كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي

الْمَاءُ عَيْنُهُ نَجَسًا بِالْمُخَالَطَةِ لَمَا تَصَوَّرَ انْقِلَابُهُ طَاهِرًا بِالْمُكَاثَرَةِ قال وهو بَاطِلٌ فإن الْمَائِعَ اللَّطِيفَ إذَا وَقَعَتْ فيه نَجَاسَةٌ خَالَطَتْ أَجْزَاؤُهُ أَجْزَاءَهَا وَامْتَزَجَتْ بِهِ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْكُلِّ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا مَعْنَى لها إلَّا الِاجْتِنَابَ وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الِاجْتِنَابِ ثَابِتٌ في الْكُلِّ وقد وَافَقَ على حِكَايَةِ هذا الْخِلَافِ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فقال فَمِنْهُمْ من قال يَصِيرُ كُلُّهُ نَجَسًا وهو اللَّائِقُ بِمَذْهَبِنَا وَقِيلَ إنَّمَا حَرُمَ الْكُلُّ لِتَعَذُّرِ الْإِقْدَامِ على الْمُبَاحِ قال وهو يَلِيقُ بِمَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ قُلْت وهو الذي أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وما أَوْرَدَهُ ابن بَرْهَانٍ في الِاعْتِرَاضِ عليهم رَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ وُجُوبَ الِاجْتِنَابِ عِنْدَ اخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ مُتَّفَقٌ عليه وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في عِلَّةِ الِاجْتِنَابِ ما هِيَ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ اخْتَلَفُوا في اخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ فَقِيلَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ على كل حَالٍ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ النَّجَاسَةَ مُسْتَهْلَكَةً وَاخْتَلَفُوا في الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ على اسْتِهْلَاكِهَا فَمِنْهُمْ من قال هِيَ عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ وَمِنْهُمْ من قال هِيَ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ من قَدَّرَ الْكَثْرَةَ بِالْقُلَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ من قَدَّرَهَا بِغَيْرِ ذلك إذَا عَلِمْت هذا فَنَقُولُ إذَا لم يُمْكِنْ الْكَفُّ عن الْمَحْظُورِ إلَّا بِالْكَفِّ عَمَّا ليس بِمَحْظُورٍ كما إذَا اخْتَلَطَ بِالطَّاهِرِ النَّجَسُ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ يَقَعُ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ أو الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِطَ وَيَمْتَزِجَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ فَيَجِبُ الْكَفُّ عن اسْتِعْمَالِهِ وَيُحْكَمُ بِتَحْرِيمِ الْكُلِّ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا لَا يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِالْمَمْنُوعِ أَصَالَةً ذَكَرَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في أَنَّ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَإِنْ حَكَى الْخِلَافَ في كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيمِ على ما سَبَقَ أَمَّا إذَا لم يَخْتَلِطْ بِدُخُولِ أَجْزَاءِ الْبَعْضِ في الْبَعْضِ فَهُوَ على ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَجِبُ الْكَفُّ عن الْكُلِّ كَالْمَرْأَةِ التي هِيَ حَلَالٌ تَخْتَلِطُ بِالْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُطَلَّقَةُ بِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ فَيَحْرُمُ إحْدَاهَا بِالْأَصَالَةِ وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَالْمَيِّتَةُ وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ وَهِيَ الزَّوْجَةُ وَالْمُذَكَّاةُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالْأَصَالَةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ وَلَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إلَّا بِاجْتِنَابِ ما اشْتَبَهَ بِهِ وما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَقِيلَ تُبَاحُ الْمُذَكَّاةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَلَكِنْ يَجِبُ الْكَفُّ عنهما قال الْغَزَالِيُّ وَأَمَّا تَوَهُّمُ هذا من ظَنَّ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُمَا أَيْ

قَائِمٌ بِذَاتِهِمَا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفِعْلِ وَهُمَا الْإِذْنُ في الْفِعْلِ وَوُجُوبُ الْكَفِّ وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ وقد يُقَالُ إنَّ مُرَادَ هذا الْقَائِلِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّاةِ بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ وَهُمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ مُبَاحَتَانِ فَالْخِلَافُ إذَنْ لَفْظِيٌّ الثَّانِي ما يُسْقِطُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ كما إذَا اخْتَلَطَتْ مَحْرَمٌ بِنِسَاءِ بَلْدَةٍ عَظِيمَةٍ فَيُجْعَلُ كَالْعَدَمِ وَيُبَاحُ له نِكَاحُ أَيِّ امْرَأَةٍ أَرَادَ الثَّالِثُ ما يُتَحَرَّى فيه كَالثِّيَابِ وَالْأَوَانِي قال الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وكان الْقِيَاسُ عَدَمَ التَّحَرِّي لِأَنَّ تَرْكَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ لَا يَتَأَتَّى بِيَقِينٍ إلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ قال وَهَاهُنَا فيه خِلَافٌ يَعْنِي هل يَتَوَقَّفُ على الِاجْتِهَادِ أَمْ يَجُوزُ الْهُجُومُ بِمُجَرِّدِ الظَّنِّ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لو قال لِزَوْجَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ولم يَنْوِ مُعَيَّنَةً حُرِّمَتَا جميعا إلَى حِينِ التَّعْيِينِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةَ وَغَيْرَهَا وإذا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غَلَبَ الْحَرَامُ وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وقال قَبْلَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَحِلُّ قَبْلَهُمَا وَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّهُ لم يُبَيِّنْ له مَحَلًّا فَصَارَ كما إذَا بَاعَ أَحَدٌ عَبْدَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ حُرِّمَتَا جميعا وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَحَلِّ الطَّلَاقِ ثُمَّ عليه التَّعْيِينُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمَنْعُ في ذلك مُوجَبُ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَمَّا الْمُضِيُّ إلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ وَالْأُخْرَى مَنْكُوحَةٌ كما تَوَهَّمُوهُ في اخْتِلَاطِ الْمَنْكُوحَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَنْقَدِحُ هَاهُنَا لِأَنَّ ذلك جَهْلٌ من الْآدَمِيِّ عَرَضَ بَعْدَ التَّعْيِينِ أَمَّا هذا فَلَيْسَ مُتَعَيِّنًا في نَفْسِهِ بَلْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا لِإِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا ا هـ وما قَالَهُ أَوَّلًا من احْتِمَالِ حِلِّ الْوَطْءِ هو الْمَنْقُولُ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ من أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ عنه ابن هُبَيْرَةَ في كِتَابِ الْخِلَافِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ قِيلَ بِحِلِّ وَطْءِ إحْدَاهُمَا بِنَاءً على أَنَّ الْوَطْءَ لِإِحْدَاهُمَا تَعْيِينٌ لِلطَّلَاقِ في الْأُخْرَى كما هو أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لم يَبْعُدْ ثُمَّ إذَا عَيَّنَ إحْدَاهُمَا في نِيَّتِهِ قال الْإِمَامُ في بَابِ الشَّكِّ في الطَّلَاقِ من النِّهَايَةِ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ التَّحْرِيمَ ما لم يُقَدِّمُ بَيَانًا قال وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْمُطَلَّقَةَ حَلَّ له وَطْءُ الْأُخْرَى في الْبَاطِنِ وهو مَمْنُوعٌ من غِشْيَانِهِمَا جميعا أَمَّا إذَا غَشِيَ إحْدَاهُمَا فما سَبَبُ الْمَنْعِ حِينَئِذٍ ثُمَّ حَمَلَ كَلَامَ الْأَصْحَابِ على ما إذَا ظَهَرَتْ الْوَاقِعَةُ لِلْحَاكِمِ ولم يَثْبُتْ

عِنْدَهُ تَعْيِينٌ بِالنِّيَّةِ أَمَّا لو قال لها وَلِأَجْنَبِيَّةٍ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَرَدْت الْأَجْنَبِيَّةَ وَجْهَانِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْعِتْقِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لو قال لِعَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ لم يَكُنْ له حُكْمٌ ثُمَّ قال وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ فإن الْوَجْهَيْنِ في نَظِيرِهِ من الطَّلَاقِ مُتَّفِقَانِ على أَنَّ له حُكْمًا وَأَثَرًا مَسْأَلَةٌ لو تَعَدَّى عَمَّا أُبِيحَ له سَبَقَ في الْوَاجِبِ أَنَّهُ إذَا أتى بِالْقَدْرِ الزَّائِدِ هل يَقَعُ الْجَمْعُ فَرْضًا أَمْ لَا وَنَظِيرُهُ هُنَا لو تَعَدَّى عَمَّا أُبِيحَ له كما لو كَشَفَ الْعَوْرَةَ في الْخَلْوَةِ زَائِدًا على الْحَاجَةِ هل يَأْثَمُ على الْكُلِّ أو على الزَّائِدِ فَقَطْ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ بن الْوَكِيلِ عن بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَأَنْكَرُوهُ عليه وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ من قَاعِدَةٍ في الْفِقْهِ وَهِيَ أَنَّ تَعَدِّيَ الْمُسْتَحِقِّ هل يَبْطُلُ بِهِ الْمُسْتَحَقُّ أو يَبْقَى معه الْمُسْتَحَقُّ وَيَبْطُلُ الزَّائِدُ فيه خِلَافٌ في بَابِ الْقَسْمِ وَبَابِ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ إذَا نُسِخَ التَّحْرِيمُ هل تَبْقَى الْكَرَاهَةُ سَبَقَ في الْوَاجِبِ أَنَّهُ إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ هل يَبْقَى الْجَوَازُ وَنَظِيرُهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ إذَا نُسِخَ التَّحْرِيمُ هل تَبْقَى الْكَرَاهَةُ ولم يَتَعَرَّضْ الْأُصُولِيُّونَ لِذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ هُنَا أَيْضًا لِأَنَّ بين الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ اشْتِرَاكًا في الْجِنْسِ وهو مُطْلَقُ الْمَنْعِ وَامْتَازَ الْحَرَامُ بِالْجُرْمِ فإذا ارْتَفَعَ الْجُرْمُ يَبْقَى مُطْلَقُ الْمَنْعِ وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ فإن مَأْخَذَ الْخِلَافِ هُنَاكَ أَنَّ الْمُبَاحَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ ولم يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ جِنْسٌ لِلْحَرَامِ مَسْأَلَةٌ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ مُتَنَاقِضَانِ قد تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَرَامَ وَالْوَاجِبَ مُتَنَاقِضَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فَالْحَرَامُ بِالشَّخْصِ لَا يَكُونُ حَرَامًا وَوَاجِبًا من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا إذَا جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدَ يُقَالُ بِالتَّشْكِيكِ على الْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ وَعَلَى الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَعَلَى الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ فَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ كَمُطْلَقِ السُّجُودِ فَاخْتَلَفُوا هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ

وَمَنْهِيًّا عنه بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ وَاجِبٌ وَبَعْضَهَا حَرَامٌ فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ وَاحْتَجُّوا بِوُقُوعِهِ فإن السُّجُودَ لِلَّهِ وَاجِبٌ وَلِلصَّنَمِ حَرَامٌ بَلْ كُفْرٌ قال اللَّهُ تَعَالَى لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ فَالسُّجُودُ نَوْعٌ وَاحِدٌ قد أُمِرَ بِبَعْضِهِ وَنُهِيَ عن بَعْضِهِ وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَنْهِيَّ عنه تَعْظِيمُ الصَّنَمِ لَا نَفْسُ السُّجُودِ لِأَنَّ ذلك مُحَالٌ لِنَصِّ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ على أَنَّ السَّاجِدَ لِلصَّنَمِ عَاصٍ بِنَفْسِ السُّجُودِ وَالْقَصْدِ جميعا على ما حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَحُكِيَ عن أبي هَاشِمٍ أَنَّهُ قال لَا يَحْرُمُ السُّجُودُ بَلْ الْمُحَرَّمُ الْقَصْدُ إلَى ذلك بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ أَفْرَادَ النَّوْعِ لَا تَخْتَلِفُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ أَيْ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ليس له إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ أو له جِهَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنْ لم يَكُنْ له إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا خِلَافَ في امْتِنَاعِ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عنه إلَّا على رَأْيِ من يُجَوِّزُ التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ وَإِنْ كان له جِهَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ من جِهَةٍ وَيُنْهَى عنه من جِهَةٍ كَالصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا يَصِحُّ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْجِهَاتِ يُوجِبُ التَّغَايُرَ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ وَالْإِضَافَاتِ وَذَلِكَ يَدْفَعُ التَّنَاقُضَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ من حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ مَأْمُورٌ بها وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا في الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ مَنْهِيٌّ عنها فَهُمَا مُتَعَلِّقَانِ مُتَغَايِرَانِ وَجَعَلُوا اخْتِلَافَ الْجِهَتَيْنِ كَاخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من الْجِهَتَيْنِ مُنْفَكَّةٌ عن الْأُخْرَى وَاجْتِمَاعُهُمَا إنَّمَا وَقَعَ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ فَلَيْسَا مُتَلَازِمَيْنِ فَلَا تَنَاقُضَ وَذَهَبَ أبو عَلِيٍّ وأبو هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّانِ وأبو شِمْرٍ الْحَنَفِيُّ وَالزَّيْدِيَّةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ إلَى أنها غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عن أَصْبَغَ من أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبِهِ قال أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وَاخْتَارَهُ ابن الْعَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في النُّكَتِ وقال لَا وَجْهَ لِدَعْوَى الْإِجْمَاعِ في إجْزَائِهَا مع خِلَافِ الزَّيْدِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وأبو شِمْرٍ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ لِذَلِكَ وَحَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ في تَعْلِيقِهِ وَجْهًا عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَكَذَا ابن الصَّبَّاغِ في فَتَاوِيهِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وهو مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لَا تَقَعُ مَأْمُورًا بها وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ عِنْدَهَا لَا بها كما يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِالْأَعْذَارِ الطَّارِئَةِ من الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِسُقُوطِ الْفَرْضِ أو أَمَارَةً عليه على نَحْوٍ من خِطَابِ الْوَضْعِ لَا عِلَّةً لِسُقُوطِهِ لِأَنَّ ذلك يَسْتَدْعِي صِحَّتَهَا هَكَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عنه في الْبُرْهَانِ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَاخْتَارَهُ في الْمَحْصُولِ وَالسُّهْرَوَرْدِي وَنَقَلَ الْهِنْدِيُّ عنه لَا يَصِحُّ

وقال في النِّهَايَةِ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ على أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بها لَكِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا أَمْ لَا فقال الْقَاضِي وَمَنْ تَابَعَهُ يَسْقُطُ عِنْدَهَا لَا بها وقال الْبَاقُونَ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ لَا بها وَلَا عِنْدَهَا بَلْ يَجِبُ عليهم الْقَضَاءُ هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُهُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يقول بِذَلِكَ لو ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ على سُقُوطِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا لم يَثْبُتْ ذلك فَلَا يقول بِسُقُوطٍ بها وَلَا عِنْدَهَا ا هـ وهو ظَاهِرُ نَقْلِ الْمُسْتَصْفَى وَلِهَذَا قال الْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ هِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْفُقَهَاءِ ثُمَّ إنْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ على عَدَمِ الْقَضَاءِ قُلْنَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بها وَإِنْ لم يَصِحَّ هذا الْإِجْمَاعُ وهو الْأَصَحُّ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ انْتَهَى وَالْإِجْمَاعُ لم يَنْقُلْهُ الْقَاضِي صَرِيحًا وَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ بِمَسْلَكٍ اسْتِنْبَاطِيٍّ على زَعْمِهِ فقال لم يَأْمُرْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الْعُصَاةَ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ التي أَقَامُوهَا في الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَرَدَّ عليه الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ كان في السَّلَفِ مُتَعَمِّقُونَ في التَّقْوَى يَأْمُرُونَ بِدُونِ ما فَرَضَهُ الْقَاضِي وَضَعَّفَهُ الْإِبْيَارِيُّ قال وَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْقَضَاءِ بِدُونِهِ وَكَيْفَ لَا يَأْمُرُونَ بِالْقَضَاءِ في هذا وقال الْغَزَالِيُّ خِلَافُ أَحْمَدَ لَا يَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ بَلْ الْإِجْمَاعُ السَّالِفُ حُجَّةٌ عليه لِأَنَّ الظَّلَمَةَ لم يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ مع كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَلَوْ أُمِرُوا بِهِ لَانْتَشَرَ وَلَمَّا صَحَّتْ أَدِلَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ عِنْدَ الْقَاضِي من لُزُومِ تَوَارُدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ في الْفِعْلِ الْوَاحِدِ الِاخْتِيَارِيِّ قال بها فَحَكَمَ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ وَلَمَّا صَحَّ عِنْدَهُ إجْمَاعُ السَّلَفِ على أَنَّهُمْ لم يَأْمُرُوا بِالْقَضَاءِ في الْبُقَعِ الْمَغْصُوبَةِ قال إنَّ الْإِجْزَاءَ يَحْصُلُ عِنْدَهَا لَا بها قِيلَ فَإِنْ صَحَّ هذا الْإِجْمَاعُ فَلَا مَحِيصَ عَمَّا قال فإنه إعْمَالٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الدَّلِيلَيْنِ في مَحَلِّهِ وَأَنَّى يَصِحُّ هذا الْإِجْمَاعُ وَخِلَافُ أَحْمَدَ قد مَلَأَ الْأَسْمَاعَ فَلَوْ سَبَقَهُ إجْمَاعٌ لَكَانَ أَجْدَرَ من الْقَاضِي بِمَعْرِفَتِهِ وَمِمَّنْ مَنَعَ الْإِجْمَاعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا من الْأَئِمَّةِ وقال إلْكِيَا مُسْتَنَدُهُ في سُقُوطِ الْقَضَاءِ إجْمَاعُ الْأَوَّلِينَ وَالْإِجْمَاعُ إنْ لم يَسْلَمْ في هذه الصُّورَةِ مُمْكِنٌ تَحْقِيقُهُ مِمَّنْ عليه دَيْنٌ وهو مُمَاطِلٌ يُصَلِّي مع الْمَطْلِ فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَإِمْكَانُ الْإِجْمَاعِ هَاهُنَا بَعِيدٌ وقال الْمُقْتَرِحُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَسِرٌ جِدًّا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ لَا يَصِحُّ إلَّا مع تَقْدِيرِ تَكَرُّرِ الْوَاقِعَةِ وَالْغَصْبُ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كان قَلِيلَ الْوُقُوعِ ا ه

وَعَلَى تَقْدِيرِ اطِّلَاعِهِمْ عليه فَالْإِجْمَاعُ ليس بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ في بَابِ الْآنِيَةِ من شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ على الصِّحَّةِ قبل مُخَالَفَةِ أَحْمَدَ وَهَذَا لو تَمَّ دَفَعَ مَذْهَبَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ يُوَافِقُ على عَدَمِ الصِّحَّةِ وقال ابن بَرْهَانٍ مَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ النَّهْيَ هل عَادَ لِعَيْنِ الصَّلَاةِ أو لِأَمْرٍ خَارِجٍ عنها فَمَنْ قال بِالْأَوَّلِ أَبْطَلَهَا وَقِيلَ بَلْ أَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ هل يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ فَعِنْدَنَا لَا يَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مُحَرَّمًا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَتَنَاوَلُهُ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بين طَلَبِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ في فِعْلٍ وَاحِدٍ من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِفِعْلٍ إذَا فَعَلَهُ على وَجْهٍ كَرِهَ الشَّرْعُ إيقَاعَهُ عليه لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا وَقِيلَ يَتَوَجَّهُ على الْقَائِلِينَ بِالصِّحَّةِ صِحَّةُ يَوْمِ النَّحْرِ نَقْضًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَقَوْلُهُمْ الْغَصْبُ مُنْفَكٌّ عن الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْوُقُوعِ يوم النَّحْرِ تَخْصِيصٌ لِلدَّعْوَى بِمَا يُجَوِّزُ انْفِكَاكَ الْجِهَتَيْنِ فيه وَيَتَوَجَّهُ على الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ صَوْمُ يَوْمٍ خِيفَ على نَفْسِهِ الْهَلَاكُ فيه بِسَبَبِ الصَّوْمِ فإنه حَرَامٌ مع الصِّحَّةِ وَكَذَا إذَا صلى في الْبَلَدِ الذي حَرُمَ عليه الْمُقَامُ فيه لِأَجْلِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ فإن الصَّلَاةَ تَصِحُّ إجْمَاعًا وَعَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ نَقَلَ أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا يَجُوزُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَالثَّالِثُ يَجُوزُ عَقْلًا لَا شَرْعًا وَالرَّابِعُ يَجُوزُ شَرْعًا لَا عَقْلًا قال وهو بِمَعْنَى قَوْلِهِمْ يَصِحُّ عِنْدَهَا لَا بها وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أَحْمَدَ في الصِّحَّةِ ثَالِثُهَا إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ لم يَصِحَّ وَإِلَّا صَحَّتْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في هذه الْمَسْأَلَةِ هل هِيَ من مَسَائِلِ الْقَطْعِ أو الِاجْتِهَادِ فقال الْقَاضِي الصَّحِيحُ أنها من مَسَائِلِ الْقَطْعِ وَبِهِ جَزَمَ في الْمُسْتَصْفَى وقال الْمُصِيبُ فيها وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ أَخَذَهُ من الْإِجْمَاعِ وهو قَطْعِيٌّ وَمَنْ أَبْطَلَ أَخَذَهُ من التَّضَادِّ الذي بين الْقُرْبَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَيَدَّعِي اسْتِحَالَتَهُ عَقْلًا فَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ فَكَأَنَّهُ قال انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على أنها قَطْعِيَّةٌ وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ في التَّعْيِينِ

فائدتان الْأُولَى إذَا قُلْنَا يَصِحُّ فَحَكَى النَّوَوِيُّ عن الْفَتَاوَى التي نَقَلَهَا الْقَاضِي أبو مَنْصُورٍ عن عَمِّهِ أبي نَصْرِ بن الصَّبَّاغِ أَنَّ الْمَحْفُوظَ من كَلَامِ أَصْحَابِنَا بِالْعِرَاقِ أنها صَحِيحَةٌ يَسْقُطُ بها الْفَرْضُ وَلَا ثَوَابَ فيها وَإِنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ ذَكَرَ في كِتَابِهِ الْكَامِلِ أَنَّا إذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ الثَّوَابُ وَيَكُونُ مُثَابًا على فِعْلِهِ عَاصِيًا بِمُقَامِهِ قال الْقَاضِي أبو الْمَنْصُورِ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ إذَا صَحَّحْنَا انْتَهَى قال ابن الرِّفْعَةِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يُثَابُ يَعْتَضِدُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ في أَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ أَجْرَ الْعَمَلِ الْوَاقِعِ قَبْلَهَا في الْإِسْلَامِ وَلَا تَجِبُ عليه الْإِعَادَةُ الثَّانِيَةُ أَطْلَقُوا الْكَلَامَ في الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ عِنْدِي أَنَّ هذا إنَّمَا هو في صَلَاةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ فيها مَقْصُودَيْنِ أَدَاءَ ما وَجَبَ وَحُصُولَ الثَّوَابِ فإذا انْتَفَى الثَّوَابُ صَحَّتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ الْآخَرِ وَنَحْنُ لَا نَشْتَرِطُ في سُقُوطِ خِطَابِ الشَّرْعِ حُصُولَ الثَّوَابِ وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ إنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ أَجْرَ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ في الْإِسْلَامِ وَلَا يَجِبُ عليه إعَادَتُهَا لو أَسْلَمَ وَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ أُخِذَتْ منه الزَّكَاةُ قَهْرًا لَا يُثَابُ عليها لِفَقْدِ النِّيَّةِ منه وَسَقَطَ بها خِطَابُ الشَّرْعِ عنه لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ السَّهْمَانِ وَلِهَذَا قال ابن الْخَطِيبِ وَإِنْ قام الْإِجْمَاعُ على عَدَمِ وُجُوبِ إعَادَتِهَا فَنَقُولُ سَقَطَ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بها وَلِهَذَا قال في التَّنْبِيهِ فَإِنْ صلى لم يُعِدْ ولم يَقُلْ صَحَّتْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ في الْمُهَذَّبِ وإذا كان كَذَلِكَ فَصَلَاةُ النَّفْلِ لَا مَقْصُودَ فيها غير الثَّوَابِ فإذا لم يَحْصُلْ لَا تَنْعَقِدُ وَإِطْلَاقُ من أَطْلَقَ مَحْمُولٌ على التَّقْيِيدِ بِالْفَرْضِ ا ه

فَرْعٌ كَوْنُ الْوَاحِدِ وَاجِبًا وَحَرَامًا بِاعْتِبَارَيْنِ قال الْجُمْهُورُ الْمُجَوِّزُونَ كَوْنُ الْوَاحِدِ وَاجِبًا وَحَرَامًا بِاعْتِبَارَيْنِ هذا إذَا أَمْكَنَ الْإِتْيَانُ بِأَحَدِهِمَا مُنْفَكًّا عن الْآخَرِ أَمَّا إذَا لم يُمْكِنْ ذلك بِحَيْثُ لَا يَخْلُو الْمُخَاطَبُ عنهما بِأَنْ يَقُولَ لَا تَنْطِقْ وَلَا تَسْكُتْ وَلَا تَتَحَرَّكْ وَلَا تَسْكُنْ فَإِنْ مَنَعْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ مَنَعْنَاهُ وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ جَوَّزْنَاهُ عَقْلًا لَكِنَّهُ لم يَقَعْ فَعَلَى هذا من تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً أو تَخَطَّى زَرْعَ غَيْرِهِ ثُمَّ تَابَ وَتَوَجَّهَ لِلْخُرُوجِ وَاخْتَارَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ أو أَدْخَلَ فَرْجَهُ في مُحَرَّمٍ ثُمَّ خَرَجَ فَخُرُوجُهُ وَاجِبٌ لَا تَحْرِيمَ فيه وَإِنْ وُجِدَ فيه اعْتِبَارَانِ الشَّغْلُ وَالتَّفْرِيغُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِالتَّفْرِيغِ إلَّا بِالشَّغْلِ قال الْقَاضِي هذا هو الْمُخْتَارُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في كَفِّ الزَّانِي عن الزِّنَى قال ابن بَرْهَانٍ وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عليه كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال أبو هَاشِمٍ خُرُوجُهُ كَلُبْثِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَلِكَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عنه بهذا الِاعْتِبَارِ وَمَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ عن الْمُكْثِ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عنه وَحَكَاهُ الْقَاضِي عن أبي الشَّمِر من الْأُصُولِيِّينَ وهو في الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ لِجَمْعِهِ بين النَّقِيضَيْنِ فإنه مَنْهِيٌّ عن الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ في فِعْلٍ وَاحِدٍ وقد بَنَاهُ أبو هَاشِمٍ على أَصْلِهِ الْفَاسِدِ في الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَأَصْلُهُ الْفَاسِدُ من مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ هل يَبْقَى مُسْتَمِرًّا أو يَنْقَطِعُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ كان مُتَعَمِّدًا لِتَوَسُّطِهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا يَعْصِي بِمَا تَوَرَّطَ بِهِ من الْعُدْوَانِ السَّابِقِ وقال وهو مُرْتَبِكٌ في الْمَعْصِيَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ مع انْقِطَاعِ تَكْلِيفِ النَّهْيِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ عَاصٍ في خُرُوجِهِ وَلَا نَهْيَ عليه فَسُقُوطُ النَّهْيِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَتَعْصِيَتُهُ لِتَسَبُّبِهِ الْأَوَّلِ وهو بَعِيدٌ إذْ ليس في الشَّرْعِ مَعْصِيَةٌ من غَيْرِ نَهْيٍ وَلَا عِقَابٌ من غَيْرِ نَهْيٍ وهو قَرِيبٌ من مَذْهَبِهِ في مَسْأَلَةِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ قال وَكَذَلِكَ من غَصَبَ مَالًا وَغَابَ بِهِ ثُمَّ تَابَ وَتَوَجَّهَ رَاجِعًا وَكَذَا اسْتَبْعَدَهُ ابن الْحَاجِبِ وَضَعَّفَهُ الْغَزَالِيُّ لِاعْتِرَافِهِ بِانْتِفَاءِ النَّهْيِ فَالْمَعْصِيَةُ إلَى مَاذَا تَسْتَنِدُ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا مَعْصِيَةَ إلَّا بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عنه أو تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ وقد سَلِمَ

انْتِفَاءُ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ فَانْتَهَضَ الدَّلِيلُ عليه فَإِنْ قِيلَ فيه جِهَتَانِ يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِافْتِرَاغِ مِلْكِ الْغَيْرِ وَالنَّهْيُ عن اللُّبْثِ كَالصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ سَوَاءٌ كما قَالَهُ في الْبُرْهَانِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْخُرُوجَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَا جِهَتَيْنِ لِتَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فإن الِامْتِثَالَ مُمْكِنٌ وَإِنَّمَا جاء الِاتِّحَادُ من جِهَةِ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَالتَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لَا خَيْرَ لِلْعَبْدِ فيه فَلَا يُكَلَّفُ قلت وقد تَعَرَّضَ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فقال في كِتَابِ الْحَجِّ في الْمُحْرِمِ إذَا تَطَيَّبَ وَلَا رُخْصَةَ له في تَرْكِهِ إذَا قَدَرَ على غَسْلِهِ وَهَذَا مُرَخَّصٌ له في التَّيَمُّمِ إذَا لم يَجِدْ مَاءً وَلَوْ غَسَلَ الطِّيبَ غَيْرُهُ كان أَحَبَّ إلَيَّ وَإِنْ غَسَلَهُ هو بيده يَفْتَدِي من غَسْلِهِ قِيلَ إنَّ عليه غَسْلَهُ وَإِنْ مَاسَّهُ فَلَا إنَّمَا مَاسَّهُ لِيُذْهِبَهُ عنه ثُمَّ يُمَاسُّهُ لِيَتَطَيَّبَ بِهِ وَلَا يُثْبِتُهُ وَهَذَا ما وَجَبَ عليه الْخُرُوجُ منه خَرَجَ منه كما يَسْتَطِيعُ وَلَوْ دخل دَارَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنٍ لم يَكُنْ جَائِزًا له وكان عليه الْخُرُوجُ منها ولم أَزْعُمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْخُرُوجِ وَإِنْ كان يَمْشِي ما لم يُؤْذَنْ له وَلِأَنَّ مَشْيَهُ لِلْخُرُوجِ من الذَّنْبِ لَا لِلزِّيَادَةِ منه فَهَكَذَا هذا الْبَابُ كُلُّهُ ا هـ لَفْظُهُ وهو صَرِيحٌ في أَنَّ من تَوَرَّطَ في الْوُقُوعِ في حَرَامٍ فَيَتَخَلَّصُ منه لَا يُوصَفُ حَالَةَ التَّخَلُّصِ بِالْإِثْمِ لِأَنَّهُ تَارِكٌ له فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ كما لو خَرَجَ من الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الدُّخُولِ وقال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في كِتَابِ الصَّوْمِ من الْفُرُوقِ قد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على تَأْثِيمِ من دخل أَرْضًا غَاصِبًا ثُمَّ قال فإذا قَصَدَ الْخُرُوجَ منها لم يَكُنْ عَاصِيًا بِخُرُوجِهِ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْغَصْبِ ا هـ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْسَ إشْغَالِ الْحَيِّزِ بَاقٍ على تَحْرِيمِهِ وَنَفْسَ الِانْتِقَالِ هو جَائِزٌ بَلْ هو وَاجِبٌ إذْ هو وَسِيلَةٌ إلَى تَرْكِ الْحَرَامِ وَمِثْلُهُ لو قال إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ هل يَمْتَنِعُ عليه الْوَطْءُ قال ابن خَيْرَانَ نعم لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ وَالنَّزْعَ يَقَعُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وقال عَامَّةُ الْأَصْحَابِ بَلْ يَجُوزُ وَنَصَّ عليه في الْأُمِّ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَقَعُ في النِّكَاحِ وَاَلَّذِي يَقَعُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ هو النَّزْعُ وَالنَّزْعُ تَرْكُ الْمَأْثَمِ وَالْخُرُوجُ عن الْمَعْصِيَةِ ليس بِحَرَامٍ قال الرَّافِعِيُّ وَيُشْبِهُ ذلك ما لو قال لِرَجُلٍ اُدْخُلْ دَارِي وَلَا تُقِمْ فيها ثُمَّ

ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ غَرَضَهُ يَظْهَرُ بِمَسْأَلَةٍ أَلْقَاهَا أبو هَاشِمٍ فَحَارَتْ فيها عُقُولُ الْفُقَهَاءِ وَهِيَ من تَوَسَّطَ جَمْعًا من الْجَرْحَى وَجَثَمَ على صَدْرِ وَاحِدٍ منهم وَعَلِمَ أَنَّهُ لو بَقِيَ على ما هو عليه لَهَلَكَ من تَحْتَهُ وَلَوْ انْتَقَلَ لَهَلَكَ آخَرُ يَعْنِي مع تَسَاوِي الرَّجُلَيْنِ في جَمِيعِ الْخِصَالِ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لم أَتَحَصَّلْ فيها من قَوْلِ الْفُقَهَاءِ على ثَبْتٍ وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عن صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ مع اسْتِمْرَارِ حُكْمِ سَخَطِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَوَجْهُ السُّقُوطِ اسْتِحَالَةُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَاسْتِمْرَارُ الْعِصْيَانِ لِتَسَبُّبِهِ إلَى ما لَا يَخْلُصُ منه وَلَوْ فُرِضَ إلْقَاءُ رَجُلٍ على صَدْرِ آخَرَ بِحَيْثُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْوَاقِعِ اخْتِيَارٌ فَلَا تَكْلِيفَ وَلَا عِصْيَانَ وقال الْغَزَالِيُّ يَحْتَمِلُ ذلك وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ يَمْكُثُ فإن الِانْتِقَالَ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ وَيُحْتَمَلُ التَّخْيِيرُ وقال في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلَّهِ فيه فَلَا يُؤْمَرُ بِمُكْثٍ وَلَا انْتِقَالٍ وَلَكِنْ إنْ تَعَدَّى في الِابْتِدَاءِ اسْتَصْحَبَ حُكْمَ الْعُدْوَانِ وَإِنْ لم يَتَعَدَّ فَلَا تَكْلِيفَ عليه وَنَفَى الْحُكْمُ حُكْمَ اللَّهِ في هذه الصُّورَةِ وقال في آخِرِ الْكِتَابِ حُكْمُ اللَّهِ فيه أَنْ لَا حُكْمَ وهو نَفْيُ الْحُكْمِ هذا ما قَالَهُ الْإِمَامُ فيه ولم أَفْهَمْهُ بَعْدُ وقد كَرَّرْتُهُ عليه مِرَارًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ نَفْيُ الْحُكْمِ حُكْمٌ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ ذلك قبل وُرُودِ الشَّرَائِعِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ جَعْلُ نَفْيِ الْحُكْمِ حُكْمًا تَنَاقُضٌ فإنه جَمَعَ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إنْ كان لَا يَعْنِي بِهِ تَخْيِيرَ الْمُكَلَّفِ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَإِنْ عَنَاهُ فَهُوَ إبَاحَةٌ مُحَقَّقَةٌ لَا دَلِيلَ عليها قال الْإِبْيَارِيُّ وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ مع الْإِمَامِ وَقَوْلُهُ هذا لَا أَفْهَمُهُ يَعْنِي لَا لِعَجْزِ السَّامِعِ عن فَهْمِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ غير مَفْهُومٍ في نَفْسِهِ ا هـ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ أَرَدْت انْتِفَاءَ الْحُكْمِ يَعْنِي الْحُكْمَ الْخَاصَّ وَهِيَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ وَتَكُونُ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ حُكْمًا لِلَّهِ بهذا الِاعْتِبَارِ وقد قال في كِتَابِ الصَّدَاقِ من النِّهَايَةِ ليس يَبْعُدُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عنه فِيمَا فَعَلَهُ وَهَذَا حُكْمٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ انْتِقَالُك ابْتِدَاءُ فِعْلٍ مِنْك وَاسْتِقْرَارُك في حُكْمِ اسْتِدَامَةِ ما وَقَعَ ضَرُورِيًّا وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الِانْتِقَالَ إنَّمَا يَجِبُ في مِثْلِ ذلك إذَا كان مُمْكِنًا وإذا امْتَنَعَ بِإِيجَابِهِ بِحَالٍ وَالْمُمْتَنِعُ شَرْعًا كَالْمُمْتَنِعِ حِسًّا وَطَبْعًا قال وَهَذَا في الدِّمَاءِ لِعِظَمِ مَوْقِعِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ فَالتَّحْقِيقُ فيها ليس

بِالْبِدْعِ فَلَوْ وَقَعَ بين أَوَانٍ وَلَا بُدَّ من انْكِسَارِ بَعْضِهَا أَقَامَ أو انْتَقَلَ فَيَتَعَيَّنُ في هذه الصُّورَةِ التَّخْيِيرُ ا هـ وقد سَأَلَ الْغَزَالِيُّ الْإِمَامَ في كِبَرِهِ عن هذا فقال له كَيْفَ تَقُولُ لَا حُكْمَ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا تَخْلُو وَاقِعَةٌ عن حُكْمٍ فقال حُكْمُ اللَّهِ أَنْ لَا حُكْمَ فقلت له لَا أَفْهَمُ هذا وقال ابن بَرْهَانٍ إنْ تَسَبَّبَ إلَى الْوُقُوعِ أَثِمَ بِالنَّسَبِ وَإِلَّا فَلَا إثْمَ وَلَا ضَمَانَ وقال ابن عَقِيلٍ من الْحَنَابِلَةِ إنْ وَقَعَ على الْجَرْحَى بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَزِمَهُ الْمُكْثُ وَلَا يَضْمَنُ ما تَلِفَ بِسُقُوطِهِ وَإِنْ تَلِفَ شَيْءٌ بِاسْتِمْرَارٍ وَكُرْهٍ أو بِانْتِقَالِهِ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى آخَرَ قَطْعًا وقال ابن الْمُنِيرِ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ يُحْتَمَلُ وُجُوبُ الْبَقَاءِ عليه لِأَنَّ الِانْتِقَالَ اسْتِئْنَافُ فِعْلٍ بِالِاخْتِيَارِ مُهْلِكٍ وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِصْحَابُ فإنه أَشْبَهُ بِالْعَدَمِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَنْتَقِلُ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ في سَلَامَةِ الْمُنْتَقِلِ عنه وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَهْلِكَ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهِ أو يَمُوتَ بِأَجَلِهِ قبل الْجُثُومِ إلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِتَعَادُلِ الْمَفْسَدَتَيْنِ قال وَلَعَمْرِي لقد دَلَّسَ بِفَرْضِهَا لِأَنَّهُ لَا يَضِيقُ كما زَعَمَ إلَّا بِأَنْ نَفْرِضَ جَوْهَرَيْنِ مُفْرَدَيْنِ مُتَلَاصِقَيْنِ قد جَثَمَ جَوْهَرٌ فَرْدٌ على أَحَدِهِمَا فَإِنْ بَقِيَ أَهْلَك وَإِنْ انْتَقَلَ فَرَّ من انْتِقَالِهِ عن الْجَوْهَرِ الْأَوَّلِ وهو زَمَنُ جُثُومِهِ على الْجَوْهَرِ الثَّانِي لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ وَهَذَا فَرْضٌ مُسْتَحِيلٌ فإن الْأَجْسَامَ أَوْسَعُ من ذلك وَأَزْمِنَةُ انْتِقَالِهَا مَعْدُودَةٌ فَهُوَ إذَا انْتَقَلَ مَضَتْ أَزْمِنَةٌ بين الِانْتِقَالِ وَالْجُثُومِ هو فيها سَالِمٌ من الْقَضِيَّتَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ الثَّانِي قبل الْجُثُومِ عليه فَيَسْلَمُ من الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا فَالِانْتِقَالُ مُتَرَجِّحٌ فَيَتَعَيَّنُ وَكَذَلِكَ مُتَوَسِّطُ الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ حُكْمُ اللَّهِ عليه وُجُوبُ الْخُرُوجِ وَيَكُونُ بِهِ مُطِيعًا لَا عَاصِيًا قال وَالْعَجَبُ من قَوْلِ الْإِمَامِ في مَسْأَلَةِ أبي هَاشِمٍ لَا تَكْلِيفَ على الْمُتَوَسِّطِ وَبِخُلُوِّ الْوَاقِعَةِ مع الْتِزَامِهِ في بَابِ الْقِيَاسِ عَدَمَ الْخُلُوِّ وَاحْتِجَاجِهِ بِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ تَكْمِيلٌ تَضَادُّ الْمَكْرُوهِ وَالْوَاجِبِ كما يَتَضَادُّ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ كَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ وَالْوَاجِبُ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبُ

التَّرْكِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ فَإِنْ انْصَرَفَتْ الْكَرَاهَةُ عن ذَاتِ الْوَاجِبِ إلَى غَيْرِهِ صَحَّ الْجَمْعُ كَكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ في الْحَمَّامِ وَنَحْوِهَا وقال الرَّافِعِيُّ الْقَضَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ حَكَى وَجْهًا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مَسْأَلَةٌ تَحْرِيمُ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَحْرُمَ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ من أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ وَمِنْهُمْ من مَنَعَ ذلك وقال لم تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ وَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا على جَعْلِ أو بِمَعْنَى الْوَاوِ وَمِنْهُمْ من مَنَعَ ذلك من جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ إذَا قَبُحَ أَحَدُهُمَا قَبُحَ الْآخَرُ فَيَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيِّ في أُصُولٍ عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ الْأَوَّلَ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ مُحْتَجًّا أَنَّ النَّهْيَ في الْآيَةِ عن طَاعَتِهِمَا جميعا قال وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ وَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ على أَنَّ الْمُرَادَ في الشَّرْعِ النَّهْيُ عن طَاعَتِهِمَا جميعا لم تُحْمَلْ الْآيَةُ على ذلك وَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ وَوُقُوعُهُ وَعَلَى هذا فَاخْتَلَفُوا فَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْكُلِّ بَلْ الْمُحَرَّمُ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ وَيَجُوزُ له فِعْلُ أَحَدِهِمَا وَإِنَّمَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عن الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا كما في جَانِبِ الْإِيجَابِ كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال الْمُعْتَزِلَةُ الْكُلُّ حَرَامٌ كَقَوْلِهِمْ في جَانِبِ الْإِيجَابِ الْكُلُّ وَاجِبٌ لَكِنَّهُمْ لم يُوجِبُوا الْجَمْعَ هُنَاكَ وَهُنَا أَوْجَبُوا اجْتِنَابَ الْكُلِّ فَيَبْقَى النِّزَاعُ هُنَا مَعْنَوِيًّا بِخِلَافِ ما قَالُوهُ وَتَوَقَّفَ فيه الْهِنْدِيُّ إذْ لَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ قال وَالْقِيَاسُ التَّسْوِيَةُ بين الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ كما يَتْبَعُ الْحُسْنَ الْخَاصَّ عِنْدَهُمْ فَكَذَا التَّحْرِيمُ يَتْبَعُ الْقُبْحَ الْخَاصَّ فَإِنْ وَجَبَ الْكَفُّ عن الْجَمِيعِ بِنَاءً على اسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى الذي يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَلْيَجِبْ فِعْلُ الْجَمِيعِ في صُورَةِ الْوُجُوبِ بِنَاءً على اسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى الذي يَقْتَضِي الْإِيجَابَ قُلْت مَأْخَذُ الْخِلَافِ هُنَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا مُتَعَلَّقَ التَّحْرِيمِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ وَنَقُولُ مُتَعَلِّقُ أَحَدِ الْخُصُوصِيَّيْنِ وَإِنْ شِئْت قُلْت إحْدَى الْحِصَّتَيْنِ

الْمُعَيَّنَتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا وَأَمَّا الْقَرَافِيُّ من الْمُتَأَخِّرِينَ فإنه فَرَّقَ بين الْأَمْرِ الْمُخَيَّرِ بين وَاحِدٍ من الْأَشْيَاءِ وَالنَّهْيِ الْمُخَيَّرِ فإن الْأَمْرَ مُتَعَلِّقٌ بِمَفْهُومِ أَحَدِهَا وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلَّقُ التَّخْيِيرِ وَلَا يَلْزَمُ من إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ الْخُصُوصِيَّاتِ كما مَضَى وَأَمَّا النَّهْيُ فإنه إذَا تَعَلَّقَ بِالْمُشْتَرَكِ لَزِمَ منه تَحْرِيمُ الْخُصُوصِيَّاتِ لِأَنَّهُ لو دخل منه فَرْدٌ إلَى الْوُجُودِ لَدَخَلَ في ضِمْنِهِ الْمُشْتَرَكُ الْمُحَرَّمُ وَوَقَعَ الْمَحْذُورُ كما إذَا حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ يَلْزَمُ تَحْرِيمُ السَّمِينِ منه وَالْهَزِيلِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ وَنَحْوِهِ إنَّمَا لَاقَى في الْمَجْمُوعِ عَيْنًا لَا الْمُشْتَرَكَ بين الْأَفْرَادِ فَالْمَطْلُوبُ منه أَنْ لَا يَدْخُلَ مَاهِيَّةُ الْمَجْمُوعِ في الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةُ تَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ جُزْءٍ منها وَأَيُّ أُخْتٍ تَرَكَهَا خَرَجَ عن عُهْدَةِ الْمَجْمُوعِ فَلَيْسَ كَالْأَمْرِ وقال الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ من الْمُتَأَخِّرِينَ الْحَقُّ نَفْيُ التَّحْرِيمِ الْمُخَيَّرِ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ في الْأُخْتَيْنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كما نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ لَا إحْدَاهُمَا وَلَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فإن الْوَاجِبَ إمَّا أَحَدُهَا أو كُلٌّ مِنْهُمَا على التَّخْيِيرِ وفي كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وما ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مَأْخَذُهُ من قَوْلِهِ إنَّ النَّهْيَ عن نَوْعٍ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عن كل أَفْرَادِهِ إذْ في كل فَرْدٍ النَّهْيُ مِثْلُ لَا تَزْنِ فَلَا شَيْءَ من الزِّنَى بِحَلَالٍ وَإِلَّا لَصَدَقَ أَنَّهُ زِنًى وَالْأَمْرُ على هذا الْوَجْهِ غير أَنَّ قَوْمًا يَتَلَقَّوْنَ ذلك من كَوْنِ النَّكِرَةِ في سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ وَآخَرُونَ يَتَلَقَّوْنَهُ من أَنَّ النَّهْيَ عن الْكُلِّ يَسْتَلْزِمُ بَعْضَ أَفْرَادِهِ وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ من الْمُعْتَزِلَةِ النَّهْيُ عن أَشْيَاءَ على التَّخْيِيرِ إنْ كان على سَبِيلِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ لَا تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُلُوُّ منها كُلِّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عن الْجَمِيعِ وَإِلَّا لم يَحْسُنْ النَّهْيُ عن كُلِّهَا كَقَوْلِهِ لَا تَفْعَلْ في يَدِك حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ الذي يَقْتَضِيهِ رَأْيُ أَصْحَابِنَا في النَّهْيِ عن أَشْيَاءَ على التَّخْيِيرِ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عنه وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْأَضْدَادُ بِجُمْلَتِهَا قَبِيحَةً وَلَا يَنْفَكُّ الْإِنْسَانُ عن وَاحِدٍ منها فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُنْهَى عنها بِأَجْمَعَ فإذا نهى عن ضِدَّيْنِ قد يَنْفَكُّ عنهما إلَى ثَالِثٍ صَحَّ وَيَصِحُّ منه فِعْلُهَا جميعا لِأَنَّ أَيَّ وَاحِدٍ منها فَعَلَهُ كان قَبِيحًا وَالنَّهْيُ عنهما مع تَضَادِّهِمَا عن الْجَمْعِ لَا يَحْسُنُ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ليس في الْمَقْدُورِ وما لَا يَقْدِرُ عليه لَا يُكَلَّفُ بِهِ وَمَتَى ما أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ ضِدَّيْنِ كان له فِعْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا

وَهَذَا يُبَيِّنُ صِحَّةَ ما قَدَّمْنَاهُ من أَنَّهُ إذَا لَزِمَ الْمُكَلَّفَ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَ الضِّدَّيْنِ كَانَا وَاجِبَيْنِ على التَّخْيِيرِ فإذا نُهِيَ عن أَحَدِهِمَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النَّهْيِ فَأَمَّا النَّهْيُ عن شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا على التَّخْيِيرِ فَلَا يَصِحُّ وَيُفَارِقُ الْأَمْرَ في ذلك وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ مِمَّا يُفَارِقُ الْأَمْرَ النَّهْيُ أَنَّهُ إذَا نُهِيَ عن أَشْيَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ لم يَجُزْ له فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَفْظُ التَّخْيِيرِ فيه كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم الْآيَةَ مَسْأَلَةٌ هل يُقَالُ هذا أَحْرَمُ من هذا سَبَقَ في بَحْثِ الْوَاجِبِ خِلَافٌ في أَنَّهُ هل يُقَالُ هذا أَوْجَبُ من هذا أَجْرَاهُ ابن بَزِيزَةَ في شَرْحِ الْأَحْكَامِ في أَنَّهُ هل يُقَالُ هذا أَحْرَمُ من هذا أَمْ لَا قال وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَقُولٌ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ أو كَثْرَةِ الزَّوَاجِرِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الطَّلَبِ وقد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ على أَنَّ الزِّنَى بِالْأُمِّ أَشَدُّ من الزِّنَى بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَكَذَلِكَ الزِّنَى في الْمَسْجِدِ آثَمُ من الزِّنَى في الْكَنِيسَةِ وقد رَدَّ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ شِدَّةَ التَّحْرِيمِ فيه إلَى أَنَّهُ فَعَلَ حَرَامَيْنِ وَالْكَلَامُ لم يَقَعْ إلَّا في مَحَلٍّ وَاحِدٍ ا هـ خَاتِمَةٌ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ من فِعْلِ الْحَرَامِ قِيلَ تَرْكُ الْوَاجِبِ في الشَّرِيعَةِ بَلْ وفي الْعَقْلِ أَعْظَمُ من فِعْلِ الْحَرَامِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمِ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ وَلِهَذَا قال تَعَالَى إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فَبَيَّنَ أَنَّ ما في الصَّلَاةِ من ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ مِمَّا فيها من النَّهْيِ عن الْفَحْشَاءِ الثَّانِي أَنَّ أَعْظَمَ الْحَسَنَاتِ هو الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وهو أَدَاءُ وَاجِبٍ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ كُفْرٌ

فَصْلٌ في الْمُبَاحِ وهو ما أُذِنَ في فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ من حَيْثُ هو تَرْكٌ له من غَيْرِ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِاقْتِضَاءِ مَدْحٍ أو ذَمٍّ فَخَرَجَ بِالْإِذْنِ بَقَاءُ الْأَشْيَاءِ على حُكْمِهَا قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فإنه لَا يُسَمَّى مُبَاحًا وَخَرَجَ فِعْلُ اللَّهِ فَلَا يُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَقِّ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وَالْأُسْتَاذُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مَأْذُونٌ له فيه وَقَوْلُنَا من حَيْثُ هو تُرِكَ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ قد يَتْرُكُ الْمُبَاحَ بِالْحَرَامِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ وَفِعْلُهُ سَوَاءً بَلْ يَكُونُ تَرْكُهُ وَاجِبًا وَإِنَّمَا يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ إذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ بمثله كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وقد يُتْرَكُ بِالْوَاجِبِ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الْمُتَعَيَّنِ عليه وقد يُتْرَكُ بِمَنْدُوبٍ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وقد يُتْرَكُ بِالْحَرَامِ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْكَذِبِ وَالْقَذْفِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَ الْمُبَاحِ يَتَغَيَّرُ بِمُرَاعَاةِ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ وَاجِبًا إذَا كان في تَرْكِهِ الْهَلَاكُ وَيَصِيرُ مُحَرَّمًا إذَا كان في فِعْلِهِ فَوَاتُ فَرِيضَةٍ أو حُصُولُ مَفْسَدَةٍ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَيَصِيرُ مَكْرُوهًا إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ نِيَّةُ مَكْرُوهٍ وَيَصِيرُ مَنْدُوبًا إذَا قَصَدَ بِهِ الْعَوْنَ على الطَّاعَةِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْإِحْيَاءُ بَعْضُ الْمُبَاحِ يَصِيرُ بِالْمُوَاظَبَةِ عليه صَغِيرَةً كَالتَّرَنُّمِ بِالْغِنَاءِ وَلَعِبِ الشَّطْرَنْجِ وَكَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً من أَصْحَابِنَا حَدُّوا الْمُبَاحَ بِأَنَّهُ الذي لَا حَرَجَ في فِعْلِهِ وَلَا في تَرْكِهِ مع قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالْجَمْعُ بين الْكَلَامَيْنِ عَسِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبَاحَ بهذا التَّفْسِيرِ يَدْخُلُ فيه فِعْلُ اللَّهِ وَفِعْلُ السَّاهِي وَالْغَافِلِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ في ذلك لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ الْمَنْعِ الشَّرْعِيِّ بها فإذا شَمِلَتْ الْإِبَاحَةُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ التي تَمْنَعُ كَوْنَهَا مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ امْتَنَعَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْإِبَاحَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَإِلَّا لَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ وقد تَقَرَّرَ أنها مُتَعَلِّقَةٌ بها وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحَلَالُ وَالْمُطْلَقُ وَالْجَائِزُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ كُلُّ مُبَاحٍ جَائِزٌ وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ مُبَاحًا فَإِنَّا نَقُولُ في أَفْعَالِ اللَّهِ إنَّهَا جَائِزٌ حُدُوثَهَا وَلَا نَقُولُ إنَّهَا مُبَاحَةٌ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وهو سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْمُبَاحَ إذَا وَقَعَ لِتَعَلُّقِ إرَادَةِ اللَّهِ ثَمَّتَ

بِكُلِّ الْمُرَادَاتِ وَخَالَفَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْمُبَاحِ وَلَا كَارِهٍ له وَنَشَأَ من هذه الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قالوا لو أَرَادَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِعْلَ شَيْءٍ وَرَدَتْ فيه صِيغَةُ الْأَمْرِ لم يَكُنْ ذلك إلَّا تَكْلِيفًا مَسْأَلَةٌ ما يُطْلَقُ عليه الْمُبَاحُ يُطْلَقُ الْمُبَاحُ على ثَلَاثَةِ أُمُورٍ الْأَوَّلُ وهو الْمُرَادُ هُنَا ما صَرَّحَ فيه الشَّرْعُ بِالتَّسْوِيَةِ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِلْمُسَافِرِ إنْ شِئْت فَصُمْ وَإِنْ شِئْت فَأَفْطِرْ الثَّانِي ما سَكَتَ عنه الشَّرْعُ فَيُقَالُ اسْتَمَرَّ على ما كان وَيُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ على أَحَدِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثِ وهو ما جَازَ فِعْلُهُ اسْتَوَى طَرَفَاهُ أو لَا وقد يُطْلَقُ الْمُبَاحُ على الْمَطْلُوبِ وَمِنْهُ قَوْلُنَا الْحَلْقُ في الْحَجِّ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ فيه أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ في التَّحْلِيلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ وقد يَجْرِي في كَلَامِ الْفُقَهَاءِ جَازَ له أو لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَيُرِيدُونَ بِهِ الْوُجُوبَ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا كان الْفِعْلُ دَائِرًا بين الْحُرْمَةِ وَالْوُجُوبِ فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِمْ يَجُوزُ نَفْيُ الْحُرْمَةِ فَيَبْقَى الْوُجُوبُ وَلِهَذَا لَا يَحْسُنُ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ عَلِمَ دُخُولَ رَمَضَانَ بِالْحِسَابِ إنَّهُ يَجُوزُ له الصَّوْمُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْفِعْلِ لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ وَكَذَا لَا يَحْسُنُ قَوْلُهُمْ في الصَّبِيِّ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ لِأَنَّهُ لو صَحَّ وَجَبَ مَسْأَلَةٌ من صِيَغِ الْمُبَاحِ وَمِنْ صِيَغِهِ أَعْنِي الْمُبَاحَ رَفْعُ الْحَرَجِ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلسَّائِلِ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ

وَمِنْ صِيَغِهِ في الْقُرْآنِ نَفْيُ الْجُنَاحِ وَمِنْ ثَمَّ صَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْقَصْرَ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ من قَوْله تَعَالَى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا من الصَّلَاةِ وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ وَهَذَا من صِفَةِ الْمُبَاحِ لَا الْوَاجِبِ وَأُجِيبُ عن قَوْله تَعَالَى إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ من شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا نُزُولُهَا على سَبَبٍ وهو ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَانِيهِمَا أنها نَزَلَتْ في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قبل وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مَسْأَلَةٌ الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ يَلْتَفِتُ إلَى تَفْسِيرِ الْمُبَاحِ إنْ عَرَّفَهُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ وهو اصْطِلَاحُ الْأَقْدَمِينَ فَنَفْيُ الْحَرَجِ ثَابِتٌ قبل الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ من الشَّرْعِ وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْإِعْلَامِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فَالْإِعْلَامُ بِهِ إنَّمَا يُعْلَمُ من الشَّرْعِ فَيَكُونُ شَرْعِيًّا مَسْأَلَةٌ الْإِبَاحَةُ لَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ الْإِبَاحَةُ وَإِنْ كانت شَرْعِيَّةً لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ فإنه قال إنَّهُ تَكْلِيفٌ على مَعْنَى أَنَّا كُلِّفْنَا اعْتِقَادَ إبَاحَتِهِ وَرُدَّ بِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لِلْإِبَاحَةِ ليس بِمُبَاحٍ بَلْ وَاجِبٍ وَكَلَامُنَا في الْمُبَاحِ وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ إلَّا أَنْ يُقَالَ هو تَكْلِيفٌ بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَحِلُّ له الْإِقْدَامُ على فِعْلٍ حتى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فيه وقد يَنْفَصِلُ عن هذا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِحُكْمِ الْمُبَاحِ خَارِجٌ عن نَفْسِ الْمُبَاحِ قال الْمَازِرِيُّ وقد غَلَّطَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ وَقَعَ فيه حَيْثُ قال في حَدِّ الْفِقْهِ إنَّهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ وفي الْفِقْهِ مُبَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ قال بَعْضُهُمْ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِدُخُولِ الْمُبَاحِ في التَّكْلِيفِ هل دخل فيه بِإِذْنٍ

أو أَمْرٍ على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا بِإِذْنٍ لِيَخْرُجَ عن حُكْمِ النَّدْبِ وَالثَّانِي بِأَمْرٍ دُونَ أَمْرِ النَّدْبِ كما أَنَّ أَمْرَ النَّدْبِ دُونَ أَمْرِ الْوَاجِبِ وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى خُرُوجِهِ من التَّكْلِيفِ بِإِذْنٍ أو أَمْرٍ لِاخْتِصَاصِ التَّكْلِيفِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ثَوَابٌ أو عِقَابٌ مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا أَجْمَعُوا على أَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا وَاخْتَلَفُوا هل يُسَمَّى حَسَنًا أَمْ لَا وهو مُفَرَّعٌ على تَعْرِيفِ الْحَسَنِ وقد سَبَقَ مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هل هو جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ فيه خِلَافٌ سَبَقَ في إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ هل يَبْقَى الْجَوَازُ مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هل هو مَأْمُورٌ بِهِ الْمُبَاحُ هل هو مَأْمُورٌ بِهِ خِلَافٌ يَنْبَنِي على أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ في مَاذَا هل هو نَفْيُ الْحَرَجِ عن الْفِعْلِ أو حَقِيقَةٌ في الْوُجُوبِ أو في النَّدْبِ أو في الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فَعَلَى الْأَوَّلِ هو مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ ليس مَأْمُورًا بِهِ من حَيْثُ هو خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ حَيْثُ قال كُلُّ فِعْلٍ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَرَكَ بِهِ الْحَرَامَ وَحَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ عن أبي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِفِعْلِهِ مُطِيعًا بِنَاءً على قَوْلِهِ إنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ وَصَرَّحَ الْقَاضِي عن الْكَعْبِيِّ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ بِأَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْأَمْرِ بِالنَّدْبِ وَالنَّدْبَ دُونَ الْأَمْرِ بِالْإِيجَابِ قال الْقَاضِي وهو وَإِنْ أَطْلَقَ الْأَمْرَ على الْمُبَاحِ فَلَا يُسَمَّى الْمُبَاحُ وَاجِبًا وَلَا الْإِبَاحَةُ إيجَابًا وَتَبِعَهُ في هذا الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ وَعَلَى هذا فَلَا يَكُونُ الْكَعْبِيُّ مُفَاجِئًا بِإِنْكَارِ الْمُبَاحِ وهو قَضِيَّةُ اسْتِدْلَالِهِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ عنه في الْبُرْهَانِ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ أَنَّهُ بَاحَ بِإِنْكَارِ الْمُبَاحِ في

الشَّرِيعَةِ وقال هو وَاجِبٌ وَكَذَا نَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ والأوسط وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ وَالْأَلْيَقُ بِهِ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَنَسَبَهُ إلَى مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ فلم يَنْفَرِدْ بِهِ إذَنْ كما قال بَعْضُهُمْ فَقَدْ قال بِهِ أبو الْفَرَجِ من الْمَالِكِيَّةِ حَكَاهُ عنه الْبَاجِيُّ ثُمَّ قال إنْ كان مُرَادُهُمْ بِكَوْنِ الْمُبَاحِ مَأْمُورًا بِهِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ في فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَالْخِلَافُ في الْعِبَارَةِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْإِبَاحَةَ لِلْفِعْلِ اقْتِضَاءٌ له على جِهَةِ الْإِيجَابِ أو النَّدْبِ وَأَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ خَيْرٌ من تَرْكِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وقال الْإِبْيَارِيُّ ذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا مُبَاحَ في الشَّرِيعَةِ وَلَهُ مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا وهو الصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَكِنَّهُ دُونَ النَّدْبِ كما أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَكِنْ دُونَ الْوَاجِبِ وَهَذَا بَنَاهُ على أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ وَيَحْسُنُ أَنْ يَطْلُبَهُ الطَّالِبُ لِحُسْنِهِ وَهَذَا هو الذي اعْتَمَدَهُ في الْفَتْوَى وهو غَيْرُ مَعْقُولٍ فإن هذا الْمَطْلُوبَ إمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ فِعْلُهُ على تَرْكِهِ أو لَا فَإِنْ لم يَتَرَجَّحْ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ تَرَجَّحَ فَإِنْ لَحِقَ الذَّمُّ على تَرْكِهِ فَهُوَ الْوَاجِبُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمَنْدُوبُ وَمَنْ تَخَيَّلَ وَاسِطَةً فَلَا عَقْلَ له انْتَهَى وَأَلْزَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَصْحَابَنَا الْمَصِيرَ إلَى مَقَالَةِ الْكَعْبِيِّ من قَوْلِهِمْ النَّهْيُ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ من حَيْثُ إنَّ الزِّنَى لَمَّا كان مَنْهِيًّا عنه فإن الْقَوَاطِعَ عنه بِالِاشْتِغَالِ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ وَلَكِنْ مع هذا كَوْنِ حُكْمِهَا عِنْدَ الْكَعْبِيِّ أو أَحَدِهَا وَاجِبًا على الْمُكَلَّفِ الْتَبَسَ بِهِ لِيَكُونَ قَاطِعًا له عن الزِّنَى وَيُخَيَّرُ في الْأَشْغَالِ الْقَاطِعَةِ فما اخْتَارَ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهِ منها تَعَيَّنَ وُجُوبُهُ كما يقول أَصْحَابُنَا إنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ الذي له أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ التي يَكُونُ التَّلَبُّسُ بها يَقْطَعُهُ عن ذلك الْمَنْهِيِّ عنه وَيَكُونُ مُخَيَّرًا في التَّلَبُّسِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَيَجْرِي مَجْرَى التَّخْيِيرِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْحَقُّ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ بِخِطَابِ الْإِبَاحَةِ إنَّمَا هو ذَاتُهُ من غَيْرِ اعْتِبَارٍ آخَرَ فَأَمَّا من جِهَةِ أَنَّهُ شَاغِلٌ عن الْمَعَاصِي فَلَيْسَ هذا بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ وَلَا هو الْمَطْلُوبُ من الْمُكَلَّفِ وما صَوَّرَهُ الْكَعْبِيُّ من كَوْنِ ذلك ذَرِيعَةً وَوَسِيلَةً فَلَا نُنْكِرُهُ وَلَكِنْ الْمُنْكَرُ قَصْدُ الشَّارِعِ إلَيْهِ وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على أَنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَأَنَّهُ نَقِيضُ الْوَاجِبِ وَكَوْنُهَا وُصْلَةً لَا يَغْلِبُ حُكْمُهَا الْمَقْصُودَ الْمَنْصُوصَ عليه شَرْعًا وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ مَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ يَتَّجِهُ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَلَا طَرِيقَ إلَى الْجَمْعِ بين ذلك الْمَذْهَبِ وَخِلَافِ الْكَعْبِيِّ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْوَاجِبَ ما تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابٌ مَقْصُودٌ وَالْإِبَاحَةُ مَقْصُودَةٌ في

الْإِبَاحَاتِ ولم يُشْرَعْ لِلنَّهْيِ عن الْمَحْظُورَاتِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَزْنِ وَلَا تَسْرِقْ لم يُطْلَقْ له الرَّوَاحُ وَالْمَجِيءُ من غَيْرِ خُطُورِ النَّهْيِ عن السَّرِقَةِ وَلَيْسَ الْوُجُوبُ وَصْفًا رَاجِعًا إلَى الْعَيْنِ حتى يُقَالَ لَا أَثَرَ لِقَصْدِ الْمُخَاطَبِ فيه وَلَعَلَّ الْكَعْبِيَّ يَعْتَقِدُ الْوُجُوبَ وَصْفًا رَاجِعًا إلَى الْعَيْنِ كما قالوا في الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ أو يُخَالِفُ في الْعِبَارَةِ قال وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةِ إذْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ نعم قد يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ شَرْعِيَّةٌ فإن النَّاوِيَ لِلصَّوْمِ لَا يَقْصِدُ الْإِمْسَاكَ لَيْلًا وَلَا يَنْوِي بِصَوْمِهِ تَقَرُّبًا وقد يُقَالُ ذلك لِأَنَّ الْوَاجِبَ منه مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مِقْدَارُهُ فَيُقَالُ الْمَجْهُولُ كَيْفَ يَكُونُ وَاجِبًا وَلَا إمْكَانَ فيه وَالْمُخَالِفُ فيه يقول لَا جَرَمَ هذا النَّوْعُ وَآخِرُ جُزْءٍ من الرَّأْسِ لَا يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُمَا لَا يَتَبَيَّنُ فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَتَبْقَى تَسْمِيَةُ الْوَاجِبِ من هذه الْجِهَةِ وَإِلَّا فما عَلِمَ الْحَكِيمُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى أَدَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَجْعَلُهُ وَاجِبًا انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ بَنَى الْكَعْبِيُّ مَذْهَبَهُ على أَصْلٍ إذَا سَلِمَ له فَالْحَقُّ ما قَالَهُ وهو أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَلَا مُخَلِّصَ من مَذْهَبِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ هذا الْأَصْلِ انْتَهَى وَكَذَا قال الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِأَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ تَرْكُ الْحَرَامِ لِأَنَّهُ ما من مُبَاحٍ إلَّا وهو تَرْكٌ لِمَحْظُورٍ وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْمُبَاحِ وَاجِبًا من جِهَةِ وُقُوعِهِ تَرْكًا لِمَحْظُورٍ وَأُجِيبُ عنه بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ من فِعْلِهِ تَرْكُ الْحَرَامِ لِجَوَازِ تَرْكِهِ بِوَاجِبٍ أو مَنْدُوبٍ فَلَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْحَرَامِ بَلْ يَحْصُلُ بِهِ تَرْكُهُ وَلَا يَتَعَيَّنُ الْمُبَاحُ الذي بِهِ يُتْرَكُ الْحَرَامُ قال ابن الْحَاجِبِ وَفِيهِ إقْرَارٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْمُبَاحِ وَاجِبٌ قال الْآمِدِيُّ هذا الْجَوَابُ صَادِرٌ مِمَّنْ لم يَعْلَمْ كَلَامَهُ فإنه إذَا ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِدُونِ التَّلَبُّسِ بِضِدِّهِ من أَضْدَادِهِ وقد تَقَرَّرَ أَنَّ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَالتَّلَبُّسُ بِضِدٍّ من أَضْدَادِهِ وَاجِبٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُ إذَا تَرَكَ وَاجِبًا مُضَيَّقًا كَإِنْقَاذِ أَعْمَى من بِئْرٍ وَاشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ أَنَّهُ حَرَامٌ

قال ابن الْحَاجِبِ وهو يَلْتَزِمُهُ قال وَلَا مُخَلِّصَ عنه إلَّا بِأَنَّ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ من عَقْلِيٍّ أو عَادِيٍّ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَعَلَّ هذا هو الذي دَعَاهُ إلَى ذلك في مَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا السُّؤَالَ اسْتَصْعَبَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَزَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ الْكَعْبِيِّ صَحِيحٌ حتى قال الْآمِدِيُّ عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِي حَلُّهُ وَنَحْنُ نَقُولُ قَوْلُهُ إنَّ الْحَرَامَ إذَا تُرِكَ بِهِ حَرَامٌ آخَرُ يَكُونُ وَاجِبًا من جِهَةٍ أُخْرَى يُقَالُ عليه إنَّ التَّفْصِيلَ بِالْجِهَتَيْنِ إنَّمَا هو في الْعَقْلِ دُونَ الْخَارِجِ فَلَيْسَ لنا في الْخَارِجِ فِعْلٌ وَاحِدٌ يَكُونُ وَاجِبًا حَرَامًا لِاسْتِحَالَةِ تَقَوُّمِ الْمَاهِيَّةِ بِفَصْلَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ وَهُمَا فَصْلُ الْوُجُوبِ وَفَصْلُ الْحُرْمَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُقَالُ على قَوْلِهِ إنَّ الْمُبَاحَ وَاجِبٌ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ في الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وقد عُلِمَ بِالْبَدِيهَةِ امْتِنَاعُ تَقْوِيمِ الْمَاهِيَّةِ بِفَصْلَيْنِ أو فُصُولٍ مُتَعَانِدَةٍ وَمِنْ ثَمَّ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ مُمَيِّزَانِ ذَاتِيَّانِ بِخِلَافِ الْمُمَيِّزَيْنِ الْعَرَضِيَّيْنِ الْخَاصَّيْنِ وَاللَّازِمَيْنِ وَأَيْضًا نَقُولُ قَوْلُهُ فِعْلُ الْمُبَاحِ تَرْكُ الْحَرَامِ قُلْنَا تَرْكُهُ له بِخُصُوصِهِ أو تَرْكٌ له مع غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ منه كَوْنُ الْفِعْلِ وَاجِبًا وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا نُسَلِّمُ وَسَنَدُ الْمَنْعِ أَنَّ التَّلَبُّسَ بِالْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ تَرْكٌ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ وَالْمُبَاحَةِ غير الْفِعْلِ الْمُتَلَبَّسِ بِهِ وَتَرْكُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ لَا يَتَعَيَّنُ بِهِ ضِدٌّ مُعَيَّنٌ عَمَلًا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ على الْكَافِرِ فإنه لم يَتَعَيَّنْ من مَفْهُومِهِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ على الْمُسْلِمِ ثُمَّ نَقُولُ ما ذَكَرْتُمْ وَإِنْ دَلَّ على وُجُوبِهِ قُلْنَا ما يَدُلُّ على إبَاحَتِهِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ الذي ليس بِمُضَيَّقٍ وَلِتَرْكِ الْحَرَامِ وإذا تَعَارَضَتْ اللَّوَازِمُ تَسَاقَطَتْ فَيَبْقَى الْمُبَاحُ على إبَاحَتِهِ الثَّانِي أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعَارُضِ اللُّزُومِ الذي اسْتَلْزَمَهُ لَوَازِمُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَمَتَى تَعَارَضَتْ اللَّوَازِمُ تَسَاقَطَتْ الثَّالِثِ أَنَّا لو فَرَضْنَا جَمِيعَ الْأَفْعَالِ دَائِرَةً أَخَذَتْ الْأَفْعَالُ الْمُبَاحَةُ خُمْسَهَا فإذا حَصَلَ الْفِعْلُ الْمُتَلَبَّسُ بِهِ فَهُوَ مَرْكَزُ الدَّائِرَةِ وإذا كان مَثَلًا مُبَاحًا بِالذَّاتِ الذي أَقَرَّ الْكَعْبِيُّ بِهِ حَصَلَ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ نِسْبَةٌ إلَى كل خُمْسٍ من أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَتَسَاقَطَتْ النِّسَبُ الْخَمْسُ وَتَبْقَى الْإِبَاحَةُ الذَّاتِيَّةُ الثَّانِي من أَدِلَّةِ الدَّائِرَةِ إذَا تَلَبَّسَ الْمُتَلَبِّسُ حَصَلَتْ له الْإِبَاحَةُ بِالذَّاتِ وَبِالنِّسْبَةِ حَصَلَ منه الْوُجُوبُ نَاشِئًا عن النِّسْبَةِ وَكُلُّ ما كان فيه أَمْرَانِ يَقْتَضِيَانِ حُكْمَيْنِ

عَارَضَهُمَا أَمْرٌ مُسَاوٍ لِأَحَدِهِمَا يَقْتَضِي نَفْيَ ذلك الْحُكْمِ فإنه مُرَجِّحٌ وُقُوعَ نَقِيضِ الْأَمْرَيْنِ فَيَرْجَحُ الْقَوْلُ بِإِبَاحَةِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ الثَّالِثِ أَنْ تَقُولَ هذا الْفِعْلُ فيه إبَاحَةٌ ذَاتِيَّةٌ وَإِبَاحَةٌ نِسْبِيَّةٌ وَفِيهِ وُجُوبٌ نِسْبِيٌّ مُعَارِضٌ لِلْإِبَاحَةِ فَيَتَسَاقَطَانِ وَتَبْقَى الْإِبَاحَةُ الذَّاتِيَّةُ الرَّابِعِ أَنْ تَقُولَ الْإِبَاحَةُ النِّسْبِيَّةُ تُرَجَّحُ بِانْفِرَادِهَا على الْوُجُوبِ النِّسْبِيِّ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ النِّسْبِيَّةَ مُتَوَقِّفَةٌ على النِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْوُجُوبُ يَتَوَقَّفُ على تَرْكِ الْحَرَامِ وَالْحَرَامُ مُتَوَقِّفٌ على النِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فَتَرْجَحُ الْإِبَاحَةُ وقد رُدَّ مَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ أَيْضًا بِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ الْمَنْدُوبِ وَاجِبًا إذْ يُتْرَكُ بِهِ الْحَرَامُ وَكَذَا سَائِرُ الْأَقْسَامِ مع نَقَائِضِهَا وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ انْتِقَالٍ عن تَحْرِيمٍ من قِيَامٍ أو قُعُودٍ أو نَوْمٍ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وهو خَرْقُ الْإِجْمَاعِ وَيَلْزَمُ فِيمَا إذَا اشْتَغَلَ عن الْقَتْلِ بِالزِّنَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَيَجْمَعُ بين النَّقِيضَيْنِ وهو مُحَالٌ وَلِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَمَنْ سُبِقَ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وقال بَعْضُهُمْ الْمُبَاحُ أَحَدُ أَضْدَادِ الْمُحَرَّمِ وَالتَّلَبُّسُ بِأَحَدِهَا وَاجِبٌ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ فَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْوُجُوبِ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وهو قَوِيُّ الْإِشْكَالِ على مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْوَاصِفِينَ كُلَّ وَاحِدٍ من التَّخْيِيرِ بِالْوُجُوبِ لَا على مَذْهَبِ من يقول الْوَاجِبُ الْمُسَمَّى فإنه لَا يَلْزَمُهُ وَصْفُ أَحَدِ الْمُبَاحَاتِ على التَّعْبِيرِ بِالْوُجُوبِ

فَصْلٌ في الْمَنْدُوبِ وهو ما يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ من حَيْثُ هو تَارِكٌ له فَخَرَجَ بِالْقَيْدِ ما لو أَقْدَمَ على ضِدٍّ من أَضْدَادِ الْمَنْدُوبِ وهو مَعْصِيَةٌ في نَفْسِهِ فَيَلْحَقُهُ الْإِثْمُ إذَا تَرَكَ الْمَنْدُوبَ من حَيْثُ عِصْيَانُهُ لَا من حَيْثُ تَرْكُهُ الْمَنْدُوبَ قَالَهُ في التَّلْخِيصِ قال وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ ما يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ بَاطِلٌ لِصِدْقِهِ على فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُسَمَّى نَدْبًا كما لَا يُسَمَّى مُبَاحًا وَالنَّدْبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَالتَّطَوُّعُ وَالسُّنَّةُ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وفي الْمَحْصُولِ لَفْظُ السُّنَّةِ يَخْتَصُّ في الْعُرْفِ بِالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ قَوْلِنَا هذا الْفِعْلُ وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ وَمِنْهُمْ من قال السُّنَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَنْدُوبِ بَلْ تَتَنَاوَلُ ما عُلِمَ وُجُوبُهُ أو نَدْبِيَّتُهُ ا هـ وقال الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ ما عَدَا الْفَرَائِضَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ سُنَّةٌ وَهِيَ ما وَاظَبَ عليها النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمُسْتَحَبٌّ وهو ما فَعَلَهُ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِهِ ما أَمَرَ بِهِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَتَطَوُّعَاتٌ وهو ما لم يَرِدْ فيه بِخُصُوصِهِ نَقْلٌ بَلْ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ وَرَدَّهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في الْمِنْهَاجِ بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَجَّ في عُمُرِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَفْعَالُهُ فيها سُنَّةٌ وَإِنْ لم تَتَكَرَّرْ وَالِاسْتِسْقَاءُ من الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةُ لم يُنْقَلْ إلَّا مَرَّةً وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ ا هـ وفي وَجْهٍ ثَالِثٍ أَنَّ النَّفَلَ وَالتَّطَوُّعَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ وَهُمَا ما سِوَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَنَحْوُ ذلك أَنْوَاعٌ لها وفي وَجْهٍ رَابِعٍ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ السُّنَّةُ ما اُسْتُحِبَّ فِعْلُهُ وَكُرِهَ تَرْكُهُ وَالتَّطَوُّعُ ما اُسْتُحِبَّ فِعْلُهُ ولم يُكْرَهْ تَرْكُهُ وفي وَجْهٍ خَامِسٍ حَكَاهُ في بَابِ الْوُضُوءِ من الْمَطْلَبِ السُّنَّةُ ما فَعَلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْمُسْتَحَبُّ ما أَمَرَ بِهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أو لَا أو فَعَلَهُ ولم يُدَاوِمْ عليه فَالسُّنَّةُ إذًا مَأْخُوذَةٌ من الْإِدَامَةِ وَقِيلَ السُّنَّةُ ما تُرَتَّبُ كَالرَّوَاتِبِ مع الْفَرَائِضِ وَالنَّفَلُ وَالنَّدْبُ ما زَادَ على ذلك حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ

وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ النَّفَلُ قَرِيبٌ من النَّدْبِ إلَّا أَنَّهُ دُونَهُ في الرُّتْبَةِ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ما ارْتَفَعَتْ رُتْبَتُهُ في الْأَمْرِ وَبَالَغَ الشَّرْعُ في التَّخْصِيصِ منه يُسَمَّى سُنَّةً وما كان في أَوَّلِ هذه الْمَرَاتِبِ تَطَوُّعًا وَنَافِلَةً وما تَوَسَّطَ بين هَذَيْنِ فَضِيلَةً وَمُرَغَّبًا فيه وَفَرَّقَ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ بين السُّنَّةِ وَالْهَيْئَةِ بِأَنَّ الْهَيْئَةَ ما يَتَهَيَّأُ بها فِعْلُ الْعِبَادَةِ وَالسُّنَّةَ ما كانت في أَفْعَالِهَا الرَّاتِبَةِ فيها وَجَعَلَ التَّسْمِيَةَ وَغَسْلَ الْكَفَّيْنِ في الْوُضُوءِ من الْهَيْئَاتِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سُنَّةٌ وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ وقال ابن الْعَرَبِيِّ أخبرنا الشَّيْخُ أبو تَمَّامٍ بِمَكَّةَ قال سَأَلْت الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ بِبَغْدَادَ عن قَوْلِ الْفُقَهَاءِ إنَّهُ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ وَنَفْلٌ وَهَيْئَةٌ فقال هذه عَامِّيَّةٌ في الْفِقْهِ وما يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إلَّا فَرْضٌ لَا غَيْرُ قال وقد اتَّبَعَهُمْ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فذكر أَنَّ في الصَّلَاةِ سُنَّةً وَهَيْئَةً وَأَرَادَ بِالْهَيْئَةِ رَفْعَ الْيَدَيْنِ وَنَحْوَهُ قال وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى السُّنَّةِ قال وَأَمَّا أنا فَقَدْ سَأَلْت عن هذا أُسْتَاذِي الْقَاضِي أَبَا الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيَّ بِالْبَصْرَةِ فقال هذه أَلْقَابٌ لَا أَصْلَ لها وَلَا نَعْرِفُهَا في الشَّرْعِ قُلْت له قد ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا الْبَغْدَادِيُّونَ عبد الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ فقال الْجَوَابُ عَلَيْكُمْ قال ابن الْعَرَبِيِّ وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا النُّظَّارُ فَقَالُوا السُّنَّةُ ما صَلَّاهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ عليها وَلِهَذَا لم يَجْعَلْ مَالِكٌ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ سُنَّةً وَالْفَضِيلَةُ ما دخل في الصَّلَاةِ وَلَيْسَ من أَصْلِ نَفْسِهَا كَالْقُنُوتِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ قال وَهَذَا خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا في الثَّوَابِ فَالسُّنَّةُ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَالنَّدْبُ وَمُتَعَلِّقُهُ من الثَّوَابِ أَكْثَرُ من غَيْرِهِ وقد رَكِبَ الشَّافِعِيُّ مَسْلَكًا ضَيِّقًا فَأَطْلَقَ على الْجَمِيعِ سُنَّةً ثُمَّ قال إنَّ تَرْكَ السُّورَةِ لَا يَقْتَضِي سُجُودَ السَّهْوِ وَتَرْكَ الْقُنُوتِ يَقْتَضِي حتى قال أَصْحَابُنَا لَا يُوجَدُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مَسْأَلَةٌ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً في قَوْلِ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَنَقَلَهُ عن أبي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَكَثِيرٍ من الْأَصْحَابِ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَصَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْأَمْرِ وَدَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّدْبُ فإن ذلك لَا يَجْعَلُهُ مَجَازًا لِأَنَّهُ حَمْلٌ

على بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ وَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ فَكَانَ حَقِيقَةً كَلَفْظِ الْعُمُومِ إذَا خُصَّ في بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ وَبِهِ قال أبو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا قَسَّمُوا الْأَمْرَ إلَى وَاجِبٍ وَنَدْبٍ وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ وقال الْكَرْخِيّ وأبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ ليس مَأْمُورًا بِهِ حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وأبو إِسْحَاقَ وأبو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وقال ابن الْعَرَبِيِّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وقال الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في كُتُبِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال ليس مَأْمُورًا بِهِ وهو خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ ثَبَتَ هذا كان في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ قال ابن الصَّبَّاغِ وَقَوْلُنَا إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ يَدُلُّ على أَنَّهُ ليس مَأْمُورًا بِهِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَمْرَ إنْ كان حَقِيقَةً في الْوُجُوبِ فَقَطْ فَالْمَنْدُوبُ ليس مَأْمُورًا بِهِ وَإِلَّا فَمَأْمُورٌ بِهِ قال وَالْعَجَبُ من قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فإنه من جُمْلَةِ الْوَاقِفِيَّةِ في مُقْتَضَى الْأَمْرِ فَكَيْفَ اخْتَارَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وكان من حَقِّهِ التَّوَقُّفُ فيه فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مع الْقَوْلِ بِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ حَقِيقَةٌ في الْوُجُوبِ وَهَذَا السُّؤَالُ يَخُصُّ الْآمِدِيَّ وَابْنَ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُمَا زَعَمَاهُ كَذَلِكَ قُلْنَا الْكَلَامُ هُنَا في الْأَمْرِ هو صِيغَةُ أ م ر لَا في صِيغَةِ افْعَلْ وَالْأَمْرُ مَقُولٌ على الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِالْحَقِيقَةِ وافعل يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ وَمِنْهُمْ من قال الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ إلَّا إيجَابًا وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا فَيَدْخُلُ في مُطْلَقِ الْأَمْرِ لَا في الْمُطْلَقِ وَأَمَّا كَوْنُهُ حَقِيقَةً أو مَجَازًا فَهُوَ بَحْثٌ آخَرُ وقد أَجَابَ عنه أبو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ من الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ مُشَكَّكٌ كَالْوُجُودِ وَالْبَيَاضِ وَأَجَابَ الْقَاضِي منهم بِأَنَّ النَّدْبَ بَعْضُ الْوُجُوبِ فَهُوَ كَدَلَالَةِ الْعَلَمِ على بَعْضِهِ وهو ليس بِمَجَازٍ وَإِنَّمَا الْمَجَازُ دَلَالَتُهُ على غَيْرِهِ قِيلَ وَالْمَنْدُوبُ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَهُ على الْوَاجِبِ أَوْلَى أو هو الظَّاهِرُ من الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ ثُمَّ قِيلَ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ إذْ الْمَنْدُوبُ مَطْلُوبٌ بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَعَلَى هذا مَطْلُوبُ هذه الْمَسْأَلَةِ هل اقْتِضَاءُ الشَّرْعِ لِلْمَنْدُوبِ أَمْرٌ حَقِيقَةً

أَمْ لَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ وَلَهُ فَوَائِدُ أَحَدُهَا قال الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ إنَّمَا جَعَلَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ لَفْظِيًّا لِتَعَلُّقِهِ بِبَحْثِ اللُّغَةِ وَإِلَّا فَفَائِدَتُهَا في الْأُصُولِ أَنَّهُ إذَا قال الرَّاوِي أُمِرْنَا أو أَمَرَنَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَذَا فَإِنْ قُلْنَا لَفْظُ الْأَمْرِ يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ كان اللَّفْظُ ظَاهِرًا في ذلك حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خُولِفَ فيها من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبَحْثُ الْعَقْلِيُّ هل وَجَدَ في النَّدْبِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالثَّانِي هل يُسَمَّى النَّدْبُ أَمْرًا وَهَذَا بَحْثٌ لُغَوِيٌّ وقد نُوزِعَ في الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَكَذَا جَعَلَ ابن بَرْهَانٍ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ ما لو قال الصَّحَابِيُّ أُمِرْنَا أو أَمَرَنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو نَهَانَا فَعِنْدَنَا يَجِبُ قَبُولُهُ وقال الظَّاهِرِيَّةُ لَا يُقْبَلُ حتى يُعْقَلَ لَفْظُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ عِنْدَهُمْ ليس بِمَأْمُورٍ بِهِ وَعِنْدَنَا مَأْمُورٌ بِهِ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْأَمْرِ وَدَلَّ دَلِيلٌ على أَنَّهُ لم يُرِدْ بِهِ الْوُجُوبَ فَمَنْ قال بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَمَلَهُ على النَّدْبِ ولم يَحْتَجْ في ذلك إلَى دَلِيلٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَهُ حَقِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالْإِطْلَاقِ وَالْأُخْرَى بِالتَّقْيِيدِ وَكَمَا حُمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ على إحْدَاهُمَا حُمِلَ عِنْدَ التَّقْيِيدِ على الْأُخْرَى وَمَنْ قال إنَّهُ مَجَازٌ لم يَحْمِلْهُ عليه إلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ على الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ الثَّالِثَةُ لِحَمْلِ لَفْظِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ على الْوُجُوبِ أو النَّدْبِ وَجْهَانِ وقال في الْمَحْصُولِ مَنْشَأُ الْخِلَافِ هَاهُنَا أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ في مَاذَا فَإِنْ كان حَقِيقَةً في التَّرْجِيحِ الْمُطْلَقِ من غَيْرِ إشْعَارٍ بِجَوَازِ الْمَنْعِ من التَّرْكِ وَلَا بِالْمَنْعِ منه فَالْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ وَإِنْ كان حَقِيقَةً في التَّرْجِيحِ الْمَانِعِ من النَّقِيضِ فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا

بِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ إنْ كان حَقِيقَةً في الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بين الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كان مَأْمُورًا بِهِ وَإِنْ كان حَقِيقَةً في الْوُجُوبِ فَلَا وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ على أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَأَمَرْتُهُمْ أَمْرَ إيجَابٍ لَا أَمْرَ نَدْبٍ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْبَزَّارِ في مُسْنَدِهِ لَفَرَضْتُ عليهم فُرُوعٌ الْمَنْدُوبُ حَسَنٌ بِلَا خِلَافٍ وهو من التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْقَاضِي خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وهو مَبْنِيٌّ على تَفْسِيرِ التَّكْلِيفِ وَسَيَأْتِي وَلَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَإِلَّا لَنَاقَضَ أَصْلَ نَدْبِيَّتِهِ وَأَمَّا وُجُوبُ إتْمَامِ الْحَجِّ فَلِاخْتِصَاصِهِ بِأَنَّ فَرْضَهُ كَنَفْلِهِ نِيَّةً وَكَفَّارَةً وَغَيْرِهِمَا وَمِنْهُمْ من جَعَلَهَا مُفَرَّعَةً على مَسْأَلَةِ الْكَعْبِيِّ وهو أَنَّ ما جَازَ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَاجِبًا وَالْحَقُّ خِلَافُهُ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْكَعْبِيِّ ما يَجُوزُ تَرْكُهُ وَالْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ هُنَا لَا يُجَوِّزُ التَّرْكَ فَلَا يَصِحُّ تَفْرِيعُهَا عليها قال ابن الْمُنِيرِ وَوَقَعَ لي مَأْخَذٌ لَطِيفٌ لِمَالِكٍ في أَنَّ الشَّرْعَ يُلْزِمُ أَنَّ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَنَحْوَهُمَا عِبَادَاتٌ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ فَلَوْ رَكَعَ إنْسَانٌ فَتَرَكَ السُّجُودَ لم يَكُنْ مُتَعَبِّدًا أَلْبَتَّةَ فإذا شَرَعَ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَجَبَ عليه الْإِتْمَامُ وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ على مُعْتِقِ الْبَعْضِ أَصْلًا في هذا فإن حَاصِلَهُ إيجَابُ الْإِتْمَامِ على من شَرَعَ وَيَكُونُ نَظِيرَ عِتْقِ مُشْكِلٍ في الْعِبَادَاتِ من حَيْثُ قَبْلُ التَّجْزِئَةِ ابْتِدَاءً وَاسْتَقَرَّتْ فيه التَّنَفُّلُ على الرَّاحِلَةِ لِضَرُورَةِ السَّفَرِ فإنه يَقْتَصِرُ على بَعْضِ الْأَرْكَانِ وَيَنْتَقِلُ من الْإِتْمَامِ إلَى الْإِيمَاءِ قلت وهو يَرْجِعُ لِمُنَاسَبَةٍ مُتَدَافِعَةٍ كما تَرَى وقال ابن عبد الْبَرِّ من احْتَجَّ على الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ فإنه جَاهِلٌ بِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فيها على قَوْلَيْنِ فَأَكْثَرُهُمْ قالوا لَا تُبْطِلُوهَا بِالرِّيَاءِ وَأَخْلِصُوهَا وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَقِيلَ لَا تُبْطِلُوهَا بِالْكَبَائِرِ وهو قَوْلُ

الْمُعْتَزِلَةِ وقد يُقَالُ اللَّفْظُ عَامٌّ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِالنَّذْرِ وفي الِاسْتِذْكَارِ لِلدَّارِمِيِّ في بَابِ الِاعْتِكَافِ إذَا دخل في عَمَلِ تَطَوُّعٍ ثُمَّ نَوَاهُ وَاجِبًا فَحَكَى أبو حَامِدٍ أَنَّ الْمَرْوَزِيِّ قال يَجِبُ وقال غَيْرُهُ لَا يَجِبُ وَهَلْ يَجِبُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ يُنْظَرُ فَإِنْ كان من الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ وَجَبَ كما لو أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِسْقَاءِ في الْجَدْبِ تَجِبُ طَاعَتُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ من الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ لَا يَجِبُ كما لو أَمَرَهُمْ بِالْعِتْقِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَأَفْتَى النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ إذَا أَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ من الِاسْتِسْقَاءِ وَجَبَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَتَوَقَّفَ فيه بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ ليس من الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ فَهُوَ يُشْبِهُ أَمْرَهُ بِالصَّدَقَةِ وَذَكَرُوا في السِّيَرِ أَنَّ الْإِمَامَ يَأْمُرُهُمْ بِصَلَاةِ الْعِيدِ وَهَلْ هو وَاجِبٌ أو مُسْتَحَبٌّ فيه وَجْهَانِ قال في الرَّوْضَةِ قُلْت الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْأَمْرِ وَإِنْ قُلْنَا صَلَاةُ الْعِيدِ سُنَّةٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالطَّاعَةِ لَا سِيَّمَا ما كان شِعَارًا ظَاهِرًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَنْدُوبِ آكَدَ من بَعْضٍ وَلِهَذَا يَقُولُونَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَا يَجِيءُ فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْوَاجِبِ كما اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ وَالْمُرَادُ تَفَاصِيلُ الْأُجُورِ وَالثَّوَابِ وَإِنْ تَسَاوَتْ في التَّرْكِ وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ السُّنَنَ إلَى أَبْعَاضٍ وَهَيْئَاتٍ فَخَصُّوا ما تَأَكَّدَ أَمْرُهُ بِاسْمِ الْبَعْضِ كَأَنَّهُ لِتَأَكُّدِهِ صَارَ كَالْجُزْءِ وهو اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ لَا خَفَاءَ أَنَّ مَرَاتِبَ السُّنَنِ مُتَفَاوِتَةٌ في التَّأْكِيدِ وَانْقِسَامِ ذلك إلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ وَمُتَوَسِّطَةٍ وَنَازِلَةٍ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ على الطَّلَبِ فَمِنْ الناس من قال لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ رُبَّمَا فَرَّقُوا بِلَفْظِ الْهَيْئَاتِ قال وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ بين السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ كما يَفْعَلُهُ الْمَالِكِيَّةُ فلم أَرَهُ إلَّا في كَلَامِ صَاحِبِ الذَّخَائِرِ فإنه حَكَى وَجْهَيْنِ في أَنَّ غَسْلَ الْكَفِّ من سُنَنِ الْوُضُوءِ أو من فَضَائِلِهِ مَسْأَلَةٌ لَا يُتْرَكُ الْمَنْدُوبُ إذَا صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ وَلَا يُتْرَكُ لِكَوْنِهِ صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ خِلَافًا لِابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَلِهَذَا تُرِكَ التَّرْجِيعُ في الْأَذَانِ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْقُنُوتُ في الصُّبْحِ وَالتَّخَتُّمُ في الْيَمِينِ وَتَسْطِيحُ

الْقُبُورِ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَرَكَ الْقِيَامَ لِلْجِنَازَةِ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ وَأُجِيبُ بِأَنَّ له ذلك لِأَنَّهُ مُشَرِّعٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَا يَتْرُكُ سُنَّةً صَحَّتْ عنه وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ بين السُّنَنِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَبَيْنَ الْهَيْئَاتِ التَّابِعَةِ فقال لَا يُتْرَكُ الْقُنُوتُ إذَا صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ بِخِلَافِ التَّسْطِيحِ وَالتَّخَتُّمِ في الْيَمِينِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا هَيْئَاتٌ تَابِعَةٌ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا مَسْأَلَةٌ لَا يُتْرَكُ الْمَنْدُوبُ لِخَوْفِ اعْتِقَادِ الْعَامَّةِ وُجُوبَهُ وَلَا يُتْرَكُ لِخَوْفِ اعْتِقَادِ الْعَامَّةِ وُجُوبَهُ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَوَافَقَهُ من أَصْحَابِنَا أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِيمَا حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ في الِاسْتِذْكَارِ أَنَّهُ قال لَا أُحِبُّ أَنْ يُدَاوِمَ الْإِمَامُ على مِثْلِ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ بِالْجُمُعَةِ وَنَحْوِهِ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ الْعَامَّةُ وُجُوبَهُ مَسْأَلَةٌ سُنَّةُ الْعَيْنِ وَسُنَّةُ الْكِفَايَةِ وَكَمَا يَنْقَسِمُ الْفَرْضُ إلَى عَيْنٍ وَكِفَايَةٍ فَكَذَلِكَ السُّنَّةُ وَسُنَّةُ الْكِفَايَةِ أَنْ يَقَعَ الِامْتِثَالُ لِأَمْرِ الِاسْتِحْبَابِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَيَنْقَطِعَ دَلَالَةُ النَّصِّ على الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا زَادَ على ذلك وَلَا يَبْقَى مُتَسَحَّبًا بَلْ دَاخِلًا في حَيِّزِ الْمُبَاحِ أو غَيْرِهِ بِخِلَافِ سُنَّةِ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا بِفِعْلِ الْبَعْضِ الِاسْتِحْبَابُ مَوْجُودٌ في حَقِّ الْبَاقِينَ كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَمِثَالُ سُنَّةِ الْعَيْنِ الْوِتْرُ وَصِيَامُ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَمِثَالُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّشْمِيتُ وَكَذَا الْأُضْحِيَّةَ كما ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عن الْأَصْحَابِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ إذَا ضَحَّى الرَّجُلُ في بَيْتِهِ فَقَدْ وَقَعَ اسْمُ الْأُضْحِيَّةِ وَكَذَلِكَ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ حَكَاهُ في الرَّوْضَةِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ وفي حديث الْأَعْرَابِيِّ ما يَقْتَضِيهِ وَكَذَا ما يُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ مِمَّا

يُنْدَبُ إلَيْهِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَيُفَارِقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ سُنَّةَ الْكِفَايَةِ في أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يُنَافِيهِ الِاسْتِحْبَابُ في حَقِّ من زَادَ على الْقَدْرِ الذي سَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ وَالسُّنَّةُ على الْكِفَايَةِ يُنَافِيهَا الِاسْتِحْبَابُ فِيمَا زَادَ من ذلك الْوَجْهِ الذي اقْتَضَى الِاسْتِحْبَابَ وَهُنَا فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا الْمَشْهُورُ وُقُوعُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ الْمَشْهُورُ وُقُوعُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ وَخَالَفَ في ذلك الشَّاشِيُّ وقال في كِتَابِهِ الْمُعْتَمَدِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ما نَصُّهُ لم نَرَ في أُصُولِ الشَّرْعِ سُنَّةً على الْكِفَايَةِ بِحَالٍ وَالسُّنَنُ مَعْلُومَةٌ وَيُخَالِفُ الْفَرْضُ حَيْثُ انْقَسَمَ إلَى عَيْنٍ وَكِفَايَةٍ فإن في الْكِفَايَةِ فَائِدَةً وَهِيَ السُّقُوطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ على الْبَاقِينَ وَالسُّنَّةُ لَا يَظْهَرُ لها أَثَرٌ في كَوْنِهَا على الْكِفَايَةِ لِأَنَّهَا لَا إثْمَ في تَرْكِهَا فَتَسْقُطُ كَمَنْ تَرَكَ بِفِعْلِ من فَعَلَ وَإِنَّمَا هِيَ ثَوَابٌ يَحْصُلُ له بِالسَّلَامِ مَثَلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ له ثَوَابٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ من غَيْرِ فِعْلٍ يُوجَدُ من جِهَةٍ تُسَاوِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا دخل الْمَسْجِدَ جَمَاعَةٌ سُنَّ لهم تَحِيَّةٌ بِالْمَسْجِدِ وَلَا تَسْقُطُ سُنَّةُ التَّحِيَّةِ في حَقِّ بَعْضِهِمْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَهَذَا لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مُوَجَّهٌ على الْجَمَاعَةِ احْتِيَاطًا لِيَحْصُلَ ذلك الْفَرْضُ فإذا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَسَقَطَ عن الْبَاقِينَ وَالسُّنَّةُ إنَّمَا أُمِرَ بها اسْتِحْبَابًا لِحَظِّ الْمَأْمُورِ في تَحْصِيلِ الثَّوَابِ له فَلَا يَحْصُلُ له ثَوَابٌ بِمَا لَا كَسْبَ له فيه ا هـ الثَّانِيَةُ سُنَّةُ الْكِفَايَةِ أَهَمُّ من سُنَّةِ الْعَيْنِ قد سَبَقَ أَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَهَمُّ من فَرْضِ الْعَيْنِ من جِهَةِ إسْقَاطِ الْحَرَجِ عن الْكُلِّ فَيَنْبَغِي على هذا أَنْ يُقَالَ بمثله هُنَا في سُنَّةِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ لَكِنْ لَا حَرَجَ هُنَا فَلْيَكُنْ أَفْضَلِيَّةُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ من جِهَةِ تَحْصِيلِهِ الثَّوَابَ لِلْجَمِيعِ وَفِيهِ بُعْدٌ كما تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ لم يَفْعَلْهُ وقد نَقَلَ النَّوَوِيُّ في كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ لو اشْتَرَكَ غَيْرُهُ في ثَوَابِ أُضْحِيَّتِهِ وَذَبَحَ عن نَفْسِهِ جَازَ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ تَضْحِيَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ

صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فَائِدَةٌ الْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى الْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى وقال بَعْضُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ بِمَا افْتَقَرَ من الطَّاعَاتِ إلَى النِّيَّةِ قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ قال وَالطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ وَالْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْمُطَاعِ وَالْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْمُرَادِ وَقِيلَ مُخَالَفَةُ الْمَعَاصِي وَهَذَا بِنَاءً منهم على أَنَّ الْأَمْرَ شَرْطُهُ الْإِرَادَةُ قال وَالْعِبَادَةُ ما كان طَاعَةً لِلَّهِ مَنْوِيًّا بِهِ سَوَاءٌ كان فِعْلًا كَالصَّلَاةِ أو تَرْكًا كَالزِّنَا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ الْوُضُوءُ ليس بِعِبَادَةٍ لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ وَلَنَا أَنَّ الْعِبَادَةَ مُشْتَقَّةٌ من التَّعَبُّدِ وَعَدَمُ النِّيَّةِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ عِبَادَةً وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَعِنْدِي أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالطَّاعَةَ وَالْقُرْبَةَ إنَّمَا يَكُونُ فِعْلًا وَتَرْكًا إذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ ذلك تَعَبُّدًا أو تَرَكَهُ تَعَبُّدًا فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ لَا بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ أو تَرَكَ شيئا من الْمُحَرَّمَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعَبُّدِ فَلَا يَكُونُ ذلك عِبَادَةً منه لِقَوْلِهِ تَعَالَى ذلك خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأَمَّا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا صَحَّتْ من غَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّ طَرِيقَهَا التَّرْكُ فَصَحَّ وَإِنْ لم يَقْصِدْ بِهِ التَّعَبُّدَ لِأَنَّهُ عَدَمُ الْفِعْلِ وَلَكِنْ لَا يُثَابُ عليه إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الْإِزَالَةَ لِلصَّلَاةِ أو لِأَجْلِ النَّهْيِ عنه فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عِبَادَةً وَأَمَّا الْقُرْبَةُ فقال الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ ما كان مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ منه رَجَاءَ الثَّوَابِ من

اللَّهِ تَعَالَى حَكَاهُ عنه الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْأَسْرَارِ قال وَلَا يَرِدُ عليه قَضَاءُ الدُّيُونِ وَرَدُّ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها وَمِنْ سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ النَّفْعُ لِلْآدَمِيِّ خَاتِمَةٌ السُّنَّةُ لَا تَعْدِلُ الْوَاجِبَ قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في الْأَمَالِي قال الْبَيْهَقِيُّ لَا يَعْدِلُ شَيْءٌ من السُّنَنِ وَاجِبًا أَبَدًا وهو مُشْكِلٌ لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُرَتَّبَانِ على حَسَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ ثَمَنُ دِرْهَمٍ من الزَّكَاةِ تَرْبُو مَصْلَحَتُهُ على مَصْلَحَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ تَطَوُّعًا وَأَنَّ قِيَامَ الدَّهْرِ لَا يَعْدِلُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ هذا خِلَافُ الْقَوَاعِدِ ا هـ وَفِيهِ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ إشْكَالَهُ هذا يَرْجِعُ بِالْإِشْكَالِ على مَنْعِهِ السَّابِقِ كَمَزِيَّةِ الْقَائِمِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ على فَرْضِ الْعَيْنِ لِتَوَفُّرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ مُتَقَابِلَةً لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ وَلَيْسَتْ مَفْسَدَةُ تَرْكِ النُّهُوضِ بِمُهِمَّاتِ شَعَائِرِ الدِّينِ أَقَلَّ من مَفْسَدَةِ التَّارِكِ لِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ أَكْثَرُ لِمَا فيه من خَرْمِ نِظَامِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ الثَّانِي أَنَّ ما مَثَّلَ بِهِ قد يَلْتَزِمُ إذْ تَرْكُ التَّطَوُّعِ صَدَقَةً كان أو صَلَاةً لَا إثْمَ فيه وَإِنْ كَثُرَ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَإِنْ قَلَّ فَنَاسَبَ تَأَكُّدُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ فَلَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ التَّفْضِيلِ الثَّالِثُ في كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ صُوَرٌ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ النَّفْلِ على الْفَرْضِ منها أَنَّ إبْرَاءَ الْمُعْسِرِ أَفْضَلُ من إنْظَارِهِ لِحُصُولِ الْغَرَضِ وَزِيَادَةٍ وَمِنْهَا ما قَالَهُ في الْأَذْكَارِ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ أَفْضَلُ لِحَدِيثٍ صَحِيحٍ فيه وَمِنْهَا أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ وَالْإِمَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ على ما صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِيهِمَا مع تَرْجِيحِهِ الْأَذَانَ وَمِنْهَا ما صَحَّحَهُ أَيْضًا من تَفْضِيلِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ على الْغُسْلِ من غُسْلِ الْمَيِّتِ مع وُجُوبِهِ في الْقَدِيمِ

فَصْلٌ في الْمَكْرُوهِ وهو لُغَةً ضِدُّ الْمُرَادِ وَيُطْلَقُ في حَقِّ اللَّهِ على مَعْنَى الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ أَيْ أَرَادَ التَّثْبِيطَ فَمَنَعَ الِانْبِعَاثَ فَسُمِّيَتْ إرَادَةَ كَرَاهَةٍ بِاعْتِبَارِ ضِدِّهِ لِأَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْمُتَضَادَّانِ وَلَا يُعْتَبَرُ هذا الْمَعْنَى في الشَّرْعِيَّاتِ لِأَنَّا لَا نَشْتَرِطُ في الْأَمْرِ الْإِرَادَةَ وَلَا في النَّهْيِ الْكَرَاهَةَ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ من التَّنْفِيرِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَيُطْلَقُ على أَرْبَعَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا الْحَرَامُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى كُلُّ ذلك كان سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا أَيْ مُحَرَّمًا وَوَقَعَ ذلك في عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في بَابِ الْآنِيَةِ وَأَكْرَهُ آنِيَةَ الْعَاجِ وفي بَابِ السَّلَمِ وَأَكْرَهُ اشْتِرَاطَ الْأَعْجَفِ وَالْمَشْوِيِّ وَالْمَطْبُوخِ لِأَنَّ الْأَعْجَفَ مَعِيبٌ وَشَرْطُ الْمَعِيبِ مُفْسِدٌ قال الصَّيْدَلَانِيُّ وهو غَالِبٌ في عِبَارَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هذا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ فَكَرِهُوا إطْلَاقَ لَفْظِ التَّحْرِيمِ الثَّانِي ما نُهِيَ عنه نَهْيَ تَنْزِيهٍ وهو الْمَقْصُودُ هُنَا الثَّالِثُ تَرْكُ الْأَوْلَى كَصَلَاةِ الضُّحَى لِكَثْرَةِ الْفَضْلِ في فِعْلِهَا وَحَكَى الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ مع أَنَّهُ لَا نَهْيَ فيه قال وَهَذَا عِنْدِي جَارٍ في كل مَسْنُونٍ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَقْصُودًا قلت وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ على أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الْإِحْرَامِ مَكْرُوهٌ وَفَرَّقَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذي قَبْلَهُ أَنَّ ما وَرَدَ فيه نَهْيٌ مَقْصُودٌ يُقَالُ فيه مَكْرُوهٌ وما لَا يُقَالُ فيه خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَا يُقَالُ مَكْرُوهٌ وَفَرَّقَ محمد بن الْحَسَنِ صَاحِبُ أبي حَنِيفَةَ بين الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ كَرَاهَةِ تَحْرِيمٍ فقال الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ما ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ وَالْحَرَامُ ما ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ كَالْوَاجِبِ مع الْفَرْضِ

الرَّابِعُ ما وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ في تَحْرِيمِهِ كَلَحْمِ السَّبُعِ وَيَسِيرِ النَّبِيذِ هَكَذَا عَدَّهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى من أَقْسَامِ الْكَرَاهَةِ وَبِهِ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا في الْفُرُوعِ في أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْمُخْتَلَفِ في جَوَازِهَا لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ اسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّ من أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عليه حَرَامٌ وَمَنْ أَدَّاهُ إلَى حِلِّهِ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ في حَقِّهِ إلَّا إذَا كان في شُبْهَةِ الْخَصْمِ حَزَازَةٌ في نَفْسِهِ وَوَقَعَ في قَلْبِهِ فَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْكَرَاهَةِ لِمَا فيه من خَوْفِ التَّحْرِيمِ وَإِنْ كان غَالِبُ الظَّنِّ الْحِلَّ وَيُتَّجَهُ هذا على مَذْهَبِ من يقول الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَأَمَّا على قَوْلِ من يقول كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَالْحِلُّ عِنْدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ قال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وَلَيْسَ في مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ أَصْعَبُ من الْقَضَاءِ بِالْكَرَاهَةِ في هذا الْقِسْمِ فإنه مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلَيْنِ جميعا وَإِنْ كان الْقَوْلَانِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِمَا كان الْمَصِيرُ إلَى الْكَرَاهَةِ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ ثُمَّ الذي يَتَأَتَّى في هذا التَّوَقُّفُ عن الْفِعْلِ وَإِنْ كان يَغْلِبُ على ظَنِّهِ الْحِلُّ لِاحْتِمَالِ التَّحْرِيمِ أَمَّا حَمْلُ غَيْرِهِ عليه أو الْفَتْوَى بِالْكَرَاهَةِ فَلَا وَجْهَ له عِنْدِي تَنْبِيهٌ إطْلَاقُ الْكَرَاهَةِ على هذه الْأُمُورِ هل هو من الْمُشْتَرَكِ أو حَقِيقَةٌ في التَّنْزِيهِ مَجَازٌ في غَيْرِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا ابن سُرَاقَةَ في كِتَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْرِيمِ مَسْأَلَةٌ قد تَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَرْعًا وقد تَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَرْعِيَّةً لِتَعْلِيقِ الثَّوَابِ عليها وقد تَكُونُ إرْشَادِيَّةً أَيْ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَمِنْهُ كَرَاهَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَكْلَ التَّمْرِ لِصُهَيْبٍ وهو أَرْمَدُ وَمِنْهُ كَرَاهَةُ

الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ على رَأْيٍ وَالنَّظَرِ في الْفَرْجِ مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هل هو مَنْهِيٌّ عنه الْمَكْرُوهُ الذي هو ضِدُّ الْمَنْدُوبِ هل هو مَنْهِيٌّ عنه أَمْ لَا فَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ في الْمَنْدُوبِ هل هو مَأْمُورٌ بِهِ من قال النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ فَلَيْسَ عِنْدَهُ بِمَنْهِيٍّ عنه وَمَنْ قال لِلتَّنْزِيهِ أو لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيمِ أو هو مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عنه وَيَدُلُّ على أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عنه قَوْله تَعَالَى وما نَهَاكُمْ عنه فَانْتَهُوا وَحَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَجْهَيْنِ في أَنَّ فِعْلَ الْمَكْرُوهِ هل هو مَعْصِيَةٌ أَمْ لَا وقال إنَّ الشَّافِعِيَّ مَرَّضَ الْقَوْلَ فيه وَمَالَ إلَى أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فقال وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً يَعْنِي في الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ قال الْقَاضِي الْمَعْصِيَةُ ضَرْبَانِ مُحَرَّمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِثْمُ وَمَعْصِيَةٌ من طَرِيقِ الْمُخَالَفَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بها إثْمٌ فَتَوَقُّفُ الشَّافِعِيِّ عن كَوْنِهِ مَعْصِيَةً فيها إثْمٌ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ عن الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ أَنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ على الذَّبِيحَةِ يَقْتَضِي الْإِثْمَ مع تَصْرِيحِهِ بِكَرَاهَةِ التَّرْكِ مَسْأَلَةٌ هل الْمَكْرُوهُ من التَّكْلِيفِ في أَنَّ الْمَكْرُوهَ هل هو من التَّكْلِيفِ أَمْ لَا وَالْخِلَافُ كَالْخِلَافِ في الْمَنْدُوبِ مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هل هو قَبِيحٌ الْمَكْرُوهُ هل هو قَبِيحٌ أَمْ لَا يَلْتَفِتُ على تَفْسِيرِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِقُبْحٍ وَلَا حُسْنٍ

مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هل يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ وَاقْتِضَاءٌ وَالْمَكْرُوهُ لَا يَكُونُ مَطْلُوبًا وَلَا مُقْتَضًى فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ لِلتَّنَاقُضِ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى في غَيْرِ ما تَعَلَّقَ بِهِ لَفْظُهَا كما قِيلَ في تَنْكِيسِ الْوُضُوءِ إنَّهُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ عَادَةَ السَّلَفِ في هَيْئَتِهِ لَا في أَصْلِ الْوُضُوءِ وهو إمْرَارُ الْمَاءِ وَلَا في شَرَائِطِهِ فلم يَمْنَعْ الْإِجْزَاءَ وَالْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ مع الْحَنَفِيَّةِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَثَّلَهَا الْأَئِمَّةُ بِالتَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ فَمَنْ يَرَاهُ يقول التَّنْكِيسُ مَكْرُوهٌ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في قَوْله تَعَالَى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَعِنْدَنَا هذا لَا يَتَنَاوَلُ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَا الْمُنَكَّسَ وَغَيْرُهُمْ يَتَنَاوَلُهُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اعْتَقَدُوا كَرَاهِيَتَهُ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ دخل في الْأَمْرِ وَأَجْزَأَ قال وَهَذَا الْمَقَالُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ على أَصْلِهِمْ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَيْسَ هو بِطَوَافٍ أَصْلًا وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَيْضًا الصَّلَاةُ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ إذَا قُلْنَا إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وفي صِحَّتِهَا تَفْرِيعًا على هذا وَجْهَانِ وَالْقَوْلُ بِالْبُطْلَانِ وهو الْأَصَحُّ يُخَرَّجُ على أَنَّ الْمَكْرُوهَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْأَمْرِ وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ التي سَبَقَ ذِكْرُهَا وَاقْتَصَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ على ذِكْرِهَا وَأَهْمَلُوا أَصْلَهَا وَالْعَكْسُ أَوْلَى وَمِنْهَا إعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا يَصِحُّ في احْتِمَالِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ وَوَجَّهَهُ أنها لَا تُسْتَحَبُّ وَقِيلَ تُكْرَهُ وَمَعَ الْكَرَاهَةِ لَا تَصِحُّ تَخْرِيجًا على هذا الْأَصْلِ وَمِنْهَا لو نَذَرَ الْإِحْرَامَ من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ قال صَاحِبُ التَّهْذِيبِ يَلْزَمُهُ وَوَافَقَهُ النَّوَوِيُّ وَخَالَفَهُمَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وقال يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ لِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا وَنَظِيرُهُ الصَّوْمُ يوم الشَّكِّ تَطَوُّعًا حَرَامٌ وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُ فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ وَمِنْهَا حَيْثُ قُلْنَا لِلْقَاضِي قَبُولُ الْهَدِيَّةِ ولم نُحَرِّمْهَا وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ يَمْلِكُهَا وَفِيهِ وَجْهٌ قَوِيٌّ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ثُمَّ صَحَّحُوا أنها تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا وَالظَّاهِرُ أنها

تُوضَعُ في بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تُرَدُّ إلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً من أَصْحَابِنَا ذَكَرُوا الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا وَنَصَبُوا الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ منهم الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ فإن شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا حَكَى ذلك عن أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ ثُمَّ قال وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ كما يُثْبِتُ صِفَةَ الْجَوَازِ وَالْحَسَنِ شَرْعًا يُثْبِتُ انْتِفَاءَ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ وقال الْمَازِرِيُ اخْتَارَ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ كَوْنَهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وقال وهو كَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ في تَضَمُّنِ الْوُجُوبِ لِلْجَوَازِ حتى إذَا نُسِخَ هل يَبْقَى الْجَوَازُ قلت فَيُقَالُ هُنَا إذَا نُسِخَ الْأَمْرُ هل يَبْقَى الْمَكْرُوهُ أَمْ لَا يَأْتِي فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ

فَصْلٌ في خِلَافِ الْأَوْلَى هذا النَّوْعُ أَهْمَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وهو وَاسِطَةٌ بين الْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَاخْتَلَفُوا في أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ هل هو مَكْرُوهٌ أو خِلَافُ الْأَوْلَى كَالنَّفْضِ وَالتَّنْشِيفِ في الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِمَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ من النِّهَايَةِ التَّعَرُّضُ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ما وَرَدَ فيه نَهْيٌ مَقْصُودٌ يُقَالُ فيه مَكْرُوهٌ وما لَا فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَا يُقَالُ مَكْرُوهٌ وقال الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْمَقْصُودِ أَنْ يَكُونَ مُصَرَّحًا بِهِ كَقَوْلِهِ لَا تَفْعَلُوا كَذَا أو نَهَيْتُكُمْ عن كَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَمَرَ بِمُسْتَحَبٍّ فإن تَرْكَهُ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا وَإِنْ كان الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عن ضِدِّهِ لِأَنَّا اسْتَفَدْنَاهُ بِاللَّازِمِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عنه في كِتَابِ الزَّكَاةِ في كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ على غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ما يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ الْمَقْصُودِ تَعْمِيمُ النَّهْيِ لَا خُصُوصُهُ إذْ قال وَوَجَّهَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنْ قال الْمَكْرُوهُ يَتَمَيَّزُ عن خِلَافِ الْأَوْلَى بِأَنْ يُفْرَضَ فيه نَهْيٌ مَقْصُودٌ وقد ثَبَتَ نَهْيٌ مَقْصُودٌ عن التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْبِدَعِ وَإِظْهَارُ شِعَارِهِمْ وَالصَّلَاةُ على غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا اُشْتُهِرَ بِالْفِئَةِ الْمُلَقَّبَةِ بِالرَّفْضِ ا هـ وَكَلَامُ الْإِمَامِ في كِتَابِ الْجُمُعَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فإنه قال كُلُّ فِعْلٍ مَسْنُونٍ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَقْصُودًا فَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنَّمَا يُقَالُ تَرْكُ الْأَوْلَى إذَا كان مُنْضَبِطًا كَالضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْلِ وما لَا تَحْدِيدَ له وَلَا ضَابِطَ من الْمَنْدُوبَاتِ لَا يُسَمَّى تَرْكُهُ مَكْرُوهًا وَإِلَّا لَكَانَ الْإِنْسَانُ في كل وَقْتٍ مُلَابِسًا لِلْمَكْرُوهَاتِ الْكَثِيرَةِ من حَيْثُ إنَّهُ لم يَقُمْ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أو يَعُودُ مَرِيضًا وَنَحْوَهُ ا هـ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ خِلَافَ الْأَوْلَى قِسْمٌ من الْمَكْرُوهِ وَدَرَجَاتُ الْمَكْرُوهِ تَتَفَاوَتُ كما في السُّنَّةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ قِسْمًا آخَرَ وَإِلَّا لَكَانَتْ الْأَحْكَامُ سِتَّةً وهو خِلَافُ الْمَعْرُوفِ أو كان خِلَافُ الْأَوْلَى خَارِجًا عن الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ

خطاب الوضع
قد عَرَفْت أَنَّ الْخِطَابَ كما يَرِدُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ فَكَذَا يَرِدُ بِالْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ لِكَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا كما سَبَقَ فَعَلَى هذا لِلَّهِ في كل وَاقِعَةٍ رُتِّبَ الْحُكْمُ فيها على وَصْفٍ أو حِكْمَةٍ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا نَفْسُ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ على الْوَصْفِ وَثَانِيهِمَا سَبَبِيَّةُ ذلك الْوَصْفِ وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ إذْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ في الْأَوَّلِ مُتَّفَقٌ عليها بين الْقَائِسِينَ وفي الثَّانِي مُخْتَلَفٌ فيها مِلْكُ النِّصَابِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِثَالُهُ مِلْكُ النِّصَابِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَالْمِلْكُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وهو ذَاتُ السَّبَبِ وَكَوْنُهُ سَبَبًا عِبَارَةٌ عن خِطَابِ الشَّارِعِ إنْ جَعَلْت الْمِلْكَ أَمَارَةَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ وَالْحَوْلِ حُكْمٌ آخَرُ وهو الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الْمَقْصُودُ في نَفْسِهِ وقد سَبَقَ في الْكَلَامِ على الْخِطَابِ الْخِلَافُ في ثُبُوتِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَأَنَّهُ في الْحَقِيقَةِ لَا يَخْرُجُ عن خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَضَعَّفَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَيْضًا لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِإِثْبَانِهِ إنْ أَرَادُوا بِالسَّبَبِيَّةِ أنها مَعْرِفَةٌ لِلْحُكْمِ فَحَقٌّ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَإِنْ أَرَادُوا تَأْثِيرَ الزِّنَا في وُجُوبِ الْحَدِّ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الزِّنَا حَالَ حُصُولِهِ سَبَبٌ إنْ لم يَصْدُرْ عن الشَّارِعِ شَيْءٌ فَلَيْسَ لِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ مَعْنًى فَإِنْ صَدَرَ فَالصَّادِرُ إمَّا الْحُكْمُ أو شَيْءٌ مُؤَثِّرٌ في الْحُكْمِ أو غَيْرُهُمَا فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَالْمُؤَثِّرُ هو الشَّارِعُ وَالثَّانِي هو الْقَوْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وهو بَاطِلٌ وَالثَّالِثُ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ ليس بِحُكْمٍ وهو الْمَطْلُوبُ لَا يُقَالُ فَقَدْ أَجْرَوْا الْقِيَاسَ في الْأَسْبَابِ فَقَالُوا نَصْبُ الزِّنَا عِلَّةُ الرَّجْمِ وَاللِّوَاطُ في مَعْنَاهُ لِأَنَّا نَقُولُ نَمْنَعُهُ كَالْحَنَفِيَّةِ وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَقَدْ أَجْرَوْا الْقِيَاسَ في اللُّغَاتِ وَلَيْسَ ذلك حُكْمًا شَرْعِيًّا السبب الْأَوَّلُ تَعْرِيفُ السَّبَبِ وَأَقْسَامُهُ وهو لُغَةً عِبَارَةٌ عَمَّا يَحْصُلُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ أَيْ لِأَنَّهُ ليس بِمُؤَثِّرٍ في الْوُجُودِ بَلْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَالْحَبْلُ مَثَلًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إخْرَاجِ الْمَاءِ من الْبِئْرِ وَلَيْسَ الْمُؤَثِّرَ في الْإِخْرَاجِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ حَرَكَةُ الْمُسْتَقِي لِلْمَاءِ

وفي الشَّرْعِ قال الْأَكْثَرُونَ هو الْوَصْفُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الذي دَلَّ السَّمْعُ على كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَجَعْلِ دُلُوكِ الشَّمْسِ مُعَرِّفًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ هو الْمُوجِبُ لَا لِذَاتِهِ وَلَكِنْ بِجَعْلِ الشَّارِعِ إيَّاهُ مُوجِبًا وهو اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَحَاوَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ تَزْيِيفَهُ وَقِيلَ هو الْمُوجِبُ لِذَاتِهِ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنَّمَا نُصِبَ السَّبَبُ لِلْحُكْمِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ على الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ على خِطَابِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ كَالْعَلَامَةِ ثُمَّ السَّبَبُ يَنْقَسِمُ إلَى ما يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهِ كَالدُّلُوكِ لِلصَّلَاةِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ في رَمَضَانَ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ وَكَالنِّصَابِ لِلزَّكَاةِ وَإِلَى ما لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ كَوُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ على وُجُودِهِ وَوُجُوبِ الْحَجِّ عِنْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ من يَجْعَلُهَا سَبَبًا وَقَسَّمَ ابن الْحَاجِبِ السَّبَبَ إلَى وَقْتِيٍّ كَالزَّوَالِ فإنه مُعَرِّفٌ لِوَقْتِ الظُّهْرِ وَإِلَى مَعْنَوِيٍّ كَالْإِسْكَارِ فإنه مُعَرِّفٌ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمِلْكُ فإنه جُعِلَ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ إطْلَاقَاتُ السَّبَبِ وَيُطْلَقُ السَّبَبُ في لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ على أُمُورٍ أَحَدُهَا ما يُقَابِلُ الْمُبَاشَرَةَ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ غَلَبَ الْمُبَاشَرَةُ كَحَفْرِ الْبِئْرِ مع التَّرْدِيَةِ الثَّانِي عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالرَّمْيِ يُسَمَّى سَبَبًا لِلْقَتْلِ وهو أَعْنِي الرَّمْيَ عِلَّةٌ لِلْإِصَابَةِ وَالْإِصَابَةُ عِلَّةٌ لِزَهُوقِ الرُّوحِ الذي هو الْقَتْلُ فَالرَّمْيُ هو عِلَّةُ الْعِلَّةِ وقد سَمَّوْهُ سَبَبًا الثَّالِثُ الْعِلَّةُ بِدُونِ شَرْطِهَا كَالنِّصَابِ بِدُونِ الْحَوْلِ يُسَمَّى سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ من الْمُقْتَضَى وَالشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الْأَهْلِ وَالْمَحَلِّ يُسَمَّى سَبَبًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوجِبَةٌ لِوُجُودِ مَعْلُولِهَا كما عُرِفَ من الْكَسْرِ لِلِانْكِسَارِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ مع الِانْفِعَالَاتِ بِخِلَافِ الْأَسْبَابِ فإنه لَا يَلْزَمُ من وُجُودِهَا وُجُودُ مُسَبَّبَاتِهَا قال الْهِنْدِيُّ وإذا حَكَمْنَا على الْوَصْفِ أو الْحِكْمَةِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا فَلَيْسَ الْمُرَادُ منه أَنَّهُ كَذَلِكَ في مَوْرِدِ النَّصِّ بَلْ الْمُرَادُ منه أَنَّهُ سَبَبٌ في غَيْرِهِ وَمِنْ هذا يُعْرَفُ أَنَّ سَبَبِيَّةَ السَّبَبِ وَإِنْ كانت حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً من سَبَبٍ آخَرَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أو التَّسَلْسُلُ بَلْ هِيَ مُسْتَفَادَةٌ من النَّصِّ أو من الْمُنَاسَبَةِ مع الِاقْتِرَانِ

مسألة
لِلْأَسْبَابِ أَحْكَامٌ تُضَافُ إلَيْهَا صَارَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ لِلْأَحْكَامِ أَسْبَابًا تُضَافُ إلَيْهَا وَالْمُوجِبُ في الْحَقِيقَةِ وَالشَّارِعُ لها هو اللَّهُ تَعَالَى دُونَ الْأَسْبَابِ إذْ الْإِيجَابُ إلَى الشَّارِعِ دُونَ غَيْرِهِ وَنَقَلُوا عن جُمْهُورِ الْأَشْعَرِيَّةِ التَّفْصِيلَ بين الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا فَالْعِبَادَاتُ لَا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَّا إلَى اللَّهِ وَخِطَابِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِلَّهِ على الْخُلُوصِ فَيُضَافُ إلَى إيجَابِهِ وَالْعُقُوبَاتُ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَسْبَابٌ يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَيْهَا لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِكَسْبِ الْعَبْدِ وَعَلَى هذا جَوَّزُوا إضَافَةَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ إلَى الْأَسْبَابِ أَيْضًا وفي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وهو إنْكَارُ الْأَسْبَابِ أَصْلًا وَقَالُوا الْحُكْمُ في الْمَنْصُوصِ عليه ثَابِتٌ بِظَاهِرِ النَّصِّ وفي غَيْرِهِ بِالْوَصْفِ الْمَجْعُولِ عِلَّةً وَيَكُونُ ذلك أَمَارَةً لِثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى قالوا لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْأَحْكَامِ وَالشَّارِعَ لها هو اللَّهُ تَعَالَى وفي إضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى غَيْرِهِ وهو الْأَسْبَابُ قَطْعُهُ عنه وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَكِنَّهُ يُقَالُ حَصَلَ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ أَمَارَةٌ على حُكْمِ الْفَرْعِ فَيُقَالُ لها أَسْبَابٌ أو عِلَلٌ مُوجِبَةٌ مَجَازًا لِظُهُورِ الْأَحْكَامِ عِنْدَهَا قِيلَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِلْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْمُوجِبَ في الْحَقِيقَةِ هو اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُ وَعَلَى أَنَّ هذه الْأَسْبَابَ مُعَرِّفَاتٌ لِحُكْمِ اللَّهِ لَا مُوجِبَةٌ بِذَاتِهَا فلم يَبْقَ الْخِلَافُ إلَّا في اللَّفْظِ قُلْت اتَّفَقَ الْأَشْعَرِيَّةُ على أَنَّهُ ليس السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ لِذَاتِهِ أو لِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ بَلْ الْمُرَادُ منه إمَّا الْمُعَرِّفُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَإِمَّا الْمُوجِبُ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ وَلَكِنْ بِجَعْلِ الشَّرْعِ إيَّاهُ مُوجِبًا وهو اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَصَارَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّأْثِيرِ وَيَنْبَنِي الْخِلَافُ على أَنَّهُ يُعْقَلُ تَأْثِيرٌ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ أو بِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ أو لَا يُعْقَلُ ذلك وَعَلَيْهِ يُبْنَى كَوْنُ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ بِإِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى أو خَلْقِهِ له ما يَقْتَضِي تَأْثِيرَهُ في الْفِعْلِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ أو بِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ فَأَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَ ذلك وَيَقُولُونَ الصَّادِرُ عنه فِعْلُ اللَّهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُنْكِرُونَهُ

فَائِدَةٌ قد يَتَقَدَّمُ الْحُكْمُ على سَبَبِهِ الْأَصْلُ في أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ أَنْ تَتَقَدَّمَ على الْأَحْكَامِ وقد يَتَقَدَّمُ الْحُكْمُ على سَبَبِهِ وَذَلِكَ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قبل قَبْضِهِ فَهُوَ من ضَمَانِ الْبَائِعِ وَلِهَذَا كانت مَغَارِمُهَا عليه لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالتَّلَفِ لِتَعَذُّرِ اقْتِرَانِهِ بِهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّلَفِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ انْقِلَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ وَلَا يَصِحُّ انْقِلَابُ الْمِلْكَيْنِ بَعْدَ التَّلَفِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بَعْدَ ذَهَابِهِ بِنَفْسِ انْقِلَابِهِ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ قبل تَلَفِهِ الشَّرْطُ الثَّانِي الْحُكْمُ على الْوَصْفِ بِأَنَّهُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ لُغَةً الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وهو الذي يَلْزَمُ من انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ كَالْإِحْصَانِ الذي هو سَبَبُ وُجُوبِ رَجْمِ الزَّانِي يَنْتَفِي الرَّجْمُ لِانْتِفَائِهِ فَلَا يُرْجَمُ إلَّا مُحْصَنٌ وَكَالْحَوْلِ الذي هو شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ يَنْتَفِي وُجُوبُهَا بِانْتِفَائِهِ أَقْسَامُ الشَّرْطِ ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى ما هو شَرْطُ السَّبَبِ وهو كُلُّ مَعْنًى يَكُونُ عَدَمُهُ مُخِلًّا بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ كَشَرَائِطِ الْمَبِيعِ من كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَغَيْرُهُ وَإِلَى ما هو شَرْطُ الْحُكْمِ وهو كُلُّ مَعْنًى يَكُونُ عَدَمُهُ مُخِلًّا بِمَقْصُودِ الْحُكْمِ مع بَقَاءٍ لِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ كَالْقَبْضِ لِلْمَبِيعِ لِلْمِلْكِ التَّامِّ وهو على أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ عَقْلِيٌّ كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ فَإِنَّهَا شَرْطٌ له إذْ لَا يُعْقَلُ عَالِمٌ إلَّا وهو حَيٌّ وَيُسَمَّى عَقْلِيًّا لِأَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ لُزُومَهُ لِمَشْرُوطِهِ ثَانِيهَا لُغَوِيٌّ كَدُخُولِ الدَّارِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ أو الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عليه ثَالِثُهَا شَرْعِيٌّ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فإنه يَلْزَمُ من انْتِقَاءِ الطَّهَارَةِ انْتِقَاءُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا يَلْزَمُ من وُجُودِهَا وُجُودُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ انْتِفَائِهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ آخَرَ رَابِعُهَا الْعَادِي كَالْغِذَاءِ لِلْحَيَوَانِ وَالْغَالِبُ منه أَنَّهُ يَلْزَمُ من انْتِفَاءِ الْغِذَاءِ

انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ وَمِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهَا وَالشَّرْطُ الْعَادِي وَاللُّغَوِيُّ من قَبِيلِ الْأَسْبَابِ لَا من قَبِيلِ الشُّرُوطِ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال الْقَرَافِيُّ وابن الْحَاجِبِ الشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ من وُجُودِهَا الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ بِخِلَافِ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ وقد اُخْتُلِفَ في الْحَيَّاتِ في الشِّتَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ فَقِيلَ تَغْتَذِي بِالتُّرَابِ وَقِيلَ لَا تَغْتَذِي مُدَّةَ مُكْثِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ فَعَلَى هذا لم يَلْزَمْ من انْتِقَاءِ الْغِذَاءِ في حَقِّهَا انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْعَكِسُ الْحَالُ وَتَصِيرُ الْحَيَاةُ هِيَ شَرْطُ الْغِذَاءِ الثَّالِثُ الْحُكْمُ على الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا وَالْمَانِعُ عَكْسُ الشَّرْطِ وهو ما يَلْزَمُ من وُجُودِهِ عَدَمُ وُجُودِ الْحُكْمِ كَالدَّيْنِ مع وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْأُبُوَّةِ مع الْقِصَاصِ وَوَجْهُ الْعَكْسِ فيه أَنَّ الشَّرْطَ يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِانْتِفَائِهِ وَالْمَانِعُ يَنْتَفِي الْحُكْمُ لِوُجُودِهِ فَوُجُودُ الْمَانِعِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ في اسْتِلْزَامِهَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ في أَنَّهُمَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُمَا وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عَدَمُهُ

أقسام المانع
ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى مَانِعِ الْحُكْمِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في الْقِيَاسِ وَإِلَى مَانِعِ السَّبَبِ وهو كُلُّ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ يُخِلُّ وُجُودُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ التي لِأَجْلِهَا يَقْتَضِي السَّبَبُ الْمُسَبِّبَ كَحَيْلُولَةِ النِّصَابِ الْغَصْبَ وَالْإِبَاقَ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ من انْعِقَادِ النِّصَابِ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ ثُمَّ الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ على ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ وَاسْتِمْرَارَهُ كَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَيَقْطَعُهُ دَوَامًا ثَانِيهَا ما يَمْنَعُهُ ابْتِدَاءً لَا دَوْمًا كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لِغَيْرِ من هِيَ منه وَلَوْ طَرَأَتْ على نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ لم يَقْطَعْهُ وَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ ثَالِثُهَا ما يَمْنَعُهُ دَوَامًا لَا ابْتِدَاءً كَالْكُفْرِ بِالنِّسْبَةِ لَمَالِكِ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ لَا يَمْنَعُ في الِابْتِدَاءِ لِتَصْوِيرِهِ بِالْإِرْثِ وَغَيْرُهُ من الصُّوَرِ التي تَنْتَهِي إلَى نَحْوِ الْأَرْبَعِينَ وَيُمْتَنَعُ دَوَامُهُ بَلْ يَنْقَطِعُ بِنَفْسِهِ كَشِرَاءِ من يُعْتَقُ عليه أو بِالْإِجْبَارِ على إزَالَتِهِ

تَنْبِيهٌ هذه الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مُتَّفَقٌ على أنها من خِطَابِ الْوَضْعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ وزاد الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ وَالْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ وَسَنَذْكُرُهَا وزاد الْقَرَافِيُّ نَوْعَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا التَّقْدِيرَاتُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْحِجَاجُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ كَالْمَاءِ في حَقِّ الْمَرِيضِ الْخَائِفِ وَعَكْسُهُ كَالْمَقْتُولِ يُورَثُ عنه الدِّيَةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِمَوْتِهِ وَلَا يُورَثُ عنه إلَّا إذَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُ فَيُقَدِّرُ دُخُولَهَا في مِلْكِهِ قبل مَوْتِهِ حتى يَنْتَقِلَ لِوَارِثِهِ فَقَدَّرْنَا الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا لِلضَّرُورَةِ وقال ابن التِّلِمْسَانِيِّ الْحُكْمُ التَّقْدِيرِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ في الْمَحَلِّ يَظْهَرُ أَثَرُهَا كَتَقْدِيرِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْيَمِينِ وَإِلَى تَقْدِيرِ أَعْيَانٍ مَحْسُوسَةٍ كَتَقْدِيرِ الدَّرَاهِمِ في الذِّمَّةِ قال وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من لَا يُثْبِتُ هذه التَّقَادِيرَ وَيَقُولُ حُكْمُ الْفَرْعِ في الْمَحَلِّ هو نَفْسُ ما ادَّعَى كَوْنَهُ أَمْرًا أَمَّا تَقْدِيرُ صِفَاتِ مُوجِبِهِ لها فَإِثْبَاتُ ما لَا دَلِيلَ عليه وَمِنْ هذا النَّمَطِ قَوْلُهُمْ الْحَدَثُ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ في أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ أَثَرُهُ الْمَنْعُ من الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهِيَ التي يَسْتَنِدُ إلَيْهَا الْقُضَاةُ في الْأَحْكَامِ كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ مع النُّكُولِ أو مع الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فإذا نَهَضَتْ تِلْكَ الْحُجَّةُ عِنْدَ الْقَاضِي وَجَبَ عليه الْحُكْمُ وَهَذَا في الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى السَّبَبِ

مسألة
الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ من أَنْوَاعِ خِطَابِ الْوَضْعِ لِأَنَّهُمَا حُكْمٌ من الشَّارِعِ على الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ وَيُبْنَى عليها أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ في كَوْنِ ذلك حُكْمًا شَرْعِيًّا وقال إذَا كانت الصِّحَّةُ هِيَ الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ لِمُقْتَضَى ما دَلَّ عليه الْأَمْرُ فَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ ليس من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ في شَيْءٍ بَلْ نَوْعُ نَسَبٍ وَإِضَافَةٍ إلَى مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ هذا سُؤَالٌ حَسَنٌ لِجَدِّي الْعَلَّامَةِ أبي الْحَسَن مُظَفَّرِ بن عبد اللَّهِ الشَّافِعِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْمُقْتَرِحِ رَحِمَهُ اللَّهُ

قُلْت وَبِهِ جَزَمَ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ وَحِينَئِذٍ فلم يَنْفَرِدْ بِهِ إذَنْ كما زَعَمَ بَعْضُهُمْ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابن التِّلِمْسَانِيِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُنْتَخَبِ فقال مُوَافَقَةُ الشَّرِيعَةِ ليس حُكْمًا شَرْعِيًّا حَقِيقِيًّا فَإِنَّهَا نِسْبَةٌ بين الْفِعْلِ الْوَاقِعِ وَالْأَمْرِ مَثَلًا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا أنها نَفْسُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَتَسْمِيَةُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ حُكْمًا مَجَازٌ وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ الْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ في الْعُقُودِ ثُبُوتُهَا على مُوجِبِ الشَّرْعِ لِيَتَرَتَّبَ آثَارُهُ كَالْمِلْكِ الْمُرَتَّبِ على الْعُقُودِ أَيْ يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ الْمَقْصُودُ من التَّصَرُّفِ كَالْحِلِّ في النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ في الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ نِكَاحُ الْكُفَّارِ صَحِيحٌ أَيْ مَحْكُومٌ عليه بِالصِّحَّةِ وَأَثَرُ كل شَيْءٍ على حَسَبِهِ فَأَثَرُ الْبَيْعِ الْمُكْنَةُ من التَّصَرُّفِ كَالْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ وَنَحْوِهِ وَأَثَرُ الْإِجَارَةِ التَّمَكُّنُ من الِانْتِفَاعِ وفي الْقِرَاضِ عَدَمُ الضَّمَانِ وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ وفي النِّكَاحِ التَّمَكُّنُ من الْوَطْءِ فَكُلُّ عَقْدٍ تَرَتَّبَ آثَارُهُ عليه فَهُوَ الصَّحِيحُ وَإِلَّا فَهُوَ الْفَاسِدُ وَقِيلَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ وَلَا يَرِدُ الْمَبِيعُ في زَمَنِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ قد يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا على شَرْطٍ آخَرَ وَلَيْسَ التَّصَرُّفُ وَالِانْتِقَاعُ أَثَرَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا أَثَرُهُ حُصُولُ الْمِلْكِ الذي يَنْشَأُ عنه إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِشَرْطِهِ وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ له خِيَارٌ وَكَذَا لو أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ امْرَأَةٍ في يَدِ الْغَيْرِ ثُمَّ قَبِلَ نِكَاحَهَا مِمَّنْ هِيَ في يَدِهِ وهو يَدَّعِي رِقَّهَا قال الرَّافِعِيُّ لم يَحِلَّ له وَطْؤُهَا وَلِصَاحِبِهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرِ فَهَذَا عَقْدٌ صَحِيحٌ لم يَتَرَتَّبْ عليه أَثَرُهُ لَكِنْ لِمَانِعٍ وَأَمَّا الصِّحَّةُ في الْعِبَادَاتِ فَاخْتُلِفَ فيها فقال الْفُقَهَاءُ هِيَ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا في سُقُوطِ الْقَضَاءِ كَالصَّلَاةِ إذَا وَقَعَتْ بِجَمِيعِ وَاجِبَاتِهَا مع انْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا فَكَوْنُهَا لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا هو صِحَّتُهَا وقال الْمُتَكَلِّمُونَ هِيَ مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ في ظَنِّ الْمُكَلَّفِ لَا في نَفْسِ الْأَمْرِ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ فَكُلُّ من أُمِرَ بِعِبَادَةٍ تُوَافِقُ الْأَمْرَ بِفِعْلِهَا كان قد أتى بها صَحِيحَةً وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ من شُرُوطِهَا أو وُجِدَ مَانِعٌ وَهَذَا أَعَمُّ من قَوْلِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ كُلَّ صِحَّةٍ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ كُلُّ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ صِحَّةً عِنْدَهُمْ وَاصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ أَنْسَبُ فإن الْآنِيَةَ مَتَى كانت صَحِيحَةً من جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إلَّا من جَانِبٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مَكْسُورَةٌ لُغَةً وَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً حَيْثُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الْخَلَلُ من جِهَةٍ من الْجِهَاتِ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الْخَلَلُ من جِهَةِ ذِكْرِ الْحَدَثِ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً

بَلْ الْمُسْتَجْمِعُ لِشُرُوطِهِ في نَفْسِ الْأَمْرِ هو الصَّحِيحُ وَبَنَوْا على الْخِلَافِ صَلَاةَ من ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ حَدَثُهُ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ دُونَ الْفُقَهَاءِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وفي هذا الْبِنَاءِ نَظَرٌ لِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ إنَّمَا وَافَقَتْ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ الذي تَبَيَّنَ فَسَادُهُ وَلَيْسَتْ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ الذي تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِهِ ابْتِدَاءً فَعَلَى هذا نَسْتَفْسِرُ وَنَقُولُ إنْ أَرَدْتُمْ بِالصَّحِيحِ ما وَافَقَ أَمْرًا ما فَهَذَا الْفِعْلُ صَحِيحٌ بهذا الِاعْتِبَارِ لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُطْلَقًا لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِ الْأَمْرَ الْأَصْلِيَّ وَإِنْ أَرَدْتُمْ ما وَافَقَ الْأَمْرَ الْأَصْلِيَّ فَهَذِهِ غَيْرُ مُوَافَقَةٍ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ ما حَكَيْنَاهُ عن الْفُقَهَاءِ من أَنَّ الصِّحَّةَ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ تَبِعْنَا فيه الْأُصُولِيِّينَ لَكِنْ كَلَامُ الْأَصْحَابِ مُصَرِّحٌ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُمْ قالوا في بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ في الْكَلَامِ على شُرُوطِ الْإِمَامَةِ وَإِنْ كان صَلَاتُهُ صَحِيحَةً فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُغْنِيَةً عن الْقَضَاءِ أو لَا إلَخْ فَجَعَلُوا الصَّحِيحَ يَنْقَسِمُ إلَى ما يُغْنِي وَإِلَى ما لَا يُغْنِي ولم يَجْعَلُوهُ ما لَا يُغْنِي عن الْقَضَاءِ وَحَكَوْا وَجْهَيْنِ في صَلَاةِ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ هل تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ وَالصَّحِيحُ نعم وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُقَابِلَهُ وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ مع أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ على الْجَدِيدِ قالوا وَيَجْرِي الْخِلَافُ في كل صَلَاةٍ يَجِبُ قَضَاؤُهَا وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ في الْأَيْمَانِ وفي جَوَازِ الْخُرُوجِ منها وَلِهَذَا يَقُولُونَ من صَحَّتْ صَلَاتُهُ في نَفْسِهِ صِحَّةً مُغْنِيَةً عن الْقَضَاءِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَهَذَا كُلُّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الصِّحَّةَ تُجَامِعُ الْقَضَاءَ التَّنْبِيهُ الثَّانِي زَعَمَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَتَابَعَهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ وهو أَنَّهُ هل تُسَمَّى هذه صَحِيحَةٌ أَمْ لَا قال الْقَرَافِيُّ لِاتِّفَاقِهِمْ على سَائِرِ أَحْكَامِهَا فَقَالُوا الْمُصَلِّي مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُثَابٌ على صَلَاتِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عليه الْقَضَاءُ إذَا عَلِمَ الْحَدَثَ فلم يَبْقَ النِّزَاعُ إلَّا في التَّسْمِيَةِ قُلْت وَنَفْيُ الْخِلَافِ في الْقَضَاءِ مَرْدُودٌ فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ وَمِمَّنْ حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ في مَسْأَلَةِ الْإِجْزَاءُ الِامْتِثَالُ وَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ

إنَّهَا صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ وَافَقَ الْأَمْرَ الْمُتَوَجِّهَ عليه في الْحَالِ وَهِيَ مُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ لو لم يَرِدْ نَصٌّ بِالْقَضَاءِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ كما حَكَاهُ في الْمُسْتَصْفَى عَنْهُمْ وَوَصْفُهُمْ إيَّاهَا بِالصِّحَّةِ صَرِيحٌ في ذلك فإن الصِّحَّةَ هِيَ الْغَايَةُ من الْعِبَادَةِ وَعِنْدَنَا قَوْلٌ مِثْلُهُ فِيمَا إذَا صلى بِنَجَسٍ لم يَعْلَمْهُ أو مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ سَاهِيًا إنَّهَا صَحِيحَةٌ وَلَا قَضَاءَ نَظَرًا لِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ حَالَ التَّلَبُّسِ وَعَكْسُ هذه الْمَسْأَلَةِ من صلى خَلْفَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رَجُلٌ وَفَرَّعْنَا على الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فَإِنَّهَا على اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ صَحِيحَةٌ لِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُوَافَقَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ أَنَّ ما يَتَخَرَّجُ على هذا الْخِلَافِ صَلَاةُ من لم يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا إذَا صلى على حَسَبِ حَالِهِ وَقُلْنَا بِالرَّاجِحِ إنَّهُ يَجِبُ عليه الْإِعَادَةُ قال فَتِلْكَ الصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قُلْت فيه وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي وَبَنَى عَلَيْهِمَا ما لو حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَصَلَّى كَذَلِكَ وقد سَبَقَ وفي كَلَامِ الْأَصْفَهَانِيِّ نَظَرٌ إذْ كَيْفَ يُؤْمَرُ بِعِبَادَةٍ هِيَ فَاسِدَةٌ وَبَنَى ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ على الْخِلَافِ في تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ مَسْأَلَةً لو تَحَيَّرَ الْمُجْتَهِدُ في الْأَوَانِي فلم يَغْلِبْ على ظَنِّهِ شَيْءٌ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ إنْ كان قبل الصَّبِّ وَجَبَ الْقَضَاءُ أو بَعْدَهُ فَلَا وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا في وُجُوبِ الصَّبِّ وَنَسَبَ الْجُمْهُورُ عَدَمَ الْوُجُوبِ قال ابن الرِّفْعَةِ وَالْخِلَافُ يُلْتَفَتُ على أَنَّ الصِّحَّةَ ما هِيَ فَإِنْ قُلْنَا مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ لم يَلْزَمْ الْإِرَاقَةُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَهَذَا غَيْرُ وَاجِدٍ له إذْ الْوُجُودُ ما يَقْدِرُ على اسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ قُلْنَا هِيَ ما أَسْقَطَ الْقَضَاءَ وَجَبَ عليه الصَّبُّ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ صَحِيحَةً إذَا قَدَرَ عليها وهو قَادِرٌ هَاهُنَا ا هـ وَهَذَا يُعْطِي أَنَّ الْخِلَافَ في تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ ثَابِتٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا وقال الْآمِدِيُّ وَلَا بَأْسَ بِتَفْسِيرِ الصِّحَّةِ في الْعِبَادَاتِ بِمَا ذَكَرُوهُ في الْمُعَامَلَاتِ من تَرَتُّبِ أَحْكَامِهَا الْمَقْصُودَةِ منها يَعْنِي لِأَمْرٍ مَقْصُودِ الْعِبَادَةِ إقَامَةُ رَسْمِ التَّعَبُّدِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْعَبْدِ منها فإذا أَفَادَتْ ذلك كان هو مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهَا كَافِيَةٌ في سُقُوطِ التَّعَبُّدِ فَتَكُونُ صَحِيحَةً

التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ قال أبو الْعَبَّاسِ بن تَيْمِيَّةَ لم يَرِدْ في لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ بَلْ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَإِنَّمَا الصِّحَّةُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ قُلْت وَوَرَدَ لَفْظُ الْإِجْزَاءِ كَثِيرًا وهو قَرِيبٌ من الصِّحَّةِ ثُمَّ إنَّ الْجُمْهُورَ لم يَسْمَحُوا بِإِطْلَاقِ الْفَاسِدِ وَإِنَّمَا قالوا هِيَ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ أو شَبِيهَةٌ بها كَإِمْسَاكِ رَمَضَانَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ إنَّمَا صَارَ الْفُقَهَاءُ إلَى هذا في أَصْلٍ وهو أَنَّ الصَّلَاةَ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُمْ وَهِيَ وَاقِعَةٌ على خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ فَدَلَّ على أَنَّ الصَّحِيحَ ما لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَإِنْ لم يُوَافِقْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ الْتِفَاتَ الْخِلَافِ على أَصْلٍ وهو أَنَّ الْقَضَاءَ هل يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أو لَا بُدَّ من أَمْرٍ جَدِيدٍ وَالثَّانِي قَوْلُ الْفُقَهَاءِ حَكَاهُ عَنْهُمْ في الْمَنْخُولِ

مسألة
الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَاهِيَّاتِ من عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ هل يَقَعُ على الْفَاسِدِ منها أو يَخْتَصُّ بِالصَّحِيحِ فيه ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ في بَيَانِ الْمُجْمَلِ أَحَدُهَا لَا يُسَمَّى الْفَاسِدُ منها بَيْعًا وَلَا نِكَاحًا وَالثَّانِي يُسَمَّى وَإِنْ فَسَدَ شَرْعًا وَالثَّالِثُ ما كان من أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَالْأَعْيَانِ لَا يَسْلُبُهُمَا الِاسْمَ عِنْدَ انْتِفَاءِ شُرُوطٍ شُرِعَتْ فيه وَذَلِكَ كَالْغُسْلِ وَالْوَطْءِ وَأَمَّا ما كان من أَسْمَاءِ الْأَحْكَامِ كَتَسْمِيَةِ الْغُسْلِ طَهَارَةً فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْغُسْلَ مع عَدَمِ النِّيَّةِ ليس بِطَهَارَةٍ ا هـ وَالْقَوْلَانِ وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ في الْعُقُودِ وَأَصَحُّهُمَا اخْتِصَاصُهُ بِالصَّحِيحِ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَبِيعُ لَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ على الْأَصَحِّ وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فقال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ سَيَأْتِي خِلَافٌ في أنها هل تُحْمَلُ على الصَّحِيحِ كما إذَا حَلَّفَهُ لَا يَصُومُ وَلَا يُصَلِّي وقد اسْتَنْكَرَ ذلك منه فإنه لَا خِلَافَ عِنْدَنَا في اخْتِصَاصِهَا بِالصَّحِيحِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْعُقُودِ نعم قالوا لو حَلَفَ لَا يَحُجُّ حَنِثَ بِالْفَاسِدِ وَيُحْتَمَلُ في كل ما فَرَّقَ فيه بين الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وقد يُمْنَعُ وَالْفَرْقُ مُخَالَفَةُ الْحَجِّ غَيْرَهُ من الْعِبَادَاتِ فَلَا يُقَاسُ عليه غَيْرُهُ

مسألة
الصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ بَلْ يَكُونُ الْفِعْلُ صَحِيحًا وَلَا ثَوَابَ فيه وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ الرِّدَّةُ بَعْدَ الْحَجِّ تُحْبِطُ الثَّوَابَ وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ وَمِنْهُ الصَّلَاةُ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَكَذَا صَوْمُ الْمُغْتَابِ عِنْدَ الْقَفَّالِ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَحَكَاهُ الْإِمَامُ في بَابِ الِاعْتِكَافِ عن الصَّيْدَلَانِيِّ ثُمَّ قال وَلَيْسَ الْكَلَامُ في الْأَجْرِ وَالْفَضِيلَةِ من شَأْنِ الْفُقَهَاءِ وَالثَّوَابُ غَيْبٌ لَا نَطَّلِعُ عليه وَإِنْ وَرَدَ خَبَرٌ في أَنَّ الْغِيبَةَ تُحْبِطُ الْأَجْرَ فَهُوَ تَهْدِيدٌ مُؤَوَّلٌ وقد يَرِدُ مِثْلُهُ في التَّرْغِيبِ قُلْت وَكَذَا قال الصَّيْمَرِيُّ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ في الصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تَصِحُّ وَأَمَّا الثَّوَابُ فَإِلَى اللَّهِ
مسألة
ثواب الصلاة الفاسدة
إذَا صلى صَلَاةً فَاسِدَةً هل يُثَابُ عليها قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ يُثَابُ على الْأَفْعَالِ التي لَا تَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ من الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَالْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ لو نَوَى نِيَّةً صَحِيحَةً وَغَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ ثُمَّ أَبْطَلَ الْوُضُوءَ في أَثْنَائِهِ بِحَدَثٍ أو غَيْرِهِ هل له ثَوَابُ الْمَفْعُولِ منه قال يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ له ثَوَابُهُ كَالصَّلَاةِ إذَا بَطَلَتْ في أَثْنَائِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إذَا بَطَلَتْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَهُ ثَوَابُهُ وَإِلَّا فَلَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا ثَوَابَ له بِحَالٍ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ
مسألة
الْإِجْزَاءُ هو الِاكْتِفَاءُ بالفعل في سقوط الأمر الإجزاء هو الاكتفاء بِالْفِعْلِ في سُقُوطِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخِطَابَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهِ على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ فإذا أتى الْمُكَلَّفُ بِهِ على ذلك الْوَجْهِ انْقَطَعَ عنه تَعَلُّقُ الْخِطَابِ وَهَذَا هو على مَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ في تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ وَقِيلَ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ وهو مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ في الصِّحَّةِ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِالْأَدَاءِ لِأَنَّا نُعَلِّلُ الْإِجْزَاءَ بِأَدَاءِ الْفِعْلِ على الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَنَقُولُ أَدَّى ما أُمِرَ بِهِ كما أُمِرَ

وَعَسُرَ على بَعْضِهِمْ الْفَرْقُ بين الْإِجْزَاءِ وَالصِّحَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن الْإِجْزَاءَ أَعَمُّ وَيَخْتَصُّ الْإِجْزَاءُ بِالْعِبَادَاتِ فَلَا مَعْنَى له في الْمُعَامَلَاتِ وَيَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ التي وُقُوعُهَا بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عليه أَثَرُهَا أو لَا يَتَرَتَّبُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَأَمَّا ما يَقَعُ على وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَا يُوصَفُ بِهِ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَيَخْتَصُّ أَيْضًا بِالْمَطْلُوبِ أَعَمُّ من الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ لَا يُقَالُ في الْمَنْدُوبِ إنَّهُ مُجْزِئٌ أو غَيْرُ مُجْزِئٍ وَنَصَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ في الضَّحَايَا مع أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ وَكَذَا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم في عَنَاقِ أبي بُرْدَةَ يُجْزِئُك وَلَنْ يُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وَإِنْ كانت الْأُضْحِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ

مسألة
الجائز وافق الشريعة
الْجَائِزُ ما وَافَقَ الشَّرِيعَةَ فإذا قُلْنَا صَوْمٌ جَائِزٌ وَبَيْعٌ جَائِزٌ فَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ الشريعة ( ( ( للشريعة ) ) ) وقد يقول الْفُقَهَاءُ الْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ ليس بِلَازِمٍ

وَضَابِطُ ذلك أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهُ بِكُلِّ حَالٍ أو لَا وَيَئُولُ إلَى اللُّزُومِ وَلَا يَدْخُلُ على ذلك الْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فإنه يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ وَكَذَا إذَا كان في الْمَبِيعِ عَيْبٌ قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ جَدَلِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ الْجَائِزُ ما أُذِنَ في فِعْلِهِ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَيَخْرُجُ الْحَرَامُ وَقِيلَ ما لَا يَأْثَمُ بِفِعْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ قال وَالْحَدُّ الْأَوَّلُ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ من وَصْفٍ وَاحِدٍ قال وَكُلُّ صَحِيحٍ جَائِزٌ من حَيْثُ كَوْنُهُ مَأْذُونًا في فِعْلِهِ وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ صَحِيحًا كَكَثِيرٍ من الْمُبَاحَاتِ قال وَحَدُّ الْجَائِزِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْمَعْقُولِ

مسالة
يقابل الصحة البطلان
وَيُقَابِلُ الصِّحَّةَ الْبُطْلَانُ فَيَأْتِي في تَفْسِيرِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فَمَنْ قال الصِّحَّةُ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا في إسْقَاطِ الْقَضَاءِ قال الْبُطْلَانُ هو وُقُوعُهُ غَيْرُ كَافٍ لِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَمَنْ قال الصِّحَّةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ قال الْبُطْلَانُ مُخَالَفَتُهُ فَعَلَى هذا لو صلى الْمُتَطَهِّرُ يَظُنُّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ على الْقَوْلَيْنِ لَكِنْ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ لِكَوْنِهَا بَاطِلَةً بِالْمُخَالَفَةِ وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وهو الْعِلْمُ بِوُجُودِ الطَّهَارَةِ وَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عِنْدَنَا مُتَرَادِفَانِ فَكُلُّ فَاسِدٍ بَاطِلٌ وَعَكْسُهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقَانِ فَرْقَ الْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ كَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ إذْ كُلُّ بَاطِلٍ فَاسِدٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَاسِدٍ بَاطِلًا فَقَالُوا الْبَاطِلُ ما لَا يَنْعَقِدُ بِأَصْلِهِ كَبَيْعِ الْحُرِّ وَالْفَاسِدُ ما لَا يَنْعَقِدُ دُونَ أَصْلِهِ كَعَقْدِ الرِّبَا فإنه مَشْرُوعٌ من حَيْثُ إنَّهُ بَيْعٌ وَمَمْنُوعٌ من حَيْثُ إنَّهُ عَقْدُ رِبًا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ يُشَارِكُ الصَّحِيحَ في إفَادَةِ الْمِلْكِ إذَا اتَّصَلَ بِالْقَبْضِ فَجَعَلُوا الْفَاسِدَ رُتْبَةً مُتَوَسِّطَةً بين الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ وهو نَظِيرُ مَذْهَبِ الْجَاحِظِ وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بين الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ بَلْ هو سَوَاءٌ في الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ وَبِهِ قال أَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ وما ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فَسَادُهُ ظَاهِرٌ من جِهَةِ النَّقْلِ فإن مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْفَاسِدُ هو الْمَوْجُودُ على نَوْعٍ من الْخَلَلِ وَالْبَاطِلُ هو الذي لَا تَثْبُتُ حَقِيقَتُهُ بِوَجْهٍ وقد قال تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسَمَّى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَاسِدَةً عِنْدَ تَقْدِيرِ الشَّرِيكِ وَوُجُودِهِ وَدَلِيلُ التَّمَانُعِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَالَمَ على تَقْدِيرِ الشَّرِيكِ وَوُجُودِهِ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ لِحُصُولِ التَّمَانُعِ لَا أَنَّهُ يَكُونُ مَوْجُودًا على نَوْعٍ من

الْخَلَلِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الذي لَا تَثْبُتُ حَقِيقَتُهُ بِوَجْهٍ فَاسِدًا وهو خِلَافُ ما قالوا في التَّفْرِقَةِ فَإِنْ كان مَأْخَذُهُمْ في التَّفْرِيقِ بِمُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ فَهُمْ مُطَالَبُونَ بِمُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِمَا قُلْت قد تَقَدَّمَ أُمُورٌ في تَفْرِقَتِهِمْ بين الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ بِمِثْلِهَا هُنَا وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَتَوَسَّطُوا بين الْقَوْلَيْنِ ولم يُفَرِّقُوا بين الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ في التَّسْمِيَةِ وَلَكِنَّهُمْ قالوا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُفِيدُ شُبْهَةَ الْمِلْكِ فِيمَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ فإذا لَحِقَهُ أَحَدُ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ يُقَدَّرُ الْمِلْكُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ حَوَالَةُ الْأَسْوَاقِ وَتَلَفُ الْعَيْنِ وَنُقْصَانُهَا وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بها على تَفْصِيلٍ لهم في ذلك وقال الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال في تَحْدِيدِ الْفَاسِدِ هو كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى اسْتِبَاحَةِ ما جَعَلَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ على التَّحْرِيمِ ثُمَّ أَوْرَدَ عليه الْإِمَامُ الْعَقْدَ في وَقْتٍ تَضِيقُ الصَّلَاةُ فإن الْمُتَلَفِّظَ بِالْعَقْدِ تَارِكٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَتَرْكُ التَّكْبِيرَةِ مُحَرَّمٌ فَهَذَا مُحَرَّمٌ تَوَصَّلَ بِهِ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَمْلَاكِ وَالْأَبْضَاعِ وَأُصُولُهَا على الْحَظْرِ مع أَنَّهُ ليس بِفَاسِدٍ التَّفْرِقَةُ بين الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا فَرَّقُوا بين الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ في مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا وَثَانِيهَا الْخُلْعُ وَالْكِتَابَةُ فَالْبَاطِلُ مِنْهُمَا ما كان على غَيْرِ عِوَضٍ مَقْصُودٍ كَالْمَيْتَةِ أو رَجَعَ إلَى خَلَلٍ في الْعَاقِدِ كَالصِّغَرِ وَالسَّفَهِ وَالْفَاسِدُ خِلَافُهُ وَحُكْمُ الْبَاطِلِ أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عليه مَالٌ وَالْفَاسِدُ يَتَرَتَّبُ عليه الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ وَالسَّيِّدُ بِالْقِيمَةِ وَثَالِثُهَا الْحَجُّ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ وَيَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ وَحُكْمُ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَلَا يَمْضِي بِخِلَافِ الْفَاسِدِ هذا حُكْمُ ما يَطْرَأُ وَأَمَّا الْفَاسِدُ ابْتِدَاءً فَيُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَدْخَلَ عليها الْحَجَّ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا وَقِيلَ صَحِيحًا وَقِيلَ لَا يَنْعَقِدُ قَالَهُ في الرَّوْضَةِ في بَابِ الْإِحْرَامِ وَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ مُجَامِعًا فَيَنْعَقِدُ فَاسِدًا أَيْضًا على الْأَصَحِّ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْمَوَاقِيتِ وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ في بَابِ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ عَدَمَ الِانْعِقَادِ وَرَابِعُهَا الْعَارِيَّةُ وقد صَوَّرَهَا الْغَزَالِيُّ في الْوَسِيطِ فإنه حَكَى في صِحَّةِ إعَارَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ خِلَافًا ثُمَّ قال فَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا فَفِي طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أنها مَضْمُونَةٌ لِأَنَّهَا

إعَارَةٌ فَاسِدَةٌ وفي طَرِيقِ الْمَرَاوِزَةِ أنها غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْإِعَارَةِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ كَذَا حَصَرَهَا جَمَاعَةٌ في هذه الْأَرْبَعَةِ وهو مَمْنُوعٌ بَلْ يَجْرِي ذلك في سَائِرِ الْعُقُودِ وَمِنْ صُورَةِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَتَجِبُ فيها أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ مَثَلًا صَبِيٌّ رَجُلًا بَالِغًا فَعَمِلَ عَمَلًا لم يَسْتَحِقَّ شيئا لِأَنَّهُ الذي فَوَّتَ على نَفْسِهِ عَمَلَهُ وَتَكُونُ بَاطِلَةً وَمِنْهَا لو قال لِلْمَدْيُونِ اعْزِلْ قَدْرَ حَقِّي فَعَزَلَهُ ثُمَّ قال قَارَضْتُك عليه لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ لم يَمْلِكْهُ بِالْعَزْلِ فإذا تَصَرَّفَ الْمَأْمُورُ فَإِنْ اشْتَرَى بِالْعَيْنِ فَهُوَ مِلْكٌ له وَإِنْ اشْتَرَى في الذِّمَّةِ لِلْقِرَاضِ وَنَقَدَهُ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الشِّرَاءُ لِلْقِرَاضِ وَيَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا وَلَهُ الْأُجْرَةُ وَالرِّبْحُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَالثَّانِي لَا يَكُونُ قِرَاضًا لَا فَاسِدًا وَلَا صَحِيحًا بَلْ هو بَاطِلٌ وَمِنْهَا لو قال بِعْتُك ولم يذكر ثَمَنًا وسلم وَتَلِفَتْ الْعَيْنُ في يَدِ الْمُشْتَرِي هل عليه قِيمَتُهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نعم لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ ليس مَبِيعًا فَيَكُونُ أَمَانَةً وَمِنْهَا لو نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ فَهُوَ فَاسِدٌ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا الْحَدَّ وَلَوْ نَكَحَ السَّفِيهُ بِلَا إذْنٍ فَبَاطِلٌ لَا يَتَرَتَّبُ عليه شَيْءٌ وقال الْإِمَامُ أبو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ عِنْدِي أَنَّ أَصْحَابَنَا لم يُوَافِقُوا الْحَنَفِيَّةَ في هذا التَّفْرِيقِ أَصْلًا لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُثْبِتُونَ بَيْعًا فَاسِدًا يَتَرَتَّبُ عليه مع الْقَبْضِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ ذلك وَإِنَّمَا الْعُقُودُ لها صُوَرٌ لُغَةً وَعُرْفًا من عَاقِدٍ وَمَعْقُودٍ عليه وَصِيغَةٍ وَلَهَا شُرُوطٌ شَرْعِيَّةٌ فَإِنْ وُجِدَتْ كُلُّهَا فَهُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ فُقِدَ الْعَاقِدُ أو الْمَعْقُودُ عليه أو الصِّيغَةُ أو ما يَقُومُ مَقَامَهَا فَلَا عَقْدَ أَصْلًا وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَنُسَمِّيهِ بَيْعًا بَاطِلًا مَجَازًا وَإِنْ وُجِدَتْ وَقَارَنَهَا مُفْسِدٌ من عَدَمِ شَرْطٍ وَنَحْوِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَعِنْدَنَا هو بَاطِلٌ خِلَافًا لهم وَوَافَقُونَا على الْبُطْلَانِ إذَا كان الْفَسَادُ لِصِفَةِ الْمَعْقُودِ عليه كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَنَحْنُ لَا نُرَتِّبُ على الْفَاسِدِ شيئا من الْأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَكِنْ لنا قَاعِدَةٌ وَهِيَ إذَا كان لِلْفِعْلِ عُمُومٌ وَبَطَلَ الْخُصُوصُ قد لَا يَعْمَلُ الْعُمُومُ فَالْمَسَائِلُ التي رَتَّبَ الْأَصْحَابُ عليها حُكْمًا من الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ هِيَ من هذا الْقَبِيلِ ا ه

فَائِدَةٌ أَقْسَامُ الْبَاطِلِ قَسَّمَ ابن الْقَاصِّ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ الْبَاطِلَ إلَى خَمْسَةٍ الْإِحَالَةُ وَالْمُنَاقَضَةُ وَالْفُحْشُ وَالْغَلَطُ قال وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ خَارِجَةٌ عن الْأُصُولِ فَمَنْ صَارَ إلَيْهَا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَالْخَامِسُ يُسَمَّى الْخَطَأُ فَعَلَيْهِ تَدُورُ الْمُنَاظَرَاتُ وَإِلَيْهِ يُقْصَدُ بِالْمُطَالَبَاتِ قال فَالْإِحَالَةُ ما دَفَعَهُ الْحِسُّ وَالْمُنَاقَضَةُ ما شَهِدَ على نَفْسِهِ بِالِاخْتِلَافِ وَالْفُحْشُ ما يَسْتَقْبِحُهُ الْعَقْلُ وَالْغَلَطُ ما طَرَحَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْخَطَأُ كُلُّ مُتَلَبِّسٍ قام فَسَادُهُ دَلِيلٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ حَدُّ الْمُحَالِ كُلُّ جُمْلَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بها غَرَضٌ وَلَا فَائِدَةٌ قال وَإِنَّمَا يُطْلِقُهُ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ على فِعْلٍ لَا بُدَّ له من شَرْطٍ أو وَصْفٍ يَنْضَمُّ إلَيْهِ حتى يَعْتَدَّ بِهِ فإذا فَعَلَهُ من غَيْرِ ذلك الشَّرْطِ يُقَالُ هذا فِعْلٌ مُحَالٌ فَيُقَالُ الصَّلَاةُ بِلَا طَهَارَةٍ مُحَالٌ وَالْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ مُحَالٌ وَالصَّوْمُ بِاللَّيْلِ مُحَالٌ انْتَهَى

مسألة
الرخصة و
العزيمة
الْحُكْمُ يُوصَفُ بِالْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَفِيهِمَا مَبَاحِثُ الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ في مَدْلُولِهِمَا الْعَزِيمَةُ أَمَّا الْعَزِيمَةُ فَهِيَ لُغَةً الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ولم نَجِدْ له عَزْمًا وَشَرْعًا عِبَارَةٌ عن الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ السَّالِمِ مُوجِبُهُ عن الْمُعَارِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ من الْعِبَادَاتِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهَا من التَّكَالِيفِ قِيلَ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حَيْثُ لَا يَقُومُ دَلِيلُ الْمَنْعِ عَزِيمَةٌ وهو لَا يُطَابِقُ الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ وَلَا الِاصْطِلَاحَ الْفِقْهِيَّ فإنه في اللُّغَةِ يَدُلُّ على التَّأْكِيدِ وَالْجَزْمِ كما يُقَالُ عَزَمْت عَلَيْك بِكَذَا وَكَذَا وَلِهَذَا يُقَابِلُونَهُ بِمَا فيه تَرْخِيصٌ وَالْإِبَاحَةُ بِمُجَرَّدِهَا ليس فيها هذا الْمَعْنَى وفي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ ما يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا بِالْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهُمَا قَالَا ما لَزِمَ

الْعِبَادَ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ بِإِيجَابِهِ وَلَيْسَ كما قَالَا فَإِنَّهَا تُذْكَرُ في مُقَابَلَةِ الرُّخْصَةِ وَالرُّخْصَةُ تَكُونُ في الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ ما يُقَابِلُهَا وَمِثَالُ دُخُولِ الْإِبَاحَةِ فيها قَوْلُهُمْ ص من عَزَائِمِ السُّجُودِ وَدُخُولُ الْحَرَامِ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَخْمَصَةِ هو عَزِيمَةٌ لِأَنَّ حُكْمَهَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ خَلَا عن الْمُعَارِضِ فإذا وُجِدَتْ الْمَخْمَصَةُ حَصَلَ الْمُعَارِضُ لِدَلِيلِ التَّحْرِيمِ وهو رَاجِحٌ عليه حِفْظًا لِلنَّفْسِ فَجَازَ الْأَكْلُ قال أَصْحَابُنَا تَرْكُ الصَّلَاةِ في حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ عَزِيمَةٌ قال النَّوَوِيُّ وَإِنَّمَا كان عَزِيمَةً لِكَوْنِهَا مُكَلِّفَةً بِتَرْكِهَا وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ من كُلِّفَ بِتَرْكِ شَيْءٍ لم يُكَلَّفْ بِفِعْلِهِ في حَالِ تَكْلِيفِهِ بِتَرْكِهِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ولم يَرِدْ الرُّخْصَةُ وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَهِيَ لُغَةً الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ وَمِنْهُ رَخُصَ السِّعْرُ إذَا تَرَاجَعَ وَسَهُلَ الشِّرَاءُ وَفِيهَا لُغَاتٌ ثَلَاثٌ رُخُصَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْخَاءِ وَرُخْصَةٌ بِإِسْكَانِ الْخَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً من الْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَصْلًا بِنَفْسِهَا وَالثَّالِثَةُ خُرْصَةٌ بِتَقْدِيمِ الْخَاءِ حَكَاهَا الْفَارَابِيُّ وَالظَّاهِرُ أنها مَقْلُوبَةٌ من الْأُولَى وقد اُشْتُهِرَ على أَلْسُنِ الناس فَتْحُ الْخَاءِ وَلَا يَشْهَدُ له سَمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ لِأَنَّ فُعَّلَةٌ تَكُونُ لِلْفَاعِلِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَضُحَكَةٌ وَلِلْمَفْعُولِ كَلُقَطَةٍ فَقِيَاسُهُ إنْ ثَبَتَ هُنَا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْكَثِيرِ الرَّخِيصِ على غَيْرِهِ إذَا فَشَا الرُّخْصُ فيه وقال الْآمِدِيُّ في الْإِحْكَامِ الرُّخْصَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَخْذِ الْمَصْدَرَ وَيُحْتَمَلُ أَرَادَ اسْمَ الْفَاعِلِ وَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ وهو الْمَنْقُولُ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه فقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ ما جَازَ فِعْلُهُ مع قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ وَأَوْرَدَ عليه أَنَّ الرُّخْصَةَ هِيَ الْحُكْمُ وَأَنَّهَا قد تَكُونُ بِجَوَازِ التَّرْكِ وَأَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهَا على خِلَافِ التَّخْفِيفِ الذي هو الْأَصْلُ كَذَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا بَعْضُ ما هو يَسْتَحِقُّ على الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَاشٍ على الْأَصْلِ وقال الْقَرَافِيُّ طَلَبُ الْفِعْلِ السَّالِمِ عن الْمَانِعِ الْمُشْتَهِرِ وَاحْتُرِزَ بِالْمُشْتَهِرِ عن نَحْوِ ما تَقَدَّمَ ثُمَّ أَوْرَدَ على نَفْسِهِ الْعُقُودَ الْمُخَالِفَةَ لِلْقِيَاسِ كَالسَّلَمِ وَالْمُسَابَقَةِ

وقال الْهِنْدِيُّ ما جَازَ فِعْلُهُ أو تَرْكُهُ مع قِيَامِ الْمَانِعِ منه وَيَرِدُ عليه كَثِيرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَقِيلَ ما لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى وَفِيهِ نَظَرٌ وَقِيلَ ما خَرَجَ عن الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ لِعَارِضٍ وقال ابن الْحَاجِبِ الْمَشْرُوعُ لِعُذْرٍ مع قِيَامِ الْمُحَرَّمِ لَوْلَا الْعُذْرُ وَيَرِدُ عليه التَّعَبُّدُ بِالتَّحْرِيمِ وَقِيلَ اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مع قِيَامِ الْمُحَرَّمِ فَإِنْ أُرِيدَ إبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مع قِيَامِ الْمُحَرَّمِ بِلَا حُرْمَةٍ فَهُوَ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَإِنْ أُرِيدَ إبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مع قِيَامِ الْحُرْمَةِ فَهُوَ قَوْلٌ بِالْجَمْعِ بين الْمُتَضَادَّيْنِ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ وَقِيلَ الْحُكْمُ مع الْمُعَارِضِ أَيْ مع قِيَامِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على الْمَنْعِ وَقِيلَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ على خِلَافِ الدَّلِيلِ لِعُذْرٍ مع كَوْنِهِ حَرَامًا في حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وهو الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ ما ثَبَتَ على خِلَافِ الْقِيَاسِ أَيْ الشَّرْعِيِّ لَا الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الْمَصْلَحِيِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَدَلَ بِهِ عن نَظَائِرِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ هذا في جَانِبِ الْفِعْلِ وفي جَانِبِ التَّرْكِ أَنْ يُوسِعَ لِلْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ مع قِيَامِ الْوُجُوبِ في حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ تَخْفِيفًا وَتَرَفُّهًا سَوَاءٌ كان التَّغْيِيرُ في وَضْعِهِ أو حُكْمِهِ وهو نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ مع بَقَاءِ الْوَصْفِ الذي كان عليه بِأَنْ يَكُونَ في نَفْسِهِ مُحَرَّمًا مع سُقُوطِ حُكْمِهِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ على لِسَانِهِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ مع قِيَامِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالثَّانِي أَنْ يَسْقُطَ الْحَظْرُ وَالْمُؤَاخَذَةُ جميعا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ حتى لو امْتَنَعَ وَمَاتَ فإنه يُؤَاخَذُ المبحث الثاني : الرخصة من أي الخطابين في أَنَّ الرُّخْصَةَ من أَيِّ الْخِطَابَيْنِ فَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَجَعَلَهَا من أَنْوَاعِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْحَقُّ أنها من خِطَابِ الِاقْتِضَاءِ وَلِهَذَا قَسَّمُوهَا إلَى وَاجِبَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمُبَاحَةٍ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أنها من أَقْسَامِ الْحُكْمِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّازِيَّ أنها نَفْسُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَالْقَوْلَانِ غَيْرُ خَارِجَيْنِ عن الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ فإن الْأَوَّلَ يَشْهَدُ له قَوْلُ الْعَرَبِ الرُّخْصَةُ التَّيْسِيرُ وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي قَوْلُهُمْ هذا رُخْصِي من الْمَاءِ أَيْ هذا شُرْبِي

المبحث الثالث في أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ وقد قَسَّمَهَا الْأُصُولِيُّونَ إلَى ثَلَاثَةٍ وَاجِبَةٌ وَمَنْدُوبَةٌ وَمُبَاحَةٌ فَالْوَاجِبَةُ كَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ بِاللُّقْمَةِ وَكَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ بِنَاءً على النُّفُوسِ حَقُّ اللَّهِ وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُكَلَّفِينَ فَيَجِبُ حِفْظُهَا لِيَسْتَوْفِيَ اللَّهَ حَقَّهُ منها بِالتَّكْلِيفِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عَزِيمَةً لِوُجُودِ الْمَلْزُومِ وَالتَّأْكِيدِ قال وَلَا مَانِعَ أَنْ يُطْلَقَ عليه رُخْصَةً من وَجْهٍ وَعَزِيمَةً من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ قام الدَّلِيلُ الْمَانِعُ نُسَمِّيهِ رُخْصَةً وَمِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ نُسَمِّيهِ عَزِيمَةً وَهَذَا التَّرَدُّدُ الذي أَشَارَ إلَيْهِ سَبَقَهُ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ وَتَرَدَّدَ في أَنَّ الْوَاجِبَاتِ هل يُوصَفُ شَيْءٌ منها بِالرُّخْصَةِ وقال في بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ من النِّهَايَةِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ليس بِرُخْصَةٍ فإنه وَاجِبٌ وَلِأَجْلِهِ قال صَاحِبُهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ في رَمَضَانَ وَيَتَحَصَّلُ بِذَلِكَ في مُجَامَعَةِ الرُّخْصَةِ لِلْوُجُوبِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْبَابَ يُجَامِعُهَا وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا في مُسَمَّاهَا وَالْمَنْدُوبَةُ كَالْقَصْرِ في السَّفَرِ إذَا بَلَغَ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ وَالْمُبَاحَةُ كَالْفِطْرِ في السَّفَرِ وَلَيْسَ بِتَمْثِيلٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ مَشَقَّةِ الصَّوْمِ وَيُكْرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَشَقَّةِ فَلَيْسَ له إبَاحَةٌ قال بَعْضُهُمْ ولم أَجِدْ له مِثَالًا بَعْدَ الْبَحْثِ الْكَثِيرِ إلَّا التَّيَمُّمَ عِنْدَ وُجْدَانِ الْمَاءِ بِأَكْثَرَ من ثَمَنِ الْمِثْلِ فإنه يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ وَالْوُضُوءُ مُسْتَوِيًا على ما اقْتَضَاهُ كَلَامُ أَصْحَابِنَا قُلْت هذا إنْ جَعَلْنَا التَّيَمُّمَ رُخْصَةً وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَوْلَى التَّمْثِيلُ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وفي الحديث التَّصْرِيحُ بِالرُّخْصَةِ فيه لِلْعَبَّاسِ رَوَاهُ أبو دَاوُد وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادَاتِ أَمَّا الْمُعَامَلَاتِ فَرُخَصُهَا كَثِيرَةٌ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْعَرَايَا على أَنَّ الْغَزَالِيَّ في الْمُسْتَصْفَى أَبْدَى احْتِمَالَيْنِ في السَّلَمِ وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرَايَا وَسَنَذْكُرُ في الْقِيَاسِ على الرُّخَصِ بَلْ يَأْتِي في غَيْرِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا قال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ لَبَنُ الْمَأْكُولِ طَاهِرٌ وَذَلِكَ عِنْدِي في حُكْمِ الرُّخَصِ فإن الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَيْهَا وقد امْتَنَّ اللَّهُ بِإِحْلَالِهَا وَذَكَرَ في

الْبَسِيطِ مثله في شَعْرِ الْمَأْكُولِ الْبَائِنِ في حَيَاتِهِ أَنَّهُ رُخْصَةٌ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ في الْمَلَابِسِ وَأَهْمَلَ الْأُصُولِيُّونَ رَابِعًا وهو خِلَافُ الْأَوْلَى كَالْإِفْطَارِ في السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ التَّضَرُّرِ بِالصَّوْمِ وَكَتَرْكِ الِاقْتِصَارِ على الْحَجَرِ في الِاسْتِنْجَاءِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُجَامِعُ التَّحْرِيمَ وهو ظَاهِرُ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كما يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ وَلِهَذَا قال الْفُقَهَاءُ الرُّخَصُ لَا تُنَاطُ بِالْمَعَاصِي لَكِنْ لو أَلْقَى نَفْسَهُ من شَاهِقِ جَبَلٍ فَانْكَسَرَ وَصَلَّى قَاعِدًا فَلَا قَضَاءَ عليه على الْمَذْهَبِ كما قَالَهُ ابن الرِّفْعَةِ مع أَنَّ إسْقَاطَ الْقَضَاءِ عن الْقَاعِدِ رُخْصَةٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَعْصِيَةَ انْتَهَتْ وقال الْعَبَّادِيُّ لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْحَرَامَ فَأَكَلَ الْمَيْتَةَ لِلضَّرُورَةِ حَنِثَ في يَمِينِهِ لِأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ له فيه حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في فَتَاوِيهِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ فَيَبْقَى التَّنَاوُلُ وهو وَاجِبٌ فَكَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَلَيْسَ ذَا وَجْهَيْنِ تَنْبِيهٌ في تَقْسِيمِ الرُّخْصَةِ اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأُصُولِيِّينَ يُقَسِّمُونَ الرُّخْصَةَ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وكان بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يُثِيرُ في ذلك بَحْثًا وهو أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُمْ ذِكْرَ ما وَقَعَ بِهِ التَّرْخِيصُ أو ذِكْرَ الْحَالَةِ التي صَارَتْ إلَيْهِ الْعِبَادَةُ بَعْدَ التَّرْخِيصِ فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ الْإِحْلَالِ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ هو الذي جُعِلَ له التَّيْسِيرُ وَالسُّهُولَةُ وَكَوْنُ ذلك الذي حَلَّ يَعْرِضُ له أَمْرٌ آخَرُ يُصَيِّرُهُ وَاجِبًا ليس من الرُّخْصَةِ في شَيْءٍ فَالتَّرْخِيصُ لِلْمُضْطَرِّ من الْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا هو إحْلَالُهَا بَعْدَ أَنْ كانت حَرَامًا وَكَوْنُهَا يَجِبُ عليه أَمْرٌ آخَرُ نَشَأَ عن وُجُوبِ حِفْظِ النَّفْسِ فَلَا يَكُونُ الرُّخْصَةُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْإِحْلَالِ وَإِنْ كان مُرَادُهُمْ ذِكْرَ الْأَحْوَالِ التي صَارَتْ إلَيْهَا الْعِبَادَةُ بَعْدَ التَّرْخِيصِ فَتَقْسِيمُهَا

إلَى ثَلَاثَةٍ فيه نَظَرٌ فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَوْعًا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ خَمْسَةٌ وَكُلٌّ منها إذَا صَارَ إلَى حُكْمٍ آخَرَ يَخْرُجُ منه خَمْسُ أَقْسَامٍ في الْخَمْسَةِ السَّابِقَةِ فَهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ قِسْمًا يَسْقُطُ منها انْتِقَالُ كل حُكْمٍ إلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُحَالٌ صَارَتْ عِشْرِينَ يَسْقُطُ منها التَّرْخِيصُ في الْمُبَاحِ إلَى الْأَرْبَعَةِ وهو مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَحَقُّ من الْإِبَاحَةِ فَلَا رُخْصَةَ فيها صَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ وَيَسْقُطُ منها تَخْفِيفُ الْمُسْتَحَبِّ إلَى الْوَاجِبِ فإنه لَا تَسْهِيلَ فيه وَكَذَلِكَ تَخْفِيفُ الْمَكْرُوهِ إلَى الْحَرَامِ مُحَالٌ أَيْضًا فَيَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا الْأَوَّلُ رُخْصَةٌ وَاجِبَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الثَّانِي رُخْصَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ كَالْقَصْرِ في السَّفَرِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ الثَّالِثُ رُخْصَةٌ مَكْرُوهَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ كَالْقَصْرِ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالتَّرْخِيصُ في النَّفْلِ عن التَّحْرِيمِ إلَى الْكَرَاهَةِ الرَّابِعُ رُخْصَةٌ مُبَاحَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ كَالتَّيَمُّمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بِأَكْثَرَ من ثَمَنِ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ بَذْلِ ثَمَنِ الْمَاءِ له أو بَذْلِ آلَةِ الِاسْتِقَاءِ أو إقْرَاضِ الثَّمَنِ وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبَحَهُ وَمَيْتَةً فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا الْخَامِسُ رُخْصَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ أَصْلُهَا الْوُجُوبُ كَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ قبل ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَالصَّوْمِ في السَّفَرِ لِلْقَوِيِّ وَالتَّرْخِيصُ في النَّفْلِ في الْقُعُودِ تَنْبِيهٌ قد يَكُونُ سَبَبُ الرُّخْصَةِ اخْتِيَارِيًّا قد يَكُونُ سَبَبُ الرُّخْصَةِ اخْتِيَارِيًّا كَالسَّفَرِ وَاضْطِرَارِيًّا كَالِاغْتِصَاصِ بِاللُّقْمَةِ الْمُبِيحِ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَهَذَا أَوْلَى من قَوْلِ الْقَرَافِيِّ قد يُبَاحُ سَبَبُهَا كَالسَّفَرِ وقد لَا يُبَاحُ كَالْغُصَّةِ لِأَنَّ الْغُصَّةَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُوصَفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ قِيلَ وَالْعَجَبُ من الْفُقَهَاءِ كَيْفَ رَجَّحُوا الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ في الْفِطْرِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ في السَّفَرِ مع سُهُولَةِ الْخَطْبِ فيها وَرَجَّحُوا الْعَزِيمَةَ فِيمَا يَأْتِي على النَّفْسِ كَالْإِكْرَاهِ على الْكُفْرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا الرُّخْصَةَ مُطْلَقًا أو الْعَزِيمَةَ مُطْلَقًا أَمَّا الْفَرْقُ فَلَا يَظْهَرُ له كَبِيرُ فَائِدَةٍ فَإِنْ قِيلَ له فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ أو الْعَزِيمَةِ هِيَ الْعِبَادَةُ فَفِي أَيِّهِمَا كانت الْعِبَادَةُ أَعْظَمَ رَجَّحْنَا الْأَخْذَ بِهِ وَالْعِبَادَةُ في الصَّبْرِ على الْقَتْلِ دُونَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ لِأَنَّهُ جِهَادٌ في سَبِيلِ اللَّهِ

وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ قِيلَ هذا يَبْطُلُ بِالصَّوْمِ في السَّفَرِ فإنه أَعْظَمُ عِبَادَةً وقد رَجَّحْتُمْ الْفِطْرَ عليه وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ في اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ في النَّفْسِ أَعْظَمُ لِأَنَّهَا إذَا بَقِيَتْ وُجِدَ منها الشَّهَوَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْأَنْوَاعُ أَضْعَافُ ما يَحْصُلُ من تَرْكِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ من الْعِبَادَةِ فَائِدَةٌ الرُّخْصَةُ إمَّا كَامِلَةٌ أو نَاقِصَةٌ تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ إلَى كَامِلَةٍ وَهِيَ التي لَا شَيْءَ مَعَهَا كَالْمَسْحِ على الْخُفِّ وَإِلَى نَاقِصَةٍ وَهِيَ بِخِلَافِهِ كَالْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَهَذَا تَلْمِحَتُهُ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ فإنه قال وَالْمَسْحُ رُخْصَةُ كَمَالٍ وَعَلَى هذا فَالتَّيَمُّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ فِيمَا لَا يَجِبُ معه الْقَضَاءُ رُخْصَةٌ كَامِلَةٌ وَمَعَ ما يَجِبُ فيه الْقَضَاءُ رُخْصَةٌ نَاقِصَةٌ تَنْبِيهٌ تَشْكِيكُ الْآمِدِيَّ في تَحْقِيقِ الرُّخْصَةِ شَكَّكَ الْآمِدِيُّ في تَحْقِيقِ الرُّخْصَةِ بِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُرَخِّصَ إنْ كان رَاجِحًا على السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ كان مُوجِبُهُ عَزِيمَةً وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حُكْمٍ ثَابِتٍ رَاجِحٍ مع وُجُودِ الْمُعَارِضِ الْمَرْجُوحِ رُخْصَةً وَإِنْ كان مُسَاوِيًا أو مَرْجُوحًا فَأَيُّ شَيْءٍ يُرَجِّحُ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ ثُمَّ قال الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَرْجُوحٌ قال هو أَشْبَهُ بِالرُّخْصَةِ لِمَا فيه من التَّيْسِيرِ بِالْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ أَجَابَ الْهِنْدِيُّ بِالْتِزَامِ أَنَّ الْعُذْرَ الْمُرَخِّصَ رَاجِحٌ قَوْلُهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَاجِحٍ رُخْصَةً قُلْنَا الرَّاجِحُ قِسْمَانِ رَاجِحٌ شُرِعَ لِعُذْرٍ وَاسْتُفِيدَ رُجْحَانُهُ من دَلِيلٍ خَاصٍّ فَهُوَ رُخْصَةٌ أَبَدًا وَكُلُّ خَاصٍّ عَارَضَ الْعَامَّ وكان خُرُوجُهُ لِعُذْرٍ فَهُوَ رُخْصَةٌ وَرَاجِحٌ شُرِعَ لَا لِعُذْرٍ وَتَسْهِيلٍ فَلَا يَلْزَمُ منه هذا

مسألة
الأداء والضاء والاعادة
من لَوَاحِقِ خِطَابِ الْوَضْعِ تَقْسِيمُ الْحُكْمِ إلَى أَدَاءً وَقَضَاءٍ وَإِعَادَةٍ وَالضَّابِطُ أَنَّ الْعِبَادَةَ إنْ فُعِلَتْ في وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا سُمِّيَتْ أَدَاءً كَفِعْلِ

الْمَغْرِبِ ما بين غُرُوبِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِ الشَّفَقِ فَخَرَجَ ما لم يُقْصَدْ فيه الْوَقْتُ فَلَا يُوصَفُ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه الْفِعْلُ في أَيِّ زَمَانٍ كان كَالْإِيمَانِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ عِنْدَ حُضُورِ الْعَدُوِّ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ فإنه قُصِدَ منه الْفِعْلُ وَالزَّمَانُ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرُ الْمُؤَقَّتِ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا قال اللَّهُ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا نَزَلَتْ في تَسْلِيمِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ وهو غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَلِأَصْحَابِنَا أَنَّ هذا مَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْكَلَامُ في الِاصْطِلَاحِيِّ وَلَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ الْجَمِيعِ في الْوَقْتِ بَلْ لو وَقَعَ بَعْضُهُ كَرَكْعَةٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ أَدَاءٌ تَبَعًا لِلرَّكْعَةِ فَإِنَّهَا لِمُعْظَمِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ بَلْ يُحْكَمُ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَتَكُونُ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا مَفْعُولَةً في الْوَقْتِ وَهَذَا أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ يُنَافِيهِ قَوْلُهُمْ بَعْضُهَا خَارِجَ الْوَقْتِ وَسَوَاءٌ كان مُضَيَّقًا كَصَوْمِ رَمَضَانَ أو مُوَسَّعًا كَالصَّلَاةِ وَسَوَاءٌ فُعِلَ قبل ذلك مَرَّةً أُخْرَى أَمْ لَا هذا هو قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ ثُمَّ قال الْإِمَامُ فَإِنْ فَعَلَ ثَانِيًا بَعْدَ ذلك سُمِّيَ إعَادَةً فَظَنَّ أَتْبَاعُهُ أَنَّهُ مُخَصِّصٌ لِلْإِطْلَاقِ السَّابِقِ فَقَيَّدُوهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَدَاءَ اسْمٌ لِمَا وَقَعَ في الْوَقْتِ مُطْلَقًا مَسْبُوقًا كان أو سَابِقًا وَإِنْ سَبَقَهُ أَدَاءً مُخْتَلٌّ سُمِّيَ إعَادَةً فَالْإِعَادَةُ قِسْمٌ من أَقْسَامِ الْأَدَاءِ فَكُلُّ إعَادَةٍ أَدَاءٌ من غَيْرِ عَكْسٍ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ التَّحْصِيلِ وَالْمِنْهَاجِ من كَوْنِهِ قَسِيمًا له وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْخَلَلِ في الْإِجْزَاءِ كَمَنْ صلى بِدُونِ شَرْطٍ أو رُكْنٍ أو في الْكَمَالِ كَمَنْ صلى مُنْفَرِدًا ثُمَّ أَعَادَهَا في جَمَاعَةٍ في الْوَقْتِ خِلَافٌ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْقَاضِي فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِعَادَةَ فِعْلٌ مِثْلُ ما مَضَى فَاسِدًا كان الْمَاضِي أو صَحِيحًا على الْقَوْلَيْنِ وَقِيلَ لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ في الْإِعَادَةِ فَعَلَى هذا بين الْأَدَاءِ وَالْإِعَادَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ من وَجْهٍ فَيَنْفَرِدُ الْأَدَاءُ في الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَتَنْفَرِدُ الْإِعَادَةُ بِمَا إذَا قَضَى صَلَاةً وَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا وَيَجْتَمِعَانِ في الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ في الْوَقْتِ على ما سَبَقَ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ الْإِعَادَةُ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ يُبْتَدَأُ بها ثُمَّ لَا يُتِمُّ فِعْلَهَا إمَّا بِأَنْ لَا يَعْقِدَهَا صَحِيحَةً وَإِمَّا بِأَنْ يَطْرَأَ الْفَسَادُ عليها وقد يُعِيدُهَا في الْوَقْتِ فَتَكُونُ أَدَاءً وَبَعْدَ الْوَقْتِ فَتَكُونُ قَضَاءً وَرُبَّمَا عَبَّرَ بِالْإِعَادَةِ عن الْعِبَادَةِ التي تُؤَخَّرُ أَمَّا إنْ

أَدَّى خَارِجَ وَقْتِهِ الْمُضَيَّقِ أو الْمُوَسَّعِ الْمُتَعَيِّنِ له سُمِّيَ قَضَاءً سَوَاءٌ كان التَّأْثِيرُ بِعُذْرٍ أو بِغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ سَبَقَ بِنَوْعٍ من الْخَلَلِ أَمْ لَا وَخَرَجَ بِالْمُقَدَّرِ الْمُعَيَّنُ عن الْمُقَدَّرِ بِغَيْرِهِ بَلْ بِضَرْبٍ من الِاجْتِهَادِ كَالْمُوَسَّعِ في الْحَجِّ إذَا تَضَيَّقَ وَقْتُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَ ذلك وَأَدَّاهُ فإنه لَا يَكُونُ قَضَاءً على الْمُخْتَارِ وَسَيَأْتِي وَسَوَاءٌ وَجَبَ أَدَاؤُهُ أو لم يَجِبْ وَلَكِنْ وُجِدَ سَبَبُ الْأَمْرِ وَلَا يَصِحُّ عَقْلًا كَالنَّائِمِ أو شَرْعًا كَالْحَائِضِ أو يَصِحُّ لَكِنَّهُ سَقَطَ لِمَانِعٍ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالسَّفَرِ أو لَا بِاخْتِيَارِهِ كَالْمَرَضِ وما لَا يُوجَدُ فيه سَبَبُ الْأَمْرِ بِهِ لم يَكُنْ فِعْلُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ قَضَاءً إجْمَاعًا لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كما لو صلى الصَّبِيُّ الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ في حَالَةِ الصِّبَا وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَوَجَبَ كان فِعْلُهُ خَارِجَ الْوَقْتِ قَضَاءً حَقِيقَةً بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ ولم يَجِبْ لِعَارِضٍ سُمِّيَ قَضَاءً أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ كنا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ لَكِنْ اُخْتُلِفَ فيه هل هو قَضَاءٌ حَقِيقَةً أو مَجَازًا وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في تَسْمِيَةِ الْعِبَادَةِ قَضَاءً تَقَدَّمَ سَبَبُ وُجُوبِ أَدَائِهَا لَا وُجُوبُ أَدَائِهَا وَإِلَّا لم تَصِحَّ تَسْمِيَةُ عِبَادَةِ الْمَجْنُونِ وَالْحَائِضِ قَضَاءً إذْ لم يُخَاطَبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَهَذَا ما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا وهو الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجِبُ عليها حَالَةَ الْحَيْضِ وَخَالَفَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ فقال الْحَيْضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ وَنَسَبَهُ إلَى الْحَنَفِيَّةِ وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ في أَنَّ الْقَضَاءَ في مَحَلِّ الْوِفَاقِ هل كان لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ ما انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ فَيَكُونُ هَاهُنَا حَقِيقَةً لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أو لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ ما وَجَبَ فَيَكُونُ هَاهُنَا مَجَازًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ وَذَكَرَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ أَنَّ مَأْخَذَ الْخِلَافِ أَنَّ الْقَضَاءَ هل يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَمَنْ أَوْجَبَهُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ أَطْلَقَ اسْمَ الْقَضَاءِ عليه حَقِيقَةً وَعَلَى مُقَابِلِهِ يَكُونُ مَجَازًا ثُمَّ إذَا قُلْنَا بِاشْتِرَاطِ سَبْقِ الْوُجُوبِ في الْقَضَاءِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ وُجُوبُهُ على الْمُسْتَدْرِكِ أو وُجُوبُهُ في الْجُمْلَةِ قَوْلَانِ وَيَتَحَصَّلُ من ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ فِعْلَهُمْ في الزَّمَانِ الثَّانِي قَضَاءٌ بِنَاءً على أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْقَضَاءِ سَبْقُ الْوُجُوبِ في الْجُمْلَةِ لَا سَبْقُ الْوُجُوبِ على ذلك الشَّخْصِ

وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس بِقَضَاءٍ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عليهم بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ على جَوَازِ التَّرْكِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عليهم في الزَّمَانِ الْأَوَّلِ بِسَبَبِهِ وَفِعْلُهُمْ في الزَّمَنِ الثَّانِي قَضَاءٌ قُلْنَا لو كانت الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَاجِبَانِ عليهم بِأَسْبَابِهِمَا لَمَا جَازَ لهم تَرْكُهُمَا لَكِنْ يَجُوزُ لهم تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا قالوا شُهُودُ الشَّهْرِ مُوجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَهُمْ قد شَهِدُوا الشَّهْرَ قُلْنَا شُهُودُ الشَّهْرِ وَإِنْ كان مُوجِبًا لِلصَّوْمِ عليهم لَكِنَّ الْعُذْرَ مَانِعٌ من الْوُجُوبِ وَالشَّيْءُ قد لَا يَتَرَتَّبُ على مُوجِبِهِ لِمَانِعٍ فَلَا يَلْزَمُ من شُهُودِ الشَّهْرِ وُجُوبُ الصَّوْمِ عليهم قال في الْمَحْصُولِ فَفِي جَمِيعِ هذه الْمَوَاضِعِ اسْمُ الْقَضَاءِ إنَّمَا جاء لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُنْفَكًّا عن الْوُجُوبِ لَا لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ كما يقول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الْمَنْعَ من التَّرْكِ جُزْءُ مَاهِيَةِ الْوُجُوبِ فَيَسْتَحِيلُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ مع جَوَازِ التَّرْكِ ثُمَّ تَقَدُّمُ السَّبَبِ قد يَكُونُ مع التَّأْثِيمِ بِالتَّرْكِ كَالْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ الْمُتَمَكِّنِ من الْفِعْلِ وقد لَا يَكُونُ كَالْحَائِضِ ثُمَّ قد يَصِحُّ مع الْإِجْزَاءِ وقد لَا يَصِحُّ إمَّا شَرْعًا كَالْحَيْضِ أو عَقْلًا كَالنَّوْمِ ثُمَّ قِيلَ الْقَضَاءُ لَا يُوصَفُ إلَّا بِالْوَاجِبِ وَقِيلَ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ من الثَّلَاثَةِ غَيْرَهُ وَهُمَا فَاسِدَانِ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُوصَفُ بِالثَّلَاثَةِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ يَقْضِي الرَّوَاتِبَ على الْأَظْهَرِ تَنْبِيهٌ لَا فَرْقَ بين تَسْمِيَةِ الْقَضَاءِ أَدَاءً وَبِالْعَكْسِ ما ذُكِرَ من الْفَرْقِ بين الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ رَاجِعٌ إلَى التَّلْقِيبِ وَالِاصْطِلَاحِ وَإِلَّا فَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بين أَنْ يُسَمَّى الْقَضَاءُ أَدَاءً وَالْأَدَاءُ قَضَاءً وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَلْفَاظٌ وَأَلْقَابٌ تُطْلَقُ وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ كَذَا قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ ذَيَّلَ الْكَلَامَ في أَنَّ الْقَضَاءَ هل يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ وهو مُنَازَعٌ فيه

فرع تأخير المأمور به هل يكون قضاء
إذَا قُلْنَا بِالْفَوْرِ في الْأَوَامِرِ فإذا أَخَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَهَلْ يَكُونُ قَضَاءً لِأَنَّهُ أَوْقَعَهَا في غَيْرِ وَقْتِهَا قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في أَمَالِيهِ الْوَقْتُ على قِسْمَيْنِ وَقْتٌ يُسْتَفَادُ من الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ على الْمَأْمُورِ مع قَطْعِ النَّظَرِ عن كَوْنِ الشَّرْعِ حَدَّ لِلْعِبَادَةِ ذلك الْوَقْتَ أو لم يَحُدَّ وَوَقْتٌ يَحُدُّهُ الشَّرْعُ لِلْعِبَادَةِ مع قَطْعِ النَّظَرِ عن كَوْنِ اللَّفْظِ اقْتَضَاهُ أو لَا وَالْمُرَادُ بِالْوَقْتِ في حَدِّ الْقَضَاءِ هو الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ فَتَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أنها تَكُونُ قَضَاءً بَلْ إنَّمَا تَكُونُ إنْ خَرَجَتْ عن وَقْتِهَا الْمَضْرُوبِ لها لَا أنها خَرَجَتْ عن الْوَقْتِ الذي دَلَّ عليه اللَّفْظُ
فائدة العبادة التي تقع قبل الوقت وتكون اداء
ليس لنا عِبَادَةٌ تَقَعُ قبل الْوَقْتِ وَتَكُونُ أَدَاءً غير صَدَقَةِ الْفِطْرِ إذَا عَجَّلَهَا قبل لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَلَيْسَ لنا عِبَادَةٌ يَتَوَقَّفُ قَضَاؤُهَا إلَّا في مَسْأَلَتَيْنِ على قَوْلٍ إحْدَاهُمَا إذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ تَدَارَكَهُ في بَاقِي الْأَيَّامِ وَيَكُونُ أَدَاءً على الْأَظْهَرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَضَاءً وَاتَّفَقُوا على أَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيمَا عَدَا أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّانِيَةُ النَّوَافِلُ الْمُؤَقَّتَةُ فيها قَوْلٌ أنها لَا تُقْضَى إذَا دخل عليها وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى
مسألة
من غلب عاى ظنه عدم البقاء
وإذا كان الِاعْتِبَارُ بِالتَّعْيِينِ من جِهَةِ الشَّارِعِ في الْوَقْتِ فَمَنْ غَلَبَ على ظَنِّهِ عَدَمُ الْبَقَاءِ تَعَيَّنَ عليه فِعْلُ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَصَى فَلَوْ لم يَفْعَلْهُ وَبَقِيَ بَعْدَهُ قال الْغَزَالِيُّ هو أَدَاءٌ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ خَطَأَ ظَنِّهِ وَرَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ وَنَقَلَهُ ابن الْحَاجِبِ عن الْجُمْهُورِ وقال الْقَاضِيَانِ أبو بَكْرِ بن الطَّيِّبِ وَالْحُسَيْنُ بن مُحَمَّدٍ قَضَاءٌ لِأَنَّهُ تَضَيَّقَ بِتَأْخِيرِهِ فَهُوَ كما لو تَأَخَّرَ عن زَمَنِهِ الْمَحْدُودِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ النَّظَرُ إلَى الْحَالِ أو الْمَآلِ فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْحَالِ فَقَدْ ضَاقَ

الْوَقْتُ أو إلَى الْمَآلِ فَقَدْ زَالَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَانْكَشَفَ خِلَافُ ذلك فَبَقِيَ الْأَمْرُ على التَّوَسُّعِ وَرَجَّحَ ما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ إنَّ اعْتِبَارَ الْمَوْجُودِ مُحَقَّقٌ بِخِلَافِ اعْتِبَارِ الْقَاضِي فإنه لَمَّا تَبَيَّنَ خِلَافُهُ اُعْتُبِرَ غير مُحَقَّقٍ وقد ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا صلى بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوَقْتِ وَجْهَيْنِ في أَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً أو أَدَاءً أَصَحُّهُمَا قَضَاءٌ وهو يَقْتَضِي تَرْجِيحَ اعْتِبَارِ ما في نَفْسِ الْأَمْرِ ثُمَّ قال ابن الْحَاجِبِ فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي وُجُوبَ نِيَّةِ الْقَضَاءِ فَبَعِيدٌ لِوُقُوعِهَا في الْوَقْتِ وَيَلْزَمُهُ لو اعْتَقَدَ انْقِضَاءَ الْوَقْتِ قبل الْوَقْتِ أَنَّهُ يُعْصَى بِالتَّأْخِيرِ وقد يَلْتَزِمُهُمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ بَاقٍ حتى يَكُونَ إيجَابُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ عليه بَعِيدًا بَلْ وَقْتُ الْأَدَاءِ خَرَجَ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ فإذا كَذَّبَ ظَنَّهُ وَاسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ صَارَ كما لو مَاتَ ثُمَّ عَاشَ في الْوَقْتِ فإنه يَفْعَلُ الصَّلَاةَ بِتَكْلِيفٍ ثَانٍ مُنْقَطِعٍ عن الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ هُنَا وقد قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَنْوِي الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ يَقْضِي ما الْتَزَمَهُ في الذِّمَّةِ بِشُرُوعِهِ قال وَعَلَى قَوْلِ الْقَفَّالِ يَتَخَيَّرُ بين نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَأَمَّا الثَّانِي أَنَّهُ يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ الذي ظَنَّهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِعُدُولِهِ عَمَّا ظَنَّهُ الْحَقَّ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الظُّنُونَ لَا ما في نَفْسِ الْأَمْرِ وَصَرَّحَ الْقُرْطُبِيُّ عن الْقَاضِي بِأَنَّ مَعْنَاهُ وُجُوبُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ قد تَقَدَّمَ وَقْتُهُ شَرْعًا فَأَشْبَهَ ما لو كان مُقَدَّرًا بِأَصْلِ الطَّلَبِ قال وَكَلَامُ الْقَاضِي ظَاهِرٌ لَوْلَا أَنَّهُ يُقَالُ على من لَزِمَهُ قَضَاءُ صَلَاةٍ فَأَخَّرَهُ قَاضِي الْقَضَاءِ وَرَدَّ الْآمِدِيُّ طَرِيقَةَ الْقَاضِي بِأَنَّ جَمِيعَ الْوَقْتِ كان وَقْتًا لِلْأَدَاءِ قبل ظَنِّ الْمُكَلَّفِ تَضَيُّقَهُ بِالْمَوْتِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ ما كان على ما كان ثُمَّ ظَنُّ الْمُكَلَّفِ الْمَذْكُورُ إنَّمَا أَثَّرَ في تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يَلْزَمُ من تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وهو بَقَاءُ الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ في حَقِّهِ كما لو أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ من غَيْرِ عَزْمٍ فإن وَقْتَ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيِّ بَاقٍ في ذِمَّتِهِ وقد وَافَقَ الْقَاضِي على ذلك قِيلَ وَخَرَجَ عن هذا مَنْزَعٌ صَعْبٌ على الْقَاضِي وهو أَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ من خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِثْمَ على التَّأْخِيرِ من بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَظَنُّ الْمُكَلَّفِ إنَّمَا يُنَاسِبُ تَأْثِيرَهُ في الْأُمُورِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَتُقْلَبُ حَقَائِقُهَا لِأَنَّهَا أُمُورٌ تَقْدِيرِيَّةٌ أو تَقْرِيبِيَّةٌ كَالْإِثْمِ وَالثَّوَابِ جَازَ أَنْ يَتْبَعَ الظُّنُونَ وَالِاعْتِقَادَاتِ أَمَّا الْأُمُورُ الْوَضْعِيَّةُ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَلَا

يَقْوَى الْمُكَلَّفُ على قَلْبِ حَقَائِقِهَا تَنْبِيهٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا مَضَى من وَقْتِ الظُّهْرِ إلَى حِينِ الْفِعْلِ زَمَنٌ يَسَعُ الْفَرْضَ حتى يَتَّجِهَ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ فَلَوْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ فَفَعَلَهُ فَلْيَكُنْ على الْخِلَافِ فِيمَا إذَا وَقَعَ بَعْضُ الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ وَبَعْضُهَا خَارِجَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى ظَنِّ هذا الْمُكَلَّفِ صَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيُّ وَقْتَ قَضَاءٍ في حَقِّهِ هو قَلْبًا لِحَقِيقَةِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ وَلَا دَلِيلَ على ثُبُوتِهِ وَأَمَّا الصُّوَرُ التي قَاسَ عليها الْآمِدِيُّ وَهِيَ تَأْخِيرُ الْمُوَسَّعِ بِدُونِ الْعَزْمِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ بِحُصُولِ الظَّنِّ الْمُنَاسِبِ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عليه في مَسْأَلَةِ الْقَاضِي وَالظَّنُّ وُجُودِيٌّ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْآمِدِيَّ فإنه قد عَصَى مَعْصِيَةً عَدَمِيَّةً وهو مع ذلك يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا فَلَا يَقْوَى على مُنَاسَبَةِ تَغْيِيرِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ فَرْعٌ لو شَرَعَ في الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَى بها في الْوَقْتِ قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ يَكُونُ قَضَاءً لِأَنَّ بِالشُّرُوعِ يَضِيقُ الْوَقْتُ بِدَلِيلِ امْتِنَاعِ الْخُرُوجِ منها فلم يَكُنْ فِعْلُهَا بَعْدَهُ إلَّا قَضَاءً وهو قَرِيبٌ من قَوْلِ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ فِيمَا سَبَقَ وَذَكَرَ ابن الرِّفْعَةِ أَنَّ في نَصِّ الْأُمِّ إشَارَةً إلَيْهِ حَيْثُ مَنَعَ الْخُرُوجَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ فقال فَإِنْ خَرَجَ منها بِلَا عُذْرٍ كان مُفْسِدًا آثِمًا وَظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْسَلِبُ عنها اسْمُ الْأَدَاءِ لِبَقَاءِ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ في اللُّمَعِ فقال فَأَمَّا إذَا دخل فيها فَأَفْسَدَهَا نَسِيَ شَرْطًا من شُرُوطِهَا فَأَعَادَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ سُمِّيَ إعَادَةً وَأَدَاءً انْتَهَى وَأَشَارَ في شَرْحِهَا إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وهو حَقٌّ وَبِهِ يَتَّضِحُ أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لِلْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَأَتْبَاعِهِ دَعْوَاهُمْ تَفْرِيعًا على قَوْلِهِمْ بِالْقَضَاءِ في مُقِيمٍ شَرَعَ في الصَّلَاةِ في الْبَلَدِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا ثُمَّ سَافَرَ لَا يَقْصُرُ أو مُسَافِرٌ أَتَمَّ وَاقْتَدَى بِمُقِيمٍ ثُمَّ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ لَا يَقْضِي إلَّا تَمَامًا بِنَاءً على مَنْعِ قَصْرِ الْفَوَائِتِ بَلْ الْجَارِي على وَفْقِ الْفِقْهِ الْقَصْرُ وَاسْتِئْنَافُ الْجُمُعَةِ إذَا وَقَعَ ذلك فيها ما بَقِيَ الْوَقْتُ

نعم نَقَلَ في الشَّامِلِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ إنْ أَحْرَمَ مُسَافِرٌ بِالصَّلَاةِ وهو يَجْهَلُ أَنَّ له قَصْرَهَا ثُمَّ سَلَّمَ من رَكْعَتَيْنِ وَجَبَ عليه قَضَاؤُهَا لِأَنَّهُ عَقَدَهَا أَرْبَعًا فإذا سَلَّمَ من رَكْعَتَيْنِ فيها فَقَدْ قَصَدَ إفْسَادَهَا وَظَاهِرُ هذا النَّصِّ أنها تَصِيرُ قَضَاءً بِإِفْسَادِهَا في الْوَقْتِ ثُمَّ قال فَرْعٌ إذَا أَحْرَمَ وَنَوَى الْإِتْمَامَ أو أَحْرَمَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَجَبَ عليه قَضَاؤُهَا تَامَّةً لِأَنَّهُ قد لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بِالدُّخُولِ فيها وَكُلُّ عِبَادَةٍ تَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فيها إذَا أَفْسَدَهَا وَجَبَ عليه قَضَاؤُهَا على الْوَجْهِ الذي لَزِمَهُ مع الْإِمْكَانِ كَالْحَجِّ وَلَا يَلْزَمُ من أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ مع الْإِمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا بَعْدَ ذلك ا هـ تَنْبِيهٌ لَا يَجِيءُ هذا الْبَحْثُ كُلُّهُ فِيمَا إذَا كان وَقْتُ الْقَضَاءِ مُوَسَّعًا كَالْمَتْرُوكِ بِعُذْرٍ فإذا شَرَعَ في قَضَائِهِ تَضَيَّقَ عليه لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُقْضَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

التَّكْلِيفُ لُغَةً من الْكُلْفَةِ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ وفي الِاصْطِلَاحِ قال ابن سُرَاقَةَ من أَصْحَابِنَا في أَوَّلِ كِتَابِهِ أُصُولِ الْفِقْهِ حَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ إرَادَةُ الْمُكَلِّفِ من الْمُكَلَّفِ فِعْلَ ما يَشُقُّ عليه ا هـ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ الْأَمْرُ بِطَاعَةٍ وَالنَّهْيُ عن مَعْصِيَةٍ وَلِذَلِكَ كان التَّكْلِيفُ مَقْرُونًا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وكان ما تَخَلَّلَ كِتَابَهُ من الْقِصَصِ عِظَةً وَاعْتِبَارًا تَقْوَى مَعَهَا الرَّغْبَةُ وَيَزْدَادُ بها الرَّهْبَةُ وقال الْقَاضِي هو الْأَمْرُ بِمَا فيه كُلْفَةٌ أو النَّهْيُ عَمَّا في الِامْتِنَاعِ عنه كُلْفَةٌ وَعَدَّ النَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ من التَّكْلِيفِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هو إلْزَامٌ فيه كُلْفَةٌ وَعَلَى هذا فَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ لَا كُلْفَةَ فِيهِمَا لِأَنَّهَا تُنَافِي التَّخْيِيرَ قال في الْمَنْخُولِ وهو الْمُخْتَارُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ عِبَارَةٌ عَمَّا خُيِّرَ بين فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَالنَّدْبُ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ مُثَابٌ عليه فلم يَحْصُلْ التَّسَاوِي وما نَقَلْنَا عن الْقَاضِي تَبِعَنَا فيه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَكِنَّ الذي في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي أَنَّهُ إلْزَامُ ما فيه كُلْفَةٌ كَمَقَالَةِ الْإِمَامِ فَلْيُنْظَرْ فَلَعَلَّ له قَوْلَيْنِ وَزَعَمَ الْإِمَامُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْحَظْرَ وَالْوُجُوبَ قَطْعًا وَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِبَاحَةَ قَطْعًا إلَّا عِنْدَ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وفي تَنَاوُلِهِ النَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ خِلَافٌ وَسَلَكَتْ الْحَنَفِيَّةُ مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالُوا التَّكْلِيفُ يَنْقَسِمُ إلَى وُجُوبِ أَدَاءً وهو الْمُطَالَبَةُ بِالْفِعْلِ إيجَادًا أو إعْدَامًا وَإِلَى وُجُوبٍ في الذِّمَّةِ سَابِقٍ عليه وَعَنَوْا بِهِ اشْتِغَالَ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ وإذا لم يَصْلُحْ صَاحِبُ الذِّمَّةِ لِلْإِلْزَامِ كَالصَّبِيِّ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فإن ذِمَّتَهُ تَشْتَغِلُ بِالْعِوَضِ ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْأَدَاءُ على الْوَلِيِّ وَزَعَمُوا اسْتِدْعَاءَ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ عَقْلًا وَفَهْمًا لِلْخِطَابِ بِخِلَافِ الثَّانِي قالوا الْأَوَّلُ مُتَلَقًّى من الْخِطَابِ وَالثَّانِي من الْأَسْبَابِ فَمُسْتَغْرِقُ الْوَقْتِ بِالنَّوْمِ يَقْضِي الصَّلَاةَ مع ارْتِفَاعِ قَلَمِ التَّكْلِيفِ عن النَّائِمِ وَلَكِنْ لَمَّا كان الْوُجُوبُ مُضَافًا إلَى أَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ

دُونَ الْخِطَابِ وَجَبَ الْقَضَاءُ لِذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ وَالصَّوْمِ الشَّهْرُ وَتَسَلَّقُوا بِهِ إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ على الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ في أَثْنَاءِ الشَّهْرِ إذْ الْوُجُوبُ بِالسَّبَبِ وهو الشَّهْرُ وقد وُجِدَ وَعِنْدَنَا لَا وُجُوبَ إلَّا بِالْخِطَابِ لَا بِالْأَسْبَابِ

مسألة
التكليف حسن في العقول
التَّكْلِيفُ حَسَنٌ في الْعُقُولِ إذَا تَوَجَّهَ إلَى من عُلِمَتْ طَاعَتُهُ وَاخْتُلِفَ في حُسْنِهِ إذَا تَوَجَّهَ إلَى من عُرِفَتْ مَعْصِيَتُهُ فَاسْتَحْسَنَهُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّ فيه تَعْرِيضًا لِلثَّوَابِ ولم يَسْتَحْسِنْهُ الْأَشْعَرِيَّةُ لِأَنَّهُ بِالْمَعْصِيَةِ مُعَرَّضٌ لِلْعِقَابِ كَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ دَلَائِلِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ قال وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ قال ولم أَعْرِفْ لهم فيه قَوْلًا
مسألة
التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح
اُخْتُلِفَ في التَّكْلِيفِ هل يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْأَصْلَحِ فَاَلَّذِي عليه أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَصْلَحِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه مَنْفَعَةُ الْعِبَادِ وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ وَجَمْعٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ وهو الْمَنْسُوبُ إلَى الْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ على مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى من مَصْلَحَةٍ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا فَمَنْ اعْتَبَرَ بِالْأَصْلَحِ مَنَعَ من تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَبِهِ يَصِحُّ تَكْلِيفُ ما لَحِقَتْ فيه الْمَشَقَّةُ الْمُحْتَمَلَةُ وَاخْتُلِفَ في صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا مَشَقَّةَ فيه فَجَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ وَمَنَعَ منها بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ وقد وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ من بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ فيه مَشَقَّةٌ قال الْقَاضِي وَمُتَعَلَّقُ التَّكْلِيفِ اكْتِسَابُ الْعَبْدِ الْأَفْعَالَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِهَا وَلَا بِحُدُوثِهَا فإن ذلك بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ التَّكْلِيفُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِيجَادِ وَالْإِحْدَاثِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ خَلْقُ الْأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ وَلَا يُعْقَلُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ التَّكْلِيفُ وهو الْمَصْدَرُ وَالْمُكَلَّفُ وهو من يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ وَأَصْلُهُ طَالِبٌ مُلْزِمٌ لَكِنْ قد حَقَّقْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا طَاعَةَ اللَّهِ وَطَاعَةَ من أَوْجَبَ طَاعَتَهُ الْمُكَلَّفُ وهو الذي اسْتَدْعَى منه الْفِعْلَ وَالْمُكَلَّفُ بِهِ هو الْمَطْلُوبُ وَإِنَّمَا يُشْتَقُّ

اسْمُ الْفَاعِلِ أو الْمَفْعُولِ من الْمَصَادِرِ فَلِهَذَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ على التَّكْلِيفِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَعْرِفَةُ الطَّائِعِ لِيُثَابَ وَالْعَاصِي لِيُعَاقَبَ فَلِهَذَا اُشْتُرِطَ لِهَذَا شُرُوطٌ بَعْضُهَا في الْمُكَلَّفِ وَبَعْضُهَا في الْمُكَلَّفِ بِهِ وَحُكْمُ الْمُكَلَّفِ وَالتَّكْلِيفِ قد عُرِفَا فَلْنَتَكَلَّمْ على الْأَخِيرَيْنِ الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمُكَلَّفُ وهو الْمَحْكُومُ عليه وَلَهُ شُرُوطٌ أَحَدُهَا الْحَيَاةُ فَالْمَيِّتُ لَا يُكَلَّفُ وَإِنْ جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عليه وَلِهَذَا لو وَصَلَ عَظْمَهُ بِنَجَسٍ لم يُنْزَعْ على الصَّحِيحِ وَلَوْ مَاتَتْ الْمُعْتَدَّةُ الْمُحْرِمَةُ جَازَ تَطْيِيبُهَا نَظَرًا إلَى أَنَّ الْخِطَابَ سَقَطَ بِالْمَوْتِ نعم قد يَنْسَحِبُ عليه حُكْمُ التَّكْلِيفِ وَلِهَذَا يُمْتَنَعُ تَكْفِينُ الرَّجُلِ بِالْحَرِيرِ وَكَذَا بِالزَّعْفَرَانِ وَالْمُعَصْفَرِ إنْ مَنَعْنَاهُ في الْحَيَاةِ كما هو الْمَنْصُوصُ وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ يَحْرُمُ تَطْيِيبُهُ وَإِزَالَةُ شَعْرِهِ وَظُفْرِهِ وَعَلَّلَهُ الْقَفَّالُ بِأَنَّ الْحَجَّ أَلْزَمُ الْعُقُودِ فَبَقِيَ حُكْمُهُ كما يَبْقَى حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَلَوْ مَاتَ الْمُحْرِمُ وقد بَقِيَ عليه من أَرْكَانِ الْحَجِّ الْحَلْقُ فإذا حَلَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَفِي وُقُوعِهِ الْمَوْقِعَ نَظَرٌ لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا فرع تَكْلِيفُ من أَحُيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ من أُحْيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَاَلَّذِي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَكَالْخَارِجِينَ من دِيَارِهِمْ أُلُوفٌ قال الْمَاوَرْدِيُّ في تَفْسِيرِهِ اُخْتُلِفَ في بَقَاءِ تَكْلِيفِ من أُعِيدَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ يَبْقَى لِئَلَّا يَخْلُوَ عَاقِلٌ من تَعَبُّدٍ وَقِيلَ يَسْقُطُ فَالتَّكْلِيفُ مُعْتَبَرٌ بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ ا هـ وهو غَرِيبٌ وقال الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ إذَا جَازَ تَكْلِيفُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَانِعَ من الْآخِرَةِ الِاضْطِرَابُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَبَعْدَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَا تَكْلِيفَ وَأَهْلُ الصَّاعِقَةِ يَجُوزُ كَوْنُهُ تَعَالَى لم يَضْطَرَّهُمْ فَصَحَّ تَكْلِيفُهُمْ بَعْدَ ذلك ا هـ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْحَقُّ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُضْطَرَّةَ لَا تَمْنَعُ التَّكْلِيفَ واليهود قد أَبَوْا أَخْذَ الْكِتَابِ فَرَفَعَ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ فَآمَنُوا وَقَبِلُوهُ وَلَا شَكَّ في أَنَّ هذا آيَةٌ

مُضْطَرَّةٌ وَقَوْلُ الرَّازِيَّ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ في الْآخِرَةِ ليس على إطْلَاقِهِ فإن التَّكْلِيفَ بِالْمَعْرِفَةِ بَاقٍ فيها وقد جاء أَنَّهُ تُؤَجَّجُ نَارٌ وَيُؤْمَرُونَ بِالدُّخُولِ فيها فَمَنْ أَقْبَلَ على ذلك صُرِفَ عنها وَهَذَا تَكْلِيفٌ وقال بَعْضُهُمْ قَوْلُهُمْ الْآخِرَةُ دَارُ جَزَاءٍ وَالدُّنْيَا دَارُ تَكْلِيفٍ مَحْمُولٌ على الْأَغْلَبِ في كل دَارٍ في الْآخِرَةِ الْجَزَاءُ كما في الدُّنْيَا التَّكْلِيفُ الشَّرْطُ الثَّانِي كَوْنُهُ من الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ فَيَخْرُجُ الْبَهَائِمُ وَالْجَمَادَاتُ وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عليه وَحَكَى صَاحِبُ الْمُعْتَمَد عن أَهْلِ التَّنَاسُخِ أَنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ تَجِبُ على جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنَّ جَمِيعَهَا عُقَلَاءُ مُكَلَّفُونَ لِفَرَائِض اللَّهِ وَعَنْ الْآخَرِينَ تَكْلِيفُ الْجِبَالِ وَالْأَشْجَارِ وَالْحِيطَانِ وَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَرُدَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على خِلَافِ ذلك وَأَمَّا ما وَقَعَ في بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ قِرَدَةً رَجَمُوا من زَنَى بَيْنَهُمْ فَإِنْ صَحَّ فَلَعَلَّهُ من بَقَايَا من كُلِّفَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْبُلُوغُ فَالصَّبِيُّ ليس مُكَلَّفًا أَصْلًا لِقُصُورِ فَهْمِهِ عن إدْرَاكِ مَعَانِي الْخِطَابِ قال الْإِمَامُ في الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ وَمُدْرِكُ شَرْطِهِ الشَّرْعُ وَلَوْ رَدَدْنَا إلَى الْعَقْلِ لم يَسْتَحِلْ تَكْلِيفُ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ من الصِّبْيَانِ وقال في بَابِ الْحَجْرِ من النِّهَايَةِ كَأَنَّ الشَّرْعَ لم يُلْزِمْ الصَّبِيَّ قَضَايَا التَّكْلِيفِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ من مَظِنَّةِ الْغَبَاوَةِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ فَلَا يَسْتَقِلُّ بِأَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ

وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ عَرَى عن الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى وَهِيَ الشَّهْوَةُ فَرَبَطَ الشَّرْعُ الْتِزَامَ التَّكْلِيفِ بِأَمَدٍ وَتَرْكِيبِ الشَّهْوَةِ أَمَّا الْأَمَدُ فَيُشِيرُ إلَى التَّهْذِيبِ بِالتَّجَارِبِ وَأَمَّا تَرْكِيبُ الشَّهْوَةِ فإنه يُعَرِّضُ لِلْبَلَايَا الْعِظَامِ فَرَأَى الشَّرْعُ تَثْبِيتَ التَّكْلِيفِ معه زَاجِرًا وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ تَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِ الصَّبِيِّ مُرَادُهُمْ وُجُوبُ الْأَخْذِ من مَالِهِ لَا خِطَابُ الْأَدَاءِ وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ أَنَّ الصَّبِيَّ مُخَاطَبٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ خِطَابُ الْوَضْعِ وقال صَاحِبُ الْبَيَانِ في الْفِقْهِ من أَصْحَابِنَا في بَابِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَدْخُلَانِ في خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَيَدْخُلَانِ في خِطَابِ الْإِلْزَامِ كَقَوْلِهِ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم في كل أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَذَكَرَ ابن كَجٍّ نَحْوَهُ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالطُّرْطُوشِيُّ الصَّبِيُّ لَا يَدْخُلُ في الْخِطَابِ الْمَقْصُودِ منه التَّكْلِيفُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالْإِخْبَارِ لَا وُجُوبَ لَا يُنَافِيهِ الصِّغَرُ لِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ من الزَّكَاةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِمَالِهِ وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّهُ وَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ تَدْخُلُ في حَقِّ الْأَطْفَالِ من النِّسَاءِ في قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا الْآيَةُ وَعَنْ أبي الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ على ابْنِ الْعَشْرِ وُجُوبَ مِثْلِهِ وَإِنْ لم يَأْثَمْ بِتَرْكِهَا إذْ لو لم تَجِبْ عليه لَمَا ضُرِبَ عليها وقال الْقَاضِي الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ قُبَيْلَ بَابِ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَأَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ إلَى أنها تَجِبُ قبل بُلُوغِهِ وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ على تَرْكِهَا عُقُوبَةَ الْبَالِغِ وَرَأَيْت كَثِيرًا من الْمَشَايِخِ مُرْتَكِبِينَ هذا الْقَوْلَ في الْمُنَاظَرَةِ وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا هذا قَوْلُ أَحْمَدَ في رِوَايَةٍ أنها تَجِبُ عليه إذَا بَلَغَ عَشْرًا ا هـ وقد صَرَّحَ في الرِّسَالَةِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَا يَجِبَانِ على الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ

وَاسْتَصْوَبَ الْإِمَامُ في الْأَسَالِيبِ قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ قال وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عليها وَمَلُومٌ على تَرْكِهَا وما حَكَاهُ عن النَّصِّ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ على أَنَّهُ يَجِبُ عليه من جِهَةِ وَلِيِّهِ لِأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بها وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَاَلَّذِي يَسْتَدْعِي التَّكْلِيفَ إنَّمَا هو أَمْرُ اللَّهِ وَأَمَّا أَفْهَمِيَّةُ الْعِقَابِ فَهُوَ الضَّرْبُ على تَرْكِهَا وَهَذَا كُلُّهُ في الْوُجُوبِ أَمَّا الْإِيجَابُ وَدُخُولُهُ في خِطَابِ ما أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَدْخُلُ فيه وَذَكَرَ الْإِمَامُ أبو الْحُسَيْنِ السُّبْكِيُّ أَنَّ الصَّبِيَّ دَاخِلٌ في عُمُومِ نَحْوِ قَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ فإن الْخِطَابَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّاسِ وهو منهم وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِصَبِيٍّ يا بُنَيَّ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيك قال وَعَدُّ الْأُصُولِيِّينَ ذلك في أَمْرِ التَّأْدِيبِ لَا يَضُرُّنَا قال وَالصَّبِيُّ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ أَمْرَ إيجَابٍ وَالْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ الْأَمْرُ الْجَازِمُ وهو مَوْجُودٌ في الصَّبِيِّ لَكِنَّ الْوُجُوبَ تَخَلَّفَ عنه لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ إنْ لم يَكُنْ مُمَيِّزًا بِالْأَدِلَّةِ على أَنَّ الْفَهْمَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ وَلِرَفْعِ الْقَلَمِ إنْ كان مُمَيِّزًا وإذا فَسَّرْنَا الْإِيجَابَ بِالْأَمْرِ الْجَازِمِ لم يُمْتَنَعْ تَخَلُّفُ الْوُجُوبِ لِمَعْنَى التَّكْلِيفِ عن الْإِيجَابِ بِمَعْنَى الْجَزْمِ وَلَا نَعْنِي بِالْجَازِمِ الْمَنْعَ من هذه إنَّمَا الْجَزْمُ صِفَةٌ لِلطَّلَبِ من حَيْثُ هو بِالنِّسْبَةِ إلَى رُتْبَةِ ذلك الْفِعْلِ فَرُتْبَةُ الْفَرْضِ هِيَ الْعُلْيَا لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فيها وَالْمَنْدُوبُ فيه رُخْصَةٌ مُنْحَطَّةٌ عن رُتْبَةِ الْوَاجِبِ وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ وَالشَّخْصُ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ ذلك الْأَمْرُ يُعْتَبَرُ فيه أُمُورٌ إنْ وُجِدَتْ تَرَتَّبَ مُقْتَضَاهُ كَالْوُجُوبِ الْمُتَرَتِّبِ على الْإِيجَابِ وَإِلَّا فَلَا وَمَنْ تَأَمَّلَ هذا الْمَعْنَى لم يَسْتَبْعِدْهُ في حَقِّ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الذي اقْتَضَتْ رُخْصَةُ اللَّهِ رَفْعَ الْقَلَمِ عنه انْتَهَى وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ في الْمَعْرِفَةِ في بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ قال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ وقد أَوْجَبَ اللَّهُ بَعْضَ الْفَرْضِ على من لم يَبْلُغْ وَذَكَرَ الْعِدَّةَ وَذَكَرَ ما يَلْزَمُهُ فِيمَا اُسْتُهْلِكَ من أَمْتِعَةِ الناس قال وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه رُفِعَ الْقَلَمُ عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتَلِمَ أو يَبْلُغَ الْمَأْثَمَ فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا هو أَعْلَمُ بِمَعْنَى ما رَوَى كان يُؤَدِّي الزَّكَاةَ عن أَمْوَالِ الْيَتَامَى الصِّغَارِ

قال الْبَيْهَقِيُّ وَإِنَّمَا نَسَبَ هذا الْكَلَامَ إلَى عَلِيٍّ لِأَنَّهُ عنه يَصِحُّ وقد رَفَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ من حديث عَلِيٍّ وَوَقَفَهُ عليه أَكْثَرُهُمْ ا هـ وَسَلَكَ الْقَفَّالُ طَرِيقًا آخَرَ في الْإِيجَابِ فقال إنَّ الصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ أَمْرَ إيجَابٍ لِأَنَّهُ آكَدُ بِالْعُقُوبَةِ على تَرْكِهَا قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْأَسْرَارِ فَقُلْت له لم يَأْمُرْ اللَّهُ الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ قال أَمَرَ الْأَوْلِيَاءَ لِيَأْمُرُوهُ فَهُوَ كَأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا يَلْزَمُ أُمَّتَهُ وَفِيمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ نَظَرٌ فإن الْمُخَاطَبَ الْوَلِيُّ وفي أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ بِالضَّرْبِ عِنْدَ تَرْكِ الصَّلَاةِ ما يُصَرِّحُ بِنَفْيِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ إذْ لو كَانُوا مُكَلَّفِينَ لم يَخْتَصَّ ذلك بِالْوَلِيِّ كما بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا هو ضَرْبُ اسْتِصْلَاحٍ كَالْبَهِيمَةِ وَزَعَمَ الْحَلِيمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ كان في صَدْرِ الْإِسْلَامِ الصَّبِيُّ مُكَلَّفًا وهو من يُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ له ثُمَّ اُعْتُبِرَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ وَحَمَلَا عليه حَدِيثَ رُفِعَ الْقَلَمُ عن الصَّبِيِّ فإن الرَّفْعَ يَقْتَضِي الْوَضْعَ وَاخْتُلِفَ في الْبُلُوغِ هل هو شَرْطٌ عَقْلِيٌّ لِلتَّكْلِيفِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْعِبَادَةِ أو شَرْعِيٌّ على قَوْلَيْنِ تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ لَا يُخَاطَبُ الصَّبِيُّ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ على الْمَشْهُورِ في الصَّبِيِّ فَلَا يُخَاطَبُ من الْأَحْكَامِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَهَلْ انْتِفَاءُ ذلك في حَقِّهِ لِعَدَمِ الْحُكْمِ كما قبل الشَّرْعِ أو حُكْمٌ من اللَّهِ تَخْفِيفًا عنه لم يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ وَعَلَيْهِ يُنْبِي ما سَبَقَ في مَعْنَى رَفْعِ الْقَلَمِ وَهَلْ يُخَاطَبُ بِالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ الْجُمْهُورُ على الْمَنْعِ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ وهو مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ حَيْثُ قالوا إنَّهُ مَأْمُورٌ من جِهَةِ الشَّرْعِ بِالنَّدْبِ وَلِهَذَا جَعَلُوا له إنْكَارَ الْمُنْكَرِ وَيُثَابُ عليه

التَّنْبِيهُ الثَّانِي إذَا عَلَّقْنَا التَّكْلِيفَ بِالْبُلُوغِ فَهَلْ يَصِيرُ مُكَلَّفًا بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا بُدَّ من أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ من الزَّمَانِ ما يُمْكِنُهُ فيه التَّعْرِيفُ وَالْقَبُولُ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ قال وَقَوْلُنَا إنَّهُ يَصِيرُ مُكَلَّفًا في الْوَقْتِ إذَا لم يَكُنْ فيه مَانِعٌ فإذا انْقَضَى وَقْتُ أَدَائِهِ ولم يَعْلَمْهُ كان عَاصِيًا بِتَرْكِهِ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِ الشَّرْطُ الرَّابِعُ الْعَقْلُ فَالْمَجْنُونُ ليس بِمُكَلَّفٍ إجْمَاعًا وَيَسْتَحِيلُ تَكْلِيفُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا يَبْعُدُ من الْقَائِلِينَ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ جَوَازُ تَكْلِيفِهِ كَالْغَافِلِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِوُجُوبِ قَضَاءِ الصَّوْمِ على الْمَجْنُونِ نَصَّ عليها في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَضَعَّفَهَا مُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ وَمِنْهُمْ من حَمَلَهَا على غَيْرِ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ كَمَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا قال ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمَجْنُونُ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْإِفَاقَةِ كما يُوَجَّهُ على الْمَعْدُومِ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وَيَجِيءُ مِثْلُهُ في الصَّبِيِّ وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجُنُونُ الطَّارِئُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أو الْمُقَارِنِ له نعم طُرُوءُ الْجُنُونِ على الْكَافِرِ لَا يَمْنَعُ التَّكْلِيفَ وَلِهَذَا لو جُنَّ الْمُرْتَدُّ لم يَسْقُطْ عنه قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ سَقَطَتْ عن الْمَجْنُونِ الْمُسْلِمِ قال الْقَاضِي أبو يَعْلَى وَمِقْدَارُ الْعَقْلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّكْلِيفِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا بين الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ وَيَصِحُّ منه أَنْ يَسْتَدِلَّ وَيَسْتَشْهِدَ على ما لم يُعْلَمْ بِاضْطِرَارٍ فَمَنْ كان هذا وَصْفُهُ كان عَاقِلًا وَإِلَّا فَلَا قال الصَّيْرَفِيُّ وَلَمَّا كان الناس مُتَفَاوِتِينَ في تَكَامُلِ الْعُقُولِ كُلِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ على قَدْرِ ما يَصِلُ إلَيْهِ عَقْلُهُ وقد جاء في الحديث إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجَازِي كُلَّ إنْسَانٍ على قَدْرِ عَقْلِهِ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِ عُمَرَ لِرَجُلٍ عَيِيٍّ أَشْهَدُ أَنَّ خَالِقَك وَخَالِقَ عَمْرِو بن

الْعَاصِ وَاحِدٌ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في بَابِ الْجُمُعَةِ من تَعْلِيقِهِ جاء عن عَلِيٍّ عَلِّمُوا الناس على قَدْرِ عُقُولِهِمْ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيْ لَا تَنْبُوَا الْأَفْهَامُ عنه فَيُكَذَّبُونَ لِذَلِكَ وَقِيلَ إنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ على الْعَقْلِ الشَّرْطُ الْخَامِسُ الْفَهْمُ وَالْمَعْنَى فيه كما قال صَاحِبُ الْقَوَاعِدِ إنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ على سَبِيلِ الْقَصْدِ وَالِامْتِثَالُ يَتَوَقَّفُ على الْعِلْمِ بِهِ وهو ضَرُورِيٌّ فَيُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْغَافِلِ كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي لِمُضَادَّةِ هذه الْأُمُورِ الْفَهْمَ فَيَنْتَفِي شَرْطُ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا بِنَاءٌ على امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَلِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَأَمَّا إيجَابُ الْعِبَادَةِ على النَّائِمِ وَالْغَافِلِ فَلَا يَدُلُّ على الْإِيجَابِ حَالَةَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَإِنْ قِيلَ فَالنَّائِمُ يَضْمَنُ ما يُتْلِفُهُ في نَوْمِهِ قُلْنَا الْخِطَابُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ وهو مُنْتَفٍ عنه حَالَةَ النَّوْمِ وَلِهَذَا قالوا لو أَتْلَفَ الصَّبِيُّ شيئا ضَمِنَهُ مع أَنَّهُ ليس بِمُكَلَّفٍ وقال الْقَفَّالُ في الْأَسْرَارِ النَّهْيُ لَا يُلَاقِي السَّاهِيَ إذْ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ منه وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ وَكَفَّارَةِ الْخَطَأِ لِكَوْنِ الْفِعْلِ مُحَرَّمًا في نَفْسِهِ من حَيْثُ إنَّهُ مَحْظُورٌ عَقْدُهُ إلَّا أَنَّهُ في نَفْسِهِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عنه في هذه الْحَالَةِ وقال ابن الصَّلَاحِ ما قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ من أَنَّ السَّاهِيَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ لَا يُنَافِيهِ تَحْنِيثُ الْفُقَهَاءِ له في الْيَمِينِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فإن تَحْنِيثَهُ ليس من قَبِيلِ التَّكْلِيفِ بَلْ من خِطَابِ الْوَضْعِ وَهَذَا يَثْبُتُ في حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ كَالصَّبِيِّ وقال صَاحِبُ الذَّخَائِرِ من زَالَ عَقْلُهُ بِالنَّوْمِ وَطَبَقَ الْوَقْتَ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ وَصَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى تَكْلِيفِ النَّائِمِ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَإِنْ عَنَوْا بِهِ ضَمَانَ الْمُتْلِفَاتِ وَنَحْوُهُ فَالْمَجْنُونُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ إجْمَاعًا وَيَجِبُ عليه ذلك ثُمَّ قال فَإِنْ قِيلَ لِمَ

أَوْجَبْتُمْ الْقَضَاءَ عليه قُلْنَا لِلْأَمْرِ الْجَدِيدِ قال وَالْحُكْمُ في السَّاهِي وَالْجَاهِلِ كَالنَّائِمِ قال ابن الرِّفْعَةِ وَكَلَامُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ يُنَازَعُ فيه وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عليه وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ وَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ هل يُخَاطَبُونَ أَمْ لَا ذَهَبَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِنَا وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ وَنَقَلَ عن الْمُتَكَلِّمِينَ من أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ قال وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ثُبُوتُ الْفِعْلِ في الذِّمَّةِ وَلَمَّا لم يَتَصَوَّرْ الْمُتَكَلِّمُونَ هذا مَنَعُوهُ ا هـ قال بَعْضُهُمْ وَنِسْيَانُ الْأَحْكَامِ بِسَبَبِ قُوَّةِ الشَّهَوَاتِ لَا يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ كَمَنْ رَأَى امْرَأَةً جَمِيلَةً وهو يَعْلَمُ تَحْرِيمَ النَّظَرِ إلَيْهَا فَنَظَرَ إلَيْهَا غَافِلًا عن تَحْرِيمِ النَّظَرِ وَكَذَا الْقَوْلُ في الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَغَيْرِهِ من أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وقال الصَّيْرَفِيُّ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ لَا يَقَعُ الْأَمْرُ فيه وَلَا النَّهْيُ عنه لِامْتِنَاعِ الْأَمْرِ بِمَا لَا يُهَيَّأُ قَصْدٌ لِأَنَّهُ لو قَصَدَ تَرْكَهُ لم يَكُنْ نَاسِيًا له وَالْمُرْتَفِعُ إنَّمَا هو الْإِثْمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَكُلُّ ما أَخْطَأْت بَيْنَك وَبَيْنَ رَبِّك فَغَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ وَأَمَّا الْخَطَأُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادِ فَيَضْمَنُهُ وَلِهَذَا يَسْتَوِي فيه الْبَالِغُ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ فرع الِانْشِغَالُ عن الصَّلَاةِ بِلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ لو شَغَلَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ حتى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وهو غَافِلٌ فَإِنْ لم يَتَكَرَّرْ ذلك منه لم تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَثُرَ وَتَكَرَّرَ فَسَقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ قال الرَّافِعِيُّ هَكَذَا ذَكَرُوهُ وَفِيهِ إشْكَالٌ لِمَا فيه من تَعْصِيَةِ الْغَافِلِ وَالسَّاهِي ثُمَّ قِيَاسُهُ الطَّرْدُ في شُغْلِ النَّفْسِ بِسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ قُلْت وقد سَبَقَ أَنَّ نِسْيَانَ الْعِبَادَةِ لِسَبَبِ الشَّهْوَةِ لَا يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ فَلَا يَرِدُ إشْكَالُ الرَّافِعِيِّ

تَنْبِيهٌ السَّكْرَانُ السَّكْرَانُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ ليس بِمُكَلَّفٍ منهم الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَالْغَزَالِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وابن الْقُشَيْرِيّ وقال الْإِمَامُ في الْأَسَالِيبِ السَّكْرَانُ عِنْدَنَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ فإنه يَسْتَحِيلُ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ على من لَا يَتَصَوَّرُ وَلَكِنْ غُلِّظَ الْأَمْرُ في سُكْرِهِ رَدْعًا وَمَنْعًا فَأُلْحِقَ بِالصَّاحِي مِمَّنْ قال إنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ مُجَلِّي في الذَّخَائِرِ وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ من أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ قال وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ تَغْلِيظًا عليه وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ عن أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ قال وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ حَالَةَ السُّكْرِ وَمُرَادُنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ قُلْت وَالصَّحِيحُ أَنَّ السَّكْرَانَ الْمُعْتَدِيَ بِسُكْرِهِ مُكَلَّفٌ مَأْثُومٌ هذا هو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عليه في الْأُمِّ فقال وَمَنْ شَرِبَ خَمْرًا أو نَبِيذًا فَأَسْكَرَهُ فَطَلَّقَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ كُلُّهَا وَالْفَرَائِضُ وَلَا تُسْقِطُ الْمَعْصِيَةُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمَعْصِيَةُ بِالسُّكْرِ من النَّبِيذِ عنه فَرْضًا وَلَا طَلَاقًا فَإِنْ قال قَائِلٌ فَهَذَا مَغْلُوبٌ على عَقْلِهِ وَالْمَرِيضُ وَالْمَجْنُونُ مَغْلُوبٌ على عَقْلِهِ قِيلَ الْمَرِيضُ مَأْجُورٌ وَمُكَفَّرٌ عنه بِالْمَرَضِ مَرْفُوعٌ عنه الْقَلَمُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ وَهَذَا آثِمٌ مَضْرُوبٌ على السُّكْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عنه الْقَلَمُ فَكَيْفَ يُقَاسُ من عليه الْعِقَابُ بِمَنْ له الثَّوَابُ وَالصَّلَاةُ مَرْفُوعَةٌ عن من غُلِبَ على عَقْلِهِ وَلَا تُرْفَعُ عن السَّكْرَانِ وَكَذَلِكَ الْفَرَائِضُ من حَجٍّ أو صَوْمٍ أو غَيْرِ ذلك ا هـ وَلِهَذَا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَنُسِبَ مُقَابِلُهُ إلَى أبي حَنِيفَةَ وَلِهَذَا صَحَّحَ الشَّافِعِيُّ تَصَرُّفَاتِهِ وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِقَوْلِهِ رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثَلَاثَةٍ قال وَالسَّكْرَانُ ليس في مَعْنَى وَاحِدٍ من هَؤُلَاءِ وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عليه قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ قال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ الْمَرِيضُ مَأْجُورٌ مُكَفَّرٌ عنه مَرْفُوعٌ عنه الْقَلَمُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ وَهَذَا آثِمٌ مَضْرُوبٌ على السُّكْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عنه الْقَلَمُ ا هـ قِيلَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مَضْرُوبٌ على السُّكْرِ فيه تَجَوُّزٌ إنَّمَا هو على الشُّرْبِ سَكِرَ أَمْ لم يَسْكَرْ لَكِنَّهُ يُرِيدُ على سَبَبِ السُّكْرِ وقد اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ

نَصَّ الشَّافِعِيُّ على تَكْلِيفِهِ مع إخْرَاجِ الْأُصُولِيِّينَ له عن ذلك وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ من لَا يَفْهَمُ قال الْغَزَالِيُّ بَلْ السَّكْرَانُ أَسْوَأُ حَالًا من النَّائِمِ الذي يُمْكِنُهُ تَنْبِيهُهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ قَوْلًا ثَالِثًا مُفَصِّلًا بين السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ لِلتَّغْلِيظِ عليه وهو الْأَقْرَبُ أو يُحْمَلُ قَوْلُهُ على السَّكْرَانِ الذي يَنْتَقِلُ عن رُتْبَةِ التَّمْيِيزِ دُونَ الطَّافِحِ الْمُغْشَى عليه وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ من ذلك أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْغَافِلِ مُطْلَقًا فَقَدْرُهُ رضي اللَّهُ عنه يَجُلُّ عن ذلك قُلْت وَبِالثَّانِي صَرَّحَ أبو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ كما سَنَذْكُرُهُ وَالْأَقْرَبُ احْتِمَالٌ ثَالِثٌ وهو أَنَّ التَّكْلِيفَ في حَقِّهِ مُسْتَصْحَبٌ لَا وَاقِعٌ وُقُوعًا مُبْتَدَأً كما قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْخَارِجِ من الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إنَّهُ مُرْتَبِكٌ في الْمَعْصِيَةِ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ اخْتَلَفُوا في الْجَوَابِ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ من الْتِزَامِهِ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ فَقِيلَ لَا دَلَالَةَ دَالَّةٌ على ثُبُوتِهَا في حَقِّهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وقال ابن سُرَيْجٍ لَمَّا كان سُكْرُهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا من جِهَتِهِ وهو مُتَّهَمٌ في دَعْوَى السُّكْرِ لِفِسْقِهِ أَلْزَمْنَاهُ حُكْمَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَطَرَدْنَا ما لَزِمَهُ في حَالِ الْيَقِظَةِ وقال الْغَزَالِيُّ إلْزَامُنَا له ذلك من قَبِيلِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ وَلَا يَسْتَحِيلُ ذلك في حَقِّ من لَا تَكْلِيفَ عليه يَعْنِي أَنَّهُ من خِطَابِ الْوَضْعِ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذلك وقال هذا الْجَوَابُ ليس بِصَحِيحٍ فإن خِطَابَ الْوَضْعِ لَا يَقْتَضِي قَتْلًا وَلَا إيقَاعَ طَلَاقٍ وَلَا إلْزَامَ حَدٍّ وَكَوْنُ الزِّنَا جُعِلَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْحَدِّ على الزَّانِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ من بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ قُلْت الطَّلَاقُ مِمَّا اجْتَمَعَ فيه الْخِطَابَانِ لِأَنَّهُ إمَّا مُبَاحٌ أو مَكْرُوهٌ وهو مَنْصُوبٌ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ فَيَكُونُ من خِطَابِ الْوَضْعِ وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ هو مُحَرَّمٌ وهو مَنْصُوبٌ سَبَبًا لِمَا تَرَتَّبَ عليه من الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَثُبُوتُ الْقِصَاصِ أو الدِّيَةِ خِطَابُ وَضْعٍ فَقَطْ لَا تَكْلِيفٌ حَقُّهُ كما في الْإِرْثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ اُخْتُلِفَ في السَّكْرَانِ فَقِيلَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِزَوَالِ عَقْلِهِ وَقِيلَ يَجُوزُ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ في الشَّرِيعَةِ مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ تَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ في حَالِ سُكْرِهِ إذَا كان زَوَالُ عَقْلِهِ بِأَمْرٍ عَصَى اللَّهَ فيه فَعُوقِبَ بِأَنْ أُلْحِقَ بِالْمُكَلَّفِينَ رَدْعًا له وَلِغَيْرِهِ عن شُرْبِ الْخَمْرِ قال وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ جَائِزٌ مُحْتَمَلٌ لِوُرُودِ الشَّرِيعَةِ بِهِمَا ا هـ قُلْت وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ في غَيْرِ الْمُنْتَهِي إلَى ما لَا يَعْقِلُ أَلْبَتَّةَ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أبو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ من شَرْحِ الْمِفْتَاحِ فقال قُلْت وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ في تَصَرُّفِ السَّكْرَانِ إنَّ السَّكْرَانَ على نَوْعَيْنِ

أَحَدُهُمَا يَعْقِلُ ما يقول فَهَذَا مُخَاطَبٌ وَتَصِحُّ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ وَالثَّانِي لَا يَعْقِلُ ما يقول وقد زَالَ عَقْلُهُ وَذَهَبَ حِسُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَهَذَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ من تَصَرُّفَاتِهِ وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ وَهَذَا أَدْوَنُ حَالَةً من الْمَجْنُونِ هذا هو اخْتِيَارِي انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا هو قَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ في النِّهَايَةِ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ إذَا انْتَهَى إلَى حَالَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عليه فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِإِلْحَاقِهِ بِهِمَا قال وَأَبْعَدَ من أَجْرَاهُ على الْخِلَافِ وقال ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ الْخِلَافُ في الْمُلْتَجِّ أَمَّا الْمُنْتَشِي فَمُكَلَّفٌ إجْمَاعًا قُلْت وَيَدُلُّ عليه جَوَابُهُمْ عن الْآيَةِ وَمِمَّنْ أَطْلَقَ تَكْلِيفَ السَّكْرَانِ شَيْخَا الْمَذْهَبِ أبو حَامِدٍ وَالْقَفَّالُ وَنَقَلَاهُ عن الْمَذْهَبِ وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في فَتَاوِيهِ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وأبو الْفَضْلِ بن عَبْدَانَ في كِتَابِ الْأَذَانِ من شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ وَجَزَمَ بِهِ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ ثُمَّ نَقَلَ الْمَنْعَ عن الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وقال عبد اللَّهِ بن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ قال أبي قال الشَّافِعِيُّ وَجَدْت السَّكْرَانَ ليس بِمَرْفُوعٍ عنه الْقَلَمُ وكان أبي يُعْجِبُهُ هذا وَيَذْهَبُ إلَيْهِ ا هـ وَأَطَالَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ عَدَمَ تَكْلِيفِهِ ثُمَّ قال ما حَاصِلُهُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ لَكِنْ بَعْدَ السُّكْرِ بِمَا كان في السُّكْرِ وَهَذَا الْكَلَامُ مَجْمَعُ مَذَاهِبِ الْفَرِيقَيْنِ وَصَرَّحَ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ مع تَقْرِيرِهِ في كُتُبِ الْفِقْهِ مُؤَاخَذَتَهُ الْمُصَرِّحَةُ بِالتَّكْلِيفِ وهو مُؤَوَّلٌ بِمَا سَبَقَ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ هو غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْنَعُ تَوَجُّهَ الْخِطَابِ إلَيْهِ أَمَّا ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ في حَقِّهِ وَتَنْفِيذُ بَعْضِ أَقْوَالِهِ فَلَا يُمْنَعُ قال وَهَذَا مُطَّرِدٌ في تَكَالِيفِ النَّاسِي في اسْتِمْرَارِ نِسْيَانِهِ إذْ لو كان مِمَّنْ فَهِمَ الْخِطَابَ لَكَانَ مُتَذَكِّرًا لَا نَاسِيًا قال وَلَعَلَّ من قال بِتَكْلِيفِهِ بَنَاهُ على جَوَازِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وقال الْإِبْيَارِيُّ الظَّاهِرُ عِنْدَنَا تَكْلِيفُ السَّكْرَانِ وقال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ التَّكْلِيفُ بِمَعْنَى إيجَابِ الْقَضَاءِ عَامٌّ في النَّاسِي وَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ وَبِمَعْنَى عَدَمِ الْخِطَابِ حَاصِلٌ في النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يُلْحَقُ بِهِمَا وَعِنْدَنَا بِخِلَافِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ حَالَةَ السُّكْرِ وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وابن عَبْدَانَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَكْلِيفِ السَّكْرَانِ بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ لَا إشْكَالَ فيه وهو نَوْعٌ من خِطَابِ الْوَضْعِ وقد يُدْخِلُونَهُ في خِطَابِ التَّكْلِيفِ كما أَدْخَلَتْهُ طَائِفَةٌ في حَدٍّ وَاحِدٍ

وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْإِثْمِ على ما يَصْدُرُ منه حَالَ السُّكْرِ فَإِنْ كان فيه نَشَاطٌ فَوَاضِحٌ وَإِنْ كان طَافِحًا أو مُخْتَلِطًا فَمَحَلُّ نَظَرٍ وَلَعَلَّ الْفُقَهَاءَ لَا يَرَوْنَ الْإِثْمَ أو لَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ الطَّافِحَ وَالْأُصُولِيُّونَ يُرِيدُونَ الْمُخْتَلِطَ فإن التَّكْلِيفَ فِيهِمَا تَكْلِيفٌ مع الْغَفْلَةِ الشَّرْطُ السَّادِسُ الِاخْتِيَارُ فَيُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْمُلْجَأِ وهو من لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن الْفِعْلِ مع حُضُورِ عَقْلِهِ كَمَنْ يُلْقَى من شَاهِقٍ فَهُوَ لَا بُدَّ له من الْوُقُوعِ وَلَا اخْتِيَارَ له فيه وَلَا هو بِفَاعِلٍ له وَإِنَّمَا هو آلَةٌ مَحْضَةٌ كَالسِّكِّينِ في يَدِ الْقَاطِعِ وَحَرَكَةٌ كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَمِثْلُهُ الْمُضْطَرُّ وَاتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا على أَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى فِعْلٍ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ الذي اُضْطُرَّ إلَيْهِ وهو عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَوْقَ الْمُلْجَأِ وَعِنْدَنَا مِثْلُهُ كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقِيَ على شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِتَكْلِيفِهِ فَقَالُوا الْمُضْطَرُّ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ يَجِبُ عليه أَكْلُهَا على الصَّحِيحِ وفي وَجْهٍ لَا يَجِبُ قد يُوَجَّهُ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ فَيُقَالُ لَا فِعْلَ لِلْمُضْطَرِّ وَلَا اخْتِيَارَ حتى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ وَيَكْتَفِي بِصُورَةِ الدَّاعِيَةِ لَكِنْ جِهَةُ التَّكْلِيفِ فيه سَيَأْتِي بَيَانُهَا في الْمُكْرَهِ وَكَذَلِكَ يُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ وَمَنْ لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن الْفِعْلِ إلَّا بِالصَّبْرِ على إيقَاعِ ما أُكْرِهَ بِهِ كَمَنْ قال له قَادِرٌ على ما يَتَوَعَّدُ اُقْتُلْ زَيْدًا وَإِلَّا قَتَلْتُك لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن قَتْلِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْهَلَاكِ فَإِقْدَامُهُ على قَتْلِ زَيْدٍ ليس كَوُقُوعِ الذي أُلْقَى من شَاهِقٍ وَإِنْ اشْتَرَكَا في عَدَمِ التَّكْلِيفِ لَكِنْ تَكْلِيفُهُ هذا أَقْرَبُ من تَكْلِيفِ الْمُلْجَأِ وَلِهَذَا أُبِيحَ له الْإِقْدَامُ على شُرْبِ الْخَمْرِ وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ وَأَمَّا تَأْثِيمُ الْمُكْرَهِ على الْقَتْلِ فَلَيْسَ من حَيْثُ إنَّهُ مُكْرَهٌ وَأَنَّهُ قَتْلٌ بَلْ من حَيْثُ إنَّهُ آثَرَ نَفْسَهُ على غَيْرِهِ فَهُوَ ذُو وَجْهَيْنِ الْإِكْرَاهُ وَلَا إثْمَ من نَاحِيَةٍ وَجِهَةُ الْإِيثَارِ وَلَا إكْرَاهَ فيها وَهَذَا لِأَنَّك قُلْت اُقْتُلْ زَيْدًا وَإِلَّا قَتَلْتُك فَمَعْنَاهُ التَّخْيِيرُ بين نَفْسِهِ وَبَيْنَ زَيْدٍ فإذا آثَرَ نَفْسَهُ فَقَدْ أَثِمَ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ وَهَذَا كما قِيلَ في خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مَحَلُّ التَّخْيِيرِ لَا وُجُوبَ فيه وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ لَا تَخْيِيرَ فيه وَهَذَا تَحْقِيقٌ حَسَنٌ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ لِاسْتِثْنَاءِ صُورَةِ الْقَتْلِ من قَوْلِنَا الْمُكْرَهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ إلَّا في صُوَرٍ إنَّمَا ذَكَرُوهُ لِضَبْطِ تِلْكَ الصُّوَرِ لَا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى حَقِيقَةً هذا هو الصَّحِيحُ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ

على أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فإنه احْتَجَّ على إسْقَاطِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ قال الشَّافِعِيُّ وَلِلْكُفْرِ أَحْكَامٌ فلما وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عنه سَقَطَتْ أَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ عن الْقَوْلِ كُلِّهِ لِأَنَّ الْأَعْظَمَ إذَا سَقَطَ سَقَطَ ما هو أَصْغَرُ منه نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عنه في السُّنَنِ وَعَضَّدَهُ بِحَدِيثِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه وقد أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ من أَئِمَّتِنَا في كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّ الْمُكْرَهَ مُكَلَّفٌ بِالْفِعْلِ الذي أُكْرِهَ عليه وَنَقَلُوا الْخِلَافَ فيه عن الْمُعْتَزِلَةِ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وابن الْقُشَيْرِيّ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَبَنَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ على أَصْلِهِمْ في وُجُوبِ الثَّوَابِ على الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ وَكَيْفَ يُثَابُ على ما هو مُكْرَهٌ عليه إذْ لَا يُجِبْ دَاعِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يُجِيبُ دَاعِيَ الْإِكْرَاهِ وَأَلْحَقُوا هذا بِالْأَفْعَالِ التي لَا بُدَّ من وُقُوعِهَا عَادَةً كَحُصُولِ الشِّبَعِ عن الْأَكْلِ وَالرِّيِّ عن الشُّرْبِ فَكَمَا يَسْتَحِيلُ التَّكْلِيفُ بِالْوَاجِبِ عَقْلًا وَعَادَةً فَكَذَا يَسْتَحِيلُ بِفِعْلِ الْمُكْرَهِ الْمُكْرَهُ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ لِفَهْمِ الْخِطَابِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكْرَهَ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ لِفَهْمِ الْخِطَابِ وَأَنَّ له اخْتِيَارًا ما في الْإِقْدَامِ أو الِانْكِفَافِ وَلَا اسْتِحَالَةَ في تَكْلِيفِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَقَرِّبًا فَيَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ وهو غَيْرُ الْكَلَامِ في تَكْلِيفِهِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَنَعْنِي بِالْمُكْرَهِ من هو قَادِرٌ على الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فَيُحْمَلُ مَثَلًا على الصَّلَاةِ بِالْإِرْجَافِ وَالْخَوْفِ وَقَتْلِ السَّيْفِ وَاَلَّذِي بِهِ رَعْشَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُكْرَهًا في رِعْدَتِهِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ مع وِفَاقِهِمْ على اقْتِدَارِهِ وَزَادُوا عَلَيْنَا فَقَالُوا الْقُدْرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ وَعَلَى هذا فَلَا مَعْنَى لِتَفْصِيلِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ بين الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِهِ وَلَا لِمَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا ثَالِثًا في الْمَسْأَلَةِ وَكَذَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ قال الْمُحَقِّقُونَ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ إلَّا مع تَصَوُّرِ اقْتِدَارِ الْمُكْرَهِ فَمَنْ بِهِ رَعْشَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُكْرَهًا وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ الْمُخْتَارُ لِتَحْرِيكِهَا وَلَا اسْتِحَالَةَ في تَكْلِيفِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ اقْتِدَارِهِ وَاخْتِبَارِهِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَبَالَغُوا حتى قالوا إنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ وَالْمُكْرَهُ الْقَادِرُ على الْفِعْلِ قَادِرٌ على ضِدِّهِ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا إذَا قَدَرَ على ما أُكْرِهَ عليه لم تَتَعَلَّقْ قُدْرَتُهُ بِتَرْكِهِ وقد أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً على تَوَجُّهِ النَّهْيِ على الْمُكْرَهِ على الْقَتْلِ عن الْقَتْلِ وَهَذَا عَيْنُ التَّكْلِيفِ

انْتَهَى وَهَذَا يُعْلَمُ جَوَابُهُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ تَأْثِيمَ الْمُكْرَهِ على الْقَتْلِ ليس من حَيْثُ كَوْنُهُ مُكْرَهًا وما نَقَلُوهُ عن الْمُعْتَزِلَةِ قد نَازَعَ فيه جَمَاعَةٌ منهم إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فقال نُقِلَ عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ قال وَلَيْسَ هذا مَذْهَبًا لِأَحَدٍ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْإِلْجَاءَ الذي يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعَبْدِ يُنَافِي التَّكْلِيفَ كَالْإِيمَانِ حَالَةَ الْيَأْسِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْمُكْرَهُ عِنْدَنَا مُخَاطَبٌ بِالْفِعْلِ الذي أُكْرِهَ عليه وَنُقِلَ عن أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ قال وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِمَا عَدَا ما أُكْرِهَ عليه من الْأَفْعَالِ وَنُقِلَ عن الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ وَهَذَا خَطَأٌ في النَّقْلِ عَنْهُمْ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بَلْ هو أَوْلَى بِالْخِطَابِ من الْمُخْتَارِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَحْمِيلُ ما فيه كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَحَالَةُ الْمُكْرَهِ أَدْخَلُ في أَبْوَابِ التَّكْلِيفِ وَالْمَشَاقِّ من حَالَةِ الْمُخْتَارِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الْفِعْلِ الذي أُكْرِهَ عليه وَوَاجِبُ الِانْقِيَادِ عليه وَالِاسْتِسْلَامُ وَمَوْعُودٌ عليه الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَأَوْا في كُتُبِهِمْ أَنَّ الْمُلْجَأَ ليس بِمُخَاطَبٍ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُلْجَأَ وَالْمُكْرَهَ وَاحِدٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُلْجَأُ هو الذي لَا يُخَاطَبُ عِنْدَهُمْ وهو الذي لَا قُدْرَةَ له على التَّرْكِ بَلْ يَكُونُ مَدْفُوعًا وَمَحْمُولًا بِأَبْلَغِ جِهَاتِ الْحَمْلِ كَمَنْ شُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ رِبَاطًا وَأُلْقَى على عُنُقِ إنْسَانٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْدِفَاعُ فَهَذَا ليس له الِاخْتِيَارُ وَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَلَهُ قَصْدٌ وَقُدْرَةٌ فَكَانَ مُكَلَّفًا وَلِهَذَا قالت الْمُعْتَزِلَةُ الْقُدْرَةُ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّهَا لو صَلَحَتْ لِفِعْلٍ دُونَ فِعْلٍ صَارَ الشَّخْصُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ وَمُلْجَأً وَلَأَمْكَنَهُ الِامْتِنَاعُ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا فإن الْقُدْرَةَ عِنْدَهُمْ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قالوا الْإِيمَانُ حَالَةَ الْيَأْسِ لَا يَنْفَعُ وهو إيمَانُ الْكَافِرِ يوم الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ النَّافِعَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ أَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَتَصِيرُ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً فَلَا يَنْفَعُ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ أُلْجِئُوا ا هـ وما قَالَهُ في الْمُلْجَأِ إنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ من الْأَصْحَابِ وَإِنْ كان الْأَوَّلُونَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ ولم يُفَصِّلُوا بَلْ الْأَظْهَرُ التَّفْصِيلُ وقال في الْمَحْصُولِ إنَّهُ الْمَشْهُورُ وَجَرَى عليه أَتْبَاعُهُ وقال الْآمِدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ وَقَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ وَيَنْبَنِي كَلَامُ الْمُطْلِقِينَ على أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فيه وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَرْهَانٍ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُخَالِفُونَ في تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا

سَبَقَ من نَقْلِ الْفُحُولِ عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ نَقْلُهُ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ لَا يُوجَدُ في مَشَاهِيرِ كُتُبِهِمْ بَلْ قال الْبَزْدَوِيُّ في كِتَابِهِ الْمُكْرَهُ عِنْدَنَا مُكَلَّفٌ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مُبْتَلًى بين فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ إلَخْ وقد قالوا بِنُفُوذِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَعِتْقِهِ وَغَيْرِ ذلك وَسَبَقَ في فَصْلِ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ كَلَامُ صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ منهم فيه وَنَقَلَ الْإِبْيَارِيُّ عن الْحَنَفِيَّةِ التَّفْصِيلَ بين الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ عِنْدَهُمْ في الْإِقْرَارِ وَيُؤَثِّرُ في الْإِنْشَاءِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا امْتِنَاعَ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ بِفِعْلِ ما أُكْرِهَ عليه على قَاعِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَالْأُخْرَى وُجُوبُ الثَّوَابِ على اللَّهِ لِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ الْإِثَابَةُ وقد نَقَضَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ على أَنَّهُ يَحْرُمُ الْقَتْلُ على من أُكْرِهَ عليه وَكَذَا الزِّنَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَقَدْ كُلِّفَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ ولم يَرْتَضِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هذا وقال إنَّ الْقَوْمَ لَا يَمْنَعُونَ من الشَّيْءِ مع الْحَمْلِ عليه فإن ذلك أَشَدُّ في الْمِحْنَةِ وَاقْتِضَاءِ الثَّوَابِ وَإِنَّمَا الذي مَنَعُوهُ الِاضْطِرَارَ إلَى الْفِعْلِ مع الْأَمْرِ بِهِ التَّكْلِيفُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ على قِسْمَيْنِ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ هذا النَّقْضُ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ على قِسْمَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يُكَلَّفَ بِالنَّهْيِ عَمَّا أُكْرِهَ على فِعْلِهِ كَمَنْ أَكْرَهَ رَجُلًا على قَتْلِ مُسْلِمٍ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَهَذَا مُتَّفَقٌ على جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ الثَّانِي أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ ما أُكْرِهَ على إيقَاعِهِ كَمَنْ تَضَيَّقَ عليه وَقْتُ الصَّلَاةِ بِحَيْثُ لم تَبْقَ فيه سَعَةٌ لِغَيْرِهَا فَأَكْرَهَهُ إنْسَانٌ على فِعْلِهَا لِهَذَا هو الذي مَنَعَتْ الْمُعْتَزِلَةُ صِحَّةَ التَّكْلِيفِ وقال الْقُرْطُبِيُّ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ما إذَا وَافَقَ دَاعِيَةَ الْإِكْرَاهِ دَاعِيَةُ الشَّرْعِ كما لو أُكْرِهَ على قَتْلِ حَيَّةٍ أو كَافِرٍ فَالْجُمْهُورُ على جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ أَمَّا ما خَالَفَ دَاعِيَةَ الْإِكْرَاهِ دَاعِيَةُ الشَّرْعِ كَالْإِكْرَاهِ على قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا أَخَذَهُ من كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وقال السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ اخْتَلَفُوا في الْمُكْرَهِ على الْفِعْلِ الذي هو مُخَاطَبٌ بِهِ فقالت الْمُعْتَزِلَةُ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مع الْإِكْرَاهِ عليه وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِجَوَازِهِ

لِأَنَّ الْعَزْمَ إنَّمَا هو فِعْلُ الْقَلْبِ وقد يُتَصَوَّرُ منه في ذلك الْجِنْسِ الْعَزْمُ وَالنِّيَّةُ وَهِيَ الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ وَإِنْ كان في الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ خَوْفًا من الناس وَذَلِكَ كما إذَا أُكْرِهَ على الصَّلَاةِ فَقِيلَ له صَلِّ وَإِلَّا قُتِلْت أَمَّا إذَا قِيلَ له إنْ صَلَّيْت قُتِلْت فَظَنَّ الْقَاضِي أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ في ذلك فَغَلَّطَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَقَالُوا لَا خِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ مَأْمُورٌ بها وَإِنْ رُخِّصَ له في تَرْكِهَا فَلَيْسَ التَّرْخِيصُ مِمَّا يُخْرِجُهُ عن حُكْمِ الْخِطَابِ وَإِنَّمَا يَرْفَعُ عنه الْإِكْرَاهُ الْمَأْثَمَ وَهَذَا الْغَلَطُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْقَاضِي ليس بِقَوْلٍ له وَإِنَّمَا حَكَاهُ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ عن طَائِفَةٍ من الْفُقَهَاءِ قالوا لَا يُتَصَوَّرُ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ إلَى الْفِعْلِ مع الْإِكْرَاهِ عليه قال الْقَاضِي وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ انْكِفَافُهُ عنه مع الْإِكْرَاهِ فَكَذَا يُتَصَوَّرُ منه الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ وَبِهِ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ وَإِنَّمَا غَلِطَ إذَنْ من نَسَبَ إلَيْهِ من الْأُصُولِيِّينَ هذا الْقَوْلَ الذي أَبْطَلَهُ وَإِنَّمَا ذَكَرْت ما قَالُوهُ قبل أَنْ أَرَى كَلَامَهُ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا خِلَافَ بين أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ الذي اُضْطُرَّ إلَيْهِ تَعْرِيفُ الْمُضْطَرِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في تَعْرِيفِهِ فقال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْمُضْطَرُّ الْمُلْجَأُ إلَى مَقْدُورِهِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُقَدَّرِ الْمُلْجَأِ إلَيْهِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الْمُضْطَرُّ الْمَحْمُولُ على ما عليه فيه ضَرَرٌ من مَقْدُورَاتِهِ لِدَفْعِ ما هو أَضَرُّ منه وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ قَاطِبَةً أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ فِعْلٌ وَأَنَّهُ هو الذي يَفْعَلُ فيه الْغَيْرُ فِعْلًا هو من قَبِيلِ مَقْدُورَاتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فقال أبو عَلِيٍّ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ فيه غير قَادِرٍ على مُدَافَعَةِ الْفِعْلِ وَخَالَفَهُ ابْنُهُ أبو هَاشِمٍ فإذا عُرِفَ هذا فَقَدْ اتَّفَقُوا على أَنَّ الْمُلْجَأَ قَادِرٌ على ما أُلْجِئَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لم يَفْعَلْ فيه غَيْرُهُ فِعْلًا لَا خِلَافَ بين الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ في ذلك وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ في تَعْرِيفِهِ فَالْمُلْجَأُ دُونَ الْمُضْطَرِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ وَدُونَهُمَا الْمُكْرَهُ الْمَذْكُورُ في كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَعَلَى هذه الْأُصُولِ من عَدَمِ اخْتِيَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ كَالْآلَةِ الْمَحْضَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْمٌ هو الْمُضْطَرُّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقَى على شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ أو كان على دَابَّةٍ فَمَاتَ وَسَقَطَ على شَيْءٍ فإنه لَا يَضْمَنُ وَلَيْسَ كَالْمُكْرَهِ وَلَا كَالْمُضْطَرِّ فَإِنْ

انْضَمَّ إلَى عَدَمِ اخْتِيَارِهِ عَدَمُ إحْسَاسِهِ وَشُعُورِهِ فَأَبْعَدُ عن الضَّمَانِ وقد خَرَجَ لنا من هذا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ وهو الْحَقُّ ثُمَّ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه فَإِنْ قِيلَ إذَا كان الْمُكْرَهُ وَالْمُخْتَارُ سَوَاءً في الِاخْتِيَارِ فما الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قِيلَ قال الْقَاضِي في كِتَابِ التَّقْرِيبِ الْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمُخْتَارَ مُطْلَقُ الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَاتِ وَالْمُكْرَهُ مَقْصُورُ الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَةِ على فِعْلِ ما أُكْرِهَ عليه لَا يَخْتَارُ غَيْرَهُ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ صَارَتْ هذه حَالُهُ قِيلَ لِمَا يَخَافُهُ من عِظَمِ الضَّرَرِ فَهُوَ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِأَدْوَنِهِمَا وَدَوَاعِيهِ مَقْصُورَةٌ عليه لِأَجْلِ ذلك انْتَهَى وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا هذا الْإِكْرَاهُ الذي أَسْقَطَ الشَّارِعُ حُكْمَهُ لَا بُدَّ من بَقَاءِ حَقِيقَتِهِ لِيَتَحَقَّقَ في نَفْسِهِ وقد يَنْضَمُّ إلَيْهِ ما لَا يُزِيلُ حَقِيقَتَهُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ أو ما يُزِيلُهَا فَلَا يَسْقُطُ الْحُكْمُ إذْ ليس بِإِكْرَاهٍ وَهَذَا كَمَنْ قِيلَ له طَلِّقْ زَوْجَتَك فقال طَلَّقْت زَوْجَاتِي كُلَّهُنَّ فَيَقَعُ عَلَيْهِنَّ جميعا لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لَا مُكْرَهٌ وقد يَنْضَمُّ إلَيْهِ ما يَتَرَدَّدُ الذِّهْنُ في أَنَّهُ مُزِيلٌ لِكَوْنِهِ إكْرَاهًا أو غير مُزِيلٍ فَيَقَعُ الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يَسْقُطُ أَثَرُ التَّصَرُّفِ بِهِ أَمْ لَا يَسْقُطُ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ ما لو أُكْرِهَ على شَيْءٍ وَاحِدٍ من شَيْئَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ كما لو قِيلَ له طَلِّقْ إحْدَى زَوْجَتَيْك وَحُمِلَ على تَعَيُّنِ إحْدَاهُمَا لَا على إبْهَامِ الطَّلَاقِ فإن الْمَحْمُولَ على الْإِبْهَامِ مَحْمُولٌ على شَيْءٍ وَاحِدٍ في نَفْسِهِ لَا على أَحَدِ شَيْئَيْنِ فإذا قِيلَ له طَلِّقْ إمَّا هذه وَإِمَّا هذه فقال طَلَّقْت هذه فَهَلْ هو اخْتِيَارٌ أَمْ لَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ اخْتِيَارٌ الثَّانِي أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَصِحُّ إلَّا في أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْقَلْبِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ الْإِكْرَاهُ على عِلْمٍ بِشَيْءٍ أو جَهْلٍ بِهِ أو حُبٍّ أو بُغْضٍ أو عَزْمٍ على شَيْءٍ الثَّالِثُ يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ الْإِكْرَاهِ مَرْفُوعَ الْحُكْمِ شُرُوطٌ أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ في نَظَرِ الْعُقَلَاءِ أَشَقَّ من الْمُكْرَهِ عليه وهو ما يَشْهَدُ له الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ فَعُلِمَ من هذا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْقِصَاصِ وَلَا يَرْفَعُ الْإِثْمَ عن الْمُكْرَهِ بَيَانُهُ أَنَّ نَفْسَهُ وَنَفْسَ من أُكْرِهَ على من يَقْتُلُهُ مُسْتَوِيَانِ في نَظَرِ الشَّارِعِ

فَإِيثَارُهُ نَفْسَهُ نَاشِئٌ عن شَهَوَاتِ الْأَنْفُسِ وَحُظُوظِهَا وَمَحَبَّتِهَا الْبَقَاءَ في هذه الدَّارِ أَزْيَدَ من مَحَبَّتِهَا لِبَقَاءِ غَيْرِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ ليس من نَظَرِ الْعُقَلَاءِ الشَّرْعَ الذي يَتَعَبَّدُونَ بِهِ وَبِهَذَا خَرَجَ كَثِيرٌ من الْمَسَائِلِ التي اُسْتُثْنِيَتْ من قَوْلِنَا الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ كما سَبَقَ بَيَانُهُ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا على فِعْلِ الْمُكَلَّفِ فإن الشَّارِعَ حِينَئِذٍ جَعَلَ فِعْلَهُ كَلَا فِعْلٍ فَإِنْ كان الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا على أَمْرٍ حِسِّيٍّ لَا يُنْسَبُ إلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ كان نَاشِئًا عنها فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِكْرَاهِ الْفِعْلُ ولم يَتَرَتَّبْ عليه شَيْءٌ وَمَوْضِعَ الْحُكْمِ الِانْفِعَالُ ولم يَقَعْ عليه الْإِكْرَاهُ لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْوُقُوعِ بَعْدَ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْفِعْلِ وَالشَّارِعُ قد يُرَتِّبُ الْحُكْمَ على الْفِعْلِ وقد رَتَّبَهُ على الِانْفِعَالِ وهو في الْأَوَّلِ من خِطَابِ التَّكْلِيفِ الذي رَفْعُهُ مَشَقَّةٌ عَلَيْنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وفي الثَّانِي من خِطَابِ الْوَضْعِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ وَبِهَذَا خَرَجَ الْإِكْرَاهُ على الرَّضَاعِ وَعَلَى الْحَدَثِ فإذا أَكْرَهَ امْرَأَةً حتى أَرْضَعَتْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ حَرُمَ رَضَاعُهَا ذلك لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ حتى لو حُلِبَ قبل مَوْتِهَا وَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا حَرُمَ وإذا أُكْرِهَ فَأَحْدَثَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّ الِانْتِقَاضَ مَنُوطٌ بِالْحَدَثِ وقد وُجِدَ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهَذَا مَوْضِعُ الرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ من الشَّارِعِ أَمَّا إذَا كان بِحَقٍّ فَقَدْ كان من حَقِّ هذا الْمُكْرَهِ أَنْ يَفْعَلَ فإذا لم يَفْعَلْ أُكْرِهَ ولم يَسْقُطْ أَثَرُ فِعْلِهِ وكان آثِمًا على كَوْنِهِ أَحْوَجَ إلَى أَنْ يُكْرَهَ وَهَذَا كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ يُكْرَهَانِ على الْإِسْلَامِ فَإِسْلَامُهُمَا صَحِيحٌ وَهُمَا آثِمَانِ لِكَوْنِهِمَا أَحْوَجَا إلَى الْإِكْرَاهِ عليه ثُمَّ الْإِسْلَامُ إنْ وَقَعَ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بَاطِنًا كما وَقَعَ ظَاهِرًا فَهُوَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ وَإِلَّا فَحُكْمُهُمَا في الظَّاهِرِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ وفي الْبَاطِنِ كَافِرَانِ لِمَا أَضْمَرَاهُ من حَيْثُ الطَّوِيَّةُ وَمِنْ الْإِكْرَاهِ بِالْحَقِّ أَمْرُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِالْبَيْعِ فَيَمْتَنِعُ فَلَهُ جَبْرُهُ عليه وَيَصِحُّ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ من الِاسْتِخْدَامِ الْوَاجِبِ الرَّابِعُ في فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ ذَكَرُوا في الْأُصُولِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفِ وَذَكَرُوا في الْفِقْهِ أَنَّ طَلَاقَهُ وَإِقْرَارَهُ وَرِدَّتَهُ لَا تَصِحُّ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ وَمَعَ ذلك يُخَفَّفُ عنه بِأَنْ لَا يُلْزَمَ بِحُكْمِ ما أُكْرِهَ عليه ولم يَخْتَرْهُ من طَلَاقٍ وَبَيْعٍ وَغَيْرِهِمَا لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا الْخَامِسُ قِيلَ لِلْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ مَأْخَذَانِ

أَحَدُهُمَا الْخِلَافُ في خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَمَنْ قال إنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا اتَّجَهَ الْقَوْلُ بِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الْمَخْلُوقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى على وَفْقِ إرَادَتِهِ فَيَصِيرُ التَّكْلِيفُ بها مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَمَنْ قال إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لم يَرَ تَكْلِيفَ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ لِأَنَّهُمْ قالوا أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقٌ لهم لَا له سُبْحَانَهُ تَحْقِيقًا لِعَدْلِهِ إذْ لو خَلَقَهَا ثُمَّ عَابَ عليها كان ذلك جَوْرًا الثَّانِي أَنَّهُ هل في التَّخْوِيفِ وَالْإِكْرَاهِ ما يَتَضَمَّنُ ضَرُورِيَّةَ الْفِعْلِ أَيْ ما يَقْتَضِي اضْطِرَارَ الْمُكْرَهِ إلَى الْفِعْلِ لِدَاعِي الطَّبْعِ أَمْ لَا الشَّرْطُ السَّابِعُ عِلْمُ الْمُخَاطَبِ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا أَنْ يَعْلَمَ الْمُخَاطَبُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قبل زَمَنِ الِامْتِثَالِ حتى يُتَصَوَّرَ منه قَصْدُ الِامْتِثَالِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ وُجُودَ شَرْطِهِ وَتَمَكُّنِهِ في الْوَقْتِ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا على اشْتِرَاطِهِ وقال أبو هَاشِمٍ لَا نَعْلَمُهُ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ وَالْجَهْلُ بِالشَّرْطِ مُحَقَّقٌ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ بِالشُّرُوطِ نعم أَجْمَعَ من قَبْلَنَا على إطْلَاقِ وُرُودِ الْأَمْرِ بِنَاءً على تَقْدِيرِ بَقَاءِ أَكْثَرِهِمْ وَظُهُورِ ذلك عِنْدَهُمْ قال وما ذَكَرَهُ أبو هَاشِمٍ لَا دَافِعَ له إلَّا أَصْلٌ لِأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ في النَّسْخِ وَمَذْهَبُهُ فيه أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ قَطْعًا ثُمَّ رُفِعَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالنَّسْخِ فقال ثَانِيًا عليه إذَا تَوَجَّهَ أَمْرٌ على الْمُخَاطَبِ فَقَطْ تَنَجَّزَ الْأَمْرُ ثُمَّ إذَا زَالَ إمْكَانُهُ فَلَا رَيْبَ في الْأَمْرِ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ في الشَّرْطِ الْقَضَاءُ لَا في شَرْطِ أَصْلِ الْأَمْرِ وَهَذَا في غَايَةِ الْبُعْدِ فإن الْأَمْرَ ليس هو اللَّفْظَ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ الطَّلَبُ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي شَرْطَهُ الْإِمْكَانَ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ كَوْنَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا وَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ إلَّا بِهِ وأبو هَاشِمٍ لَا يُنْكِرُ وُجُوبَ الْإِقْدَامِ عليه وَنِيَّةُ الْوُجُودِ وَالتَّرَدُّدِ لَا يَدْفَعُ ذلك وما ذَكَرْنَاهُ لَا يُنْكَرُ فَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ ا هـ وَأَمَّا الْقَاضِي فَفَرْضُ الْخِلَافِ في الصِّحَّةِ فقال أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّ الْأَمْرَ إذَا اتَّصَلَ بِالْمُكَلَّفِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ من الِامْتِثَالِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عليه وَلَكِنْ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا في الثَّانِي وَالثَّالِثِ من الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى على صِفَةِ التَّكْلِيفِ فَنَسْتَيْقِنُ الْحَالَ تَوَجُّهَ الْأَمْرِ عليه وَأَمَّا في الِاسْتِقْبَالِ فَإِنْ بَقِيَ دَامَ على

الْوُجُوبِ وَإِنْ مَاتَ انْقَطَعَ عنه وَقَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ لَا يَصِحُّ عِلْمُهُ بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عليه إلَّا بَعْدَ الْإِقْدَامِ على الِامْتِثَالِ أو بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُهُ مع تَرْكِهِ فَقَالُوا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ مَأْمُورًا قَطْعًا وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نَقُولُ يَقْطَعُ بِذَلِكَ وَيُؤَوَّلُ تَوَقُّعُهُ في اسْتِدَامَةِ الْوُجُوبِ إلَى تَوَقُّعِ الِاحْتِرَامِ وَالْبَقَاءِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا على الْحَقِيقَةِ هذا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَنُقِلَ عن أبي هَاشِمٍ أَنَّهُ قد لَا يَعْلَمُ ذلك وهو يَنْبَنِي على تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ هل يَجُوزُ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا أَنَّهُ جَائِزٌ وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ وأبو هَاشِمٍ بَنَاهُ على هذا الْأَصْلِ فَإِنْ سَلِمَ له فَالْحَقُّ ما قَالَهُ وَإِنْ أُبْطِلَ بَطَلَ مَذْهَبُهُ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَجِبُ عليه الشُّرُوعُ في الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بها وَالتَّقَرُّبِ بها بِالْإِجْمَاعِ وهو يَدُلُّ على عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بها وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ عليه وَشُبْهَةُ أبي هَاشِمٍ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مع الْأَمْرِ وَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لنا فَلَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ عَالِمًا ا هـ وَأَمَّا أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ فقال الْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في الْمُكْتَسَبِ عِلْمُ الْمُكْتَسِبِ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَوْنُ الْمَقْدُورِ مِمَّا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِهِ قال وَاخْتَلَفُوا مَتَى يَصِحُّ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْفِعْلِ فقال أَصْحَابُنَا إذَا اتَّصَلَ الْخِطَابُ بِهِ وَلَا مَانِعَ من الِامْتِثَالِ عَلِمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عليه فَيُقْطَعُ بِهِ لَكِنْ يَفْتَقِرُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ من الْأَوْقَاتِ بِشَرْطِ وَفَاءِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَا يُعْلَمُ ذلك في أَوَّلِ وَقْتٍ تَوَجَّهَ الْخَطَأُ عليه ما لم يَمْضِ زَمَنُ الْإِمْكَانِ حتى لو اشْتَغَلَ بِالِامْتِثَالِ في الْحَالِ لم يَعْرِفْ الْوُجُوبَ أَيْضًا ما لم يَمْضِ زَمَنٌ يَتَصَوَّرُ فيه الِامْتِثَالَ وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِبَقَاءِ الْإِمْكَانِ له إلَى انْقِرَاضِ زَمَانٍ يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْإِمْكَانُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ وَالْجَاهِلُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ جَاهِلٌ بِوُقُوعِ الْمَشْرُوطِ لَا مَحَالَةَ وَتَمَسَّكَ الْقَاضِي بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على تَوَجُّهِ الْأَمْرِ إلَى الْمُكَلَّفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُحَرَّمَاتِ وَقَوْلُهُمْ يُفْضِي إلَى أَنَّهُ ليس يَعْلَمُ أَحَدٌ على بَسِيطِ الْأَرْضِ أَنَّهُ يُنْهَى عن الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَكَمَا لَا يَعْلَمُ من نَفْسِهِ لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ منه وَمَالَ الْإِمَامُ إلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وقال تَشْغِيبُ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ تَهْوِيلٌ بِلَا تَحْصِيلٍ فإن إطْلَاقَاتِ الشَّرْعِ لَا تُعْرَضُ على مَأْخَذِ الْحَقَائِقِ بَلْ تُحْمَلُ على حُكْمِ الْعُرْفِ وَالتَّفَاهُمِ الظَّاهِرِ كَالْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ تَعَاطِيهَا

تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْمُخْتَلَفِ فيه الْقَطْعِيُّ أَيْ أَنَّهُ هل يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا قبل زَمَنِ الِامْتِثَالِ كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وابن بَرْهَانٍ وَنَبَّهَ على أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ لَا يُخَالِفُ في الظَّنِّ فإن الشُّرُوعَ في الْفِعْلِ لَا يُشْتَرَطُ فيه الْقَطْعُ بَلْ تَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ مَهْمَا بَادَرَ وَاسْتَمَرَّ في حَيَاتِهِ إلَى الْفَرَاغِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كان الْآمِرُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ من الِامْتِثَالِ فَإِنْ كان يَعْلَمُ بَقَاءَهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْلَمُ ذلك أَيْضًا التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآحَادِ لَا في حَقِّ الْجِنْسِ فَقَدْ وَافَقَ أبو هَاشِمٍ على أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ لِأَنَّ الشَّرْطَ وهو الِاسْتِطَاعَةُ مَعْلُومٌ هُنَا قَطْعًا لِعِلْمِنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعُمُّ الْكُلَّ بِالْهَلَاكِ كَذَا نَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ وَفَرَضَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا خَصَّ بِالْخِطَابِ وَاحِدًا وكان مُنْدَرِجًا مع آخَرَ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ وهو في حَالَةِ اتِّصَالِ الْخِطَابِ بِهِ مُسْتَجْمِعٌ شَرَائِطَ التَّكْلِيفِ ولم يَقِفْ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ على ما ذَكَرْنَا فقال بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ هذا إذَا كان الْأَمْرُ خَاصًّا فَإِنْ كان عَامًّا ولم يُعْلَمْ انْقِرَاضُ الْجَمِيعِ بَلْ بَعْضُهُمْ فَأَظُنُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فيه إذْ أَكْثَرُ أَوَامِرِ اللَّهِ كَذَلِكَ فإن بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ يَمُوتُ قبل التَّمَكُّنِ وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يُشْعِرُ بِخِلَافٍ فيه أَيْضًا انْتَهَى مَسْأَلَةٌ هل يُشْتَرَطُ في التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ قِيلَ لَا يُشْتَرَطُ في التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ بَلْ يُشْتَرَطُ تَمَكُّنُهُ من الْعِلْمِ وَحَكَى بَعْضُهُمْ في حُكْمِ الْخِطَابِ هل يَثْبُتُ في حَقِّ الْمُكَلَّفِ قبل أَنْ يَبْلُغَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ قال وَالْمَرْجِعُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ولم يَأْمُرْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّحَابَةَ بِاسْتِدْرَاكِ ما فَعَلُوهُ

على خِلَافِ الْأَمْرِ حَيْثُ جَهِلُوهُ كما لم يَأْمُرْ الْمُشَمِّتَ الْعَاطِسَ في الصَّلَاةِ وَالْمُصَلِّيَ إلَى قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ الرَّابِعُ من التَّنْبِيهَاتِ سَبَقَ عن إلْكِيَا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ فإن أَبَا هَاشِمٍ لَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ لَكِنَّ أَبَا هَاشِمٍ بَنَاهُ على مَأْخَذٍ له كَلَامِيٍّ وهو أَنَّ الْأَمْرَ تُلَازِمُهُ الْإِرَادَةُ فَإِنْ كان يَعْلَمُ انْتِقَاءَ الشَّرْطِ لم يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّقِ طَلَبُهُ على شَرْطٍ وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ في الْأَصْلِ فَلِهَذَا خَالَفْنَاهُ في الْفَرْعِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ من الِامْتِثَالِ هل هو شَرْطٌ في تَوَجُّهِ الْخِطَابِ أو شَرْطٌ في إيقَاعِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَحُصُولِهِ فَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا دخل عليه رَمَضَانُ أو وَقْتُ الصَّلَاةِ فإنه يَجِبُ عليه الشُّرُوعُ في الْعِبَادَةِ لَا على أَنَّهُ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا منه فإن الْقَطْعَ بِذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِبَقَائِهِ بِكَوْنِهِ وهو مُتَعَذِّرٌ لِإِمْكَانِ الْمَوْتِ بَلْ بِنَاءً على الظَّنِّ الْغَالِبِ فإن الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَاسْتِمْرَارُ الْقُدْرَةِ فَلَوْ مَاتَ قبل إتْمَامِ الْعِبَادَةِ تَبَيَّنَ أنها لم تَكُنْ وَاجِبَةً عليه وَأَمَّا على رَأْيِنَا فإنه يَدُلُّ على عَدَمِ الْأَمْرِ بَلْ يَدُلُّ على عَدَمِ لُزُومِ الْإِتْمَامِ مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ الذي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ الْفِعْلُ الذي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ إنْ جَهِلَ الْآمِرُ انْتِفَاءَهُ كَالْوَاحِدِ مِنَّا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَأْمُورِ على صِفَاتِ التَّكْلِيفِ فَيَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ لِانْطِوَاءِ الْغَيْبِ عَنَّا قال الْهِنْدِيُّ وفي كَلَامِ بَعْضِهِمْ إشْعَارٌ بِالْخِلَافِ فيه وَإِنْ عَلِمَ انْتِفَاءَهُ كما إذَا أَمَرَ اللَّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وهو يَعْلَمُ مَوْتَهُ في رَمَضَانَ فَهَلْ يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ قال الْجُمْهُورُ منهم الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ يَصِحُّ وَيَقَعُ وَلِذَلِكَ يَعْلَمُ الْمُكَلَّفُ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ وُجُودَ شَرْطِهِ وَتَمَكُّنِهِ من الْوَقْتِ وَلَوْلَا أَنَّ تَحَقُّقَ الشَّرْطِ في الْوَقْتِ ليس شَرْطًا في التَّكْلِيفِ لَمَا عُلِمَ قبل وَقْتِهِ إذَا الْجَهْلُ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْجَهْلَ بِالْمَشْرُوطِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ يُمْتَنَعُ ذلك لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ وَلَا فَائِدَةَ فيه وَقَالُوا إنَّمَا يَصِحُّ الشَّرْطُ مِنَّا لِتَرَدُّدِنَا حتى لو عَلِمَ الْوَاحِدُ مِنَّا بِوَحْيٍ أو إعْلَامِ نَبِيٍّ ما يَكُونُ من حَالِ

مُخَاطَبِهِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِبَقَاءِ الْمُخَاطَبِ على صِفَةِ التَّكْلِيفِ وَوَافَقَهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْحَقُّ صِحَّتُهُ وَأَنَّهُ ليس بِالْمُحَالِ في شَيْءٍ وَيَجُوزُ من الْقَدِيمِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ وَلَهُ فَوَائِدُ ثَلَاثَةٌ إحْدَاهَا اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَيَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالِاعْتِقَادِ كما يَجُوزُ بِالْفِعْلِ الثَّانِيَةُ الْعَزْمُ على أَنْ يَفْعَلَهُ إنْ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ على صِفَةِ التَّكْلِيفِ وَمَاتَ على ذلك فَيُثَابُ أو لَا يَعْزِمُ فَيُعَاقَبُ الثَّالِثَةُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ فيه لِلْمُكَلَّفِ مَصْلَحَةٌ وَلُطْفٌ وَيَكُونُ فيه فَائِدَةٌ مُصَحِّحَةٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا وهو شَكُّ الْمُكَلَّفِ في بَقَائِهِ إلَى ذلك الْوَقْتِ فإنه وَقْتَ الْخِطَابِ لَا يَدْرِي هل يَبْقَى إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ أو لَا وَيَنْقَطِعُ هذا التَّكْلِيفُ عنه بِمَوْتِهِ كَانْقِطَاعِ سَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمُتَكَرِّرَةِ وَحَاصِلُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ إذَا عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا سَيَمُوتُ غَدًا فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ غَدًا بِشَرْطِ أَنْ يَعِيشَ غَدًا أَمْ لَا فَرَجَعَ الْخِلَافُ إلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ بِالشَّرْطِ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَصْحَابُنَا جَوَّزُوهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ مَنَعُوهُ وَقَالُوا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمُكَلَّفِ وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّرْطَ في أَمْرِهِ تَعَالَى مُحَالٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يَقَعُ حَيْثُ الشَّكُّ وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عنه وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا شَرْطَ فإن من عَلِمَ أَنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ لَا يقول إنْ كانت الشَّمْسُ طَلَعَتْ دَخَلْت الدَّارَ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذلك من الشَّاكِّ كَالْوَاحِدِ مِنَّا وَلِهَذَا قالوا لو حَصَلَ الْعِلْمُ لِلْوَاحِدِ مِنَّا بِإِخْبَارِ نَبِيٍّ امْتَنَعَ الْأَمْرُ بِالشَّرْطِ فيه أَيْضًا ولم يَقْصُرُوا خِلَافَهُمْ على ما إذَا عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَهُ بَلْ عَدَّوْهُ إلَى ما عَلِمَ وُجُودَهُ أَيْضًا فَقَالُوا إنْ كان الشَّرْطُ مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لم يَكُنْ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِهِ أَمْرًا بِهِ بَلْ هو جَارٍ مَجْرَى صُمْ غَدًا إنْ صَعِدْت السَّمَاءَ وَلَيْسَ هو من الْأَمْرِ في شَيْءٍ إلَّا على رَأْيِ بَعْضِ من يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ ما لَا يُطَاقُ وَإِنْ كان قد عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ لم يَكُنْ الْأَمْرُ مَشْرُوطًا بِهِ بَلْ هو كَقَوْلِهِ صَلِّ إنْ كانت الشَّمْسُ مَخْلُوقَةً وَلَيْسَ هو من الْمَشْرُوطِ في شَيْءٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ هو الذي يَكُونُ على تَرَدُّدٍ في الْحُصُولِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرَدُّدَ مُحَالٌ في حَقِّهِ تَعَالَى فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْلِيقٌ على الشَّرْطِ أَلْبَتَّةَ لَا إنْ عَلِمَ وُقُوعَهُ وَلَا إنْ عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ وَأَلْزَمَهُمْ الْقَاضِي أَنْ لَا يَتَقَيَّدَ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ أَيْضًا كما لَا يَتَقَيَّدَ أَمْرُهُ مع أَنَّ مُعْظَمَ

وَعْدِ الْقُرْآنِ وَوَعِيدِهِ مُقَيَّدٌ نحو قَوْله تَعَالَى لو اطَّلَعْت عليهم لَوَلَّيْتَ منهم فِرَارًا قال وَلَا وَجْهَ لِلتَّرَدُّدِ في الشَّرْطِ مع عِلْمِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ وَلَهُ فَائِدَةٌ وهو أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ ابْتِلَاءَ الْمُكَلَّفِ وَامْتِحَانَهُ في تَوْطِينِ النَّفْسِ على الِامْتِثَالِ وَالْعَزْمِ وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالْإِجْمَاعِ على أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمَعْدُومَ وَالْعَاجِزَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ في حَالِ الْحَاجَةِ إلَى الْقُدْرَةِ وَأَجَابَ أبو الْحُسَيْنِ بِأَنَّا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُ بِشَرْطٍ أَنْ يَقْدِرُ وَمَعْنَى ذلك أَنَّ حُكْمَنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد كَلَّفَهُ الْفِعْلَ مَشْرُوطًا بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَقْدِرُ فَالشَّرْطُ دَاخِلٌ على حُكْمِنَا لَا على تَكْلِيفِ اللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ الْمُخَالِفُ هذا رَجَعَ النِّزَاعُ إلَى اللَّفْظِ وقال الْإِبْيَارِيُّ إنَّمَا حَمَلَ الْمُعْتَزِلَةَ على ذلك أَصْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ هو الذي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ فَأَمَّا ما تَحَقَّقَ ثُبُوتًا أو نَفْيًا فَلَا يَصْلُحُ لِلشَّرْطِيَّةِ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ يُلَازِمُ الْإِرَادَةَ فَإِنْ كان يَعْلَمُ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ لم يَكُنْ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ الذي عَلَّقَ طَلَبَهُ على الشَّرْطِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ بِاقْتِرَانِ الْأَمْرِ بِالْإِرَادَةِ فَيَصِحُّ الْأَمْرُ بِمَا لم يُرِدْهُ هذا تَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ بين الْفَرِيقَيْنِ وَتَرْجَمَ بَعْضُ مُخْتَصِرِي الْبُرْهَانِ وهو ابن عَطَاءِ اللَّهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ من جِنْسِ الْمُمْكِنِ فَيَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ الْمُخَاطَبُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قبل مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُ الْفِعْلَ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا وَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ ذلك قال وَاعْتَقَدَ الْإِمَامُ أَنَّ الْقَاضِيَ سَلَّمَ له كَوْنَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا فقال يَلْزَمُ إذَا بَانَ أَنْ لَا إمْكَانَ أَنَّهُ لم يَكُنْ تَكْلِيفٌ وَلَيْسَ كما اعْتَقَدَهُ لِأَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرْجَمَتَهَا بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِشَرْطِهِ يُسَمَّى أَمْرًا أَمْ لَا وَلِهَذَا ذَكَرَهَا في بَحْثِ الْأَوَامِرِ دُونَ التَّكَالِيفِ

تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ الْعِلْمُ قبل التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ منهم من جَعَلَ هذه الْمَسْأَلَةَ أَصْلًا لِلَّتِي قَبْلَهَا أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْعِلْمِ قبل التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ فَإِنْ قُلْنَا يَصِحُّ من اللَّهِ تَعَالَى الْأَمْرُ بِالشَّرْطِ صَحَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ من اللَّه بِشَرْطِ الْبَقَاءِ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَصِحُّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ إذَا تَوَجَّهَ الْأَمْرُ نحو الْمُكَلَّفِ بِحُكْمٍ ظَاهِرِ الْبَقَاءِ فَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هل يَبْقَى أَمْ لَا وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ هذه فَرْعًا لِلَّتِي قَبْلَهَا فَمَنْ قال إنَّ الْمَأْمُورَ يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قبل التَّمَكُّنِ جَوَّزَ وُرُودَهُ وَمَنْ لم يَقُلْ بِهِ لم يُجَوِّزْهُ صَرَّحَ بِهِ الْهِنْدِيُّ وَكَذَا الذي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَقَالُوا هذه الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي على التي قَبْلَهَا وهو أَنَّا قُلْنَا نَقْطَعُ الْمُكَلَّفَ بِالْتِزَامِ ما كُلِّفَ مع التَّرَدُّدِ في حُكْمِ الْعَاقِبَةِ فَيَتَرَتَّبُ عليها الْمَقْصُودُ وَنَقُولُ لو وَرَدَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا هل يَقُولُونَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ في الْحَالِ قَطْعًا أو يَسْتَرِيبُونَ فيه فَإِنْ اسْتَرَبْتُمْ عُدْنَا إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَإِنْ قَطَعْتُمْ مع انْطِوَاءِ الْعَاقِبَةِ عن الْمُكَلَّفِ لَزِمَ منه أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مع ذُهُولِهِ عَمَّا يَكُونُ وَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ عليه فإذا تُصَوِّرَ ذلك الِاعْتِقَادُ في الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فما الْمَانِعُ من تَقْيِيدِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ فيه عِنْدَ إطْلَاقِهِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ له أَحْوَالٌ قال الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ له ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَعْلُومًا انْتِفَاؤُهُ عِنْدَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ جميعا فَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا عِنْدَهُمَا فَجَائِرٌ بِالِاتِّفَاقِ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْآمِرِ مَجْهُولًا عِنْدَ الْمَأْمُورِ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ جَوَّزَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَهُمْ الْمُصِيبُونَ في هذا اللَّفْظِ لِأَنَّ الْأَمْرَ الذي فَرَضُوا فيه الْكَلَامَ ليس هو صِيغَةَ اللَّفْظِ إنَّمَا فَرَضُوا الْكَلَامَ في الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِ الْآمِرِ طَلَبُ ما يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ أو أَنَّهُ قد وَقَعَ بَلْ طَلَبُ ما يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ لَا يَقَعَ

وَالدَّلِيلُ على ذلك أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْمُمْكِنِ فَالْمَأْمُورُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عِنْدَ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عليه بَلْ عِنْدَ وُقُوعِهِ وهو الْمَطْلُوبُ وَأَيْضًا فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُورُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ ذلك الْأَمْرُ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ فَبَطَلَ كَوْنُهُ مُمْكِنًا وَصَارَ وَاجِبًا وَهَذَا مُحَالٌ فَنَقِيضُهُ مُحَالٌ وهو أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عِنْدَ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عليه بَلْ عِنْدَ وُقُوعِهِ وهو الْمَطْلُوبُ انْتَهَى وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ وَفَاتَهُ قِسْمٌ رَابِعٌ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَالِمًا بِالِانْتِفَاءِ دُونَ الْآمِرِ فَلَا يَصِحُّ وِفَاقًا لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ من جِهَةِ الْمَأْمُورِ وهو الِامْتِثَالُ وَعَدَمُ صِحَّةِ طَلَبِهِ من جِهَةِ الْآمِرِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ اتَّفَقَ الْكُلُّ على أَنَّ الْمَأْمُورَ لو عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ من فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فإنه لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ إلَّا على رَأْيِ من يقول بِتَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ تَفْرِيعُ الْغَزَالِيِّ على هذا الْأَصْلِ فَرَّعَ الْغَزَالِيُّ على هذا الْأَصْلِ فُرُوعًا منها لو عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ بِالْعَادَةِ أنها تَحِيضُ في أَثْنَاءِ النَّهَارِ أو بِقَوْلِ نَبِيٍّ حَيْضًا أو مَوْتًا أو جُنُونًا فَهَلْ يَلْزَمُهَا نِيَّةُ الصَّوْمِ حتى تَصُومَ الْبَعْضَ قال أَمَّا على مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْبَغِي اللُّزُومُ لِأَنَّ بَعْضَ الْيَوْمِ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَهِيَ غَيْرُ مَأْمُورَةٍ بِالْكُلِّ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُهُ لِأَنَّ الْمُرَخِّصَ في الْإِفْطَارِ لم يُوجَدْ وَالْأَمْرُ قَائِمٌ في الْحَالِ وَالْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ ا هـ وقد نُوزِعَ في قَوْلِهِ وَالْأَمْرُ قَائِمٌ في الْحَالِ بِقَوْلِهِ في كِتَابِ النَّسْخِ إنْ جَهِلَ الْمَأْمُورُ شَرْطَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ قَائِمًا في الْحَالِ وَالْمُكَلَّفُ عَالِمٌ بِطَرَيَانِ الْحَيْضِ وَالْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ كِلَاهُمَا يَعْلَمَانِهِ وَمِنْهَا لو قال إنْ صَلَّيْت أو شَرَعْت في الصَّلَاةِ أو في الصَّوْمِ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ ثُمَّ شَرَعَ ثُمَّ أَفْسَدَهَا أو مَاتَ أو جُنَّ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ خِلَافٌ يُلْتَفَتُ إلَى هذا الْأَصْلِ فَلَا يَحْنَثُ على قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَحْنَثُ على قِيَاسِ مَذْهَبِنَا وَكَذَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ هذا فَرْعًا على هذا الْأَصْلِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ من بَابِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ من فُرُوعِ هذا الْأَصْلِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُولَ إنْ صُمْت يَوْمًا كَامِلًا من رَمَضَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ في أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَكِنَّهُ في هذه الصُّورَةِ لَا يَقَعُ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ فإنه لم يَصُمْ يَوْمًا كَامِلًا وَمِنْهَا لو أَفْسَدَ يَوْمًا من رَمَضَانَ بِمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ثُمَّ مَاتَ أو جُنَّ أو حَاضَتْ في أَثْنَائِهِ سَقَطَتْ عنه على الْأَصَحِّ لَا يُقَالُ هذا يُخَالِفُ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ فإن

السُّقُوطَ يَدُلُّ على عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّا نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ من خَصَائِصِ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ الذي لَا يَتَعَرَّضُ الِانْقِطَاعُ فيه وَمِنْهَا لو نَذَرَ الصِّيَامَ يوم قُدُومِ زَيْدٍ وَتَبَيَّنَ له أَنَّهُ غَدًا فَنَوَى الصَّوْمَ من اللَّيْلِ فإنه يُجْزِئُ عن نَذْرِهِ على الْأَصَحِّ ولم يَقُولُوا إنَّهُ يَجِبُ عليه بَلْ اخْتَلَفُوا في الْإِجْزَاءِ وَقِيَاسُ هذا الْأَصْلِ الْوُجُوبُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَزَالِيَّ يقول بِهِ كَالْحَائِضِ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ اسْتَشْكَلَ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِحِكَايَتِهِمْ في مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ الْإِجْمَاعَ على صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ كما قَالَهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ كَإِيمَانِ أبي لَهَبٍ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ ثُمَّ الصُّورَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ مع بُلُوغِ الْمُكَلَّفِ حَالَةَ التَّمَكُّنِ وَهُنَا فِيمَا إذَا لم يَبْلُغْ حَالَةَ التَّمَكُّنِ بِأَنْ يَمُوتَ قبل زَمَنِ الِامْتِثَالِ وَأَيْضًا فَتِلْكَ في وُرُودِ التَّكْلِيفِ مُنَجَّزًا غير مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ جاء من أَمْرٍ خَارِجٍ وَمَأْخَذُ الْمَنْعِ فيها تَكْلِيفُ الْمُحَالِ وَهَذِهِ في الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطٍ هل يَتَحَقَّقُ معه الْأَمْرُ في نَفْسِهِ وَمَأْخَذُ الْمَانِعِ فيها عَدَمُ تَصَوُّرِ الشَّرْطِ في حَقِّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمُخَالِفِ وَلِهَذَا لم يَقْصُرْ خِلَافَهُ على ما عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ بَلْ عَدَّاهُ إلَى ما عَلِمَ وُقُوعَهُ أَيْضًا كما سَبَقَ بَيَانُهُ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ تَصْوِيرَ الْمَسْأَلَةِ بِالْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ عِلْمِ انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ قَاصِرٌ فإن خِلَافَهُمْ لَا يَخُصُّ هذه الْحَالَةَ وَإِنَّمَا خِلَافُهُمْ في أَنَّهُ هل يَصِحُّ الْأَمْرُ بِشَرْطٍ من اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا التَّنْبِيهُ السَّادِسُ كُلُّ من مَنَعَ نَسْخَ الشَّيْءِ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ كَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ التَّمَكُّنَ من الْفِعْلِ وَقْتَ وُجُوبِهِ شَرْطُ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا اللَّائِقُ بِأُصُولِهِمْ قال وَأَمَّا من جَوَّزَهُ كَمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَاخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ وَذَهَبَ بَعْضٌ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى اشْتِرَاطِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْقَوْلَيْنِ ليس مُنَاقِضًا لِذَلِكَ الْأَصْلِ وَإِنْ كان الْأَوَّلُ أَشَدَّ مُلَاءَمَةً له

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24