كتاب : التقرير والتحبير
المؤلف : ابن أمير الحاج ، محمد بن محمد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا وَفَتَحَ عَلَيْنَا مِنْ خَزَائِنِ عِلْمِهِ فَتْحًا مُبِينًا وَمَنَّ عَلَيْنَا بِالتَّحَلِّي بِشَرْعِهِ الشَّرِيفِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَمَلًا وَيَقِينًا ، وَجَعَلَ أَجَلَّ الْكُتُبِ فُرْقَانَهُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ وَأَفْضَلَ الْهَدْيِ سُنَّةَ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ الَّذِي لَا يُدْرِكُ بَشَرٌ قُصَارَى مَجْدِهِ وَلَا شَأْوَ شَرَفِهِ ، وَخَيْرَ الْأُمَمِ أُمَّتَهُ الْمَحْفُوظَ إجْمَاعُهَا مِنْ الضَّلَالِ فِي سَبِيلِ الصَّوَابِ ، وَالْفَائِزَ أَعْلَامُهَا فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ بِأَوْفَرِ نَصِيبٍ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إلَهًا مَا زَالَ عَلِيمًا حَكِيمًا ، وَأَنَّ سَيِّدَنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ نَبِيًّا مَا بَرِحَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا فَأَقَامَ بِيُمْنِهِ أَوَدَ الْمِلَّةِ الْعَوْجَاءِ ، وَأَظْهَرَ بِمُفَسَّرِ إرْشَادِهِ مَحَاسِنَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الْبَيْضَاءِ ، وَأَزَالَ بِمُحْكَمَاتِ نُصُوصِهِ كُلَّ شُبْهَةٍ وَرَيْبٍ ، وَأَبَانَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ مَنْهَجَ الْحَقِّ طَاهِرًا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ وَعَيْبٍ ، وَأَوْضَحَ تَقْرِيرَ الدَّلَالَةِ عَلَى طُرُقِ الْوُصُولِ إلَى مَا شَرَعَهُ دِينُهُ الْقَوِيمُ مِنْ جَمِيلِ الْقَوَاعِدِ وَرَاسِخِ الْأُصُولِ فَأَضْحَى مِنْهَاجُ سَالِكِهِ صِرَاطًا سَوِيًّا وَبَحْرُ أَفَضَالِهِ مَوْرِدًا رَوَاءً وَشَرَابًا هَنِيًّا وَتَقْوِيمُ آيَاتِ سَمَاءِ فَضَائِلِهِ حُكْمًا صَادِقًا وَدَلِيلًا مَهْدِيًّا ، وَتَنْقِيحُ مَنَاطِ عَقَائِلِ خَرَائِدِهِ رَوْضًا أُنُفًا وَثَمَرًا جِنِّيًّا ، وَتَبْيِينُ مَنَارِ بَيِّنَاتِهِ تَوْضِيحًا بَاهِرًا وَمَنْطُوقًا جَلِيًّا ، وَتَلْوِيحُ إشَارَاتِ عُيُونِهِ عَلَى أَنْوَاعِ فُنُونِهِ إيمَاءً رَائِعًا وَوَحْيًا خَافِيًا ، وَتَحْقِيقُ مَقَاصِدِهِ بِكَشْفِ غَوَامِضِ الْأَسْرَارِ وَإِفَاضَةِ الْأَنْوَارِ فِي مَوَاقِفِ الْبَيَانِ خَطِيبًا بَلِيغًا وَكَفِيلًا مَلِيًّا ، وَمَنْخُولُ مَحْصُولِ حَاصِلِهِ بِتَحْصِيلِ الْآمَالِ ، وَبُلُوغِ

الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنْ الْمَنَالِ ضَمِينًا وَفِيًّا وَسَبَبًا قَوِيًّا ، وَمُنْتَخِبُ فَوَائِدِ جَوَامِعِ كَلِمِهِ وَفَرَائِدِ مَآثِرِ حُكْمِهِ دُرًّا نَقِيًّا وَعِقْدًا بَهِيًّا ، وَمُسْتَصْفَى نُقُودِ مَوَاهِبِهِ وَخُلَاصَةُ عُقُودِ مَآرِبِهِ كَنْزًا وَافِرًا وَذُخْرًا سَنِيًّا ، وَتَحْرِيرُ مِيزَانِ دَلَائِلِهِ وَتَقْرِيرُ آثَارِ رَسَائِلِهِ قَضَاءً فَصْلًا وَقَوْلًا مَرْضِيًّا فَصَلَّى اللَّهُ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ وَعَلَى آلِهِ ، وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ بَلَغُوا مِنْ الْمَكَارِمِ مَكَانًا قَصِيًّا وَرَفَعَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ مَقَامًا عَلِيًّا وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا دَائِمًا سَرْمَدِيًّا .
( وَبَعْدُ ) لَمَّا كَانَ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ أَجَلِّ عُلُومِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أُولِي النُّهَى وَالْأَحْلَامِ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ طَائِفَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ وَمَعْشَرًا مِنْ فُضَلَاءِ ذَلِكَ الْأَوَانِ فَشَيَّدُوا بِجَمِيلِ الْمُذَاكَرَةِ وَالتَّصْنِيفِ قَوَاعِدَهُ الْحِسَانَ وَاعْتَمَدُوا فِيمَا حَاوَلُوهُ مِنْ حُسْنِ الْمُدَارَسَةِ وَالتَّأْلِيفِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ ، وَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ شَيْخَنَا الْإِمَامَ الْهُمَامَ الْبَحْرَ الْعَلَّامَةَ وَالْحَبْرَ الْمُحَقِّقَ الْفَهَّامَةَ مُحَقِّقَ حَقَائِقِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ مُحَرِّرَ دَقَائِقِ الْمَسْمُوعِ وَالْمَعْقُولِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ كَمَالَ الْمِلَّةِ وَالْفَضَائِلِ وَالدِّينِ الشَّهِيرَ نَسَبُهُ الْكَرِيمَ بِابْنِ هُمَامِ الدِّينِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ ، وَرَفَعَ فِي الْفِرْدَوْسِ عَلِيَّ دَرَجَتِهِ ، وَمِمَّا شَهِدَ لَهُ بِهَذَا الْفَضْلِ الْغَزِيرِ مُصَنَّفُهُ الْمُسَمَّى بِالتَّحْرِيرِ فَإِنَّهُ قَدْ حَرَّرَ فِيهِ مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْعِلْمِ مَا لَمْ يُحَرِّرْهُ كَثِيرٌ مَعَ جَمْعِهِ بَيْنَ اصْطِلَاحَيْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَحْسَنِ نِظَامٍ وَتَرْتِيبٍ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى تَحْقِيقَاتِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ تَوْجِيهٍ وَتَهْذِيبٍ مَعَ تَرْصِيعِ مَبَانِيهِ بِجَوَاهِرِ الْفَرَائِدِ وَتَوْشِيحِ مَعَانِيهِ بِمَطَارِفِ الْفَوَائِدِ

وَتَرْشِيحِ صَنَائِعِهِ بِالتَّحْقِيقِ الظَّاهِرِ وَتَطْرِيفِ بَدَائِعِهِ بِالتَّدْقِيقِ الْبَاهِرِ وَكَمْ مُودَعٍ فِي دَلَالَاتِهِ مِنْ كُنُوزٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا الْأَفَاضِلُ الْمُتْقِنُونَ ، وَمُبْدَعٍ فِي إشَارَاتِهِ مِنْ رُمُوزٍ لَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْكُبَرَاءُ الْعَالِمُونَ .
فَلَا جَرَمَ إنْ صَدَقَتْ رَغْبَةُ فُضَلَاءِ الْعَصْرِ فِي الْوُقُوفِ عَلَى شَرْحٍ يُقَرِّرُ تَحْقِيقَاتِهِ وَيُنَبِّهُ عَلَى تَدْقِيقَاتِهِ وَيَحُلُّ مُشْكِلَاتِهِ وَيُزِيحُ إبْهَامَاتِهِ وَيُظْهِرُ ضَمَائِرَهُ وَيُبْدِي سَرَائِرَهُ وَقَدْ كَانَ يَدُورُ فِي خَلَدِي مَعَ قِلَّةِ بِضَاعَتِي وَوَهَنِ جَلَدِي أَنْ أُوَجِّهَ الْفِكْرَ نَحْوَ تِلْقَاءِ مَدْيَنَ هَذِهِ الْمَآرِبِ ، وَأَصْرِفَ عَنَانَ الْقَلَمِ نَحْوَ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ ؛ لِإِشَارَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِ - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ - إلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ حَالَ قِرَاءَتِي عَلَيْهِ لِهَذَا الْكِتَابِ الْجَلِيلِ وَسُؤَالِ خَلِيلٍ مِنِّي هَذَا الْمَرَامَ بَعْدَ خَلِيلٍ وَكَانَ يَعُوقُنِي عَنْ الْبُرُوزِ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ مَا قَدَّمْته مِنْ الِاعْتِذَارِ مَعَ مَا مُنِيت بِهِ مِنْ فَقْدِ مُذَاكِرٍ لَبِيبٍ ، وَمُنْصِفٍ ذِي نَظَرٍ مُصِيبٍ ، وَإِلْمَامُ بَعْضِ عَوَائِقَ بَدَنِيَّةٍ فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَقُصُورُ أَسْبَابٍ تُقْعِدُ عَنْ إدْرَاكِ مَا هُوَ الْمَأْمُولُ مِنْ الْجَدِّ وَالْبَخْتِ إلَى أَنْ صَمَّمَ الْعَزْمُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْمَرَامِ بِتَوْفِيقِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فَوَقَعَ الشُّرُوعُ فِيهِ مِنْ نَحْوِ عَشْرِ حِجَجٍ وَتَجَشَّمْت فِي الْغَوْصِ عَلَى دُرَرِ مُقَدِّمَتِهِ وَنُبْذَةٍ مِنْ مَبَادِيهِ غَمَرَاتِ اللُّجَجِ ثُمَّ بَيْنَمَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ يَرْكَبُ كُلَّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ فِي تَقْرِيرِ الْكِتَابِ وَيَكْشِفُ قِنَاعَ مَحَاسِنِ أَبْكَارِهِ عَلَى الْخُطَّابِ مِنْ الطُّلَّابِ بَرَزَتْ الْإِشَارَةُ الشَّيْخِيَّةُ بِالرِّحْلَةِ إلَى حَضْرَتِهِ الْعَلِيَّةِ قَضَاءً لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ مِنْ زِيَارَتِهِ وَتَلَقِّيًا لِلزِّيَادَاتِ الَّتِي أَلْحَقَهَا بِالْكِتَابِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَاسْتِطْلَاعًا لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا بَرَزَ مِنْ

الشَّرْحِ وَكَيْفِيَّةِ طَرِيقَتِهِ .
فَطَارَ الْعَبْدُ إلَيْهِ بِجَنَاحَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ إلَّا وَقَدْ نَشِبَتْ بِهِ مَخَالِبُ الْحَيْنِ ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا قَلِيلًا ، وَمَاتَ فَلَمْ يَقْضِ الْعَبْدُ الْوَطَرَ مِمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ التَّحْقِيقَاتِ وَالْمُرَاجَعَاتِ نَعَمْ اقْتَنَصْت فِي خِلَالِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مَا أَمْكَنَ مِنْ الْفَوَائِدِ الشَّارِدَاتِ ، وَأَثْبَتُّ فِي الْكِتَابِ عَامَّةَ مَا اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرَاتِ وَالزِّيَادَاتِ ثُمَّ رَجَعْت قَافِلًا وَالْقَلْبُ حَزِينٌ عَلَى مَا فَاتَ وَالْعَزْمُ فَاتِرٌ عَنْ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْغَمَرَاتِ ، وَالْبَالُ قَاعِدٌ عَنْ تَجَشُّمِ هَذِهِ الْمَشَقَّاتِ وَانْطَوَى عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ السُّنُونَ حَتَّى كَأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ كَانَتْ فِي سِنَاتٍ غَيْرَ أَنَّ الْأَخِلَّاءَ لَمْ يَرْضَوْا بِإِعْرَاضِ الْعَبْدِ عَنْ الْقِيَامِ بِهَذَا الْمَطْلُوبِ وَلَا بِرَغْبَتِهِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ بَلْ أَكَّدُوا الْعَزِيمَةَ عَلَى إبْرَامِ الْعَزْمِ نَحْوَ تَحْقِيقِ مَطَالِبِهِ وَكَرَّرُوا الْإِلْحَاحَ عَلَى إعْمَالِ الرَّجْلِ وَالْخَيْلِ فِي الْكَرِّ عَلَى الظَّفَرِ بِغَنِيمَةِ مَآرِبِهِ ، وَالْعَبْدُ يَسْتَعْظِمُ شَرْحَ هَذَا الْمَرَامِ وَيَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى مِنْهُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَتَطَاوَلَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمَدُ وَلَيْسَ بِمُنْصَرِفٍ عَنْ هَذَا الْمَسْئُولِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَحِينَئِذٍ اسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى ثَانِيًا فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ لَكِنْ لَا عَلَى السَّنَنِ الْأَوَّلِ مِنْ الْإِطْنَابِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِصَادِ بَيْنَ الِاخْتِصَارِ وَالْإِسْهَابِ وَشَرَعْت فِيهِ مُوَجِّهًا وَجْهَ رَجَائِي فِي تَيْسِيرِهِ إلَى الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ سَائِلًا مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى مُجَانَبَةَ الزَّلَلِ وَالثَّبَاتَ عَلَى صِرَاطِ الصَّوَابِ ، وَأَنْ يُثِيبَنِي عَلَيْهِ مِنْ كَرَمِهِ - سُبْحَانَهُ - جَزِيلَ الثَّوَابِ ، وَأَنْ يَرْزُقَنِي مِنْ كُلِّ وَاقِفٍ عَلَيْهِ دُعَاءً صَالِحًا يُسْتَجَابُ وَثَمَرَةَ ثَنَاءٍ حَسَنٍ يُسْتَطَابُ عَلَى أَنِّي مُتَمَثِّلٌ فِي الْحَالِ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ

مَاذَا تُؤَمِّلُ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ حَمَّلْته مَا لَيْسَ يُمْكِنُهُ إنْ بَانَ عَجْزٌ مِنْهُ فَهْوَ عَلَى عُذْرٍ يَبِينُ إذَا يُبَرْهِنُهُ قَدَّمْت فِيمَا قُلْت مُعْتَذِرًا هَذَا طِرَازٌ لَسْت أُحْسِنُهُ وَلَعَلَّهُ إذَا فَتَحَ اللَّه تَعَالَى بِإِتْمَامِهِ ، وَمَنَّ بِالْفَرَاغِ مِنْ إتْقَانِهِ وَاخْتِتَامِهِ أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى { بِالتَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّحْرِيرِ } وَحَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَدَأَ بِالْبَسْمَلَةِ الشَّرِيفَةِ تَبَرُّكًا ، وَمُجَانَبَةً لِمَا نَفَّرَتْ عَنْهُ السُّنَّةُ الْقَوْلِيَّةُ مِنْ تَرْكِ الْبُدَاءَةِ بِهَا أَوْ بِمَا يَسُدُّ مَسَدَّهَا فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَمِيلِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْجِيلِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ } وَفِي رِوَايَةٍ أَقْطَعُ فَإِنْ قُلْت وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ ثَابِتَةٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) فَهَذِهِ تُعَارِضُ الْأُولَى فَمَا الْمُرَجِّحُ لِلْأُولَى عَلَيْهَا قُلْت تَصْدِيرُ كِتَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَكُتُبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هِرَقْلَ وَغَيْرِهِ بِهَا عَلَى مَا فِي الصَّحِيحِ وَاسْتِمْرَارِ الْعُرْفِ الْعَمَلِيِّ الْمُتَوَارَثِ عَنْ السَّلَفِ قَوْلًا وَفِعْلًا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ هَذَا إذَا كَانَ الْمُرَادُ لَا يُبْدَأُ بِلَفْظِهِمَا لَكِنْ ذَكَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ الْمُرَادَ بِحَمْدِ اللَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّ كِتَابَ هِرَقْلَ كَانَ ذَا بَالٍ مِنْ الْمُهِمَّاتِ الْعِظَامِ وَلَمْ يَبْدَأْ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ الْحَمْدِ وَبَدَأَ بِالْبَسْمَلَةِ ا هـ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - : وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى حِينَئِذٍ بِذِكْرِ اللَّهِ

فِي قَوْلِهِ إنَّ الْمُرَادَ بِحَمْدِ اللَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ ذِكْرُهُ بِالْجَمِيلِ عَلَى قَصْدِ التَّبْجِيلِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْحَمْدِ خَاصَّةً فَالْأَمْرُ بِقَلْبِ مَا قَالَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّهِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا مِنْ بَابِ التَّجْوِيزِ بِالْمُقَيَّدِ عَنْ الْمُطْلَقِ وَحِينَئِذٍ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي تَمْشِيَةِ مِثْلِ هَذَا الْحَمْلِ عَلَى الْقَوَاعِدِ وَهُوَ مُتَمَشٍّ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ فِي مِثْلِهِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا عَلَى قَاعِدَةِ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْمِلُونَ فِي مِثْلِهِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى الشَّرْطِ ، وَإِنَّمَا يُجْرُونَ فِي مِثْلِهِ الْمُطْلَقَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدَ عَلَى تَقْيِيدِهِ حَتَّى إنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِأَيِّ فَرْدٍ كَانَ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ فَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ اعْتِبَارُ قَيْدِ ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ فِي ذَلِكَ الْمُطْلَقِ عِنْدَهُمْ كَأَفْرَادِ فَرْدٍ مِنْ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ حَيْثُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَخْصِيصَ الْعَامِّ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَحِينَئِذٍ يُتَّجَهُ أَنْ يُسْأَلُوا عَنْ الْحِكْمَةِ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْدِ مِنْ الْمُطْلَقِ دُونَ غَيْرِهِ وَيُتَّجَهُ لَهُمْ أَنْ يُحِيبُوا هُنَا بِأَنَّ لَعَلَّهَا إفَادَةُ تَعْلِيمِ الْعِبَادِ مَا هُوَ أَوْلَى أَوْ مِنْ أَوْلَى مَا يُؤَدَّى بِهِ الْمُرَادُ مِنْ الْمُطْلَقِ ، وَإِنْ عَنَى حِينَئِذٍ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ ذِكْرَهُ مُطْلَقًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ سَوَاءٌ كَانَ تَسْبِيحًا أَوْ تَحْمِيدًا أَوْ شُكْرًا أَوْ تَهْلِيلًا أَوْ تَكْبِيرًا أَوْ تَسْمِيَةً أَوْ دُعَاءً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحَمْدِ اللَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ

لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلْحَمْدِ لَيْسَ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَا دَاعِيَ إلَى التَّجَوُّزِ بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الذِّكْرِ لِانْدِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِكِتَابِ هِرَقْلَ ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ فَتَأَمَّلْ .
( يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ مَوْلِدًا السِّيوَاسِيُّ مُنْتَسِبًا الشَّهِيرُ بِابْنِ هُمَامِ الدِّينِ ) لَقَبِ وَالِدِهِ الْعَلَّامَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَذْكُورِ كَانَ قَاضِي سِيوَاسَ الْبَلَدُ الشَّهِيرُ بِبِلَادِ الرُّومِ ، وَمِنْ بَيْتِ الْعِلْمِ وَالْقَضَاءِ بِهِ قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَوَلِيَ خِلَافَةَ الْحُكْمِ بِهَا عَنْ الْقَاضِي الْحَنَفِيِّ بِهَا ثَمَّةَ ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَتَزَوَّجَ بِهَا بِنْتَ الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ يَوْمَئِذٍ فَوَلَدَتْ لَهُ الْمُصَنِّفَ ، وَمَدَحَهُ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ الدَّمَامِينِيُّ بِقَصِيدَةٍ بَلِيغَةٍ يَشْهَدُ لَهُ فِيهَا بِعُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ فِي الْعِلْمِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ رَغِبَ عَنْهَا وَرَجَعَ إلَى الْقَاهِرَةِ ، وَأَقَامَ بِهَا مُكِبًّا عَلَى الِاشْتِغَالِ فِي الْعِلْمِ إلَى أَنْ مَاتَ كَذَا ذَكَرَ لِي الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ فَمَنَاقِبُهُ فِي تَحْقِيقِ الْعُلُومِ الْمُتَدَاوَلَةِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ ، وَمَآثِرُهُ فِي بَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْفَضَائِلِ عَلَى ضُرُوبِ شُجُونِهَا مَحْفُوظَةٌ مَأْثُورَةٌ فَاكْتَفَيْنَا بِقُرْبِ الْعَهْدِ بِمَعْرِفَتِهِ عَنْ بَسْطِ الْقَوْلِ هُنَا فِي تَرْجَمَتِهِ ( غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَسَتَرَ عُيُوبَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَمَا أَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا كَانَ شَرَحَهُ مِنْ كِتَابِ الْبَدِيعِ لِابْنِ السَّاعَاتِيِّ إخْبَارُ صِيغَةِ إنْشَاءٍ مَعْنًى كَصِيَغِ الْعُقُودِ قَالَ وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي إنْكَارِ كَوْنِهَا إنْشَاءً لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ انْتِفَاءِ الِاتِّصَافِ بِالْجَمِيلِ قَبْلَ حَمْدِ الْحَامِدِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِنْشَاءَ يُقَارِنُ مَعْنَاهُ لَفْظَهُ فِي الْوُجُودِ وَيَبْطُلُ

مِنْ قَطْعِيَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْحَامِدَ ثَابِتٌ قَطْعًا بَلْ الْحَمَّادُونَ ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يُصَاغُ لُغَةً لِلْمُخْبِرِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلَّقِ إخْبَارِهِ اسْمٌ قَطْعًا فَلَا يُقَالُ لِقَائِلٍ زَيْدٌ ثَابِتٌ لَهُ الْقِيَامُ قَائِمٌ فَلَوْ كَانَ الْحَمْدُ إخْبَارًا مَحْضًا لَمْ يُقَلْ لِقَائِلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَامِدٌ وَلَانْتَفَى الْحَامِدُونَ وَهُمَا بَاطِلَانِ فَبَطَلَ مَلْزُومُهُمَا ، وَاللَّازِمُ مِنْ الْمُقَارَنَةِ انْتِفَاءُ وَصْفِ الْوَاصِفِ الْمُعَيَّنِ لَا الِاتِّصَافُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ إظْهَارُ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَا ثُبُوتُهَا نَعَمْ يَتَرَاءَى لُزُومُ كَوْنِ كُلِّ مُخْبِرٍ مُنْشِئًا حَيْثُ كَانَ وَاصِفًا لِلْوَاقِعِ ، وَمُظْهِرًا لَهُ وَهُوَ تَوَهُّمٌ فَإِنَّ الْحَمْدَ مَأْخُوذٌ فِيهِ مَعَ ذِكْرِ الْوَاقِعِ كَوْنُهُ عَلَى وَجْهِ ابْتِدَاءِ التَّعْظِيمِ وَهَذَا لَيْسَ جُزْءُ مَاهِيَّةِ الْخَبَرِ فَاخْتَلَفَتْ الْحَقِيقَتَانِ وَظَهَرَ أَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ اعْتِبَارِ هَذَا الْقَيْدِ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْحَمْدِ هُوَ مَنْشَأُ الْغَلَطِ ، إذْ بِالْغَفْلَةِ عَنْهُ ظَنَّ أَنَّهُ إخْبَارٌ لِوُجُودٍ خَارِجَ مُطَابِقِهِ وَهُوَ الِاتِّصَافُ وَلَا خَارِجَ لِلْإِنْشَاءِ ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا خَارِجُ جُزْءِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ وَتَمَامُهُ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْهُ ، وَمِنْ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ ابْتِدَاءِ التَّعْظِيمِ لَا خَارِجٌ لَهُ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ مَعْنَى لَفْظِهِ عِلَّةً لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ .
ا هـ .
وَقَدْ عَرَفْت مِنْهُ مَعْنَى الْحَمْدِ وَلِلنَّاسِ عِبَارَاتٌ شَتَّى فِي بَيَانِهِ لَا يَخْلُو بَعْضُهَا مِنْ نَظَرٍ وَبَحْثٍ فَيَطْلُبُ مَعَ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالْمَدْحِ فِي مَظَانِّهَا إذْ لَا حَاجَةَ بِنَا هُنَا إلَى الْإِطْنَابِ بِهَا .

ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاسْمَ الْجَلِيلَ أَعْنِي اللَّهَ خَاصٌّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ ( وَلَكِنْ هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَمْ عِبْرِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ ؟ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ هَلْ هُوَ عَلَمٌ أَوْ صِفَةٌ ؟ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ هَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ أَوْ الْخَالِقُ لِلْعَالَمِ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ بَلْ هُوَ أَخُصُّ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ كَمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ لَا أَنَّهُ عِبْرِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو زَيْدٍ الْبَلْخِيُّ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ هَلْ هُوَ عَلَمٌ أَوْ صِفَةٌ فَقِيلَ صِفَةٌ ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ أَنَّهُ عَلَمٌ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ هَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ أَوْ غَيْرُ مُشْتَقٍّ فَقِيلَ مُشْتَقٌّ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْمَادَّةِ الَّتِي اُشْتُقَّ مِنْهَا ، وَفِي أَنَّ عَلَمِيَّتِهِ حِينَئِذٍ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ أَوْ الْغَلَبَةِ .
وَقِيلَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ بَلْ هُوَ عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَصْلٍ أُخِذَ مِنْهُ ، وَعَلَى هَذَا الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ وَالْخَلِيلُ وَالزَّجَّاج وَابْنُ كَيْسَانَ وَالْحَلِيمِيُّ ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ ثُمَّ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ هُوَ اللَّهُ ، وَبِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَأَكْثَرُ الْعَارِفِينَ حَتَّى إنَّهُ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ لِصَاحِبِ مَقَامٍ فَوْقَ الذِّكْرِ بِهِ ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا وَجْهُ تَخْصِيصِ الْحَمْدِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْحَمْدَ عَلَيْهِ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْعُدُولِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ سَالِمٍ مِنْ الْمُعَارِضِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ ذِكْرِ اللَّهِ أَهَمُّ نَظَرًا إلَى ذَاتِهِ يُعَارِضُهُ كَوْنُ الْمَقَامِ مَقَامُ الْحَمْدِ لِلَّهِ .

( الَّذِي أَنْشَأَ ) فِي الصِّحَاحِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ خَلْقَهُ ، وَالِاسْمُ النَّشْأَةُ وَالنَّشَاءَةُ بِالْمَدِّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ ، وَأَنْشَأَ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ ابْتَدَأَ ( هَذَا الْعَالَمَ ) الْمُشَاهَدَ عُلْوِيَّهُ وَسُفْلِيَّهُ ، وَمَا بَيْنَهُمَا لِذَوِي الْبَصَائِرِ وَالْأَبْصَارِ عَلَى مَمَرِّ السِّنِينَ وَالْأَعْصَارِ ثُمَّ قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ فَإِطْلَاقُهُ حِينَئِذٍ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَا بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِمَا فِي هَذِهِ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ مِنْ الثِّقْلَيْنِ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ ، وَقِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَامَةِ ؛ لِأَنَّ فَاعِلًا كَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْآلَةِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا الشَّيْءُ كَالطَّابِعِ وَالْخَاتَمِ فَهُوَ كَالْآلَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صَانِعِهِ فَهُوَ حِينَئِذٍ اسْمٌ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهُ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ فَإِنَّهَا لِإِمْكَانِهَا وَافْتِقَارِهَا إلَى مُؤَثِّرٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ ، وَلَعَلَّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصِّحَاحِ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْخَلْقِ أَيْ الْمَخْلُوقِ ( الْبَدِيعِ ) وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً مِنْ بَدَعَ بَدَاعَةً وَبُدُوعًا صَارَ غَايَةً فِي وَصْفِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُبْتَدَعُ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ أَيْ الْمُخْتَرَعُ لَا عَلَى مِثَالٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ الْبَدِيعُ ( بِلَا مِثَالٍ سَابِقٍ ) تَصْرِيحًا بِلَازِمِينَ لِإِنْشَاءِ الْعَالَمِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُبْتَدَأَ لِلْفَاعِلِ الْمُطْلَقِ غَيْرُ مَسْبُوقٍ إلَيْهِ وَلَا مُتَقَدِّمٍ فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ مَا يُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُهُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { إنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاءً } بِخِلَافِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ فِي هَذَا الْقَوْلِ تَصْرِيحٌ بِلَازِمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ بِلَا مِثَالٍ

سَابِقٍ ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا ضَيْرَ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَنْسَبُ بِمَا سَيَأْتِي كَمَا سَنُشِيرُ إلَيْهِ .
وَقَدْ يُقَالُ الْإِنْشَاءُ وَالْإِبْدَاعُ إيجَادُ الشَّيْءِ بِلَا سَبْقِ مَادَّةٍ وَزَمَانٍ وَلَا تَوَسُّطِ آلَةٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُقَابِلُ التَّكْوِينَ لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْمَادَّةِ وَالْإِحْدَاثِ لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالزَّمَانِ ، وَعِنْدَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي هَذَا نَظَرٌ يُنَوِّرُهُ قَوْله تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } { ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ } { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ( وَأَنَارَ لِبَصَائِرِ الْعُقَلَاءِ طُرُقَ دَلَالَتِهِ عَلَى وُجُودِهِ وَتَمَامِ قُدْرَتِهِ ) أَيْ جَعَلَ أَنْوَاعَ الْأَدِلَّةِ الْأَنْفَسِيَّةِ وَالْآفَاقِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ وُجُودِهِ بِالذَّاتِ وَشُمُولِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ لِسَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ وَاضِحَةً جَلِيَّةً لِذَوِي الِاسْتِبْصَارِ مِنْ عُقَلَاءِ الْعِبَادِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أُولِي الرَّشَادِ مِنْ ضَرُورَاتِ الدِّينِ بَلْ وَمِنْ عَيْنِ الْيَقِينِ ، وَأَحْسَنُ بِقَوْلِ الْعَارِفِ أَبِي إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ لَقَدْ وَضَحَ الطَّرِيقُ إلَيْك حَقًّا فَمَا أَحَدٌ أَرَادَك يَسْتَدِلُّ وَيَقُولُ الْآخَرُ لَقَدْ ظَهَرْت فَلَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى أَكْمَهٍ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا ( فَهُوَ إلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ سَائِقٌ ) أَيْ إيضَاحُهُ لِلْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ سَائِقٌ لِلْقُلُوبِ الْمُسْتَبْصِرَةِ إلَى الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِوُجُودِهِ الذَّاتِيِّ ، وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ ، وَمِنْ عُيُونِ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ قِيلَ وَكَانَ مِنْ أَوْتَادِ مِصْرَ : الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ الْفِكْرُ وَالِاعْتِبَارُ بِحَكَمِهِ وَآيَاتِهِ وَلَا سَبِيلَ لِلْأَلْبَابِ إلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَاتِهِ فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ سُبُلٌ مُتَّصِلَةٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَحُجَجٌ بَالِغَةٌ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ ، وَالْكَوْنُ جَمِيعُهُ أَلْسُنٌ نَاطِقَةٌ بِوَحْدَانِيِّتِهِ ، وَالْعَالَمُ كُلُّهُ كِتَابٌ

يَقْرَأُ حُرُوفَ أَشْخَاصِهِ الْمُتَبَصِّرُونَ عَلَى قَدْرِ بَصَائِرِهِمْ .
( دَفَعَ نِظَامَهُ ) أَيْ اضْطَرَّ نِظَامُ الْعَالَمِ ( الْمُسْتَقَرُّ ) أَيْ الثَّابِتُ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الِانْتِظَامِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَالٍ وَلَا انْخِرَامٍ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْ ذَوِي النُّهَى وَالْأَحْلَامِ ( إلَى الْقَطْعِ بِوَحْدَانِيِّتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } ، وَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فِي قَوْلِهِ فَوَاعَجَبَا كَيْفَ يُعْصَى الإل هـ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ وَتَسْكِينَةٍ أَبَدًا شَاهِدُ ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ .
( كَمَا أَوْجَبَ ) لِذَوِي النَّظَرِ الصَّحِيحِ ( تَوَالِي نَعْمَائِهِ تَعَالَى الْمُسْتَمِرُّ ) أَيْ تَتَابُعُهَا الدَّائِمُ عَلَى سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ مَعَ تَلَبُّسِ الْكَثِيرِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَالْجُحُودِ وَالطُّغْيَانِ ( الْعِلْمَ ) الْقَطْعِيَّ لَهُمْ ( بِرَحْمَانِيَّتِهِ ) أَيْ بِاتِّصَافِهِ بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي هِيَ إفَاضَةُ الْإِنْعَامِ أَوْ إرَادَةُ الْإِحْسَانِ ، وَإِلَّا لَبَادُوا عِنْدَ الْخَالِفَةِ وَلَمْ يُمْهَلُوا وَقْتًا مِنْ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ ، وَأَنْوَاعِ الْبُرْهَانِ فَسُبْحَانَهُ مِنْ إلَهٍ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا وَغَفَرَ ذُنُوبَ الْمُذْنِبِينَ كَرْمًا وَحِلْمًا .
( تَنْبِيهٌ ) وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ جَارٍ عَلَى مِنْوَالِ كَوْنِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَقِبَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَاجِبًا أَيْ لَازِمًا حُصُولُهُ عَقِبَهُ إمَّا وُجُوبًا عَادِيًا كَمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَوْ وُجُوبًا عَقْلِيًّا غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ مِنْهُ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ وَكَشَفَ الْقِنَاعَ عَنْهُ فِي

الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ يَعْنِي وَجَبَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعُقَلَاءِ عَقِبَ نَظَرِهِمْ الصَّحِيحِ فِي دَوَامِ تَوَاتُرِ نَعْمَائِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى عَلَى الْعِبَادِ مَعَ كَثْرَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْعِصْيَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْبِلَادِ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِاتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أُصُولِ صِفَاتِهِ الْحُسْنَى وَنُعُوتِهِ الْعُلَى فَاتَّحَدَ هَذَانِ الْمَطْلَبَانِ فِي الْقَطْعِ دَلِيلًا وَمَدْلُولًا .
وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ خَرَجَتَا مَخْرَجَ الْبَيَانِ وَالشَّهَادَةِ لِبَدَاعَةِ هَذَا الْعَالَمِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فِيمَا اُشْتُقَّ مِنْهُ الْبَدِيعُ هُنَا ، وَلِجُمْلَةِ وَأَنَارَ لِبَصَائِرِ الْعُقَلَاءِ طُرُقَ دَلَالَتِهِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ لِهَذَا وَلِكَوْنِهِمَا لَا يَصِحُّ تَشْرِيكُهُمَا فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ إذْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَقَعَا صِلَتَيْنِ لِمَا الْأُولَيَانِ صِلَتَانِ لَهُ فَصَلَهُمَا عَنْهُمَا .
وَظَهَرَ أَيْضًا أَنَّ إسْنَادَ دَفْعٍ إلَى نِظَامٍ ، وَأَوْجَبَ إلَى تَوَالِي إسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِمُلَابَسَةِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } ، وَأَنَّ قَوْلَهُ الْمُسْتَمِرَّ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ تُوَالِي كَمَا أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ نِظَامِهِ وَتَعَالَى جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ ثُمَّ كَمَا أَنَّ لِرَبِّنَا تَعَالَى عَلَيْنَا نِعَمًا يَتَعَذَّرُ إحْصَاؤُهَا كَذَلِكَ لِنَبِيِّنَا أَيْضًا عَلَيْنَا مِنَنٌ يَبْعُدُ اسْتِقْصَاؤُهَا وَهُوَ أَيْضًا الْوَسِيلَةُ الْعُظْمَى إلَيْهِ ، وَمَنْ رَامَ إنْجَاحَ مَطَالِبِهِ فَهُوَ كَلٌّ عَلَيْهِ فَلَا جَرَمَ إنْ أَتَى الْمُصَنِّفُ بِتَبْجِيلِهِ وَتَمْجِيدِهِ مَنْسُوقًا عَلَى حَمْدِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ فَقَالَ ( وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ) وَكَوْنُ الْحَمْدِ فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ الْأَسْمِيَةِ وَالصَّلَاةِ فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ غَيْرَ

ضَائِرٍ لِاتِّفَاقِهِمَا هُنَا فِي كَوْنِهِمَا إنْشَاءً وَسَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ هَلْ الْمُشْتَرَكُ عَامٌّ اسْتِغْرَاقِيٌّ فِي مَفَاهِيمِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاعْتِنَاءِ بِإِظْهَارِ الشَّرَفِ وَتَتَحَقَّقُ مِنْهُ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ ، وَمِنْ غَيْرِهِ بِدُعَائِهِ لَهُ .

ثُمَّ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ : أَجْمَعُ الْأَقْوَالِ الشَّارِحَةِ لِلرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّهَا سِفَارَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْخَلْقِ تُنَبِّهُ أُولِي الْأَلْبَابِ عَلَى مَا تَقْصُرُ عَنْهُ عُقُولُهُمْ مِنْ صِفَاتِ مَعْبُودِهِمْ وَمَعَادِهِمْ ، وَمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَمُسْتَحِثَّاتٌ تُهْدِيهِمْ وَدَوَافِعُ شُبَهٍ تُرْدِيهِمْ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا غَيْرُ مُرَادِفَةٍ لِلنُّبُوَّةِ وَبَيْنَهُمَا فُرُوقٌ شَهِيرَةٌ ، فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ نَقْلِ غَيْرِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ لِنَقْلِ غَيْرِ وَاحِدٍ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ ، وَمِمَّا قِيلَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّسُولَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْذَارِ ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِشَرْعٍ مُسْتَأْنَفٍ وَلَا كَذَلِكَ النَّبِيُّ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ ، وَأَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ وَالنَّبِيُّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ بَعْضِ وُجُوهِهِ وَالنُّبُوَّةُ ، وَالرِّسَالَةُ أَشْرَفُ مَرَاتِبِ الْبَشَرِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّفْضِيلُ الثَّمَرَةُ وَالْجَدْوَى قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ : وَجَاءَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَفْضِيلُ الرِّسَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ فَإِنَّهَا تُثْمِرُ هِدَايَةَ الْأُمَّةِ ، وَالنُّبُوَّةُ قَاصِرَةٌ عَلَى النَّبِيِّ فَنِسْبَتُهَا إلَى النُّبُوَّةِ كَنِسْبَةِ الْعَالِمِ إلَى الْعَابِدِ ، وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يُلَاحِظُ فِي النُّبُوَّةِ جِهَةً أُخْرَى يُفَضِّلُهَا بِهَا عَلَى الرِّسَالَةِ وَكَانَ يَقُولُ النُّبُوَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِنْشَاءِ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك } فَهَذَا وُجُوبٌ مُتَعَلَّقٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرِّسَالَةُ خِطَابٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ الْمُتَعَلَّقِ

بِهِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ جِهَةِ شَرَفِ الْمُتَعَلَّقِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ هُوَ مُتَعَلَّقُهَا ، وَالرِّسَالَةَ مُتَعَلَّقُهَا الْأُمَّةُ ، وَإِنَّمَا حَظُّهُ مِنْهَا التَّبْلِيغُ فَهَذَانِ وَجْهَانِ مُتَعَارِضَانِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ لَهَا شَرَفٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ا هـ .
وَقَطَعَ فِي مُؤَلَّفٍ لَهُ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ أَفْضَلُ قَائِلًا : لِأَنَّ النُّبُوَّةَ إخْبَارٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ ، وَهِيَ مُتَعَلَّقَةٌ بِاَللَّهِ مِنْ طَرَفَيْهَا ، وَالْإِرْسَالُ دُونَهَا أَمْرٌ بِالْإِبْلَاغِ إلَى الْعِبَادِ فَهُوَ مُتَعَلَّقٌ بِاَللَّهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَبِالْعِبَادِ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِاَللَّهِ مِنْ طَرَفَيْهِ أَفْضَلُ مِمَّا تَعَلَّقَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّبُوَّةَ رَاجِعَةٌ إلَى التَّعْرِيفِ بِالْإِلَهِ وَبِمَا يَجِبُ لِلْإِلَهِ ، وَالْإِرْسَالَ رَاجِعٌ إلَى أَمْرِهِ الرَّسُولَ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ إلَى عِبَادِهِ أَوْ إلَى بَعْضِ عِبَادِهِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ ، وَالنُّبُوَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ { اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى } فَجَمِيعُ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ : { اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى } نُبُوَّةٌ ، وَمَا أَمَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ التَّبْلِيغِ فَهُوَ إرْسَالٌ ، وَأَفَادَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِرْسَالَ مِنْ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي لَا ثَوَابَ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ الَّتِي حَمَلَهَا ، وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فَمَنْ قَالَ النَّبِيُّ هُوَ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ اللَّهِ قَالَ يُثَابُ عَلَى إنْبَائِهِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَمَنْ قَالَ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ الَّذِي نَبَّأَهُ اللَّهُ قَالَ لَا ثَوَابَ لَهُ عَلَى إنْبَاءِ اللَّهِ

تَعَالَى إيَّاهُ لِتَعَذُّرِ انْدِرَاجِهِ فِي كَسْبِهِ وَكَمْ مِنْ صِفَةٍ شَرِيفَةٍ لَا يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا كَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لَهُ فِيهَا وَكَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ ثُمَّ لَا شَكَّ فِي أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ .
وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُرْسَلٌ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا فَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ الْحَلِيمِيِّ مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ نَفْيَ إرْسَالِهِ إلَيْهِمْ ، وَمَشَى عَلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ بَلْ فِي نُسْخَةٍ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي تَفْسِيرِهِ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَى الْمَلَائِكَةِ ا هـ .
فَمَا فِي تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ بِجَمْعِ الْجَوَامِعِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ فُقَهَاءِ مِصْرَ مَعَ فَاضِلِ دَرْسٍ عِنْدَهُمْ ، وَقَالَ لَهُمْ الْمَلَائِكَةُ مَا دَخَلَتْ فِي دَعْوَتِهِ فَقَامُوا عَلَيْهِ مَا لَفَظَهُ .
وَذَكَرَ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ الدُّخُولَ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } وَالْمَلَائِكَةُ دَاخِلُونَ فِي هَذَا الْعُمُومِ .
ا هـ غَلَطٌ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ .

وَمُحَمَّدٌ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ الْأَعْلَامِ ، وَهَلْ هُوَ مَنْقُولٌ أَوْ مُرْتَجَلٌ فَعَلَى مَا عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْأَعْلَامَ كُلَّهَا مَنْقُولَةٌ ، وَمَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرْتَجَلِ بِأَنَّهُ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلٌ يَرْجِعُ اسْتِعْمَالُهُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ مُخْتَرَعٌ أَوْ أَنَّهُ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَمًا وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ نَكِرَةً هُوَ مَنْقُولٌ إمَّا عَنْ اسْمِ الْمَفْعُولِ أَوْ الْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ كَمَا تَكُونُ اسْمُ مَفْعُولٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْكَثِيرُ قَدْ تَكُونُ مَصْدَرًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } ، وَقَوْلُهُمْ جَرَّبْته كُلَّ مُجَرَّبٍ .
وَوَجْهُ كَوْنِهِ مَنْقُولًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَلَى الثَّالِثِ فَلِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ صِفَةً قَبْلَ التَّسْمِيَةِ بِهِ ، وَعُرِّفَ بِأَدَاةِ التَّعْرِيفِ قَالَ الْأَعْشَى إلَى الْمَاجِدِ الْفَرْعِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ وَعَلَى مَا عَنْ الزَّجَّاجِ الْأَعْلَامُ كُلُّهَا مُرْتَجَلَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى قَصْدِ النَّقْلِ إذْ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ مِنْ الْوَاضِعِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ تَصْرِيحٌ هُوَ مُرْتَجَلٌ .
وَعَلَى كَوْنِهِ مُرْتَجَلًا مَشَى ابْنُ مُعْطٍ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ فِيهِ وَشَقَّ لَهُ مِنْ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ وَلَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ رَجُلٌ مُحَمَّدٌ ، وَمَحْمُودٌ أَيْ كَثِيرُ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ لَكِنْ لَعَلَّ النَّقْلَ أَشْبَهُ .

ثُمَّ أَيًّا مَا كَانَ فَكَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّمَا سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُودٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَعِنْدَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَإِنْ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْأَرْضِ جَهْلًا أَوْ عِنَادًا ، وَهُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ حَمْدًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُسَمَّى بِهِ أَحَدٌ غَيْرَهُ إلَى أَنْ شَاعَ قُبَيْلَ إظْهَارِهِ لِلْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَسَمَّى قَلِيلٌ مِنْ الْعَرَبِ أَبْنَاءَهُمْ بِهِ رَجَاءً مِنْ كُلٍّ أَنْ يَكُونَ ابْنُهُ ذَلِكَ ثُمَّ مَنَعَ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمْ أَنْ يَدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ يَدَّعِيَهَا أَحَدٌ لَهُ أَوْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ سَبَبٌ يُشَكِّكُ أَحَدًا فِي أَمْرِهِ .

ثُمَّ الْمُفِيدُ لِصِحَّةِ وَصْفِهِ بِمَا مَدَحَهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ ( أَفْضَلُ مَنْ عَبَدَهُ مِنْ عِبَادِهِ ) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ الَّتِي مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ ضَلَّ طَرِيقَ سَدَادِهِ ، وَكَذَا لَا رَيْبَ فِي كَوْنِهِ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ وَأَتْقَاهُمْ ، وَأَنَّهُ أَرْحَمُ بِأُمَّتِهِ مِنْ الْوَالِدِ الْعَطُوفِ بِأَوْلَادِهِ ( وَأَقْوَى مَنْ أَلْزَمَ ) بِاللِّسَانِ وَالسِّنَّانِ مَنْ أَمْكَنَهُ تَبْلِيغُهُ ( أَوَامِرَهُ ) لِيَفُوزَ الْمُلْزَمُ بِذَلِكَ بِالسَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ أَبَدَ آبَادِهِ ( وَنَشَرَ أَلْوِيَةَ شَرَائِعِهِ ) عَلَى اخْتِلَافِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَبَايُنِ مَحْمُولَاتِهَا فَغَدَتْ عَلَى مَمَرِّ الْأَحْقَابِ مَرْفُوعَةَ الْأَعْلَامِ ( فِي بِلَادِهِ ) ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا دِينَهُ وَشَرْعَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { مِنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } بِدَلِيلِ مَا فِي لَفْظٍ آخَرَ لَهُ { مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ فِيهِ رَدٌّ } وَجَمْعُهُ نَظَرٌ إلَى أَنْوَاعِ مُتَعَلَّقَاتِهِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ ضِدَّ النَّهْيِ ، وَعَلَى هَذَا إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ النَّوَاهِيَ اكْتِفَاءً بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ } أَيْ وَالْبَرْدَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي قَوْلِهِ وَنَشَرَ أَلْوِيَةَ شَرَائِعِهِ فِي بِلَادِهِ مِنْ حُسْنِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ التَّخْيِلِيَّةِ الْمُرَشِّحَةِ عَلَى طَرِيقَةِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ فِي النَّفْسِ تَشْبِيهَ الشَّرَائِعِ بِالْمُلُوكِ ذَوِي الْجُيُوشِ وَالرَّايَاتِ بِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ السَّلْطَنَةِ ، وَنَفَاذًا لِحُكْمٍ فِي مُتَعَلَّقِهِمَا فَإِنَّ الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَعَلَّقَةِ بِالْمُكَلَّفِينَ نَافِذَةٌ أَحْكَامُهَا فِيهِمْ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ طَاعَةُ مُقْتَضَاهَا أَبْلُغُ مِنْ نَفَاذِ أَحْكَامِ الْمُلُوكِ فِي أَتْبَاعِهِمْ وَرَعَايَاهُمْ ، وَآكَدُ مِنْ طَاعَةِ الرَّعَايَا لَهُمْ ثُمَّ رَشَّحَ ذَلِكَ تَخْيِيلًا

بِذِكْرِ نَشْرِ الْأَلْوِيَةِ فِي الْبِلَادِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ صِفَةُ كَمَالٍ لَهُ .
ثُمَّ مَا زَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا بِأَعْبَاءِ التَّبْلِيغِ وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَطَاعَةِ الرَّحْمَنِ بِنَفْسِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إلَى الْبِلَادِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالْإِمْكَانِ ( حَتَّى افْتَرَّتْ ضَاحِكَةً عَنْ جَذَلٍ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) يُقَالُ افْتَرَّ فُلَانٌ ضَاحِكًا إذَا ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ أَسْنَانُهُ فَضَاحِكَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الضَّمِيرِ الَّذِي لِلْبِلَادِ فِي افْتَرَّتْ مِنْ قَبِيلِ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِعَامِلِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا } .
وَعَنْ جَذَلٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ عَنْ فَرَحٍ وَابْتِهَاجٍ مَصْدَرُ جَذِلَ يَجْذَلُ مِنْ حَدِّ عَلِمَ يَعْلَمُ وَهُوَ مُتَعَلَّقٌ بِافْتَرَّتْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ وَبِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ مُتَعَلَّقٌ بِجَذَلٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْضًا أَيْ حَتَّى تُجَاوِزَ افْتِرَارَ الْبِلَادِ عَنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَا بَسَطَ اللَّهُ فِي بَسْطَتِهَا مِنْ التَّوَسُّطِ فِي الْأُمُورِ اعْتِقَادًا كَالتَّوْحِيدِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْرِيكِ ، وَالْقَوْلِ بِالْكَسْبِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ مَحْضِ الْجَبْرِ وَالْقَدْرِ ، وَعَمَلًا كَالتَّعَبُّدِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْبَطَالَةِ وَالتَّرَهُّبِ وَخُلُقًا كَالْجُودِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالتَّبْذِيرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَمِنْ الْإِحْسَانِ فِي الطَّاعَاتِ كَمْيَّةً وَكَيْفِيَّةً ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ ، وَمُعَاشَرَتِهِمْ حَتَّى فِي قَتْلِ مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْغَايَةِ مِنْ حُسْنِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ التَّخْيِلِيَّةِ الْمُرَشِّحَةِ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ فِي النَّفْسِ تَشْبِيهَ الْبِلَادِ بِالْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَحَلٌّ لِمَظَاهِرِ الْأَحْكَامِ ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ

رَشَّحَ ذَلِكَ تَخْيِيلًا بِالتَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ النَّاشِئِ عَنْ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ فَرَحِ الْعُقَلَاءِ عَادَةً وَصِفَةَ كَمَالٍ لَهُمْ فَعَمَّ الْبِلَادَ آثَارُ هَذَا الْجُودِ وَالِامْتِنَانِ ( بَعْدَ طُولِ انْتِحَابِهَا عَلَى انْبِسَاطِ بَهْجَةِ الْإِيمَانِ ) لِكَثْرَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ وَالظُّلْمِ وَالْعِدْوَانِ .
ثُمَّ النَّحِيبُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ ، وَالِانْبِسَاطُ هُنَا تَرَكَ الِاحْتِشَامَ ، وَالْبَهْجَةُ الْحُسْنُ وَهَذَا تَرْشِيحٌ آخَرُ لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَاضِيَةِ .
الْبَيَانُ ( وَلَقَدْ كَانَتْ ) الْبِلَادُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ( كَمَا قِيلَ وَكَأَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ خَدُّ مُتَيَّمٍ وُصِلَتْ سِجَامُ دُمُوعِهِ بِسِجَامِ ) الْمُتَيَّمُ الْعَاشِقُ مَنْ تَيَّمَهُ الْحُبُّ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ عَبْدًا لِمَحْبُوبِهِ وَسَجَمَ الدَّمْعُ سُجُومًا سَالَ وَانْسَجَمَ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُحِبُّ عَلَى هَذَا الْحَالِ مِنْ الْحُزْنِ وَالِاكْتِئَابِ لِمَا يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَلْوَانِ الْعَذَابِ فِي مُعَامَلَةِ الْأَحْبَابِ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا بَعُدَ مِنْ ذَلِكَ الْجَنَابُ ، وَفَقَدَ مَا يُوصِلُهُ إلَيْهِ مِنْ الْأَسْبَابِ بَلْ رُبَّمَا يَبْكِي الْمُحِبُّ فِي حَالَةِ الْقُرْبِ مَخَافَةَ الِافْتِرَاقِ كَمَا يَبْكِي حَالَةَ الْبُعْدِ مِنْ شِدَّةِ الِاشْتِيَاقِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ وَمَا فِي الدَّهْرِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ ، وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ تَرَاهُ بَاكِيًا أَبَدًا حَزِينًا لِخَوْفِ تَفَرُّقٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ فَيَبْكِي إنْ نَأَوْا شَوْقًا إلَيْهِمْ وَيَبْكِي إنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ وَجْهُ هَذَا التَّشْبِيهِ وَحُسْنُ مَا فِيهِ .
وَقَدْ سَأَلْتُ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ اسْمِ صَاحِبِ هَذَا الْبَيْتِ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُهُ ، وَقْتَئِذٍ ، وَأَنَّ الْبَيْتَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ نُورِ الطَّرَفِ وَنُورُ الظَّرْفِ ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ خَتَمَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَادِحَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ثَانِيًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ الشَّغَفِ

بِذَلِكَ ، وَيَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ وَلِيُقْرِنَهَا بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ كَمَا اقْتَرَنَا فِي الْأَمْرِ بِهِمَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَيَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا قِيلَ مِنْ كَرَاهَةِ إفْرَادِهَا عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَحِيحًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِنَا حَلْبَةُ الْمُجَلِّي وَلِيُقَرِّبَ أَتْبَاعَ الْآلِ وَالصَّحْبِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ مَا لَيْسَ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ ، وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْأُمَّةِ بِوَاسِطَتِهِمْ مِنْ الْخَيْرَاتِ ، وَأَسْبَابِ الْبَرَكَاتِ وَلَا سِيَّمَا مِنْ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْمُكَلَّفَيْنِ مَا لَمْ يَصِلْ مِثْلُهُ إلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ اللَّاحِقِينَ فَقَالَ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ الْكِرَامِ ، وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ هُمْ مَصَابِيحُ الظَّلَّامِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا ) .
عَلَى أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ فِي الْأَوْسَطِ ، وَأَبَا الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَغَيْرَهُمَا رَوَوْا بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مِنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ } ، وَفِي لَفْظٍ لِبَعْضِهِمْ مَنْ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا دَامَ فِي كِتَابِهِ ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يُغْتَنَمُ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ الضَّعْفُ الْمَذْكُورُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ وَلَمْ يُضَعَّفْ بِالْوَضْعِ .

وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي أَصْلِ الْآلِ فَسِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيُّونَ أَهْلُ فَأُبْدِلَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً ثُمَّ أُبْدِلَتْ الْهَمْزَةُ أَلِفًا وَالْكِسَائِيُّ وَيُونُسُ وَغَيْرُهُمَا أَوَّلُ فَقُلِّبَتْ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلِهَا كَمَا فِي قَالَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا الِانْقِلَابَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ حَتَّى صَارَ مِنْ أَشْهَرِ قَوَاعِدِ التَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ بِخِلَافِ انْقِلَابِ الْهَاءِ هَمْزَةً حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَبُو شَامَةَ : إنَّهُ مُجَرَّدُ دَعْوًى ، وَحُكْمُهُ الْعَرَبُ تَأْبَاهُ إذْ كَيْفَ يُبْدَلُ مِنْ الْحَرْفِ السَّهْلِ وَهُوَ الْهَاءُ حَرْفٌ مُسْتَثْقَلٌ وَهُوَ الْهَمْزَةُ الَّتِي عَادَتُهُمْ الْفِرَارُ مِنْهَا حَذْفًا وَإِبْدَالًا وَتَسْهِيلًا مَعَ أَنَّهُمْ إذَا أَبْدَلُوا الْهَاءَ هَمْزَةً فِي هَذَا الْمَكَانِ فَهِيَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِيهِ بَلْ يَجِبُ قَلْبُهَا أَلِفًا فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى اعْتِقَادِ هَذَا التَّكْثِيرِ مِنْ التَّغْيِيرِ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا يُشْكِلُ بِمَاءٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْدَالِ الْهَاءِ فِيهِ هَمْزَةً لِيَقْوَى عَلَى الْإِعْرَابِ .
وَأَمَّا أَرَقْت فَالْهَاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنْ الْهَمْزَةِ لَا بِالْعَكْسِ ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِاخْتِلَافِهِمَا اسْتِعْمَالًا مَعَ عَدَمِ الْمُوجِبِ لِذَلِكَ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنَّ الْآلُ لَمْ يُسْمَعْ إلَّا مُضَافًا إلَى مُعَظَّمٍ ذِي عِلْمٍ عُلِمَ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعًا ، وَمَآلًا بِخِلَافِ الْأَهْلِ فَإِنَّهُ يُضَافُ إلَى مُعَظَّمٍ وَغَيْرِ مُعَظَّمٍ ذِي عِلْمٍ وَغَيْرِ ذِي عِلْمٍ عَلَمًا وَنَكِرَةً ، وَمِنْ ثَمَّةَ يُقَالُ آلُ مُحَمَّدٍ وَآلُ إبْرَاهِيمَ وَلَا يُقَالُ آلُ ضَعِيفٍ وَلَا آلُ الدَّارِ وَيُقَالُ أَهْلُ ضَعِيفٍ ، وَأَهْلُ الدَّارِ ، وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِاَللَّهِ عَلَى أَصْحَابِ الْفِيلِ وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِي بِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَك فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك } .
وَالْأَصْلُ

فِي الِاسْمَيْنِ إذَا اتَّحَدَا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا لِمُوجِبٍ وَلَا مُوجِبَ هُنَا فِيمَا يَظْهَرُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ : إنَّ أَصْلَهُ أَهْلٌ مِنْ أَنَّهُ سُمِعَ فِي تَصْغِيرِهِ أُهَيْلٌ لَا أُوَيْلٌ ، وَالتَّصْغِيرُ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إلَى أُصُولِهَا ، وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مُصَغَّرًا بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ ، وَإِنَّمَا سُمِعَ فِي نَحْو يَا أُهَيْلَ الْحِمَى يَا أُهَيْلَ النَّقَى ، وَقَدْ عَرَفْت مِنْ أَنَّهُ لَا يُقَالُ آلُ الدَّارِ بَلْ يُقَالُ أَهْلُهَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ آلُ الْحِمَى وَالنَّقَى بَلْ أَهْلُهُمَا فَأُهَيْلُ الْحِمَى وَالنَّقَى تَصْغِيرُ أَهْلٍ حِينَئِذٍ لَا آلٍ وَكَأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِذَوِي الْخَطَرِ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ الْأَعْلَامِ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ .
وَيَبْقَى بَعْدَ هَذَا عِلَاوَةً عَلَى مَا ذَكَرَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا يَقُولُ أُوَيْلٌ فِي تَصْغِيرِ آلٍ ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَإِنَّ الْآلُ إذَا ذُكِرَ مُضَافًا إلَى مَنْ هُوَ لَهُ وَلَمْ يُذْكَرْ مَنْ هُوَ لَهُ مَعَهُ مُفْرَدًا أَيْضًا تَنَاوَلَهُ الْآلُ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَوَاقِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ } { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } إذْ لَا رَيْبَ فِي دُخُولِ فِرْعَوْنَ فِي آلِهِ فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ وَكَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ دَاخِلٌ فِيمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ الْأَصْلُ الْمُسْتَتْبَعُ لِسَائِرِ آلِهِ ، وَمَا فِيهِمَا أَيْضًا { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ أَبَاهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا أَوْفَى هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْأَهْلُ إذْ لَوْ قِيلَ مَثَلًا

جَاءَ أَهْلُ زَيْدٍ لَمْ يَدْخُلْ زَيْدٌ فِيهِمْ ثُمَّ الصَّحِيحُ جَوَازُ إضَافَتِهِ إلَى الْمُضْمَرِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضُوعِ فَالْأَكْثَرُونَ أَنَّهُمْ قَرَابَتُهُ الَّذِينَ حَرُمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِمْ ، وَقِيلَ جَمِيعُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ ، وَإِلَى هَذَا مَالَ مَالِكٌ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِيُّ ثُمَّ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِيهِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا الْكِتَابِ .

وَالْكِرَامُ جَمْعُ كَرِيمٍ وَهُوَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْجَوَادُ الْكَثِيرُ الْخَيْرِ الْمَحْمُودُ ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الذَّاتُ الشَّرِيفَةُ ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ كُلُّ ذَاتٍ صَدَرَ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ وَخَيْرٌ ، وَآلُهُ لَمْ يَخْلُو مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ غَالِبًا ، وَمِنْ كَرَمِهِمْ عُمُومًا تَحْرِيمُ أَوْسَاخِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ وَدُخُولُهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ ، وَمِنْ لَطِيفِ مَا يُؤْثَرُ مِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا مَا حَكَى الْخَطِيبُ قَالَ دَخَلَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ عَلَى عَلَوِيٍّ بِبَلْخٍ أَوْ بِالرَّيِّ زَائِرًا لَهُ ، وَمُسَلِّمًا عَلَيْهِ فَقَالَ الْعَلَوِيُّ لِيَحْيَى مَا تَقُولُ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَقَالَ مَا أَقُولُ فِي طِينٍ عُجِنَ بِمَاءِ الْوَحْيِ وَغُرِسَتْ فِيهِ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وَسُقِيَ بِمَاءِ الرِّسَالَةِ فَهَلْ يَفُوحُ مِنْهُ إلَّا مِسْكُ الْهُدَى ، وَعَنْبَرُ التَّقْوَى ، فَقَالَ الْعَلَوِيُّ لِيَحْيَى إنْ زُرْتنَا فَبِفَضْلِك ، وَإِنْ زُرْنَاك فَلِفَضْلِك فَلَكَ الْفَضْلُ زَائِرًا وَمَزُورًا وَالْأَصْحَابُ جَمْعُ صَحْبٍ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الْأَشْهَادُ وَاحِدُهُ شَاهِدٌ مِثْلَ صَاحِبٌ وَأَصْحَابُ ، وَهُوَ أَشْبَهُ وَسَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْثَرِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا ، وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ، وَمَاتَ قَبْلَهَا عَلَى الْحَنَفِيَّةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَوْ ارْتَدَّ ، وَعَادَ فِي حَيَاتِهِ ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ مُتَتَبِّعًا لَهُ مُدَّةً يَثْبُتُ مَعَهَا إطْلَاقُ صَاحِبِ فُلَانٍ عُرْفًا بِلَا تَحْدِيدٍ فِي الْأَصَحِّ وَيَذْكُرُ ثَمَّةَ مَزِيدَ تَحْقِيقٍ لِهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفِي وَصْفِهِمْ بِكَوْنِهِمْ مَصَابِيحَ الظَّلَّامِ إشَارَةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّلْمِيحِ إلَى مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَثَلُ أَصْحَابِي فِي أُمَّتِي مَثَلُ النُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ

اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَعَ تَخْرِيجِهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ النُّجُومَ تُسَمَّى مَصَابِيحَ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّ بَيْنَ الْآلِ وَالْأَصْحَابِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ عَطْفِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ( وَبَعْدُ فَإِنِّي بَعْدَ أَنْ صَرَفْت طَائِفَةً مِنْ الْعُمُرِ ) أَيْ مُدَّةً مِنْ مُدَّةِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا ( فِي طَرِيقَيْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأُصُولِ خَطَرَ لِي أَنْ أَكْتُبَ كِتَابًا مُفْصِحًا عَنْ الِاصْطِلَاحَيْنِ ) فِي الْأُصُولِ لِلْفَرِيقَيْنِ كَائِنًا ( بِحَيْثُ يَطِيرُ مَنْ أَتْقَنَهُ إلَيْهِمَا بِجَنَاحَيْنِ ) أَيْ بِحَيْثُ يَصِلُ مَنْ أَحَاطَ بِمَا فِيهِ دِرَايَةً إلَى مَعْرِفَةِ الِاصْطِلَاحَيْنِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ التَّخْيِلِيَّةِ الْمُرَشِّحَةِ مِنْ اللُّطْفِ وَالْحُسْنِ فَإِنَّهُ شَبَّهَ فِي النَّفْسِ الِاصْطِلَاحَيْنِ بِالْمَكَانِ الرَّفِيعِ بِجَامِعِ عُلُوِّ الْمَقَامِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ حِسِّيًّا ، وَفِي الِاصْطِلَاحَيْنِ عَقْلِيًّا ، وَالْمُتْقِنَ لِلْكِتَابِ بِالطَّائِرِ بِجَامِعِ السَّعْيِ السَّرِيعِ بَيْنَهُمَا الْمُوَصِّلِ لِلْمَطْلُوبِ ، وَأَثْبَتَ لِلْمُشَبَّهِ الْجَنَاحَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا قِوَامَ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ إلَّا بِهِمَا تَخْيِيلًا وَتَرْشِيحًا ، وَمَا دَعَانِي إلَى قَصْدِ كِتَابَةِ كِتَابٍ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ إلَّا ( إذَا كَانَ مَنْ عَلِمْته أَفَاضَ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ ) أَيْ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي بَيَانِ الِاصْطِلَاحَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَالنِّحْرِيرِ الْعَلَّامَةِ صَاحِبِ الْبَدِيعِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي دِيبَاجَتِهِ : قَدْ مَنَحْتُك أَيُّهَا الطَّالِبُ لِنِهَايَةِ الْوُصُولِ إلَى عِلْمِ الْأُصُولِ هَذَا الْكِتَابَ الْبَدِيعَ فِي مَعْنَاهُ الْمُطَابِقَ اسْمُهُ لِمُسَمَّاهُ لَخَّصْتُهُ لَك مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَرَصَّعْته بِالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مِنْ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ

قَالَ : وَهَذَا الْكِتَابُ يُقَرِّبُ مِنْهُمَا الْبَعِيدَ وَيُؤَلِّفُ الشَّرِيدَ ، وَيُعَبِّدُ لَك الطَّرِيقَيْنِ وَيُعَرِّفُك اصْطِلَاحَ الْفَرِيقَيْنِ ( لَمْ يُوضِحْهُمَا حَقَّ الْإِيضَاحِ وَلَمْ يُنَادِ مُرْتَادَهُمَا ) أَيْ طَالِبَهُمَا بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ يُنَادِي ، وَفَاعِلُهُ ( بَيَانُهُ إلَيْهِمَا بِحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ) وَهَذَا قَدْ صَارَ فِي الْعُرْفِ مَثَلًا يُسْتَعْمَلُ فِي اشْتِهَارِ التَّبْلِيغِ وَالْإِيقَاظِ لَهُ .
وَالْإِفْصَاحُ عَنْ الْمَقْصُودِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ ذَلِكَ فَكَنَّى بِهَذَا الْقَوْلِ عَنْ عَدَمِ بَيَانِ مَنْ صَنَّفَ فِي بَيَانِ الِاصْطِلَاحَيْنِ إيَّاهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْمُسْتَوْفِي ؛ لِأَنَّك تَارَةً تَرَى بَعْضَ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ عَارِيًّا مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا ، وَتَارَةً تَرَى بَعْضًا مِنْهُ خَالِيًا مِنْ أَحَدِهِمَا ( فَشَرَعْت فِي هَذَا الْغَرَضِ ) وَهُوَ كِتَابَةُ كِتَابٍ مُفْصِحٍ عَلَى الِاصْطِلَاحَيْنِ بِحَيْثُ يَطِيرُ مَنْ أَتْقَنَهُ إلَيْهِمَا بِجَنَاحَيْنِ ( ضَامًّا إلَيْهِ ) أَيْ إلَى بَيَانِ الِاصْطِلَاحَيْنِ ( مَا يَنْقَدِحُ ) أَيْ يَظْهَرُ ( لِي مِنْ بَحْثٍ ) وَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ ( وَتَحْرِيرٍ ) أَيْ تَقْوِيمٍ ( فَظَهْرَ لِي بَعْدَ ) كِتَابَةِ شَيْءٍ ( قَلِيلٍ ) مِنْ ذَلِكَ ( أَنَّهُ ) أَيْ هَذَا الْمَشْرُوعُ فِيهِ إذَا تَمَّ ( سِفْرٌ ) أَيْ كِتَابٌ ( كَبِيرٌ ، وَعَرَفْت مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ ) أَيْ مِنْ مُشْتَغِلِي زَمَانِي ( انْصِرَافَ هِمَمِهِمْ ) أَيْ تَوَجُّهَهَا جَمْعُ هِمَّةٍ وَهِيَ اسْمٌ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِمَعْنَى الِاغْتِمَامِ مِنْ هَمَّ إذَا تَدَافَعَ فِي الْقَصْدِ ، وَقِيلَ هِيَ الْبَاعِثُ الْقَلْبِيُّ الْمُنْبَعِثُ مِنْ النَّفْسِ لِمَطْلُوبٍ كَمَالِيٍّ ، وَمَقْصُودٍ عَالٍ ( فِي غَيْرِ الْفِقْهِ إلَى الْمُخْتَصَرَاتِ ، وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْ الْكُتُبِ الْمُطَوَّلَاتِ ) وَخُصُوصًا إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُخْتَصَرَاتِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ اللُّغَوِيِّ لِلِاخْتِصَارِ وَهُوَ رَدُّ الْكَثِيرِ إلَى الْقَلِيلِ ، وَفِيهِ مَعْنَى الْكَثِيرِ ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا دَلَّ قَلِيلُهُ عَلَى كَثِيرِهِ كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الْخَلِيلِ بْنِ

أَحْمَدَ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْمُخْتَصَرَاتِ حِينَئِذٍ مُتَّجَهٌ ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَصَرَ أَقْرَبُ إلَى الْحِفْظِ ، وَأَنْشَطُ لِلْقَارِئِ ، وَأَوْقَعُ فِي النَّفْسِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ تَدَاوَلَ النَّاسُ إعْجَازَ قَوْله تَعَالَى { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، وَعَجِبُوا مِنْ وَجِيزِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ } ، وَمِنْ اخْتِصَارِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَك } الْآيَةَ .
وَقَالُوا إنَّهَا أَخْصَرُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَحْسَنُوا اخْتِصَارَ قَوْلِهِ جَلَّ ، وَعَلَا { ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } حَيْثُ جَمَعَ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَغَيْرِهَا وَلِفَضْلِ الِاخْتِصَارِ عَلَى الْإِطَالَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَتْ لَيَّ الْحِكْمَةُ اخْتِصَارًا } ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَمْ يَطُلْ فَيُمَلَّ غَيْرَ أَنَّ لِلْإِطَالَةِ مَوْضِعًا تُحْمَدُ فِيهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ كِتَابِ اللَّهِ الْكَرِيمِ مُخْتَصَرًا ، وَمِنْ هُنَا اُخْتِيرَتْ الْمُطَوَّلَاتُ أَيْضًا فِي الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالتَّوَارِيخِ لِتَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِاتِّسَاعِ مَا فِيهَا مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي لَا يَجْمَعُهَا ضَابِطٌ فِي الْغَالِبِ .
( فَعَدَلْت ) بِهَذَا السَّبَبِ عَنْ إتْمَامِ ذَلِكَ ( إلَى ) تَصْنِيفِ ( مُخْتَصَرٍ مُتَضَمِّنٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَرَضَيْنِ ) يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - غَرَضَهُ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ الِاصْطِلَاحَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ مِنْ الْإِيضَاحِ وَالْإِتْقَانِ ، وَغَرَضَ أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِي هُوَ الِاخْتِصَارُ فِي الْبَيَانِ ( وَافٍ بِفَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِتَحْقِيقِ مُتَعَلَّقِ الْعَزْمَيْنِ ) يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بِأَحَدِ الْعَزْمَيْنِ الْعَزْمُ عَلَى بَيَانِ الِاصْطِلَاحَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَبِالْآخَرِ الْعَزْمُ عَلَى ضَمِّ مَا يَنْقَدِحُ لَهُ مِنْ بَحْثٍ وَتَحْرِيرٍ إلَى ذَلِكَ ،

وَمُتَعَلَّقُهُمَا الْبَيَانُ وَالضَّمُّ الْمَذْكُورَانِ وَالْعَزْمُ الْقَصْدُ الْمُصَمَّمُ ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِجَزْمِ الْإِرَادَةِ بَعْدَ التَّرَدُّدِ ، وَالْبَاءُ فِي بِفَضْلِ اللَّهِ إمَّا بِمَعْنَى مِنْ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ ، وَفِي بِتَحْقِيقِ لِلتَّعْدِيَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
( غَيْرَ أَنَّهُ ) أَيْ هَذَا الْمَعْدُولَ إلَيْهِ ( مُفْتَقِرٌ إلَى الْجَوَادِ الْوَهَّابِ تَعَالَى أَنْ يَقْرِنَهُ ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا ( بِقَبُولِ أَفْئِدَةِ الْعِبَادِ ) وَالْجَوَادُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكَثِيرُ الْعَطَاءِ ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ : الْكَرِيمُ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْوَهَّابِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فَمِمَّا تَظَافَرَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى الْبَذْلِ الشَّامِلِ وَالْعَطَاءِ الدَّائِمِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا غَرَضٍ وَلَا عِوَضٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ الْأَفْعَالِ ، وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ .

( وَأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِثَوَابِ يَوْمِ التَّنَادِ ) أَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنَادِي فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِلِاسْتِغَاثَةِ أَوْ يَتَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ، وَأَصْحَابُ النَّارِ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّالُ مُشَدَّدَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُشَدَّدَةً فَلِأَنَّهُ يَنِدُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ أَيْ يَفِرُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } الْآيَةَ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الرِّوَايَةُ ، وَقِرَاءَةُ السَّبْعَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْمُصَنَّفُ مُحْتَاجًا إلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الدُّنْيَا مِنْ التَّصْنِيفِ نَشْرُ الْمُصَنَّفِ وَالتَّحَلِّي بِمَعْرِفَتِهِ ، وَهُوَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِعَلَاقَةِ الْقُلُوبِ بِكِتَابَتِهِ ، وَمُدَارَسَتِهِ وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ ، وَفِي الْآخِرَةِ إفَاضَةُ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ مُسَبِّبًا ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَمَّا عَانَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي سَالِفِ الْأَزْمَانِ ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَقْذُوفًا بِمُقْتَضَى فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي يَخُصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ مَنْ شَاءَ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ .

قَالَ : ( وَاَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَسْأَلُ ذَلِكَ ) أَيْ جَعْلَهُ فِي الدُّنْيَا مَقْبُولًا ، وَفِي الْآخِرَةِ جَزِيلَ الثَّوَابِ حَبْلًا مَوْصُولًا وَذَلِكَ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَقَعَ إشَارَةً إلَى الْمُثَنَّى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } ، وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ وَهُوَ الِاسْمُ الْجَلِيلُ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّخْصِيصِ ( وَهُوَ سُبْحَانَهُ نِعْمَ الْوَكِيلُ ) وَكَفَى بِهِ وَكِيلًا ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ ، وَقَدْ وَكَلَ أُمُورَ خَلْقِهِ إلَيْهِ وَوَكَلَ عِبَادُهُ الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ أُمُورَهُمْ إلَيْهِ ثُمَّ هَذَا مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي تَظَافَرَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، وَعَلَيْهِ تَفْسِيرُهُ بِالْمَوْكُولِ إلَيْهِ الْأُمُورَ مِنْ تَدْبِيرِ الْبَرِّيَّةِ وَغَيْرِهَا ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ، وَعَلَيْهِ تَفْسِيرُهُ بِالْكَفِيلِ بِالرِّزْقِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْخَلْقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَبِالْمُعِينِ وَبِالشَّاهِدِ وَبِالْحَفِيظِ وَبِالْكَافِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ أَفَادَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ الَّذِي وَكَلَ عِبَادُهُ أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَاعْتَمَدُوا فِي حَوَائِجِهِمْ عَلَيْهِ فَهُوَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ فِيهِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ الْخَاصَّةِ إذْ لَا يَكِلُ أَمَرَهُ إلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ إلَّا قَوْمٌ خَاصَّةٌ وَهُمْ أَهْلُ الْعِرْفَانِ ، وَإِذَا كَانَ الْوَكِيلُ الَّذِي وَكَلَ أُمُورَ عِبَادِهِ إلَى نَفْسِهِ ، وَقَامَ بِهَا وَتَكَفَّلَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا كَانَ وَصْفًا فِعْلِيًّا مُضَافًا إلَى الْوُجُودِ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ شَرْحُ الْعُلَمَاءِ لِهَذَا الِاسْمِ وَيَتَضَمَّنُ أَوْصَافًا عَظِيمَةً مِنْ أَوْصَافِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ الْمُنْفَصِلُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ قَدَّمَهُ لِلتَّخْصِيصِ .
( وَسَمَّيْته بِالتَّحْرِيرِ ) لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَقْوِيمِ قَوَاعِدِ هَذَا الْفَنِّ وَتَقْرِيبِ

مَقَاصِدِهِ وَتَهْذِيبِ مَبَاحِثِ هَذَا الْعِلْمِ وَكَشْفِ الْقِنَاعِ عَنْ وُجُوهِ خَرَائِدِهِ ( بَعْدَ تَرْتِيبِهِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ هِيَ الْمُقَدِّمَاتُ ) الْآتِي ذِكْرُهَا ، وَهِيَ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ بَيَانُ الْمَفْهُومِ الِاصْطِلَاحِيِّ لِلِاسْمِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَبَيَانُ مَوْضُوعِهِ أَيْ التَّصْدِيقِ بِأَنَّهُ مَا هُوَ ، وَبَيَانُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَنْطِقِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُمْلَةُ مَبَاحِثِ النَّظَرِ وَطُرُقِ مَعْرِفَةِ صَحِيحِهِ وَفَاسِدِهِ وَبَيَانُ اسْتِمْدَادِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَصَارَتْ الْمُقَدِّمَةُ تُقَالُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيَانَاتِ الْأَرْبَعَةِ ، وَعَلَى مَجْمُوعِ الْبَيَانَاتِ كَمَا يُقَالُ لِكُلِّ فَرْدٍ إنْسَانٌ وَلِلْكُلِّ الْإِنْسَانُ ، وَقَدْ يُقَالُ إنْسَانٌ بِمَعْنَاهُ ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ مُقَدِّمَةٌ هِيَ الْمُقَدِّمَاتُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - : فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَدِّمَةِ هُنَا مَا يُذْكَرُ أَمَامَ الشُّرُوعِ فِي الْعِلْمِ لِتَوَقُّفِ الشُّرُوعِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَوْ زِيَادَتِهَا عَلَيْهِ ، وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لَا تَنْفَكُّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ كَمَا أَنَّ جُمْلَتَهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمَا بِطَرِيقِ أَوْلَى سَاغَ أَنْ يُتَرْجَمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ نَكِرَةٍ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ مَعْنًى كُلِّيٍّ تَشْتَرِكُ فِيهِ هَذِهِ الْمَاصَدَقَاتُ فَيَكْفِي فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ اسْمُ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ التَّنْكِيرُ عَلَى مَا عُرِفَ ثُمَّ لَا مُوجِبَ هُنَا يُوجِبُ مُخَالَفَتَهُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ عِبَارَةً عَنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الشُّعُورُ بِالْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الشَّامِلِ لَهَا بِحَيْثُ يُعَدُّ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ مَاصَدَقَاتِهِ لِاسْتِبْدَادِ كُلٍّ مِنْهَا فِي إفَادَةِ أَحَدِ ذَيْنِك الْأَمْرَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَتَمَّ مِنْ بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ اللَّفْظِ الْحَامِلِ لَهُ

أَعْنِي لَفْظَ مُقَدِّمَةٍ تَعَيَّنَ إذْ جُمِعَتْ هَذِهِ الْمَاصَدَقَاتِ ، وَوَقَعَتْ تَفْسِيرًا لَهُ أَنْ تُعْرَفَ ، وَيَكُونُ التَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ ؛ لِتَقَدُّمِ مَدْلُولِهَا مَعْنًى كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } فَتَأَمَّلْهُ .
هَذَا وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَقُلْ عَلَى مُقَدِّمَةٍ فِي كَذَا كَمَا فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي تَكَلُّفَ كَلَامٍ فِي مَجَازِيَّةِ الظَّرْفِ الْمُفَادِ بِفِي وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ يَظْهَرُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُقَدِّمَةِ لَيْسَ إلَّا عَيْنُ الْبَيَانِ لِلْأُمُورِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهَا عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْفَنِّ يُوجِبُ حُصُولَ زِيَادَةِ الْبَصِيرَةِ فِيهِ فَأَسْقَطَ بِذَلِكَ مُؤْنَةَ ذَلِكَ وَنَبَّهَ عَلَى مَا قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَاتُ بِعَيْنِهَا أَعْنِي الْبَيَانَاتِ بِمَعْنَى الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ .
ا هـ .
فَإِنْ قُلْت : الْمَشْهُورُ كَوْنُ مُقَدِّمَةِ الْعِلْمِ حَدَّهُ وَغَايَتَهُ وَالتَّصْدِيقَ بِمَوْضُوعِهِ فَمَا بَالُ الْمُصَنِّفِ أَسْقَطَ ذِكْرَ الْغَايَةِ وَذَكَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَالِاسْتِمْدَادَ ؟ .
قُلْت : لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ ذِكْرِهِمْ وَجْهَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مُقَدِّمَةُ الْعِلْمِ مِنْ حَدِّهِ وَغَايَتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَوْضُوعِهِ لَمْ يَقْصِدُوا بِهِ بَيَانَ حَصْرِ الْمُقَدِّمَةِ فِيهَا بَلْ تَوْجِيهُ مَا ذُكِرَ فِيهَا حَتَّى وَلَوْ وُجِدَ غَيْرُهَا مُشَارِكًا لَهَا فِي إفَادَةِ الْبَصِيرَةِ سَاغَ ضَمُّهُ وَجَعْلُهُ مِنْهَا .
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا وَلَوْ ظَهَرَ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إلَى بَعْضِهَا فِي إفَادَةِ الْبَصِيرَةِ لِسَدِّ غَيْرِهِ مَسَدَهُ جَازَ أَيْضًا إسْقَاطُهُ اسْتِغْنَاءً بِغَيْرِهِ عَنْهُ ، وَلَا مِرْيَةَ فِي مُشَارَكَةِ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَالِاسْتِمْدَادِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ فِي إفَادَةِ الْبَصِيرَةِ كَمَا أَنَّهُ لَا احْتِيَاجَ إلَى ذِكْرِ الْغَايَةِ مَعَ ذِكْرِ الْحَدِّ فِي

هَذَا الْغَرَضِ كَمَا سَيَتَعَرَّضُ لَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي ، وَيَذْكُرُ عَنْهُ ثَمَّةَ تَوْجِيهِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ حَصْرَ الْمُقَدِّمَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ مِنْ حَصْرِ الْكُلِّ فِي أَجْزَائِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ بَلْ مِنْ حَصْرِ الْكُلِّيِّ فِي جُزْئِيَّاتِهِ أَوْ فِي جُزْئِيَّاتٍ مِنْهَا بِحَسَبِ الِاسْتِيفَاءِ لَهَا وَعَدَمِهِ ، كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ثُمَّ الْمُقَدِّمَةُ اسْمُ فَاعِلٍ عَلَى الْمَشْهُورِ قِيلَ مِنْ قَدَّمَ لَازِمًا بِمَعْنَى تَقَدَّمَ كَبَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ ، وَقِيلَ مُتَعَدِّيًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لِمَا فِيهَا مِنْ سَبَبِ التَّقَدُّمِ كَأَنَّهَا تَقَدَّمَ غَيْرُهَا أَوْ لِإِفَادَتِهَا الشُّرُوعَ بِالْبَصِيرَةِ تَقَدَّمَ مَنْ عَرَّفَهَا مِنْ الشَّارِحِينَ عَلَى مَنْ لَمْ يُعَرِّفْهَا .
وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ فَتْحَ الدَّالِ خَلَفٌ ، وَعَنْ غَيْرِهِ جَوَازُهُ إذَا كَانَتْ مِنْ الْمُتَعَدِّي فَلَعَلَّ مَا عَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ مِنْ اللَّازِمِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَ هَذَيْنِ تَعَارُضٌ ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهَ مَنْعِ الْفَتْحِ قِيلَ : وَلَعَلَّهُ أَنَّ فِي الْفَتْحِ إيهَامَ أَنَّ تَقَدُّمَ هَذِهِ الْأُمُورِ إنَّمَا هُوَ بِالْجَعْلِ وَالِاعْتِبَارِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ وَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ هَذِهِ الْأُمُورِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِهَا لِلتَّقَدُّمِ بِحَسَبِ الذَّاتِ كَمَا بَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ ا هـ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - : وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَدَمُ ذِكْرِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ ، وَيَلْزَمُ مَعَ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ اللَّازِمِ ذِكْرُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَانْتَفَى عَلَى هَذَا مَا قِيلَ أَنَّ فَتْحَ الدَّالِ فِيهَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لَفْظًا ، وَمَعْنًى ثُمَّ هَلْ هِيَ مَنْقُولَةٌ عَنْ مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ لَفْظُهَا فِي مُقَدِّمَتَيْ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً ، أَوْ مُسْتَعَارَةٌ مِنْهَا فَتَكُونُ

مَجَازًا فِيهِمَا أَوْ كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ حُذِفَ مَوْصُوفُهَا وَأُطْلِقَتْ عَلَى الطَّائِفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْمَعَانِي أَوْ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْعِلْمِ أَوْ عَلَى سَائِرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ ، وَالتَّاءُ إمَّا لِلنَّقْلِ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ أَوْ لِاعْتِبَارِهِ مُؤَنَّثًا كَمَا قَالُوا : فِي لَفْظِ الْحَقِيقَةِ احْتِمَالَاتٌ ، وَرَجَحَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْوَصْفِ أَيْ ذَاتٍ مُؤَنَّثَةٍ ثَبَتَ لَهَا صِفَةُ التَّقْدِيمِ ، وَاعْتِبَارُ مَعْنَى التَّقْدِيمِ فِيهَا لِصِحَّةِ إطْلَاقِ الِاسْمِ كَالضَّارِبَةِ فَإِطْلَاقُهَا عَلَى الطَّائِفَةِ الْمَذْكُورَةِ حَقِيقَةٌ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْمَفْهُومِ ، وَمَجَازٌ إنْ كَانَ بِمُلَاحَظَةِ خُصُوصِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الِاسْمِ وَاعْتِبَارُ مَعْنَى التَّقْدِيمِ لِتَرَجُّحِ الِاسْمِ كَمَا فِي الْقَارُورَةِ فَإِطْلَاقُهَا عَلَى الطَّائِفَةِ إنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً لَوْ ثَبَتَ وَضْعُ وَاضِعِ اللُّغَاتِ الْمُقَدَّمَةِ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بَلْ الثَّابِتُ إنَّمَا هُوَ وَضْعُهُ لَهَا بِإِزَاءِ مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ ( وَثَلَاثِ مَقَالَاتٍ فِي الْمَبَادِئِ ) أَيْ ، وَعَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ أَوَّلُهَا فِي بَيَانِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ الْمَعْدُودَةِ مِنْ مَبَادِئِ هَذَا الْعِلْمِ ( وَأَحْوَالِ الْمَوْضُوعِ ) أَيْ وَثَانِيهَا فِي بَيَانِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ الرَّاجِعَةِ إلَى أَحْوَالِ مَوْضُوعِ الْعِلْمِ ( وَالِاجْتِهَادِ ) أَيْ وَثَالِثُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الِاجْتِهَادِ ، وَمَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ التَّقْلِيدُ ، وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ الْأَحْكَامِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلَ الْفَنِّ ؛ لِأَنَّ مَسَائِلَ الْفَنِّ مَا لِلْبَحْثِ فِيهَا رُجُوعٌ إلَى مَوْضُوعِهِ ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ وَمَا يَتْبَعُهُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ لَكِنْ جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَذْكُرُوهَا عَلَى سَبِيلِ اللَّوَاحِقِ الْمُتَمِّمَةِ

لِلْغَرَضِ مِنْهُ إسْعَافًا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ ( وَهُوَ ) أَيْ الِاجْتِهَادُ مَعَ مَا يَتْبَعُهُ ( مُتَمِّمٌ مَسَائِلَهُ ) بَعْضُهَا ( فِقْهِيَّةٌ ) لِكَوْنِ هَذَا الْبَعْضِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ كَمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَاجِبٌ عَيْنًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَكَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَادِثَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ ، وَحَرَامٌ فِي مُقَابَلَةِ قَاطِعِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ إلَى آخِرِ أَقْسَامِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ فِعْلُ الْمُجْتَهِدِ ، وَهُوَ بَذْلُ وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، وَكُلٌّ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَبَاقِي مَحْمُولَاتِ أَقْسَامِ مَوْضُوعَاتِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( لِمِثْلِ مَا سَنَذْكُرُ ) قَرِيبًا .
بَيَانُ الْمَوْضُوعِ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مِنْ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَاتِهَا أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ ، وَمَحْمُولَاتِهَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ الْكَائِنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِمَا سَنَذْكُرُ نَظَرًا إلَى خُصُوصِ الْجُزْئِيَّةِ الْكَائِنِ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ الْخُصُوصِ الْكَائِنِ لِغَيْرِهَا ( وَاعْتِقَادِيَّةٌ ) أَيْ وَبَعْضُهَا مَسَائِلُ اعْتِقَادِيَّةٌ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إلَى مَا عَلَى النَّفْسِ مِنْ الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَسْأَلَةٍ لَا حُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ ، وَمَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَاتَيْنِ عَقِيدَةٌ دِينِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ غَايَةُ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُمْ لَمْ يُدَوِّنُوا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنْهُمَا بَعْدَ رُجُوعِ الْبَحْثِ عَنْهَا إلَى مَوْضُوعِهِمَا ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَا فَعَلَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْمَقَالَاتِ

نَظِيرَهُ فَيَقُولُ ثَلَاثُ مَقَالَاتٍ هِيَ الْمَبَادِئُ وَلَكِنْ الْمَقَالَةُ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ فَكَانَ الْمَقُولُ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْعِلْمِ مُتَعَلَّقَهُ فَيَثْبُتُ التَّغَايُرُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قُلْت لِمَ اخْتَارَ التَّرْتِيبَ عَلَى التَّأْلِيفِ ؟ .
قُلْت لِيُشِيرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ إلَى أَنَّهُ وَضَعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمُخْتَصَرُ مِنْ الْأَجْزَاءِ مَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الرُّتْبَةِ الْعَقْلِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا التَّرْتِيبُ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَرْتَبَتِهِ ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ جَعْلُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ ، وَيَكُونُ لِبَعْضِهَا نِسْبَةٌ إلَى الْبَعْضِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الرُّتْبَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِخِلَافِ التَّأْلِيفِ فَإِنَّهُ جَعْلُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ كَانَ لِبَعْضِهَا نِسْبَةٌ إلَى بَعْضٍ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَمْ لَا فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ التَّرْتِيبِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ إشَارَةٌ نَاصَّةٌ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ فِي تَرْتِيبِهِ رَاجِعٌ إلَى الْمُخْتَصَرِ مُرَادًا بِهِ مَضْمُونُ مَا قَامَ فِي النَّفْسِ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَالْمَوَادِّ الَّتِي يَسْتَعْقِبُ تَرْكِيبُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ الْمُخْتَصَرِ ؛ لِأَنَّ الصُّورَةَ مَعْلُولُ التَّرْتِيبِ ، وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي سَمَّيْته رَاجِعًا إلَى الْمُخْتَصَرِ مُرَادًا بِهِ مَعْنَاهُ الْمُقَرَّرُ لَهُ فِي الْخَارِجِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ إطْلَاقِهِ فَإِنَّ مِثْلَهُ شَائِعٌ بَلْ هُوَ مِنْ التَّحْسِينِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُسَمَّى بِالِاسْتِخْدَامِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ فَتَنَبَّهْ لَهُ .

( الْمُقَدِّمَةُ ) الْمَذْكُورَةُ فَالتَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيّ ( أُمُورٌ ) أَرْبَعَةٌ ، وَقَدْ عَرَفْت لِمَ قَالَ هَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ فِي أُمُورٍ الْأَمْرُ ( الْأَوَّلُ مَفْهُومُ اسْمِهِ ) أَيْ اسْمُ هَذَا الْعِلْمِ ، وَهُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَوَجْهُ تَقْدِيمِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِهِ ظَاهِرٌ ( وَالْمَعْرُوفُ كَوْنُهُ ) أَيْ اسْمُهُ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُرَادٍ بِهِ الْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ ( عِلْمًا ، وَقِيلَ ) بَلْ اسْمُهُ ( اسْمُ جِنْسٍ لِإِدْخَالِهِ اللَّامَ ) أَيْ لِصِحَّةِ إدْخَالِ اللَّافِظِ اللَّامَ عَلَيْهِ فَيُقَالُ الْأُصُولُ ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ حَيْثُ قَالَ وَجَعْلُهُ اسْمَ جِنْسِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ عَلَمَ جِنْسٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَمًا لَمَا دَخَلَتْهُ اللَّامُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَيْسَ ) هَذَا الْقَوْلُ بِشَيْءٍ أَوْ لَيْسَ اللَّامُ بِدَاخِلٍ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ مَشَى عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مِنْ جَوَازِ حَذْفِ الْخَبَرِ فِي بَابِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا فِي سِعَةِ الْكَلَامِ اخْتِصَارًا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ( فَإِنَّ الْعَلَمَ ) بِفَتْحِ اللَّامِ هُوَ الِاسْمُ ( الْمُرَكَّبُ ) الْإِضَافِيُّ مِنْ لَفْظَيْ أُصُولٍ وَالْفِقْهِ ( لَا الْأُصُولُ ) أَيْ لَا أَحَدِ جُزْأَيْ هَذَا الْمُرَكَّبِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ أُصُولٍ فَقَطْ وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي الْعَلَمِيَّةَ إلَّا لِلْمُرَكَّبِ الْمَذْكُورِ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُرَادٍ بِهِ الْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ ، وَاللَّامُ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ حَالَةَ كَوْنِهِ فَاقِدًا لِلْإِضَافَةِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لَا تُجَامِعُ الْإِضَافَةَ ، وَقَدْ تَعْقُبُهَا وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّهُ حِينَئِذٍ نَكِرَةٌ فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللَّامُ عَرَّفَتْهُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ كَثِيرًا مَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْأُصُولِ مُحَلَّى بِاللَّامِ وَيُرَادُ بِهِ هَذَا الْعِلْمُ .
وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ سَبَبُ وَهْمِ الْقَائِلِ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ أَشَارَ إلَى وَجْهِ ذَلِكَ فَقَالَ ( بَلْ الْأُصُولُ بَعْدَ كَوْنِهِ ) فِي الْأَصْلِ لَفْظًا ( عَامًا

فِي الْمَبَانِي ) أَيْ فِي كُلِّ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِسِّيَّاتِ كَبِنَاءِ الْجِدَارِ عَلَى الْأَسَاسِ أَوْ فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ كَبِنَاءِ الْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى عُرْفِ اللُّغَةِ يَعْنِي إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِالْأُصُولِ خُصُوصٌ مِنْ الْمَبَانِي فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ صِيغَةً ، وَمَعْنًى لِكَوْنِهِ جَمْعًا مُحَلَّى بِاللَّامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ ( يُقَالُ ) لَفْظُ الْأُصُولِ أَيْضًا قَوْلًا ( خَاصًّا فِي الْمَبَانِي الْمَعْهُودَةِ لِلْفِقْهِ ) الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْمَبَانِي كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا أَعْنِي الْأَدِلَّةَ الْكُلِّيَّةَ وَالْقَوَاعِدَ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى قُدْرَةِ الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا هُوَ عُرْفُ الْفُقَهَاءِ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهِ ( فَاللَّامُ ) فِيهِ حِينَئِذٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَوَّلِ حَالَاتِ إرَادَتِهَا بِخُصُوصِهَا مِنْهُ لِأَهْلِ هَذَا الْعُرْفِ ( لِلْعَهْدِ ) الذِّهْنِيِّ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَازِمَةً لَهُ كَالْجُزْءِ مِنْهُ كَهِيَ فِي النَّجْمِ لِلثُّرَيَّا يَعْنِي ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَيْسَ بِاسْمِ جِنْسٍ أَيْضًا بَلْ مِنْ الْأَعْلَامِ الْكَائِنَةِ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ ، وَقُصَارَى مَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْمَانِ عَلَمٌ مَنْقُولٌ لَا بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ هُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَعَلَمٌ مَنْقُولٌ بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ وَهُوَ لَفْظُ الْأُصُولِ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ .
ثُمَّ حَيْثُ كَانَ الْمَعْرُوفُ كَوْنَ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ أُصُولُ الْفِقْهِ عَلَمًا فَهَلْ هُوَ جِنْسِيٌّ أَوْ شَخْصِيٌّ ؟ .
فَنَصَّ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ ؛ لِأَنَّ عِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ كُلِّيٌّ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا مُتَعَدِّدَةً إذْ الْقَائِمُ مِنْهُ بِزَيْدٍ غَيْرُ مَا قَامَ بِعَمْرٍو شَخْصًا ، وَإِنْ اتَّحَدَ مَفْهُومَاهُمَا وَلَمَّا اُحْتِيجَ إلَى نَقْلِ هَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ

الْإِضَافِيِّ جَعَلُوهُ عَلَمًا لِلْعِلْمِ الْمَخْصُوصِ عَلَى مَا عُهِدَ فِي اللُّغَةِ لَا اسْمَ جِنْسٍ ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَالْوَجْهُ ) فِي عِلْمِيَّةِ أُصُولِ الْفِقْهِ ( أَنَّهُ ) أَيْ أُصُولُ الْفِقْهِ عِلْمٌ ( شَخْصِيٌّ إذْ لَا يَصْدُقُ ) أُصُولُ الْفِقْهِ ( عَلَى مَسْأَلَةٍ ) وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِ ، وَهَذَا أَمَارَةُ الشَّخْصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ لَا يَصْدُقُ عَلَى جُزْئِهِ حَقِيقَةً ، قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - : وَهَذَا إنَّمَا يَنْفِي كَوْنَهُ اسْمَ جِنْسٍ لَا كَوْنَهُ عَلَمَ جِنْسٍ ؛ لِأَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الذِّهْنِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ هُمْ قَدْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةِ الْمُتَوَاطِئِ فِي إطْلَاقِهِ حَقِيقَةً عَلَى كُلِّ فَرْدٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ فَأُصُولُ الْفِقْهِ إذَا كَانَ عَلَمَ جِنْسٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ ذِهْنًا الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ الْمُدْرَكَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ فِيهِ ، وَأَفْرَادُ هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا هِيَ الْمَظَاهِرُ الْوُجُودِيَّةُ لِلْحَقِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا مَسَائِلَهُ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ مُسَمَّاهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ بِإِزَائِهَا فَعَدَمُ صِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا أَنَّهُ لَازِمٌ لِكَوْنِهِ عَلَمَ شَخْصٍ كَذَلِكَ هُوَ لَازِمٌ لِكَوْنِهِ عَلَمَ جِنْسٍ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا لِأَحَدِهِمَا نَافِيًا لِلْآخَرِ نَعَمْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ كَوْنِهِ عَلَمَ شَخْصٍ بِشَيْءٍ غَيْرِ هَذَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ حَالَ قِرَاءَتِنَا لِهَذَا الْمَوْضِعِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا حَاصِلُهُ مَزِيدًا عَلَيْهِ مَا يَكْسُوهُ إيضَاحًا وَتَحْقِيقًا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَوْضُوعٌ لِأَمْرٍ كُلِّيٍّ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا مُتَعَدِّدَةً مُتَغَايِرَةً قَائِمَةً بِزَيْدٍ ، وَعَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِأَمْرٍ خَاصٍّ هُوَ مَجْمُوعُ إحْدَى الْكَثْرَتَيْنِ الْإِدْرَاكَاتِ الْخَاصَّةِ أَوْ الْمُدْرَكَاتِ الْخَاصَّةِ الْآتِي

بَيَانُهُمَا أَعْنِي الْكَثْرَةَ الْحَاضِرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الذِّهْنِ ، وَإِنْ تَرَكَّبَتْ مِنْ مَفَاهِيمَ كُلِّيَّةٍ فَمُسَمَّاهُ حِينَئِذٍ إمَّا مَجْمُوعُ أُمُورٍ مُحَقَّقَةٍ خَاصَّةٍ هِيَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ مَجْمُوعُ عَيْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقًا لِإِدْرَاكِ زَيْدٍ ، وَعَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لَهُمْ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ وُقُوعَ هَذَا لَهُ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدًا لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَلْ هُوَ حَالَةُ تَعَلُّقِ إدْرَاكِ زَيْدٍ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ حَالَةَ تَعَلُّقِ إدْرَاكِ عَمْرٍو بِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا كَمَا أَنَّ تَصَوُّرَاتِ مُتَصَوِّرِينَ لِزَيْدٍ عَلَمًا وَتَصْدِيقَاتِهِمْ بِأَحْوَالِهِ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَهُ بَلْ هُوَ هُوَ ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ تَصَوُّرَاتُهُمْ وَتَصْدِيقَاتُهُمْ بِأَحْوَالِهِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ فَإِنْ قُلْت لَا بَأْسَ بِهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْمُدْرَكَاتِ لِصِحَّةِ تَعَلُّقِ الْإِدْرَاكَاتِ بِهَا أَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكَاتِ فَكَيْفَ يَسُوغُ ذَلِكَ إذْ يَصِيرُ الْإِدْرَاكُ مُتَعَلَّقَ الْإِدْرَاكِ قُلْت سَوَاغُهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِدْرَاكِ الْمَذْكُورِ مُدْرَكًا ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ إدْرَاكًا أَيْضًا فَتَأَمَّلْهُ .
ثُمَّ هَذَا جَارٍ فِي أَسْمَاءِ سَائِرِ الْعُلُومِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَ تَعْرِيفُ مَفْهُومِ هَذَا الِاسْمِ مُخْتَلِفًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ اللَّفْظُ أَوَّلًا عَلَيْهِ وَبِاعْتِبَارِ مَا صَارَ ثَانِيًا إلَيْهِ ، وَقَدْ أَفَادُوا تَعْرِيفَهُ عَلَى كِلَيْهِمَا وَافَقَهُمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ مُشِيرًا إلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا تَمْهِيدًا لِإِفَادَتِهِ لِذَلِكَ فَقَالَ : ( وَالْعَادَةُ تَعْرِيفُهُ مُضَافًا ، وَعَلَمًا ) أَيْ تَعْرِيفُ مَفْهُومِ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ اسْمِهِ مُرَكَّبًا

إضَافِيًّا لَيْسَ بِعَلَمٍ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ عَلَمًا عَلَى هَذَا الْعِلْمِ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ إنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ مُرَكَّبٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْأَجْزَاءِ وَبِاعْتِبَارِ الْعَلَمِيَّةَ مُفْرَدٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْأَجْزَاءِ ، ثُمَّ بَدَأَ بِتَعْرِيفِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ ذَاكِرًا مَعْنَى كُلٍّ مِنْ جُزْأَيْهِ مِنْ حَيْثُ تَصِحُّ الْإِضَافَةُ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ السَّبِيلُ فِي مِثْلِهِ مُرَاعَاةً لِلتَّقَدُّمِ الْوُجُودِيِّ فَقَالَ : ( فَعَلَى الْأَوَّلِ ) أَيْ فَتَعْرِيفُ مَفْهُومِ اسْمِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الِاسْمِ مُرَكَّبًا إضَافِيًّا لَيْسَ بِعَلَمٍ أَنْ يُقَالَ ( الْأُصُولُ الْأَدِلَّةُ ) فَأَدَاةُ التَّعْرِيفِ فِي الْأُصُولِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِنَا أُصُولُ الْفِقْهِ ثُمَّ هِيَ جَمْعُ أَصْلٍ ، وَعَنْهُ لُغَةً عِبَارَاتٌ أَحْسَنُهَا مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ .
وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ آنِفًا إلَيْهِ أَيْ مِنْ حَيْثُ يُبْتَنَى عَلَيْهِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِ الْإِضَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْذَفُ لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ وَيُسْتَعْمَلُ اصْطِلَاحًا بِمَعَانٍ الْمُنَاسِبُ مِنْهَا هُنَا الدَّلِيلُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَنَذْكُرُ وَجْهَهُ قَرِيبًا ، وَالْمُرَادُ بِالْأَدِلَّةِ الْأَدِلَّةُ الْكُلِّيَّةُ السَّمْعِيَّةُ الْآتِي بَيَانُهَا ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الْكُلِّيَّةِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ مُرَادٌ مِنْهَا كَمَا ذَكَرْنَا حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَدِلَّتُهُ ، وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْعُذْرُ فِي تَرْكِ التَّقْيِيدِ لَفْظًا بِالسَّمْعِيَّةِ ثُمَّ الْمُعَيِّنُ أَيْضًا لِذَلِكَ كُلِّهِ إضَافَتُهَا إلَى الْفِقْهِ كَمَا سَيَتَّضِحُ وَجْهُهُ قَرِيبًا فَإِنَّ دَلَائِلَ الْفِقْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ .
ثُمَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ ؛

لِأَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ مَبْنَى الْفِقْهِ ، وَمَرْجِعُهُ بَلْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُنَا بِمَعْنَى الدَّلِيلِ لَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَاصَدَقَاتِهِ ، غَايَتُهُ أَنَّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ يُعْلَمُ أَنَّ الِابْتِنَاءَ هُنَا عَقْلِيٌّ فَيَكُونُ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا يُبْتَنَى هُوَ عَلَيْهِ وَيُسْتَنَدُ إلَيْهِ وَلَا مَعْنَى لِمُسْتَنِدِ الْعِلْمِ وَمُبْتَنَاهُ إلَّا دَلِيلَهُ ، وَهُوَ حَسَنٌ نَعَمْ إذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأُصُولِ مُرَادًا بِهِ هَذَا الْعِلْمَ الْخَاصَّ يَكُونُ عَلَمًا بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ مَنْقُولًا كَمَا حَقَقْنَاهُ سَالِفًا ، وَإِنْ انْدَرَجَتْ حَقِيقَتُهُ فِي مُطْلَقِ مُسَمَّى الْأُصُولِ لُغَةً ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الِاسْمِ بِالْأَخَصِّ بَعْدَ كَوْنِهِ لِلْأَعَمِّ الصَّادِقِ عَلَيْهِ ، وَعَلَى غَيْرِهِ نَقْلٌ بِلَا شَكٍّ ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا تَذْهَلَنَّ عَنْهُ .
( وَالْفِقْهُ التَّصْدِيقُ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ ) فَالتَّصْدِيقُ أَيْ الْإِدْرَاكُ الْقَطْعِيُّ سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا صَوَابًا أَوْ خَطَأً جِنْسٌ لِسَائِرِ الْإِدْرَاكَاتِ الْقَطْعِيَّةِ بِنَاءً عَلَى اشْتِهَارِ اخْتِصَاصِ التَّصْدِيقِ بِالْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ سَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ مُشِيرًا إلَى ظَنِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَعَلَى مَا قُلْنَا لَيْسَ هُوَ شَيْئًا مِنْ الْفِقْهِ وَلَا الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ إلَّا بِاصْطِلَاحٍ وَلَا يَضُرُّ اسْتِعْمَالُ الْمَنْطِقِيِّينَ إيَّاهُ مُرَادًا بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ قَسَمُوا الْعِلْمَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ إلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ تَقْسِيمًا حَاضِرًا تَوَسُّلًا بِهِ إلَى بَيَانِ الْحَاجَةِ إلَى

الْمَنْطِقِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، وَلِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ، وَهِيَ حَرَكَاتُ الْبَدَنِ أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَهِيَ قُصُودُهَا وَإِرَادَتُهَا ، وَالْمُكَلَّفُ هُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ فَصْلٌ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ لِغَيْرِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهِمَا بِالْوُجُودِ وَغَيْرِهِ وَاَلَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ فَصْلٌ ثَانٍ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ لِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ كَالتَّصْدِيقِ لِطَاعَاتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَالِاعْتِقَادُ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَا بِتَقْدِيرِهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا بِتَشْكِيكِ مُشَكِّكٍ ، وَهُوَ إنْ كَانَ مُطَابِقًا فَصَحِيحٌ ، وَإِلَّا فَفَاسِدٌ وَسَبَبُهُ الْأَكْثَرِيُّ التَّقْلِيدُ ، وَقُوَّتُهُ وَرَخَاوَتُهُ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِ الْكُبَرَاءِ فِي النُّفُوسِ ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَيْهَا نَفْسَ الِاعْتِقَادِ لَهَا وَبِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَصْلٌ ثَالِثٌ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ لِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِمَا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ مِنْ عَقْلِيٍّ أَوْ لُغَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا .
وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ آثَارُ خِطَابِهِ تَعَالَى الْمُتَعَلَّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ طَلَبًا أَوْ وَضْعًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي أَوَائِلِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْقَطْعِيَّةُ فَصْلٌ رَابِعٌ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ لِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقَطْعِيَّةٍ مِنْ الْمَظْنُونَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَالْمُرَادُ بِالْقَطْعِيَّةِ مَا لَيْسَ فِي ثُبُوتِهِ احْتِمَالٌ نَاشِئٌ عَنْ دَلِيلٍ ، وَمَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ أَيْ مَعَ حُصُولِهَا لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا التَّصْدِيقُ فَصْلٌ خَامِسٌ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ الْمَذْكُورَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ هَذِهِ

الْمَلَكَةُ ، وَالْمُرَادُ بِهَا كَيْفِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ مُتَسَبِّبَةٌ عَنْ اسْتِجْمَاعِ الْمَآخِذِ وَالْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَكْفِي الْمُجْتَهِدُ الرُّجُوعَ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الَّتِي بِحَيْثُ تُنَالُ بِالِاسْتِنْبَاطِ أَيْ بِاسْتِخْرَاجِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ مِنْ النُّصُوصِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهِ لِتَعَدِّي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْكَائِنِ لِلْمَحَالِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إلَى الْمَحَالِّ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِمُسَاوَاتِهَا إيَّاهَا فِي الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ ، وَمِنْ هَذَا عَرَفْت أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِ الِاسْتِنْبَاطِ بِالصَّحِيحِ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَآثَرَ لَفْظَ الِاسْتِنْبَاطِ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَنَحْوِهِ إشَارَةٌ إلَى مَا فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ النُّصُوصِ مِنْ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ الْمَلْزُومَةِ لِمَزِيدِ التَّعَبِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ الْكَثِيرُ لُغَةً فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالتَّعَبُ لَازِمٌ لِذَلِكَ عَادَةً ، وَإِشَارَةٌ أَيْضًا إلَى مَا بَيْنَ الْمُسْتَخْرَجِينَ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ ، وَهِيَ التَّسَبُّبُ إلَى الْحَيَاةِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْعِلْمِ أَتَمُّ فَإِنَّ فِي الْمَاءِ حَيَاةُ الْأَشْبَاحِ ، وَفِي الْعِلْمِ حَيَاةُ الْأَشْبَاحِ وَالْأَرْوَاحِ .
ثُمَّ قَدْ وَضَحَ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنْ كُلًّا مِنْ قَوْلِهِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَمِنْ قَوْلِهِ بِالْأَحْكَامِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلتَّصْدِيقِ ، وَعَدَّاهُ إلَى أَحَدِهِمَا بِاللَّامِ ، وَإِلَى الْآخَرِ بِالْبَاءِ ؛ لِأَنَّ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ الْحُكْمُ ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَدَّى إلَى أَحَدِ مَفْعُولَيْهِ بِالْبَاءِ ، وَإِلَى الْآخَرِ بِعَلَى فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَجَعَلَ الْمُعْدَى إلَيْهِ بِاللَّامِ هُوَ الْأَعْمَالُ وَالْمُعْدَى إلَيْهِ بِالْبَاءِ هُوَ الْأَحْكَامُ ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الْمَوْضُوعُ وَالْأَحْكَامُ هِيَ الْمَحْمُولُ ، وَمِنْ هُنَا قَدَّمَ الْأَعْمَالَ عَلَى الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ الْمَوْضُوعِ عَلَى

الْمَحْمُولِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ التَّصْدِيقِ ، ثُمَّ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ لِمَ قَيَّدَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْقَطْعِيَّةِ ثُمَّ قَيَّدَ التَّصْدِيقَ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ بِهَا بِمُصَاحَبَةِ هَذِهِ الْمَلَكَةِ ؟ .
وَالْجَوَابُ إنَّمَا وَقَعَ التَّقْيِيدُ بِالْقَطْعِيَّةِ دَفْعًا لِمَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفِقْهِ هُوَ التَّصْدِيقَ لِعَامَّةِ عَمَلِيَّاتِ الْمُكَلَّفِينَ الْمَذْكُورَةِ بِعَامَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِعُمُومِ كُلٍّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ صِيغَةً وَمَعْنًى ، وَيَلْزَمُ لِكَوْنِ الْفِقْهِ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الصِّرَافَةِ مِنْ الْعُمُومِ أَنَّهُ إلَى الْآنَ لَمْ يُوجَدْ الْفِقْهُ وَالْفَقِيهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْكَائِنَةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ مَا كُلٌّ مِنْ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ ، وَمِنْ طَرِيقِ وُصُولِهِ إلَى الْمُكَلَّفِينَ قَطْعِيٌّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ ، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ إحَاطَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فَضْلًا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ .
وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ إمَّا لِكَوْنِ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ أَوْ لِكَوْنِ طَرِيقِ وُصُولِهِ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ غَيْرَ قَطْعِيٍّ كَالثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ ، وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ثَابِتٌ بِهِمَا ، وَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِهِ فَإِنَّ الْوَاقِعَاتِ الْجُزْئِيَّةِ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ وَالْعَدِّ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْتَهِي إلَّا بِانْتِهَاءِ دَارِ التَّكْلِيفِ ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ قَطْعًا فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّصْدِيقِ الْقَطْعِيِّ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ بَلْ ضَمَّ إلَيْهِ مَلَكَةَ الِاسْتِنْبَاطِ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ مُفِيدَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ

الْمَذْكُورَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي خُصُوصِ مَحَالِّهَا ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ حَيْثُ تَتَوَفَّرُ شُرُوطُ الْقِيَاسِ ، وَأَنَّ الْفَقِيهَ الَّذِي هُوَ الْمُجْتَهِدُ هُوَ الْقَيِّمُ بِكِلَيْهِمَا مَعْرِفَةً تَفْصِيلِيَّةً فِي الْمَنْصُوصَاتِ السَّمْعِيَّةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا ، وَمَلَكَةً لِإِدْرَاكِ مَا سِوَاهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا شَرْعًا وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا ثُبُوتٌ لَا أَدْرِي فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ بَعْضٍ مَنْ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا كَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ تَعَارُضًا يُوجِبُ الْوَقْفَ أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَالِ أَوْ لِعَارِضٍ غَيْرِ هَذَيْنِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُوَقِّفَةِ لِلْمُجْتَهِدِ عَنْ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ التَّصْدِيقِ الْمَذْكُورِ بِمَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ لِيَقَعَ اسْتِيفَاءُ جُزْأَيْ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ اصْطِلَاحًا ، وَإِلَّا كَانَ التَّعْرِيفُ غَيْرَ تَامٍّ ثُمَّ مِنْ التَّأَمُّلِ فِي هَذَا التَّحْقِيقِ يَنْدَفِعُ أَنْ يَخْتَلِجَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ حُصُولَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ شَرْطٌ لِلْفِقْهِ لَا شَطْرٌ .
وَيَظْهَرُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَدَخَلَ نَحْوَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ ) فِي الْفِقْهِ حَتَّى تَكُونُ النِّيَّةُ وَاجِبَةً فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ مِنْ مَسَائِلِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ ، وَمَحْمُولُهَا حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَهُوَ الْوُجُوبُ ، وَقَدْ تَعَلَّقَ التَّصْدِيقُ لَهُ بِالْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذَا دَفْعًا لِوَهْمِ اخْتِصَاصِ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ ، وَإِنَّمَا قَالَ نَحْوَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى دُخُولِ أَمْثَالِ هَذَا مِمَّا مَوْضُوعُهُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي

لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ ، وَمَحْمُولُهُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَالْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ ( وَقَدْ يُخَصُّ ) الْفِقْهُ ( بِظَنِّهَا ) أَيْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى شَاعَ أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ ، وَهَذَا طَرِيقُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ ، وَأَتْبَاعِهِ ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ فِي ضِمْنِ كَلَامٍ لَهُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فَقَالَ : وَالْعِلْمُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ جِنْسٌ ، وَمَا تَحْتَهُ مِنْ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ نَوْعٌ ، وَالْعُلُومُ الْمُدَوَّنَةُ تَكُونُ ظَنِّيَّةً كَالْفِقْهِ ، وَقَطْعِيَّةً كَالْكَلَامِ وَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ ا هـ .
وَمُلَخَّصُ مَا قَالُوا فِي وَجْهِ هَذَا أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ إلَّا ظَنًّا لِتَوَقُّفِ إفَادَتِهَا الْيَقِينَ عَلَى نَفْيِ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَشَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَوْضِعِهَا ، وَنَفْيُهَا مَا ثَبَتَ إلَّا بِالْأَصْلِ ، وَالْأَصْلُ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ قَالُوا وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ فَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ اصْطِلَاحًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَسَيَتَعَرَّضُ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا قَرِيبًا .
وَنَذْكُرُ مَا قِيلَ فِي وَجْهِهِ وَعَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقَالُ فِي تَعْرِيفِهِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ بَلْ الظَّنُّ بِذَلِكَ ( وَعَلَى مَا قُلْنَا ) مِنْ أَنَّهُ التَّصْدِيقُ إلَخْ ( لَيْسَ هُوَ ) أَيْ الظَّنُّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادِ ( شَيْئًا مِنْ الْفِقْهِ ) أَيْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ لَا يَكُونَ الْفِقْهُ سِوَاهُ ( وَلَا الْأَحْكَامَ الْمَظْنُونَةَ ) أَيْ وَلَا تَكُونُ نَفْسُ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ جُزْءًا مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا حَتَّى إنَّ الظَّنَّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ

الْمَذْكُورَةِ ، وَمَا مَوْضُوعُهُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ ، وَمَحْمُولُهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَظْنُونٌ لَا يَكُونُ مِنْ مَسَائِلَ الْفِقْهِ ( إلَّا بِاصْطِلَاحٍ ) مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ غَيْرِ اصْطِلَاحِنَا الْمَذْكُورِ كَالِاصْطِلَاحِ بِأَنَّ الْفِقْهَ كُلَّهُ ظَنِّيٌّ فَيَكُونُ الْفِقْهُ هُوَ الظَّنَّ بِالْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ إذَا قُلْنَا إنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ وَالْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ إذَا قُلْنَا إنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْمُدْرَكِ ، وَإِلَى الْإِشَارَةِ إلَى كَوْنِ الْفِقْهِ يُقَالُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَعَرَّضَ لَنَفْيِهِمَا تَفْرِيعًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ التَّعْرِيفِ ، وَكَالِاصْطِلَاحِ بِأَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ قَطْعِيٌّ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ ظَنِّيٌّ ، وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ كُلُّ مَنْ ظَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ مِنْ الْفِقْهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مُسَمَّى الِاسْمِ بَقِيَ الشَّأْنُ فِي أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ أَحْسَنُ أَوْ مُتَعَيِّنٌ ، وَيَظْهَرُ أَنَّ مَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ مُتَعَيِّنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَقِيهِ الْمُجْتَهِدُ لِمَا ذَكَرْنَا وَنَذْكُرُ ، وَأَنَّ الثَّالِثَ أَحْسَنُ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْمُدْرَكِ ، وَمَا زَالَ الْعَمَلُ فِي التَّدْوِينِ لَهُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى هَذَا ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ جُمْلَةُ الْفِقْهِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَا بَقِيَتْ دَارُ التَّكْلِيفِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ حُصُولِهِ أَجْمَعَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ ، وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ إذْ لَا قَائِلَ بِتَوَقُّفِ وُجُودِ حَقِيقَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ عَلَيْهِ بِرُمَّتِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْوَاقِعِ لِيَنْتَفِيَ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ تَمَامِ جُمْلَتِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( ثُمَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ) ، وَهُوَ كَوْنُ الْفِقْهِ الظَّنَّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ

الْمَذْكُورَةِ وَكَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْفِقْهِ هُوَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَظْنُونَةَ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ ( يَخْرُجُ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّةِ ) أَيْ يَخْرُجُ مِنْ الْفِقْهِ مَا صَارَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الْمَعْرُوفِ انْتِسَابُهَا إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ صَارَ التَّصْدِيقُ بِهِ كَالتَّصْدِيقِ الْبَدِيهِيِّ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ مِنْ الدِّينِ الْعَوَامُّ الْقَاصِرُونَ وَالنِّسَاءُ النَّاقِصَاتُ كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ ، وَوَجْهُ الْخُرُوجِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْعِنَادَ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ مَفْهُومًا قَائِمٌ وَكَذَا يَخْرُجُ هَذَا مِنْ الْفِقْهِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ عَلَمًا ، وَاشْتَرَطَ فِي كَوْنِهِ مُتَعَلَّقًا بِالْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ الْمُشَارِ إلَيْهِمَا أَنْ يَكُونَ عَنْ اسْتِدْلَالٍ قِيلَ : وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِقْهَ لَمَّا كَانَ لُغَةً : إدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ حَتَّى يُقَالُ فَقِهْت كَلَامَك وَلَا يُقَالُ فَقِهْت السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ خُصَّ بِالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَلَا يَخْرُجُ هَذَا مِنْ الْفِقْهِ عَلَى قَوْلِنَا ؛ لِأَنَّهُ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ ، وَهُوَ أَوْجُهٌ فَإِنَّهُ يُلْزِمُ الْمُخْرِجَ إخْرَاجَ أَكْثَرِ عِلْمِ الصَّحَابَةِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمُشَارِ إلَيْهِمَا مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَهُمْ لِتَلَقِّيهِمْ إيَّاهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِسًّا ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بَعْدَ هَذَا فَكَذَا مَا يُفْضِي إلَيْهِ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - : وَالْجَوَابُ عَنْ النُّكْتَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفِقْهَ لُغَةً مَا ذَكَرْت فَقَدْ نَصَّ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ الْفَهْمُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ ، وَعَلَى هَذَا لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَقِهْت السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ كَمَا لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَهِمْتهمَا بِمَعْنَى عَلِمْتهمَا وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَعَلَّ الْمَانِعَ أَنَّ الْفَهْمَ

إنَّمَا يُذْكَرُ فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ فِي خُصُوصِ هَذَا الْوَصْفِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ بِلَازِمٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِ ، وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَاشْتِرَاطُهُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْأَصْلِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا فَإِنَّ ظُهُورَهُ إلَى هَذَا الْحَدِّ إنَّمَا هُوَ بِعَارِضِ كَوْنِهِ قَدْ صَارَ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْعُرُوض لَهُ بِمَانِعٍ مِنْ جَعْلِهِ مِنْ الْفِقْهِ ، وَكَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ قَطْعًا مِنْ الْأَحْكَامِ لِلْأَعْمَالِ الْمُشَارِ إلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ إذَا كَانَ مُصَرِّحًا بِهَذَا اللَّازِمِ لَوْ قَالَ : وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَخْرُجُ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ قَطْعًا لَكَانَ أَوْلَى لِشُمُولِهِ حِينَئِذٍ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .

( وَأَمَّا قَصْرُهُ ) أَيْ الْفِقْهَ ( عَلَى الْيَقِينِ ) أَيْ يَقِينِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِأَنْ جَعَلَ اسْمًا لَهُ حَيْثُ كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ ( وَجَعَلَ الظَّنَّ فِي طَرِيقِهِ ) أَيْ هَذَا الْيَقِينِ ، وَهُوَ مُقَدِّمَتَا الْقِيَاسِ الْمُوَصَّلِ إلَيْهِ كَمَا أَشَارَ إلَى هَذَا الصَّنِيعِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ ، وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْبَيْضَاوِيِّ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَعَرَّضَ لِاعْتِرَاضِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ تَعْرِيفَ الْفِقْهِ بِالْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ قِيلَ الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ يَعْنِي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ الْعِلْمُ جِنْسَ تَعْرِيفِهِ أَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ مَشْرُوحًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعِلْمِ بِهَا عَنْ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَهَذَا أَمْرٌ قَطْعِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَظْنُونُ الْمُجْتَهِدِ قَطْعًا وَكُلُّ مَظْنُونٍ لِلْمُجْتَهِدِ قَطْعًا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا أَمَّا كَوْنُ الصُّغْرَى قَطْعِيَّةً فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ ظَنِّ الْحُكْمِ لَهُ وِجْدَانِيٌّ وَالْإِنْسَانُ يَقْطَعُ بِوُجُودِ ظَنِّهِ كَمَا يَقْطَعُ بِوُجُودِ جُوعِهِ وَعَطَشِهِ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْكُبْرَى قَطْعِيَّةٌ فَقَالُوا لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ ثُمَّ لَمْ يُعَيِّنْهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَلَا مُخْتَصِرُوهُ ، وَعَيَّنَهُ غَيْرُهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تَعْيِينِهِ ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ الْإِجْمَاعُ كَمَا نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ ثُمَّ الْغَزَالِيُّ فِي مُسْتَصْفَاهُ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَدَفَعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُخْتَارِ نَعَمْ يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِيَّتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتِيًّا كَمَا هُوَ قَوْلُ قَوْمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى حُجِّيَّةَ السُّكُوتِيِّ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ قَاطِعًا ، وَقَدْ نَقَلَهُ فِي مَعْرِضِ

الِاسْتِدْلَالِ ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَحَيْثُ كَانَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ قَطْعِيَّتَيْنِ فَالْمَطْلُوبُ ، وَهُوَ فَهَذَا الْحُكْمُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا قَطْعِيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ وَقَعَ الظَّنُّ فِي طَرِيقِهِ كَمَا رَأَيْت مِنْ التَّصْرِيحِ بِهِ مَحْمُولًا فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعًا فِي الْكُبْرَى وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِظَنِّيَّةِ الْمُقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَوْنِ الْمُقَدِّمَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ فَإِنْ ظَنِّيًّا فَظَنِّيَّةٌ ، وَإِنْ قَطِيعًا فَقَطْعِيَّةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرَفَانِ ظَنِّيَّيْنِ فِي نَفْسِهِمَا أَوْ قَطْعِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا وَالْآخَرُ قَطْعِيًّا ، وَقَدْ عَلِمْت هُنَا قَطْعِيَّةَ كُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ اللَّذَيْنِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا الْمُقَدِّمَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ .
وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ مِنْ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ فَيَلْزَمُهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَمُغَيِّرٌ لِمَفْهُومِهِ ) أَيْ فَهَذَا الصَّنِيعُ مُغَيِّرٌ لِمَفْهُومِ الِاسْمِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ الْمَعْنَى الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ لِلْمُجْتَهِدِ ، وَقَدْ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِنَفْسِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ ، وَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ .
ثَانِيهِمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَيَقْصُرُهُ ) أَيْ هَذَا الصَّنِيعُ الْفِقْهَ ( عَلَى حُكْمٍ ) وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا ظَنَّهُ الْمُجْتَهِدُ فَيَصِيرُ الْفِقْهُ كُلُّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْوَاحِدَةَ ، وَقَدْ كَانَ الْعِلْمُ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَتَحْرِيمٍ وَكَرَاهَةٍ وَإِبَاحَةٍ ، وَهَذَانِ اللَّازِمَانِ بَاطِلَانِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُمَا فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ الْعِلْمُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَظْنُونِ فَإِنْ ظَنَّ وُجُوبَهُ عَلِمَ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ ، وَإِنْ ظَنَّ

حُرْمَتَهُ عَلِمَ حُرْمَةَ الْعَمَلِ بِهَا وَكَذَا الْبَاقِي وَالتَّعَرُّضُ لِلْوُجُوبِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ إلَّا وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ لَا غَيْرُ ، وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ وُجُوبُ اعْتِقَادِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَظْنُونِ فَإِذَا كَانَ النَّدْبُ مَظْنُونًا وَجَبَ اعْتِقَادُ نَدْبِيَّتِهِ ، وَهَكَذَا الْبَاقِي ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا دَلَالَةَ لِلْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّعْرِيفُ فَاسِدًا ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ أَنْ يُقَالَ أَوَّلًا الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ وَيُرَادُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ ، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ أَوَّلًا لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى هَذَا بِشَيْءٍ مِنْ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ ، وَلَوْ قِيلَ أُطْلِقَ ذَلِكَ وَأُرِيدَ بِهِ هَذَا مَجَازًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ أَوَّلًا مَمْنُوعٌ إذْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا مُجَوِّزَةً لَهُ وَلَوْ سَلِمَ فَمِثْلُ هَذَا الْمَجَازِ لَيْسَ بِشَهِيرٍ وَلَا قَرِينَةَ ظَاهِرَةً عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي التَّعْرِيفَاتِ وَثَانِيًا الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْإِجْمَالِيَّةِ ، وَالْفِقْهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ .
وَثَالِثًا إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْمَطْلُوبُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُصَوِّبَةِ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْأَحْكَامِ تَابِعَةً لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ ظَنِّهِ وَلَوْ خَطَأً فَلَا يَكُونُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ وَلَا وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ مُوَصِّلًا لَهُ إلَى الْعِلْمِ ، قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ : وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْأَحْكَامِ أَعَمُّ مِمَّا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ فِي الظَّاهِرِ ، وَمَظْنُونُهُ حُكْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا طَابَقَ الْوَاقِعَ أَوْ لَا ، وَهُوَ الَّذِي نِيطَ بِظَنِّهِ ، وَأَوْصَلَهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ إلَى الْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ ، وَمِنْ هَا هُنَا يَنْحَلُّ

الْإِشْكَالُ بِأَنَّا نَقْطَعُ بِبَقَاءِ ظَنِّهِ ، وَعَدَمِ جَزْمِ مُزِيلٍ لَهُ ، وَإِنْكَارُهُ بُهْتٌ فَيَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ لِتَنَافِيهِمَا وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ الْبَاقِيَ مُتَعَلَّقٌ بِالْحُكْمِ قِيَاسًا إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْعِلْمِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ مَقِيسًا إلَى الظَّاهِرِ ( وَمَا قِيلَ فِي ) وَجْهِ ( إثْبَاتِ قَطْعِيَّةِ مَظْنُونَاتِ الْمُجْتَهِدِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الرَّاجِحُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَاضِلُ الْعِبْرِيُّ فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ الْمَفْصُولِ النَّتَائِجِ لِإِنْتَاجِ أَنَّ الْفِقْهَ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ مُتَعَلَّقٍ بِمَعْلُومٍ قَطْعِيٍّ ، وَهُوَ الْحُكْم الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ ، وَأَنَّ الظَّنَّ إنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ لَا نَفْسُهُ ( مَظْنُونَةٌ ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ ( مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ) لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَيْهِ كَمَا سَلَفَ فَهَذِهِ صُغْرَى قَطْعِيَّةٌ ( وَكُلُّ مَا قُطِعَ إلَخْ ) أَيْ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ( فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ ) أَيْ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعِلْمُ بِهِ فَهَذِهِ كُبْرَى قَطْعِيَّةٌ أَيْضًا فَيَنْتُجُ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ لَازِمٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورَةً قَطْعِيَّةَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ، وَهُوَ مَظْنُونُ الْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى مُحْتَاجًا إلَى كَسْبٍ بِقِيَاسٍ آخَرَ تُجْعَلُ كُبْرَى هَذَا الْقِيَاسِ صُغْرَى لِكُبْرَى قِيَاسٍ آخَرَ هَكَذَا كُلُّ مَا قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا ، وَكُلُّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ يُنْتِجُ إذَا سَلِمَتْ مُقَدِّمَتَاهُ كُلَّ حُكْمٍ قُطِعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَتَثْبُتُ الْكُبْرَى الْمَذْكُورَةُ حِينَئِذٍ ثُمَّ تُجْعَلُ صُغْرَى الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ صُغْرَى لِقِيَاسٍ آخَرَ ، وَهَذِهِ النَّتِيجَةُ كُبَرَاهُ هَكَذَا الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ

الْعَمَلِ بِهِ وَكُلُّ مَقْطُوعٍ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ يُنْتِجُ إذَا سَلِمَتْ مُقَدِّمَتَاهُ الْحُكْمَ الْمَظْنُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَتَثْبُتُ الصُّغْرَى حِينَئِذٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ تَمَامَ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَسْلِيمِ مُقَدِّمَتَيْهِ أَوْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَمَامِهِمَا وَلَمْ يُوجَدْ كُلٌّ مِنْهُمَا بَلْ هُوَ مَسْلَمُ الصُّغْرَى ( مَمْنُوعُ الْكُبْرَى ) ، وَهِيَ وَكُلُّ مَا قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعِلْمِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا قُطِعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ يَكُونُ هُوَ نَفْسُهُ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ بَلْ هَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَثَلًا يَقْطَعُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْوِتْرِ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَعُ بِثُبُوتِ وُجُوبِ الْوِتْرِ نَفْسِهِ بَلْ إنَّمَا ظَنَّهُ ، وَقَطَعَ بِحُكْمٍ آخَرَ بَعْدَهُ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَذَا الْمَظْنُونِ فَهُوَ نَفْسُهُ مَظْنُونٌ وَلُزُومُ الْعَمَلِ قَطْعِيٌّ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ مَمْنُوعٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ مَا ذَكَرَ ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَقْطُوعٌ بِهِ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ أَعَمُّ مِنْ الْعِلْمِ إذَا الْمُقَلِّدُ قَاطِعٌ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ يَعْنِي ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَعَمِّ ثُبُوتُ أَخَصًّ بِخُصُوصِهِ ، وَإِنْ بَنَى عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَظْنُونٌ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا كَمَا هُوَ رَأْيُ الْبَعْضِ يَكُونُ ذِكْرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ ضَائِعًا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ وَلَا يَمْنَعُ هَذَا اسْتِرْوَاحًا إلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ حِينَئِذٍ مِنْ الشَّكْلِ الثَّالِثِ هَكَذَا الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ

لِلْمُجْتَهِدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ مَظْنُونٌ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ بَعْضَ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا فَلَا يُثْبِتُ الْمُدَّعِي ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا عَلَى أَنَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى رَأْيٍ غَيْرِ سَدِيدٍ .
هَذَا وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُصَنِّفِ لِلْفِقْهِ أَنَّهُ مَجْمُوعُ أَمْرَيْنِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَمَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى مِثْلِهِ بِأَنَّ ذِكْرَهَا مِمَّا يُجْتَنَبُ فِي التَّعْرِيفِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا فِي نَفْسِهِ وَخُصُوصًا إذَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا التَّهَيُّؤُ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ مُطْلَقُهُ كَانَ الْفِقْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلًا لِغَيْرِ الْفَقِيهِ لِجَوَازِ حُصُولِ ذَلِكَ لَهُ ، وَإِنْ أُرِيدَ خَاصٌّ مِنْهُ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَرِيبِ فَمُتَفَاوِتُ الْمَرَاتِبِ وَلِهَذَا يُفَضَّلُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ ، وَلَا كُلِّيٌّ ضَابِطٌ لَهَا لِيَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فَلَزِمَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْمُرَادَةِ مِنْهُ دَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مَعْلُومٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَالْمُرَادُ بِالْمَلَكَةِ أَدْنَى مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ ) لِلِاجْتِهَادِ بِقَرِينَةِ إضَافَتِهَا إلَى الِاسْتِنْبَاطِ ، وَهِيَ أَدْنَى الْمَرَاتِبِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ ، وَهِيَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ ، وَمَتَى نَزَلَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا ( ، وَهُوَ ) أَيْ أَدْنَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ ذَلِكَ ( مَضْبُوطٌ ) فِي شُرُوطِ مُطْلَقِ الِاجْتِهَادِ كَمَا سَيَأْتِي وَتَقَدَّمَتْ الْعِبَارَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ عَنْهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَضْبُوطَةٌ بِأَنْ يُرَادَ بِهَا الِاتِّصَافُ بِشُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَنِّ ، وَلَا يَضُرُّ لُزُومُ اخْتِلَافِهَا بِالزِّيَادَةِ

بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ ، وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمٌ بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يَصِحَّ إطْلَاقُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى أَحَدٍ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ قَطْعًا ، وَخَفَاءُ هَذَا عَلَى مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَعَانِي اصْطِلَاحَاتِ هَذَا الْفَنِّ غَيْرُ ضَائِرٍ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ فَلَا جَهَالَةَ قَادِحَةً فِي صِحَّةِ التَّعْرِيفِ ثُمَّ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ قَدْ بَقِيَ لِهَذَا التَّعْرِيفِ جُزْءٌ آخَرُ كَالصُّورَةِ لَهُ ، وَهُوَ الْإِضَافَةُ وَكَمَا تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْجُزْأَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ اللَّذَيْنِ كَالْمَادَّةِ لَهُ يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْجُزْءِ فَلِمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَعْنَى إضَافَةِ الْمُشْتَقِّ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْأَصْلِ اخْتِصَاصُ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْإِضَافَةِ مَثَلًا دَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَيْهَا فَأَصْلُ الْفِقْهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَبْنِيٌّ لَهُ وَمُسْتَنَدُهُ .

( وَعَلَى الثَّانِي ) أَيْ وَأَمَّا تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ ( فَقَالَ كَثِيرٌ أَمَّا تَعْرِيفُهُ ) أَوْ حَدُّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ ( لَقَبًا ) أَيْ حَالَ كَوْنِ هَذَا الِاسْمِ لَقَبًا لِهَذَا الْعِلْمِ أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فَعَبَّرُوا بِاللَّقَبِ لَا الْعَلَمِ ( لِيُشْعِرُوا بِرَفْعِهِ مُسَمَّاهُ ) أَيْ لِيُعْلِمُوا الْوَاقِفِينَ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِالتَّنْوِيهِ بِمُسَمَّى هَذَا الْعِلْمِ مَعَ تَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّقَبَ عَلَمٌ مُشْعِرٌ مَعَ تَمْيِيزِ الْمُسَمَّى بِرِفْعَتِهِ أَوْ ضِعَتِهِ ، وَلَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِابْتِنَاءِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ عَلَى مُسَمَّاهُ ، وَهُوَ صِفَةُ مَدْحٍ ؛ لِأَنَّ بِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ نِظَامَ الْمَعَاشِ وَنَجَاةَ الْمَعَادِ بِخِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنْ اسْمِهِ بِالْعَلَمِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى هَذِهِ الرِّفْعَةِ فَإِنَّ مِنْ أَقْسَامِ الْعَلَمِ الِاسْمَ ، وَهُوَ إنَّمَا وُضِعَ عَلَى الْمُسَمَّى لِمُجَرَّدِ التَّمْيِيزِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَعْظِيمٍ وَلَا تَحْقِيرٍ .
( وَبَعْضُهُمْ عَلَمًا ) أَيْ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَمًا مَكَانَ لَقَبًا ، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ لَقَبًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ؛ لِأَنَّ اللَّقَبَ أَخَصُّ مِنْ الْعَلَمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي اللَّقَبِ قَيَّدَ كَوْنُهُ مُنْبِئًا عَنْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ ، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي كَوْنِهِ مُعَرَّفًا تَعْرِيفًا حَدِّيًّا ، وَإِلَى شَرْحِ هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : ( لِأَنَّ التَّعْرِيفَ ) الْحَدِّيَّ إنَّمَا هُوَ ( إفَادَةُ مُجَرَّدِ الْمُسَمَّى لَا ) إفَادَةُ الْمُسَمَّى ( مَعَ اعْتِبَارِ مَمْدُوحِيَّتِهِ ) الَّتِي هِيَ وَصْفٌ لَهُ أَيْضًا ( وَإِنْ كَانَتْ ) الْمَمْدُوحِيَّةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( ثَابِتَةً ) لِلْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ الْحَدِّيَّ إنَّمَا هُوَ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ثُمَّ إذْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَمْدُوحِيَّةِ وَصَفًّا ثَابِتًا لَهُ فِي

هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لَهُ بِاعْتِبَارِهَا لَمْ يَكُنْ التَّصْرِيحُ بِحَدِّهِ مُقَيَّدًا بِالنَّظَرِ إلَى مُطْلَقِ عَلَمِيَّتِهِ الَّتِي لَا دَلَالَةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ عَلَى الْمَمْدُوحِيَّةِ نَفْيًا لِلْمَمْدُوحِيَّةِ ( فَلَا يَعْتَرِضُ ) عَلَى صَاحِبِ الْبَدِيعِ ( بِثُبُوتِهَا ) أَيْ بِأَنَّ الْمَمْدُوحِيَّةَ ثَابِتَةٌ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ : وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَهُ عَلَمًا لِعِلْمٍ هُوَ صَلَاحُ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَدْحٌ لَهُ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَدْحِ فَيَكُونُ لَقَبًا وَجَوَابُهُ بِأَنَّ كَوْنَهُ مَدْحًا بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِهِ الْإِضَافِيِّ لَا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَلْقَابِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِهِ مَدْحًا تَسْمِيَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ قَبْلَهَا ا هـ .
فَإِنَّ صَاحِبَ الْبَدِيعِ لَيْسَ بِمُنْكِرٍ أَنَّهُ يُشْعِرُ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ اسْمَهُ لَقَبٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِ مُسَمَّى لَفْظِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ إشْعَارِهِ بِذَلِكَ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَقَطْ وَكَذَلِكَ كُلُّ تَعْرِيفٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَقَبًا أَوْ لَا فَيَتَّجِهُ قَوْلُ الْقَائِلِ عَلَمًا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ لَقَبًا ثُمَّ يَحْتَاجُ الْكُلُّ إلَى التَّقَصِّي عَمَّا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ الشَّخْصِيَّ لَا يُحَدُّ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ إدْرَاكِهِ الْحَوَاسَّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخَذْت الْعَوَارِضَ الْمُشَخِّصَةَ فِيهِ فَهِيَ فِي مَعْرِضِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ ، وَإِنْ اُقْتُصِرَ عَلَى مُقَوِّمَاتِ الْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ حَدًّا لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَخْصٌ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ الْمَحْدُودُ هُنَا هُوَ الْمُسَمَّى الْمَفْهُومُ لِلْعَلَمِ لَا لِلشَّخْصِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُمْ قَالُوا أَمَّا تَعْرِيفُهُ عَلَمًا وَلَقَبًا وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ عَلَمٌ شَخْصِيٌّ فَكَأَنَّهُمْ

قَالُوا إمَّا تَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَخْصِيٌّ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِّهِ هُنَا مَا يُفِيدُ امْتِيَازُهُ عَنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِنْ أَفْرَادِ مُطْلَقِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمَذْكُورَ لَهُ تَعْرِيفًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُفِيدُ ذَلِكَ وَالْحَدُّ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَلشَّخْصِيِّ كَمَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمُشَخِّصَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا لَيْسَتْ فِي مَعْرِضِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ مَعَ فَرْضِ بَقَاءِ مَاهِيَّتِهِ الْخَاصَّةِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُقَوِّمَاتُ لَهَا حَتَّى مَتَى مَا زَالَتْ زَالَتْ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الشَّخْصِيَّاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ فِي تَمْهِيدِ تَحْقِيقٍ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ التَّعْرِيفِ الْعِلْمِيِّ بِاخْتِلَافِ مَا اسْمُ الْعِلْمِ مَوْضُوعٌ بِإِزَائِهِ فَقَالَ ( وَكُلُّ عِلْمٍ كَثْرَةُ الْإِدْرَاكَاتِ وَمُتَعَلِّقَاتهَا ) الْإِضَافَةُ فِي كَثْرَة الْإِدْرَاكَاتِ ، وَمُتَعَلِّقَاتهَا بَيَانِيَّةٌ أَيْ كُلُّ عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَتَيْنِ كَثْرَةٌ هِيَ إدْرَاكَاتٌ وَكَثْرَةٌ هِيَ مُتَعَلَّقَاتُ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ بِفَتْحِ اللَّامِ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْعِلْمِ إلَى الْمُتَعَلَّقِ الْمُسَمَّاةِ بِالتَّعَلُّقِ بِالْمَعْلُومِ لَا بُدَّ مِنْهَا إمَّا عَلَى أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْعِلْمِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ فِيهَا فَظَاهِرٌ ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهَا عَارِضٌ لَازِمٌ لَهُ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْآخَرُ الرَّاجِحُ فَكَذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكَاتِ مَا يَعُمُّ التَّصْدِيقَاتِ بِالْمَسَائِلِ ، وَيَعُمُّ الْمَبَادِئَ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ لَهَا ، وَهُوَ عَلَى مَا قَالُوا مَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ أَوْ التَّصْدِيقَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الْمَبَادِئَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ

أَجْزَاءِ الْعِلْمِ وَشَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ مُوَافِقٌ عَلَى ذَلِكَ كَمَا سَمِعْته مِنْهُ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ ، وَالْإِدْرَاكُ أَيْ وُصُولُ النَّفْسِ إلَى الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ مِنْ نِسْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا يُقَالُ عَلَى مَا يَعُمُّ التَّصْدِيقَ وَالتَّصَوُّرَ ، وَلِهَذَا قَدْ يُقْسَمُ إلَيْهِمَا وَيُجْعَلُ جِنْسًا لَهُمَا ، وَهُوَ سَائِغٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ ، وَمَا يَعُمُّ التَّصْدِيقَ بِهَلِيَةِ ذَاتِ الْمَوْضُوعِ أَيْضًا مَعَ تَصْرِيحِ بَعْضِ أَعْيَانِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعُلُومِ ؛ لِأَنَّ شَيْخَنَا الْمُصَنِّفَ لَمْ يَخْتَرْهُ كَمَا سَنُشِيرُ إلَيْهِ وَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ هَذِهِ الْمُدْرِكَاتِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكَاتِ التَّصْدِيقَاتِ وَبِالْمُتَعَلِّقَاتِ الْمَسَائِلَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَقَاصِدَ الْعُلُومِ بِالذَّاتِ هِيَ مَسَائِلُهَا الَّتِي إدْرَاكَاتُهَا تَصْدِيقَاتٌ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْإِدْرَاكَاتُ التَّصْدِيقِيَّةُ ، وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ فَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِيَرْتَبِطَ بَعْضُ الْمَسَائِلِ بِبَعْضٍ ارْتِبَاطًا يَحْسُنُ مَعَهُ جَعْلُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ عِلْمًا وَاحِدًا ، وَالْمَبَادِئُ اُحْتِيجَ إلَيْهَا لِتَوَقُّفِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ عَلَيْهَا تَوَقُّفَ الْمَقْصُودِ عَلَى الْوَسِيلَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ تُعْتَبَرَ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتُ التَّصْدِيقِيَّةُ عَلَى حِدَةٍ وَتُسَمَّى بِاسْمٍ وَحِينَئِذٍ فَلَعَلَّ مَنْ جَعَلَ الْمَوْضُوعَ وَالْمَبَادِئَ مِنْ أَجْزَاءِ الْعُلُومِ تَسَامَحَ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْمَسَائِلِ إلَيْهِمَا فَنَزَلَا مَنْزِلَةِ الْأَجْزَاءِ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَشَارَكَتْ الْعُلُومُ كُلُّهَا فِي كَوْنِهَا تَصْدِيقَاتٍ وَأَحْكَامًا بِأُمُورٍ عَلَى أُخْرَى إنَّمَا صَارَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ عِلْمًا خَاصًّا بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ ارْتَبَطَ بِهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَصَارَ الْمَجْمُوعُ مُمْتَازًا عَنْ الطَّوَائِفِ الْأُخَرِ بِحَيْثُ لَوْلَاهُ لَمْ يَعُدَّ عِلْمًا وَاحِدًا وَلَمْ يَسْتَحْسِنُوا إفْرَادَهُ بِالتَّدْوِينِ

وَالتَّعْلِيمِ ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ أَمَّا مَوْضُوعُ الْعِلْمِ بِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا مَوْضُوعَاتُ مَسَائِلِهِ رَاجِعَةٌ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْعَدَدِ لِلْحِسَابِ ، وَأَمَّا غَايَتُهُ كَالصِّحَّةِ فِي مَسَائِلِ الطِّبِّ الْبَاحِثِ عَنْ أَحْوَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالصِّحَّةِ ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ مَعًا كَمَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إذْ الْبَحْثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لِاسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ قَالُوا : وَالْأَصْلُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي جِهَةِ الْوَحْدَةِ هُوَ الْمَوْضُوعُ ؛ لِأَنَّ الْمَحْمُولَاتِ صِفَاتٌ مَطْلُوبَةٌ لِذَوَاتِ الْمَوْضُوعَاتِ فَإِنْ اتَّحَدَ فَذَاكَ ، وَإِنْ تَعَدَّدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَنَاسُبِهَا فِي أَمْرٍ وَاتِّحَادِهَا بِحَسَبِهِ إمَّا فِي ذَاتِيٍّ كَأَنْوَاعِ الْمِقْدَارِ الْمُتَشَارِكَةِ فِيهِ لِعِلْمِ الْهَنْدَسَةِ أَوْ عَرَضِيٍّ كَمَوْضُوعَاتِ الطِّبِّ فِي الِانْتِسَابِ إلَى الصِّحَّةِ وَكَأَقْسَامِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ إنْ جُعِلَتْ مَوْضُوعًا لِهَذَا الْفَنِّ ، وَمِنْ ثَمَّةَ نَرَاهُمْ يَقُولُونَ تَمَايُزُ الْعُلُومِ بِتَمَايُزِ الْمَوْضُوعَاتِ بِأَنْ يَبْحَثَ فِي هَذَا عَنْ أَحْوَالِ شَيْءٍ أَوْ أَشْيَاءَ مُتَنَاسِبَةٍ ، وَفِي ذَاكَ عَنْ أَحْوَالِ شَيْءٍ آخَرَ أَوْ أَشْيَاءَ مُتَنَاسِبَةٍ أُخْرَى وَلَا يَعْتَبِرُونَ رُجُوعَ الْمَحْمُولَاتِ إلَى مَا يَعُمُّهَا فَالْمَوْضُوعُ إمَّا وَاحِدٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ كَمَا إذَا قِيسَ الْمُتَعَدِّدُ إلَى وَحْدَةِ الْغَايَةِ .
وَذَهَبَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِهَةِ الْوَحْدَةِ هِيَ وَحْدَةُ الْغَايَةِ فَقَالَ ( وَلَهَا وَحْدَةُ غَايَةٍ تَسْتَتْبِعُ وَحْدَةُ مَوْضُوعِهَا أَوَّلُ الْمُلَاحَظَةِ ، وَفِي التَّحَقُّقِ الِاتِّصَافِي بِالْقَلْبِ ) أَيْ وَلِلْإِدْرَاكَاتِ ، وَمُتَعَلِّقَاتهَا الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْعِلْمِ جِهَةُ وَحْدَةٍ هِيَ غَايَتُهَا الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ مِنْ تَحْصِيلِ تِلْكَ الْكَثْرَةِ بَلْ ، وَمَنْ وَضَعَ مَوْضُوعَ تِلْكَ الْكَثْرَةِ أَيْضًا لِيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِ

فَتَحْصُلُ الْكَثْرَتَانِ ثُمَّ هَذِهِ الْوَحْدَةُ تَسْتَتْبِعُ وَحْدَةً أُخْرَى هِيَ وَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ أَيْ تَجْعَلُ هَذِهِ الْوَحْدَةُ وَحْدَةَ الْمَوْضُوعِ تَابِعَةً لَهَا بَيَانُهُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ سَائِرِ الْعُلُومِ الَّذِي هُوَ تَعْلِيمُ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ ذَاتِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بَلْ مَعْرِفَةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ مَقَاصِدَ أُخْرَى مُهِمَّةٍ ، فَأَوَّلُ مَا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ مَثَلًا طَلَبُ عِصْمَةِ اللِّسَانِ عَنْ الْخَطَأِ فِيمَا تُسَمِّيهِ الْإِعْرَابَ نَفْيًا لِلنَّقْصِ وَالْعَيْبِ عَنْهُ يَأْخُذُ يَنْظُرُ مَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ فَيَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ مَعْرِفَةُ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْأَحْكَامِ لِلْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ فِي التَّرْكِيبِ فَيَضَعُ الْكَلِمَ الْعَرَبِيَّةَ لِيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهَا مَاذَا يَكُونُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ فَمَا وَضَعَ الْمَوْضُوعَ لِيَبْحَثَ عَنْ حَالِهِ إلَّا لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْعِصْمَةُ الْخَاصَّةُ ، وَهِيَ الْغَايَةُ هَذَا فِي أَوَّلِ عُرُوضِ حَاجَتِهِ إلَى الْغَايَةِ ثُمَّ إذَا وَضَعَهُ وَبَحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِ وَاتَّصَفَ بِهَا ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ أَشْيَاءَ اتَّصَفَ بِنَفْسِ الْغَايَةِ فَظَهَرَ أَنَّ الْغَايَةَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى ذِي الْغَايَةِ مِنْ حَيْثُ التَّصَوُّرُ .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ الِاتِّصَافِيُّ فَالِاتِّصَافُ بِنَفْسِ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ يَكُونُ فِي الْخَارِجِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَّصِفُ بَعْدَهُ بِالْغَايَةِ مَثَلًا بَعْدَ أَنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ فِي التَّرْكِيبِ اتَّصَفَ بِقُدْرَةٍ عَلَى عِصْمَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ، وَفِي التَّحَقُّقِ الِاتِّصَافِيِّ بِالْقَلْبِ ، وَمِنْ هُنَا قَالُوا : غَايَةُ الشَّيْءِ عِلَّةٌ لَهُ فِي الذِّهْنِ مَعْلُولَةٌ لَهُ فِي الْخَارِجِ أَيْ سَابِقَةٌ لَهُ فِي التَّصَوُّرِ فَإِنَّهَا بَاعِثَةٌ لِلْفَاعِلِ عَلَى إيجَادِ ذِي الْغَايَةِ فِي الْخَارِجِ مُتَأَخِّرٌ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ عَنْ وُجُودِهِ فِيهِ فَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ أَظْهَرُ ثُمَّ إذَا عُرِفَ هَذَا

فَنَقُولُ ( وَأَسْمَاءُ الْعُلُومِ ) الْمُدَوَّنَةِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِهِمَا مَوْضُوعَةٌ اصْطِلَاحًا ( لِكُلٍّ ) مِنْ الْكَثْرَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِ رَبَطَ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ وَجَعَلَ الْمَجْمُوعَ شَيْئًا وَاحِدًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : يَعْنِي اسْمَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ النَّحْوُ مَثَلًا يُوضَعُ تَارَةً بِإِزَاءِ الْكَثْرَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِاعْتِبَارِهِ يُقَالُ هُوَ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الْكَلِمِ إلَخْ ، وَتَارَةً بِإِزَاءِ الْمَعْلُومَاتِ ، وَهِيَ الْكَثْرَةُ لِلْمُتَعَلَّقَاتِ بِتِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ وَبِاعْتِبَارِهِ يُقَالُ فُلَانٌ يَعْلَمُ النَّحْوَ فَإِنَّ الْمَعْنَى يَعْلَمُ أَحْكَامَ الْكَلِمِ لَا يَعْلَمُ الْعِلْمَ بِأَحْكَامِ الْكَلِمِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَرَّةً لِهَذِهِ الْكَثْرَةِ وَلَا يُوضَعُ لِلْأُخْرَى ، وَمَرَّةً يُوضَعُ لِلْأُخْرَى دُونَ هَذِهِ بَلْ كُلُّ اسْمٍ لِعِلْمٍ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ فَرْغٌ مَنْ وَضْعِهِ لِكُلٍّ مِنْ الْكَثْرَتَيْنِ بِوَضْعَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ كُلَّ اسْمِ عِلْمٍ يُسْتَعْمَلُ عَلَى النَّحْوَيْنِ .
( وَكَذَا ) نَقُولُ اسْتِطْرَادًا ( الْقَاعِدَةُ وَالْقَضِيَّةُ ) يُقَالُ كُلٌّ مِنْهُمَا اصْطِلَاحًا لِكُلٍّ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ الْمُتَعَلَّقِ بِهَا الْعُلُومُ الْكَائِنَةُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَبِهِ وَالنِّسْبَةِ ، وَمِنْ الْعِلْمِ الْمُتَعَلَّقِ بِالنِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهِيَ الْمُسَمَّى بِالْحُكْمِ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْحُكْمَ مِنْ قَبِيلِ الْإِدْرَاكَاتِ فَهُوَ كَيْفٌ لَا فِعْلٌ لِلنَّفْسِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْكَارَ لَيْسَتْ مُوجِدَةً لِلنَّتَائِجِ بَلْ مُعَدَّاتٍ لِلنَّفْسِ لِقَبُولِ صُوَرِ النَّتَائِجِ الْعَقْلِيَّةِ عَنْ وَاهِبِهَا ، وَهُوَ عِنْدَنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
وَالنَّتِيجَةُ هِيَ الْعِلْمُ الثَّالِثُ بِشَيْءٍ وَلَيْسَ هُوَ إلَّا حُكْمًا بِأَنَّ كَذَا لِكَذَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّفْسِ فِيهِ فِعْلٌ وَتَأْثِيرٌ كَانَ صُورَةً إدْرَاكِيَّةً مُفَاضَةً مِنْ الْوَهَّابِ جَلَّ جَلَالُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ فَلَزِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ فِعْلًا لَهَا كَذَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْت .
وَمِنْ

إطْلَاقِهِمَا مُرَادًا بِهِمَا الْإِدْرَاكُ إطْلَاقُ الْقَاعِدَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّ الْمَجَازَ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ ، وَقَوْلُهُمْ الْقَضِيَّةُ إمَّا صَادِقَةٌ أَوْ كَاذِبَةٌ ، وَمِنْ إطْلَاقِهِمَا مُرَادًا بِهِمَا الْمُدْرَكُ قَوْلُهُمْ الْقَاعِدَةُ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ كُبْرَى لِصُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ وَالْقَضِيَّةُ قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ ثُمَّ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَدِيرَ بِكُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا بِحَدِّهِ أَوْ رَسْمِهِ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ أَوْ زِيَادَتِهَا فِي طَلَبِهِ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْعِلْمِ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ جِهَةِ وَحْدَةِ الْمَوْضُوعِ أَوْ الْغَايَةِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِلْمِ تَتَمَيَّزُ عَنْ الْحَقَائِقِ الْأُخَرِ بِتِلْكَ الْجِهَةِ ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ كَوْنُ التَّعْرِيفِ حَقِيقِيًّا أَوْ رَسْمِيًّا ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجَدِيرُ بِالطَّالِبِ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ بِوَجْهٍ اسْتَحَالَ طَلَبُهُ وَلَوْ تَوَجَّهَ إلَى تَصَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْكَثْرَةِ بِخُصُوصِهِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ تَعَسَّرَ وَلَوْ انْدَفَعَ إلَى طَلَبِ الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جُزْئِيٌّ لِلْمَفْهُومِ الْعَامِّ قَبْلَ ضَبْطِهَا بِجِهَةِ الْوَحْدَةِ لَمْ يَتَمَيَّزْ عِنْدَهُ الْمَطْلُوبُ ، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ الطَّلَبُ إلَى غَيْرِهِ فَيَفُوتَ مَا يَعْنِيهِ وَيَضِيعَ عُمُرُهُ فِيمَا لَا يُغْنِيهِ .
فَحِينَئِذٍ الْجَدِيرُ بِطَالِبِ عِلْمِ الْأُصُولِ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا بِحَدِّهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذْ كَانَ التَّعْرِيفُ لَهُ اسْمِيًّا ، وَأَسْمَاءُ الْعُلُومِ تُقَالُ عَلَيْهَا بِكُلٍّ مِنْ الِاعْتِبَارَيْنِ فَحَسُنَ أَنْ يُعْرَفَ بِالنَّظَرِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا ( فَعَلَى الْأَوَّلِ ) أَيْ فَيُقَالُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ أُصُولِ الْفِقْهِ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ ( هُوَ ) أَيْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ ( إدْرَاكُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ ) فَإِدْرَاكٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ

مُتَعَلَّقِهِ الْقَوَاعِدَ جِنْسٌ صَالِحٌ ؛ لَأَنْ تَكُونَ هِيَ مُتَعَلَّقَةٌ وَغَيْرُهَا مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَبِإِضَافَتِهِ إلَى الْقَوَاعِدِ خَرَجَ إدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ ، وَمَا عَدَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ ، وَالْمُرَادُ بِإِدْرَاكِهَا التَّصْدِيقُ بِهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ كَمَا سَيَظْهَرُ ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوَاعِدِ هُنَا الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الْمُنْطَبِقَةِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا عِنْدَ تَعَرُّفِ أَحْكَامِهَا فَالْمُرَادُ بِهَا حِينَئِذٍ الْمَعْلُومَاتُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُهُ .
وَبِقَوْلِهِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ خَرَجَتْ الْقَوَاعِدُ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى شَيْءٍ لِكَوْنِهَا مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا أَوْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى غَيْرِ الْفِقْهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الصَّنَائِعِ أَوْ الْعُلُومِ ، وَمِنْهُ عِلْمُ الْخِلَافِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى حِفْظِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَوْ هَدْمِهَا لَا إلَى اسْتِنْبَاطِهَا ، وَمِنْهُ عِلْمُ الْجَدَلِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ بِقَوَاعِدَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حِفْظِ رَأْيٍ أَوْ هَدْمِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا فَنِسْبَتُهُ إلَى الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فَإِنَّ الْجَدَلِيَّ إمَّا مُجِيبٌ يَحْفَظُ وَضْعًا أَوْ مُعْتَرِضٌ يَهْدِمُ وَضْعًا نَعَمْ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ الْفِقْهِ ، وَبَنَوْا نِكَاتَهُ عَلَيْهَا حَتَّى تَوَهَّمَ أَنَّ لَهُ اخْتِصَاصًا بِهِ وَانْطَبَقَ التَّعْرِيفُ عَلَى مُسَمَّى أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ ؛ لِإِخْرَاجِ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ كَمَا فَعَلَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ قُلْت مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِقْهِ هُنَا مَا تَقَدَّمَ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْحَدِّ إدْرَاكُ الْقَوَاعِدِ الْمُتَوَصَّلِ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ التَّصْدِيقِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا

تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَفِيهِ مَا فِيهِ .
قُلْت لَا ضَيْرَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِنْبَاطِ التَّصْدِيقِ الْمَذْكُورِ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِضَمِّ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تَقَعُ كُبْرَى إلَى الصُّغْرَى السَّهْلَةِ الْحُصُولِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ لِيَخْرُجَ الْمَطْلُوبُ الْفِقْهِيُّ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ وَلَا نَكِيرَ فِي هَذَا غَايَتُهُ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا لِلْمُجْتَهِدِ ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ ثُمَّ تَرْكِيبُهَا مَعَ غَيْرِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنْتِجِ لِلْمَطْلُوبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ ، وَمَعْرِفَةِ الشَّرَائِطِ وَالْقُيُودِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّيَّةِ الْقَاعِدَةِ وَبِالْجُمْلَةِ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى قِيَامِ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ بِالْمُحَصَّلِ ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ هُوَ فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَا بَأْسَ بِالْقَوْلِ بِاخْتِصَاصِ قِيَامِ هَذَا الْعِلْمِ أَجْمَعَ بِمَنْ هُوَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ إمَّا عَادِمٌ لَهُ أَوْ ذُو حَظٍّ مِنْهُ بِحَسَبِهِ ، وَلَا يُقَالُ التَّعْرِيفُ صَادِقٌ عَلَى الْعِلْمِ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِالتَّوَصُّلِ بِمَعْرِفَتِهَا التَّوَصُّلُ الْقَرِيبُ بِمُسَاعَدَةِ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ ، وَإِطْلَاقُ التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ إذْ الْبَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الْوَاسِطَةِ ، وَمِنْهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ وَكُلٌّ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ إلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا الْوَضْعِيَّةِ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يُقْتَدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِقَوَاعِدِ الْكَلَامِ إلَى ثُبُوتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوُجُوبِ صِدْقِهِمَا ؛ لِيُتَوَصَّلَ

بِذَلِكَ إلَى الْفِقْهِ فَإِنْ قِيلَ التَّوَصُّلُ الْمَذْكُورُ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ فَيَكُونُ الْمَنْطِقُ جُزْءًا مِنْ الْأُصُولِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ وَصْفَ الْقَوَاعِدِ بِالتَّوَصُّلِ يُشْعِرُ بِمَزِيدِ اخْتِصَاصٍ لَهَا بِالْأَحْكَامِ ، وَلَا كَذَلِكَ قَوَاعِدُ الْمَنْطِقِ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ يُتَوَصَّلُ إلَخْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ طَرِيقٌ إلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ لِنَفْسِهِ ، وَإِلَى أَنَّ غَايَتَهُ حُصُولُ غَيْرِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُلُومِ الْآلِيَّةِ كَمَا أَنَّ غَايَةَ الْعِلْمِ الْمَقْصُودِ حُصُولُ نَفْسِهِ قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَايَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ إذْ لَيْسَ مُسَمَّى الْغَايَةِ إلَّا مَا عَلِمْت ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ ، وَإِلَى وَحْدَةِ غَايَتِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْهُ هِيَ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ جَمْعٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعْرِيفِهِ ( عَنْ ) الْأَدِلَّةِ ( التَّفْصِيلِيَّةِ ) بَعْدَ قَوْلِهِمْ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ كَمَا هُوَ تَعْرِيفُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَصَاحِبِ الْبَدِيعِ وَغَيْرِهِمَا ( تَصْرِيحٌ بِلَازِمٍ ) ظَاهِرٍ لِلِاسْتِنْبَاطِ فَإِنَّ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ فَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا هُوَ دَاخِلٌ بِدُونِ ذِكْرِهِ إذْ لَمْ يُوجَدْ عِلْمٌ بِقَوَاعِدَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْإِجْمَالِيَّةِ حَتَّى يُحْتَرَزَ بِذِكْرِ التَّفْصِيلِيَّةِ عَنْهُ فَلَا ضَيْرَ فِي تَرْكِهِ بَلْ لَعَلَّ تَرَكَهُ أَدْخَلُ فِي بَابِ التَّحْقِيقِ فِي شَأْنِ الْحُدُودِ .
( وَإِخْرَاجُ ) عِلْمِ ( الْخِلَافِ ) عَنْ تَعْرِيفِ عِلْمِ الْأُصُولِ ( بِهِ ) أَيْ بِقَوْلِهِمْ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ كَمَا فِي الْبَدِيعِ فَإِنَّ قَوْلَ الْخِلَافِيِّ مَثَلًا ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَى السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَمْ

يُبَيِّنْهُ أَوْ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مَعَ الْمُنَافِي وَلَمْ يُبَيِّنْهُ تَمَسُّكٌ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ ( غَلَطٌ ) فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُقْتَضِي أَوْ الْمُنَافِي ، وَإِنْ أَجْمَلَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ فَيَقُولُ ثَبَتَ مَعَ الْمُقْتَضِي ، وَهُوَ كَذَا أَوْ مَعَ الْمُنَافِي ، وَهُوَ كَذَا وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ ، وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ دَعْوَى أَنَّ هُنَاكَ مُقْتَضِيًا أَوْ نَافِيًا .
مِثَالُهُ لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ الْمُعَلِّلُ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتَرْ فَلَيْسَ مِنِّي } كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ الشَّافِعِيُّ : الْوِتْرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ إذْ لَوْ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لَكَانَ مَعَ الْمُنَافِي بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا : وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ } فَيَحْتَاجُ الْمُعَلِّلُ إمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ يُرَجِّحَ حَدِيثَ الْحَاكِمِ بِأَنَّهُ قَوْلٌ ، وَالْقَوْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفِعْلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَذْكُرْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَّا دَلِيلًا تَفْصِيلِيًّا فَظَهَرَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ لَمْ يَقَعْ بِقَوْلِهِمْ عَنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ بَلْ إنَّمَا وَقَعَ بِمَا فِي الْحَدِّ مِنْ وَصْفِ الْقَوَاعِدِ بِكَوْنِهَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ ثُمَّ نَقُولُ اسْتِطْرَادًا : ( وَعَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ ( مَا

تَقَدَّمَ مِنْ ) تَعْرِيفِ ( الْفِقْهِ ) تَغْلِيبًا لِأَحَدِ جُزْأَيْهِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ مَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ إدْرَاكٌ ، وَهُوَ كَالْأَصْلِ فِي حُصُولِ الْمَلَكَةِ .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ كَابْنِ الْحَاجِبِ تَعْرِيفُ الْأُصُولِ بِالْعِلْمِ بِالْقَوَاعِدِ ، وَفَسَّرَهُ أَعْيَانٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَشَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ وَسَعْدِ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيِّ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمُطَابَقَةِ وَالْجَزْمِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمَا أَفَاضَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فَقَالَ ( وَجَعْلِ الْجِنْسَ ) فِي تَعْرِيفِ الْأُصُولِ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ ( الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ ) لِلْوَاقِعِ لِمُوجِبٍ احْتِرَازًا بِالْجَزْمِ عَنْ الظَّنِّ وَبِالْمُطَابَقَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَحَذَفُوا هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا لِلْعِلْمِ بِهِمَا ( مُشْكِلٌ بِقِصَّةِ الْمُخْطِئِ فِي ) عِلْمِ ( الْكَلَامِ ) فَإِنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَعْلِ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ الظَّنِّيِّ لِلْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ ، وَمِنْ الْإِدْرَاكِ الْقَطْعِيِّ لَهَا الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ لَكِنْ صَرَّحَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْمُخَالِفَ ، وَإِنْ خُطِّئَ سَوَاءٌ بُدِّعَ فِي اعْتِقَادِهِ ، وَفِيمَا يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي إثْبَاتِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ أَوْ كُفِّرَ كَالْمُجَسِّمَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَلَا عِلْمِهِ الَّذِي يَقْتَدِرُ مَعَهُ عَلَى إثْبَاتِ عَقَائِدِهِ الْبَاطِلَةِ وَلَا مَسَائِلِهِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ عِلْمُ الْكَلَامِ يُقَالُ لِمَا يُبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ لَهُ مَا يَصِيرُ مَعَهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً أَوْ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عِلْمُ الْمُخْطِئِ ؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهِ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْكَلَامِ ، وَهُوَ أَعْلَى الْعُلُومِ ، وَأَلْزَمُهَا قَطْعًا بِالْمَسَائِلِ فَفِي الْأُصُولِ أَوْلَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إدْرَاكَ الْمُخْطِئِ لَيْسَ مُطَابِقًا فِي كُلِّ عِلْمٍ

فَلَزِمَ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِي عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ لَفْظُ الْعِلْمِ جِنْسًا ، وَيُرَادُ بِهِ ذَلِكَ .
قُلْت : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْعُلُومِ إنَّمَا وُضِعَتْ بِإِزَاءِ مَا أَدَّى إلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهَا مِنْ التَّصْدِيقَاتِ أَوْ الْمَسَائِلِ طَابَقَتْ أَوْ لَمْ تُطَابِقْ ثُمَّ هَذَا بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِ غَيْرِ الْمُطَابِقِ هُنَا .
وَأَمَّا بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِ التَّصْدِيقِ الظَّنِّيِّ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَلِأَنَّا نَمْنَعُ اشْتِرَاطَهُ ) أَيْ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ ( فِي الْأُصُولِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : لِأَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الَّتِي هِيَ مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ مِمَّا يَكْفِي الظَّنُّ فِي أَنْ تُنْسَبَ إلَى مَوْضُوعَاتِهَا ، وَهِيَ الْكُلِّيَّاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى خُصُوصِيَّاتِ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ أَحْكَامُهَا كَالْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ يَجُوزُ وَالْمُشْتَرَكِ لَا يَعُمُّ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ الْجَارِيَاتُ عَلَى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ، وَخَبَرُ الْقَهْقَهَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
قُلْت : ثُمَّ هُنَا تَنْبِيهَاتٌ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنْ هَذَا الْمَنْعَ الثَّانِيَ الصَّرِيحَ الْمُتَسَلِّطَ عَلَى اشْتِرَاطِ جُمْلَةِ هَذَا الْمُرَكَّبِ التَّقْيِيدِيِّ إنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْجَزْمِ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْمَنْعَ الْأَوَّلَ بِالْقُوَّةِ إنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُطَابَقَةِ مِنْهُ وَلَا رَيْبَ فِي صِحَّةِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِجُمْلَةِ الْمُرَكَّبِ بِدُونِ وُجُودِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ .
ثَانِيهَا : إنْ قُلْت كَيْفَ يَسُوغُ هَذَا ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَمْنَعُ قُلْت لَيْسَ هَذَا بِالْمَنْعِ الْمَمْنُوعِ ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْمَنْعِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ خَلَلٍ فِي الْحَدِّ أَوْجَبَ عَدَمَ كَوْنِهِ جَامِعًا ، وَمِثْلُهُ لَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ .
ثَالِثُهَا : إنْ قُلْت إذَا كَانَ هَذَا الْإِدْرَاكُ الْخَاصُّ طَرِيقًا إلَى الْفِقْهِ ، وَمِنْهُ

مَا هُوَ ظَنٌّ لِقَاعِدَةٍ مَظْنُونَةٍ فِي نَفْسِهَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْخَاصُّ الْمُتَعَلَّقُ بِجُزْئِيَّاتِهَا ظَنًّا أَيْضًا ، وَأَنْ تَكُونَ جُزْئِيَّاتُ الْقَاعِدَةِ الْمَظْنُونَةِ مَظْنُونَةً أَيْضًا فَلَا يَتِمَّ كَوْنُ الْفِقْهِ التَّصْدِيقَ الْقَطْعِيَّ فَقَدْ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا بِمَا حَاصِلُهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ ، وَمَنَعَ تَمَامَ كَوْنِ الْفِقْهِ التَّصْدِيقَ الْقَطْعِيَّ اصْطِلَاحًا ، وَأَفَادَ أَنَّ ظَنَّ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ كَوُجُوبِ الْوِتْرِ وَحُرْمَةِ الْيَرَاعِ وَالشِّطْرَنْجِ وَاسْتِنَانِ الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ، وَمَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ مُتَعَلَّقَاتٌ لِلْفِقْهِ لَا مِنْ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِقْهِ لَيْسَتْ مِنْ ذَاتِهِ ثُمَّ إذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ اللَّازِمَ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِي تَعْرِيفِ عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ لَفْظُ الْعِلْمِ جِنْسًا وَيُرَادُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ ( فَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ ) أَيْ مَعْنَى الْعِلْمِ جِنْسًا فِي تَعْرِيفِ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ ( أَعَمَّ ) مِنْ الْجَازِمِ وَالْمُطَابِقِ قَالَ الْمُصَنِّفُ : هَذَا إنْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ الْجَزْمَ بِالْمَسَائِلِ وَلَمْ يَكْتَفِ فِيهِ بِالظَّنِّ ، وَإِنْ اكْتَفَى بِهِ فَأَحْرَى .
ثُمَّ إنَّ الْأُصُولَ لَيْسَتْ كَالْكَلَامِ فَإِنَّ بَعْضَ مَسَائِلِهِ ظَنِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَلِهَذَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ إلَى جَعْلِ الْجِنْسِ الْإِدْرَاكَ الْأَعَمَّ مِنْ الْيَقِينِ الْكَائِنِ فِي الْمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِيَّةِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الْكَائِنِ مِنْ الْمُخْطِئِ فِي خِلَافِيَّاتِهِ وَالظَّنِّ الْكَائِنِ فِي الظَّنِّيَّةِ مِنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَعَلَى الثَّانِي ) أَيْ وَيُقَالُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْمُدْرَكِ ( الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا ) إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ ، وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ حَتَّى لَوْ أُرِيدَ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِهَذَا

الِاعْتِبَارِ وَجَبَ ذِكْرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ ثُمَّ عَرَفْت أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْقَطْعُ وَلَا الْمُطَابَقَةُ ، وَأَنَّ وَصْفَهَا بِكَوْنِهَا يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا تَوَصُّلًا قَرِيبًا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ مُخْرِجٌ لِمَا عَدَاهَا ثُمَّ لَا بَأْسَ أَنْ يُقَالَ تَوْضِيحًا ( وَالْقَوَاعِدُ هُنَا ) أَيْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ ( مَعْلُومَاتٌ أَعْنِي الْمَفَاهِيمَ التَّصْدِيقِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ مِنْ نَحْوِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ ) وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَخَبَرِ الْوَاحِدُ يُفِيدُ الظَّنَّ لَا نَفْسَ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ .
( وَلِذَا ) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِلَفْظِ الْقَوَاعِدِ الْمَعْلُومَاتُ ( قُلْنَا ) يُتَوَصَّلُ ( بِمَعْرِفَتِهَا ) ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مَعْرُوفَةً مُدْرَكَةً ، وَإِلَّا كَانَ الْمَعْنَى يُتَوَصَّلُ بِعِلْمِ الْعِلْمِ كَذَا عَنْ الْمُصَنِّفِ يَعْنِي لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْإِدْرَاكَاتِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُدْرَكَةً لِلْإِدْرَاكِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي نَفْسِهَا إدْرَاكًا أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ .
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ شَخْصِيٌّ بَلْ التَّوَصُّلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بِمَعْرِفَتِهَا بَلْ بِرِعَايَتِهَا وَاسْتِعْمَالِ مُقْتَضَيَاتِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُدْرِكَاتٍ أَوْ إدْرَاكَاتٍ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا صَالِحَةً لِلتَّوَصُّلِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ الْآلَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِتَحْصِيلِ مَا وُضِعَتْ لِتَحْصِيلِهِ .
نَعَمْ الشَّائِعُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا هُوَ مُدْرَكٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهِ ، وَفِيمَا هُوَ إدْرَاكٌ فِي نَفْسِهِ يُتَوَصَّلُ بِهِ تَحَاشِيًا عَنْ صُورَةِ التَّكْرَارِ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ فِي ظَنِّي إنِّي كُنْت قَدْ سَأَلَتْ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ وَجْهِ تَخْصِيصِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْقَوَاعِدَ هُنَا مَعْلُومَاتٌ مَعَ أَنَّهَا فِي التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ فَأَجَابَنِي بِمَا مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ

لَيْسَ فِي كَوْنِهَا كَذَلِكَ هُنَاكَ لَبْسٌ وَاحْتِمَالٌ بِخِلَافِهَا هُنَا .
( وَمَعْنَاهَا ) أَيْ الْقَاعِدَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُرَادًا بِهَا الْمَعْلُومُ فَيَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ قَاعِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَاصَدَقَاتِهَا كَغَيْرِهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ تَضَمَّنَتْهَا ، وَالْمُقَيَّدُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُطْلَقِ ( كَالضَّابِطِ وَالْقَانُونِ وَالْأَصْلِ وَالْحَرْفِ ) أَيْ مِثْلَ مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ اصْطِلَاحًا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ لِمَعَانٍ غَيْرِ مَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لَهَا أَمَّا مَا عَدَا الْقَانُونَ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْقَانُونُ فَلِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لَفْظٌ سُرْيَانِيٌّ رُوِيَ أَنَّهُ اسْمُ الْمُسَطِّرِ بِلُغَتِهِمْ إمَّا مُسَطِّرُ الْكِتَابَةِ أَوْ الْجَدْوَلِ وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ الْمُتَرَادِفَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيهِ ( قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ كُبْرَى سَهْلَةُ الْحُصُولِ ) أَيْ لِقَضِيَّةٍ صُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ فَيَخْرُجُ الْفَرْعُ بِتَرْتِيبِهَا مَعَهَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا لِلْعِلْمِ بِهِ ثُمَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا يُقَالُ أَمْرٌ كُلِّيٌّ مُنْطَبِقٌ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ عِنْدَ تَعَرُّفِ أَحْكَامِهَا مِنْهُ فَإِذَنْ مَا فِي الْكِتَابِ أَجْلَى وَأَوْلَى ثُمَّ إنَّمَا وَصَفَ الْقَضِيَّةَ ، وَقَدَّمْنَا تَعْرِيفَهَا بِالْكُلِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْجُزْئِيَّةَ أَوْ الشَّخْصِيَّةَ لَا تُسَمَّى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَبِكَوْنِهَا كُبْرَى ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقِّقُ لِتَسْمِيَتِهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَبِكَوْنِ صُغْرَاهَا سَهْلَةَ الْحُصُولِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ حَمْلِ الْكُلِّيِّ عَلَى مَا هُوَ جُزْئِيٌّ لَهُ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى سَبَبِ سُهُولَتِهَا بِقَوْلِهِ ( لِانْتِظَامِهَا ) أَيْ لِكَوْنِ صُغْرَاهَا مُنْتَظِمَةً ( عَنْ ) أَمْرٍ ( مَحْسُوسٍ ) وَالْمُرَادُ بِالْفَرْعِ الَّذِي يَخْرُجُ بِجَعْلِهَا كُبْرَى لِتِلْكَ الصُّغْرَى مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ حُكْمُ ذَلِكَ الْجُزْئِيِّ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ الْكُلِّيَّ ثُمَّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( كَهَذَا نَهْيٌ ، وَأَمْرٌ ) إلَى

مِثَالَيْنِ لِلصُّغْرَى الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْأُصُولِ ، وَهُمَا أَنْ يُقَالَ مَثَلًا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } هَذَا أَوْ { لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } نَهْيٌ ، وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } هَذَا أَوْ { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أَمْرٌ إذْ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْ { لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } شَيْءٌ مَحْسُوسٌ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ الْقَاعِدَةَ الَّتِي هِيَ وَكُلُّ نَهْيٍ لِلتَّحْرِيمِ وَكُلُّ أَمْرٍ لَلْوُجُوبِ انْتَظَمَتْ مَعَهُ كُبْرَى ، وَخَرَجَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ الْفَرْعُ ، وَهُوَ { لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } لِلتَّحْرِيمِ { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } لِلْوُجُوبِ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَمِثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ قَوْلُنَا كُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الْمُوصَى بِهِ فَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَإِذَا وُجِدَ بَيْعٌ لِلْمُوصَى بِهِ انْتَظَمَتْ الصُّورَةُ السَّهْلَةُ الْمُسْنَدَةُ إلَى الْحِسِّ ، وَهُوَ قَوْلُنَا هَذَا تَصَرُّفٌ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الْمُوصَى بِهِ وَتُضَمُّ الْكُبْرَى هَكَذَا وَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الْمُوصَى بِهِ فَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَيَخْرُجُ الْفَرْعُ هَذَا رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ هُنَا تَنْبِيهٌ وَتَكْمِيلٌ فَالتَّنْبِيهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَعْرِيفَ الْفِقْهِ عَلَى اعْتِبَارِ وَضْعِهِ لِلْكَثْرَةِ الْمُدْرَكَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ التَّعَرُّضُ لِتَعْرِيفِهِ إلَّا لِوُقُوعِهِ جُزْءًا مِنْ تَعْرِيفِ الْأُصُولِ بِالْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ وَحَيْثُ عَرَّفَهُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ وَضْعِهِ لِلْكَثْرَةِ الْإِدْرَاكِيَّةِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِهِ ، وَأَنْتَ إذَا أَرَدْت تَعْرِيفَهُ بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ لِلْكَثْرَةِ الْمُدْرَكَةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْك مِمَّا تَقَدَّمَ فَعَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي سَلَكَهُ الْمُصَنِّفُ الْمَسَائِلُ الَّتِي مَوْضُوعَاتُهَا أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ ، وَمَحْمُولَاتُهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ مَعَ

مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَعَلَى سَبِيلِ مَنْ خَصَّصَهُ بِالظَّنِّ إبْدَالُ الْقَطْعِيَّةِ بِالظَّنِّيَّةِ ، وَعَلَى طَرِيقِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَهُ قَطْعِيًّا وَبَعْضَهُ ظَنِّيًّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا .
وَأَمَّا التَّكْمِيلُ فَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ كَمَا يُوضَعُ بِإِزَاءِ كُلٍّ مِنْ الْكَثْرَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَيُعَرَّفُ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوضَعُ بِإِزَاءِ الْمَلَكَةِ وَيُعَرَّفُ بِاعْتِبَارِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي شَرْحِ غَيْرِ مَا تَعْرِيفٍ بَلْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَفَاضِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعِلْمَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِدْرَاكِ مَجَازٌ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُدْرَكَةِ إطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، وَلَمْ يُجْعَلْ حَقِيقَةً فِيهَا تَرْجِيحًا لِلْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَكَذَا إطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الْمَلَكَةِ مَجَازٌ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ أَوْ بِالْعَكْسِ قَالَ : وَقَدْ يُقَالُ يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمَلَكَةُ أَوْ الْقَوَاعِدُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِقَرِينَةٍ ، وَهَذَا آيَةُ النَّقْلِ فَلَفْظُ الْعِلْمِ فِيهِمَا حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ وَاصْطِلَاحِيَّةٌ ا هـ .
وَعَلَى هَذَا فَتَعْرِيفُهُمَا عَلَى مِنْهَاجِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَالَ : الْأُصُولُ الْمَلَكَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ هَذَا إنْ أُرِيدَ بِالْفِقْهِ إحْدَى الْكَثْرَتَيْنِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَلَكَةُ قِيلَ إلَى حُصُولِ الْفِقْهِ أَوْ إلَى الْفِقْهِ ، وَالْفِقْهُ الْمَلَكَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى التَّصْدِيقِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ وَلِاسْتِنْبَاطٍ .
( وَهَذَا ) التَّعْرِيفُ ( اسْمِيٌّ ) وَكَذَا مَا تَقَدَّمَهُ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا خَصَّصَهُ لِقُرْبِهِ وَظُهُورِ جَرَيَانِ هَذَا فِيمَا قَبْلَهُ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حُدُودًا اسْمِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا تَعْرِيفُ مَفْهُومِ الِاسْمِ ، وَمَا تَعَقَّلَهُ الْوَاضِعُ فَوَضَعَ الِاسْمَ بِإِزَائِهِ ، وَهُوَ بِهَذَا

الِاعْتِبَارِ اسْمِيٌّ أَلْبَتَّةَ ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ مَا الَّتِي لِطَلَبِ مَفْهُومِ الِاسْمِ ، وَمُتَعَقِّلُ الْوَاضِعِ ، وَهُوَ هُنَا لِإِفَادَةِ مَا وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهِ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ إجْمَالًا ، وَمِنْ ثَمَّةَ تَعَدَّدَ فِي الْمَعْنَى كَمَا فِي اللَّفْظِ وَلَوْ كَانَ حَدًّا ذَاتِيًّا تَامًّا لَمْ يَتَعَدَّدْ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ لَهُ حَدَّانِ ذَاتِيَّانِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعِبَارَةِ بِأَنْ يَذْكُرَ بَعْضَ الذَّاتِيَّاتِ بِالْمُطَابَقَةِ تَارَةً وَبِالتَّضَمُّنِ أُخْرَى بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ جَائِزُ التَّعَدُّدِ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَعَقِّلُ الْوَاضِعِ نَفْسَ الْحَقِيقَةِ فَيَتَحَدَّ التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ وَالْحَقِيقِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ يَكُونُ اسْمِيًّا وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقِيًّا .
مَثَلًا : تَعْرِيفُ الْمُثَلَّثِ فِي مَبَادِئِ الْهَنْدَسَةِ بِشَكْلٍ يُحِيطُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَضْلَاعٍ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ وَبَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهِ بِالْبُرْهَانِ الْهَنْدَسِيِّ يَصِيرُ هُوَ بِعَيْنِهِ تَعْرِيفًا حَقِيقِيًّا فَلَا جَرَمَ أَنْ يُقَالَ ( وَلَا يُنَافِي ) التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ التَّعْرِيفَ ( الْحَقِيقِيَّ ) ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافٌ صَرِيحُ فِي جَوَازِ وُجُودِ الْحَقِيقِيِّ وَغَيْرِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ حَيْثُ هُمَا وَلَا فِي جَوَازِ كَوْنِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي جَوَازِ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ : ( وَاخْتُلِفَ فِيهِ ) أَيْ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ حَيْثُ إنَّهُ هَلْ يَكُونُ ( مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ ) فِي الْعِلْمِ ( وَلَا خِلَافَ فِي خِلَافِهِ كَمَا قِيلَ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي خِلَافِ الْحَقِيقِيِّ الْمَذْكُورِ مُقَدِّمَةٌ لِلشُّرُوعِ ، وَهُوَ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ مُقَدِّمَةً لَهُ فَإِنَّهُ جَائِزًا لِوُجُودٍ بِلَا خِلَافٍ عَلَى مَا قِيلَ ( لِإِمْكَانِ تَصَوُّرِ مَا

تَتَّصِفُ بِهِ ) النَّفْسُ مِنْ تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ وَلَمَّا كَانَ تَصَوُّرُ التَّصْدِيقِ الَّذِي اتَّصَفَتْ بِهِ النَّفْسُ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ إذْ لَا خَفَاءَ فِي إمْكَانِ تَصَوُّرِ النِّسْبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَاَلَّتِي لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ التَّصَوُّرِ إذْ قَدْ يُسْتَبْعَدُ تَصَوُّرُهُ بِوَاسِطَةِ أَنَّ حُصُولَ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ هُوَ تَصَوُّرُهُ خَصَّهُ بِإِزَالَةِ الْوَهْمِ فَقَالَ ( وَلَوْ ) كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ ( تَصَوُّرًا إذْ الْحُصُولُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ ) أَيْ تَصَوُّرُ الْحَاصِلِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ نَفْسَ تَصَوُّرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَدَّ تَصَوُّرُ ذَاتِ الْمَحْدُودِ إجْمَالًا وَغَايَةُ حَادِّ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِالْعِلْمِ بِجَمِيعِ مَسَائِلِهِ ، وَالِاتِّصَافُ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَهُ كَالشُّجَاعِ مُتَّصِفٌ بِالشُّجَاعَةِ ، وَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ الْعَالِمِ بِالْمَسَائِلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّصَوُّرَاتِ تَصَوُّرٌ لَهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَيَكُونُ تَصَوُّرًا مُتَعَلَّقًا بِتَصَوُّرٍ حَاصِلٍ لِيَصِيرَ مُتَصَوَّرًا إجْمَالًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ ، وَإِنْ عَلِمَ الْمَسَائِلَ تَفْصِيلًا لَا يَصِيرُ عَالِمًا دَائِمًا بِتَفْصِيلِهَا فِي مَشَاهِدِ النَّفْسِ فَإِنَّ النَّفْسَ لِبَسَاطَتِهَا لَا تُدْرِكُ الْمُتَعَدِّدَ التَّفْصِيلِيَّ إلَّا عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَإِذَا تَمَّ كَذَلِكَ صَارَ عِنْدَهَا صُورَةٌ إجْمَالِيَّةٌ مِنْهُ حَاصِلَةٌ فَصَحَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا تَصَوُّرٌ لَهَا ا هـ .
فَظَهَرَ أَنَّ التَّصَوُّرَ لَا حَجْرَ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّصَوُّرِ ، وَعَدَمِ التَّصَوُّرِ ثُمَّ كَمَا أَنَّ الْحُصُولَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّصَوُّرَ كَذَلِكَ التَّصَوُّرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُصُولَ وَالْحَاصِلُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ لِلْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ أَنَّ ارْتِسَامَ مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ تَرْتَسِمَ فِيهَا بِنَفْسِهَا فِي ضِمْنِ جُزْئِيَّاتِهَا وَذَلِكَ

حُصُولُهَا وَلَيْسَ تَصَوُّرُهَا وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ عَلَى قِيَاسِ حُصُولِ الشَّجَاعَةِ لِلنَّفْسِ الْمُوجِبَةِ لِاتِّصَافِهَا بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَصَوَّرَهَا وَالثَّانِي أَنْ تَرْتَسِمَ فِيهَا بِمِثَالِهَا وَصُورَتِهَا ، وَهَذَا هُوَ تَصَوُّرُهَا لَا حُصُولُهَا عَلَى قِيَاسِ تَصَوُّرِ الشَّجَاعَةِ الَّتِي لَا تُوجِبُ اتِّصَافَ النَّفْسِ بِهَا ثُمَّ أَفَاضَ فِي بَيَانِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فَقَالَ ( فَقِيلَ لَا ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقِيقِيُّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ ( لِأَنَّ الْكَثْرَةَ ) الْخَاصَّةَ الْإِدْرَاكِيَّةَ أَوْ الْمُدْرَكِيَّةَ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ ، وَقَدْ وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهَا لَهَا جِهَةُ وَحْدَةٍ اعْتِبَارِيَّةٍ هِيَ وَحْدَةُ الْغَايَةِ أَوْ الْمَوْضُوعِ كَمَا سَلَفَ .
وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ ( بِتِلْكَ الْوَحْدَةِ ) الِاعْتِبَارِيَّةِ ( لَا تَصِيرُ نَوْعًا حَقِيقِيًّا ) ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ يَكُونُ بِذِكْرِ الذَّاتِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ الْجِنْسُ الْكُلِّيُّ لِلْمَحْدُودِ وَالْمُمَيَّزُ الْكُلِّيُّ الدَّاخِلُ ، وَهُوَ الْفَصْلُ وَجِهَةُ الْوَحْدَةِ الْمَأْخُوذَةُ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ إنَّمَا هِيَ عَارِضَةٌ مِنْ عَوَارِضِ تِلْكَ الْكَثْرَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْمُنْتَزَعُ مِنْ تِلْكَ الْكَثْرَةِ جِنْسًا وَفَصْلًا حَقِيقِيَّيْنِ فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ حَدًّا حَقِيقِيًّا بَلْ رَسْمًا وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَمُقْتَضَى هَذَا ) التَّعْلِيلِ ( نَفْيُهُ مُطْلَقًا ) أَيْ نَفْيُ وُجُودِ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ وَغَيْرَ مُقَدِّمَةٍ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَفِيهِ الْخِلَافُ أَيْضًا ) .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ نَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ الدَّلِيلَ أَعَمُّ مِنْ الدَّعْوَى فَلَوْ صَحَّ لَبَطَلَ مَا الْمُبْطِلُ مُعْتَرَفٌ بِصِحَّتِهِ ، وَهُوَ جَوَازُ وُجُودِ الْحَقِيقِيِّ فِي حَدِّ ذَاتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَ مَنْعَ الْجَوَازِ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ ( بِسَرْدِ الْعَقْلِ كُلَّ الْمَسَائِلِ ) أَيْ بِتَصَوُّرِ جَمِيعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْمَحْدُودِ أَوْ

بِتَصَوُّرِ جَمِيعِ التَّصْدِيقَاتِ الْمُتَعَلَّقَةِ بِهَا لِمَا عَرَفْت أَنَّ حَقِيقَةَ كُلِّ عِلْمٍ مَسَائِلُهُ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْمَعْلُومَاتِ أَوْ التَّصْدِيقُ بِمَسَائِلِهِ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ ( وَلَيْسَ ) الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ ( حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ إذْ كَانَ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرْنَا ( الْمُقَدِّمَةَ ) لِلشُّرُوعِ فِي الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ حِينَئِذٍ بِمَعْرِفَتِهَا نَفْسِهَا ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ نَفْسِهِ لَا مُقَدِّمَةَ الشُّرُوعِ فِيهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ حَقِيقِيٌّ هُوَ مُقَدِّمَةُ الشُّرُوعِ فِيهِ ( وَقِيلَ نَعَمْ ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ ( لِأَنَّ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ مُتَعَلَّقَاتِهَا ) أَيْ مُتَعَلَّقَاتِ الْإِدْرَاكَاتِ الَّتِي كُلٌّ مِنْهُمَا نَفْسُ الْعِلْمِ عَلَى تَقْدِيرِ وَضْعِ اسْمِ الْعِلْمِ بِإِزَائِهِ ( كَالْمَادَّةِ ) لِمُسَمَّى الْعِلْمِ فَيَنْتَزِعُ الْعَقْلُ مِنْهَا وَاحِدًا كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَ سَائِرِ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ مُتَعَلَّقَاتِهَا ( وَوَحْدَتِهَا ) أَيْ وَحْدَةِ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ مُتَعَلَّقَاتِهَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ، وَهِيَ وَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ ( الدَّاخِلَةُ ) فِي مُسَمَّى الْعِلْمِ اصْطِلَاحًا ( كَالصُّورَةِ ) لِمُسَمَّى الْعِلْمِ فَيَنْتَزِعُ الْعَقْلُ مِنْهَا كُلِّيًّا خَاصًّا بِذَلِكَ الْمُسَمَّى ( فَيَنْتَظِمُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ مُتَعَلَّقَاتِهَا ، وَمِنْ وَحْدَتِهَا ( جِنْسًا ، وَفَصْلًا ) بِأَنْ يَكُونَ مَا هُوَ كَالْمَادَّةِ جِنْسًا قَرِيبًا ، وَمَا هُوَ كَالصُّورَةِ فَصْلًا قَرِيبًا فَيَتَحَقَّقُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ ( مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ) فِي انْتِظَامِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمَا حَدًّا حَقِيقِيًّا ( إلَى سَرْدِ الْكُلِّ ) أَيْ إلَى تَصَوُّرِ كُلِّ الْمَسَائِلِ أَوْ تَصَوُّرِ كُلِّ التَّصْدِيقَاتِ بِهَا عَلَى التَّقْدِيرِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ تَحَقُّقُهُ بِهَذَا الْوَجْهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ فِي الْعِلْمِ قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَانْدَفَعَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ،

وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَضَمَّنَ دَفْعَ الثَّانِيَ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ حَدُّ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِأَمْرَيْنِ كُلِّيَّيْنِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ بِمَعْرِفَةِ عَيْنِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً ؛ وَلِأَنَّ تِلْكَ جُزْئِيَّاتٌ ، وَالتَّعْرِيفُ لَيْسَ بِهَا بَلْ بِالْمُنْتَزَعِ الْكُلِّيِّ مِنْهَا كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ الْمُنْتَزَعِ مِنْ زَيْدٍ ا هـ .
وَفِي انْدِفَاعِ الْأَوَّلِ بِمَا سَبَقَ مَا لَا يَخْفَى بَلْ الْوَجْهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ مُطْلَقًا ) أَيْ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ ( ذَاتِيًّا لِمَا تَحْتَهُ ) أَيْ جِنْسًا لِلْأَنْوَاعِ الَّتِي هِيَ الْيَقِينُ وَالظَّنُّ وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ ( وَالْعِلْمُ الْمَحْدُودُ لَيْسَ إلَّا صِنْفًا ) مِنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ ؛ لِأَنَّ وَاضِعَ الْعِلْمِ لَمَّا لَاحَظَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ لَهُ فَوَجَدَهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ شَيْءٍ أَوْ أَشْيَاءَ مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ وَضَعَهُ لِيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ فَقَدْ قَيَّدَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ الْعِلْمِ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ فَصَارَ صِنْفًا ، وَقِيلَ لِلْوَاضِعِ صَنَّفَ الْعِلْمَ أَيْ جَعَلَهُ صِنْفًا فَالْوَاضِعُ لِلْعِلْمِ أَوْلَى بِاسْمِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ ، وَإِنْ صَحَّ أَيْضًا فِيهِمْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فَحِينَئِذٍ ( لَمْ يَبْعُدْ كَوْنُهُ ) أَيْ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ وُجُودِ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ الَّذِي هُوَ فَرْعُ وُجُودِهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ خِلَافًا ( لَفْظِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى ) اخْتِلَافِ ( الِاصْطِلَاحِ فِي مُسَمَّى ) الْحَدِّ ( الْحَقِيقِيِّ أَهُوَ ذَاتِيَّاتُ ) الْمَاهِيَّةِ ( الْحَقِيقِيَّةِ ) ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ ( أَوْ مُطْلَقًا ) أَيْ أَوْ هُوَ الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْأَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَاتِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ ذَاتِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ الِاعْتِبَارِيَّةِ ، وَهِيَ الْكَائِنَةُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا اعْتَبَرَ الْوَاضِعُ عِدَّةَ أُمُورٍ فَوَضَعَ بِإِزَائِهَا

أَسْمَاءً فَمَنْ اصْطَلَحَ عَلَى الْأَوَّلِ نَفَى وُجُودَ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ لِشَيْءٍ مِنْ الْعُلُومِ ؛ لِأَنَّ الْعُلُومَ الْمَحْدُودَةَ كُلَّهَا لَيْسَتْ إلَّا مَاهِيَّاتٍ اعْتِبَارِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةٍ مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ هِيَ عُلُومٌ أَوْ ظُنُونٌ أَوْ مِنْهَا ، وَمِنْهَا مُتَعَلَّقَةٌ بِأَشْيَاءَ كَمَا ذَكَرْنَا فَمُيِّزَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ بِنِسْبَتِهَا إلَى مُتَعَلَّقٍ خَاصٍّ فَعُدَّتْ عِلْمًا عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ كُلُّ عِلْمٍ طَائِفَةً مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ الْجُزْئِيَّةِ اُنْتُزِعَ مِنْهَا كُلِّيٌّ عَامٌّ كَالْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَنَحْوِهِ ، وَقُيِّدَتْ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ هُوَ جِهَةُ الْغَايَةِ ، وَالْمَوْضُوعُ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ الْمُنْتَزَعِ مِنْهَا وَالصِّنْفُ هُوَ النَّوْعُ الْمُقَيَّدُ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ فَهُوَ إذَنْ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ ؛ لِأَنَّ مَاهِيَّتَهُ لَيْسَتْ بِحَقِيقِيَّةٍ بَلْ اعْتِبَارِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ دَاخِلٌ وَخَارِجٌ جَعَلَ جُزْأَهُ بِخِلَافِ النَّوْعِ ، وَإِذَا انْتَفَى وُجُودُ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ انْتَفَى كَوْنُهُ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ .
وَمَنْ اصْطَلَحَ عَلَى الثَّانِي جَوَّزَ وُجُودَ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ لِلْعُلُومِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ جَوَازُ وُجُودِهِ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ ، وَالتَّعَالِيلُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ وَلَوْ ، وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ أَوْ مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ إذْ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى نَفْيِ وُجُودِهِ مُطْلَقًا ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ وُجُودِهِ مُطْلَقًا وَلَا بُعْدَ حِينَئِذٍ فِي أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ مُطْلَقًا ذَاتِيٌّ لِمَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ لَا عَارِضَ لَهَا هُوَ الظَّاهِرُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَفْهُومَهُ مُعْتَبَرٌ فِيمَا

تَحْتَهُ مِنْهَا يَقِينًا وَظَنًّا وَغَيْرُهُمَا لَا يَزِيدُ كُلٌّ مِنْهَا عَلَيْهِ إلَّا بِمَا يَنْضَمُّ إلَيْهِ فَيَصِيرُ بِهِ نَوْعًا فَانْدَفَعَ مَنْعُ كَوْنِهِ ذَاتِيًّا لِمَا تَحْتَهُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ لِلْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ انْقِسَامُ الْعِلْمِ إلَّا مَا ذَكَرْتُمْ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالْكَيْفِيَّاتُ لَا تَقْبَلُ التَّقْسِيمَ وَلَا يُبْحَثُ عَنْهَا بِكَمٍّ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : التَّقْسِيمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهَا تَقْسِيمُ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ ، وَمُطْلَقُ الْعِلْمِ كُلِّيٌّ مَعْقُولٌ ، وَمَا تَحْتَهُ مِنْ الْمَعَانِي هِيَ جُزْئِيَّاتٌ لَهُ ، وَلَا رَيْبَ فِي صِحَّةِ قِسْمَةِ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ فَيَجُوزُ السُّؤَالُ عَنْ عَدَدِ جُزْئِيَّاتِ مُطْلَقِ الْعِلْمِ وَانْقِسَامِهِ إلَيْهَا وَحَمْلُهُ بِالْمُوَاطَأَةِ عَلَيْهَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

الْأَمْرُ ( الثَّانِي ) مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي مُقَدِّمَةُ هَذَا الْكِتَابِ عِبَارَةٌ عَنْهَا فِي بَيَانِ مَوْضُوعِهِ ( مَوْضُوعُهُ ) أَيْ أُصُولِ الْفِقْهِ ( الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْكُلِّيُّ ) فَالدَّلِيلُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى ، وَالسَّمْعِيُّ مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ كَذَلِكَ بِالشَّرْعِ فَصَدَقَ عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِسَمْعِيٍّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ سَوَاءٌ كَانَ عَقْلِيًّا صِرْفًا أَوْ حِسِّيًّا مَحْضًا أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَالْكُلِّيُّ سَيَأْتِي مَعْنَاهُ أَيْضًا ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْجُزْئِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَوْضُوعَ هَذَا الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَعْرَاضِهِ أَوْ أَنْوَاعِهَا يَكُونُ مَوْضُوعًا لِمَسَائِلِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يَسْتَقِيمُ وَصْفُ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ بِهِ ، وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ مَوْجُودٌ فِيهِ قُلْت الْكُلِّيُّ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ هُوَ الْعَقْلِيُّ وَالْمَنْطِقِيُّ ، وَهَذَا الْكُلِّيُّ لَيْسَ بِأَحَدِهِمَا ، وَإِنَّمَا هُوَ كُلِّيٌّ طَبِيعِيٌّ ، وَهُوَ مِمَّا قَدْ يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ عَلَى مَا عُرِفَ ثُمَّ لَيْسَ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ بَلْ ( مِنْ حَيْثُ يُوصِلُ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ ) أَيْ الدَّلِيلُ ( إلَى قُدْرَةِ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ ) الشَّرْعِيَّةِ ( لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ) الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ ، وَإِنَّمَا طَوَى ذِكْرَهُمَا لِلْعِلْمِ بِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ ( أَخْذًا مِنْ شَخْصِيَّاتِهِ ) أَيْ حَالَ كَوْنِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مَأْخُوذًا أَيْ مُنْتَزَعًا مِنْ مَاصَدَقَاتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مَوْضُوعَ هَذَا الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ كُلِّ عِلْمٍ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَعْرَاضِهِ اللَّاحِقَةِ لِذَاتِهِ أَوْ مُسَاوِيهِ ، وَالْعَارِضُ هُنَا الْخَارِجُ الْمَحْمُولُ ، وَقَدْ يَتَجَوَّزُ فِي التَّمْثِيلِ بِمَبْدَئِهِ ، وَالذَّاتِيُّ مِنْهُ مَا عُرُوضُهُ بِلَا وَاسِطَةٍ فِي الثُّبُوتِ فِي نَفْسِ

الْأَمْرِ ، وَإِنْ اسْتَدْعَى وَسَطًا فِي التَّصْدِيقِ لِخَفَاءِ ذَلِكَ اللُّزُومِ لَا مَا مَنْشَؤُهُ الذَّاتُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ ، وَمَشَى عَلَيْهِ فِي التَّلْوِيحِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ، وَإِلَّا لَمَا بَحَثُوا عَنْ وُجُودِ النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ فِي الْإِلَهِيِّ إذْ لَيْسَ هُوَ مُقْتَضِي ذَوَاتِهَا ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ السَّبْعَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَالْمُرَادُ بِالْمُسَاوِي أَعَمُّ مِنْ الْمُسَاوِي فِي الصِّدْقِ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَوْ فِي الْوُجُودِ حَتَّى إنَّ مَا يُعْرَضُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَايِنِ الْمُسَاوِي فِي الْوُجُودِ يَثْبُتُ بِوُجُودِ الْجِسْمِ لِلْجِسْمِ يُبْحَثُ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ حَتَّى أَنَّهُ يُبْحَثُ عَنْ الْأَلْوَانِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي مَوْضُوعُهُ الْجِسْمُ الطَّبِيعِيُّ ، وَعُرُوضُهُ لِلْجِسْمِ بِوَاسِطَةِ السَّطْحِ فَلَيْسَ الْجِسْمُ أَبْيَضَ إلَّا لِأَنَّ السَّطْحَ أَبْيَضُ ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْجِسْمِ بِسَطْحٍ فَإِنْ قِيلَ كَوْنُ الذَّاتِيِّ لَازِمًا لِلذَّاتِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ مَعَهَا ذِهْنًا ، وَإِذَا ثَبَتَ حَيْثُ ثَبَتَ فَلَا بَحْثَ ؟ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّازِمَ مِنْ اللُّزُومِ ثُبُوتُهُ مَعَهُ صُورَةً مَعَ صُورَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْرَكًا إذْ حُصُولُ الشَّيْءِ ذِهْنًا لَا يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَهُ وَالْمُرَادُ مِنْ الْبَحْثِ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ لَهُ صَادِقًا عَلَيْهِ لُزُومًا ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ ثُبُوتِهِ مَعَهُ حَتَّى إنَّ مَا مِنْ اللُّزُومِ يَكْفِي فِي الْحُكْمِ بِهِ تَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ أَوْ الْمَلْزُومِ مَعَ اللَّازِمِ ، وَهُمَا الْبَيْنُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ وَالْبَيْنُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَبْحُوثًا عَنْهُ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي اللَّوَازِمِ الْعَقْلِيَّةِ كَمُسَاوَاةِ الْمُثَلَّثِ لِقَائِمَتَيْنِ فَفِي الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى ا هـ .
وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْكُلِّيُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَعْرَاضِهِ اللَّاحِقَةِ لِذَاتِهِ ، وَهِيَ كَوْنُهُ مُثَبِّتًا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ اللَّازِمُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ لَفْظًا

لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ أَنْ يُقَيَّدَ بِالْحَيْثِيَّةِ الَّتِي يَقَعُ الْبَحْثُ عَنْ أَعْرَاضِهِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ جِهَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ غَايَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ شَيْءٍ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ قَيَّدَهُ بِهَا ، وَقَدْ انْدَفَعَ بِقَوْلِهِ إلَى قُدْرَةِ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ عَلَى قَوْلِهِمْ إلَى إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَوْضُوعُ الْأُصُولِ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ حَيْثُ إثْبَاتُهَا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَانَتْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةُ قَيْدًا لِلْمَوْضُوعِ فَتَكُونُ جُزْءًا مِنْهُ .
وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَقَدُّمُهَا عَلَى نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُبْحَثُ عَنْهَا فِي هَذَا الْعِلْمِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مَا بِهِ يَعْرِضُ الشَّيْءَ لِلشَّيْءِ لَا بُدَّ ، وَأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْعَارِضِ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ مَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَعْرَاضِهِ الْمَذْكُورَةِ لَا عَنْهُ وَلَا عَنْ أَجْزَائِهِ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَيْثِيَّةَ هُنَا لَيْسَتْ نَفْسَ الْإِثْبَاتِ بَلْ إمْكَانُهُ ، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِيهِ وَذَهَبَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ إلَى أَنَّهَا بَيَانُ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِيهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ أَعْرَاضٌ مُتَنَوِّعَةٌ ، وَإِنَّمَا يُبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ نَوْعٍ مِنْهَا فَالْحَيْثِيَّةُ لِبَيَانِ ذَلِكَ النَّوْعِ لَا قَيْدٌ لِلْمَوْضُوعِ ( وَبِالْفِعْلِ فِي الْمَسَائِلِ ) أَيْ وَالْمَوْضُوعُ بِالْفِعْلِ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْعِلْمِ ( أَنْوَاعُهُ ) أَيْ الدَّلِيلُ الْكُلِّيُّ السَّمْعِيُّ نَحْوَ الْكِتَابِ يُفِيدُ الْحُكْمَ قَطْعًا إذَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً .
وَقَدْ وَقَعَ فِي التَّلْوِيحِ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ عَلَى مَوْضُوعِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ سَهْوٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى الْبَدِيعِ ، وَقَالَ فِيهِ الدَّالُّ عَلَى الْمَوْضُوعِ إذَا أَفَادَ مُسَمًّى كُلِّيًّا فَالْمَوْضُوعُ هُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ وَالْحَمْلُ فِي الْمَسَائِلِ قَلَّمَا يَقَعُ

عَلَيْهِ نَفْسُهُ بَلْ كَمَا أَفَادَنِي الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَالَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ أَنَّ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ لَا يَكُونُ مَوْضُوعًا فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ إلَّا إذَا قُلْنَا إنَّ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْكَلَامِ ذَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ا هـ .
يَعْنِي كَمَا هُوَ قَوْلُ الْقَاضِي الْأُرْمَوِيِّ ، وَقَدْ نَظَرَ فِيهِ فِي الْمَوَاقِفِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا يُعْرَفُ ثَمَّةَ .
( وَأَعْرَاضُهُ ) أَيْ الدَّلِيلِ الذَّاتِيَّةُ كَالْعَامِّ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ( وَأَنْوَاعُهَا ) أَيْ الْأَعْرَاضُ الذَّاتِيَّةُ كَالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ حُجَّةً ظَنِّيَّةً فِي الْبَاقِي ( فَالْمُرَادُ بِالْأَحْوَالِ ) الْمَذْكُورَةِ لِلدَّلِيلِ ( مَا يَرْجِعُ إلَى الْإِثْبَاتِ ) أَيْ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ بِالْآخِرَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ عَرَضٌ ( ذَاتِيٌّ لِلدَّلِيلِ ) ؛ لِأَنَّ عُرُوضَ الْإِثْبَاتِ لِلدَّلِيلِ بِلَا وَاسِطَةٍ فِي ثُبُوتِهِ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِثُبُوتِهِ لَهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ ( وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الْإِثْبَاتَ بِعَيْنِهِ ) فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْعِلْمِ بَلْ مَا بِهِ الْإِثْبَاتُ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرَ ضَائِرٍ ( وَنَظِيرُهُ ) أَيْ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَحْمُولَ فِيهِ لَيْسَ الْغَرَضَ الذَّاتِيَّ لِلْمَعْرُوضِ الَّذِي هُوَ الْمَوْضُوعُ بَلْ إنَّمَا هُوَ مَا بِهِ لُحُوقُهُ لِلْمَعْرُوضِ مَا تَقَرَّرَ ( فِي الْمَنْطِقِ ) مِنْ أَنَّ الْإِيصَالَ إلَى مَجْهُولٍ عَقْلِيٍّ تَصَوُّرِيٍّ أَوْ تَصْدِيقِيٍّ عَارِضٌ ذَاتِيٌّ لِلْمَعْلُومَاتِ التَّصَوُّرِيَّةِ والتصديقية الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ الْمَنْطِقِ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ إيصَالِهَا إلَى ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ ( لَا مَسْأَلَةَ ) مِنْ مَسَائِلِ الْمَنْطِقِ ( مَحْمُولُهَا الْإِيصَالُ ) نَفْسُهُ ، وَإِنَّمَا مَحْمُولُ مَسَائِلِهِ مَا بِهِ الْإِيصَالُ .
( وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ ) الْعَقْلِيِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( خُرُوجُ ) الْبَحْثِ عَنْ ( عُنْوَانِ الْمَوْضُوعِ ) أَيْ وَصْفِهِ الْكَائِنِ بِهِ

مَوْضُوعًا مِنْ مَبَاحِثِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى الْبَدِيعِ : إنْ أَفَادَ الدَّالُّ عَلَى الْمَوْضُوعِ عُنْوَانًا خَارِجًا فَإِنَّمَا يُبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَمَّا صَدَقَ عَلَيْهِ إذَا وُجِدَ مُتَّصِفًا بِهِ إذْ الْمَوْضُوعُ هُوَ الْمُقَيِّدُ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْمُقَيِّدُ لَمْ يُوجَدْ فَإِذَا وُجِدَ مَعَ قَيْدِهِ بُحِثَ حِينَئِذٍ عَنْ أَحْوَالٍ لَهُ أُخْرَى غَيْرِ الْقَيْدِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ يَسْتَدْعِي جَهَالَةَ ثُبُوتِهِ لَهُ فَإِذَا بُحِثَ عَنْ عُنْوَانِهِ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ مُعَرِّفُهُ لِبَحْثٍ فِيمَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ أَوْ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ مَوْضُوعِيَّتُهُ فَظَهَرَ أَنَّ عَدَمَ الْبَحْثِ يَتَحَقَّقُ مَعَ اعْتِبَارِ الْحَالَةِ قَيْدًا خَارِجًا غَيْرَ مُتَوَقَّفٍ عَلَى اعْتِبَارِهَا جُزْءًا مِنْ الْمَوْضُوعِ فَإِذَا قُلْنَا مَوْضُوعُ الْإِلَهِيِّ الْمَوْجُودِ فَالْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ غَيْرِ الْوُجُودِ .
وَحِينَئِذٍ إذَا قُلْنَا مَوْضُوعُ الْأُصُولِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْحَثَ عَنْ حُجِّيَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ حُجَّةٌ هُوَ كَوْنُهُ دَلِيلًا ، وَهُوَ وَصْفُ الْمَوْضُوعِ الْعُنْوَانِيِّ بَلْ إنَّمَا يُبْحَثُ فِيمَا تَحَقَّقَ بِاسْمِ الْحُجَّةِ عَنْ أَحْوَالٍ أُخَرَ مِنْ كَوْنِهِ مُفِيدًا لِكَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ مُقَدَّمًا عَلَى كَذَا عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْ مُؤَخَّرًا ( فَالْبَحْثُ عَنْ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ لَيْسَ مِنْهُ ) أَيْ عِلْمِ الْأُصُولِ ( بَلْ ) الْبَحْثُ عَنْ حُجِّيَّةِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ ( مِنْ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَاتِهَا أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِجْمَاعِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ ، وَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ فِعْلٌ لِلْمُجْتَهِدِ كَمَا سَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا ( وَمَحْمُولَاتُهَا ) الَّتِي هِيَ حُجَّةُ ( الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إذْ مَعْنَى ) قَوْلِنَا أَنَّ أَحَدَ هَذِهِ ( حُجَّةٌ ) أَنَّهُ ( يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ ) وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، وَهَذَا هُوَ

الْمَوْعُودُ بِذِكْرِهِ قُبَيْلَ الْمُقَدِّمَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ لَا أَصْلِيَّةٌ إنَّمَا يَتَأَتَّى ( فِي الْقِيَاسِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ فِعْلِ الْمُجْتَهِدِ ) كَمَا هُوَ ظَاهِرُ أَكْثَرِ عِبَارَاتِهِمْ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي ( أَمَّا عَلَى أَنَّهُ الْمُسَاوَاةُ الْكَائِنَةُ ) فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ الْحَاصِلِ ( عَنْ تَسْوِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْعِلَّةِ ) الْمُثِيرَةِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
( فَلَيْسَتْ ) الْقَضِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ الَّتِي هِيَ الْقِيَاسُ حُجَّةً ( مَسْأَلَةً ) أَصْلًا تَعْوِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اصْطِلَاحًا حُكْمٌ خَبَرِيٌّ نَظَرِيٌّ أَوْ حُكْمٌ نَظَرِيٌّ مِنْ الْعُلُومِ الْمَوْضُوعَةِ ( لِأَنَّهَا ) أَيْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ حِينَئِذٍ ( ضَرُورِيَّةٌ دِينِيَّةٌ ) بِمَعْنَى أَنَّهُ مَتَى عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى الْقِيَاسِ الْمُسَاوَاةُ الْمَذْكُورَةُ قَطْعٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ بِأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ ، وَتَوَقُّفُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الِاسْمِ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الضَّرُورَةَ الْمَذْكُورَةَ لَكِنْ عَلَى هَذَا لَا تَكُونُ ضَرُورِيَّةً دِينِيَّةً مُطْلَقًا بَلْ عِنْدَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يَكْفُرْ مُنْكِرُهَا ، وَيَطْرُقُهُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ الدِّينِيَّ مَا هُوَ بِحَالٍ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ الشَّكُّ وَيَسْتَوِي فِي مَعْرِفَتِهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمْ ، وَيَكْفُرُ مُنْكِرُ مُقْتَضَاهُ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ دِينِيَّةٍ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَخُصُوصًا عَلَى قَاعِدَةِ الْأَشَاعِرَةِ لَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ فَهِيَ كُلُّهَا نَظَرِيَّةٌ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَعْضٌ مِنْهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَصْفِ أَشْبَهَ الضَّرُورِيَّ فَسُمِّيَ بِهِ وَرُتِّبَ عَلَيْهِ إكْفَارُ مُنْكِرِهِ ، وَحُكْمُ هَذِهِ

الْقَضِيَّةِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَطَرَّقَ إلَيْهِ الشَّكُّ مِنْ بَعْضِ الْعُقَلَاءِ ، وَمَنَعَ صِحَّتَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْدُودِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ وَلَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ كَمَا أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ أَيْضًا إذَا فُسِّرَتْ الْمَسْأَلَةُ اصْطِلَاحًا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ النَّظَرِيِّ وَالضَّرُورِيِّ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَصْلِيَّةٍ بَلْ كَلَامِيَّةٍ كَمَسْأَلَتَيْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةً كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى الْبَدِيعِ ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ أَيْضًا مَا فِي التَّلْوِيحِ .
فَإِنْ قُلْت فَمَا بَالُهُمْ يَجْعَلُونَ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ إثْبَاتَ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ لِلْأَحْكَامِ وَلَا يَجْعَلُونَ مِنْهَا إثْبَاتَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَذَلِكَ ؟ .
قُلْت : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّظَرِ فِي الْفَنِّ هُوَ الْكَسْبِيَّاتُ الْمُفْتَقِرَةُ إلَى الدَّلِيلِ ، وَكَوْنُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةً بِمَنْزِلَةِ الْبَدِيهِيِّ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّ لِتَقَرُّرِهِ فِي الْكَلَامِ وَشُهْرَتِهِ بَيْنَ الْأَنَامِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلِهَذَا تَعَرَّضُوا لِمَا لَيْسَ إثْبَاتُهُ لِلْحُكْمِ بَيِّنًا كَالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ا هـ .
فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْحَاثَ لَيْسَ مَحَلُّهَا هَذَا الْعِلْمَ بِالذَّاتِ ( بِخِلَافِ عُمُومِ النَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ فَإِنَّهُ ) أَيْ الْعُمُومُ ( حَالٌ ) أَيْ عَرَضٌ ذَاتِيٌّ ( لِلدَّلِيلِ ) كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالنَّكِرَةُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عُمُومِهَا وَعَدَمِهِ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِاسْمِ الدَّلِيلِ إذْ لَا بُدَّ أَنْ نُفِيدَ حُكْمًا مَا فَالْبَحْثُ عَنْ عُمُومِهَا إذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بَحْثٌ أَصْلِيٌّ ( فَعَنْ هَلِيَّةِ الْمَوْضُوعِ الْبَسِيطَةِ أَوْلَى ) أَيْ ثُمَّ إذَا كَانَ الْبَحْثُ عَنْ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ لَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ فَالْبَحْثُ عَنْ وُجُودِ الْمَوْضُوعِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْبَسِيطَةِ ، وَهِيَ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا وُجُودُ الشَّيْءِ كَمَا

ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَةَ ، وَهِيَ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا وُجُودُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ مِنْ بَابِ الْبَحْثِ عَنْ حَالِ الْمَوْضُوعِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ هَذَا .
( وَقَوْلُهُمْ ) فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ التَّصْدِيقِ بِهَلِيَةِ ذَاتِ الْمَوْضُوعِ جُزْءًا مِنْ الْعِلْمِ ( مَا لَمْ يَثْبُتْ وُجُودُهُ كَيْفَ يَثْبُتُ لَهُ الْأَحْكَامُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ ) أَيْ تَوَقُّفَ الْبَحْثِ عَنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْوُجُودِ عَلَى إثْبَاتِ الْوُجُودِ لَهُ إذَا كَانَ نَظَرِيًّا ( لَا كَوْنُهَا ) أَيْ لَا أَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْقَضَايَا الْبَاحِثَةِ عَنْ هَلِيَّةِ الْمَوْضُوعِ ( مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ ) الَّذِي جُعِلَ مَوْضُوعُهُ مَا أُثْبِتَ وُجُودُهُ كَيْفَ وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَوْضُوعًا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى وُجُودِهِ فَأَنَّى يَتَحَقَّقُ الشَّيْءُ مَوْضُوعًا لِعِلْمٍ دُونَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِأَحَدِ الْوُجُودَيْنِ بَلْ بِأَحَدِهِمَا يَتِمُّ كَوْنُهُ مَوْضُوعًا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَحْوَالٍ أُخَرَ لَهُ ، كَذَا أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي الشِّفَاءِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِوُجُودِ الْمَوْضُوعِ مِنْ الْمَبَادِئِ التَّصْدِيقِيَّةِ لَا أَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمَوْضُوعِ هُوَ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُوَ طَرِيقُ الْآمِدِيِّ وَصَاحِبِ الْبَدِيعِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، وَقِيلَ هِيَ وَالتَّرْجِيحُ وَالِاجْتِهَادُ ؛ لِأَنَّهُ يُبْحَثُ عَنْ أَعْرَاضِهِمَا فِيهِ وَرُدَّ إلَى الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ التَّرْجِيحِ بَحْثٌ عَنْ أَعْرَاضِ الْأَدِلَّةِ بِاعْتِبَارِ تَرَجُّحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْ تَسَاقُطِهَا بِهِ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ ، وَعَنْ الِاجْتِهَادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ إنَّمَا يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا الْأَحْكَامَ الْمُجْتَهِدُ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ أَحْوَالُ الْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهَا عَلَى الْأَحْكَامِ إمَّا مُطْلَقًا ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ تَعَارُضِهَا أَوْ اسْتِنْبَاطِهَا مِنْهَا فَتَكُونُ هِيَ مَوْضُوعَ

الْعِلْمِ بِالْحَقِيقَةِ ، وَالْبَحْثُ عَنْ التَّرْجِيحِ وَالِاجْتِهَادِ رَاجِعًا إلَيْهَا ، وَقِيلَ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ وَصَحَّحَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ ثُمَّ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ ؛ لِأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ الْعَوَارِضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَدِلَّةِ ، وَهِيَ إثْبَاتُهَا الْحُكْمَ وَالْعَوَارِضَ الذَّاتِيَّةَ لِلْأَحْكَامِ ، وَهِيَ ثُبُوتُهَا بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَحَقَّقَ هَذَا الْمُحَقِّقُ ذَلِكَ بِأَنَّا رَجَّعْنَا الْأَدِلَّةَ بِالتَّعْمِيمِ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَحْكَامَ إلَى الْخَمْسَةِ وَنَظَرْنَا فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلَّقَةِ بِكَيْفِيَّةِ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ إجْمَالًا فَوَجَدْنَا بَعْضَهَا رَاجِعَةً إلَى أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَبَعْضَهَا إلَى أَحْوَالِ الْأَحْكَامِ فَجَعْلُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْآخَرَ مِنْ اللَّوَاحِقِ تَحَكُّمٌ ؛ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَبَاحِثَ الْأَدِلَّةِ أَكْثَرُ وَأَهَمُّ لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْأَصَالَةَ وَالِاسْتِقْلَالَ ا هـ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي دَعْوَى التَّحَكُّمِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْبَحْثَ بِالذَّاتِ إنَّمَا يَقَعُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا مُثَبِّتَةً لِلْأَحْكَامِ ، وَأَمَّا الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَحْكَامِ فَلَمْ يَقَعْ إلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ أَحْوَالِ الْأَحْكَامِ ثَمَرَةَ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ الشَّيْءِ أَمْرٌ تَابِعٌ لَهُ مُتَفَرِّعٌ عَلَى تَحَقُّقِهِ لَا أَنَّهُ أَصْلٌ مِثْلُهُ فَذَكَرَهَا فِيهِ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى تَصَوُّرِهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِهَا أَوْ نَفْيِهَا لَا لِكَوْنِ الْأَحْكَامِ مَوْضُوعًا لَهُ أَيْضًا فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ فَرَّعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَعَلَى ) قَوْلِ ( مَنْ أَدْخَلَ الْأَحْكَامَ ) الشَّرْعِيَّةَ مَعَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِيَّةِ لِهَذَا الْعِلْمِ ( إذْ يُبْحَثُ عَنْهَا ) أَيْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ( مِنْ حَيْثُ تَثْبُتُ بِالْأَدِلَّةِ ) السَّمْعِيَّةِ فِي هَذَا الْعِلْمِ كَمَا يُبْحَثُ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ

مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُثَبِّتُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فَيَكُونُ مَوْضُوعُهُ كِلْتَيْهِمَا مِنْ الْحَيْثِيَّتَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهِمَا ( لَا يَبْعُدُ إدْخَالُ الْمُكَلَّفِ الْكُلِّيِّ ) أَيْضًا مَعَهُمَا فِي الْمَوْضُوعِيَّةِ لِهَذَا الْعِلْمِ ( إذْ يُبْحَثُ عَنْهُ ) أَيْ الْمُكَلَّفِ الْكُلِّيِّ فِيهِ ( مِنْ حَيْثُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ ) الْمَذْكُورَةُ فَكَمَا اُعْتُبِرَتْ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ مَوْضُوعًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ عَوَارِضِهِمَا الذَّاتِيَّةِ مِنْ الْحَيْثِيَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ يُعْتَبَرُ الْمُكَلَّفُ الْكُلِّيُّ أَيْضًا مَوْضُوعًا مَعَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ عَوَارِضِهِ الذَّاتِيَّةِ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ .
( وَقَدْ وَضَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ ) أَيْ جَعَلُوهُ فِي كُتُبِهِمْ الْأَصْلِيَّةِ مَوْضُوعًا ( مَعْنًى ، وَأَحْوَالُهُ ) الْعَارِضَةُ لَهُ أَيْضًا ( فِي تَرْجَمَةِ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ ) لَهُ ، وَهِيَ مَا لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا اخْتِيَارٌ ( وَالْمُكْتَسَبَةِ ) أَيْ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي كَسَبَهَا الْعَبْدُ أَوْ تَرَكَ إزَالَتَهَا ( لِبَيَانِ كَيْفَ تَتَعَلَّقُ بِهِ ) الْأَحْكَامُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ جَعْلَهُمْ الْمُكَلَّفَ الْكُلِّيَّ مَوْضُوعًا بِقَوْلِهِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اُسْتُفِيدَ مِنْ بَحْثِهِمْ عَنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلْحُكْمِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى هَذَا الْقَوْلِ لَكَانَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْهُمْ كَالشَّاهِدِ لَهُ ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ حَنَفِيًّا لَكِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ ذَاهِبٌ فِيمَا عَلِمَهُ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَلْ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الذَّاهِبُ إلَى أَنَّ مَوْضُوعَ هَذَا الْعِلْمِ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ مُصَرِّحٌ بِانْدِرَاجِ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلَّقَةِ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ وَالْأَهْلِيَّةُ وَالْعَوَارِضُ الْمَذْكُورَةُ تَحْتَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ الْمُسَمَّاةِ بِالْقَوَاعِدِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ بِاخْتِلَافِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ

الْعَوَارِضِ وَعَدَمِهَا كَانْدِرَاجِ الْمَحْكُومِ بِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفُ تَحْتَهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ هَذَا مُوجِبًا لِعَدَمِ جَعْلِ الْمُكَلَّفِ الْكُلِّيِّ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَوْضُوعًا أَوْ مَانِعًا مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ لِإِمْكَانِ انْدِرَاجِ أَعْرَاضِهَا فِي مَبَاحِثِ أَعْرَاضِ الْأَدِلَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا فَجَعْلُهَا مَوْضُوعًا دُونَهُ تَحَكُّمٌ ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ فِي جَعْلِ الْمُكَلَّفِ الْكُلِّيِّ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَوْضُوعًا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ مَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ ، وَأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِ الْكُلِّيِّ الَّتِي هِيَ الْعَوَارِضُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ بِذَاتِيَّةٍ لَهُ كَمَا سَيُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ بِهِ عِنْدَ إفَاضَتِهِ فِي الْكَلَامِ فِيهَا .
وَالْأَهْلِيَّةُ وَصْفٌ عُنْوَانِيٌّ لَهُ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ خُرُوجُ الْبَحْثِ عَنْ عُنْوَانِ الْمَوْضُوعِ مِنْ مَبَاحِثِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُهُ فَلَا يَكُونُ الْبَحْثُ عَنْهَا فِي هَذَا الْعِلْمِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ الْكُلِّيَّ مَوْضُوعُهُ فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ بِذِكْرِ التَّوَابِعِ وَاللَّوَاحِقِ وَكَيْفَ لَا ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِعَارِضٍ لِلْمُكَلَّفِ مَعَ قِيَامِ هَذَا الْوَصْفِ بِهِ كَالصِّغَرِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ كَالسَّفَرِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ فَالْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلَّقَةُ بِهَا مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٍ بِلَا رَيْبٍ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَاتِهَا أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ ، وَمَحْمُولَاتِهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا سَنَحَ لِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ فِي اسْتِئْنَافِ بَيَانِ تَحْقِيقٍ لِمَا فِي الْوَاقِعِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْضُوعِ فَقَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ ) الْحُصُولُ لِوَاضِعِ عِلْمٍ لِتَحْصِيلِهَا ( لَا تَتَرَتَّبُ إلَّا

عَلَى ) الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ ( أَشْيَاءَ كَانَتْ ) تِلْكَ الْأَشْيَاءُ ( الْمَوْضُوعُ ) لِذَلِكَ الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ لِتِلْكَ الْغَايَةِ ( كَمَا لَوْ تَرَتَّبَتْ غَايَاتٌ عَلَى جُمَلٍ مِنْ أَحْوَالِ ) شَيْءٍ ( وَاحِدٍ حَيْثُ يَكُونُ ) ذَلِكَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ ( مَوْضُوعَ عُلُومٍ ) مُخْتَلِفَةٍ مَقْصُودَةٍ لِتِلْكَ الْغَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ( يَخْتَلِفُ ) ذَلِكَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ الَّذِي هُوَ الْمَوْضُوعُ ( فِيهَا ) أَيْ تِلْكَ الْعُلُومِ ( بِالْحَيْثِيَّةِ ) الَّتِي تَعَدَّدَتْ بِهَا مَوْضُوعِيَّتُهُ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا بِالذَّاتِ فَيَكُونُ كَوْنُهُ مَوْضُوعًا لِعِلْمٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبْحَثُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا غَيْرِ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِعِلْمٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبْحَثُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرٍ تِلْكَ الْجِهَةِ فَجَاءَتْ مَوْضُوعَاتُ الْعُلُومِ مِنْهَا مَا هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثِيَّتَيْنِ لِعِلْمَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أُمُورٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْ حَيْثِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِانْفِصَالِ الْمَوْضُوعَاتِ تَمَايُزُ الْغَايَاتِ عِنْدَ مُلَاحَظَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ ( وَمِنْ هُنَا ) أَيْ ، وَمِنْ أَنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى أَشْيَاءَ كَانَتْ هِيَ الْمَوْضُوعُ لِذَلِكَ الْعِلْمِ الَّذِي يُثْمِرُ تِلْكَ الْغَايَةِ ( اسْتَتْبَعَتْهُ ) أَيْ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ الْمَوْضُوعُ أَيْ كَانَ تَابِعًا لَهَا ذِهْنًا فِي التَّصَوُّرِ ، وَإِنْ كَانَ حُصُولُهَا خَارِجًا تَابِعًا لِحُصُولِهِ كَمَا سَلَفَ بَيَانُهُ وَلِمَا لَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ تَرَتَّبَتْ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ عَلَى أَشْيَاءَ لَيْسَ بَيْنَهَا تَنَاسُبٌ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَ عِلْمِ تِلْكَ الْغَايَةِ أَشَارَ إلَى الْتِزَامِ هَذَا اللَّازِمِ وَحَقِّيَّتِهِ ، وَإِنْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّ الْمَوْضُوعَ إذَا كَانَتْ أَشْيَاءُ يُشْتَرَطُ تَنَاسُبُهَا فِي ذَاتِيٍّ أَوْ عَرَضِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
فَقَالَ : ( وَلُزُومُ التَّنَاسُبِ ) بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ

عِلْمٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ إنَّمَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا أَمْرٌ ( اتِّفَاقِيٌّ ) ، وَهُوَ إنْ اتَّفَقَ أَنْ لَا تَتَرَتَّبَ غَايَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا عَلَى أَشْيَاءَ إلَّا إذَا كَانَتْ مُتَنَاسِبَةً لَا لُزُومِيٌّ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ إنْ اتَّفَقَ تَرَتُّبُ الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ عَلَى أُمُورٍ مُتَنَاسِبَةٍ فَذَاكَ وَكَانَتْ هِيَ الْمَوْضُوعُ ( وَلَوْ اتَّفَقَ تَرَتُّبُهَا ) أَيْ الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ عَلَى أُمُورٍ ( مَعَ عَدَمِهِ ) أَيْ عَدَمِ تَنَاسُبِهَا ( أُهْدِرَ ) أَيْ التَّنَاسُبُ مِنْ الِاعْتِبَارِ فِي صِحَّةِ مَوْضُوعِيَّةِ تِلْكَ الْأُمُورِ حَتَّى كَانَتْ هِيَ الْمَوْضُوعَ لِذَلِكَ الْعِلْمِ الْمُثْمِرِ لِتِلْكَ الْغَايَةِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمَّا قَرَّرَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ وَجْهَ تَمَايُزِ الْعُلُومِ بِحَسَبِ تَمَايُزِ الْمَوْضُوعَاتِ عَلَى الْمِنْوَالِ الْمُتَدَاوَلِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ قَالَ : وَهَذَا أَمْرٌ اسْتَحْسَنُوهُ فِي التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ ، وَإِلَّا فَلَا مَانِعَ عَقْلِيًّا مِنْ أَنْ تُعَدَّ كُلُّ مَسْأَلَةٍ عِلْمًا بِرَأْسِهِ ، وَتُفْرَدَ بِالتَّدْوِينِ وَلَا مِنْ أَنْ تُعَدَّ مَسَائِلُ غَيْرِ مُتَشَارِكَةٍ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَنَاسِبَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَوْ لَا عِلْمًا وَاحِدًا وَتُفْرَدَ بِالتَّدْوِينِ ( وَبِحَسَبِ اتِّفَاقِ التَّرَتُّبِ ) أَيْ تَرَتُّبِ الْغَايَاتِ عَلَى مَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ شَيْءٍ أَوْ أَشْيَاءَ ( كَانَتْ ) الْعُلُومُ ( مُتَبَايِنَةً ) إذَا تَبَايَنَتْ مَوْضُوعَاتُهَا ( ، وَمُتَدَاخِلَةً ) إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِينَ خُصُوصٌ وَعُمُومٌ فَيَكُونُ الْأَخَصُّ دَاخِلًا تَحْتَ الْأَعَمِّ كَعِلْمَيْ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ ( إلَّا فِي لُزُومِ عُرُوضِ عَارِضِ الْمُبَايِنِ لِلْآخَرِ فِي الْبَحْثِ ) فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعِلْمَانِ مُتَبَايِنَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعَاهُمَا مُتَبَايِنَيْنِ أَيْ بَلْ نَقُولُ ( فَتَتَدَاخَلُ مَعَ التَّبَايُنِ ) حِينَئِذٍ الْعُلُومُ الَّتِي مَوْضُوعَاتُهَا مُتَبَايِنَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ( لِلْعُمُومِ

الِاعْتِبَارِيِّ ) فِي ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ الْعَارِضِ عَارَضَهُ لِذَلِكَ الْمَوْضُوعُ الْمُبَايِنُ لَهُ فَيَنْدَرِجُ الْعِلْمُ الْعَارِضُ لِمَوْضُوعِهِ ذَلِكَ الْعَارِضُ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ لَهُ تَحْتَ الْعِلْمِ الْخَاصِّ ذَلِكَ الْعَارِضُ بِمَوْضُوعِهِ ( كَالْمُوسِيقَى ) أَيْ كَعِلْمِ الْمُوسِيقَى بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ ، وَهُوَ لَفْظٌ يُونَانِيٌّ مَعْنَاهُ تَأْلِيفُ الْأَلْحَانِ ( مَوْضُوعُهُ النَّغَمُ وَيَنْدَرِجُ ) عِلْمُ الْمُوسِيقَى ( تَحْتَ عِلْمِ الْحِسَابِ ، وَمَوْضُوعُهُ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ مَوْضُوعَهُ ( الْعَدَدُ ) ، وَإِنَّمَا انْدَرَجَ عِلْمُ الْمُوسِيقَى تَحْتَ عِلْمِ الْحِسَابِ ( مَعَ تَبَايُنِ مَوْضُوعَيْهِمَا كَمَا قِيلَ إذْ كَانَ الْبَحْثُ فِي النَّغَمِ عَنْ النِّسَبِ الْعَدَدِيَّةِ ) الْعَارِضَةِ لِلنَّغَمِ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ ، وَهِيَ عَارِضٌ خَاصٌّ لِمَوْضُوعِ عِلْمِ الْحِسَابِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلْمَيْنِ إنَّمَا يَكُونَانِ مُتَبَايِنَيْنِ لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا تَحْتَ الْآخَرِ بِسَبَبِ تَبَايُنِ مَوْضُوعَيْهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعُ أَحَدِ الْعِلْمَيْنِ مُقَارِنًا لِأَعْرَاضٍ ذَاتِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِمَوْضُوعِ الْآخَرِ .
أَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعُ أَحَدِهِمَا مُقَارِنًا لِأَعْرَاضٍ ذَاتِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِمَوْضُوعِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَدْخُلُ الْعِلْمُ الْمُقَارِنُ مَوْضُوعُهُ ذَلِكَ تَحْتَ ذَلِكَ الْعِلْمِ الْآخَرِ كَمَوْضُوعِ الْمُوسِيقَى وَالْحِسَابِ فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْمُوسِيقَى النَّغَمُ مِنْ حَيْثُ يَعْرِضُ لَهَا نِسَبٌ عَدَدِيَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّأْلِيفِ أَيْ لِتَأْلِيفِ النِّسَبِ وَالنَّغَمِ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَسْمُوعَةِ فَلَوْلَا هَذِهِ الْحَيْثِيَّةُ لَكَانَ جُزْءًا مِنْ الطَّبِيعِيِّ لَكِنْ النِّسَبُ الْعَدَدِيَّةُ أَعْرَاضٌ خَاصَّةٌ لِلْعَدَدِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ عِلْمِ الْحِسَابِ فَيَكُونُ عِلْمُ الْمُوسِيقَى تَحْتَ عِلْمِ الْحِسَابِ مَعَ تَبَايُنِ مَوْضُوعَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ النَّغَمَ إذَا بُحِثَ فِيهَا عَنْ النِّسَبِ الْعَدَدِيَّةِ فَلَا بُدَّ ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَدُّدِ فَكَأَنَّهَا فَرَضَتْ عَدَدًا مَخْصُوصًا

فَتَنْدَرِجُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَحْتَ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ عِلْمِ الْحِسَابِ فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ كَانَتْ مُتَبَايِنَةً ، وَأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهُ عَنْ مُتَدَاخِلَةٍ لِيَتَّصِلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ لِلْآخَرِ مُتَعَلِّقٌ بِعُرُوضٍ لَا بِالْمُبَايِنِ .
ثُمَّ جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْعُلُومَ إمَّا مُتَدَاخِلَةٌ أَوْ مُتَنَاسِبَةٌ أَوْ مُتَبَايِنَةٌ ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِتَدَاخُلِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَنَاسُبِهَا وَتَبَايُنِهَا فَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَاتُهَا مُتَدَاخِلَةً بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ أَحَدِ الْعِلْمَيْنِ أَعَمَّ مِنْ مَوْضُوعِ الْعِلْمِ الْآخَرِ أَوْ مَوْضُوعُ أَحَدِهِمَا مِنْ حَيْثُ يُقَارِنُ أَعْرَاضًا خَاصَّةً بِمَوْضُوعِ الْآخَرِ سُمِّيَتْ الْعُلُومُ مُتَدَاخِلَةٌ وَسُمِّيَ الْعِلْمُ الْخَاصُّ مَوْضُوعًا تَحْتَ الْعِلْمِ الْعَامِّ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَوْضُوعَاتُ مُتَدَاخِلَةً فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً لَكِنْ تَتَعَدَّدُ بِالِاعْتِبَارِ أَوْ كَانَتْ أَشْيَاءَ لَكِنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي الْبَحْثِ أَوْ تَنْدَرِجُ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ سُمِّيَتْ مُتَنَاسِبَةٌ ، وَإِلَّا فَمُتَبَايِنَةٌ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
ثُمَّ مِنْ الْخَوَاصِّ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْمُصَنِّفِ تَعَقُّبًا لِكَثِيرٍ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَهُمْ ) فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ فِي الْعُلُومِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا ( كُلًّا مِنْ الْحَدِّ وَالْمَوْضُوعِ وَالْغَايَةِ لِتَحْصِيلِ الْبَصِيرَةِ لَا يَخْلُو عَنْ اسْتِدْرَاكٍ إلَّا مِنْ حَيْثُ التَّسْمِيَةُ بِاسْمٍ خَاصٍّ وَلَمْ يُورِدْهُ لِذَلِكَ ) ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَنْهُ مِنْ الْحَوَاشِي فَقَالَ اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُمْ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي التَّعْرِيفَ وَالتَّصْدِيقَ بِالْمَوْضُوعِ وَالْغَايَةِ لَا يَخْلُو عَنْ اسْتِدْرَاكٍ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ إنْ أُخِذَ فِيهِ الْمَوْضُوعُ نَحْوَ بَاحِثٍ عَنْ أَحْوَالِ كَذَا أَعْنِي عَنْ إفْرَادِ التَّصْدِيقِ بِالْمَوْضُوعِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ إذْ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كَذَا لِذَلِكَ

الْمَذْكُورِ بِاسْمِهِ هُوَ الْمَبْحُوثُ عَنْ أَحْوَالِهِ ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَوْضُوعَهُ مَاذَا نَعَمْ لَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُسَمَّى لَفْظِ الْمَوْضُوعِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخِلّ بِالْمَقْصُودِ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْضُوعِ فِي أَوَائِلِ الْعُلُومِ ، وَهُوَ حُصُولُ الْبَصِيرَةِ أَوْ مَزِيدُهَا ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَرَتَّبَتْ عَلَى مَعْرِفَةِ خُصُوصِ مَا يُبْحَثُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ مُسَمًّى بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُسَمِّهِ بِخُصُوصِ اسْمٍ سِوَى أَنَّ كَذَا هُوَ الْمَبْحُوثُ عَنْ أَحْوَالِهِ فِي الْعِلْمِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ .
وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ فِي التَّعْرِيفِ الْمَوْضُوعُ اسْتَلْزَمَ مَعْرِفَةَ غَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُمَيِّزِ ، وَهُوَ فِي رَسْمِ مَفْهُومِ الْعِلْمِ لَيْسَ إلَّا حَيْثِيَّةُ الْغَايَةِ كَتَعْرِيفِ الْمَوَاقِفِ عِلْمٌ يُقْتَدَرُ مَعَهُ عَلَى إثْبَاتِ الْعَقَائِدِ فَإِنَّ مَلَكَةَ إثْبَاتِهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا ، وَإِنْ كَانَ يُقَالُ غَايَتُهُ التَّرَقِّي مِنْ التَّقْلِيدِ إلَى الْإِيقَانِ بِالْعَقَائِدِ ، وَقَمْعُ الْمُبْطِلِينَ وَالدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ غَايَةُ الْغَايَةِ ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ غَايَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ حُصُولُ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ مَعَ أَنَّهُ يَتَأَتَّى فِيهِ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْغَايَةُ ابْتِدَاءً فَالْعِلْمُ بِهِ لَازِمُ الْعِلْمِ بِالْغَايَةِ الْأُولَى إذْ يَلْزَمُ كَوْنُهُ ذَا مَلَكَةٍ إثْبَاتَ الْعَقَائِدِ فَتَحَصَّلَ أَنَّ تَعْرِيفَ الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْضُوعِ ، وَهُوَ حَدُّهُ لَا حَاجَةَ مَعَهُ فِي تَحْصِيلِ الْبَصِيرَةِ الْكَائِنَةِ فِي تَصَوُّرِ الْمَوْضُوعِ إلَى إفْرَادِ تَصْدِيقٍ بِهِ ، وَمَعَ رَسْمِهِ لَا حَاجَةَ فِي تَحْصِيلِ الْبَصِيرَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ إلَى إفْرَادِ تَصْدِيقٍ بِهَا نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي إفَادَةِ لَفْظٍ اصْطِلَاحِيٍّ هُوَ اسْمُ الْمَوْضُوعِ وَالْغَايَةِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا ذِكْرَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِيَزْدَادَ جِدُّ الطَّالِبِ فِي

الْغَايَةِ ا هـ .
نَعَمْ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ لِلْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ وَاعْلَمْ أَنَّ الِامْتِيَازَ الْحَاصِلَ لِلطَّالِبِ بِالْمَوْضُوعِ إنَّمَا هُوَ لِلْمَعْلُومَاتِ بِالْأَصَالَةِ وَلِلْعُلُومِ بِالتَّبَعِ وَالْحَاصِلُ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ إنْ كَانَ تَعْرِيفًا لِلْعِلْمِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ تَعْرِيفًا لِلْمَعْلُومِ فَالْفَرْقُ أَنَّهُ قَدْ يُلَاحَظُ الْمَوْضُوعُ فِي التَّعْرِيفِ كَمَا فِي تَعْرِيفِ الْكَلَامِ إنْ جُعِلَ تَعْرِيفًا لِمَعْلُومِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ أَيْضًا فِي هَذَا الَّذِي أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ .

الْأَمْرُ ( الثَّالِثُ ) مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي مُقَدِّمَةُ هَذَا الْكِتَابِ عِبَارَةٌ عَنْهَا ( الْمُقَدِّمَاتُ الْمَنْطِقِيَّةُ ) وَنَسَبَهَا إلَى الْمَنْطِقِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ ، وَقَوْلُهُ ( مَبَاحِثُ النَّظَرِ ) عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا ( وَتَسْمِيَةُ جَمْعٍ ) مِنْ الْأُصُولِيِّينَ كَالْآمِدِيِّ ، وَمَنْ تَابَعَهُ ( لَهَا ) أَيْ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ ( مَبَادِئُ كَلَامِيَّةٌ بَعِيدٌ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ ظَاهِرًا ، وَعِلْمُ الْكَلَامِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا ( بَلْ الْكَلَامُ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ ( كَغَيْرِهِ ) مِنْ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةِ فِي الْحَاجَةِ إلَيْهَا ( لِاسْتِوَاءِ نِسْبَتِهَا ) أَيْ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ ( إلَى كُلِّ الْعُلُومِ ) الْكَسْبِيَّةِ فِي كَوْنِهَا آلَةً لَهَا ( وَهُوَ ) أَيْ بَيَانُ الِاسْتِوَاءِ الْمَذْكُورِ ( أَنَّهُ ) أَيْ الشَّأْنَ ( لَمَّا كَانَ الْبَحْثُ ) عَرَضًا ( ذَاتِيًّا لِلْعُلُومِ ) لِعُرُوضِهِ لَهَا بِلَا وَسَطٍ فِي الثُّبُوتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْبَحْثُ ( الْحَمْلُ بِالدَّلِيلِ ) ، وَهَذَا أَوْجَزُ مَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ مَعَ الْجَمْعِ وَالْمَنْعِ ( وَصِحَّتُهُ ) أَيْ الدَّلِيلُ ( بِصِحَّةِ النَّظَرِ ، وَفَسَادُهُ بِهِ ) أَيْ ، وَفَسَادُ الدَّلِيلِ بِفَسَادِ النَّظَرِ كَمَا سَيَظْهَرُ ( وَجَبَ التَّمْيِيزُ ) بَيْنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالنَّظَرِ الْفَاسِدِ ( لِيَعْلَمَ ) بِمَعْرِفَتِهِمَا ( خَطَأَ الْمَطَالِبِ وَصَوَابَهَا ) فَإِنَّ خَطَأَهَا مِنْ فَسَادِ دَلِيلِهَا النَّاشِئِ عَنْ فَسَادِ النَّظَرِ وَصَوَابَهَا عَنْ صِحَّةِ دَلِيلِهَا النَّاشِئِ عَنْ صِحَّةِ النَّظَرِ .
فَإِذَا عُرِفَ حَالُ النَّظَرِ عُرِفَ حَالُ الدَّلِيلِ ، وَإِذَا عُرِفَ حَالُ الدَّلِيلِ عُرِفَ حَالُ مَا أَدَّى إلَيْهِ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلٍّ مِنْ النَّظَرِ ، وَقِسْمَيْهِ وَالدَّلِيلِ وَمَا يُفِيدُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ لِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَطْلُوبِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَطَالِبِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ الْكَلَامِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَجَعْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مَبَادِئَ كَلَامِيَّةً لِلْأُصُولِ

لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ مَثَلًا ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَبَاحِثِ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الْخَاصَّةِ بَلْ هِيَ مُقَدِّمَةُ الْعُلُومِ كُلِّهَا ، وَحَاجَةُ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ كَحَاجَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ ا هـ .
نَعَمْ لَا بَأْسَ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ إثْبَاتَ مَسَائِلِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ مُحْتَاجٌ إلَى دَلَائِلَ وَتَعْرِيفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهَا مُوصِلَةً إلَى الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْمَبَاحِثِ الْمَنْطِقِيَّةِ أَوْ يَتَقَوَّى بِهَا فَهِيَ تَحْتَاجُ إلَيْهَا تِلْكَ الْعُلُومِ وَلَيْسَتْ جُزْءًا مِنْهَا بَلْ هِيَ عِلْمٌ عَلَى حِيَالِهَا ، وَعِلْمُ الْكَلَامِ لَمَّا كَانَ رَئِيسَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَمُقَدَّمًا عَلَيْهَا انْتَسَبَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فَعُدَّتْ مَبَادِئَ كَلَامِيَّةٍ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ا هـ .
فَإِنَّ حَاصِلَ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لَيْسَتْ لِلتَّخْصِيصِ بَلْ لِاتِّفَاقِ سَبْقِ وُقُوعِهَا مَبَادِئَ لِلْكَلَامِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الِاعْتِبَارِ وَالشَّرَفِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَالشَّيْءُ يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ ، وَحَيْثُ يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ثُمَّ نَقُولُ اسْتِطْرَادًا ( وَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا مَسْأَلَةُ الْحَاكِمِ ) فَإِنَّهَا مِنْ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ ( وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ ) مَبَاحِثِ ( الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ) لِكَوْنِ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى مَا هُوَ مِنْ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ فَتُلْحَقُ بِهَا فِي كَوْنِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْكَلَامِ ( وَنَحْوِهِ ) أَيْ هَذَا الْمَذْكُورِ كَمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهِدِ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ ، وَمَسْأَلَةِ يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ ، وَمَا ضَاهَاهُمَا .
( وَهَذِهِ ) الْمَذْكُورَاتُ ( مِنْ

الْمُقَدِّمَاتِ ) لِهَذَا الْعِلْمِ لَا مِنْهُ ( يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى مَعْرِفَتِهَا ( زِيَادَةُ بَصِيرَةٍ ) لِمَعْرِفَةِ بَعْضِ مَقَاصِدِ هَذَا الْعِلْمِ تُذْكَرُ فِيهِ لِهَذَا الْغَرَضِ وَلَيْسَ ذِكْرُهَا فِي أَثْنَاءِ الْمَقَاصِدِ لِمُنَاسَبَةٍ حَسَّنَتْهُ ثَمَّةَ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ بِمَانِعٍ مِنْ كَوْنِهَا مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْعِلْمِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فِي حَدِّهِ وَغَايَتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَوْضُوعِهِ بَلْ إذَا وُجِدَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ مُشَارِكٌ فِي إفَادَةِ الْبَصِيرَةِ كَانَ مِنْهَا وَسَاغَ ذِكْرُهُ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيهَا ثُمَّ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ مِنْ مَبَادِئِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَا يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الْمَسَائِلِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَيْهِ ، وَهِيَ مَعْدُودَةٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ ، وَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ .
( وَتَصِحُّ ) أَنْ تَكُونَ ( مَبَادِئَ ) لَهُ ( عَلَى ) اصْطِلَاحِ ( الْأُصُولِيِّينَ ) ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَبَادِئَ عِنْدَهُمْ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْعِلْمِ أَوْ الشُّرُوعُ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ أَجْزَائِهِ ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهِ كَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْهَا عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَحِينَئِذٍ فَجَعْلُ هَذِهِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ لَا مِنْ الْمَبَادِئِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ ، وَجَعْلُهَا مِنْ الْمَبَادِئِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اخْتِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَبَادِئِ لَيْسَ إلَّا .

( وَلَمَّا انْقَسَمَ ) الدَّلِيلُ ( إلَى مَا يُفِيدُ عِلْمًا ) قَطْعِيًّا وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِدَلَالَةِ قَسِيمِهِ عَلَيْهِ أَعْنِي قَوْلَهُ ( وَظَنًّا مُيِّزَا ) أَيْ الْعِلْمُ وَالظَّنُّ بِمَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ إذْ وَجَبَ التَّمْيِيزُ ( وَتَمَامُهُ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ تَمَامَ تَمْيِيزِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي قَدْ يَكُونُ أَيْضًا ( بِالْمُقَابِلَاتِ ) أَيْ بِذِكْرِ الْمُقَابِلَاتِ لِلشَّيْءِ وَذِكْرِ مَعْنَاهَا مَعَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَمَانًا مِنْ وَهْمِ الِاشْتِبَاهِ وَزِيَادَةَ جَلَاءٍ لِبَيَانِ الْمُقَابِلَاتِ وَالْأَشْبَاهِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ فَلَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْتِيَ بِمُمَيِّزِ كُلٍّ ثُمَّ بِالْمُقَابِلَاتِ وَبَيَانِ مَعْنَاهَا ، وَمَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالْمَقَامِ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى بَيَانِ الدَّلِيلِ ، وَمَا يَتْبَعُهُ لِكَوْنِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ هُمَا الْمَقْصُودَيْنِ بِالذَّاتِ مِنْ الدَّلِيلِ ، وَإِنْ كَانَ سَائِغًا تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِمَا ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِمَا لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَيْهِمَا ، وَالْوَسَائِلُ قَدْ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَطَالِبِ .
( فَالْعِلْمُ حُكْمٌ لَا يَحْتَمِلُ طَرَفَاهُ نَقِيضَهُ عِنْدَ مَنْ قَامَ بِهِ لِمُوجِبٍ ) أَيْ إدْرَاكِ نِسْبَةٍ مُوجَبَةٍ أَوْ سَالِبَةٍ بَيْنَ مَحْكُومٍ وَمَحْكُومٍ عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلَانِ نَقِيضَ ذَلِكَ الْإِدْرَاكِ عِنْدَ الْمُدْرِكِ كَائِنٌ لِمُوجِبٍ فَحُكْمٌ شَامِلٌ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّ وَالْجَهْلِ ، وَمَا كَانَ مِنْ اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ حُكْمًا وَلَا يَحْتَمِلُ طَرَفَاهُ نَقِيضَهُ عِنْدَ مَنْ قَامَ بِهِ أَيْ لَا يُجَوِّزُ الْحَاكِمُ بِهِ تَعَلُّقَ نَقِيضِ ذَلِكَ بِطَرَفَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُخْرِجٌ لِلظَّنِّ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ جَهْلًا مُرَكَّبًا ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ حُكْمٌ يَحْتَمِلُ طَرَفَاهُ نَقِيضَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي الْحَالِ أَوْ فِيهِ ، وَفِي الْمَآلِ عِنْدَ الظَّانِّ وَلِمُوجِبٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ مِنْ حِسٍّ أَوْ عَقْلٍ أَوْ بُرْهَانٍ أَوْ

عَادَةٍ مُخْرِجٌ لِلْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ مُطْلَقًا وَلِاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ بِمُسْتَنَدِ لِمُوجِبٍ ( فَدَخَلَ ) تَحْتَ هَذَا الْحَدِّ الْعِلْمُ ( الْعَادِيُّ ) ، وَهُوَ مَا مُوجِبُهُ الْعَادَةُ ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُخْتَارِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي شَاهَدْنَاهُ فِيمَا مَضَى حَجَرٌ أَنَّهُ فِي حَالِ غَيْبَتِنَا عَنْهُ حَجَرٌ أَيْضًا لَمْ يَنْقَلِبْ ذَهَبًا ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ أَنَّهُ حُكْمٌ لَا يَحْتَمِلُ طَرَفَاهُ نَقِيضَهُ ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ ذَهَبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَنَا لِمُوجِبٍ ، وَهُوَ الْعَادَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ بِأَنَّ مَا شُوهِدَ حَجَرًا فِي وَقْتٍ فَهُوَ كَذَلِكَ دَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ كَوْنُ الْجَبَلِ ذَهَبًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ ( لِأَنَّ إمْكَانَ كَوْنِ الْجَبَلِ ذَهَبًا ) فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ( لَا يَمْنَعُ الْجَزْمَ بِنَقِيضِهِ ) أَيْ كَوْنَ الْجَبَلِ ذَهَبًا ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ حَجَرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( عَنْ مُوجِبِهِ ) أَيْ هَذَا الْجَزْمِ الْمَذْكُورِ اتِّفَاقًا فَإِنَّ الْإِمْكَانَ الذَّاتِيَّ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ بِالْغَيْرِ فَلَا يُظَنُّ أَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ مُنْطَبِقٍ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ جَامِعًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ جَعْلَ نَقِيضِ كَوْنِ الْجَبَلِ حَجَرًا كَوْنُهُ ذَهَبًا وَبِالْعَكْسِ تَسَامُحٌ مَشْهُورٌ وَافَقْنَاهُمْ فِي التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ ، وَإِلَّا فَنَقِيضُ كَوْنِ الْجَبَلِ حَجَرًا إنَّمَا هُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ حَجَرٍ وَكَوْنُهُ ذَهَبًا أَخَصُّ مِنْ نَقِيضِهِ وَنَقِيضُ كَوْنِهِ ذَهَبًا كَوْنُهُ غَيْرَ ذَهَبٍ وَكَوْنُهُ حَجَرًا أَخَصُّ مِنْ نَقِيضِهِ هَذَا ( وَالْحَقُّ أَنَّ إمْكَانَ خَرْقِ الْعَادَةِ ) الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِ الْجَبَلِ السَّابِقِ مُشَاهَدَةً حَجَرِيَّتُهُ حَجَرًا بِأَنْ يَصِيرَ ذَهَبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( الْآنَ ) أَيْ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ عَنْهُ ( وَهُوَ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْإِمْكَانَ الْمَذْكُورَ ( ثَابِتٌ ) فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي حَقِّ الْجَبَلِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَتْ الْعَادَةُ

قَابِلَةً لِلِانْخِرَاقِ بِكَرَامَةِ وَلِيٍّ كَمَا تَقْبَلُهُ بِمُعْجِزَةِ نَبِيٍّ ، وَإِنْ حَلَفَ لَيَقْلِبَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ( يَسْتَلْزِمُ تَجْوِيزَ النَّقِيضَ ) ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا ( الْآنَ ) أَيْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ( إذَا لُوحِظَ ) النَّقِيضُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلْإِمْكَانِ وَشُمُولِ قُدْرَةِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ ، وَإِلَّا كَانَ مُمْتَنِعًا امْتِنَاعًا ذَاتِيًّا لَكِنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُمْكِنٌ إمْكَانًا ذَاتِيًّا وَالْإِمْكَانُ الذَّاتِيُّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ بِالْغَيْرِ لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مُنَافَاتِهِ لِلْوُجُوبِ بِالْغَيْرِ عَدَمُ تَجْوِيزِ النَّقِيضِ إذْ لَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ وَاقِعًا فَلَا يَصْدُقُ التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْعِلْمِ الْعَادِي ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ كَوْنَ إمْكَانِ خَرْقِ الْعَادَةِ حِينَئِذٍ مُسْتَلْزِمًا لِتَجْوِيزِ النَّقِيضِ حِينَئِذٍ بِمُلَاحَظَةِ النَّقِيضِ ، وَقْتَئِذٍ لِتَوَقُّفِ اسْتِلْزَامِ تَجْوِيزِهِ عَلَى مُلَاحَظَتِهِ ؛ لِأَنَّ التَّجْوِيزَ فَرْعُ الْمُلَاحَظَةِ حَتَّى يَكُونَ مَذْهُولًا عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِهَا ثُمَّ حِينَ آلَ الْأَمْرُ إلَى خُرُوجِ الْعِلْمِ الْعَادِي مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ يَتَأَتَّى فِيهِ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ كَمَا اقْتَضَاهُ هَذَا التَّحْقِيقُ ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّ الْقَطْعِيَّ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ ( فَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلْمَ كَذَلِكَ ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ أَنْ يُقَالَ ( هُوَ مَا ) أَيْ حُكْمُ ( مُوجِبِهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ كَالْعَقْلِ وَالْخَبَرِ الصَّادِقِ ) وَالْحِسِّ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْمُوجِبَاتِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ أَصْلًا لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهَا .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَا مُوجِبُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُرُوجَ عَنْ كَوْنِهِ مُوجِبًا لَهُ فَخَرَجَ الْعَادِيُّ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ بِخَرْقِهَا كَمَا ذَكَرْنَا هَذَا غَايَةُ مَا ظَهَرَ لِي فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ مَا قَالُوا أَنَّ مَعْنَى احْتِمَالِ الْعَادِيَاتِ تَجْوِيزُ

النَّقِيضِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُ ذَلِكَ النَّقِيضِ بَدَلَهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ مُحَالٌ لِذَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَادِيَةَ مُمْكِنَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَالْمُمْكِنُ لَا يَسْتَلْزِمُ شَيْءٌ مِنْ طَرَفَيْهِ مُحَالًا لِذَاتِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا جَارٍ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ الْوَاقِعَةِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْعَادِيَةِ ، وَأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ احْتِمَالِ الْعِلْمِ لِلنَّقِيضِ هُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُجَوِّزُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَوْنَ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَقِيضَ ذَلِكَ الْحُكْمِ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ لِامْتِنَاعِ إمْكَانِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ ثُبُوتُهُ فِي الْعُلُومِ الْعَادِيَةِ كَمَا فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْحِسِّ وَغَيْرِهَا فَكَمَا أَنَّهُ إذَا شَاهَدَ حَرَكَةَ زَيْدٍ وَبَيَاضَ جِسْمٍ لَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ أَلْبَتَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَوْنَ زَيْدٍ سَاكِنًا وَالْجِسْمِ أَسْوَدَ بَلْ يَقْطَعُ بِأَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ هَذِهِ النِّسْبَةُ لَا غَيْرُ فَالْعِلْمُ الْعَادِي كَذَلِكَ وَيُوَافِقُهُ مَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ التَّمَانُعِ مِنْ كِتَابِهِ الْمُسَايَرَةِ : أَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ فِي مَفْهُومِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ اسْتِحَالَةُ النَّقِيضِ بَلْ مُجَرَّدُ الْجَزْمِ عَنْ مُوجِبٍ بِأَنَّ الْآخَرَ هُوَ الْوَاقِعُ ، وَإِنْ كَانَ نَقِيضُهُ لَمْ يَسْتَحِلْ وُقُوعُهُ ا هـ .
فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ نَعْلَمَ كَوْنَ الْجَبَلِ حَجَرًا مُشَاهَدَةً وَبَيْنَ أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ عَادَةً فِي التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ وَنَفْيُ الِاحْتِمَالِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ مَا مُوجِبُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ نَعَمْ الْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ لِذَاتِهَا كَالْعِلْمِ بِوُجُوبِ وُجُودِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَبِامْتِنَاعِ شَرِيكِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا التَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ لِلنَّقِيضِ لَكِنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ نَفْيُ كِلَيْهِمَا عَلَى

أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي الْقَطْعِيِّ نَفْيُ كِلَيْهِمَا لَأَدَّى إلَى انْحِصَارِ الْقَطْعِيِّ اصْطِلَاحًا فِي الْعِلْمِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ لِذَاتَيْهِمَا لَا غَيْرُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا كَمَا يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْمُصَنِّفِ آنِفًا بَلْ قَدْ ذَكَرَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ فِي مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ أَصْلًا كَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَوَاتِرِ وَالثَّانِي مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ النَّاشِئَ عَنْ دَلِيلٍ كَالظَّاهِرِ وَالنَّصِّ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ مَثَلًا ، وَالْأَوَّلُ يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَالثَّانِي عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( وَالظَّنُّ حُكْمٌ يَحْتَمِلُهُ ) أَيْ يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ الَّذِي هُوَ طَرَفَاهُ نَقِيضَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ احْتِمَالًا ( مَرْجُوحًا ) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ خَطَرَ بِالْبَالِ لَحَكَمَ بِإِمْكَانِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ فَهُوَ صَادِقٌ ، وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِبٌ ، وَهُوَ صِنْفٌ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ عَلَى مَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ قَرِيبًا وَنُوَافِقُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقْيِيدِهِ بِمَا يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ قِيلَ إنَّمَا يُسَمَّى الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ ظَنَّا إذَا لَمْ يَأْخُذْ الْقَلْبُ بِالرَّاجِحِ وَلَمْ يَطْرَحْ الْآخَرَ أَمَّا إذَا عَقَدَ الْقَلْبُ عَلَى الرَّاجِحِ وَتَرَكَ الْمَرْجُوحَ يُسَمَّى الرَّاجِحُ أَكْبَرَ الظَّنِّ وَغَالِبَ الرَّأْيِ ، وَهُوَ غَرِيبٌ بَلْ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الظَّنَّ هُوَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ أَخَذَ الْقَلْبُ بِهِ وَطَرَحَ الْمَرْجُوحَ أَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ وَلَمْ يَطْرَحْ الْآخَرُونَ ، وَأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ زِيَادَةٌ عَلَى أَصْلِ الرُّجْحَانِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْجَزْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ ( وَهُوَ ) أَيْ وَالِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ أَيْ مُلَاحَظَتُهُ هُوَ ( الْوَهْمُ ) .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ حَافِظَ الدِّينِ النَّسَفِيَّ ذَكَرَ فِي أَوَائِلِ كَشْفِ الْأَسْرَارِ تَقْسِيمًا يَخْرُجُ مِنْهُ تَفْسِيرُ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى تَعَقُّبِ أُمُورٍ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ نَسُوقَهُ لِيُعْلَمَ مَا هُوَ مَحَلُّ التَّعَقُّبِ مِنْهُ عِنْدَ تَعَرُّضِ الْمُصَنِّفِ لَهُ ، وَإِذَا أَحَلْنَا عَلَيْهِ تَقَعُ حَوَالَتُنَا عَلَيْهِ رَائِجَةً .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الذِّهْنِ بِأَمْرٍ عَلَى آخَرَ إنْ كَانَ جَازِمًا فَجَهْلٌ إنْ لَمْ يُطَابِقْ وَتَقْلِيدٌ إنْ طَابَقَ وَلَمْ يَكُنْ لِمُوجِبٍ ، وَعِلْمٌ لَوْ كَانَ لِمُوجِبٍ عَقْلِيٍّ أَوْ حِسِّيٍّ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا فَالْأَوَّلُ بَدِيهِيٌّ إنْ كَفَى تَصَوُّرُ طَرَفَيْهِ لِحُصُولِهِ ، وَإِلَّا فِكْرِيٌّ وَالثَّانِي عِلْمٌ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَالثَّالِثُ بِالْمُتَوَاتِرَاتِ وَالْحَدْسِيَّاتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ

جَازِمًا فَشَكٌّ إنْ تَسَاوَى طَرَفَاهُ ، وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ ظَنٌّ ، وَالْمَرْجُوحُ وَهْمٌ ا هـ .
فَصَرَّحَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّكِّ وَالْوَهْمِ حُكْمٌ كَمَا ذَكَرَهُ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ مُعَرِّضًا بِهِ ( وَلَا حُكْمَ فِيهِ ) أَيْ الْوَهْمِ ( لِاسْتِحَالَتِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ ( بِالنَّقِيضِينَ ) لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْحُكْمِ بِالطَّرَفِ الرَّاجِحِ مَعَ الْحُكْمِ بِالطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ السَّاذَجَةِ ( وَالشَّكُّ عَدَمُ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ ) نَفْيًا ، وَإِثْبَاتًا لِشَيْءٍ ( بَعْدَ الشُّعُورِ ) بِذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي بِحَيْثُ يَعْرِضُ لِنِسْبَةِ ذَيْنِك الطَّرَفَيْنِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِمَا ، وَتَصَوُّرُهَا التَّصَوُّرُ السَّاذَجُ وَالشُّعُورُ أَوَّلُ مَرَاتِبِ وُصُولِ النَّفْسِ إلَى الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ عَلَى تَمَامِهِ ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ ( لِلتَّسَاوِي ) أَيْ لِكَوْنِ مُتَعَلَّقِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ عِنْدَ مَنْ بِحَيْثُ يَحْكُمُ ، وَهُوَ الْمُتَصَوِّرُ الْمَذْكُورُ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَعْدَ الشُّعُورِ مِنْ بَابِ التَّصْرِيحِ بِاللَّازِمِ إيضَاحًا ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ( فَيَخْرُجُ ) عَنْ الشَّكِّ بِوَاسِطَةِ لُزُومِ الشُّعُورِ الْمَذْكُورِ لَهُ ( أَحَدُ قِسْمَيْ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ ) ، وَهُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ مَعَ عَدَمِ الشُّعُورِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا فَإِنَّ مِنْ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ مَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا فِي خَالِي الذِّهْنِ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ هَذَا فَهُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ مَعَ الشُّعُورِ بِالْحُكْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَاصَدَقَاتِهِ إنَّمَا هِيَ الشَّكُّ وَالْوَهْمُ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ

عَدَمَ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ مَعَ الشُّعُورِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَشْعُورُ بِهِ طَرَفَاهُ سَوَاءٌ أَوْ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى طَرَفِهِ الْآخَرِ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ بِاشْتِرَاطِ التَّسَاوِي أَحَدُ فَرْدَيْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا ، وَهُوَ الْوَهْمُ .
هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا قَسِيمَ لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَرَاءَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ ، وَهُوَ خِلَافُ صَرِيحِهِمْ وَإِشَارَتِهِمْ ، فَقَدْ عَرَّفُوهُ كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَغَيْرِهِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا ، وَقَالَ الْآمِدِيُّ : وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْعِلْمِ لِذَاتَيْهِمَا فَيَكُونُ ضِدًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَةَ إثْبَاتٍ وَلَيْسَ الْجَهْلُ الْبَسِيطُ ضِدَّ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَلَا لِلشَّكِّ وَلَا لِلظَّنِّ وَلَا النَّظَرِ بَلْ يُجَامِعُ كُلًّا مِنْهُمَا لَكِنَّهُ يُضَادُّ النَّوْمَ وَالْغَفْلَةَ وَالْمَوْتَ ؛ لِأَنَّهُ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِلْمُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي حَالَةِ النَّوْمِ وَأَخَوَاتِهِ .
وَأَمَّا الْعِلْمُ فَإِنَّهُ يُضَادُّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ قِسْمَانِ يَتَنَاوَلُهُمَا جِنْسُ الشَّكِّ أَعْنِي الْحُكْمَ بِشَيْءٍ ثُمَّ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَا يَنْطَبِقُ تَعْرِيفُ الشَّكِّ عَلَيْهِ أَصْلًا ، وَمِنْهُمَا مَا يَنْطَبِقُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ ، وَقِسْمَانِ لَا يَتَنَاوَلُهُمَا جِنْسُ الشَّكِّ أَصْلًا ، وَهُمَا كُلٌّ مِنْ الْحُكْمِ الْجَازِمِ الْغَيْرِ الْمُطَابِقِ وَالْحُكْمِ الرَّاجِحِ الْغَيْرِ الْمُطَابِقِ إذَا لَمْ يَقْتَرِنَا بِاعْتِقَادِ كَوْنِهِمَا فِي الْوَاقِعِ كَذَلِكَ تَوَفَّرَتْ الْعِنَايَةُ عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى خُرُوجِ ذَلِكَ الْقِسْمِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْجِنْسِ الْمُرْتَفِعِ عَنْ انْطِبَاقِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ أَصْلًا ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى خُرُوجِ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرِينَ لِلْعِلْمِ بِخُرُوجِهِمَا بِمَعْنَى عَدَمِ دُخُولِهِمَا أَصْلًا

عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ فَخَرَجَ بَعْضُ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ لِيَتَنَاوَلَ الْوَهْمَ كَمَا ذَكَرْنَا .
( وَالْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ الْحُكْمُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ ) لِلْوَاقِعِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ مَعَ اعْتِقَادِ مُطَابَقَتِهِ ، وَإِلَّا لَكَانَ غَيْرَ مَانِعٍ لِصِدْقِهِ عَلَى الْبَسِيطِ فَإِنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِاعْتِقَادِ مُطَابَقَتِهِ جَهْلٌ بَسِيطٌ لِصِدْقِ تَعْرِيفِهِمْ إيَّاهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَلَيْهِ .
فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْجَازِمِ الثَّابِتُ الْمُطَابِقُ وَكَمَا يَصْدُقُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهَذَا الْمَعْنَى بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَصْدُقُ بِانْتِفَاءِ بَعْضِهَا .
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ دَعْوَى الْآمِدِيِّ أَنَّ الْبَسِيطَ يُجَامِعُ الْمُرَكَّبَ مَمْنُوعَةٌ لِلْمُعَانَدَةِ بَيْنَهُمَا فِي جُزْءِ الْمَفْهُومِ ( وَلَمْ نَشْرِطْ ) نَحْنُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ ( جَزْمًا ) كَمَا شَرَطَهُ فِي الْمَوَاقِفِ حَيْثُ قَالَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادِ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ ، وَمَشَى عَلَيْهِ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ ( لِأَنَّ الظَّنَّ الْمُطَابِقَ لَيْسَ سِوَاهُ ) أَيْ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ وَالْجَزْمُ مُخْرِجٌ لَهُ فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ جَامِعًا لَكِنْ قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ الظَّنُّ غَيْرُ الْمُطَابِقِ جَهْلًا مُرَكَّبًا إذَا اعْتَقَدَ مُطَابَقَتَهُ ، وَإِلَّا فَهُوَ بَسِيطٌ وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ مَا فِي الْكَشْفِ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الذِّهْنِ بِأَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ إنْ كَانَ جَازِمًا فَجَهْلٌ إنْ لَمْ يُطَابِقْ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ بَعْضِ مَاصَدَقَاتِ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ اللَّائِقَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْمَوَاقِفِ تَعْرِيفًا لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ تَعْرِيفًا لِمُطْلَقِ الْجَهْلِ الصَّادِقِ عَلَى الْبَسِيطِ وَالْمُرَكَّبِ ، وَأَمَّا هُمَا فَمَا ذَكَرْنَا فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي التَّلْوِيحِ ، وَهُوَ أَيْ الْجَهْلُ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ فَإِنْ قَارَنَ اعْتِقَادَ النَّقِيضِ

فَمُرَكَّبٌ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالشُّعُورِ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ ، وَإِلَّا فَبَسِيطٌ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الشُّعُورِ ا هـ .
ثُمَّ إنَّمَا سُمِّيَ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ مُرَكَّبًا ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ جَهْلٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ جَهْلٌ آخَرُ فَقَدْ تَرَكَّبَا مَعًا ، وَقَدْ يَتَرَكَّبُ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ وَمِنْ جَاهِلٍ بِي وَهُوَ يَجْهَلُ جَهْلَهُ وَيَجْهَلُ عِلْمِي أَنَّهُ بِي جَاهِلُ .
( وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَلَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهِ ظَنٌّ فَضْلًا عَنْ الْجَزْمِ كَمَا قِيلَ ) ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ قَائِلَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ كَمَا سَيَأْتِي هُوَ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ إحْدَى الْحُجَجِ بِلَا حُجَّةٍ مِنْهَا فَأَيْنَ الظَّنُّ فَضْلًا عَنْ الْجَزْمِ ( بَلْ قَدْ يَقْدِرُ ) الْمُقَلِّدُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ ظَنِّ مَا قَلَّدَ فِيهِ أَيْ عَلَى اكْتِسَابِ ظَنٍّ بِهِ ( إذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ قَرِيبًا ) مِنْ مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ لِوُجُودِ أَهْلِيَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ لِاكْتِسَابِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ فَرْضِ أَنَّهُ قَلَّدَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لَا تُخْرِجُهُ هَذِهِ الْحَالَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَنْ كَوْنِهِ مُقَلِّدًا كَمَا فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى ظَنِّ حُكْمِ مَا قَلَّدَ فِيهِ غَيْرَهُ ( وَقَدْ لَا ) يَقْدِرُ الْمُقَلِّدُ مُطْلَقًا عَلَى اكْتِسَابِ ذَلِكَ أَمَّا الْقَرِيبُ فَلِتَعَارُضِ الْأَمَارَاتِ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْبَعِيدُ فَلِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ لِاكْتِسَابِهِ مِنْ الدَّلِيلِ ( وَغَايَتُهُ إذَا ) أَيْ وَغَايَةُ الْمُقَلِّدِ إذَا قَلَّدَ الْمُجْتَهِدَ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ حَالَةَ كَوْنِهِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اكْتِسَابِ جَزْمٍ أَوْ ظَنٍّ بِذَلِكَ الْحُكْمِ مِنْ الدَّلِيلِ ( حَسَّنَ ظَنَّهُ ) أَيْ الْمُقَلِّدُ ( بِمُقَلَّدِهِ ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ عَنْ هَوًى ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي

أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ إفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ مُتَعَيِّنٌ .
( وَقَدْ يَكُونُ ) أَيْ يُوجَدُ التَّقْلِيدُ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ ( وَلَا ظَنَّ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنْ لَا ظَنَّ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ لِلْحُكْمِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُقَلَّدُهُ أَصْلًا بَلْ قَدْ يُقَلِّدُهُ ( مَعَ عِلْمِهِ ) أَيْ الْمُقَلِّدُ ( أَنَّهُ ) أَيْ مُقَلَّدَهُ ( مَفْضُولٌ ) فِيمَا قَلَّدَهُ فِيهِ وَيَقْدُمُ عَلَى تَقْلِيدِهِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِكَوْنِهِ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ كَمَا سَيَأْتِي ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ شَيْءٌ ، وَقَعَ فِي الْبَيْنِ فَلْنُرْجِعْ النَّظَرَ إلَى تَعْرِيفَيْ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ الْمَذْكُورَيْنِ فَنَقُولُ ( وَخَرَجَ التَّصَوُّرُ مِنْ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ ) بِوَاسِطَةِ جَعْلِ الْجِنْسِ فِيهِمَا الْحُكْمُ ، وَهَذَا يُفِيدُك أَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَدْخُلْ التَّصَوُّرُ بِأَقْسَامِهِ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرُوجِ بِالدُّخُولِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَا ضَيْرَ فِي كَوْنِ الْخُرُوجِ مُرَادًا بِهِ الْمَنْعُ مِنْ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ مَشْهُورٌ ثُمَّ هَذَا الْخُرُوجُ ( عَلَى الْأَكْثَرِ ) أَيْ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ مِنْ بَابِ التَّصْدِيقِ ( اصْطِلَاحًا ) مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ ( لَا لِاعْتِبَارِ الْمُوجِبِ ) أَيْ لَا أَنَّهُ إنَّمَا خَرَجَ التَّصَوُّرُ عَنْ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ لِذِكْرِ الْمُوجِبِ فِي التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَضٍ لِذَلِكَ .

( وَيُقَالُ ) فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ أَيْضًا ( صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ ) النَّقِيضَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ مَعَ شُهْرَتِهِ ، وَهَذَا مَعْزُوٌّ إلَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورِ الْمَاتُرِيدِيِّ ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أَصَحُّ الْحُدُودِ ، وَفِي الْمَوَاقِفِ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ فَصِفَةٌ أَيْ مَعْنًى قَائِمٌ بِغَيْرِهِ يَتَنَاوَلُ الْعِلْمَ وَغَيْرَهُ وَتُوجِبُ أَيْ تَسْتَعْقِبُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً لِمَحَلِّهَا الَّذِي يَتَّصِفُ بِهَا ، وَهُوَ النَّفْسُ تَمْيِيزًا بَيْنَ الْأُمُورِ يُخْرِجُ الصِّفَاتِ الَّتِي تُوجِبُ لِمَحَلِّهَا تَمْيِيزًا عَلَى الْغَيْرِ لَا تَمْيِيزًا ، وَهُوَ مَا عَدَا الْإِدْرَاكَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ كَالشَّجَاعَةِ وَغَيْرِ النَّفْسَانِيَّةِ كَالسَّوَادِ مَثَلًا فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تُوجِبُ لِمَحَالِّهَا تَمْيِيزًا عَنْ غَيْرِهَا ضَرُورَةَ أَنَّ الشُّجَاعَ بِشَجَاعَتِهِ مُمْتَازٌ عَنْ الْجَبَانِ ، وَالْأَسْوَدُ بِسَوَادِهِ مُمْتَازٌ عَنْ الْأَبْيَضِ ، وَأَمَّا الْإِدْرَاكَاتُ فَإِنَّهَا تُوجِبُ لِمَحَالِّهَا تَمَيُّزًا عَنْ غَيْرِهَا عَلَى قِيَاسِ مَا مَرَّ ، وَتُوجِبُ لَهَا أَيْضًا تَمْيِيزًا لِمُدْرَكَاتِهَا عَمَّا عَدَاهَا أَيْ تَجْعَلُهَا بِحَيْثُ تُلَاحَظُ مُدْرَكَاتُهَا وَتَمَيُّزُهَا عَمَّا سِوَاهَا فَظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْإِيجَابِ مَا يُصَحِّحُ قَوْلَنَا إذَا وُجِدَ وُجِدَ وَلَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُ التَّمْيِيزِ نَقِيضَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِطُرُوِّ نَقِيضِ هَذَا التَّمْيِيزِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يُطَابِقُ الْوَاقِعَ يُخْرِجُ الصِّفَاتِ الْإِدْرَاكِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ لِمَحَلِّهَا تَمْيِيزًا يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ نَقِيضَهُ كَالظَّنِّ وَالشَّكِّ وَالْوَهْمِ فَإِنَّ مُتَعَلَّقَ التَّمْيِيزِ الْحَاصِلِ فِيهَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَهُ بِلَا خَفَاءٍ ، وَالْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَطَّلِعَ صَاحِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا فِي الْوَاقِعِ فَيَزُولُ عَنْهُ مَا حُكِمَ بِهِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ إلَى نَقِيضِهِ ،

وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ لَيْسَ بِتَمْيِيزٍ ا هـ .
وَالتَّقْلِيدُ ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ بِالتَّشْكِيكِ ، وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ بَلْ رُبَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّقِيضِ جَزْمًا ، وَمُحَصَّلُ هَذَا كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِمَحَلِّ مُتَعَلَّقِهِ بِشَيْءٍ تُوجِبُ تِلْكَ الصِّفَةُ إيجَابًا عَادِيًا كَوْنُ مَحَلِّهَا مُمَيِّزًا لِلْمُتَعَلَّقِ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْمُتَعَلَّقِ نَقِيضَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ الْعَالِمُ ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ الْمُتَفَرِّعَ عَلَى الصِّفَةِ إنَّمَا هُوَ لَهُ لَا لِلصِّفَةِ وَلَا شَكَّ أَنْ تَمْيِيزَهُ إنَّمَا هُوَ لِشَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ تِلْكَ الصِّفَةُ وَالتَّمْيِيزُ وَذَلِكَ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ ا هـ .
لَكِنْ عَلَى هَذَا لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّجَوُّزِ بِالتَّمْيِيزِ عَنْ مُتَعَلَّقِهِ وَلَا إلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلَّقِهِ مُسْنَدًا إلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَاصِلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إلَى مُتَعَلَّقِهِ مُرَادًا بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوْ إلَيْهِ نَفْسُهُ حَقِيقَةً بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِطُرُوِّ نَقِيضِهِ بَدَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُطَابِقُ الْوَاقِعَ قَالَ الْفَاضِلُ سَيْفُ الدِّينِ الْأَبْهَرِيُّ : وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ تَارَةً مَاهِيَّةُ الْمُمْكِنِ قَابِلَةٌ لِوُجُودِهَا وَتَارَةً وُجُودُ الْمُمْكِنِ قَابِلٌ لِعَدَمِهِ ، وَمَآلُ الْعِبَارَتَيْنِ وَاحِدٌ ثُمَّ هَذَا الْحَدُّ يَتَنَاوَلُ التَّصْدِيقَ الْيَقِينِيَّ وَالتَّصَوُّرَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَيَدْخُلُ ) أَيْ التَّصَوُّرُ فِي حَدِّ الْعِلْمِ إذْ لَا نَقِيضَ لِلتَّصَوُّرِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّقِيضِينَ هُمَا الْمَفْهُومَانِ الْمُتَمَانِعَانِ لِذَاتَيْهِمَا ، وَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ التَّصَوُّرَاتِ فَمَفْهُومَا الْإِنْسَانِ وَاللَّا إنْسَانِ مَثَلًا لَا تَمَانُعَ بَيْنَهُمَا إلَّا إذَا اعْتَبَرَ ثُبُوتَهُمَا لِشَيْءٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ هُنَاكَ

قَضِيَّتَانِ مُتَنَافِيَتَانِ صِدْقًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّصَوُّرِ نَقِيضٌ صَدَقَ أَنَّ مُتَعَلَّقَهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ أَيْضًا فَإِذَا تَصَوَّرْنَا مَاهِيَّةَ الْإِنْسَانِ وَحَصَلَ فِي ذِهْنِنَا صُورَةً مُطَابِقَةً لَهَا فَالتَّمْيِيزُ هُنَا هُوَ تِلْكَ الصُّورَةُ إذْ بِهَا تَمْتَازُ وَتَنْكَشِفُ الْمَاهِيَّةُ وَلَا تَحْتَمِلُ نَقِيضَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ إذْ لَا نَقِيضَ لَهُ .
وَعَلَى هَذَا فَالْعِلْمُ بِالْإِنْسَانِ لَيْسَ تِلْكَ الصُّورَةَ بَلْ صِفَةٌ تُوجِبُهَا وَلَا يُقَالُ فَعَلَى هَذَا جَمِيعُ التَّصَوُّرَاتِ عُلُومٌ مَعَ أَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ مُطَابِقٍ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا يُوصَفُ التَّصَوُّرُ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ أَصْلًا فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَا مِنْ بَعِيدٍ شَبَحًا هُوَ حَجَرٌ مَثَلًا وَحَصَلَ مِنْهُ فِي أَذْهَانِنَا صُورَةُ إنْسَانٍ فَتِلْكَ الصُّورَةُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ وَالْعِلْمُ بِهِ تَصَوُّرِيٌّ وَالْخَطَأُ إنَّمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لِلشَّبَحِ الْمَرْئِيِّ فَالتَّصَوُّرَاتُ كُلُّهَا مُطَابِقَةٌ لِمَا هِيَ تَصَوُّرَاتٌ لَهُ مَوْجُودًا كَانَ أَوْ مَعْدُومًا مُمْكِنًا كَانَ أَوْ مُمْتَنِعًا ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي أَحْكَامِ الْعَقْلِ الْمُقَارَنَةُ لِتِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ فَلَا إشْكَالَ ، وَإِلَى مَعْنَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ : ( وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ ) لِلْوَاقِعِ ( فِي تَصَوُّرِ الْإِنْسَانِ ) حَيَوَانًا ( صَهَّالًا ) ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْوَاقِعِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ لَا صَهَّالٌ إنَّمَا هُوَ ( لِلْحُكْمِ ) الْعَقْلِيِّ ( الْمُقَارِنِ ) لِتَصَوُّرِ الْإِنْسَانَ حَيَوَانًا صَهَّالًا بِأَنَّ الصُّورَةَ الْمُتَصَوَّرَةَ لِلْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ صَهَّالٌ لَا غَيْرُ ( أَمَّا الصُّورَةُ ) الْحَاصِلَةُ فِي الذِّهْنِ الَّتِي الْعِلْمُ بِهَا تَصَوُّرِيٌّ ( فَلَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهَا ) أَيْ غَيْرَ نَفْسِهَا ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِرَدِّ مَا فِي حَاشِيَةِ الْمُحَقِّقِ التَّفْتَازَانِيِّ عَلَى شَرْحِ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ مُخْتَصَرَ ابْنِ الْحَاجِبِ تَعَقُّبًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى لَا نَقِيضَ لِلتَّصَوُّرِ أَنَّهُ لَا نَقِيضَ لِمُتَعَلَّقِهِ ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الشَّيْءِ

رَفْعُهُ وَسَلْبُهُ فَفِيهِ شَائِبَةُ الْحُكْمِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ أَنَّ هَذَا يُبْطِلُ كَثِيرًا مِنْ قَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ وَيُوجِبُ شُمُولَ التَّعْرِيفِ لِجَمِيعِ التَّصَوُّرَاتِ الْغَيْرِ الْمُطَابَقَةِ كَمَا إذَا تَعَقَّلَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانًا صَهَّالًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِتَمْيِيزٍ ا هـ .
نَعَمْ إنْ قِيلَ الْمُتَنَاقِضَانِ هُمَا الْمَفْهُومَانِ الْمُتَنَافِيَانِ لِذَاتَيْهِمَا وَالتَّنَافِي إمَّا فِي التَّحَقُّقِ وَالِانْتِفَاءِ كَمَا فِي الْقَضَايَا ، وَإِمَّا فِي الْمَفْهُومِ بِأَنَّهُ إذَا قِيسَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ كَانَ أَشَدَّ بُعْدًا مِمَّا سِوَاهُ فَيُوجَدُ فِي التَّصَوُّرَاتِ أَيْضًا كَمَفْهُومَيْ الْفَرَسِ وَاللَّا فَرَسِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى قِيلَ رَفَعَ كُلُّ شَيْءٍ نَقِيضَهُ سَوَاءٌ كَانَ رَفَعَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ رَفَعَهُ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَيًّا مَا كَانَ فَالْمُرَادُ بِالتَّصَوُّرِ الدَّاخِلِ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ مَا لَيْسَ مُتَعَلَّقُهُ مُحْتَمِلًا لِلنَّقِيضِ فَلَا يَضُرُّ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ خُرُوجِ الْوَهْمِ وَالشَّكِّ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ إدْرَاكَ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ مِنْ قَبِيلِ الْعِلْمِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيُقَيِّدُ التَّمْيِيزَ بِقَوْلِهِ بَيْنَ الْمَعَانِي أَيْ مَا لَيْسَ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَحْسُوسَةِ بِالْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ ، وَهِيَ الْأُمُورُ الْعَقْلِيَّةُ كُلِّيَّةً كَانَتْ أَوْ جُزْئِيَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعَانِي مَا يُقَابِلُ الْعَيْنِيَّةَ الْخَارِجِيَّةَ فَيَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْعِلْمِ إدْرَاكُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ تَمْيِيزًا فِي الْأُمُورِ الْعَيْنِيَّةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ الْمَعَانِيَ بِالْكُلِّيَّةِ مَيْلًا إلَى تَخْصِيصِ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْجُزْئِيَّاتِ .
هَذَا وَقَدْ تَعَقَّبَ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْمَلْوِيُّ هَذَا التَّعْرِيفَ بِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ ، وَإِلَّا فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23