كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي

وَاسْتِدْلَالٍ بَلْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا في اللُّغَةِ له وقال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ هو ما يَدُلُّ عليه اللَّفْظُ سَوَاءٌ كان مَوْضُوعًا له أو لِمَعْنًى يَتَضَمَّنُهُ فَدَخَلَ الْحُرُوفُ الْمُتَّصِلَةُ بِغَيْرِهَا وقال الْإِبْيَارِيُّ ليس الْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ الْمَعْنَى الذي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ بَلْ الْمَنْطُوقُ بِالتَّعْلِيلِ فيه على حَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ على الْمَعْنَى وقد قال الْقَاضِي إنَّهُ لِلتَّعْلِيلِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ على غَيْرِ ذلك وهو بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ قال لَا يَصْلُحُ الدُّلُوكُ لِكَوْنِهِ عِلَّةً فَهُوَ مَعْنًى عِنْدَ الدُّلُوكِ وَإِنَّمَا قال ذلك لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَا بُدَّ فيها من الْمُنَاسَبَةِ وَلَيْسَ مَيْلُ الشَّمْسِ من هذا الْقَبِيلِ ثُمَّ الدَّالُّ على الصَّرِيحِ أَقْسَامٌ أَحَدُهَا التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَهَذَا أَهْمَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ وهو أَعْلَاهَا رُتْبَةً وَثَانِيهَا لِعِلَّةِ كَذَا أو لِسَبَبِ كَذَا وَثَالِثُهَا من أَجْلِ أو لِأَجْلِ وهو دُونَ ما قَبْلَهُ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ يَعْنِي لِأَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ تُعْلَمُ بِهِ الْعِلَّةُ من غَيْرِ وَاسِطَةٍ من قَوْلِهِ لِأَجْلِ يُفِيدُ مَعْرِفَتَهَا بِوَاسِطَةِ مَعْرِفَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ ما لِأَجْلِهَا الْحُكْمُ وَالدَّالُّ بِلَا وَاسِطَةٍ أَقْوَى وَكَذَا قَالَهُ الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ في النُّكَتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى من أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِي إسْرَائِيلَ الْآيَةَ على أَنَّ الْمَشْهُورَ في أَنَّ من أَجْلِ مُتَعَلِّقٌ بِ كَتَبْنَا أَيْ كَتَبْنَا على بَنِي آدَمَ الْقِصَاصَ من أَجْلِ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ بِمَعْنَى السَّبَبُ في شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ حِرَاسَةُ الدُّنْيَا وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ من النَّادِمِينَ أَيْ من أَجْلِ قَتْلِ أَخِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هو عِلَّةٌ لِحُكْمِهِ سُبْحَانَهُ على بَاقِي الْأُمَمِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ فَإِنْ قُلْت فَكَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ وَاحِدٍ بِمَثَابَةِ قَتْلِ الناس كُلِّهِمْ قُلْت تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ وَصَلَ في أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ إلَى هذه الْحَالَةِ وَلَا يَلْزَمُ من الْمُتَشَابِهِينَ التَّسَاوِي من كل الْوُجُوهِ لِاخْتِلَافِهِمَا في مِقْدَارِ الْإِثْمِ وَاسْتِوَائِهِمَا في أَصْلِهِ لَا وَصْفِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ من أَجْلِ الْبَصَرِ وَقَوْلُهُ نَهَيْتُكُمْ عن ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ

رَابِعُهَا كَيْ كَذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ من الصَّرِيحِ وَخَالَفَهُ الرَّازِيَّ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بين الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ فَعَلَّلَ سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْفَيْءِ بين الْأَصْنَافِ بِتَدَاوُلِهِ بين الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ وَقَوْلِهِ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا على ما فَاتَكُمْ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ ما يُصِيبُهُمْ من الْبَلَاءِ قبل أَنْ تَبْرَأَ الْأَنْفُسُ أو الْمُصِيبَةُ أو الْأَرْضُ أو الْمَجْمُوعُ وهو الْأَحْسَنُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَصْدَرَ ذلك قُدْرَتُهُ عليه وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ التي فيها أَنْ لَا يُحْزِنَ عِبَادَهُ على ما فَاتَهُمْ وَلَا يُفْرِحَهُمْ بِمَا آتَاهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُصِيبَةَ مُقَدَّرَةٌ كَائِنَةٌ وَلَا بُدَّ كُتِبَتْ قبل خَلْقِهِمْ فَهَوَّنَ عليهم خَامِسُهَا إذَنْ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ قالوا نعم قال فَلَا إذَنْ كَذَا جَعَلَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ من الصَّرِيحِ وَجَعَلَهُ في الْبُرْهَانِ وَالْمَحْصُولِ من الظَّاهِرِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ ولم يَسْأَلْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ذلك لِأَنَّهُ لم يَعْلَمْهُ لِأَنَّ ذلك مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالْحِسِّ وَإِنَّمَا سَأَلَ عنه لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ من بَيْعِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَنْقُصُ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ لِغَيْرِ هذه الْعِلَّةِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عن الْبَيْعِ عِنْدَ النُّقْصَانِ لِأَنَّ إذَا لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُسْتَقْبَلَ وَرَدَّ عليه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الْمَسْئُولَ عنه إنَّمَا هو فِعْلُ الْحَالِ ولم يَجْرِ لِفِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ ذِكْرٌ وَإِنَّمَا يَجْرِي السُّؤَالُ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ قال ابن الْمُنِيرِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ فإن إذَا أَبَدًا لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُسْتَقْبَلَ وَالْفِعْلُ الْمَسْئُولُ عنه مُسْتَقْبَلٌ قَطْعًا لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَالْحَالَ الْحَقِيقِيَّ أَيْ الذي حَدَثَ لَا يَسْأَلُ عنه وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عن فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ غير أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّ الْمُسْتَقْبَلَ هو الْبَيْعُ في حَالَةِ النُّقْصَانِ مُتَفَاضِلًا بَلْ الْمُسْتَقْبَلُ الْمَسْئُولُ عنه حَقِيقَةً هذا رُطَبٌ وَهَذَا تَمْرٌ وَسَادِسُهَا ذِكْرُ الْمَفْعُولِ له فإنه عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَنَزَّلْنَا

عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَنَصْبُ ذلك على الْمَفْعُولِ له أَحْسَنُ من غَيْرِهِ كما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ وفي قَوْلِهِ وَلِأُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ هِيَ الرَّحْمَةُ وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ من مُدَّكِرٍ أَيْ لِأَجْلِ الذِّكْرِ كما قال فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَقَوْلُهُ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أو نُذْرًا لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ الثَّانِي الظَّاهِرُ وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ كُلُّ ما يَنْقَدِحُ حَمْلُهُ على غَيْرِهِ التَّعْلِيلِ أو الِاعْتِبَارِ إلَّا على بُعْدٍ وهو أَقْسَامٌ أَحَدُهَا اللَّامُ وَهِيَ إمَّا مُقَدَّرَةٌ كما سَيَأْتِي في مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَإِمَّا ظَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِدُلُوكِ الشَّمْسِ وما خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَالْقُرْآنُ مَحْشُوٌّ من هذا فَإِنْ قُلْت اللَّامُ فيه لِلْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا وَقَوْلِهِ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً قُلْت لَامُ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَكُونُ في حَقِّ من يَجْهَلُهَا كَقَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لهم أو يَعْجِزُ عن دَفْعِهَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَأَمَّا من هو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَيَسْتَحِيلُ في حَقِّهِ مَعْنَى هذه اللَّامِ وَإِنَّمَا اللَّامُ الْوَارِدَةُ في أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ لَامُ الْحُكْمِ وَالْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ من الْحِكْمَةِ وَقَوْلِهِ لِيَكُونَ لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا هو تَعْلِيلٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ بِالْتِقَاطِهِ وَتَقْدِيرِهِ له فإن الْتِقَاطَهُمْ إنَّمَا كان لِقَضَائِهِ وَذَكَرَ فَضْلَهُمْ دُونَ قَضَائِهِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ في كَوْنِهِ جَزَاءً لهم وَحَسْرَةً عليهم وَعَنْ الْبَصْرِيِّينَ إنْكَارُ لَامِ الْعَاقِبَةِ قال الزَّمَخْشَرِيّ وَالتَّحْقِيقُ لَامُ الْعِلَّةِ فإن التَّعْلِيلَ فيها وَارِدٌ على طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ دَاعِيَهُمْ لِلِالْتِقَاطِ لم يَكُنْ لِكَوْنِهِ عَدُوًّا وَحَزَنًا بَلْ الْمَحَبَّةُ وَالتَّبَنِّي غير أَنَّ ذلك لَمَّا كان نَتِيجَةَ الْتِقَاطِهِمْ له وَثَمَرَةً شُبِّهَ بِالدَّاعِي الذي يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِأَجْلِهِ فَاللَّامُ مُسْتَعَارَةٌ لِمَا يُشْبِهُ التَّعْلِيلَ كما اُسْتُعِيرَ الْأَسَدُ لِمَنْ يُشْبِهُ الْأَسَدَ وَنَقَلَ ابن خَالَوَيْهِ في كِتَابِهِ الْمُبْتَدَأِ عن الْبَصْرِيِّينَ أنها لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَعَنْ

الْكُوفِيِّينَ أنها لَامُ التَّعْلِيلِ وَنَقَلَ ابن فُورَكٍ عن الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ كُلَّ لَامٍ نَسَبَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ فَهِيَ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ دُونَ التَّعْلِيلِ لِاسْتِحَالَةِ الْغَرَضِ فَكَأَنَّ الْمُخْبِرَ في لَامِ الصَّيْرُورَةِ قال فَعَلْتُ هذا بَعْدَ هذا لَا أَنَّهُ غَرَضٌ لي وَاسْتَشْكَلَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بين الْأَغْنِيَاءِ وَبِقَوْلِهِ إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَك فَقَدْ صَرَّحَ فيه بِالتَّعْلِيلِ وَلَا مَانِعَ من ذلك إذْ هو على وَجْهِ التَّفَضُّلِ وقال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ اللَّامُ في اللُّغَةِ تَأْتِي لِلتَّعْلِيلِ وَتُسْتَعْمَلُ لِلْمِلْكِ وإذا أُضِيفَتْ إلَى الْوَصْفِ تَعَيَّنَتْ لِلتَّعْلِيلِ وَجَعَلَ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ اللَّامَ من الصَّرَائِحِ وقال في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ عن الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قال في شِفَاءِ الْعَلِيلِ إنَّهَا صَرِيحَةٌ في التَّعْلِيلِ وَكَذَلِكَ الْبَاءُ وَالْفَاءُ ثُمَّ اسْتَشْكَلَ ذلك بِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ ما لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في التَّعْلِيلِ أو ما يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ في التَّعْلِيلِ أَظْهَرَ فَإِنْ كان الْأَوَّلَ فَلَيْسَتْ اللَّامُ صَرِيحَةً في التَّعْلِيلِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَقَوْلِ الْمُصَلِّي أُصَلِّي لِلَّهِ فَإِنْ كان الثَّانِيَ فَلَا يَبْقَى بين الصَّرِيحِ وَالْإِيمَاءِ فَرْقٌ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ إنَّمَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إذَا كانت دَلَالَتُهُ على الْعِلِّيَّةِ رَاجِحَةً على دَلَالَتِهِ على غَيْرِ الْعِلِّيَّةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ من الْفَرْقِ بين ما يَصِيرُ فيه اللَّفْظُ صَرِيحًا في الْعِلَّةِ وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَصِيرُ إيمَاءً ولم يَثْبُتْ ذلك الثَّانِي أَنْ الْمَفْتُوحَةُ الْمُخَفَّفَةُ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى لِأَجْلِ وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ نَحْوُ أَنْ كان كَذَا وَمِنْهُ أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ على طَائِفَتَيْنِ من قَبْلِنَا فإنه مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ قَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّونَ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَالْكُوفِيُّونَ لِئَلَّا تَقُولُوا أو لِأَجْلِ أَنْ تَقُولُوا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتَى وَقَوْلُهُ أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَالْكُوفِيُّونَ في هذا كُلِّهِ يُقَدِّرُونَ اللَّامَ أَيْ لِئَلَّا تَضِلَّ ولئلا تَقُولَ وَالْبَصْرِيُّونَ يُقَدِّرُونَ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا أو حَذَرًا أَنْ تَقُولُوا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الطَّرِيقَانِ في قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَإِنَّك إنْ قَدَّرْت لِئَلَّا تَضِلَّ إحْدَاهُمَا لم يَسْتَقِمْ عَطْفُ فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا عليه وَإِنْ قَدَّرْت حَذَرًا أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا لم يَسْتَقِمْ الْعَطْفُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّرْت إرَادَةَ

أَنْ تَضِلَّ قِيلَ الْمَقْصُودُ إذْ كان إحْدَاهُمَا تَنْسَى إذَا نَسِيَتْ أو ضَلَّتْ فلما كان الضَّلَالُ سَبَبًا لِلِادِّكَارِ جُعِلَ مَوْضِعَ الْعِلَّةِ كما تَقُولُ أَعْدَدْت هذه الْخَشَبَةَ أَنْ يَمِيلَ الْحَيْطُ فَأَدْعَمَهُ بها فَإِنَّمَا أَعْدَدْتهَا لِلدَّعْمِ لَا لِلْمَيْلِ هذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ وَقَدَّرَهُ الْكُوفِيُّونَ في تَذْكِيرِ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إنْ ضَلَّتْ فلما تَقَدَّمَ الْجَزَاءُ اتَّصَلَ بِمَا قَبْلَهُ فَصَحَّتْ أَنْ الثَّالِثُ إنْ الْمَكْسُورَةُ سَاكِنَةُ النُّونِ الشَّرْطِيَّةُ بِنَاءً على أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ من أَنْكَرَ عَدَّهَا من ذلك نعم التَّعْلِيقُ من الْمَوَانِعِ فَيَتَرَتَّبُ على ما تَرَتَّبَ على الْأَسْبَابِ وَعَلَيْهِ الْخِلَافُ من الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ هل الْأَسْبَابُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ انْعَقَدَتْ وَتَأَخَّرَ تَرَتُّبُ حُكْمِهَا إلَى غَايَةٍ أو لم تَنْعَقِدْ أَسْبَابًا لَكِنْ من جَعَلَ وُجُودَ الْمَانِعِ عِلَّةً لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ يَصِحُّ على قَوْلِهِ إنَّ الشَّرَائِطَ مَوَانِعُ وَهِيَ عِلَلٌ لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ الرَّابِعُ إنَّ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّهَا من الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ قال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ كَذَا عَدُّوهَا من هذا الْقِسْمِ وَالْحَقُّ أنها لِتَحْقِيقِ الْفِعْلِ وَلَا حَظَّ لها من التَّعْلِيلِ وَالتَّعْلِيلُ في الحديث مَفْهُومٌ من سِيَاقِ الْكَلَامِ وَتَعَيُّنُهُ فَائِدَةٌ لِلذِّكْرِ وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ كَوْنَهَا لِلتَّعْلِيلِ الْكَمَالُ بن الْأَنْبَارِيِّ من نُحَاةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَنَقَلَ إجْمَاعَ النُّحَاةِ على أنها لَا تَرِدُ لِلتَّعْلِيلِ قال وَهِيَ في قَوْلِهِ إنَّهَا من الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِأَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ هِيَ الطَّوَافُ وَلَوْ قَدَّرْنَا مَجِيءَ قَوْلِهِ هِيَ من الطَّوَّافِينَ بِغَيْرِ إنَّ لَأَفَادَ التَّعْلِيلَ فَلَوْ كانت إنَّ لِلتَّعْلِيلِ لَعُدِمَتْ الْعِلَّةُ بِعَدَمِهَا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّهَا وَإِلَّا لَوَجَبَ فَتْحُهَا وَلَا سَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ من اللَّامِ وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ من الْحَنَابِلَةِ منهم الْفَخْرُ إسْمَاعِيلُ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ جَنَّةِ الْمَنَاظِرِ وأبو مُحَمَّدٍ يُوسُفُ بن الْجَوْزِيِّ في كِتَابِهِ الْإِيضَاحِ في الْجَدَلِ وَلَكِنْ مِمَّنْ صَرَّحَ بِمَجِيئِهَا لِلتَّعْلِيلِ أبو الْفَتْحِ بن جِنِّي وَنَقَلَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ في فُصُولِهِ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فيه وَأَنَّ الْأَكْثَرِينَ على إثْبَاتِهِ وَلَيْسَ مع النَّافِي إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَكَفَى بِابْنِ جِنِّي حُجَّةً في ذلك الْخَامِسُ الْبَاءُ قال ابن مَالِكٍ وَضَابِطُهُ أَنْ يَصْلُحَ غَالِبًا في مَوْضِعِهَا اللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذلك بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَوْلِهِ فَبِظُلْمٍ من الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عليهم فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَنْ يَدْخُلَ أحدكم الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ

وَجَعَلَ منه الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ وقال إنَّمَا هِيَ لِلْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِمْ هذا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ هو من قد يُعْطِي مَجَّانًا وَأَمَّا الْمُسَبَّبُ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ وَتَقَدَّمَ في الْحُرُوفِ الْفَرْقُ بين بَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَبَاءِ الْعِلَّةِ وإن تُشَارِكُ الْبَاءَ في التَّعْلِيلِ وَتَمْتَازُ عنها بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ما يَلِيهَا في حُكْمِ من رَجَعَ إلَيْهِ فِيمَا يَتَكَلَّمُ فيه فقال مُوَسِّعًا كَالْجَوَابِ لِأَنَّهُ كَذَا وَالثَّانِي أَنَّ خَبَرَهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُخَاطَبِ أو مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْمَعْلُومِ لِمَا لم يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ وَزَعَمَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّ دَلَالَةَ الْبَاءِ على التَّعْلِيلِ مَجَازٌ من جِهَةِ أَنَّ ذَاتَ الْعِلَّةِ لِمَا اقْتَضَتْ وُجُودَ الْمَعْلُولِ دخل الْإِلْصَاقُ هُنَاكَ فَحَسُنَ اسْتِعْمَالُهَا فيه مَجَازًا قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا يُخَالِفُ ما ذَكَرَهُ غَيْرُهُ وَلِمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُهُ هُنَا من أَنَّ دَلَالَةَ اللَّامِ وَالْبَاءِ قَائِمَةٌ على التَّعْلِيلِ ظَاهِرَةٌ من غَيْرِ فَرْقٍ ثُمَّ ذَكَرَ أنها في اللَّامِ حَقِيقَةً وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في نُكَتِهِ الْبَاءُ دُونَ اللَّامِ في الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ مَحَامِلَ اللَّامِ أَقَلُّ من مَحَامِلِ الْبَاءِ وَاللَّامُ وَإِنْ جَاءَتْ لِلِاخْتِصَاصِ فَالتَّعْلِيلُ لَا يَخْلُو عن الِاخْتِصَاصِ فَكَانَتْ دَلَالَةُ اللَّامِ أَخَصَّ بِالْعِلَّةِ السَّادِسُ الْفَاءُ إذَا عُلِّقَ بها الْحُكْمُ على الْوَصْفِ وَلَا بُدَّ فيها من تَأَخُّرِهَا وَهِيَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَدْخُلَ على السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَقَدِّمًا كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الْمُحْرِمِ وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وَالثَّانِي أَنْ تَدْخُلَ على الْحُكْمِ وَتَكُونَ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا فَالْفَاءُ لِلْجَزَاءِ وَالْجَزَاءُ مُسْتَحَقٌّ بِالْمَذْكُورِ السَّابِقِ وهو السَّرِقَةُ مَثَلًا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ قَوْله

تَعَالَى أو لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ظَاهِرُ الْخِطَابِ يَدُلُّ على أَنَّ الْعِلَّةَ من قِيَامِ الْوَلِيِّ بِالْإِمْلَاءِ أَنَّ مُوَلِّيَهُ لَا يَسْتَطِيعُهُ فَصَارَ ذلك مُوجِبًا قِيَامَ الْوَلِيِّ بِكُلِّ ما عَجَزَ عنه مُوَلِّيهِ ضَرُورَةَ طَرْدِ الْعِلَّةِ قال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هذا في الْإِشْعَارِ بِالْعِلَّةِ أَقْوَى من عَكْسِهِ يَعْنِي لِقُوَّةِ إشْعَارِ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ لِوُجُوبِ الطَّرْدِ في الْعِلَلِ دُونَ الْعَكْسِ وَنَازَعَهُ النَّقْشَوَانِيُّ وهو ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدْخُلَ على كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إمَّا في الْوَصْفِ كَالْحَدِيثِ السَّابِقِ أو في الْحُكْمِ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَالثَّانِي أَنْ يَدْخُلَ في كَلَامِ الرَّاوِي كَقَوْلِهِ سَهَا فَسَجَدَ وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ وَسَوَاءٌ في ذلك الرَّاوِي الْفَقِيهُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لو لم يَفْهَمْ لم يُعَاقَبْ قِيلَ وَالْفَاءُ إذَا امْتَنَعَ كَوْنُهَا لِلْعَطْفِ تَعَيَّنَ لِلسَّبَبِ وَالْمَانِعُ لِلْعَطْفِ أنها مَتَى قُدِّرَتْ له الْوَاوُ اخْتَلَّ الْكَلَامُ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ له لِأَنَّهَا لو كانت عَاطِفَةً بِمَعْنَى الْوَاوِ لَتَضَمَّنَتْ الْجُمْلَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ بِلَا جَوَابٍ وَهَذَا مَبْنِيٌّ على حَصْرِ الْفَاءِ لِلتَّعْلِيلِ وَالْعَطْفِ وهو مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ في هذه الْمَوَاضِعِ جَوَابٌ أَيْ رَابِطَةٌ بين الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَلَا يَلْزَمُ من كَوْنِ الْأَوَّلِ شَرْطًا كَوْنُهُ عِلَّةً وقد جَعَلَ في الْمَحْصُولِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ الْبَاءَ وَالْفَاءَ من صَرَائِحِ التَّعْلِيلِ ثُمَّ خَالَفَ الرَّازِيَّ في رِسَالَتِهِ الْبَهَائِيَّةِ وَرَدَّ على الْغَزَالِيِّ وقال الْبَاءُ قد تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ التَّعْلِيلِ وَمِنْهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ لَا لِلتَّعْلِيلِ وقال ابن الْأَنْبَارِيِّ من النَّحْوِيِّينَ الْفَاءُ إنَّمَا يَكُونُ فيها إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ إذَا كان الْمُبْتَدَأُ اسْمًا مَوْصُولًا بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ أو نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ فَالِاسْمُ الْمَوْصُولُ نَحْوُ الذي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ وقَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ فما بَعْدَ الْفَاءِ من حُصُولِ الْأَجْرِ وَنَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ مُسْتَحَقٌّ بِمَا قَبْلَهَا من الْإِنْفَاقِ على ذلك الْوَصْفِ وَيَجْرِي مَجْرَى الذي الْأَلِفُ وَاللَّامُ إذَا وُصِلَتْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا والزانية وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا

أَيْ لِسَرِقَتِهِمَا وَلِزِنَاهُمَا فَاسْتِحْقَاقُ الْقَطْعِ وَالْجَلْدِ إنَّمَا كان لِلسَّرِقَةِ وَالزِّنَى لَا لِغَيْرِهِمَا وَلَوْلَا الْفَاءُ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ نَحْوُ كُلُّ إنْسَانٍ يَفْعَلُ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ فَيَدُلُّ على اسْتِحْقَاقِ الدِّرْهَمِ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ فإذا لم تَدْخُلْ لم يَدُلَّ على ذلك وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ لِأَنَّ في الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ إذًا الْمَعْنَى إنْ يَأْتِنِي رَجُلٌ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَالشَّرْطُ سَبَبٌ في الْجَزَاءِ وَعِلَّةٌ له وَلِهَذَا دَخَلَتْ الْفَاءُ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ وَالْمُسَبَّبُ في الرُّتْبَةِ عَقِبَ السَّبَبِ فَكَانَ في دُخُولِهَا إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ وإذا حُذِفَتْ لم يَقْتَضِ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ الدِّرْهَمُ مُسْتَحَقًّا بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ بِهِ وَبِغَيْرِهِ لِعَدَمِ الْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّنْبِيهِ على الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ دُخُولَ فَاءِ التَّعْقِيبِ على الْمَعْلُومِ وَاضِحٌ لِوُجُوبِ تَأَخُّرِهِ عن الْعِلَّةِ وَأَمَّا دُخُولُهَا على الْعِلَّةِ نَحْوُ فإنه يَبْعَثُ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِبَةَ لها تَقَدُّمٌ في الذِّهْنِ وَتَأَخُّرٌ في الْوُجُودِ كما تَقُولُ أَكَلَ فَشَبِعَ فَالشِّبَعُ مُتَأَخِّرٌ في الْوُجُودِ مُتَقَدِّمٌ في الذِّهْنِ وَبِهَذَا يُجَابُ عن الِاعْتِرَاضِ على الْقَوْلِ بِاسْتِفَادَةِ التَّعْلِيلِ من الْفَاءِ بِتَرْتِيبِ الْوُضُوءِ على الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ كانت لِلتَّعْلِيلِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ عِلَّةَ الْوُضُوءِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَلْ عِلَّةُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وُجُودُ الْحَدَثِ وَلَقَدْ اعْتَاصَ الْجَوَابُ على الْغَزَالِيِّ حتى انْتَهَى فيه إلَى الْإِسْهَابِ وَجَوَابُهُ يُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى ما يَتَقَدَّمُ تَصَوُّرُهَا وَإِلَى ما يَنْعَدِمُ تَصَوُّرُهَا وَالصَّلَاةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُضُوءِ لَك أَنْ تَجْعَلَهَا من الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا حِكْمَةُ الْوُضُوءِ وَلَهَا شَرْطٌ يَصِحُّ تَرْتِيبُهُ عليها بِالْفَاءِ كما رَتَّبَ بَعْثَ الشَّهِيدِ الْمُحْرِمِ على هَيْئَتِهِ وَأَنْ تَجْعَلَهَا من الثَّانِي فإنه قد أَمْكَنَ جَعْلُ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَظِنَّةً وَسَبَبًا وَيَكُونُ الْحَدَثُ شَرْطًا من شَرَائِطِ السَّبَبِ أو من شَرَائِطِ الْحُكْمِ وَإِلْحَاقُ شَرْطٍ بِالْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ لَا يُسْتَكْثَرُ وقال بَعْضُهُمْ الْأَوْلَى أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ على الْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ على الْعِلَلِ وَلَا تَدْخُلُ على الْعِلَلِ لِاسْتِحَالَةِ تَأَخُّرِ الْعِلَّةِ عن الْمَعْلُولِ إلَّا أنها قد تَدْخُلُ على الْعِلَلِ على خِلَافِ الْأَصْلِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لها دَوَامٌ لِأَنَّهَا إذَا كانت دَائِمَةً كانت في حَالَةِ الدَّوَامِ مُتَرَاخِيَةً عن ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ فَصَحَّ دُخُولُ الْفَاءِ عليها بهذا الِاعْتِبَارِ كما

يُقَالُ لِمَنْ هو في حَبْسٍ ظَالِمٍ إذَا ظَهَرَ آثَارُ الْفَرَجِ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ وقد نَجَوْت الثَّانِي ما ذَكَرَ من أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْلِيلِ في آيَةِ السَّرِقَةِ من جِهَةِ أَنَّهُ رَتَّبَ الْقَطْعَ على السَّرِقَةِ بها فَدَلَّ على أَنَّ السَّرِقَةَ هِيَ السَّبَبُ لَا يَأْتِي على مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْطَعُوا جَوَابٌ لِمَا في الْأَلِفِ وَاللَّامِ من مَعْنَى الشَّرْطِ إنَّمَا الْكَلَامُ عِنْدَهُ على مَعْنَى فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَهَذِهِ تَرْجَمَةٌ سِيقَتْ لِلتَّشَوُّفِ إلَى ما بَعْدَهَا فلما كان في مَضْمُونِ التَّرْجَمَةِ مُنْتَظِرًا قِيلَ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا فَالْفَاءُ إذَنْ لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْجَوَابِ وَإِنَّمَا حَمَلَ سِيبَوَيْهِ على ذلك أَنَّ الْفَاءَ لو كانت جَوَابًا لِقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وكان الْكَلَامُ مُبْتَدَأً أو خَبَرًا لَكَانَتْ الْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي النَّصْبَ في السَّارِقُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ أَوْلَى كَقَوْلِهِ زَيْدًا اضْرِبْهُ فلما رَأَى الْعَامَّةُ مُطَبِّقَةً على الرَّفْعِ تَفَطَّنَ لِأَنَّهَا لَا تُجْمِعُ على خِلَافِ الْأَوْلَى فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ على أَنَّهُ خَارِجٌ على مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ وَذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ كَالتَّرْجَمَةِ وَالْعُنْوَانِ السَّابِعُ لَعَلَّ على رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ من النُّحَاةِ وَقَالُوا إنَّهَا في كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّعْلِيلِ الْمَحْضِ مُجَرَّدَةٌ عن مَعْنَى التَّرَجِّي لِاسْتِحَالَتِهِ عليه فإنه إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا تُجْهَلُ عَاقِبَتُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الذي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ من قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قِيلَ هو تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ اُعْبُدُوا وَقِيلَ لِقَوْلِهِ خَلَقَكُمْ وَقِيلَ لَهُمَا وَقَوْلُهُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كما كُتِبَ على الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى فَ لَعَلَّ في هذا اخْتَصَّتْ لِلتَّعْلِيلِ وَالرَّجَاءِ الذي فِيهِمَا مُتَعَلَّقُ الْمُخَاطَبِينَ الثَّامِنُ إذْ ذَكَرَ ابن مَالِكٍ نَحْوُ وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وما يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلَى الْكَهْفِ وَإِذْ لم يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إفْكٌ قَدِيمٌ وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ وقد أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَنَازَعَهُ أبو حَيَّانَ التَّاسِعُ حتى أَثْبَتَهُ ابن مَالِكٍ أَيْضًا قال وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَحْسُنَ في مَوْضِعِهَا كَيْ نَحْوُ خُذْ حتى تُعْطِيَ الْجُودَ وَمِنْ مِثْلِهَا قَوْله تَعَالَى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَقَوْلُهُ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لَا تَكُونَ فِتْنَةً وَيَحْتَمِلُهَا حتى تَفِيءَ وَزَعَمَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ أَنَّ منها لَا جَرَمَ بَعْدَ الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا جَرَمَ أَنَّ لهم النَّارَ وَجَمِيعُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَمَنْ كان مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ من أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ

له وَكَذَا حَرْفُ إذَا فإن فيها مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ منها من أَيْضًا تَنْبِيهٌ هذه الْأَلْفَاظُ كما تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا في أَنْفُسِهَا في الدَّلَالَةِ على التَّعْلِيلِ كَذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ وُقُوعِهَا في كَلَامِ الْقَائِلِينَ فَهِيَ في كَلَامِ الشَّارِعِ أَقْوَى منها في كَلَامِ الرَّاوِي وفي كَلَامِ الرَّاوِي الْفَقِيهُ أَقْوَى منها في غَيْرِ الْفَقِيهِ مع صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بها في الْكُلِّ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بها إلَّا في كَلَامِ الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَهَذَا بَحْثٌ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَيْسَ قَوْلًا وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْوَارِدَ في كَلَامِ اللَّهِ أَقْوَى من الْوَارِدِ في كَلَامِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْحَقُّ تَسَاوِيهِمَا وَبِهِ صَرَّحَ الْهِنْدِيُّ لِعَدَمِ احْتِمَالِ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ إلَيْهِمَا

الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ وهو يَدُلُّ على الْعِلِّيَّةِ بِالِالْتِزَامِ لِأَنَّهُ يَفْهَمُهَا من جِهَةِ الْمَعْنَى لَا اللَّفْظِ وَإِلَّا لَكَانَ صَرِيحًا وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّ ذِكْرَهُ مع الْحُكْمِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا لِفَائِدَةٍ لِأَنَّهُ عَبَثٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ وَهِيَ إمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً أو جُزْءَ عِلَّةٍ أو شَرْطًا وَالْأَظْهَرُ كَوْنُهُ عِلَّةً لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ في تَصَرُّفِ الشَّارِحِ وهو أَنْوَاعٌ أَحَدُهَا ذِكْرُ الْحُكْمِ السُّكُوتِيِّ أو الشَّرْعِيِّ عَقِبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ له وَتَارَةً يَقْتَرِنُ بِ أَنْ وَتَارَةً بِالْفَاءِ وَتَارَةً يُذْكَرُ مُجَرَّدًا فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ إلَى قَوْلِهِ خَاشِعِينَ وَقَوْلِهِ إنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ الْآيَةُ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا والزانية وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَالثَّالِثُ إنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهْرٍ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لهم أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عليهم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاَلَّذِي بَعْدَ الْفَاءِ تَارَةً يَكُونُ حُكْمًا نَحْوُ قُلْ هو أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ وَتَارَةً يَكُونُ عِلَّةً نَحْوُ فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا فإنه عِلَّةُ تَجْنِيبِهِ الطَّيِّبَ ثُمَّ منه ما صَرَّحَ فيه بِالْحُكْمِ وَالْوَصْفِ مَعًا فَهُوَ إيمَاءٌ بِلَا خِلَافٍ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ له من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عليه فَقَدْ صَرَّحَ في الْأَوَّلِ بِالْإِحْيَاءِ وهو الْوَصْفُ وَالْحُكْمُ وهو الْمِلْكُ وفي الثَّانِي بِالْمِلْكِ وهو الْوَصْفُ وَبِالْعِتْقِ وهو الْحُكْمُ وَمِنْهُ ما لم يُصَرِّحْ بِهِمَا فَإِنْ صُرِّحَ بِالْحُكْمِ وَالْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ كَتَحْرِيمِ الرَّبَّا في الْبُرِّ الْمُسْتَخْرَجِ منه عِلَّةُ الْكَيْلِ أو الطُّعْمِ أو الْوَزْنِ فَلَيْسَ بِإِيمَاءٍ قَطْعًا وَقِيلَ على الْخِلَافِ في عَكْسِهِ وهو ما

حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ وَإِنْ صَرَّحَ بِالْوَصْفِ وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ كَالصِّحَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ من حِلِّ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَهَلْ النَّصُّ الدَّالُ على ثُبُوتِ الْحِلِّ إيمَاءٌ أو ثُبُوتُ الصِّحَّةِ اخْتَلَفُوا فيه فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى إثْبَاتِهِ وَرَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ لِأَنَّ الصِّحَّةَ لَازِمَةٌ لِلْحِلِّ إذْ لَوْلَا الصِّحَّةُ لم يَكُنْ لِلْإِحْلَالِ فَائِدَةٌ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ ليس بِإِيمَاءٍ إلَيْهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُصَرَّحٍ بها فَهُوَ كما لو صَرَّحَ بِالْحُكْمِ وَاسْتَخْرَجْنَا الْعِلَّةَ قِيَاسًا لِأَحَدِهِمَا على عَكْسِهِ وَجَمَعَ ابن الْحَاجِبِ في الصُّورَتَيْنِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ يَلْتَفِتُ إلَى تَفْسِيرِ الْإِيمَاءِ هل هو اقْتِرَانُ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ سَوَاءٌ كَانَا مَذْكُورَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مَذْكُورًا وَالْآخَرُ مُقَدَّرًا أو بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مَذْكُورَيْنِ وَإِنَّ إثْبَاتَ مُسْتَلْزِمِ الشَّيْءِ نَقِيضُ إثْبَاتِهِ الثَّانِي أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مع الْحِكْمَةِ وَصْفًا لو لم يَكُنْ عِلَّةٌ لَعَرِيَ عن الْفَائِدَةِ إمَّا مع سُؤَالٍ في مَحَلِّهِ أو سُؤَالٍ في نَظِيرِهِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ وَاقَعْتُ أَهْلِي في رَمَضَانَ فقال أَعْتِقْ رَقَبَةً فإنه يَدُلُّ على أَنَّ الْوِقَاعَ عِلَّةٌ لِلْإِعْتَاقِ وَالسُّؤَالُ مُقَدَّرٌ في الْجَوَابِ كَأَنَّهُ قال إذَا وَاقَعْتَ فَكَفِّرْ وقد مَرَّ أَنَّ مِثْلَ هذا لِلتَّعْلِيلِ فَكَذَا هُنَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ كَالْمُحَقَّقِ فَإِنْ حُذِفَتْ من ذلك بَعْضُ الْأَوْصَافِ وَعُلِّلَتْ بِالْبَاقِي سُمِّيَ تَنْقِيحُ مَنَاطٍ مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ كَوْنُهُ أَعْرَابِيًّا لَا مَدْخَلَ له في الْعِلَّةِ إذْ الْأَعْرَابِيُّ وَغَيْرُهُ حُكْمُهُمَا سَوَاءٌ وَكَذَا كَوْنُ الْمَحَلِّ أَهْلًا فإن الزِّنَى أَجْدَرُ بِهِ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ وقد سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ إنَّ أبي أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ أَيَنْفَعُهُ إنْ حَجَجْتُ عنه قال أَرَأَيْت لو كان على أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ قالت نعم فذكر نَظِيرَهُ وهو دَيْنُ الْآدَمِيِّ فَنَبَّهَ على كَوْنِهِ عِلَّةً في النَّفْعِ وَإِلَّا لَزِمَ الْعَبَثُ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ منه قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ لِلسَّائِلِ عن الْقُبْلَةِ أَرَأَيْت

لو تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ فقال نَبَّهَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على قِيَاسِ الْقُبْلَةِ على الْمَضْمَضَةِ في صِحَّةِ الصَّوْمِ مَعَهَا وقال الْمُحَقِّقُونَ غير ذلك وهو أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا نَبَّهَ على نَقِيضِ قِيَاسٍ يَخْتَلِجُ في صَدْرِ السَّائِلِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِشْكَالَ الذي عِنْدَ الْقَائِلِ إنَّمَا نَشَأَ من اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ وَالْجِمَاعُ مُفْسِدٌ وَمُقَدِّمَةُ الشَّيْءِ يَنْبَغِي أَنْ تُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ لِمَا بين الْمُقَدِّمَةِ وَالْغَايَةِ من التَّنَاسُبِ فَنَبَّهَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ تَعْلِيلَ تَنْزِيلِ الْقُبْلَةِ مَنْزِلَةَ الْجِمَاعِ في الْإِفْسَادِ بِكَوْنِهَا مُقَدِّمَةً مَنْقُوضٌ بِالْمَضْمَضَةِ في الْوُضُوءِ وَإِنْ كان صَائِمًا فإن الْمُقَدِّمَةَ وُجِدَتْ من الْمَضْمَضَةِ ولم يُوجَدْ الْإِفْسَادُ وَإِلَّا فَكَيْفَ تُقَاسُ الْقُبْلَةُ على الْمَضْمَضَةِ في عَدَمِ الْإِفْسَادِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا مُقَدِّمَتَيْنِ لِلْمُفْسِدِ وَلَا مُنَاسَبَةَ بين كَوْنِ الشَّيْءِ مُقَدِّمَةٌ لِفَسَادِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ كَوْنِ الصَّوْمِ صَحِيحًا معه بَلْ هذا قَرِيبٌ من فَسَادِ الْوَضْعِ أَمَّا إذَا عَلِمَ الشَّارِعُ فِعْلًا مُجَرَّدًا تَكَلَّمَ عَقِيبَهُ بِحُكْمٍ فَهَلْ يَكُونُ عِلْمُهُ كَإِعْلَامِهِ حتى يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ الْمَعْلُومُ سَبَبًا فيه خِلَافٌ حَكَاهُ الْإِبْيَارِيُّ وقال الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِنَادُ التَّعْلِيلِ إلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ وَجَرَى ذِكْرُ الْوَاقِعَةِ اتِّفَاقًا وَيُحْتَمَلُ الرَّبْطُ لِقُرْبِهِ من الْقَرِينَةِ وقال صَاحِبُ جَنَّةِ النَّاظِرِ من أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ الْحُكْمُ عِنْدَ رَفْعِ الْحَادِثَةِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَفِّرْ لِمَنْ قال وَاقَعْتُ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ شَرْطَ فَهْمِ التَّعْلِيلِ من هذا النَّوْعِ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّ الْحُكْمَ وَقَعَ جَوَابًا لِمَا رُفِعَ إلَيْهِ إذْ من الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ اسْتِئْنَافًا لَا جَوَابًا وَهَذَا كَمَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ فَأَخْبَرَهُ تِلْمِيذٌ بِمَوْتِ السُّلْطَانِ مَثَلًا فَأَمَرَهُ عَقِبَ الْإِخْبَارِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِهِ فإنه لَا يَدُلُّ على تَعْلِيلِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ بَلْ الْأَمْرُ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا هو بِصَدَدِهِ وَبِتَرْكِ ما لَا يَعْنِيه وإذا ثَبَتَ افْتِقَارُ فَهْمِ التَّعْلِيلِ إلَى الدَّلِيلِ فَلَيْسَ إلَّا انْتِفَاءُ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ إذْ السُّؤَالُ يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ فَتَأْخِيرُهُ عنه يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وَذَلِكَ على خِلَافِ الدَّلِيلِ وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِرَافَ هَؤُلَاءِ بِكَوْنِ السُّؤَالِ يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ السُّؤَالِ قَرِينَةٌ على كَوْنِ الْوَاقِعِ جَوَابًا فَيَكُونُ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِمْ إنَّ فَهْمَ التَّعْلِيلِ يَفْتَقِرُ إلَى الدَّلِيلِ وَالْقَرَائِنُ الصَّارِفَةُ تُرْشِدُ

الْمُعَارِضَ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ على تَعْيِينِ الْوَاقِعِ جَوَابًا فَلَا يُؤْخَذُ انْتِفَاؤُهَا في حَدِّ الدَّلِيلِ نعم يَقِفُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ على انْتِفَائِهَا وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ هذا النَّوْعَ من الْإِيمَاءِ بَلْ هو جَارٍ في جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ لِأَنَّ انْتِقَاءَ الْمُعَارِضِ مُشْتَرَطٌ في الْعَمَلِ بِجَمِيعِ الدَّلَائِلِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُفَرَّقَ بين حُكْمَيْنِ لِوَصْفٍ إمَّا مع ذِكْرِهِمَا مَعًا نَحْوُ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَقَوْلُهُ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ فإنه تَنْبِيهٌ على أَنَّ ما جَعَلَهُ غَايَةً لِلْحُكْمِ يَكُونُ عِلَّةً قَوْلُهُ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فإنه يَدُلُّ على أَنَّ الْمُؤَثِّرَ في حُكْمِ الْمُؤَاخَذِ وَالتَّفْصِيلُ ما وَقَعَ بِهِ الْفَرْقُ وَإِمَّا مع ذِكْرِ أَحَدِهِمَا نَحْوُ الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ فإنه لم يَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ وَإِرْثِهِ فَدَلَّ على أَنَّ الْعِلَّةَ في الْمَنْعِ من الْإِرْثِ الْقَتْلُ وَأَيْضًا إمَّا بِالْغَايَةِ مِثْلُ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ أو بِالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ وَالرَّابِعُ مَنْعُهُ ما قد يُفَوِّتُ الْمَطْلُوبَ بِأَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ الْكَلَامِ أو في سِيَاقِهِ شيئا لو لم يُعَلِّلْ بِهِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ لم يَنْتَظِمْ الْكَلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَذَرُوا الْبَيْعَ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَأَحْكَامِهَا فَلَوْ لم يُعَلِّلْ النَّهْيَ عن الْبَيْعِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا من الصَّلَاةِ أو شَاغِلًا عن الْمَشْيِ إلَيْهَا لَكَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُمْنَعُ منه مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ فَلَوْ لم يُعَلِّلْ النَّهْيَ عن الْقَضَاءِ عِنْدَ الْغَضَبِ بِكَوْنِهِ يَتَضَمَّنُ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ لَكَانَ ذِكْرُهُ لَاغِيًا إذْ الْقَضَاءُ لَا يُمْنَعُ مُطْلَقًا كما مَرَّ وَالْخَامِسُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ بِمَا منه الِاشْتِقَاقُ يَنْتَهِضُ عِلَّةً فيه وَإِلَى هذا صَارَ الشَّافِعِيُّ في مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَأَوَّلَ الْقَاضِي مَذْهَبَهُ وقال لَعَلَّهُ تَمَسَّك بِالْحَدِيثِ في إثْبَاتِ حُكْمِ الرِّبَا لَا في إثْبَاتِ عِلَّتِهِ قال الْغَزَالِيُّ ليس كما ظَنَّهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ أَثْبَتَ عِلِّيَّةَ الطُّعْمِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَعَلَّقَ أَئِمَّتُنَا في تَعْلِيلِ رِبَا الْفَضْلِ بِالطُّعْمِ بِقَوْلِهِ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ وهو مَوْقُوفٌ على إثْبَاتِ كَوْنِ الطَّعَامِ مُشْعِرًا بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ

وَإِلَّا فَالطَّعَامُ وَالْبُرُّ سَوَاءٌ في تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ وَالسَّادِسُ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجًا أَيْ لِأَجْلِ تَقْوَاهُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ على اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أَيْ لِأَجْلِ تَوَكُّلِهِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَقَّبُ الشَّرْطَ وَالسَّبَبُ ما ثَبَتَ الْحُكْمُ عَقِبَهُ فإذا الشَّرْطُ في مِثْلِ هذا سَبَبُ الْجَزَاءِ فَيَكُونُ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ سَبَبًا وَعِلَّةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم من اتَّبَعَ جِنَازَةً فَلَهُ من الْأَجْرِ قِيرَاطٌ ومن أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ له وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَكُونُ ما بَعْدَ الْفَاءِ إلَّا حُكْمًا وما قَبْلَهَا إلَّا سَبَبًا لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مُتَأَخِّرٌ بِالْوَضْعِ عن الشَّرْطِ تَحْقِيقًا نَحْوُ إنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَاتَّقِ اللَّهَ أو تَقْدِيرًا نَحْوُ اتَّقِ اللَّهَ إنْ كُنْت مُؤْمِنًا لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ لَازِمٌ وَالشَّرْطُ مَلْزُومٌ وَاللَّازِمُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَلْزُومِ وَثُبُوتُهُ فَرْعٌ عن ثُبُوتِهِ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ فإذا ما بَعْدَ الْفَاءِ قد يَكُونُ حُكْمًا وقد يَكُونُ عِلَّةً وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ رُجُوعَهُ إلَى بَابِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قد يَقْتَضِيَانِ الشَّرْطَ فَيُجْزَمُ جَوَابُهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَهَبْ لي من لَدُنْك وَلِيًّا يَرِثُنِي أَيْ هَبْ لي فَإِنَّك إنْ تَهَبْ لي وَلِيًّا يَرِثُنِي وَقَوْلُك لَا تَقْرَبْ الشَّرَّ تَنْجُ أَيْ لَا تَقْرَبْهُ فَإِنَّك إنْ لَا تَقْرَبْهُ تَنْجُ وَتَدْخُلُ الْفَاءُ في جَوَابِهِمَا كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإنه يُبْعَثُ أَيْ إنَّهُ مَاتَ مُحْرِمًا فإنه يُبْعَثُ مُلَبِّيًا فَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَالظَّاهِرُ اسْتِوَاءُ الصِّيَغِ كُلِّهَا في تَأَخُّرِ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ وَالْحُكْمُ إمَّا مُسَبَّبٌ أو مَشْرُوطٌ وهو مُسَبَّبٌ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا مُتَأَخِّرٌ نعم بَعْضُ ذلك مُتَأَخِّرٌ تَحْقِيقًا وَبَعْضُهُ مُتَأَخِّرٌ تَقْدِيرًا السَّابِعُ تَعْلِيلُ عَدَمِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَانِعِ منه كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرْ بِالرَّحْمَنِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ وما مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ أَيْ آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ لَا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ على صِدْقِ الرُّسُلِ وَقَوْلِهِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ وَقَوْلِهِ لَوْلَا أُنْزِلَ عليه مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عن الْمَانِعِ

الذي مَنَعَ من إنْزَالِ الْمَلَكِ عِيَانًا بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَهُ وَأَنَّ لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ مَنَعَهُ فإنه لو أَنْزَلَ عليه مَلَكًا وَعَايَنُوهُ ولم يُؤْمِنُوا فَعُجِّلُوا الْعُقُوبَةَ وَجَعَلَ الرَّسُولَ بَشَرًا لِيُمْكِنَهُمْ التَّلَقِّي عنه وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ الثَّامِنُ إنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ على من زَعَمَ أَنَّهُ لم يَخْلُقْ الْخَلْقَ لِغَايَةٍ وَلَا لِحِكْمَةٍ بِقَوْلِهِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَقَوْلِهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتْرُكَ سُدًى وَقَوْلِهِ وما خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وما بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ما خَلَقْنَاهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ التَّاسِعُ إنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُسَوَّى بين الْمُخْتَلِفَيْنِ وَيُفَرَّقَ بين الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَقَوْلِهِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَقَوْلِهِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ والثاني كَقَوْلِهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأُولَئِكَ مع الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم وَقَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَقَوْلِهِ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ مَسْأَلَةٌ في اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ لِلْحُكْمِ في الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا اشْتِرَاطُهُ وهو قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالصَّوْمِ فَإِنْ لم يَكُنْ مُنَاسِبًا فَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ بِالْقَلْبِ والثاني وهو قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّعَلُّقِ مع تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عليه وَحَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن إطْلَاقِ الْأُصُولِيِّينَ وَاخْتَارَهُ إلْكِيَا وَإِلَّا لم يَكُنْ لِذِكْرِهِ مَعْنًى وَتَعَطَّلَ الْكَلَامُ والثالث وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ إنْ كان التَّعْلِيلُ فُهِمَ من الْمُنَاسَبَةِ كما في قَوْلِهِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ اُشْتُرِطَ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يُفْهَمُ من غَيْرِهَا وَحَكَى الْهِنْدِيُّ قَوْلًا بِاشْتِرَاطِهِ في تَرَتُّبِ الْحُكْمِ على الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِ وَفَصَّلَ ابن الْمُنِيرِ بين أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ يَتَنَاوَلُ مَعْهُودًا مُعَيَّنًا فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَلَوْ كان مُنَاسِبًا

بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا وَأَمَّا إذَا عُلِّقَ بِعَامٍّ أو مُنَكَّرٍ فَهُوَ تَعْلِيلٌ وَلَوْ لم تَظْهَرْ الْمُنَاسَبَةُ كما لو قال لِعِلَّةِ كَذَا ولم تَظْهَرْ الْمُنَاسَبَةُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْإِيمَاءَاتُ بِأَنْوَاعِهَا تَدُلُّ على أَنَّ الْمُشَرِّعَ اعْتَبَرَ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ ولم يُلْغِهِ وَأَمَّا أَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أو جُزْءُ عِلَّةٍ أو شَرْطُ عِلَّةٍ فَكُلُّ ذلك لَا يَدُلُّ عليه الدَّالُّ على اعْتِبَارِهِ وقد يَدُلُّ بِقَرِينَةٍ وَإِنْ شِئْت فَقُلْ هل التَّنْصِيصُ أو التَّنْبِيهِ على الْعِلَّةِ نَصٌّ صَرِيحٌ في أَنَّ هذا الْمَنْصُوصَ أو الْمُنَبَّهَ على عِلَّتِهِ مَقْصُودٌ بِعَيْنِهِ أو جُزْئِيٌّ أُقِيمَ مَقَامَ كُلِّيٍّ وَالْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عليها أو الْمُنَبَّهُ عليها هو الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الذي أُقِيمَ هذا الْجُزْئِيُّ مَقَامَهُ قُلْنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَعَيْنِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جُزْئِيًّا أُقِيمَ مَقَامَ كُلِّيٍّ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ وَهَذَا السُّؤَالُ وَقَعَ في الْمُسْتَصْفَى مجا وَصَوَابُهُ ما ذَكَرْنَا الثَّانِي دَلَالَةُ هذه الْأَقْسَامِ في الْإِيمَاءَاتِ على الْعِلِّيَّةِ إنَّمَا هِيَ ظَاهِرَةٌ إلَّا فِيمَا كان منها بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الثَّالِثُ لو ظَفِرْنَا في الْوَصْفِ بِمُنَاسَبَةٍ تَعَيَّنَ لِحَاظُهَا وَجَازَ لِلنَّاظِرِ الزِّيَادَةُ عليها وَالنَّقْصُ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ فإنه فَهِمَ أَنَّ الْمَنْعَ لِعِلَّةِ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ فَأَلْحَقَ بِهِ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَغَيْرَهُمَا من الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ الْفِكْرِ وَالثَّانِي كَالنَّهْيِ عن بَيْعِ ما لم يَقْبِضْ فإنه إضَافَةُ الْمَنْعِ إلَى عَدَمِ الْقَبْضِ لَيْسَتْ لِصُورَتِهِ وَاضْطَرَبَ أَصْحَابُنَا في مَعْنَاهُ فَقِيلَ لِتَوَالِي الضَّمَانَيْنِ فَيَخْرُجُ منه الْبَيْعُ من الْبَائِعِ وَقِيلَ لِضَعْفِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْرُجُ لَكِنْ يَخْرُجُ منه الِاسْتِبْدَالُ عن بَدَلِ الثَّلَاثِمِائَةِ بِمِائَةٍ جَائِزٌ وَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ وقال أبو حَنِيفَةَ هو لِتَضَمُّنِهِ غَرَرًا من حَيْثُ يُتَوَقَّعُ انْقِلَابُ الْمِلْكِ إلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالتَّلَفِ قبل الْقَبْضِ تَبَيَّنَ بِالْآخِرَةِ أَنَّ الْبَائِعَ الثَّانِيَ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَيَكُونُ غَرَرًا فَيَخْرُجُ منه بَيْعُ الْعَقَارِ فإن تَلَفَهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٌ على ما عُرِفَ من أُصُولِهِمْ وَأَيْضًا كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ فإنه يُنَبِّهُ على كَوْنِ

الدِّبَاغِ يُطَهِّرُ الْجِلْدَ مُطْلَقًا وَخَرَجَ بِهِ عِنْدَنَا جِلْدُ الْكَلْبِ وكان الْمَعْنَى منه أَنَّا وَجَدْنَا الْمُنَاسَبَةَ خَاصَّةً بِجِلْدِ ما كان طَاهِرًا قبل الْمَمَاتِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الدِّبَاغِ في رَدِّ الْجِلْدِ إلَى ما كان عليه فَيَعُودُ طَاهِرًا وهو مَفْقُودٌ في حَقِّ الْكَلْبِ وَقَضَى أبو حَنِيفَةَ بِطَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ لِأَنَّهُ يقول بِطَهَارَتِهِ حَالَ الْحَيَاةِ فَإِنْ قِيلَ إدَارَةُ الْحُكْمِ على الْمُنَاسَبَةِ في الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ حتى سَارَ الْقَوْلُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يُنَاقِضُ أَصْلَكُمْ في مَنْعِ إرْثِ كل قَاتِلٍ بِنَاءً على ظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ مع أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ خَاصَّةٌ وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ له بِنَقِيضِ قَصْدِهِ في اسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ فَيَخْرُجُ الْقَتْلُ الْمُبَاحُ وَالْوَاجِبُ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ قُلْنَا الْمُنَاسَبَةُ خَاصَّةٌ كما ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِ من مَنَعَ الْقَاتِلَ مُطْلَقًا أَنَّ الْإِرْثَ اضْطِرَارِيٌّ وَلَوْ حَصَلَ بِالْقَتْلِ لَكَانَ كَسْبِيًّا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَمِنْهُمْ من يقول الْقَتْلُ يَمْنَعُ الْمُوَالَاةَ فَيَمْنَعُ الْإِرْثَ كَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ وإذا تَعَارَضَتْ الْمُنَاسَبَاتُ تَسَاقَطْنَ ولم يُعْمَلْ بِإِحْدَاهَا وَرَجَعَ إلَى عُمُومِ الحديث مع قَطْعِ النَّظَرِ عن الْمُنَاسَبَاتِ على أَنَّ أَصْلَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ في الشِّفَاءِ فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ وَيُشْكِلُ ما سَمَّاهُ زِيَادَةً في مَسْأَلَةِ الْقَاضِي من قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وما سَمَّاهُ نُقْصَانًا عن عُمُومِ الْخَبَرِ فَهُوَ بِنَاءٌ على مُعَارِضٍ أَمَّا لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ فَلَا الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال على عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ وقد ذَكَرَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا بَعْدَ وُقُوعِ شَيْءٍ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذلك الْفِعْلَ إنَّمَا كان لِأَجْلِ ذلك الشَّيْءِ الذي وَقَعَ وَوُقُوعُ ذلك إمَّا أَنْ يَكُونَ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَأَنْ يَرَى أَنَّهُ سَهَا في الصَّلَاةِ فَسَجَدَ فَيَعْلَمُ أَنَّ ذلك السُّجُودَ لِذَلِكَ السَّهْوِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من غَيْرِهِ وَيَكُونُ منه شَيْءٌ آخَرُ كما رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى فَرُجِمَ قال الْقَاضِي إنَّمَا يَجِبُ مِثْلُ ذلك الْحُكْمِ في غَيْرِ ذلك الْمَحْكُومِ عليه بَعْدَ نَقْلِهِ بِالْقِيَاسِ إذْ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم حُكْمِي على الْوَاحِدِ حُكْمِي على

الْجَمَاعَةِ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَحِلُّ الْفِعْلُ فيه مَحَلَّ الْقَوْلِ الْعَامِّ لِأَنَّا قد قُلْنَا إنَّ قَضَاءَهُ على الْمُعَيَّنِ لِعِلَّةٍ وَصْفِيَّةٍ لَا تَقْتَضِي وُجُوبَ عُمُومِ ذلك الْحُكْمِ وَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ في ذلك وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ قال وَكَذَلِكَ اجْتِنَابُهُ الطِّيبَ وما يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُونَ عِنْدَ إحْرَامِهِمْ إذْ عُقِلَ من ذلك شَاهِدُ الْحَالِ أَنَّهُ إنَّمَا اجْتَنَبَهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ وَمِنْ أَمْثَالِهِ الْمُنَبِّهَةِ على عِلَّةِ الْحُكْمِ تَخْيِيرُهُ بَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ في إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ وَهِيَ من الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ وَيُعَبَّرُ عنها بِ الْإِخَالَةِ وَبِ الْمَصْلَحَةِ وَبِ الِاسْتِدْلَالِ وَبِ رِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ لِأَنَّهُ إبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ وَغَمْرَتُهُ وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ وهو تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ أَيْ الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ التي هِيَ الْمُلَاءَمَةُ فَلَا دُورَ من ذَاتِ الْأَصْلِ لَا بِنَصٍّ وَلَا غَيْرِهِ مع السَّلَامَةِ عن الْقَوَادِحِ كَالْإِسْكَارِ في تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمُنَاسِبُ لُغَةً الْمُلَائِمُ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فقال من لم يُعَلِّلْ أَفْعَالَ اللَّهِ بِالْغَرَضِ إنَّهُ الْمُلَائِمُ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ في الْعَادَاتِ أَيْ ما يَكُونُ بِحَيْثُ يَقْصِدُ الْعُقَلَاءُ لِفِعْلِهِ على مَجَارِي الْعَادَةِ تَحْصِيلَ مَقْصُودٍ مَخْصُوصٍ وقال من يُعَلِّلُهَا هو ما يَجْلِبُ لِلْإِنْسَانِ نَفْعًا أو يَدْفَعُ عنه ضُرًّا وهو قَوْلُ الدَّبُوسِيِّ ما لو عُرِضَ على الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ قِيلَ وَعَلَى هذا فَإِثْبَاتُهَا على الْخَصْمِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يقول عَقْلِيٌّ لَا يَتَلَقَّى هذا بِالْقَوْلِ وَمِنْ ثَمَّ قال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ هو حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ دُونَ الْمُنَاظِرِ قال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ على الْجَاحِدِ بِتَبْيِينِ مَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ على وَجْهٍ مَضْبُوطٍ فإذا أَبْدَاهُ الْمُعَلِّلُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى جَحْدِهِ وَقِيلَ إنَّ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ بُنِيَ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّ الْمُنَاسِبَ لَا يَنْخَرِمُ بِالْمُعَارِضِ وَالتَّفْسِيرَ الثَّانِي

بُنِيَ على مَنْعِ التَّخْصِيصِ وَيَأْخُذُ انْتِفَاءَ الْعَارِضِ في حَدِّ الْمُنَاسِبِ وقال الْخِلَافِيُّونَ الْمُنَاسَبَةُ مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ الصَّالِحِ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ أو صَلَاحِيَّةُ الْفِعْلِ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ وقال ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ هو وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ يَحْصُلُ عَقْلًا من تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عليه ما يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ من حُصُولِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أو دُنْيَوِيَّةٍ أو دَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَإِنْ كان الْوَصْفُ خَفِيًّا أو ظَاهِرًا غير مُنْضَبِطٍ فَالْمُعْتَبَرُ ما يُلَازِمُهُ وهو الْمَظِنَّةُ كَالْمَشَقَّةِ فَإِنَّهَا لِلْمَقْصُودِ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ فَتُعْتَبَرُ بِمَا يُلَازِمُهُ وهو السَّفَرُ قال الْهِنْدِيُّ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ في مَاهِيَّةِ الْمُنَاسَبَةِ ما هو خَارِجٌ عنه وهو اقْتِرَانُ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ وهو خَارِجٌ عن مَاهِيَّةِ الْمُنَاسَبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ الْمُنَاسَبَةُ مع الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ وَلَوْ كان الِاقْتِرَانُ دَاخِلًا في الْمَاهِيَّةِ لَمَا صَحَّ هذا وَأَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ جَائِزٌ على ما اخْتَارَهُ قَائِلُ هذا الْحَدِّ وَالْوَصْفِيَّةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فيها مع تَحَقُّقِ الْمُنَاسَبَةِ وقد احْتَجَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على إفَادَتِهَا الْعِلِّيَّةَ بِتَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ بها فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ غير الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُضَاهِيه لِمَعْنًى أو يُشْبِهُهُ وَرَدَّهُ في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ بِأَنَّهُ ما نُقِلَ إلَيْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِكُلِّ ظَنٍّ غَالِبٍ فَلَا يَبْعُدُ التَّعَبُّدُ من نَوْعِ الظَّنِّ الْغَالِبِ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ذلك النَّوْعَ ثُمَّ قال الْأَوْلَى الِاعْتِمَادُ على الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ على الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ وقد أَوْرَدَ على اعْتِبَارِ الْفُقَهَاءِ الْمُنَاسَبَةَ في الْأَحْكَامِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ أَحْكَامِ اللَّهِ بِالْغَرَضِ كما يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وقد سَبَقَ تَحْرِيرُ هذا في الْكَلَامِ على الْعِلَلِ وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ دَلَّ على ضَبْطِ هذه الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ وَهَذَا كَافٍ فِيمَا نَرُومُهُ وَذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ لَا وُجُوبًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ في وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَبُّدِ لِنُدْرَتِهِ في الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَالْأَغْلَبُ على الظَّنِّ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِالتَّعَبُّدِ فِيمَا لَا تَظْهَرُ فيه مُنَاسَبَةٌ إلَّا عِنْدَ من يُعَلِّلُ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ فإنه غَيْرُ مُنَاسِبٍ بِنَفْسِهِ وَلَا مَعْلُومٌ اشْتِمَالُهُ على الْمُنَاسِبِ وَلَا يُصَارُ إلَى التَّعَبُّدِ معه عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ

ثُمَّ النَّظَرُ في الْمُنَاسِبِ في مَوَاضِعَ الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ من حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ إنَّهُ قد يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهِ من شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا كَمَصْلَحَةِ الْبَيْعِ لِلْحِلِّ أو ظَنًّا كَالْقِصَاصِ لِحِفْظِ النَّفْسِ وقد يَحْتَمِلُهَا على السَّوَاءِ كَحَدِّ الْخَمْرِ لِحِفْظِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْمَيْلَ وَالْإِقْدَامَ مُسَاوٍ لِلْإِحْجَامِ وقد يَكُونُ نَفْيُ الْحُصُولِ أَوْضَحَ كَنِكَاحِ الْآيِسَةِ لِتَحْصِيلِ التَّنَاسُلِ وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ هذه الْأَقْسَامِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ بِنَاءً على أَنَّ حُصُولَ الْمَقْصُودِ منها غَيْرُ ظَاهِرٍ لِلْمُسَاوَاةِ في الثَّالِثِ والمرجوحية في الرَّابِعِ وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ لِأَنَّ انْتِفَاءَ ظُهُورِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يَقْدَحُ في صِحَّةِ التَّعْلِيلِ وقال الْهِنْدِيُّ يَجُوزُ إنْ كان في آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ وكان ذلك في أَغْلَبِ الصُّوَرِ من الْجِنْسِ مُفْضِيًا إلَى الْمَقْصُودِ وَإِلَّا فَلَا أَمَّا إذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ من شَرْعِ الْحُكْمِ ثَابِتٌ فقالت الْحَنَفِيَّةُ يُعْتَبَرُ التَّعْلِيلُ بِهِ وَالْأَصَحُّ لَا يُعْتَبَرُ سَوَاءٌ ما لَا تَعَبُّدَ فيه كَلُحُوقِ نَسَبِ الْمَشْرِقِيِّ بِالْمَغْرِبِيَّةِ وما فيه تَعَبُّدٌ كَاسْتِبْرَاءِ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا في الْمَجْلِسِ الْمَوْضِعُ الثَّانِي أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ من حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ إنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى ما هو وَاقِعٌ في مَحَلِّ الضَّرُورَةِ وَمَحَلِّ الْحَاجَةِ وَمَحَلِّ التَّحْسِينِ الْأَوَّلُ الضَّرُورِيُّ وهو الْمُتَضَمِّنُ حِفْظَ مَقْصُودٍ من الْمَقَاصِدِ الْخَمْسِ التي لم تَخْتَلِفْ فيها الشَّرَائِعُ بَلْ هِيَ مُطْبِقَةٌ على حِفْظِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا حِفْظُ النَّفْسِ بِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ فإنه لَوْلَا ذلك لِتَهَارَجَ الْخَلْقُ وَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَصَالِحِ ثَانِيهَا حِفْظُ الْمَالِ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا إيجَابُ الضَّمَانِ على الْمُعْتَدِي فيه فإن الْمَالَ قِوَامُ الْعَيْشِ وَثَانِيهِمَا بِالْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ ثَالِثُهَا حِفْظُ النَّسْلِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى وَإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ عليه فإن الْأَسْبَابَ

دَاعِيَةٌ إلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاضُدِ وَالتَّعَاوُنِ الذي لَا يَتَأَتَّى الْعَيْشُ إلَّا بِهِ عَادَةً رَابِعُهَا حِفْظُ الدِّينِ بِشَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ فَالْقَتْلُ لِلرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا من مُوجِبَاتِ الْقَتْلِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَالْقِتَالُ في جِهَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ خَامِسُهَا حِفْظُ الْعَقْلِ بِشَرْعِيَّةِ الْحَدِّ على شُرْبِ الْمُسْكِرِ فإن الْعَقْلَ هو قِوَامُ كل فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ فَاخْتِلَالُهُ مُؤَدٍّ إلَى مَفْسَدَةٍ عُظْمَى هذا ما أَطْبَقَ عليه الْأُصُولِيُّونَ وهو لَا يَخْلُو من نِزَاعٍ فَدَعْوَاهُمْ إطْبَاقُ الشَّرَائِعِ على ذلك مَمْنُوعٌ أَمَّا من حَيْثُ الْجُمْلَةِ فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ ما خَلَا شَرْعٌ عن اسْتِصْلَاحٍ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ في الْكَلَامِ على أَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ له من عِلَّةٍ وَالْأَقْرَبُ فيه الْوَقْفُ وَأَمَّا من حَيْثُ التَّفْصِيلِ فَأَمَّا ما ذَكَرُوهُ من الْقِصَاصِ فَيَرُدُّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا عُلِمَ وُجُوبُهُ في شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَذَلِكَ لَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ يَلْزَمُ من عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ بُطْلَانُ الْعَالَمِ فَأَمَّا ما ذَكَرُوهُ في الْخَمْرِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا كانت مُبَاحَةً في صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حُرِّمَتْ في السَّنَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ قِيلَ بَلْ كان الْمُبَاحُ شُرْبُ الْقَلِيلِ الذي لَا يُسْكِرُ لَا ما يَنْتَهِي إلَى السُّكْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ فإنه يَحْرُمُ في كل مِلَّةٍ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَحَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ في تَفْسِيرِهِ عن الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ ثُمَّ نَازَعَهُ وقال تَوَاتَرَ الْخَبَرُ حَيْثُ كانت مُبَاحَةً بِالْإِطْلَاقِ ولم يَثْبُتْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ كانت إلَى حَدٍّ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ وَكَذَا قال النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ فَأَمَّا ما يَقُولُهُ بَعْضُ من لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُسْكِرِ لم يَزَلْ مُحَرَّمًا فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ له انْتَهَى وقد نَاقَشَهُمْ الْأَصْفَهَانِيُّ صَاحِبُ النُّكَتِ من جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ على مَقْصُودِ الشَّرْعِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ لَا بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ تُخِلُّ بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ الْمُنَاسِبُ هو الْحُكْمُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْمُحَافَظَةِ على الْمَقْصُودِ لَا الْوَصْفُ وهو السَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ وَالرِّدَّةُ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ صِفَةُ السَّرِقَةِ وَالرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُ يُقَالُ السَّرِقَةُ تُنَاسِبُ الْقَطْعَ وَالْقَتْلُ يُنَاسِبُ الْقِصَاصَ وَلَا يُقَالُ إيجَابُ الْقِصَاصِ مُنَاسِبٌ وقد زَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ سَادِسًا وهو حِفْظُ الْأَعْرَاضِ فإن عَادَةَ الْعُقَلَاءِ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَعْرَاضِهِمْ وما فُدِيَ بِالضَّرُورِيِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا وقد

شُرِعَ في الْجِنَايَةِ عليه بِالْقَذْفِ الْحَدُّ وهو أَحَقُّ بِالْحِفْظِ من غَيْرِهِ فإن الْإِنْسَانَ قد يَتَجَاوَزُ من جَنَى على نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَتَجَاوَزُ عن الْجِنَايَةِ على عِرْضِهِ وَلِهَذَا كان أَهْلُ الْجِنَايَةِ يَتَوَقَّعُونَ الْحَرْبَ الْعَوَانَ الْمُبِيدَةَ لَلْفَرَسَانِ لِأَجْلِ كَلِمَةٍ فَهَؤُلَاءِ عَبْسٌ وَذُبْيَانَ اسْتَمَرَّتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِأَجْلِ سَبْقِ فَرَسٍ فَرَسًا وَهُمَا دَاحِسٌ وَالْغَبْرَاءُ وَإِلَيْهِمَا تُضَافُ هذه الْحَرْبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ وهو حُذَيْفَةُ بن بَدْرٍ اعْتَقَدَ مَسْبُوقِيَّتَهُ عَارًا يُقَبِّحُ عِرْضَهُ وَيَلْتَحِقُ بهذا الْقِسْمِ مُشْكَلُ الضَّرُورِيِّ كَحَدِّ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فيه وَتَحْرِيمِ الْبِدْعَةِ وَالْمُبَالَغَةِ في عُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إلَيْهَا وفي حِفْظِ النَّسَبِ بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَالتَّعْزِيرِ على ذلك الثَّانِي الْحَاجِيُّ وهو ما يَقَعُ في مَحَلِّ الْحَاجَةِ لَا الضَّرُورَةِ كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَسَاكِنِ مع الْقُصُورِ عن تَمَلُّكِهَا وَضَنِّ مَالِكِهَا بِبَذْلِهَا عَارِيَّةً وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ لِاشْتِغَالِ بَعْضِ الْمُلَّاكِ عن تَعَهُّدِ أَشْجَارِهِ وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ في هذا الْقِسْمِ الْبَيْعَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ آيِلٌ إلَى الضَّرُورَةِ وَالْإِجَارَةُ دُونَهُ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَسْتَغْنِي عن الْبَيْعِ فَالضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَامَّةٌ وفي الْآحَادِ من يَسْتَغْنِي عن الْإِجَارَةِ فَالْحَاجَةُ إلَيْهَا لَيْسَتْ عَامَّةً وَنَازَعَهُ ابن الْمُنِيرِ وقال وُقُوعُ الْإِجَارَاتِ أَكْثَرُ من الْمُبَايَعَاتِ وَمِنْهُ نَصْبُ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ نَظَرًا من الْمَرْأَةِ لِكَمَالِ عَقْلِهِ فَلَوْ فَوَّضَ نِكَاحَهَا إلَيْهَا أَوْقَعَتْ نَفْسَهَا في مَعَرَّةٍ لِقُصُورِ نَظَرِهَا وَلِأَنَّ تَوَلِّيهَا النِّكَاحَ يُسْتَقْبَحُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ لِإِشْعَارِهِ بِبَذَاءَتِهَا ثُمَّ قد يَكُونُ من هذا ما هو ضَرُورِيٌّ كَالْإِجَارَةِ لِتَرْبِيَةِ الطِّفْلِ وَتَكْمِيلًا كَخِيَارِ الْبَيْعِ وَرِعَايَةِ الْكَفَاءَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ في تَزْوِيجِ الصَّغِيرِ فإنه أَفْضَى إلَى دَوَامِ النِّكَاحِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ قد تَكُونُ جَلِيَّةً حتى تَنْتَهِيَ إلَى الْقَطْعِ كَالضَّرُورِيَّاتِ وقد تَكُونُ خَفِيَّةً كَالْمَعَانِي التي اسْتَنْبَطَهَا الْفُقَهَاءُ وَلَيْسَ لهم إلَّا مُجَرَّدُ احْتِمَالِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لها وقد يُشْتَبَهُ كَوْنُ الْمُنَاسَبَةِ وَاقِعَةً في مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ أو الْحَاجَةِ لِتَقَارُبِهِمَا وقد قال بَعْضُ الْأَكَابِرِ إنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْإِجَارَةِ على خِلَافِ الْقِيَاسِ فَنَازَعَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ

وقال إنَّهَا في مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ ليس كُلُّ الناس قَادِرًا على الْمَسَاكِنِ بِالْمِلْكِ وَلَا أَكْثَرُهُمْ وَالسَّكَنُ ما يُكِنُّ من الْحَرِّ وَالْبَرْدِ من مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ وقد يَخْتَلِفُ التَّأْثِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ الثَّالِثُ التَّحْسِينِيُّ وهو قِسْمَانِ منه ما هو غَيْرُ مُعَارِضٍ لِلْقَوَاعِدِ كَتَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ فإن نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عنها لِقَذَارَتِهَا مَعْنًى يُنَاسِبُ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا حَثًّا على مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كما قال تَعَالَى وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ على الْمُسْتَحَبِّ عَادَةً على تَفْصِيلٍ وَعَنْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ ومنه إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا مُسْتَقْذَرَةٌ في الْجِبِلَّاتِ وَاجْتِنَابُهَا أَهَمُّ في الْمَكَارِمِ وَالْمُرُوآتِ وَلِذَا يَحْرُمُ التَّضَمُّخُ بها على الصَّحِيحِ من غَيْرِ حَاجَةٍ قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَالشَّافِعِيُّ نَصَّ على هذا في الْكَثِيرِ ثُمَّ إنَّهُ في النِّهَايَةِ في الْكَلَامِ على وَطْءِ الْأَمَةِ في دُبُرِهَا قال لَا يَحْرُمُ ومنه إيجَابُ الْوُضُوءِ لِمَا فيه من إفَادَةِ النَّظَافَةِ إذْ الْأَمْرُ بها في اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ مِمَّا يَعْسُرُ فَوَظَّفَ الْوُضُوءَ في الْأَوْقَاتِ وَبَنَى الْأَمْرَ على إفَادَتِهِ الْمَقْصُودَ وَعَلِمَ الشَّارِعُ أَنَّ أَرْبَابَ الْعُقُولِ لَا يَعْتَمِدُونَ فِعْلَ الْأَوْسَاخِ وَالْأَدْرَانِ إلَى أَعْضَائِهِمْ الْبَادِيَةِ منهم فَكَانَ ذلك النِّهَايَةُ في الِاسْتِصْلَاحِ قال الْإِمَامُ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ أَظْهَرُ في هذا من النَّظَافَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُرَتَّبَةِ على الْوُضُوءِ من حَيْثُ إنَّ الْجُمْلَةَ تَسْتَقْذِرُهَا وَالْمُرُوءَةَ تَقْتَضِي اجْتِنَابُهَا فَهِيَ أَظْهَرُ من اجْتِنَابِ الشُّعْثِ وَالْغَمَرَاتِ قال وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْوُضُوءَ بِالنِّيَّةِ من حَيْثُ الْتَحَقَ بِالْعَادَاتِ الْعَرِيَّةِ عن الْأَعْرَاضِ وَضَاهَى الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةَ ومنه سَلْبُ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا مَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَالْعَبْدُ نَازِلُ الْقَدْرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُلَائِمٍ وَهَذَا اسْتَشْكَلَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِ الشَّاهِدِ وَاتِّصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَدَفْعِ الْيَدِ الظَّالِمَةِ عنه من مَرَاتِبِ الضَّرُورَةِ وَاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَبْدِ في الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ من مَرَاتِبِ التَّحْسِينِ وَتَرْكِ مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ التَّحْسِينِ بَعِيدًا جِدًّا نعم لو وُجِدَ لَفْظٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ في رَدِّ شَهَادَتِهِ وَيُعَلِّلُ

هذا التَّعْلِيلَ لَكَانَ له وَجْهٌ فَأَمَّا مع الِاسْتِدْلَالِ بهذا التَّعْلِيلِ فَفِيهِ هذا الْإِشْكَالُ وقد تَنَبَّهْ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِإِشْكَالِ الْمَسْأَلَةِ فذكر أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لِمَنْ رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ مُسْتَنَدًا أو وَجْهًا وَأَمَّا سَلْبُ وِلَايَتِهِ فَهُوَ في مَحَلِّ الْحَاجَةِ إذْ وِلَايَةُ الْأَطْفَالِ تَسْتَدْعِي اسْتِغْرَاقًا وَفَرَاغًا وَالْعَبْدُ مُسْتَغْرَقٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ فَتَفْوِيضُ أَمْرِ الطِّفْلِ إلَيْهِ إضْرَارٌ بِالطِّفْلِ أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَتَّفِقُ أَحْيَانًا كَالرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى ومنه ما هو مُعَارِضٌ كَالْكِتَابَةِ فَإِنَّهَا من حَيْثُ كَوْنِهَا مَكْرُمَةً في الْعَوَائِدِ ما احْتَمَلَ الشَّرْعُ فيها خَرْمَ قَاعِدَةٍ مُمَهَّدَةٍ وَهِيَ امْتِنَاعُ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَامْتِنَاعُ مُقَابَلَةِ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ على سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ نعم هِيَ جَارِيَةٌ على قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ في أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أنها خَرَجَتْ عن قِيَاسِ الْوَسَائِلِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهَا مع أنها وَسِيلَةٌ إلَى الْعِتْقِ الذي لَا يَجِبُ وهو غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَكِنَّهُمْ مع ذلك يُقَدِّرُونَ خُرُوجَهَا عن الْقِيَاسِ وَاشْتِمَالَهَا على شَائِبَتَيْ مُعَاوَضَةٍ وَتَعْلِيقٍ على خِلَافِ قِيَاسِهِمَا وَهَذَا الْقِسْمُ كُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وقد يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ كَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ وقد يَتَعَلَّقُ بِالدَّارَيْنِ كَإِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ إذْ يَحْصُلُ بها الزَّجْرُ عن تَعَاطِي الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لها وَتَحْصِيلِ تَلَافِي الذَّنْبِ الْكَبِيرِ وَفَائِدَةُ مُرَاعَاةِ هذا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ مَصْلَحَتَانِ وَجَبَ إعْمَالُ الضَّرُورَةِ الْمُهِمَّةِ وَإِلْغَاءُ التَّتِمَّةِ وَأَمَّا الْإِقْنَاعِيُّ فَهُوَ الذي يَظْهَرُ منه في بَادِئِ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَكِنْ إذَا بُحِثَ عنه حَقَّ الْبَحْثِ ظَهَرَ بِخِلَافِهِ كَقَوْلِهِمْ في مَنْعِ بَيْعِ الْكَلْبِ قِيَاسًا على الْخَمْرِ وَالْمَيِّتَةِ إذْ كَوْنُ الشَّيْءِ نَجَسًا يُنَاسِبُ إذْلَالَهُ وَمُقَابَلَتُهُ بِالْمَالِ في الْبَيْعِ إعْزَازٌ له وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ فإذا كان هذا الْوَصْفُ يُنَاسِبُ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ مع الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ فَهَذَا وَإِنْ كان مُخَيَّلًا فَهُوَ عِنْدَ النَّظَرِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الشَّيْءِ نَجِسًا إلَّا عَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ معه وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ كَذَا قال الرَّازِيَّ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ وقد يُنَازَعُ في أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ نَجَسًا مَنْعُ الصَّلَاةِ معه بَلْ ذلك من جُمْلَةِ أَحْكَامِ النَّجَسِ وَحِينَئِذٍ فَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِ النَّجَاسَةِ يُنَاسِبُ الْإِذْلَالَ ليس بِإِقْنَاعِيٍّ

الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ من حَيْثُ الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ وَعَدَمِهِ الْمُنَاسَبَةُ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لها بِالْمُلَائِمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَعَدَمِهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ أو يُعْلَمَ أَنَّهُ أَلْغَاهُ أو لَا يُعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ما عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ له وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الرُّجْحَانُ وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ إيرَادُ الْحُكْمِ على وَفْقِهِ لَا التَّنْصِيصَ عليه وَلَا الْإِيمَاءَ إلَيْهِ وَإِلَّا لم تَكُنْ الْعِلِّيَّةُ مُسْتَفَادَةً من الْمُنَاسَبَةِ وهو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ شَهِدَ له أَصْلٌ مُعَيَّنٌ قال الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ الْمَعْنَى بِشَهَادَةِ أَصْلٍ مُعَيَّنٍ لِلْوَصْفِ أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ منه من حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ أُثْبِتَ شَرْعًا على وَفْقِهِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ في نَوْعِهِ أو في جِنْسِهِ أو جِنْسُهُ في نَوْعِهِ أو جِنْسِهِ الْحَالَةُ الْأُولَى أَنْ يُعْتَبَرُ نَوْعُهُ في نَوْعِهِ من خُصُوصِ الْوَصْفِ في خُصُوصِ الْحُكْمِ وَعُمُومِهِ في عُمُومِهِ كَقِيَاسِ الْقَتْلِ بِالْجَارِحِ على الْمُثْقِلِ في وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانِيًّا فإنه قد عُرِفَ تَأْثِيرُ خُصُوصِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا في خُصُوصِ الْحُكْمِ وهو وُجُوبُ الْقِصَاصِ في النَّفْسِ في الْمُحَدَّدِ وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى بِالْمُنَاسِبِ الْمُلَائِمِ وهو مُتَّفَقٌ عليه بين الْقِيَاسِيِّينَ

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ في جِنْسِهِ كَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ على الْإِخْوَةِ من الْأَبِ في النِّكَاحِ على تَقْدِيمِهِمْ عليهم في الْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ فإن الْإِخْوَةَ من الْأَبِ وَالْأُمِّ نَوْعٌ وَاحِدٌ في الصُّورَتَيْنِ ولم يُعْرَفْ تَأْثِيرُهُ في التَّقْدِيمِ في وِلَايَةِ النِّكَاحِ لَكِنْ عُرِفَ تَأْثِيرُهُ في جِنْسِهِ وهو التَّقَدُّمُ عليهم فِيمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم عن عَدَمِ الْأَمْرِ كما في الْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ وَهَذَا الْقِسْمُ دُونَ ما قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ أَقَلُّ من الْمُقَارَنَةِ بين نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُعْتَبَرَ جِنْسُهُ في نَوْعِهِ كَقِيَاسِ إسْقَاطِ الْقَضَاءِ عن الْحَائِضِ على إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ عن الْمُسَافِرِ بِتَعْلِيلِ الْمَشَقَّةِ وَالْمَشَقَّةُ جِنْسٌ وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ يُسْتَعْمَلُ على صِنْفَيْنِ إسْقَاطُ قَضَاءِ الْكُلِّ وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الْبَعْضِ وقد ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا في هذا النَّوْعِ ضَرُورَةَ تَأْثِيرِهَا في إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّ هذا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِيهَامَ في الْعِلَّةِ أَكْثَرُ مَحْذُورًا من الْإِيهَامِ في الْمَعْلُولِ الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ اعْتِبَارُ جِنْسِ الْوَصْفِ في جِنْسِ الْحُكْمِ وهو كَتَعْلِيلِ كَوْنِ حَدِّ الشُّرْبِ ثَمَانِينَ فإنه مَظِنَّةُ الْقَذْفِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَظِنَّةُ الِافْتِرَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ قِيَاسًا على الْخَلْوَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا كانت مَظِنَّةَ الْوَطْءِ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ في الْحُرْمَةِ وَهَذَا الْقِسْمُ كَالْأَوَّلِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كان الْوَفَاءُ بِإِقَامَةِ الْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَظْنُونِ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْخَلْوَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي ما عُلِمَ إلْغَاءُ الشَّرْعِ له كما نُقِلَ عن بَعْضِهِمْ إيجَابُ الصَّوْمِ ابْتِدَاءً في كَفَّارَةِ من وَاقَعَ في رَمَضَانَ لِأَنَّ الْقَصْدَ منها الِانْزِجَارُ وهو لَا يَنْزَجِرُ بِالْعِتْقِ فَهَذَا وَإِنْ كان قِيَاسًا لَكِنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ حَيْثُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةً من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُكَلَّفِينَ وَالْقَوْلُ بِهِ مُخَالِفٌ لِلنَّهْيِ فَيَكُونُ بَاطِلًا فَإِنْ قِيلَ قد خَصَّصُوا الْعُمُومَ بِالْمَعْنَى فِيمَا هو قَرِيبٌ من ذلك قُلْنَا حَيْثُ لم يُعَكِّرْ على النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ وهو هُنَا يُعَكِّرْ فإن اعْتِبَارَهُ يُؤَدِّي إلَى الشَّرْعِ إلَيْهِ وهو الْعِتْقُ الْقِسْمُ الثَّالِثِ أَلَّا يُعْلَمَ اعْتِبَارُهُ وَلَا إلْغَاؤُهُ وهو الذي لَا يَشْهَدُ له أَصْلٌ مُعَيَّنٌ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ وهو الْمُسَمَّى ب الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فيه وَالْمَشْهُورُ اخْتِصَاصُ الْمَالِكِيَّةِ بها وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن الْعُلَمَاءَ في جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ يَكْتَفُونَ بِمُطْلَقِ الْمُنَاسَبَةِ وَلَا مَعْنَى لِلْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إلَّا ذلك قال الْغَزَالِيُّ في كِتَابِ أَسَاسِ الْقِيَاسِ قد جَعَلَ الشَّافِعِيُّ اسْتِيلَادَ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ سَعْيًا لِنَقْلِ الْمِلْكِ من غَيْرِ وُرُودِ نَصٍّ فيه وَلَا وُجُودِ أَصْلٍ مُعَيَّنٍ يَشْهَدُ بِنَقْلِ الْمِلْكِ وَالْقَدْرِ الْمُصْلِحِ فيه اسْتِحْقَاقُ الْإِعْفَافِ على وَلَدِهِ وقد مَسَّتْ حَاجَتُهُ إلَيْهِ

فَيَنْقُلُ مِلْكَهُ إلَيْهِ وَهَذَا كَأَنَّهُ اتِّبَاعُ مَصْلَحَةٍ مُرْسَلَةٍ وَكَذَا قال في الْغَاصِبِ تَكْثُرُ تَصَرُّفَاتُهُ في الْمَالِ الْمَغْصُوبِ أَنَّ لِمَالِكِهِ إجَازَةَ تَصَرُّفَاتِهِ إذْ يُعْتَبَرُ اتِّبَاعُ مَصْلَحَةٍ وَكَذَا قال في الْعَامِلَيْنِ مع أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَالْإِجَازَةُ عِنْدَ بُطْلَانِهِ من الْفُضُولِيِّ وَلَكِنْ إذَا كَثُرَتْ التَّصَرُّفَاتُ وَظَهَرَ الْعُسْرُ اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ ذلك الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ من حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ الْمُنَاسِبُ إمَّا مُؤَثِّرٌ أو غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَغَيْرُ الْمُؤَثِّرِ إمَّا مُلَائِمٌ أو غَيْرُ مُلَائِمٍ وَغَيْرُ الْمُلَائِمِ إمَّا غَرِيبٌ أو مُرْسَلٌ أو مَلْغِيٌّ الْأَوَّلُ الْمُؤَثِّرُ وهو أَنْ يَدُلَّ النَّصُّ أو الْإِجْمَاعُ على كَوْنِهِ عِلَّةً بِشَرْطِ دَلَالَتِهَا على تَأْثِيرِ غَيْرِ الْوَصْفِ في عَيْنِ الْحُكْمِ أو نَوْعِهِ في نَوْعِهِ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ قال في الْمُسْتَصْفَى هو تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ وَسُمِّيَ مُؤَثِّرًا لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ في الْحُكْمِ فَالنَّصُّ كَمَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ فإنه اعْتَبَرَ عَيْنَ مَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ في عَيْنِ الْحَدَثِ بِنَصِّهِ عليه وَالْإِجْمَاعُ كَالصِّغَرِ فإنه اعْتَبَرَ عَيْنَهُ في عَيْنِ الْحُكْمِ وهو الْوِلَايَةُ في الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ قد يَكُونُ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا كَالصِّغَرِ الْمُنَاسِبِ لِلْوِلَايَةِ على الصَّغِيرِ وقد لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُنَاسَبَةِ أو التَّغَيُّرِ وَهَذَا الْقِسْمُ أَقَلُّ الْأَقْسَامِ وَلِهَذَا قَبِلَهُ أبو زَيْدٍ دُونَ أَنْوَاعِ الْمُنَاسَبَاتِ كما قَالَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحَاتِ وقال صَاحِبُ جَنَّةِ النَّاظِرِ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعَيْنِ هُنَا تَجَوُّزٌ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ هِيَ الْمُشَخَّصَاتُ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ التَّعْدَادَ لِيُمْكِنَ وُجُودُهَا في مَحَلَّيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْعَيْنِ هَاهُنَا ما هو أَخَصُّ من الْجِنْسِ كَالنَّوْعِ وَالصِّنْفِ الثَّانِي الْمُلَائِمُ وهو أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ عَيْنَهُ في عَيْنِ الْحُكْمِ بِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ على وَفْقِ النَّصِّ لَا بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ سُمِّيَ مُلَائِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ دُونَ ما قَبْلَهَا وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ عنها لِبُعْدِ مَرْتَبَةِ النَّوْعِ بِدَرَجَةٍ فإنه كُلَّمَا تَأَخَّرَتْ الْمَرْتَبَةُ له أَمْكَنَ الْمُزَاحَمَةُ كَتَعْلِيلِ الْوَصْفِ بِعَيْنِهِ وإذا كَثُرَ الْمُزَاحِمُ ضَعْفُ الظَّنُّ الثَّالِثُ الْغَرِيبُ وهو أَنْ يَعْتَبِرَ عَيْنَهُ في عَيْنِ الْحُكْمِ فَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ وَفْقَ الْوَصْفِ فَقَطْ وَلَا يُعْتَبَرُ عَيْنُ الْوَصْفِ في جِنْسِ الْحُكْمِ وَلَا عَيْنُهُ وَلَا جِنْسُهُ في جِنْسِهِ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ كَالْإِسْكَارِ في تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فإنه اُعْتُبِرَ عَيْنُ الْإِسْكَارِ في عَيْنِ الْحُكْمِ

بِتَرْتِيبِ التَّحْرِيمِ على الْإِسْكَارِ فَقَطْ وَمَنَعَ السُّهْرَوَرْدِيّ في التَّنْقِيحَاتِ وُجُودَ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ وَرَدَّ أَمْثِلَتَهُ إلَى الْمُلَائِمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ وقال قَلَّمَا يُوجَدُ في الشَّرْعِ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ إلَّا وَلِلشَّرْعِ الْتِفَاتٌ إلَى جِنْسِهَا وَعَلَى الْأُصُولِيِّ التَّقْسِيمُ وَعَلَى الْفَقِيهِ الْأَمْثِلَةُ وَكَذَا قال غَيْرُهُ هذا لَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ قِسْمًا بِرَأْسِهِ بَلْ إنْ شَهِدَ له أَصْلٌ بِعَيْنِهِ دخل فِيمَا سَبَقَ وَإِلَّا كان مُرْسَلًا وَمَثَّلَهُ ابن الْحَاجِبِ بِنَظَرِ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما في التَّفْضِيلِ في الْعَطَاءِ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ إذَا ظَهَرَتْ الْمَعَانِي فَيَبْعُدُ أَنْ لَا يُوجَدَ له نَظِيرٌ وَلَا مَدَارٌ بَلْ لَا يَكَادُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ يَنْفَكُّ عن نَظَرٍ بِحَالٍ وقد قُلْت أَمْثِلَةَ الْغَرِيبِ وَمِنْهَا تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ في مَرَضِ الْمَوْتِ إلْحَاقًا بِالْقَاتِلِ الْمَمْنُوعُ من الْمِيرَاثِ تَعْلِيلًا بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ فإن الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ لَكِنَّ هذا النَّوْعَ من الْمَصْلَحَةِ لم يُعْهَدْ اعْتِبَارُهُ في غَيْرِ هذا الْخَاصِّ فَكَانَ غَرِيبًا لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ ثُمَّ اخْتَارَ تَفْصِيلًا وقال إنَّهُ الذي يَقْتَضِيه مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَرِيبَ إذَا ظَهَرَ فيه الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ اُعْتُبِرَ كَالْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَظْهَرَ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ قال فَلَا تَعْلِيلَ بها كَالْمَعَانِي الْغَرِيبَةِ وَإِنْ كانت ظَاهِرَةً لِأَنَّا لم نَعْتَمِدْ على نَفْسِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ هذا كُلُّهُ فِيمَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فَإِنْ لم يَعْتَبِرْهُ نُظِرَ فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على إلْغَائِهِ لم يُعَلَّلْ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُرْسَلُ وَمِنْهُمْ من قَسَّمَهُ إلَى غَرِيبٍ وَمُلَائِمٍ وَقَبِلَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا وَصَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِقَبُولِهِ أَيْضًا مع تَشْدِيدِهِ الْإِنْكَارَ على مَالِكٍ في ذلك وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ لَكِنَّهُ شَرَطَ في اعْتِبَارِ الْقَطْعِ فيه كَوْنَ الْمَصْلَحَةِ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً ولم يَشْتَرِطْ ذلك لِأَصْلِ الْقَوْلِ بِهِ قال وَالظَّنُّ الْقَرِيبُ من الْقَطْعِ كَالْقَطْعِ وَتَابَعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ في الْمِنْهَاجِ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ مَرْدُودٌ مُطْلَقًا وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ الِاتِّفَاقَ على رَدِّ الْمُرْسَلِ غَيْرِ الْمُلَائِمِ الذي لم يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ وَفَصَّلَ قَوْمٌ بين الْعِبَادَاتِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ وَلَا نَرَى التَّعَلُّقَ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ ولم يَرَ ذلك أَحَدٌ من الْعُلَمَاءِ قال وَمَنْ ظَنَّ ذلك بِمَالِكٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَيَتَحَصَّلُ في أَقْسَامِ الْمُنَاسِبَاتِ أَنْ يُقَالَ إنْ الْمُؤَثِّرَ وهو ما دَلَّ النَّصُّ أو الْإِجْمَاعُ على اعْتِبَارِهِ مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ وما دَلَّ على الْغَايَةِ مَرْدُودٌ بِالِاتِّفَاقِ وما لم يَشْهَدْ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا إلْغَائِهِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَفِيهِ

ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْمَنْعُ منه مُطْلَقًا وهو الذي عليه الْأَكْثَرُونَ منهم الْقَاضِي إذْ لَا تَدُلُّ عليها دَلَالَةُ الْعُقُولِ وَلَا يَشْهَدُ لها أَصْلٌ من الْأُصُولِ وَلِأَنَّ في اعْتِبَارِهَا رَدَّ الشَّرِيعَةِ إلَى السِّيَاسَةِ وَالثَّانِي يُقْبَلُ مُطْلَقًا وهو الْمَنْقُولُ عن مَالِكٍ وَالثَّالِثُ تُقْبَلُ ما لم يُصَادِفْهَا أَصْلٌ من الْأُصُولِ طَرْدًا لِدَلِيلِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَضَّدَهُ بِأَنْ قال الْأُصُولُ مُنْحَصِرَةٌ وَالْأَحْكَامُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ وَلَمَّا كَانُوا مع ذلك يَسْتَرْسِلُونَ في الْأَحْكَامِ اسْتِرْسَالَ من لم يَطْلُبْ الْأُصُولَ احْتِفَاءً فلم يَكُنْ بُدٌّ من مَرَدٍّ وَلَا مَرَدَّ إلَّا إلَى صَحِيحِ اسْتِدْلَالٍ وَصَارَ هَؤُلَاءِ في ضَبْطِ ما يَصِحُّ بِهِ الِاسْتِدْلَال إلَى أَنَّهُ كُلُّ مَعْنَى مُنَاسِبٌ لِلْمَحَلِّ مُطَّرِدٌ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ لَا يَرُدُّهُ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ عن الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ مَالِكٍ ولم يَصِحَّ عنه وَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ التَّأَنِّي وَالْإِفْرَادَ في الْبُعْدِ وَإِنَّمَا يَسُوغُ تَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ بِمَصَالِحَ يَرَاهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وِفَاقًا بِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ فإنه في الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَحْوَهُ وَالرَّابِعُ يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الْحُكْمِ بها وَصَلَاحِيَّتُهَا لِلِاعْتِبَارِ وَأَرَادَ آخَرُونَ انْضِمَامَ السَّبَبِ إلَيْهَا في اشْتِرَاطِ تَعْيِينِهَا إذْ لَا يَمْتَنِعُ مُسَاوَقَتُهَا لَمُنَاسِبٍ آخَرَ وَهَذَا على رَأْيِ من مَنَعَ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ وَالْخَامِسُ يَمْتَنِعُ في الْعِبَادَاتِ دُونَ ما عَدَاهُ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قال الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ في نُكَتِهِ أَعْلَى الْأَقْسَامِ ما يَكُونُ الْأَصْلُ شَاهِدًا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ في عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِهِ في جِنْسِهِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ يَكْفِي في الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ بِالْحُكْمِ فإذا تَقَوَّى بِوَجْهَيْ الِاعْتِبَارِ كان اعْتِبَارُهُ أَحْرَى وَذَلِكَ كَاعْتِبَارِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ في قَتْلِ الذِّمِّيِّ وَالْعَبْدِ فإن عَيْنَهُ مُعْتَبَرَةٌ في عَيْنِ الْحُكْمِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْحُرِّ وهو مَشْهُودٌ له بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْجِنَايَةِ في جِنْسِ الْعُقُوبَةِ وَيَلِيه ما يُعْتَبَرُ عَيْنُهُ في عَيْنِ الْحُكْمِ كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ السُّكْرِ بِالْإِسْكَارِ

وَيَلِيه ما تُؤَثِّرُ عَيْنُهُ في جِنْسِ الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ الصِّغَرِ في وِلَايَةِ النِّكَاحِ لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الصِّغَرِ في جِنْسِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ وهو وِلَايَةُ الْمَالِ وَيَلِيه ما يُؤَثِّرُ جِنْسُهُ في جِنْسِ الْحُكْمِ كَتَعْلِيلِ نَفْيِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ عن الْحَائِضِ بِعِلَّةِ الْحَرَجِ وَيَلِيه الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ كَالْمُطَلَّقَةِ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَلَيْسَ بَعْدَهُ إلَّا الْمُنَاسِبُ الْعَارِي عن الْأَصْلِ وهو الْمُرْسَلُ هو حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا انْتَهَى وقال غَيْرُهُ الْمُنَاسَبَةُ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ أَمَّا في جَانِبِ الْحُكْمِ فَأَعَمُّ مَرَاتِبِ الْحُكْمُ كَوْنُهُ حُكْمًا ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ من الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ الْوَاجِبُ منها إلَى عِبَادَةٍ وَغَيْرِهَا ثُمَّ الْعِبَادَةُ إلَى بَدَنِيَّةٍ وَغَيْرِهَا ثُمَّ الْبَدَنِيَّةُ إلَى الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ الصَّلَاةُ إلَى فَرْضِ عَيْنٍ وَإِلَى فَرْضِ كِفَايَةٍ فما ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في فَرْضِ الْعَيْنِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في مُطْلَقِ الْفَرْضِ وما ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في مُطْلَقِ الْفَرْضِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في جِنْسِ الْفَرْضِ وهو الصَّلَاةُ وما ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في الصَّلَاةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في جِنْسِهَا وهو الْعِبَادَةُ وما ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في جِنْسِهَا وهو الْوَاجِبُ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ في جِنْسِهِ وهو الْحُكْمُ التَّنْبِيهُ الثَّانِي حَيْثُ أَطْلَقُوا اعْتِبَارَ الْجِنْسِ في الْحُكْمِ وفي الْوَصْفِ فَلَا يُرِيدُونَ بِهِ جِنْسَ الْأَجْنَاسِ وهو كَوْنُ الْوَصْفِ مَصْلَحَةً وَكَوْنُ الْحُكْمِ خِطَابًا وَلَوْ أَرَادُوا ذلك لَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ مَشْهُودًا له فَعَلَى هذا جِنْسُ الْأَجْنَاسِ لَا يُعْتَبَرُ وَنَوْعُ الْأَنْوَاعِ لَا يُشْتَرَطُ وَالْمُعْتَبَرُ ما بين هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ نعم الشَّأْنُ في ضَبْطِ ذلك وقال الْغَزَالِيُّ من مَارَسَ الْفِقْهَ وَتَرَقَّى عن رُتْبَةِ الشَّادِّينَ فيه وَنَظَرَ في مَسَائِلِ الِاعْتِبَارِ تَبَيَّنَ له أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخَيَّلُ لَا يَعُمُّ وُجُودُهُ الْمَسَائِلَ بَلْ لو قِيلَ لَا يَطَّرِدُ على الْإِخَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عُشْرُ الْمَسَائِلِ لم يَكُنْ الْقَائِلُ مُجَازِفًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَسْأَلَةٌ الْمُنَاسَبَةُ هل تَنْخَرِمُ بِالْمُعَارَضَةِ هذا على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِمُعَارِضٍ يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ فَهُوَ قَادِحٌ بِلَا خِلَافٍ الثَّانِي أَنْ يَأْتِيَ بِمُعَارِضٍ يَدُلُّ على وُجُودِ مَفْسَدَةٍ أو فَوَاتِ مَصْلَحَةٍ تُسَاوِي الْمَصْلَحَةَ أو تُرَجَّحُ عليها كما لو قِيلَ في مُعَارَضَةِ كَوْنِ الْوَطْءِ إذْلَالًا بِأَنَّ فيه إمْتَاعًا وَمَدْفَعًا لِضَرَرِ الشَّبَقِ فَهَلْ تَبْطُلُ الْمُنَاسَبَةُ فيه مَذْهَبَانِ أَحَدُهُمَا نعم وَعُزِيَ لِلْأَكْثَرِينَ

وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَالصَّيْدَلَانِيُّ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَلِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ وَالْمَصْلَحَةَ إذَا عَارَضَهَا ما يُسَاوِيهَا لم تَعُدْ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ مَصْلَحَةً وَالثَّانِي اخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ أنها لَا تَبْطُلُ وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ في جَدَلِهِ وَرُبَّمَا نَقَلَ عن ظَاهِرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَعْنَى من انْخِرَامِهَا وَبُطْلَانِهَا هو أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ مُنَاسَبَتَهَا لِلْحُكْمِ إذْ ذَاكَ فَلَا يَكُونُ لها أَثَرٌ في اقْتِضَاءِ الْحُكْمِ لَا أَنَّهُ يَلْزَمُ خُلُوُّ الْوَصْفِ عن اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ وَذَهَابِهَا عنه فإن ذلك لَا يَكُونُ مُعَارِضًا وَاعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هو في اخْتِلَالِ الْمُنَاسِبِ الْمَصْلَحِيِّ بِمُعَارِضَةِ مِثْلِهِ أو أَرْجَحَ منه في الْمَفْسَدَةِ أَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فَمَمْنُوعٌ مِمَّنْ أَثْبَتَ اخْتِلَالَ الْمُنَاسَبَةِ وَأَمَّا من لم يُثْبِتْهُ تَصَرَّفَ في الْعَمَلِ بِهِ على ما سَبَقَ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا وَالْوَاجِبُ هَاهُنَا امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِهِ لِلُزُومِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ أو الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ فَيَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ في تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ لَكِنْ اخْتَلَفَا في الْمَأْخَذِ فَالْأَوَّلُ يَتْرُكُهُ لِاخْتِلَالِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ وَالْآخَرُ يَتْرُكُهُ لِمُعَارَضَةِ الْمُقَاوِمِ أو الرَّاجِحِ فَتَرْكُ الْعَمَلِ مُتَّفَقٌ عليه لَكِنَّ طَرِيقَهُ مُخْتَلِفٌ فيه كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ وقد حَقَّقَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فقال اعْلَمْ أَنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ مُغَايِرَةٌ لِلْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا فَإِنْ كان الْمُدَّعِي أَنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ الْمَصْلَحِيِّ تَبْطُلُ إذَا عَارَضَتْهَا مَفْسَدَةٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن ذَاتَ الْوَصْفِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا تَبْطُلُ بِالْمُعَارِضَةِ وَإِنْ كان الْمُدَّعِي أَنَّ مُنَاسَبَتَهُ تَبْطُلُ وَمَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ اقْتِضَاؤُهَا لِلْحُكْمِ وَاسْتِدْعَاؤُهَا له فَالْحَقُّ أنها تَبْطُلُ وَإِنْ شِئْت قُلْت الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمُنَاسَبَةِ يَسْتَدْعِي سَلَامَتَهَا عن الْمُعَارِضِ وَالْمَعْنَى بِالْمُنَاسَبَةِ على هذا كَوْنُ الْوَصْفِ مَصْلَحِيًّا وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَتَّجِهُ من الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَمَّا من قال بِتَخْصِيصِهَا فيقول بِبَقَاءِ الْمُنَاسَبَتَيْنِ أو اجْتِمَاعِ جِهَتَيْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا إنَّهَا تَبْطُلُ الْتَحَقَ الْوَصْفُ بِالطَّرْدِيَّاتِ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ إلَّا بِتَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ على الْمَفْسَدَةِ كَأَنْ يُقَالَ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مُضَافٌ إلَى الْمَصْلَحَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَهِيَ رَاجِحَةٌ على ما عَارَضَهَا من الْمَفْسَدَةِ وَإِلَّا لَزِمَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوحَةِ أو إلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا أو لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى شَيْءٍ أَصْلًا وَالْكُلُّ بَاطِلٌ وَإِنْ قُلْنَا لَا تَبْطُلُ بَقِيَ الْوَصْفُ على مُنَاسَبَتِهِ وَيَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ وَيَحْتَاجُ الْمُعَارِضُ إلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ له بِالِاعْتِبَارِ

الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَيُسَمِّيه الْمَنْطِقِيُّونَ الْقِيَاسُ الشَّرْطِيُّ الْمُنْفَصِلُ فَإِنْ لم يَكُنْ تَقْسِيمًا سَمُّوهُ بِالْمُتَّصِلِ وهو لُغَةً الِاخْتِبَارُ وَمِنْهُ الْمِيلُ الذي يُخْتَبَرُ بِهِ الْجُرْحُ الذي يُقَالُ له الْمِسْبَارُ وَسُمِّيَ هذا بِهِ لِأَنَّ الْمُنَاظِرَ في الْعِلَّةِ يَقْسِمُ الصِّفَاتِ وَيَخْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ منها في أَنَّهُ هل يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا وقد أُشِيرَ إلَيْهِ في قَوْله تَعَالَى ما اتَّخَذَ اللَّهُ من وَلَدٍ وما كان معه من إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وقَوْله تَعَالَى أَمْ خُلِقُوا من غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ فإن هذا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ خَلْقُهُمْ من غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ وَكَوْنُهُ يَخْلُقُونَ أَنْفُسَهُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَعُلِمَ أَنَّ لهم خَالِقًا خَلَقَهُمْ وهو سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هذه الصِّيغَةَ الْمُسْتَدَلُّ بها بِطَرِيقَةٍ بَدِيهِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا وفي قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِعُمَرَ في ابْنِ صَيَّادٍ إنْ يَكُنْ هو فَلَنْ تُسَلَّطَ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ هو فَلَا خَيْرَ لَك في قَتْلِهِ وهو قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدُورَ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وهو الْمُنْحَصِرُ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وهو الْمُنْتَشِرُ فَالْأَوَّلُ أَنْ يَحْصُرَ الْأَوْصَافَ التي يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بها لِلْمَقِيسِ عليه ثُمَّ اخْتِبَارُهَا وَإِبْطَالُ ما لَا يَصْلُحُ منها بِدَلِيلِهِ إمَّا بِكَوْنِهِ طَرْدًا أو مُلْغًى أو نَقْضِ الْوَصْفِ أو كَسْرِهِ أو خَفَائِهِ وَاضْطِرَابِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ وهو قَطْعِيٌّ لِإِفَادَةِ الْعِلَّةِ وَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ في الْقَطْعِيَّاتِ وَالظَّنِّيَّاتِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا الْعَالَمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أو حَادِثًا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَثَبَتَ أَنَّهُ حَادِثٌ وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ إمَّا أَنْ لَا تُعَلَّلَ أو تُعَلَّلَ بِالْبَكَارَةِ أو الصِّغَرِ أو الْأُبُوَّةِ أو غَيْرِهَا وَالْكُلُّ بَاطِلٌ سِوَى الثَّانِي فَالْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي قال الْهِنْدِيُّ وَحُصُولُ هذا الْقَسْمِ في الشَّرْعِيَّاتِ عَسِرٌ جِدًّا أَيْ على وَجْهِ التَّنْقِيبِ

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِمُنَاسِبٍ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ وَيَلْتَحِقُ بِهِ الطَّرْدِيُّ إذَا قام الْإِجْمَاعُ على أَصْلِ تَعْلِيلِهِ كما لو قام الْإِجْمَاعُ على تَعْلِيلِ حُكْمٍ بِأَحَدِ أَوْصَافٍ ثُمَّ قام الدَّلِيلُ على إبْطَالِهَا كُلِّهَا خَلَا وَاحِدًا فَيَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَإِنْ كان طَرْدِيًّا وَإِلَّا اخْتَلَفَ الْإِجْمَاعُ وهو مُلَخَّصُ ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ على أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَرْكِيبَ فيها كما في مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَأَمَّا في غَيْرِهَا فَلَا يَكْفِي فإنه وَإِنْ بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا من أَجْزَائِهَا وإذا انْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ صَارَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكْفِي في إبْطَالِ سَائِرِ الْأَقْسَامِ الِاسْتِدْلَال على أَنَّهُ ليس وَاحِدٌ منها عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بَلْ لَا بُدَّ من إبْطَالِ كَوْنِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً أو جُزْءًا من الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ حَاصِرًا لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَطَرِيقُهُ أَنْ يُوَافِقَهُ الْخَصْمُ على انْحِصَارِهَا فِيمَا ذَكَرَ أو يَعْجِزَ عن إظْهَارِ زَائِدٍ وَإِلَّا فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَقُولَ بَحَثْت عن الْأَوْصَافِ فلم أَجِدْ مَعْنًى سِوَى ما ذَكَرْته أو الْأَصْلُ عَدَمُ ما سِوَاهَا وَاكْتَفَوْا في حَصْرِ الْأَوْصَافِ بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ وَهَذَا إذَا كان أَهْلًا لِلْبَحْثِ وَنَازَعَ في ذلك بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فإن ذلك يَحْتَاجُ إلَى الِاطِّلَاعِ على جَمِيعِ النُّصُوصِ ثُمَّ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ وَهَذَا عَسِرٌ جِدًّا وقد يَكُونُ عِلْمُهُ قَلِيلًا وَفَهْمُهُ نَاقِصًا وَكَذَلِكَ قال الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ في نُكَتِهِ من الْفَاسِدِ قَوْلُ الْمُعَلِّلِ في جَوَابِ طَالِبِ الْحَصْرِ بَحَثْت وَسَبَرْت فلم أَجِدْ غير هذه الْأَشْيَاءِ فَإِنْ ظَفِرْت بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَأَبْرِزْهَا وَإِلَّا يَلْزَمُك ما يَلْزَمُنِي قال وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ سِبْرَهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِأَنَّ الدَّلِيلَ ما يُعْلَمُ بِهِ الْمَدْلُولُ وَمُحَالٌ أَنْ يَعْلَمَ طَالِبُ الْحَصْرِ الِانْحِصَارَ بِبَحْثِهِ وَنَظَرِهِ وَجَهْلُهُ لَا يُوجِبُ على خَصْمِهِ أَمْرًا وَاخْتَارَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ التَّفْصِيلَ بين الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ إنْ كان مُجْتَهِدًا رَجَعَ إلَى ما يَغْلِبُ على ظَنِّهِ وَإِنْ كان مُنَاظِرًا ولم يُسَاعِدْهُ الْخَصْمُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ إبْدَاءُ كَيْفِيَّةِ السَّبْرِ اخْتَلَفُوا فيه على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ دَرْءُ قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ تَقْسِيمٌ مُتَوَجِّهٌ لم يَذْكُرْهُ وأصحهما وَاخْتَارَهُ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ لَا بُدَّ من إبْدَاءِ كَيْفِيَّةِ السَّبْرِ لِيَكُونَ دَلِيلًا غير مُقْتَصَرٍ على مُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ لم يُبْحَثْ أو يُسْبِرْ أو هو غَرِيبٌ وَلَا أَنْ يَقُولَ بَقِيَ وَصْفٌ آخَرُ وَلَا أُبْرِزُهُ تَنْبِيهٌ لم يَحْكُوا خِلَافًا في هذا الْقِسْمِ وَرَأَيْت في كِتَابِ ابْنِ فُورَكٍ إذَا كانت في الْمَسْأَلَةِ عِلَلٌ فَفَسَدَتْ إلَّا وَاحِدَةٌ هل ذلك دَلِيلٌ على صِحَّتِهَا وَجْهَانِ الصَّحِيحُ

نعم إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ في وَاحِدٍ منها وَثَبَتَ أَنَّ ما عَدَاهَا فَاسِدٌ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ فيها أو لَا يَجُوزُ خُرُوجُ الْحَقِّ عن جَمَاعَتِهَا انْتَهَى الْقِسْمُ الثَّانِي وهو الْمُنْتَشِرُ بِأَنْ لَا يَدُورَ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أو دَارَ وَلَكِنْ كان الدَّلِيلُ على نَفْيِ عِلِّيَّةِ ما عَدَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ فيه ظَنًّا فَاخْتَلَفُوا فيه على مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا لَا في الْقَطْعِيَّاتِ وَلَا في الظَّنِّيَّاتِ وَحَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ الثَّانِي أَنَّهُ حُجَّةٌ في الْعَمَلِيَّاتِ فَقَطْ لِأَنَّهُ يُثِيرُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن بَرْهَانٍ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَمَثَّلَ ابن بَرْهَانٍ اسْتِعْمَالَهُ في الْقَطْعِيِّ هُنَا بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرَى لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يَرَى وفي الظَّنِّيِّ بِقَوْلِهِمْ الْإِيلَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا أو يَمِينًا فإذا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا ثَبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا وَلَهُ حُكْمٌ آخَرُ قُلْنَا نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ له في الشَّرْعِ حُكْمٌ آخَرُ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا وَلَكِنَّ الذي يَغْلِبُ على ظَنِّنَا هو هذا الْقَدْرُ وَالْمَقْصُودُ إظْهَارُ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَهِيَ حَاصِلَةٌ انْتَهَى وَالثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ دُونَ الْمُنَاظِرِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْأَسَالِيبِ بِقَيْدٍ تَضَمَّنَ إبْطَالَ مَذْهَبِ الْخَصْمِ دُونَ تَصْحِيحِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ إذْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ ما أَبْطَلْته بَاطِلٌ وما اخْتَرْته بَاطِلٌ وَالْحُكْمُ في الْأَصْلِ الذي وَقَعَ الْبَحْثُ فيه غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَصْلُحُ السَّبْرُ لِإِثْبَاتِ مَعْنَى الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ وَحَكَى الْقَاضِي ابن الْعَرَبِيِّ في الْقَبَسِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَعَزَاهُ لِلشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ قال وهو الصَّحِيحُ فَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ضِمْنًا وَتَصْرِيحًا في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَمِنْ الضِّمْنِ قَوْلُهُ وَقَالُوا ما في بُطُونِ هذه الْأَنْعَامِ إلَى قَوْلِهِ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَمِنْ التَّصْرِيحِ قَوْلُهُ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ إلَى قَوْلِهِ الظَّالِمِينَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هذا النَّوْعَ من الْمَسَالِكِ هو الْمَشْهُورُ وَنَازَعَ فيه جَمَاعَةٌ من الْمُتَأَخِّرِينَ منهم أبو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ في جَدَلِهِ فقال إنَّهُ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ لِأَنَّ الْوَصْفَ

الذي يَنْفِيه السَّبْرُ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ بِمُنَاسَبَتِهِ فَهُوَ التَّخْرِيجُ أو يَعْرُوَ عنها فَهُوَ الطَّرْدِيُّ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعَلِّلَ بِهِ أو لَا يَقْطَعَ بِوُجُودِهِ فيه وَلَا عَدَمِهَا فَهُوَ الشَّبَهُ فَلَا بُدَّ في الْعِلَّةِ من اعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ أو صَلَاحِيَّتِهَا لِذَلِكَ وَيَلْزَمُ منه ما ذَكَرْنَاهُ إلَّا أَنَّ التَّقْسِيمَ إذَا كان دَائِرًا بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَأُبْطِلَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مَثَلًا تَعَيَّنَ الْمَطْلُوبُ في الثَّانِي قَطْعًا كَقَوْلِنَا الْعَالَمُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِكَذَا فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فإن هذا وَنَحْوَهُ بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ وهو الْمُسَمَّى عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّ ب الشَّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ وقال في أُصُولِهِ أَكْثَرُ النُّظَّارِ عَدُّوا هذا الْمَسْلَكَ دَلِيلًا على التَّعْلِيلِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَذَلِكَ أَنَّ ما يَنْفِيه السَّبْرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الْمُنَاسَبَةِ وهو قِيَاسُ الْعِلَّةِ أو صَالِحًا لها وهو الشَّبَهُ فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ على التَّعْلِيلِ هُنَا هو الْمُنَاسَبَةُ غير أَنَّ السَّبْرَ عَيْنُ دَلِيلِ الْوَصْفِ فَالسَّبْرُ إذَنْ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ وَكَذَلِكَ في سَائِرِ الْمَسَالِكِ النَّظَرِيَّةِ فَلَيْسَ مَسْلَكًا بِنَفْسِهِ بَلْ هو شَرْطُ الْمَسَالِكِ النَّظَرِيَّةِ وقد حُكِيَ عن قَوْمٍ من الْأُصُولِيِّينَ في الدَّوَرَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِلَّةِ لَا تَثْبُتُ مع دَلِيلٍ عليها وهو يَتَمَشَّى مع ما ذَكَرْنَاهُ في السَّبْرِ وهو الصَّحِيحُ انْتَهَى وقد جَزَمَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى بِأَنَّهُ إذَا اسْتَقَامَ لم يَحْتَجْ إلَى مُنَاسَبَةٍ وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ الْعَبْدَرِيّ أَيْضًا لِاعْتِقَادِهِ بِأَنَّ السَّبْرَ ليس من مَسَائِلِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا هو خَادِمٌ لِلْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ أَيْ بِهِ يَتَقَيَّدُ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ السَّبْرُ يَرْجِعُ إلَى اخْتِبَارٍ في أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَضَبْطِهَا وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ ما يَظْهَرُ إبْطَالُهُ فيها فَإِذَنْ لَا يَكُونُ من الْأَدِلَّةِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الْأُصُولِيُّونَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّلِيلِ هو الذي دَلَّ على أَنَّ الْعِلَّةَ في جُمْلَةِ الْأَوْصَافِ وَالدَّلِيلُ الثَّانِي دَلَّ على التَّعْيِينِ وَإِلَّا فَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ ليس هو دَلِيلًا قال وَلَا بُدَّ فيه من ثَلَاثَةِ أُمُورٍ إحْدَاهَا أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمَطْلُوبُ في الْجُمْلَةِ وَثَانِيهَا سَبْرٌ خَاصٌّ وَثَالِثُهَا إبْطَالُ ما عَدَا الْمُخْتَارِ فَإِنْ كانت هذه مَعْلُومَةً حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْمَطْلُوبِ وَإِلَّا فَلَا بَلْ تَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ ثُمَّ إنْ كان الْمَوْضِعُ مِمَّا يُكْتَفَى فيه بِغَلَبَةِ الظَّنِّ اُكْتُفِيَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا قال وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فيه خِلَافٌ وَلَيْسَ كما قال وقال ابن الْمُنِيرِ في شَرْحِهِ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ السَّبْرَ إذَا دَارَ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَهُوَ التَّقْسِيمُ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ في الْعَقْلِيَّاتِ وَإِلَّا فَهُوَ السَّبْرُ وَلَيْسَ كما زَعَمَ بَلْ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ مُتَغَايِرَانِ مُتَلَازِمَانِ في الدَّلَالَةِ في الْعَقْلِيَّاتِ وفي الْفِقْهِيَّاتِ سَوَاءٌ دَارَتْ الْقِسْمَةُ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَمْ لَا فَالسَّبْرُ إذَنْ في الْعَقْلِيَّاتِ اخْتِبَارُ الْمُقَدَّرَاتِ لِيَنْظُرَ

أَيُّهَا الْحَقُّ وَالتَّقْسِيمُ أَنْ يَقْسِمَ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ بَيْنَهُمَا فَيَعْتَبِرَ ما هو الْعِلَّةُ وَيُلْغِي ما ليس بِعِلَّةٍ وقد بَانَ لَك بهذا أَنَّ الدَّلِيلَ ليس نَفْسَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ هو الذي أَوْجَبَ إضَافَةَ الْعِلِّيَّةِ إلَى الْعِلَّةِ وهو الْإِجْمَاعُ على أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ مع دَلِيلِ إلْغَاءِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ إلَّا الْمُبْقَى فَيَتَعَيَّنُ وَتَقْرِيرُ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ عِلَّةُ الِاسْتِقْرَاءِ من سِبْرِ الْأَوَّلِينَ فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا الْأَحْكَامَ بِجُمْلَتِهَا أو عَلَّلُوا أَكْثَرَهَا وَالْأَكْثَرِيَّةُ مُلْحَقَةٌ بِالْعُمُومِ وَحَكَمُوا بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَعْدُو أَوْصَافَ الْمَحَلِّ فَيَجِبُ إلْحَاقُ كل صُورَةٍ بِالْعَامِّ أو بِالْأَغْلَبِ وَتَقْرِيرُ إبْطَالِ ما عَدَا الْمُبْقَى يَكُونُ بِأَدِلَّةِ الْإِبْطَالِ كَبَيَانِ أَنَّ الْأَوْصَافَ طَرْدِيَّةٌ أو لَا مُنَاسَبَةَ فيها أو يقول بَحَثْت فلم تَظْهَرْ لي مُنَاسَبَةٌ قال وفي الِاكْتِفَاءِ بِالثَّانِي إشْكَالٌ فإن الْمُبْقَى لم تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهُ أَيْضًا وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ السَّبْرِ وَخُصُوصِيَّتُهُ وَكَبَيَانِ الْإِلْغَاءِ في الْأَوْصَافِ لِوُجُودِ الْحُكْمِ في غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِالْمُبْقَى مُنْفَرِدًا عن غَيْرِهِ من الْأَوْصَافِ فَيَنْدَفِعُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْقَى جُزْءَ عِلَّةٍ مع بَقِيَّةِ الْأَوْصَافِ قال وَمِنْ الْأَسْئِلَةِ الْعَاصِمَةِ لِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمُبْقَى لَا يَخْلُو في نَفْسِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا أو شَبَهًا أو طَرْدًا خَالِيًا لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَشْتَمِلَ على مَصْلَحَةٍ أو لَا فَإِنْ اشْتَمَلَ على مَصْلَحَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً لِلْفَهْمِ أو كُلِّيَّةً لَا تَنْضَبِطُ فَالْأَوَّلُ الْمُنَاسِبُ وَالثَّانِي الشَّبَهُ وَإِنْ لم يَشْتَمِلْ على مَصْلَحَةٍ أَصْلًا فَهُوَ الطَّرْدُ الْمَرْدُودُ فَإِنْ كان ثَمَّ مُنَاسَبَةٌ أو شَبَهٌ لَغَا السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ فَإِنْ كان عُرْيًا عن الْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا لم يَنْفَعْ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ أَيْضًا فَإِنْ قُلْت يَنْفَعُ في حَمْلِ النَّظَرِ في الْمُنَاسَبَةِ على الْمُجْتَهِدِ قُلْت لَا يُحْمَلُ ذلك عنه لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ عِنْدَنَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مَكْشُوفٌ حتى يُقَالَ إنَّهُ ذَوْقِيٌّ أو ضَرُورِيٌّ كَالْمَحْسُوسِ فَالْمُجْتَهِدُ إذًا يَعْلَمُهُ إذَا لم يَذُقْ فيه مَصْلَحَةً مُنْضَبِطَةً وَلَا غَيْرَهَا أَنَّهُ لَا مُنَاسِبَ وَلَا شَبَهَ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ طَرْدٌ التَّنْبِيهُ الثَّانِي نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ من أَقْوَى ما تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ وَاسْتَشْكَلَهُ وَوَجَّهَهُ الْإِبْيَارِيُّ بِأَنَّ مُثْبِتَ الْعِلَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ أو الشَّبَهِ يُكْتَفَى منه في النَّظَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُبْدِيَ الْخَصْمُ مُعَارِضًا رَاجِحًا وَأَمَّا إذَا أَسْنَدَ إلَى السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَقَدْ وَفَّى الْوَظِيفَةَ من أَوَّلِ الْأَمْرِ ولم يَبْقَ مُتَوَقِّعًا ظُهُورَ ما يَقْدَحُ أو يَضُرُّ وَنَازَعَهُ ابن الْمُنِيرِ وقال نَحْنُ نَدْفَعُ أَصْلَ كَوْنِهِ مَسْلَكًا فَضْلًا عن كَوْنِهِ مُتَمَيِّزًا وَقَوْلُهُ سَلَفٌ إبْطَالُ

الْمُعَارَضَاتِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ وَضَعَ النَّظَرَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذَا لم يَقْدِرْ على دَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ وَجَعَلَ ذلك كَافِيًا في التَّصْحِيحِ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ الذي ذَبَّ الْمُعَارِضَاتِ عنه وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْمُنَاسَبَاتِ فإنه وَجْهُ الدَّلِيلِ وَهِيَ الْمُعَارَضَاتُ بِالْأَصْلِ فَإِنَّا ما نُلْحِقُ بِهِ من اشْتَغَلَ بِدَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ وَقَنَعَ بِذَلِكَ دَلِيلًا التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ إنْ أَبْدَى الْمُعْتَرِضَ وَصْفًا زَائِدًا لم يُكَلَّفْ بِبَيَانِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّعْلِيلِ وَلَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ ذلك حتى يَعْجَزَ عن إبْطَالِهِ بَلْ له عَدَمُ اعْتِبَارِهِ بِطُرُقٍ أَحَدُهَا بَيَانُ بَقَاءِ الْحُكْمِ مع عَدَمِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ في بَعْضِ الصُّوَرِ كَقَوْلِنَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ كَالْحُرِّ فيقول الْحَنَفِيُّ الْعِلَّةُ ثَمَّ وَصْفٌ زَائِدٌ وهو الْحُرِّيَّةُ مَفْقُودٌ في الْعَبْدِ فيقول الْمُسْتَدِلُّ وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ مُلْغًى في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ له فإن أَمَانَهُ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ فَصَارَ وَصْفًا لَاغِيًا لَا تَأْثِيرَ له في الْحُكْمِ ثَانِيهَا أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ وَصْفًا طَرْدِيًّا وَلَوْ في ذلك الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا سَرَى الْعِتْقُ في الْأَمَةِ كَالْعَبْدِ بِجَامِعِ الرِّقِّ إذْ لَا عِلَّةَ غَيْرَهُ فَإِنْ قال في الْأَصْلِ وَصْفٌ زَائِدٌ وهو الذُّكُورَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلْكَسْبِ فَنَقُولُ هو وَصْفٌ لم يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ في بَابِ الْعِتْقِ وقد يَتَّفِقَانِ على إبْطَالِ ما عَدَا وَصْفَيْنِ فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ التَّرْدِيدُ بَيْنَهُمَا ثَالِثُهُمَا أَنْ لَا تَظْهَرَ مُنَاسَبَةُ الْمَحْذُوفِ وقد سَبَقَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ الْمُنَاظِرِ بَحَثْت فلم أَجِدْ مُنَاسَبَةً على أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ فَإِنْ ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُسْتَبْقَى كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ بَيَانُ مُنَاسَبَتِهِ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ وَلَكِنْ يُرَجَّحُ سَبْرُهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِتَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ على سِبْرِ الْمُعْتَرِضِ لِعَدَمِهَا فإن التَّعَدِّيَ أَوْلَى التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ قَسَّمَ إلْكِيَا السَّبْرَ إلَى ما يُسْتَعْمَلُ في الْقَطْعِيَّاتِ وهو الْمُفْضِي إلَى الْيَقِينِ بِأَنْ يَكُونَ حَاصِرًا يَقِينًا بِالدَّوْرِ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قال وهو الْمُلَقَّبُ ب بُرْهَانِ الْخَلْفِ وكان الْعَقْلُ دَالًّا على أَنَّ الْحَقَّ أَحَدُهُمَا فإذا بَانَ بُطْلَانُ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الثَّانِي لِلصِّحَّةِ فَقَدْ قام دَلِيلُ الثَّانِي على الْخُصُوصِ بِبُطْلَانِ ضِدِّهِ وَإِلَى ما يُسْتَعْمَلُ في الظَّنِّيَّاتِ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ حُكْمِهِ أو دَلِيلِهِ وَالْأَوَّلُ يَكْفِي فيه انْتِهَاءُ السَّبْرِ إلَى حَدِّ الظَّنِّ سَوَاءٌ كان في شَيْئَيْنِ أو أَشْيَاءَ لِأَنَّ الظَّنَّ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَلْ قد يَقَعُ بين شَيْئَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ كَقَوْلِنَا الْإِيلَاءُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجِبَ التَّوَقُّفَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أو الْبَيْنُونَةَ فلما قام الدَّلِيلُ على أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ دَلَّ على أَنَّهُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ إذْ لَا حُكْمَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ

طَرِيقُ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا بَيِّنٌ وَمَسْأَلَةُ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ على قَوْلَيْنِ تَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْرُجُ عنهما فإذا بَطَلَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ وَالثَّانِي ما عُلِمَ أَنَّ بُطْلَانَ دَلِيلِ الْحُكْمِ دَلِيلٌ على صِحَّةِ الْعِلَلِ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ على كَوْنِهِ مُعَلَّلًا ثُمَّ يَسْبُرُ ما عَدَا الْعِلَّةِ التي يَذْهَبُ إلَيْهَا وَيُبْطِلُهُ فَتَصِحُّ عِلَّتُهُ وَعِنْدَ ذلك لَا يُشْتَرَطُ الدَّلِيلُ عليه بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْوَصْفِ وَقِيلَ إذَا لم يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا بُدَّ من النَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ فَعَسَاهَا تُبْطِلُ هذا فَيَنْظُرُ في غَيْرِهَا وَهَذَا بَعِيدٌ فإن السَّبْرَ لَا يُفِيدُ على هذا التَّقْدِيرِ وَمَقْصُودُنَا أَنَّ الظَّنَّ يَحْصُلُ عِنْدَ ذلك بِمُجَرَّدِ السَّبْرِ وإذا بَطَلَ ذلك فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هذا يَعْسُرُ وُجُودُهُ وَلَا بُعْدَ عِنْدَنَا في تَقْدِيرِهِ فإن الْعُلَمَاءَ يَتَّفِقُونَ على تَعْلِيلِ الرِّبَا وإذا ثَبَتَ سُبُرًا غير الطُّعْمِ وَالْكَيْلِ ثَبَتَ ما بَقِيَ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ السَّبْرُ بِالْبَحْثِ وَعَدَمِ الْعُثُورِ يَدْخُلُ في جَمِيعِ الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَلَا خُصُوصَ له بِمَا نَحْنُ فيه مَسْأَلَةٌ قال ابن الْقَطَّانِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا كان في الْمَسْأَلَةِ عِلَلٌ فَفَسَدَتْ جَمِيعُهَا إلَّا وَاحِدَةً هل يَكُونُ فَسَادُهَا دَلِيلًا على صِحَّةِ هذه فَقِيلَ لَا حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على صِحَّتِهَا وَقِيلَ نعم لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ من أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَلِ صَحِيحَةً فإذا بَطَلَ ما عَدَاهَا وقد عَلِمْنَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عنها ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ صَحِيحَةٌ وَنَصَرَهُ ابن الْقَطَّانِ مَسْأَلَةٌ يَلْتَحِقُ بِالسَّبْرِ قَوْلُهُمْ حُكْمٌ حَادِثٌ فَلَا بُدَّ له من سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَا حَادِثَ إلَّا هذا فَيَتَعَيَّنُ إسْنَادُهُ وهو مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْأَصْلُ في كل حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ إلَّا أَنَّ فِيمَا سَبَقَ سَبْرًا في جَمِيعِ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَهَذَا في الْأَوْصَافِ الْحَادِثَةِ خَاصَّةً وقد قِيلَ على هذه الطَّرِيقَةِ لَا يَلْزَمُ من أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حَادِثًا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ حَادِثًا بَلْ قد يَكُونُ الْحُكْمُ حَادِثًا وَسَبَبُهُ مُتَقَدِّمًا كَإِبَاحَةِ الْوَطْءِ في الزَّوْجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ وَانْقِطَاعِهِ فإنه يَسْتَنِدُ إلَى عَقْدِ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ وَكَذَا تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ مُسْتَنِدٌ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ فَالسِّرُّ فيه أَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَنْتَفِي لِانْتِقَاءِ الْمُقْتَضَى

بِكَمَالِهِ أو لِانْتِفَاءِ جُزْءٍ من أَجْزَائِهِ وَتَارَةً يَنْتَفِي لِفَوَاتِ شَرْطٍ أو وُجُودِ مَانِعٍ فإذا كان انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضَى بِحَالِهِ فَحُدُوثُ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ إلَّا لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وإذا كان الِانْتِفَاءُ لِغَيْرِ ذلك فَحُدُوثُ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ لِحُدُوثِ سَبَبِهِ بَلْ يَكُونُ لِحُدُوثِ جُزْءِ السَّبَبِ أو لِحُدُوثِ الشَّرْطِ أو لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَجَوَابُهُ أَنَّا لو قَدَّرْنَا حُدُوثَ الْحُكْمِ مع تَقَدُّمِ سَبَبِهِ كان ذلك على خِلَافِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُقَدَّرَ أَنَّ ثُبُوتَ السَّبَبِ يَلْزَمُ منه ثُبُوتُ الْحُكْمِ وَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ السَّبَبِ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ وَيُسَمِّيه بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الِاسْتِدْلَال بِالشَّيْءِ على مِثْلِهِ وهو عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ إذْ الشَّبَهُ يُطْلَقُ على جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ لَا بُدَّ فيه من كَوْنِ الْفَرْعِ شَبِيهًا بِالْأَصْلِ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اصْطَلَحُوا على تَخْصِيصِ هذا الِاسْمِ بِنَوْعٍ من الْأَقْيِسَةِ وهو من أَهَمِّ ما يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرْدِ وَلِهَذَا قال الْإِبْيَارِيُّ لَسْت أَرَى في مَسَائِلِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةً أَغْمَضَ من هذه وَفِيهِ مَقَامَانِ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ في تَعْرِيفِهِ وقد اخْتَلَفُوا فقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ وَالصَّحِيحُ إمْكَانُهُ وَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ هو الْجَمْعُ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ على الْحِكْمَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْحُكْمِ من غَيْرِ تَعْيِينٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ في النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ قال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي قال فَفِي الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ تَعْيِينُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ الْمُنَاسِبِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ وفي قِيَاسِ الشَّبَهِ لَا تَعْيِينَ بَلْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَصْفٍ يُوهِمُ الْمُنَاسِبَ وَأَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ الطَّرْدِ وهو السَّلَامَةُ عن النَّقْضِ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ في الْمُسْتَصْفَى الشَّبَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ على الطَّرْدِ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنْ لم يُنَاسِبْ الْحُكْمَ بِأَنْ يُقَرِّرَ بِأَنَّ لِلَّهِ في كل حُكْمٍ سِرًّا وهو مَصْلَحَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ لم نَطَّلِعْ على عَيْنِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ نَطَّلِعُ على وَصْفٍ يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ على تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ قال وَإِنْ لم يُرِيدُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هذا فَلَا أَدْرِي ما أَرَادُوا بِهِ وَبِمَاذَا فَصَلُوهُ من الطَّرْدِ الْمَحْضِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّبَهَيَّ وَالطَّرْدِيَّ يَجْتَمِعَانِ في عَدَمِ الظُّهُورِ الْمُنَاسِبِ وَيَتَخَالَفَانِ

في أَنَّ الطَّرْدِيَّ عُهِدَ من الشَّارِعِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ وَسُمِّيَ شَبَهًا لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْوُقُوفِ على الْمُنَاسَبَةِ يَجْزِمُ الْمُجْتَهِدُ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ وَمِنْ حَيْثُ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ له في بَعْضُ الصُّوَرِ يُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ فَهُوَ بين الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَتَعَذَّرُ حَدُّ الشَّبَهِ بِأَنْ يَقُولَ هو يُقَرِّبُ الْأَصْلَ من الْفَرْعِ وَيَمْتَازُ عن الطَّرْدِ أَنَّهُ يَغْلِبُ على الظَّنِّ الِاشْتِرَاكُ في الْحِكْمَةِ وَالطَّرْدُ لَا يَغْلِبُهُ على الظَّنِّ وَمِنْ خَوَاصِّ الطَّرْدِ أَنَّهُ يُعَلِّقُ نَقِيضَ الْحُكْمِ عليه بِقَوْلِهِ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَيُقَالُ طَهَارَةٌ ما تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من مَقِيسٍ عليه وهو التَّيَمُّمُ وَقَوْلُهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ ليس بِجَامِعٍ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَصْلُهُ كَلَامُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ فإنه فَسَّرَ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ الْمُورَدِ على بَعْضِ تَعْرِيفَاتِ الْقِيَاسِ وهو الْجَمْعُ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِمَا لَا يُنَاسِبُ وَلَكِنْ يَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ فَيُقَالُ إنَّهُ الْوَصْفُ الْمُقَارِنُ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ له بِالتَّبَعِ وَبِالِالْتِزَامِ دُونَ الذَّاتِ كَالطَّهَارَةِ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فإن الطَّهَارَةَ من حَيْثُ هِيَ لَا تُنَاسِبُ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لَكِنْ تُنَاسِبُهَا من حَيْثُ إنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ مُنَاسَبَةٌ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ أَمَّا ما يُنَاسِبُ بِالذَّاتِ فَهُوَ الْمُنَاسِبُ أو لَا يُنَاسِبُ مُطْلَقًا فَهُوَ الطَّرْدِيُّ فَالشَّبَهُ حِينَئِذٍ مَنْزِلَةٌ بين الْمُنَاسَبَةِ وَالطَّرْدِيِّ فَلِهَذَا سُمِّيَ شَبَهًا هَكَذَا قال الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ عن الْقَاضِي أَنَّهُ ما يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ على وَصْفٍ مُخَيِّلٍ ثُمَّ قال وَفِيهِ نَظَرٌ من جِهَةِ أَنَّ الْخَصْمَ قد يُنَازِعُ في إيهَامِ الِاشْتِمَالِ على مُخَيِّلٍ إمَّا حَقًّا أو عِنَادًا وَلَا يُمْكِنُ التَّقْرِيرُ عليه وقال بَعْدَ ذلك إنَّ ما اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ هو خُلَاصَةُ كَلَامِ الْقَاضِي حَيْثُ قال هو الذي يُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ في مَحَلٍّ قُلْت وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ في الشِّفَاءِ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ فيه وَاَلَّذِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ من كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ هو إلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِكَثْرَةِ إشْبَاهِهِ بِالْأَصْلِ في الْأَوْصَافِ من غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَوْصَافَ التي شَابَهَ الْفَرْعُ بها الْأَصْلَ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ وَقِيلَ الشَّبَهُ هو الذي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ وَلَكِنْ عُرِفَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ في الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ في ذلك الْحُكْمِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ له فَيَظُنُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ في ذلك الْحُكْمِ لِتَأْثِيرِ جِنْسِهِ في جِنْسِ ذلك الْحُكْمِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ كَإِيجَابِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ فإنه لَا يُنَاسِبُ وُجُوبَهُ لِأَنَّهُ في مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ إلَّا أَنَّ جِنْسَ هذا الْوَصْفِ وهو كَوْنُ الْخَلْوَةِ مَظِنَّةُ الْوَطْءِ يُعْتَبَرُ في جِنْسِ الْوُجُوبِ وهو الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ

وَقِيلَ هو الذي لَا تَثْبُتُ مُنَاسَبَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَجَعَلَهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مُفَرَّعًا على أَنَّ الشَّبَهَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالْعِلِّيَّةِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى مَسْلَكٍ آخَرَ وَأَحْسَنَ ابن السَّمْعَانِيِّ فقال قِيَاسُ الْمَعْنَى تَحْقِيقٌ وَالشَّبَهُ تَقْرِيبٌ وَالطَّرْدُ تَحَكُّمٌ ثُمَّ قال قِيَاسُ الْمَعْنَى ما يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَسْتَدْعِيه وَيُؤَثِّرُ فيه وَالطَّرْدُ عَكْسُهُ وَالشَّبَهُ أَنْ يَكُونَ فَرْعٌ يُحَاذِيهِ أَصْلَانِ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِنَوْعٍ شَبَهٌ مُقَرَّبٍ أَيْ يَقْرُبُ الْفَرْعُ من الْأَصْلِ في الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ الْمَعْنَى انْتَهَى وَقِيلَ هو الذي يُلَائِمُ الْأَوْصَافَ التي عُهِدَ من الشَّارِعِ إنَاطَةُ الْحُكْمِ بها وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّ النَّاظِرَ إذَا فَقَدَ الْمَعْنَى نَظَرَ في الْأَشْبَاهِ وهو أَوْسَعُ الْأَبْوَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّبَهَ يَنْقَدِحُ عِنْدَ إمْكَانِ الْمَعْنَى وَعِنْدَ عَدَمِ فَهْمِهِ وَلَا يَتَحَتَّمُ الْأَشْبَاهُ في التَّعَبُّدَاتِ الْجَامِدَةِ وَفَرَّقَ بين الشَّبَهِ وَالطَّرْدِ بِأَنَّ الطَّرْدَ نِسْبَةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَنَفْيِهِ على السَّوَاءِ وَالشَّبَهُ نِسْبَةُ الثُّبُوتِ مُتَرَجِّحَةٌ على النَّفْيِ فَافْتَرَقَا وقال ابن الْمُنِيرِ اضْطَرَبَ رَأْيُ الْإِمَامِ في حَدِّهِ فقال مَرَّةً هو الْمُشِيرُ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ لَا يَتَحَرَّرُ التَّعْبِيرُ عنه وقال مَرَّةً هو الذي يُنَاسِبُ تَشَابُهَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في أَيِّ حُكْمٍ كان لَا في حُكْمٍ مُعَيَّنٍ حتى لو نَسَبْنَا وُجُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ إلَيْهِ لَكَانَ على حَدِّ نِسْبَةِ عَدَمِهِ إلَيْهِ وقال ابن رَحَّالٍ فَسَّرَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ بِمَا لَا تَثْبُتُ نِسْبَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عنه وَقِيلَ ما يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ من غَيْرِ تَحْقِيقٍ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وقال الْقَاضِي ما يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ في مُخَيَّلٍ وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَلْيَقُ بِالْمَظِنَّةِ لَا بِالشَّبَهِ لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ في نَفْسِهِ وقال الْقُرْطُبِيُّ في أُصُولِهِ قد تَسَامَحَ عُلَمَاؤُنَا في جَعْلِ الشَّبَهِ من مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فإن الْبَحْثَ فيه نَظَرٌ في تَيَقُّنِ الْعِلَّةِ لَا في ذَاتِهَا وَكَذَلِكَ نَفْيُ الْفَارِقِ وقد اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فيه وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى عِبَارَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ هو الذي يَكُونُ الْفَرْعُ فيه دَائِرًا بين أَصْلَيْنِ فَأَكْثَرَ لِتَعَارُضِ الْأَشْيَاءِ فيه فَيَلْحَقُ بِأَوْلَاهَا كَالْعَبْدِ الْمُتْلَفِ فإنه آدَمِيٌّ وَمَالٌ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ لَكِنْ هل تُؤْخَذُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَلَوْ زَادَتْ على دِيَةِ الْحُرِّ وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمَالِيَّةِ أو لَا تُؤْخَذُ قِيمَةٌ زِيَادَةٌ على دِيَةِ الْحُرِّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْآدَمِيَّةِ وهو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ وَسَمَّى الشَّافِعِيُّ هذا قِيَاسَ غَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ قال وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِاسْمِ الشَّبَهِ لِأَنَّهُ قِيَاسُ عِلَّةِ مُنَاسِبٍ غَيْرِ أَنَّهُ تَعَارَضَ فيه الْعِلَلُ فَهُوَ من بَابِ الْمُعَارَضَةِ في

الْفَرْعِ وَلَا خِلَافَ في هذا بَعْدُ وَلَا مُشَاحَّةَ في الِاسْمِ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى الثَّانِيَةُ أَنَّهُ الْوَصْفُ الذي يَظُنُّ بِهِ صَلَاحِيَّتَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ من جِهَةِ ذَاتِهِ فَخَرَجَ منه الْمُنَاسِبُ بِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمُنَاسَبَةِ وَالطَّرْدِيُّ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ نَفْيِهَا وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا من جِهَةِ ذَاتِهِ عن الْمَظِنَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُنَاسِبُ بِذَاتِهَا بَلْ ما اشْتَمَلَتْ عليه وَهَذَا مَعْنَى ما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَجَرَى عليه الْجُمْهُورُ وهو الْمَفْهُومُ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْوُضُوءِ طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ يَعْنِي في نَفْيِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لَكِنَّا إذَا تَأَمَّلْنَا وَجَدْنَا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً من دُونِ الْعِلَلِ ما لَا نَجِدُ من قَوْلِ الْحَنَفِيِّ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ حُكْمِيَّةٌ يَصْلُحُ لِلْمُنَاسَبَةِ ولم يَنْكَشِفْ لنا ولم نَقْدِرْ على الْقَطْعِ بِكَوْنِهِ عَرِيًّا عنها وَلَيْسَ كَذَلِكَ طَهَارَةٌ ما فإنه لَا مُنَاسِبٌ وَلَا صَالِحٌ وَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ طَهَارَةٌ مُوجِبُهَا في غَيْرِ مَحَلِّ مُوجِبِهَا فَشَرَطَ فيها النِّيَّةَ كَالتَّيَمُّمِ وَهَذَا أَصَحُّ ما قِيلَ في الشَّبَهِ انْتَهَى هذا ما يَتَعَلَّقُ بِتَعْرِيفِهِ الْمَقَامُ الثَّانِي في حُكْمِهِ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مع إمْكَانِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ بِالْإِجْمَاعِ كما ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فيه إذَا تَعَذَّرَتْ وقد اخْتَلَفُوا فيه على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ حُجَّةً وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عن أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِهِمْ وقال شَارِحُ الْعُنْوَانِ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وقال في الْقَوَاطِعِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وقد أَشَارَ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ في مَوَاضِعَ من كُتُبِهِ منها قَوْلُهُ في إيجَابِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ كَالتَّيَمُّمِ طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ وَتَابَعَهُ على ذلك أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ وقال الشَّافِعِيُّ في أَوَاخِرِ الْأُمِّ في بَابِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ في مَعْنَى الْأَصْلِ فَذَاكَ الذي لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافًا وَالثَّانِي أَنْ يُشْبِهَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ من أَصْلٍ وَيُشْبِهَ من أَصْلٍ غَيْرِهِ ثُمَّ قال وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ عِنْدَنَا في ذلك أَنْ يَنْظُرَ فَأَيُّهُمَا كان أَوْلَى بِشَبَهِهِ صِيرَ إلَيْهِ فَإِنْ اشْتَبَهَ أَحَدُهُمَا في خَصْلَتَيْنِ وَالْآخَرُ في خَصْلَةٍ أَلْحَقَهُ بِاَلَّذِي أَشْبَهَ في خَصْلَتَيْنِ انْتَهَى حَكَى هذا النَّصَّ الْأَصْحَابُ في كُتُبِهِمْ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك فقال بَعْضُهُمْ إنَّ قَوْلَهُ هذا يَدُلُّ على أَنَّهُ حُكْمٌ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ من غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهَا عِلَّةً لِحُكْمٍ وقال بَعْضُهُمْ إنَّمَا حُكِمَ بِتَرْجِيحِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ في الْفَرْعِ

بِكَثْرَةِ الشَّبَهِ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَمَوْضِعُ الصَّوَابِ إلَى آخِرِهِ يُرِيدُ إذَا كانت كُلُّ خَصْلَةٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا مُسْتَغْنِيَةً عن صَاحِبَتِهَا مِثْلَ الْأَخِ يَتَرَدَّدُ بين أَنْ يَكُونَ كَالْأَبِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَابْنِ الْعَمِّ وهو يُشْبِهُ الْأَبَ من وَجْهٍ وهو مَحْرَمٌ له بِالْقَرَابَةِ وَيُشْبِهُ ابْنَ الْعَمِّ من وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ من قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَسُقُوطِ النَّفَقَةِ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ من الطَّرَفَيْنِ مَعَهُمَا وَجَرَيَانِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِلْحَاقُهُ بِابْنِ الْعَمِّ حتى لَا يُعْتَقَ عليه إذَا مَلَكَهُ أَوْلَى وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ عن الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ الْقَوْلَ بِالشَّبَهِ بِطَرِيقِ تَمَسُّكِهِمْ بِهِ قال في الْمُسْتَصْفَى وَلَعَلَّ أَكْثَرَ أَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ قِيَاسُ الشَّبَهِ قال وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ فإنه يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ في مُنَاسِبٍ وهو مَأْخَذُ الشَّبَهِ وَإِنْ لم يَطَّلِعْ على ذلك الْمُنَاسِبِ وَقَوْلُ أبي حَنِيفَةَ مَسْحُ الرَّأْسِ لَا يَتَكَرَّرُ وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ لَا يَتَكَرَّرُ قِيَاسًا على الْخُفِّ وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي قِيَاسُ الشَّبَهِ عِنْدَنَا حُجَّةٌ فإن الْقِيَاسَ الْمَعْنَوِيَّ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً لِأَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَالشَّبَهُ يُفِيدُهَا أَيْضًا وَمَنْ أَنْكَرَهَا في الشَّبَهِ كان مُنْكَرُهَا في قِيَاسِ الْمَعْنَى انْتَهَى وقد أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ نِسْبَةَ الْقَوْلِ بِالشَّبَهِ إلَى الشَّافِعِيِّ منهم أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَنُقِلَ عنه أَنَّهُ قال ليس بِحُجَّةٍ كما حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالشَّبَهِ عن الشَّافِعِيِّ مع عُلُوِّ رُتْبَتِهِ في الْأُصُولِ وَكَذَلِكَ قال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ مُتَأَوَّلٌ مَحْمُولٌ على قِيَاسِ الْعِلَّةِ فإنه يُرَجِّحُ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ وَيَجُوزُ تَرْجِيحُ الْعِلَلِ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ قُلْت وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّسَالَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَرَّمَ الشَّيْءَ مَنْصُوصًا أو أَحَلَّ لِمَعْنًى فإذا وَجَدْنَا ذلك الْمَعْنَى فِيمَا لم يَنُصَّ فيه بِعَيْنِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ أَحْلَلْنَاهُ أو حَرَّمْنَاهُ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أو تَجِدُ الشَّيْءَ يُشْبِهُ منه الشَّيْءَ من غَيْرِهِ وَلَا نَجِدُ شيئا أَقْرَبَ منه شَبَهًا من أَحَدِهِمَا فَنُلْحِقُهُ بِأَوْلَى الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ كما قُلْنَا في الصَّيْدِ انْتَهَى وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْقِيَاسُ على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ في مَعْنَى الْأَصْلِ وَلَا يَخْتَلِفُ الْقِيَاسُ فيه وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ له الْأُصُولُ أَشْبَاهًا بِذَلِكَ فَيُلْتَحَقُ بِأَوْلَاهَا بِهِ وَأَكْثَرِهَا شَبَهًا بِهِ وقد يَخْتَلِفُ الْقَائِسُونَ في هذا انْتَهَى الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَبِهِ قال أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ من ادَّعَى التَّحْقِيقَ منهم وَصَارَ إلَيْهِ أبو زَيْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ وَذَهَبَ إلَيْهِ أَيْضًا أبو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ انْتَهَى وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالشِّيرَازِيُّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ كما نُقِلَ في الْبَحْرِ وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي ابن الْبَاقِلَّانِيِّ

لَكِنْ هو عِنْدَ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ صَالِحٌ لَأَنْ يُرَجَّحَ بِهِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في بَابِ تَرْجِيحِ الْعِلَلِ من كِتَابِ التَّقْرِيبِ وقال إلْكِيَا وَرُبَّمَا تَرَدَّدَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في تَصَانِيفِهِ في إبْطَالِ الشَّبَهِ فقال إنْ لم يُبَيِّنْ مُسْتَنَدَ ظَنِّهِ كان مُتَحَكِّمًا وَإِنْ بَيَّنَ كان مُخَيِّلًا وَرُبَّمَا قال الْإِشْبَاهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ قال وقد بَيَّنَّا تَصَوُّرَهَا لَا على هذا الْوَجْهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّتِهِ في أَنَّهُ بِمَاذَا يُعْتَبَرُ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا اعْتِبَارُهُ مُطْلَقًا وَالثَّانِي بِشَرْطِ ذَهَابِ الصُّورَةِ إلَى الْحُكْمِ في وَاقِعَةٍ لَا يُوجَدُ منها إلَّا الْوَصْفُ الشَّبَهِيُّ وَالثَّالِثُ بِشَرْطِ أَنْ يَجْتَذِبَ الْفَرْعَ أَصْلَانِ وَلَيْسَ أَصْلٌ سِوَاهُمَا فَيُلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ حَكَاهُ الْقَاضِي وهو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ وَالرَّابِعُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْحُكْمِ عِلَّةٌ بِعَيْنِهِ وَإِلَّا كان الرُّجُوعُ إلَيْهَا أَوْلَى من الرُّجُوعِ إلَى أَشْبَاهٍ وَصِفَاتٍ لم يَتَعَيَّنْ كَوْنُهَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ حَكَاهُ الْقَاضِي وقال إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الذي قَبْلَهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في الْأَشْبَاهِ التي يَغْلِبُ بها على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْمُعْتَبَرُ الْمُشَابَهَةُ في الْحُكْمِ فَقَطْ دُونَ الصُّورَةِ وَحَكَاهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عن الشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا أَلْحَقَ الْعَبْدَ الْمَقْتُولَ بِسَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ في لُزُومِ قِيمَتِهِ على الْقَاتِلِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَصْحَابِنَا كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ مَرْدُودٌ إلَى النِّكَاحِ في شَرْطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ بِشُبْهَةٍ بِالْوَطْءِ في النِّكَاحِ في الْأَحْكَامِ وَالثَّانِي اعْتِبَارُ الْمُشَابَهَةِ في الصُّورَةِ كَقِيَاسِ الْخَيْلِ على الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَسُقُوطِ الزَّكَاةِ بِصُورَةِ شَبَهٍ أو كَقِيَاسِ الْخَيْلِ على الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ في حُرْمَةِ اللَّحْمِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِهِمْ مُعْتَلًّا بِوُجُودِ الشَّبَهِ قال وإذا جَازَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ بِصِفَةٍ من ذَاتِهِ جَازَ تَعْلِيلُهُ بِصِفَةٍ من صِفَاتِهِ وَلِأَنَّ الْعِلَلَ أَمَارَاتٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ في الصُّورَةِ أَمَارَةً على الْحُكْمِ كما يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ في الْمَعْنَى أو في الْحُكْمِ أَمَارَةً على الْحُكْمِ قال وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ إنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّ مُجَرَّدَ الشَّبَهِ في الصُّورَةِ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ ما كان لها تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ وَلَيْسَ هو مِمَّا يُفِيدُ قُوَّةً في الظَّنِّ حتى يُوجِبَ حُكْمًا انْتَهَى

وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ ذَهَبَ قَوْمٌ من أَهْلِ الْبِدَعِ إلَى اعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ في الصُّورَةِ وهو قَوْلُ الْأَصَمِّ وَلِهَذَا زَعَمَ أَنَّ تَرْكَ الْجِلْسَةِ الْأَخِيرَةِ من الصَّلَاةِ لَا يَضُرُّ كَالْجِلْسَةِ الْأُولَى وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَهَذَا ما نَقَلَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ عن أبي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا في إلْحَاقِهِ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي في الْوُجُوبِ وَاخْتَارَ إلْكِيَا اعْتِبَارَ الشَّبَهِ في الصُّورَةِ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ على اعْتِبَارِهِ كَالْمُعْتَبَرِ في جَزَاءِ الصَّيْدِ قال وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَنْوَاعِ إذْ لَا يُعْرَفُ له نَظِيرٌ قال وَأَمَّا الشَّبَهُ في الْحُكْمِ وهو دَلَالَةُ الْحُكْمِ على الْحُكْمِ فَقَطْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْعَبْدُ أَشْبَهُ بِالْحُرِّ في الْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ لِلْحُرْمَةِ وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ مِثْلُهُ فَإِنْ أَوْجَبَ لِاحْتِرَامِ الْمَحَلِّ وَالشَّبَهِ في الْمَقْصُودِ كَاعْتِبَارِ خِيَارِ الشَّرْطِ بِخِيَارِ الْعَيْبِ إذَا ثَبَتَ اسْتِوَاؤُهُمَا في الْمَقْصُودِ وهو دَفْعُ الْغَبَنِ فَمُعْتَبَرَانِ وَاعْلَمْ أَنْ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ في مَوَاضِعَ منها إلْحَاقُ الْهِرَّةِ الْوَحْشِيَّةِ بِالْإِنْسِيَّةِ على الصَّحِيحِ دُونَ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ لِاخْتِلَافِ أَلْوَانِ الْوَحْشِيَّةِ كَالْأَهْلِيَّةِ بِخِلَافِ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ فَإِنَّهَا أَلْوَانُهَا مُتَّحِدَةٌ دُونَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فإن أَلْوَانَهَا مُخْتَلِفَةٌ ومنها حَيَوَانَاتُ الْبَحْرِ الصَّحِيحُ حِلُّ أَكْلِهَا مُطْلَقًا وَقِيلَ ما أُكِلَ شَبَهَهُ من الْبَرِّ أُكِلَ شَبَهَهُ من الْبَحْرِ فَصَاحِبُ هذا الْوَجْهِ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ الصُّورِيَّ وَعَلَى هذا فقال الْبَغَوِيّ وابن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا حِمَارُ الْبَحْرِ لَا يُؤْكَلُ فَأَلْحَقُوهُ بِشَبَهِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ دُونَ الْوَحْشِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ فإنه لَا نِزَاعَ في أَنَّ الْأَصْلَ في حَيَوَانِ الْبَحْرِ الْحِلُّ وَمِنْهَا جَزَاءُ الصَّيْدِ كَإِيجَابِ الْبَقَرَةِ الْإِنْسِيَّةِ في الْوَحْشِيَّةِ ومنها إقْرَاضُ الْحَيَوَانِ فَفِي رَدِّ بَدَلِهِ وَجْهَانِ أَشْبَهَهُمَا بِالْحَدِيثِ الْمِثْلُ وَالْقِيَاسُ الْقِيمَةُ ومنها السُّلْتُ وهو يُشَابِهُ الْحِنْطَةَ في صُورَتِهِ الشَّعِيرَ بِطَبْعِهِ فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْحِنْطَةِ أو الشَّعِيرِ أو هو جِنْسٌ مُسْتَقِلٌّ أَوْجُهٌ ومنها إذَا كان الرِّبَوِيُّ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَيُعْتَبَرُ بِأَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ على أَحَدِ الْأَوْجُهِ وَقِسْ على هذا نَظَائِرُهُ وَالثَّالِثُ اعْتِبَارُهُ في الْحُكْمِ ثُمَّ الْأَشْبَاهِ الرَّاجِعَةِ إلَى الصُّورَةِ وَالرَّابِعُ اعْتِبَارُهُ فيها على حَدٍّ سَوَاءٌ حَكَاهُ الْقَاضِي وَالْخَامِسُ اعْتِبَارُ حُصُولِ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ أو عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَمَتَى كان كَذَلِكَ صَحَّ الْقِيَاسُ سَوَاءٌ كانت

الْمُشَابَهَةُ في الصُّورَةِ أو الْمَعْنَى وهو قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَحَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ قال وكان يُنْكِرُ الْقِيَاسَ على شَبَهٍ لم يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ إمَّا تَعَيُّنًا لَا احْتِمَالَ فيه وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ أو تَعَيُّنًا ظَاهِرًا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ غَيْرَهُ قال وَكَذَلِكَ كان يقول أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبْطَلَ الْقِيَاسَ على غَيْرِ عِلَّةٍ وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْقَفَّالَ قال بِالْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ وَزَعَمَ أَنَّ الْأَشْبَاهَ تُنَظِّمُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ وَإِنْ لم تَكُنْ أَوْصَافَ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا عِلَّةُ حُكْمِ الْفَرْعِ لِأَنَّ ما زَادَ عليها في حُكْمِ الْمَعْدُومِ وَشَبَّهَ ذلك بِغَلَبَةِ الْمَاءِ على الْمَائِعِ الطَّاهِرِ أو النَّجَسِ فَجَعَلَ ما اخْتَلَطَ وَغَلَبَ عليه في حُكْمِ الْمَعْدُومِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ منه بِأَنَّهُ يُحْكَمُ في الْفَرْعِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لِمُشَارَكَتِهِ فِيمَا ليس بِعِلَّةٍ لِلْحُكْمِ في الْأَصْلِ وهو عَجِيبٌ إذْ كَيْفَ يَجِبُ رَدُّ الْفَرْعِ على الْأَصْلِ فِيمَا ليس عِلَّةً فيه وَالسَّادِسُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ أَشْبَهَ بِهِ منه وهو قَوْلُ الْقَاضِي أبي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ في أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إنْ تَمَسَّك بِهِ النَّاظِرُ أَيْ الْمُجْتَهِدُ كان حُجَّةً في حَقِّهِ إنْ حَصَلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَإِلَّا فَلَا أَمَّا الْمَنَاظِرُ فَيُقْبَلُ منه مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ في الْمُسْتَصْفَى وقد نَصَّ في الْقَوَاطِعِ الْقَوْلُ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وقال لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مُعَانِدٌ ثُمَّ قال وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْثِيرَ لَا بُدَّ منه إلَّا أَنَّ التَّأْثِيرَ قد يَكُونُ بِمَعْنًى وقد يَكُونُ بِحُكْمٍ وقد يَكُونُ بِغَلَبَةِ شَبَهٍ فإنه رُبَّ شَبَهٍ أَقْوَى من شَبَهٍ آخَرَ وَأَوْلَى بِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ لِقُوَّةِ أَمَارَتِهِ وَالشَّبَهُ يُعَارِضُهُ شَبَهٌ آخَرُ وَرُبَّمَا ظَهَرَ فَضْلُ قُوَّةِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَرُبَّمَا يَخْفَى وَيَجُوزُ رُجُوعُ الشَّبَهَيْنِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَيَجُوزُ إلَى أَصْلَيْنِ فَلَا بُدَّ من قُوَّةِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ في هذه الْمَوَاضِعِ وَكَذَا قال الْقَاضِي أبو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ في أُصُولِهِ إنَّا لَا نَعْنِي بِقِيَاسِ الشَّبَهِ أَنْ يُشَبَّهَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ من وَجْهٍ أو أَكْثَرَ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ ليس في الْعَالَمِ شَيْءٌ إلَّا وهو يُشْبِهُ شيئا آخَرَ من وَجْهٍ أو أَكْثَرَ من وَجْهٍ لَكِنْ يُعْتَبَرُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ أَشْبَهَ بِهِ منه فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ من الْوُضُوءِ بِالتَّيَمُّمِ وَكَذَا الْقِصَاصُ في الطَّرَفِ بِالْقِصَاصِ في النَّفْسِ أو على الْعَكْسِ وَهَذَا لِأَنَّ إلْحَاقَ الشَّيْءِ بِنَظَائِرِهِ وَإِدْخَالَهُ في سِلْكِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ فإذا لم يَكُنْ شَيْءٌ أَشْبَهَ منه بِهِ لم يَكُنْ بُدٌّ من إلْحَاقِهِ بِهِ قال وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَاضِي أبو حَامِدٍ تَقْرِيبٌ حَسَنٌ وهو عَائِدٌ إلَى ما ذَكَرْنَاهُ قال وَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ أَوَّلًا بِالْمَعَانِي فَإِنْ تَعَذَّرَتْ وَأَعْوَزَتْ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ على الطَّرِيقَةِ السَّابِقَةِ فَلَا بَأْسَ

بِذَلِكَ انْتَهَى وَهَذَا الذي قَالَهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ بين الْقَائِلِينَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ في أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ وهو في الْحَقِيقَةِ قَوْلُ من قال إنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وقال إلْكِيَا شَرَطُوا لِقِيَاسِ الشَّبَهِ شُرُوطًا منها أَنْ يَلُوحَ في الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إلَيْهِ مَعْنًى فإنه إذَا كان كَذَلِكَ يَقْطَعُ نِظَامَ الشَّبَهِ وَغَايَةُ من يَدَّعِي الشَّبَهَ إيهَامُ اجْتِمَاعِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في مَقْصُودِ الشَّارِعِ فإذا لَاحَ في الْأَصْلِ مَعْنًى انْقَطَعَ نِظَامُ الْجَمْعِ قال هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا لَاحَ في أَحَدِهِمَا مَعْنًى جُزْئِيٌّ وَفُقِدَ في الثَّانِي أَمَّا إذَا كان اسْتِنَادُ الْأَصْلِ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ لَا يُتَصَوَّرُ اطِّرَادُهُ في آحَادِ الصُّوَرِ وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ سَبَقَ لِإِبَانَةِ الْمَحَلِّ فَتَعْلِيلُ الْأَصْلِ لَا يَضُرُّ في مِثْلِهِ على ما قَدَّمْنَاهُ وقد ضَرَبَ الشَّافِعِيُّ له مِثَالًا فقال بَدَأَ عليه بِيَمِينِ الْمُدَّعِي في الْقَسَامَةِ في الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَكَانَ فيه خَيَالُ اللَّوْثِ فَاخْتَصَّهَا بِتِلْكَ الصُّورَةِ وَإِنْ كانت الْمُشَابَهَةُ بين الدَّعْوَيَيْنِ حَالَةَ اللَّوْثِ وَحَالَةَ عَدَمِهَا ظَاهِرَةً وَلَكِنْ أَمْكَنَ فَهْمُ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ أَمَّا عِنْدَ اللَّوْثِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُ تِلْكَ الْحَالَةِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَمِنْهَا أَنَّ الشَّبَهَ إذَا لَاحَ كان من ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُبْطِلًا مَعَانِي الْخَصْمِ فإنه لَا يَكُونُ خَاصًّا إلَّا على هذا الْوَجْهِ وَلَا يَكُونُ لِلْخَصْمِ في مُقَابَلَتِهِ إلَّا مَعْنًى عَامٌّ بِنَهْيٍ من الْأَصْلِ نَقْضًا له وَلَهُ نَظَائِرُ منها أَنَّ التَّيَمُّمَ إذَا صَارَ أَصْلًا فَالْمَعْنَى الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْقُوضٌ بِالتَّيَمُّمِ وهو أَنَّ الْوُضُوءَ ليس مَقْصُودًا فلم يَكُنْ عِبَادَةً انْتَهَى وقد أَكْثَرَ أَصْحَابُنَا في الِاحْتِجَاجِ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ وَأَصَحُّ ما ذَكَرُوهُ مَسَالِكُ أَحَدُهَا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبَّهَ عليه في قَوْلِهِ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم شَبَّهَ حَالَ هذا السَّائِلَ في نَزْعِ الْعِرْقِ من أُصُولِهِ بِنَزْعِ الْعِرْقِ من أُصُولِ الْفَحْلِ

وَثَانِيهَا أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى إنَّمَا صِيرَ إلَيْهِ لِإِفَادَتِهِ الظَّنَّ وَهَذَا يُفِيدُهُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَاعْتَرَضَ الْإِبْيَارِيُّ أَوَّلًا بِأَنَّهُ قِيَاسُ الْمَعْنَى في الْأُصُولِ فَلَا يُسْمَعُ وَثَانِيًا بِمَنْعِ إفَادَةِ الظَّنِّ وَثَالِثًا أَنَّهُ لم تَخْلُ وَاقِعَةٌ من حُكْمٍ قالوا وَمَنْ مَارَسَ مَسَائِلَ الْفِقْهِ وَتَرَقَّى عن رُتْبَةِ الْبَادِئِ فيها عَلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخَيَّلَ لَا يَعُمُّ الْمَسَائِلَ وَكَثِيرٌ من أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْلُو من الْمَعَانِي خُصُوصًا في الْعِبَادَاتِ وَهَيْئَاتِهَا وَالسِّيَاسَاتِ وَمَقَادِيرِهَا وَشَرَائِطِ الْمُنَاكَحَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ وَلَا يَلْزَمُنَا الطَّرْدُ لِأَنَّا في غَنِيَّةٍ عنه إذْ هو مُنْسَحِبٌ على جَمِيعِ الْحَوَادِثِ فلم يَكُنْ من دَاعٍ إلَيْهِ فَوَضَحَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالشَّبَهِ عن مَحَلِّ الضَّرُورَةِ وَلَوْلَا الضَّرُورَاتِ لَمَا شُرِعَ أَصْلُ الْقِيَاسِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ بَنَى الْقَاضِي الْخِلَافَ في قِيَاسِ الشَّبَهِ على أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أو كُلَّ مُجْتَهِدٍ فَإِنْ قُلْت الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فَالْأَوْلَى بِك إبْطَالُ قِيَاسِ الشَّبَهِ وَإِنْ قُلْت بِتَصْوِيبِهِمْ فَلَوْ غَلَبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ من قَضِيَّةِ اعْتِبَارِ الشَّبَهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ قَطْعًا وَوَافَقَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ على تَقْرِيرِ ثُبُوتِ كَوْنِهَا ظَنِّيَّةً لَكِنْ خَالَفَ في أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ وقال الْأَلْيَقُ بِمَا مَهَّدَهُ من الْأُصُولِ أَنْ يُقَالَ كُلُّ ما آلَ إلَى إثْبَاتِ دَلِيلٍ من الْأَدِلَّةِ فَيُطْلَبُ فيه الْقَطْعُ وَرُبَّمَا يقول إنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُتَمَسِّكَ بِضَرْبٍ من الْقِيَاسِ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ شَيْءٌ وفي الْحَادِثَةِ نَصٌّ لم يَبْلُغْهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ قَطْعًا بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ كان الْقِيَاسُ في مُخَالِفِهِ مَرْدُودًا الثَّانِي قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ اعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَشْبَاهِ إنَّمَا تُقَوِّي أَحَدَ جَانِبَيْ الْقِيَاسِ إذَا أَمْكَنَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الْأَوْصَافِ فَأَمَّا إذَا لم يَقُمْ الْحُكْمُ إلَّا لِمَجْمُوعِ أَوْصَافٍ حتى يَرُدَّ بها إلَى أَصْلٍ فَيُرَدَّ إلَى أَصْلٍ آخَرَ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كان ذلك الْوَصْفُ من جُمْلَةِ الْأَوْصَافِ فَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ أَوْلَى وَإِنْ كان وَصْفًا آخَرَ سِوَى الْأَوْصَافِ الْمَجْمُوعَةِ فِيمَا سِوَاهُ مِثْلُ عِلَّةِ الطُّعْمِ في الرِّبَا أَوْلَى من عِلَّةِ الْقُوتِ لِأَنَّهُ ما من قُوتٍ إلَّا وهو طَعَامٌ فَكَانَ من عَلَّلَ بِهِ عَلَّلَ الطَّعَامَ وَزِيَادَةً وَعِلَّةُ الطَّعَامِ وَالْكَيْلِ مُسْتَوِيَتَانِ فَتَقَدُّمُ إحْدَاهُمَا على الْآخَرِ بِالتَّرْجِيحِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا في جُمْلَةِ الْآخَرِ إذَا كان الْأَصْلُ الْمَرْدُودُ إلَيْهِ وَاحِدًا غير أَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسِيِّينَ يُرَدُّ الْفَرْعُ إلَيْهِ

بِوَصْفٍ وَالْآخَرُ يَرُدُّهُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ وَبِغَيْرِهِ من الْأَوْصَافِ فَضَمُّهَا إلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ أَوْلَى الثَّالِثُ هل يُسْتَعْمَلُ الشَّبَهُ مُرْسَلًا كما اُسْتُعْمِلَ الْمُنَاسِبُ مُرْسَلًا قال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ هذا شَيْءٌ غَامِضٌ ولم أَقِفْ فيه على نَصٍّ وَلَوْ قِيلَ بِهِ لم يَبْعُدْ انْتَهَى وقد صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْمَنْعِ منه بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ وَرَتَّبَ ذلك على أَحَدِ تَفْسِيرَيْهِ في الشَّبَهِ وهو أَنْ يُنَاسِبَ تَشَابُهَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُطْلَقًا في حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فَعَلَى هذا لَا يَتَحَقَّقُ الشَّبَهُ إلَّا بِأَصْلٍ وَإِنْ قُلْنَا في تَفْسِيرِهِ ما يُوهِمُ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ الْخَاصِّ أو مُلَاءَمَةً لِأَوْصَافٍ نَصَّ الشَّارِعُ عليها ولم تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهَا أو غَيْرُ ذلك من التَّفَاسِيرِ السَّابِقَةِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ مُرْسَلًا الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ وَيُعَبِّرُ عنه الْأَقْدَمُونَ بِ الْجَرَيَانِ وَبِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وهو أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ وَصْفٍ وَيَرْتَفِعُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَالتَّحْرِيمِ مع السُّكْرِ في الْعَصِيرِ فإنه لَمَّا لم يَكُنْ مُسْكِرًا لم يَكُنْ حَرَامًا فلما حَدَثَ السُّكْرُ فيه وُجِدَتْ الْحُرْمَةُ ثُمَّ لَمَّا زَالَ السُّكْرُ بِصَيْرُورَتِهِ خَلًّا زَالَ التَّحْرِيمُ فَدَلَّ على أَنَّ الْعِلَّةَ السُّكْرُ وَأَمَّا في صُورَتَيْنِ كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ مع مِلْكِ نِصَابٍ قام في صُورَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ وَعَدَمِهِ مع عَدَمِ شَيْءٍ منها كما في ثِيَابِ الْبِذْلَةِ حَيْثُ لَا تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ لِفَقْدِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في حديث ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ حين اسْتَعْمَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال ما بَالُنَا نَسْتَعْمِلُ أَقْوَامًا فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فيقول هذا لَكُمْ وَهَذَا لي أَلَا جَلَسَ في بَيْتِ أبيه وَأُمِّهِ حتى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إنْ كان صَادِقًا وَهَذَا إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالدَّوَرَانِ وهو ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَانْتِفَاؤُهُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ في إفَادَةِ الدَّوَرَانِ الْعِلِّيَّةَ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْعِلِّيَّةِ وَنُقِلَ عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُبَّمَا قِيلَ لَا دَلِيلَ

فَوْقَهُ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَالثَّانِي أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ بِذَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَةٌ مَنْصُوبَةٌ فإذا دَارَ الْوَصْفُ مع الْحُكْمِ غَلَبَ على الظَّنِّ كَوْنُهُ مُعَرِّفًا له وَيَنْزِلُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَإِنْ خَلَا عن الْمُنَاسَبَةِ وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ عن الْقَاضِي وَمِمَّنْ حَكَاهُ عن الْأَكْثَرِينَ إلْكِيَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا قال وَلِأَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ شَغَفٌ بِهِ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ عن أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ذَهَبَ كُلُّ من يُعْزَى إلَى الْجَدَلِ إلَى أَنَّهُ أَقْوَى ما تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ وَذَكَرَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنَّ هذا الْمَسْلَكَ من أَقْوَى الْمَسَالِكِ وَكَادَ يَدَّعِي إفْضَاءَهُ إلَى الْقَطْعِ وَإِنَّمَا سَمَّيْت هذا الشَّيْخَ لِغَشَيَانِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي مُدَّةً وَإِعْلَاقِهِ طَرَفًا من كَلَامِهِ وَمَنْ عَدَاهُ حِيَالَهُ قُلْت وَاَلَّذِي رَأَيْته في شَرْحِ الْكِفَايَةِ لِلْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ ما لَفْظُهُ وَأَمَّا الطَّرْدُ فإنه شَرْطٌ في صِحَّتِهَا وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ على صِحَّتِهَا وَلَا يَجُوزُ إذَا اطَّرَدَ مَعْنًى أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّتِهِ حتى يَدُلَّ التَّأْثِيرُ أو شَهَادَةُ الْأُصُولِ عليه وَكَذَا قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ الطَّرْدُ وَالْجَرَيَانُ شَرْطٌ في صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ بِدَلِيلِ صِحَّتِهَا وَقِيلَ دَلِيلٌ على الصِّحَّةِ وَبِهِ قال الصَّيْرَفِيُّ وقال إذَا لم يَرِدْ بها نَصٌّ وَلَا أَصْلٌ دَلَّ على صِحَّتِهَا وَكَذَا قال ابن الصَّبَّاغِ هو يَدُلُّ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ وقال ابن بَرْهَانٍ الطَّرْدُ عِنْدَنَا شَرْطُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ دَلِيلًا على صِحَّتِهَا وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ على صِحَّتِهَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ الِاطِّرَادُ ليس بِدَلِيلٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا وَأَمَّا الِانْعِكَاسُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ في قَوْلِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ من الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ قال وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الِانْعِكَاسَ شَرْطٌ فإذا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ ولم يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِهَا بَطَلَتْ الْعِلَّةُ وهو قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقًا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فإنه يَجِبُ انْعِكَاسُهَا فَكَذَلِكَ السَّمْعِيَّةُ وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ مَنْصُوبَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تَدُلُّ على النَّفْيِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ

وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في كِتَابِ الْحُدُودِ إنَّهُ قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ قال إلْكِيَا وهو الذي يَمِيلُ إلَيْهِ الْقَاضِي وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عنه أَيْضًا وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قد وُجِدَ مع عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عليها أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْلُولَ دَائِرٌ مع الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا مع أَنَّ الْمَعْلُولَ ليس بِعِلَّةٍ لِعِلَّتِهِ قَطْعًا وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ مُتَلَازِمَانِ مع أَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِعِلَّةٍ في الْآخَرِ اتِّفَاقًا وَالْمُتَضَايِفَانِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ مُتَلَازِمَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا مع أَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِعِلَّةٍ في الْآخَرِ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ على الْمَعْلُولِ وَوُجُوبِ مُصَاحَبَةِ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَإِلَّا لَمَا كَانَا مُتَضَايِفَيْنِ وقد ضُعِّفَ هذا الْقَوْلُ أَعْنِي تَجْوِيزَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا وَرَاءَ الْمَذْكُورِ فإن هذا لو صَحَّ لَجَرَى في غَيْرِهِ من الْمَسَائِلِ كَالْإِيمَاءِ وَنَحْوِهِ وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنَّ جَمَاعَةً من الْقَائِلِينَ بهذا الْمَذْهَبِ اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَإِنْ لم تَقْتَرِنْ بِهِ مُنَاسَبَةٌ وهو رَاجِعٌ لِلطَّرْدِ فإن غَايَتَهُ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمُقَارِنَةَ لِلْحُكْمِ قام الدَّلِيلُ على خُرُوجِ بَعْضِهَا عن صَلَاحِيَةَ التَّعْلِيلِ فَعُلِمَ صِحَّةُ التَّعْلِيلِ بِالْبَاقِي وَلَا تَجِدُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ سِوَى مُقَارَنَتِهِ الْحُكْمَ في الْوُجُودِ مع انْتِقَاءِ الظَّفَرِ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ صَلَاحِيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ وَذَلِكَ مُجَرَّدُ طَرْدٍ لَا عَكْسَ فيه وَاذَا كان السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ لَا يَدُلُّ إلَّا على اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ وُجُودًا عُلِمَ أَنَّ من أَخَذَ بِهِ وَأَنْكَرَ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ كَمَنْ أَخَذَ بِالْمُقَدِّمَةِ الْوَاحِدَةِ وَأَنْكَرَ دَلَالَةَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَكَمَنْ أَخَذَ بِالْكَثْرَةِ في الْأَلْفِ وَأَنْكَرَهَا في الْأَلْفَيْنِ التَّفْرِيعُ إنْ اعْتَبَرْنَاهُ فَشَرَطَ ابن الْقَطَّانِ في صِحَّتِهِ أَنْ يَصِحَّ اقْتِضَاؤُهُ من الْأَصْلِ كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ في الْخَمْرِ قال وكان بَعْضُ أَصْحَابِنَا إذَا لم تَقُمْ الدَّلَالَةُ على أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ كان لِأَجْلِهِ لم يَكُنْ دَالًّا على صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ دَالًّا على الْأَصْلِ قال وكان أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يقول اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْجَرَيَانِ هل هو دَالٌّ على صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ دَالٌّ عليها وَالثَّانِي أَنَّهُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً حتى لَا تَدْفَعَهُ الْأُصُولُ فَإِنْ دَفَعَتْهُ لم يَكُنْ عِلَّةً وَالثَّالِثُ أَنَّهُ عِلَّةٌ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على صِحَّتِهِ قال وَلَا فَرْقَ بين الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وقال غَيْرُهُ إنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ عِلِّيَّةِ الْمَدَارِ لِلدَّائِرِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ

الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدَارُ مَقْطُوعًا بِعَدَمِ عِلِّيَّتِهِ كَالرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ لِلْخَمْرِ فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَدَارُ مُتَقَدِّمًا على الدَّائِرِ بِحَيْثُ أَنْ يُقَالَ وُجِدَ الدَّائِرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ دَوَرَانُ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَلَا دَوَرَانُ الْوَصْفِ مع الْحُكْمِ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَضَايِفَيْنِ ليس مُقَدَّمًا على الْآخَرِ وَلَا الْحُكْمَ على الْوَصْفِ الثَّالِثُ أَنْ لَا يُقْطَعَ بِوُجُودِ مُزَاحِمٍ يَلْزَمُ من كَوْنِ الْمَدَارِ عِلَّةً إلْغَاؤُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَرُدُّ أَجْزَاءَ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان الْمَعْلُولُ كما دَارَ مع الْعِلَّةِ دَارَ مع كل جُزْءٍ من أَجْزَائِهَا لَكِنَّ الْحُكْمَ بِأَيِّ جُزْءٍ كان يُوجِبُ إلْغَاءَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ أو إلْغَاءَ الْمَجْمُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُوجَدُ لِكُلِّ جُزْءٍ مُزَاحِمٌ يَمْنَعُ من الْحُكْمِ بِعِلِّيَّتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجْمُوعِ فإن كَوْنَ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً ليس بِمُوجِبٍ إلْغَاءَ الْجُزْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عن اعْتِبَارِ الثَّانِي بَلْ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ في التَّأْثِيرِ وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فَشَرَطُوا شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ غير مُنَاسِبٍ فإنه مَتَى كان مُنَاسِبًا كانت الْعِلَّةُ صَحِيحَةً من جِهَةِ الْمُنَاسَبَةِ صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَإِلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُمْ قُلْت وَأَمَّا من يَدَّعِي الْقَطْعَ فيه فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ ظُهُورَ الْمُنَاسَبَةِ وَلَا يَكْتَفِي بِالدَّوَرَانِ بِمُجَرَّدِهِ فإذا انْضَمَّ الْمُنَاسَبَةُ ارْتَقَى إلَى الْقَطْعِ ثُمَّ قال إلْكِيَا وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَمَارَةَ لَا تَطَّرِدُ وَلَا تَنْعَكِسُ إلَّا إذَا كانت اجْتِمَاعَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في مَقْصُودٍ خَاصٍّ في حُكْمٍ خَاصٍّ فإن الْأَحْكَامَ إذَا تَبَاعَدَ ما حَدُّهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَارَةُ الْوَاحِدَةُ جَارِيَةً فيها على نَسَقِ الْإِطْرَادِ وَالِانْعِكَاسِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ في الطَّهَارَةِ إنَّهَا وَظِيفَةٌ تُشَطَّرُ في وَقْتٍ فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ انْعِكَاسُهُ وقد تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ بَعْضُ الْأَمَارَاتِ فَإِنَّهَا مَجْرَى الْحُدُودِ الْعَقْلِيَّةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاطِّرَادَ وَالِانْعِكَاسَ من بَابِ الْأَشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ وَمِنْ قَبِيلِ تَنْبِيهِ الشَّرْعِ على نَصْبِهِ ضَابِطًا لِخَاصَّةٍ فَعُلِّقَتْ بِهِ وَمِمَّا يُتَنَبَّهُ له أَنَّ ما يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِهَا كَالْإِحْصَانِ فَلَيْسَ بِتَعْلِيلٍ اتِّفَاقًا من حَيْثُ إنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ إنَّمَا كان تَعْلِيلًا لِلْإِشْعَارِ بِاجْتِمَاعِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في مَعْنًى مُؤَثِّرٍ أو مَصْلَحَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ فَكَانَ الِاطِّرَادُ من الشَّارِعِ تَنْبِيهًا على وُجُودِ مَعْنًى جُمَلِيٍّ اقْتَضَى الِاجْتِمَاعَ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك مع وُجُودِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ فإن الْإِيهَامَ لَا مِيزَانَ له مع وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُصَرَّحِ بِهِ

الثَّانِي أَنْ يَتَجَرَّدَ الْوَصْفُ فَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ سَبْرٌ وَتَقْسِيمُ قال في الْمُسْتَصْفَى يَكُونُ حِينَئِذٍ حُجَّةً كما لو قال هذا الْحُكْمُ لَا بُدَّ له من عِلَّةٍ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِحُدُوثِ حَادِثٍ وَلَا حَادِثَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ إلَّا كَذَا وَكَذَا وقد بَطَلَ الْكُلُّ إلَّا هذا فَهُوَ الْعِلَّةُ وَمِثْلُ هذا السَّبْرِ حُجَّةٌ في الطَّرْدِ الْمَحْضِ وَإِنْ لم يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْعَكْسُ فَائِدَةٌ الدَّوْرُ يَسْتَلْزِمُ الْمَدَارَ وَالدَّائِرَ فَالْمَدَارُ هو الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ كَالْقَتْلِ الْمَوْصُوفِ وَالدَّائِرُ هو الْمُدَّعَى مَعْلُولِيَّتُهُ كَوُجُوبِ الْقِصَاصِ الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَ الْعِلَّةِ لَا تَنْتَقِضُ فَذَاكَ مَقَالُ الْعَكْسِ بَلْ الْمُرَادُ أَنْ لَا تَكُونَ عِلَّتُهُ مُنَاسِبَةً وَلَا مُؤَثِّرَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّوَرَانِ أَنَّ ذلك عِبَارَةٌ عن الْمُقَارَنَةِ وُجُوبًا وَعَدَمًا وَهَذَا مُقَارِنٌ في الْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِيمَا حَكَاهُ الْبَغَوِيّ عنه في تَعْلِيقِهِ الطَّرْدُ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وهو حَمْلُ الْفَرْعِ على الْأَصْلِ بِغَيْرِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ تَأْثِيرٌ في إثْبَاتِ الْحُكْمِ كَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا في نِيَّةِ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ يُبْطِلُهَا الْحَدَثُ وَتُشَطَّرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ فَيُشْتَرَطُ فيها النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّطْرِ بِعُذْرِ السَّفَرِ في إثْبَاتِ النِّيَّةِ وَكَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ في مَسِّ الذَّكَرِ مُعَلَّقٌ مَنْكُوسٌ فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّهِ دَلِيلُهُ الدَّبُّوسُ أو قالوا طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّهِ كَالْقَلَمِ وَالْبُوقِ قال وَهَذَا سُخْفٌ يَتَحَاشَى الطِّفْلُ عن ذِكْرِهِ فَضْلًا عن الْفَقِيهِ انْتَهَى وقال ابن السَّمْعَانِيِّ هو الذي لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُشْعِرُ بِهِ وقال الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ هو الْوَصْفُ الذي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ وَإِلَّا لم تَكُنْ حَاجَةٌ إلَى الطَّرْدِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ حَاصِلًا معه في جَمِيعِ صُوَرِ حُصُولِهِ غير صُورَةِ النِّزَاعِ فَإِنْ حَصَلَ في صُورَةِ النِّزَاعِ كان دَوَرَانًا قال الْهِنْدِيُّ هذا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَمِنْهُمْ من قال لَا يُشْتَرَطُ ذلك بَلْ يَكْفِي في عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُقَارِنًا له وَلَوْ في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وقد اخْتَلَفُوا في كَوْنِهِ حُجَّةً وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الطَّرْدَ والعكس ليس بِحُجَّةٍ فَفِي كَوْنِ الطَّرْدِ ليس بِحُجَّةٍ من طَرِيقِ الْأَوْلَى فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ ذلك فَقَدْ اخْتَلَفُوا في

حُجِّيَّةِ الطَّرْدِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ وقال بِحُجِّيَّتِهِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَالْمُعْتَبَرُونَ من النُّظَّارِ على أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ من بَابِ الْهَذَيَانِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَتَنَاهَى الْقَاضِي في تَغْلِيطِ من يَعْتَقِدُ رَبْطَ حُكْمِ اللَّهِ عز وجل بِهِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن الْأَكْثَرِينَ من الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّهُ يَجِبُ تَصْحِيحُ الْعِلَّةِ في نَفْسِهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عليها فإنه ثَمَرَةُ الْعِلَّةِ فَالِاسْتِثْمَارُ بَعْدَ التَّصْحِيحِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ما حَقُّهُ في الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ عَلَمًا على ثُبُوتِ الْأَصْلِ قال وقد رَأَيْنَا في الطَّرْدِ صُوَرًا لَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ صِحَّتَهَا كَتَشْبِيهِ الصَّلَاةِ بِالطَّوَافِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ عن الْمُحَصِّلِينَ من أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ في تَعْلِيقِهِ عنه لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَانَ اللَّهُ بِهِ وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ الطَّرْدُ جَرَيَانُ الْعِلَّةِ في مَعْلُولَاتِهَا وَسَلَامَتِهَا من أَصْلٍ يَرُدُّهَا وَيَنْفِيهَا وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على صِحَّتِهَا وَذَهَبَ طَوَائِفُ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَمَالَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَجَزَمَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ قال ابن السَّمْعَانِيُّ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ عن الصَّيْرَفِيِّ وَهَذَا فيه نَظَرٌ فإن ذَاكَ في الِاطِّرَادِ الذي هو الدَّوَرَانُ وقال الْكَرْخِيّ هو مَقْبُولٌ جَدَلًا وَلَا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عليه عَمَلًا وَلَا الْفَتْوَى بِهِ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ ذَهَبَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ وَاقْتَدَى بِهِ قَوْمٌ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ فَصَارُوا يَطْرُدُونَ الْأَوْصَافَ على مَذَاهِبِهِمْ وَيَقُولُونَ إنَّهَا قد صَحَّتْ كَقَوْلِهِمْ في مَسِّ الذَّكَرِ مَسُّ آلَةِ الْحَرْثِ فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ كما إذَا مَسَّ الْفَدَّانَ وَإِنَّهُ طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ فَأَشْبَهَ الْبُوقَ وفي السَّعْيِ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إنَّهُ سَعْيٌ بين جَبَلَيْنِ فَلَا يَكُونُ رُكْنًا في الْحَجِّ كَالسَّعْيِ بين جَبَلَيْنِ بِنَيْسَابُورَ وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ هذا سُخْفٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَسَمَّى أبو زَيْدٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الطَّرْدَ حُجَّةً وَالِاطِّرَادَ دَلِيلًا على صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ حَشْوِيَّةَ أَهْلِ الْقِيَاسِ قال وَلَا يُعَدُّ هَؤُلَاءِ من جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيَجُوزُ لِلشَّارِعِ نَصْبُ الطَّرْدِ عَلَمًا عليه لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ عِلَّةً بَلْ تَقْرِيبٌ لِلْحُكْمِ وَتَحْدِيدٌ له قال وَذَكَرَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ أَنَّ الِاطِّرَادَ زِيَادَةُ دَعْوَى على دَعْوَى وَالدَّعْوَى لَا تَثْبُتُ بِزِيَادَةِ دَعْوَى وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ قد يَطَّرِدُ وَلَوْ كان الِاطِّرَادُ دَلِيلَ صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ لم يَقُمْ هذا الدَّلِيلُ على الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُطَّرِدَةِ مِثْلُ قَوْلِ من يقول في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ مَائِعٌ لَا تُبْنَى عليه

الْقَنَاطِرُ وَلَا يُصَادُ منه السَّمَكُ فَأَشْبَهَ الدُّهْنَ وَالْمَرَقَةَ وفي الْمَضْمَضَةِ اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْقُضَ الطَّهَارَةَ كَالرَّعْدِ وَلَا يَلْزَمُ الضُّرَاطُ لِأَنَّهُ اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ السُّفْلِيَّةِ قال الْقَاضِي هذا مع سُخْفِهِ يَنْتَقِضُ بِمَا لو صَفَعَ امْرَأَتَهُ وَصَفَعَتْهُ وَالِاشْتِغَالُ بهذا هُزْأَةٌ وَلَعِبٌ في الدِّينِ انْتَهَى وقال الْكَرْخِيّ هو مَقْبُولٌ جَدَلًا وَلَا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عليه عَمَلًا وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وقال إنَّهُ رَأْيُ الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ وقال هو مَصْلَحَةٌ لِلْمُنَاظِرِ في حَقِّ من أَثْبَتَ الشَّبَهَ وَرَآهُ مُعْتَمَدًا بَلْ لَا طَرِيقَ سِوَاهُ فَإِمَّا أَنْ يُصَارَ إلَى إبْطَالِ الشَّبَهِ رَأْسًا وَقَصْرِ الْجَامِعِ على الْمُخَيَّلِ وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ من الْمُنَاظِرِ الْجَمِيعَ على الْإِطْلَاقِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ ذَكَرَهَا إلْكِيَا أَحَدُهَا أَنَّ هذا كُلَّهُ في غَيْرِ الْمَحْسُوسَاتِ أَمَّا الْمَحْسُوسَاتُ فَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مِثْلُ ما نَعْلَمُهُ أَنَّ الْبَرْقَ يَسْتَعْقِبُ صَوْتَ الرَّعْدِ فَلِهَذَا اطَّرَدَ وَغَلَبَ على الظَّنِّ بِهِ الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ فإن أَحَدًا لَا يُنْكِرُهُ إذَا غَلَبَ على الظَّنِّ وَأَحَدًا لَا يَتَّبِعُ كُلَّ وَصَفٍّ لَا يَغْلِبُ على الظَّنِّ وَإِنْ أَحَالُوا اطِّرَادًا لَا يَنْفَكُّ عن غَلَبَةِ الظَّنِّ الثَّالِثُ إذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ فَهَلْ يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ لِدَفْعِ النَّقْضِ أَمْ لَا قال إلْكِيَا فيه تَفْصِيلٌ فَإِنْ كان يَرْجِعُ ما قُيِّدَ الْكَلَامُ بِهِ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِحُكْمِهَا فَالْكَلَامُ في تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ سَبَقَ وَإِنْ كان التَّقْيِيدُ كما قُيِّدَ بِهِ تَقْيِيدًا بِمَا يَظْهَرُ تَقَيَّدَ من الشَّرْعِ الْحُكْمُ بِهِ وَصُورَةُ النَّقْضِ آيِلَةٌ إلَى اسْتِثْنَاءِ الشَّرْعِ فَلَا يُمْنَعُ من هذا التَّخْصِيصِ كما إذَا عُلِّلَ إيجَابُ الْقِصَاصِ على الْقَاتِلِ فَنُقِضَ بِالْأَبِ فَلَا يُمْنَعَ من هذا التَّخْصِيصِ وَإِنْ كان يَدُلُّ على مَعْنًى في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إلَّا اللُّغَةَ وَذَلِكَ الْمَعْنَى صَالِحٌ لَأَنْ يُجْعَلَ وَصْفًا وَمَنَاطًا لِلْحُكْمِ فَيَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِهِ كَقَوْلِنَا ما لَا يَتَجَزَّأُ في الطَّلَاقِ فَذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ فَلَا يَلْزَمُ عليها النِّكَاحُ فَإِنْ كان النِّكَاحُ يُنْبِئُ في الشَّرْعِ عن خَصَائِصَ وَمَزَايَا في الْقُوَّةِ لَا يُلْغَى في غَيْرِهِ فَيَنْدَفِعُ النَّقْضُ

فَصْلٌ سَاقَ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ هُنَا أَمْرًا حَسَنًا يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ الْإِحَاطَةُ بِهِ فقال قِيَاسُ الطَّرْدِ صَحِيحٌ وَالْمَعْنِيُّ بِهِ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الذي لَا يُنَاسِبُ وقال بِهِ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ شَنَّعَ على الْقَائِلِينَ بِهِ من عُلَمَاءِ الْعَصْرِ الْقَرِيبِ كَأَبِي زَيْدٍ وَأُسْتَاذِي إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فَهُمْ من جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يُعَبِّرُ عن الطَّرْدِ الذي لَا يُنَاسِبُ بِ الشَّبَهِ وَيَقُولُ الطَّرْدُ بَاطِلٌ وَالشَّبَهُ صَحِيحٌ وأبو زَيْدٍ يُعَبِّرُ عن الطَّرْدِ بِ الْمُخَيَّلِ وَعَنْ الشَّبَهِ بِ الْمُؤَثِّرِ وَيَقُولُ الْمُخَيَّلُ بَاطِلٌ وَالْمُؤَثِّرُ صَحِيحٌ وقد بَيَّنَّا بِأَصْلِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُؤَثِّرِ ما أَرَدْنَاهُ بِالْمُخَيَّلِ وَسَنُبَيِّنُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالشَّبَهِ الْمُنْكِرِينَ لِلطَّرْدِ مُرَادُهُمْ بِالشَّبَهِ ما أَرَدْنَاهُ بِالطَّرْدِ وَأَنَّ الْوَصْفَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ مُنَاسِبٌ كما ذَكَرْنَا وهو حُجَّةٌ وِفَاقًا وَمِنْهُمْ من يُلَقِّبُهُ بِالْمُؤَثِّرِ وَيُنْكِرُ الْمُخَيَّلَ وَغَيْرُ الْمُنَاسِبِ أَيْضًا حُجَّةٌ إذَا دَلَّ عليه الدَّلِيلُ وَمِنْهُمْ من يُلَقِّبُهُ بِالشَّبَهِ حتى يُخَيَّلَ أَنَّهُ غَيْرُ الطَّرْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قال وَلَقَدْ عز على بَسِيطِ الْأَرْضِ من يُحَقِّقُ الشَّبَهَ ثُمَّ قال فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الناس في الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَالشَّبَهِ فَمِنْهُمْ من قال بِهِمَا وَمِنْهُمْ من أَنْكَرَهُمَا وَمِنْهُمْ من قال بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَنَحْنُ نَقُولُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ الْقَوْلُ بِهِمَا جميعا فَإِنَّهُمْ قالوا بِالشَّبَهِ وهو أَضْعَفُ من الْقَوْلِ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ قال وقد عَلَّلَ بِهِ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً سُقُوطَ التَّكْرَارِ في مَسْحِ الْخُفِّ وَشَرْعِيَّتِهِ في غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فقال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يَكُونُ كَمَسْحِ الْخُفِّ وقال الشَّافِعِيُّ أَصْلٌ في الطَّهَارَةِ فَكُرِّرَ كَالْغَسْلِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا طَرْدٌ مَحْضٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ قال وَاَلَّذِي يَدُلُّ على أَنَّ الشَّافِعِيَّ لم يَذْهَبْ في التَّعْلِيلِ مَسْلَكَ الْإِخَالَةِ فَصْلٌ ذَكَرَهُ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وقد نَقَلْنَاهُ بِلَفْظِهِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال اللَّهُ تَعَالَى وَالْوَالِدَاتُ يَرْضِعْنَ الْآيَةَ وَأَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هِنْدًا أَنْ تَأْخُذَ من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا فَكَانَ الْوَلَدُ من الْوَالِدِ فَأُجْبِرَ على

صَلَاحِهِ في الْحَالِ التي لَا يُغْنِي فيها عن نَفْسِهِ وكان الْأَبُ إذَا بَلَغَ أَنْ لَا يُغْنِيَ عن نَفْسِهِ بِكَسْبٍ وَلَا مَالٍ فَعَلَى وَلَدِهِ صَلَاحُهُ في نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ قِيَاسًا على الْوَالِدِ ولم يَضَعْ شيئا هو منه كما لم يَكُنْ لِلْوَالِدِ ذلك وَالْوَالِدُ وَإِنْ بَعُدَ وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ في هذا الْمَعْنَى فَقُلْنَا يُنْفِقُ على كل مُحْتَاجٍ منهم غَيْرِ مُحْتَرِفٍ وَلَهُ النَّفَقَةُ على الْغَنِيِّ الْمُحْتَرِفِ وَذَكَرَ حُكْمَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِأَنَّ الْغَلَّةَ بِالضَّمَانِ فقال وَكَأَنَّ الْغَلَّةَ لم تَقَعْ عليها صَفْقَةُ الْبَيْعِ فَيَكُونُ لها حِصَّةٌ في الثَّمَنِ فَكَانَتْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي في الْوَقْتِ الذي لو فَاتَ فيه الْعَقْدُ فَاتَ في مَالِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا له لِأَنَّهُ حَادِثَةٌ في مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ فَقُلْنَا كَذَلِكَ في ثَمَرِ النَّخِيلِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ وَصُوفِهَا وَأَوْلَادِهَا وَوَلَدِ الْجَارِيَةِ وَكُلِّ ما حَدَثَ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَمَةِ الثَّيِّبِ وَخِدْمَتِهَا وَنَهَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فلما حَرَّمَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هذه الْأَصْنَافَ الْمَأْكُولَةَ التي يَشِحُّ الناس عليها حين بَاعُوهَا كَيْلًا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَاعَ منها شَيْءٌ بمثله دَيْنًا وَالْآخَرُ زِيَادَةُ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ نَقْدًا كان كما كان في مَعْنَاهَا فَحَرَّمْنَا قِيَاسًا عَلَيْهِمَا فَكَذَلِكَ كُلُّ ما أُكِلَ مِمَّا اُبْتِيعَ مَوْزُونًا وَالْوَزْنُ وَالْكَيْلُ في ذلك سَوَاءٌ وَذَلِكَ كَالْعَسَلِ وَالزَّبِيبِ وَالسَّمْنِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ وَيُبَاعُ مَوْزُونًا ولم يُقَسْ الْمَوْزُونُ على الْمَوْزُونِ من الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ لَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَقْدًا عَسَلًا وَسَمْنًا إلَى أَجَلٍ وَلَوْ قِيسَ عليه لم يَجُزْ إلَّا يَدًا بِيَدٍ كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَيُقَاسُ بِهِ ما كان في مَعْنَاهُ من الْمَأْكُولِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ يُعْتَادُ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ قال الْغَزَالِيُّ هذا كُلُّهُ نَقَلْنَاهُ من لَفْظِ الشَّافِعِيِّ فَلْيَتَأَمَّلْ الْمُنْصِفُ لِيَعْرِفَ كَيْفَ عَلَّلَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ ما لَا يُنَاسِبُ ذَاهِبًا إلَى أَنَّ الْمُشَارِكَ له في هذه الْأَوْصَافِ في مَعْنَاهُ غير مُعَرِّجٍ على الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِيمَاءِ وَنَقَلَ أبو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ من لَفْظِ ابْنِ سُرَيْجٍ في سِيَاقِ كَلَامٍ له في تَصْحِيحِ التَّعْلِيلِ بِالِاطِّرَادِ وَالسَّلَامَةِ عن النَّوَاقِضِ فَصْلًا وهو قَوْلُهُ قُلْت فَإِنْ قال قَائِلٌ إذَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْعِلَلَ تُسْتَخْرَجُ وَتَصِحُّ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَالِاطِّرَادِ في مَعْلُولَاتِهَا فَإِنْ عَارَضَهَا أَصْلٌ يَدْفَعُهَا عُلِمَ فَسَادُهُ وَإِنْ لم يُعَارِضْهَا أَصْلٌ صَحَّتْ فَأَخْبِرُونِي إذَا انْتَزَعْتُمْ عِلَّةً من

أَصْلٍ فَانْتَزَعَ مُخَالِفُوكُمْ عِلَّةً أُخْرَى فَخَبِّرُونَا ما جَعَلَ عِلَّتَكُمْ أَوْلَى فَإِنْ أَحَلْتُمْ ذلك أَرَيْنَاكُمْ زَعَمَ الْعِرَاقِيُّ عِلَّةَ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ فإن ذلك لَا يُنْكَرُ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أنها الْأَكْلُ دُونَ الْكَيْلِ فَنَقُولُ إنَّا تَرَكْنَا جَعْلَ كل وَاحِدٍ من هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عِلَّةً لِأَنَّهُ يُخْرِجُنَا من قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الذي احْتَجْنَا إلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ اقْتَصَرَ على الْأَكْلِ وَالْعِرَاقِيَّ على الْكَيْلِ فَرَجَّحْنَا هذه على تِلْكَ فَإِنَّا وَجَدْنَا الْكَيْلَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَزْنِ وَوَجَدْنَا ما حُرِّمَ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الْمَوْزُونَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّهَبَ لَا يَجُوزُ بِالْوَرِقِ نَسِيئَةً وَيَجُوزُ الذَّهَبُ بِالْمَوْزُونَاتِ نَسِيئَةً وَقَرَّرَ هذا الْكَلَامَ ثُمَّ قال دَلَّ هذا على أَنَّ الشَّيْءَ حَرَامٌ لِمَعْنًى فيه كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَأَنَّهَا أَصْلُ النَّقْدَيْنِ وَقِيَمُ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَمِنْهُمَا فَرْضُ الزَّكَوَاتِ فلم يَحْرُمَا لِأَنَّ هَاهُنَا أَمْرًا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُهُمَا وهو الْوَزْنُ بَلْ لِمَا فِيهِمَا من مَنَافِعِ الناس التي يُعَدُّ لَهُمَا فيها شَيْءٌ سِوَاهُمَا من التَّقَلُّبِ وَالنَّقْدِ الذي إلَيْهِ تَرْجِعُ الْمُعَامَلَةُ الدَّائِرَةُ بين الناس وَكَذَلِكَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ إنَّمَا حُرِّمَا لِأَنَّهُمَا الْأَقْوَاتُ وَالْمَعَاشُ وَالْغِذَاءُ وَالطَّعَامُ ثُمَّ جُرِّدَ من ذلك كُلِّهِ الْأَكْلُ كان أَعَمَّ الْأُمُورِ وقد ضُمَّ إلَيْهَا في قَوْلٍ لِأَصْحَابِنَا أَجْزَاءُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ الْبُيُوعِ الْقَدِيمِ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قال لَا رِبًا إلَّا في ذَهَبٍ أو وَرِقٍ وما يُكَالُ أو يُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ أو يُشْرَبُ وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ في هذا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ قال الْغَزَالِيُّ فَهَذَا جُمْلَةُ ما أَرَدْنَا نَقْلَهُ من لَفْظِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ لِنُبَيِّنَ أَنَّ أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ بِأَجْمَعِهِمْ ذَهَبُوا إلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الذي لَا يُنَاسِبُ من غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى إيمَاءٍ وَنَصٍّ وَمُنَاسَبَةٍ قال وَالْفَرْضُ الْآنَ أَنْ نُبَيِّنَ نَقْلًا عن عُلَمَاءِ الشَّرْعِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْقَوْلَ بِالْوَصْفِ الذي لَا يُنَاسِبُ وَتَسْمِيَتَهُمْ ذلك عِلَّةً وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُ النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدِيَّةِ الْقَاصِرَةِ تَدُلُّ على أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقْتَصِرُ على التَّشْبِيهِ إذْ التَّشْبِيهُ إنَّمَا يَقُومُ من فَرْعٍ وَأَصْلٍ وَلَا فَرْعَ لِهَذَا الْأَصْلِ

الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَالتَّنْقِيحُ هو التَّهْذِيبُ وَالتَّمْيِيزُ وَكَلَامٌ مُنَقَّحٌ أَيْ لَا حَشْوَ فيه وَالْمَنَاطُ هو الْعِلَّةُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَتَعْبِيرُهُمْ بِالْمَنَاطِ عن الْعِلَّةِ من بَابِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا عُلِّقَ بها كان كَالشَّيْءِ الْمَحْسُوسِ الذي تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ من بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَصَارَ ذلك في اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهُ وَلَمَّا كانت هذه الْعِلَّةُ مَنْصُوصًا عليها وَلَكِنَّهَا تَخْتَلِطُ بِغَيْرِهَا مُحْتَاجَةً إلَى ما يُمَيِّزُهَا لَقَّبُوهُ بهذا اللَّقَبِ وهو أَنْ يَدُلَّ ظَاهِرٌ على التَّعْلِيلِ بِوَصْفٍ مَذْكُورٍ مع غَيْرِهِ مِمَّا لَا مَدْخَلَ له في التَّأْثِيرِ لِكَوْنِهِ طَرْدِيًّا أو مُلْغًى فَيُنَقَّحُ حتى يُمَيَّزَ الْمُعْتَبَرَ وَيَجْتَهِدُ في تَعْيِينِ السَّبَبِ الذي أَنَاطَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِ وَأَضَافَهُ إلَيْهِ بِحَذْفِ غَيْرِهِ من الْأَوْصَافِ عن دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ وَحَاصِلُهُ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِإِلْغَاءِ الْفَرْقِ بِأَنْ يُقَالَ لَا فَرْقَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَّا كَذَا وَكَذَا وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ له في الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا في الْحُكْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا في الْمُوجِبِ له كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ فإنه لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إلَّا الذُّكُورَةُ وهو مُلْغًى بِالْإِجْمَاعِ إذْ لَا مَدْخَلَ له في الْعِلِّيَّةِ وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالَ وَأَجْرَوْهُ في الْكَفَّارَاتِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْقِيَاسَ ما أُلْحِقَ فيه بِذِكْرِ الْجَامِعِ الذي لَا يُفِيدُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ والاستدلال ما يَكُونُ الْإِلْحَاقُ فيه بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ الذي يُفِيدُ الْقَطْعَ حتى أَجْرَوْهُ مَجْرَى الْقَطْعِيَّاتِ في النَّسْخِ وَجَوَّزُوا الزِّيَادَةَ على النَّصِّ ولم يُجَوِّزُوا نَسْخَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال الْهِنْدِيُّ وَالْحَقُّ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ قِيَاسٌ خَاصٌّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مُطْلَقِ الْقِيَاسِ وهو عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا قد يَكُونُ ظَنِّيًّا وهو الْأَكْثَرُ وَقَطْعِيًّا لَكِنَّ حُصُولَ الْقَطْعِ فِيمَا فيه الْإِلْحَاقُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَكْثَرُ من الذي الْإِلْحَاقُ فيه بِذِكْرِ الْجَامِعِ لَكِنْ ليس ذلك فَرْقًا في الْمَعْنَى بَلْ في الْوُقُوعِ وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا في الْمَعْنَى وقال الْغَزَالِيُّ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ يقول بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ وَلَا نَعْرِفُ بين الْأُمَّةِ خِلَافًا في جَوَازِهِ وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيّ بِأَنَّ الْخِلَافَ فيه ثَابِتٌ بين من يُثْبِتُ الْقِيَاسَ وَيُنْكِرُهُ لِرُجُوعِهِ إلَى الْقِيَاسِ وقال الْإِبْيَارِيُّ هو خَارِجٌ عن الْقِيَاسِ وَكَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَأْوِيلِ الظَّوَاهِرِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ أبو حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ في الْكَفَّارَاتِ وقال إنَّ الْكَفَّارَةَ خَرَجَتْ

على الْأَصْلِ وقال ابن رَحَّالٍ إنْ كان الْمَقْصُودُ بِالتَّنْقِيحِ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ في حَقِّ شَخْصٍ كما في حديث الْمُجَامِعِ فَالْأَمْرُ كما قال الْحَنَفِيَّةُ وَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُسْتَعْمَلُ في حَقِّ الْأَشْخَاصِ بَلْ تَكُونُ التَّعْدِيَةُ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُكْمِي على الْوَاحِدِ حُكْمِي على الْجَمَاعَةِ وَإِنْ كان الْمَقْصُودُ تَعْلِيلًا في وَاقِعَةٍ فَلَيْسَ كما قالوا بَلْ هو من قَبِيلِ الْقِيَاسِ كما في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَدَّى من وَاقِعَةٍ إلَى وَاقِعَةٍ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ وَيَتَعَدَّى من شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ على عِلِّيَّةِ وَصْفٍ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ فَيَجْتَهِدُ في وُجُودِهَا في صُورَةِ النِّزَاعِ كَتَحْقِيقِ أَنَّ النَّبَّاشَ سَارِقٌ وَكَأَنْ يَعْلَمَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ جِهَتَهَا إلَّا بِنَوْعِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمَنَاطَ وهو الْوَصْفُ عُلِمَ أَنَّهُ مَنَاطٌ وَبَقِيَ النَّظَرُ في تَحْقِيقِ وُجُودِهِ في الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ قال الْغَزَالِيُّ وَهَذَا النَّوْعُ من الِاجْتِهَادِ لَا خِلَافَ فيه بين الْأَئِمَّةِ وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فيه فَكَيْفَ يَكُونُ قِيَاسًا وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيُّ بِمَا تَقَدَّمَ في نَظِيرِهِ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ فَهُوَ الِاجْتِهَادُ في اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الذي دَلَّ النَّصُّ أو الْإِجْمَاعُ عليه من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ عِلَّتِهِ أَصْلًا وهو مُشْتَقٌّ من الْإِخْرَاجِ فَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّفْظَ لم يَتَعَرَّضْ لِلْمَنَاطِ بِحَالٍ فَكَأَنَّهُ مَسْتُورٌ أُخْرِجَ بِالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِالطُّعْمِ فَكَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَخْرَجَ الْعِلَّةَ وَلِهَذَا سُمِّيَ تَخْرِيجًا بِخِلَافِ التَّنْقِيحِ فإنه لم يُسْتَخْرَجْ لِكَوْنِهِ مَذْكُورًا في النَّصِّ بَلْ نَقَّحَ الْمَنْصُوصَ وَأَخَذَ منه ما يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ وَتَرَكَ ما لَا يَصْلُحُ قال الْغَزَالِيُّ وَهَذَا الِاجْتِهَادُ الْقِيَاسُ الذي وَقَعَ الْخِلَافُ فيه وقال الْبَزْدَوِيُّ هو الْأَغْلَبُ في مُنَاظَرَاتِهِمْ لِأَنَّهُ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَتُوَجَّهُ عليه سَائِرُ الْأَسْئِلَةِ

وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ وَإِثْبَاتُهُ في الْفَرْعِ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أَيْ إذَا ظَنَنَّا أو عَلِمْنَا الْعِلَّةَ ثُمَّ نَظَرْنَا وُجُودَهَا في الْفَرْعِ وَظَنَنَّا تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ فَهُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أُمُورٌ تَتَّصِلُ بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ ليس دَالًّا على الْعِلِّيَّةِ بِعَيْنِهِ بَلْ هو دَالٌّ على اشْتِرَاكِ الصُّورَتَيْنِ في الْحُكْمِ بِخِلَافِ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ فإنه لَا بُدَّ فيه من تَعْيِينِ الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ على عِلِّيَّتِهَا فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ من طُرُقِ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا أَصْلًا بَلْ هو من طُرُقِ إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عنه بِالْمَنْطُوقِ قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ الثَّانِي ذَكَرَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ لَا يَكُونُ من قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَسْتَقِرُّ بِالدَّلَالَةِ على كَوْنِهِ عِلَّةً بَلْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ دَلِيلُ الْحَذْفِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ من قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ في جَدَلِهِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْحَذْفِ إنَّمَا أَفَادَنَا كَوْنَ الْحَذْفِ غير مُرَادٍ فَأَمَّا كَوْنُ الْبَاقِي مُرَادًا فَإِنَّمَا اسْتَفَدْنَاهُ من الظَّاهِرِ فَكَانَ مُؤَثِّرًا إلَّا أَنَّهُ دُونَ الْمُؤَثِّرِ في الرُّتْبَةِ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ زَعَمَ أَنَّ هذا الْمَسْلَكَ هو مَسْلَكُ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَلَا يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا آخَرَ وَلَيْسَ كما قال بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَصْرَ في دَلَالَةِ السَّبْرِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ إمَّا اسْتِقْلَالًا أو اعْتِبَارًا وفي نَفْيِ الْفَارِقِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ لَا لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ بَلْ هو نَقِيضُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُنَاكَ عَيَّنَ جَامِعًا بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَعَيَّنَ هُنَا الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهٌ عَدَّ صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ من الْمَسَالِكِ نَفْيَ الْفَارِقِ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْفَرْعَ لم يُفَارِقْ الْأَصْلَ إلَّا فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا في الْمُؤَثِّرِ كَالسِّرَايَةِ في الْأَمَةِ قِيَاسًا على الْعَبْدِ وهو عَجِيبٌ فإنه لَا يَدُلُّ على أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ عِلَّةٌ وَإِنَّمَا يَدُلُّ على أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ من حَيْثُ الْجُمْلَةُ مُتَحَقِّقَةٌ في الْفَرْعِ من غَيْرِ تَعْيِينٍ وَلِهَذَا لم يُعِدَّهُ أَحَدٌ من الْجَدَلِيِّينَ من مَسَالِكِ التَّعْلِيلِ وهو قَرِيبٌ من السَّبْرِ إلَّا أَنَّهُ في السَّبْرِ يَبْطُلُ الْجَمْعُ إلَّا وَاحِدًا وفي نَفْيِ الْفَارِقِ يَبْطُلُ وَاحِدٌ فَتَتَعَيَّنُ الْعِلَّةُ بين الْبَاقِي وَالْبَاقِي مَوْجُودٌ في الْفَرْعِ فَيَلْزَمُ اشْتِمَالُهُ على الْعِلَّةِ ثُمَّ على أَصْلِهِ وَلَا بُدَّ فيه من تَفْصِيلٍ فَإِنْ كانت مُقَدِّمَاتُهُ قَطْعِيَّةً فَهُوَ صَحِيحٌ أو ظَنِّيَّةً لم يَصِحَّ لِأَنَّ الْقَطْعَ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ في الْفَرْعِ لم يَحْصُلْ وهو شَرْطٌ عِنْدَهُ

وَعَدَّ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ من طُرُقِ الْعِلَّةِ أَنْ لَا يَجِدَ الدَّلِيلَ على عَدَمِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فقال ليس على الْقَائِسِ إذَا لم يَجِدْ شيئا مِمَّا قَدَّمْنَاهُ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْعِلَّةَ التي اسْتَنْبَطَهَا على مُبْطِلَاتِ التَّعْلِيلِ فَإِنْ لم يَجِدْ قَادِحًا وَعَرَضَهَا على أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فلم يَجِدْ فيها ما يُنَافِي عِلَّتَهُ فَيَحْكُمُ بِسَلَامَةِ الْعِلَّةِ حِينَئِذٍ وَأَطْنَبَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في تَغْلِيطِهِ وقال هذا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ له وَقُصَارَاهُ الِاكْتِفَاءُ بِدَعْوَى مُجَرَّدَةٍ وَالِاكْتِفَاءُ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ على فَسَادِهَا فَلِمَ يُنْكِرُ على الْقَائِلِ أنها تَفْسُدُ بِعَدَمِ الدَّلَالَةِ على صِحَّتِهَا فَإِنْ قال عَدَمُ دَلَالَةِ الْفَسَادِ دَلَالَةُ صِحَّتِهَا قِيلَ عَدَمُ الدَّلَالَةِ على صِحَّتِهَا دَلَالَةٌ على فَسَادِهَا فَتَقَابَلَ الْقَوْلَانِ وَتَجَدَّدَ دَعْوَى الْخَصْمِ وقد عَدَّ بَعْضُهُمْ من طُرُقِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ هذا الْوَصْفُ على تَقْدِيرِ عَدَمِ عِلِّيَّتِهِ لَا يَأْتِي معه ذلك فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِيُمْكِنَ الْإِتْيَانُ معه بِالْمَأْمُورِ بِهِ وهو دَوْرٌ لِأَنَّ تَأَتِّي الْقِيَاسِ يَتَوَقَّفُ على ثُبُوتِ الْعِلَّةِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْعِلَّةَ بِهِ لَتَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ عليه وَلَزِمَ الدَّوْرُ

الِاعْتِرَاضَاتُ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ما يُورِدُهُ الْمُعْتَرِضُ على كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ يُسَمَّى اعْتِرَاضًا لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ لِكَلَامِهِ وَمَنَعَهُ من الْجَرَيَانِ قال صَاحِبُ خُلَاصَةِ الْمَآخِذِ الِاعْتِرَاضُ عِبَارَةٌ عن مَعْنًى لَازِمُهُ هَدْمُ قَاعِدَةِ الْمُسْتَدِلِّ وهو جَامِعٌ مَانِعٌ ثُمَّ حَصَرَهُ في عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ وقال ما عَدَاهُ دَاخِلٌ فيه فَسَادُ الْوَضْعِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ عَدَمُ التَّأْثِيرِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ النَّقْضُ الْقَلْبُ الْمَنْعُ التَّقْسِيمُ الْمُطَالَبَةُ الْمُعَارَضَةُ قال وَالْكُلُّ مُخْتَلَفٌ فيه إلَّا الْمَنْعَ وَالْمُطَالَبَةَ مع أَنَّ فيه خِلَافًا شَاذًّا وَخَالَفَ في الْمَنْعِ غَيْرُ وَاحِدٍ من الْأَئِمَّةِ وهو الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الْعَنْبَرِيُّ على حَسَبِ ما سَمِعْته من الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَحْمَدَ الْخَطَّابِيِّ انْتَهَى وَتَنْقَسِمُ في الْأَصْلِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُطَالَبَاتٌ وَقَوَادِحُ وَمُعَارَضَةٌ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ تَسْلِيمَ مُقَدَّمَاتِ الدَّلِيلِ أو لَا وَالْأَوَّلُ الْمُعَارَضَةُ وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ ذلك الدَّلِيلَ أو لَا وَالْأَوَّلُ الْمُطَالَبَةُ وَالثَّانِي الْقَادِحُ وقد أَطْنَبَ الْجَدَلِيُّونَ فيها لِاعْتِمَادِهِمْ إيَّاهَا وَمِنْهُمْ من أَنْهَاهَا إلَى الثَّلَاثِينَ وَغَالِبُهَا يَتَدَاخَلُ وَأَعْرَضَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ عن ذِكْرِهَا في أُصُولِ الْفِقْهِ وَزَعَمَ أنها كَالْعِلَاوَةِ عليه وَأَنَّ مَوْضِعَ ذِكْرِهَا عِلْمُ الْجَدَلِ وَذَكَرَهَا جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّهَا من مُكَمِّلَاتِ الْقِيَاسِ الذي هو من أُصُولِ الْفِقْهِ وَمُكَمِّلُ الشَّيْءِ من ذلك الشَّيْءِ وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ أَكْثَرَ قَوْمٌ من ذِكْرِ الْمَنْطِقِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْكَلَامِيَّةِ لِأَنَّهَا من مَوَادِّهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ ليس الْمُرَادُ من وُرُودِهَا على الْقِيَاسِ أنها تَرِدُ على كل قِيَاسٍ لِأَنَّ من الْأَقْيِسَةِ ما لَا يَرِدُ عليه بَعْضُهَا كَالْقِيَاسِ مع عَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَا يَتَّجِهُ عليه فَسَادُ الِاعْتِبَارِ إلَّا من ظَاهِرِيٍّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْقِيَاسَ وَاللَّفْظُ الْبَيِّنُ لَا يَرِدُ عليه الِاسْتِفْسَارُ وَعَلَى هذا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ كل وَاحِدٍ من الْأَسْئِلَةِ على الْبَدَلِ عن بَعْضِ الْأَقْيِسَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْوَارِدَةَ على الْقِيَاسِ لَا تَخْرُجُ عن هذه الطُّرُقِ وَنَظِيرُ هذا قَوْلُ أَهْلِ التَّصْرِيفِ إنَّ حُرُوفَ الزِّيَادَةِ هِيَ سَأَلْتُمُونِيهَا على مَعْنَى أَنَّ الْحُرُوفَ الزَّائِدَةَ على أُصُولِ مَوَادِّ الْكَلِمَةِ لَا تَزِيدُ على هذه لَا أَنَّ هذه الْحُرُوفَ حَيْثُ وَقَعَتْ كانت زَائِدَةً لِأَنَّ كَثِيرًا منها وَقَعَ أُصُولًا فَاعْرِفْهُ وما ذَكَرْنَاهُ من انْقِسَامِهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وقال الْمُتَأَخِّرُونَ تَرْجِعُ إلَى اثْنَيْنِ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ

مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عن الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَمَّ الدَّلِيلُ ولم يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ فَإِنْ قِيلَ الْقَوْلُ بِرُجُوعِهَا إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ من جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضَاتِ فَيُؤَدِّي إلَى انْقِسَامِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ وَإِلَى أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ لُزُومِ انْدِرَاجِ الْمُعَارَضَةِ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ قُلْنَا إذَا كان الْمُنْقَسِمُ إلَى هذه الْأَقْسَامِ هو مُطْلَقُ الْمُعَارَضَةِ وَمُطْلَقُ الْمَنْعِ لَا يَلْزَمُ ذلك لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ

الأول النقض
وقدمناه وإن كان من آخر الأسئلة لكثرة جريانه في المناظرات وبالجواب عنه يبين الجمع بين الأحكام المتضادة ويندفع تعارضها وهو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة فإن كان في المناظرة اشترط في صحته اعتراف المستدل بذلك وتسميته نقضا صحيح عند من رآه قادحا وأما من لم يره قدحا فلا يسميه نقضا بل يقول بتخصيص العلة وقد بالغ أبو زيد في الرد على من يسميه نقضا كقولنا فيمن لم يبيت النية صوم تعرى أوله عن النية فلا يصح فيقال فينتقض بصوم التطوع واعلم أولا أن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم عنها إما لمانع أو فوات شرط أو دونهما فصارت الصور تسعا من ضرب ثلاثة في ثلاثة وقد اختلفوا فيه على بضعة عشر مذهبا طرفان والباقي أوساط أحدها أنه يقدح في الوصف المدعى عليته مطلقا سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة وسواء كان الحكم لمانع أو لا لمانع وهو مذهب المتكلمين منهم الأستاذ أبو إسحاق كما حكاه إمام الحرمين وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام الرازي وعليه أكثر أصحابنا ونسبوه إلى الشافعي ورجحوا أنه مذهب الشافعي على غيره لأن علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها وأن النقض يشبه تجريح البينة المعدلة واختاره القاضيان أبو بكر وعبد الوهاب من المالكية والثاني لا يقدح مطلقا في كونها علة فيما وراء محل النقض ويتعين تقدير مانع أو تخلف شرط وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وقال الباجي حكاه القاضي والشافعية عن أصحاب مالك ولم أر أحدا من أصحابنا أقر به ولا نصره ووجهه أن العلة بالنسبة إلى محالها ومواردها كالعموم اللفظي بالنسبة إلى موضوعاتها فكما جاز تخصيص العموم اللفظي وإخراج بعض ما تناوله فكذلك في العلة وفرق الأولون

بينه وبين العام بأن العلة مستلزمة للمعلول إذ هو معناها فإذا انتفى الاستلزام فقد انتفى لازم العلة فتنتفي العلية وهذا مفارق العام لأن العام إما أن ينظر فيه إلى الدلالة الوضعية وتلك لا تنتفي بالتخصيص وإما أن ينظر فيه إلى الإرادة للباقي والثالث لا يقدح في المنصوصة ويقدح في المستنبطة واختاره القرطبي وحكاه إمام الحرمين عن المعظم فقال ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة ثم قال مسألة علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف طردها ذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع لأنه لا يعرض له في التخصيص بخلاف المستنبطة فإن مستنده ظني وإذا تباعد ما استنبطه عن الجريان ضعفت مسالك ظنه وليس له أن يحكم بتخصيص العلة وقال في المحصول زعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته والمراد بالمنصوصة عند هؤلاء أن تكون منصوصة بالصريح أو بالإيماء أو بالإجماع كما نقله صاحب التنقيح وحكى بعض المناظرين قولا أنه لا يقدح في المنصوصة بنص قطعي ويقدح فيما عدا ذلك والرابع يبطل المنصوصة دون المستنبطة عكس ما قبله حكاه ابن رحال في شرح المقترح وينبغي حمله على المنصوصة بغير قطعي والخامس لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو شرط ويقدح في المنصوصة حكاه ابن الحاجب وقد أنكروه عليه وقالوا لعله فهم من كلام الآمدي وعند التأمل يندفع من كلامه وقد حكاه ابن رحال أيضا في شرح المقترح والسادس لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة فإن لم يكن مانع قدح واختاره البيضاوي والهندي وفقد الشرط ملحق بالمانع والسابع يجوز في المستنبطة في صورتين ولا يقدح فيهما وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها وهي ما إذا كان التخلف دونهما وأما المنصوصة فإن كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز وإن كان قطعيا لم يجز أي لم يمكن وقوعه لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل وهو لا يمكن أن يكون قطعيا لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا لا ظنيا لأن الظني لا يعارض القطعي وهذا اختيار ابن الحاجب وهو قريب من تفصيل الآمدي وحاصله أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام ولا في المستنبطة إلا لمانع أو فقد شرط والمنع ظاهر في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط

فإن كان فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل لأنه حينئذ يكون مخصصا للنص القطعي إلا أن يقدروا أن دلالة النص على جميع أفراده قطعية لأنه حينئذ لا يمكن التخلف والثامن حكاه القاضي عن بعض المعتزلة أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوها مما لا يكون حظرا قال وحملهم على ذلك قولهم لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى والتاسع إن انتقضت على أصل من نصب عليته لم يلزمه بها الحكم وإن اطردت على أصل من أوردها ألزم حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين قال وهو حشو من الكلام لولا أنه أودع كتابا مستعملا لكان تركه أولى والعاشر أنه يمنع المستدل من الاستدلال بالمنقوض ولا يدل على فساده لأن الدليل قد يكون صحيحا وينقضه المستدل به على نفسه ولا يكون انتقاضه على أصله دليلا على فساد دليله في نفسه حكاه الأستاذ أبو منصور والحادي عشر إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه ومثله لا ينقض وإنما تجيء المناقضة على الطرد حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد ورده بأن النقض يثير فقد تأثير العلة والثاني عشر وهو اختيار إمام الحرمين إن كانت العلة مستنبطة فإن اتجه فرق بين محل التعليل وبين صورة النقض بطلت عليته لكون المذكور أولا جزءا من العلة وليست علة تامة وإن لم يتجه فرق بينهما فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت عليته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة وإن طرد مسألة إجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهو موضع التوقف فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علية العلل تعللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضها تقصير وهي آكد في الإبطال من المعارضة فإن علة المعارضة لا تعرض لعلة المستدل وهذه متعرضة لها هذا رأيه في المستنبطة وحاصله أن النقض قادح فيما إذا لم يقدح فرق أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه أو لم يكن ثابتا بقطعي أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض يعني تعارض العلة التي ذكرها المستدل ومنعها من الجريان وإن لم يكن كذلك فالتوقف وقال ابن عطاء الله في مختصر البرهان الصواب في هذا أن ينظر فإن كانت العلة المعارضة لعلة المعلل في الصورة المناقضة أقوى في المناسبة لم تبطل علته

لأن تخلف الحكم لعارض راجح وإن كانت أدنى بطلت وإن تساوتا فالوقف انتهى وأما المنصوصة فإن كانت بنص ظاهر فيظهر بما أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل بأن ظهر ذلك من مقتضى لفظه فتخصيص الظاهر وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص فلا مطمع في تخصيصها لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد ونص الشارع لا يصادم وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمنع من ذلك وقال إلكيا ميل الإمام إلى أنه إن كان لا يتجه في صورة النقض معنى أمكن تقدير مشابهة محل النزاع إياها في ذلك المعنى فلا يعد نقضا فإن منشأ النقض عنده أن يبين كون محل النزاع نازعا إلى أصلين متنافيين وليس أحدهما بأولى من الآخر فإنه إذا كانت شهادة الأصل متأيدة بالمعنى فلا شهادة بصورة النقض من حيث لا مشابهة فاعتبار وجه الشهادة أولى قال إلكيا وهذا حسن بين فلو كان يتجه معه ولو على بعد فإن ذلك يعد نقضا وحاصله أن النقض لا يبطل أصل الدلالة ولكن يقدح في ثبوتها فلا يتبين به انعدامه قال إلكيا والذي عندنا أن ما لا يبين به معين ولا يتأتى فيه وجه تشبيه فهو لا ينفك عن ظهور استثناء في مقصود الشرع هذا في العلل المخيلة أما الأشباه فستأتي مراتبها ثم قال والحاصل أن شهادة العلة إن ترجحت قطعا على شهادة صورة النقض لمحل النزاع فلا نقض به فعلى هذا النقض ليس أصلا بنفسه ولكن هو من قبيل المعارضة وفيها مزيد قوة لما تقدم والثالث عشر وهو اختيار الغزالي فقال تخلف الحكم عن العلة له ثلاث صور إحداها أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم اطرادها وهو ينقسم إلى ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استيفاء قاعدة القياس فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى فيكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد على علة مقطوعة كإيجاب صاع من التمر في المصراة وضرب الدية على العاقلة أو مظنونة كالعرايا فإنها لا تقتضي التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة ولم يرد ورود النسخ للربا ودليل كونه يستثنى أنه يرد على كل علة كالكيل وغيره وأما إذا لم يرد مورد الاستثناء فإن كانت منصوصة قدح لأنه تبين بعد النقض أن النص إنما فيه بعض العلة وجزؤها فإن قيده في العلة تمت كقولنا خارج

فتنتقض الطهارة أخذا من قوله الوضوء مما خرج ثم بان أنه لم يتوضأ عن الحجامة فيعلم أن العلة بتمامها لم تذكر في الحديث وأن العلة إنما هي الخارج من السبيلين فكان مطلق الخروج بعض العلة وإن لم يكن كذلك وجب تأويل التعليل وأنه غير مراد لقوله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ثم علل ذلك بقوله ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومعلوم أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب فتكون العلة منصوصة ولا يقال إنه علة في حقهم خاصة لأنه يعد تهافتا في الكلام فثبت أن الحكم المعلل بذلك ليس هو التخريب المذكور بل هو لازمه أو جزؤه الأعم وهو كونه عذابا ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب بخراب البيت أو بغيره وإن كانت العلة مستنبطة فإن انقدح جواب عن محل النقض تبين أن ما ذكرناه ليس تمام العلة وإن لم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون النقض دليلا على فساد العلة وأن يكون معرفا لتخصيصها فهذا يجب الاحتراز عنه بينهم في الجدل للمناظر وأما المجتهد المناظر فيحتمل إلحاقه به فيجب عليه اعتقاد فسادها ويحتمل أن يعتقد استناده رخصة الثانية أن تنتفي العلة لا لخلل في نفسها لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم حاصل فيه تقديرا كقولنا إن علة رق الولد ملك الأم ثم وجدنا المغرور بحرية أمه ينعقد ولده حرا فقد وجد رق الأم وانتفى رق الولد لكن عارضته علة أخرى وهي وجوب الغرم على المغرور ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لم تجب قيمة الولد الثالثة أن يميل النقض عن صوب جريان العلة ويتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها وشرطها وأهلها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجدت في حق النباش فينتقض بسرقة الصبي ونحوه أو دون النصاب أو من غير حرز فهذا لا يلتفت إليه المجتهد لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس البحث عن المحل والشرط واختلف فيه الجدليون والخطب فيه سهل وتكليف الاحتراز جمع لنشر

الكلام وهو تفصيل حسن وَقَسَّمَ ابن الْقَطَّانِ النَّقْضَ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةً على أَصْلِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ ليس لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عنها لِأَنَّهُمَا قد اتَّفَقَا على إبْطَالِهَا ثَانِيهَا أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً على أَصْلِهِمَا جميعا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَسْئُولَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا إلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا بِوَجْهٍ من وُجُوهِ الْإِبْطَالِ كَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّ يَسْأَلُ الشَّافِعِيُّ عن الْمُتَكَلِّمِ في الصَّلَاةِ سَاهِيًا فقال لم تَبْطُلْ صَلَاتُهُ قِيَاسًا على من وَطِئَ في حَجِّهِ نَاسِيًا لِأَنَّا قد اتَّفَقْنَا على بُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ لو تَعَمَّدَ بَطَلَ فَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ هذا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ على أَصْلِيَ لِأَنَّ من أَصْلِيَ أَنَّ من وَطِئَ في صَوْمِهِ وَأَكَلَ نَاسِيًا لم يَبْطُلْ وَلَوْ وَطِئَ عَامِدًا يَبْطُلْ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ غير هذه الْعِلَّةِ فَإِنْ قال السَّائِلُ إنِّي أَلْزَمْتُك هذا لِتَقُولَ بِهِ في كل فُرُوعِك فَلِلْمَسْئُولِ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُنِي لِأَنَّ من شَرْطِ السَّائِلِ أَنْ يُسَلِّمَ لِلْمَسْئُولِ أُصُولَهُ كُلَّهَا ما خَلَا الْمَسْأَلَةَ الْمُخْتَلَفِ فيها وَثَالِثُهَا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ جَارِيَةً على أَصْلِ الْمَسْئُولِ مُنْتَقَضَةً على أَصْلِ السَّائِلِ كَالْعِرَاقِيِّ يَسْأَلُ الشَّافِعِيَّ عن الْحَائِضِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا هل يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا فقال لَا فقال له السَّائِلُ لِمَ قُلْت بِالْجَوَازِ وَيَكُونُ دَلِيلُ ذلك أَنَّا قد اتَّفَقْنَا على أَنْ يَجُوزَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا وكان الْمَعْنَى في ذلك جَوَازَ الصَّوْمِ لها وَكُلُّ من جَازَ له الصَّوْمُ جَازَ له الْقُرْبَانُ فَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ هذه الْعِلَّةَ وَإِنْ كانت جَارِيَةً على أَصْلِي فَهِيَ بَاطِلَةٌ على أَصْلِك فَلَا يَجُوزُ لَك إلْزَامُهَا وَذَلِكَ أَنَّ دَمَهَا لو انْقَطَعَ دُونَ الْعَشْرِ عِنْدَك لَجَازَ لها أَنْ تَصُومَ ولم يَجُزْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ لَا يَجُوزُ لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَنْقُضَ عِلَّةَ السَّائِلِ بِأَصْلِ نَفْسِهِ وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وكان الْجُرْجَانِيُّ منهم يَسْتَعْمِلُهُ وَذَكَرَهُ في تَصْنِيفِهِ الْمُسَمَّى بِ التَّهْذِيبِ قال الْقَاضِي وَسَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْأَشْعَرِيَّ عن ذلك فقال له وَجْهٌ في الِاحْتِمَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَهْرُ الْمِثْلِ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ لِأَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ أَصْلُهُ الْمُسَمَّى في الْعَقْدِ فيقول الْمَسْئُولُ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ هذا يَنْتَقِضُ على أَصْلِيَ بِالْمُسَمَّى بَعْدَ الْعَقْدِ فإنه يَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ وَلَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ جَمِيعُهُ كما يَسْقُطُ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ أو يقول الْمُخَالِفُ لَا يَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا السُّكْنَى لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لها قِيَاسًا على الْمُعْتَدَّةِ من وَطْءِ الشُّبْهَةِ فيقول الشَّافِعِيُّ هذا يَنْتَقِضُ بِالْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ الْحَائِلِ فإنه لَا نَفَقَةَ لها وَيَجِبُ السُّكْنَى

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ كما يَجْرِي الْخِلَافُ في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَكَذَلِكَ يَجْرِي في الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَنَّهُ يَتَخَلَّفُ عنها مَعْلُولُهَا فَأَجَازَهُ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ حَكَاهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنَّ الْأُسْتَاذَ حَكَى إجْمَاعَ الْجَدَلِيِّينَ على أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ لَا يُخَصَّصُ وَعَلَى أَنَّ تَخْصِيصَهُ نَقْضٌ له وَعَلَى أَنَّ نَقْضَهُ يَمْنَعُ عن التَّعَلُّقِ بِهِ وَلِذَا قال ابن فُورَكٍ الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِلَا خِلَافٍ الثَّانِي أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ من فُرُوعِ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَإِنْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَهَا لم يَتَّجِهْ الْقَدْحُ بِالنَّقْضِ وَإِلَّا اتَّجَهَ الثَّالِثُ ادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيِّ أَيْضًا وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ وَأَنَّهُ يُلْتَفَتُ إلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِمَاذَا إنْ فُسِّرَتْ بِالْمُوجِبَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ عِلِّيَّتُهَا مع الِانْتِقَاضِ أو الْمُعَرِّفَةِ فَتُصُوِّرَتْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْخِلَافُ بِلَفْظِيٍّ وَلَهُ فَوَائِدُ إحْدَاهَا جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ أَمْ لَا الثَّانِيَةُ أَنَّ من مَنَعَ التَّخْصِيصَ لَا يُجَوِّزُ أَصْلًا تَطَرُّقُهُ إلَى نَصِّ الشَّارِعِ على التَّعْلِيلِ بِهِ وَإِنْ أُومِئَ إلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذلك لم يَكُنْ إيمَاءً إلَى التَّعْلِيلِ لِوُرُودِ التَّخْصِيصِ وَالْمُجَوِّزُ لِلتَّخْصِيصِ يقول يَبْقَى ذلك عِلَّةً في مَحَلِّهِ ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الثَّالِثَةُ انْقِطَاعُ الْمُسْتَدِلِّ إنْ قُلْنَا يُقْدَحُ وَعَدَمُ انْقِطَاعِهِ إنْ مَنَعْنَاهُ الرَّابِعُ هل يُسْمَعُ من الْجَدَلِيِّ قَوْلُنَا أَرَدْت بِالْعُمُومِ الْخُصُوصَ أو لَا فَالْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يَسْمَعُونَهُ وَالْمَانِعُونَ لَا يَسْمَعُونَهُ وقد نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَدْرِيسِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَّقَهُ عنه بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا إِسْحَاقَ قال إطْلَاقُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعْضُ سَائِغٌ وَأَمَّا الْمُعَلِّلُ بِلَفْظٍ عَامٍّ فَلَا يُقْبَلُ منه إذَا نُقِضَ عليه كَلَامُهُ وقال إنَّمَا أَرَدْت كَذَا إذْ لو جَوَّزْنَا ذلك لَمَا تُصُوِّرَ إبْطَالُ عِلَّةٍ أَصْلًا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إنَّمَا يُخَاطِبُ لِيُفْهِمَ صَاحِبَهُ وَيَفْهَمَ عنه وَصَاحِبُ الشَّرْعِ له أَنْ يُبَيِّنَ وَيُؤَخِّرَ الْبَيَانَ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيُخَاطِبَ بِمُحْتَمَلٍ وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُعَلِّلَ الْعِلَّةَ مُجْمَلَةً وَيُفَسِّرَهَا قال وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من جَوَّزَ ذلك قال وَمُجَوِّزُهُ لَا يُمَيِّزُ انْتَهَى وَهَذَا الذي نَقَلَهُ عن الْأُسْتَاذِ قد يَسْتَشْكِلُ بِمَا حَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن الْأُسْتَاذِ أَيْضًا أَنَّهُ قال في عِلَّةِ الشَّارِعِ يَجِبُ اطِّرَادُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ عليها ما يُخَالِفُ طَرْدَهَا

وقد يُجَابُ بِأَنَّ وُرُودَهَا في كَلَامِ الشَّارِعِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لم يُرِدْ مَحَلَّ النَّقْضِ وَأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَهُ وَذَلِكَ مَقْبُولٌ منه بِخِلَافِ غَيْرِهِ فإنه لَا يُسْمَعُ منه قَوْلُهُ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا أَرَدْت أنها عِلَّةٌ فِيمَا وَرَاءَ ذلك الْمُخْرَجِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ لِأَنَّهُ كَالدَّعْوَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ وقال صَاحِبُ الْمَحْصُولِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ إذَا فَسَّرْنَا الْعِلَّةَ بِالدَّاعِي أو بِالْمُوجِبِ لم نَجْعَلْ الْعَدَمَ جُزْءًا من الْعِلَّةِ بَلْ كَاشِفًا عن حُدُوثِ الْعِلَّةِ وَمَنْ يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ لَا يقول بِذَلِكَ وَإِنْ فَسَّرْنَا بِالْأَمَارَةِ ظَهَرَ الْخِلَافُ في الْمَعْنَى لِأَنَّ من أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِالْمُنَاسَبَةِ بَحَثَ عن ذلك الْقَيْدِ الْعَدَمِيِّ فَإِنْ وَجَدَ فيه مُنَاسَبَةً صَحَّحَ الْعِلَّةَ وَإِلَّا أَبْطَلَهَا وَمَنْ يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ لَا يَطْلُبُ الْمُنَاسَبَةَ أَلْبَتَّةَ من هذا الْقَيْدِ وما ذَكَرُوا من تَكَرُّرِ وُجُودِ الْغَيْمِ وَلَا مَطَرَ مع أَنَّ كَوْنَهَا أَمَارَةً لم يَزُلْ قد رَدَّهُ ابن السَّمْعَانِيِّ فقال الْأَمَارَةُ وَإِنْ لم تَزُلْ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَضْعُفَ وَلَا بُدَّ في الْأَمَارَةِ من تَوَفُّرِ الْقُوَّةِ من كل وَجْهٍ لِأَنَّ هذا ظَنٌّ يُثِيرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَا بُدَّ من بُلُوغِهِ نِهَايَةَ الْقُوَّةِ وَأَنْ لَا يُتَوَهَّمَ قُوَّةٌ من الظَّنِّ وَرَاءَ قُوَّتِهِ حتى يُعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ لِوُجُودِ الِاطِّرَادِ حتى لَا تَتَخَلَّفَ هذه الْأَمَارَةُ في مَوْضِعٍ ما فإذا تَخَلَّفَتْ لم تَتَوَفَّرْ الْقُوَّةُ من كل وَجْهٍ قال وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ اعْتَمَدْتُهُ وهو مَحَلُّ الِاعْتِمَادِ الْخَامِسُ إذَا ذَكَرَ عِلَّةً فَنُقِضَ عليه بِمَا خَصَّ بِهِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهَلْ يَلْزَمُ ذلك فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا لَا لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ في حُكْمِ الْمَنْسُوخِ فَلَا تُنْقَضُ الْعِلَّةُ بِهِ وَالثَّانِي نعم لِأَنَّ نَقْضَ الْعِلَّةِ بِحُكْمٍ في الشَّرْعِ فَأَشْبَهَ النَّقْضَ بِمَا لَا يُخَصُّ بِهِ

فَصْلٌ إذَا فَرَّعْنَا على أَنَّ التَّخَلُّفَ لَا يَقْدَحُ في الْعِلِّيَّةِ فَوَاضِحٌ وَطَرِيقُهُ في الدَّفْعِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صُورَةَ النَّقْضِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ أو بِالْإِجْمَاعِ أو يُظْهِرُ الْمُعَلِّلُ مَانِعًا من ثُبُوتِ الْحُكْمِ في صُورَةِ النَّقْضِ كما لو قال يَجِبُ الْقِصَاصُ في الْمُثْقَلِ قِيَاسًا على الْمُحَدَّدِ فَإِنْ نُقِضَ بِقَتْلِ الْوَالِدِ فإن الْوَصْفَ فيه مع تَخَلُّفِ الْحُكْمِ قُلْنَا تَخَلَّفَ لِمَانِعٍ وهو أَنَّ الْوَالِدَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِانْعِدَامِهِ وَإِنْ فَرَّعْنَا على أَنَّهُ يَقْدَحُ فَلَا بُدَّ من مَنْعِهِ وَلَهُ طُرُقٌ أَحَدُهَا مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ بِتَمَامِهَا في صُورَةِ النَّقْضِ لَا عِنَادًا بَلْ بِنَاءً على وُجُودِ قَيْدٍ مُنَاسِبٍ أو مُؤَثِّرٍ في الْعِلَّةِ وهو غَيْرُ حَاصِلٍ في صُورَةِ النَّقْضِ كَقَوْلِنَا طَهَارَةٌ عن حَدَثٍ فَشَرْطٌ فيها النِّيَّةُ كَالتَّيَمُّمِ فَإِنْ نُقِضَ بِالطَّهَارَةِ عن النَّجَاسَةِ قُلْنَا ليس الْحَدَثُ كَالنَّجَاسَةِ وَقَوْلُنَا فِيمَنْ لم يَنْوِ في رَمَضَانَ لَيْلًا تَعَرَّى أَوَّلَ صَوْمِهِ عن النِّيَّةِ فَلَا يَصِحُّ فَإِنْ نُقِضَ بِالتَّطَوُّعِ قُلْنَا الْعِلَّةُ عَدَا أَوَّلُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ لَا مُطْلَقُ الصَّوْمِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ سَأَلْت بَعْضَ شُيُوخِ الشَّافِعِيَّةِ عن التَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ فقال لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ إلَى شَطْرِهَا لِعُذْرٍ فَكَانَ التَّرْتِيبُ من شَرْطِهَا أَصْلُهُ الصَّلَاةُ فَيَنْقُضُهُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فقال إنَّمَا عَلَّلْتُ لِإِلْحَاقِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ وهو نَوْعُ طَهَارَةِ الْحَدَثِ بِنَوْعِ الصَّلَاةِ في أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ في طَهَارَةٍ فيها تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ فَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَوْضِعِ الذي يَجِبُ فيه فلم أَقْصِدْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا قال الْمُعْتَرِضُ ما ذَكَرْت من الْعِلَّةِ مَنْقُوضٌ بِكَذَا فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ وَيُطَالِبَهُ بِالدَّلِيلِ على وُجُودِهَا في مَحَلِّ النَّقْضِ وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ مَمْنُوعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا في صُورَةِ النَّقْضِ ظَاهِرًا أَمْ لَا فَإِنْ كان كَقَوْلِهِمْ طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ فإن تَحَقُّقَ الطَّهَارَةِ في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعْلُومٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ على وُجُودِ الْعِلَّةِ في صُورَةِ التَّخَلُّفِ وَإِنْ لم يَكُنْ كَقَوْلِهِ الطُّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا فيقول هو مَنْقُوضٌ بِالطِّينِ أو الْمَاءِ فَيَمْنَعُ الْمُعَلِّلُ وُجُودَ الطُّعْمِ في الْمَاءِ فَهَلْ لِلْمُعْتَرِضِ الِاسْتِدْلَال على وُجُودِهَا قال الْأَكْثَرُونَ لَا يُمْكِنُ ذلك لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ من مَسْأَلَةٍ قبل تَمَامِهَا إلَى أُخْرَى لِأَنَّهُ انْتَقَلَ من دَعْوَى وُجُودِ الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ إلَى دَعْوَى وُجُودِ الدَّلِيلِ على ذلك وَلِأَنَّ فيه قَلْبَ الْقَاعِدَةِ إذْ يَصِيرُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا

وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا وَقِيلَ يُمْكِنُ منه تَحْقِيقًا لِلنَّقْضِ وقال الْآمِدِيُّ إنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْمُعْتَرِضِ في هَدْمِ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ وَجَبَ قَبُولُهُ منه تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقَدَحُ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَا يُمَكَّنُ الْمُعْتَرِضُ ما لم تَكُنْ الْعِلَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَذَا حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وقال الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ لم أَجِدْهُ في سِوَاهُ وَتَبِعَهُ الشَّارِحُونَ وهو عَجَبٌ فلم يذكر الْإِمَامُ أبو مَنْصُورٍ الْبَرَوِيِّ تِلْمِيذُ مُحَمَّدِ بن يحيى في كِتَابِهِ الْمُقْتَرَحِ غَيْرَهُ وَفَرَّقَ بين الشَّرْعِيِّ وَغَيْرِهِ بِنَشْرِ الْكَلَامِ فيه جِدًّا بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَبِأَنَّ الْأَمْرَ فيه قَرِيبٌ وَجَزَمَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ بِالْمَنْعِ ثُمَّ قال لَكِنْ إذَا أَرَادَ كَشْفَهُ عن أَصْلِ الْعِلَلِ يُمَكَّنُ من ذلك ولم يَجُزْ لِلْمُعَلِّلِ مَنْعَهُ وأورد الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ثُمَّ قال وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ليس بِانْتِقَالٍ قال وَيَعُودُ مَنَاطُ الْخِلَافِ إلَى أَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ هل يُشْتَرَطُ فيه اسْتِغْنَاؤُهُ عن الدَّلِيلِ أَمْ لَا وَيُلْزَمُ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إثْبَاتَ وُجُودِ الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ بِالدَّلِيلِ أَنْ لَا يَسْمَعَ من الْمُعَلِّلِ إثْبَاتَ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ بِالدَّلِيلِ فَإِنْ قال أَقُولُهُ وَلَا أَسْمَعُ مثله فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْجَدَلِيِّينَ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ ما لَا يُسْمَعُ اقْتِرَاحًا لَا يَقُولُهُ اسْتِدْلَالًا فَلَوْ قال الْمُعْتَرِضُ ما ذَكَرْت من الدَّلِيلِ على وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ دَالٌّ بِعَيْنِهِ على وُجُودِهَا في مَحَلِّ النَّقْضِ فَهُوَ انْتِقَالٌ من نَقْضٍ لِلْعِلَّةِ إلَى نَقْضِ دَلِيلِهَا فَلَا يُسْمَعُ وَبِهِ جَزَمَ الْآمِدِيُّ وَقِيلَ يُسْمَعُ لِأَنَّ نَقْضَ دَلِيلِ الْعِلَّةِ نَقْضُ الْعِلَّةِ نعم لو قال ذلك ابْتِدَاءً وقال يَلْزَمُك إمَّا نَقْضُ الْعِلَّةِ أو نَقْضُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على وُجُودِهَا في الْفَرْعِ كان مَسْمُوعًا يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى الْجَوَابِ عنه مَسْأَلَةٌ قال الْأَصْفَهَانِيُّ لَا يُشْتَرَطُ في الْقَيْدِ الدَّافِعِ لِلنَّقْضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا بَلْ غَيْرُ الْمُنَاسِبِ مَقْبُولٌ مَسْمُوعٌ اتِّفَاقًا وَالْمَانِعُونَ من التَّعْلِيلِ بِالشَّبَهِ يُوَافِقُونَ على ذلك وقال في الْمَحْصُولِ هل يَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِقَيْدٍ طَرْدِيٍّ أَمَّا الطَّارِدُونَ فَقَدْ جَوَّزُوهُ وَأَمَّا مُنْكِرُو الطَّرْدِ فَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَحَدَ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ إذَا لم يَكُنْ مُؤَثِّرًا لم يَكُنْ مَجْمُوعُ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرًا وَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ بين أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ الطَّرْدِيُّ يُشِيرُ إلَى مَسْأَلَةٍ تُفَارِقُ مَسْأَلَةَ النِّزَاعِ بِفِقْهٍ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْعِلَّةِ وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ الِاحْتِرَازُ عنه قال وَلَوْ فُرِضَ التَّقْيِيدُ بِاسْمٍ غَيْرِ مُشْعِرٍ بِفِقْهٍ وَلَكِنَّ مُبَايَنَةَ الْمُسَمَّى بِهِ لِمَا عَدَاهُ مَشْهُورٌ بين النُّظَّارِ فَهَلْ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بمثله

تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ اخْتَلَفَ فيه الْجَدَلِيُّونَ وَالْأَقْرَبُ تَصْحِيحُهُ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ الطَّرِيقُ الثَّانِي مَنْعُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عن الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ وَيَدَّعِي ثُبُوتَهُ فيها وهو إمَّا تَحْقِيقِيٌّ مِثْلُ السَّلَمِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه التَّأْجِيلُ كَالْبَيْعِ فَإِنْ نُقِضَ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا الْأَجَلُ ليس شَرْطًا لِصِحَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا جاء فيها لِتَقْرِيرِ الْمَعْقُودِ عليه وهو الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ أو تَقْدِيرِيٌّ وهو دَافِعٌ لِلنَّقْضِ على الْأَظْهَرِ تَنْزِيلًا لِلْمُقَدَّرِ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ كَقَوْلِنَا رِقُّ الْأُمِّ عِلَّةٌ لِرِقِّ الْوَلَدِ فَيَكُونُ هذا الْوَلَدُ رَقِيقًا فَإِنْ نُقِضَ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ حَيْثُ كان رِقُّ الْأُمِّ مَوْجُودًا مع انْعِقَادِ الْوَلَدِ حُرًّا قُلْنَا رِقُّ الْأُمِّ مَوْجُودٌ وَتَقْدِيرُ وُجُودِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ رَقِيقًا ثُمَّ يَعْتِقُ على الْمَغْرُورِ إذْ لَا قِيمَةَ لِلْحُرِّ قال في الْمَحْصُولِ وَالتَّحْقِيقِيُّ دَافِعٌ لِلنَّقْضِ إذَا كان الْحُكْمُ مُتَّفَقًا عليه بين الْمُسْتَدِلِّ وَخَصْمِهِ أو كان مَذْهَبًا لِلْمُسْتَدِلِّ فَقَطْ لِأَنَّهُ إذَا لم يَفِ بِطَرْدِ عِلَّتِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ على غَيْرِهِ أَوْلَى فَإِنْ كان مَذْهَبًا لِخَصْمِهِ فَقَطْ لم يَتَوَجَّهْ لِأَنَّ خِلَافَهُ كَخِلَافِهِ في الصُّورَةِ الْمُتَنَازَعِ فيها وَلَوْ مُنِعَ الْمُسْتَدِلُّ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فَفِي تَمْكِينِ الْمُعْتَرِضِ من الِاسْتِدْلَالِ على عَدَمِ الْحُكْمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ في مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ وَهُنَا فَرْعٌ حَسَنٌ لو نَقَضَ الْمُعْتَرِضُ فقال الْمُسْتَدِلُّ الْمُنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ إمَامٍ لَا أَعْرِفُ في هذه الْمَسْأَلَةِ نَصًّا وَلَا يَلْزَمُنِي النَّقْضُ فَهَلْ يُدْفَعُ بِذَلِكَ النَّقْضِ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ في الْجَدَلِ وَمَثَّلَهُ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ على الْقَارِنِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ صَيْدًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْضَ على إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَزِمَهُ جَزَاءَانِ كما لو أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَتَلَ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَقَتَلَ صَيْدًا فقال له هذا يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ فَجَرَحَ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَجَرَحَهُ ثُمَّ مَاتَ فإنه أَدْخَلَ النَّقْضَ على إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ فيقول الْمُخَالِفُ لَا أَعْرِفُ نَصًّا في هذه الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قال رَأَيْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ يقول في مِثْلِ هذا إذَا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُكَ على ما أَلْزَمْتُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بهذا الْقِيَاسِ قال وَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ النَّقْضُ لِأَنَّهُ وَإِنْ احْتَمَلَ ما قَالَهُ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ فَيُعْمَلُ بِهِ ما لم يَمْنَعْ مَانِعٌ كَالْعُمُومِ قبل ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ انْتَهَى وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَلِّلَ له أَنْ يُلْزَمَ بِصُورَةِ النَّقْضِ عِنْدَ الشَّيْخِ وَعِنْدَ الْقَاضِي ليس له ذلك مع احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبَ إمَامِهِ وهو أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَيْهِ في نَفْسِهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي منه بِأَنْ يَقُولَ لَا أَعْرِفُ نَصًّا في هذه الْمَسْأَلَةِ

وَذَكَرَ الْقَاضِي أبو يَعْلَى من الْحَنَابِلَةِ جَوَابَيْنِ آخَرَيْنِ عن النَّقْضِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ ما ظَنَّهُ الْمُعْتَرِضُ فَأَوْرَدَ نَقْضًا الثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ التَّسْوِيَةَ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في ذلك الْحُكْمِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ في الْمَسْحِ على الْعِمَامَةِ عُضْوٌ سَقَطَ في التَّيَمُّمِ فَجَازَ الْمَسْحُ على حَائِلٍ كَالْقَدَمِ فيقول الْخَصْمُ هذا يَنْتَقِضُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فإنه لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه فيها مع أَنَّهُ يَسْقُطُ في التَّيَمُّمِ فيقول الْمُسْتَدِلُّ إنَّمَا تَعَذَّرَ التَّسْوِيَةُ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وقد اتَّفَقَا في حُكْمِ الْجَنَابَةِ قُلْت وَيَنْبَغِي الْبُدَاءَةُ بِمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا في تَرْتِيبِ الْأَجْوِبَةِ وَيُزَادُ جَوَابٌ خَامِسٌ وهو أَنْ نُسَلِّمَ وُرُودَ النَّقْضِ وَنَتَعَذَّرُ عنه بِإِبْدَاءِ أَمْرٍ في صُورَةِ النَّقْضِ يَصْلُحُ اسْتِنَادُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِيَبْقَى دَلِيلُ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ سَلِيمًا عن مُعَارِضٍ مَسْأَلَةٌ إذَا أُلْزِمَ النَّقْضَ فَزَادَ في الْعِلَّةِ وَصْفًا فَهَلْ يُقْبَلُ منه فيه أَقْوَالٌ أَحَدُهَا نعم وَحُكِيَ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ وَعَلَيْهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْبَاجِيُّ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ النَّقْضِ بِمَا شَاءَ وَالثَّالِثُ وَحَكَاهُ أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ في جَدَلِهِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا إنْ كانت الزِّيَادَةُ مَعْهُودَةً بين الْمُنَاظِرِينَ كَالْجِنْسِ الْمَضْمُومِ إلَى الْوَصْفِ الْآخَرِ في عِلَّةِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذلك من الْأَوْصَافِ الْمَعْرُوفَةِ قُبِلَ منه وَإِنْ لم تَكُنْ مَعْهُودَةً فَلَا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَعْهُودَةَ كَالْمَذْكُورَةِ فَيُسْتَغْنَى عن ذِكْرِهَا بِالْعَهْدِ فيها وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ وَالْبَاجِيُّ أَيْضًا ثُمَّ ضَعَّفَاهُ بِأَنَّهُ لَا عَهْدَ وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ في التَّعْمِيمِ وقال في الْمَنْخُولِ إذَا أَرَادَ الْمُعَلِّلُ وَصْفًا يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِدُونِهِ وَلَكِنَّهُ رَامَ بِهِ دَرْءَ النَّقْضِ فَقَدْ يُطْرَحُ إذَا لم يُبَيِّنْ كَوْنَهُ عِلَّةً في الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ قِيلَ الْفَرْقُ بين النَّقْضِ لَا يُقْبَلُ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ هذا يَقُولُهُ الْمُتَفَقِّهَةُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هو مَقْبُولٌ وَإِنَّمَا شَرْطُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِفَرْقٍ من جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جميعا كَقَوْلِهِ في الْإِجَارَةِ لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ مع

سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عليه فَهَذَا في الْحَقِيقَةِ فَرْقٌ بين مَسْأَلَةِ النَّقْضِ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْخِلَافِ وهو صَحِيحٌ فَأَمَّا إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا من جِهَةِ الْمَعْنَى لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ بَانَ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ بَلْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجِبُ على الْمُسْتَدِلِّ ابْتِدَاءً التَّعَرُّضُ لِنَفْيِ الْمَانِعِ بِأَنْ يَذْكُرَ قَيْدًا يُخْرِجُ بِهِ مَحَلَّ النَّقْضِ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا لِئَلَّا تُنْقَضَ الْعِلَّةُ وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ عن الْأَكْثَرِينَ وقال إنَّهُ الْحَقُّ كما في سَائِرِ الْمَعَارِضِ وَالثَّالِثُ إنْ كان سَبَبًا وهو ما يَرِدُ على كل عِلَّةٍ كَالْعَرَايَا لم يَلْزَمْهُ وَإِلَّا كَالتَّطَوُّعِ في مَسْأَلَةِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لَزِمَهُ إذْ لَا يَبْقَى إلَّا الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ في خُرُوجِهِ عن الْقَاعِدَةِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ ولم يَقِفْ ابن دَقِيقٍ على هذا الْمَذْهَبِ فقال لو قِيلَ بِهِ لم يَكُنْ له وَجْهٌ الرَّابِعُ إنْ كان مُنَاظِرًا وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عنه مُطْلَقًا وَإِنْ كان نَاظِرًا مُجْتَهِدًا فَكَذَلِكَ إلَّا فِيمَا اشْتَهَرَ من الْمُسْتَثْنَيَاتِ فَصَارَ كَالْمَذْكُورَةِ وقال في شِفَاءِ الْعَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لم يَسْتَثْنِ وَجَبَ على النَّاظِرِ وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَهَلْ يَنْقَطِعُ ظَنُّهُ عن الْعِلَّةِ التي ظَنَّهَا وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى الظَّنُّ مع وُرُودِ النَّقْضِ تَرَدَّدَ الْقَاضِي في هذا بِنَاءً على الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الْعِلَّةِ بِمِثْلِ هذا النَّقْضِ هل هو مَعْلُومٌ أو مَظْنُونٌ قال وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي إنْ قَدَحَ الِاعْتِذَارُ عن مَسْأَلَةِ النَّقْضِ بِفَرْقٍ فِقْهِيٍّ فَلَا شَكَّ في انْقِطَاعِ الظَّنِّ وَإِنْ لم يَقْدَحْ عُذْرٌ فَفِي انْقِطَاعِ الظَّنِّ نَظَرٌ تَنْبِيهٌ الْمُرَادُ بِالِاحْتِرَازِ عنه ذِكْرُهُ إمَّا في أَوَّلِ الدَّلِيلِ أو بَعْدَ تَوَجُّهِ النَّقْضِ عليه وَلَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا هذا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرِي الْجَدَلِيِّينَ وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ منهم فَاعْتَبَرُوهُ أَوَّلَ الدَّلِيلِ وَقَالُوا إنْ أُخِذَ الْقَيْدُ لِلنَّقْضِ في الدَّلِيلِ أَوَّلًا قُبِلَ منه وَإِنْ لم يَأْخُذْهُ أَوَّلًا وَأَوْرَدَهُ عليه فَأَخَذَهُ قَيْدًا لم يُقْبَلْ وَيُعَدُّ مُنْقَطِعًا وَعَلَيْهِ جَرَى في الْمُسْتَصْفَى وَبِهِ تَصِيرُ الْمَذَاهِبُ خَمْسَةً وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ حَكَى الْخِلَافَ في الِاحْتِرَازِ عنه في الدَّلِيلِ قَوْلَيْنِ ولم يُرَجِّحْ شيئا ثُمَّ حَكَاهُ أَيْضًا في الْوَارِدِ اسْتِثْنَاءً فقال وَهَلْ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عنه في

اللَّفْظِ اخْتَلَفُوا فيه وَالْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ انْتَهَى وقال صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ يَضُرُّهُ الِاحْتِرَازُ لِأَنَّهُ يَكُونُ اعْتِرَافًا منه بِأَنَّ النَّقْضَ لَا يَدُلُّ على التَّعْلِيلِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَعَرَّضَ لِمَا يَلْزَمُ وَنَبَّهَ الْمُعْتَرِضَ على أَنَّ النَّقْضَ لَا يَرِدُ عليه وَلَيْسَ فيه ما يَدُلُّ على اعْتِرَافِهِ فَرْعٌ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْعِلَّةِ بِالنَّقْضِ من الْقَطْعِيَّاتِ قال الْقَاضِي وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدِي بَلْ هِيَ من الْمُجْتَهَدَاتِ وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَعْضَهُ قَطْعِيًّا وَبَعْضَهُ ظَنِّيًّا بِنَاءً على تَفْصِيلِهِ السَّابِقِ مَسْأَلَةٌ قال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَتَبِعَهُ في الْمَحْصُولِ اعْلَمْ أَنَّ نَقْضَ الْعِلَّةِ أَنْ يُوجَدَ في مَوْضِعٍ دُونَ حُكْمِهَا وَحُكْمُهَا ضَرْبَانِ مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ وَالْمُجْمَلُ ضَرْبَانِ إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ فَالْإِثْبَاتُ الْمُجْمَلُ لَا يَنْتَقِضُ بِنَفْيِ مُفَصَّلٍ وَالنَّفْيُ الْمُجْمَلُ يَنْتَقِضُ بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ مِثَالُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَعْلِيلَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ فَيَتَقَاصَّانِ كَالْمُسْلِمِينَ فَيُنْتَقَضُ بِمَا إذَا قَتَلَهُ خَطَأً وَذَلِكَ أَنَّ نَفْيَ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا في قَتْلِ الْخَطَأِ لَا يَمْنَعُ من صِدْقِ الْقَوْلِ أَنَّ بَيْنَهُمَا قِصَاصًا وإذا صَدَقَ الْفَرْقُ بِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ لم يَرْتَفِعْ فلم يَنْتَفِ حُكْمُ الْعِلَّةِ وَمِثَالُ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ لِأَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ فلم يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ فإذا نُقِضَ بِالْمُسْلِمِينَ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ في قَتْلِ الْعَمْدِ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ بين شَخْصَيْنِ في مَوْضِعٍ لَا يُفِيدُ معه الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا على الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُفَصَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إثْبَاتًا أو نَفْيًا فَالْإِثْبَاتُ يَنْتَقِضُ بِالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ مُوجِبَانِ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا جميعا قِصَاصٌ في قَتْلِ الْعَمْدِ وَذَلِكَ يَنْتَقِضُ بِالْحُرِّ لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ لم يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْقِصَاصِ على الْإِطْلَاقِ يَزُولُ ثُبُوتُهُ في بَعْضِ الصُّوَرِ وَأَمَّا النَّفْيُ الْمُفَصَّلُ فَلَا يَنْتَقِضُ بِالْإِثْبَاتِ الْمُجْمَلِ كما نَقُولُ فلم يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ في قَتْلِ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِثُبُوتِ الْقِصَاصِ بين الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ في الْجُمْلَةِ لَا يَمْنَعُ من انْتِفَائِهِ عنهما في بَعْضِ الصُّوَرِ

الثَّانِي الْكَسْرُ وهو عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ من الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ عِبَارَةٌ عن إسْقَاطِ وَصْفٍ من أَوْصَافِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ وَإِخْرَاجِهِ عن الِاعْتِبَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ في حَدِّ الْعِلَّةِ وَمِنْهُمْ من فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِعِلَّةٍ على حُكْمٍ يُوجَدُ مَعْنَى تِلْكَ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَا يُوجَدُ مَعَهَا ذلك الْحُكْمُ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ له وَلَدٌ وَلَهُ وَلَدٌ فَيَهَبُ لِوَلَدِهِ شيئا وَيَقُولُ وَهَبْتُ له لِأَنَّهُ وَلَدِي فَيُقَالُ له فَيَنْكَسِرُ عَلَيْك بِوَلَدِ وَلَدِك لِأَنَّ مَعْنَى الْوَلَدِ مَوْجُودٌ فيه وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِهِ صَحِيحٌ ما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم دُعِيَ إلَى دَارٍ فَأَجَابَ وَدُعِيَ إلَى دَارٍ أُخْرَى فلم يُجِبْ فَقِيلَ له في ذلك فقال إنَّ في دَارِ فُلَانٍ كَلْبًا فَقِيلَ وفي هذه الدَّارِ سِنَّوْرٌ فقال السِّنَّوْرُ سَبُعٌ وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْهِرَّةَ تَكْسِرُ الْمَعْنَى وهو الِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ في الْبَيْتِ كَالْكَلْبِ فَأَقَرَّهُمْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على اعْتِرَاضِهِمْ وَأَجَابَ بِالْفَرْقِ وهو أَنَّ الْهِرَّةَ سُبُعٌ أَيْ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ فَدَلَّ على أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسٌ وهو ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَدِّلَ ذلك الْوَصْفَ الْخَاصَّ بِوَصْفٍ عَامٍّ ثُمَّ يَنْقُضَهُ عليه كَقَوْلِنَا في إثْبَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ صَلَاةٌ يَجِبُ قَضَاؤُهَا فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا كَصَلَاةِ الْأَمْنِ فَيَعْتَرِضُ أَنَّ كَوْنَهَا صَلَاةً لَا أَثَرَ لها لِأَنَّ الْحَجَّ كَذَلِكَ فلم يَبْقَ إلَّا الْوَصْفُ الْعَامُّ وهو كَوْنُهُ عِبَادَةً فَيَنْكَسِرُ بِصَوْمِ الْحَائِضِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَفْعَلَ ذلك بَلْ يُعْرِضُ عن ذلك الذي أَسْقَطَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَذْكُرُ صُورَةَ النَّقْضِ كما لو أَسْقَطَ في الْمِثَالِ قَوْلَنَا فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا إذْ ليس كُلُّ ما يَجِبُ أَدَاؤُهُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ بِدَلِيلِ الْحَائِضِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَهَذَا الْقِسْمُ أَكْثَرُ وُقُوعِهِ في الْوَصْفِ الذي لَا يُؤَثِّرُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ هذا الِاعْتِرَاضَ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ كَقَوْلِنَا في بَيْعِ الْغَائِبِ مَثَلًا بَيْعٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ كما لو

قال بِعْتُكَ عَبْدًا فيقول على الصُّورَةِ الْأُولَى خُصُوصُ كَوْنِهِ بَيْعًا لَا أَثَرَ له لِأَنَّ الْمَرْهُونَ كَذَلِكَ فَبَقِيَ كَوْنُهُ عَقْدًا الذي هو وَصْفٌ يَعُمُّهُمَا وهو مَنْقُوضٌ بِالنِّكَاحِ وَعَلَى الثَّانِيَةِ لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ بَيْعًا بِدَلِيلِ الْمَرْهُونِ فَسَقَطَ هذا الْجُزْءُ ولم يَبْقَ إلَّا مَجْهُولَةُ الصِّفَةِ آخِرُهُ وهو مَنْقُوضٌ بِالنِّكَاحِ وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ فَعَرَّفَا الْكَسْرَ بِوُجُودِ الْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ من شَرْعِ الْحُكْمِ مع تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عنه فَالنَّقْضُ حِينَئِذٍ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عن الْعِلَّةِ وَالْكَسْرُ تَخَلُّفُهُ عن حِكْمَتِهَا فَهُوَ نَقْضٌ على مَعْنَى الْعِلَّةِ دُونَ لَفْظِهَا أَيْ الْحِكْمَةِ دُونَ الْمَظِنَّةِ بِخِلَافِ النَّقْضِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ في الْعَاصِي بِسَفَرِهِ مُسَافِرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَخَّصَ كَالطَّائِعِ في سَفَرِهِ وَيَتَبَيَّنُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ السَّفَرِ بِمَا فيه من الْمَشَقَّةِ فَيُقَالُ ما ذَكَرْتَهُ من الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ مُنْتَقِضَةٌ بِمَشَقَّةِ الْحَمَّالِينَ وَأَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ في الْحَضَرِ وَلَا رُخْصَةَ لهم ثُمَّ ذَكَرَا بَعْدَ ذلك النَّقْضَ الْمَكْسُورَ وهو النَّقْضُ على بَعْضِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ ثُمَّ قالوا وَاخْتَلَفُوا في إبْطَالِهِمَا لِلْعِلِّيَّةِ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ وقال ابن الْحَاجِبِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَأَمَّا صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ فذكر الْكَسْرَ فَقَطْ وَعَرَّفَهُ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ أَحَدَيْ الْمُرَكَّبِ الذي ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ عِلِّيَّتَهُ وَنَقَضَ الْآخَرُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِهِ في الْمَحْصُولِ وَعَدُّوهُ من قَوَادِحِ الْعِلِّيَّةِ قال الْهِنْدِيُّ وهو مَرْدُودٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْخَصْمُ إلْغَاءَ الْقَيْدِ وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِالْكَسْرِ إلَّا إذَا بُيِّنَ أَمَّا إذَا لم يُبَيَّنْ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ وَأَمَّا إذَا بُيِّنَ مَوْضِعُ النِّزَاعِ فَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ قَادِحٌ وَقَوْلُ الْآمِدِيَّ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ مَرْدُودٌ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّلْخِيصِ اعْلَمْ أَنَّ الْكَسْرَ سُؤَالٌ مَلِيحٌ وَالِاشْتِغَالَ بِهِ يَنْتَهِي إلَى بَيَانِ الْفِقْهِ وَتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ وقد اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ على صِحَّتِهِ وَإِفْسَادِ الْعِلَّةِ بِهِ وَيُسَمُّونَهُ النَّقْضَ من طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْإِلْزَامَ من طَرِيقِ الْفِقْهِ وَأَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ من الْخُرَاسَانِيِّينَ قُلْت وابن الصَّبَّاغِ وَقَالُوا لَا يُبْطِلُ الْعِلِّيَّةَ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ إلَّا بِأَنْ يُغَيِّرَ الْعِلَّةَ أو يُبَدِّلَ لَفْظَهَا بِغَيْرِهِ أو يُسْقِطَ وَصْفًا من أَوْصَافِهَا وَهَذَا لَا يَلْزَمُ لِجَوَازِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا غَيَّرَهُ السَّائِلُ وَبَدَّلَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِلَّةَ شَرْعِيَّةٌ وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَعْنًى على صِفَةِ عِلَّةٍ في حُكْمٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْكَسْرَ نَقْضٌ وَلَا يُجْعَلُ عِلَّةً على صِفَةٍ أُخْرَى فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ على الْآخَرِ قال الشَّيْخُ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْكَسْرَ نَقْضٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ من طَرِيقِ اللَّفْظِ وَأَيْضًا فإن ما أَوْجَدَهُ من الْمَعْنَى مِثْلُ الْمَعْنَى الذي عَلَّلَ بِهِ

وإذا لم يَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُوجِدُ دَلَّ على عَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْنَى الذي ذَكَرَهُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ في سُؤَالِ الْكَسْرِ من حَذْفِ وَصْفٍ من الْأَصْلِ أو إبْدَالِهِ بِغَيْرِهِ كما في مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ فإنه حَذْفُ خُصُوصِ كَوْنِهِ بَيْعًا وَإِبْدَالُهُ في النِّكَاحِ وَالنَّظَرُ في خُصُوصِ الْأَوْصَافِ وَحَذْفُ ما حُذِفَ منها وَإِبْدَالُهُ مَوْضِعُهُ الْفِقْهُ وَعَلَى هذا فَلَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ إلَّا إذَا كان الْمَحْذُوفُ غير مُؤَثِّرٍ وَإِلَّا لم يَجُزْ حَذْفُهُ وإذا كان الْحَذْفُ غير مُؤَثِّرٍ فَالْمَجْمُوعُ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وإذا حَذَفَ وَصْفًا اعْتَقَدَهُ غير مُؤَثِّرٍ لم يَرِدْ النَّقْضُ إلَّا على الْبَاقِي قال ابن بَرْهَانٍ الْكَسْرُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وقال الْخُرَاسَانِيُّونَ بَاطِلٌ وقال في الْمَنْخُولِ قال الْجَدَلِيُّونَ الْكَسْرُ يُفَارِقُ النَّقْضَ فإنه يَرِدُ على إخَالَةٍ لَا على عِبَارَتِهِ وَالنَّقْضُ يَرِدُ على الْعِبَارَةِ قال وَعِنْدَنَا لَا مَعْنَى لِلْكَسْرِ فإن كُلَّ عِبَارَةٍ لَا إخَالَةَ فيها فَهِيَ طَرْدٌ مَحْذُوفٌ وَالْوَارِدُ على الْإِخَالَةِ نَقْضٌ وَلَوْ أَوْرَدَ على أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مع كَوْنِهِمَا مُخَيَّلَيْنِ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا يُقْبَلُ نعم تَرَدَّدَ الْقَاضِي في أَنَّ الْمُعَلِّلَ هل يَجُوزُ له الِاحْتِرَازُ عن الْمَسْأَلَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ عن الْقِيَاسِ بِطَرْدٍ أَمْ لَا قال وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَصْلًا فإنه ليس بِنَقْضٍ وَلَوْ فَعَلَهُ اسْتَبَانَ بِهِ فَكَانَ أَحْسَنَ وَمَذْهَبُنَا أَنَّ الْعِلَّةَ مُنْتَقِضَةٌ بِهِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ بِالطَّرْدِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْمُهَذَّبِ فِيمَا لو مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا وَالْفُرُوعُ زَكَّى بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ وقال الْأَنْمَاطِيُّ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ نِصَابٍ من الْأُمَّهَاتِ فَلَوْ نَقَصَ عن النِّصَابِ انْقَطَعَتْ التَّبَعِيَّةُ قال وما قَالَهُ يَنْكَسِرُ عليه بِوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ أَيْ فإنه يَثْبُتُ له حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِثُبُوتِهِ لِلْأُمِّ ثُمَّ يَسْقُطُ حَقُّ الْأُمِّ بِمَوْتِهَا وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْوَلَدِ بَلْ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ كما كانت الْأُمُّ تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ وقال الْأَصْحَابُ في بَابِ الْقِرَاضِ إذَا مَاتَ الْمَالِكُ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ فَلَوْ أَرَادَ الْوَارِثُ تَقْرِيرَ الْعَقْدِ وَالْبَاقِي نَاضٌّ جَازَ قَطْعًا وَإِنْ كان عُرُوضًا قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ الْقِرَاضُ في الْعُرُوضِ ابْتِدَاءً وَهَذَا ليس بِابْتِدَاءٍ بَلْ بِنَاءً على أَصْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِ وقال الْجُمْهُورُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِرَاضَ الْأَوَّلَ بَطَلَ بِالْمَوْتِ وما قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ يَنْكَسِرُ بِمَا لو دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا يَعْمَلُ فيه عَامِلٌ وَحَصَّلَ الْمَالَ عُرُوضًا ثُمَّ تَفَاسَخَا الْقِرَاضَ ثُمَّ أَرَادَا أَنْ يَعْقِدَا الْقِرَاضَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كان مَبْنِيًّا على ما

سَبَقَ الثَّانِي قِيلَ الْخِلَافُ في سُؤَالِ الْكَسْرِ يَنْبَنِي على الْخِلَافِ في الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ فَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَ سُؤَالَ الْكَسْرِ وَمَنْ لم يُجَوِّزْهُ لم يَسْمَعْ الْكَسْرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا قال وَصْفُ السَّرِقَةِ كان مُنَاسِبًا لِمَعْنَى كَذَا وهو مَوْجُودٌ في النَّبْشِ فَيَكُونُ سَبَبًا فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في خَاصَّةٍ بين النَّبْشِ وَالسَّرِقَةِ يُفَارِقُهَا غَيْرُهَا فيها صَحَّ الْجَمِيعُ وَإِنْ لم يذكر خَاصَّةً فقال يَبْطُلُ بِالزِّنَى وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِ ذلك فإن الْمَعْنَى الذي وُجِدَ في السَّرِقَةِ وُجِدَ في قَطْعِ الطَّرِيقِ وهو الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ ولم يَنْتَهِضْ سَبَبًا لِمِثْلِ حُكْمِ السَّرِقَةِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَذْكُرَ بين النَّبْشِ وَالسَّرِقَةِ خَاصَّةً تَجْمَعُهُمَا فَكَأَنَّ صِحَّةَ الْكَسْرِ مَوْضُوعَةٌ على صِحَّةِ الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ فَكُلُّ من لم يُجَوِّزْ ذلك يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُصَحِّحَ الْكَسْرَ وَلَا طَرِيقَ لِتَصْحِيحِ الْكَسْرِ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَا وَكُلُّ من لم يَبْنِ صِحَّةَ الْكَسْرِ على هذا الطَّرِيقِ لم يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ

فَصْلٌ جَوَابُ الْكَسْرِ نحو ما سَبَقَ من الْأَجْوِبَةِ في النَّقْضِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ في الْمَعْنَى قِيلَ إلَّا أَنَّ مَنْعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ هُنَا أَظْهَرُ منه في النَّقْضِ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ قد تَتَفَاوَتُ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ ما هو مَنَاطُ الْحُكْمِ منه في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَمَنَعَ انْتِقَالَ الْحُكْمِ هَاهُنَا فَانْدَفَعَ بِوَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمٌ هو أَوْلَى بِالْحِكْمَةِ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ في الْكَسْرِ الْفَرْقُ من طَرِيقِ الْمَعْنَى على وَجْهِ الدَّفْعِ وَلَا يَكْفِي رَدُّهُ بِأَنَّ في الْأَصْلِ ما يُوَافِقُ هذه الْمَسْأَلَةَ وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ فَلَا يَلْزَمُنِي كما في النَّقْضِ وَلَا يَكْفِي الْفَرْقُ بَعْدَ لُزُومِ الْكَسْرِ بِمَا لَا يُدْفَعُ عن الْعِلَّةِ وهو الْفَرْقُ مع وُجُودِ الْمَعْنَى الذي عَلَّلَ بِهِ كما لو فَرَّقَ بَعْدَ النَّقْضِ من طَرِيقِ اللَّفْظِ الثَّالِثُ عَدَمُ الْعَكْسِ وهو وُجُودُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ في صُورَةٍ أُخْرَى بِعِلَّةٍ أُخْرَى كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ على مَنْعِ تَقْدِيمِ أَذَانِ الصُّبْحِ بِقَوْلِهِ صَلَاةٌ لَا تُقْصَرُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا على وَقْتِهَا كَالْمَغْرِبِ فَنَقُولُ هذا الْوَصْفُ لَا يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الذي هو مَنْعُ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ على الْوَقْتِ مَوْجُودٌ فِيمَا قَصُرَ من الصَّلَوَاتِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَعَدُّ هذا من الْقَوَادِحِ مَبْنِيٌّ على مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْعَكْسَ هل هو شَرْطٌ في الْعِلَّةِ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ وَالثَّانِيَةُ امْتِنَاعُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ بِعِلَّتَيْنِ لِأَنَّ النَّوْعَ بَاقٍ فيه فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ وهو الْمُخْتَارُ لم يَقْدَحْ فإن الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إذَا قُلْنَا إنَّ اجْتِمَاعَ الْعِلَلِ على مَعْلُولٍ وَاحِدٍ غَيْرُ وَاقِعٍ أَيْ كما هو اخْتِيَارُهُ فَالْعَكْسُ لَازِمٌ ما لم يَثْبُتْ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ بِتَوْقِيفٍ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ بَيَانُهُ بِخِلَافِ ما أَلْزَمْنَاهُ مثله في النَّقْضِ لِأَنَّ ذَاكَ دَاعٍ إلَى الِانْتِشَارِ وَسَبَبُهُ أَنَّ إشْعَارَ النَّفْيِ بِالنَّفْيِ مُنْحَطٌّ عن إشْعَارِ الثُّبُوتِ بِالثُّبُوتِ وَلِهَذَا لو فَرَضْنَا عِلَلًا لَكَانَ إشْعَارُ كل وَاحِدَةٍ بِنَفْيِ الْحُكْمِ كَإِشْعَارِ جُزْءِ الْعِلَّةِ بِالْحُكْمِ لَا كَإِشْعَارِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِهِ وَزَوَالُهَا لِزَوَالِ التَّرْجِيحِ وَاَلَّذِي أَبْطَلَ الْعِلَّةَ إذَا امْتَنَعَ الطَّرْدُ بِتَوْقِيفٍ لَا يُبْطِلُهَا إذَا امْتَنَعَ الْعَكْسُ

بِتَوْقِيفٍ فَلْيَتَلَمَّحْ الطَّالِبُ تَفَاوُتَ الْمَرَاتِبِ وقال الْآمِدِيُّ لَا يَرِدُ سُؤَالُ الْعَكْسِ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الْمُنَاظِرَانِ على اتِّحَادِ الْعِلَّةِ الرَّابِعُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ قال ابن الصَّبَّاغِ وهو من أَصَحِّ ما يَعْتَرِضُ بِهِ على الْعِلَّةِ وهو عَدَمُ إفَادَةِ الْوَصْفِ أَثَرَهُ بِأَنْ يَكُونَ غير مُنَاسِبٍ فَيَبْقَى الْحُكْمُ بِدُونِهِ وَمِنْ ثَمَّ اخْتَصَّ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى وَبِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الْمُخْتَلَفِ فيها وَلَا بُدَّ من الْتِزَامِ عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ وهو مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ إنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا وَلِهَذَا الْتَزَمُوا الطَّرْدَ وَالْعَكْسُ في بَابِ الرِّبَا بِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا لَا يَثْبُتُ اتِّفَاقًا دُونَ عِلَّةِ الرِّبَا وقد اسْتَعْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ في مُبَاحَثَةٍ له مع مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ كما سَيَأْتِي قال إلْكِيَا وَعَلَى هذا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ مَنْصُوبَةٌ على الْحُكْمِ وَمَنْ أَثْبَتَ عَلَامَةً على حُكْمٍ فَلَيْسَ له أَنْ يَنْصِبَ ضِدَّهَا فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ وَثَبَتَ بها فَذَلِكَ الْحُكْمُ الذي صَارَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ لَا يَبْقَى دُونَ الْعِلَّةِ فإن النَّتِيجَةَ لَا تَبْقَى دُونَ النَّاتِجِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ ذَكَرَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا سُؤَالَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَلَسْت أَرَى له وَجْهًا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعَلِّلُ التَّأْثِيرَ لِعِلَّتِهِ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ ما أُقِيمَ الدَّلِيلُ على صِحَّتِهَا بِالتَّأْثِيرِ وقد ذَكَرَ مَشَايِخُ أَصْحَابِنَا في سُؤَالِ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَتَصْحِيحِهِ كَلَامًا طَوِيلًا وَعَدُّوهُ سُؤَالًا قَوِيًّا وَقَالُوا إذَا أَوْرَدَ السَّائِلُ هذا السُّؤَالَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ الْمُعَلِّلُ فَإِنْ وَجَدَ له تَأْثِيرًا في طَرْدِ الْعِلَّةِ وَالْمَأْخُوذِ على الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَعَلَّلَ الشَّارِعُ شَرْطَهَا الِاطِّرَادَ دُونَ الِانْعِكَاسِ بَلْ إذَا كانت مُطَّرِدَةً مُنْعَكِسَةً تَرَجَّحَ صِحَّةُ الْعِلَّةِ وقد قَسَّمَ أَهْلُ النَّظَرِ عَدَمَ التَّأْثِيرِ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ طَرْدِيًّا وهو رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ الْعَكْسِ السَّابِقِ كَقَوْلِنَا صَلَاةُ الصُّبْحِ لَا تُقْصَرُ فَلَا تُقَدَّمُ على وَقْتِهَا كَالْمَغْرِبِ فَقَوْلُهُ لَا تُقْصَرُ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَصْفِ التَّقْدِيمِ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى طَلَبِ الْمُنَاسَبَةِ وقد تَنَاظَرَ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه مع مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ في مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ في عِدَّةِ نِكَاحِ أُخْتِهَا الْبَائِنَةِ فإن مُحَمَّدًا قال النِّكَاحُ كان مُحَرَّمًا وقد زَالَ النِّكَاحُ ولم يَبْقَ تَحْرِيمٌ فَسَلَّمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الذي بَقِيَ من الْعِلَّةِ غَيْرُ النِّكَاحِ ولم يَرَ الْعِدَّةَ عُلْقَةً من عَلَائِقِ النِّكَاحِ لَكِنَّهُ قال يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ تَوَقُّعُ جَمْعِ الْمَاءِ في رَحِمِ أُخْتَيْنِ فقال

الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ صَحَّ ذلك فإذا خَلَّاهَا وَطَلَّقَهَا وَشَرَعَتْ في الْعِدَّةِ فَهَلَّا جَازَ نِكَاحُ أُخْتِهَا إذْ لَا جَمْعَ في الْمَاءِ وَلَيْسَ هذا من قَبِيلِ الْعَكْسِ الْمَرْدُودِ فَلَا يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ في غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ مُعَلَّلَةٌ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إذْ التَّحْرِيمُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ أو الْجَمْعِ وَلَا ثَالِثَ فَلَا يَبْقَى بَعْدَهَا إلَّا صُورَةُ الْعِدَّةِ وَلَا نَظَرَ إلَيْهَا الثَّانِي عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْأَصْلِ بِكَوْنِهِ مُسْتَغْنًى عنه في الْأَصْلِ لِوُجُودِ مَعْنًى آخَرَ مُسْتَقِلٍّ بِالْغَرَضِ كَقَوْلِنَا في بَيْعِ الْغَائِبِ مَبِيعٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ فَلَا يَصِحُّ كَالطَّيْرِ في الْهَوَاءِ فَنَقُولُ لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ غير مَرْئِيٍّ فإن الْعَجْزَ عن التَّسْلِيمِ كَافٍ لِأَنَّ بَيْعَ الطَّيْرِ لَا يَصِحُّ إنْ كان مَرْئِيًّا وَحَاصِلُهُ مُعَارَضَةٌ في الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُلْغِي من الْعِلَّةِ وَصْفًا ثُمَّ يُعَارِضُ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا بَقِيَ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فَسَادُ الْعِلَّةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَقِيلَ بَلْ يَصِحُّ لِأَنَّ ذلك الْقَيْدَ له أَثَرٌ في الْجُمْلَةِ وَإِنْ كان مُسْتَغْنًى عنه كَالشَّاهِدِ الثَّالِثِ بَعْدَ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وهو مَرْدُودٌ لِأَنَّ ذلك الْقَيْدَ ليس مَحَلَّهُ وَلَا وَصْفًا له فَذِكْرُهُ لَغْوٌ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ الثَّالِثِ فإنه يَتَهَيَّأُ لَأَنْ يَصِيرَ عِنْدَ ذلك أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ رُكْنًا قال وَأَمَّا الْوَصْفُ الذي لَا أَثَرَ له إمَّا أَنْ يُذْكَرَ لِدَفْعِ نَقْضِ ما لَوْلَاهُ لَوَرَدَ أَوَّلًا فَإِنْ لم يَكُنْ لِدَفْعِ النَّقْضِ فَهُوَ هَدَرٌ وَإِلَّا فَالطَّارِدُونَ جَوَّزُوا ذِكْرَهُ لِدَفْعِ النَّقْضِ وَغَيْرُهُمْ اخْتَلَفُوا فيه وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا كان النَّقْضُ من مَسَائِلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَذِكْرُ هذا الْوَصْفِ في الدَّلِيلِ لِلتَّنْبِيهِ على مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تَأْثِيرَ فيه وَإِلَّا فَلَا وَجَعَلَ الْبَيْضَاوِيُّ في مِنْهَاجِهِ كَوْنَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ من الْقَوَادِحِ مَبْنِيًّا على مَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ بِعِلَّتَيْنِ فَإِنْ جَوَّزْنَا وهو الْمُخْتَارُ لم يَقْدَحْ وَسَبَقَهُ إلَى الْبِنَاءِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وقال ابن الْحَاجِبِ كُلُّ ما فُرِضَ جَعْلُهُ وَصْفًا في الْعِلَّةِ من طَرْدِيٍّ إنْ كان الْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِفًا بِهِ فَقِيلَ مَرْدُودٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَكُونُ غير مَرْدُودٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فيه غَرَضٌ صَحِيحٌ لِدَفْعِ النَّقْضِ الصَّحِيحِ إلَى النَّقْضِ الْمَكْسُورِ وَهَذَا صَعْبٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فإنه مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ الثَّالِثُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جميعا بِأَنْ تَكُونَ له فَائِدَةٌ في الْحُكْمِ إمَّا ضَرُورِيَّةٌ كَقَوْلِ من اعْتَبَرَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ عِبَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْأَحْجَارِ لم تَتَقَدَّمْهَا مَعْصِيَةٌ فَاشْتَرَطَ فيها الْعَدَدَ كَالْجِمَارِ وَإِمَّا غير ضَرُورِيَّةٍ فَإِنْ لم يَعْتَبِرْ الضَّرُورِيَّةَ لم يَعْتَبِرْهَا من طَرِيقٍ أَوْلَى وَإِلَّا فَتُرَدُّ مِثَالُهُ قَوْلُنَا الْجُمُعَةُ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فلم تَفْتَقِرْ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ كَالظُّهْرِ فإن قَوْلَنَا مَفْرُوضَةٌ حَشْوٌ إذْ لو حُذِفَ لم يُنْتَقَضْ بِشَيْءٍ لَكِنْ ذُكِرَ لِتَقْرِيبِ الْفَرْعِ من الْأَصْلِ بِتَقْوِيَةِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا إذْ الْفَرْضُ بِالْفَرْضِ أَشْبَهُ

وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا قُلْنَا إنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ في الْأَصْلِ فَقَطْ قَادِحٌ كان هذا قَادِحًا بِطَرِيقٍ أَوْلَى وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ هذا الْقِسْمُ أَصْعَبُ ما نَحْنُ فيه وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عليه الرَّابِعُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْفَرْعِ كَقَوْلِهِمْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا فَلَا يَصِحُّ كما لو تَزَوَّجَتْ من غَيْرِ كُفْءٍ فَنَقُولُ غَيْرِ كُفْءٍ لَا أَثَرَ له فإن النِّزَاعَ في الْكُفْءِ وَنَحْوِهِ سَوَاءٌ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي وَيَرْجِعُ أَيْضًا إلَى الْمُنَاقَشَةِ في الْفَرْضِ وهو تَخْصِيصُ بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ بِالْحِجَاجِ وقد اُخْتُلِفَ فيه على مَذَاهِبَ الْجَوَازُ وهو الْأَصَحُّ وَالْمَنْعُ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو بَكْرٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ كان مُبَيِّنًا لِمَحَلِّ السُّؤَالِ لم يَجُزْ كما إذَا سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عن ضَمَانِ الضَّيْفِ الْمَغْرُورِ فقال يَبْرَأُ وَفُرِضَ في الْمُكْرَهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ إذْ بَرَاءَةُ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ آلَةٌ وَبَرَاءَةُ الضَّيْفِ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ فَفِي كل مَسْأَلَةٍ عِلَّةٌ مُبَايِنَةٌ فَتَقَاطَعَتَا وَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ وَقَعَ في طَرِيقٍ يَشْتَمِلُ عليه سُؤَالُ السَّائِلِ جَازَ كما لو سُئِلَ عن عِتْقِ الرَّاهِنِ فَأَبْطَلَهُ وَفُرِضَ في الْمُعْسِرِ وَالْخَامِسُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْحُكْمِ وهو أَنْ يَذْكُرَ في الدَّلِيلِ وَصْفًا لَا تَأْثِيرَ له في الْحُكْمِ الْمُعَلِّلِ بِهِ كَقَوْلِنَا في الْمُرْتَدِّينَ يُتْلِفُونَ الْأَمْوَالَ مُشْرِكُونَ أَتْلَفُوا في دَارِ الْحَرْبِ فَلَا ضَمَانَ كَالْحَرْبِيِّ فإن دَارَ الْحَرْبِ لَا مَدْخَلَ لها في الْحِكْمَةِ فَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهَا إذْ من أَوْجَبَ الضَّمَانَ أَوْجَبَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ في دَارِ الْحَرْبِ وَكَذَا من نَفَاهُ نَفَاهُ مُطْلَقًا وَيَرْجِعُ إلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُطَالَبُ بِأَمْرِ كَوْنِهِ في دَارِ الْحَرْبِ وَالْفَرْقُ بين هذا والثالث أَنَّ هذا أَعَمُّ وَذَاكَ أَخَصُّ فإنه يَلْزَمُ من أَنْ يَكُونَ له تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ أَنْ لَا يَكُونَ له تَأْثِيرٌ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ من غَيْرِ عَكْسٍ وَلِهَذَا لم يذكر الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ الثَّالِثَ وقال الْآمِدِيُّ حَاصِلُ هذا الْقِسْمِ يَرْجِعُ إلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ في الْوَصْفِ فلم يَبْقَ غَيْرُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ في الْوَصْفِ وفي الْأَصْلِ قُلْت وَلِهَذَا اقْتَصَرَ على إيرَادِهَا في الْمِنْهَاجِ وهو من مَحَاسِنِهِ تَنْبِيهٌ عَدَمُ الْعَكْسِ وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ من بَابٍ وَاحِدٍ وقد بَانَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ أَعَمُّ من عَدَمِ الْعَكْسِ وهو الذي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا عَدَمَ التَّأْثِيرِ إلَى ما يَقَعُ في وَصْفِ الْعِلَّةِ وَإِلَى ما يَقَعُ في أَصْلِهَا وَجَعَلُوا الْوَاقِعَ في الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِعِلَلٍ فَالْعِلَّةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَضَمَّنُ انْتِفَاؤُهَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ وَهَذَا مَنْشَؤُهُ من تَعَدُّدِ

الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ جَرّ ذلك إلَى الِانْعِكَاسِ وهو يُوَضِّحُ أَنَّ تَقْسِيمَهُ إلَى الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ لَا حَاصِلَ له وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في كِتَابِ الْحُدُودِ إنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ التَّأْثِيرَ وَالْعَكْسَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَكْسَ عَدَمُ الْعِلَّةِ لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ وَالتَّأْثِيرُ زَوَالُ الْحُكْمِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ ما قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال يَجِبُ زَوَالُ الْحُكْمِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ من أَصْلِ الْعِلَّةِ وَمِنْهُمْ من قال لَا فَرْقَ بين أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ من أَصْلِ الْعِلَّةِ أو من سَائِرِ الْأُصُولِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْقَاضِي فَعَلَى هذا الْفَرْقُ بين الْعَكْسِ وَالتَّأْثِيرِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَكْسَ هو زَوَالٌ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ أو في أَيِّ مَوْضِعٍ كانت وَالتَّأْثِيرُ زَوَالُهُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ انْتَهَى فَرْعٌ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ليس لِلْمُسْتَدِلِّ إلْزَامُ الْمُعْتَرِضِ نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ نَفْيِ عِلَّتِهِ بِمُجَرَّدِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ على عِلَّتِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوهُ إلَى إلْزَامِ الْعَكْسِ فَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَضُمَّ إلَى تَصْحِيحِ عِلَّتِهِ إبْطَالَ عِلَّةِ خَصْمِهِ فإذا تَمَّ له ذلك دَعَاهُ إلَى الْعَكْسِ فَإِنْ بَيَّنَ الْخَصْمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ حِينَئِذٍ مع نَفْيِ الْعِلَّةِ فَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ حِينَئِذٍ أَنْ يُبَيِّنَ التَّوْقِيفَ الذي مَنَعَ الْعَكْسَ ثُمَّ طَرَدَ الْإِمَامُ هذا في الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ إذَا عَارَضَهَا الْخَصْمُ بِمُتَعَدِّيَةٍ فَعَلَى الْمُعَلِّلِ بِالْقَاصِرَةِ إبْطَالُ الْمُتَعَدِّيَةِ فإذا تَمَّ له إبْطَالُهَا أَلْزَمَ خَصْمَهُ حِينَئِذٍ نَفْيَ الْحُكْمِ في مَحَلِّ التَّعَدِّي لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ عنه تَنْبِيهٌ قد يَبْقَى الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ عِلَّتِهِ في صُوَرٍ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه كَلَمْسِ الْمَحَارِمِ وَتَحْرِيمِ الِادِّخَارِ في زَمَانِنَا لِأَجْلِ من دُفَّ وَمَنْعِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْجَلْبِ إنْ لم يَغْبِنْ وَلِمَنْ لم يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِهِ وَلِمَنْ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ ولم تَعْلَمَ عِتْقَهَا حتى عَتَقَ وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ لِمَنْ بَاعَ حِصَّتَهُ قبل الْعِلْمِ بها وَالْمُرَجَّحُ فيها زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ وَشَذَّ عن هذا وَطْءُ الرَّاهِنِ الْمَرْهُونَةَ فإنه حَرَامٌ إنْ كانت مِمَّنْ لَا تَحْبَلُ وَمُدْرَكُهُ أَنَّ الْمَظِنَّةَ تُقَامُ مَقَامَ الْمَظْنُونِ

الْخَامِسُ الْقَلْبُ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ في حَقِيقَتِهِ وقد اُخْتُلِفَ في تَعْرِيفِهِ فقال الْآمِدِيُّ هو أَنْ يُبَيِّنَ الْقَالِبُ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عليه لَا له أو يَدُلُّ عليه وَلَهُ قال وَالْأَوَّلُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ في الْأَقْيِسَةِ وَمِثْلُهُ في الْمَنْصُوصِ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ في تَوْرِيثِ الْخَالِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَالُ وَارِثُ من لَا وَارِثَ له فَأَثْبَتَ إرْثَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ فيقول الْمُعْتَرِضُ هذا يَدُلُّ عَلَيْك لَا لَك لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ الْخَالُ لَا يَرِثُ كما يُقَالُ الْجُوعُ زَادُ من لَا زَادَ له وَالصَّبْرُ حِيلَةُ من لَا حِيلَةَ له أَيْ ليس الْجُوعُ زَادًا وَلَا الصَّبْرُ حِيلَةً وَاَلَّذِي يَدُلُّ على الْمُسْتَدِلِّ وَلَهُ مَحَلُّ التَّقْسِيمِ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ هو إنْ تَعَلَّقَ على الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ في قِيَاسٍ يَقْتَضِي الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فيه وَيُرَدُّ إلَى ذلك الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا اتِّحَادَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لو رُدَّ إلَى أَصْلٍ آخَرَ لَكَانَ حُكْمُ ذلك الْأَصْلِ الْآخَرِ إمَّا حَاصِلًا في الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فَمَرَدُّهُ إلَيْهِ أو غير حَاصِلٍ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ نُقِضَ على تِلْكَ الْعِلَّةِ قال الْهِنْدِيُّ وهو غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ ما يَكُونُ من الْقَلْبِ في غَيْرِ الْقِيَاسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ قال وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ دَعْوَى لِأَنَّ ما ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ عليه لَا له في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ على ذلك الْوَجْهِ الثَّانِي في اعْتِبَارِهِ وقد أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ من جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ أَعْنِي ما يُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ وما يُثْبِتُهُ الْقَالِبُ إنْ لم يَتَنَافَيَا فَلَا قَلْبَ إذْ لَا مَنْعَ من اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِحُكْمَيْنِ غَيْرِ مُتَنَافِيَيْنِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ وَإِنْ اسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فلم يُمْكِنْ الرَّدُّ إلَى

ذلك الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ قَلْبًا إذْ لَا بُدَّ فيه من الرَّدِّ إلَى ذلك الْأَصْلِ وَالْجُمْهُورُ على إمْكَانِهِ وَأَجَابُوا عن هذا بِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ لِذَاتِهِمَا فَلَا جَرَمَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا في الْأَصْلِ لَكِنْ قام الدَّلِيلُ على امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمَا في الْفَرْعِ فإذا أَثْبَتَ الْقَالِبُ الْحُكْمَ الْآخَرَ في الْفَرْعِ بِالرَّدِّ إلَى الْأَصْلِ وَشَهَادَةِ اعْتِبَارِهِ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فيه وَأَحَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إشْعَارَ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ بِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَمَنَعَ الشَّارِحُ الْإِبْيَارِيُّ التَّنَاقُضَ بين حُكْمَيْ الْعِلَّةِ وَقَلْبِهَا في الثَّانِي وَاسْتَدَلَّ على عَدَمِ التَّنَاقُضِ بِاجْتِمَاعِ الْحُكْمَيْنِ في الْأَصْلِ قال ابن الْمُنِيرِ وَالصَّوَابُ مَنْعُ الْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوَاضِعِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْقَالِبِ لِأَنَّهُمَا تَوَاضَعَا على أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ في الْفَرْعِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ عنه فَهِيَ مُنَاقَضَةٌ بِالْمُوَاضَعَةِ لَا بِالْحَقِيقَةِ لَكِنْ لَا أُصَوِّبُ قَوْلَهُ إنَّ الْوَصْفَ الْوَاحِدَ لَا يُشْعِرُ بِمُتَنَاقِضَيْنِ فإنه قد يُشْعِرُ بِهِمَا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ غَايَةُ ما في الْبَابِ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْحُكْمَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَتَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِالتَّرْجِيحِ كما قال تَعَالَى وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ من نَفْعِهِمَا فَنَبَّهَ على رُجْحَانِ الْمَفْسَدَةِ الثَّالِثُ في أَنَّهُ قَادِحٌ أَمْ لَا وقد اخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ هو إفْسَادُ الْعِلَّةِ مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بها لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَنَقَلَ تَسْلِيمَ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْجَامِعَ دَلِيلٌ وَالْخِلَافُ في أَنَّهُ دَلِيلٌ لِلْمُسْتَدِلِّ أو عليه وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ من يُسَمِّيهِ مُعَارَضَةً فإن الْمُعَارَضَةَ لَا تُفْسِدُ الْعِلَّةَ فَلَا يَمْنَعُ من التَّعَلُّقِ بها حتى يَثْبُتَ رُجْحَانُهَا من خَارِجٍ وهو قَوْلُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَقِيلَ إنَّهُ تَسْلِيمٌ لِلصِّحَّةِ على تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَازِمٌ جَدَلًا لَا دَيْنًا وَلِهَذَا قال تَلْتَبِسُ فيه الْحُظُوظُ الْمَعْنَوِيَّةُ بِالْمَرَاسِمِ الْجَدَلِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهَا مُنَاقَضَةٌ دَيْنًا وَجَدَلًا وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَادِحَةٌ في الْعِلَّةِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ من أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ من أَلْطَفِ ما يَسْتَعْمِلُهُ النَّاظِرُ وَسَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ يقول إنَّ هذا الْقَلْبَ إنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ من أَصْحَابِنَا حَيْثُ اسْتَدَلَّ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ في مَسْأَلَةِ السَّاحَةِ قال في هَدْمِ الْبِنَاءِ ضَرَرٌ بِالْغَاصِبِ فقال له أَصْحَابُنَا وفي مَنْعِ صَاحِبِ

السَّاحَةِ من سَاحَتِهِ إضْرَارٌ فقال يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ مِثْلَ هذا في الْقِيَاسِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا يَصِحُّ سُؤَالُ الْقَلْبِ قال وهو شَاهِدُ زُورٍ يَشْهَدُ لك وَيَشْهَدُ عَلَيْك لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا فَرْضُ مَسْأَلَةٍ على الْمُسْتَدِلِّ وَلَيْسَ لِلسَّائِلِ ذلك لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقَالِبَ عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلِيلِهِ فَصَارَ كما لو عَارَضَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَقِيلَ هو بَاطِلٌ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا في الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ الْقَلْبُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ يُوقِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْعِلَّةِ وَيُفْسِدُهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وكان الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَشَيْخُنَا أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ يَقُولَانِ هو مُعَارَضَةٌ وَأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ قال وَعِنْدِي فيه تَفْصِيلٌ وهو أَنَّ الْقَلْبَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا قَلْبٌ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ فَهَذَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ الْمَقُولَ بها لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلَّةِ تَعَلُّقٌ بِالْحُكْمِ الذي تَعَلَّقَ عليها وَاخْتِصَاصٌ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الضِّدِّ بها فإذا بَيَّنَ السَّائِلُ صِحَّةَ أَنْ يُعَلِّقَ عليها ضِدَّهُ خَرَجَتْ عن أَنْ تَكُونَ عِلَّةً كَقَوْلِنَا في أَنَّ الْخِيَارَ في الْمَبِيعِ يُورَثُ فإن الْمَوْتَ مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَ الْخِيَارَ كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ فيقول الْحَنَفِيُّ أَقْلِبُ هذه الْعِلَّةَ فَأَقُولُ إنَّ الْمَوْتَ مَعْنًى يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْقُلَ الْخِيَارَ إلَى الْوَارِثِ كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ ثَانِيهِمَا الْقَلْبُ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ فَهَذَا هو مُعَارَضَةٌ على ما ذَكَرَهُ شَيْخُنَا لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا جَعَلْتُ الْعِلَّةَ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ فإذا قَلَبَ بِبَعْضِهَا فلم تَفْسُدْ الْعِلَّةُ إنَّمَا جِئْتُ بِأُخْرَى كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ في ضَمِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ في الزَّكَاةِ مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ في الزَّكَاةِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ فيقول الشَّافِعِيُّ أَقْلِبُ الْعِلَّةَ وَأَقُولُ مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرُ بِكُلِّ حَالٍ فلم يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ وَنُقِلَ في الْمَنْخُولِ عن الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ وَلَيْسَ مُعَارَضَةً فإن شَرْطَهُمَا التَّعَارُضُ في نَفْسِ الْحُكْمِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ إذْ مُحَالٌ أَنْ يَدُلَّ على الْمَذْهَبَيْنِ من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ من جِهَتَيْنِ لِاشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ هِيَ أَبَدًا مَعْنًى في الْأَصْلِ أو الْفَرْعِ أو دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ يَقْتَضِي خِلَافَ ما ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ وَهَذَا الْوَصْفُ كَذَلِكَ فَعَلَى هذا لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَمْنَعَ حُكْمَ الْقَالِبِ في الْأَصْلِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24