكَيْفَ الظَّنُّ الْمُطَابِقُ وَأُقِرُّوا عليه وَالْأَصْلُ في الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ وَقَوْلِهِ وَلَا تَقْفُ ما ليس لَك بِهِ عِلْمٌ وقد يَجُوزُ أَنْ يَقْفُوَ ما يَظُنُّهُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ يَقْضِي الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وَيُطْلَقُ الظَّنُّ على الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ أَيْ يَعْلَمُونَ إذْ الظَّنُّ في ذلك غَيْرُ كَافٍ وَيُطْلَقُ الظَّنُّ على غَيْرِ الْمُطَابِقِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَيُطْلَقُ الشَّكُّ على الظَّنِّ وَعَلَيْهِ غَالِبُ إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ

وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا شَكَّ أحدكم في صَلَاتِهِ فلم يَدْرِ كَمْ صلى لِأَنَّ الشَّكَّ وَالظَّنَّ فيه سَوَاءٌ في الْحُكْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الظَّنُّ وَأَنْ يُرَادَ الشَّكُّ وَالظَّنُّ مَقِيسٌ عليه وَأَنْ يُرَادَ الْأَعَمُّ مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَالُ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ مَجَازٌ الْمَشْهُورُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ مَجَازٌ وَيَتَلَخَّصُ من كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ فيه ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في الشَّكِّ مَجَازٌ في الْيَقِينِ وَالثَّانِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَنْشَأُ خِلَافٌ فِيمَا إذَا قُلْت ظَنَنْت ظَنًّا هل يَتَعَيَّنُ لِلْيَقِينِ بِالتَّأْكِيدِ أو الِاحْتِمَالُ بَاقٍ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا لَا حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الشَّكِّ وَهَذَا قَوْلُ أبي بَكْرٍ الْعَبْدَرِيِّ وقال وَلَا يُعَوَّلُ على حِكَايَةِ من حَكَى ظَنَّ بِمَعْنَى تَيَقَّنَ بَلْ الظَّنُّ وَالْيَقِينُ مُتَنَافِيَانِ

فَصْلٌ الْعَقْلُ الْعَقْلُ لُغَةً الْمَنْعُ وَلِهَذَا يَمْنَعُ النَّفْسَ من فِعْلِ ما تَهْوَاهُ مَأْخُوذٌ من عِقَالِ النَّاقَةِ الْمَانِعِ لها من السَّيْرِ حَيْثُ شَاءَتْ وهو أَصْلٌ لِكُلِّ عِلْمٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وكان بَعْضُ الْأَئِمَّةِ يُسَمِّيهِ أُمَّ الْعِلْمِ وَكَثُرَ الِاخْتِلَافُ فيه حتى قِيلَ إنَّ فيه أَلْفَ قَوْلٍ وقال بَعْضُهُمْ سَلْ الناس إنْ كَانُوا لَدَيْك أَفَاضِلًا عن الْعَقْلِ وَانْظُرْ هل جَوَابٌ يُحَصَّلُ وقد تَكَلَّمَ فيه أَصْنَافُ الْخَلْقِ من الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ ما يَلِيقُ بِصِنَاعَتِهِ فَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَشَأْنُهُمْ الْكَلَامُ في الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَمَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهَا وَالْعَقْلُ مَوْجُودٌ وَالْأَطِبَّاءُ شَأْنُهُمْ الْخَوْضُ فِيمَا يُصْلِحُ الْأَبْدَانَ وَالْعَقْلُ سُلْطَانُ الْبَدَنِ وَالْمُتَكَلِّمُونَ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالنَّظَرُ أَبَدًا يَتَقَدَّمُ الْعَقْلَ وَالْفُقَهَاءُ تَكَلَّمُوا فيه من حَيْثُ إنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ فقال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه آلَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ يُمَيَّزُ بها بين الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْعُقُولُ التي رَكَّبَهَا اللَّهُ فِيهِمْ لِيَسْتَدِلُّوا بها على الْعَلَامَاتِ التي نَصَبَهَا لهم على الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا مَنًّا منه وَنِعْمَةً قَالَهُ ابن سُرَاقَةَ وَهَذَا النَّصُّ مَوْجُودٌ في الرِّسَالَةِ قال الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِهَا بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْعَقْلَ مَعْنًى رَكَّبَهُ اللَّهُ في الْإِنْسَانِ أَيْ خَلَقَهُ فيه لَا أَنَّهُ فِعْلُ الْإِنْسَانِ كما زَعَمَ بَعْضُ الناس وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ رُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ آلَةُ التَّمْيِيزِ قُلْت وَهَذَا مَوْجُودٌ في الرِّسَالَةِ حَيْثُ قال دَلَّهُمْ على جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بِالْعُقُولِ التي رُكِّبَتْ فِيهِمْ الْمُمَيِّزَةِ بين الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا إلَخْ وَقِيلَ قُوَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ يُفْصَلُ بها بين حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ وَقِيلَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بين حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ وقال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْعَقْلُ هو الْعِلْمُ وَكَذَا قال ابن سُرَاقَةَ هو في الْحَقِيقَةِ ليس بِشَيْءٍ غير الْعِلْمِ لَكِنَّهُ عِلْمٌ على صِفَةٍ فَجَمِيعُ الْمَعْلُومَاتِ بِحِسٍّ وَغَيْرِهِ إلَيْهِ مَرْجِعُهَا وهو يُمَيِّزُهَا وَيَقْضِي عليها وَحُجَّتُهُ مَأْخُوذَةٌ من قِبَلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ ذلك في الْإِنْسَانِ انْتَهَى

وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ الْعَقْلُ هو الْعِلْمُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا من حَيْثُ كَوْنُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلْمًا وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه بين أَصْحَابِنَا وهو قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ من الْإِسْلَامِيِّينَ وَبِهِ قالت الْمُعْتَزِلَةُ وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ بين الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فَقَالُوا الْعَقْلُ جَوْهَرٌ مَخْلُوقٌ في الْإِنْسَانِ وهو مَرْكَزُ الْعُلُومِ وَلَا يُسْتَفَادُ الْعَقْلُ إنَّمَا تُسْتَفَادُ الْعُلُومُ ا هـ وَكَذَلِكَ نَقَلَ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ عن أَهْلِ الْحَقِّ تَرَادُفَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ قال فَقَالُوا وَاخْتِلَافُ الناس في الْعُقُولِ لِكَثْرَةِ الْعُلُومِ وَقِلَّتِهَا وقال عَلِيُّ بن حَمْزَةَ الطَّبَرِيُّ نُورٌ وَبَصِيرَةٌ في الْقَلْبِ مَنْزِلَتُهُ الْبَصَرُ من الْعَيْنِ قال ابن فُورَكٍ هو الْعِلْمُ الذي يُمْتَنَعُ بِهِ من فِعْلِ الْقَبِيحِ وَذَهَبَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ إلَى أَنَّهُ غَرِيزَةٌ يُتَوَصَّلُ بها إلَى الْمَعْرِفَةِ وَمَثَّلَهُ بِالْبَصَرِ وَمَثَّلَ الْعِلْمَ بِالسِّرَاجِ فَمَنْ لَا بَصَرَ له لَا يَنْتَفِعُ بِالسِّرَاجِ وَمَنْ له بَصَرٌ بِلَا سِرَاجٍ لَا يَرَى ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَصَرَّحَ بِمُخَالَفَةِ الْعَقْلِ الْعِلْمَ وَكَذَا قال أَحْمَدُ الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ قال الْقَاضِي أَيْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَلَيْسَ اكْتِسَابًا قال الْأُقْلِيشِيُّ وَهَذِهِ الْغَرِيزَةُ لَيْسَتْ حَاصِلَةً لِلْبَهِيمَةِ على ما ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ من الْمُحَقِّقِينَ وَاسْتَحْسَنَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَاعْتَقَدَهُ رَأْيًا إذْ أَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ لم يُفَرِّقُوا بين الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ في السَّجِيَّةِ وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا في الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَهِيَ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ التي مَنْشَؤُهَا من الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ لَكِنَّهُ في الشَّامِلِ حَكَاهُ ثُمَّ قال إنَّهُ لَا يَرْضَاهُ وَإِنَّهُ يَتَّهِمُ النَّقَلَةَ عنه فيه وَأَطَالَ في رَدِّهِ وَصَارَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وأبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وابن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَخَرَجَتْ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ عَاقِلًا مع عَدَمِ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا بَعْضُهَا لِأَنَّهُ لو كان جَمِيعُهَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ بِالْمُدْرِكَاتِ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْمُتَعَلِّقِ بها غير عَاقِلٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ نَحْوُ الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَخْرُجُ عن أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أو مَعْدُومًا وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَخْلُو عن الِاتِّصَافِ بِالْقِدَمِ أو بِالْحُدُوثِ وَالْعِلْمِ بِمَجَارِي الْعَادَاتِ الْمُدْرَكَاتِ بِالضَّرُورَةِ كَمُوجِبِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الصَّادِرَةِ عن الْمُشَاهَدَاتِ إلَى غَيْرِ ذلك من الْعُلُومِ التي يُخَصُّ بها الْعُقَلَاءُ وَحَاصِلُهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ وَقِيلَ إنَّهُ عُلُومٌ بَدِيهِيَّةٌ كُلُّهُ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ فَقُلْت له

أَفَتَخُصُّ هذا النَّوْعَ من الضَّرُورَةِ بِوَصْفٍ قال يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ما صَحَّ مع الِاسْتِنْبَاطِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَقْلَ الْغَرِيزِيَّ ليس بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ إذْ الْإِنْسَانُ يُوصَفُ بِالْعَقْلِ مع ذُهُولِهِ عن الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ قال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بَعْدَ إبْطَالِهِ قَوْلَ الْقَاضِي في الْعَقْلِ وَعِنْدَ هذا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ تَلْزَمُهَا هذه الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ مع سَلَامَةِ الْآلَاتِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْعِبَارَةُ الْوَجِيزَةُ فيه عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ بِاسْتِحَالَةِ مُسْتَحِيلَاتٍ وَجَوَازِ جَائِزَاتٍ أو نُورٌ يُقْبِلُ من النُّورِ الْأَعْلَى بِمِقْدَارِ ما يَحْتَمِلُهُ وهو مَوْجُودٌ بِالْمَجْنُونِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ هذا الْقَائِلِ لَكِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَبُولِ حَائِلٌ كما في نُورِ الشَّمْسِ مع السَّحَابِ وقال الْغَزَالِيُّ هو غَرِيزِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَهُمَا نَظَرِيٌّ وَتَجْرِيبِيٌّ وَالْعِلْمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَهُمَا مُكْتَسَبَانِ وقال ابن فُورَكٍ هو الْعِلْمُ الذي يُمْتَنَعُ بِهِ عن فِعْلِ الْقَبِيحِ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ التي لَا خُلُوَّ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ عنها بَعْدَ كَمَالِ آلَةِ الْإِدْرَاكِ وَعَدَمِ أَضْدَادِهَا وَلَا يُشَارِكُهُ فيها شَيْءٌ من الْحَيَوَانَاتِ وَحَكَاهُ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ له قَوْلَانِ ثُمَّ هو غَيْرُ جَامِعٍ لِلْعَقْلِ الثَّابِتِ لِلصِّبْيَانِ فَإِنَّهُمْ عُقَلَاءُ بِالْإِجْمَاعِ كما قَالَهُ الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ في كِتَابِ الْعُدَّةِ مع انْتِفَاءِ ما ذَكَرَهُ لِامْتِنَاعِ صِحَّةِ نَفْيِ الْعَقْلِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا وَإِلَّا لَزِمَ جَوَازُ وَصْفِهِمْ بِضِدِّهِ وهو الْجُنُونُ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَغَيْرُ مَانِعٍ لِعُلُومِ الْمَجَانِينِ التي لَا خُلُوَّ لِأَنْفُسِهِمْ عنها كَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ من الْوَاحِدِ وَنَحْوَهُ مع أَنَّهُمْ غَيْرُ عُقَلَاءَ وقال الْجِيلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ الْإِعْجَازِ فَرْقٌ بين الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَيَظْهَرُ شَرَفُ الْعَقْلِ من حَيْثُ إنَّهُ مَنْبَعُ الْعِلْمِ وَأَسَاسُهُ وَالْعِلْمُ يَجْرِي منه مَجْرَى الثَّمَرَةِ من الشَّجَرَةِ قال وفي الحديث أَوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ وقال وَعِزَّتِي وَجَلَالِي ما خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ مِنْك بِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي وَبِك أُعَاقِبُ فَإِنْ قُلْت إنْ كان الْعَقْلُ عَرَضًا فَكَيْفَ يُخْلَقُ قبل الْأَجْسَامِ وَإِنْ كان جَوْهَرًا فَكَيْفَ يَكُونُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا بِمُتَحَيِّزٍ

قُلْنَا هذا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْمُكَاشَفَةِ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَدَّ الْمَلَائِكَةُ وَاجْتَهَدُوا في طَاعَةِ اللَّهِ بِالْعَقْلِ وَجَدَّ الْمُؤْمِنُونَ من بَنِي آدَمَ على قَدْرِ عُقُولِهِمْ على أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ قال إنَّ الْجَوْهَرَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا تَنَاقُضَ بين قَوْلِنَا إنَّهُ نَوْعٌ من الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا إنَّهُ خُلِقَ قبل الْأَشْيَاءِ انْتَهَى الْعَقْلُ ضَرْبَانِ ثُمَّ هو ضَرْبَانِ غَرِيزِيٌّ وهو أَصْلٌ وَمُكْتَسَبٌ وهو فَرْعٌ فَأَمَّا الْغَرِيزِيُّ فَهُوَ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ وَأَمَّا الْمُكْتَسَبُ فَهُوَ الذي يُؤَدِّي إلَى صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَقُوَّةِ النَّظَرِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ الْمُكْتَسَبُ عن الْغَرِيزِيِّ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ الْغَرِيزِيُّ عن الْمُكْتَسَبِ لِأَنَّ الْغَرِيزِيَّ أَصْلٌ يَصِحُّ قِيَامُهُ بِذَاتِهِ وَالْمُكْتَسَبَ فَرْعٌ لَا يَصِحُّ قِيَامُهُ إلَّا بِأَصْلِهِ وَمِنْ الناس من امْتَنَعَ من تَسْمِيَةِ الْمُكْتَسَبِ عَقْلًا لِأَنَّهُ من نَتَائِجِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالنِّزَاعِ في التَّسْمِيَةِ إذَا كان الْمَعْنَى مُسَلَّمًا وَاخْتُلِفَ فيه في أُمُورٍ تَفَاوُتُ الْعُقُولِ أَحَدُهَا هل يَتَفَاوَتُ وَالْأَصَحُّ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فَلَا يَتَحَقَّقُ شَخْصٌ أَعْقَلُ من شَخْصٍ وَإِنْ أُطْلِقَ ذلك كان تَجَوُّزًا أو صَرْفًا إلَى كَثْرَةِ التَّجَارِبِ قال فَإِنَّا بَعْدَ أَنْ قُلْنَا إنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ فيها وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ من الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ

وَقِيَاسُ من فَسَّرَ الْعَقْلَ بِالْعِلْمِ أَنَّهُ يَجْرِي فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في تَفَاوُتِ الْعُلُومِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْغَرِيزِيُّ فَلَا يَتَفَاوَتُ أو التَّجْرِيبِيُّ فَلَا شَكَّ في تَفَاوُتِهِ وَإِلَيْهِ يَمِيلُ كَلَامُ ابن سُرَاقَةَ حَيْثُ قال هو على ضَرْبَيْنِ منه مَخْلُوقٌ في الْإِنْسَانِ وَمِنْهُ يَزْدَادُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاعْتِبَارِ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ كَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالشَّهْوَةِ وَنَحْوِهَا من أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَلِهَذَا يُقَالُ فُلَانٌ وَافِرُ الْعَقْلِ وَفُلَانٌ نَاقِصُ الْعَقْلِ الثَّانِي اخْتَلَفُوا في مَحَلِّهِ فَقِيلَ لَا يُعْرَفُ مَحَلُّهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَعَلَى الْمَشْهُورِ فيه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا كما نَقَلَهُ ابن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ الْقَلْبُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِسَائِرِ الْعُلُومِ وَقَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ الدِّمَاغُ وَالْأَوَّلُ مَنْقُولٌ عن أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّانِي مَنْقُولٌ عن أبي حَنِيفَةَ حَكَاهُ الْبَاجِيُّ عنه وَرَوَاهُ ابن شَاهِينِ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ أَيْضًا وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بين الرَّأْسِ وَالْقَلْبِ وقال الْأَشْعَرِيُّ لَك حَاسَّةٌ منه نَصِيبٌ وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا رَابِعًا وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في بَابِ أَسْنَانِ إبِلِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لم يَتَعَيَّنْ لِلشَّافِعِيِّ مَحَلُّهُ وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا خَامِسًا وَقِيلَ الصَّدْرُ وَلَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ الْقَلْبَ وَقِيلَ هو مَعْنًى يُضِيءُ في الْقَلْبِ وَسُلْطَانُهُ في الدِّمَاغِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْحَوَاسِّ في الرَّأْسِ وَلِهَذَا قد يَذْهَبُ بِالضَّرْبِ على الدِّمَاغِ حَكَاهُ ابن سُرَاقَةَ قال وقال آخَرُونَ من أَصْحَابِنَا هو قُوَّةٌ وَبَصِيرَةٌ في الْقَلْبِ مَنْزِلَتُهُ منه مَنْزِلَةُ الْبَصَرِ من الْعَيْنِ وَنَبَّهَ الْمَاوَرْدِيُّ في أَدَبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا على فَائِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْخِلَافَ في الْغَرِيزِيِّ أَمَّا التَّجْرِيبِيُّ فَمَحَلُّهُ الْقَلْبُ قَطْعًا الثَّانِيَةُ أَنَّ هذا الْخِلَافَ مُفَرَّعٌ على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بين حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ وَأَنَّ من نَفَى كَوْنَهُ جَوْهَرًا أَثْبَتَ أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ وقال الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى الْخِلَافُ في أَنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ مَاذَا مِمَّا يَلْتَبِسُ على كَثِيرٍ فَإِنَّهُمْ إنْ عَنَوْا بِهِ الْقُوَّةَ النَّاطِقَةَ على ما يَظْهَرُ من كَلَامِهِمْ فَخَطَأٌ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ لها آلَةٌ وَلَا هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى عُضْوٍ من الْأَعْضَاءِ وَإِنَّمَا الذي يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فيه هل هِيَ الْقُوَّةُ الْمُفَكِّرَةُ التي تُنْسَبُ إلَى الدِّمَاغِ

وَهِيَ مُلْتَبِسَةٌ بِالْقُوَّةِ النَّاطِقَةِ من وَجْهَيْنِ كَوْنُهَا مُخْتَصَّةً بِالْإِنْسَانِ وَكَوْنُهَا مُمَيِّزَةً وَلِهَذَا الِالْتِبَاسِ ظَنُّوا أنها الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ وَحَكَوْا فيها الْخِلَافَ وَاَلَّذِي غَلَّطَهُمْ في ذلك عَكْسُ الْقَضِيَّةِ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ مِثْلَ نَفْسِهَا وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كانت الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ مُمَيِّزَةً مُخْتَصَّةً بِالْإِنْسَانِ عَكَسُوا الْقَضِيَّةَ فَقَالُوا كُلُّ قُوَّةٍ مُمَيِّزَةٍ خَاصَّةٍ بِالْإِنْسَانِ فَهِيَ قُوَّةٌ نَاطِقَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ في الْإِنْسَانِ قُوَّةٌ أُخْرَى مُمَيِّزَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ وَلَيْسَتْ النَّاطِقَةَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هذه مَوْجُودَةٌ في الْإِنْسَانِ لها آلَةٌ جُسْمَانِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ قُوَى النَّفْسِ فَهَذِهِ إذَنْ يَجِبُ النَّظَرُ في آلَتِهَا الدِّمَاغِ أو الْقَلْبِ فَأَمَّا الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ التي سَمَّوْهَا عَقْلًا فَلَيْسَتْ قُوَّةً في جِسْمٍ أَصْلًا وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا لها آلَةٌ جُسْمَانِيَّةٌ وَالْفَرْقُ بين تَمْيِيزَيْهِمَا أَنَّ تَمْيِيزَ الْمُفَكِّرَةِ شَخْصِيٌّ لِأَنَّهَا تُمَيِّزُ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمُخَيَّلِ الْمُشَخَّصِ تَمْيِيزًا شَخْصِيًّا فَهِيَ تَالِيَةٌ لِلْقُوَّةِ الْمُتَخَيِّلَةِ كما أَنَّ الْمُتَخَيِّلَةَ تَالِيَةٌ لِلْقُوَّةِ الْحِسِّيَّةِ فَهِيَ إذَنْ أَكْثَرُ رُوحَانِيَّةً من التَّخَيُّلِيَّةِ وَلِهَذَا اخْتَصَّتْ بِالْإِنْسَانِ وَتَمْيِيزُ النَّاطِقَةِ كُلِّيٌّ وَهِيَ عَرِيَّةٌ من مُخَالَطَةِ الْجِسْمِ وَلَيْسَتْ من جِنْسِ الْقُوَى الْحَادِثَةِ الشَّخْصِيَّةِ فَافْتَرَقَا وَلَيْسَتْ رُوحَانِيَّتُهَا كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ شَارَكَ فيها الْإِنْسَانُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ وما يَتَفَرَّعُ على الْخِلَافِ في أَنَّ مَحَلَّهُ مَاذَا ما لو أُوضِحَ رَجُلٌ فَذَهَبَ عَقْلُهُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ يَلْزَمُهُ دِيَةُ الْعَقْلِ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَتْلَفَ عليه مَنْفَعَةً لَيْسَتْ في عُضْوِ الشَّجَّةِ تَبَعًا لها وقال أبو حَنِيفَةَ إنَّمَا عليه الْعَقْلُ فَقَطْ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَجَّ رَأْسَهُ وَأَتْلَفَ عليه الْعَقْلَ الذي هو مَنْفَعَةٌ في الْعُضْوِ الْمَشْجُوجِ وَدَخَلَ أَرْشُ الشَّجَّةِ في الدِّيَةِ

النَّظَرُ في حَقِيقَتِهِ وَأَقْسَامِهِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ حَقِيقَةُ الْحَدِّ أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَالْقَوْلُ الدَّالُّ على مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَقِيلَ خَاصِّيَّةُ الشَّيْءِ على الْخِلَافِ في تَفْسِيرِ ما هو الْغَرَضُ بِالْحَدِّ هل حَصْرُ الذَّاتِيَّاتِ أو مُجَرَّدُ التَّمْيِيزِ كَيْفَ اتَّفَقَ أو الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ لِوَصْفٍ خَاصٍّ وهو يَرْجِعُ إلَى وَصْفِ الْمَحْدُودِ دُونَ قَوْلِ الْوَاصِفِ الْحَادِّ عِنْدَ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ كما قال الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال إنَّهُ قَوْلُ مُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا وقال الْقَاضِي يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْوَاصِفِ وهو عِنْدَهُ الْقَوْلُ الْمُفَسِّرُ لِاسْمِ الْمَحْدُودِ وَصِفَتِهِ على وَجْهٍ يَخُصُّهُ وَيَحْصُرُهُ فَلَا يَدْخُلُ فيه ما ليس منه وَلَا يَخْرُجُ منه ما هو منه قال الْإِمَامُ وهو مُنْفَرِدٌ بِذَلِكَ من بَيْنِ أَصْحَابِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْحَدُّ وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَنَا بِمَعْنًى لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ مَانِعَةٌ له من الِالْتِبَاسِ بِغَيْرِهِ نَاطِقَةٌ بِمَا ليس منه من الدُّخُولِ في حُكْمِهِ وَقَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ هو الْجَوَابُ الصَّحِيحُ في سُؤَالٍ ما هو إذَا أَحَاطَ بِالْمَسْئُولِ عنه وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَدَّ قد يُذْكَرُ ابْتِدَاءً من غَيْرِ تَقَدُّمِ سُؤَالٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ حَدَّ الشَّيْءِ مَعْنَاهُ الذي لِأَجْلِهِ اسْتَحَقَّ الْوَصْفَ الْمَقْصُودَ بِالذِّكْرِ وَتَسْمِيَةُ الْعِبَارَةِ عن الْحَدِّ مَجَازٌ وَمَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْحَدِّ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْحَقِيقَةِ يُسْتَعْمَلُ في الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَلَفْظَ الْحَدِّ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ في الْحُجَّةِ قال وَاخْتَلَفُوا في الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ هل يَجُوزُ حُصُولُهُ لِمَنْ لم يَكُنْ عَارِفًا بِحَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ أَجَازَهُ قَوْمٌ وقال أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ وَلِذَلِكَ قالوا إنَّ من لم يَعْلَمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عِلْمًا وَقَدْرًا وَحَيَاةً لم يَعْلَمْهُ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْعَالِمِ عَالِمًا عِلْمٌ بِعِلْمِهِ وَالنَّافِي لِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَيَاتِهِ غَيْرُ عَالِمٍ بِكَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا وَهَذَا قَوْلٌ يَطَّرِدُ على أَصْلِنَا في جَمِيعِ الْحُدُودِ وَفَرَّقَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا الْقُدَمَاءِ بين الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ قال الْحَدُّ ما اُسْتُعْمِلَ في الشَّيْءِ نَفْسِهِ وَالْحَقِيقَةُ ما جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ في الشَّيْءِ وَضِدِّهِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ الشَّيْءُ له في الْوُجُودِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ الْأُولَى حَقِيقَتُهُ في نَفْسِهِ

وَالثَّانِيَةُ ثُبُوتُ مِثَالِ حَقِيقَتِهِ التي تَدُلُّ عليه من الذِّهْنِ الذي يُعَبَّرُ عنه بِالْعِلْمِ وَالثَّالِثَةُ تَأْلِيفُ صَوْتٍ بِحُرُوفٍ تَدُلُّ عليه وهو الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ على الْمِثَالِ الذي في النَّفْسِ وَالرَّابِعَةُ تَأْلِيفُ رُقُومٍ تُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ تَدُلُّ على اللَّفْظِ وهو الْكِتَابَةُ قال وَالْعَادَةُ لم تَجْرِ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْحَدِّ على الْعِلْمِ وَلَا على الْكِتَابَةِ بَلْ هو مُشْتَرَكٌ بين الْحَقِيقَةِ وَاللَّفْظِ وقال الْعَبْدَرِيُّ وما أَخَذُوهُ من حَدِّ الْحَدِّ هل الْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الذي في النَّفْسِ خَاصَّةً أَمْ اللَّفْظُ الدَّالُّ على ما في النَّفْسِ فَالْجَوَابُ فيه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا الْمَعْنَى الذي في النَّفْسِ خَاصَّةً وَالثَّانِي الْمُرَادُ الْمَعْنَيَانِ جميعا لَا على أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا بَلْ على أَنَّهُ يُقَالُ على الْمَعْنَى الذي في النَّفْسِ فإنه أَوْلَى وَيُقَالُ على اللَّفْظِ بِحُكْمِ التَّبَعِ لِدَلَالَتِهِ على ما في النَّفْسِ مَذَاهِبُ اقْتِنَاصِ الْحَدِّ وفي اقْتِنَاصِ الْحَدِّ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْعَبْدَرِيُّ في الْمُسْتَوْفَى في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى أَحَدُهَا وهو مَذْهَبُ أَفْلَاطُونَ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِالتَّقْسِيمِ بِأَنْ تَأْخُذَ جِنْسًا من أَجْنَاسِ الْمَحْدُودِ وَتَقْسِمَهُ بِفُصُولِهِ الذَّاتِيَّةِ له ثُمَّ تَنْظُرَ الْمَحْدُودَ تَحْتَ أَيِّ فَصْلٍ هو من تِلْكَ الْفُصُولِ فإذا وَجَدْته ضَمَمْتَ ذلك الْفَصْلَ إلَى الْجِنْسِ الذي كُنْت أَخَذْته ثُمَّ تَنْظُرَ فَإِنْ كان مُسَاوِيًا لِلْمَحْدُودِ فَقَدْ وُجِدَ جِنْسُ الْحَدِّ وَفَصْلُهُ وَكَمَلَ الْحَدُّ وَإِنْ لم يَكُنْ مُسَاوِيًا له عَلِمْت أَنَّ ذلك الْجِنْسَ وَالْفَصْلَ إنَّمَا هو حَدٌّ لِجِنْسِ الْمَحْدُودِ لَا لِلْمَحْدُودِ فَتَأْخُذَ اسْمَ ذلك الْجِنْسِ بَدَلَ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ وَتَقْسِمَهُ أَيْضًا إلَى فُصُولِهِ الذَّاتِيَّةِ ثُمَّ تَنْظُرَ الْمَحْدُودَ تَحْتَ أَيِّ فَصْلٍ فَتَأْخُذَهُ وَتَقْسِمَهُ إلَى ما تَقَدَّمَ من الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ ثُمَّ تَنْظُرَ هل هو مُسَاوٍ لَفْظًا وَحْدَهُ أَمْ لَا فَإِنْ سَاوَاهُ فَقَدْ تَمَّ الْحَدُّ وَإِلَّا فَعَلْت كما تَقَدَّمَ هَكَذَا وَالثَّانِي في مَذْهَبِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِطَرِيقِ التَّرْكِيبِ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ أَقْرَبُ من طَرِيقِ الْقِسْمَةِ وهو أَنْ تُجْمَعَ الْأَوْصَافُ التي تَصْلُحُ أَنْ تُحْمَلَ على الشَّيْءِ الْمَحْدُودِ كُلُّهَا ثُمَّ تَنْظُرَ ما فيها ذَاتِيٌّ وما فيها عَرَضِيٌّ فَتَطْرَحَ الْعَرَضِيَّ ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى الذَّاتِيِّ فَتَأْخُذَ منها الْمَقُولَ في جَوَابِ ما هو فَتَجْمَعَهَا كُلَّهَا ثُمَّ تَطْرَحَ الْأَعَمَّ فَالْأَعَمَّ حتى تَنْتَهِيَ إلَى الْجِنْسِ الْأَقْرَبِ ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى الْفُصُولِ فَتَجْمَعَهَا أَيْضًا كُلَّهَا ثُمَّ تَطْرَحَ الْأَبْعَدَ فَالْأَبْعَدَ حتى تَنْتَهِيَ إلَى الْفَصْلِ الْقَرِيبِ جِدًّا وَحِينَئِذٍ فَيَكْمُلُ

وَالثَّالِثُ مَذْهَبُ بُقْرَاطِيسَ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِالْبُرْهَانِ وقد أَبْطَلُوهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا سُلِكَ في اقْتِنَاصِهِ الْقِسْمَةُ أو التَّرْكِيبُ وكان لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ تَصَفُّحِ جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ وَحْدَهُ كان الْحَدُّ الْمُقْتَنَصُ بهذا الطَّرِيقِ مَعْلُومًا فَأَوَّلُ الْعَقْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ فَإِذَنْ اقْتِنَاصُ الْحَدِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا بُدَّ في طَلَبِ الْبُرْهَانِ من وَسَطٍ يُحْمَلُ على الْمَحْكُومِ عليه على أَنَّهُ حَدٌّ له لَا على أَنَّهُ جِنْسٌ له وَلَا فَصْلٌ وَيُحْمَلُ عليه الْحُكْمُ على أَنَّهُ حَدٌّ له أَيْضًا مِثَالُهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ حَدَّ الْعِلْمِ الْمَعْرِفَةُ فَيُقَالَ لنا وما الدَّلِيلُ عليه فَلَا بُدَّ أَيْضًا من طَلَبِ وَسَطٍ يُحْمَلُ على الْعِلْمِ على أَنَّهُ حَدٌّ له وَتُحْمَلُ الْمَعْرِفَةُ عليه على أنها حَدٌّ له أَيْضًا وَلْيَكُنْ ذلك الْحَدُّ الِاعْتِقَادَ فَنَقُولُ لِكُلِّ عِلْمٍ بِالِاعْتِقَادِ يُؤْخَذُ له على أَنَّهُ حَدٌّ وَكُلُّ اعْتِقَادٍ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ له على أَنَّهُ حَدٌّ فَالْمَعْرِفَةُ تُؤْخَذُ له على أنها حَدٌّ فَإِذَنْ كُلُّ عِلْمٍ فَالْمَعْرِفَةُ تُؤْخَذُ له على أنها حَدٌّ فَيُنَازَعُ في كل وَاحِدٍ من مُقَدِّمَتَيْ هذا الدَّلِيلِ لِأَنَّهَا حَدٌّ وَيُطْلَبُ الْبُرْهَانُ كما طُلِبَ على الْحَدِّ الْأَوَّلِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَهَا بِدَلِيلَيْنِ فَيُنَازَعُ أَيْضًا في كل مُقَدِّمَةٍ من مُقَدِّمَتَيْ كل وَاحِدٍ من ذَيْنِك الدَّلِيلَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلَّلَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وهو مُحَالٌ وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ عِنْدَ أَمْرٍ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ مَسْأَلَةٌ صُعُوبَةُ الْحَدِّ ادَّعَى ابن سِينَا أَنَّ الْحُدُودَ في غَايَةِ الصُّعُوبَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ تَفْصِيلًا حتى يُعْلَمَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين الْأَشْيَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ في شَيْءٍ وَاحِدٍ من الْمَاهِيَّةِ وَالْقَدْرُ الذي بِهِ يَنْفَصِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ منها عن الْأُخْرَى وَلَا شَكَّ في صُعُوبَةِ مَعْرِفَتِهَا على هذا الْوَجْهِ وَبِهِ يَضْعُفُ تَرْكِيبُ الْحُدُودِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ في الْخَارِجِ الْمُطَابِقَةِ لها وَنَاقَضَهُ أبو الْبَرَكَاتِ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِهِ الْمُعْتَبَرِ فقال الْحُدُودُ في غَايَةِ السُّهُولَةِ لِأَنَّ الْحُدُودَ هِيَ حُدُودُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَسْمَاءُ أَسْمَاءُ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ وَكُلُّ أَمْرٍ مَعْقُولٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُعْقَلَ أَنَّ كَمَالَ الْمُشْتَرَكِ أَيْشٍ هو وَكَمَالُ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ أَيْشٍ هو فَكَانَ الْحَدُّ سَهْلًا من هذا الْوَجْهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَلِجُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَضَايِقِ وَيَمْنَعُ كَوْنَ الْحَدِّ هو الدَّالُّ على حَقِيقَةِ الشَّيْءِ بَلْ هو تَفْصِيلُ ما دَلَّ اللَّفْظُ عليه

إجْمَالًا وقال في الْمُلَخَّصِ الْإِنْصَافُ أَنَّهُ إنْ كان الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ منه تَفْصِيلَ مَدْلُولِ الِاسْمِ كان سَهْلًا وَإِنْ كان الْغَرَضُ مَعْرِفَةَ الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ كان ذلك في غَايَةِ الصُّعُوبَةِ فَحَصَلَ من هذا أَنَّ الْحُدُودَ الْكَاشِفَةَ لِلْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ لَيْسَتْ عِبَارَةً عن تَفْصِيلِ ما دَلَّ اللَّفْظُ عليه إجْمَالًا بَلْ الْحَدُّ هو الْقَوْلُ الدَّالُّ على مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَصَنَّفَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رِسَالَةً بَيَّنَ فيها صُعُوبَةَ الْحَدِّ وقال الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى الْعِلَّةُ في عُسْرِ حَدِّ بَعْضِ الْمُدْرَكَاتِ هو أَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ كُلِّهَا الْحَوَاسُّ فإذا قَوِيَ الْحِسُّ على إدْرَاكِ أَمْرٍ مِمَّا اتَّضَحَتْ فُصُولُهُ الذَّاتِيَّةُ عِنْدَ الْعَقْلِ فَأَدْرَكَ حَقِيقَةَ مَاهِيَّتِهِ سَاغَ له حَدُّهُ وإذا ضَعُفَ الْحِسُّ عن إدْرَاكِ شَيْءٍ مِمَّا خَفِيَتْ فُصُولُهُ الذَّاتِيَّةُ عن الْعَقْلِ فلم يُدْرِكْ حَقِيقَتَهُ وَمَاهِيَّتَهُ لم يُقْدَرْ على حَدِّهِ وَمِنْ ذلك الرَّوَائِحُ وَالطُّعُومُ لَمَّا ضَعُفَ الْحِسُّ عن إدْرَاكِهَا عَسِرَ حَدُّهَا وقال ابن تَيْمِيَّةَ عُسْرُ الْحَدِّ مَبْنِيٌّ على اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِّ تَصَوُّرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَأَصْلُ غَلَطِهِمْ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عليهم ما في الْأَذْهَانِ بِمَا في الْأَعْيَانِ فإن هذه الْأُمُورَ قَائِمَةٌ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ طَابَقَ أَمْ لَا وَلَيْسَ هو تَابِعًا لِلْحَقَائِقِ في نَفْسِهَا تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ الْقَصْدُ من الْحَدِّ بَانَ مِمَّا سَبَقَ عن كَلَامِ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْقَصْدَ من الْحَدِّ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا قال الْأَنْصَارِيُّ في شَرْحِ الْإِرْشَادِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَصْدُ من التَّحْدِيدِ في اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْفَرْقُ بِخَاصَّةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ التي يَقَعُ بها الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ا هـ وَلِهَذَا كان الِاضْطِرَادُ وَالِانْعِكَاسُ لَا يَتِمُّ الْحَدُّ إلَّا بِهِمَا وَأَمَّا الْمَنَاطِقَةُ فَقَالُوا إنَّ فَائِدَةَ الْحَدِّ التَّصْوِيرُ وَبَنَوْا على ذلك أُمُورًا سَتَأْتِي قال أبو الْعَبَّاسِ بن تَيْمِيَّةَ في كِتَابِ الرَّدِّ عليهم وَاَلَّذِي عليه جَمِيعُ الطَّوَائِفِ أَنَّ فَائِدَتَهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وهو قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَنَّفَ في هذا الْبَابِ من أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُجَوِّزُ الْحَدَّ إلَّا بِمَا يُمَيِّزُ الْمَحْدُودَ لَكِنَّهُ لم يَهْتَدِ إلَى ما صَارَ إلَيْهِ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ في هذا الْمَقَامِ وهو مَوْضِعٌ شَرِيفٌ يَنْبَغِي الْإِحَاطَةُ بِهِ فإن بِسَبَبِ إهْمَالِهِ دخل الْفَسَادُ في الْمَعْقُولِ وَالْأَدْيَانِ على كَثِيرٍ إذْ خَلَطُوا ما ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ

في الْحُدُودِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَصَارُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْحُدُودِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ وَطُولُ الْكَلَامِ في ذلك مِمَّا يُوقَفُ عليه من كَلَامِهِ قُلْت وَبَنَى الْمَنْطِقِيُّونَ على هذا الْأَصْلِ قَوَاعِدَ إحْدَاهَا قالوا الْحَدُّ لَا يُكْتَسَبُ بِالْبُرْهَانِ أَيْ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِبُرْهَانٍ وَعَقَدُوا الِاسْتِدْلَالَ عليه بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْبُرْهَانَ إنَّمَا يَكُونُ في الْقَضَايَا التي فيها حُكْمٌ وَالْحَدُّ لَا حُكْمَ فيه لِأَنَّهُ تَصَوُّرٌ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَقُّ أَنَّا إذَا قُلْنَا الْإِنْسَانُ مَثَلًا حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَلَهُ أَرْبَعُ اعْتِبَارَاتٍ أَحَدُهَا تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ وهو تَصَوُّرٌ لَا حُكْمَ فيه فَلَا يُسْتَدَلُّ عليه وَلَا يُمْنَعُ ثَانِيهَا دَعْوَى الْحَدِّيَّةِ وَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ بِبَيَانِ صَلَاحِيَةِ هذا الْحَدِّ لِلتَّعْرِيفِ من اطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ وَصَرَاحَةِ أَلْفَاظِهِ ثَالِثَهَا دَعْوَى الْمَدْلُولِيَّةِ وهو أَنَّ هذا اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى لُغَةً أو شَرْعًا فَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ عليه وَهَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في كِتَابِهِ نِهَايَةِ الْعُقُولِ وَكَذَلِكَ قَيَّدَ بِهِ ابن الْحَاجِبِ إطْلَاقَهُمْ مَنْعَ اكْتِسَابِهِ بِالْبُرْهَانِ قال أَمَّا لو أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ مَدْلُولُهُ لُغَةً أو شَرْعًا فَلَا بُدَّ له من النَّقْلِ رَابِعَهَا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ ذَاتَ الْإِنْسَانِ مَحْكُومٌ عليها بِالْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ فَيَتَوَجَّهُ عليه الْمَنْعُ وَالْمُطَالَبَةُ وَلَا يَكُونُ ذلك حَدًّا بَلْ دَعْوًى ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَيْضًا وقال في الْمُلَخَّصِ هذا بِحَسَبِ الِاسْمِ أَمَّا إذَا كان بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ وهو أَنْ يُشِيرَ إلَى مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ وَيَزْعُمَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُرَكَّبَةٌ من كَذَا وَكَذَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ فيه من الْحُجَّةِ وَاَلَّذِي أَطْلَقَهُ هُنَا ابن سِينَا في كُتُبِهِ امْتِنَاعُ الِاكْتِسَابِ لِلْحَدِّ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ مُطْلَقًا وَذُكِرَ عن أَفْلَاطُونَ أَنَّهُ يُكْتَسَبُ بِالْقِسْمَةِ وَزَيَّفَهُ فَإِنْ قِيلَ ما ذَكَرْتُمُوهُ يَتَوَجَّهُ عليه النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ على الْحَدِّ وقد اتَّفَقَ النُّظَّارُ على تَوَجُّهِهِمَا ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْحَدَّ ما لم يَنْضَمَّ إلَيْهِ شَيْءٌ من الدَّعَاوَى فإنه لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ النَّقْضُ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ النَّقْضُ على تَسْلِيمِ بُعْدِ الْحَدِّ

مِثَالُهُ إذَا قِيلَ الْعِلْمُ هو الذي يَصِحُّ من الْمَوْصُوفِ بِهِ أَحْكَامُ الْفِعْلِ فإذا قِيلَ هذا مَنْقُوضٌ بِالْعِلْمِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَالَاتِ فإنه عِلْمٌ وَلَا يُفِيدُ أَحْكَامًا فَهَذَا النَّقْضُ إنَّمَا يَسْلَمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُحَالَاتِ فَلَوْ لم تَسْلَمْ هذه الدَّعْوَى لم يُمْكِنْ تَوَجُّهُ النَّقْضِ إلَيْهِ قال وَكَذَا الْمُعَارَضَةُ لَا يُمْكِنُ الْقَدَحُ بها في الْحَدِّ إلَّا عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّعْوَى وَإِلَّا فَالْحَقَائِقُ غَيْرُ مُتَعَانِدَةٍ في مَاهِيَّاتِهَا فإن من عَارَضَ هذا الْحَدَّ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُقْتَضِي سُلُوكَ النَّفْسِ فَلَيْسَ بين هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ تَعَانُدٌ وإذا لم يَكُنْ بين الْحَقِيقَتَيْنِ مُنَافَاةٌ لم تَتَحَقَّقْ الْمُعَارَضَةُ في الْحُدُودِ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ في الْحَقِيقَةِ مَبْنِيَّةٌ على ما قَبْلَهَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يُمْنَعُ فإن الْمَنْعَ يُشْعِرُ بِطَلَبِ الدَّلِيلِ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يُبَرْهَنُ عليه فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ وَبَيَانُ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَنَّهُ في إقَامَةِ الدَّلِيلِ عليه يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ ثُمَّ في إثْبَاتِ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَهَكَذَا إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فَيَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أو التَّسَلْسُلُ وَهُمَا بَاطِلَانِ وقال أبو الْعَبَّاسِ بن تَيْمِيَّةَ يَجُوزُ مَنْعُ الْحَدِّ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَجَازَ أَنْ يُصَادَمَ بِالْمَنْعِ كَغَيْرِهِ من الدَّعَاوَى وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فإن مَرْجِعَ الْمَنْعِ طَلَبُ الْبُرْهَانِ وهو لَا يُمْكِنُ على ما قَرَّرُوهُ وَلَيْسَ كُلُّ دَعْوَى تُصَادَمُ بِالْمَنْعِ بِدَلِيلِ الْأَوَّلِيَّاتِ فإن الْكَلَامَ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا ولم يُسْمَعْ مَنْعُهَا وقال الْجَاجَرْمِيُّ في رِسَالَتِهِ إنَّ هذا يَنْشَأُ عن حَدِّ الْحَدِّ ما هو حتى يُنْظَرَ فيه أَنَّهُ هل يُمْنَعُ أَمْ لَا وَالْحَدُّ قد يَكُونُ حَقِيقِيًّا وقد يَكُونُ رَسْمِيًّا الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ وَالْحَدُّ الرَّسْمِيُّ فَنَقُولُ الْحَادُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هذا اللَّفْظَ وهو قَوْلُنَا إنْسَانٌ مَوْضُوعٌ لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ أو يَدَّعِيَ أَنَّ ذَاتَ الْإِنْسَانِ مَحْكُومٌ عليها بِالْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ أو يُرِيدَ بِقَوْلِهِ من الْإِنْسَانِ إنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ الْإِشَارَةَ إلَى هذه الْمَاهِيَّةِ الْمُتَصَوَّرَةِ من غَيْرِ حُكْمٍ عليها بِنَفْيٍ أو إثْبَاتٍ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَلِمَاذَا لَا يُمْنَعُ وما الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الدَّعَاوَى لِأَنَّهُ في إقَامَةِ الدَّلِيلِ على كل مُقَدِّمَةٍ يَفْتَقِرُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَدُورُ وَلَا يَتَسَلْسَلُ بَلْ يَنْتَهِي إلَى مُقَدِّمَةٍ أَوَّلِيَّةٍ أو قَطْعِيَّةٍ

وَكَذَا هُنَا قال وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ ما ذَكَرْنَا إجْمَاعُ النُّظَّارِ على النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ على الْحَدِّ وما يَتَوَجَّهُ عليه النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ يَتَوَجَّهُ عليه الْمَنْعُ لِأَنَّهُمَا مُتَأَخِّرَانِ في الرُّتْبَةِ عن الْمَنْعِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا نِزَاعَ في أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ نحو الْخَبَرِ وَلَا خَبَرَ هُنَاكَ ا هـ وَهَذَا يَنْظُرُ لِمَا سَبَقَ في طَلَبِ الْبُرْهَانِ عليه وَنَقْلُهُ الْإِجْمَاعَ على تَوْجِيهِ الْمُعَارَضَةِ أَخَذَهُ من كَلَامِ الْإِمَامِ السَّابِقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ مَنَعَ بَعْضُهُمْ الْمُعَارَضَةَ فيه قال لِأَنَّهَا تُشْعِرُ بِصِحَّةِ الْمُعَارِضِ قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ حَدَّيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ لِمَحْدُودٍ وَاحِدٍ وهو مُحَالٌ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنْ كانت في حَدٍّ رَسْمِيٍّ فَلَا نُبْطِلُهُ فإنه يَجُوزُ فيه التَّعَدُّدُ على ما سَيَأْتِي لِتَعَدُّدِ اللَّوَازِمِ وَإِنْ كانت في الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ وَقُلْنَا ليس لِشَيْءٍ حَدَّانِ ذَاتِيَّانِ فَالْمُعَارَضَةُ إبْطَالٌ وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ فَلَا إبْطَالَ فيها وَأَمَّا الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ فَلَا مَدْخَلَ لِلْمَنْعِ فيه وَلَا لِلْمُعَارَضَةِ قَطْعًا وقال الرَّشِيدُ الْحَوَارِيُّ إنَّمَا تَدْخُلُهُ الْمُعَارَضَةُ بِحَدٍّ أَرْجَحَ منه أو النَّقْضُ كما لو قِيلَ حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ على مَالٍ لِلْغَيْرِ وقال الْخَصْمُ بَلْ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ مع إزَالَةِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ فيقول هذا يَبْطُلُ بِالْغَاصِبِ من الْغَاصِبِ فإنه لم يُوجَدْ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ وَالْغَصْبُ مُحَقَّقٌ قال وقد يَتَكَايَسُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَيَقُولُ الْحَدُّ لَا يُمْنَعُ بَعْدَمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَدًّا وَلَكِنْ لِمَ قُلْت إنَّمَا ذَكَرْته حَدٌّ وَهَذَا لَا وَجْهَ له لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ الْحَدُّ لَا يُمْنَعُ أَيْ ما يُدَّعَى كَوْنُهُ حَدًّا لَا يُمْنَعُ وَإِلَّا كُلُّ ما صَحَّ كَوْنُهُ حَدًّا فَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ ثُمَّ كُلُّ دَعْوَى ادَّعَاهَا الْإِنْسَانُ وَصَحَّ أَنَّ الْأَمْرَ كما يَقُولُهُ فَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ فَلَا يَخْتَصُّ هذا بِالْحَدِّ

التَّنْبِيهُ الثَّانِي حَدُّ الشَّيْءِ بِحَدَّيْنِ فَأَكْثَرَ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ حَدَّانِ فَأَكْثَرُ وَحَكَى الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في كِتَابِهِ الْإِفَادَةِ فيه خِلَافًا وَاخْتَارَ الْجَوَازَ قال وَلَا يَمْتَنِعُ في اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ عِدَّةُ أَوْصَافٍ كُلُّ وَاحِدٍ منها يَحْصُرُهُ وَكَمَا قالوا في الْحَرَكَةِ نَقْلَةٌ وَزَوَالٌ وَذَهَابٌ في جِهَةٍ وَقَوْلُهُمْ إنَّ التَّعَدُّدَ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ وَيَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ حَقًّا مَمْنُوعٌ ا هـ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تُفِيدُ أَنَّ نِزَاعَهُمْ في الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ وَعَلَى هذا احْتِجَاجُهُ بِمَا ذُكِرَ لَا يَقْوَى لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في جَوَازِ التَّعَدُّدِ في اللَّفْظِيِّ وَالرَّسْمِيِّ وقد نَبَّهَ ابن الْحَاجِبِ على أَنَّ امْتِنَاعَ تَعَدُّدِ الْحَدَّيْنِ الذَّاتِيَّيْنِ مَبْنِيٌّ على تَفْسِيرِ الذَّاتِيِّ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الذَّاتِيِّ قبل فَهْمِهِ فإن الْقَصْدَ بِهِ فَهْمُ ذَاتِيَّاتِهِ على سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك حين فُهِمَ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا لِأَجْلِ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ وَوُجُودُ اشْتِمَالِهِ على ذلك مَانِعٌ من التَّعَدُّدِ وَسَكَتَ عَمَّا يَقْتَضِيهِ التَّعْرِيفَانِ الْأَخِيرَانِ لِلذَّاتِيِّ بَلْ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُمَا لَا يَقْتَضِيَانِ امْتِنَاعَ التَّعَدُّدِ وَمِنْهُ يُؤْخَذُ خِلَافٌ في التَّعَدُّدِ في الْحَقِيقِيِّ وقد صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِجَوَازِ التَّعَدُّدِ في الرَّسْمِيِّ وَاللَّفْظِيِّ أَمَّا اللَّفْظِيُّ فَلِأَنَّهُ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ الْأَسَامِي الْمَوْضُوعَةِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَأَمَّا الرَّسْمِيُّ فَلِأَنَّ عَوَارِضَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَلَوَازِمَهُ قد تَكْثُرُ بِخِلَافِ الْحَقِيقِيِّ فإن الذَّاتِيَّاتِ مَحْصُورَةٌ فَإِنْ لم يَذْكُرْهَا لم يَكُنْ حَدًّا حَقِيقِيًّا وَإِنْ ذَكَرَ مَعَهَا زِيَادَةً فَهِيَ حَشْوٌ فَإِذَنْ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ لَا يَتَعَدَّدُ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ الْفَصْلُ هل هو عِلَّةٌ لِوُجُودِ الْجِنْسِ ؟ اخْتَلَفُوا أَنَّ الْفَصْلَ هل هو عِلَّةٌ لِوُجُودِ الْجِنْسِ فقال ابن سِينَا وَغَيْرُهُ نعم لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ جِنْسٍ مُجَرَّدٍ عن الْفُصُولِ كَالْحَيَوَانِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَخَالَفَهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ من ذَاتٍ وَصِفَةٍ أَخَصُّ منها كَالْحَيَوَانِ الْكَاتِبِ يَكُونُ الذَّاتُ جِنْسَهَا وَالصِّفَةُ فَصْلَهَا مع امْتِنَاعِ كَوْنِ الصِّفَةِ عِلَّةً

لِلذَّاتِ لِتَأَخُّرِهَا عنها وَهَذَا يُعَكِّرُ عليه أَنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ اعْتِبَارِيَّةٌ وَالْكَلَامُ في الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَيَتَفَرَّعُ على الْعِلَّةِ أَحْكَامٌ منها أَنَّ الْفَصْلَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّوْعِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ جِنْسًا له بِاعْتِبَارٍ آخَرَ كما ظَنَّ جَمَاعَةٌ أَنَّ النَّاطِقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَصْلٌ لِلْإِنْسَانِ وَإِلَى الْمَلَكِ جِنْسٌ له وَالْحَيَوَانُ بِالْعَكْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَصْلَ لو كان جِنْسًا لَكَانَ مَعْلُولًا لِلْجِنْسِ الْمَعْلُولِ له فَيَكُونُ الْمَعْلُولُ عِلَّةً لِعِلَّتِهِ وهو مُمْتَنِعٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ لَا يُقَارِنُ إلَّا جِنْسًا وَاحِدًا فإنه لو قَارَنَ جِنْسَيْنِ في مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ حتى يَلْتَئِمَ من الْفَصْلِ وَأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ مَاهِيَّةٌ وَمِنْهُ وَمِنْ الْآخَرِ أُخْرَى لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لِمَاهِيَّةٍ وَاحِدَةٍ جِنْسَانِ في مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ يَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عن الْعِلَّةِ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْفَصْلِ في كل وَاحِدٍ من الْمَاهِيَّتَيْنِ وَعَدَمِ جِنْسِ ما لَزِمَهَا في الْأُخْرَى وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ لَا يُقَوِّمُ إلَّا نَوْعًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ امْتِنَاعُ أَنْ يُقَارِنَهُ إلَّا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ الْقَرِيبَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا فإنه لو تَعَدَّدَ لَزِمَ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ على مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالذَّاتِ وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ تَكْثِيرَ الْفُصُولِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَصْلَ لَا تَجُوزُ زِيَادَتُهُ على وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يَقُومُ لِوُجُودِ حِصَّةِ النَّوْعِ من الْجِنْسِ فَإِنْ كَفَى الْوَاحِدُ في التَّقْوِيمِ اُسْتُغْنِيَ عن الْآخَرِ وَإِلَّا لم يَكُنْ فَصْلًا وَحَيْثُ وُجِدَ في كَلَامِ الْعُلَمَاءِ تَعَدُّدُ الْفُصُولِ بِقَوْلِهِمْ فَصْلٌ ثَانٍ وَثَالِثٌ فَلَا تَحْقِيقَ في هذه الْعِبَارَةِ فإن الْمَجْمُوعَ فَصْلٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا جَعَلُوهُ فَصْلًا هو جُزْءُ الْفَصْلِ وَلَمَّا ذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى بُطْلَانِ قَاعِدَةِ الْعِلِّيَّةِ جَوَّزَ الْفُرُوعَ الثَّلَاثَةَ الْأَوَّلُ لِجَوَازِ تَرْكِيبِ الشَّيْءِ من أَمْرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ من الْآخَرِ من وَجْهٍ كَالْحَيَوَانِ وَالْأَبْيَضِ فَالْمَاهِيَّةُ إذَنْ تَرَكَّبَتْ مِنْهُمَا لِكَوْنِ الْحَيَوَانِ جِنْسًا وَالْأَبْيَضِ فَصْلًا لها بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيَوَانِ الْأَسْوَدِ وَبِالْعَكْسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمَادِ الْأَبْيَضِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جِنْسًا وَفَصْلًا وهو الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَفَصْلًا يُقَارِنُ جِنْسَيْنِ له من الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وهو الْحُكْمُ الثَّانِي الْمُسْتَلْزِمُ لِلثَّالِثِ وقال ابن وَاصِلٍ ذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ الْفَصْلَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ قد يَكُونُ جِنْسًا له وَيَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِجِنْسَيْنِ فَيَكُونُ مُقَوِّمًا لِنَوْعَيْنِ وَذَلِكَ في الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ من قَيْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ من الْآخَرِ من وَجْهٍ كَالْحَيَوَانِ الْأَبْيَضِ فإن

الْحَيَوَانَ يَصْدُقُ على الْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ وَالْأَبْيَضَ يَصْدُقُ على الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ جَعَلْت الْحَيَوَانَ جِنْسًا لِهَذِهِ الْمَاهِيَّةِ كان الْأَبْيَضُ فَصْلًا لها وَإِنْ جَعَلْت الْأَبْيَضَ جِنْسًا لها كان الْحَيَوَانُ فَصْلًا قال ابن وَاصِلٍ وَاَلَّذِي نَقُولُهُ إنَّا نَمْنَعُ أَنَّ مَاهِيَّتَهُ في نَفْسِ الْأَمْرِ تَتَأَلَّفُ عن هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ وَإِنَّمَا يَتَأَلَّفُ عنهما مَاهِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هو في الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ في الْخَارِجِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ شيئا منها يَتَرَكَّبُ مِمَّا هذا شَأْنُهُ أَقْسَامُ الْحَدِّ وَأَمَّا أَقْسَامُهُ فَحَقِيقِيٌّ وَرَسْمِيٌّ وَمِنْهُمْ من يقول ثَلَاثَةٌ وَيَزِيدُ اللَّفْظِيَّ وَعَلَيْهِ جَرَى ابن الْحَاجِبِ وما ذَكَرْنَا أَحْسَنُ لِأَنَّ الْحَدَّ نُطْقٌ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَنْطُوقِ بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ من اللَّفْظِيِّ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فَالْحَقِيقِيُّ هو ما اشْتَمَلَ على مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْخَاصَّةِ وَالرَّسْمِيُّ ما اشْتَمَلَ على عَوَارِضِهِ وَخَوَاصِّهِ اللَّازِمَةِ وَرُبَّمَا قِيلَ إنَّهُ اللَّفْظُ الشَّارِحُ لِلشَّيْءِ بِحَيْثُ يُمَيِّزُهُ عن غَيْرِهِ وهو الْمَوْجُودُ في أَكْثَرِ التَّعْرِيفَاتِ فإن الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ يَعِزُّ وُجُودُهُ كما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فَلِذَلِكَ كان الْأَكْثَرُ هو الرَّسْمِيُّ فإن الْحَقِيقِيَّ يَتَوَقَّفُ على مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ وَغَيْرِهَا وَتَرْتِيبِهَا على الْوَجْهِ الصَّحِيحِ وقد يَتَعَذَّرُ بَعْضُ ذلك وَمِنْهُمْ من يقول ليس الْحَدُّ إلَّا وَاحِدًا وهو الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا التَّعْرِيفُ بِالرَّسْمِ وَاللَّفْظِ فَلَا يُسَمَّى حَدًّا فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ فذكر الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحَدَّ يُطْلَقُ على مُسَمَّيَاتِهِ بِالِاشْتِرَاكِ كَدَلَالَةِ الْعَيْنِ على الْبَاصِرَةِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِهِمَا وَالْحَقُّ أَنَّ دَلَالَتَهُ عليها دَلَالَةُ التَّوَاطُؤِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْحَيَوَانِ على ما تَحْتَهُ من الْأَنْوَاعِ ثُمَّ الذي اصْطَلَحَ عليه الْجُمْهُورُ أَنَّ التَّعْرِيفَ إنْ كان بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَالْفَصْلِ فَهُوَ الْحَدُّ التَّامُّ وهو تَعْرِيفٌ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ كان بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ مُسَاوٍ لِلْمَاهِيَّةِ فَهُوَ الْحَدُّ النَّاقِصُ كَالتَّعْرِيفِ بِالْفَصْلِ فَقَطْ كَالنَّاطِقِ أو بِالْجِنْسِ بِالْبَعِيدِ معه كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ وَإِنْ كان التَّعْرِيفُ بِجُزْءِ الْمَاهِيَّةِ مع الْخَارِجِ عنها فَهُوَ الرَّسْمُ التَّامُّ كَالْحَيَوَانِ الضَّاحِكِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذلك الْجُزْءُ أَعَمَّ

أَمَّا لو قُلْت النَّاطِقُ الضَّاحِكُ فَالْحَدُّ هو النَّاطِقُ وَالضَّاحِكُ حِينَئِذٍ ليس من أَقْسَامِ التَّعْرِيفَاتِ وَإِنْ كان التَّعْرِيفُ بِالْخَارِجِ وَحْدَهُ فَهُوَ الرَّسْمُ النَّاقِصُ كَالضَّاحِكِ وَإِنْ كان بِتَبْدِيلِ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَجْلَى منه عِنْدَ السَّامِعِ فَهُوَ اللَّفْظِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى اللُّغَةِ وَلَيْسَ من الْحُدُودِ في شَيْءٍ وَمَنْ اشْتَرَطَ الْأَجْلَى يَعْلَمُ أَنَّ الْوَاقِعَ في كُتُبِ اللُّغَةِ من تَعْرِيفِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ بِالْآخَرِ مع اسْتِوَائِهِمَا في الشُّهْرَةِ لَا يُسَمَّى حَدًّا لَفْظِيًّا اصْطِلَاحًا كَيْفِيَّةُ تَرْكِيبِ الْحَدِّ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تَرْكِيبِهِ فَمِنْ شَيْئَيْنِ وَهُمَا مَادَّتُهُ وَصُورَتُهُ وَالْمُرَادُ بِهِمَا جِنْسُهُ وَفَصْلُهُ وَأَمَّا جِنْسُهُ فَيَقُومُ مَقَامَ مَادَّتِهِ ذلك الْمُعَيَّنُ وَأَمَّا فَصْلُهُ فَيَقُومُ مَقَامَ صُورَتِهِ ذلك الْمُعَيَّنُ كَذَا اقْتَصَرَ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ على ذِكْرِ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ولم يَتَعَرَّضَا لِلْفَاعِلِيَّةِ وَالْغَائِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وُضِعَ لِيُبَيِّنَ صُورَةَ الشَّيْءِ إذْ الصُّورَةُ إنَّمَا هِيَ كَمَالُ وُجُودِ الشَّيْءِ وَهِيَ أَشْرَفُ ما بِهِ قِوَامُهُ فَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ تُوجَدَ أَجْزَاءُ الْحَدِّ من جِهَةِ الصُّورَةِ لَا من جِهَةٍ غَيْرِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا أُوجِدَ الْحَدُّ بِجِنْسِهِ وَفَصْلِهِ صُوِّرَ الشَّيْءُ بِصُورَتِهِ التي هِيَ أَكْمَلُ من مَادَّتِهِ وَأَرَدْنَا كَمَالَ الْحَدِّ بِذِكْرِ بَاقِي أَسْبَابِ وُجُودِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُذْكَرَ في الْحَدِّ على جِهَةِ التَّبَعِ فَيَكُونُ الْحَدُّ حِينَئِذٍ كَامِلًا قد كَمُلَتْ فيه جَمِيعُ أَسْبَابِ الشَّيْءِ الدَّاخِلَةِ في ذَاتِهِ وَهُمَا مَادَّتُهُ وَصُورَتُهُ وَالْخَارِجَةُ عن ذَاتِهِ وَهُمَا فَاعِلُهُ وَغَايَتُهُ وَكَذَا قال الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى قال وَتَرْتِيبُهُ فيها على تَرْتِيبِهَا في السَّبَبِيَّةِ فَتُؤْخَذُ الصُّورَةُ أَوَّلًا التي هِيَ أَقْوَى سَبَبَيْ الشَّيْءِ الدَّاخِلَيْنِ في ذَاتِهِ ثُمَّ تُتْبَعُ بِالْمَادَّةِ ثُمَّ بِالْخَارِجَيْنِ عن ذَاتِهِ فَيَكُونُ هذا الْحَدُّ أَكْمَلَ الْحُدُودِ وَلَوْ اقْتَصَرْنَا على صُورَتِهِ لَكَفَى لَكِنَّ هذا أَكْمَلُ انْتَهَى شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَدِّ وَأَمَّا شُرُوطُ صِحَّتِهِ فَمِنْهَا ما يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَمِنْهَا ما يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى فَمِنْ الْمَعْنَوِيَّةِ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ وَهَذَا هو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ الِاطِّرَادُ وَمَانِعًا عن دُخُولِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ في الْحَدِّ وهو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ الِانْعِكَاسُ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ

وقال الْغَزَالِيُّ وابن الْحَاجِبِ الْمُطَّرِدُ هو الْمَانِعُ وَالْمُنْعَكِسُ هو الْجَامِعُ وَهَذَا هو الصَّوَابُ أَوْفَقُ لِلِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ فإن الْمَفْهُومَ من قَوْلِنَا اطَّرَدَ كَذَا أَنَّهُ وُجِدَ وَاسْتَمَرَّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطَّرْدِ الْوُجُودَ في جَمِيعِ الصُّوَرِ وَإِنَّمَا صَوَّبْنَا الثَّانِيَ لِأَنَّ مَعْنَى وَصْفِهِ بِالِاطِّرَادِ أَنَّ تَعْرِيفَهُ لِلْمَحْدُودِ مُطَّرِدٌ وَهَذَا الذي تَحَقَّقَ وَصْفُهُ بِالْحَدِّ فَالْمُرَادُ اطِّرَادُ التَّعْرِيفِ تَنْبِيهٌ هل الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ شَرْطُ الصِّحَّةِ أو دَلِيلُهَا خِلَافٌ حَكَاهُ الْأَنْبَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ فَإِنْ كان شَرْطًا لم يَلْزَمْ من وُجُودِهِ صِحَّةُ الْحَدِّ وَيَلْزَمُ من الِانْتِفَاءِ الْفَسَادُ وَإِنْ كان دَلِيلُ الصِّحَّةِ لَزِمَ من الْوُجُودِ الصِّحَّةُ ولم يَلْزَمْ من الِانْتِفَاءِ الْفَسَادُ قال وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ لِأَنَّا نَجِدُ حُدُودًا مُطَّرِدَةً وَمُنْعَكِسَةً وَلَا يَحْصُلُ منها مَقْصُودُ الْبَيَانِ وهو الْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ كَقَوْلِنَا الْعِلْمُ ما عَلِمَهُ اللَّهُ عِلْمًا فَهَذَا وَإِنْ كان يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ عُرِفَتْ صِحَّتُهُ بِاطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ فَتَجَوُّزٌ ا هـ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَجْمَعُوا على أَنَّ شَرْطَ الْحَدِّ الِاطِّرَادُ وَالِانْعِكَاسُ وما اطَّرَدَ ولم يَنْعَكِسْ جَرَى مَجْرَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أو الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَخْفَى من الْمَحْدُودِ وَلَا مُسَاوِيًا له في الْخَفَاءِ وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ بِأَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ أَوْضَحَ منه وَأَسْبَقَ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ وَأَنْ يَكُونَ شَائِعًا في جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَحْدُودِ وَلَا يَجُوزُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يَكُونُ عِلَّتَهُ في بَعْضِ الْأَحْوَالِ تَنْبِيهٌ الْخَفَاءُ هل يُعْتَبَرُ الْخَفَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَادِّ أو إلَى كل أَحَدٍ مِثَالُهُ النَّفْسُ أَخْفَى من النَّارِ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ شَخْصًا عَرَّفَ نَفْسَهُ أَجْلَى من النَّارِ فَهَلْ تُحَدُّ له النَّارُ بِأَنَّهَا جِسْمٌ كَالنَّفْسِ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ الْمَنْعُ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا على اخْتِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ لَا بُدَّ في

الْحَدِّ من التَّرْكِيبِ وَمَنَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ عن كَثِيرٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ قال وَإِلَيْهِ يَمِيلُ شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ الصَّحِيحُ جَوَازُهُ وَمَنْ مَنَعَهُ اعْتَبَرَهُ بِالْعِلَّةِ وهو فَاسِدٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَرْكِيبِ الْحَدِّ من وَصْفَيْنِ فَأَكْثَرَ فَمَنَعَ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْجَمْعَ بين مَعْنَيَيْنِ في حَدٍّ وَاحِدٍ إذَا أَمْكَنَ إفْرَادُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عن الْآخَرِ وَلِهَذَا اخْتَارَ في حَدِّ الْجِسْمِ أَنَّهُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ الْعَمِيقُ وَاخْتَارَ الْبَاقُونَ من أَصْحَابِنَا تَرْكِيبَ الْحَدِّ من وَصْفَيْنِ وَأَكْثَرَ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَزَعَمَتْ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا من جِنْسٍ وَفَصْلٍ وَزَعَمُوا أَنَّ ما اطَّرَدَ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَانْعَكَسَ فَهُوَ رَسْمٌ لَا حَدٌّ وَلِهَذَا قالوا إنَّ قَوْلَنَا الْإِنْسَانُ هو الضَّاحِكُ رَسْمٌ وَقَوْلُهُمْ الْإِنْسَانُ حَيٌّ نَاطِقٌ مَائِتٌ حَدٌّ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ من جِنْسٍ وَفَصْلٍ انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّهُ ليس الْمُرَادُ بِمَنْعِ التَّرْكِيبِ تَكْلِيفَ الْمَسْئُولِ أَنْ يَأْتِيَ في حَدِّ ما يُسْأَلُ عنه بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ إذْ الْمَقْصُودُ اتِّحَادُ الْمَعْنَى بِدُونِ اللَّفْظِ وَالْعِبَارَاتُ لَا تُقْصَدُ لِأَنْفُسِهَا وَلَيْسَتْ هِيَ حُدُودًا بَلْ مُنْبِئَةٌ عن الْحُدُودِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَنَّ خِلَافَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمَنْطِقِيِّينَ في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وقال الْمُقْتَرِحُ لم يَتَوَارَدْ كَلَامُهُمَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ بَلْ الْمُرَادَانِ مُتَغَايِرَانِ فَمُرَادُ الْمَنْطِقِيِّينَ بِالتَّرْكِيبِ هو الْمُرَكَّبُ من جِنْسٍ وَفَصْلٍ وهو صَحِيحٌ في الْحَدِّ وَالتَّرْكِيبُ الذي أَرَادَهُ الْأُصُولِيُّونَ هو تَدَاخُلُ الْحَقَائِقِ وهو مُبْطِلٌ لِلْمَحْدُودِ مِثَالُهُ إذَا حُدَّ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ الذي يَصِحُّ من الْمُتَّصِفِ بِهِ إحْكَامُ الْفِعْلِ وَإِتْقَانُهُ فَيُقَالُ هذا فيه تَرْكِيبٌ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فيه الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ فَتَكُونُ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ عِلْمًا وَلِأَنَّهُ إنْ كانت الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ دَاخِلَتَيْنِ في الْعِلْمِ لَزِمَ التَّرْكِيبُ الْمُفْسِدُ لِلْحَدِّ وَإِنْ كَانَتَا خَارِجَتَيْنِ عن الْعِلْمِ فَالْعِلْمُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَصِحُّ بِهِ الْإِحْكَامُ لِأَنَّ الْعَالِمَ الْعَاجِزَ لَا يُتَصَوَّرُ منه الْإِحْكَامُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ

فَرْعٌ التَّحْدِيدُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْسِيمِ قال الْأُسْتَاذُ اخْتَلَفُوا في التَّحْدِيدِ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْسِيمِ فَالْمَانِعُونَ من تَرْكِيبِ الْحَدِّ مَنَعُوهُ وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ من أَجَازَ التَّرْكِيبَ نحو الْخَبَرُ ما كان صِدْقًا أو كَذِبًا وَحَقِيقَةُ الْوُجُودِ ما كان قَدِيمًا أو مُحْدَثًا وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ في أَنَّ التَّقْسِيمَ في الْحَدِّ هل يُفْسِدُهُ أَحَدُهَا نعم لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عنه بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَالتَّقْسِيمُ يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ لِأَنَّ حَرْفَ أو لِلتَّرَدُّدِ وهو مُنَافٍ لِلتَّعْرِيفِ وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا وَلَا تَرَدُّدَ فيه وَالثَّالِثُ وَصَحَّحَهُ إنْ كان التَّقْسِيمُ من نَفْسِ الْحَدِّ أَفْسَدَهُ وَإِنْ كان خَارِجًا عنه لِمَقْصُودِ الْبَيَانِ لم يُفْسِدْهُ قال وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّقْسِيمُ من نَفْسِ الْحَدِّ إذَا كان بِحَيْثُ إذَا أُسْقِطَ من الْحَدِّ وَرَدَ عليه ما يُبْطِلُهُ وَمِنْهَا قالوا لَا يَجُوزُ أَنْ تُصَدَّرَ الْحُدُودُ بِلَفْظَةِ كُلٍّ هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وكان مَقْصُودُهُمْ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ أَيْ كل وَاحِدٍ لِأَنَّ الْحَدَّ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِكُلِّ فَرْدٍ فَيَكُونُ حَدًّا وَاحِدًا لِأَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ صَادِقًا على كُلٍّ منها مِثَالُهُ الْإِنْسَانُ كُلُّ حَيَوَانٍ نَاطِقٌ بِاعْتِبَارِ كل وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْحَدُّ مَنْطِقِيًّا على كل فَرْدٍ فَيَكُونُ حَدًّا وَاحِدًا صَادِقًا على ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وهو بَاطِلٌ لِأَنَّك تَكُونُ حَكَمْت على زَيْدٍ مَثَلًا بِأَنَّهُ كُلُّ حَيَوَانٍ نَاطِقٌ وَغَيْرُهُ يُشَارِكُهُ في ذلك فَيَكُونُ غير مَانِعٍ وَيَجِبُ تَنْزِيلُ إطْلَاقِهِمْ الْمَنْعَ على هذا أَمَّا بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعِيِّ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظِ كُلٍّ في الْحُدُودِ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ حِينَئِذٍ الْمَاهِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ من أَجْزَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُرَادَةٍ بِلَفْظِ كُلٍّ وَالْحَدُّ لِمَجْمُوعِهَا إذْ لَا مَانِعَ أَنْ تُحِدَّ شيئا وَاحِدًا مُرَكَّبًا من أَجْزَاءٍ خَارِجِيَّةٍ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عن بَعْضٍ وَذَلِكَ كَثِيرٌ وَمِنْ هَاهُنَا يَظْهَرُ أَنَّ الْكُلِّيَّ لَا يَجُوزُ تَصْدِيرُ حَدِّهِ بِلَفْظَةِ كُلٍّ لِأَنَّ الْحَدَّ فيه ليس بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وكل مَوْضُوعُهَا كُلِّيَّةٌ وَمِنْ اللَّفْظِيَّةِ تَوَقِّي الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ الْوَحْشِيَّةِ وَالِاشْتِرَاكِ والإجمال وَالتَّكْرَارِ وَالْمَجَازِ غَيْرِ الشَّائِعِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ لِبُعْدِ الْبَيَانِ فَإِنْ اقْتَرَنَتْ قَرِينَةُ مَعْرِفَةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ

قال الْأَنْبَارِيُّ وَالصَّحِيحُ الْقَبُولُ وَالْأَحْسَنُ التَّرْكُ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ كان اللَّفْظُ نَصًّا فَهُوَ أَحْسَنُ ما يُسْتَعْمَلُ في الْحُدُودِ وَكَذَا إنْ كان ظَاهِرًا وَاحْتِمَالُهُ بَعِيدٌ فَإِنْ كان مُشْتَرَكًا أو مُلْتَبِسًا فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ مُجَرَّدًا عن الْقَرِينَةِ بِحَالٍ وَاخْتَلَفُوا في صِحَّتِهِ مع الْقَرِينَةِ الْمَقَالِيَّةِ كَقَوْلِنَا الْعِلْمُ الثِّقَةُ بِالْمَعْلُومِ فإن الثِّقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بين الْأَمَانَةِ وَالْعِلْمِ لَكِنَّ ذِكْرَ الْمَعْلُومِ يَقْطَعُ ذلك الِاشْتِرَاكَ وَيُبَيِّنُ مَقْصُودَ الْمُتَكَلِّمِ منه وَهَلْ يَكُونُ اقْتِرَانُ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ بين الْمُتَخَاطِبِينَ يَقُومُ مَقَامَ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ هذا أَيْضًا مُخْتَلَفٌ فيه ا هـ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ اخْتَلَفُوا في التَّحْدِيدِ بِالْمَجَازِ فَأَجَازَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَصْفِ اللَّازِمِ وَالْمَجَازُ غَيْرُ لَازِمٍ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّبْيِينُ وقال الْمُقْتَرِحُ اخْتَلَفُوا في أَلْفَاظِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ هل تُسْتَعْمَلُ في الْحُدُودِ فَقِيلَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا لِمَا فيه من اللَّبْسِ عِنْدَ السَّامِعِ وَقِيلَ نعم لِأَنَّهَا تَدْخُلُ على الْجُمْلَةِ وَفَصَّلَ آخَرُونَ بين الْمُسْتَعْمَلِ الْمَشْهُورِ وَبَيْنَ ما ليس كَذَلِكَ فَإِنْ كان مَشْهُورًا اُسْتُعْمِلَ وهو رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ وَالْغَزَالِيِّ في الْمُسْتَصْفَى فقال يَجِبُ طَلَبُ النَّهْيِ ما أَمْكَنَ فَإِنْ أَعْوَزَك النَّصُّ وَافْتَقَرْت إلَى الِاسْتِعَارَةِ فَاطْلُبْ من الِاسْتِعَارَاتِ ما هو أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْغَرَضِ انْتَهَى وَيَجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِالْأَعَمِّ ثُمَّ بِالْأَخَصِّ في الْحُدُودِ التَّامَّةِ لِأَنَّ الْأَعَمَّ منها هو الْجِنْسُ فَلَا يُقَالُ مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ من الْعِنَبِ بَلْ بِالْعَكْسِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْأَخَصِّ مع الْغَفْلَةِ عن الْأَعَمِّ فإذا ذُكِرَ الْأَخَصُّ أَوَّلًا تَعَذَّرَ الْفَهْمُ حتى يُذْكَرَ الْأَعَمُّ ثُمَّ يُفْهَمُ الْأَخَصُّ فَيَتَرَاخَى الْفَهْمُ عن الذَّاكِرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ الْأَعَمُّ أَوَّلًا وَلِأَنَّ بِتَقْدِيمِ الْأَخَصِّ يَخْتَلُّ الْجُزْءُ الصُّورِيُّ من الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ تَامًّا مُشْتَمِلًا على جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ وَأَمَّا غَيْرُ التَّامِّ فَتَقْدِيمُ الْأَعْرَفِ أَوْلَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ

مَسْأَلَةٌ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ في الْحَدِّ وَلَا خِلَافَ كما قَالَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَنَّ النُّقْصَانَ في الْحَدِّ زِيَادَةٌ في الْمَحْدُودِ وَاخْتَلَفُوا في الزِّيَادَةِ فيه فقالت الْأَوَائِلُ وَكَثِيرٌ من الْأُصُولِيِّينَ إنَّهُ نُقْصَانٌ في الْمَحْدُودِ أَيْضًا وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنْ كان جُزْءًا منه فَكَذَلِكَ كَحَدِّهِمْ الْجَوْهَرَ بِالْمُتَلَوِّنِ بِالسَّوَادِ لِأَنَّ السَّوَادَ جُزْءٌ من اللَّوْنِ وَلَوْ طَرَحَ هذه الزِّيَادَةَ وقال الْجَوْهَرُ هو الْمُتَلَوِّنُ لَكَانَ حَدُّهُ أَعَمَّ وَأَوْضَحَ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عِنْدِي أَنَّ الزِّيَادَةَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا نَقْصٌ من الْمَحْدُودِ كَقَوْلِنَا في الْحَرَكَةِ إنَّهَا نَقْلَةٌ إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ أو الشِّمَالِ وَهَذَا يُخْرِجُ كُلَّ نَقْلَةٍ لَا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ عن أَنْ تَكُونَ حَرَكَةً وَالثَّانِي لَا يَنْقُصُ بَلْ يَكُونُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءً كَقَوْلِنَا في الْحَرَكَةِ إنَّهَا فِعْلُ نَقْلَةٍ أو عَرْضُ نَقْلَةٍ فَائِدَةٌ إعْرَابُ الصِّفَاتِ في الْحُدُودِ كان بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يقول إنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ في الْحُدُودِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْرَبَ أَخْبَارًا ثَوَانِيَ بَلْ يَتَعَيَّنُ إعْرَابُهَا صِفَةً لِمَا يَلْزَمُ على الْأَوَّلِ من اسْتِقْلَالِ كل خَبَرٍ بِالْحَدِّ وَمِنْ هُنَا مَنَعَ جَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونَ حُلْوٌ حَامِضٌ خَبَرَيْنِ وَأَوْجَبَ الْأَخْفَشُ أَنْ يُعْرَبَ حَامِضٌ صِفَةً وَالْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَبَرٌ لَا يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بمثله في نَحْوِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ لِأَنَّ حُلْوٌ حَامِضٌ ضِدَّانِ فَالْعَقْلُ يَصْرِفُ عن تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَا مَقْصُودَيْنِ بِالذَّاتِ وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قُصِدَ مَعْنَاهُ فَلَا تُوقِعُ في الْغَلَطِ بِخِلَافِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ليس في اللَّفْظِ وَلَا في الْعَقْلِ إذَا كَانَا خَبَرَيْنِ ما يَصْرِفُ كُلًّا مِنْهُمَا عن الِاسْتِقْلَالِ وَلِأَمْرٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ من حُلْوٍ حَامِضٍ كَالْخَبَرِ الثَّانِي ليس له حُكْمٌ بِالْكُلِّيَّةِ حتى نُقِلَ عن الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ ضَمِيرًا وما شَأْنُهُ ذلك لَا يَدْخُلُ في الْحُدُودِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من حَيَوَانٍ وَنَاطِقٍ مَثَلًا مَقْصُودٌ وَحْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ

دخل بِالْجِنْسِ كَذَا ثُمَّ خَرَجَ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَذَا ثُمَّ بِالْفَصْلِ الثَّانِي كَذَا فَقَدْ جَعَلْت لِكُلٍّ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَأْنُ حُلْوٍ حَامِضٍ فلم يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ فَيَفْسُدُ الْحَدُّ أو يَكُونُ الثَّانِي صِفَةً وهو الْمُدَّعَى فَلْيُتَأَمَّلْ ذلك الْقِسْمَةُ وَعِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالتَّقْسِيمِ إلَى دَرْكِ الْحَقِيقَةِ كَالْحَدِّ وَسَبَقَ عن الْأُسْتَاذِ حِكَايَةُ الْخِلَافِ فيه بِنَاءً على الْخِلَافِ في جَوَازِ التَّرْكِيبِ في الْحَدِّ وَالنَّظَرِ في حَدِّهَا وَأَنْوَاعِهَا وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا أَمَّا حَدُّهَا فَتَكْثِيرُ الْوَاحِدِ تَقْدِيرًا وَهِيَ نَوْعَانِ قِسْمَةُ تَمْيِيزٍ وَقِسْمَةُ ثَوَابِتَ وَالثَّوَابِتُ ما عَادَ الْمُسْتَدْعَى منها إلَى الِاشْتِرَاكِ في مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَالتَّمْيِيزُ بِعَكْسِهِ وقد بَلَّغَهَا الْقُدَمَاءُ إلَى أَنْوَاعٍ ثَمَانِيَةٍ الْأَوَّلُ قِسْمَةُ الْجِنْسِ إلَى الْأَنْوَاعِ كَقِسْمَةِ الْحَادِثِ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَقِسْمَةِ الْعَرَضِ في الِاصْطِلَاحَاتِ إلَى أَنْوَاعِهِ وَكَتَقْسِيمِ الْكَلِمَةِ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ وَتَقْسِيمِ الْفُرْقَةِ عن النِّكَاحِ إلَى طَلَاقٍ وَفَسْخٍ وَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إلَى فَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ الثَّانِي قِسْمَةُ النَّوْعِ إلَى الْأَشْخَاصِ كَقِسْمَةِ السَّوَادِ إلَى سَوَادِ الْقَارِ وَسَوَادِ الزِّنْجِيِّ الثَّالِثُ قِسْمَةُ الْكُلِّ إلَى الْأَجْزَاءِ كَقِسْمَةِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ وَإِلَى الرَّأْسِ وَالْيَدِ الرَّابِعُ قِسْمَةُ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ إلَى مَعَانِيهِ الْمُخْتَلِفَةِ الْخَامِسُ قِسْمَةُ الْجَوْهَرِ إلَى الْأَعْرَاضِ كَقَوْلِهِمْ الْجِسْمُ منه أَحْمَرُ وَأَسْوَدُ السَّادِسُ قِسْمَةُ الْعَرَضِ إلَى الْجَوَاهِرِ كَقَوْلِهِمْ الْأَبْيَضُ إمَّا ثَلْجٌ أو قُطْنٌ السَّابِعُ قِسْمَةُ الْعَرَضِ إلَى أَعْرَاضٍ كَقَوْلِهِمْ الْخَلْقُ يَنْقَسِمُ إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ قالوا وَإِلَى هذه الْجِهَاتِ يَنْقَسِمُ كُلُّ مُنْقَسِمٍ وَفِيمَا ذَكَرُوهُ ضَرْبٌ من التَّدَاخُلِ الثَّامِنُ قِسْمَةُ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ

شُرُوطُ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ وَأَمَّا شُرُوطُ صِحَّتِهَا فَعَدَمُ التَّدَاخُلِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّنَافُرِ فَالتَّدَاخُلُ كَقَوْلِك الْجَوْهَرُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَقُومَ بِهِ لَوْنٌ أو سَوَادٌ وَالتَّنَافُرُ قد يَكُونُ في الْمَعْنَى فَهُوَ كَالزِّيَادَةِ كَقَوْلِك الْكَوْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَرَكَةً أو سُكُونًا أو سَوَادًا فَإِنَّك أَدْخَلْت في جِنْسِ الْكَوْنِ نَوْعًا من أَنْوَاعِ اللَّوْنِ فَتَنَافُرُ جِنْسِهِ من حَيْثُ لم يَكُنْ نَوْعًا له وَيَرْجِعُ إلَى الزِّيَادَةِ وقد يَكُونُ في نَظْمِ الْكَلَامِ وَصِفَتِهِ كَقَوْلِك لَا يَخْلُو اللَّوْنُ الْقَائِمُ بِالْجَوْهَرِ من أَنْ يَكُونَ سُكُونًا أو يَكُونَ الْجَوْهَرُ مُتَحَرِّكًا مَسْأَلَةٌ تَوَقُّفُ الْمَطْلُوبِ التَّصْدِيقِيِّ على مُقَدِّمَتَيْنِ يَتَوَقَّفُ الْمَطْلُوبُ التَّصْدِيقِيِّ على مُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا وَلَا النُّقْصَانُ عنهما وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ قالوا وَهُمَا كَالشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ قالوا وَالْمُقَدِّمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُنْتِجُ كما لَا يُنْتِجُ ذَكَرٌ دُونَ أُنْثَى وَلَا عَكْسُهُ وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّتِيجَةُ بِازْدِوَاجِ مُقَدِّمَتَيْنِ وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ يَصِحُّ إنْتَاجُ الْمُقَدِّمَةِ الْوَاحِدَةِ وقد اُسْتُنْكِرَ عليه إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كانت مَشْهُورَةً وَيَكُونُ حَذْفُهَا إذْ ذَاكَ من الدَّلِيلِ اخْتِصَارًا لَا اقْتِصَارًا وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه وَهَذَا كما لو اسْتَدْلَلْنَا على وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا الزَّكَاةَ فإنه مُتَوَقِّفٌ على مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَحُذِفَتْ هذه اخْتِصَارًا وَلِهَذَا يُسَمَّى بِالْمُضْمَرِ قالوا وَإِنَّمَا تُحْذَفُ لِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ إمَّا الِاخْتِصَارُ وَإِمَّا أَنَّهُ لو صُرِّحَ بها لَمَنَعَهَا الْخَصْمُ كَقَوْلِنَا النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ فَلَوْ صُرِّحَ بِالْكُبْرَى وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ لَمَنَعَهَا الْخَصْمُ وَإِمَّا لِأَنَّهَا كَاذِبَةٌ فَتُضْمَرُ لِئَلَّا يَظْهَرَ كَذِبُهَا فَيَكُونَ إخْفَاؤُهَا أَرْوَجَ لِلْمُغَالَطَةِ هذا إذَا كان الْمَحْذُوفُ الْكُبْرَى فَإِنْ حُذِفَتْ الصُّغْرَى سُمِّيَ قِيَاسَ الرَّمْيِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَحُذِفَتْ الْمُقَدِّمَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ النَّاطِقَةُ بِرَفْعِ الثَّانِي وَهِيَ

لَكِنَّهُمَا لم تَفْسُدَا إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فَحُذِفَ منه وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لم يَبْتَغُوا مَسْأَلَةٌ الْمَوْضُوعُ وَالْمَحْمُولُ وَكُلٌّ من الْمُقَدِّمَتَيْنِ يَنْقَسِمُ إلَى مَوْضُوعٍ وَمَحْمُولٍ أَيْ مَحْكُومٍ عليه وَمَحْكُومٍ بِهِ قالوا وَالنُّحَاةُ يُسَمُّونَهُمَا الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ قال الْمَنْطِقِيُّونَ وَلَا بُدَّ من نِسْبَةِ تَوَسُّطٍ بين الْمَحْمُولِ وَالْمَوْضُوعِ وَإِلَّا لم تَكُنْ قَضِيَّةٌ وَاللَّفْظُ الدَّالُّ على هذه النِّسْبَةِ يُسَمَّى رَابِطَةً فَإِنْ صُرِّحَ بها كَقَوْلِنَا زَيْدٌ هو كَاتِبٌ سُمِّيَتْ ثُلَاثِيَّةً وَإِنْ أُسْقِطَتْ اعْتِمَادًا على فَهْمِ الْمَعْنَى نحو زَيْدٌ كَاتِبٌ سُمِّيَتْ ثُنَائِيَّةً وَهِيَ الرَّابِطَةُ من جُمْلَةِ الْأَدَوَاتِ في غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَمَّا لُغَةُ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ من يَجْعَلُهَا أَدَاةً وَمِنْهُمْ من يَجْعَلُهَا اسْمًا على ما عُرِفَ من الْخِلَافِ بين النَّحْوِيِّينَ في ضَمِيرِ الْفَصْلِ وقد رَدَّ السُّهَيْلِيُّ في نَتَائِجِ الْفِكْرِ قَوْلَ الْمَنَاطِقَةِ في هذا بِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ على أَنَّ الْخَبَرَ إذَا كان اسْمًا مُفْرَدًا جَامِدًا لم يَحْتَجْ إلَى رَابِطَةٍ تَرْبِطُهُ بِالْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُسْنَدٌ إلَيْهِ من حَيْثُ كان لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ كما زَعَمَ الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الرَّابِطَ بَيْنَهُمَا لَا بُدَّ منه مُظْهَرًا أو مُضْمَرًا قال وَكَيْفَ يَكُونُ مُضْمَرًا وَيَدُلُّ على ارْتِبَاطٍ أو غَيْرِهِ وَالْمُخَاطَبُ لَا يَسْتَدِلُّ إلَّا بِلَفْظٍ يَسْمَعُهُ لَا بِشَيْءٍ يُضْمِرُهُ في نَفْسِهِ وَلَوْ احْتَجْنَا إلَى هو مُضْمَرَةً أو مُظْهَرَةً لَاحْتَجْنَا إلَى هو أُخْرَى يُرْبَطُ الْخَبَرُ بها وَذَلِكَ يَتَسَلْسَلُ مَسْأَلَةٌ النَّتِيجَةُ تَتْبَعُ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتُ إنْ كانت قَطْعِيَّةً أو ظَنِّيَّةً فَالنَّتِيجَةُ كَذَلِكَ وَإِنْ كان بَعْضُهَا قَطْعِيًّا وَبَعْضُهَا ظَنِّيًّا فَهِيَ ظَنِّيَّةٌ وَالنَّتِيجَةُ أَبَدًا تَتْبَعُ أَخَسَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ في الْكَمِّ وَالْكَيْفِ جميعا وقد قِيلَ إنَّ الزَّمَانَ لَتَابِعٌ لِلْأَنْذَلِ تَبَعَ النَّتِيجَةِ لِلْأَخَسِّ الْأَرْذَلِ

الْأَحْكَامُ

فَصْلٌ في الْأَحْكَامِ قال اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ أَحْسَنُ من اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقد بَيَّنَّا أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ فَلَا بُدَّ من تَعْرِيفِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ هو لُغَةً الْمَنْعُ وَالصَّرْفُ وَمِنْهُ الْحَكَمَةُ لِلْحَدِيدَةِ التي في اللِّجَامِ وَبِمَعْنَى الْإِحْكَامِ وَمِنْهُ الْحَكِيمُ في صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وفي الِاصْطِلَاحِ خِطَابُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِالِاقْتِضَاءِ أو التَّخْيِيرِ فَيَخْرُجُ الْمُتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْمُكَلَّفِ نَحْوُ وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَإِنْ كان قد تُقَابَلُ الْأَفْعَالُ بِالْأَقْوَالِ في الْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ وَقَوْلُنَا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ فيه تَجَوُّزٌ فإنه لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَعْدُومٍ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ وَالْمَعْدُومُ ليس بِفِعْلٍ حَقِيقَةً وَلَوْ اُحْتُرِزَ عنه لَقِيلَ الْمُتَعَلَّقُ بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا وَأُشِيرَ بِالتَّعَلُّقِ إلَى أَنَّ حَاصِلَ الْحُكْمِ مُجَرَّدُ التَّعَلُّقِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ له تَأْثِيرٌ في ذَاتِ الْحَاكِمِ أو الْمَحْكُومِ عليه أو فيه وَنَعْنِي بِالِاقْتِضَاءِ ما يُفْهَمُ من خِطَابِ التَّكْلِيفِ من اسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ أو التَّرْكِ وَبِالتَّخْيِيرِ التَّسْوِيَةَ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالْمُرَادُ بِأَوْ أَنَّ ما يَتَعَلَّقُ على أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ كان حُكْمًا وَإِلَّا فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ التَّرْدِيدِ في الْحَدِّ هذا إنْ قُلْنَا إنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَمَنْ لم يَرَ ذلك اسْتَغْنَى عن ذِكْرِ التَّخْيِيرِ أَمَّا تَعَلُّقُ الضَّمَانِ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ تَكْلِيفُ الْوَلِيِّ بِأَدَائِهِ من مَالِ الصَّبِيِّ وَمِنْهُمْ من قال خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لِيَدْخُلَ الصَّبِيُّ وَهَذَا نَشَأَ من الْخِلَافِ في أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِأَمْرِ الْوَلِيِّ أو بِأَمْرِ الشَّارِعِ وزاد بَعْضُهُمْ في الْحَدِّ التَّامِّ الْعَقْلَ لِيَخْتَصَّ بِالْمُمَيِّزِ وَالْخِطَابُ يُمْكِنُ معه لِفَهْمِهِ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ في حَقِّهِ التَّكْلِيفُ وَعَبَّرَ ابن بَرْهَانٍ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَانْفَصَلَ عن سُؤَالِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخِطَابِ الْوَضْعِ في حَقِّ غَيْرِ الْإِنْسَانِ من الْبَهَائِمِ قال لِأَنَّ ذلك يُنْسَبُ إلَى تَفْرِيطِ الْمَالِكِ في حِفْظِهَا حتى لو قَصَدَ التَّفْرِيطَ لم يَكُنْ لِفِعْلِهَا حُكْمٌ وَهَذَا لَا يُفِيدُهُ بَلْ السُّؤَالُ بَاقٍ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُعْتَبَرٌ في التَّضْمِينِ إمَّا بِكَوْنِهِ شَرْطًا وَإِمَّا سَبَبًا وَالشَّرْطِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَوْلَا فِعْلُهَا إمَّا مُضَافًا وَإِمَّا مُسْتَقِلًّا لم يَجِبْ الضَّمَانُ

أو نَقُولُ هو عِلَّةٌ بِدَلِيلِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ معه وُجُودًا وَعَدَمًا لَا يُقَالُ الْخِطَابُ قَدِيمٌ فَكَيْفَ يُعْرَفُ الْحُكْمُ الْحَادِثُ لِأَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ الْحُكْمِ حَادِثًا وَقَوْلُ الرَّازِيَّ هُنَا إنَّ الْحَادِثَ هو التَّعَلُّقُ فيه نَظَرٌ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَتَوَقَّفُ على وُجُودِ الْمُنْتَسِبِينَ فَيَلْزَمُ حُدُوثُ الْحُكْمِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذلك في الذِّهْنِ لَا في الْخَارِجِ فَلَا يَلْزَمُ حُدُوثُهُ وَلِأَنَّ النِّسْبَةَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يُوصَفُ بِحُدُوثٍ وَلَا عَدَمٍ وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ في الْوَسِيطِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ بِأَنَّ التَّعَلُّقَ قَدِيمٌ وَبِهِ جَزَمَ الرَّازِيَّ في كِتَابِ الْقِيَاسِ في الْمَحْصُولِ فَحَصَلَ في الْمُتَعَلَّقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قَدِيمٌ حَادِثٌ لَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لِلتَّعْلِيقِ اعْتِبَارَيْنِ أَحَدُهُمَا قِيَامُ الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ بِالذَّاتِ وهو قَدِيمٌ وَالثَّانِي تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ وهو الْحَادِثُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْقَى خِلَافٌ وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ التَّعَلُّقِ يُلَائِمُ قَوْلَ من يقول إنَّ اللَّهَ ليس آمِرًا في الْأَزَلِ وهو الْقَلَانِسِيُّ وأبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ يَأْبَاهُ تَنْبِيهٌ تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ عُلِمَ من تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في بَابِ الْمُجْمَلِ أَنَّ نحو حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَنَّهُ من بَابِ الْحَذْفِ بِقَرِينَةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ وَلَكِنَّ هذا ليس مُتَّفَقًا عليه فَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ كما يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ وَمَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ خُرُوجُهَا من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كما أَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ خُرُوجٌ من الْأَعْيَانِ شَرْعًا وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ إذَا أُضِيفَا إلَى الْأَعْيَانِ فَهِيَ أَوْصَافٌ لها كما تَكُونُ أَوْصَافًا لِلْأَفْعَالِ في قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ قال وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إضَافَةَ التَّحْرِيمِ إلَى الْأَعْيَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ نِسْبَةُ خَلْقِ

الْقَبِيحِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً على أَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ قَبِيحٌ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ منهم أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مَعًا إذَا كان لِمَعْنًى في الْعَيْنِ أُضِيفَ إلَيْهَا لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ كما يُقَالُ جَرَى الْمِيزَابُ وقال حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِمَعْنًى فيها وَلَا يُقَالُ حَرُمَتْ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا احْتِرَامُ الْمَالِكِ فَحَصَلَ في تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْأَعْيَانِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ وَذِكْرُ هذه الْمَسْأَلَةِ هُنَا من الْغَرَائِبِ وَذَكَرَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَنَّ الشَّيْءَ قد يُوصَفُ بِمَا يَعُودُ إلَى نَفْسِ الذَّاتِ أو صِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ أو مَعْنَوِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِالذَّاتِ أو صِفَةٍ تُعَلَّقُ لَا يَرْجِعُ منها شَيْءٌ إلَى الذَّاتِ وقد اُخْتُلِفَ في الْأَحْكَامِ هل يَكْتَسِبُ بها الذَّوَاتُ صِفَةً أَمْ لَا الْجُمْهُورُ على أنها من صِفَاتِ التَّعَلُّقِ فإذا قِيلَ هذا نَجِسٌ فَلَيْسَ النَّجَاسَةُ وَلَا كَوْنُهُ نَجِسًا رَاجِعًا إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى صِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ أو مَعْنَوِيَّةٍ لِلذَّاتِ بَلْ هِيَ حَالَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ على حَدٍّ سَوَاءٍ لم يُفِدْ هذا الْحُكْمُ صِفَةً زَائِدَةً قَائِمَةً بها لِأَجْلِ الْحُكْمِ وَمَعْنَى النَّجَاسَةِ تَعَلُّقُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّهَا مُجْتَنَبَةٌ في الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ وَكَذَا قَوْلُنَا شُرْبُ الْخَمْرِ حَرَامٌ ليس الْمُرَادُ تَجَرُّعَهَا وَحَرَكَاتُ الشَّارِبِ وَإِنَّمَا التَّحْرِيمُ رَاجِعٌ إلَى تَعَلُّقِ قَوْلِ اللَّهِ في النَّهْيِ عن شُرْبِهَا وقد تَحَقَّقَ في عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ صِفَاتِ التَّعَلُّقِ لَا تَقْتَضِي إفَادَةَ وَصْفٍ عَائِدٍ إلَى الذَّاتِ وَهَذَا كَمَنْ عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا قَاعِدٌ بين يَدَيْهِ فإن عِلْمَهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِزَيْدٍ لم يُغَيِّرْ من صِفَاتِ زَيْدٍ شيئا وَلَا حَدَثَتْ لِزَيْدٍ صِفَةٌ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى اسْتِفَادَةِ الذَّوَاتِ من الْأَحْكَامِ فَائِدَةً وَرَأَوْا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالْوُجُوبَ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ وَقَدَّرُوهُ وَصْفًا ذَاتِيًّا قال الْقَاضِي وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِضَرْبٍ من الْجَهْلِ وهو أَنَّهُ لو تُوُهِّمَ عَدَمُ الْفِعْلِ لَعُدِمَتْ أَحْكَامُهُ بِأَسْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحْكَامُهُ هِيَ هو قال وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَأَحْكَامِهَا وَأَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا هِيَ هِيَ لِأَنَّهُ لو تُصُوِّرَ عَدَمُ الْجِسْمِ لَعُدِمَتْ أَحْوَالُهُ وَأَلْوَانُهُ وَجَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عن أَفْعَالِهِ وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَنَسَبَ غَيْرُهُ هذا إلَى الْمُعْتَزِلَةِ فقال الْأَحْكَامُ تَرْجِعُ إلَى تَعَلُّقِ الْخِطَابِ وَهِيَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَهِيَ نَفْسِيَّةٌ وقال الْغَزَالِيُّ وَقَوْلُنَا الْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ تَجَوُّزٌ فإنه جَمَادٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابٌ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ تَنَاوُلُهَا

وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْحُكْمُ لَا يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْمَحْكُومِ وَلَا إلَى صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ له إنْ قُلْنَا إنَّهَا زَائِدَةٌ على الذَّاتِ أو صِفَةٌ عَرَضِيَّةٌ له وَإِنَّمَا هو تَعَلُّقُ أَمْرِ اللَّهِ بِالْمُخَاطَبِ وَهَذَا التَّعَلُّقُ مَعْقُولٌ من غَيْرِ وَصْفٍ مُحْدَثٍ لِلْمُتَعَلَّقِ بِهِ كَالْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ وإذا سَمِعْت الْفَقِيهَ يقول حَقِّي يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ثَبَتَ لِمَعْنًى في الْعَيْنِ كَالْخَمْرِ حُرِّمَتْ لِمَعْنًى فيها فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ تَابِعًا لِلْمَعْنَى فَكَانَتْ على حَالِ ما يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَإِنْ لم تَتَعَلَّقْ بها حَقِيقَةً قال وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ في الشَّرْعِ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ في مَوَاضِعَ وَمِنْ فُرُوعِهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ له في أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ قُلْت وَمِنْ فُرُوعِهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَنَحْوَهُ هل هو مُجْمَلٌ فَمَنْ قال بِإِضَافَةِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ نَفَى الْإِجْمَالَ وَمَنْ لم يَقُلْ بِهِ أَثْبَتَهُ وَعُلِمَ من تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ ليس بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ الْأَمْرُ فيه بَاقٍ على ما كان قبل الشَّرْعِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ الْخِطَابُ وهو مَفْقُودٌ فيه وقد جَمَعَ الْجَدَلِيُّونَ في هذه الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ مَسْأَلَةٌ نَفْيُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اُخْتُلِفَ في نَفْيِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَلَقًّى من خِطَابِ الشَّارِعِ وَالثَّانِي ليس بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ فيه على ما كان قبل الشَّرْعِ وَالثَّالِثُ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إلَى تَقْسِيمِهِ إلَى نَفْيِ حُكْمٍ مَسْبُوقٍ بِالْإِثْبَاتِ من الشَّرْعِ وَإِلَى تَقْرِيرٍ على النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قبل الشَّرْعِ فَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْإِثْبَاتِ وَالثَّانِي مَحْضُ تَقْرِيرٍ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فَهُوَ يُخْبِرُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُخَاطِبْنَا فيه وَكَثِيرًا ما يُخْبِرُ الشَّرْعُ عن الْحَقَائِقِ وَلَا يَكُونُ ذلك حُكْمًا شَرْعِيًّا وهو تَعَلُّقُ الْخِطَابِ وقد يُسَمَّى حُكْمًا لَا على أَنَّهُ عَلَامَةٌ على الْحُكْمِ كَقَوْلِ الشَّارِعِ لَا زَكَاةَ في الْمَعْلُوفَةِ وَنَظَائِرِهِ حَكَى هذه الْمَذَاهِبَ الْبَرَوِيُّ في الْمُقْتَرِحِ قال وَاَلَّذِي كان يَنْصُرُهُ محمد بن يحيى

تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَنَفْيِ الصَّلَاةِ السَّادِسَةِ وَنَفْيِ الزَّكَاةِ عن عَبِيدِ الْخِدْمَةِ سَوَاءٌ تَلَقَّيْنَاهُ من مَوَارِدِ النُّصُوصِ أو من مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَاحْتُجَّ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ على أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في الْبَحْثِ عن مَظَانِّ الْأَدِلَّةِ فلم يَظْفَرْ بِمَا يَدُلُّ على الْحُكْمِ فَهُوَ مُتَقَيِّدٌ بِالْقَطْعِ بِالنَّفْيِ وَالْعَمَلِ بِهِ وما ذَاكَ إلَّا لِلْإِجْمَاعِ الدَّالِّ على نَصٍّ بَلَغَهُمْ عن الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ إنَّكُمْ إذَا لم تَجِدُوا دَلِيلَ الثُّبُوتِ فَاجْزِمُوا بِالنَّفْيِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِنَا خِطَابُ الْجَزْمِ بِالنَّفْيِ فَتَوًى وَعَمَلًا وَلَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ غَيْرُ هذا وَأَيْنَ هذا من عَدَمِ الْحُكْمِ قبل الشَّرْعِ قال وَهَذَا النَّفْيُ مُمْكِنٌ تَلَقِّيهِ من النَّصِّ أو الْإِجْمَاعِ فَأَمَّا من الْقِيَاسِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ كان النَّفْيُ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي لم يَجُزْ فيه قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَإِنْ كان الْمَانِعُ طَرَأَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ جَرَى فيه جَمِيعُ الْأَقْيِسَةِ وقال شَارِحُ الْمُقْتَرَحِ أبو الْعِزِّ الْمُخْتَارُ عِنْدِي من هذه الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ ليس حُكْمًا شَرْعِيًّا لِأَنَّ الْحُكْمَ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالنَّفْيُ ليس فِعْلًا لِيَكُونَ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ حُكْمًا فَهُوَ في الْحَقِيقَةِ خَبَرٌ عن انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ وَقَوْلُنَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا وما احْتَجَّ بِهِ محمد بن يحيى مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِوُجُوبِ الْفَتْوَى بِالنَّفْيِ وهو حُكْمُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ من نَفْيِ الْحُكْمِ سَبِيلٌ فَإِنْ تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ لنا بِالنَّفْيِ مع أَنَّ النَّفْيَ ليس من فِعْلِ الْمُكَلَّفِ ليس بِسَدِيدٍ فَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ منه لَا تَخْفَى مَسْأَلَةٌ الْحُكْمُ هل هو قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ أَطْلَقَ ابن بَرْهَانٍ في كِتَابِهِ الْكَبِيرِ هُنَا أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا قَطْعِيٌّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فإنه عِنْدَهُ ظَنِّيٌّ وَبَيَّنَ مُرَادَهُ بِهِ في بَابِ الْقِيَاسِ فقال الْحُكْمُ قَطْعِيٌّ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ أو الظَّنِّيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَطْعِيٌّ ثَابِتٌ عِنْدَ الظَّنِّ لَا بِالظَّنِّ وَالْقَطْعُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ انْتَهَى يُرِيدُ أَنَّ الظَّنَّ في الشَّرْعِيَّاتِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ في الْقَطْعِيَّاتِ وَالْحُكْمُ قَطْعِيٌّ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ غَلَبَاتِ الظُّنُونِ قَطْعِيٌّ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الظَّنُّ وَمِثَالُهُ حُكْمُ الْقَاضِي بِقَوْلِ الشُّهُودِ ظَنِّيٌّ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَاجِبٌ قَطْعِيٌّ وهو حَاصِلُ كَلَامِ الْمَحْصُولِ في جَوَابِهِ عن قَوْلِهِمْ الْفِقْهُ من بَابِ الظُّنُونِ بِنَاءً

على أَنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ وما انْبَنَى على الْقَطْعِيِّ قَطْعِيٌّ لِأَنَّهُ يُبْنَى على حُصُولِ الظَّنِّ وَحُصُولُهُ وِجْدَانِيٌّ وَعَلَى أَنَّ ما غَلَبَ على الظَّنِّ فَحُكْمُ اللَّهِ فيه الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ إجْمَاعِيَّةٌ وما أُجْمِعَ عليه فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ وَاللَّازِمُ منه أَنَّهُ قَطْعِيٌّ لَكِنَّ الْحَقَّ انْقِسَامُ الْحُكْمِ إلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ من الْأَقْدَمِينَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ في كِتَابِ الْحُدُودِ وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ قال وَإِنَّمَا قالوا الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مع أَنَّ فيه ظَنِّيَّاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّ ما كان فيه من الظَّنِّيَّاتِ فَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعِلْمِيَّاتِ وقال ابن التِّلِمْسَانِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ على ما نُبَيِّنُ في بَابِ الِاجْتِهَادِ وَوُجُوبُ اعْتِقَادِ أَنَّ هذا حُكْمُ اللَّهِ أو الْفَتْوَى بِهِ أو الْقَضَاءُ غَيْرُ نَفْسِ الْحُكْمِ بِأَنَّ هذا حَلَالٌ أو حَرَامٌ أو صَحِيحٌ أو فَاسِدٌ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فيها وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ من الْأَحْكَامِ ما يَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ حَصَلَ الْعِلْمُ بِمُقْتَضَاهَا وَذَلِكَ في الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِنُصُوصٍ احْتَفَتْ بِقَرَائِنَ تَدْفَعُ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةَ عنها بِانْحِصَارِ تَعْيِينِ الْمَدْلُولِ في وَاحِدٍ وَمِنْهُ ما ثَبَتَ بِأَخْبَارِ آحَادٍ أو نُصُوصٍ لم تَعْتَضِدْ بِمَا يَدْفَعُ الِاحْتِمَالَاتِ فَتِلْكَ الْأَحْكَامُ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ قال وَهَذَا هو الْحَقُّ الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ لو كانت بِأَسْرِهَا مَعْلُومَةً لَمَا انْقَسَمَتْ الطُّرُقُ إلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَةِ وَلَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُمْ في الْمُقَدِّمَاتِ إنْ كانت عِلْمِيَّةً فَالنَّتِيجَةُ عِلْمِيَّةٌ وَإِنْ كانت ظَنِّيَّةً فَالنَّتِيجَةُ ظَنِّيَّةٌ وَإِنْ كان بَعْضُهَا عِلْمًا وَبَعْضُهَا ظَنِّيًّا فَالنَّتِيجَةُ ظَنِّيَّةٌ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّ الْأَحْكَامَ تَنْقَسِمُ إلَى مُتَوَاتِرَاتٍ وَهِيَ مَقْطُوعٌ بها وَإِلَى ما ليس كَذَلِكَ وَهِيَ مَظْنُونَةٌ وَبُرْهَانُهُ أَنَّ الظَّنَّ من الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ أَيْ لَا بُدَّ له من مَظْنُونٍ وَمُتَعَلَّقُهُ الْحُكْمُ الْمُتَعَيِّنُ أو الْأَحْكَامُ التي هِيَ غَيْرُ بَالِغَةٍ حَدَّ التَّوَاتُرِ عن صَاحِبِ الشَّرْعِ فَنُرَكِّبُ قِيَاسًا فَنَقُولُ هذه الْأَحْكَامُ أو هذا الْحُكْمُ الْمُعَيَّنُ مُتَعَلِّقُ الظَّنِّ وما هو مُتَعَلِّقُ الظَّنِّ فَهُوَ مَظْنُونٌ أو هذا الْحُكْمُ مَظْنُونٌ

ثُمَّ نَقُولُ هذه الْأَحْكَامُ مَظْنُونَةٌ وَلَا شَيْءَ من الْمَظْنُونِ بِمَعْلُومٍ فَلَا شَيْءَ من هذه الْأَحْكَامِ بِمَعْلُومٍ وَأَمَّا الدَّلِيلُ الذي ذَكَرَهُ الرَّازِيَّ فَإِنَّمَا يُنْتِجُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ مَعْلُومٌ وهو بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيًّا مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ هو الْأَحْكَامَ الْفِقْهِيَّةَ التي في أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ التي تُقَامُ عليها الْأَدِلَّةُ الْعِلْمِيَّةُ وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ هذا أَنَّا نَبْنِي هذه الْمَسْأَلَةَ على ما نَخْتَارُهُ وهو أَنَّ لِلَّهِ حُكْمًا مُعَيَّنًا في الْوَاقِعَةِ وهو مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْصُوبٌ عليه الدَّلَائِلُ فَمَنْ أَصَابَ ذلك الْحُكْمَ فَهُوَ مُصِيبٌ مُطْلَقًا وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلِلَّهِ عليه حُكْمٌ آخَرُ شَرْطُهُ عَدَمُ إدْرَاكِ ذلك الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وهو وُجُوبُ الْمَصِيرِ إلَى ما غَلَبَ على ظَنِّهِ وَهَذَا الْحُكْمُ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ يَلْزَمُ من كَوْنِ هذا مَعْلُومًا كَوْنُ الْأَوَّلِ مَعْلُومًا وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْمُخْتَارُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى في الْوَاقِعَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا طَلَبَ الْعِبَادَ أَنْ يَقِفُوا عليه بِدَلَائِلِهِ الْمَنْصُوبَةِ وَلَيْسَ هذا بِالْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فإذا لم يَقَعْ الْعُثُورُ عليه أو ظُنَّ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُهُ نَشَأَ هَاهُنَا حُكْمٌ آخَرُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وهو وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَلْيُسَمَّ هذا بِالْحُكْمِ الْفَرْعِيِّ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الرَّدُّ على أَنَّ الْأَحْكَامَ مَعْلُومَةٌ من حَيْثُ إنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ وما كان مَبْنِيًّا على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فَالْفِقْهُ مَعْلُومٌ وَقُرِّرَ كَوْنُهَا مَبْنِيَّةً على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ بِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على قِيَامِ الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ وَعَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَائِمٌ على أَنَّ الْوَاجِبَ على الْمُجْتَهِدِ اتِّبَاعُ ظَنِّهِ فَيُرَتَّبُ هذا الْحُكْمُ على مُقَدِّمَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ وَمُقَدِّمَةٍ إجْمَاعِيَّةٍ وَكِلْتَاهُمَا قَطْعِيَّتَانِ فَنَقُولُ الذي ثَبَتَ من هذا أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ قَطْعِيٌّ لِأَنَّا نَقُولُ هَكَذَا الظَّنُّ بهذا الْحُكْمِ حَاصِلٌ قَطْعًا وإذا حَصَلَ الظَّنُّ بِحُكْمٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ فيه قَطْعًا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ في هذا الْحُكْمِ قَطْعًا لَكِنَّ هذه النَّتِيجَةَ مَسْأَلَةٌ من مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ قَطْعًا

الْخِطَابُ عَرَّفَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ بِأَنَّهُ الْكَلَامُ الْمَقْصُودُ منه إفْهَامُ من هو مُتَهَيِّئٌ لِلْفَهْمِ وَعَرَّفَهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ ما يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ أَعَمُّ من أَنْ يَكُونَ من قَصَدَ إفْهَامَهُ مُتَهَيِّئًا أَمْ لَا قِيلَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِمَدْلُولِ ما يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هو النَّفْسِيُّ وَالنَّفْسِيُّ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَصْدَ الْخِطَابِ مع النَّفْسِ أو الْعَيْنِ سَوَاءٌ وفي وَصْفِ كَلَامِ اللَّهِ في الْأَزَلِ بِالْخِطَابِ خِلَافٌ الصَّحِيحُ وَبِهِ قال الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى خِطَابًا عِنْدَ وُجُودِ الْمُخَاطَبِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وهو الصَّحِيحُ وَجَزَمَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ بِالْمَنْعِ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ إلَّا من مُخَاطِبٍ وَمُخَاطَبٍ وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْحَادِثِ وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى ثُمَّ قال وَهَلْ يُسَمَّى أَمْرًا فيه خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ إذْ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ أَوْصَى أَوْلَادَهُ بِالتَّصَدُّقِ بِمَالِهِ فُلَانٌ أَمَرَ أَوْلَادَهُ بِكَذَا وَإِنْ كان بَعْضُهُمْ مُجْتَنًّا في الْبَطْنِ أو مَعْدُومًا وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ خَاطَبَهُمْ إلَّا إذَا حَضَرُوهُ وَسَمِعُوهُ انْتَهَى وَهَذَا بَنَاهُ على أَنَّ الْمَعْدُومَ يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِهِ وقال في الِاقْتِصَادِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُطْلَقُ على اللَّهِ تَعَالَى في الْأَزَلِ آمِرٌ وَنَاهٍ وَإِنْ كان لَا مَأْمُورَ هُنَاكَ كما جُوِّزَ تَسْمِيَتُهُ قَادِرًا قبل وُجُودِ الْمَقْدُورِ قال وَالْبَحْثُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إلَى اللُّغَةِ من حَيْثُ جَوَازُ الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا من جِهَةِ الْمَعْنَى فَالِاقْتِضَاءُ الْقَدِيمُ مَعْقُولٌ وَإِنْ كان سَابِقًا على وُجُودِ الْمَأْمُورِ كما في حَقِّ الْوَلَدِ خِطَابُ التَّكْلِيفِ وَخِطَابُ الْوَضْعِ خِطَابُ الشَّرْعِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا خِطَابُ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ وَمُتَعَلَّقُهُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ لِأَنَّ لَفْظَ التَّكْلِيفِ يَدُلُّ عليه وَإِطْلَاقُ التَّكْلِيفِ على الْكُلِّ مَجَازٌ من بَابِ إطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ في الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمُ

وَالنِّسْيَانُ يُؤَثِّرُ في هذا الْقِسْمِ وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ النَّاسِي بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ وَلَا بِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ الثَّانِي خِطَابُ الْوَضْعِ الذي أخبرنا أَنَّ اللَّهَ وَضَعَهُ وَيُسَمَّى خِطَابَ الْإِخْبَارِ وهو خَمْسَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْوَصْفَ الظَّاهِرَ الْمُنْضَبِطَ الْمُتَضَمِّنَ حِكْمَةَ الذي رُبِطَ بِهِ الْحُكْمُ إنْ نَاسَبَ الْحُكْمَ فَهُوَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ وَالْمُقْتَضِي وَإِنْ نَافَاهُ فَالْمَانِعُ وَتَالِيهِ الشَّرْطُ ثُمَّ الصِّحَّةُ ثُمَّ الْعَزِيمَةُ وَتُقَابِلُهَا الرُّخْصَةُ فَالْأَوَّلُ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ وَنِصَابُ الزَّكَاةِ وَالثَّانِي كَالدَّيْنِ في الزَّكَاةِ وَالْقَتْلِ في الْمِيرَاثِ وَالنَّجَاسَةِ في الصَّلَاةِ وَالثَّالِثُ كَالْحَوْلِ في الزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ في الصَّلَاةِ وَالرَّابِعُ الْحُكْمُ على الشَّيْءِ بِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَالْخَامِسُ كَحِلِّ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَسَنَتَكَلَّمُ على جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ في فَصْلِ خِطَابِ الْوَضْعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وزاد الْجِيلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ الْإِعْجَازِ وَالْقَرَافِيُّ التَّقْدِيرَاتِ وَهِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ وَبِالْعَكْسِ فَالْأَوَّلُ كَالنَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عنها تُقَدَّرُ في حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ وَالثَّانِي كَالْمِلْكِ الْمَقْدُورِ في قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِكَذَا فَيُقَدِّرُ له الْمِلْكَ حتى يَثْبُتَ وَلَاءُ الْعِتْقِ له وَيُقَدَّرُ الْمِلْكُ في دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً قبل مَوْتِهِ حتى يَصِحَّ فيها الْإِرْثُ وَتَقْدِيرُ الْمِلْكِ قُبَيْلَ الشَّهَادَةِ قال الْجِيلِيُّ ثُمَّ التَّقْدِيرُ يَنْقَسِمُ إلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ في الْمَحَلِّ يَظْهَرُ أَثَرُهَا في الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ كَتَقْدِيرِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ وَإِلَى تَقْدِيرِ أَعْيَانٍ مَحْسُوسَةٍ هِيَ في نَفْسِهَا مَعْدُومَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ في الذِّمَّةِ كَتَقْدِيرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ في الْحَيَوَانَاتِ وَالْحُكْمُ يُطْلَقُ على هذه الْجِهَاتِ كُلِّهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا اتِّفَاقًا وَافْتِرَاقًا وما وَقَعَ بِهِ الِاتِّفَاقُ إنَّمَا هو الْخِطَابُ فَقَطْ وُجُوهُ الِافْتِرَاقِ بين الْخِطَابَيْنِ وَيَفْتَرِقَانِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ التَّكْلِيفِيَّ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَالْوَضْعِيَّ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فَلَوْ أَتْلَفَتْ الدَّابَّةُ أو الصَّبِيُّ شيئا ضَمِنَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَالْوَلِيُّ في مَالِ الصَّبِيِّ الثَّانِي أَنَّ التَّكْلِيفِيَّ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْكَسْبِ بِخِلَافِ الْوَضْعِيِّ وَلِهَذَا لو قَتَلَ خَطَأً وَجَبَتْ الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ الْقَتْلُ مُكْتَسَبًا لهم فَوُجُوبُ الدِّيَةِ عليهم ليس

من بَابِ التَّكْلِيفِ لِاسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ هذا الْحَقِّ في ذِمَّتِهِمْ الثَّالِثُ أَنَّ الْوَضْعِيَّ خَاصٌّ بِمَا رُتِّبَ الْحُكْمُ فيه على وَصْفٍ أو حِكْمَةٍ إنْ جَوَّزْنَا التَّعْلِيلَ بها فَلَا يَجْرِي في الْأَحْكَامِ الْمُرْسَلَةِ الْغَيْرِ الْمُضَافَةِ إلَى الْأَوْصَافِ وَلَا في الْأَحْكَامِ التَّعَبُّدِيَّةِ التي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا وَلِهَذَا لو أَحْرَمَ ثُمَّ جُنَّ ثُمَّ قَتَلَ صَيْدًا لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ في مَالِهِ على الْأَصَحِّ وَوَجَّهَهُ ابن الصَّبَّاغِ وَالرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الصَّيْدَ على الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ من قَتْلِهِ تَعَبُّدًا فَلَا يَجِبُ إلَّا على مُكَلَّفٍ قُلْت وَبِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ من ظَنَّ أَنَّهُ من بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وقال الْأَرْجَحُ فيه الضَّمَانُ وقال النَّوَوِيُّ في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّهُ الْأَقْيَسُ وَلَيْسَ كما قال الرَّابِعُ أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ هو الْأَصْلُ وَخِطَابَ الْوَضْعِ على خِلَافِهِ فَالْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ أَوْجَبْت عَلَيْكُمْ أو حَرَّمْت وَأَمَّا جَعْلُهُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةَ عَلَمًا على الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ فَبِخِلَافِ الْأَصْلِ نعم خِطَابُ الْوَضْعِ يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ الْآيَةَ وَنَحْوِهِ من الْخِطَابَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ بِخِلَافِ خِطَابِ اللَّفْظِ فإنه لَا يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ الْوَضْعِ كما لو قال لَا يُتَوَضَّأُ إلَّا من حَدَثٍ فإن هذا خِطَابٌ لَفْظِيٌّ يُعْقَلُ تَجَرُّدُهُ عن سَبَبِ وَضْعٍ أو غَيْرِهِ وَيُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ على الْوَضْعِيِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَمِنْهُمْ من يُقَدِّمُ الْوَضْعِيَّ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ على فَهْمٍ وَتَمَكُّنٍ حَكَاهُ الْآمِدِيُّ في بَابِ التَّرَاجِيحِ الْخَامِسُ أَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يُشْتَرَطُ فيه قُدْرَةُ الْمُكَلَّفِ عليه وَلَا عِلْمُهُ فَيُورَثُ بِالسَّبَبِ وَيُطْلَقُ بِالضَّرَرِ وَإِنْ كان الْوَارِثُ وَالْمُطْلِقُ عليه غير عَالِمَيْنِ وَلَوْ أَتْلَفَ النَّائِمُ شيئا أو رَمَى إلَى صَيْدٍ في مِلْكِهِ فَأَصَابَ إنْسَانًا ضَمِنَهُ وَإِنْ لم يَعْلَمَا وَتَحِلُّ الْمَرْأَةُ بِعَقْدِ وَلِيِّهَا عليها وَتَحْرُمُ بِطَلَاقِ زَوْجِهَا وَإِنْ كانت لَا تَعْلَمُ وَيُسْتَثْنَى من عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ لَا يَجِبُ على الْمُخْطِئِ في الْقَتْلِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَحَدِّ الزِّنَى لَا يَجِبُ في الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَلَا من أُكْرِهَ على الزِّنَى لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ على الِامْتِنَاعِ

الثَّانِي الْأَسْبَابُ النَّاقِلَةُ لِلْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا يُشْتَرَطُ فيها الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فَلَوْ تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ وهو لَا يَعْلَمُ بِمُقْتَضَاهُ لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا لم يَلْزَمْهُ مُقْتَضَاهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ

على الوصف الذي يظن أنه أمارة ثم يؤمر بتعديته وهو حكم السببية ولا معنى للحكم الثابت بالأسباب إلا هذا . أ هـ . والتحقيق : أنه لا يحتاج إلى غير إثبات الحكم ؛ لأنه المقصود . فلا حاجة إلى أن يقول : لله في كل واقعة حكمان : أحداهما : نصب الشيء سببا . والثاني : إثبات الحكم ؛ إذ المقصود حاصل بإثبات الحكم فلا حاجة إلى الوضع الثاني وهو نصب الشيء سببا . وهذا كما يقول في باب القياس : عرفنا أن النص حجة ثم النص إنما كان معرفا وهذا حكم من جهة الشارع وراء ثبوت الحكم فكذلك ههنا فإنه المقصود الأعلى .

تنبيهان
التنبيه الأول : خطاب الشارع إما لفظي أو وضعي : ما ذكرناه من تقسيم الخطاب إلى تكليفي ووضعي تابعناهم فيه وفيه نظر لأن مقصود خطاب الوضع الطلب كما بينا . فالأحسن أن يقال : خطاب الشارع ما لفظي أو وضعي . أي : ثابت بالألفاظ نحو وأقيموا الصلاة ( سورة البقرة : 43 ) أو عند الأسباب كقوله : إذا زالت الشمس وجبت الظهر . فاللفظ أثبت وجوب الصلاة والوضع عين وقت وجوبها . التَّنْبِيهُ الثَّانِي اُسْتُشْكِلَ جَعْلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ جِنْسًا لِلْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وما أُلْحِقَ بِهِ من خِطَابِ الْوَضْعِ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا على نَوْعَيْنِ خَارِجِيَّيْنِ فَيَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الذي هو الْجِنْسُ صَادِقًا على خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ أو سِتَّةٍ وَالْأَنْوَاعُ مُخْتَلِفَةُ الْحَقَائِقِ جَزْمًا فَيَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ مُخْتَلِفَاتِ الْحَقَائِقِ لِنَوْعِيَّتِهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الذي هو الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الذي هو كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَاحِدَةً بَلْ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ على أَصْلِ الْأَشَاعِرَةِ وَإِنْ قِيلَ لَا أَجْعَلُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ جِنْسًا لِلْخَمْسَةِ أو السِّتَّةِ بَلْ أَجْعَلُهُ عَرَضًا عَامًّا فَفَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَرَضَ الْعَامَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا على نَوْعَيْنِ وَإِلَّا لَكَانَ خَاصَّةً فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ

فيعود الإشكال .

فصل
فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ خِطَابُ اللَّهِ وَخِطَابُ رَسُولِهِ ذَكَرَهُ أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ خِطَابُ اللَّهِ وَخِطَابُ رَسُولِهِ قال الْقَاضِي خِطَابُ اللَّهِ إذَا اتَّصَلَ بِالْخَلْقِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِلَا وَاسِطَةٍ مُوسَى عليه السَّلَامُ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ يُحَمِّلُهُمْ اللَّهُ وَحْيَهُ وَلَا طَرِيقَ إلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ إلَّا الِاضْطِرَارَ فإذا خَاطَبَ اللَّهُ عَبْدًا خَلَقَ له عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ مُخَاطِبَهُ هو اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ اللَّهَ الذي يُسْمِعُ كَلَامَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُخَالِفُ الْأَجْنَاسَ فَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ وَالْعِبَارَاتِ وَلَا تَدُلُّ عليه دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ وقال الْقَلَانِسِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بن سَعِيدٍ وَغَيْرُهُمَا من سَلَفِنَا إنَّ نَفْسَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ يَعْقُبُ الْعِلْمَ بِهِ لَا مَحَالَةَ قال الْقَاضِي وَهَذَا مِمَّا لَا أَرْتَضِيهِ وَأُجَوِّزُ سَمَاعَ اللَّهِ مع الذُّهُولِ عن كَوْنِهِ كَلَامًا لِلَّهِ وَالثَّانِي مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْمُخَاطَبِ بِوَاسِطَةٍ فَهَذَا مُرَتَّبٌ على الْعِلْمِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ أَوَّلًا وَوُجُوبِ عِصْمَتِهِ عن الْخَلْفِ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذلك بِالْمُعْجِزَةِ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ خِطَابِ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ فَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى شِفَاهٍ وَوِجَاهٍ وَإِلَى ما يُبَلَّغُ عنه فَأَمَّا ما خَاطَبَ من عَاصَرَهُ وِجَاهًا فَمِنْهُ نَصٌّ وَمِنْهُ ظَاهِرٌ وَمُجْمَلٌ وَكَذَا ما يُبَلَّغُ عنه وَالْمُجْمَلُ إنَّمَا يَتَّفِقُ في الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وما يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا في التَّكَالِيفِ أَعْنِي إذَا لم يَتَّفِقْ الِاسْتِفْسَارُ في عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَسْأَلَةٌ لَا حَاكِمَ إلَّا الشَّرْعُ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ خِطَابُ الشَّرْعِ فَلَا حَاكِمَ على الْمُكَلَّفِينَ إلَّا الشَّرْعُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ حَكَّمُوا الْعَقْلَ وقد اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ عن حِكَايَةِ مَذْهَبِهِمْ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ قالت الْمُعْتَزِلَةُ الْعَقْلُ يُوجِبُ وَلَا يَعْنُونَ هَاهُنَا إيجَابَ الْعِلَّةِ مَعْلُولَهَا أو أَنَّ الْعَقْلَ يَأْمُرُ فإن الِاقْتِضَاءَ منه غَيْرُ مَعْقُولٍ وهو عَرَضٌ وَالْأَمْرُ

يَسْتَدْعِي الرُّتْبَةَ فَإِذَنْ الْمَعْنِيُّ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ يُعْلِمُ وُجُوبَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ عليه وَالْمَعْنِيُّ بِوُجُوبِهِ عِلْمُهُ بِاقْتِرَانِ ضَرَرٍ بِتَرْكِهِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مَعْنَى الْوُجُوبِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَهَذَا منهم ادِّعَاءُ الْعِلْمِ ضَرُورَةً على وَجْهٍ يَشْتَرِكُ الْعُقَلَاءُ فيه ثُمَّ قال وقد مَالَ إلَى ما ذَكَرُوهُ طَوَائِفُ من الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ من حَيْثُ إنَّ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ نِظَامُ الْمَعِيشَةِ وَعِمَارَةُ الدُّنْيَا هو أَقْرَبُ إلَى الِاعْتِدَالِ وَحُسْنِ النِّظَامِ من الذي يَتَضَمَّنُ خَرَابَ الدُّنْيَا وَهَذَا الْمَذْهَبُ لَا شَكَّ في بُطْلَانِهِ قَطْعًا وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْعَقْلُ يَسْتَقِلُّ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ من حَيْثُ إنَّ الِاتِّبَاعَ تَمَحَّضَ نَفْعًا لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ وَالِامْتِنَاعُ من الِاتِّبَاعِ مَحْضُ ضَرَرٍ وَلَا يَتَأَتَّى ذلك إلَّا بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ على يَدِهِ لِيُصَدِّقَهُ وَهَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ من جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ من جِهَةِ أَنَّهُ لو لم يُقَدِّرْ ذلك لم تَكُنْ مَعْرِفَةُ الصِّدْقِ من جَائِزَاتِ الْعَقْلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَاَلَّذِي يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ وَنَفْعٌ مَحْضٌ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ حُكْمٌ وما يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ من عِلَّةٍ وَتَسَبُّبٍ وَالْأَدِلَّةُ على عِلَّةِ الْحُكْمِ وقال ابن بَرْهَانٍ اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ أَطْلَقُوا أَقْوَالَهُمْ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ لم يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فإن الْعَقْلَ عِبَارَةٌ عن بَعْضِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْعِلْمُ لَا يُوجِبُ الْمَعْلُومَ إيجَابَ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ وَإِنَّمَا عَنَوْا بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ يَكْشِفُ عن حُسْنِ الْحَسَنِ وَقُبْحِ الْقَبِيحِ فَعِنْدَ ذلك انْقَسَمُوا فَمِنْهُمْ من ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْحَسَنَ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَكَذَا الْقَبِيحُ وَمِنْهُمْ من صَارَ إلَى أَنْ قَبَّحَ الصِّفَةَ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُنَا قالوا إنَّ الْحَسَنَ ما حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَالْقَبِيحَ ما قَبَّحَهُ وما عَنَوْا بِهِ الْإِيجَابَ وَإِنَّمَا عَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَسَنَ هو الْمَقُولُ فيه لَا تَفْعَلْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ عِنْدَنَا لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ لَكِنْ نَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ في أَنْفُسِهَا دَالَّةٌ على مَدْلُولَاتِهَا وَمُقْتَضِيَةٌ أَحْكَامَهَا إلَّا أَنَّا لَا نَعْتَقِدُ ذلك وَالْمُعْتَزِلَةُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِلْعَقْلِ أَحْكَامًا وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الناس وقال النَّظَرُ في الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ ذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْبَرَاهِمَةُ إلَى أَنَّ الْعُقُولَ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَحْظُورِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في وَجْهِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ على الْعَقْلِ فقالت الْمُعْتَزِلَةُ هو خَاطِرٌ من قِبَلِ اللَّهِ يَدْعُوهُ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَشَرَعَ الرُّسُلُ ما قَبُحَ في الْعَقْلِ كَذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَتَسْخِيرِ الْحَيَوَانِ وَإِتْلَافِهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24