كتاب : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
المؤلف : عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد

باب الجماعة
الجماعة واجبة على الرجال لكل صلاة مكتوبة لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ] متفق عليه وليست شرطا للصحة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ] متفق عليه وتنعقد باثنين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الاثنان فما فوقهما جماعة ] رواه ابن ماجة فإن أم الرجل عبده أو زوجته كانا جماعة لذلك وإن أم صبيا في النفل جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم أم ابن عباس في التهجد وإن أمه في فرض فقال أحمد رضي الله عنه : لا يكون مسقطا له لأنه ليس من أهله وعنه : يصح كما لو أم رجلا متنفلا
فصل :
ويجوز فعلها في البيت والصحراء لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد ] متفق عليه وعنه أن حضور المسجد واجب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ] وفعلها فيما كثر الجمع أفضل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى ] من المسند وإن كان في جواره مسجد تختل الجماعة فيه بغيبته عنه ففعلها فيه أفضل وإن لم تختل بذلك وثم مسجد آخر فالعتيق أفضل لأن الطاعة فيه أسبق وإن كانا سواء فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب على روايتين وإن كان البلد ثغرا فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد لأنه أعلى للكلمة و أوقع للهيبة وبيت المرأة خير لها فإن أرادت المسجد لم تمنع منه ولا تتطيب له لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن ] رواه أحمد وفي رواية : [ ليخرجن تفلات ] يعني غير متطيبات ولا بأس أن تصلي المرأة بالنساء لأن النبي صلى الله عليه و سلم أذن لأم ورقة أن تؤم أهل دارها رواه أبو داود
فصل :
ويعذر في ترك الجماعة والجمعة بثمانية أشياء :
المرض : لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر قالوا : يا رسول الله وما العذر ؟ قال : خوف أو مرض ] رواه أبو داود
والخوف : لهذا الحديث وسواء خاف على نفسه من سلطان أو لص أو سبع أو غريم يلزمه ولا شيء معه يعطيه أو على ماله من تلف أو ضياع أو سرقة أو يكون له دين على غريم يخاف سفره أو وديعة عنده إن تشاغل بالجماعة مضى وتركه أو يخاف شرور دابته أو احتراق خبزه أو طبخه أو ناطور بستان يخاف سرقة شيء منه أو مسافر يخاف فوت رفقته أو يكون له مريض يخاف ضياعه أو صغير أو حرمة يخاف عليها
والثالث والرابع : المطر والوحل : لما روي عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير : إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة وقل صلوا في بيوتكم فعل ذلك من هو خير مني إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين و الدحض متفق عليه
والخامس : الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة وهذا يختص بالجماعة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يأمر مناديا فيؤذن ثم يقول على أثر ذلك : [ ألا صلوا في الرحال ] في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر متفق عليه
السادس : أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه
السابع : أن يدافع الأخبثين أو أحدهما لما روت عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام ولا وهو يدافع الأخبثين ] رواه البخاري و مسلم
الثامن : أن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره لما روى ابن عمر رضي الله عنهما استصرخ علي سعيد بن زيد وقد تجهز للجمعة فذهب إليه وتركها
فأما الأعمى فلا يعذر إذا أمكنه الحضور لما روى أبو هريرة قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل أعمى فقال : يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأله أن يرخص له فرخص له فلما ولى دعاه فقال : [ أتسمع النداء بالصلاة قال : نعم قال : فأجب ] رواه مسلم
فصل :
ومن شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام المأموم حالهما فإن نوى أحدهما دون صاحبه لم تصح لأن الجماعة إنما انعقدت بالنية فيعتبر وجودها منهما وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صاحبه لم يصح لأنه لا مأموم له وإن نوى كل واحد منهما أنه مأموم لم يصح لأنه لا إمام له وإن نوى أن يأتم بأحد الإمامين لا بعينه لم يصح لأنه لا يمكنه اتباعه وإن نوى الائتمام بهما لم يصح لذلك وإن نوى الائتمام بالمأموم أو المنفرد لأنه ليس بإمام
فصل :
فإن أحرم على صفة ثم انتقل عنها ففيه ست مسائل :
إحداهن : أحرم منفردا ثم جاء إنسان فأحرم معه فنوى إمامته فيجوز في النفل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قام يصلي في التهجد فجاء ابن عباس فأحرم معه فصلى به النبي صلى الله عليه و سلم متفق عليه
وإن كان في فرض وكان يرجو مجيء من يصلي معه جاز أيضا نص عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أحرم بالصلاة وحده فجاء جابر وجبار فصلى بهما رواه أبو داود وإن لم يكن كذلك فعن أحمد لا يجزئه لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة وعنه ما يدل على الإجزاء لأنه يصح في النفل والفرض في معناه
الثانية : أحرم منفردا فحضرت جماعة فأحب أن يصلي معهم فقال أحمد رضي الله عنه : أحب إلي أن يقطع الصلاة ويدخل مع الإمام فإن لم يفعل ودخل معهم ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجزئه لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة
والثانية : يجزئه لأنه لما جاز أن يجعل نفسه إماما جاز أن يجعلها مأموما
الثالثة : أحرم مأموما ثم نوى الانفراد لعذر جاز نحو أن يطول الإمام أو تفسد صلاته لعذر من سبق حدث أو نحوه لما روى جابر قال : صلى معاذ بقومه فقرأ بسورة البقرة فتأخر رجل وصلى وحده فقيل له : نافقت يا فلان فأتى النبي ( ص ) فذكر له ذلك فقال : [ أفتان أنت يا معاذ ؟ ] مرتين متفق عليه
فإن نوى الانفراد لغير عذر فسدت صلاته لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر فأشبه ما لو تركها بغير نية المفارقة وفيه وجه أنه يصح بناء على المنفرد إذا نوى الإمامة
الرابعة : أحرم مأموما ثم صار إماما لعذر مثل أن سبق إمامة الحديث فيستخلفه فإنه يصح
وعنه : لا يصح وإن أدرك نفسان بعض الصلاة مع الإمام فلما سلم ائتم أحدهما بصاحبه في بقيتها ؟ ففيه وجهان فإن كان لغير عذر لم تصح
الخامسة : أحرم إماما ثم صار منفردا لعذر مثل أن يسبق الإمام الحدث أو تفسد صلاته لعذر فينوي الإمام المنفرد فيصح وإن كان لغير عذر لم يصح
السادسة : أحرم إماما ثم صار مأموما لعذر مثل أن يؤم غير إمام الحي فيزول عذر الإمام فيتقدم في أثناء الصلاة ويبني على صلاة الأول ويصير الأول مأموما ففيه وجهان :
أحدهما : يصح لما روى سهل بن سعد قال : ذهب رسول الله ( ص ) إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فصلى أبو بكر فجاء رسول الله ( ص ) والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فاستأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ( وتقدم النبي ( ص ) فصلى ثم انصرف ) متفق عليه
والثانية : لا يصح لأنه لا حاجة إلى ذلك وفعل النبي ( ص ) يحتمل أن يكون خاصا له لأن أحدا لا يساويه
فصل :
وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بغيرها لقول النبي ( ص ) : [ إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ] رواه مسلم وإن أقيمت وهو في نافلة خففها وأتمها إلا أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها لأن الفريضة أهم وعنه يتمها لقول الله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم }
وإن أقيمت قبل مجيئه لم يسع إليها لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : [ إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ] وروي : [ فاقضوا ] متفق عليه ولا بأس أن يسرع شيئا إذا خاف فوات الركعة لأنه جاء عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) أنهم كانوا يعجلون شيئا إذا خافوا الفوات فإن أدركه راكعا كبر للإحرام وهو قائم ثم كبر أخرى للركوع فإن كبر واحدة أجزأه نص عليه واحتج أنه فعل زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهما وإن أدرك قدر ما يجزىء في الركوع مع الإمام أدرك الركعة فإن لم يدرك ذلك لم يكن مدركا لها لما روى أبو هريرة أن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) قال : [ إذا أدركتم الإمام في السجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة ] رواه أبو داود وإن أدركه في سجود أو جلوس كبر الإحرام وانحط من غير تكبير لأنه لم يدرك محل التكبير في السجود
فصل :
وإذا أحس بداخل في القيام أو الركوع استحب له انتظاره ما لم يشق على المأمومين لما روى ابن أبي أوفى أن النبي ( ص ) كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم ولأنه انتظار ليدرك المأموم على وجه لا يشق فلم يكره كالانتظار في صلاة الخوف إلا أن يكون الجمع كثيرا فأنه لا يستحب لأنه يتعذر أن يكون فيهم من يشق عليه ولأنه يفوت حق جماعة كثيرة لأجل واحد ومن كبر قبل سلام الإمام فقد أدرك فضيلة الجماعة ويبني عليها
فصل :
وما يدركه المأموم من الإمام آخر صلاته لا يستفتح فيه وما يقضيه أولها يستفتح إذا قام إليه ويستعيد لقول النبي ( ص ) : [ وما فاتكم فاقضوا ] والمقضي هو الفائت
وعنه : إن ما يدركه أولها ما يقضيه آخرها لقوله ( ص ) : [ وما فاتكم فأتموا ] والأول المشهور لأنه يقرأ فيما يقضيه بالسورة بعد الفاتحة فكان أول صلاته كما لو بدأ به فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب أو الرباعية ففي موضع تشهد روايتان :
إحداهما : يأتي بركعتين متواليتين ثم يتشهد لأن المقضي أول صلاته وهذا صفة أول الصلاة ولأنهما ركعتان يقرأ فيهما بالسورة فكانتا متواليتين كغير المسبوق
والثانية : يأتي بركعة ثم يجلس لأنه يروى عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب ومسروق فإذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير كرر التشهد الأول فإذا قضى ما عليه تشهد وصلى على النبي ( ص ) ثم سلم
فصل :
وإن فاتته الجماعة استحب أن يصلي في جماعة أخرى فإن لم يجد إلا من قد صلى استحب لبعضهم أن يصلي معه لما روى أبو سعيد أن رجلا جاء وقد صلى رسول الله ( ص ) فقال : [ من يتصدق على هذا فيصلي معه ؟ ] وهذا حديث حسن ولقول رسول الله ( ص ) : [ صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ] ويجوز ذلك في جميع المساجد إلا أن أحمد رضي الله عنه كرهه في المسجد لحرام ومسجد الرسول
فصل :
ويتبع المأموم الإمام فيجعل أفعاله بعد أفعاله لقول النبي ( ص ) : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا ] متفق عليه والفاء للتعقيب وقال في حديث أبي موسى : [ فإن الإمام يركع قبلكم و يرفع قبلكم ] رواه مسلم وقال البراء بن عازب : كان رسول الله ( ص ) إذا قال : [ سمع الله لمن حمده ] لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع ساجدا فنقع سجودا بعده متفق عليه فإن كبر للإحرام مع إمامه أو قبله لم يصح لأنه ائتم بمن لم تنعقد صلاته وإن فعل سائر الأفعال معه كره لمخالفة السنة ولم تفسد صلاته لأنه اجتمع معه في الركن وإن ركع أو رفع قبله عمدا أتم لقول النبي ( ص ) : [ لا يسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ] والنهي يقتضي التحريم وروى أبو هريرة عن النبي ( ص ) أنه قال : [ أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار ] متفق عليه وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أن صلاته تبطل لهذا الحديث قال : لو كان له صلاة لرجي له الثواب ولم يخشى عليه العقاب
وقال القاضي : تصح صلاته لأنه اجتمع معه في الركن أشبه ما لو وافقه وإن فعله جاهلا أو ناسيا فلا بأس وعليه أن يعود ليأتي بذلك معه فإن لم يفعل صحت صلاته لأنه سبق يسير لا يمكن التحرز منه فإن ركع ورفع قبل أن يركع إمامه وسجد قبل رفعه عمدا عالما بتحريمه بطلت صلاته لأنه لم يأتم بإمامه في معظم الركعة وإن كان جاهلا أو ناسيا لم تبطل صلاته للعذر ولم يعتد بتلك الركعة لما ذكرنا فإن ركع قبله فلما ركع رفع ففي بطلان الصلاة لعمد ذلك والاعتداد بالركعة من جهله ونسيانه وجهان فإن ركع الإمام ورفع قبل ركوع المأموم عمدا بطلت صلاته لتركه المتابعة وإن كان لنوم أو غفلة ونحو ذلك لم تبطل لأنه سبق يسير ويركع ثم يدركه فإن سبقه بأكثر من ذلك لعذر ففيه وجهان
أحدهما : يفعله ويلحق كالمزحوم في الجمعة
والثاني : تبطل الركعة لأنها مفارقة كثيرة

باب صفة الأئمة
الكلام فيها في ثلاثة أمور :
أحدها : صحة الإمامة : والناس فيها على خمسة أقسام :
أحدها : من تصح إمامته بكل حال وهو الرجل المسلم العدل القائم بأركان لصلاة وشرائطها فتصح إمامته وإن كان عبدا لأن أبا ذر وابن مسعود و حذيفة وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قدموا أبا سعيد مملوكا لأبي أسيد فصلى بهم ولأنه من أهل الأذان لهم فأشبه الحر وتصح إمامة الأعمى لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يستخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى رواه أبو داود ولأن الأعمى فقد حاسة فأشبه فقد الشم وتصح إمامة الأصم لذلك فإن كان أصم أعمى فقال بعض أصحابنا : لا تصح إمامته لأنه قد يسهو فلا يمكن تنبيهه والأولى صحتها لأنه لا يخل بشيء من واجبات الصلاة والسهو عارض لا يبطل الصلاة احتمال وجوده كالجهل بحكم السجود وتصح إمامة ولد الزنا والجندي و الخصي والأعرابي إذا سلموا في دينهم لدخولهم في عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يؤم القوم أقرأهم ] وتصح إمامة المتيمم بالمتوضىء لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه متيمما وأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فضحك ولم ينكر عليه لأن طهارته صحيحة أشبه الماسح
فصل :
القسم الثاني : من لا تصح إمامته وهم نوعان :
أحدهما : من لا تصح صلاته لنفسه كالكافر والمجنون ومن أخل بشرط أو واجب لغير عذر فلا تصح إمامته بحال أنه لا صلاة له في نفسه أشبه اللاعب إلا في المحدث والنجس إذ لم يعلم هو والمأموم حتى فرغوا من الصلاة أعاد وحده لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى الجرف فاهراق الماء فوجد في ثوبه احتلاما فأعاد ولم يعد الناس وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي وابن عمر ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعا ولأن هذا مما يخفى فكان المأموم معذورا في الاقتداء به والنجاسة كالحدث لأنها مما تخفى ولا يعفى عن سائر الشروط لأنها ليست في مظنة الخفاء فإن علم الإمام والمأموم ذلك في أثناء الصلاة لزمهم الاستئناف وحكي عنه في المأموم أنه يبني على ما مضى لو سبق الإمام الحدث والمذهب الأول لأن ما مضى بني على غير طهارة بخلاف من سبقه الحدث وإن علم بعض المأمومين دون بعض فالمنصوص أنهم يعيدون جميعا لعدم المشقة فيه ويحتمل أن تختص الإعادة بمن علم لأنه اختص بالعلم المبطل فاختص البطلان كما لو أحدث
النوع الثاني : الفاسق إما بالأفعال أو ببدعة لا تكفره ففي إمامته روايتان :
إحداهما : تصح لقول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي ذر : [ كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة عن وقتها ] قال : قلت : فما تأمرني ؟ قال : [ صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة ] من المسند وكان ابن عمر يصلي وراء الحجاج و الحسن والحسين يصليان وراء مروان
والثانية : لا يصح لأن جابرا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تؤمن امرأة رجلا ولا فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه ] رواه ابن ماجة
ولأنه لا يؤمن على شرائط الصلاة ويحتمل أن تصح الجمعة والعيد دون غيرهما لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بهما خلف كل بر وفاجر لأنها لا تختص بإمام واحد فالمنع منها خلف الفاسق يفضي إلى تفويتها فسومح فيها دون سائر الصلوات
فصل :
القسم الثالث : من تصح إمامته بمثله ولا تصح بغيره وهم ثلاثة أنواع :
إحداها : المرأة يجوز أن تؤم النساء لما تقدم ولا يجوز أن تؤم رجلا ولا خنثى مشكلا في فرض ولا صلاة نفل لقول عليه السلام : [ لا تؤمن امرأة رجلا ] ولأنها لا تؤذن للرجال فلم يجز لها أن تؤمهم كالمجنون
والثاني : الأمي وهو : من لا يحسن الفاتحة أو يخل بترتيلها أو حرف منها أو يبدله بغيره كالألثغ الذي يجعل الراء غينا ومن يلحن لحنا يحيل المعنى مثل أن يضم تاء { أنعمت } أو يكسر كاف { إياك } أو يخل بشدة فإن الشدة قامت مقام حرف بدليل أن شدة راء الرحيم قامت مقام اللام لكن إذا خففها أجزأته فهؤلاء إن لم يقدروا على إصلاح قراءتهم أميون تصح صلاتهم بمثلهم ولا تصح بقارىء لأنه عجز عن ركن الصلاة فأشبه العاجز عن السجود فإن أم أميين وقارئا صحت صلاة الأميين وفسدت صلاة القارىء وفي معنى هذا النوع من يخل بشرط أو ركن كالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود والقيام والقعود و المستحاضة ومن به سلس البول وأشباههم تصح صلاتهم في أنفسهم وبمن حاله كحالهم ولا تصح بغيرهم لأنهم أخلوا بفرض الصلاة فأشبه المضجع يؤم القائم إلا في موضع واحد وهو العاجز عن القيام يؤم القادر عليه بشرطين :
أحدهما : أن يكون إمام الحي
والثاني : أن يرجى زوال مرضه ويصلون خلفه جلوسا لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بهم جالسا فصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا ثم قال : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ] متفق عليه فإن صلوا قياما ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح للنهي عنه
والثاني : يصح لأن القيام هو الأصل وقد أتوا به فإن ابتدأ بهم قائما ثم اعتل فجلس أتموا قياما لأن عائشة قالت : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] فلما دخل أبو بكر في الصلاة خرج النبي صلى الله عليه و سلم فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائما يقتدي برسول الله صلى الله عليه و سلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر متفق عليه فأتموا قياما لابتدائهم بها قياما فأما غير إمام الحي فلا يصح أن يؤم قادرا على القيام وهو جالس لعدم الحاجة إلى تقديمه مع عجزه وإن لم يرج برؤه لم تجز إمامته لأنه لا يجوز استبقاؤه إماما دائما مع عجزه واحتمل هذا في القيام دون سائر الأركان لخفته بدليل سقوطه في النفل دونها فإن كان أقطع اليدين فقال أبو بكر : لا تصح إمامته لإخلاله بالسجود على عضوين من أعضاء السجود فأشبه العاجز عن السجود على جبهته وفي معناه : اقطع اليد الواحدة
وقال القاضي : تصح إمامته لأنه لا يخل بركن الصلاة بخلاف تارك السجود على الجبهة
النوع الثالث : الصبي تصح إمامته بمثله لأنه بمنزلته ولا تصح إمامته ببالغ في فرض نص عليه لأن ذلك روي عن ابن مسعود و ابن عباس ولأنه ليس من أهل الكمال فلا يؤم الرجال كالمرأة وهل يؤمهم في النفل على روايتين
إحداهما : لا تصح لذلك
والثانية : تصح لأن صلاته نافلة فيؤم من هو من مثل حاله ويخرج أن تصح إمامته لهم في الفرض بناء على إمامة المتنفل للمفترض ولأن عمر بن سلمة الجرمي كان يؤم قومه وهو غلام في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم أخرجه البخاري
فصل :
القسم الرابع : من تصح إمامته من دونه ولا تصح بمثله ولا أعلى منه وهو الخنثى المشكل تصح إمامته بالنساء لأن أدنى أحواله أن يكون امرأة ولا تصح برجل لأنه يحتمل أن يكون امرأة ولا خنثى مشكل لأنه يحتمل كون المأموم رجلا
فصل :
القسم الخامس : المتنفل يصح أن يؤم متنفلا وهل يصح أن يؤم مفترضا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يصح لأن صلاة المأموم لا يتأدى بنية الإمام فأشبه الجمعة خلف من يصلي الظهر
والثانية : يصح وهي أولى لأن جابرا روى أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة متفق عليه [ وصلى النبي صلى الله عليه و سلم في الخوف بطائفة ركعتين ثم سلم ثم صلى بالأخرى ركعتين ثم سلم ] رواه أبو داود وهو في الثانية متنفل ويؤم مفترضين ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال فأشبه المتنفل يأتم بمفترض وإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر أو صلى العشاء خلف من يصلي التراويح ففيه روايتان وجههما ما تقدم فإن كانت إحدى الصلاتين تخالف الأخرى كصلاة الكسوف والجمعة خلف من يصلي غيرهما أو غيرهما خلف من يصليهما لم يصح رواية واحدة لأنه يفضي إلى المخالفة في الأفعال فيدخل في قوله عليه السلام : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عنه ] وإن صلى من يؤدي صلاة خلف من يقضيها أو من يقضيها خلف من يؤديها صحت رواية واحدة ذكره الخلال لأن الصلاة واحدة وإنما اختلف الوقت وخرج بعض أصحابنا فيها روايتين كالتي قبلها
فصل :
الأمر الثاني في أولى الناس بالإمامة وأتم ما روي فيه حديث أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا أو قال سلما ولا يؤمن الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ] رواه مسلم فأولى الناس بالإمامة السلطان للحديث وهو الخليفة أو الوالي من قبله أو نائبهما فإن لم يكن سلطان فصاحب البيت أحق للخبر وقال أبو سعيد مولى أبو أسيد : تزوجت وأنا مملوك فدعوت ناسا من أصحاب رسول الله ( ص ) فيهم أبو ذر و ابن مسعود و حذيفة فحضرت الصلاة فتقدم أبو ذر فقالوا له : وراءك فالتفت إلى أصحابه فقال : أ كذلك ؟ قالوا : نعم فقدموني رواه صالح بإسناده في مسائله فإن أذن صاحب البيت لرجل فهو بمنزلته وإن اجتمع السلطان وصاحب البيت فالسلطان أولى لأن ولايته على البيت وصاحبه وإن اجتمع السلطان وخليفته فالسلطان أولى لأن ولايته أعم و إن اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى لأنه مالك للعبد وبيته وإن اجتمع المؤجر والمستأجر في الدار فالمستأجر أولى لأنه أحق بالمنفعة وإمام المسجد الراتب فيه بمنزلة صاحب البيت لا يجوز لأحد أن يؤم فيه بغير إذنه لذلك ويجوز في غيبته لأن أبا بكر صلى حين غاب النبي ( صلى الله عليه و سلم ) وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف مرة فقال النبي ( صلى الله عليه و سلم ) : [ أحسنتم ] رواه مسلم فإن لم يكن ذو مزية من هؤلاء فأولاهم أقرأهم لكتاب الله للخبر ولقول رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) : [ إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ] رواه مسلم
ويرجع في القراءة بجودتها وكثرة القرآن فإن كان أحدهم أجود ولآخر أكثرهم قرآنا فالأجود أولى لأنه أعظم أجرا لقول النبي ( ص ) : [ من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة ] حديث حسن صحيح
وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : إعرب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه فإن اجتمع قارىء لا يعرف أحكام الصلاة وفقيه أمي فالقارئ أولى للخبر ولأنه لا تصح صلاته خلف الأمي وإن كان الفقيه يقرأ ما يجزئ في الصلاة فكذلك الخبر
وقال ابن عقيل : الفقيه أولى لأنه تميز بما لا يستغنى عنه في الصلاة فإن استويا في القراءة فأولاهما افقههما للخبر ولأن الفقيه يحتاج إله في الصلاة فأشبه القراءة وإن استويا في ذلك فأولاهما أقدمهما هجرة وهو المهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام فإن استويا في ذلك فأكبرهما سنا للخبر ولأن النبي ( ص ) قال لمالك بن الحويرث : [ إذا حضرت الصلاة فليؤذن إحداكما وليؤمكما أكبركما ] حديث صحيح ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء يرجح بتقدم الإسلام لقوله ( ص ) : [ أقدمهم سلما ] لأنه إذا رجح بتقدم السن فبالإسلام أولى فإن استويا في ذلك قدم من أشرفهما نسبا وأفضلهما في أنفسهما وأعلاهما قدرا لقول النبي ( ص ) : [ قدموا قريشا ولا تقدموها ] هذا ظاهر كلام أحمد وقال الخرقي : إذا استويا في الفقه فقدم أكبرهما سنا فإن استويا فأقدمهما هجرة وقال ابن حامد يقدم الشرف بعد الفقه ثم الهجرة ثم السن فإن استووا قدم أتقاهم و أورعهم لقول الله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ولأنه أقربهم إلى الإجابة
فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد و أتمهم مراعاة له ويقدم الحر على العبد لأنه من أهل المناصب والحاضر يقدم على المسافر لأنه إذا أم حصل جميع الصلاة في جماعة بخلاف المسافر
والحضري على البدوي لأنه أجدر بمعرفة حدود الله تعالى وأحرى بإصابة الحق
والبصير على الأعمى لأنه أقدر على توقي النجاسات واستقبال القبلة بعلم نفسه
وقال القاضي : هما سواء لأن الضرير لا يرى ما يلهيه ويشغله فذلك يقابل البصر فيستويان والأولى لإمام الحي إذا عجز عن القيام أن يستنيب لئلا يلزمهم ترك ركن فإن استووا أقرع بينهم لأن سعدا أقرع بين أهل القادسية في الأذان ولا يرجح بحسن الوجه لأنه لا مدخل له في الإمامة
فصل :
الثالث : أنه يكره إمامة اللحان لأنه نقص يذهب ببعض من الثواب وإمامة من لا يفصح ببعض الحروف كالضاد والقاف وإمامة التمتام وهو من يكرر التاء و الفأفاء فالذي يكرر الفاء لأنهما يزيدان في الحروف وتصح الصلاة خلفهما لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال فإن كان يجعل الضاد ظاء في الفاتحة فقياس المذهب أنه كالأمي لأنه يبدل حرفا بغيره ويحيل المعنى فإنه يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا
ويكره أن يؤم قوما أكثرهم له كارهون لما روى أبو أمامة قال : قال رسول الله ( ص ) : [ ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها [ عليها ساخط ] وإمام قوم وهم له كارهون ] وهذا الحديث حسن
فإن كانوا يكرهونه لسنته أو دينه فلا يكره قال منصور : قيل لنا : إنما عنى بهذا أئمة الظلم فأما من أقام بالسنة فإنما الإثم على من كرهه
ويكره أن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن ويكره أن يتقدم المفضول من هو أولى منه لأنه جاء في الحديث : [ إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال ] احتج به أحمد رضي الله عنه

باب موقف الصلاة
إذا كان المأموم واحدا وقف عن يمين الإمام فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه فإن جاء آخر كبر وتأخر فصفا خلفه ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقا فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيده لما روى جابر قال : سرت مع النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة فقام يصلي فتوضأت ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره فأخذنا بيديه جميعا حتى أقامنا خلفه من المسند وإن صليا عن يمينه أو أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره جاز لما روي أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل رواه أبو داود ولأن الوسط موقف لإمام العراة وإمامة النساء
فإذا كان معهم امرأة قامت خلفهم لما روى أنس قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا فصلى بنا ركعتين متفق عليه فإن اجتمع رجال وصبيان و خناثى ونساء تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء لما روى أبو مالك الأشعري أنه قال : ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : أقام الصلاة فصف الرجال ثم صف خلفهم الغلمان ثم صلى بهم ثم قال : هكذا قال عبد الأعلى لا أحسبه إلا قال صلاة أمتي رواه أبو داود
فإن لم يكن مع الرجال إلا امرأة وقفت خلفه فإن كان معه صبي وقف عن يمينه لما روى ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه و سلم يصلي من الليل فقمت فوقفت عن يساره فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه متفق عليه
فإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما كما في حديث ابن مسعود وجعل الرجل عن يمينه أو جعلهما عن يمينه وإن كان في نافلة وقفا خلفه على ما في حديث أنس
فصل :
فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاتهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به ]
وإن وقف الواحد خلف الصف أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته لأن النبي صلى الله عليه و سلم أدار ابن عباس وجابر لما وقفا عن يساره وروى وابصة بن معبد أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد رواه أبو داود وعن علي بن شيبان قال : صلى بهم النبي صلى الله عليه و سلم فانصرف ورجل فرد خلف الصف فتوقف النبي صلى الله عليه و سلم حتى انصرف الرجل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ استقبل صلاتك فلا صلاة لفرد خلف الصف ] رواه الأثرم قال أحمد رضي الله عنه : فيه وفي حديث وابصة هذا حديث حسن
ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته كما لو وقف قدام الإمام فإن صلى ركعة واحدة لم تصح صلاته وإن جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة وإن كان ذلك بعد رفع الإمام ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : يصح لأنه لم يصل ركعة واحدة أشبه ما لو أدرك الركوع
والثانية : لا يصح لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة أشبه من صلى ركعة
والثالثة : إن كان جاهلا لم يعد وإن كان عالما أعاد لما روى البخاري أن أبا بكرة انتهى إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو راكع فركع قبل أن يصله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ زادك الله حرصا ولا تعد ] فلم يأمره بالإعادة لجهله ونهاه عن العود والنهي يقضي الفساد فإن ذلك لغير عذر ولا خشي الفوات فحكمه حكم من خاف الفوات لأن الموقف لا يختلف ليخيفه الفوات وعدمه ويحتمل أن لا يصح لأن الرخصة وردت في حق المعذور فلا يلحق به غيره
فصل :
ومن وقف معه كافر أو امرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة فحكمه حكم الفذ لأنهم من غير أهل الوقوف معه وإن وقف معه فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفا : لأنهم من أهل الوقوف معه وإن وقف الصبي معه في النفل كانا صفا لحديث أنس وإن كان في فرض احتمل أن يكون معه صفا لأنه كالمتنفل واحتمل أن لا يصح لأنه ليس من أهل الإمامة له فيه أشبه المرأة
وإن وقف معه محدث أو نجس يعلمان بذلك فهو كالفذ وإن لم يعلما بذلك صحت صلاته لأنه لو كان إماما له صحت صلاته
وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها وقال أبو بكر : تبطل صلاة من يليها لأنه خالف الموقف والأول أولى لأنها هي التي خافت بوقوفها مع الرجال فلم تبطل صلاتها فصلاته أولى
فإن وقف اثنان خلف الصف فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف أو وقف عن يمين الإمام أو نبه من يخرج فيقف معه فإن لم يمكنه نوى مفارقته وأتم منفردا لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث
فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام فإن لم يمكنه نبه رجلا يتأخر معه فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده أو ينتظر جماعة أخرى
فصل :
السنة للمرأة إذا أمت نساء أن تقوم وسطهن لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها وإن وقفت خلفها جاز لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها بدليل حديث أنس
فصل :
والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ وسطوا الإمام وسدوا الخلل ] رواه أبو داود وإن يتموا الصف الأول لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أتموا الصف الأول فما كان من نقص فليكن في الصف الآخر ] رواه أبو داود
و خير صفوف الرجال أولها وخير صفوف النساء آخرها لقول رسول الله ( ص ) : [ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ] رواه مسلم قال أحمد : ويلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن ويؤخر الصبيان الغلمان لأن النبي ( ص ) قال : [ ليلني منكم أولوا الأحلام والنهي ] رواه مسلم
فصل :
والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين لما روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار وقام على دكان والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ بيده واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله ( ص ) وهو يقول : [ إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم ] وقال عمار فلذلك اتبعتك حين أخذت علي يدي رواه أبو داود فإن فعل فقال ابن حامد : تبطل صلاته لارتكاب النهي وقال القاضي : لا تبطل لأن عمارا بنى على صلاته وعن أحمد رضي الله عنه : لا بأس بهذا لما روى سهل قال : رأيت رسول الله ( ص ) قام على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم ركع ثم رفع فنزل القهقري حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم قال : [ أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ] متفق عليه ولا بأس بالعلو اليسير لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه فيه بخلاف الكثير ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام لذلك ويصح أن يأتم به من في أعلى المسجد وغيره إذا اتصلت الصفوف
فصل :
يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد وإن تباعد لأن المسجد كله موضع للجماعة فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة وسماع التكبير لم يصح الائتمام به لتعذر اتباعه وإن منع المشاهدة دون السماع ففيه وجهان :
أصحها صحة الصلاة لأن أحمد قال في المنبر إذا قطع الصف لم يضر ولأنهم في موضع الجماعة ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير فأشبه المشاهد
والثاني : لا يصح لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها : لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب والحجاب موجود هاهنا فإن كان المأموم في غير المسجد وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام أو من وراءه لم تصح الصلاة لحديث عائشة وقال ابن حامد : يمنع في الفرض وفي النافلة روايتان
وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس ويشترط اتصال الصفوف وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن ولا طريق والصحيح أن هذا لا يمنع لأنه لا يمنع المتابعة إلا أن يكون عريضا يمنع الاتصال
فصل :
ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها لما روى أبو سعيد قال : قال رسول الله ( ص ) : [ إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ] رواه الأثرم قال سهل : كان بين النبي ( ص ) وبين القبلة ممر الشاة رواه البخاري و مسلم
وقدر السترة مثل آخر الرحل وقد قدر الذراع أو عظم الذراع إلا أن النبي ( ص ) قال : [ إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبال ما مر وراء ذلك ] رواه مسلم
ويجوز أن يستتر بعصا أو حيوان لأن النبي ( ص ) كان تركز له الحرية فيصلي إليها و يعرض البعير فيصلي إليه وقال نافع : كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلى سارية قال : ولني ظهرك فإن لم يجد سترة خط خطا لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : [ إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ثم لا يضره ما مر أمامه ] رواه أبو داود قال أحمد رضي الله عنه : الخط عرضا مثل الهلال وقد قالوا طولا وقالوا عرضا
قال الشيخ : وأنا أختار هذا فإن لم يمكنه نصب العصا ولا الخط عرضها بين يديه لأنها تقوم مقام الخط ولا يصمد للسترة لكن ينحرف عنها يسيرا لقول المقداد : ما رأيت رسول الله ( ص ) يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن ولا يصمد له صمدا رواه أبو داود
وسترة الإمام سترة لمن خلفه لأن النبي ( ص ) كان يصلي بأصحابه إلى سترة ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء
فصل :
وإذا مر من وراء سترته بشيء فلا بأس للحديث فإن أراد المرور دونها رده فإن لح دفعه إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير لما روى أبو سعيد قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : [ إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو الشيطان ] متفق عليه فإن مر بين يديه لم يرده من حيث جاء لأنه مرور ثان وإن صلى إلى غير سترة فمر من بين يديه شيء فحكمه حكم ما مر بينه وبين السترة للحديث ويتقيد ذلك بالقريب منه الذي لو مشى إليه فدفعه لم تفسد صلاته لأن النبي ( ص ) أمر بدفع المار فتقيد به بدلالة الإجماع بما لا يفسد الصلاة فكذلك هذا
فصل :
ويحرم المرور بين يدي المصلي لما روى أبو جهيم الأنصاري قال : قال رسول الله ( ص ) : [ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه ] متفق عليه ولا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود البهيم الذي لا لون فيه سوى السواد لما روى أبو ذر قال : قال رسول الله ( ص ) : [ إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره مثل آخر الرحل فإن لم يكن بين يديه مثل آخر الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود ] قلت : يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ قال : يا ابن أخي سألن رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) كما سألتني فقال : [ الكلب الأسود شيطان ] رواه مسلم
وعن أحمد أن مرور المرأة والحمار يقطع الصلاة للحديث والمشهور الأول لأن
عائشة رضي الله عنها قالت : عدلتمونا بالكلب والحمار لقد كان رسول الله ( ص ) يصلي صلاته في الليل كلها وأنا معترضة بينه مبين القبلة متفق عليه وقال : الفضل بن عباس : أتانا النبي ( ص ) ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه فما بالى ذلك رواه أبو داود فإن كان الكلب واقفا بين يديه ففيه وجهان :
أحدهما : حكمه حكم المار لأنه حصل بين يديه أشبه المار
والثاني : لا تفسد صلاته لأن حكم الواقف يخالف حكم المار بدليل أن النبي ( ص ) كان يصلي إلى البعير ويصلي وعائشة في قبلته ولا يرى ذلك كالمرور ومن غضب سترة فاستتر بها فهل يمنع ما مر وراءها فيه وجهان بناء على الصلاة في الثوب المغصوب
فصل :
ولا حاجة في مكة إلى سترة ولا يضره ما بين يديه لأن المطلب قال : رأيت رسول الله ( ص ) يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه رواه الخلال : وكان ابن الزبير رضي الله عنه يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر ثم يضع جبهته في موضع قدمها

باب قصر الصلاة
ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع لأن قصر الصبح يجحف بها لقلتها وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترا ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط ستة :
أحدها : أن تكون في سفر طويل قدره أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي وذلك نحو من يومين قاصدين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد ما بين عسفان إلى مكة وكان ابن عباس رضي الله عنهما و ابن عمر لا يقصران في أقل من أربعة برد ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشدة فجاز القصر فيها كمسيرة ثلاثة أيام
وسواء كان في بر أو بحر لأن الاعتبار بالفراسخ وإن شك في قدر السفر لم يبح القصر لأن الأصل الإتمام فلا يزول بالشك والاعتبار بالنية دون حقيقة السفر فلو نوى سفرا طويلا فقصر ثم بدأ له فأقام أو رجع كانت صلاته صحيحة ولو خرج طالبا لآبق أو منتجعا غيثا متى وجده رجع أو أقام لم يقصر ولو سافر شهرا
ولو خرج مكرها كالأسير يقصد به بلدا بعينه فله القصر لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر فإذا وصل حصنهم أتم حينئذ نص عليه وإن كان للبلد طريقان طويل وقصيرة فسلك البعيدة ليقصر فله ذلك لأنه سفر يقصر في مثله فجاز له القصر كما لو لم يكن له طريق سواه
فصل :
والثاني : أن يكون السفر مباحا فإن سافر لمعصية كالآبق وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر ولم يترخص بشيء من رخص السفر لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها ولا يرد الشرع بذلك
فصل :
والثالث : شروعه بالسفر بخروجه من بيوت قريته لأن الله تعالى قال : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ولا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج فله القصر بين حيطان البساتين لأنها ليست من حيطان البلد ولا تبنى للسكنى
وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء وإن كانت حيطانه قائمة فقال القاضي : لا يقصر حتى يفارقها لأنه يمكن السكنى فيها وقال الآمدي : له القصر بينهما لأنها غير معتمدة للسكنى فهي كالبساتين
فصل :
الرابع : أن ينوي القصر مع نية الإحرام وقال أبو بكر لا يحتاج إلى النية لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصيام ولنا أن الأصل الإتمام فإطلاق النية ينصرف إليه كما لو نوى الصلاة مطلقا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل فإن شك نية القصر لزمه الإتمام لأنه الأصل فلو نوى الإتمام في ابتداء الصلاة أو في أثنائها أو ما يلزمه الإتمام كالإقامة أو قلب نيته إلى سفر قريب أو معصية لزمه إتمام الصلاة ولزم من خلفه متابعته لأن نية الأربع أو ما قد يوجبها قد وجد فلزمته الأربع كما لو نوى في الابتداء ومن قصر معتقدا تحريم القصر فصلاته فاسدة لأنه فعل ما يعتقد تحريمه
فصل :
الخامس : ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر فلو ترك صلاة حضر فقضاها في السفر لم يجز له قصرها لأنه تعين فعلها أربعا فلم يجز النقصان فيها كما لو نوى أربع ركعات ولأن القضاء معتبر بالأداء والأداء أربع ومن سافر بعد دخول وقت صلاة لم يقصرها لذلك وحكي عنه أن له قصرها لأنها صلاة مؤداة في السفر فأشبه ما لو دخل وقتها فيه
ولو أحرم بها في سفينة في الحضر فخرجت به في أثناء الصلاة أو أحرم بها في السفر فدخلت البلد في أثناء الصلاة لم يقصر لأنها عبادة تختلف في السفر والحضر ووجد أحد طرفيها في الحضر فغلبت حكمه كالمسح
وإن نسي صلاة سفر فذكرها في الحضر أتمها لذلك وإن ذكرها في سفر أو في سفر آخر قصرها لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر فكان له قصرها كما لو أداها ويتخرج أن يلزمه إتمامها إذا ذكرها في سفر آخر لأن الوجوب كان ثابتا في ذمته في الحضر
فصل :
السادس : أن لا يأتم بمقيم فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها لأن ابن عباس سئل : ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعا إذا ائتم بمقيم ؟ فقال : تلك السنة رواه الإمام أحمد وهذا ينصرف إلى سنة النبي ( صلى الله عليه و سلم ) ولأنها صلاة مردودة من أربع فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعا لائتمامه بالمقيم ومن ائتم بالمقيم ففسدت صلاته لم يجز له قصرها بعد ذلك لأنها تعينت عليه تامة لائتمامه بمقيم
ومن أحرم مع من يظنه مقيما أو يشك فيه لزمه الإتمام وإن قصر إمامه اعتبارا بالنية وإن غلب على ظنه أنه مسافر لدليل فله أن ينوي القصر ويتبع إمامه فيقصر بقصره ويتم بإتمامه وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله فله القصر لأن الظاهر أنه مسافر
وإن أم المسافر مقيما لزم المقيم الإتمام ويستحب للإمام أن يقول لهم : أتموا فإنا قوم سفر لما روى عمران بن حصين قال : شهدت الفتح مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان لا يصلي إلا ركعتين ثم يقول لأهل البلد : [ صلوا أربعا فأنا مسافر ] رواه أبو داود
وإن أتم الإمام بهم صحت الصلاة
وعنه : تفسد صلاة المقيمين لأنهم ائتموا بمتنفل في الركعتين الأخيرتين والأول المذهب لأن الإتمام يلزمه بنيته
وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس ولا يلزمه الإتمام لأن الموجب لإتمام نيته أو ائتمامه بمقيم ولم يوجد فإن جلس سجد للسهو وله أن يتم
فإن لم يعلم المأموم هل سها أو نوى الإتمام ؟ لزمته متابعته لأن حكم وجوب المتابعة ثابت فلا يزول بالشك فإذا اتبعوه فصلاتهم صحيحة لما ذكرناه وإن علموا أن قيامه لسهو فلهم مفارقته فإن تابعوه فقال القاضي : تفسد صلاتهم لأنهم زادوا في الصلاة عمدا والصحيح أنها لا تفسد لأنها زيادة لا تفسد بها صلاة الإمام عمدا فلا تفسد بها صلاة المأموم كزيادات الأقوال وإذا صلى بهم الأربع سهوا سجد للسهو وليس بواجب عليه لأنها زيادة لا يبطل بعمدها فلا يجب لها السجود كقراءة السورة في الثالثة
فصل :
وللمسافر أن يقصر وله أن يتم لقول الله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } فمفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال : [ أحسنت ] رواه أبو داود الطيالسي ولأنه تخفيف أبيح للسفر فجاز تركه كالمسح ثلاثا والقصر أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه داوموا عليه وعابوا من تركه قال عبد الرحمن بن يزيد : صلى عثمان أربعا فقال عبد الله : صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق ولوددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان متفق عليه وأتى ابن عباس رجل فقال : إني كنت مع صاحب لي في السفر فكنت أتم وصاحبي يقصر فقال : بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم
فصل :
وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإن نوى دونها قصر وعنه : إن نوى الإقامة أربعة أيام أتم لأن الثلاث حد القلة بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا ] رواه أبو داود فإذا أقام أربعا فقد زاد على حد القلة فيتم والأول المذهب لأن النبي صلى الله عليه و سلم أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها وذلك أنه قدم لصبح رابعة فأقام إلى يوم التروية فصلى الصبح ثم خرج فمن أقام مثل إقامته قصر ومن زاد أتم ذكره الإمام أحمد قال أنس أقمنا بمكة عشرا نقصر الصلاة ومعناه ما ذكرناه لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعد من العشرة وفي هذا الحديث دليل على أن من قصد بلدا ينوي الرجوع عنه قريبا فله القصر فيه لكون النبي صلى الله عليه و سلم قصر بمكة وهي مقصده وفيه دليل على أن من قصد رستاقا يتنقل فيه لا ينوي إقامة في موضع واحد فله القصر لأن النبي صلى الله عليه و سلم قصر بمكة ومنى وعرفة عشرا ومن كان بمكة مقيما فخرج إلى عرفة عازما على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم بها فله القصر من حين خروجه ولو خرج المسافر فذكر حاجة في بلده قصر في رجوعه إليها فإذا وصل البلد فإن كان له به أهل أو مال أتم وإلا قصر فيه أيضا
ومتى مر المسافر ببلده له به أهل أو ماشية أتم لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهما
فصل :
ومن لم يجمع على إقامة إحدى وعشرين صلاة قصر وإن أقام دهرا مثل من يقيم لحاجة يرجو إنجازها أو جهاد أو حبس سلطان أو عدو أو مرض سواء غلب على ظنه كثرة ذلك أو قلته لأن النبي صلى الله عليه و سلم أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يقصر الصلاة رواه البخاري وأقام بتبوك عشرين يوما يقصر رواه الإمام أحمد رضي الله عنه وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول وإن قال : إن لقيت فلانا أقمت وإلا لم أقم لم يبطل حكم سفره لأنه لم يعزم على الإقامة
فصل :
والملاح الذي أهله معه في السفينة وحاجة بيته ولا بيت له غيرها وليس له نية المقام ببلد لا يقصر نص عليه لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله فأشبه المقيم ببلد قال القاضي : و المكاري و الفيج مثل في ذلك والأولى إباحة القصر لهما لدخولهما في النصوص المبيحة وامتناع قياسها على الملاح لأنه لا يمكنهما استصحاب الأهل ومصالح المنزل في السفر وزيادة المشقة عليه في سفره بحمل أهله معه بخلاف الملاح

باب الجمع بين الصلاتين
وأسباب الجمع ثلاثة :
أحدها : السفر المبيح للقصر لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينها ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق متفق عليه وهذا لفظ مسلم وخص الخرقي الجمع بهذه الحالة إذا ارتحل قبل دخول الوقت الأولى أخرها حتى يجمعها مع الثانية في وقت الثانية وروى نحوه عن أحمد رضي الله عنه والمذهب جواز الجمع لمن جاز له القصر في نزوله وسيره وله الخيرة بين تقديم الثانية فيصليها مع الأولى وبين تأخير الأولى إلى الثانية لما روى معاذ : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليها جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب ) قال الترمذي : هذا حديث حسن وروى ابن عباس ونحوه وروى ابن عباس نحوه وروى أنس نحوه أخرجه البخاري ولأنها رخصة من رخص السفر فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى لأنها نية تفتقر إليها فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر وفيه وجه آخر أنه يجزئه أن ينوي قبل الفراغ من الأولى لأنه موضع الجمع بين الصلاتين فإذا لم تتأخر النية عنه جاز وقال أبو بكر : لا يحتاج الجمع إلى نية كقوله في القصر وقد مضى الكلام معه
الشرط الثاني : أن لا يفرق بينهما إلا تفريقا يسيرا لأن معنى الجمع المتابعة والمقرنة ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل والمرجع في طول الفرق وقصره إلى العرف فإن احتاج إلى وضوء خفيف لم تبطل وإن صلى بينهما سنة الصلاة فعلى روايتين
الشرط الثالث : وجود العذر حال افتتاح الأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية لأن افتتاح الأولى موضع النية وبافتتاح الثانية يحصل الجمع فاعتبر العذر فيها فإن انقطع العذر في غير هذه المواضع لم يؤثر وإن جمع في وقت الثانية اعتبر أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى إلى أن يبقى منه قدر فعلها واستمرار العذر إلى وقت الثانية ولا يعتبر وجوده في وقت الثانية لأنها صارت في غير وقتها وقد جوز له التأخير ولا يعتبر المواصلة بينهما في أصح الوجهين لأن الثانية مفعولة في وقتها فهي أداء على كل حال والأولى معها كصلاة فائتة
فصل :
والسبب الثاني : المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء لأن أبا سلمة قال : من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر قال أحمد : ما سمعت بذلك وهذا اختيار أبي بكر وذكر بعض أصحابنا وجها في جوازه قياسا على الليل ولا يصح لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته فلا يقاس عليه غيره
والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه والثلج مثله في هذا فأما الطل والمطر الذي لا يبل الثياب فلا يبيح الجمع لعدم المشقة فيه وهل يجوز الجمع لمن يصلي منفردا أو لمقيم في المسجد أو من طريقه إليه في ظلال ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يجوز لعدم المشقة
والثاني : يجوز لأن العذر العام لا يعتبر فيه حقيقة المشقة كالسفر
والوحل بمجرده مبيح للجمع لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة فهو كالمطر وفيه وجه آخر أنه لا يبيح لاختلافهما في المشقة وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة وجهان
فصل :
والسبب الثالث : المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف لأن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر متفق عليه وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز لغير عذر ولم يبق إلا المرض ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سهلة بنت سهيل و حمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأصل الاستحاضة وهو نوع مرض ثم هو مخير بين التقديم والتأخير أي ذلك كان أسهل عليه فعله لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبا للأسهل فكذلك المريض وإن كان الجمع عنده واحدا فالأفضل التأخير فأما الجمع في المطر فلا تحصل فائدة الجمع فيه إلا بتقديم العشاء إلى المغرب فيكون ذلك الأولى والله أعلم

باب صلاة المريض
إذا عجز عن الصلاة قائما صلى قاعدا لقول النبي صلى الله عليه و سلم لـ عمران بن حصين : [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ] رواه البخاري وصلى النبي صلى الله عليه و سلم قاعدا بأصحابه وهو شاك
وصفة جلوسه على ما ذكرنا في صلاة التطوع
فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما ويجعل سجوده أخفض من ركوعه يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته
فإن سجد على وسادة بين يديه جاز لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه
وإن أمكنته الصلاة قائما وحده ولم تمكنه من الإمام إلا بالقعود في بعضها فهو مخير فيها لأنه يفعل في كل واحدة منهما واجبا ويترك واجبا وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائما فأومأ بالركوع ثم جلس فأومأ بالسجود لأن سقوط فرض لا يسقط فرضا غيره
وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته ثم انحنى في الركوع قليلا آخر وإن كان بعينه رمد فقال ثقات من العلماء بالطب : إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك جاز ذلك لأن أم سلمة تركت السجود لرمد بها ولأنه يخاف من الضرر أشبه المرض
فصل :
وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه لحديث عمران وإن صلى على جنبه الأيسر جاز للخبر ولأنه يستقبل القبلة به وإن صلى مستلقيا على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز لأنه نوع استقبال ويحتمل أن لا يجوز لمخالفته الأمر وتركه الاستقبال بوجهه وجملته
فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره ويومئ بالركوع والسجود برأسه فإن عجز فبطرفيه ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتا
فصل :
وإن قدر على القيام والقعود في أثناء الصلاة انتقل إليه وأتم صلاته وإن ابتدأها قائما أو قاعدا فعجز عن ذلك في أثنائها أتم صلاته على ما أمكنه لأنه يجوز أن يؤدي جميعها قائما حال القدرة وقاعدا حال العجز فجاز أن يفعل بعضها قائما مع القدرة وبعضها قاعدا مع العجز
فصل :
ومن كان في ماء أو طين لا يمكنه السجود إلا بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء والصلاة على دابته لأن أنس بن مالك صلى المكتوبة في يوم مطير على دابته وروى يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون ويجعلون السجود أخفض من الركوع رواه الأثرم و الترمذي فإن كان البلل يسيرا لا أذى فيه لزمه السجود لأن النبي صلى الله عليه و سلم انصرف من صلاته وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين متفق عليه
وهل تجوز الصلاة على الدابة لأجل مرض ؟ فيه روايتان :
إحداهما : تجوز اختارها أبو بكر لأن مشقة النزول في المرض أكثر من المشقة بالمطر
والثانية : لا تجوز لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه ولأن الصلاة على الأرض أسكن له وأمكن بخلاف صاحب الطين
فإن خاف المريض بالنزول ضررا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها رواية واحدة لأنه خائف على نفسه فأشبه الخائف من عدو

باب صلاة الخوف
تجوز صلاة الخوف في كل قتال مباح كقتال الكفارة والبغاة والمحاربين ولا تجوز في محرم لأنها رخصة فلا تستباح بالمحرم كالقصر
والخوف على ضربين شديد وغير فغير الشديد يجوز أن يصلي بهم على الصفة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أحمد رضي الله عنه : الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح وهي تختلف فأقول : إن ذلك كله جائز لمن فعله إلا أن حديث سهل بن أبي خيثمة أنكى في العذر فأنا أختاره وقال ستة أو سبعة : يروى فيها كلها جائز فتذكر الوجوه التي بلغنا
فالوجه الأول : منها ما روى صالح بن خوات عن من صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صلت معه وطائفة وجاه فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم متفق عليه فهذا حديث سهل الذي اختاره أحمد
ويشترط أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين كل طائفة ثلاثة فأكثر
ويقرأ الإمام في حال الانتظار ويطيل حتى يدركوه لأن الصلاة ليست محلا للسكوت وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه وسجدوا له وإن سهوا لم يلحقهم حكم سهوهم لأنهم مأمومون فإذا فارقوه صاروا منفردين لا يلحقهم سهوه وإن سهوا سجدوا لأنهم منفردون فأما الطائفة الثانية فلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم لأنهم إن فارقوه فهم مؤتمون به حكما لأنهم يسلمون بسلامه فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه فإن سجد قبل إتمامه سجدوا معه لأنه إمامهم فلزمهم متابعته ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد لأنهم لم ينفردوا عن الإمام فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه بخلاف المسبوق
فصل :
الوجه الثاني : أن يقسمهم طائفتين يصلي بكل طائفة صلاة كاملة كما روى أبو بكرة قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بازاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكان لرسول الله ( ث ) أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين ) رواه أبو داود
فصل :
الوجه الثالث : أن يصلي بهم كالتي قبلها إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع كما روى
جابر قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذ كنا بذات الرقاع فنودي بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أربع ركعات وللقوم ركعتان رواه البخاري
فصل :
الوجه الرابع : ما روى عبد الله بن عمر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا و جاء الآخرون فصلى بهم ركعة ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة متفق عليه فهذا الوجه جوز أحمد رضي الله عنه الصلاة به واختار حديث سهل لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة وأنكى في العدو وأما الكتاب فقول الله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية وقوله : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } ظاهره أن جميع صلاتها معه وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها ولا يتحقق هذا في هذا الوجه وأما الاحتياط للحرب فإن كل طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها وتتمكن من الضرب والكلام و التحريض وغيره وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة وهي في حكم الصلاة لا تتمكن من ذلك ولا يخلو من أن تمشي أو تركب وذلك عمل كثير يفسدها
فصل :
الوجه الخامس : إذا كان العدو في جهة القبلة بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينا صلى بهم كما روى جابر قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف فصففنا خلفه صفين والعدو بيننا وبين القبلة فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه و سلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع رسول الله صلى الله عليه و سلم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرا في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه و سلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد ثم سلم النبي صلى الله عليه و سلم وسلمنا جميعا أخرجه مسلم
فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها ولا نعرف وجها سادسا غير ما روى ابن عباس قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم بذي قرد صلاة الخوف والمشركون بينه وبين القبلة فصف صفا خلفه وصفا موازي العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتان ولهم ركعة ركعة رواه الأثرم فكلام أحمد رضي الله عنه يقتضي كون هذا من الوجوه الجائزة إلا أن أصحابه قالوا : لا تأثير للخوف في عدد الركعات فيدل على أن هذا ليس بمذهب له
فصل :
فإن صلى المغرب على حديث سهل صلى بالطائفة الأولى ركعتين وتتم لأنفسها ركعة تقرأ فيها الحمد لله وبالثانية ركعة وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة و تفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين لأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام واستحباب تقصير التشهد وفي الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول فتقوم ويثبت هو جالسا لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض ثم تكبر الطائفة وتدخل معه فإذا جلس للتشهد الآخر نهضت لقضاء ما فاتها ولم تتشهد معه لأنه ليس بموضع تشهدها ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا : إنها تقضي ركعتين متواليتين لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد
فصل :
ويجوز صلاة الخوف للمقيمين لعموم قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية ولأنها حالة خوف فأشبهت حالة السفر ويصلي بكل طائفة ركعتين وتتم الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة والطائفة الأخرى بالحمد لله وسورة وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى له وجهان على ما ذكرنا في المغرب وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة أو صلى المغرب بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين جاز لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما
وإن فرقهم أربع فرق وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية لأنهما فارقتاه لعذر وبطلت صلاة الإمام لزيادته انتظارا لم يرد الشرع بمثله وصلاة الثالثة والرابعة لإقتدائهما بمن صلاته باطلة وقال ابن حامد : إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر فأشبه من صلى وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه
فصل :
إذا صلى صلاة الخوف من غير خوف لم تصح لأنها لا تنفك من مفارق إمامه أو تارك متابعته أو قاصر مع إتمام إمامته أو قائم للقضاء قبل سلامه وكل ذلك مبطل إلا مع العذر إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة
فصل :
قال أصحابنا : لا يجوز حمل السلاح في صلاة الخوف لأنه لو وجب لكان شرطا كالسترة ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين ويكره ما يثقله كالجوشن وما يمنع إكمال السجود كالمغفر وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطا فإن كان في حاشية لم يكره ولا يجوز حمل نجس ولا ما لا يخل بركن الصلاة إلا أن يخاف وقوع السهام و الحجارة ونحوها به فيجوز للضرورة ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به بقوله تعالى : { وليأخذوا أسلحتهم } وقوله تعالى : { لا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } فيدل على الجناح عند عدم ذلك
فصل :
الضرب الثاني : الخوف الشديد مثل التحام الحرب والقتال ومصيرهم إلى المطاردة فلهم أن يهلكوا كيفما أمكنهم رجالا وركبانا يومون بالركوع والسجود على قدر الطاقة ويتقدمون يتأخرون ويضربون ويطعنون ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها وصلاتهم صحيحة وإن هرب هربا مباحا من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب أو كان أسيرا يخاف الكفار إن صلى أو مختفيا في موضع يخاف أن يظهر عليه صلى كيفما أمكنه قائما أو قاعدا أو مستلقيا إلى القبلة وغيرها بالإيماء في السفر والحضر فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن وإن ابتدأها آمنا فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف لأنه يبني على صلاة صحيحة فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة
وإن رأى سوادا فظنه عدوا فصلى صلاة الخوف ثم بان أنه غير عدو أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد لأنه لم يوجد المبيح فأشبه من ظن أنه متطهر فصلى ثم علم بحدثه قال أصحابنا : ويجوز أن يصلوا في شدة الخوف جماعة رجالا وركبانا ويعفى عن تقدمهم الإمام لأجل الحاجة كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال

فصل : تابع باب صلاة الجمعة
وفروض الخطبة أربعة أشياء : حمد الله تعالى لأن جابرا قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : [ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ]
والثاني : الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت إلى ذكر رسوله كالأذان
الثالث : الموعظة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعظ وهو القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها
الرابع : قراءة آية لأن جابر بن سمرة قال : كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم قصدا وخطبته قصدا يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس رواه أبو داود و الترمذي ولأن الخطبة فرض في الجمعة فوجبت فيها القراءة كالصلاة وعن أحمد رضي الله عنه ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية فإنه قال : القراءة في الخطبة على المنبر ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض
فصل :
وسننها ثلاث عشرة :
أن يخطب على منبر أو موضع عال لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخطب على منبره ولأنه أبلغ في الإعلام
الثاني : أن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم لأن جابرا قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صعد المنبر سلم عليهم رواه ابن ماجه
الثالث : أن يجلس إذا سلم عليهم : لأن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم ثم يقوم فيخطب رواه أبو داود
الرابع : أن يخطب قائما لأن جابر بن سمرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب فمن حدثك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب رواه مسلم و أبو داود
وليس ذلك بشرط لأن المقصود يحصل بدونه
الخامس : أن يجلس بينهما لما رويناه وليس بواجب لأنها جلسة للاستراحة وليس فيها ذكر مشروع فأشبهت الأولى
السادس : أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا لما روى الحكم بن حزن قال : وفدت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فشهدنا معه الجمعة فقام متوكئا على سيف أو قوس أو عصا فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات رواه أبو داود ولأن ذلك أمكن له فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما
السابع : أن يقصد بلقاء وجهه لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضا عمن في الجانب الآخر
الثامن : أن يرفع صوته لأن جابرا قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول :
[ أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ] رواه مسلم ولأنه أبلغ في الإسماع
التاسع : أن يكون في خطبته مترسلا معربا مبينا من غير عجلة ولا تمطيط لأنه أبلغ وأحسن
العاشر : تقصير الخطبة لما روى عمار قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة ] رواه مسلم
الحادي عشر : ترتيبها يبدأ بالحمد لله ثم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يعظ لأنه أحسن والنبي صلى الله عليه و سلم كان يبدأ بالحمد لله وقال : [ كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر ]
الثاني عشر : أن يدعو للمسلمين لأن الدعاء لهم مسنون من غير الخطبة ففيها أولى وإن دعا للسلطان فحسن لأن صلاحه نفع للمسلمين فالدعاء له دعاء لهم
الثالث عشر : أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر لأن الله تعالى قال : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } يعني الأذان قال السائب : كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث رواه البخاري وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي وتحريم البيع لأنه الذي كان مشروعا حين تزول الآية فتعلقت الأحكام به ويسن الأذان الأول في أول الوقت لأن عثمان سنه وعملت به الأمة بعده وهو مشروع للإعلام بالوقت والثاني للإعلام بالخطبة والإقامة للإعلام بقيام الصلاة
فصل :
ولا يشترط للجمعة إذن الإمام لأن عليا رضي الله عنه صلى بالناس وعثمان رضي الله عنه محصور ولأنها من فرائض الأعيان فلم يعد لها إذن الإمام كالظهر قال أحمد : وقعت الفتنة بالشام تسع سنين فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل وعنه أنه شرط لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة
فصل :
وتصلى خلف بر وفاجر لحديث جابر ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة وتختص بإمام واحد فتركها خلف الفاجر يفضي إلى الإخلال بها فلم يجز ذلك كالجهاد ولهذا أبيح فعلها في الطرق ومواضع الغضب صيانة لها عن الفوات
فصل :
[ و ] إذا فرغ من الخطبة نزل فأقيمت الصلاة فصلى بهم ركعتين يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة معها ويجهر بالقراءة للإجماع ونقل الخلف عن السلف ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين أو بسبح والغاشية لما روى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين في الجمعة وعن النعمان بن بشير قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في العيدين والجمعة ب { سبح اسم ربك الأعلى } و { هل أتاك حديث الغاشية } رواهما مسلم
فصل :
ومتى أمكن الغنى بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها لأن النبي ( ص ) وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة وإن احتيج إلى أكثر منها جاز لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير فصار إجماعا ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة فإن صليت في موضعين من غير حاجة وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة ويحتمل أن السابقة هي الصحيحة لأنه لم يتقدمها ما يفسدها وبعد صحتها لا يفسدها ما بعدها والأول أولى لأن في تصحيح غير جمعة الإمام افتئاتا عليه و تبطيلا لجمعته ومتى أراد أربعون نفسا إفساد صلاة الإمام والناس أمكنهم ذلك فإن لم يكن لأحدهما مزية فالسابقة هي الصحيحة لما ذكرناه وتفسد الثانية وإن وقعتا معا : فهما باطلتان لأنه لا يمكن تصحيحها ولا تعيين إحداهما بالصحة فبطلتا كما لو جمع بين أختين وعليهم إقامة جمعة ثالثة لأنه مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة وإن علم سبق إحداهما وجهلت فعلى الجميع الظهر لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة وليس لهم إقامة الجمعة لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة وليس لهم إقامة الجمعة لأن المصر قد صليت فيه جمعة صحيحة وإن جهل الحال فسدتا وهل لهم إقامة الجمعة ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يقيمونها للشك في شرط إقامتها
والثاني : : لهم ذلك لأننا لم نعلم المانع من صحتها والأصل عدمه وذكر القاضي وجها من إقامتها مع العلم بسبق إحداهما لأنه لما تعذر تصحيح إحداهما بعينها صارت كالمعدومة ولو أحرم بالجمعة فعلم أنها قد أقيمت في مكان آخر لم يكن له إتمامها
وهل يبني عليها ظهرا أم يستأنفها ؟ على وجهين :
أصحهما استئنافها لأن ما مضى منها لم يكن جائزا له فعله ويعتبر السبق بالإحرام لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بالأخرى للغنى عنها
فصل :
ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها لأنه يتركها بعد وجوبها عليه فلم يجز كما لو تركها لتجارة إلا أن يخاف فوت الرفقة فأما قبل الوقت فيجوز للجهاد لما روى ابن عباس قال : بعث رسول الله ( ص ) عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة فقدم أصحابه وقال : أتخلف فأصلي مع النبي ( ص ) ثم ألحقهم قال : فلما صلى رسول الله ( ص ) رآه فقال : [ ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ فقال : أردت أن أصلي معك ثم ألحق بهم فقال رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) : لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم ] من المسند وهل يجوز لغير الجهاد ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يجوز لأن عمر رضي الله عنه قال : الجمعة لا تحبس عن سفر ولأنها لم تجب فأشبه السفر من الليل
والثانية : لا يجوز لما روى الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر أن رسول الله ( ص ) قال : [ من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره ]
فصل :
ويجب السعي بالنداء الثاني لما ذكرنا إلا لمن منزله في بعد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويستحب التبكير بالسعي لما روى أبو هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : [ من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أملح ومن راح في الساعة الرابعة كأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة كأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ] متفق عليه وقال علقمة : خرجت مع عبد الله يوم الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال : رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد ثم قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : [ إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة ] رواه ابن ماجه ويستحب أن يأتيها ماشيا ليكون أعظم للأجر وعليه سكينة ووقار لقول النبي ( ص ) : [ لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار ] متفق عليه ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته
فصل :
ويستحب أن يغسل ويتطيب و يتنظف بقطع الشعر وقص الظفر وإزالة الرائحة لما روى أبو سعيد أن النبي ( ص ) قال : [ لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ] رواه البخاري وعنه أن الغسل واجب لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال : [ غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وسواك وأن يمس طيبا ] رواه مسلم والأول المذهب لأن رسول الله ( ص ) قال : [ من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل الغسل أفضل ] قال الترمذي : هذا حديث حسن والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين
ووقت الغسل بعد الفجر لقوله : [ يوم الجمعة ] والأفضل فعله عند الرواح لأنه أبلغ في المقصود ولا يصح إلا بنيته لأنه عبادة فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه وإن اغتسل للجنابة وحدها احتمل أن يجزئه لقوله عليه السلام : [ من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ] ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل واحتمل أن لا يجزئه لقوله عليه السلام : [ وليس للمرء من عمله إلا ما نواه ]
فصل :
وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس لقوله عليه السلام : [ ولم يفرق بين اثنين ] إلا أن يكون إماما ولا يجد طريقا فلا بأس بالتخطي لأنه موضع حاجة ومن لم يجد موضعا إلا فرجة لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين فلا بأس فإن تركوا المسجد فارغا وجلسوا دونه فلا بأس بتخطيهم لأنهم ضيعوا حق نفوسهم وإن ازدحم الناس في المسجد و داخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعا فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا وإن لم يرج ذلك فله تخطيهم لأنه موضع حاجة
وليس لأحد أن يقيم غيره ويجلس مكانه لما روى ابن عمر أن النبي ( ص ) قال : [ لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه ] متفق عليه وإن قام له رجل من مكان وأجلسه فيه جاز لأن الحق له لكن إن كان المتنفل ينتقل إلى موضع أبعد من موضعه كره لما فيه من الإيثار بالقربة
ولو قدم رجل غلامه فجلس في موضع فإذا جاء قام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به كان ابن سيرين يفعله وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه وهل لغيره رفعه والجلوس في موضعه ؟ فيه وجهان :
وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) : [ إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به ] رواه مسلم وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطاه فيه أحد استحب له ذلك لما روى ابن عمر قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) يقول : [ إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره ] من المسند وهو حديث صحيح
فصل :
ويستحب الدنو من الإمام لقول رسول الله ( ص ) : [ من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ] رواه ابن ماجه و النسائي وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل أو ذكر الله وقرأ القرآن ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة ويكثر من الصلاة على رسول الله ( ص ) ويقرأ سورة الكهف لأنه يروى عن النبي ( ص ) أنه قال : [ من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتنة ]
فصل : فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل فإذا أخذ من الخطبة حرم الكلام لقول النبي ( ص ) : [ إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت ] متفق عليه
وروى [ ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر ولم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا ] وعنه : لا يحرم الكلام لما روى أنس قال : [ بينما النبي ( ص ) يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال : يا رسول الله هلك الكراع هلك الشاء فادع الله أن يسقينا ] وذكر الحديث متفق عليه والأول أولى وهذا يحتمل أنه من تكليم الخطيب دون غيره لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته والبعيد والقريب سواء في ذلك وقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : إن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل للسامع إلا أن للبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن سرا وليس الجهر ولا المذاكرة في الفقه [ لأن النبي ( ص ) نهى عن الحلق يوم الجمعة والإمام يخطب ] وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي ( ص ) نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة ] ومن لم يسمع متكلما لم ينهه بالقول : للخبر ولكن يشير إليه ويضع إصبعه على فيه وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئا مخوفا فعليه الكلام لأنه لحق آدمي فكان مقدما على غيره ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته لأن النبي ( ص ) سأل الداخل : [ أصليت ] فأجابه وسأل عمر عثمان فأجابه وفي رد السلام وتشميت العاطس روايتان :
إحداهما : يفعل لأنه لحق آدمي فأشبه تحذير الضرير
والأخرى : لا يفعله لأن المسلم سلم في غير موضعه و التشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب ولا يتصدق على سائل والإمام يخطب وإذا لم يسمع الخطبة فلا بأس أن يشرب الماء
فصل :
ولا يحرم الكلام على الخاطب لأن النبي ( ص ) كان يتكلم وعمر سأل عثمان أية ساعة هذه فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان :
أحدهما : يباح الكلام لأنه فرغ من الخطبة
والثاني : لا يباح لأنه قاطع للخطبة أشبه التطويل في الموعظة
فصل :
ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما لما روى جابر قال : دخل رجل والنبي ( ص ) يخطب قال : [ صليت يا فلان قال : لا قال : فصل ركعتين ] متفق عليه زاد مسلم ثم قال : [ إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ]
فصل :
ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعا لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : [ من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا ] رواه مسلم وإن شاء صلى ركعتين لما روى ابن عمر : أن النبي ( ص ) كان يصلي بعد الجمعة ركعتين متفق عليه وإن شاء صلي ستا لأن ابن عمر روى أن النبي ( ص ) كان يفعله ويستحب أن يفصل بين الجمعة والركوع بكلام أو رجوع إلى منزله لما روى السائب بن يزيد قال : قال لي معاوية : إذا صليت صلاة الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج قال : كان النبي ( ص ) يأمرنا بذلك رواه مسلم
فصل :
ويستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة : { الم * تنزيل } و { هل أتى على الإنسان } لأن النبي ( ص ) كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة : { الم * تنزيل الكتاب } و { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } رواه مسلم قال أحمد : ولا أحب أن يداوم عليها لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة
فصل :
فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة ويصلون ظهرا لما روى زيد بن أرقم قال : شهدت مع رسول الله ( ص ) عيدين اجتمعا في يوم فصلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال : [ من شاء أن يجمع فليجمع ] وعن أبي هريرة عن رسول الله ( ص ) أنه قال : [ اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله ] رواهما أبو داود
وتجب الجمعة على الإمام لقول النبي ( ص ) : [ إنا مجمعون ] ولأن تركه لها منع لمن يريدها من الناس
وعنه : لا تجب لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماما ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام كحالة السفر فإن عجل الجمعة في وقت العيد أجزأته عن العيد و الظهر في ظاهر كلامه لما روى عطاء قال : اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال : عيدان قد اجتمعا في يوم واحد فجمعهما وصلاهما ركعتين فلم يزد عليهما حتى صلى العصر وبلغ فعله ابن عباس فقال : أصاب السنة

باب صلاة الجمعة
وهي واجبة بالإجماع وروى ابن ماجة عن جابر قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره ]
ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه شرائط ثمانية : الإسلام والبلوغ والعقل لأنها من شرائط التكاليف بالفروع و الذكورية و الحرية و الاستيطان لما روى طارق بن شهاب قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : عبد مملوك أو امرأة أو مسافر أو مريض ] رواه أبو داود ولأن المرأة ليست من أهل الجماعات وكان النبي صلى الله عليه و سلم بعرفات يوم جمعة فلم يصل جمعة
وفي العبد رواية أخرى أنها تجب عليه لأنها فرض عين من الصلوات فوجبت عليه كالظهر والأولى أولى للخبر ولأن العبد مملوك المنفعة محبوس على سيده أشبه المحبوس بدين
السابع : انتقاء الأعذار المسقطة للجماعة
الثامن : أن يكون مقيما بمكان الجمعة أو قريبا منه وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم لأن البلد كالشيء الواحد وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم ولا تجب على غيرهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الجمعة على من سمع النداء ] رواه أبو داود ولم يمكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب إذا كان المؤذن صيتا بموضع عال والرياح ساكنة والأصوات هادئة والعوارض منتفية فرسخ فاعتبرناه به
فصل :
وهذه الشروط تنقسم أربعة أقسام :
أحدها : شرط للصحة والانعقاد وهو : الإسلام والعقل فلا تصح من كافر ولا مجنون ولا تنعقد بهما لأنهما ليسا من أهل العبادات
الثاني : شرط للوجوب والانعقاد وهي : الحرية و الذكورية والبلوغ والاستيطان فلا تنعقد الجمعة بمن عدمت فيه ولايصح إمامتهم فيها لأنهم من غير أهل الوجوب فلم تنعقد بهم كالنساء وتصح منهم وتجزئهم عند الظهر وحضورها لغير النساء أفضل لأن سقوطها عنهم رخصة فإن تكلفوا فعلها أجزأتهم كالمريض يتكلف الصلاة قائما
الثالث : شرط الوجوب السعي فقط وهو : انتقاء الأعذار فلو تكلف المريض الحضور وجبت عليه وانعقدت به لأن سقوطها كان لدفع المشقة فإذا حضرت زالت المشقة فوجبت عليه وانعقدت به كالصحيح
الرابع : شرط الانعقاد حسب وهو : الإقامة بمكان الجمعة فلو كان أهل القرية يسمعون النداء من المصر لزمهم حضورها ولم تنعقد بهم ولو خرج أهل المصر أو بعضهم إلى القرية لم تنعقد بهم الجمعة لأنهم غير مستوطنين بها والظاهر أنها تصح إمامتهم فيها لأنهم من أهل الوجوب
فصل :
والأفضل لمن لم تجب عليه الجمعة أن لا يصلي الظهر قبل صلاة الإمام لأنه ربما زال عذره فلزمته الجمعة فإن صلى فقال أبو بكر : لا تصح صلاته لذلك والصحيح أنها تصح لأنه صلى فرضه فلا يبطل بالاحتمال كالمتيمم فإن زال عذره فقياس المذهب أنه لا تلزمه الجمعة لأنه أدى فرض الوقت فأشبه المعضوب إذا حج عن نفسه ثم برئ وإن لم يزل العذر فحضورها كانت لهم نفلا لقول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي ذر : [ فصلها معهم تكن لك نافلة ] ولأن الأولى أسقطت الفرض فأما من تجب عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام لم تصح لأنه ما خوطب بالظهر فإن فاتته الجمعة أعادها ظهرا لأنه خوطب بها حينئذ
وإن اتفق أهل بلد على ترك الجمعة وصلوا ظهرا لم تصح لذلك فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم الجمعة لزمهم إعادة الظهر ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ] متفق عليه فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفعها عن نفسه
فصل :
ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط :
أحدها : الوقت فلا تصح قبل وقته ولا بعده بالإجماع وآخر وقتها آخر وقت الظهر بغير خلاف فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد لأن أحمد رضي الله عنه قال في رواية عبد الله : يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال يذهب إلى أنها كصلاة العيد لحديث وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن حجاج عن عبد الله بن سيلان قال : شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول : قد انتصف النهار ثم صليتها مع عثمان بن عفان رضوان الله عليهم أجمعين فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول : قد زال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك أو أنكره وهذا نقل للإجماع
وعن جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي الجمعة فنذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس رواه مسلم ولأنها صلاة عيد أشبهت صلاة العيدين
وقال الخرقي : تجوز في الساعة السادسة وفي نسخة الخامسة فمفهومه أنه لا يجوز قبل ذلك لأن ما رويناه تختص به والأفضل فعلها عند زوال الشمس صيفا وشتاء لا يقدمها إلى موضوع الخلاف ولا يؤخرها فيشق على الناس لما روى سلمة بن الكوع قال : كنا نجمع مع النبي ( صلى الله عليه و سلم ) إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء متفق عليه فإن خرج الوقت وهم فيها فقال أحمد من أدرك التشهد أتمها جمعة فظاهره أنه يعتبر الوقت في جميعها إلا السلام لأن الوقت شرط فيعتبر في جميعها كالضوء وقال الخرقي : إن دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أجزأتهم جمعة لأنه شرط يختص بالجمعة فلم يعتبر في الركعة الثانية كالجماعة في حق المسبوق وإن أدرك أقل من ذلك فهل يتمها ظهرا أو يستأنف ؟ على وجهين بناء على المسبوق بأكثر من ركعة وقال القاضي : متى تلبس بها في وقتها أتمها جمعة قياسا على سائر الصلوات فإن شرع فيها ثم شك في خروج الوقت أتمها جمعة لأن الأصل بقاؤه وإن ضاق الوقت عما يجري في الجمعة لم يكن لهم فعلها
فصل :
الشرط الثاني : أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به من حجر أو طين أو لبن أو قصب مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة يسكنها أربعون من أهل الجمعة سكنى إقامة لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم لأن ذلك لا ينصب للاستيطان ولذلك كانت قبائل العرب حول المدينة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بجمعة وإن كانت قرية يسكن فيها بعض السنة دون بعضهم أو متفرقة تفريقا لم تجر فيه العادة لم تصح فيها الجمعة فإن اجتمعت هذه الشروط في القرية وجبت الجمعة على أهلها وصحت بها لأن كعبا قال : أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له : نقيع الخضمات رواه أبو داود
قال الخطابي حرة بني بياضة على ميل من المدينة ولأن هذا بناء استوطنه أربعون من أهل الجمعة فوجبت عليهم كأهل مصر وتجوز إقامة أهل الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء لحديث أسعد بن زرارة فإن خربت القرية فلازموها عازمين على إصلاحها و مرمتها فحكمها باق وإن عزموا على النقل عنها زال الاستيطان
فصل :
الشرط الثالث : اجتماع أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة
وعنه : تنعقد بثلاثة لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة وعنه بخمسين والمذهب الأول لأن جابرا قال : مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة فينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه و سلم فإن انقضوا فلم يبق معه إلا أقل من أربعين لم يتمها جمعة لأنه شرط فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة وهل يستأنف ظهرا أو يبني على صلاته ؟ على وجهين بناء على المسبوق وقياس المذهب أنهم إن انفضوا بعد صلاة ركعة أتمها جمعة لأنها شرط تختص الجمعة فلم يعتبر الركوع في أكثر من ركعة كالجماعة فيها
فصل :
ولا يختلف المذهب أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة ] متفق عليه وفي لفظ : [ فليضف إليها أخرى ] فأما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي : يبني على ظهر إذا كان قد دخل بينه الظهر فظاهر هذا أنه إن نوى جمعة لزمه الاستئناف لأنهما صلاتان لا تتأدى أحدهما بنية أخرى فلم يجز بناؤها عليها كالظهر والعصر وقال أبو اسحق بن شاقلا : ينوي جمعة لئلا يخالف بنيته نية إمامه ثم يبني عليها ظهرا لأنهما فرض وقت واحد ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع كالتامة مع المقصورة
فصل :
من أحرم مع الإمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه أو قدمه رواه الطيالسي ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز فوجب وصح كالمريض يومئ فإن لم يمكنه ذلك انتظر زوال الزحام ثم يسجد ويتبع الإمام لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر والعذر ههنا قائم وكذلك إن تعذر عليه السجود لعذر من مرض أو نوم أو سهو فإن خاف فوات الركوع مع إمامه لزمه متابعة وترك السجود لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإن ركع فاركعوا ] ولأنه مأموم خاف فوات الركعة فلزمه متابعة إمامه كالمسبوق فيركع مع إمامه وتبطل الأولى وتصير الثانية أولاه فإن سجد وترك متابعة إمامه بطلت صلاته إن علم تحريم ذلك لأنه ترك الواجب عمدا وإن لم يكن يعلم تحريمه لم تبطل صلاته ولم يعتد بسجوده لأنه أتى به في موضع الركوع جهلا فهو كالساهي
وقال أبو الخطاب : يعتد بسجوده ويتم ركعته الأولى فإن أدرك الركوع أيضا صحت له الركعتان وإن فاته الركوع فاتته الثانية وحدها فيقضيها بعد سلام إمامه وتصح جمعته قال : ويسجد للسهو وقال القاضي : هو كمن لم يسجد فإن أدرك الركوع صحت الثانية وحدها وإن فاته الركوع وأدرك معه السجدتين سجدهما للركعة الأولى وصحت له ركعة ويقضي ركعة وتمت جمعته لإدراكه ركعة وإن فاتته السجدتان أو إحداهما قضى ذلك بعد سلام إمامه فتصح له ركعة وكذا لو ترك سجدتي الأولى خوفا من فوات ركوع الثانية فركع معه وزوحم عن سجدتي الثانية فأمكنه السجود في التشهد سجد وإن لم يمكنه سجد بعد سلام الإمام وصحت له ركعة ومثلها : لو كان مسبوقا بالأولى وزوحم عن سجود الثانية وهل يكون مدركا للجمعة في كل موضع لم يتم له ركعة إلا بعد سلام إمامه ؟ على روايتين :
إحداهما : يكون مدركا لها لأنه قد يحرم بالصلاة مع الإمام أشبه ما لو ركع وسجد معه
والثانية : لا جمعة له لأنه لم يدرك مع إمامه ركعة فأشبه المسبوق بركوع الثانية وعلى هذه الرواية هل يستأنف أو يتمها ظهرا على وجهين
وإن أحرم مع الإمام فزوحم وأخرج من الصف فصلى فذا لم تصح صلاته وإن صلى ركعة وأخرج من الثانية فأتمها وحده ففيه روايتان :
إحداهما : يتمها جمعة لأنه أدرك مع إمامه ركعة فأشبه المسبوق
والثانية : يعيد لأنه فذ في ركعة كاملة فإن أدرك مع الإمام ركعة وقام ليقضي فذكر أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة أو شك في إحدى السجدتين لزمه أن يرجع إن لم يكن شرع في قراءة الثانية فيأتي بما ترك ثم يقضي ركعة أخرى ويتمها جمعة نص عليه وإن ذكر بعد شروعه في قراءة الثانية بطلت الأولى وصارت الثانية أولاه ويتمها جمعة على المنصوص وفيه وجه آخر أنه لا تحصل له الجمعة لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة وهكذا لو قضى الثانية ثم علم أنه نسي سجدة لا يدري من أيهما تركها أو شك في ذلك فإنه يجعلها من الأولى وتصير الثانية أولاه فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام لم يعتد له بالركعة التي مع الإمام وتصير ظهرا قولا واحدا
فصل :
الشرط الرابع : أن يتقدمها خطبتان لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخطب خطبتين يعقد بينهما متفق عليه وقد قال : [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] وقالت عائشة رضي الله عنها : إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة ومن شرط صحتها حضور العدد المشروط للصلاة لأنه ذكر الاشتراط للصلاة واشترط له العدد كتكبيرة الإحرام فإن انفضوا وعادوا لم يطل الفصل صلى الجمعة لأنه تفريق يسير فلم يمنع كالتفريق بين المجموعتين ويشترط لهما الوقت لذلك ويشترط الموالاة في الخطبتين فإن فرق بين الخطبتين أو بين أجزاء الخطبة الواحدة أو بينهما وبين الصلاة فأطال بطلت فإن كان يسيرا بنى لأنهما مع الصلاة كالمجموعتين ويحتمل أن الموالاة ليست شرطا لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط الموالاة بينهما كالأذان والإقامة ولا يشترط لهما الطهارة نص عليه لذلك ولأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة وعنه : أنها شرط لأنه ذكر شرط في الجمعة فأشبه تكبيرة الإحرام ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة لذلك لكن يجوز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر لأنه إذا جاز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر ففي الصلاة بكمالها أولى وعنه : ما يدل على جواز الاستخلاف لغير عذر قال في الإمام يخطب يوم الجمعة ويصلي الأمير بالناس : لا بأس إذا حضر الأمير الخطبة لأنه لا يشترط اتصالها بها فلم يشترط أن يتولاها واحد كصلاتين وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن حضر الخطبة ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يشترط لأنه لا يشترط في صحة جمعته حضور الخطبة إذا كان مأموما فكذلك إذا كان إماما
والثانية : يشترط لأنه إمام فاشترط حضوره للخطبة كما لو لم يستخلف

باب صلاة العيدين
وهي فرض على الكفاية لأن النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة فكانت فرضا كالجهاد ولا تجب على الأعيان لأن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال : هل علي غيرها ؟ قال : [ لا إلا أن تطوع ] متفق عليه
فإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام لتركهم شعائر الإسلام الظاهرة فأشبه تركهم الأذان ويشترط لوجوبها ما يشترط للجمعة لأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة ولا يشترط لصحتها الاستيطان ولا العدد لأن أنسا كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنهما من حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع وقال القاضي : كلام أحمد رضي الله عنه يقتضي أن في اشتراط الاستيطان والعدد وإذن الإمام روايتين
فصل :
ووقتها من حين ترتفع الشمس وتزول وقت النهي إلى الزوال فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : أن ركبا جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم رواه أبو داود ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر لما روى عمرو بن حزم ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر ) ولأن السنة إخراج الفطرة قبل العيد ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها ولا تجوز التضحية إلا بعد الصلاة ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية
فصل :
ويسن أن يأكل من الفطر قبل الصلاة ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي رواه الترمذي ويفطر على تمرات وتر لما روى أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات رواه البخاري وفي لفظ : و يأكلهن وترا
فصل :
والسنة أن يصليها في المصلى لأن النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في الجامع لأن عليا رضي الله عنه استخلف أبا مسعود البدري يصلي بضعفة الناس في المسجد وهل يصلي المستخلف ركعتين أو أربعا على روايتين بناء على اختلاف الروايات في فعل أبي مسعود وقد روي أنه صلى بهم ركعتين وروي أنه صلى بهم أربعا وإن كان عذر من مطر أو نحوه صلى في المسجد لما روى أبو هريرة قال : أصابنا مطر في يوم عيد فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد رواه أبو داود
فصل :
ويسن الاغتسال للعيد والطيب والتنظيف والسواك وأن يلبس أحسن ثيابه لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في جمعة من الجمع : [ إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك ] فعلل ذلك بأنه يوم عيد ولأن هذا اليوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة فأشبه الجمعة وقد روي ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتم ويلبس بردة الأحمر في العيدين والجمعة ) رواه ابن عبد البر إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى عليه أثر العبادة
فصل :
ويستحب أن يبكر إليها المأموم ماشيا مظهرا للتكبير لأن عليا رضي الله عنه قال : من السنة أن يأتي العيد ماشيا رواه الترمذي وقال حديث حسن ولأنه أعظم للأجر ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعله ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر وإذا غدا من طريق رجع من غيره لأن جابرا قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق رواه البخاري
فصل :
قال ابن حامد : ويستحب خروج النساء لما روت أم عطية قالت : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين ) متفق عليه قال القاضي : وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب ولا يلبسن ثوب شهرة ولا يتطيبن لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وليخرجن تفلات ]
فصل :
وليس لها أذان ولا إقامة لما روى عطاء قال : أخبرني جابر أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة متفق عليه وقال جابر بن سمرة : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة رواه مسلم
فصل :
وصلاة العيد ركعتان يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة ويجهر بالقراءة بلا خلاف قال عمر رضي الله عنه : صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ( ص ) وقد خاب من افترى رواه الإمام أحمد في المسند ويسن أن يقرأ فيهما بسبح و { هل أتاك حديث الغاشية } لحديث النعمان بن بشير ومهما قرأ أجزأه ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة القيام لما روت عائشة أن النبي ( ص ) قال : [ التكبير في الفطر و الأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع ] رواه أبو داود
واعتددنا بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام ولم نعتد في حالة القيام لأنها قبلة
ويسن أن يرفع يديه في كل تكبيرة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد رواه الأثرم ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي ( ص ) بين كل تكبيرتين وإن أحب قال : الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليما لأنه يجمع بين ما ذكرناه
وموضع التكبير بين الاستفتاح وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين وعنه : أنه قبل الاستفتاح أيضا اختارها الخلال وصاحبه والأول أولى لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة فيكون في أولها والاستعاذة للقراءة فتكون في أولها وعنه : أنه يوالي بين القراءتين يجعلها في الأولى بعد التكبير وفي الثانية قبله لما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود و أبا موسى و حذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوما فقال لهم : إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه ؟ فقال عبد الله : تبدأ وتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة وتحمد ربك وتصلي على النبي ( ص ) ثم تدعو وتكبر إلى أن قال : وتركع ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وذكر الحديث قال أبو موسى و حذيفة صدق ووجه الأولى أنه تكبير في إحدى ركعتي العيد فكان قبل القراءة كالأولى
فصل :
وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمدا وإن والى بين التكبير كان جائزا وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة لم يعد إليه لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح
فصل :
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة لأن النبي ( ص ) فعل ذلك ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء :
أحدها : أن محلها بعد الصلاة لما روى ابن عمر أن النبي ( ص ) وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة متفق عليه
الثاني : أنه يسن أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متوالية والثانية بسبع ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة لما روى سعد مؤذن النبي ( ص ) أن النبي ( ص ) كان يكبر بين أضعاف الخطبة يكثر التكبير بن خطبتي العيدين
الثالث : أن يحثهم في الفطر على إخراج الفطر ويبين لهم ما يخرجونه وقته وجنسه وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية ويبين لهم ما يجزىء فيها ووقت ذبحها ويحثهم على الإطعام منها لأنه وقت هذا النسك فيشرع تبيينه
الربع : أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما لما روى عبد الله بن السائب قال : شهدت مع رسول الله ( ص ) العيد فلما قضى الصلاة قال : [ إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب ] رواه أبو داود ويستحب أن يجلس عقيب صعوده ليستريح وقيل : لا يجلس لأن الجلوس في الجمعة لموضع الأذان ولا أذان ههنا
فصل :
ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى إماما كان أو مأموما لما روى ابن عباس أن النبي ( ص ) خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها متفق عليه ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه لما روى أبو سعيد قال : ( كان رسول الله ( ص ) لا يصلي قبل العيد شيئا فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين ) رواه ابن ماجه
فصل :
ومن سبق بالتكبير أو بعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها
وقال ابن عقيل : يأتي به لأن محله القيام وقد أدركه وإن أدركه في الركوع تتبعه ولم يقض التكبير وجها واحدا وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب وفي صفة القضاء ثلاث روايات :
إحداهن : يقضيها على صفتها لحديث أنس ولأنه قضى صلاة فكان على صفتها كغيرها
الثانية : يصليها أربعا بسلام واحد إن أحب أو بسلامين لما روى الأثرم عن عبد الله بن مسعود قال : من فاته العيد فليصل أربعا ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعا كالجمعة
الثالثة : هو مخير بين ركعتين وأربع لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة له فيه مثل كالأضحى
فصل :
ويشرع التكبير في العيدين لقول الله تعالى : { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } وعن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق
قال القاضي : والتكبير في الفطر مطلق غير مقيد على ظاهر كلامه يعني لا يختص بأدبار الصلوات
وقال أبو الخطاب : يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى الصلاة وهل يكبر بعد صلاة العيد على روايتين
فصل :
فأما التكبير في الأضحى فهو على ضربين : مطلق ومقيد فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات من أول العشر إلى آخر أيام التشريق وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق قيل لأحمد : بأي حديث تذهب إلى أن التكبير في صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ؟ قال : بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم وقد روي عن جابر أن النبي ( ص ) صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال : [ الله أكبر ] ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق وصفه التكبير المشروع : ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ) لأن هذا يروى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قال أبو عبد الله : اختاري تكبير ابن مسعود وذكر مثل هذا ولأن في حديث جابر أن النبي ( ص ) كبر تكبيرتين ولأنه يكبر خارج الصلاة فكان شفعا كتكبير الأذان
فصل : وموضعه عقيب أدبار الصلوات المفروضات ولا يشرع عقيب النوافل لأنه لا أذان لها فلم يكبر بعدها كصلاة الجنازة وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم وإن صلاها كلها وحده ففيه روايتان :
إحداهما : يكبر لأنه ذكر مشروع للمسبوق فأشبه التسليمة الثانية
والثانية : لا يكبر لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده وقال ابن مسعود : إنما التكبير على من صلى في الجماعة ولأنه مخصوص بوقت فخص بالجماعة كالخطبة وللمسافر كالمقيم في التكبير والمرأة كالرجل قال البخاري : النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز مع الرجال في المسجد ويخفض أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال وعن أحمد رضي الله عنه : أنها لا تكبر ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها فيها كبر وإن قضاها بعدها لم يكبر لأن التكبير مقيد بالوقت
فصل :
ويكبر مستقبل القبلة فإن أحدث قبل التكبير لم يكبر لأن الحدث يقطع الصلاة وإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر ما لم يخرج من المسجد ويستحب الاجتهاد في العمل الصالح في أيام العشر لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال : [ ما العمل الصالح في أيام أفضل منه من العشر قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء ] أخرجه البخاري

باب صلاة الكسوف
وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر لما روى أبو مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده وإنهما لا يكسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتن منها شيئا فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم ] وعن عائشة قالت : خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث مناديا فنادى : الصلاة جامعة وخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات متفق عليهما وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في حديث أبي مسعود والجماعة أفضل لفعل النبي صلى الله عليه و سلم لها في جماعة وينادي لها : الصلاة جامعة للحديث وتفعل للمسجد للخبر ولأن وقتها ضيقا فلو خرجوا إلى المصلى خيف فواتها
فصل :
وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها ثم يركع ويسبح نحوا من مائة آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها ثم يرفع فيسبح نحوا من سبعين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحوا من الركوع ثم يقوم إلى الثانية فيقرأ الفاتحة وسورة النساء ثم يركع ويسبح نحوا من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة ثم يركع فيسبح نحوا من أربعين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد نحوا من ركوعه ويتشهد ويسلم وليس هذا التقدير في القراءة والتسبيح منقولا عن أحمد رضي الله عنه ولا هو متعين وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه لكن يستحب ذلك ليقارب فعل النبي صلى الله عليه و سلم فيما روت عائشة قالت : قال : خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه فقرأ رسول الله قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه فقال : [ سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ] ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال : [ سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ] ثم سجد ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك عند استكمل أربع ركعات وأربع سجدات فانجلت الشمس متفق عليه
وفي رواية أخرى : فرأيت أنه قرأ في الأولى بسورة البقرة وفي الثانية سورة آل عمران ويجهر بالقراءة ليلا كان أو نهارا لأن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه و سلم جهر في صلاة الخسوف [ رواه أبو داود ] ولأنها صلاة شرع لها الجمع الكثير فسن لها الجهر كالعيد وإن صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز لأن عائشة روت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى ست ركعات وأربع سجدات رواه مسلم
وإن جعل في كل ركعة أربع ركوعات جاز أيضا لأنه يروى عن علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم والمختار الأول لأنه أصح وأشهر
فصل :
ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي فإن فاتت لم تقض لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ صلوا حتى يكشف الله ما بكم ] وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء وإن استترت بغيم صلى لأن الأصل بقاء الكسوف وإن غابت كاسفة فهو كانجلائها لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها وإن طلعت الشمس والقمر خاسف فكذلك لما ذكرنا وإن غاب ليلا وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت وقال القاضي : يصلي لأن وقت سلطانه باق
فصل :
قال القاضي : لم يذكر لها أحمد خطبة ولا رأيته لأحد من أصحابنا وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمرنا بالصلاة دون الخطبة
فصل :
إذا اجتمع الكسوف والجنازة بدىء بالجنازة لأنه يخاف عليها وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بدىء بها لأنها آكد وإن كان في أول وقتها بدىء بصلاة الكسوف لأنه يخشى فواتها وإن اجتمع هو والوتر وخيف فواتهما بدئ بالكسوف لأنه آكد
فصل :
ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من خلفائه إلا أن أحمد رضي الله عنه قال : يصلي للزلزلة الدائمة لأن النبي صلى الله عليه و سلم علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده والزلزلة أشد تخويفا فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة

باب صلاة الاستسقاء
وهي سنة عند الحاجة إليها لما روى عبد الله بن زيد قال : خرج النبي صلى الله عليه و سلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة متفق عليه وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد وهل يكبر فيهما تكبير العيدين ؟
على روايتين :
إحداهما : لا يكبر لأن عبد الله بن زيد لم يذكره
والثاني : يكبر لأن ابن عباس روى أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى ركعتين كما يصلى في العيدين حديث صحيح وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعا وخمسا رواه الشافعي في مسنده ولا وقت لها معين إلا أن الأولى فعلها في وقت صلاة العيد لشبهها بها وذكر بن عبد البر أن الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء
فصل :
وفي إذن الإمام روايتان بناء على صلاة العيد :
إحداهما : هو شرط لها قال أبو بكر : فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة
والثانية : يصلون ويخطب بهم أحدهم والأولى الإمام إذا أراد الاستسقاء أن يعظ الناس ويأمرهم بتقوى الله والخروج عن المظالم والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضا والصيام والصدقة وترك التشاحن لأن المعاصي سبب القحط والتقوى سبب البركات قال الله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } ويعد الناس يوما يخرجون فيه ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن عباس : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم للاستسقاء متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى فلم يخطب كخطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد هذا حديث صحيح ويسن التنظيف وإزالة الرائحة لئلا يؤذي الناس بها ولا يلبس زينة ولا يتطيب لأن هذا يوم استكانة وخضوع
فصل :
ويخرج الشيوخ والصبيان ومن له ذكر جميل ودين وصلاح لأن أسرع للإجابة ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه لأن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه و سلم واستسقى معاوية و الضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي وروي أن معاوية أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية : اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ورفع الناس أيديهم فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس وهب لها ريح فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم ولا يستحب إخراج البهائم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يخرجها ولا إخراج الكفار لأنهم أعداء الله فلا يتوسل بهم فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم ويفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم
فصل :
واختلفت الرواية في الخطبة فروي : أنه لا يخطب وإنما يدعو لقول ابن عباس : لم يخطب خطبتكم هذه وروي أنه يخطب قبل الصلاة لقول عبد الله بن زيد : فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى
وعنه : أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها لأن الجميع مروي
وعنه : يخطب بعد الصلاة لأن أبا هريرة قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم خطبنا وهذا صريح ولأنها مشبهة بصلاة العيد وخطبتها بعد الصلاة فإذا صعد المنبر جلس ثم قام فخطب خطبة واحدة يفتتحها بالتكبير لأنه لم ينقل أحد من الرواة خطبتين ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا } { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } ويكثر الدعاء والتضرع ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه و سلم وقد روى ابن قتيبة بإسناده عن أنس : أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج إلى الاستسقاء فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه ورفع يديه وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي ثم قال : [ اللهم اسقنا وأغثنا اللهم اسقنا غيثا مغيثا وحيا ربيعا وجدا طبقا غدقا مغدقا مونقا هنيئا مريئا مريعا مربعا مرتعا سابلا مسبلا مجللا دائما درورا نافعا غير ضار عاجلا غير رائث اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد اللهم أنزل في أرضنا زينتها وأنزل في أرضنا سكنها اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا فأحي به بلدة ميتا واسقه مما خلقت لنا أنعاما وأناسي كثيرا ] فالحيا الذي يحيى به الأرض
و الجدا : المطر العام
و الطبق : الذي يطبق الأرض
و الغدق : الكثير
و المونق : المعجب
و المريع : ذو المراعة والخصب
و المربع : المقيم من قولك : ربعت بالمكان إذا أقمت فيه
و السابل : المطر
و المسبل : الماطر
و السكن : القوة لأن الأرض تسكن به
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا استسقى قال : [ اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا غدقا مجللا طبقا عاما سحا دائما اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ] ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويحول رداءه يجعل اليمين يسارا واليسار يمينا كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم تفاؤلا أن يحول الله تعالى الجدب خصبا ولا يجعل أعلاه أسفله لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعله ويدعو الله في استقباله فيقول : اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا لأن عبد الله بن زيد روى : أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة ودعا وحول رداءه وجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن
ويرفع يديه لأن أنسا قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه متفق عليه فإن سقوا قبل الصلاة صلوا وشكروا الله تعالى وسألوه المزيد من فضله وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني و الثالث لأن الله يحب الملحين في الدعاء
فصل :
والاستسقاء على ثلاثة أضرب :
أحدها : مثل ما وصفنا
والثاني : أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر كما روى أنس : أن رجلا دخل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب فاستقبل رسول الله قائما ثم قال : يا رسول الله هلكت الأموال وتقطعت السبل فادع الله يغيثنا فرفع رسول الله يديه فقال : [ اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا ] وذكر الحديث متفق عليه
الثالث : أن يدعوا عقيب الصلوات ويستحب أن يقف في أول المطر ويخرج ثيابه ليصيبها لما روى أنس في حديثه أن النبي ( ص ) لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر من لحيته [ رواه البخاري ]
فصل :
فإن كثر المطر بحيث يضرهم أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه لأن في حديث أنس قال : فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة فجاء رجل إلى النبي ( ص ) فقال : يا رسول الله تهدمت البيوت وقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله ( ص ) : [ اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر ] فانجابت عن المدينة انجياب الثوب متفق عليه وفي حديث آخر : [ اللهم حوالينا ولا علينا ] ويقول : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }

كتاب الجنائز
يستحب الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له فإذا مرض استحب عيادته لما روى البراء قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم باتباع الجنازة وعيادة المريض متفق عليه إذا دخل عليه سأله عن حاله و رقاه ببعض رقى النبي صلى الله عليه و سلم و يحثه على التوبة و يرغبه في الوصية ويذكر له ما روى ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده ] متفق عليه
فصل :
ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به وأعلمهم بسياسته وأتقاهم لربه وإذا رآه منزولا به تعاهد بل حلقه فيقطر فيه ماء أو شرابا ويندي شفتيه بقطنة ويلقنه قول : لا إله إلا الله مرة لقول رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) : [ لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ] رواه مسلم ويكون ذلك في لطف ومداراة ولا يكرر عليه فيضجره إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه لتكون آخر كلامه لقول رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) : [ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ] رواه أبو داود ويقرأ عنده سورة يس ليخفف عنه لما روى معقل بن يسار أن رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) قال : [ اقرؤوا يس على موتاكم ] رواه أبو داود ويوجهه إلى القبلة كتوجيهه إلى الصلاة لأن حذيفة رضي الله عنه قال : وجهوني ولأن خير المجالس ما استقبل القبلة
فصل :
فإذا مات أغمض عينيه لما روى شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح ] من المسند ولأنه إذا لم يغمض عيناه بقيتا مفتوحتين فيقبح منظره ويشد لحيته بعصابة عريضة يجمع لحييه ثم يشدها على رأسه لئلا ينفتح فوه فيقبح منظره ويدخل فيه ماء الغسل ويقول الذي يغمضه : بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم ويلين مفاصله لأنه أسهل في الغسل ولئلا تبقى جافة فلا يمكن تكفينه ويخلع ثيابه لئلا يحمي جسمه فيسرع إليه التغير والفساد ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه ندوة الأرض فتغيره ويترك على بطنه حديدة لئلا ينتفخ بطنه وإن لم يكن فطين مبلول ويسجى بثوب لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم سجى ببردة حبرة متفق عليه و يسارع في تجهيزه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله ] رواه أبو داود وإن شك في موته انتظر به حتى يتيقن موته بانخساف صدغيه وميل أنفه وانفصال كفيه واسترخاء رجليه ولا بأس بالانتظار بها قدر ما يجتمع لها جماعة ما لم يخف عليه أو يشق على الناس ويسارع في قضاء دينه لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ] وهذا حديث حسن فإن تعذر تعجيله استحب أن يتكفل به عنه لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بجنازة فسأل : [ هل عليه دين ؟ ] قالوا : نعم ديناران فلم يصل عليه فقال أبو قتادة : هما علي يا رسول الله فصلى عليه رواه النسائي وتستحب المسارعة في تفريق وصيته ليتعجل ثوابها بجريانها على الموصى له

باب غسل الميت
وهو فرض على الكفاية لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال في الذي وقصته ناقة : [ اغسلوه بماء وسدر ] متفق عليه وأولى الناس بغسله من أوصي إليه بذلك لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل ولأنه حق للميت فقد وصيه فيه على غيره كتفريق ثلثه فإن لم يكن وصي فأولاهم بغسل الرجل أبوه ثم جده ثم ابنه وإن نزل ثم الأقرب فالأقرب من عصابته ثم الرجال من ذوي الأرحام ثم الأجانب لأنهم أولى الناس بالصلاة عليه وأولاهم بغسل المرأة أمها ثم جدتها ثم ابنتها ثم الأقرب فالأقرب ثم الأجنبيات
ويجوز للمرأة غسل زوجها بلا خلاف لحديث أبي بكر ولقول عائشة : لو استقبلنا ما أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا نساؤه رواه أبو داود وفي غسل الرجل امرأته روايتان :
أشهرهما : يباح لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة : [ لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ] رواه ابن ماجه وغسل علي فاطمة رضي الله عنهما فلم ينكره منكر فكان إجماعا ولأنها أحد الزوجين فأبيح للآخر غسله كالزوج
والأخرى : لا يباح لأنهما فرقة أباحت أختها وأربعا سواها فحرمت اللمس والنظر كالطلاق وأم الولد كالزوجة في هذا لأنها محل استمتاعه فإن طلق الرجل زوجته فماتت في العدة وكان الطلاق بائنا فهي كالأجنبية محرمة عليه وإن كانت رجعية وقلنا : إن الرجعية مباحة له فله غسلها وإلا فلا
فصل :
ولا يصح غسل الكافر لمسلم لأن الغسل عبادة محضة فلا تصح من كافر كالصلاة ولا يجوز للمسلم أن يغسل كافرا وإن كان قريبه ولا يتولى دفنه إلا أن يخاف ضياعه فيواريه قال أبو حفص العكبري : يجوز ذلك وحكاه قولا لأحمد رضي الله عنه لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال للنبي ( صلى الله عليه و سلم ) : إن عمك الشيخ الضال قد مات قال : [ اذهب فواره ] رواه أبو داود و النسائي ولنا أنه لا يصلي عليه فلم يكن له غسله كالأجنبي والخبر يدل على مواراته وله ذلك : لأنه يتغير بتركه ويتضرر ببقائه قال أحمد رضي الله عنه - في مسلم مات والده النصراني - : فليركب دابته وليسر أمام الجنازة وإذا أراد أن يدفن رجع مثل قول عمر رضي الله عنه
ولا يجوز لرجل غسل امرأة غير من ذكرنا ولا لامرأة غسل رجل سوى زوجها وسيدها لأن أحدهما محرم على صاحبه في الحياة فلم يجز له غسله كحال الحياة فإن مات رجل بين نساء أو امرأة بين رجال أو أنثى مشكل فإنه ييمم في أصح الروايتين لما روى واثلة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجل ] أخرجه تمام في فوائده
وعنه : في الرجل تموت أخته فلم يجد نساء يغسلها وعليها ثياب ويصب عليها الماء صبا والأول أولى لأن الغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف ولا إزالة النجاسة بل ربما كثرت فكان التيمم أولى كما لو وجد ماء لا يطهر النجاسة ويجوز للمرأة غسل صبي لم يبلغ سبع سنين نص عليه لأن عورته ليست عورة وتوقف عن غسل الرجل الجارية قال الخلال : القياس النسوية بين الغلام والجارية لولا أن التابعين فرقوا بينهما وسوى أبو الخطاب بينهما في الجواز جريا على موجب القياس
فصل :
وينبغي أن يكون الغاسل أمينا لما روي عن ابن عمر أنه قال : لا يغسل موتاكم إلا المأمونون ولأن غير الأمين لا يؤمن أن لا يستوفي الغسل ويذيع ما يرى من قبيح وعليه ستر ما يرى من قبيح لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من غسل ميتا ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] رواه ابن ماجه بمعناه وإن رأى أمارات الخير استحب إظهارها ليترحم عليه ويرغب في مثل طريقته وإن كان مغموصا عليه في السنة والدين مشهورا بذلك فلا بأس بإظهار الشر عنه لتحذر طريقته ويستحب ستر الميت عن العيون ولا يحضره إلا من يعين في أمره لأنه ربما كان فيه عيب يستره في حياته وربما بدت عورته فشاهدها
فصل :
ويجرد الميت عند تغسيله ويستر ما بين سرته وركبتيه وروى ذلك الأثرم عنه واختاره الخرقي وأبو الخطاب لأن ذلك أمكن في تغسيله وأبلغ في تطهيره وأشبه بغسل الحي وأصون له عن أن يتنجس بالثوب إذا خلع عنه ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانوا يفعلون ذلك بدليل أنهم قالوا : لا ندري أنجرد النبي صلى الله عليه و سلم كما نجرد موتانا ؟ رواه أبو داود والظاهر أن النبي أمرهم به وأقرهم عليه
وروى المروذي وعنه : أنه الأفضل غسله في قميص رقيق ينزل الماء فيه ويدخل الغاسل يده في كم القميص فيمرها على بدنه لأن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) غسل في قميصه ولأنه أستر للميت ويستحب أن يوضع على سرير غسله متوجها منحدرا نحو رجليه لينصب ماء الغسل منه ولا يستنقع تحته فيفسده ويستحب أن يتخذ الغاسل ثلاثة آنية إناء كبير فيه ماء بعيدا عن الميت وإناء وسطا وإناء يغترف به من الوسط ويصب على الميت فإن فسد الماء الذي كان في الوسط كان الآخر سليما ؟ ويكون بقربه مجمر فيه بخور لتخفى رائحة ما يخرج منه
فصل :
والفرض فيه ثلاثة أشياء : النية لأنها طهارة تعبدية أشبهت غسل الجنابة وتعميم البدن بالغسل لأنه غسل فوجب فيه ذلك كغسل الجنابة وتطهيره من النجاسة وفي التسمية وجهان بناء على غسل الجنابة ويسن فيه ثمانية أشياء :
أحدها : أن يبدأ فيحني الميت حنيا لا يبلغ به الجلوس ويمر يده على بطنه فيعصره عصرا دقيقا ليخرج ما في جوفه من فضلة لئلا يخرج بعد الغسل أو بعد التكفين فيفسده ويصب عليه الماء وقت العصر صبا كثيرا ليذهب بما يخرج فلا تظهر رائحته
والثاني : أن يلف على يده خرقة فينجيه بها ولا يحل له مس عورته لأن رؤيتها محرمة فلمسها أولى ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة وينبغي أن يتخذ الغاسل خرقتين خشنتين ينجيه بإحداهما ثم يلقيها ويلف الأخرى على يده فيمسح بها سائر البدن لما روي أن عليا رضي الله عنه غسل النبي صلى الله عليه و سلم وبيده خرقة يمسح بها ما تحت القميص
الثالث : أن يبدأ بعد إنجائه فيوضئه لما روت أم عطية أنها قالت : لما غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ] متفق عليه ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل فكذلك الميت ولا يدخل فاه ولا أنفه ماء لأنه لا يمكنه إخراجه فربما دخل بطنه ثم خرج فأفسد وضوءه لكن يلف على يده خرقة مبلولة ويدخلها بين شفتيه فيمسح أسنانه و أنفه ويتبع ما تحت أظافره - إن لم يكن قلمها - بعود لين كالصفصاف فيزيله ويغسله كما يفعل الحي في وضوءه وغسله
الرابع : أن يغسله بسدر مع الماء لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اغسلوه بماء وسدر ] وقال للنساء اللاتي غسلن ابنته : [ اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور ] متفق عليه وظاهر كلام أحمد أن السدر يجعل في جميع الغسلات لظاهر الخبر وذكره الخرقي
وقال القاضي و أبو الخطاب : يغسل الأولى بماء وسدر ثم يغسل الثانية بماء لا سدر فيه كي لا يسلب طهوريته ولا يجعل فيه سدر صحيح ولا فائدة ترك يسير لا يؤثر فإن أعوز السدر جعل مكانهما يقوم مقامه كالخطمي والصابون ونحوه مما ينقي
الخامس : أن يضرب السدر ثم يبدأ فيغسل برغوته رأسه ولحيته لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يبدأ بعد الوضوء بالصب على رأسه في الجنابة
السادس : أن يبدأ بشقه الأيمن لقوله عليه السلام : [ ابدأن بميامنها ] فيغسل يده اليمنى وصفحة عنقه وشق صدره وجنبه وفخذه وساقه وقدمه ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر كذلك
السابع : أن يغسله وترا للخبر فيغسله ثلاثا فإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس أو إلى سبع لا يزيد عليها لأنه آخر ما انتهى إليه أمر النبي صلى الله عليه و سلم ويمر في كل مرة يده ولا يوضئه إلا في المرة الأولى إلا أن يخرج منه شيء فيعيد وضوءه لأنه بمنزلة الحدث من المغتسل في الجنابة ولو غسله ثلاثا ثم خرج منه شيء غسله إلى خمس فإن خرج بعد ذلك غسله إلى سبع فإن خرج بعد ذلك لم يعد إلى الغسل ويسد مخرج النجاسة بالقطن فإن لم يستمسك فبالطين الحر ويغسل موضع النجاسة ويوضأ لأن أمر النبي ( صلى الله عليه و سلم ) بالغسل انتهى إلى سبع واختار أبو الخطاب أنه لا يعاد إلى الغسل لخروج الحدث لأن الجنب إذا أحدث بعد غسله لم يعده ويوضأ وضوءه للصلاة
الثامن : أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافورا ليشده ويبرده ويطيبه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بذلك ويستحب أن يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون ويسدل من ورائها لما روت أم عطية قالت : ضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها تعني : ابنة النبي صلى الله عليه و سلم متفق عليه
فصل :
وكره أحمد رضي الله عنه تسريح الميت لأن عائشة رضي الله عنها قالت : علام تنصون ميتكم ؟ يعني : لا تسرحوا رأسه بالمشط ولأنه يقطع شعره وينتفه والماء البارد في الغسل أفضل من الحار لأن البارد يشده والحار يرخيه إلا من حاجة إليه لوسخ يقلع به أو شدة برد يتأذى به الغاسل ولا يستعمل الأشنان إلا لحاجة إليه للاستعانة على إزالة الوسخ
فصل :
ويستحب تقليم أظافر الميت وقص شاربه لأن ذلك سنة في حياته ويترك ذلك معه في أكفانه لأنه من أجزائه وكل ما سقط من الميت جعل معه في أكفانه ليجمع بين أجزائه وفي أخذ عانته وجهان :
أحدهما : يستحب إزالتها بنورة أو حلق لأن سعيد بن العاص جز عانة ميت ولأنه من الفطرة فأشبه تقليم الظافر
والثاني : لا يستحب لأن فيه لمس العورة وربما احتاج إلى نظرها وذلك محرم فلا يفعل لأجل مندوب
فصل :
والسقط إذا أتى عليه أربعة أشهر غسل وصلي عليه لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ والسقط يصلى عليه ] رواه أبو داود ولأنه ميت مسلم أشبه المستهل ودليل أنه ميت : ما روى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) أنه قال : [ إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوما ثم علقة مثل ذلك ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا فينفخ فيه الروح ] متفق عليه ومن كان فيه روح ثم خرجت فهو ميت ويستحب تسميته لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم ] فإن لم يعلم أذكر هو أم أنثى سمي اسما يصلح لهما كسعادة وسلامة ومن له دون أربع أشهر لا يغسل ولا يصلى عليه لعدم ما ذكرناه فيه
فصل :
والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل رواية واحدة وفي الصلاة عليه روايتان :
إحداهما : يصلى عليه اختارها الخلال لما روى عقبة أن النبي ( ص ) خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف متفق عليه
والثانية : لا يصلى عليه وهي أصح لما روى جابر أن النبي ( ص ) أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلى عليهم رواه البخاري وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد بدليل أنه صلى عليهم بعد ثمان سنين والخيرة في تكفين الشهداء إلى الوالي إن أحب زمله في ثيابه ونزع ما عليه من جلد أو سلاح لما روى ابن عباس أن رسول ( ص ) أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم رواه أبو داود وإن أحب نزع ثيابه وكفنه بغيرها لأن صفية أرسلت إلى النبي ( ص ) ثوبين ليكفن حمزة فيهما فكفنه رسول الله ( ص ) في أحدهما وكفن في الآخر رجلا آخر قال يعقوب بن شيبة : هو صالح الإسناد وإن حمل وبه رمق أو أكل أو طالت حياته غسل وصلي عليه لأن سعد بن معاذ غسله النبي ( صلى الله عليه و سلم ) فصلى عليه وكان شهيدا وإن قتل وهو جنب غسل لأن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) قال يوم أحد : [ ما بال حنظلة بن الراهب ؟ إني رأيت الملائكة تغسله ] قالوا : إنه سمع الهائعة فخرج ولم يغتسل رواه الطيالسي وإن سقط من دابته أو تردى من شاهق أو وجد ميتا لا أثر به غسل وصلي عليه لأنه ليس بقتيل الكفار والذي لا أثر به يحتمل أنه مات حتف أنفه فلا يسقط الغسل الواجب بالشك
ومن عاد عليه سلاح فقتله فهو كقتيل الكفار لأن عامر بن الأكوع عاد عليه سيفه فقتله فلم يفرد عن الشهداء بحكم
وقال القاضي : يغسل ويصلى عليه لأنه ليس بقتيل الكفار ومن قتل من أهل العدل في المعترك فحكمه حكم قتيل المشركين
وأما أهل البغي فقال الخرقي يغسلون ويصلى عليهم لأنهم ليس لهم حكم الشهداء
وأما المقتول ظلما كقتيل اللصوص والمقتول دون ماله ففيه روايتان :
إحداهما : يغسل ويصلى عليه لأن ابن الزبير غسل وصلي عليه لأنه ليس بشهيد المعترك أشبه المبطون
والثانية لا يغسل لأنه قتيل شهيد أشبه شهيد المعترك
فصل :
ومن تعذر غسله لقلة الماء أو خيف تقطعه به كالمجزوم والمحترق يمم لأنها طهارة على البدن فيدخلها التيمم عند العجز عن استعمال الماء كالجنابة وإن تعذر غسل بعضه يمم لما لم يصبه الماء وإن أمكن صب الماء عليه وخيف من عركه صب عليه الماء صبا ولا يعرك
ومن مات في بئر ذات نفس أخرج فإن لم يمكن إلا بمثله وكانت البئر يحتاج إليها أخرج أيضا لأن رعاية حقوق الأحياء أولى من حفظه عن المثلة وإن لم يحتج إليها طمت عليه وكانت قبره
فصل :
ويستحب لمن غسل ميتا أن يغتسل لأن النبي ( ص ) قال : [ من غسل ميتا فليغتسل ] رواه الطيالسي و أبو داود ولا يجب ذلك لأن الميت طاهر والخبر محمول على الاستحباب والصحيح فيه أنه موقوف على أبي هريرة وكذلك قال أحمد : فإذا فرغ من غسله نشفه بثوبه كي لا يبل أكفانه

باب الكفن
يجب كفن الميت في ماله مقدما على الدين والوصية والإرث لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في الذي وقصته ناقته : [ كفنوه في ثوبيه ] متفق عليه ولأن كسوة المفلس الحي تقدم على دينه فكذلك كفنه فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه كسوته في حياته فإن لم يكن ففي بيت المال وليس على الرجل كفن زوجته لأنها صارت أجنبية لا يحل الاستمتاع منها فلم يجب عليه كسوتها
فصل :
وأقل ما يجزئ في الكفن ثوب يستر جميعه
وقال القاضي : لا يجزئ أقل من ثلاثة لأنه لو أجزأ واحد لم يجزئ أكثر منه لأنه يكون إسرافا و لا يصح لأن العورة المغلظة يسترها ثوب واحد فالميت أولى وما ذكره لا يلزمه فإنه يجوز التكفين بالحسن وإن أجزأ دونه ويستحب تحسين الكفن لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه ] رواه مسلم ويكون جديدا أو غسيلا إلا أن يوصي الميت بتكفينه في خلق فتمتثل وصيته لأن أبا بكر رضي الله عنه قال : كفنوني في ثوبي هذين فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت والأفضل تكفينه في ثلاث لفائف بيض لقول عائشة رضي الله عنها : كفن رسول الله ( ص ) في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة متفق عليه ولأن حالة الإحرام أكمل أحوال الحي وهو لا يلبس المخيط فيها فكذلك حال موته
والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها فيبسط على بساط ليكون الظاهر للناس أحسنها لأن هذه عادة الحي ثم تبسط الثانية فوقها ثم الثالثة فوقهما ويذر الحنوط والكافور فيما بينهن ثم يحمل الميت فيوضع عليهن مستلقيا ليكون أمكن لإدراجه فيها ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن ويجعل من بين أليتيه برفق ويكثر ذلك ليرد شيئا إن خرج حين تحريكه ويشد فوقه خرفة مشقوقة الطرف كالتبان تأخذ أليتيه ومثانته ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده ويجعل الطيب والذريرة في مغابنه ومواضع سجوده تشريفا لهذه الأعضاء التي خصت بالسجود ويطيب رأسه ولحيته لأن الحي يتطيب هكذا وإن طيب جميع بدنه كان حسنا ولا يترك على أعلى اللفافة العليا ولا النعش شيء من الحنوط لأن الصديق رضي الله عنه قال : لا تجعلوا على أكفاني حنوطا ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق الطرف الآخر ليمسكه إذا أقامه على شقه الأيمن ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيرده على وجهه ورجليه إلا أن يخاف انتشارها فيعقدها وإذا وضع في القبر حلها ولا يخرق الكفن لأن تخريقه يفسده ولا يجب الطيب لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر به ولأنه لا يجب على الحي فكذلك على الميت ولا يزاد الكفن على ثلاثة أثواب لأنه إسراف لم يرد الشرع به
فصل :
وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه كفنه فيه متفق على معناه ويجعل المئزر مما يلي جلده ولا يزر عليه القميص فإن تشاح الورثة في الكفن جعل ثلاث لفائف على حسب ما كان يلبس في حياته وإن قال أحدهم : يكفن من ماله وقال الآخر : من مال السبيل كفن من ماله لئلا يتعير بذلك ويستحب تجمير الكفن ثلاثا لأن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثا ]
فصل :
وتكفن المرأة في خمسة أثواب مئزر تؤزر به وقميص تلبسه بعده ثم تخمر بمقنعة ثم تلف بلفافتين لما روى أبو داود عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت : كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم عند وفاتها فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه و سلم الحقي ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر ولأن المرأة تزيد في حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته فكذلك في موتها وتلبس المخيط في إحرامها فتلبسه في مماتها
فصل :
فإن لم يجد إلا ثوبا لا يستر جميعه غطي رأسه وترك على رجليه حشيش لما روى خباب أن مصعب ابن عمير قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة إذا غطي رأسه بدت رجلاه وإذا غطي رجلاه بدا رأسه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر ] متفق عليه فإن كان أضيق من ذلك ستر به عورته وغطي سائره بحشيش أو ورق فإن كثر الموتى وقلت الأكفان كفن الاثنان والثلاثة في الكفن الواحد لما روى أنس قال : كثرت القتلى وقلت الأكفان يوم أحد فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد ثم يدفنوا في قبر واحد وهو حديث حسن
فصل :
فإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه لم يعد إلى الغسل وحمل لأن في إعادته مشقة ولا يؤمن مثله ثانيا وثالثا وإن ظهر منه كثير فالظاهر عنه أنه يحمل أيضا لمشقة إعادته
وعنه : أنه يعاد غسله ويطهر كفنه لأنه يؤمن مثله في الثاني للتحفظ بالتلجم والشد
فصل :
وإذا مات المحرم لم يقرب طيبا ولا يخمر رأسه لأن حكم إحرامه باق فيجنب ما يتجنبه المحرمون لما روى ابن عباس قال : بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ] متفق عليه
وعنه : لا يغطى رأسه ولا رجلاه والظاهر عنه جواز تغطيتهما لأنه لم يذكرهما في حديث ابن عباس ولأن الحي لا يمنع من تغطيتهما فالميت أولى ولا يلبس قميصا إن كان رجلا لأنه ممنوع من لبس المخيط وإن كان امرأة جاز ذلك لأنها لا تمنع من لبس المخيط وجاز تخمير رأسها لأنها لا تمنع ذلك في حياتها وإن ماتت معتدة بطل حكم عدتها وفعل بها ما يفعل بغيرها لأن اجتناب الطيب في الحياة إنما كان لئلا يدعو إلى نكاحها وقد أمن ذلك بموتها

باب الصلاة على الميت
وهي فرض على الكفاية لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صلوا على من قال لا إله إلا الله ] ويكفي واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة فلم يشترط لها العدد كالظهر ويجوز في المسجد لأن عائشة قالت : ( ما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد ) رواه مسلم وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد وتجوز في المقبرة لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على قبر في المقبرة ويجوز فعلها فرادى لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى عليه فرادى والسنة فعلها في جماعة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصليها بأصحابه ويستحب أن يصف ثلاثة صفوف لما روى مالك بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب ] وهذا حديث حسن وإن اجتمع نساء فصلين عليه جماعة أو فرادى فلا بأس لأن عائشة رضي الله عنها صلت على سعد بن أبي وقاص
فصل :
وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك لإجماع الصحابة على الوصية بها فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب وابن مسعود أوصى بذلك الزبير وأبا بكرة أوصى به أبا برزة وأم سلمة أوصت به سعيد ابن زيد وعائشة أوصت إلى أبي هريرة وأوصى أبو سريحة إلى زيد بن أرقم فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم فقال ابنه : أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيدا ولأنها حق للميت فقدم وصيه بها كتفريق ثلثه ثم الأمير لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ]
وقال أبو حازم : شهدت حسينا عليه السلام حين مات الحسن وهو يدفع في قفا سعد بن العاص ويقول : تقدم لولا السنة ما قدمتك وسعيد أمير المدينة لأنها إمامة في صلاة فأشبه سائر الصلوات ثم الأب وإن علا ثم الابن وإن سفل ثم أقرب العصبة ثم الرجال من ذوي أرحامه ثم الأجانب وفي تقديم الزوج على العصبة روايتان :
أشهرهما : تقديم العصبة لأن عمر رضي الله عنه قال لقرابة امرأته : أنتم أحق بها ولأن النكاح يزول بالموت والقرابة باقية
والثانية : الزوج أحق بها لأن أبا بكرة صلى على امرأته دون إخوتها ولأنه أحق منهم بغسلها فإن استووا فأولاهم أولاهم بالإمامة في المكتوبات للخبر فيه والحر أولى من العبد القريب لعدم ولايته فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم
فصل :
ومن شرطها الطهارة والاستقبال والنية لأنها من الصلوات فأشبهت سائرهن والسنة أن يقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة لما روي أن أنسا صلى على رجل فقام عند رأسه ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير فقال له العلاء بن زياد : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قام على المرأة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه ؟ قال : نعم وهذا حديث حسن
ويجوز أن يصلي على جماعة دفعة واحدة ويقدم إلى الإمام أفضلهم ويسوى بين رؤوسهم فإن اجتمع رجال وصبيان و خناثى ونساء قدم الرجال وإن كانوا عبيدا ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء لما روى عمار مولى الحارث بن نوفل قال : شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم ووضعت المرأة وراءه فصلي عليهما وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة فسألتهم فقالوا : السنة رواه أبو داود ولأنهم هكذا يصفون في صلاتهم وقال الخرقي : يقدم النساء على الصبيان لحاجتهن للشفاعة ويسوى بين رؤوسهم لأن ابن عمر كان يسوي بين رؤوسهم وعن أحمد ما يدل أنه يجعل صدر الرجل حذاء وسط المرأة واختاره أبو الخطاب ليقف كل واحد منهما موقفه
فصل :
وأركان صلاة الجنازة ستة :
أحدها : القيام : لأنها صلاة مكتوبة فوجب القيام بها كالظهر
الثاني : أربع تكبيرات لأن النبي صلى الله عليه و سلم كبر على النجاشي أربعا متفق عليه
الثالث : أن يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ] وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن وقال : إنه من السنة أو من تمام السنة حديث صحيح رواه البخاري ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كالظهر
والرابع : أن يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم في الثانية لما روى أبو أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى ويقرأ في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ويخلص الدعاء للجنازة ولا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه رواه الشافعي في مسنده وليس في الصلاة عليه شيء مؤقت وإن صلى كما يصلى عليه في التشهد فحسن
الخامس : أن يدعو للميت في الثالثة لذلك ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ] رواه أبو داود ولأنه المقصود فلا يجوز الإخلال به وما دعا به أجزأه
السادس : التسليم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ تحليلها التسليم ]
فصل :
وسننها سبع :
أولها : رفع اليدين مع كل تكبيرة لأن عمر كان يرفع يديه في تكبير الجنازة والعيد لأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود فسن فيها الرفع كتكبيرة الإحرام
والثاني : الاستعاذة قبل القراءة لقول الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }
الثالث : الإسرار بالقراءة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسر بها
الرابع : أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء النبي ( ص ) وهو ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال : كان رسول الله ( ص ) إذا صلى على الجنازة قال : [ اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا و غائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا و أنثانا ] حديث صحيح
وعن أبي هريرة عن النبي ( ص ) نحوه وزاد : [ اللهم من أحييته منا فأحييه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده ] وفي آخر : [ اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئناك شفعاء فاغفر له ] رواه أبو داود وعن عوف بن مالك قال : صلى النبي ( ص ) على جنازة فحفظت دعائه : [ الله اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار ] حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت رواه مسلم وإن كان طفلا جعل مكان الاستغفار له : [ اللهم اجعله لوالديه ذخرا وفرطا و سلفا وأجرا اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم ] وإن لم يعلم شرا من العبد قال : [ اللهم لا نعلم إلا خيرا ]
الخامس : أن يقف بعد الرابعة قليلا وهل يسن فيها ذكر على روايتين
السادس : أن يضع يمينه على شماله لما روي أن النبي ( ص ) صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله
السابع : الالتفات على يمينه في التسليمة
فصل :
ولا يسن الاستفتاح لأن مبناها على التخفيف ولا قراءة شيء بعد الفاتحة لذلك
وعنه : يسن الاستفتاح ولا يسن تسليمه ثانية لأن عطاء بن السائب روى أن النبي ( ص ) سلم على الجنازة تسليمة واحدة رواه الجوزجاني ولأنه إجماع قال أحمد : التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن ستة من أصحاب النبي ( ص ) وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم ولا تسن الزيادة على أربع تكبيرات لأنها المشهورة عن النبي ( ص ) وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات وقال : هو أطول الصلاة فإن كبر خمسا جاز وتبعه المأموم لأن زيد بن أرقم كبر على جنازة خمسا وقال : كان النبي ( ص ) يكبرها رواه مسلم
وعنه لا يتابع فيها اختاره ابن عقيل لأنها زيادة غير مسنونة وإن كبر ستا أو سبعا ففيه روايتان :
إحداهما : يجوز ويتابعه المأموم فيها لأنه يروى عن النبي ( ص ) أنه كبر سبعا وكبر على أبو قتادة سبعا
والثانية : لا يجوز ولا يتبعه المأموم فيها لأن المشهور عن النبي ( ص ) وأصحابه خلافها لمن لا يسلم قبله وينتظره حتى يسلم معه لأنها زيادة قول مختلف فيها لأنه لا يجز له مفارقة إمامه إذا اشتغل به كالقنوت في الصبح وإن زاد على سبع لم يتابعه ولم يسلم قبله قال أحمد : وينبغي أن يسبح به
فصل :
وإن كبر على جنازة فجيء بأخرى كبر الثانية عليهما ثم إن جيء بثالثة كبر الثالثة عليهن ثم إن جيء برابعة كبر الرابعة عليهن ثم يتمم سبع تكبيرات ليحصل للرابعة أربع تكبيرات فإن جيء بأخرى لم يكبر عليها لئلا يفضي إلى زيادة التكبير على سبع أو نقصان الخامسة من أربع وكلاهما غير جائز وإن أراد أهل الأولى رفعها قبل سلام الإمام لم يجز لأن السلام ركن لم يأت به ويقرأ في التكبيرة الرابعة الفاتحة وفي الخامسة يصلي على النبي ( ص ) ويدعو لهم في السادسة لتكمل الأركان لجميع الجنائز
فصل :
ومن سبق ببعض الصلاة فأدرك الإمام بين تكبيرتين دخل معه كما يدخل في سائر الصلوات
وعنه : أنه ينتظر تكبير الإمام فيكبر معه لأن كل تكبيرة كركعة فلا يشتغل بقضائها فإذا سلم الإمام قضى ما فاته لقول النبي ( ص ) : [ وما فاتكم فاقضوا ] قال الخرقي : يقضيه متتابعا فإن سلم ولم يقضه فلا بأس لأن ابن عمر رضي الله عنه قال : لا يقضي ولأنها تكبيرات متوالية حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها كتكبيرات العيد
وقال القاضي و أبو الخطاب : يقضيه على صفته إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متواليا لعدم من يدعى له فإن سلم ولم يقضه فحكى أبو الخطاب عنه رواية أنها لا تصح قياسا على سائر الصلوات
فصل :
وإذا صلي عليه بودر إلى دفنه ولم ينتظر حضور أحد إلا الوالي فإنه ينتظر ما لم يخش عليه التغيير فإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه جماعة وفرادى قال أحمد رضي الله عنه : ولا بأس بذلك قد فعله عدة من أصحاب النبي ( ص ) ومن صلى مرة لم يستحب له إعادتها لأنها نافلة وصلاة الجنازة لا يتنفل بها ومن فاتته الصلاة عليه حتى دفن صلى على قبره لما روى ابن عباس أنه مر مع النبي ( ص ) على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه متفق عليه ولا يصلى على القبر بعد شهر إلا بقليل لأن أكثر ما نقل عن النبي ( ص ) أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر رواه الترمذي ولأنه لا يعلم بقاؤه أكثر من شهر فتقيد به
فصل :
وتجوز الصلاة على الغائب
وعنه : لا تجوز لأن حضوره شرط بدليل ما لو كانا في بلد واحد والأول المذهب لما روى أبو هريرة أن النبي ( ص ) نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه فصف بهم في المصلى وكبر بهم أربعا متفق عليه فإن كان الميت من أحد جانبي البلد لم يصل عليه في الجانب الآخر لأنه يمكن حضوره فأشبه ما لو كانا من جانب واحد وقال ابن حامد : يجوز قياسا على البعيد و تتوقت الصلاة على الغائب بشهر لأنه لا يعلم بقاؤه أكثر منه فأشبه من في القبر
فصل :
ويصلي على كل مسلم لما تقدم إلا شهيد المعترك وإن لم يوجد إلا بعض الميت غسل وصلي عليه
وعنه : لا يصلى عليه كما لا يصلى على يد الحي إذا قطعت والمذهب الأول لأن عمر رضي الله عنه صلى على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس ولا يصلي الإمام على الغال ولا قاتل نفسه لما روى جابر بن سمرة قال : أتى النبي ( ص ) برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه رواه مسلم وعن زيد بن خالد قال : توفي رجل من جهينة يوم خيبر فذكر لرسول الله ( ص ) فقال : [ صلوا على صاحبكم إن صاحبكم غل من الغنيمة ] احتج به أحمد ويصلى على سائر الناس لقول النبي ( ص ) : [ صلوا على صاحبكم ]
قال الخلال : الإمام ههنا أمير المؤمنين وحده وعن أحمد رضي الله عنه أن إمام كل قرية واليهم وأنكر هذا الخلال وخطأ ناقله
فصل :
ولا تجوز الصلاة على كافر لقول الله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } وقال الله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى } ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم يصل عليه قال أحمد : لا أشهد الجهمي ولا الرافضي ويشهدهما من أحب

باب حمل الجنازة والدفن
وهما فرض على الكفاية لأن في تركهما هتكا لحرمتها وأذى للناس بها وأولى الناس بذلك أولاهم بغسله وأولى الناس إدخال المرأة قبرها محارمها الأقرب فالأقرب وفي تقديم الزوج عليهم وجهان بناء على ما مر في الصلاة فإن لم يكن فالمشايخ من أهل الدين
وعنه : النساء بعد المحارم اختاره الخرقي والأول أولى لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أبا طلحة فنزل على قبر ابنته دون النساء رواه البخاري ورأى النبي صلى الله عليه و سلم نساء في جنازة فقال : [ أتدلين فيمن يدلي ؟ قلن : لا قال : فارجعن مأزورات غير مأجورات ] أخرجه ابن ماجه ولأن الدفن يحتاج إلى قوة وبطش ويحضره الرجال فتولي المرأة له تعريض لها للهتك
والتربيع في حمل الجنازة مسنون لما روي عن ابن مسعود أنه قال : إذا اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع ثم ليتطوع بعد أو ليذر فإنه من السنة رواه سعيد بن منصور وصفته أنه يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت ثم من عند رجليه ثم يضع قائمة السرير اليمنى على كتفه اليسرى من كتفه اليمنى من عند رأسه ثم من عند رجليه
وعنه : أن يدور فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة يامنة المؤخرة ثم المقدمة وإن حمل بين العمودين فحسن روي عن سعد بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير والسنة الإسراع في المشي بها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ] متفق عليه ولا يفرط بالإسراع فيمخضها ويؤذي متبعها
فصل :
واتباع الجنازة سنة وهو على ثلاثة أضرب :
أحدها : أن يصلي وينصرف
والثاني : أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل : وما القيراطان ؟ قال : مثل الجبلين العظيمين ] متفق عليه
الثالث : أن يقف بعد الدفن يستغفر له ويسأل الله له التثبيت كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا دفن ميتا وقف وقال : [ استغفروا له واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ] رواه أبو داود والمشي أمامها أفضل لما روى ابن عمر قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة رواه أبو داود ولأنهم شفعاء لها والشافع يتقدم المشفوع وحيث مشى قريبا منها فحسن وإن كان راكبا فالسنة أن يكون خلفها لما روى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها ] حديث صحيح ويكره الركوب لمشيعها إلا من حاجة لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه و سلم ما ركب في جنازة ولا عيد ولا بأس بالركوب في الانصراف لما روى جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم اتبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس ) حديث حسن رواه الترمذي ورواه مسلم
فصل :
وإذا سبقها فجلس لم يقم عند مجيئها وإن مرت به جنازة لم يستحب له القيام
وعنه : يستحب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه ] رواه مسلم والأول أولى لقول علي رضي الله عنه : قام رسو الله صلى الله عليه و سلم ثم قعد ورواه مسلم وهذا ناسخ للأول فأما من مع الجنازة فيكره أن يجلس حتى توضع عن الأعناق لما روى أبو سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع ] رواه البخاري و مسلم وفي لفظ : [ حتى توضع في الأرض ] رواه أبو داود
ويكره اتباع النساء الجنائز لما روت أم عطية قالت : نهينا عن اتباع الجنائز متفق عليه ويكره أن تتبع بنار أو صوت لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تتبع الجنازة بصوت أو نار ] رواه أبو داود
فصل : ويجوز الدفن في البيت لأن النبي صلى الله عليه و سلم و أبا بكر وعمر دفنوا في بيت والدفن في الصحراء أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدفن أصحابه بالبقيع وإنما دفن في البيت كراهة أن يتخذ قبره مسجدا ولولا ذلك لأبرز قبره كذلك قالت عائشة رضي الله عنها متفق عليه ويدفن الشهيد في مصرعه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بشهداء أحد أن يردوا إلى مصارعهم رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجه و الترمذي وقال : صحيح وكان بعضهم قد حمل إلى المدينة
وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه لأنه أذى للأحياء والميت لغير فائدة
وإن تنازع وارثان في الدفن في مقبرة المسلمين أو البيت دفن في المقبرة لأن له في البيت حقا فلا يجوز إسقاطه ويستحب الدفن في المقبرة التي فيها الصالحون لينتفع بمجاورتهم وجمع الأقارب في الدفن حسن لتسهل زيارتهم والترحم عليهم وقد روي أن النبي ( ص ) ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال : [ أعلم قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي ] رواه أبو داود
وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق لقول النبي ( ص ) : [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ] وإن استويا في السبق أقرع بينهما ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت حتى يبلى الأول ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض
فصل :
ويستحب تعميق القبر وتوسيعه وتحسينه لأن النبي ( ص ) قال : [ احفروا وأوسعوا وأعمقوا ] رواه أبو داود قال أحمد يعمق إلى الصدر لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك ولأن في تعميقه أكثر من ذلك مشقة وقال أبو الخطاب : يعمق قدر قامة وبسطة والسنة أن يلحد له لقول سعد بن مالك : الحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله ( ص ) رواه مسلم
قال أحمد رضي الله عنه : ولا أحب الشق لقول النبي ( ص ) : [ اللحد لنا والشق لغيرنا ] رواه أبو داود ومعنى الشق أنه إذا وصل إلى الأرض شق في وسطه شقا نازلا فإن كانت الأرض رخوة لا يثبت فيها اللحد شق فيها للحاجة
فصل :
ولا يدفن في القبر اثنان لأن النبي ( ص ) كان يدفن كل ميت في قبره فإن دعت الحاجة إليه جاز لأن النبي ( ص ) لما كثر القتلى يوم أحد كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد ويسأل أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ فيقدمه في اللحد حديث صحيح ويقدم أفضلهم إلى القبلة للخبر ويجعل بين كل اثنين حاجزا من تراب ليصير كل واحد منفردا كأنه في قبر منفرد وإن دفن رجل وصبي وامرأة في قبر واحد جعل الرجل في القبلة والصبي خلفه والمرأة خلفهما وقال الخرقي : تقدم المرأة على الصبي وقال أحمد : وإن حفروا شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا جاز ويجعل بينهما حاجز لا يلصق أحدهما بصاحبه فإن مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره فإن استووا بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات فإن استووا قدم أسنهم و أفضلهم
فصل :
ولا توقيت في عدد من يدخل القبر إنما هو بحسب الحاجة إليه نص عليه
ويسل الميت من قبل رأسه وهو أن يجعل رأسه عند رجلي القبر ثم يسل سلا لأن النبي ( ص ) سل من قبل رأسه وإن كان الأسهل غير ذلك فعل الأسهل ويقول الذي يدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله ( ص ) لما روى ابن عمر أن النبي ( ص ) كان يقول إذا أدخل الميت القبر من المسند ويضعه في اللحد على جانبه الأيمن مستقبل القبلة لقول النبي ( ص ) : [ إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه ] ويتوسد رأسه بلبنة أو نحوها كالحي إذا نام ويجعل خلفه تراب يسنده لئلا يستلقي على قفاه وإن وطأ تحته بقطيفة فلا بأس لأن النبي ( ص ) ترك تحته قطيفة كان يفترشها وينصب عليه اللبن نصبا لحديث سعد وإن جعل عليه : طن قصب جاز لما روى عمر بن شرحبيل أنه قال : إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك
ويكره الدفن في التابوت وأن يدخل القبر آجرا أو خشبا أو شيئا مسته النار لأن إبراهيم قال : كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر ولأنه آلة بناء المترفين وسائر ما مسته النار يكره للتفاؤل بها
فصل :
ولا يخمر قبر الرجل لما روي عن علي رضي الله عنه أنه مر بقوم وقد دفنوا ميتا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال : إنما يصنع هذا بالنساء ويستحب ذلك للنساء للخبر ولئلا ينكشف منها شيء فيراه الحاضرون
فصل :
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر لما روى الساجي أن النبي ( ص ) رفع قبره عن الأرض قدر شبر ولأنه يعلم أنه قبر فيتوقى ويترحم عليه ولا يزاد عليه من غير ترابه لقول عقبة بن عامر : لا تجعلوا على القبر من التراب أكثر مما خرج منه رواه أحمد ويستحب أن يرش عليه الماء ليتلبد وروى أبو رافع أن رسول الله ( ص ) سل سعدا ورش على قبره الماء رواه ابن ماجه و تسنيمه أفضل من تسطيحه لما روى البخاري عن سفيان التمار : أنه رأى قبر النبي ( ص ) مسنما ولأن السطح يشبه أبنية أهل الدنيا ولا بأس بتعليمه بصخرة ونحوها لما ذكرنا من حديث عثمان بن مظعون ولأنه يعرف قبره فيكثر الترحم عليه
فصل :
ويكره البناء على القبر و تجصيصه والكتابة عليه لقول جابر نهى رسول الله ( ص ) أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه رواه مسلم زاد الترمذي : وأن يكتب عليها وقال : حديث صحيح ولأنه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه ولا يجوز أن يبنى عليه مسجد لقول النبي ( ص ) : [ لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد ] يحذر مثل ما صنعوا متفق عليه ويكره الجلوس عليه والاتكاء إليه والاستناد إليه لحديث جابر ويكره المشي عليه لما روى عقبة بن عامر قال : قال النبي ( ص ) : [ لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي أن أطأ على قبر مسلم ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق ] رواه ابن ماجه فإن لم يكن طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء جاز لأنه موضع حاجة
فصل :
ولا يجوز الدفن في الساعات المذكورة في حديث عقبة عن النبي ( ص ) أنه قال : ثلاث ساعات كان رسول الله ( ص ) ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب رواه مسلم ويجوز الدفن في سائر الأوقات ليلا ونهارا لأن النبي ( ص ) دفن ليلا ودفن ذا البجادين ليلا والدفن في النهار أولى لأنه روي عن النبي ( ص ) أنه زجر عن الدفن ليلا رواه مسلم ولأن النهار أمكن وأسهل على مشيعيها وأكثر لمتبعيها
فصل :
وإذا ماتت ذمية حامل من مسلم لم تفن في مقبرة المسلمين لكفرها ولا تدفن في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم وتدفن مفردة ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها وإن ماتت امرأة حامل وولدها يتحرك ورجيت حياته سطت عليه القوابل فأخرجنه ولا يشق بطنها لأن فيه هتكا لحرمته متيقنة لإبقاء حياة موهومة بعيدة فإن لم يخرج تركت حتى يموت ثم تدفن ويحتمل أن يشق بطنها إن غلب على الظن أنه يحيا لأن حفظ حرمة الحي أولى وإن بلع الميت جوهرة لغيره شق بطنه وأخذت لأن فيه تخليصا له من مأثمها وردا لها إلى مالكها ويحتمل أن يغرم قيمتها من تركته ولا يتعرض له صيانة عن المثلة به فإن لم يكن له تركة تعين شقه فإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان :
أحدهما : يشق بطنها لأنها للوارث فهي كجوهرة الأجنبي
والثاني : لا يشق لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الوارث وإن بلع مالا يسيرا لم يشق بطنه ويغرم القيمة من تركته وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخذ لأنه يمكن رده إلى صاحبه بغير ضرورة فوجب وإن دفن الميت بغير غسل أو إلى غير القبلة نبش وغسل ووجه لأن هذا مقدور على فعله فوجب إلا أن يخاف عليه الفساد فلا ينبش لأنه تعذر فسقط كما يسقط وضوء الحي لتعذره وإن دفن قبل الصلاة عليه احتمل أن يكون حكمه كذلك لأنه واجب فهو كغسله واحتمل أن يصلي على القبر ولا تهتك حرمته لأنه عذر
فصل :
سئل أحمد رضي الله عنه عن تلقين الميت في قبره فقال : ما رأيت أحدا يفعله إلا أهل الشام قال : وكان أبو مغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلون وقال القاضي و أبو الخطاب : يستحب ذلك ورويا فيه حديث عن أبي أمامة أن النبي ( ص ) قال : [ إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحد عند رأس قبره ثم ليقل : يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب ثم ليقل : يا فلان ابن فلانة الثانية فيستوي قاعدا ثم ليقل : يا فلان بن فلانة فإنه يقول : أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تسمعونه فيقول : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ( ص ) نبيا وبالقرآن إماما فإن منكرا و نكير يتأخر كل واحد منهما فيقول : انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون عند الله حجيجه دونهما ] فقال الرجل : يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه ؟ قال : [ فلينسبه إلى حواء ] رواه الطبراني في معجمه بمعناه

باب التعزية والبكاء على الميت
التعزية سنة لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من عزى مصابا فله مثل أجره ] وهو حديث غريب وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده لعموم الخبر ويكره الجلوس لها لأنه محدث ويقول في تعزية المسلم بالمسلم : أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك ورحم ميتك وفي تعزيته بكافر : أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وتوقف أحمد رضي الله عنه عن تعزية أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم وفيها روايتان :
إحداهما : يعودهم لأنه روي أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه و سلم فأتاه النبي صلى الله عليه و سلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له : [ أسلم ] فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقول : [ الحمد لله الذي أنقذه من النار ] رواه البخاري
والثانية : لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تبدؤوهم بالسلام ] فإن قلنا : نعزيهم فإن تعزيتهم عن مسلم : أحسن الله عزاءك وغفر لميتك وعن كافر : أخلف الله عليك ولا نقص عددك
فصل :
والبكاء غير مكروه إذا لم يكن مع ندب ولا نياحة لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على سعد بن عبادة فوجده في غاشية فبكى وبكى أصحابه وقال : [ ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين ولا يحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم ] متفق عليه ولا يجوز لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ]
وعن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم برئ من الصالقة و الحالقة و الشاقة متفق عليهما ويكره الندب والنوح ونقل حرب عن أحمد كلاما يحتمل إباحتهما واختاره الخلال وصاحبه لأن واثلة و أبا وائل كانا يستمعا النوح ويبكيان وظاهر الأخبار التحريم
قال أحمد في قوله تعالى : { ولا يعصينك في معروف } هو النوح فسماه معصية وقالت أم عطية : أخذ علينا النبي صلى الله عليه و سلم في البيعة أن لا ننوح متفق عليه
وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى وبالصبر والصلاة ويسترجع ولا يقول إلا خيرا لقول الله تعالى : { استعينوا بالصبر والصلاة } الآيات وقالت أم سلمة : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله و إنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خير منها ] قالت : فلما توفي أبو سلمة قلتها فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه مسلم وقال : لما مات أبو سلمة : لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون رواه مسلم
فصل :
ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه إصلاح طعام لأهله لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما جاء نعي جعفر قال : [ اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم ] رواه أبو داود
فأما صنيع أهل الميت الطعام للناس فمكروه لأن فيه زيادة على مصيبتهم وشغلا لهم إلى شغلهم
فصل :
ويستحب للرجال زيارة القبور لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها إنها تذكركم الموت ] رواه مسلم وإن مر بها أو زارها قال ما روى مسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية و في حديث آخر : [ يرحم الله المستقدمين منا و المستأخرين ] وفي حديث آخر : [ اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ] وإن زاد : [ اللهم اغفر لنا ولهم ] كان حسنا
فأما النساء ففي كراهية زيارة القبور لهن روايتان :
إحداهما : لا يكره لعموم ما رويناه ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن
والثانية : يكره لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله زوارات القبور ] وهذا حديث صحيح فلما زال التحريم بالنسخ بقيت الكراهية ولأن المرأة قليلة الصبر فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله بخلاف الرجل
فصل :
ويستحب لم دخل المقابر خلع نعليه لما روى بشير بن الخصاصية قال : بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ حانت منه نظرة فإذا رجل يمشي بالقبور عليه نعلان فقال : [ يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك ] فنظر الرجل فلما عرف رسول الله ( ص ) خلعهما فرمى بهما رواه أبو داود فإن خاف الشوك إن خلع نعليه فلا بأس بلبسهما للحاجة ولا يدخل في هذا الخفاف لأن نزعها يشق وفي التمشكات ونحوها وجهان :
أحدهما : هي كالنعل لسهولة خلعها
والثاني : لا يستحب لأن خلع النعلين تعبد فيقصر عليهما
فصل :
وإن دعا إنسان لميت أو تصدق عنه أو قضى عنه دينا واجبا عليه نفعه ذلك بلا خلاف لأن الله تعالى قال : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } وقال سعد بن عبادة للنبي ( ص ) أينفع أمي إذا تصدقت عنها ؟ قال : [ نعم ] متفق عليه وإن فعل عبادة بدنية كالقراءة والصلاة والصوم وجعل ثوابها للميت نفعه أيضا لأنه إحدى العبادات فأشبهت الواجبات ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ويقرؤون ويهدون لموتاهم ولم ينكره منكر فكان إجماعا

كتاب الزكاة
وهي أحد أركان الإسلام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ] متفق عليه وتجب على الفور فلا يجوز تأخيرها مع القدرة على أدائها لأنها حق يصرف إلى آدمي توجهت المطالبة به فلم يجز تأخيرها كالوديعة ومن جحد وجوبها لجهله ومثله يجهل ذلك كحديث العهد بالإسلام عرف ذلك ولم يحكم بكفره لأنه معذور وإن كان ممن لا يجهل مثله ذلك كفر وحكمه حكم المرتد لأن وجوب الزكاة معلوم ضرورة فمن أنكرها كذب الله ورسوله وإن منعها معتقدا وجوبها أخذها الإمام منه وعزره فإن قدر عليه دون ماله استتابه ثلاثا فإن تاب و أخرج وإلا قتل وأخذت من تركته وإن لم يمكن أخذها إلا بالقتال قاتله الإمام لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليها رواه البخاري وتابعه الصحابة على ذلك فكان إجماعا
وإن كتم ماله حتى لا تؤخذ زكاته أخذت منه وعزر وفي جميع ذلك يأخذها الإمام من غير زيادة بدليل أن العرب منعت الزكاة فلم ينقل أنه أخذ منهم زيادة عليها
وقال أبو بكر : يأخذ معها شطر ماله بدليل ما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن أبا فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ] رواه أبو داود وقال أحمد رضي الله عنه : هو عندي صالح
وهل يكفر من قاتل الإمام على الزكاة ؟ فيها روايتان :
إحداهما : يكفر لقول الله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } دل هذا على أنه لا يكون أخانا في الدين إلا بأدائها ولأن الصديق رضي الله عنه قال لمانعي الزكاة : لا حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
والثانية : لا يكفر لأن الصحابة رضي الله عنهم امتنعوا عن قتالهم ابتداء فيدل على أنهم لم يعتقدوا كفرهم ثم اتفقوا على القتال وبقي الكفر على الأصل
فصل :
ولا تجب إلا بشروط أربعة : الإسلام فلا تجب على كافر أصلي ولا مرتد لأنها من فروع الإسلام فلا تجب على كافر كالصيام
فصل :
والشرط الثاني : الحرية فلا تجب على عبد فإن ملكه سيده مالا وقلنا : لا يملك فزكاته على سيده لأنه مالكه وإن قلنا : يملك فلا زكاة في المال لأن سيده لا يملكه وملك العبد ضعيف لا يحتمل المواساة بدليل أنه لا يعتق عليه أقاربه إذا ملكهم ولا تجب عليه نفقة قريبه والزكاة إنما تجب بطرق المواساة فلا تجب على مكاتب لأنه عبد وملكه غير تام لما ذكرنا فإن عتق وبقي في يده نصابا استقبل به حولا وإن عجز استقبل سيده بماله حولا لأنه يملكه حينئذ وما قبض من نجوم مكاتبه استقبل به حولا لذلك وإن ملك المعتق بعضه بجزئه الحر نصابا لزمته زكاته لأنه يملك ذلك ملكا تاما فأشبه الحر
فصل :
والشرط الثالث : تمام الملك فلا تجب الزكاة في الدين على المكاتب لنقصان الملك فيه فإن له أن يعجز نفسه ويمتنع عن أدائه ولا في السائمة الموقوف لأن الملك لا يثبت فيها في وجه في وجه يثبت ناقصا لا يتمكن من التصرف فيها بأنواع التصرفات
وروى مهنا عن أحمد : فيمن وقف أرضا أو غنما في السبيل لا زكاة عليه ولا عشر هذا في السبيل
إنما يكون ذلك إذا جعله في قرابته وهذا يدل على إيجاب الزكاة فيه إذا كان لمعين لعموم قوله عليه السلام : [ في كل أربعين شاة شاة ]
ولا تجب في حصة المضارب من الربح قبل القسمة لأنه لا يملكها على رواية وعلى روية يملكها ملكا ناقصا غير مستقر لأنها وقاية لرأس المال ولا يختص المضرب بنمائها
واختار أبو الخطاب أنها جائزة في حول الزكاة لثبوت الملك فيها وفي المغصوب و الضال والدين على من لا يمكن استيفاؤه منه لإعسار أو جحد أو مطل روايتان :
إحداهما : لا زكاة فيه لأنه خارج عن يده وتصرفه أشبه دين الكتابة ولأنه غير تام أشبه الحلي
والثانية : فيه الزكاة لأن الملك فيه مستقر ويملك المطالبة به فوجبت الزكاة فيه كالدين على مليء ولا خلاف في وجوب الزكاة في الدين الممكن استيفاؤه ولا يلزمه الإخراج حتى يقبضه فيؤدي إلى ما مضى لأن الزكاة مواساة وليس في المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أنه لا فرق بين الحال والمؤجل لأن المؤجل مملوك له تصح الحوالة به والبراءة منه
ولو أجر داره سنين بأجرة ملكها من حين العقد وجرت في حول الزكاة وحكمها حكم الدين وحكم الصداق على الزوج حكم الدين على الموسر والمعسر لأنه دين وسواء في هذا قبل الدخول أو بعده لأنها مالكة له
فأما إن أسر رب المال وحيل بينه وبين ماله أو نسي المودع لمن أودع ماله فعليه فيه الزكاة لأن تصرفه في ماله نافذ ولهذا لو باع الأسير ماله أو وهبه صح وإذا حصل الضال في يد ملتقط فهو في حول التعريف على ما ذكرناه وفيما بعد يملكه الملتقط فزكاته عليه دون ربه ويحتمل أن لا تلزمه زكاته ذكره ابن عقيل لأن ملكه غير مستقر إذ لمالكه انتزاعه منه عند مجيئه والأول أصح لأن الزكاة تجب في الصداق قبل الدخول وفي المال الموهوب للابن مع جواز الاسترجاع
فإن أبرأت المرأة زوجها من صداقها عليه أو أبرأ الغريم غريمه من دينه ففيه روايتان :
إحداهما : على المبرئ زكاة ما مضى لأنه تصرف فيه أشبه ما لو أحيل به أو قبضه
والثانية : زكاته على المدين لأنه ملك ما ملك عليه قبل قبضه منه فكأنه لم يزل ملكه عنه
ويحتمل أن لا تجب الزكاة على واحد منهما لأن المبرئ لم يقبض شيئا ولا تجب الزكاة على رب الدين قبل قبضه والمدين لم يملك شيئا لأن من أسقط عنه شيئا لم يملكه بذلك فأما ما سقط من الصداق قبل قبضه بطلاق الزوج فلا زكاة فيه لأنها لم تقبضه ولم يسقط بتصرفها فيه بخلاف التي قبلها وإن سقط لفسخها النكاح احتمل أن يكون كذلك لأنها لم تتصرف فيه واحتمل أن يكون كالموهوب لأن سقوطه بسبب من جهتها
فصل :
الشرط الرابع : الغني بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل : [ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ] متفق عليه ولأن الزكاة تجب مواساة للفقراء فوجب أن يعتبر الغني ليتمكن من المواساة والغني المعتبر ملك نصاب خال عن دين فلا يجب على من لا يملك نصابا لما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا دون خمسة ذود صدقة ولا فيما دون خمسة أواق صدقة ] متفق عليه ومن ملك نصابا وعليه دين يستغرقه أو ينقصه فلا زكاة فيه إن كان من الأموال الباطنة وهي الناض وعروض التجارة رواية واحدة لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال بمحضر من الصحابة : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم رواه أبو عبيد في الأموال ولم ينكر فكان إجماعا ولأنه لا يستغني به ولا تجب الصدقة إلا عن ظهر غنى وإن كان من الأموال الظاهرة وهي المواشي والزروع والثمار ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : لا تجب فيها الزكاة لذلك
والثانية : فيها الزكاة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يبعث سعاته فيأخذون الزكاة من رؤوس الأموال الظاهرة من غير سؤال عن دين صاحبه بخلاف الباطن
الثالثة : أن ما استدانه على زرعة لمؤنته حسبه وما استدان لأهله لم يحسبه لأنه ليس من مؤونة الزرع فلا يحسبه على الفقراء فإن كان له مالان من جنسين وعليه دين يقابله أحدهما جعله في مقابلة ما يقضي منه وإن كانا من جنس جعله في مقابلة ما الحظ للمسكين في جعله في مقابلته تحصيلا بحظهم
فصل :
وتجب الزكاة على مال الصبي والمجنون لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ابتغوا في أموال اليتامى كيلا تأكلها الزكاة ] أخرجه الترمذي في إسناده مقال وروي موقوفا على عمر رضي الله عنه ولأن الزكاة تجب مواساة وهما من أهلها ولهذا تجب عليهما نفقة القريب ويعتق عليهما ذو الرحم وتخرج عنهما زكاة الفطر والعشر فأشبها البالغ العاقل
فصل :
ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء لقوله صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] بدل بمفهومه على وجوبها فيه عند تمام الحول ولأنه لو أتلف النصاب بعد الحول ضمنها ولو لم تجب لم يلزمه ضمانها كقبل الحول فإن تلف النصاب بعد الحول لم تسقط الزكاة سواء فرط أو لم يفرط لأنه مال وجب في الذمة فلم يسقط بتلف النصاب كالدين وروى عن التميمي وابن منذر أنه إن تلف قبل التمكن سقطت الزكاة لأنها عبادة تتعلق بالمال فتسقط بتلفه قبل إمكان الأداء كالحج ولأنه حق تعلق بالعين فسقط بتلفها من غير تفريط كالوديعة والجاني فإن تلف بعض النصاب قبل التمكن سقط من الزكاة بقدره وإن تلف الزائد عن النصاب لم يسقط شيء لأنها تتعلق بالنصاب دون العفو ولا تسقط الزكاة بموت من وجبت عليه لأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كدين الآدمي
فصل :
وفي محل الزكاة روايتان :
إحداهما : أنها تجب في الذمة لأنه يجوز إخراجها من غير النصاب ولا يمنع التصرف فيه فأشبهت الدين
والثانية : يتعلق بالعين لقول الله تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم } وفي للظرفية فإن ملك نصابا مضت عليه أحوال لم تؤد زكاته وقلنا : هي في الذمة لزمته الزكاة لما مضى من الأحوال لأن النصاب لم ينقص وإن قلنا : تتعلق بالعين لم يلزمه إلا زكاة واحدة لأن الزكاة الأولى تعلقت بقدر الفرض فينقص النصاب في الحول الثاني وهذا ظاهر المذهب نقله الجماعة عن أحمد فإن كان المال زائدا عن نصاب نقص منه كل حول بقدر الفرض ووجبت الزكاة فيما بقي فإن ملك خمسا من الإبل لزمه لكل حول شاة لأن الفرض يجب من غيها فلا يمكن تعلقه بعينها وإن ملك خمسا وعشرين من الإبل فعليه للحول الأول ابنة مخاض وفيما بعد ذلك لكل حول أربع شياه
فصل :
وتجب الزكاة في خمسة أنواع :
أحدها : المواشي ولها ثلاثة شروط :
أحدها : أن تكون من بهيمة الأنعام لأن الخبر ورد فيها وغيرها لا يساويها في كثرة نمائها ونفعها ودرها ونسلها واحتملت المواساة منها دون غيرها ولا زكاة في الخيل والبغال و الحمير والرقيق لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ] متفق عليه ولأنه لا يطلب درها ولا تقتنى في الغالب إلا للزينة والاستعمال ولا للنماء ولا زكاة على الوحوش لذلك وعنه في بقر الوحش الزكاة لدخولها في اسم البقر والأول أولى لأنها لا تدخل في إطلاق اسم البقر ولا تجوز التضحية بها ولا تقتنى لنماء ولا در فأشبهت الظباء
وما تولد بين الوحشي والأهلي فقال أصحابنا : فيه الزكاة تغليبا للإيجاب والأولى أن لا تجب لأنها لا تقتنى للنماء والدر أشبهت الوحشية ولأنها لا تدخل في إطلاق اسم البقر و الغنم
فصل :
الشرط الثاني : الحول لأن ابن عمر رضي الله عنهما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] رواه الترمذي و ابن ماجه و أبو داود و لأن الزكاة إنما تجب في مال تام فيعتبر له حول يكمل النماء فيه وتحصل الفائدة منه فيواسي من نمائه فإن هلك النصاب أو واحدة منه في الحول أو باعها انقطع ثم إن نتجت له أخرى مكانها أو رجع إليه باع استأنف الحول سواء ردت إليه ببيع أو إقالة أو باعها بالخيار فردت به لأن الملك يزول بالبيع والرد تجديد ملك وإن قصد بشيء من ذلك الفرار من الزكاة لم تسقط لأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه فلم يسقط كالطلاق في مرض الموت وإن نتجت واحدة ثم هلكت واحدة لم ينقطع الحول لأنه لم ينقص وإن خرج بعضها ثم هلكت أخرى قبل خروج بقيتها انقطع الحول لأنها لا يثبت لها حكم الوجود في الزكاة حتى يخرج جميعها وإن أبدل نصبا بجنسه لم ينقطع الحول لأنه لم يزل في ملكه نصاب من الجنس زاد في حول الزكاة فأشبه ما لو نتج النصاب نصابا ثم ماتت الأمهات وإن باع عينا بورق انبنى على ضم أحدهما إلى لآخر فإن قلنا : يضم لم ينقطع الحول لأنهما كالجنس الواحد وإن قلنا : لا يضم انقطع الحول لأنهما جنسان وما نتج من النصاب فحوله حول النصاب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : اعتد عليهم بالسلخة يروح بها الراعي على يديه ولأنه من نماء النصاب فلم يفرد عنه بحول كربح التجارة وإن ماتت الأمهات فتم الحول على السخال وهي نصاب وجبت فيها الزكاة لأنها جملة جارية في الحول لم تنقص عن النصاب أشبه ما لو بقي من الأمهات نصاب وإن ملك دون النصاب وكمل بالسخال احتسب الحول من حين كمال النصاب
وعنه : يستحب من حين ملك الأمهات والأول المذهب لأن النصاب هو السبب فاعتبر مضي الحول على جميعه وأما المستفاد بإرث أو عقد فله حكم نفسه لأن مال ملكه أصلا فيعتبر له الحول شرطا كالمستفاد من غير الجنس ولا يبني الوارث حوله على حول الموروث لأنه ملك جديد فإن كان عنده ثلاثون من البقر فاستفاد عشر في أثناء الحول فعليه من الثلاثين إذا تم حولها تبيع لكمال حولها فإذا تم حول العشرة فيها ربع مسنة لأنه تم نصاب المسنة ولم يمكن إيجابها لانفراد الثلاثين بحكمها فوجبت في العشرة بقسطها منها
وإن ملك أربعين من الغنم في المحرم وأربعين في صفر وأربعين في ربيع فتم حول الأولى فعليه شاة لأنها نصاب كامل مضى عليه حول لم يثبت له حكم الخلطة في جميعه فوجب فيه شاة كما لو لم يملك غيرها فإن تم حول الثاني ففيه وجهان :
أحدهما : لا شيء فيه ولا في الثالث لأنه لو ملكه مع الأول لم يجب فيه شيء فكذلك إذا ملكه بعده لأنه يحصل وقص بين نصابين
والثاني : فيه الزكاة لأنه نصاب منفرد بحول فوجبت زكاته كالأول وفي قدرها وجهان :
أحدهما : شاة لذلك
والثاني : نصف شاة لأنه لم ينفك عن خلطة في جميع الحول وفي الثالث ثلث شاة لأنه لم ينفك عن خلطة لثمانين فكان عليه بالقسط وهو ثلث شاة
وإن سلك عشرين من الإبل في المحرم وخمسا في صفر وخمسا في ربيع فعليه في العشرين عند دخولها أربع شياه وفي الخمس الأولى عند حولها خمس بنات مخاض وفي الخمس الثانية ثلاثة أوجه :
أحدها : لا شيء فيها
والثاني : عليه سدس بنت مخاض
والثالث : عليه شاة
فصل :
الشرط الثالث : السوم وهو أن تكون راعية ولا زكاة في المعلوفة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون وفي سائمة الغنم في كل أربعين شاة ] فيدل على نفي الزكاة عن غير السائمة ولأن المعلوفة لا تقتنى للنماء فلم يجب فيها شيء كثياب البذلة ويعتبر السوم في معظم الحول لأنها لا تخلو من علف في بعضه فاعتباره في الحول كله يمنع الوجوب بالكلية فاعتبر في معظمه وإن كان غصبها غاصب فعلفها معظم الحول فلا زكاة فيها لعدم السوم المشترط وإن غضب معلوفة فأسامها ففيه وجهان :
أحدهما : لا زكاة فيها لأن مالكها لم يسمها فلم يلزمه زكاتها كما لو علفها
والثاني : تجب زكاتها لأن الشرط تحقق فأشبه ما لو كمل النصاب في يد الغاصب

باب زكاة الإبل
وهي مقدرة بما قدره به رسول الله صلى الله عليه و سلم فروى البخاري بإسناده عن أنس أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له حين وجهه إلى البحرين : بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعطه
في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس و أربعين ففيها بنت لبون أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل فإن زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة أوجب دون خمس وعشرين غنما لأنه لا يمكن المواساة من جنس المال لأن واحدة منها كثيرة وإخراج جزء تشقيص يضر بالمالك والفقير والإسقاط غير ممكن فعدل إلى إيجاب الشياه جمعا بين الحقوق وصارت الشياه أصلا لو أخرج مكانها إبلا لم يجزئه لأنه عدل عن المنصوص عنه إلى غير جنسه فلم يجزئه كما لو أخرجها عن الشياه الواجبة في الغنم ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من المعز لأنها الشاة التي تعلق بها حكم الشرع في سائر موارده المطلقة ويعتبر كونها في صفة الإبل ففي السمان الكرام شاة سمينة كريمة وفي اللئام والهزال لئيمة هزيلة لأنها سببها فإن كانت مراضا لم يجز إخراج مريضة لأن المخرج من غير جنسها ويخرج شاة صحيحة على قدر المال ينقص من قيمتها على قدر نقيصة الإبل ولا يعتبر كونها من جنس غنمه ولا غنم البلد لأنها ليست سببا لوجوبها فلم يعتبر كونها من جنسها كالأضحية ولا يجزئ فيها الذكر كالمخرجة عن الغنم ويحتمل أن يجزئ لأنها شاة مطلقة فيدخل فيها الذكر كالأضحية فإن عدم الغنم لزمه شراء شاة وقال أبو بكر : يجزئه عشر دراهم لأنها بدل الشاة للجبران ولا يصح لأن هذا إخراج قيمة فلم يجز كما في الشاة المخرجة عن الغنم وليست الدراهم في الجبران بدلا بدليل إجزائها مع وجود الشاة
فصل :
فإذا بلغت خمسا وعشرين أمكنت المواساة من جنسها فوجبت فيها بنت مخاض وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية سميت بذلك لأن أمها ماخض أي : حامل بغيرها قد حان ولادتها فإن عدمها أخرج بن لبون ذكرا وهو الذي له سنتان ودخل في الثالثة سمي بذلك لأن أمه لبون أي ذات لبن وصار نقص الذكورية مجبورا بزيادة السن فإن عدمه أيضا لزمه شراء بنت مخاض لأنهما استويا في العدم فأشبه ما لو استويا في الوجود ولأن تجويز ابن لبون للرفق به إغناء له عن كلفة الشراء ولم يحصل الإغناء عنها ههنا فرجع إلى الأصل ومن لم يجد إلى بنت مخاض معيبة فهو كالعادم لأنه لا يمكن إخراجها وإن وجدها أعلى من صفة الواجب أجزأته فإن أخرج ابن لبون لم يجزئه لأن ذلك مشروط بعدم ابنة مخاض مجزئة وإن اشترى بنت مخاض على صفة الواجب جاز ولا يجبر نقص الذكورية بزيادة السن في غير هذا الموضع وقال القاضي : يجوز أن يخرج عن بنت لبون حقا وعن الحقة جذعا مع عدمهما لأنه أعلى وأفضل فيثبت الحجم فيه بالتنبيه ولا يصح لأنه نص فيهما وقياسهما على ابن اللبون ممتنع لأن زيادة سنة يمتنع بها من صغار السباع ويرعى الشجر بنفسه ويرد الماء ولا يوجد هذا في غيره
فصل :
فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون وفي ست وأربعين حقة وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل وتركب ولهذا قال في الحديث : طروقة الفحل
وفي إحدى وستين جذعة وهي التي ألقت سنا ولها أربع سنين ودخلت الخامسة وهي أعلى سن يأخذ في الزكاة وفي ست وسبعين ابنتا لبون
وفي إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين ومائة وإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون
وعنه : لا يعتبر الفرض حتى تبلغ ثلاثين ومائة فيكون فيها حقة وبنتا لبون والصحيح الأول لأن في حديث الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان عند آل عمر بن الخطاب [ فإذا كان إحدى وعشرين مائة ففيها ثلاث بنات لبون ] وهذا نص وهو حديث حسن ولو ملك زادت جزءا من بعير لم يتغير الفرض به لذلك ولأن سائر الفروض لا تتغير بزيادة جزء ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة لحديث الصحيح
فصل :
فإذا بلغت مائتين اتفق الفرضان أربع حقاق أو خمس بنات لبون أيهما أخرج أجزأه فإن كان الآخر أفضل منه والمنصوص عنه في أربع حقائق وهذا محمول على أن ذلك فيها بصفة التخيير لأن في كتاب الصدقات الذي عند آل عمر رضي الله عنه فإذا كان مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي السنين وجدت عنده أخذت منه ولأنه اتفق الفرضان في الزكاة فكانت الخيرة لرب المال كالخيرة في الجبران وإن كان المال ليتمم لم يخرج عنه إلا أدنى السنين لتحريم التبرع بمال اليتيم فإن أراد إخرج الفرض من السنين على وجه يحتاج إلى التشقيص كزكاة لمائتين لم يجز وإن لم يحتج إليه كزكاة ثلاثمائة يخرج عنها حقتين وخمس بنات لبون جاز وإن وجدت إحدى الفريضتين دون الأخرى أو كانت الأخرى ناقصة تعين إخراج الكاملة لأن الجبران بدل لا يصار إليه مع وجود الفرض الأصلي وإن احتاجت كل فريضة إلى جبران أخرج ما شاء منها فإذا كانت عنده ثلاث حقاق وأربع بنات لبون فله إخراج الحقاق وبنت لبون مع الجبران أو بنات اللبون و حقة ويأخذ الجبران وإن أعطى حقة وثلاث بنات لبون مع الجبران لم يجزئه لأنه يعدل عن الفرض مع وجوده إلى الجبران ويحتمل الجواز فإن كان الفرضان معدومين أو معيبين فله العدول إلى غيرها مع الجبران فيعطي أربع جذعات ويأخذ ثماني شياه أو يخرج خمس بنات مخاض وعشر شياه وإن اختار أن ينتقل من الحقاق إلى بنات المخاض مع الجبران أو من بنات اللبون إلى الجذعات مع الجبران لم يجز لأن الحقاق وبنات اللبون منصوص عليهن فلا تصعد إلى الحقاق بجبران ولا ينزل لبنات اللبون بجبران
فصل :
ومن وجبت عليه فريضة أعلى منها بسنة ويؤخذ شاتين أو عشرين درهما أو فريضة أدنى منها بسنة ومعها شاتان أو عشرون درهما لما روى أنس في كتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر رضي الله عنه قال : من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطى شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهما فأما من وجبت عليه جذعة فأعطى مكانها ثنية بغير جبران جاز وإن طلب جبرانا لم يعط لأن زيادة سن الثنية غير معتبر في الزكاة وإن عدم بنت المخاض لم يقبل منه فصيل بجبران ولا غيره لأنه ليس بفرض ولا أعلى منه والخيرة في النزول والصعود و الشياه والدراهم إلى رب المال للخبر فإن أراد أعطى شاة وعشرة دراهم أو أخذ ذلك جاز ذكره القاضي لأن الشاة مقام عشرة دراهم وقد كانت الخيرة إليه فيهما مع غيرهما فكانت الخيرة إليه فيهما مفردين ويحتمل المنع لأن الشارع جعل له الخيرة في شيئين و تجويز هذا يجعل له الخيرة في ثلاثة أشياء وإن كان النصاب مريضا لم يجز له الصعود إلى الفرض الأعلى بجبران لأن الشاتين جعلتا جبرانا لما بين صحيحين فيكون أكثر ما بين المريضين وإن أراد النزول ويدفع الجبران جاز لأنه متطوع بالزيادة ومن وجب عليه فرض فلم يجد إلا أعلى منه بسنتين فقال القاضي : يجوز أن يصعد إلى الأعلى ويأخذ أربع شياه أو أربعين درهما أو ينزل إلى الأنزل ويخرج معه أربع شياه أو أربعين درهما لأن الشارع جوز له الانتقال إلى الذي يليه وجوز الانتقال من العدول إلى ما يليه [ إذا كان هو الفرض وهنا لو كان موجودا فإذا عدم جاز العدول إلى ما يليه ] وقال أبو الخطاب : لا يجوز لأن النص إنما ورد بالانتقال إلى ما يليه فأما من وجد سنا يليه لم يجز له الانتقال إلى الأبعد لأن النبي صلى الله عليه و سلم أقام الأقرب مقام الفرض ولو وجد الفرض لم ينتقل عنه فكذلك إذا وجد الأقرب لم ينتقل عنه وإن أراد أن يخرج مكان الأربع شياه شاتين و عشرين درهما جاز لأنهما جبران فيهما كالكفارتين ولا مدخل للجبران في غير الإبل لأن النص فيها ورد وليس غيرها في معناها

باب صدقة البقر
روى الإمام أحمد رضي الله عنه عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم أصدق أهل اليمن فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا ومن الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاث أتباع ومن المائة مسنة وتبيعين ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعا ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن تبلغ مسنة أو جذعا فأول نصابها ثلاثون وفيها تبيع أو تبيعة وهو الذي له سنة ودخل في الثانية وفي الأربعين مسنة وهي التي لها سنتان ودخلت في الثالثة ويتفق الفرضان في مائة وعشرين فيخرج رب المال أيهما شاء للخبر ولما ذكرنا في الإبل
فصل :
ولا يؤخذ من الصدقة إلا الأنثى لورود النص بها وفضلها بدرها ونسلها إلا الأتبعة في البقر حيث وجبت وابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمت فإن كانت ماشيته كلها ذكورا جاز إخراج الذكر في الغنم وجها واحدا لأن الزكاة وجبت مواساة والمواساة إنما تكون بجنس المال ويجوز إخراجه في البقر في أصح الوجهين لذلك وفي الإبل وجهان :
إحداهما : يجوز لذلك
والآخر : لا يجوز لإفضائه إلى إخراج ابن لبون عن خمس وعشرين وست وثلاثين وفيه تسوية بين النصابين فعلى هذا يخرج أنثى ناقصة بقدر قيمة الذكر وعلى الوجه الأول يخرج ابن لبون عن النصابين ويكون التعديل بالقيمة ويحتمل أن يخرج بن مخاض عن خمس وعشرين فيقوم الذكر مقام الأنثى التي في سنه كسائر النصب [ ويحتمل أن لا يخرج الذكر فعلى هذا يخرج أنثى ناقصة بقدر قيمة الذكر وعلى الوجه الأول يخرج ابن لبون عن نصابين ويكون التعديل بالقيمة ]
فصل :
و الحواميس نوع من البقر و البخاتي نوع من الإبل والضأن والمعز جنس واحد فإذا كان نصاب نوعين أو كان فيه سمان و مهازيل وكرام ولئام أخرج الفرض من أيهما شاء على قدر المالين فإذا كان نصفين وقيمة الفرض من أحدهما عشرة ومن الآخر عشرين أخذه من أيهما شاء قيمته خمسة عشر إلا أن يرضى رب المال بإخراج الأجود

باب صدقة الغنم
وأول نصابها أربعون : وفيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فإن زادت واحدة ففيها ثلاث شياه ثم في كل مائة شاة شاة لما روى أنس في كتاب الصدقات : وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة فإذا زادت على عشرين ومائة ففيها شاة فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه : فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن شاء ربها
وعن أحمد : أن في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه ثم في كل مائة شاة شاة اختارها أبو بكر لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الثلاثمائة غاية فيجب تغير الفرض بالزيادة عليها والأول أصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل حكمها إذا زادت على الثلاثمائة في كل مائة شاة فإيجاب أربع فيما دون الأربعمائة يخالف الخبر وإنما جعل الثلاثمائة حدا لاستقرار الفرض
فصل :
ولا يجزئ من الغنم إلا الجذع من الضأن وهو الذي له ستة أشهر والثني في المعز وهو الذي له سنة لما روى سعر بن ديسم قال : أتاني رجلان على بعير فقالا : إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه و سلم لتؤدي صدقة غنمك قلت : فأي شيء تأخذان ؟ قالا : عناقا جذعة أو ثنية رواه أبو داود لأن هذا السن هو المجزئ في الأضحية دون غيره كذلك في الزكاة فإن كان في ماشيته كبار وصغار لم يجب فيها إلا المنصوص ويؤخذ الفرض بقدر قيمة المالين ولذلك قال عمر رضي الله عنه : اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها منهم فإن كانت كلها صغارا جاز إخراج الصغير لقول الصديق رضي الله عنه : لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليها ولا تؤدى العناق إلا عن صغار ولأن الزكاة تجب مواساة فيجب أن تكون من جنس المال
وقال أبو بكر : لا تجزئ إلا الكبيرة للخبر فإن كانت ماشيته الصغار إبلا أو بقرا ففيها وجهان :
أحدهما : تجزئه الصغيرة لما ذكرناه في الغنم وتكون الصغيرة الواجبة في ست وأربعين زائدة على الواجبة في ست وثلاثين بقدر تفاوت ما بين الحقة وبنت اللبون وهكذا في سائر النصب تعدل بالقيمة
والثاني : لا يجزئ إلا كبيرة لأن الفرض يتغير بنهاية السن فيؤدي إخراج الصغيرة إلى التسوية بين النصابين فعلى هذا يخرج كبيرة ناقصة القيمة بقدر نقص الصغار عن الكبار وعنه أيضا : لا ينعقد عليها الحول حتى تبلغ سنا يجزئ في الزكاة لئلا يلزم هذا المحذور
فصل :
لا يجزئ في الصدقة هرمة ولا معيبة ولا تيس لقول الله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } وروى أنس في كتاب الصدقات : ( لا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس ) وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان : من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة لكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره ] الشرط : رذالة المال والدرنة : الجرباء فإن كان بعض النصاب مريضا وبعضه صحيحا لم يأخذ إلا صحيحة على قدر المالين وإن كان كله مريضا أخذت مريضة منه وقال أبو بكر : لا يؤخذ إلا صحيحة بقيمة المريضة والقول في هذا كالقول في الصغار
فصل :
ولا يؤخذ في الصدقة الربى وهي التي تربي ولدها ولا المخاض وهي الحامل ولا التي طرقها الفحل لأن الغالب أنها حامل ولا الأكولة وهي السمينة ولا فحل الماشية المعد لضرابها ولا حزرات المال وهو خياره تحزره العين الحسنة لقول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : [ إياك و كرائم أموالهم ] متفق عليه وقوله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا يسألكم خيره ] وقال عمر رضي الله عنه لساعيه : لا تأخذ الربى ولا المخاض ولا الأكولة ولا فحل الغنم قال الزهري : إذا جاء المصدق قسم الشاء : أثلاثا ثلثا خيارا وثلثا شرارا وثلثا وسطا ويأخذ المصدق من الوسط فإن تبرع المالك بدفع شيء من هذا أو أخرج عن الواجب أعلى منه من جنسه جاز لأن المنع من أخذه لحقه فجاز برضاه كما لو دفع فرضين مكان فرض فإن دفع حقة من بنت لبون أو تبيعين مكان الجذعة جاز لذلك ولأن التبيعين يجزئان عن الأربعين مع غيرها فلأن يجزئان عنها مفردة أولى وقد روى أبو داود عن أبي بن كعب أن رجلا قدم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي فزعم أن ما علي فيه بنت مخاض فعرضت عليه ناقة فتية سمينة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ذاك الذي وجب عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك ] فقال : ها هي ذه يا رسول الله فأمر رسول الله بقبضها ودعها له بالبركة
فصل :
ولا تجزئ القيمة في شيء من الزكاة وعنه : يجزئ لأن المقصود غنى الفقير بقدر المال والأول المذهب لأن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر هذه الأعيان المنصوص عليها بينا لما فرضه تعالى فإخراج غيرها ترك للمفروض وقوله : فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر يمنع إخراج ابن اللبون مع وجود ابنة المخاض ويدل على أنه أراد العين دون المالية فإن خمسا وعشرون لا تخلوا عن مالية ابنة المخاض وإخراج القيمة يخالف ذلك ويفضي على إخراج الفريضة مكان الأخرى من غير جبران وهو خلاف النص واتباع السنة أولى وقد روي عن معاذ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعثه إلى اليمن قال : [ خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر ] رواه أبو داود

باب حكم الخلطة
وهي ضربان :
خلطة أعيان : بأن يملكا مالا مشاعا يرثانه أو يشتريانه أو غير ذلك
وخلطة أوصاف : وهو أن يكون مال كل منهما متميزا فخلطاه ولم يتميزا في أوصاف نذكرها وكلاهما يؤثر في جعل مالهما كمال الواحد في شيئين :
أحدهما : أن الواجب فيهما كالواجب في مال واحد فإن بلغا معا نصابا ففيهما الزكاة وإن زاد على النصاب لم يتغير الفرض حتى يبلغا فريضة ثانية فلو كان لكل واحد منهما عشرون كان عليهما شاة وإن كان لكل واحد منهما ستون لم يجب أكثر من شاة وإن كان لهما مال غير مختلط تبع المختلط في الحكم فلو كان لكل واحد منهما ستون فاختلط في أربعين لم يلزمهما إلا شاة في مالهما كله لأن مال الواحد يضم بعضه إلى بعض في الملك فتضم الأربعين المنفردة إلى العشرين المختلطة فيلزم انضمامها إلى العشرين التي لخليطه فيصير الجميع كمال واحد ولو كان لرجل ستون كل عشرين منها مختلطة بعشرين لآخر فالواجب شاة واحدة نصفها على صاحب الستين ونصفها على الخلطاء على كل واحد سدس شاة لما ذكرناه فإن كان لأحدهم شاة مفردة لزمهم شاتان
والثاني : أن الساعي أخذ الفرض من مال أيهما شاء سواء دعت إليه حاجة لكون الفرض واحدا أو لم تدع إليه حاجة بأن يجد فرض كل واحد منهما في ماله لأن مالهما صار كالمال الواحد في الإيجاب فكذلك في الإخراج ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ وما كان من خليطين فإنها يتراجعان بينهما بالسوية ] رواه البخاري يعني : إذا أخذ الفرض من مال أحدهما والأصل في الخلطة ما روى أنس في حديث الصدقات : ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ولأن المالين صارا كالمال الواحد في المؤن فكذلك في الزكاة
فصل :
ويعتبر في الخلطة شروط خمس :
أحدها : أن تكون في السائمة ولا تؤثر الخلطة في غيرها
وعنه : تؤثر فيها خلطة الأعيان لعموم الخبر ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة فيه كالسائمة ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ و الخليطان ما اجتمعا على الحوض والراعي والفحل ] رواه الدارقطني وهذا تفسير للخلطة المعتبرة شرعا فيجب تقديمه ولأن الخلطة في السائمة أثرت في الضرر لتأثيرها في النفع وفي غيرها لا تؤثر في النفع لعدم الوقص فيها وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ] دليل على اختصاص ذلك بالسائمة التي تقل الصدقة بجمعها لأجل أوقاصها بخلاف غيرها
الثاني : أن يكون الخليطان من أهل الزكاة فإن كان أحدهما مكاتبا أو ذميا فلا أثر لخلطته لأنه لا زكاة في ماله فلم يكمل النصاب به
الشرط الثالث : أن يختلطا في نصاب فإن اختلطا فيما دونه مثل أن يختلطا في ثلاثين شاة لم تؤثر الخلطة سواء كان لهما مال سواه أو لم يكن لأن المجتمع دون النصاب فلم تجب الزكاة فيه
الشرط الرابع : أن يختلطا في ستة أشياء لا يتميز أحدهما عن صاحبه فيها وهي : المسرح والمشرب و المحلب والمراح والراعي والفحل لما روى الدارقطني بإسناده عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة و الخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي ] نص على هذه الثلاثة فنبه على سائرها ولأنه إذا تميز كل مال بشيء مما ذكرناه لم يصيرا كالمال الواحد في المؤن ولا يشترط حلب المالين في إناء واحد لأن ذلك ليس بمرفق بل ضرر لاحتياجهما إلى قسمته
الشرط الخامس : أن يختلطا في جميع الحول فإن ثبت لهما حكم الانفراد في بعضه زكيا زكاة المنفردين فيه لأن الخلطة معنى يتعلق به إيجاب الزكاة فاعتبرت فيه جميع الحول كالنصاب فإن كان مال كل واحد منهما منفردا فخلطاه زكياه في الحول الأول زكاة الانفراد وفيما بعد زكاة الخلطة فإن اتفق حولاهما مثل أن يملك كل واحد منهما أربعين في أول المحرم وخلطاها في صفر فإذا تم حولهما الأول أخرجا شاتين فإذا تم الثاني فعليهما شاة واحدة وإن اختلف حولاهما فملك أحدهما أربعين في المحرم والآخر أربعين في صفر فخلطاها في ربيع أخرجا شاتين للحول الأول فإذا تم حول الأول والثاني فعليه نصف شاة فإن أخرجا من غير النصاب فعلى الثاني عند تمام حوله نصف شاة وإن أخرجها من النصاب فعلى الثاني من الشاة بقدر ماله من جميع المالين فإذا كان ماله أربعين ومال صاحب أربعون إلا نصف شاة فعليه أربعون جزءا من تسع وسبعين جزءا ونصف من شاة وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد دون صاحبه : نحو أن يملكا نصابين فخلطاهما ثم باع أحدهما ماله أجنبيا فعلى الأول شاة عند تمام حوله لأنه ثبت له حكم الانفراد فإذا تم حول الثاني فعليه زكاة الخلطة لأنه لم يزل مخلطا في جميع الحول
فصل :
فإن كان بينهما نصابان مختلطان فباع أحدهما غنمه بغنم صاحبه وأبقياه على الخلطة لم ينقطع حولهما ولم تزل خلطتهما وكذلك إن باع البعض بالبعض من غير إفراد قل البيع أو كثر فأما إن أفرادها ثم تبايعا ثم خلطاها وطال زمان الإفراد بطل حكم الخلطة وإن لم يطل ففيه وجهان :
أحدهما : لا ينقطع حكم الخلطة لأن هذا زمن يسير فعفي عنه
والثاني : يبطل حكم الخلطة لأنه قد وجد الانفراد في بعض الحول فيجب تغليبه كالكثير و إن أفردا بعض النصاب وتبايعاه وكان الباقي على الخلطة نصابا لم تنقطع الخلطة لأنها باقية في نصاب وإن بقي أقل من نصاب فحكمه حكم إفراد جميع المال
وذكر القاضي : أن حكم الخلطة ينقطع في جميع هذه المسائل ولا يصح لأن الخلطة لم تزل في جميع الحول والبيع لا يقطع حكم الحول في الزكاة فكذلك في الخلطة ولو كان لكل واحد أربعون مخالطة لمال آخر فتبايعاها مختلطة لم يبطل حكم الخلطة وإن اشترى بالمخالطة مفردة أو بالمفردة مختلطة انقطعت الخلطة وزكى زكاة المنفردة لأن زكاة المشتري تجب ببنائه على حول المبيع وقد ثبت لأحدهما حكم الانفراد في بعض الحول فيجب تغليبه
فصل :
[ إذا كان لرجل نصاب فباع نصفه مشاعا في الحول ] فقال أبو بكر : ينقطع حول الجميع لأنه قد انقطع في النصف المبيع فكأنه لم يجر في حول الزكاة أصلا فلزم انقطاعه في الباقي
وقال ابن حامد : لا ينقطع الحول فيما لم يبع لأنه لم يزل مخلطا لمال جار في حول الزكاة وحدوث الخلطة لا يمنع ابتداء الحول فلا يمنع استدامته وهكذا لو كان النصاب لرجلين فباع أحدهما نصيبه أجنبيا فعلى هذا إذا تم حول ما لم يبع ففيه حصته من الزكاة فإن أخرجت منه نقص النصاب فلم يلزم المشتري زكاة عن أخرجت من غيره وقلنا الزكاة تتعلق بالعين فلا شيء على المشتري أيضا لأن تعلق الزكاة بالعين يمنع وجوب الزكاة
وقال القاضي : لا يمنع فعلى قوله : على المشتري زكاة حصته إذا تم حوله وإن قلنا تتعلق بالذمة لم يمنع وجوب الزكاة على المشتري لأن النصاب لم ينقص فأما إن أفرد بعض النصاب وباعه ثم خلط المشتري بمال البائع فقال ابن حامد ينقطع حولهما لثبوت حكم الانفراد لهما وقال القاضي : يحتمل أن لا ينقطع حكم حول البائع لأن هذا زمن يسير
ولو كان لرجلين نصاب خلطة فاشترى أحدهما نصيب صاحبه أو ورثه أو اتهبه في أثناء الحول فهذه عكس المسألة الأولى صورة ومثلها معنى لأنه في الأولى كان خليط نفسه ثم صار خليط أجنبي و ههنا كان خليط أجنبي فصار خليط نفسه والحكم فيها كالحكم في الأولى لاشتراكهما في المعنى
ولو استأجر أجيرا يرعى غنمه بشاة منها فحال الحول لم يفردها فهما خليطان ولو أفردها فنقص النصاب فلا زكاة فيها لنقصانها وإن استأجره بشاة موصوفة صح وجرت مجرى الدين في منعها من الزكاة على ما مضى من الخلاف فيه
فصل :
وذكر القاضي شرطا سادسا وهو نية الخلطة لأنه معنى يتغير به الفرض فافتقر إلى النية كالسوم والصحيح أنه لا يشترط لأن النية لا تؤثر في الخلطة فلا تؤثر في حكمها لأن المقصود بها الارتفاق بخفة المؤونة وذلك يحصل في عدم النية
فصل :
إذا أخذ الساعي الفرض من مال أحدهما رجع على خليطه بقدر حصته من المال لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينها في السوية ] فإذا كان لأحدهما الثلث فأخذ الفرض من ماله رجع على خليطه بقيمة ثلثيه وإن أخذه من صاحبه رجع صاحبه عليه بقيمة ثلثه فإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرجوع عليه إذا عدمت النية لأنه غارم فالقول كالغاصب وإن أخذ الساعي أكثر من الواجب بغير تأويل فأخذ مكان الشاة اثنتين لم يرجع على صاحبه إلا بقدر الواجب لأن الزيادة ظلم فلا يرجع بها على غير ظالمه وإن أخذه بتأويل فأخذ صحيحة كبيرة عن مراض صغار رجع على صاحبه لأن ذلك إلى اجتهاد الإمام فإذا أداه اجتهاده إلى أخذه وجب دفعه إليه وكان بمنزلة الواجب وإن أخذ القيمة رجع بالحصة منها لأنه مجتهد فيها
فصل :
فإن كانت سائمة الرجل في بلدين لا يقصر بينهما الصلاة فهي كالمجتمعة وإن كان بينهما مسافة القصر فكذلك اختاره أبو الخطاب لأنه مال واحد يضم إلى بعض كغير السائمة وكما لو تقارب البلدان والمشهور عن أحمد : أن لكل مال حكم نفسه لظاهر قوله عليه السلام : [ لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ] ولا يختلف المذهب في سائر الأموال أنه يضم مال الواحد بعضه إلى بعض تقاربت البلدان أو تباعدت لعدم تأثير الخلطة فيها

باب زكاة الزرع والثمار
وهي واجبة : بقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر ] أخرجه البخاري وبالإجماع ولا تجب إلا بخمسة شروط :
أحدها : أن يكون حبا أو ثمرا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في حب أو ثمر حتى تبلغ خمسة أوسق ] رواه مسلم وهذا يدل على وجوب الزكاة في الحب والثمر وانتفائها من غيرهما
الشرط الثاني : أن يكون مكيلا لتقديره بالأوسق وهي مكاييل فيدل ذلك على اعتبارها
الشرط الثالث : أن يكون مما يدخر لأن جميع ما اتفق على زكاته مدخر ولأن غير المدخر لا تكمل ماليته لعدم التمكن من الانتفاع به في المال فتجب الزكاة في جميع الحبوب المكيلة المقتات منها و القطاني و الأبازير والبزور والقرطم وحب القطن ونحوها وفي التمر والزبيب واللوز والفستق والعناب لاجتماع هذه الأوصاف الثلاثة [ وقال ابن حامد لا زكاة في الأبازير والبزور ونحوها ] ولا تجب في الخضر كالقثاء والبطيخ والباذنجان لعدم هذه الأوصاف فيها وقد روى موسى بن طلحة أن معاذا لم يأخذ من الخضر صدقة : ولا تجب في سائر الفواكه كالجوز والتفاح و الأجاص والكمثرى والتين لعدم الكيل فيها وعدم الادخار في بعضها وقد روى الأثرم بإسناده أن عامل عمر رضي الله عنه كتب إليه في كروم فيها من الفرسك ما هو أكثر غلة من الكرم أضعافا مضاعفة فكتب إليه عمر : ليس عليها عشر هي من العضاه و الفرسك : الخوخ ولا زكاة في الزيتون لأنه لا يدخر وعنه : فيه الزكاة لقول الله تعالى : { والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده }
وقيل : لم يرد بهذه الآية الزكاة لأنها مكية نزلت قبل وجوب الزكاة ولهذا لم تجب الزكاة في الرمان ولا زكاة في تين ولا ورق ولا زهر لأنه ليس بحب ولا ثمر ولا مكيل
وعنه في القطن والزعفران : زكاة لكثرته وفي الورس والعصفر وجهان بناء على الزعفران
وقال أبو الخطاب : تجب الزكاة في الصعتر والأشنان لأنه مكيل مدخر والأول أولى لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص
فصل :
الشرط الرابع : أن ينبت بإنبات الآدمي في أرضه فأما النابت بنفسه كبزر قطونا و البطم وحب الأشنان و الثمام فلا زكاة فيه ذكره ابن حامد لأنه إنما يملك بحيازته والزكاة إنما تجب ببدو الصلاح ولم يكن ملكا له حينئذ فلم تجب زكاته كما لو اتهبه و قال [ القاضي ] : فيه الزكاة لاجتماع الأوصاف الأول فيه وما يلتقطه اللقاطون من السنبل لا زكاة فيه نص عليه أحمد رضي الله عنه وقال : هو بمنزلة المباحات ليس فيه صدقة وما يأخذه الإنسان أجرة لحصاده أو يوهب له لا زكاة عليه فيه لما ذكرنا ومن استأجر أرضا أو استعارها فالزكاة عليها فيما زرع لأن الزرع ونفع الأرض له دون المالك و من زرع في أرض موقوفة عليه فعليه العشر لأن الزرع طلق غير موقوف فإن كان الوقف للمساكين فلا عشر فيه لأنه ليس لواحد معين إنما يملك المسكين ما يعطاه منه فلم يلزم عشره كما لو أخذ عشر الزرع غيره
فصل : [ في نصاب الزروع ]
الشرط الخامس : أن يبلغ نصابا قدر خمسة أوسق لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس فيها دون خمسة أوسق صدقة ] متفق عليه و الوسق : ستون صاعا لما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الوسق ستون صاعا ] رواه أبو داود والصاع خمس أرطال وثلث والمجموع ثلاثمائة صاع وهي ألف وستمائة رطل بالعراقي والرطل مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع وهو بالرطل الدمشقي المقدر بستمائة درهم ثلاثمائة رطل واحد وأربعون رطلا وستة أسباع رطل و الأوساق مكيلة وإنما نقل إلى الوزن ليحفظ وينقل قال أحمد : وزنته يعني الصاع فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة وهذا يدل على أن قدره ذلك من الحبوب الثقيلة فإن كان ما وجبت فيه الزكاة موزونا كالقطن والزعفران اعتبر بالوزن لأنه موزون ذكره القاضي وحكي عنه أنه قال : إذا بلغت قيمته قيمة خمسة أوسق من أدنى ما تخرجه الأرض ففيه الزكاة فإن كان الحب [ قيمته قيمة خمسة أوسق ] مما يدخر في قشره كالأرز فإنه علم أنه يخرج عن النصف فنصابه عشرة أوسق مع قشره وإن لم يعلم ذلك أو شك في بلوغ النصاب خير بين أن يستنظر ويخرج عشره قبل قشره وبين قشره واعتباره بنفسه و العلس : نوع من الحنطة يزعم أهله أنه إذا خرج من قشره لا يبقى بقاء الحنطة ويزعمون أنه يخرج عن النصف فنصابه عشرة أوسق مع قشره ويعتبر أنه يبلغ النصاب من الحب مصفى ومن الثمار يابسا
وعنه : يعتبر النصاب في الثمرة رطبا ثم يخرج منه قدر عشر رطبه ثمرا ولا يصح لأنه إيجاب لزيادة على العشر والنص يرد ذلك
فصل :
وتضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض ليكمل النصاب كما ذكرنا في الماشية فيضم العلس إلى الحنطة والسلت إلى الشعير لأنهما نوعا جنس واحد ويضم زرع العام الواحد بعضه إلى بعض سواء اتفق وقت إطلاعه وإدراكه أو اختلف فيقدم بعضه على بعض ويضم الصيفي إلى الربيعي ولو حصدت الذرة ثم نبتت مرة أخرى يضم أحدهما إلى الآخر لأنه زرع عام واحد فضم بعضه إلى بعض كالمتقارب ويضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لذلك فإن كان له نخل يحمل حملين في العام ضم أحدهما إلى الآخر كالزرع وقال القاضي في موضع : لا يضم الحمل الثاني إلى شيء والأول أولى
فصل :
ولا يضم جنس إلى غيره لأنهما جنسان مختلفان فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالماشية
وعنه : تضم كل الحبوب بعضها إلى بعض اختارها أبو بكر لأنها تتفق مع قدر النصاب والمخرج والمنبت والحصاد أشبهت أنواع الجنس
وعنه : تضم الحنطة إلى الشعير و القطنيات بعضها إلى بعض اختاره الخرقي و القاضي لأنها تتقارب في المنفعة فأشبهت نوعي الجنس وهذا ينتقض بالتمر والزبيب لا يضم أحدهما إلى الآخر مع ما ذكروه
فصل :
وقدر الزكاة : العشر فيما شقي بغير كلفة كماء السماء والعيون والأنهار ونصف العشر بما سقي بكلفة كالدوالي و النواضح ونحوها للحديث الذي في أول الباب ولأن للكلفة تأثيرا في تقليل النماء فيؤثر على الزكاة كالعلف في الماشية فإن سقي نصف السنة بكلفة و نصفها بما لا كلفة فيه ففيه ثلاث أرباع العشر وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر بالأكثر لأن اعتبار السقي في عدد مراته وقدر ما يشرب في كل مرة يشق ويتعذر فاعتبر بالأكثر كالسوم وقال ابن حامد : يجب بالقسط لأن ما وجب فيه بالقسط عند التماثل ويجب عند التفاضل كزكاة الفطر عن العبد المشترك وإن جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر نص عليه لأنه الأصل وإن اختلف الساعي ورب المال في قدر شربه فالقول قول رب المال من غير يمين لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم فإن كان له حائطان فسقى أحدهما بمؤنة والآخر بغير مؤنة والآخر بغير مؤنة ضم أحدهما إلى الآخر في كمال النصاب وأخذ من كل واحدة فرضه ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه قل أو كثر لأنه يتجزأ فوجب فيه بحسابه كالأثمان
فصل :
وإذا بدا الصلاح في الثمار واشتد الحب وجبت الزكاة لأنه حينئذ يقصد للأكل والاقتيات به فأشبه اليابس وقيل : لا يقصد لذلك فهو كالرطبة فإن تلف قبل ذلك أو أتلفه فلا شيء فيه لأنه تلف قبل الوجوب فأشبه ما لو أتلف السائمة قبل الحول إلا أن يقصد بإتلافها الفرار من زكاتها فتجب عليه لما ذكرنا وإن تلف بعد وجوبها وقبل حفظها في بيدرها و جرينها بغير تفريط فلا ضمان عليه سواء خرصت أو لم تخرص لأنها في حكم ما لم تثبت اليد عليه ولو تلف بجائحة رجع بها المشتري على البائع وإن أتلفها أو فرط فيها ضمن نصيب الفقراء بالخرص أو بمثل نصيبهم وإن أتلفها أجنبي ضمن نصيب الفقراء بالقيمة لأن رب المال عليه تخفيف هذا بخلاف الأجنبي والقول في تلفها وقدرها والتفريط فيها قول رب المال لأنه خالص حق الله تعالى فلا يستحلف فيه كالحد وإن تلف بعد جعلها في الجرين فحكمها حكم تلف السائمة بعد الحول
فصل :
ويستحب الإمام أن يبعث من يخرص الثمار حين بدو الصلاح لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه رواه أبو داود وعن عتاب بن أسيد قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نخرص العنب كما نخرص النخل فيؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا رواه أبو داود ويجزئ خارص واحد لحديث عائشة ولأنه يفعل ما يؤديه إليه اجتهاده فجاز أن يكون واحدا كالحاكم
ويعتبر أن يكون مسلما أمينا غير متهم ذا خبرة فإن كانت الثمرة أنواعا خرص كل نوع على حدته لأن الأنواع تختلف منها ما يكثر رطبه ويقل يابسه ومنها خلاف ذلك فإن كانت نوعا واحدا خير بين خرص كل شجرة منفردة وبين خرص الجميع دفعة واحدة ثم يعرف المالك قدر الزكاة ويخيره بين حفظها إلى الجذاذ وبين التصرف فيها وضمان حق الفقراء فإن اختار حفظها فعليه زكاة ما يؤخذون منها قل أو كثر لأن الفقراء شركاؤه فليس عليه أكثر من حقهم منها وإن اختار التصرف ضمن حصة الفقراء بالخرص فإن ادعى غلط الساعي في الخرص دعوى محتملة فالقول قوله بغير يمين وإن ادعى غلطا كثيرا لا يحتمل مثله لم يلتفت إليه لأنه يعلم كذبه فإن اختار التصرف فلم يتصرف أو تلفت فهو كما لو لم يخير لأن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة في الشرط كالوديعة
فصل :
و يخرص الرطب والعنب لحديث عتاب ولأن الحاجة داعية إلى أكلهما رطبين و خرصهما ممكن لظهور ثمرتهما واجتماعها في أفنانها وعناقيدها ولم يسمع بالخرص من غيرهما ولا هو في معناهما لأن الزيتون ونحوه حبه متفرق في شجره مستتر بورقه
فصل :
وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على رب المال لحاجته إلى الأكل منها والإطعام ولأنها قد يتساقط منها وينتابها الطير والمارة وقد روى سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا أو تجدوا الثلث فدعوا الربع ] رواه أبو داود وعن مكحول قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا بعث الخراص قال : [ خففوا عن الناس فإن في المال العرية والواطئة والأكلة ] رواه أبو عبيد فالعرية : النخلات يهب رب المال ثمرتها لإنسان والواطئة : السابلة والأكلة : أرباب الأموال ومن تعلق بهم فإن لم يترك الخارص شيئا فلهم الأكل بقدر ذلك ولا يحتسب عليهم وإن لم يخرص عليهم فأخرج رب المال خارصا فخرص وترك قدر ذلك جاز ولهم أكل الفريك من الزرع و نحوه مما جرت العادة بمثله ولا يحتسب عليهم
فصل :
وإذا احتيج إلى قطع الثمرة قبل كمالها لخوف العطش أو غيره أو لتحسين بقية الثمرة جاز قطعها لأن العشر وجب مواساة فلا يكلف منه ما يهلك أصل المال ولأن حفظ الأصل أحظ للفقراء من حفظ [ الثمرة لتكرر حقهم فيها كما هو أحظ للمالك فإن كفى التجفيف لم يجز قطعها ] فإن لم يكف جاز قطعها كلها وإن كانت الثمرة عنبا لا يجيء منه زبيب أو زبيبه رديء كالخمري أو رطب لا يجيء منه تمر جاز كالبربنا قطعه
قال أبو بكر : وعليه قدر الزكاة في جميع ذلك يابسا وذكر أن أحمد نص عليه
وقال القاضي : لا يلزمه ذلك لأن الفقراء شركاؤه فلم يلزمه مواساتهم بغير جنس ماله و يتخير الساعي بين مقاسمة رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص ويأخذ نصيبهم شجرات منفردة وبين مقاسمة الثمرة بعد جذها بالكيل ويقسم الثمرة في الفقراء وبين بيعها للمالك أو لغيره قبل الجذاذ وبعده ويقسم ثمنها في الفقراء فإن أتلفها رب المال فعليه قيمتها لأنه لا يلزمه تخفيفها فأشبه الأجنبي
فصل :
وماعدا ذلك لا يجوز إخراج الواجب من ثمرته إلا يابسا ومن الحبوب إلا مصفى لأنه وقت الكمال وحالة الادخار فإن كان نوعا واحدا أخرج عشره منه جيدا كان أو رديئا لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فيه وإن كان أنواعا أخرج من كل نوع حصته كذلك ولا يجوز إخراج الرديء عن الجيد ولا يلزم إخراج الجيد عن الرديء لما ذكرنا ولا مشقة في هذا لأنه لا يحتاج إلى تشقيص
وقال أبو الخطاب : إن شق ذلك لكثرة الأنواع واختلافها أخذ من الوسط وإن أخرج رب المال الجيد عن الرديء جاز وله ثواب الفضل لما ذكرنا في السائمة
فصل :
فأما الزيتون فإن لم يكن ذا زيت أخرج عشر حبه وإن كان ذا زيت فأخرج من حبه جاز كسائر الحبوب وإن أخرج زيتا كان أفضل لأنه يكفي الفقراء مؤنته ويخرجه في حال الكمال والادخار
فصل :
ويجوز لرب المال بيعه بعد وجوب زكاته لأن الزكاة إذا كانت في ذمته لم يمنع التصرف في ماله كالدين وإن تعلقت بالمال لكنه تعلق ثبت بغير اختياره فلم يمنع التصرف فيه كأرش الجنابة فإن باعه فزكاته عليه دون المشتري ويلزمه إخراجها كما تلزمه لو لم يبعه فصل :
ويجتمع العشر والخراج في كل أرض فتحت عنوة الخراج في رقبتها والعشر في غلتها لأن الخراج مؤنة الأرض فهو كالأجرة في الإجارة ولأنهما حقان يحيان لمستحقين فيجتمعان كالكفارة والقيمة في الصيد المملوك على المحرم
وقال الخرقي : يؤدي الخراج ثم يزكي ما بقي لأن الخراج دين من مؤنة الأرض فأشبه ما استدانه لينفقه على زرعه وقد ذكرنا فيما استدانه رواية أخرى : أنه لا يحتسب به فكذلك يخرج ههنا
فصل :
ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية ولا عشر عليهم في الخارج منها لأنهم من غير أهل الزكاة فأشبه ما لو اشتروا سائمة ويكره بيعها لهم لئلا يفضي إلى إسقاط الزكاة
وعنه : يمنعون شراءها لذلك اختاره الخلال وصاحبه فعلى هذا إن اشتروها ضوعف العشر عليهم كما لو اتجروا إلى غير بلدانهم ضوعف عليهم ما يؤخذ من المسلمين
فصل :
وفي العسل العشر لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يؤخذ من زمانه من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها رواه أبو عبيد و عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ في العسل في كل عشر قرب قربة ] رواه أبو داود و الترمذي وقال الترمذي : في إسناده مقال ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه و سلم كبير شيء ومقتضى هذا أن يكون نصابه عشر قرب والقربة مائة رطل كذلك ذكره العلماء في تقرير القرب التي قدروا بها في القلتين وقال أصحابنا : نصابه عشر أفراق لأن الزهري قال : في عشرة أفراق فرق ثم اختلفوا فقال ابن حامد و القاضي في المجرد : الفرق ستون رطلا وحكي عن القاضي أنه قال : الفرق ستة وثلاثون رطلا والمشهور عند أهل العربية الفرق الذي هو ثلاث آصع هو ستة عشر رطلا

باب زكاة الذهب والفضة
وهي واجبة لقول الله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ولما نذكره في النصوص ولأنهما معدان للنماء فأشبها السائمة و لا زكاة إلا في نصاب ونصاب الورق مائتا درهم ونصاب الذهب عشرون مثقالا لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا أقل من مائتي درهم صدقة ] رواه أبو عبيد والاعتبار بدراهم الإسلام التي وزن كل عشر منها سبعة مثاقيل بغير خلاف فإن نقص النصاب كثيرا فلا زكاة فيه للحديث ولقوله : [ ليس في ما دون خمسة أواق صدقة ] و الأوقية أربعون درهما وإن كان يسيرا كالحبة والحبتين فظاهر كلام الخرقي لا زكاة فيه للخبر وقال غيره من أصحابنا : فيه الزكاة لأن هذا لا يضبط فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين ولا يضم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب لأنهما جنسان اختارها أبو بكر وفرق بينها وبين الحبوب لاختلاف نصابها واتفاق نصاب الحبوب وعن أحمد رضي الله عنه : أنه يضم لأن مقاصدها متفقة فهما كنوعي الجنس ويضم أحدهما إلى الآخر بالأجزاء فيحسب كل واحد من نصابه ثم يضم إلى صاحبه لأن الزكاة تتعلق بأعيانها فلا تعتبر قيمتها كسائر الأموال
وعنه : تضم القيمة إن كان ذلك أحظ للفقراء فيقوم الأعلى منهما بالآخر فإذا ملك مائة درهم وتسعة دنانير قيمتها مائة درهم وجبت زكاتها مراعاة للفقراء ويجب في الزائد على النصاب بحسابه لأنه يتجزأ من غير ضرر فأشبه الحبوب
فصل :
والواجب فيها ربع العشر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في الرقة ربع العشر ] رواه البخاري والرقة : الدراهم المضروبة فيجب في المائتين خمس دراهم وفي العشرين مثقال نصف مثقال ويخرج عن كل واحد من الرديء والجيد وعن كل نوع من جنسه إلا أن يشق ذلك لكثرة الأنواع واختلافها فيؤخذ في الوسط لما ذكرنا في الماشية وإن أخرج الجيد عن الرديء كان أفضل فإن أخرج رديئا عن جيد زاد بقدر ما بينهما من الفضل لأنه لا ربا بين العبد وسيده
وقال القاضي : هذا في المكسرة عن الصحيحة أما المبهرجة فلا يجزئه بل يلزمه إخراج جيده ولا يرجع فيما أخرج لله تعالى وفي إخراج أحد النقدين عن الآخر روايتان بناء على ضم أحدهما إلى الآخر ومن ملك مغشوشا منهما فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصابا فإن شك في بلوغه خير بين سبكه ليعرف وبين أن يستظهر ويخرج ليسقط الفرض بيقين
فصل :
ولا زكاة في الجواهر واللآلئ لأنها معدة للاستعمال فأشبهت ثياب البذلة وعوامل الماشية وأما الفلوس فهي كعروض التجارة تجب فيها زكاة القيمة
فصل :
ومن ملك مصوغا من الذهب أو الفضة محرما كالأواني وما يتخذه الرجل لنفسه من الطوق ونحوه وخاتم الذهب وحلية المصحف والدواة والمحبرة و المقلمة و السرج و اللجام و تازير المسجد ففي الزكاة لأن هذا فعل محرم فلم يخرج به عن أصله فإن كان مباحا كحلية النساء المعتادة من الذهب والفضة وخاتم الرجل من الفضة وحلية سيفه و حمائله ومنطقته و جوشنه وخوذته وخفه و رانه من الفضة وكان معدا للتجارة أو نفقة أو كراء بيت ففيه الزكاة لأنه معد للنماء فهو كالمضروب وإن أعد للبس والعارية فلا زكاة فيه لما روى جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس في الحلي زكاة ] ولأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح فلم تجب فيه زكاته كثياب البذلة وحكى ابن أبي موسى عنه أن فيه الزكاة لعموم الأخبار
فصل :
ولا فرق بين كثير الحلي و قليله لعدم ورود الشرع بتحديده وقال ابن حامد : إن بلغ حلي المرأة ألف مثقال فهو محرم وفيه الزكاة لأن جابرا قال : إن ذلك لكثير ولأنه سرف لم تجز العادة به فأشبه ما اتخذت حلي الرجال
فصل :
فإن انكسر الحلي كسرا لا يمنع اللبس فهو كالصحيح إلا أن ينوي ترك لبسه وإن كان كسرا يمنع الاستعمال ففيه الزكاة لأنه صار كالنقرة ولو نوى بحلي اللبس التجار والكرى انعقد عليه حول الزكاة من حين نوى لأن الوجوب الأصل فانصرف إليه بمجرد النية كما لو نوى بمال التجارة القنية
فصل :
ويعتبر النصاب في المصوغ بالوزن لعموم الخبر فإن كانت قيمته أكثر من وزنه لصناعة محرمة فلا عبرة بزيادة القيمة لأنها معدومة شرعا وإن كانت مباحة كحلي التجارة فعليه قدر ربع عشره في زنته وقيمته لأن زيادة القيمة هاهنا بغير محرم فأشبه زيادة قيمته لنفاسة جوهره فإن أخرج ربع عشره مشاعا جاز وإن دفع قدر ربع عشره وزاد الوزن بحيث يستويان في القيمة جاز لأن الربا لا يجري هاهنا وإن أراد كسره ودفع ربع عشره مكسورا لم يجز لأنه ينقص قيمته وإن كان في الحلي جواهر ولآلئ وكان للتجارة قوم جميعه وإن كان لغيرها فلا زكاة فيها لأنها لا زكاة فيها منفردة فكذلك مع غيرها

باب زكاة المعدن
وهو ما استخرج من الأرض مما خلق فيها من غير جنسها كالذهب والفضة والحديد والنحاس والزبرجد والبلور والعقيق و المغرة وأشباهها والقار والنفط والكبريت ونحوه فتجب فيه الزكاة لقول الله تعالى : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } وروى الجوزجاني بإسناده عن بلال بن الحارث المزني : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ من معادن القبلية الصدقة وقدرها ربع العشر لأنها زكاة في الأثمان فأشبهت زكاة سائر الأثمان أو تتعلق بالقيمة أشبهت زكاة التجارة ولا يعتبر لها حول لأنه يراد لتكامل النماء وبالوجود يصل إلى النماء فلم يعتبر له حول كالعشر ويشترط له النصاب وهو مائتا درهم من الورق أو عشرون مثقالا من الذهب أو ما قيمته ذلك من غيرهما لقوله صلى الله عليه و سلم : [ ليس فيما دون خمس أوراق صدقة ] ولأنها زكاة تتعلق بالأثمان أو بالقيمة فاعتبر لها النصاب كالأثمان أو العروض ويعتبر إخراج النصاب متواليا فإن ترك العمل ليلا أو نهارا للراحة أو لإصلاح الأداة أو لمرض أو إباق عبد فهو كالمتصل لأن ذلك العادة وإن خرج بين النيلين تراب لا شيء فيه فاشتغل به فهو مستديم للعمل وإن تركه ترك إهمال فلكل دفعة حكم نفسها قال القاضي : ويعتبر النصاب في كل جنس منفردا والأولى ضم الأجناس إلى المعدن الواحد في تكميل النصاب لأنها تتعلق بالقيمة فيضم وإن اختلفت الأنواع كالعروض ولا يحتسب بها أنفق على المعدن في إخراجه وتصفيته لأنه كمؤن الحصاد والزراعة ولا تجب على من ليس من أهل الزكاة لأنه زكاة ويمنع الدين وجوبه كما يمنع في الأثمان وتجب في الزائد على النصاب بحسابه لأنه مما يتجزأ ويخرج زكاته من قيمته كما يخرج من قيمة العروض
فصل :
فأما الخارج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ففيه روايتان :
إحداهما : لا شيء فيه لأن ابن عباس قال : لا شيء في العنبر إنما هو شيء ألقاه البحر ولأنه قد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه فلم يسبق فيه سنة
والثانية : فيه زكاة لأنه معدن أشبه معدن البر ولا شيء في السمك لأنه صيد فهو كصيد البر
وعنه : فيه الزكاة قياسا على العنبر
فصل :
ويجوز بيع تراب معادن الأثمان بغير جنسه ولا يجوز بجنسه لإفضائه إلى الربا وزكاته على البائع لأن رجلا باع معدنا ثم أتى عليا رضي الله عنه فأخبره فأخذ زكاته منه ولأنه باع ما وجبت عليه زكاته فكانت عليه كبائع الحب بعد صلاحه وتتعلق الزكاة بالمعدن بظهوره كتعلقها بالثمرة بصلاحها ولا يخرج منه إلا بعد السبك والتصفية كالحب والثمر

باب حكم الركاز
وهو مال الكفار المدفون في الأرض وفيه الخمس لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنه قال : [ وفي الركاز الخمس ] متفق عليه ولأنه مال كافر مظهور عليه بالإسلام فوجب فيه الخمس كالغنيمة ويجب الخمس في قليله و كثيره من أي نوع كان من غير حول لذلك ويجب على كل واجد له من أهل الزكاة وغيرهم لذلك ومصرفه مصرف الفيء لذلك ولأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه رد بعض خمس الركاز على واجده ولا يجوز ذلك في الزكاة
وعنه : أنه زكاة مصرفه مصرفها اختارها الخرقي لأن عليا رضي الله عنه أمر واجد الزكاة أن يتصدق به على المساكين ولأنه حق يتعلق بمستفاد من الأرض فأشبه صدقة المعدن والعشر وفي جوازه رده على واجده وجهان لما ذكرنا من الروايتين ويجوز لواجد أن يفرق الخمس بنفسه نص عليه واحتج بحديث علي ولأنه أوصل الحق إلى مستحقه فبرئ منه كما لو فرق الزكاة
فصل :
و الركاز : ما دفنه الجاهلية ويعتبر ذلك برؤية علاماتهم عليه كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم لأن الأصل أنه لهم فأما ما عليه علامات المسلمين كأسمائهم أو قرآن ونحوه فهو لقطة لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه وكذلك إن كان على بعضه علامة الإسلام وعلى بعضه علامة الكفار لأن الظاهر أنه صار لمسلم فدفنه وما لا علامة عليه فهو لقطة تغليبا لحكم الإسلام
فصل :
ولا يخلو الركاز من أربعة أحوال :
أحدها : أن يجده في موات فهو لواجده
الثاني : وجده في ملك آدمي معصوم ففيه روايتان :
إحداهما : يملكه واجده لأنه لا يملك بملك الأرض إذ ليس هو من أجزئها وإنما هو مودع فيها فجرى مجرى الصيد والكلأ يملكه من ظفر به كالمباحات كلها وإن ادعاه صاحب الأرض فهو له مع يمينه لثبوت يده على محله
والثانية : هو لصاحب الأرض إن اعترف به وإن لم يعترف به فهو لأول مالك لأنه في ملكه فكان له كحيطانه فإن كان الملك موروثا فهو للورثة إلا أن يعترفوا أنه لم يكن لمورثهم فيكون لمن قبله فإن اعترف به [ بعضهم دون بعض فللمعترف به نصيبه وباقيه لمن قبله ]
الثالث : وجده في ملك انتقل إليه فهو له بالظهور عليه وإن قلنا : لا يملك به فهو للمالك قبله إن اعترف به وإلا فهو لأول مالك
الرابع : وجده في أرض الحرب وقدر عليه بنفسه فهو له لأن مالك الأرض لا حرمة له فأشبه الموات وإن لم يقدر عليه إلا بجماعة المسلمين فهو غنيمة لأنه قوتهم أوصلته إليه وإن وجد في ملك انتقل إليه ما عليه علامة الإسلام فادعاه من انتقل عنه ففيه روايتان :
إحداهما : يدفع إليه من غير تعريف ولا صفة لأنه كان تحت يده فالظاهر أنه ملكه كما لو لم ينتقل عنه
والثانية : لا يدفع إليه إلا بصفة لأن الظاهر أنه لو كان له لعرفه وإن اكترى دارا فظهر فيه دفين فادعى كل واحد من المالك والمكتري أنه دفنه ففيه وجهان :
أحدهما : القول قول المالك لأنه الدفين تابع للأرض
والثاني : القول قول المكتري لأنه مودع في الأرض وليس منها فكان القول قول من يده عليه كالقماش
فصل :
وإذا استأجر أجيرا ليحفر له طالبا لكنز فوجد كنزا فهو للمستأجر لأنه استأجره لذلك فأشبه ما لو استأجره ليحتش له وإن استأجره لغير ذلك فوجد كنزا فهو للأجير لأنه غير مقصود بالإجارة فكان للظاهر عليه كما لو استأجره ليحتمل له فوجد صيدا

باب زكاة التجارة
وهي واجبة روى سمرة بن جندب قال [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع ] رواه أبو داود ولأنه مال نام فتعلقت به الزكاة كالسائمة ولا تجب إلا بشروط أربعة :
أحدهما : نية التجارة لقوله : مما نعده للبيع ولأن العروض مخلوقة في الأصل للاستعمال فلا تصير للتجارة إلا بنيتها كما أن ما خلق للتجارة وهي الأثمان لا تصير للقنية إلا بنيتها ويعتبر وجودها في جميع الحول لأنها شرط أمكن اعتباره في جميع الحول فاعتبر فيه كالنصاب
الثاني : أن يملك العروض بفعله كالشراء ونحوه بنية التجارة
وعنه : تصير للتجارة بمجرد النية اختاره أبو بكر و ابن عقيل للخبر ولأنه يصير للقنية بمجرد النية فلأن يصير للتجارة بذلك أولى وظاهر المذهب الأول لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله لا يصير لها بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى بها الإسامة وفارق نية القنية لأنها الأصل فكفى فيها مجرد النية كالإقامة مع السفر فعلى هذا إن لم ينو عند التملك ونوى بعده لم تجب الزكاة فيه لأنه نية مجردة ولو نوى بتملكه أنه للتجارة ثم نواه للقنية صار للقنية لأنها الأصل وإن نوى بعد للتجارة لم يصر لها حتى يبيعه
الشرط الثالث : أن يبلغ قيمته نصابا من أقل الثمنين قيمة فإذا بلغ أحدهما نصابا دون الآخر قومه به ولا يعتبر ما اشتراه به لأن تقويمه لحظ الفقراء فيعتبر مالهم الحظ فيه ولو كان أثمانا قومه كالسلع لأنه وجد فيه معنيان يقتضيان الإيجاب فيعتبر ما يتعلق به الإيجاب كالسوم والتجارة فإن بلغ نصابا من كل واحد منهما قومه بما هو أحظ للفقراء فإن استويا قومه بما شاء منهما
الشرط الرابع : الحول لقوله صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] ويعتبر وجوب النصاب في جميع الحول لأن ما اعتبر له الحول والنصاب اعتبر وجوده في جميعه كالأثمان
ولو اشترى للتجارة عرضا لا يبلغ نصابا ثم بلغه انعقد الحول عليه من حين صار نصابا وإن ملك نصابا نقص انقطع الحول فإن عاد فنما فبلغ النصاب استأنف الحول على ما ذكرنا في السائمة والأثمان
وإن ملك نصابا في أوقات فلكل نصاب حول ولا يضم نصاب إلى نصاب لأن المستفاد يعتبر له حول أصله على ما أسلفناه وإن لم يكمل الأول إلا بالثاني فحولهما منذ ملك الثاني وإن لم يكمل إلا بالثالث فحول الجميع في حين كمل النصاب
فصل :
ولا يشترط أن يملك العرض بعوض ذكره ابن عقيل وأبو الخطاب وقال القاضي : يشترط أن يملكه بعوض كالبيع والخلع والنكاح فإن ملكه بهبة أو احتشاش أو غنيمة لم يصر للتجارة لأنه ملك بغير عوض أشبه الموروث ولنا : أنه ملكه بفعله أشبه المملوك بالبيع وفارق الإرث لأنه بغير فعله فجرى مجرى الاستدامة
فصل :
وإذا اشترى نصابا للتجارة بآخر لم ينقطع الحول لأن الزكاة تتعلق بالقيمة والقيمة فيها واحدة انتقلت من سلعة إلى سلعة فهي كدراهم نقلت من بيت إلى بيت وإن اشتراه بأثمان لم ينقطع الحول لأن القيمة في الأثمان كانت ظاهرة فاستترت في السلعة وكذلك لو باع نصاب التجارة بنصاب الأثمان لم ينقطع الحول لذلك وإن اشترى نصابا للتجارة بعرض القنية أو بما دون نصاب من الأثمان أو عرض التجارة انعقد الحول من حين الشراء لأن ما اشترى به لم يجر في حول الزكاة فلم يبن عليه ولو اشترى نصابا للتجارة بنصاب سائمة أو سائمة بنصاب تجارة انقطع الحول لأنهما مختلفان فإن كان نصاب التجارة سائمة فاشترى به نصاب سائمة للقنية لم ينقطع الحول لأن السوم سبب للزكاة إنما قدم عليه زكاة التجارة لقوته فإذا زال المعارض ثبت حكم السوم لظهوره
فصل :
وإذا ملك للتجارة سائمة فحال الحول و السوم ونية التجارة موجودان فبلغ المال نصاب أحدهما دون الآخر كخمس من الإبل لا تبلغ قيمتها مائتي درهم أو أربع تبلغ ذلك وجب زكاة ما وجد نصابه لوجود سببها خاليا عن معارض لها وإن وجد نصابهما كخمس قيمتها مائتا درهم وجبت زكاة التجارة وحدها لأنها أحظ للفقراء لزيادتها بزيادة القيمة من غير وقص وسواء تم حولهما جميعا أو تقدم أحدهما صاحبه لذلك وإن اشترى أرضا أو نخلا للتجارة فأثمرت النخل وزرعت الأرض فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر يزكي الثمرة والزرع زكاة العشر ثم يقوم النخل والأرض فيزكيهما لأن ذلك أحظ للفقراء لكثرة الواجب وزيادة نفعه
فصل :
وتقوم السلعة عند الحول بما فيها من نماء وربح لأن الربح من نمائها فكان حولها كسخال السائمة وما نما بعد الحول ضم إليه في الحول الثاني لأنه إنما وجد فيه ويكمل نصاب التجارة بالأثمان لأن زكاة التجارة تتعلق بالقيمة فهما جنس واحد وتخرج الزكاة من قيمة العروض لا من أعيانها لأن زكاتها تتعلق بالقيمة لا بالأعيان وما اعتبر النصاب فيه وجبت الزكاة منه كسائر الأموال وقدر زكاته ربع العشر لأنها تتعلق بالقيمة فأشبهت زكاة الأثمان وفيما زاد على النصاب بحساب لذلك ويخرج عنها ما شاء من عين أو ورق لأنهما جميعا قيمة
فصل :
وإذا تم الحول على مال المضاربة فعلى رب المال زكاة رأس المال وحصته من الربح لأن حول الربح حول الأصل وله إخراجها من المال لأنها من مؤنته وواجبة لسببه ويحسبها من نصيبه لأنها واجبة عليه فتجب عليه كدينه ويحتمل أن تحسب من الربح لأنها من مؤنة المال فأشبهت أجرة الكيال وفي زكاة حصة المضارب وجهان فمن أوجبها لم يجوز إخراجها من المال لأن الربح وقاية رأس المال فليس عليه إخراجها من غيره حتى يقبض فيؤدي لما مضى كالدين ويحتمل جواز إخراجها منه لأنهما دخلا على حكم الإسلام ومن حكمه وجوب الزكاة وإخراجها من المال
فصل :
وإذا أذن كل واحد من الشريكين للآخر في إخراج زكاته فأخرجاها معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه لأنه انعزال عن الوكالة بشروع موكله في الإخراج وإن أخرجها أحدهما قبل الآخر ضمن الثاني نصيب الأول علم بإخراجه أو لم يعلم لأن الوكالة زالت بزوال ما وكل فيه فأشبه ما لو وكله في بيع ثوب ثم باعه الموكل ويحتمل أن لا يضمن إذا لم يعلم لأن المالك غيره
فصل :
ومن اشترى شقصا للتجارة بمائتي درهم فحال الحول وقيمته أربعمائة فعليه زكاة أربعمائة ويأخذه الشفيع بمائتين لأن الشفيع يأخذه في الحال بالثمن الأول وزكاته على المشتري لأنها زكاة ماله ولو وجد به عيبا رده بالثمن الأول وزكاته على المشتري

باب صدقة الفطر
وهي واجبة على كل مسلم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر من رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك من المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير ) فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة متفق عليه
وتجب على المكاتب عن نفسه للخبر ولأنه مسلم تلزمه نفقته فلزمته فطرته كالحر ولا تجب على الكافر ولا على أحد بسببه فلو كان للمسلم عبد كافر أو زوجة كافرة لم تجب فطرتها لقوله : [ من المسلمين ] ولأنها زكاة فلم تلزم الكافر كزكاة المال وتجب على الصغير للخبر و المعنى ويخرج من حيث يخرج نفقته لأنها تابعة لها ولا تجب على جنين كما لا تجب على أجنة السائمة ويستحب إخراجها عنه لأن عثمان رضي الله عنه كان يخرج عن الجنين وإن ملك الكافر عبدا مسلما لما تجب فطرته لأن العبد لا مال له والسيد كافر
وعنه : على السيد فطرته لأنه من أهل الطهرة فلزم سيده فطرته كما لو كان مسلما
فصل :
ولا تجب إلا بشرطين :
أحدهما : أن يفضل عن نفقته ونفقة عياله يوم العيد وليلته صاع لأن النفقة أهم فتجب البداءة بها لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ ابدأ بنفسك ] رواه مسلم وفي لفظ : [ ابدأ بمن تعول ] رواه الترمذي فإن فضل صاع واحد أخرجه عن نفسه فإنه فضل آخر بدأ بمن تلزمه البداءة بنفقته على ما نذكره في بابه إن شاء الله لأنها تابعة للنفقة فإن فضل بعض صاع ففيه روايتان :
إحداهما : يلزمه إخراجه لقوله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] متفق عليه ولأنه لو ملك بعض العبد لزمته فطرته فكذلك إذا ملك بعض المؤدى لزمه أداؤه
والثانية : لا يلزمه لأنه عدم ما يؤدي به الفرض فلم يلزمه كمن عليه الكفارة إذا لم يملك إلا بعض الرقبة فإن فضل صاع وعليه دين يطالب به قدم قضاؤه لأنه حق آدمي مضيق وهو أسبق فكان أولى فإن لم يطالب به فعليه الفطرة لأنه حق توجهت المطالبة به فقدم على ما لا يطالب به ولا يمنع الدين وجوبها لتأكدها بوجوبها على الفقير من غير حول
فصل :
الشرط الثاني : دخول وقت الوجوب وهو غروب الشمس من ليلة الفطر لقول ابن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر من رمضان ) وذلك يكون بغروب الشمس فمن أسلم أو تزوج أو ولد له ولد أو ملك عبدا أو أيسر بعد الغروب لم تلزمه فطرتهم وإن غربت وهم عنده ثم ماتوا فعليه فطرتهم لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بالموت ككفارة الظهارة
فصل :
والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة للخبر ولأن المقصود إغناء الفقراء يوم العيد عن الطلب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم ] رواه سعيد بن منصور وفي إخراجها قبل الصلاة إغناء لهم في اليوم كله فإذا قدمها قبل ذلك بيومين جاز لأن ابن عمر كان يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين ولأن الظاهر أنها تبقى أو بعضها فيحصل الغنى بها فيه وإن عجلها لأكثر من ذلك لم يجز لأن الظاهر أنه ينفقها فلا يحصل بها الغنى المقصود يوم العيد وإن أخرها [ عن الصلاة ترك الاختيار لمخالفته الأمر وأجزأت لحصول الغنى بها في اليوم وإن أخرها ] عن اليوم أثم لتأخيره الحق الواجب عن وقته و لزمه القضاء لأنه حق مال وجب فلا يسقط بفوات وقته كالدين
فصل :
ولا يشترط لوجوبها الغنى بنصاب ولا غيره لما روى أبو داود بإسناده عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أدوا صدقة الفطر صاعا من بر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير حر أو مملوك غني أو فقير أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى ] ولأنه حق مالي لا يزيد بزيادة المال فلم يشترط في وجوبه النصاب كالكفارة
فصل :
ومن لزمته فطرة نفسه لزمته فطرة من تلزمه مؤنته من المسلمين لما روى ابن عمر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون فيجب على الرجل فطرة زوجته وعبده وزوجة عبده لأن نفقتهم عليه فإن كان له عبد آبق فعليه فطرته لأنها تجب بحق الملك والملك لم يزله الإباق قال أحمد : ولا يعطي عنه إلا أن يعلم مكانه وذلك لأنه يحتمل أنه قد مات أو ارتد فلم تجب الفطرة مع الشك فإن علم حياته بعد ذلك لزمه الإخراج لما مضى وإن كانت له زوجة ناشز لم تلزمه فطرتها لأنه لا تلزمه نفقتها وقال أبو الخطاب : تلزمه قطرتها كما تيلزم السيد فطرة الآبق وإن كان لزوجته خادم تلزم نفقته لزمته فطرته وإن كان العبد لسادة فعليهم فطرته لأن عليهم نفقته وعلى كل واحد من فطرته بقدر ما يلزمه من نفقة لأنها تابعة لها فتقدرت بقدرها
وعنه : على كل سيد فطرة كاملة لأنها طهرت فوجب تكميلها ككفارة القتل ومن نصفه حر ففطرته عليه وعلى سيده لما ذكرناه ومن نفقتها على اثنين من أقاربه أو الأمة التي نفقتها على سيدها : وزوجها فطرته عليهما كذلك ومن تكفل بمؤنة شخص فمانه شهر رمضان بالمنصوص عن أحمد أن عليه فطرته لدخوله في عموم قوله : [ ممن تمونون ]
واختار أبو الخطاب : أنه لا تلزمه فطرته كما تلزمه نفقته وحمل الخبر على من تلزمه المؤنة بدليل وجوبها على الآبق ومن ملكه عند الغروب ولم يمنهما وسقوطها عمن مات أو أعتق قبل الغروب وقد مانه
فصل :
على الموسرة التي زوجها معسر فطرة نفسها لأنها كالمعدوم وإن كانت أمة ففطرتها على سيدها لذلك ويحتمل أن لا تجب فطرتهما لأن من تجب عليه النفقة معسر فسقطت كما لو كانت الزوجة والسيد معسرين ومن لزمته فطرته غيره فأخرجها عن نفسه بغير إذنه ففيه وجهان :
أحدهما : يجزئه لأدائه ما عليه
والثاني : لا يجزئه لأنها تجب على غيره فلا يجزئ إخراجها بغير إذن من وجبت عليه كزكاة المال
فصل :
والواجب في الفطرة صاع من كل مخرج لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ولما روى أبو سعيد قال : كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه و سلم صاعا طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال : إن مدا من هذا يعدل مدين قال أبو سعيد : فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه متفق عليه ومن قدر على هذه الأصناف الأربعة لم يجزه غيرها لأنها المنصوص عليها فأيها أخرج أجزأه سواء كانت قوته أو لم تكن لظاهر الخبر ويجزئ الدقيق و السويق من الحنطة والشعير لقول أبي سعيد لم نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من دقيق ثم شك فيه سفيان بعد فقال : دقيق أو سلت رواه النسائي ولأنه أجزئ بحب يكال أو يدخر فأشبه الحب ويجزئ إخراج صاع من أجناس إذا لم يعدل عن المنصوص لأن كل واحد منها يجزئ منفردا فأجزأ بعض من هذا و بعض من هذا كما لو كان العبد لجماعة وقال أبو بكر يتوجه قول آخر أنه يعطي ما قام مقام هذه الخمسة لظاهر قوله : صاعا من طعام قال : والأول أقيس وفي الأقط روايتان :
إحداهما : يجزئ إخراجه مع وجود غيره لأنه في الخبر
والثانية : لا يجزئ إلا عند عدم الأصناف قال الخرقي : : إن أعطى أهل البادية الأقط أجزأ إذا كان قوتهم وذلك أنه لا يجزئ في الكفارة ولا تجب الزكاة فيه فإن عدم الخمسة أخرج ما قام مقامها من كل مقتات من الحب والتمر وقال ابن حامد : يخرجون من قوتهم أي شيء كان كالذرة والدخن ولحوم الحيتان والأنعام
فصل :
والأفضل عن أبي عبد الله رضي الله عنه إخراج التمر لما روى مجاهد قال : قلت لابن عمر : إن الله قد أوسع والبر أفضل من التمر قال : إن أصحابي قد سلكوا طريقا وأنا أحب أن أسلكه فآثر الاقتداء بهم على غيره وكذلك أحمد ثم بعد التمر البر لأنه أكثر نفعا وأجود
فصل :
ولا يجزئ الخبز لأنه خارج من الكيل والادخار ولا حب معيب ولا مسوس ولا قديم تغير طعمه لقول الله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ولا تجزئ القيمة لأنه عدول عن المنصوص
فصل :
والصاع خمس أرطال وثلث بالعراقي وهو بالرطل الذي وزنه ستمائة درهم رطل وأوقية وثلثا أوقية إلى ثلثي درهم
قال أحمد الصاع : خمسة أرطال وثلث حنطة فإن أعطى خمس أرطال وثلثا تمرا فقد أوفى وقيل له : إن الصيحاني ثقيل فقال : لا أدري وهذا يدل على أنه ينبغي أن يحتاط في الثقيل بزيادة شيء على خمسة أرطال وثلث ليسقط الفرض بيقين ومصرفها مصرف زكاة المال لأنها زكاة ويجوز إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة كما يجوز دفع زكاة مالهم إليه وإعطاء الجماعة ما يلزم الواحد كما يجوز تفرقة ماله عليهم

باب إخراج الزكاة والنية
لا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الأعمال بالنيات ] ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة ويجوز تقديمها على الدفع بالزمن اليسير كما في سائر العبادات ولأنه يجوز التوكل فيها بنية غير مفارقة لأداء الوكيل ويجب أن ينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة أو صدقة المال أو الفطر فإن نوى صدقة مطلقة لم تجزه لأن الصدقة تكون نفلا فلا ينصرف إلى الفرض إلا بتعيين ولو تصدق بجميع ماله تطوعا لم يجزه لأنه لم ينو الفرض ولا يجب تعيين المال المزكى عنه فإن كان له نصابان فأخرج الفرض عن أحدهما بعينه أجزأه لأن التعيين لا يضر وإن أطلق عن أحدهما أجزأه لأنه لو أطلق لكان عن أحدهما فلا يضر التقييد به وإن نوى أنه لو كان الغائب سالما فهو زكاته إلا فهو عن الحاضر صح وكان على ما نواه وإن نوى أنه زكاة أو تطوع لم يصح لأنه لم يخلص النية للفرض وإن نوى أنه زكاة مالي وإن لم يكن سالما فهو تطوع صح لأنه هكذا يقع فلا يضر التقييد به ولو نوى إن كان أبي قد مات فصار ماله لي فهذا زكاته لم يصح لأنه لم يبن على أصل ولو نوى عن ماله الغائب فبان تالفا لم يكن له صرفه إلى الحاضر لأنه عينه للغائب فأشبه ما لو أعتق عبدا عن كفارة لم يملك صرفه إلى أخرى
فصل :
وإذا كان في إخراج الزكاة ونوى عند الدفع للوكيل ونوى الوكيل عند الأداء جاز وإن نوى الوكيل ولم ينو الموكل لم يجزه لأنها فرض عليه فلم يجزه من غير نية وإن نوى الموكل عند الدفع للوكيل ولم ينو الوكيل عند الدفع
فقال أبو الخطاب : يجزئ لأن الذي عليه الفرض قد نوى ويحتمل أنه إن نوى بعد الأداء من الدفع لم يجزه لأن الدفع حصل من غير نية قريبة و لا مقارنة و إن دفعها إلى الإمام برئ منها بكل حال لأن يد الإمام كيد الفقراء وإن أخذها الإمام قهرا أجزأت من غير نية رب المال لأنها تؤخذ من الممتنع فلو لم تجزئ ما أخذت هذا ظاهر كلام الخرقي ويحتمل أن لا تجزئه فيما بينه وبين الله تعالى إلا بنيتها لأنها عبادة محضة فلم تجز بغير نية كالمصلي كرها وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل وقال القاضي : تجزئ نية الإمام في الكره والطوع لأن أخذ الإمام كالقسم بين الشركاء والأول أولى
فصل :
ولا يجوز تعجيل الزكاة قبل كمال النصاب لأنه سببها فلم يجز تقديمها عليه كالتكفير قبل الحلف ويجوز تعجيلها بعده لما روي عن علي رضي الله عنه : أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرخص له في أن يعجل الصدقة قبل أن تحل فرخص له رواه أبو داود ولأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله كالدين ودية الخطأ
وفي تعجيلها لأكثر من عام روايتان :
إحداهما : يجوز لأنه عجلها بعد سببها
والثانية : لا يجوز لأنه عجلها قبل انعقاد حولها فأشبه ما لو عجلها قبل انعقاد وقت نصابها فإن ملك نصابا فعجل زكاة نصابين عنه وعما يستفيده في الحول الآخر أجزأه عن النصاب دون الزيادة لأنه عجل زكاة الزيادة قبل وجودها ولو ملك خمسا من الإبل فعجل شاتين عنها وعن نتاجها فحال الحول وقد نتجت خمسا فكذلك لما ذكرنا وإن ملك أربعين شاة فعجل عنها شاة ثم ماتت الأمهات وبقيت سخالها أجزأت عنها لأنها لا تجزئ عنها وعن أمهاتها لو كانت باقية فعنها وحدها أولى بخلاف التي قبلها ولو ملك عرضا قيمته ألف فعجل زكاة ألفين فحال الحول وقيمته ألفان أجزأه عن ألف واحد لما ذكرنا
فصل :
وإذا عجل الزكاة فلم تتغير الحال وقعت موقعها وإن ملك نصابا فعجل زكاته وحال الحول وهو ناقص مقدار ما عجلها أجزأت عنه وإن ملك مائة وعشرين فعجل شاة ثم نتجت أخرى قبل كمال الحول لزمه شاة ثانية لأن المعجل كالباقي على ما ملكه في إجزائه عن الزكاة عند الحول وكذلك في إيجاب الزكاة وإن تغيرت الحال قبل الحول بموت الآخذ أو غناه أو ردته فإن الزكاة تجزئ عن ربها وليس له ارتجاعها لأنه أداها إلى مستحقها فبرئ منها كما لو تلفت عند أخذها أو استغنى بها أما إن تغيرت حال رب المال بموته أو ردته أو تلف النصاب أو بعضه أو بيعه أو حالهما معا
فقال أبو بكر و القاضي : الحكم كذلك لأنه دفعها إلى مستحقها فلم يملك الرجوع بها كما لو لم يعلمه
وقال ابن حامد : إن لم يعلمه رب المال أنها زكاة معجلة لم يكن له الرجوع عليه لأن الظاهر أنها عطية تلزم بالقبض فلم يكن له الرجوع بها وإن كان الدافع الساعي أو رب المال لكنه أعلم الآخذ أنها زكاة معجلة رجع إليها لأنه دفعها عن ما يستحقه القابض في الثاني فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق وجب رده كالأجرة إذا انهدمت الدار قبل السكنى ثم إن وجدها بعينها أو زائدة زيادة متصلة رجع بها لأن هذه الزيادة تتبع في الفسوخ فتبعت ههنا وإن زادت زيادة منفصلة فهي للفقير لأنها انفصلت في ملكه وإن نقصت لزم الفقير نقصها لأنه ملكها بقبضها فكان نقصها عليه كالمعيب وإن تلفت فعليه قيمتها يوم قبضها لأن ما زاد بعد ذلك أو نقص إنما هو في ملك الفقير فإن قال المالك : أعلمته الحال فأنكر الفقير فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر
فصل :
ولو عجلها إلى غني فافتقر عند وجوبها عند وجوبها لم يجزه لأنه لم يعطها لمستحقها وإن عجلها فدفعها إلى مستحقها ثم مات لمالك فحسبها الوارث عن زكاته لم يجزه لأنها عجلت قبل ملكه فأشبه ما عجلها هو وإن تسلف الإمام الزكاة فهلكت في يده لم يضمنها وكانت من ضمان الفقراء سواء سأله رب المال أو الفقراء أو لم يسأله الجميع لأن يده كأيديهم وله ولاية عليهم بدليل أن له أخذ الزكاة بغير إذنهم فإذا تلفت من غير تفريط لم يضمن كولي اليتيم
فصل :
وظاهر كلام القاضي أنه لا يجوز تعجيل العشر لأنه يجب بسبب واحد وهو بدو الصلاح في الثمرة والحب فتعجيله تقديما له على سببه وقال أبو الخطاب : يجوز تعجيله إذا ظهرت الثمرة وطلع الزرع ولا يجوز قبله لأن وجود ذلك كملك النصاب وبدو الصلاح كتمام الحول وأما المعدن والزكاة فلا يجوز تقديم صدقتهما قولا واحدا لأن سبب وجوبها يلازم وجوبها ولا يجوز تقديمها قبل سببها

باب قسم الصدقات
يجوز لرب المال تفريق زكاته بنفسه لأن عثمان رضي الله عنه قال : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه ثم يزكي بقية ماله وأمر علي رضي الله عنه واجد الركاز أن يتصدق بخمسه وله دفعها إلى الإمام عدلا كان أو غيره لما روى سهيل بن أبي صالح قال : أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت : عندي مال وأريد إخراج زكاته وهؤلاء القوم على ما ترى فقال : ادفعها إليهم فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد رضي الله عنهم فقالوا مثل ذلك ولأنه نائب عن مستحقها فجاز الدفع إليه كولي اليتيم قال أحمد : أعجب إلي أن يخرجها وذلك لأنه على ثقة من نفسه ولا يأمن من السلطان أن يصرفها في غير مصارفها
وعنه : ما يدل على أنه يستحب دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى السلطان دون الباطنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم وخلفاءه رضي الله عنهم كانوا يبعثون سعاتهم لقبض زكاة الأموال الظاهرة دون الباطنة وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب : دفعها إلى الإمام العادل أفضل لأنه أعلم بالمصارف والدفع إليه أبعد من التهمة ويبرأ بها ظاهرا وباطنا ودفعها إلى أهلها ويحتمل أن يصادف غير مستحقها فلا يبرأ بها باطنا
فصل :
ويجب على الإمام أن يبعث السعاة لقبض الصدقات لأن النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء رضي الله عنهم كانوا يفعلونه ولأن في الناس من لا يؤدي صدقته أو لا يعلم ما عليه ففي إهمال ذلك ترك للزكاة ومن شرط الساعي أن يكون بالغا عاقلا أمينا لأن الصبي والمجنون لا قبض لهما والخائن يذهب بمال الزكاة ولا يشترط كونه فقيرا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد بعث عمر وعمله وكان غنيا ولأن ما يعطيه أجرة فأشبه أجرة حملها ولا كونه حرا لأن المقصود يحصل منه من غير ضرر فأشبه الحر ولا فقيها إذا كتب له ما يأخذ وحده له أو بعث معه من يعلمه ذلك لأنه استئجار على استيفاء حق فلم يشترط له الفقه كاستيفاء الدين
قال أبو الخطاب : في إسلامه روايتان :
إحداهما : لا يشترط ذلك ولأنه قد يعرف منه الأمانة بالتجربة بدليل قوله تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك }
والأخرى : هو شرط لأن الكفر ينافي الأمانة وقد قال عمر رضي الله عنه : لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى قال أصحابنا : وجوز أن يكون من ذوي القربى لأن ما يأخذه أجرة فلم يمنع منها كأجرة الحمل وظاهر الخبر يمنع ذلك فإن الفضل بن عباس وعبد الطلب بن ربيعة سألا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا : يا رسول الله لو بعثنا على هذه الصدقة فنصيب منها ما يصيب الناس ونؤدي إليك ما يؤدي الناس فأبى أن يبعثهما وقال : [ إن هذه الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ] رواه مسلم
فصل :
وإذا كان الساعي يبعث لأخذ العشر بعث في وقت إخراجه وإن بعث لقبض غيره بعث في أول محرم لأنه أول السنة ويستحب أن يعد الماشية على أهلها على الماء أو في أفنيتهم لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ تؤخذ صدقات الناس على مياههم و أفنيتهم ] وإن أخبره صاحب المال بعدده قبل منه وإن قال : لم يكمل الحول أو فرقت زكاته ونحو هذا مما يمنع الأخذ منه قبل منه ولم يحلفه لأن الزكاة عبادة وحق لله تعالى فلا يحلف عليهما كالصلاة والحد وإن أعطاه صدقته استحب أن يدعو له لقول الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } وروى عبد الله بن أبي أوفى قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : [ اللهم صل على آل فلان ] فأتاه أبي بصدقة فقال : [ اللهم صل على آل أبي أوفى ] متفق عليه ولا يجب الدعاء لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر سعاته بذلك ويستحب أن يقول : آجرك الله فيما أعطيت وبارك الله فيما أبقيت وجعل لك طهورا ويستحب للمعطي أن يقول : اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما وإن وجد الساعي مالا لم يكمل حوله فسلفه ربه زكاته أخذها وإن أبى لم يجبره لأنه ليس بواجب عليه فإما أن يوكل من يقبضها منه عند حولها وإما أن يؤخرها إلى الحول الثاني
فصل :
ويؤمر الساعي بتفريق الصدقة في بلدها لقول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : [ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ] ولا يجوز نقلها عنهم إلى بلد تقصر فيه الصلاة لذلك ولأن نقلها عنهم يفضي إلى ضياع فقرائهم فإن نقلها رب المال ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجزئه لأنه حق واجب لأصناف بلد فلم يجزئ إعطاؤها لغيرهم كالوصية لأصناف بلد
والأخرى : يجزئه لأنهم من أهل الصدقات فإن استغنى عنها أهل بلدها جاز نقلها لما روي أن معاذا بعث إلى عمر صدقة من اليمن فأنكر عمر ذلك وقال : لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس وترد في فقرائهم فقال معاذ : ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه مني رواه أبو عبيد في كتاب الأموال فإن كان مال الرجل غائبا عنه زكاه في بلد المال فإن كان متفرقا زكى كل مال حيث هو فإن كان نصابا من السائمة ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه في كل بلد من الرفض بقدر ما فيه من المال لئلا تنقل زكاته إلى غير بلده
والثاني : يجزئه الإخراج في بعضها لئلا يفضي إلى تشقيص زكاة الحيوان وإن كان ماله تجارة يسافر به قال أحمد رضي الله عنه : يزكيه في الموضع الذي أكثر مقامه فيه
وعنه : يعطي بعضه في هذا البلد وبعضه في هذا وقال القاضي : يخرج زكاته حيث حال حوله لأن المنع هذا يفضي إلى تأخير الزكاة وإن كان ماله في بادية فرق زكاته في أقرب البلاد إليها
فصل :
إذا احتاج الساعي إلى نقل الصدقة استحب أن يسم الماشية لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسمها و لأن الحاجة تدعو إلى ذلك لتمييزها عن غنم الجزية و الضوال ولترد إلى مواضعها إذا شردت ويسم الإبل والبقر في أصول أفخاذها لأنه موضع صلب يقل ألم الوسم فيه وهو قليل الشعر فتظهر السمة ويسم الغنم في آذانها فيكتب عليها : لله أو زكاة وإن وقف من الماشية في الطريق شيء أو خاف هلاكه جاز بيعه لأنه موضع ضرورة وأن باع لغير ذلك فقال القاضي : البيع باطل وعليه الضمان لأنه متصرف بالإذن ولم يؤذن له في ذلك ويحتمل الجواز لأن قيس بن أبي حازم روى أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فسأل عنها فقال المصدق : إني ارتجعتها بإبل فسكت رواه سعيد بن منصور ومعنى الارتجاع أن يبيعها ويشتري بثمنها غيرها

باب ذكر الأصناف الذين تدفع الزكاة لهم
وهم ثمانية ذكرهم الله تعالى في قوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم }
فلا يجوز صرفها إلى غيرهم من بناء مساجد أو إصلاح طريق أو كفن ميت لأن الله تعالى خصهم بها بقوله : { إنما } وهي للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه ولا يجب تعميمهم بها
وعنه : يجب تعميمهم التسوية بينهم وأن يدفع من كل صنف إلى ثلاثة فصاعدا لأنه أقل الجمع إلا العامل فإن ما يأخذه أجره فجاز أن يكون واحدا وإن تولى الرجل إخراجها بنفسه سقط العامل وهذا اختيار أبي بكر لأن الله تعالى جعلها لهم بلام التمليك وشرك بينهم بواو التشريك فكانت بينهم على السواء كأهل الخمس والأول : المذهب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ : [ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم ] أمر بردها من صنف واحد وقال لقبيصة لما سأله في حمالة : [ أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ] وهو صنف واحد وأمر بني بياضة بإعطاء صدقاتهم سلمة بن صخر وهو واحد فتبين بهذا أن مراد الآية بيان مواضع الصرف دون التعميم ولذلك لا يجب تعميم كل صنف ولا التعميم بصدقة واحد إذا أخذها الساعي بخلاف الخمس
فصل :
إذا تولى القسمة بدأ بالساعي فأعطاه عمالته لأنه يأخذ عوضا فكان حقه آكد ممن يأخذ مواساة وللإمام أن يعين أجرة الساعي قبل بعثه وله أن يبعثه من غير شرط لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عمر رضي الله عنه ساعيا ولم يجعل له أجرة فلما جاء أعطاه فإن عين له أجرة دفعها إليه وإلا دفع إليه أجرة مثله ويدفع منها أجرة الحاسب والكاتب والعداد والسائق والراعي والحافظ والحمال و الكيال ونحو ذلك لأنه من مؤنتها فقدم على غيره
فصل :
والفقراء والمساكين صنفان وكلاهما يأخذ لحاجته إلى مؤنة نفسه والفقراء أشد حاجة لأن الله تعالى بدأ بهم والعرب إنما تبدأ بالأهم فالأهم ولأن الله تعالى قال : { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } فأخبر أن لهم سفينة يعملون بها ولأن النبي صلى الله عليه و سلم استعاذ من الفقر وقال : [ اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ] رواه الترمذي فدل على أن الفقراء أشد فالفقير من ليس له ما يقع موقعا من كفايته من مكسب ولا غيره والمسكين الذي له ذلك فيعطى كل واحد منهما ما تتم به كفايته وإذا ادعى الفقر من لم يعرف بغنى قبل قوله بغير يمين لأن الأصل عدم المال وإن ادعاه من عرف غناه لم يقبل إلا ببينة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاث من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوما من عيش أو سدادا من عيش ] رواه مسلم وإن رآه جلدا وذكر أنه لا كسب له أعطاه من غير يمين لما روى عبيد الله بن عدي بن الخيار : أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقسم الصدقة فسألاه شيئا فصعد بصره فيهما وصوبه وقال لهما : [ إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ] رواه أبو داود
وإن ادعى أن له عيالا : فقال القاضي و أبو الخطاب : يقلد في ذلك كما قلد في حاجة نفسه
وقال ابن عقيل : لا يقبل إلا ببينة لأن الأصل عدم العيال فلا تتعذر إقامة البينة عليهم وإن كان لرجل دار يسكنها أو دابة يحتاج إلى ركوبها أو خادم يحتاج إلى خدمته أو بضاعة يتجر بها أو ضيعة يستغلها أو سائمة يقتنيها ولا يقوم بكفايته فله أخذ ما تتم به الكفاية ولا يلزم بيع شيء من ذلك قل أو كثر
فصل :
الصنف الرابع : المؤلفة وهم السادة المطاعون في عشائرهم وهم ضربان : كفار ومسلمون فالكفار من يرجى إسلامهم أو يخاف شرهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه ترغيبا له في الإسلام
والمسلمون أربعة أضرب :
منهم من له شرف يرجى بإعطائه إسلام نظيره فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أعطى عدي بن حاتم ثلاثين فريضة من الصدقة وأعطى الزبرقان بن بدر مع ثباتهما وحسن نيتهما
الثاني : ضرب نيتهم ضعيفة في الإسلام فيعطون لتقوى نيتهم فيه فإن أنسا قال حيى أفاء الله على رسوله أموال هوزان طفق رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل وقال : [ إني أعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتالفهم ] متفق عليه
الثالث : قوم إذا أعطوا قاتلوا ودفعوا عن المسلمين
الرابع : قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف هؤلاء يجوز الدفع إليهم من الزكاة لأنهم داخلون في اسم المؤلفة وقد سمى الله تعالى لهم سهما
وروى حنبل عن أحمد رضي الله عنه أن حكمهم انقطع لأن عمر وعثمان رضي الله عنهما لم يعطياهم شيئا والمذهب الأول فإن سهمهم ثبت بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ولا يثبت النسخ بالاحتمال وترك عمر وعثمان عطيتهم وإنما كان لغناهم عنهم والمؤلفة إنما يعطون للحاجة إليهم فإن استغني عنهم فلا شيء لهم
فصل :
الخامس : الرقاب وهم المكاتبون يعطون ما يؤدونه في كتابتهم ولا يقبل قوله : إنه مكاتب إلا ببينة لأن الأصل عدمها فإن صدقه المولى ففيه وجهان :
أحدهما : يقبل لأن السيد يقر على نفسه
والثاني : لا يقبل لأنه متهم في أن يواطئه ليأخذ الزكاة بسببه وللسيد دفع زكاته إلى مكاتبه لأنه معه في باب المعاملة كالأجنبي ويجوز أن يردها المكاتب إليه لأنه يأخذها وفاء عن دينه فأشبه الغريم ولا يزاد المكاتب على ما يوفي كتابته ويجوز أن يدفع إليه قبل حلول النجم لئلا يحل وهو معسر فتنفسخ كتابته وهل يجوز الإعتاق من الزكاة فيه روايتان :
أحدهما : يجوز لأنه من الرقاب فيدخل في الآية فعلى هذا يجوز أن يعين في ثمنها وأن يشتريها كلها من زكاته ويعتقها ولا يجوز أن يشتري ذا رحمه المحرم عليه فإن فعل عتق عليه ولم تسقط الزكاة لأن عتقه حصل بسبب غير الإعتاق من الزكاة ويجوز أن يفتك منها أسيرا مسلما لأنه فك رقبته من الأسر
والرواية الثانية : لا يجوز الإعتاق منها لأن الآية تقضي الدفع إلى الرقاب لقوله : { في سبيل الله } يريد الدفع إلى المجاهدين والعبد لا يدفع إليه
فصل :
السادس : الغارمون وهم ضربان : ضرب غرم لإصلاح ذات البين وهو من يحمل دية أو مالا لتسكن فتنة وإصلاح بين طائفتين فيدفع إليه من الصدقة ما يؤدي حمالته وإن كان غنيا لما روى قبيصة بن مخارق قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أسأله فيها فقال : [ أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ثم قال : يا قبيصة إن الصدقة لا تحل إلا لثلاث رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ] رواه مسلم ولأنه يأخذ لمصلحة المسلمين فجاز له الأخذ مع الغنى كالغازي
الضرب الثاني : من غرم لمصلحة نفسه في مباح فيعطى من الصدقة ما يقضي غرمه ولا يعطي مع الغنى لأنه يأخذ لحاجة نفسه فلم يدفع إليه مع الغنى كالفقير وإن غرم في معصية لم يدفع إليه قبل التوبة لأنه لا يؤمن أن يستعين بها في المعصية وفي إعطائه بعد التوبة وجهان :
أحدهما : يعطى لأنه يأخذ لتفريغ ذمته لا لمعصية فجاز كإعطائه لفقره
والثاني : لا يعطى لأنه لا يؤمن عوده إلى المعصية ولا يقبل قوله : إنه غارم إلا ببينة فإن صدقه الغريم فعلى وجهين ويجوز للرجل دفع زكاته إلى غريمه وأخذها منه لما ذكرنا في المكاتب
فصل :
السابع : في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان إذا نشطوا غزوا ويعطون قدر ما لا يحتاجون إليه لغزوهم من نفقة طريقهم وإقامتهم وثمن السلاح والخيل إن كانوا فرسانا وما يعطون السايس وحمولتهم إن كانوا رجالا مع الغنى لأنهم يأخذون لمصلحة المسلمين ولا يعطى الراتب في الديوان لأنه يأخذ قدر كفايته من الفيء وفي الحج روايتان :
إحداهما : هو من سبيل الله فيعطى من الصدقة ما يحج به حجة الإسلام أو يعينه فيها مع الفقر لما روي أن رجلا جعل ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : [ اركبيها فإن الحج في سبيل الله ] رواه أبو داود
والثانية : لا يجوز ذلك لأن سبيل الله إذا أطلق إنما يتناول الغزو ولأنه لا مصلحة للمسلمين في حج الفقير ولا حاجة به إلى إيجاب الحج عليه فلم يدفع إليه كحج النفل
فصل :
الثامن : ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به وله اليسار في بلده فيعطى من الصدقة ما يبلغه فأما المنشئ للسفر من بلده فليس بابن سبيل لأن السبيل الطريق وابنها الملازم لها الكائن فيها والقاطن في بلده ليس بمسافر ولا له حكم المسافر فإن كان هذا فقيرا أعطي لفقره وإلا فلا ومن كان سفره لمعصية فهل يدفع إليه بعد التوبة ما يرجع به ؟ على وجهين كما ذكرنا فيمن غرم لمعصية
فصل :
ولا يدفع إلى واحد منهم أكثر مما يدفع به حاجته فلا يزاد الفقير والمسكين على ما يغنيهما ولا العامل على أجرته ولا المؤلفة على ما يحصل به التأليف ولا الغارم والمكاتب على ما يقضي دينهما ولا الغازي على ما يحتاج إليه لغزوه ولا ابن السبيل على ما يوصله بلده لأن الدفع لحاجة فوجب أن يتقيد بها وإن اجتمع في واحد سببان كالغارم الفقير دفع إليه بهما لأن كل واحد منهما سبب للأخذ فوجب أن يثبت حكمه حيث وجد
فصل :
وأربعة يأخذون أخذا مستقرا لا يرجع عليهم بشيء الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة وأربعة يأخذون أخذا مراعى الرقاب و الغارمون والغزاة وابن السبيل إن صرفوه فيما أخذوا له وإلا استرجع منهم وإن فضل مع المكاتب شيء بعد أداء كتابته أو مع الغارم بعد قضاء غرمه أو مع الغازي بعد غزوه أو مع ابن السبيل بعد وصوله إلى بلده استرجع منهم أو استغنوا عن الجميع ردوه وإن عجز المكاتب رجع على سيده بما أخذ لأن الدفع إليهم لمعنى لم يوجد
وقال الخرقي : إذا عجز المكاتب ورد في الرق وقد كان تصدق عليه بشيء فهو لسيده وأربعة يأخذون مع الغنى الغازي والعامل والغرم للإصلاح والمؤلفة لأنهم يأخذون لحاجتنا إليهم والحاجة توجد مع الغنى و سائرهم لا يعطون إلا مع الفقر لأنهم يأخذون لحاجتهم فاعتبر ذلك فيهم إلا أن ابن السبيل تعتبر حاجته في مكانه وإن كان له مال في بلده لأنه غير مقدور عليه فهو كالمعدوم ولا يستحب إعلام الآخذ أنها زكاة إذا كان ظاهره الاستحقاق لأن فيه كسر قلبه قال أحمد : لا يبلغه بها يعني : لا يعلمه فإن شك في استحقاقه أعلمه كما أعلم النبي صلى الله عليه و سلم الرجلين الجلدين

باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه
وهم ستة أصناف : الكافر لا يجوز الدفع إليه لغير التأليف لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ] ولأنها مواساة تجب على المسلم فلا تجب للكافر كالنفقة
الثاني : المملوك لأن ما يعطاه يكون لسيده ولأن نفقته على سيده فهو غني بغناه
الثالث : بنو هاشم لا يعطون منها إلا لغزو أو حمالة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما الصدقة أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد وآل محمد ] وسواء أعطوا حقهم من الخمس أو منعوه لعموم الخبر ولأن منعهم لشرفهم وشرفهم باق فينبغي المنع
الرابع : مواليهم : وهم معتقوهم فحكمهم حكمهم لما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع : اصحبني كيما تصب منها فانطلق إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله فقال : [ إنا لا تحل لنا الصدقة وإن مولى القوم منهم ] وهذا حديث صحيح ولأنهم ممن يرثهم بني هاشم بالتعصيب فحرمت عليهم الصدقة كبني هاشم
وفي بني المطلب روايتان :
إحداهما : تحل لهم لأن المنع اختص بآل محمد وهم بنو هاشم فلا يلحق بهم غيرهم
والثاني : يحرم عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك أصابعه ] أخرجه البخاري [ والحديث بتمامه أخرجه الشافعي في مسنده ] ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فأشبهوا بني هاشم
الخامس : الغني لا تحل له الزكاة سوى من ذكرنا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب ] وقوله : [ لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ] وهذا حديث حسن وفي ضابطه روايتان :
إحداهما : أنه الكفاية على الدوام إما بصناعة أو مكسب أو أجرة أو نحوه اختارها أبو الخطاب وابن شهاب لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث قبيصة : [ فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سداد من عيش ] مد إباحة المسألة إلى حصول الكفاية ولأن الغنى ضد الحاجة وهي تذهب بالكفاية وتوجد مع عدمها
والثانية : أنه الكفاية أو ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب لما روى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشا أو خدوشا أو كدوحا في وجهه ] فقيل : يا رسول الله ما الغنى ؟ قال : [ خمسون درهما أو قيمتها من الذهب ] قال الترمذي : هذا حديث حسن فعلى هذه الرواية : إن كان له عيال فله أن يأخذ لكل واحد من عياله خمسين نص عليه ولو ملك عروضا تكثر قيمتها لا تقوم بكفايته جاز الأخذ رواية واحدة وإذا كان للمرأة زوج غني فهي غنية لأن كفايتها واجبة عليه وجوبا متأكدا فأما من تجب نفقته على نفسه فله الأخذ من الزكاة لأن استحقاقه للنفقة مشروط بفقره فيلزم من وجوبها له وجود الفقر بخلاف نفقة الزوجة ولأن وجوبها بطريق الصلة والمواساة بخلاف غيرها
السادس : من تلزمه مؤنته : كزوجته ووالديه وإن علوا وأولاده وإن سفلوا الوارث منهم وغيره ولا يجوز الدفع إليهم لأن في دفعها إليهم إغناء لهم عن نفسه فكأنه صرفها إلى نفسه و فيمن يرثه غير عمودي نسبه روايتان :
إحداهما : لا يدفع إليه لأن الله تعالى أوجب نفقته عليه بقوله : { وعلى الوارث مثل ذلك }
والثانية : يجوز لأنه ممن تقبل شهادته له فجاز الدفع إليه كالأجانب فإن كان محجوبا عن ميراثه أو من ذوي الأرحام جاز الدفع إليه وإن كان شخصان يرث أحدهما صاحبه دون الآخر كالعمة مع ابن أخيها فللموروث دفع زكاته إلى الوارث لأنه لا يرثه وفي دفع الوارث زكاته إلى موروثه الروايتان وهل للمرأة دفع زكاتها إلى زوجها ؟ على روايتين :
إحدهما : يجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لزينب امرأة ابن مسعود : [ زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم ] رواه البخاري ولأنه لا تلزمها نفقته فلم تحرم عليه زكاتها كالأجنبي
والثانية : لا يجوز لأنها تنتفع بدفعها إليه لوجوب نفقتها عليه وتبسطها في ماله عادة فلم يجز دفعها إليه كالولد
فصل :
ويجوز لكل واحد من هؤلاء الأخذ من صدقة التطوع لأن محمد بن علي كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة وقال : إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة ويجوز لفقراء ذوي القربى الأخذ من وصايا الفقراء والنذور لأنها صدقة تطوع بها وفي أخذهم من الكفارة وجهان
وعنه : منعهم من صدقة التطوع لعموم الخبر والأول أظهر فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل معروف صدقة ] حديث صحيح ويجوز اصطناع المعروف إليهم وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل ابتاعها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إلى الغني ] رواه أبو داود ولو أهدى المسكين مما تصدق به عليه إلى الهاشمي حل له لأن النبي صلى الله عليه و سلم أكل مما تصدق به على أم عطية نسيبة وقال : إنها قد بلغت محلها متفق عليه
فصل :
وإذا دفع رب المال الصدقة إلى غني يظنه فقيرا ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجزئه لأنه دفعها إلى غير مستحقها فأشبه دفع الدين إلى غير صاحبه
والثانية : يجزئه لأن النبي صلى الله عليه و سلم اكتفى بالظاهر لقوله للرجلين : [ إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني ] وهذا يدل على أنه يجزئ ولأن الغنى يخفى فاعتبار حقيقته يشق ولهذا قال الله تعالى : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } وإن بان كافرا أو عبدا أو هاشميا لم تجزئه رواية واحدة لأن حال هؤلاء لا تخفى فلم يعذر الدافع إليهم بخلاف الغني
فصل :
وإذا تولى الرجل إخراج زكاته استحب أن يبدأ بأرقابه الذين يجوز الدفع إليهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صدقتك على ذي القربى صدقة وصلة ] رواه الترمذي و النسائي ويخص ذوي الحاجة لأنهم أحق ومن مات وعليه زكاة ودين لا تتسع تركته لهما قسمت بينهما بحصصهما لأنهما تساويا في الوجوب فتساويا في القضاء

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10