كتاب : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
المؤلف : عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد

باب حكم القذف
و هو الرمي بالزنا و هو محرم و كبيرة لقول الله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اجتنبوا السبع الموبقات ] قالوا : يا رسول الله ما هي ؟ قال : [ الشرك بالله و السحر و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق و أكل الربا و أكل مال اليتيم و التولي يوم الزحف و قذف المحصنات ] متفق عليه
فصل
ويجب الحد على القاذف بشروط أربعة :
أحدهما : أن يكون مكلفا لما تقدم
و الثاني : أن يكون المقذوف محصنا لقول الله تعالى : { و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } مفهومه أن لا يجلد بقذف غير المحصن و المحصن : هو الحر المسلم العاقل العفيف عن الزنا الذي يجامع مثله فلا يجب الحد على قاذف الكافر و المملوك و الفاجر لأن حرمتهم ناقصة فلم تنتهض لإيجاب الحد و لا يجب على قاذف الجنون لأن زناه لا يوجب الحد عليه فلم يجب الحد بالقذف به كالوطء دون الفرج و لا يجب الحد على قاذف الصغير الذي لا يجامع مثله كذلك و لأنه يتيقن كذب القاذف فيلحق العار به دون المقذوف و هل يشترط البلوغ ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يشترط لما ذكرنا في المجنون
و الثانية لا يشترط بل متى قذف من يجامع مثله فعليه الحد لأنه عاقل حر عفيف يتعير بالقذف أشبه البالغ و إن قذف محبوبا أو رتقاء فعليه الحد لعموم الآية و لأن تعذر الوطء في حقهما بأمر خفي لا يعلم به فلا ينتفي العار عنه
فصل
الثالث : أن يكون القاذف والدا فإن قذف والد ولده و إن سفل فلا حد عليه أبا كان أو أما لأنها عقوبة تجب لحق الآدمي فلم تجب لولد على والده كالقصاص و لو قذف زوجته فماتت و له منها ولد أو قذفت زوجها و لها منه ولد سقط الحد لأنه لما لم يثبت له على والده بقذفه فلم يثبت له عليه بالإرث و إن كان للميت ولد آخر من غيره ثبت الحد لأنه يثبت لكل واحد من الورثة على انفراد
فصل
الرابع : أن يقذف بالزنا الموجب للحد فإن قذف بالوطء دون الفرج و القبلة لم يجب الحد به لما تقدم
و القذف صريح و كناية : فالصريح أن يقول : زنيت أو يا زاني أو زنى فرجك أو دبرك أو ذكرك و نحوه مما لا يحتمل غير القذف فهذا يجب به الحد و لا يقبل تفسيره بما يحيله لأنه صريح فيه أشبه التصريح بالطلاق و إن قال : يا لوطي فقال أكثر أصحابنا : هو صريح و قال الخرقي : إذا قال : أردت أنك من قوم لوط فلا حد عليه و هذا بعيد لأن قوم لوط أهلكهم الله فلم يبق منهم أحد و إن قال : زنى فلان و أنت أزنى منه فهو قاذف لهما لأنه وصف هذا بالزنى على وجه المبالغة لأن لفظة أفعل للتفضيل و إن قال : أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس فهو قاذف للمخاطب كذلك و ليس بقاذف لفلان لأن لفظة أفعل يستعمل للمنفرد بالفعل كقوله تعالى : { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع } و إخباره عن قوم لوط : { هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } و قال القاضي : هو قذف لهما لأن لفظة أفعل يقتضي اشتراكهما في الفعل و انفرد أحدهما بمزية و إن قال : زنأت بالهمزة فهو قذف في قول أبي بكر و أبي الخطاب لأن العامة لا تفهم منه إلا القذف و قال ابن حامد : إن كان القاذف عاميا فهو قاذف و إن كان يعلم العربية ؟ فليس بقاذف لأن معناه طلعت كما قال الشاعر :
( وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل )
و سواء قال في الجبل أو لم يقل لأن معناها لا يختلف بذلك و عدمه و إن قال لرجل : يا زانية أو لامرأة يا زاني فهو قاذف لهما لأن اللفظ صريح في الزنا و زيادة هاء التأنيث في المذكر و حذفها من المؤنث خطأ لا يغير المعنى فلم يمنع الحد كاللحن هذا قول أبي بكر و قال ابن حامد : ليس بقذف يوجب الحد لأنه يحتمل أن يريد بذلك أنك علامة في الزنا كالراية و الحفظة و إن قال لامرأة : زنيت بفتح التاء و لرجل زنيت بكسرها فهو قاذف لهما لأنه خاطبهما بنسبة الزنا إليهما فأشبه ما لو لم يلحن و إن قذف رجلا فقال آخر : صدقت ففي المصدق وجهان :
أحدهما : يكون قاذفا لأن تصديقه ينصرف إلى الكلام الذي قبله كما لو قال لي عليك ألف قال صدقت
و الثاني : لا يكون قذفا لأنه يحتمل بتصديقه في غير هذا و إن قال : أخبرني فلان أنك تزني فكذبه الآخر فليس بقاذف لأنه إنما أخبر عن غيره فأشبه ما لو صدقه الآخر و يحتمل أنه قاذف ذكره أبو الخطاب لأنه نسب إليه الزنا و إن قال رجل لامرأة : زنيت فقالت : بك فلا حد عليهما لأنها صدقته فسقط الحد عنه و لا حد عليها لأنها لم تقذفه لأنه يتصور زناها به من غير أن يكون زانيا بأن تكون عالمة بأنه أجنبي و هو يظنها زوجته أو نائما استدخلت ذكره و نحو ذلك و إن قال : زنت يداك أو رجلاك لم يكن قاذفا في ظاهر المذهب و هو قول ابن حامد لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحد بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعينان تزنيان و زناهما النظر و اليدان تزنيان و زناهما البطش و الرجلان تزنيان و زناهما المشي يصدق ذلك الفرج أو يكذبه ] و يحتمل أن يكون قاذفا لأنه أضاف الزنا إلى عضو منه فأشبه مل لو قال : زنى فرجك و إن قال زنى بدنك ففيه وجهان :
أحدهما : هو كقوله : زنت يداك لأن الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة فلم يكن قذفا
و الثاني : عليه الحد لأنه أضاف الزنا إلى جميع البدن و الفرج منه
فصل
و أما الكتابة : فنحو قوله : يا قحبة يا فاجرة يا خبيثة أو يقول للرجل : يا مخنث أو يا نبطي يا فارسي و ليس هو كذلك أو يقول لزوجة رجل : قد فضحتيه و جعلت له قرونا و نكست رأسه أو يقول لمن يخاصمه : يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنا ما أنا بزان و لا أمي بزانية فهذا ليس صريح في القذف لأنه يحتمل الفجور و الخبث بغير الزنا و القحبة المتعرضة للزنا و إن لم تفعله و المخنث المتطبع بطباع التأنيث و سائر ما ذكرنا يحتمل غير الزنا فلم يجب به الحد مع الاحتمال و عنه : أن الحد يجب بذلك كله لما روى سالم عن أبيه : أن رجلا قال : ما أنا بزان و لا أمي بزانية فجلده عمر الحد و روى الأثرم : أن عثمان جلد رجلا قال لآخر ي ابن شامة الوذر يعرض بزنا أمه و لأن هذه الألفاظ يراد بها القذف عزفا فجرت مجرى الصريح ولأن الكناية مع القرينة كالصريح في إفادة الحكم بدليل الطلاق و العتاق كذا هاهنا و فيما إذا قال : يا نبطي قد نفاه عن نسبه فيكون قاذفا لأمه أو لإحدى جداته و إن قال لثابت النسب : لست بابن فلان فهو قذف لأمه في الظاهر من المذهب لما روي عن ابن مسعود أنه قال : لا حد إلا في اثنين قذف محصنة أو نفي رجل عن أبيه لأنه لا يكون لغير أبيه إلا بزنا أمه و يحتمل ألا يكون قذفا لأنه يحتمل أنه لا تشبهه في كرمه و أخلاقه
و إن كان الولد منفيا باللعان فليس بقذف لأن الشرع نفاه و إن قال لابنه : لست بابني فقال القاضي : ليس بقذف لأن الإنسان يغلظ لولده في القول تأديبا
فصل
ومن قال لامرأة : أكرهت على الزنا فلا حد عليه لأنه لم يقذفها بالزنا و عليه التعزير لأنه ألحق بها العار و كل موضع لا يجب فيه الحد مما ذكرنا يوجب التعزير لأنه أذى لمن لا يحل أذاه و إذا تقاصر عن الحد أوجب التعزير كالزنا فيما دون الفرج
فصل
و حد القذف ثمانين جلدة إن كان القاذف حرا لقول الله تعالى : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } وإن كان عبدا فأربعون لما روى يحيى بن سعيد الأنصاري قال : ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حازم مملوكا افترى على حر ثمانين فبلغ عبد الله ابن عامر بن ربيعة فقال : أدركت الناس زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى اليوم فما رأيت أحد ضرب المملوك المفتري ثمانين قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو و لأنه حد يتبعض فكان المملوك على النصف من الحر كحد الزنا و إن كان القاذف بعضه حر فعليه بالحساب لما ذكرنا
فصل
و الحد في القذف و التعزير الواجب بما دونه حق للمقذوف يستوفى إذا طالب و يسقط إذا عفا عنه لما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج يقول تصدقت بعرضي ] و الصدقة بالعرض لا تكون إلا بالعفو عما يجب له و لأنه جزاء جناية عليه لا يستوفى إلا بمطالبته فكان له كالقصاص و عنه : أنه حق لله تعالى أنه حد فكان حقا لله كسائر الحدود فعلى هذا لا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي و لا يسقط بعد وجوبه بالعفو كالقطع في السرقة و لو قال لغيره : اقذفني فقذفه لم يجب الحد لأنه إذن في سبه فلم يوجب الحد كالقصاص و القطع في السرقة
فصل
و إن جن من له الحد لم يكن لوليه المطالبة به لأنه يجب للتشفي و درك الغيظ فأخر إلى الإفاقة كالقصاص و إن قذف مملوكا فالطلب بالتعزير و العفو عنه له دون سيده لأنه ليس بمال و لا بدل مال فأشبه فسخ النكاح للمعتقة تحت العبد و إن مات العبد سقط لأنه لو ملكه السيد بحق الملك لملكه في حياته و العبد لا يورث و إن سمع الإمام رجلا يقذف آخر في حضرته أو غيبته لم يلزمه أن يسأل عن ذلك و يحققه لأن القذف لا يوجب حدا حتى يطالب به صاحبه و لأن الحدود تدرأ بالشبهات فلا يجب المبالغة في إثباتها
فصل
ومن قذف جماعة لا يتصور الزنا من جميعهم كأهل البلدة الكبيرة فلا حد عليه لأنه لا عار على المقذوف بذلك للقطع بكذب القاذف و إن قذف جماعة يمكن زناهم بكلمات فعليه لكل واحد حد و إن قذفهم بكلمة واحدة ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : عليه حد واحد لأن كلمة القذف واحدة فلم يجب بها أكثر من حد واحد كما لو كان المقذوف واحدا و لأنه بالحد الواحد يظهر كذبه و يزول عار القذف عن جميعهم فعلى هذا إن طلبه الجميع أقيم لهم و إن طلبه واحد أقيم له أيضا و لا مطالبة لغيره و إن أسقط أحدهم حقه لم يسقط حق غيره لأنه ثابت لهم على سبيل البدل فأشبه ولاية النكاح
و الثاني : عليه لكل واحد حد لأنه قذفه فلزمه الحد له كما لو قذفه بكلمة مفردة
و الثالث : إن طلبوه جملة فحد واحد لأنه يقع استيفاؤه لجميعهم و إن طلبوه متفرقا أقيم لكل مطالب مرة لأن استيفاء المطالب الأول له خاصة فلم يسقط به حق الباقين و إن قال لامرأة : زنى بك فلان فهي كالتي قبلها لأنه قذفهما بكلمة واحدة و يحتمل ألا يجب إلا حد واحد وجها واحدا لأن القذف لهما بزنا واحد يسقط حده ببينة واحدة و لعان واحد إن كانت المرأة زوجته
فصل
ومن وجبت عليه حدود قذف لجماعة فأيهم طالب بحده استوفي له ثم إذا طالب غيره استوفي له كالديون فإن اجتمعا في الطلب قدم أسبقهما حقا لأن السابق أولى فإن تساويا أقرع بينهما إن تشاحا و لو قال : يا زاني ابن الزانية كان قاذفا لهما بكلمتين فأيهما طالب حد له فإن اجتمعا وتشاحا حد للابن أولا لأنه بدأ بقذفه ثم يحد لأمه و متى حد مرة لم يحد لآخر حتى يبرأ ظهره لأنه لا يؤمن مع الموالاة التلف فإن كان القاذف عبدا فكذلك لأنهما حدان فأشبها حدي الحر و يحتمل أن لا يوالى بينهما و لأنهما جميعا كحد حر فيوالى بينهما كما يوالى بينه
فصل
و إن قذف واحدا مرات و لم يحد فحد واحد لأنها من جنس واحد لمستحق واحد فإذا كانت قبل الإقامة تداخلت كسائر الحدود و إن حد مرة ثم قذفه بذلك الزنا عزر و لم يحد لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر ثم أعاد أبو بكرة القذف فأراد عمر جلده فقال علي : إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبه فترك عمر جلده يعني : إن نزلته منزلة أجنبي شهد بزناه فقد كملت شهادة أربعة فإن لم تجعله كشاهد آخر فلا تحده و لأنه قد حصل التكذيب بالحد فاستغني عما سواه و إن قذفه بزنا آخر عقيب الحد ففيه روايتان :
إحداهما : يحد لأنه قذف بعد الحد لم يظهر كذبه فيه بحد فلومه الحد كما لو قذفه بعد زمن طويل
و الثانية : لا حد عليه لأنه قد حد له مرة فلا يحد له ثانيا كما لو قذفه بالزنا الأول و إن قذفه بعد طول فصل حد لأنه لا تسقط حرمة عرض المقذوف بإقامة الحد له و ذكر القاضي فيها روايتين كالتي قبلها :
فصل
و إذا قال الرجل : يا ولد الزنا أو ي ابن الزانية فهو قاذف لأمه فإن كانت حية فهو قاذف لها دونه لأن الحق لها و يعتبر فيها شروط الإحصان لأنها المقذوفة وإن كانت أمه ميتة فالقذف له لأنه قدح في نسبه و على سياق هذا لو قذف جدته ملك المطالبة بالحد لما روى الأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا أوتى برجل يقول : إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته ] لقول ابن مسعود : لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل عن أبيه فعلى هذا يعتبر الإحصان في الرجل دون أمه فلو كانت أمه ميتة أو مشركة أو أمة و هو محصن لوجب له و هذا اختيار الخرقي و قال أبو بكر : لا حد على قاذف ميت لأنه لا يطالب فلم يحد قاذفه كما لو قذف غير الأم و لا خلاف في أنه لو قذف أباه أو أخاه لم يلزمه حد لأنه لم يقدح في نسبه بخلاف مسألتنا و لو مات المقذوف قبل المطالبة بالحد لم يجب و إن مات بعد المطالبة به قام وارثه مقامه لأنه حق له يجب بالمطالبة فأشبه رجوع الأب فيما وهب لولده
فصل
و إذا شهد على إنسان بالزنا دون الأربعة فعليهم الحد لقول الله تعالى : { و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } و لأن أبا بكرة و نافعا و شبل بن معبد شهدوا على المغيرة بن شعبة و لم يكمل زياد شهادته فحد عمر رضي الله عنه الثلاثة بمحضر من الصحابة فكان ذلك إجماعا و كذلك إن لم يكمل الرابع شهادته فعليهم الحد كذلك و إن شهد ثلاثة و زوج المرأة حد الثلاثة لأن الزوج غير مقبول الشهادة على زوجته بالزنا لإقراره على نفسه بعداوتها لجنايتها عليه بإفساد فراشه و إلحاق العار به و عل الزوج الحد إلا أن يسقط عنه بلعانه وإن شهد أربعة فبانوا فساقا أو عبيدا أو عميانا أو بعضهم ففيهم ثلاث روايات :
إحداهن : عليهم الحد لأن شهادتهم بالزنا لم تكمل فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة
و الثانية : لا حد عليهم لقول الله تعالى { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } و هؤلاء أربعة و لأنه أحرزوا ظهورهم بكمال عددهم فأشبه ما لو شهد أربعة بزناها فشهد ثقات أنها عذراء
و الثالثة : إن كانوا عميانا فعليهم الحد و إن كانوا فساقا أو عبيدا فلا حد عليهم لأن الأعمى يشهد بما لا يره يقينا فيكون شاهد زور يقينا و غيرهم بخلاف ذلك و إن كان فيهم صبي أو مجنون أو من لا تقبل شهادته فكذلك و الأولى أصح لأن من لا شهادة له وجوده كعدمه فأشبه نقص العدد و لو شهد ثلاثة رجال و امرأتان حد الجميع لأن شهادة النساء في هذا الباب كعدمها
فصل
و إن شهد أربعة بالزنا ثم رجع أحدهم فعليهم الحد لأنه نقص عدد الشهود فلزمهم الحد كما لو كانوا ثلاثة و عنه : يحد الثلاثة دون الرابع اختارها أبو بكر و ابن حامد لأن رجوعه قبل الحد كالتوبة قبل تنفيذ الحكم فيسقط الحد عنه وإن رجعوا كلهم فعليهم الحد لأنهم يقرون على أنفسهم أنهم قذفة و يحتمل أن لا يجب عليهم الحد كالتي قبلها و إن شهد أربعة فلم تكمل شهادتهم لاختلافهم في المكان أو الزمان أو كونهم لم يأتوا في مجلس واحد أو لم يصفوا الزنا أو بعضهم فهم قذفة عليهم الحد لأن شهادة الأربعة لم تكمل فلومهم الحد كما لو نقص عددهم و إن شهد أربعة بالزنا على امرأة فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد على واحد منهم لأن ثبوت عذرة المرأة دليل على براءتها فينتفي الحد عنها لظهور براءتها و صدق الشهود محتمل لجواز أن يطأها ثم تعود عذرتها فانتفى الحد عنهم لاحتمال صدقهم
فصل
و إذا قذف امرأة و قال : كنت زائل العقل حين قذفتها و لم يعرف له زوال عقل قبل ذلك فالقول قولها لأن الظاهر عقله فأشبه ما لو ضرب ملفوفا و ادعى أنه كان ميتا و إن عرف له زوال عقل بجنون أو تبرسم أو نحوه فالقول قوله لأن الأصل براءته من الحد و صدقه محتمل و لأن الحد يدرأ بالشبهات و إن قال : زنيت إذ كنت مشركة أو أمة و لم تكن كذلك حد لأنه يعلم كذبه في وصفها بذلك و إن كانت مشركة أو أمة لم يحد لأنه أضاف قذفها إلى حال فيها غير محصنة و عنه : يحد حكاها أبو الخطاب لأن القذف في حال لمحصنة و إن قال : زنيت أنت مشركة و قال : أردت أنك زنيت في تلك الحال فقالت : بل قذفتني و نسبتني إلى الشرك في هذه الحال فقال القاضي : يحد لأنه خاطبها بالقذف في الحال فالظاهر إرادة القذف في الحال و اختار أبو الخطاب : أنه لا يحد لأنهما اختلفا في إرادته بكلامه و هو أعلم بمراده و اللفظ محتمل لما ادعاه بأن تكون الواو للحال و إن قال لها : زنيت ثم قال : أردت في الحال التي كنت غير محصنة و قالت : أردت قذفي في الحال حد لأنه قذفها في الحال فلا يقبل قوله فيما يحيله و إن قال : إنما كان قذفي لك قبل إحصانك و قالت : بل بعده فإن ثبت أنها كانت غير محصنة فالقول قوله لأن الأصل براءة ذمته و إن لم يثبت ذلك فالقول قولها لأن الأصل في الدار الإسلام و الحرية و كذلك إن كانت مسلمة فادعى أنها ارتدت فالقول قولها لأن الأصل بقاؤها على دينها
فصل
وإن ادعت امرأة أو زوجها قذفها فأنكر فقامت عليه ببينة فله أن يلاعن لأن إنكار القذف لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا لأن القذف الكذب و هو يدعي أنه صادق فجاز أن يلاعن كما لو ادعى عليه وديعة فقال : ما لك عندي شيء ثم ادعى تلفها قبل منه لكون إنكاره لم يمنع الإيداع كذا هاهنا

باب الأشربة
كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام لقول الله تعالى : { إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } و كل مسكر خمر فيدخل في عموم الآية و قد روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل مسكر خمر و كل خمر حرام ] رواه مسلم و أبو داود و قال عمر رضي الله عنه : نزل تحريم الخمر و هي : من العنب و التمر و العسل و الحنطة و الشعير و الخمر : ما خامر العقل متفق عليه وروت عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ] رواه أبو داود و لأنه شراب يسكر كثيره فحرم قليله كعصير العنب
فصل
وكل عصير غلى و قذف بزبده فهو حرام لما روى الشالنجي بإسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل ] و عن أبي هريرة قال : علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان صائما فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش فقال : [ اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله و اليوم الآخر ] رواه أبو داود و النسائي و لأنه إذا إلى و اشتد صار مسكرا فإن علم من شيء أنه لا يسكر كالفقاع فلا بأس بع و إن غلي لأن العلة في التحريم الإسكار فلا يثبت الحكم بدونها و إن أتى على العصير ثلاث فقال أصحابنا : يحرم و إن لم يغل للخبر و روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينبذ له الزبيب فبشربه اليوم و الغد و بعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيهراق أو يسقى الخدم و لأن الشدة تحصل في الثلاث غالبا و هي خفية تحتاج إلى ضابط و الثلاث تصلح ضابطا لها و قد قال ابن عمر : اشربه ما لم يأخذه شيطانه قال : وفي كم يأخذه شيطانه ؟ قال : في الثلاث و النبيذ كالعصير فيما ذكرنا و هو : ماء ينبذ فيه تمرات أو زبيب ليجتذب ملوحته كان أهل الحجاز يفعلونه
فصل
و يكره الخليطان و هو : أن ينبذ في الماء شيئين لما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه نهى أن ينتبذ البسر و الرطب جميعا و نهى أن ينتبذ الزبيب و التمر جميعا رواه أبو داود و في رواية و انتبذوا كل واحد على حدة قال أحمد : الخليطان حرام قال القاضي : يعني : إذا اشتد و أسكر و إنما نهي عنه لأنه يسرع إلى السكر فإذا لم يسكر لم يحرم لما روي عن عائشة قالت : كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنأخذ قبضة من تمر و قبضة من زبيب فنطرحها فيه ثن نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية و ننبذه عشية فيشربه غدوة أخرجه أبو داود و يجوز الانتباذ في الأوعية كلها لما روي عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا ] رواه مسلم
و ما لا يسكر من الدبس و الخل و رب الخروب و سائر المربيات فهو حلال لأن تخصيص المسكر بالتحريم دليل على إباحة ما سواه لأن الله تعالى قال : { أحل لكم الطيبات } و هذا منها
فصل
ومن شرب مسكرا - و هو مسلم مكلف - مختار يعلم أنها تسكر لزمه الحد لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من شرب الخمر فاجلدوه ] رواه أبو داود لأن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه جلدوا فيه الحد و في قدره روايتان :
إحداهما : أربعون لما روى حصين بن المنذر أن عليا رضي الله عنه جلد الوليد ابن عقبة في الخمر أربعين ثم قال : جلد النبي أربعين و أبو بكر أربعين و عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم
و الثانية : ثمانون لما روى أنس أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن : اجعله كأخف الحدود فضرب عمر ثمانين متفق عليه و كان ذلك بمحضر من الصحابة فاتفقوا عليه فكان إجماعا
و حد العبد نصف حد الحر لأنه حد يتبعض فأشبه الحد في الزنا و القذف و يجلد بالسوط و لأن عمر و عليا رضي الله عنهما جلدا بالسياط و لأنه حد فيه ضرب فكان بالسوط كحد الزنا
فصل
و لا يثبت إلا ببينة أو إقرار فالبينة شاهدان عدلان و يقبل فيه إقرار مرة لأنه حد ليس فيه إتلاف بحال فأشبه حد القذف و لا يحد بوجود الرائحة منه لأنه يحتمل أنه تمضمض بها أو ظنها لا تسكر و الحد يدرأ بالشبهات عنه : أنه يحد لأن عمر و ابن مسعود رضي الله عنهما حدا بالرائحة و إن وجد سكران أو تيقنا المسكر فعن أحمد : أنه لا يحد لأنه يحتمل أن يكون مكرها أو ظن أنها لا تسكر و على الرواية التي يحد بالرائحة يجب أن يحد هاهنا لأن حصينا قال : شهدت عثمان و أتي بالوليد ابن عقبة فشهد عليه حمران و رجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه شربها و شهد الآخر أنه رآه يتقيأها فقال عثمان : إنه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي : أقم عليه الحد ففعل و قال عثمان : لقد تنطعت في الشهادة

باب إقامة الحد
لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا للإمام أو نائبه لأنه حق الله تعالى و يفتقر إلى الاجتهاد و لا يؤمن في استيفائه الحيف فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه و لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقيم الحد في حياته ثم خلفاؤه بعده و لا يلزم الإمام حضور إقامته لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] و أمر برجم ماعز و لم يحضر و أتى بسارق فقال : اذهبوا فاقطعوه و جميع الحدود في هذا سواء حد القذف و غيره لأنه لا يؤمن فيه الحيف و الزيادة على الواجب و يفتقر إلى الاجتهاد فأشبه سائر الحدود إلا أن للسيد إقامة الحد على رقيقه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ] وروى علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] و لا يملك إقامته إلا بشروط أربعة :
أحدها : أن يكون مكلفا عالما بالحدود و كيفية إقامتها لأنه إذا لم يعلم لا يمكنه الإتيان به على وجهه و هل تشترط عدالته ؟ فيه وجهان :
أحدهما : تشترط لأنه ولاية فنافاها الفسق كولاية التزويج و لأنه لا يؤمن من الفاسق التعدي بزيادة أو نقص
و الثاني : لا يشترط لأنها ولاية ثبتت بالملك أشبهت ولاية التأديب و في اشتراط الذكورية وجهان كما ذكرنا في العدالة فإن قلنا : تشترط ففي أمة المرأة وجهان :
أحدهما : يفوض حدها إلى وليها كتزويجها
و الثاني : يفوض إلى الإمام كأمة الصغير و هل تشترط الحرية ؟ فيه وجهان :
ووجههما ما تقدم فإن قلنا تشترط لم يثبت لمكاتب لأنه ليس من أهل الولاية و يفوض إلى الإمام
الشرط الثاني : أن يختص بالمملوك فأما المشترك و الأمة المزوجة و المكاتبة فلا يقيم الحد عليهم إلا الإمام لأن ابن عمر قال ذلك و لا مخالف له في الصحابة و لأنه لم تكمل ولايته عليهم فأشبهوا من بعضه حر
الشرط الثالث : أن يكون الحد جلدا كحد الزنا و الشرب و القذف فأما القطع و القتل في الردة فلا يملكه لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أمر بالجلد فلا يثبت في غيره و لأن الحد تأديب فيملكه السيد كتأديبه على حقوقه و في تفويضه إليه ستر على عبده كيلا يفتضح بإقامة الإمام له فتنقص قيمته و هذا منتف في القطع و القتل و لأن فيهما إتلافا فيحتاج إلى مزيد احتياط قال القاضي : و كلام أحمد يقتضي رواية أخرى : أنه يقيمهما لعموم قوله عليه السلام : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] و لأن ابن عمر قطع عبدا سرق و حفصة قتلت أمة سحرتها
الشرط الرابع : أن يثبت عنده سببه بإقرار أو بينة فإن ثبت بإقرار فللسيد أن يسمعه و يقيم الحد به إذا كان عالما بشروط الإقرار و كيفيته و إن ثبت ببينة اعتبر ثبوتها عند الحاكم لأن للحاكم ولاية البحث عن العدالة و الاجتهاد فيها و معرفة شروطها بخلاف غيره و ذكر القاضي : أن السيد إن عرف شروطها و أحسن استماعها ملك سماعها و إقامة الحد بها كالإقرار و لا يقيم الحد بعلمه و رؤيته لأن الإمام لا يقيمه بعلمه فالسيد أولى و عن أحمد : أنه يقيمه بعلمه لأنه ثبت عنده أشبه ما لو أقر به عنده
فصل
و لا يقام الحد على حامل حتى تضع سواء كان الحد رجما أو غيره لأنه لا يؤمن تلف الولد و قد روى بريدة : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : إني فجرت فو الله إني لحبلى فقال لها : [ ارجعي حتى تلدي ] فرجعت فلما ولدت أتته بالصبي فقال : [ ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه ] فجاءت به و قد فطمته و في يده شيء يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين و أمر بها فحفر لها و أمر بها فرجمت رواه أبو داود فإن كان الحد قتلا فالحكم فيه على ما ذكرنا في القصاص في الحامل و إن كان جلدا و كانت عقيب الولادة قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحد و إن كانت ضعيفة أو في نفاسها فقال أبو بكر : يقام حدها بشيء يؤمن معه تلفها و لا تؤخر كالمريض
و قال القاضي : ظاهر كلام الخرقي تأخيرها حتى تطهر من نفاسها و يؤمن معه تلفها لما روي عن علي قال : فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا علي انطلق فأقم عليها الحد ] فانطلقت فإذا بها دم يسيل لم ينقطع فأتيته فأخبرته فقال : [ دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها ] رواه مسلم بنحو هذا المعنى
و لا يجلد السكران حتى يصحو لأن المقصود زجره و تنكيله و لا يحصل في حال سكره
فصل
و لا يقام الحد في المسجد جلدا كان أو غيره لما روى حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يستقاد في المسجد و أن تنشد فيه الأشعار و أن تقام فيه الحدود و لأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شيء فيتلوث به المسجد فإن أقيم به سقط الفرض لأن المقصود حاصل و المرتكب للنهي غير المحدود فلم يمنع ذلك سقوط الفرض عنه كما لو اقتص في غير المسجد
فصل
ومن أقيم عليه الحد فمات منه فالحق قتله و لا شيء على من حده جلدا كان أو غيره لأنه حد وجب لله فلم يود من مات به كالقطع في السرقة و إن زاد على الحد فمات وجب ضمانه لأنه تعدى تعديا أعان على تلفه فوجب عليه ضمانه كما لو ضربه أجنبي و في قدره روايتان :
إحداهما : الدية كلها لأنه قتل حصل بأمر من جهة الله و عدوان فكان الضمان على العادي الدية كما لو ضرب مريضا سوطا فقتله
و الثانية : نصف الدية لأنه مات بفعل مضمون و غيره فكان على العادي نصف الدية كما لو جرح نفسه و جرحه آخر فمات و سواء زاد سوطا أو أكثر وسواء زاد خطأ أو عمدا لأن الخطأ يضمن كالعمد و متى كانت الزيادة من قبل الجلاد فالضمان على عاقلته في الخطأ و شبه العمد و إن كان له من يعد عليه إما الأمام أو غيره فلم يخبره بانتهاء العدد فالضمان على من يعد لأن الخطأ منه و إن أمره الإمام بالزيادة فزاد جاهلا بتحريم الزيادة فالضمان على الإمام كما لو أمره بقتل معصوم يجهل المأمور حاله و إن علم تحريم ذلك فالضمان عليه و قال القاضي : هو على الإمام كما لو جهل الحال و متى كانت الزيادة من الإمام عمدا فالضمان على عاقلته لأنه عمد الخطأ إلا أن يكون مما يقتل غالبا فعليه في ماله لأنه عمد و إن كان خطأ ففيه روايتان :
إحداهما : الضمان على عاقلته لأنها جناية خطأ تحمل مثلها العاقلة فكانت على عاقلته كما لو أخطأ في غير الحكم
و الثانية : هي في بيت المال لأنه نائب الله تعالى فيتعلق الحكم بمال الله و لأن خطأه يكثر فإيجاب عقله على عاقلته إجحاف بهم
فصل
و إذا اجتمع عليه حدود من جنس مثل أن زنى مرات أو شرب الخمر مرات و لم يحد فحد واحد لأنها طهرة سببها واحد فتداخلت كالطهارة و إن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها أقيمت كلها لأن أسبابها مختلفة فلم تتداخل كالطهارات المختلفة و يبدأ بالأخف فالأخف لأننا إذا بدأنا بالأغلظ لم نأمن أن يموت فيموت به سائرها و أخفها حد الشرب إن قلنا : هو أربعون فيبدأ به ثم بحد القذف و إن قلنا : هو ثمانون بدئ بحد القذف لأنه كحد الشرب في عدده و يرجح لكونه حق آدمي ثم بحد الشرب ثم بحد للزنا ثم بقطع للسرقة و لا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول لأننا لا نأمن من تلفه بموالاتها و المقصود زجره لا قتله و إن اجتمع قطع السرقة و قطع المحاربة قطعت يده لهما لأن محلهما واحد ثم تقطع رجله في الحال لأن قطعهما حد واحد فتجب الموالاة فيه كالجلدات في الزنا فأما إن كان في الحدود لله تعالى قتل كالرجم في الزنا أو القتل للمحاربة قتل وسقط سائرها لأن ذلك يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه و لأنها حدود لله تعالى فيها قتل فاجتزئ به عنها كما لو قطع في المحاربة و أخذ المال و لأن زجره يحصل بالقتل فلا حاجة إلى غيره
فصل
و إن اجتمعت حدود للآدميين استوفيت كلها سواء كان فيها قتل أو لم يكن و يبدأ بأخفها لما ذكرنا و إن اجتمعت حدود لله تعالى و للآدمي و لا قتل فيها استوفيت كلها إلا أن يتفق الحقان في محل واحد كالقطع للقصاص و السرقة فإنه يقدم القصاص لأنه حق آدمي و يسقط الحد لفوات محله و إن كان فيها قطع سقط ما سواه من حدود الله و تستوفى حقوق الآدميين ثم يقتل لما ذكرناه
فصل
و الضرب في الزنا أشد منه في سائر الحدود لأن الله تعالى خصه بمزيد تأكيد بقوله تعالى : { و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } و لأن الفاحشة به أعظم فكانت عقوبته أشد ثم بعده الضرب في حد القذف لأنه يليه في العدد و هو حق آدمي ثم الضرب في الشرب لأنه أخف الحدود و هو محض خق الله تعالى ثم التعزير لأنه لا يبلغ به الحد و ذكر الخرقي : أن العبد يضرب بدون سوط الحر لأن حده أقل عددا فيكون أخف سوطا كالشرب مع الزنا و يحتمل التسوية بينهما في السوط لأن الله تعالى قال : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } و لا بتحقق النصف إذا نصفنا العدد إلا مع تساوي السوطين
فصل
و يضرب في جميع الحدود بسوط وسط لا جديد و لا خلق لما روي أن رجلا اعترف عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بالزنا فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال [ فوق هذا ] و أتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته فقال : [ بين هذين ] رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا و قال علي رضي الله عنه : ضرب بين ضربين و سوط بين سوطين و هكذا الضرب يكون وسطا لا شديد فيقتل و لا ضعيف فلا يردع و لا يرفع باعه كل الرفع و لا يحطه كل الحط قال أحمد رضي الله عنه : لا يبدي إبطه في شيء من الحدود يعني : لا يبالغ في رفع يده لأن المقصود أدبه لا قتله

باب التعزير
وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها و لا كفارة كوطء جاريته المشتركة أو المزوجة و مباشرة الأجنبية فيما دون الفرج و سرقة ما لا يوجب الحد و الجناية بما لا يوجب القصاص و نحوه لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن قول الرجل للرجل : يا فاسق يا خبيث قال : هن فواحش فيهن تعزير ليس فيهن حد ويجوز بالضرب و التوبيخ و بالحبس و لا يجوز قطع شيء من أعضائه و لا جرحه لأنه لم يرد الشرع بذلك و لا يتعين الجلد إلا في وضعين :
أحدهما : إذا وطئ جارية زوجته بإذنها فإن يجلد مائة لما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير
و الثاني : إذا وطئ الأمة المشتركة فإنه يجلد مائة إلا سوطا لما روى سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطا و لا تقدير فيما عداهما إلا أنه لا يزاد على عشر جلدات لما روى أبا بردة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ و لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ] متفق عليه و عنه أن وطء الجارية المشتركة لا يزاد فيه على عشر جلدات للخبر و عنه : ما يدل على أن ما كان سببه الوطء يجلد مائة إلا سوطا لخبر عمر و ما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود فلا يعزر الحر بما يجلد به في الخمر و لا يبلغ بالعبد حده لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ]
فصل
و يجب التعزير في الموضعين اللذين ورد الخبر فيهما و ما عداهما يفوض إلى اجتهاد الإمام لما روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها فقال : [ أصليت معنا ] ؟ قال : نعم فتلا عليه : { إن الحسنات يذهبن السيئات } فإن جاء تائبا معترفا يظهر منه الندم و الإقلاع جاز ترك تعزيره للخبر و إن لم يكن كذلك وجب تعزيره لأنه أدب مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد
فصل
و إن مات من التعزير لم يجب ضمانه لأنه مات من عقوبة مشروعة للردع و الزجر فلم يضمن ما تلف بها كالحد و إن تجاوز التعزير المشروع ضمن كما لو تجاوز الحد في الحد

باب دفع الصائل
كل من قصد إنسانا في نفسه أو أهله أو ماله أو دخل منزله بغير إذنه فله دفعه لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد ] رواه الخلال بإسناده و قال الحسن : من عرض لك في مالك فقاتله فإن قتلته فإلى النار و إن قتلك فشهيد و لأنه لو لم يدفعه لاستولى قطاع الطرق على أموال الناس و استولى الظلمة و الفساق على أنفس أهل الدين و أموالهم و لا يجب الدفع لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الفتنة : [ اجلس في بيتك فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك ] و في لفظ [ فكن كخير ابني آدم ] و في لفظ [ فكن عبد الله المقتول و لا تكن عبد الله القاتل ] و لأن عثمان رضي الله عنه لم يدفع عن نفسه إلا أن يراد أهله فيجب الدفع لأنه لا يجوز إقرار المنكر مع إمكان دفعه و للمسلمين عون المظلوم و دفع الظالم لقول الله تعالى : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ] قال : كيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال : [ ترده عن ظلمه ] و قوله عليه السلام : [ المؤمنون يتعاونون على الفتان ] و لأنهم لو لم يتعاونوا على دفع الظلم لقهرهم الظلمة و قطاع الطريق
فصل
و يدفع الصائل بأسهل ما يمكن الدفع به فإن أمكن دفعه بيده لم يجز ضربه بالعصا وإن اندفع بالعصا لم يجز ضربه بحديدة و إن أمكن دفعه بقطع عضو لم يجز قتله و إن لم يمكن إلا بالقتل قتله و لم يضمنه لأنه قتل بحق فلم يضمنه كالباغي و إن قتل الدافع فهو شهيد و على الصائل ضمانه للخبر و لأنه قتل مظلوما فأشبه ما لو قتله في غير الدفع فإن أمكنه دفعه بغير قطع شيء منه فقطع منه عضوا ضمنه و إن أمكنه دفعه بقطع عضو فقتله أو قطع زيادة على ما يندفع به ضمنه لأنه جنى عليه بغير حق أشبه الجاني ابتداء و لأنه معصوم أبيح منه ما يندفع به شره ففيما عداه يبقى على العصمة فإذا ضربه فعطله لم يجز أن يضربه أخرى لأنه قد انكف أذاه وهو المقصود وإن قطع يده فولى عنه فضربه فقطع رجله ضمن رجله لأنها قطعت بغير حق و لم يضمن اليد لأنها قطعت بحق وإن مات منهما فلا قصاص في النفس لأنه من مباح و محظور و يضمن نصف ديته
فصل
وإن عض يد إنسان فانتزعها من فيه فانقلعت ثناياه لم يضمنها لما روى عمران بن حصين أن يعلى بن أمية قاتل رجلا فعض أحدهما يد صاحبه فانتزع يده من فيه فانتزع ثنيته فاختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له ] متفق عليه و لأن فعله ألجأه إلى الإتلاف فلم يضمنه كما لو رماه بحجر فعاد عليه فقتله
و إن أراد رجل امرأة فقتلته دفعا عن نفسها لم تضمنه نص عليه أحمد و ذكر حديثا عن عبيدة بن عمير أن رجلا ضاف ناسا من هذيل فأراد رجل منهم امرأة عن نفسها فرمته بحجر فقتلته فقال عمر و الله لا يودى أبدا و لو وجد رجل رجلا يزني بامرأته فقتلهما لم يضمنهما لما روى سعيد بإسناده عن إبراهيم أن قوما قالوا لعمر : ي أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر : ما يقول هؤلاء ؟ قال : ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف فإن كان بينهما أحد فقد قتله فقال له عمر : ما تقول ؟ قالوا : ضرب بسيفه فقطع فخذي المرأة فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنين فقال عمر : إن عادوا فعد إلا أن تكون المرأة مكرهة فلا يحل قتلها و إن قتلها ضمنها لأنه قتلها بغير حق
فصل
و من اطلع في بيت غيره من ثقب أو شق باب أو باب غير مفتوح فرماه صاحب البيت بحصاة أو طعنه بعود فقلع عينه لم يضمنها لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ] و عن سهل بن سعد : أن رجلا اطلع في جحر من باب النبي صلى الله عليه و سلم و رسول الله صلى الله عليه و سلم يحك رأسه بمدرى في يده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو علمت أنك تنظرني لطعنت بها في عينك ] متفق عليهما ظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر أن لا يمكن دفعه إلا بذلك لظاهر الخبر قال ابن حامد يدفعه أولا بأسهل ما يمكن دفعه به كالصائل سواء و ليس له رميه بحجر كبير يقتله و لا بحديدة فإن فعل ضمنه لأنه إنما يملك ما يقلع بع العين المبصرة التي حصل الأذى منها فإن لم يمكن دفعه بالشيء اليسير جاز بالكبير حتى يأتي ذلك على نفسه و لا ضمان عليه لأنه تلف بفعل جائز و سواء كان في البيت حرمة ينظر إليها أو لم يكن لعموم الخبر
و إن كان المطلع أعمى لم يجز رميه لأنه لا ينظر فصار وجهه كقفا غيره
وإن اطلع ذو محرم لأهله لم يجز رميه لأنه غير ممنوع من النظر إلا أن تكون المرأة متجردة فيجوز رميه لأنه يحرم عليه النظر إليها متجردة كالأجنبي و لو تجرد إنسان في طريق لم يجز له رمي من نظر إليه لأنه هتك نفسه بتجرده في غير موضع التجرد
فصل
وإن صالت عليه بهيمة فله دفعها بأسهل ما تندفع به فإن لم يمكن إلا بالقتل فقتلها لم يضمنها لأنه إتلاف بدفع جائز فلم يضمنه كدفع الآدمي الصائل و لأنه حيوان قتله لدفع شره أشبه الآدمي
فصل
ومن قتل إنسانا أو بهيمة أو جنى عليهما و ادعى أنه فعل ذلك للدفع عن نفسه أو حرمته أو قتل رجلا و امرأته و ادعى أنه وجده معها فأنكر الولي فالقول قول الولي و له القصاص لما روي أن عليا رضي الله عنه سئل عن رجل قتل امرأته و رجلا معها و ادعى أنه وجدها معها وادعى أنه وجده معها فقال علي : إن جاء بأربعة شهداء و إلا دفع برمته و لأن القتل متحقق و ما يدعيه خلاف الظاهر و إن أقام بينة أنه قصده بسلاح مشهور فضربه هذا لم يضمنه لأن الظاهر أنه قصد قتله وإن شهدت أنه دخل بسلاح غير مشهور لم يسقط الضمان لأنه ليس هاهنا ما يدفعه
فصل
ومن اقتنى كلبا عقورا فأطلقه حتى عقر إنسانا أو دابة أو اقتنى هرة تأكل الطيور فأكلت طير إنسان ضمنه لأنه مفرط باقتنائه و ترك حفظه وإن دخل إنسان داره بغير إذنه فعقره الكلب لم يضمنه لأنه متعد بالدخول متسبب إلى إتلاف نفسه فلم يضمنه كما لو سقط في بئر فيها
فصل
وما أتلفت البهائم من الزرع ليلا فضمانه على صاحبها و ما أتلفت منه نهارا لم يضمنه إلا أن تكون يده عليها لما روى الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة : أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن على أهل الأموال حفظها بالنهار و ما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم رواه أبو داود و لأن عادة أهل المواشي لإرسالها بالنهار للرعي و حفظها ليلا و عادة أهل الحوائط حفظها نهارا دون الليل فكان التفريط من تارك الحفظ في وقت عادته و ذكر القاضي : أنه متى لم يكن في القرية مرعى إلا بين زرعين لا يمكن حفظ الزرع فيه من البهيمة كساقية و نحوها فليس لصاحبه إرسالها ليلا و لا نهارا فإن فعل فهو مفرط و عليه الضمان و متى كان التفريط في إرسال البهيمة من غير المالك مثل أن أرسلها غيره أو فتح بابها لص أو غيره فالضمان عليه دون المالك لأنه سبب الإتلاف
فصل
و إن أتلفت البهيمة غير الزرع و لا يد لصاحبها عليها لم يضمنه ليلا كان أو نهارا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ العجماء جبار ] يعني هدرا لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة فلم يجب حفظها عنه فإن ابتلعت جوهرة إنسان فطلب ذبحها ليأخذ جوهرته فعليه ضمان ما نقص بالذبح لأنه فعل ذلك لتخليص ماله و ليس على صاحب البهيمة ضمان نقص الجوهرة لأنها نقصت بفعل غير مضمون و إن كانت يد صاحبها عليها ضمن الجوهرة لأن فعلها منسوب إليه و يخير بين ذبحها ورد الجوهرة و أرش نقصها و بين غرمها بقيمتها كمن غصب خيطا فخاط به جرح حيوان فإن عاد فذبحها رد الجوهرة إلى صاحبها و استرجع القيمة كما لو غصب عبدا فأبق فرد قيمته ثم قدر عليه

كتاب الجهاد
وهو فرض لقول الله تعالى : { كتب عليكم القتال } و قوله سبحانه : { انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله } و قوله تعالى { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } و هو من فروض الكفايات إذا قام به من فيه كفاية سقط عن الباقين لقول الله سبحانه : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر و المجاهدون في سبيل الله } إلى قوله : { و كلا وعد الله الحسنى } و لو كان فرضا على الجميع لما وعد تاركه الحسنى و قال سبحانه : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } و لأنه لو فرض على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة و طلب المعاش و العلم فيؤدي إلى خراب الأرض و هلاك الخلق و لا يجب إلا بشروط خمسة :
أحدهما : التكليف فلا يجب على صبي و لا مجنون و لا كافر لما تقدم و لأن هذه من شرائط التكليف بسائر الفروع و قد روي عن ابن عمر أنه قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد و أنا ابن أربع عشر سنة فلم يجزني في المقاتلة متفق عليه
و لأن المجنون لا يستطيع الجهاد و الكافر غير مأمون و الصبي ضعيف البنية
الثاني : السلامة من الضرر لقوله سبحانه : { غير أولي الضرر } و هو العمى و العرج و المرض و الضعف لقول الله سبحانه : { ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج } و قوله تعالى : { ليس على الضعفاء و لا على المرضى و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } و من كان في بصره سوء يمنعه من رؤية عدوه و ما يتقيه من سلاح لم يلزمه الجهاد لأنه في معنى الأعمى في عدم إمكان القتال و إن لم يمنعه من ذلك لم يسقط عنه فرضه و يجب على الأعشى الذي يبصر في النهار دون الليل و على الأعور لأنهما يتمكنان من القتال و لا يجب على أقطع اليد أو الرجل لأنه إذا سقط عن الأعرج فالأقطع أولى و لأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي و اليدين ليتقي بأحدهما و يضرب بالأخرى و الأشل كالأقطع و من أكثر أصابعه ذاهب أو إبهامه أو ما لا تبقى منفعة إليه بعد ذهابه فهو كالأقطع كذلك ومن كان عرجه يسيرا أو مرضه يسيرا لا يمنعه الركوب و المشي و العدو و القتال لم يسقط عنه الجهاد لأنه متمكن منه
الثالث : الحرية فلا يجب على العبد لقوله سبحانه : { و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } و العبد لا يجد ما ينفق و لأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم يجب على العبد كالحج
الرابع : الذكورية : فلا يجب على المرأة لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قلت : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ قل : [ جهاد لا قتال فيه الحج و العمرة ] و لأن الجهاد القتال و المرأة ليست من أهله لضعفها و خورها و لا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا
الخامس : الاستطاعة لقول الله تعالى : { و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } و لأنه يحتاج إلى قطع مسافة فأشبه الحج و إن كان القتال قريبا من البلد لم يشترط ذلك لأنه لا يحتاج إلى ركوب و لا نفقة طريق و الاستطاعة : وجدان الزاد و السلاح و آلة القتال و مركوب يبلغه إذا كان على مسافة القصر لقول الله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون }
فصل
و يتعين الجهاد في موضعين :
إحداهما : إذا التقى الزحفان تعين الجهاد على من حضر لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } و قوله سبحانه : { إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } الآية
الثاني : إذا نزل الكفار ببلد المسلمين تعين على أهله قتالهم و النفير إليهم و لم يجز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل و المكان و المال و من يمنعه الأمير الخروج لقول الله تعالى : { انفروا خفافا و ثقالا } و لأنهم في معنى حاضر الصف فتعين عليهم كما تعين عليه
فصل
و أقل مل يفعله الجهاد مرة في كل عام لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام مرة و هي بدل عن النصرة فكذلك مبدلها و هو الجهاد إلا لعذر من ضعف بالمسلمين أو انتظار مدد أو مانع في الطريق من قلة علف أو غيره أو طمعه في إسلامهم بتأخير قتالهم و نحو هذا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد صالح قريشا عشر سنين و أخر قتالهم حتى نفضوا عهده و إن دعت الحاجة إلى فعله في العام أكثر من مرة و جب لأنه فرض كفاية فكان على حسب الحاجة
فصل
و من كان أحد أبويه مسلما لم يجز له الجهاد إلا بإذنه لما روى ابن العباس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أجاهد ؟ قال : [ لك أبوان ] قال : نعم قال : [ ففيهما فجاهد ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح و لأن الجهاد فرض كفاية و برهما فرض عين فوجب تقديمه فإن كانا كافرين فلا إذن لهما لأن أبا بكر الصديق و أبا حذيفة بن عتبة رضي الله عنهما و غيرهما كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم و لأنهما متهمان في الدين و إن كانا رقيقين ففيه وجهان :
أحدهما : يعتبر إذنهما لأنهما كالحرين في البر و الشفقة و الدين
والثاني : لا إذن لهما لأنه لا ولاية لهما و لا نفقة و لا إذن لهما في أنفسهما ففي غيرهما أولى و لا إذن لغيرهما من الأقارب كالجدين و سائر الأقارب لأن الشرع لم يرد بذلك و لا هو في معنى المنصوص عليه لتأكيد حرمة الوالدين في البر و التقديم في الإرث و النفقة و الحجب و الولاية و غيرها و متى تعين الجهاد فلا إذن لأبويه صار فرض عين فلم يعتبر إذنهما فيه كالحج الواجب و كذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركه لأن تركه معصية و لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا يقدر على تحصيله في بلده و نحو ذلك و إن أراد سفرا غير واجب فمنعاه منه لم يجز له لما روي عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : جئت أبايعك على الهجرة و تركت أبوي يبكيان قال : [ ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ] من المسند
فصل
و لا يجوز لمن عليه دين الجهاد إلا بإذن غريمه إلا أن يقيم به كفيلا أو يعطي به رهنا أو يكون له من يقضيه عنه لما روى أبو قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله كفر الله خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله عنك خطاياك إلا الدين كذلك قال جبريل ] رواه مسلم ولأن فرض أداء الدين متعين عليه فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم غيره فيه مقامه
و المؤجل كالحال لأنه يعرض نفسه للقتل فيضيع الحق فإن كان له مال غائب فهو كالمعسر لأنه قد يتلف فيضيع الحق و إن تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لما ذكرنا في الوالدين و إن أذن له الغريم جاز له الجهاد لأن الحق له فجاز بإذنه فإن رجع عن الإذن أو أذن له أبواه في الغزو ثم رجعا أو كانا كافرين فأسلما أو رقيقين فعتقا قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج إلا بإذن مستأنف و إن كان بعده فلا إذن لهما لأنه صار متعينا فقدم لما ذكرنا
فصل
و أفضل التطوع الجهاد في سبيل الله نص عليه أحمد و ذكر له أمر الغزو فجعل يبكي و يقول : ما من أعمال البر أفضل منه و أي عمل أفضل منه ؟ و الذين يقاتلون في سبيل الله : هم الذين يدفعون عن الإسلام و عن حريمهم و قد بذلوا مهج أنفسهم الناس آمنون و هم خائفون و قد روى أبو سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : [ مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه و ماله ] متفق عليه و عن أبي هريرة قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي الأعمال أفضل ؟ أو أي الأعمال خير ؟ قال : إيمان بالله و رسوله قيل : ثم أي ؟ قال : الجهاد سنام العمل قيل : ثم أي ؟ قال : ثم حج مبرور ] حديث صحيح و لأن نفعه عظيم و خطره كبير فكان أفضل مما دونه
وغزو البحر أفضل من غزو البر لما روى أبو داود عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد و الغرق له أجر شهيدين ] و روى ابن ماجة بإسناده عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ شهيد البحر مثل شهيدي البر و المائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر و ما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله و إن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم و يغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين و لشهيد البحر الذنوب و الدين ] و لأن غزو البحر أعظم خطرا فإنه بين خطر القتل و الغرق و لا يمكنه الفرار دون أصحابه
فصل
و في الرباط فضل عظيم : و هو المقام بالثغر مقويا للمسلمين و الثغر : كل مكان يخيف العدو و يخافه قال أحمد : ليس يعدل الرباط و الجهاد شيء و عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ رباط يوم و ليلة خير من صيام شهر و قيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله و أجري عليه رزقه و أمن الفتان ] أخرجه مسلم
وعن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ] حديث صحيح و ليس لأقله و أكثره حد و تمامه أربعون يوما لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تمام الرباط أربعون يوما ] أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب و يروى ذلك عن ابن عمر و أبي هريرة رضي الله عنهم و أفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا لأنه أنفع للمسلمين و أشد خطرا و لا يستحب نقل أهله إلى الثغر المخوف نص عليه أحمد و قال : أخاف عليه الإثم لأنه يعرض ذريته للمشركين و قد قال عمر : لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر و يستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم ليكون أجمع لهم إذا حضر النفير فيبلغ الخبر جميعهم و تراهم عين الكفار فتخافهم و تخوف منهم قال الأوزاعي : لو أن لي ولاية على المساجد يعني التي في الثغر لسمرت أبوابها يريد أن تكون صلاتهم في موضع واحد
فصل
و يقاتل كل قوم من يليهم من العدو لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } و لأنهم أهم فتجب البداءة بهم إلا أن تدعو الحاجة إلى البداءة بغيرهم إما لانتهاز فرصة فيهم أو خوف الضرر بتركهم أو لمانع من قتال الأقرب فيبدأ بالأبعد لذلك و يستحب التحريض عل القتال لقول الله تعالى : { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك و حرض المؤمنين } و يستحب ذكر الله و الدعاء لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } و يستحب أن يدعو الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم لما روى سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر : [ إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بهداك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ] متفق عليه و لا تجب الدعوة نص عليه أحمد و قال : إن الدعوة قد بلغت كل أحد و لا أعرف اليوم أحدا يدعى إنما كانت الدعوة في أول الإسلام و قد روى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه و سلم أغار على بني المصطلق و هم غارون آمنون و إبلهم تسقى على الماء فقتل المقاتلة و سبى الذرية متفق عليه و إن اتفق في الجزائر البعيدة من لم تبلغه الدعوة و جبت دعوته لقول الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فلا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم
فصل
و لا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين و لا لجماعة أن يفروا من مثليهم لقول الله تعالى { الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين و إن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين } و هذا أمر بلفظ الخبر لأنه لو كان خبرا بمعناه لم يكن تخفيفا و لوقع الخبر بخلاف المخبر و الأمر يقتضي الوجوب { إلا متحرفا لقتال } و هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة أو من سفل إلى علو أو من مكان منكشف إلى مستتر أو من استقبال ريح أو شمس إلى استدبارهما و نحو ذلك مما هو أمكن له في القتال { أو متحيزا إلى فئة } ينضم إليهم ليقابل معهم لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } و سواء قربت الفئة أو بعدت لما روى ابن عمر : أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم فحاص المسلمون حيصة عظيمة و كنت فيمن حاص فلما برزنا قلنا : كيف نصنع و قد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب من الله ؟ فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا فقلنا له : نحن الفرارون فقال : [ لا بل أنتم العكارون أنا فئة كل مسلم ] أخرجه الترمذي و قال : حديث حسن و عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أنا فئة كل مسلم و قال : لو أن أبا عبيد تحيز إلي لكنت له فئة و كان عبيد بالعراق و إن كان العدو أكثر من المثلين لم تجب مصابرتهم لأن الله تعالى لما فرض مصابرة المثلين دل على إباحة الفرار من الزائد عليهما و قال ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر و من فر من ثلاثة فما فر لكن إن غلب على ظنهم الظفر فالأولى لهم الثبات ليحصل لهم الأجر و الغنيمة ومسرة المسلمين بظفرهم و إن غلب على ظنهم الهلاك بالإقامة و النجاة في الفرار فالفرار أولى لئلا يكسروا قلوب المسلمين بهلاكهم و إن ثبتوا جاز لأن لهم غرضا في الشهادة و إن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة و الانصراف فالأولى الثبات ليحصل لهم ثواب الشهداء الصابرين المقبلين و لأنه يجوز أن يظفروا فيسلموا و يغنموا فإن الله تعالى يقول : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } و إن خشوا الأسر قاتلوا حتى يقتلوا لينالوا شرف الشهادة و لا يتسلط الكفار على إهانتهم و تعذيبهم و إن استأسروا جاز لأن عاصم بن ثابت و خبيب بن عدي و زيد بن الدثنة في عشرة رهط كانوا سرية لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فعرضوا عليهم أن يستأسروا فأبوا فقتلوا عاصما في سبعة و نزل إليهم خبيب و زيد على العهد و الميثاق فلم يذم أحدا منهم و إن ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فما غلب على ظنهم السلامة فيه فالأولى فعله لأن فيهم صيانتهم عن الهلاك و إن ثبتوا جاز قال أحمد : كيف شاء صنع و إن تساوى الأمران فهم بالخيار بين المقام بالسفينة و إلقاء نفوسهم في الماء لأنهما موتتان فيختار أيسرهما و عنه : أنه يلزمهم المقام لئلا يكون موته بفعله فيكون معينا على نفسه

باب ما يلزم الإمام و ما يجوز له
يجب عليه أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم و يقويها بالعدد والآلات و يؤمر عليهم أميرا ذا رأي و شجاعة و دين لأنه إذا لم يفعل لم يأمن دخول الكفار من بعض الثغور فيصيبون المسلمين و إن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم خندق على المدينة في غزوة الأحزاب و إذا بعث جيشا أو سرية لزمه أن يولي عليهم أميرا على الصفة المذكورة و يوصيه بجيشه لما روى بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته ومن معه من المسلمين و لما بعث أبو بكر رضي الله عنه جيوشه إلى الشام خرج مع أمرائهم يشيعهم و يوصيهم و يعهد إليهم
فصل
و إذا أراد الإمام أو الأمير الغزو لزمه أن يعرض جيشه و يتعاهد الخيل و الرجال فلا يدع فرسا حطما و هو الكسير و لا قحما و هو الكبير و لا ضرعا و هو الصغير و لا هزيلا يدخل معه أرض العدو لئلا ينقطع فيها و ربما كانت سببا للهزيمة و لا يأذن لمخذل من الناس و هو الذي يفند الناس عن الغزو و لا لمرجف وهو الذي يحدث بقوة الكفار و ضعف المسلمين و هلاك بعضهم و يخيل لهم أسباب ظفر عدوهم بهم و لا لمن يعين العدو بمكاتبتهم بأخبار المسلمين و التجسس لهم و لا لمن يضر المسلمين بإيقاع الاختلاف بينهم و لا لمن يعرف بالنفاق و الزندقة لقول الله تعالى : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا و لن تقاتلوا معي عدوا } و قوله تعالى : { و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين } و قوله تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } قيل : معناه : لأوقعوا بينكم الاختلاف و قيل : لأسرعوا في تفريق جمعكم لأن في حضورهم ضررا فيجب صيانة المسلمين عنه و لا يأذن لطفل و لا مجنون لأن دخولهم تعرض للهلاك لغير فائدة و يجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لأن فيهم معونة و نفعا و لا يأذن لمشرك لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين قال : [ تؤمن بالله و رسوله ؟ قال : لا قال : فارجع فلن نستعين بمشرك ] حديث حسن فإن دعت حاجة إليه و لم يكن حسن الرأي في المسلمين لم يستعن به أيضا لأن ما يخشى من ضرره أكثر مما يرجى من نفعه و إن كان حسن الرأي فيهم جاز لأن صفوان بن أمية شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على شركه و لا يأذن للمرأة الشابة الجميلة لأنها ليست من أهل القتال و لا يؤمن الضرر عليها و بها و يجوز أن يأذن للطاعنة في السن لسقي الماء و معالجة الجرحى لما روى أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بأم سليم و نسوة معها من الأنصار يسقين الماء و يداوين الجرحى و هذا حديث صحيح
فصل
و يستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال : قلما كان رسول الله صلى اله عليه و سلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس و يعبئ جيشه و يرتب في كل جانب كفؤا لما روى أبو هريرة قال : كنت مع النبي صلى عليه و سلم فجعل خالدا على إحدى المجنبتين و جعل الزبير في الأخرى و جعل أبا عبيدة على الساقة و لأن ذلك أحوط للحرب و أبلغ في إرهاب العدو و يعقد الألوية و الرايات و يجعل لكل طائفة لواء لما روى ابن عباس : أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي صلى الله عليه و سلم للعباس رضي الله عنه : [ احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها ] قال فحبسته على الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم و مرت به القبائل على راياتها و هو متحير في ألوانها لكنه يغاير ألوانها ليعرف كل قوم راياتهم و يعرف عليهم العرفاء و يجعل لكل طائفة أميرا و يكلفهم من السير ما يقدر عليه ضعيفهم لئلا ينقطع عنهم أو يشق عليه إلا أن تدعو حاجة إلى الجد في السير لمصلحة رآها فيجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم جد في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي : ليخرجن الأعز منها الأذل ليشغل الناس عن الخوض فيه و يتخير لهم من المنازل أصلحها لهم و يتتبع مكامنها فيحوطها عليهم و لا يغفل الحرس و الطلائع ليحفظهم من البيات و قد روى سهل بن الحنظلية : أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى إذا كان عشية قال : [ من يحرسنا الليلة ] فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله قال : [ فاركب ] فركب فرسا له و جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقال له : [ استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة ] فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : [ هل أحسستم فارسكم ] قالوا : لا فثوب بالصلاة فجعل رسو ل الله صلى الله عليه و سلم يصلي و هو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاته قال : [ أبشروا فقد جاءكم فارسكم ] فإذا هو قد جاء حتى و قف عل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسوا الله صلى الله عليه و سلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال رسول الله صلى اله عليه و سلم : [ هل نزلت الليلة ] قال : لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قد وجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها ] رواه أبو داود و يذكي العيون ليعلم أخبار عدوه فيتحرز منهم و يتمكن من الفرصة فيهم و يستشير ذوي الرأي من أصحابه لقول الله تعالى : { و شاورهم في الأمر } و كان النبي صلى الله عليه و سلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه و يمنع جيشه من المعاصي و التشاغل بالتجارة المانعة لهم من القتال و يقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب الظفر و يعد ذا الصبر منهم بالأجر و النفل و يخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه لئلا يعلم به عدوه فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها و لا يميل مع أهله وموافقيه في مذهبه على مخالفيه لئلا تنكسر قلوبهم فيخذلوه عند الحاجة و يعد لهم الزاد و يراعي من معه و يرزق كل واحد بحسب حاجته
فصل
ويقاتل أهل الكتاب و المجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } و يقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا في ظاهر المذهب و لا يجوز قتل نسائهم و صبيانهم لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن قتل النساء و الصبيان متفق عليه و لأنهما يصيران رقيقا و مالا للمسلمين فقتلهما إتلاف لمال المسلمين
و لا قتل شيخ فإن لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تقتلوا شيخا فانيا و لا طفلا و لا امرأة ] رواه أبو داود و لأنه لا نكاية له في الحرب أشبه المرأة
و لا قتل زمن و لا أعمى لأنهما في معنى الشيخ الفاني و لا راهب لما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أنه أوصى يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام فقال : لا تقتلوا الولدان و لا النساء و لا الشيوخ و ستجدون قوما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم و ما حبسوا له أنفسهم و لا قتل خنثى مشكل أنه يحتمل أنه امرأة فلا يجوز فتله مع الشك و من قاتل من هؤلاء كلهم قتل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت حجرا على محمود بن مسلمة و من كان ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لأن الرأي في الحرب أبلغ من القتال لأنه الأصل و عنه يصدر القتال قال المتنبي :
( الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول و هي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الفرسان )
و إن تترس الكفار بصبيانهم و نسائهم جاز رميهم بقصد المقاتلة لأن المنع من رميهم يفضي إلى تعطيل الجهاد و إن تترسوا بأسارى المسلمين أو أهل الذمة لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب و الخوف على المسلمين لأنهم معصومون لأنفسهم فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة و في حال الضرورة يباح رميهم لأن حفظ الجيش أهم
فصل
و يجوز بيات الكفار و رميهم بالمنجنيق و النار و قطع المياه عنهم و إن تضمن ذلك إتلاف النساء و الصبيان لما روى الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عن الدار من ديار المشركين نبيتهم فنصيب من نسائهم و ذراريهم ؟ فقال : [ هم منهم ] متفق عليه و روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نصب منجنيقا على أهل الطائف و التغريق بالماء في معناه
فإن كان فيهم مسلمون فأمكن الفتح بدون ذلك لم يجز رميهم لأنه تعريض لقتلهم من غير حاجة و إن لم يمكن بدونه جاز لأن تحريمه يفضي إلى تعطيل الجهاد
فصل
ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من دوابهم لأن قتلها وسيلة إلى الظفر بهم فإذا صارت إلينا لم يجز قتلها لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل شيء من الدواب صبرا و لأنها مال المسلمين و لا يجوز ذبحها إلا لأكل لا بد لهم منه و لا يجوز تحريق النحل و لا تغريقه لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النحلة و قال أبو بكر : لا تحرقن نحلا و لا تغرقنه و يجوز أخذ الشهد و في أخذه كله روايتان :
إحداهما : لا يجوز لأن فيه قتل النحل و هلاكه
و الثانية : يجوز لأن هلاكه إنما يحصل ضمنا غير مقصود فأشبه قتل النساء في البيات
ويجوز هدم بنيانهم و قطع شجرهم و حرق زرعهم إذا احتيج إليه للتمكن من قتالهم و نحوه و لا يجوز إذا كان فيه ضرر بالمسلمين لحاجتهم إلى الاستظلال أو الاستتار به أو الأكل منه أو علف دوابهم و ما عدا ذلك ففيه روايتان :
إحداهما : جوازه لقول الله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله و ليخزي الفاسقين } و روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرق نخل بني النضير و قطع و هي البويرة فأنزل الله تعالى : { ما قطعتم من لينة } و لها يقول حسان رضي الله عنه :
( وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير )
رواه مسلم
وروى أسامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عهد إليه فقال : [ أعز على أبنى صباحا و حرق ] رواه أحمد و أبو داود و ابن ماجة
و الثانية : لا يجوز إلا أن يكونوا يفعلون ذلك بنا لما روى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ليزيد و هو يوصيه حين بعثه أميرا : يا يزيد لا تقتل صبيا و لا امرأة و لا هرما و لا تخربن عامرا و لا تعقون شجرا مثمرا و لا دابة عجماء و لا شاة إلا لمأكلة و لا تحرقن نحلا و لا تغرقنه و لا تغلل و لا تجبن رواه سعيد فإن كانوا يفعلونه في بلدنا جاز فعله بهم لينتهوا و إن أخذنا منهم مالا فعجزنا عن تخليصه إلى دار الإسلام جاز إتلافه كيلا ينتفعوا به
فصل
و يخير الإمام في الأسرى من أهل القتال بين أربعة أشياء القتل و الفداء والمن و الاسترقاق فأما الفداء و المن فقول الله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد و إما فداء } و لأن النبي صلى الله عليه و سلم من على أبي عزة الجمحي الشاعر و من على أبي العاص بن الربيع و من على ثمامة بن أثال الحنفي وفادى أسيرا برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف وفادى أسارى بدر بالمال و أما القتل فلأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرا و قتل يوم أحد أبا عزة الجمحي و قال قريظة و لأنه أنكى فيهم و أبلغ في إرهابهم فيكون أولى و أما الاسترقاق فيجوز في أهل الكتاب و المجوس لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية فالرق أولى لأنه أبلغ في صغارهم وإن كان من غيرهم ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز إرقاقه اختارها الخرقي لأنه لا يقر بالجزية فلم يجز إرقاقه كالمرتد
و الثانية : يجوز لأنه كافر أصلي فأشبه الكتابي و إن أسلم الأسير حرم قتله لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ] و يتخير فيه بين المن عليه لأنه جاز المن عليه حال كفره ففي حال إسلامه أولى بين إرقاقه و فدائه
و قال أصحابنا : يصير رقيقا بنفس الإسلام و يسقط التخيير لأنه ممن يحرم قتله فأشبه المرأة
و أما النساء و الصبيان فإنهم يصيرون رقيقا بنفس السبي لأنهم مال ضرر في اقتنائه فأشبهوا البهائم
و أما الرجال الذين يحرم قتلهم كالشيخ الفاني ونحوه فلا يجوز سبيهم لأنه لا نفع من استرقاقهم و لا يحل قتلهم إذا ثبت هذا فإن التخيير الثابت في الأسرى تخيير مصلحة و اجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال تعينت عليه و لم يجز له غيرها لأنه ناظر للمسلمين فلم يجز له ترك ما فيه الحظ لهم كولي اليتيم فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف لقول الله تعالى : { فضرب الرقاب } و لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالذين قتلهم فضربت أعناقهم و لا يجوز التمثيل به لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية قال : [ اغزو بسم الله قاتلوا من كفر بالله لا تغدوا و لا تمثلوا و لا تغلوا ] و إن اختار الفداء جاز أن يفاديهم بأسارى المسلمين و جاز بالمال لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل الأمرين و قال أبو الخطاب : لا يجوز فداؤهم بالمال في أحد الوجهين فإن فادى بالمال أو استرقهم كان الرقيق و المال للغانمين و ليس له إطلاق الأسارى و لا المال إلا برضاهم لما روى مروان بن الحكم و المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما جاءه وفد هوازن مسلمين قال : [ إن إخوانكم جاؤوا تائبين و إني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا فليفعل ] فقال الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله أخرجه البخاري
فصل
و منع أحمد رضي الله عنه فداء النساء بالمال لأن في بقائهن في الرق تعريضا لهن للإسلام لمعاشرتهن للمسلمين و جوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين لأن النبي صلى الله عليه و سلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع رجلين من المسلمين و لأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق إسلامه و إن أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار بفداء و لا غيره لقول الله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } و لا يجوز المفاداة بالصبيان بحال لأنهم يصيرون مسلمين بإسلام سابيهم
فصل
و لا يجوز بيع رقيق المسلمين لكافر نص عليه أحمد رضي الله عنه لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأمصار : ينهاهم عنه و لأن في بقائهم رقيقا للمسلمين تعريضا لهم للإسلام و في بيعهم لكافر تفويت ذلك فلم يجز
فصل
و إن أسر من يقر بالجزية فبذلها لم يلزم قبولها لأنه قد ثبت حق التخيير فيه بين الأمور الأربعة فلم يسقط ببذله و يجوز للإمام إجابته إليها إذا رأى ذلك لأنه بمنزلة المن عليه
فصل
و يكره نقل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد و رميها في المنجنيق لأن فيه مثلة و قد روى عقبة بن عامر : أنه قدم على أبي بكر برأس بناق البطريق فأنكر ذلك فقيل : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم إنهم يفعلون بنا هذا قال : فاستبان بفارس و الروم ؟ لا يحمل رأس و إنما يكفي الكتاب و الخبر رواه سعيد
فصل
إذا حصر الإمام حصنا فرأى المصلحة في مصابرته لزمه ذلك لأن عليه فعل ما فيه الحظ للمسلمين و إن كانت المصلحة في الانصراف انصرف لذلك و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال : [ إنا قافلون إن شاء الله غدا ] فقال المسلمون : أنرجع و لم نفتتحه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اغدوا على القتال ] فغدوا عليه فأصابهم جراح فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنا قافلون غدا ] فأعجبهم فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم متفق عليه
وإن أسلم أهل الحصن قبل فتحه عصموا دماءهم و أموالهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها ]
و إن طلبوا النزول على حكم الحاكم جاز لأن بني قريظة حين حصرهم النبي صلى الله عليه و سلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم : بقتل مقاتليهم و سبي ذراريهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ]
و يجب أن يكون الحاكم بالغا عاقلا حرا مسلما ذكرا عدلا عالما لأنه ولاية حكم فأشبه ولاية القضاء و لا يشترط أن يكون بصيرا لأن الذي يقتضي الحكم فيهم هو الذي يشتهر من حالهم و ذلك يدرك بالسمع فأشبه الشهادة فيما طريقه السمع
و يكره أن يكون حسن الرأي فيهم لأنه يخشى ميله إليهم و يجوز حكمه لأنه عل في دينه فإن نزلوا على حكم من يختاره الإمام جاز لأنه لا يختار إلا من يجوز حكمه و لا يجوز أن ينزلوا على حكم من يختارونه لأنهم قد يختارون من لا يصلح و يجوز أن ينزلوا على حكم اثنين أو أكثر لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي فأشبه التحكيم في اختيار الإمام و إن نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه أو حكم من يجوز فمات قبل الحكم وجب ردهم إلى حصنهم لأنهم نزلوا على أمان فلا يجوز أخذهم و لا يجوز للحاكم الحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين لأنه نائب الإمام فقام مقامه في اختيار الأحظ من الأمور الأربعة فإن حكم بالمن فقال القاضي : يلزم حكمه كذلك و قال أبو الخطاب : لا يلزم لأن الإمام إذا لم يره تبين أنه لا حظ فيه فلم يلزم حكمه به فإن حكم بعقد الذمة ففيه وجهان :
أحدهما : يلزم حكمه لأنهم رضوا بحكمه
و الثاني : لا يجوز لأنه عقد معارضة فلم يجز إلا برضى الفريقين فإن حكم بالقتل و السبي جاز لأن سعدا حكم به في بني قريظة فصادف حكم الله تعالى
و للإمام أن يمن على من حكم عليه بالقتل لأن ثابت بن قيس بن شماس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي بعد الحكم عليهم فوهبه له و أطلق له أهله و ماله و إن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم إلا برضى الغانمين لأنهم صاروا مالا لهم و إن حكم بالقتل فأسلموا عصموا دماءهم لأن قتل المسلم حرام و لم يعصموا أموالهم لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم و في استرقاقهم روايتان :
إحداهما : لا يسترقون ذكره القاضي لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم فأشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم
و الثانية : يسترقون لأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم ووجوب قتلهم فأشبهوا الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله
فصل
ومن أسلم قبل القدرة عليه عصم نفسه و ماله و أولاده الصغار للخبر المذكور
و لأن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر بني قريظة فأسلم ابنا سبيعة فأحرز إسلامهما أموالهما و أولادهما و لأن الأولاد تبع لوالدهما في الإسلام فكذلك في العصمة و إن كان للمسلم منفعة بإجارة لم تملك عليه لأنها مال و لا يعصم زوجته لأن النكاح ليس بمال و لا يجري مجراه و إن كانت حاملا منه فولده مسلم معصوم و يجوز استرقاقها لأنها حربية لا أمان لها و لا يعصم أولاده البالغين لأنهم لا يتبعونه في دينه فكذلك في عصمته و إذا ادعى الأسير أنه أسلم قبل الأسر لم يقبل إلا ببينة فإن شهد له مسلم و حلف معه ثبت ذلك له لأن ابن مسعود شهد لسهيل بن بيضاء أنه سمعه يذكر الإسلام فقبل النبي صلى الله عليه و سلم شهادته و أطلقه من الأسر
فصل
ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له في الإسلام رجلا كان أو امرأة لقول الله تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } و يتبعه الحمل لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبعه كالولد وإن لم يسلم واحد منهما فولدهما كافر لأنه لا حكم لنفسه فتبع أبويه كولد المسلم فإن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام حكم بإسلام الولد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ] فجعل التبعية لأبويه معا فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب بقاؤه على حكم الفطرة لأن الدار يغلب فيها حكم الإسلام بدليل الحكم بإسلام لقيطها و إنما منع ظهور حكمها اتباعه لأبويه فإذا مات أحدهما اختل المانع فظهر حكم الدار و الحكم في المجنون الذي يبلغ مجنونا كالحكم في الصبي لأنه لا حكم لقوله فتبع في الإسلام كالطفل و لأنه يتبع والديه في الكفر ففي الإسلام أولى و إن بلغ عاقلا ثم جن ففيه وجهان :
أحدهما : يتبع أباه لأنه لا حكم لقوله
و الثاني : لا يتبع لأنه زال حكم التبعية ببلوغه عاقلا فلا يعود
فصل
و إن سبي الطفل منفردا عن أبويه تبع سابيه في الإسلام لأنه زال حكم أبويه لإفراده عنهما و اختلاف الدار بهما فأشبه ما لو ماتا و لأن سابيه كأبيه في حضانته فكان مثله في استتباعه وإن سبي معهما تبعهما لخبر أبي هريرة و لأنه لم ينفرد عنهما أشبه ما لو كان ذميا و إن سبي مع أحد أبويه حكم بإسلامه لأنه انقطع اتباعه لأحد أبويه فأشبه ما لو أسلم أو مات وقال أبو الخطاب : يتبع أباه و قال القاضي : فيه روايتان :
أشهرهما : أنه يحكم بإسلامه لما ذكرنا
و الثانية : يتبع أباه
فصل
و لا يجوز التفريق في البي بين الوالدة وولدها و لا بين الوالد وولده و لا بين ذوي رحم محرم إذا كان أحدهما صغيرا فإن كانا بالغين فعلى روايتين ذكرناهما في البيع فإن اشترى من المغنم اثنين على أنه يحرم التفريق بينهما فتبين أنه جائز وجب رد الفضل الذي حصل بإباحة التفريق لأنه تبين له الفضل لم يعلم به البائع فوجب رده كما لو قبض الثمن على أنه عشرة فبان أحد عشر و لو اشترى من المغنم جارية معها مال أو حلي أو ثياب غير لباسها لزمه رده نص عليه لقوله عليه السلام : [ من باع عبدا وله مال فماله للبائع ] لأن البيع إنما وقع عليها دونه
فصل
إذا سبيت المرأة دون زوجها انفسخ نكاحها لقول الله تعالى : { و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } قال أبو سعيد الخدري : نزلت هذه الآية في سبي أوطاس أصبنا سبايا و لهن أزواج في قومهن فذكر ذلك لرسول الله فنزلت الآية قال الترمذي : هذا حديث حسن و لأنه استولى على محل حق الكافر الحربي فأزاله كما لو سبيت أمته و قال أبو الخطاب : عندي لا ينفسخ و إن سبي الرجل وحده لم ينفسخ نكاحه لأنه لم يستول على محل حقه أشبه ما لو لم يسب و إن سبي الزوجان لم ينفسخ نكاحهما لأن الرق لا يمنع ابتداء النكاح فلم يقطع استدامته كالعتق و يحتمل أن ينفسخ نكاحهما لأنه استولى على محل حقه فزال ملكه عنه كماله أو كما لم يسب معها
فصل
و إن أسلم عبد الحربي و لم يخرج إلينا فهو على رقه لأن يد سيده لم تزل عنه فلم يزل ملكه كما لو لم يسلم و إن خرج إلينا صار حرا لأنه أزال يد سيده قهرا فزال ملكه كما لو استولى عليه مسلم وإن أسر سيده و أخذ ماله و عياله فالمال له و السبي رقيقه لأن دار الحرب دار قهر فما استولى عليها فيها فهو للمستولي و قد روى أبو سعيد الأعشم قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن العبد إذا أخرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فإن خرج سيده بعد لم يرد إليه و قضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده رواه سعيد
فصل
و ليس للإمام أن يقيم حدا في أرض الحرب و لا يستوفي قصاصا لما روي عن بسر بن أرطاة أنه أتى برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعتك ] رواه أبو داود
و روى سعيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى الناس : أن لا يجلدن أمير جيش و لا سرية رجلا من المسلمين حدا و هو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تحلقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار و لأنا لا نأمن أن يحمله الخوف من الحد فيلحق بالكفار فيجب تأخيره فإذا قفل و خرج من دار الحرب أقيم عليه حد ما فعل في دار الحرب لأنه واجب لوجود سببه تأخر لعارض زال بقفوله فتجب إقامته كما لو أخر لمرض و أما الثغور فتقام بها الحدود و القصاص لأنها دار إسلام و قد كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما : أن يجلد من شرب الخمر عنده ثمانين و كتب إلى خالد يأمره بمثل ذلك

باب ما يلزم الجيش من طاعة الإمام
يلزم الجيش طاعة أميرهم و امتثال أوامره و الانتهاء عن مناهيه لقول الله تعالى : { أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم } و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أطاعني فقد أطاع الله و من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله و من عصى أميري فقد عصاني ] رواه النسائي و لا يجوز الخروج إلى الغزو إلا بإذنه لأنه أعلم بمصالح الحرب و الطرقات و مكامن العدو و كثرتهم و قلتهم فيجب الرجوع إلى رأيه إلا أن يعرض ما يمنع من استئذانه من مفاجأة عدو يخاف الضرر بتأخير حربه أو فرصة يخاف فوتها بانتظار رأيه فيجوز من غير إذنه قال أحمد : و إذا نادى الأمام : الصلاة جامعة لأمر يحدث يشاور فيه لم يتخلف أحد إلا من عذر و إن غضب على رجل فقال : اخرج عليك ألا تصحبني فلا يصحبه حتى يأذن له
فصل :
و يغزى مع كل بر و فاجر لقوله رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا ] رواه أبو داود و لأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تعطيل الجهاد و ظهور العدو
و قال أحمد : لا يعجبني أن يخرج مع القائد إذا عرف بالهزيمة و تضييع المسلمين فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر و الغلول يغزى معه إذا كان له شفقة وحيطة على المسلمين إنما فجوره على نفسه و يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ] متفق عليه
فصل
و إذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يخرج من المعسكر لتعلف و لا احتطاب و لا غارة و لا غير ذلك إلا بإذنه لقول الله تعالى : { و إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } و لأن الأمير أعرف بحال الناس و مكامن العدو و قربه و بعده و مواضع الأمن فلا يأذن لهم إلا مع أمنه عليهم و إن خرجوا من غير أمره لم يأمنوا كمينا للعدو أو مهلكة يهلكون بها و ربما رحل الجيش فيضيع الخارج
فصل
و تجوز المبارزة في الحرب و هو : أن يخرج الرجل من المسلمين إلى الرجل من الكافرين بين الصفين ليقاتل كل واحد منهما صاحبه لأن حمزة و عليا و عبيدة بن الحارث رضي الله عنهم بارزوا يوم بدر عتبة و شيبة ابني ربيعة و الوليد بن عتبة بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله فيهم : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } الآيات ولا يجوز إلا بإذن الأمير لأن أمر القتال موكول إليه و هو أعلم برجاله فلا يؤمن مع مخالفته أن يتم ما ينكسر به الجيش و متى خرج كافر يطلب البراز جاز رميه و قتله لأنه مشرك لا أمان له إلا أن تجري العادة بينهم بترك التعرض لمن يطلب البراز فلا يجوز التعرض له لأن ذلك يجري مجرى الشرط و يستحب لمن يعلم من نفسه الشدة و الشجاعة مبارزته لأن في ترك مبارزته كسرا على المسلمين و يكره للضعيف الخروج إليه لأن القصد إظهار القوة و الظاهر من مبارزة الضعيف خلاف ذلك فإن طلب الشجاع المبارزة ابتداء أبيح له لأن فيه إظهار القوة و لا يستحب لأنه لا حاجة إليه و لا يأمن الغلبة فيكسر قلوب المسلمين و متى تبارزا بشرط أن لا يعين واحدا أصحابه لم يجز رمي الكافر وفاء بشرطه فإن ولى مثخنا أو محتازا أو ولى عنه المسلم جاز رميه لأنه شرط الأمان حال القتال و قد انقضى القتال فزال الأمان و إن استنجد الكافر أصحابه أو بدأوا بإعانته فلم يمنعهم انتقض أمانه لنقضه إياه و إن منعهم فلم يقبلوا منه فهو على أمانه لأنه لم ينقضه و إن شرط أن لا يرميه أحد حتى يرجع إلى صفه وفي له بشرطه فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله جاز رميه لأنه نقض الشرط فسقط أمانه
فصل
ومن أسر أسيرا لم يكن له قتله حتى يأتي به الإمام فيرى فيه رأيه لأنه إذا صار أسيرا فالخيرة فيه إلى الإمام و عنه : ما يدل على إباحة قتله لأنه في وقت الحرب فأشبه قتله حال القتال و إن امتنع الأسير أن ينقاد معه فله إكراهه بالضرب و غيره فإن لم يمكنه إكراهه أو خافه على نفسه أو خاف انقلابه فله قتله لأنه كافر لا أمان له يخاف شره فأبيح قتله كما قبل الأسر و إن كان امتناعه لمرض أبيح قتله كما يجوز أن يذفف على جريحهم و قد توقف أحمد عن قتله و الأولى إباحته و متى قتل أسيره أو أسير غيره قبل بلوغه إلى الإمام أو بعده قبل الحكم باسترقاقه لم يضمنه لأنه ليس بمال و لذلك أبيح للأمير إتلافه و إن قتل امرأة أو صبيا قبل الاستيلاء عليهم لم يضمنهم لأنهم لم يصيروا مالا للمسلمين و إن قتلهم بعد الاستيلاء عليهم ضمنهم لأنهم يصيرون رقيقا بنفس السبي
فصل
و إذا وجد المسلمون بأرض الحرب طعاما أو علفا فلهم الأكل منه و علف دوابهم مع الحاجة وعدمها من غير إذن الإمام لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال : أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف وروي أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر رضي الله عنه : إنا فتحنا أرضا كثيرة الطعام و العلف و كرهنا أن نقدم في شيء من ذلك فكتب إليه : دع الناس يعلفون و يأكلون فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله و سهام المسلمين رواهما سعيد و لأن الحاجة تدعو إليه ففي المنع ضرر بالجيش لأنه يشق عليهم حمل الزاد و العلف و لآخذه أن يعطيه لمن يحتاج إليه فيكون أحق به و ليس له بيعه لأن الحاجة تدعو إلى الأكل دون البيع فإن باعه لبعض الغانمين صار الآخذ أحق به لأنه صار في يده و هو من الغانمين الذين لهم الأكل منه و له أخذ ما دفع من ثمنه لأنه دفعه إلى من لا يستحق فإن رد الطعام إلى البائع صار البائع أحق به لأنه صار إليه و إن باعه لغير الغانمين فالبيع باطل و يرد المبيع إلى الغنيمة لأنه لا يملك بيعه فإن تعذر رده رد ثمنه لخبر عمر و لأنه تعذر رد المبيع فوجب رد قيمته كالمغصوب و إن وجد دهنا مأكولا فله أكله لأنه من الطعام و قد روى عبد الله بن مغفل قال : دلي جراب من شحم يوم خبير فأتينه فالتزمته و قلت : هذا لي فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يبتسم لي فاستحييت منه متفق عليه
و إن أراد أن يدهن به أو يدهن به دابته فقال أحمد : إذا كان من ضرورة أو صداع فلا بأس و إن كان للزينة فلا يعجبني و ذلك لأن ما تدعو الحاجة إليه من هذا فهو مثل الطعام في الحاجة إليه فأبيح و لا حاجة إلى الزينة فلم تبح كلبس الثوب و ليس له غسل ثيابه بالصابون لأنه للزينة و التحسين قال القاضي : و ليس له إطعام الجوارح كالفهد و الكلب و الصقر لأنه لا حاجة إليه و ما يحتاج إليه من المشروبات للدواء أبيح له تناوله لأنه طعام احتاج إليه فأشبه الفاكهة
فصل
و إن أحرزت الغنيمة فقال الخرقي : لا يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون و نص عليه أحمد لأن المسلمين ملكوها بحيازتها فلم يجز الأكل منها كما لو حيزت إلى بلد الإسلام و قال القاضي : لهم الأكل منها ما لم تحرز بدار الإسلام أو تقسم لأن الحاجة تدعو إلى الأكل منها فأشبه ما قبل الحيازة و يحتمل أن الخرقي أراد بالإحراز إدخالها دار الإسلام فيكون معنى القولين واحدا و إذا وجد في دار الحرب حيوانا مأكولا فقال الخرقي : لا تعتقر شاة و لا دابة إلا لأكل لا بد منه لأنها تقتنى لغير الأكل فأشبهت الفرس و قال القاضي : يجوز ذبح ما جرت العادة بذبحه للأكل كالشاة و ما دونها لأنها مما تؤكل عادة فأشبه الطعام فأما الطيور كالدجاج و نحوها فيباح ذبحها و أكلها نص عليه أحمد لأن هذا مما لا يمكن حمله إلى دار الإسلام فأشبه الطعام
فصل
ومن فضل معه من الطعام و العلف كثير فأدخله البلد فعليه رده إلى المغنم لأنه إنما أبيح للحاجة و قد زالت الحاجة و إن كان يسيرا ففيه روايتان :
إحداهما : يجب رده لأنه أبيح للحاجة و قد زالت
و الثانية : له أخذه لأنه أخذ ما له أخذه فلم يجب رده كالسلب و لأن اليسير تجري المسامحة فيه قال الأوزاعي : أدركت الناس يقدمون من أرض العدو بفضل الطعام و العلف فيعلفون دوابهم و يهديه بعضهم إلى بعض لا ينكره إمام و لا عامل و لا جماعة و كانوا يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم إلى بعض
فصل
و لا يجوز أخذ إبرة و لا خيط و لا شعر و لا صوف لما روي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بكبة من شعر الغنم فقال : يا رسول الله إنا نعمل الشعر فهبها لي قال : [ نصيبي منها لك ] رواه سعيد و لا يجوز أخذ جلد سواء كان جلد ما نذبحه أو غيره لأنه لم يجز أخذ الشعر فالجلد أولى و لأنه ليس بمأكول أشبه الثياب و لا يجوز ركوب دابة من المغنم و لا لبس ثوب لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلق رده فيه ] و ذكر أبو الخطاب رواية أخرى : أن له ركوب الفرس عند الحاجة حتى تنقضي الحرب ثم يردها لأنها من آلات الحرب فأشبهت السلاح
فصل
و من أخذ من مباحات دار الحرب شيئا كالصيد و الحجر و الحشيش و الشجر و نحوها فاحتاج إليه للأكل و العلف انتفع به و إن لم يحتج إليه لذلك و له قيمة في موضعه فهو غنيمة لأنه وصل إليه بقوة الجيش و إن لم يكن له قيمة في موضعه و إنما يصير له قيمة بنقله فهو لآخذه لأنه إنما صارت له قيمة بفعله و كذلك الركاز
و إن وجد لقطة يعلم أنها للكفار فهي غنيمة و إن احتمل أن تكون لمسلم عرفها حولا ثم ردها في الغنيمة إن لم تعرف لذلك و إن ترك صاحب المغنم شيئا عحز عن حمله فقال : من أخذ منه شيئا فهو له فهو لمن أخذه نص عليه لأنه بمنزلة ما لا قيمة له في دارهم و إن لم يقل ذلك فأكثر الروايات عن أحمد أنه لآخذه كذلك و عنه : يكون غنيمة لأنه ذو قيمة فهو كالصيد
فصل
و من وجد كتبا فيها كفر فعليه إتلافها لأن قراءتها و النظر فيها معصية و كذلك كتب التوراة و الإنجيل لأنها مبدلة منسوخة منهي عن قراءتها و إن أمكن الانتفاع بجلودها أو رقها إذا غسل فعل ذلك و إن وجد خمرا وجبت إراقته لأن شربه معصية و إن وجد خنزيرا قتله و إن وجد كلبا لا يباح اقتناؤه تركه و إن أبيح اقتناؤه فله أخذه لنفسه و دفعه إلى من ينتفع به من الغانمين أو أهل الخمس لأن الكلب لا قيمة له و إن وجد فهدا معلما أو بازيا فهو غنيمة لأن له قيمة

باب الأنفال و الأسلاب
النفل : ما يعطاه زيادة على سهمه و هو نوعان :
أحدهما : ما يستحق بالشرط و هو ضربان :
أحدهما : أن الأمير إذا دخل دار الحرب غازيا بعث سرية بين يديه تغير على العدو و يجعل لهم الربع بعد الخمس فإذا قفل بعث سرية تغير و يجعل لهم الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لها ثم قسم الباقي في الجيش و السرية معه لما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم نفل الربع في البدأة و الثلث في الرجعة و في لفظ : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ينفل الربع بعد الخمس و الثلث بعد الخمس إذا قفل رواهما أبو داود و عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينفل في البدأة الربع و في القفول الثلث قال الترمذي : هذا حديث حسن و روى الأثرم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لجرير بن عبد الله لما قدم عليه في قومه يريد الشام : هل لك أن تأتي الكوفة و لك الثلث بعد الخمس من كل أرض و سبي ؟ و لا تجوز الزيادة على الثلث لأن نفل النبي صلى الله عليه و سلم انتهى إليه و يجوز النقص منه لأنه إذا جاز أن لا ينفل شيئا فلأن يجوز تنفيل القليل أولى و لا يستحق هذا النفل إلا بالشرط نص عليه لأن استحقاقه بغير شرط إنما يثبت بالشرع و لم يرد الشرع باستحقاقه على الإطلاق
الضرب الثاني : أن يجعل الأمير جعلا لمن يعمل عملا فيه غناء عن المسلمين مثل أن يقول : من طلع هذا الحصن فله كذا أو من نقبه أو من جاء بأسير فله كذا و من جاء بعشرة رؤوس فله رأس و أشباه هذا مما يراه الإمام مصلحة للمسلمين فيجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] و يجوز أن يجعل الجعل من مال المسلمين و مما يؤخذ من المشركين فإن جعله من مال المسلمين لم يجز إلا معلوما مقدرا كالجعل في المسابقة ورد الضالة و إن كان من الكفار جاز مجهولا لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الثلث و الربع و سلب المقتول و هو مجهول و لأنه ضرر فيه على المسلمين فجاز مع الجهالة كسلب القتيل
النوع الثاني : أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء لغنائه و بأسه أو لمكروه تحمله ككونه طليعة أو عينا فيجوز من غير شرط لما روى سلمة بن الأكوع قال : أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فتبعتهم و ذكر الحديث إلى قوله : فأعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم الفارس و الراجل و عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أبا بكر فبيتنا عدونا فقتلت منهم تسعة أهل أبيات فأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر رضي الله عنه فلما قدمت المدينة استوهبها مني رسول الله صلى الله عليه و سلم فوهبتها له رواهما أبو داود و لأن في هذا تحريضا على القتال و نفعا للمسلمين و الدفع عنهم فجاز كإعطاء السهم
فصل
إذا قال : من دلني على القلعة الفلانية أومن دلني على طريق سهل و نحو ذلك فله كذا جاز فإن كان الجعل جارية من القلعة جاز أن تكون معينة وغير معينة كجارية مطلقة فإن لم تفتح القلعة فلا شيء له لأن تقدير الكلام : من دلني على القلعة ففتحها الله علينا فله جارية منها لتعذر تسليمه جارية منها قبل فتحها فإن فتحت فلم يكن فيها جارية أو لم يكن فيها المعينة فلا شيء له لأنه شرط معدوما و إن كان فيها فماتت قبل الفتح فلا شيء له لأنها غير مقدور عليها أشبهت المعدومة وإن كانت باقية سلمت إليه لأنه استحقها بالشرط فإن كانت قد أسلمت قبل الفتح عصمت نفسها بإسلامها وله قيمتها لأنه تعذر تسليمها مع وجودها و القدرة عليها و إن أسلمت بعد الفتح سلمت إليه إن كان مسلما و إن كان مشركا انتقل إلى قيمتها لتعذر تسليمها إليه مع القدرة عليها فإن أسلم بعد ذلك احتمل أن لا يستحقها لأن حقه انتقل إلى قيمتها و احتمل أن يستحقها لأن تعذر تسليمها إليه لمانع زال فأشبه من غصب عبدا فأبق ثم قدر عليه و إن فتحت القلعة صلحا فاستثنى الأمير الجارية و سلمها جاز و إن وقع مطلقا فرضي مستحقها بقيمتها أعطيها و إن أبى و امتنع صاحب القلعة من بذلها بقيمتها فسخ الصلح لتعذر إمضائه لسبق حق الدال و تعذر إيصاله إليه مع تمام المصلحة و يحتمل أن يعطى مستحقها قيمتها لأنه تعذر دفعها إليه فأشبه ما لو أسلمت
فصل
ومن قتل في و قت الحرب كافرا فله سلبه لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ] متفق عليه وعن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم حنين : [ من قتل كافرا فله سلبه ] فقتل أبو طلحة عشرين رجلا و أخذ أسلابهم
و لا يقبل دعوى القتل إلا ببينة للخبر و لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين نص عليه لأنه دعوى القتل فأشبه قتل المسلم و قياس المذهب أن يقبل فيها ما يقبل في الأموال لأن مقصوده المال فأشبه الشهادة على الغصب والجناية الموجبة للمال و يحتمل أن يقبل فيه قول واحد لأن أبا قتادة لما شهد له الرجل الذي أخذ سلبه دفعه إليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله وحده و لا يخمس سلب لأن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فله سلبه ] يتناول جميعه و قد روى عوف بن مالك و خالد بن الوليد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في السلب للقاتل و لم يخمس السلب رواه أبو داود
فصل
و لا يستحقه إلا بشروط أربعة :
أحدها : أن يكون القاتل ذا حق في المغنم حرا كان أو عبدا رجلا أو صبيا أو امرأة لعموم الخبر و إن لم يكن ذا حق كالمخذل و المرجف و الكافر إذا حضر بغير إذن لم يستحقه لأنه لا حق له في السهم الثابت فغيره أولى
و الثاني أن يغرر بنفسه في قتله كالمبارز فإن قتله بسهم رماه من صف المسلمين و نحوه لم يستحقه لأنه إنما ورد الخبر في المبارز ونحوه
الثالث : أن يقتله و هو مقبل على الحرب فإن قتل أسيرا أو مثخنا أو منهزما إلى غير فئة لم يستحقه لأن ابن مسعود ذفف على أبي جهل يوم بدر فلم يعط سلبه ولأن استحقاق السلب للمخاطرة و التغرير بالنفس و لا خطر هاهنا و إن قتل موليا ليكر أو متحيزا إلى فئة فله سلبه لأن سلمة بن الأكوع أدرك طليعة للكفار موليا فقتله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتله ؟ ] قالوا : ابن الأكوع قال : [ فله سلبه أجمع ] و لأن القتال كر و فر
الرابع : أن يقتله لأن الخبر خص القاتل بالسلب فاختص به دون غيره فإن أسره لم يستحق سلبه كذلك وقال القاضي : له سلبه سواء قتله الإمام أو من عليه أو فاداه و له فداؤه لأن مال حصل بسبب تغريره في تحصيله أشبه سلب القتيل و ظاهر كلام أحمد أنه يشترط أن ينفرد بقتله لأنه قال في رواية حرب : له سلبه إذا انفرد بقتله و لأنه يستحق للتغرير بالنفس و لا يحصل مع الاشتراك و إن قطع أحدهما يده أو رجله و قتله الآخر فكذلك لأنهما شريكان فيه وإن قطع أحدهما أربعته و قتله الآخر فسلبه للقاطع لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل وتمم عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه و سلم بسلبه لمعاذ و لأن القاطع كفى شره فأشبه القاتل و إن قطع يديه أو رجليه فكذلك لأنه قد عطله ويحتمل أن لا يستحقه لأنه إن قطع رجليه قاتل بيديه و إن قطع يديه فهو يعدو و يكثر و يهيب فما كفى شره وإن عانق رجلا فقتله الآخر فالسلب للقتل للخبر و لأنه قاتل لمن لم يكف المسلمون شره أشبه المطلق و ظاهر المذهب أنه يستحق وإن لم يشرطه الإمام له للخبر إلا أنه أعجب أحمد أن لا يأخذه إلا بإذن الإمام لأنه أمر مجتهد فيه فلا يأخذه إلا بإذنه كالسهم و عنه : لا يستحقه إلا بجعل الإمام قبل قتله أو تنفيله بعده لأنه نفل فلا يستحقه إلا بإذنه كسائر الأنفال
فصل
و السلب : ما على القتيل من ثيابه و حليه و سلاحه و إن كثر إنما روى أن عمرو بن معد يكرب حمل على أسوار فطعنه فدق صلبه فصرعه فنزل إليه فقطع يديه و أخذ سوارين كانا عليه و يلمقا من ديباج و سيفا و منطقة فسلم ذلك له و بارز البراء مرزبان الزارة فقتله فبلغ سواراه و منطقته ثلاثين ألفا
و في الدابة و آلتها روايتان :
إحداهما : هي من السلب اختارها الخرقي لأنها يستعان بها في الحرب فهي كالسلاح
و الثانية : ليست منه اختارها الخلال و أبو بكر لأن السلب ما كان على البدن و الدابة ليست كذلك فإن كان يقاتل و هو ممسك بعنانها فعن أحمد أنها من السلب لأنه يركبها إذا احتاج إليها و عنه : ليست منه لأنه ليس بمستعين بها في حال قتاله أشبهت التي في رحله فإن كان معه فرس مجنوبة إلى فرسه فليست من السلب كذلك و كذلك المال الذي كمرانه و غيره ورحله و سلاحه الذي ليس معه حال قتله ليس من السلب لأن سلبه ما عليه حال قتله أو ما يستعان به في القتال

باب قسمة الغنائم
الغنيمة : ما أخذ من مال الكفار بإيجاف فخمسها لأهل الخمس و أربعة أخماسها للغانمين لقول الله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية فأضافها إليهم ثم جعل خمسها لله فدل على أن أربعة أخماسها لهم ثم قال الله تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } و لأن النبي صلى الله عليه و سلم قسم الغنائم كذلك و الإمام مخير بين قسمتها في دار الحرب و بين تأخير القسمة إلى دار الإسلام أي ذلك رأي المصلحة فيه فعل لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل الأمرين جميعا فقسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء قريبا من بدر و غنائم بني المصطلق على مياههم و غنائم حنين بأوطاس واد من حنين و قسم فداء أسارى بدر بالمدينة و هو غنيمة و لأن المسلمين قد ملكوا الغنيمة بالاستيلاء التام في دار الحرب فجازت قسمتها كما لو جاوزها إلى دار الإسلام
فصل
فإذا أراد القسمة بدأ بالأسلب فدفعها إلى أهلها و إن كان فيها مال المسلم دفع إليه لأنه استحقه بسبب سابق ثم يدفع منه أجرة الحافظ و الناقل و القاسم و الحاسب لأنه لمصلحة الغنيمة و في الرضخ وجهان :
أحدهما : و هو من أصل الغنيمة لأنه يستحقه للمعاونة في تحصيلها أشبه أجرة النقال
و الثاني : من أربعة الأخماس لأنه استحق بحضور الوقعة أشبه السهمان فعلى الأول يعطى الرضخ لأهله ثم يقسم الباقي على خمسة أسهم سهم منها لأهل الخمس ثم يدفع الأنفال مما بقي ثم يقسم الباقي بين الغانمين للراجل سهم و للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه لما روى ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمان لفرسه و سهم له متفق عليه و عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى الفارس ثلاثة أسهم و أعطى الراجل سهما رواه الأثرم
فصل
و يقسم مابين الغانمين كقسمة المتاع بين الشركاء فيقوم ما عدا الأثمان و يدفعها إليهم بقيمتها فإن أمكن تخصيص كل إنسان بعين كجارية و فرس و ثوب فعل وإن لم يمكن شرك بين الجماعة في العين الواحدة و يقسم الغنيمة بين من شهد الوقعة من أهل القتال من قاتل و من لم يقاتل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة و لأن غير المقاتل ردء له ومعين فيشاركه كرد المحارب فأما غير أهل القتال كطفل و المجنون ومن ينبغي للإمام منعه كالمرجف و المخذل و المعين للعدو فلا شيء له وإن قاتل لأن ضره أكثر من نفعه ومن كان مريضا مرضا يمنعه القتال فلا سهم له كالمجنون و إن لم يمنعه القتال كحمى الخفيفة و الصداع و السعال أسهم له لأنه من أهل القتال
فصل
ولا يسهم بفرس ينبغي للإمام منعه كالقحم و الحطم و الضرع والأعجف لما ذكرنا في الرجل و لا لغير الخيل من البغال و الحمير و الإبل لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسهم لغير الخيل ولأنها لا تلحق بالخيل في التأثير في الحرب و الكر و الفر فلم تلحق بها في الهسم و هذا اختيار أبي الخطاب و روي عن أحمد فيمن غزا على بعير لا يقدر على غيره قسم له و لبعيره سهمان لقول الله تعالى : { فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب } و لأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض أشبه الفرس
فصل
و في غير العربي من الخيل أربع روايات :
إحداهن : أنه كالعربي في سهمه اختارها الخلال و لأن اسم الفرس شامل له و لأنه حيوان ذو سهم فاستوى العربي و غيره كالرجال
و الثانية : له سهم واحد اختارها الخرقي لما روى أبو الأقمر قال : غارت الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها و أدركت الكوادن ضحى الغد و على الخيل رجل من همدان يقال له : المنذر بن أبي حميضة فقال : لا أجعل التي أدركت من يومها مثل التي لم تدرك ففضل الخيل فقال عمر : هبلت الوداعي أمه امضوها على ما قال أخرجه سعيد و لأنهما تختلف غناؤهما فاختلفت سهمانهما كالفارس و الراجل
الثالثة : ما أدرك منها إدراك العراب فله سهمها لأنه عمل عملها و ساواها في جنسها فساواها في سهمها كما لو اتفق نوعهما
و الرابعة : لا سهم له لأنه لا يعمل عمل العراب أشبه البغال
فصل
و من غزا على فرسين قسم لهما أربعة أسهم و لصاحبهما سهم و لا يسهم لأكثر من فرسين لما روى الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين و إن كان معه عشرة أفراس و عن أزهر بن عبد الله : أن عمر كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح : أن أسهم للفرس سهمين و للفرسين أربعة أسهم و لصاحبهما سهما فذلك خمسة أسهم و ما كان فوق الفرسين فهو جنائب
فصل
و من غزا على فرس حبيس فله سهمه لأنه استحق نفعه فملك سهمه كالمستعار ومن غصب فرسا فقاتل عليه فسهم الفرس لمالكه لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل للفرس سهمين فكانا لمالكها كما لو كان راكبها و إن كان الفرس عارية أو بأجرة فسهمها لراكبها لأنه ملك نفعه و هذا من نفعه و عنه : أن سهم المستعار لمالكه لأنه من نمائه أشبه ولده و إن قاتل العبد على فرس سيده قسم للفرس لأنه قوتل عليه في الحرب فاستحق السهم كما لو قاتل عليه حر و يكون سهمه لمالكه و من دخل أرض الحرب فارسا و حضر الوقعة غير فارس لموت فرسه أو بيعه أو إجارته أو إعارته أو غصبه أو ضيعته فله سهم راجل و إن دخل راجلا فملك فرسا أو استأجره فحضر به الوقعة فله سهم فارس لأن الفرس حيوان ذو سهم فاعتبر وجوده حال القتال فيسهم له مع وجوده و لا يسهم له مع العدم كالآدمي
فصل
و لا يسهم لامرأة و لا صبي و لا مملوك لأنهم من غير أهل القتال و يرضخ لهم دون السهم لما روى ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بالنساء فيداوين الجرحى و يحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن رواه مسلم وقال سعيد بن المسيب : كان الصبيان و العبيد يحذون من الغنيمة في صدر هذه الأمة و قال تميم بن قرع : كنت في الجيش الذي فتح الإسكندرية في المرة الآخرة فلم يسهم لي عمرو شيئا وقال : غلام لم يحتلم فسألوا أبا بصرة الغفاري و عقبة بن عامر فقالا : انظروا فإن كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إلي بعض القوم فإذا أنا قد أنبت فقسم لي و قال الجوزجاني : هذا من مشاهير حديث مصر وجيده و عن عمير مولى آبي اللحم قال : شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله عليه و سلم فأمرني فقلدت سيفا فإذا أنا أجره فأخبر أني مملوك فأمر لي بشيء من خرثي المتاع رواه أحمد و أبو داود و الترمذي
و المكاتب و المدبر كالقن لأنه عبد فأما المعتق بعضه فظاهر كلام أحمد أنه يرضخ له لأنه لم يكتمل له الحرية أشبه القن وقال أبو بكر : يسهم له بقدر ما فيه من الحرية والرق لأنه يتجزأ فقسم على قدر ما فيه كالميراث قال ابن أي موسى : هذا هو الصحيح و من أعتق قبل انقضاء الحرب أو بلغ أسهم له لأنه صار من أهل الاستحقاق فأشبه المدد إذا لحق و الرضخ غير مقدر لكنه يرجع فيه إلى اجتهاد أمير الجيش فيفضل ذا الغناء على من دونه في النفع لأن الشرع لم يرد بتقديره فرجع في تقديره إلى الاجتهاد كالتعزير و لا يبلغ بالرضخ لراجل سهم راجل لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه كالتعزير عن الحد و الحكومة لا يبلغ بها أرش العضو و يكون الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة لأنهم من المجاهدين فكان حقهم من أربعة الأخماس كذوي السهمان
فصل
و إذا غزا الكافر معنا من غير إذن الأمير فلا سهم له لأنهم ممن يستحق المنع من الغزو فأشبه المخذل و إن غزا بإذنه ففيه روايتان :
إحداهما : لا سهم له لأنه من غير أهل الجهاد فلم يسهم له كالعبد فعلى هذا : يرضخ له كالعبد
و الثانية : يسهم له اختارها الخرقي لما روى سعيد بإسناده عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم و روي أن صفوان ابن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم حنين و هو على شركه فأسهم له و لأن الكفر نقص دين فلم يمنع استحقاق السهم للفسق
فصل
ومن استؤجر على الجهاد من غير أهل القتال كالكافر و العبد لم يستحق غير الأجرة و هكذا الأجير للخدمة و الذي يكري دابته فأما المسلم الحر إذا استؤجر للجهاد فقال القاضي : لا يصح استئجاره لأن الغزو يتعين بحضوره على من هو أهله فلا يصح أن يفعله عن غيره كالحج فعلى هذا : يرد الأجرة و له سهمه لأن غزوه بغير أجرة و ظاهر كلام أحمد و الخرقي صحة الإجارة لمن لم يتعين عليه الجهاد لأنه مما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربى فجاز استئجار الحر المسلم عليه كبناء المساجد و لأن ما صحت إجارة العبد و الكافر عليه صح إجارة الحر المسلم عليه كالبناء فعلى هذا إذا حضر القتال فظاهر نص أحمد و الخرقي أنه لا يسهم له لما روى يعلى بن منية أنه استأجر أجيرا يكفيه من الغزو قال : فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمة أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له أمره فقال : [ ما أجد له فس غزوته هذه في الدنيا و الآخرة إلا دنانيره التي سمى ] رواه أبو داود و لأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلم يثبت له حكمه و فائدته كما له حج عن غيره و استحقاق الغنيمة من أحكامه و فوائده و روي عن أحمد أنه يسهم له قال الخلال : و هو الذي أعتمد عليه من قول أبي عبد الله لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال : [ للغازي أجره و للجاعل أجره و أجر الغازي ] رواه أبو داود و عن جبير بن نفير قال : قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مثل الذين يغزون عن أمتي و يأخذون الجعل و يتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها و تأخذ أجرها ] رواه سعيد و لأنه حاضر للوقعة من أهل القتال فأشبه أهل الديوان
فأما التاجر و الصانع و أشباههما فيسهم لهم إذا حضروا القتال نص عليه أحمد لقول عمر رضي الله عنه : الغنيمة لمن حضر الوقعة قال القاضي : هذا إذا كان قصدهم الجهاد و يقاتلون إذا احتيج إليهم وأمكنهم وكذلك من يكري دابته و من لم يكن كذلك لم يسهم له لأنه لا نفع في حضوره أشبه المخذل
فصل
و إذا لحق الجيش مدد أو أسير أفلت أو فودي به قبل انقضاء الحرب أسهم لهم و إن كان بعد انقضاء الحرب و حيازة الغنيمة لم يسهم لهم لقول عمر رضي الله عنه : الغنيمة لمن شهد الوقعة ولما روى أبو هريرة أن أبان ابن سعيد و أصحابه قدم على رسول الله صلىالله عليه و سلم بخيبر بعد أن فتحها فقال : اقسم لنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اجلس يا أبان ] ولم يقسم له رواه أبو داود و لأنهم إذا قدموا قبل انقضاء الحرب فقد شاركوا الغانمين في السبب فشاركوهم في الاستحقاق كما و لو قدموا قبل الحرب وإذا قدموا بعد ذلك فلا شيء لهم لأنهم لم يشاركهم في السبب و لأنهم حضروا بعد أن صارت الغنيمة الغانمين فأشبه ما لو حضروا بعد القسمة و إن حضروا بعد تقضي الحرب و قبل احراز الغنيمة فظاهر كلام الخرقي أنهم يشاركونهم لأن الغنيمة تملك بحيازتها و الاستيلاء عليها و لا يتم إلا بحيازتها و ظاهر قول القاضي : أنهم لا يشاركونهم لأنه ذكر أن الغنيمة تملك بتقضي الحرب قبل الحيازة لأنها صارت مقدورا عليها بإزالة يد الكفار عنها فأشبه ما بعد الحيازة و إن حازها الغانمون ثم جاءهم الكفار يقاتلونهم عليها فأدركهم المدد فقاتلو معهم حتى سلموا الغنيمة فنص أحمد : أنه لا شيء للمدد لأن الأولين ملكوها و المدد يقاتلون عن الغانمين بعد ملكهم للغنيمة فأشبهت سائر أموالهم و إن استنقذها الكفار من أيديهم ثم جاءهم المدد فقاتلوا معهم حتى استنقذوها فقال أحمد : أعجب إلي أن يصطلحوا
فصل
و إذا غزا الأمير بجيش فأسرى سرية أو سرايا إلى جهة مقصده أو غيره فغنمت شاركهم الجيش و إن غنم الجيش شارك سراياه لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه و سلم حين هزم هوازن بحنين أسرى قبل أوطاس سرية فغنمت فقسم غنائمهم بين الجميع و في تنفيل النبي صلى الله عليه و سلم السرية الثلث و الربع دليل على مقاسمه الجيش لها الباقي و لأن الجميع جيش واحد فلم يختص بغضهم بغنيمة كأحد جانبي الجيش و إن بعث السرايا و أقام الجيش في بلد الإسلام فلكل سرية غنيمتها لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث السرايا من المدينة فلم يشاركهم أهل المدينة في غنائهم و إن خلف الأمير قوما في بلد العدو لضعف أو غيره و غزا فغنم فأقاموا في بلد العدو حتى رجع شاركوهم نص عليه سواء رجع عليهم أو من غير طريقهم لأنهم كالسرية و إن رجعوا إلى حصون المسلمين أو بلادهم فلا سهم لهم لأنهم برجوعهم صاروا كالمقيمين بدار الإسلام
فصل
و من بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد و الطليعة و الجاسوس فلم يحضر الغنيمة أسهم له لأنه في مصلحة الجيش أشبه السرية ولأنه إذا أسهم للمتخلف عن الجيش فلهؤلاء أولى و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أسهم لعثمان رضي الله عنه من بدر و لم يحضرها لاشتغاله بتمريض رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
فصل
ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه لأنه ثبت ملكه فيه فقام وارثه مقامه كما بعد القسمة و إن أسر فله سهمه كذلك و إن أسر أو مات قبل تقضي الحرب فلا شيء له لأنه لم يملك شيء
فصل
و إذا قال الإمام : من أخذ شيئا فهو له ففيه روايتان :
إحداهما : يجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم بدر : [ ومن أخذ شيئا فهو له ] و لأنهم غزوا على هذا ورضوا به
و الثانية : لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقسم الغنائم و الخلفاء بعده و لأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال فيفضي إلى ظفر العدو بهم و قصة بدر منسوخة بقول الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول }
فصل
فأما تفضيل بعض الغانمين على بعض فإن كان على سبيل التنفيل لبعضهم فقد ذكرناه و إن كان على غير ذلك لم يجز لأن النبي صلى الله عليه و سلم سوى بينهم و لأنهم أشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فيجب التسوية بينهم كسائر الشركاء
فصل
ومن غل من الغنيمة و هو أن يكتم ما غنمه أو شيء منه وجب احراق رحله إلا السلاح و المصحف و ما فيه روح لما روى صالح بن محمد بن زائدة قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه و سلم : قال : [ إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه و اضربوه ] قال : فوجدنا في متاعه مصحفا فسألنا سالما عنه فقال : بعه و تصدق بثمنه
و لا يحرق المصحف و الحيوان لحرمته و لا ثيابه لأنه يبقى عريانا و لا ما غله لأنه للمسلمين و إن مات قبل إحراق متاعه لم يحرق لأنه عقوبة فسقط بموته كالحد و لأن ماله ينتقل إلى وارثه فيصير احراقه عقوبة لغير الجاني و لا يحرم الغال سهمه لأن سبب استحقاقه متحقق
فصل
و إذا كان في السبي من يعتق على بعض الغانمين بالملك أو عتق عبدا من الغنيمة عتق عليه كله و عليه قيمته يرد في المقسم إن كان موسرا لأنه ملك جزءا منه بفعله فعتق عليه جميعه كما لو اشترى جزءا منه و إن كان معسرا لم يعتق عليه إلا ما ملك منه كذلك ومن وطئ جارية من المغنم ممن له فيها حق أو لولده فلا حد عليه للشبهة و يعزر وعليه مهرها لأنه وطء سقط فيه حد عن الواطئ للشبهة فوجب به المهر كالوطء في نكاح فاسد و إن أحبلها ثبت نسب الولد و ينعقد حرا للشبهة و تصير أم ولد له و عليه قيمتها ترد في المغنم و هل يلزمه قيمة الولد ؟ فيه روايتان :
إحداهما : تلزمه لأنه فوت رقه
و الثانية لا يجب لأنه ينعقد حرا فلم يدخل في ملك الغانمين
فصل
و يجوز للأمير البيع من الغنيمة قبل القسمة للغانمين و لغيرهم إذا رأى المصلحة فيه لأن الولاية ثابتة له عليها و قد تدعو الحاجة إلى ذلك لإزالة كلفة نقلها أو لتعذر قسمتها بعينها و يجوز لكل واحد من الغانمين بيع ما يحصل له بعد القسم و التصرف فيه كيف شاء لأن ملكه ثابت فيه فإن باع الأمير أو بعض الغانمين في دار الحرب شيئا فغلب عليه العدو قبل إخراجه إلى دار الإسلام ففيه روايتان :
إحداهما : هو من ضمان المشتري أختارها الخلال وصاحبه لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه التصرف فيه فكان من ضمانه كما لو اشتراه في دار الإسلام
و الثانية : ينفسخ البيع و يسقط الثمن عن المشتري أو يرد إليه إن كان أخذ منه اختارها الخرقي لأنه لم يكمل قبضه لكونه في دار الحرب في خطر قهر العدو فلم يضمنه المشتري كالثمر في الشجر هذا إذا أخذ بغير تفريط من المشتري فإن أخذ منه لخروجه من العسكر فهو من ضمانه لأنه ذهب بتفريطه أشبه ما لو أتلفه
فصل
قال أحمد [ رضي الله عنه ] : ولا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا لأنه يحابي ولأن عمر [ رضي الله عنه ] رد ما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء فأما إن وكل من يشتري له ممن لا يعرف أنه وكيله صح الشراء لعدم المحاباة ورخص أبو عبد الله فيما إذا قوم أصحاب المقاسم فقالوا : جلود الماعز بكذا والخرفان بكذا فاحتاج أحد الغانمين إلى أخذ شيء منه بتلك القيمة أن يأخذه ولا يأتي المقاسم لأجل المشقة في استئذانهم في جميع ذلك
فصل
و ما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين أو أهل الذمة ثم ظهر عليه المسلمون فأدركه صاحبه قبل قسمه وجب رده إليه لما روى ابن عمر أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي صلى الله عليه و سلم و عنه : أن غلاما له أبق إلى أرض العدو فظهر عليه المسلمون فرده النبي صلى الله عليه و سلم إلى ابن عمر و لم يقسم رواهما أبو داود
فإن لم يرده إليه الإمام و قسمه مع العلم لم تصح قسمته لأنه قسم مال مسلم يجب رده إليه فأشبه المغصوب و لصاحبه أخذه بغير شيء فأما إن أدركه صاحبه بعد القسم ففيه روايتان :
إحداهما : لا حق له فيه لما روي أن أبا عبيد كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أحرز المشركون من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليهم بعد قال : من وجد عين ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم و قال سلمان بن ربيعة : إذا قسم فلا حق له فيه رواهما سعيد و روى أصحابنا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ومن أدرك ماله قبل أن يقسم فهو له و إن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شيء ]
و الثانية : هو أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون أصابوه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن أصبته قبل القسمة فهو لك و إن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة ] و لأن امتناع أخذه خشية ضياع حق آخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري و هذا ينجبر بأداء الثمن فوجب أن يأخذه بالثمن كالشقص المشفوع و إن أخذ أحد الرعية مال المسلم من الكفار بغير عوض كالهبة و السرقة فصاحبه أحق به لما روي : أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه و سلم فأخذوا ناقته و جارية من الأنصار فأقامت عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل قالت : فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة و نذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذها فقلت : يارسول الله إني نذرت أن أنحرها فقال : [ بئس ما جازيتها لا نذر في معصية ] و في لفظ : [ لا نذر فيما لا يملك ابن آدم ] و لأنه حصل في يده بغير عوض و لا قسمة أشبه ما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة وإن أخذه من الكفار بثمن فحكمه حكم المقسوم هل يكون صاحبه أحق به بالثمن أو لا يستحقه ؟ يحتمل وجهين : لما روى الشعبي قال : أغار أهل ماه و أهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا العرب فكتب السائب ابن الأقرع إلى عمر في سبايا المسلمين و رقيقهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب عمر فيمن أصاب رقيقه ومتاعه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فإنه ترد إليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع و لا يشترى رواه سعيد
فصل
و إن استولى حربي على مال مسلم ثم أسلم أو دخل إلينا بأمان فهو له نص عليه أحمد و إن كان قد أتلفه أو باعه فلا شيء عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم على شيء فهو له ] و إن كان أخذه من المستولي عليه بسرقة أو هبة أو شراء فكذلك في إحدى الروايتين لأنه قد حصل منه الاستيلاء و الأخرى صاحبه أحق به بالقيمة لأنه كالمقسوم فإن استولى على جارية فاستولدها فهي أم ولد له فإن غنمها المسلمون فأدركها صاحبها أخذها و كان أولادها غنيمة لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها
فصل
و إن استولى الكفار على حر من المسلمين أو أهل الذمة لم يملكوه و إن اشتراه رجل منهم فعلى الأسير أداء ما اشتراه به لما ذكرنا من خبر عمر وإن استولوا على عبد فحكمه حكم الأموال قنا كان أو مدبرا أو مكاتبا أو مدبرا لأنه يضمن بالقيمة و هل يكون سيده أحق به بالثمن بعد القسمة ؟ على الروايتين و إن استولوا على أم ولد فأدركها صاحبها بعد القسمة أو في يد مشتريها من الكفار فهو حق بها بالقيمة بكل حال لأنه قد حصل فيها سبب للحرية لازم فأثر ذلك في منع إقرار اليد عليها فإن لم يحب سيد المكاتب أخذه فهو في يده مشتريه أو من أعطيه من الغانمين فبقي على ما بقي عليه من كتابته يعتق بالأداء وولاؤه لمن يؤدي إليه
فصل
وإن غنم المسلمون من الكفار شيئا عليه علامة المسلمين ولم يعرف صاحبه فهو غنيمة تجوز قسمته لأنه قد وجد سبب الملك و هو الاستيلاء و لم يتحقق ما يمنعه فإن كان فيها شيء موسوم عليه حبيس رد إلى أهله لأته قد عرف مصرفه و إن كان فيها عبد فقال : أن لفلان قبل منه ورد إلى صاحبه وإن أصابوا مركبا كان للمسلمين و فيه النواتية فقالوا : هذا لفلان و هذا لفلان لم يقسم نص أحمد رضي الله عنه على هذا كله
فصل
و إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام فغنموا ففي غنيمتهم ثلاث روايات :
إحداهن : فيها الخمس و سائرها لهم لعموم قوله سبحانه : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه }
و الثانية : هي لهم من غير خمس لأنه اكتساب مباح من غير جهاد فأشبه الإحتطاب
والثالثة : هي فئ لا شيء لهم فيها لأنهم عصاة بفعلهم فلم يملكوه كالسرقة من المسلمين و إن كانت الطائفة ذات منعة فكذلك لما ذكرنا من التعليل و قيل : لا يكون لهم بغير خمس رواية واحدة لأنها غنيمة فلا يستحقونها بغير خمس و كسائر الغنائم
فصل
ومن أجر نفسه على حفظ الغنيمة أو سوق دوابها أو رعيها أو حملها فله إجرته لأنه فعل بالمسلمين إليه حاجة لم يتعين عليه فعله فأبيح له إجارة نفسه فيه كالدلالة على الطريق و ليس له ركوب دابة من المغنم و لا حبيس لأنه يستعمل دابة المسلمين فيما يختص نفعه به فلم يجز كما لو أجر نفسه لأجنبي فإن فعل فعليه أجرة مثل الدابة يرد في المغنم إن كانت من الغنيمة أو تصرف في نفقة دابة الحبيس إن كانت حبيسا و إن شرط له في الإجارة ركوب دابة من المغنم جاز لأن ركوبها من الأجرة فجازت من المغنم كما لو أجر نفسه بدابة من المغنم
فصل
وما أهداه أهل الحرب للأمير الجيش أو غيره من أهل الجيش في دار الحرب فهو غنيمة لأنه يغلب على الظن أنه بذله خوفا من المسلمين و إن كانت الهدية من دار الحرب إلى دار الإسلام فهي لمن أهدي إليه لأنه تبرع له بذلك من غير خوف فأشبه هدية المسلمين
فصل
و إن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد و إن حصلت غنائم قسمها أهلها بينهم على موجب الشرع لأنها مال لهم مشترك فجاز لهم قسمته كسائر الأموال فإن كان فيها إماء أخروا قسمتهن حتى يظهر إمام لأن في قسمتهن إباحة الفروج فاحتيط في بابها

باب قسمة الخمس
يقسم الخمس على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم و سهم لذي القربى و سهم لليتامى و سهم للمساكين و سهم لابن السبيل لقول الله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فسهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يصرف في مصالح المسلمين لما روى جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تناول بيده وبرة من بعير ثم قال : [ و الذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله الخمس و الخمس مردود عليكم ] فجعله لجميع المسلمين و لا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم من سد الثغور و كفاية أهلها و شراء الكراع و السلاح ثم الأهم فالأهم على ما سنذكره في الفيء و عنه : أن سهم الرسول صلى الله عليه و سلم يختص بأهل الديوان لأن النبي صلى الله عليه و سلم استحقه لحصول النصرة فيكون لمن يقوم مقامه في النصرة و عنه : أنه يصرف في الكراع و السلاح
فصل
وسهم ذو القربى لبني هاشم و بن المطلب ابني عبد مناف لما روى جبير بن مطعم قال : لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم سهم ذي القربى من بني هاشم و بني المطلب جئت أن و عثمان فقلنا : يا رسول الله إن إخواننا بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم و تركتنا ؟ و إنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال : [ إنهم لم يفارقوني في جاهلية و إسلام إنما بنو هاشم و بنو المطلب شيء واحد ] ثم شبك بين أصابعه رواه أبو داود
ويجب تعميمهم به حيث كانوا لعموم قوله تعالى : { و لذي القربى } و لأنه حق يستحق بالقرابة فوجب تعميمهم به كالميراث و يعطى الغني و الفقير و الذكر و الأنثى كذلك و لأم النبي صلى الله عليه و سلم أعطى منه العباس و هو غني و أعطى صفية عمته و يقسم للذكر مثل حظ الإنثيين لأنه يستحق بقرابة الأب بالشرع أشبه الميراث و يحتمل أن يسوى بينهما كالمستحق بالوصية للقرابة
فصل
و أما سهم اليتامى فهو لصغير لا أب له لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتم بعد احتلام ] و يعتبر أن يكون فقيرا لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب و سهم المساكين للفقراء أو المساكين الذين يستحقون من الزكاة لأنهم متى أفرد لفظ المساكين أو الفقراء تناول الصنفين بدليل مصرف الكفارات و الوصايا و النذور و سهم ابن السبيل للصنف المذكور في أصناف الزكاة
فصل
و لا حق في الخمس لكافر لأنه عطية من الله فلم يكن لكافر فيه حق كالزكاة و لا للعبد لأن ما يعطاه لسيده فكانت العطية لسيده دونه

باب قسم الفيء
فصل
و هو : كل مال أخذ من المشركين بغير قتال كالجزية و الخراج و العشور المأخوذة من تجارهم و ما تركوه فزعا هربوا أو بذلوه لنا في الهدنة و نحو ذلك فذكر الخرقي : أنه يخمس فيصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة لقول الله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } و هؤلاء أهل الخمس و هذا إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله و ظاهر المذهب أنه لا يخمس لقول الله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } الآيات فجعله كله لجميع المسلمين قال عمر رضي الله عنه لما قرأها : هذه استوعبت المسلمين و لئن عشت ليأتين الراعي و هو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه و على كلتا الروايتين يبدأ فيه بالأهم فالأهم و أهم المصالح كفاية أجناد المسلمين بأرزاقهم و سد الثغور بمن فيه كفاية و كفايتهم بأرزاقهم و بناء ما يحتاج إلى بنائه منها و حفره الخنادق و شراء ما يحتاج إليه من الكراع و السلاح ثم الأهم فالأهم من عمارة القناطر و الطرق و المساجد و كري الأنهار و سد البثوق و أرزاق القضاة و الأئمة و المؤذنين و من يحتاج إليه المسلمون وكل ما يعود نفعه إلى المسلمين ثم ما فضل قسمه على المسلمين لما ذكرنا من الآية و قول عمر رضي الله عنه و ذكر القاضي : أن الفيء لأهل الجهاد خاصة دون غيرهم من الأعراب ومن لا يعد نفسه للجهاد لأنه ذلك كان للنبي صلى الله عليه و سلم لحصول النصرة به فلما مات أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك و هم المقاتلة دون غيرهم
فصل
ويفرض للمقاتلة من المسلمين قدر كفايتهم لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فيجب أن يكفوا المؤنة و يتعاهد عدد عيالهم لأنهم قد يزيدون و ينقصون و يتعرف أسعار ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة لأنه قد يغلوا و يرخص لتكون أعطيتهم على قدر كفايتهم و لا يفرض في المقاتلة لصبي و لا مجنون و لا عبد و لا مرأة و لا ضعيف عاجز عن الجهاد و لا لمريض لا يرجى برؤه لأنهم من غير أهل الجهاد و يفرض للمريض المرجو برؤه لأن أحدا لا يخلو من عارض و إن مات مجاهد وله عائلة أجري عليهم قدر كفايته لأن فيه تطبيب قلوب المجاهدين فمتى علموا أن عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم توفروا على الجهاد و إن علموا خلاف ذلك توفروا على الكسب و آثروه على الجهاد فإذا بلغ الذكور منهم فاختاروا أن يكونوا من المقاتلة فرض لهم و إن لم يختاروا تركوا و متى تزوجت المرأة سقط حقها لأنها خرجت من عيال الميت و من مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه لأنه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى وارثه كسائر الموروثات
فصل
و ينبغي للإمام أن يضع ديوانا يكتب فيه أسماء المقاتلة و قدر أرزاقهم لما روي عن أبي هريرة قال : قدمت على عمر رضي الله عنه ثمانمائة ألف درهم فلما أصبح أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم : قد جاء للناس مال لم يأتيهم مثله منذ كان الإسلام أشيروا علي بمن أبدأ ؟ قالوا : بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال : لا و لكن ابدأوا بأهل بيت رسول الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب فوضع الديوان على ذلك و يجعل لكل طائفة عريفا يقوم بأمرهم و يجمعهم وقت العطاء و وقت الغزو لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا و يجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين و لا يجعل في أقل من ذلك لئلا يشغلهم عن الغزو ويبدأ ببني هاشم لأنهم أقارب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما ذكرنا من خبر عمر ثم ببني المطلب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما بنو هاشم و بنو المطلب شيء واحد ] وشبك بين أصابعه ثم ببني عبد شمس لأنه أخو هاشم لأبيه و أمه قال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : عبد شمس كان يتلو هاشما وهما بعد لأم و أب ثم ببني نوفل لأنه أخو هاشم لأبيه ثم يعطى بنو عبد العزى و عبد الدار و يقدم عبد العزى لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن خديجة منهم فعلى هذا : يعطى الأقرب فالأقرب حتى تنقضي قريش و هم بنو النضر بن كنانة ثم يقدم الأنصار على سائر العرب لسابقتهم و آثارهم الجميلة ثم سائر العرب ثم العجم وإن استوى اثنان في الدرجة قدم أسنهما ثم أقدمهما هجرة و سابقة
فصل
واختلفت الرواية عن أحمد في جواز تفضيل بعضهم على بعض فروي عنه : أنه يسوى بينهم في العطاء ولا يجوز التفضيل لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سوى بينهم فيه و قال : فضائلهم عند ربهم و لأن الغنائم تقسم بين من حضر الوقعة على السواء فكذلك الفيء و عنه : أن للإمام تفضيل قوم على قوم لأن عمر رضي الله عنه قسم بينهم على السوابق و قال : لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه و لأن النبي صلى الله عليه و سلم قسم النفل بين أهله متفاضلا وهذا في معناه
فصل
ومن ضل من أهل الحرب الطريق فوقع في دار الإسلام أو حملته الريح في المركب إلينا أو شرد من دوابهم فحصل في أيدينا ذكر أبو الخطاب فيه روايتين :
إحداهما : يكون فيئا لأنه مال مشرك ظهر عليه بغير قتال أشبه ما تركوه فزعا وهربوا
و الثانية : هو لمن أخذه لأنه مباح ظهر عليه بغير جهاد فكان لآخذه كمباحات دار الإسلام و قد روي عن أحمد فيمن ضل الطريق منهم فدخل إلى قرية قال : هو لأهل القرية كلهم وقال في عبد أبق إلى أرض الروم ثم رجع و معه متاع : فالعبد لمولاه و ما معه من متاع و المال فهو للمسلمين و قال القاضي : هذا على الرواية التي تجعل غنيمة الذين دخلوا أرض الحرب بغير إذن الإمام فيئا فأما على الرواية الأخرى فيكون المال لسيده لأنه كسب عبده و في تخميسه روايتان و لو أسر الكفار رجلا فغنم منهم شيئا و خرج به إلى دار الإسلام كان له لأنه كسبه و يحتمل أن يجب فيه الخمس لأنه غنيمة وقد روى الأوزاعي أنه لما أقفل عمر بن عبد العزبز الجيش الذين كانوا مع مسلمة كسر مركب بعضهم فأخذ المشركون ناسا من القبط فكانوا خدما لهم ثم خرجوا إلى عبد لهم و خلف القبط في مركبهم و رفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين و سلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليهم عمر : نفلوهم القلع و كل شيء جاؤوا به إلا الخمس رواه سعيد و يحتمل أن يكون فيئا استدلالا بقول عمر : نفلوهم الذي جاؤوا به ولو كان لهم لم يكن نفلا

باب حكم الأرضين المغنومة
الأرض التي بأيدي المسلمين تنقسم قسمين :
أحدهما : ما هو مملوك لأهله لا خراج عليه و هو ما أسلم عليه أهله كأرض مدينة النبي صلى الله عليه و سلم أو غنمه المسلمون فقسم بينهم كأرض خيبر التي قسمها النبي صلى الله عليه و سلم بين أصحابه الذين افتتحوها أو ما صالح أهله على أن الأرض لهم كأرض اليمن و الحيرة و بانقيا و أليس من العراق أو ما أحياه المسلمون من موات الأرض كأرض البصرة كانت سبخة فأحياها عتبة بن غزوان و عثمان بن أبي العاص فهذا ملك لأهله لهم التصرف فيه بالبيع و سائر التصرفات لأنه مملوك لهم أشبه الثياب و السلاح
القسم الثاني : ما وقفه الأئمة على المسلمين ولم يقسموه كأرض الشام كلها ما خلا مدنها و العراق كله إلا ما ذكرنا منه و الجزيرة و مصر و المغرب و سائر ما افتتح عنوة فهذا وقفه عمر رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أحد من أصحابه أنه قسم أرضا عنوة غير خيبر وروى أبو عبيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه : أنه قدم الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين فقال له معاذ : و الله إذا ليكونن ما تكره و إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد و المرأة الواحدة ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا و هم لا يجدون شيئا فانظروا أمرا يسع أولهم و آخرهم فصار عمر إلى قول معاذ
و لما افتتح عمرو بن العاص مصر طلب منه الزبير قسمتها فكتب في ذلك إلى عمر فكتب عمر : أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة وروى عن بكير بن عامر قال : اشترى عتبة بن فرقد أرضا من أرض الخراج فأتى عمر فأخبره فقال عمر : ممن اشتريتها ؟ قال : من أهلها قال : فهؤلاء أهلها للمسلمين أ بعتموه شيئا ؟ قالوا لا قال : فاذهب فاطلب مالك و عن عبد الله بن المغفل أنه قال : لا تشتر من أرض السواد إلا من أهل الحيرة و بانقيا و أليس و روى هذا كله أبو عبيد و قد اشتهرت قصة عمر رضي الله عنه في ضرب الخوارج على أرض السواد و إقراره في يد أهله الخوارج الذي ضربه وجعل ذلك أجرة له و لم يقدر مدته لعموم المصلحة فيه فهذا لا يجوز بيعه و لا شراؤه لخبر عتبة بن فرقد و لأنه موقوف للمسلمين كلهم فلم يجز بيعه كسائر الوقوف فأما إجارته فجائزة لأنه مستأجر في أيدي أربابه بالخوارج و إجارة المستأجر جائزة و ذكر القاضي في إجارته روايتين و الصحيح ما ذكرناه وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى : أنه كره بيعها و أجاز شراءها لأنه استنقاذ لها فجاز كشراء الأسير و من كانت في يده أرض فهو أحق بها بالخوارج كالمستأجر و تنتقل إلى وراثه بعده على وجه الذي كانت في يد موروثه و إن آثر بها أحدا صار الثاني أحق بها و إن عجز رب الأرض عن عمارتها و أداء خراجها أجبر على رفع يده عنها و دفعت إلى غيره لأن الأرض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم
فصل
و يجب الخراج في العامر الذي يمكن زرعه و الانتفاع به فأما الموات الذي لا يمكن زرعه فلا خراج فيه لأن الخرج أجرة الأرض و لا أجرة لهذا و عنه : يجب فيه الخراج إذا كان على صفقة يمكن إحياؤه ليحييه من هو في يده أو يرفع يده عنه فيحييه غيره و ينتفع به و ما كان من الأرض لا يمكن زرعها حتى تراح عاما و تزرع عاما فخراجها على النصف من خراج غيرها لأن نفعها على النصف و حكم الخراج حكم الدين يطالب به الموسر و ينظر به المعسر لأنه أجرة فأشبه أجرة المساكن وإن رأى الإمام المصلحة في ترك خراج إنسان له أو تخفيفه جاز له لأنه فيء فكان النظر فيه إلى الإمام و يجوز لصاحب الأرض أن يرشو العامل ليدفع عنه الظلم في خراجه لأنه يتوصل بماله إلى كف اليد العادية عنه و لا يجوز له ذلك ليدع له من خراجه شيئا لأنه رشوة لإبطال حق فحرمت على الآخذ و المعطي كرشوة الحاكم ليحكم له بغير الحق
فصل
و لا يسقط خراج هذه الأرض بإسلام أهلها أو انتقالها إلى مسلم لأنه أجرة فأشبه أجرة المساكن قال أحمد : ما كان من أرض عنوة ثم أسلم صاحبها وضعت عنه الجزية و أقر على أرض الخراج و قال أيضا : أرض أهل الذمة فيها الخراج فإن اشتراها المسلم ففيها الخراج لأنه حق على الأرض قال : ويكره للمسلم أن يشتري من أرض الخراج و المزارع لأن في الخراج معنى الذلة و بهذا وردت الأخبار عن عمر و غيره و معنى الشراء هاهنا : أن يتقبل الأرض بما عليها من خراجها لأن شراء هذه الأرض غير جائز أو يكون على الرواية التي أجاز شراءها لكونه استنقاذا لها فهو كاستنقاذ الأسير
فصل
و يعتبر الخراج بما تحمله الأرض من القليل و الكثير و المرجع فيه إلى اجتهاد الإمام في إحدى الروايات و هي اختبار الخلال و عامة شيوخنا لأنها أجرة فلم تقدر بمقدار ما لا يختلف كأجرة المساكن
و الثانية : يرجع فيه إلى ما فرض عمر رضي الله عنه لا تجوز الزيادة عليه و لا النقصان منه لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره
و الثالثة : تجوز الزيادة عليه و لا يجوز النقصان لما روى عمرو بن ميمون : أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول لحذيفة و عثمان بن حنيف : لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقال عثمان : و الله لئن زدت عليهم لا تشق عليهم و لا تجهدهم فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم
و اختلف عن عمر رضي الله عنه في قدر الخراج إلا أنه روي عن عمرو بن ميمون : أنه و ضع على كل جريب من أرض السواد قفيزا و درهما قال أحمد : أعلى و أصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون في الدرهم و القفيز و هذا يل على أنه أخذ به
فصل
قال أحمد رضي الله عنه : قدر القفيز صاع قدره ثمانية أرطال قال القاضي : عندي أن ثمانية أرطال بالمكي فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي و قال أبو بكر : قد قيل : إن قدره ثلاثون رطلا و ينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض لأنه روي عن عمر رضي الله عنه : أنه ضرب على الطعام درهما و قفيز حنطة و على الشعير درهما و قفيز شعير
فصل
و الجريب : عشر قصبات في عشر قصبات و القبضة : ستة أذرع بذراع عمر رضي الله عنه و هو ذراع وسط لا أطول ذراع و لا أقصرها و قبضة و إبهام قائمة و ما بين الشجر من بياض الأرض تبع لها ومن ظلم في خراجه لم يحتسبه من العشر لأنه ظلم فلم يحتسبه من العشر كالغصب و عنه : يحتسبه من العشر لأن الآخذ لهما واحد و هذا اختيار أبي بكر
فصل
و ما فتح عنوة فالإمام مخير بين قسمته بين الغانمين فيصير ملكا لهم لا خراج عليه و بين و قفها على المسلمين و ضرب الخراج عليها لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل الأمرين في خيبر فقسم نصفها ووقف نصفها و عمر وقف كل شيء فتحه و لم يقسمه فدل على جواز الأمرين و ليس له إلا فعل مايرى المصلحة فيه فما فعل من ذلك لزم قال أحمد رحمه الله : هم على ما يفعل الفاتح إذا كان من أئمة الهدى و عنه : أن الأرض تصير و قفا بنفس الظهور عليها لأن الأئمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم لم يقسموا أرضا افتتحوها و لأن في قسمتها المحذور الذي ذكره معاذ رضي الله عنه و إنما قسم النبي صلى الله عليه و سلم نصف خيبر في بدء الإسلام لضعفهم و حاجتهم و ذكر أبو الخطاب رواية ثالثة : أنها تقسم بين الغانمين من غير تخيير لعموم قوله سبحانه : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } لأن فعل النبي صلى الله عليه و سلم أولى من فعل غيره و الأول أولى لأن عمر رضي الله عنه و من بعده لم يقسموا الأرض و تابعهم علماء الصحابة عليه فحصل إجماعا و ما وقفه الإمام فهو مخير بين إقرار أهله بالخراج و بين إجلائهم و جلب غيرهم لأن الأرض قد ملكت عليهم فأما ما جلى عنها أهلها خوفا من المسلمين فتصير وقفا بنفس الظهور عليها لأنها ليست غنيمة فتقسم و عنه : لا تصير وقفا حتى يقفها الإمام لأن الوقف لا يثبت بنفسه و حكمها حكم العنوة إذا وقفت و كذلك الحكم فيما صالحونا عليه على أن الأرض للمسلمين و تقر في أيديهم بالخراج فأما إن صالحناهم على أن الأرض لهم و لنا عليها الخراج فهذه ملك لأربابها متى أسلموا سقط عنهم لأنه بمنزلة الجزية فيسقط بالإسلام كالجزية و لهم بيعها و التصرف فيها و إن انتقلت إلى مسلم لم يؤخذ خراجها لما ذكرناه

باب الأمان
يحوز عقد الأمان لجميع الكفار و آحادهم لقول الله تعالى : { و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } و روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين لا يقبل منه صرف و لا عدل ] رواه البخاري
و تصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا أو عبدا للخبر و قالت عائشة رضي الله عنها : إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز و عن فضيل بن يزيد الرقاشي قال : جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا فكنت فيه فحضرنا موضعا فرأينا أنا سنفتحها اليوم و جعلنا نقبل و نروح ففي عبد منا فراطنهم و راطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة و شدها على سهم و رمى بها إليهم فأخذوها و خرجوا فكتب بذلك إلى عمر فقال : العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه رواهما سعيد و يصح أمان الأسير المسلم إذا عقده غير مكره كذلك
فصل
و لا يصح من كافر لقوله عليه السلام : [ يسعى بها أدناهم ] و ليس الكافر منهم و لأنه متهم في الدين و لا من مجنون و لا طفل لأنه لا حكم لقولهما و لا مكره لأنه عقد أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع و في الصبي المميز روايتان :
إحداهما : لا يصح منه لأن القلم مرفوع عنه و لا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره كالمجنون
و الثانية : يصح لعموم الخبر و لأنه مسلم عاقل فصح أمانه كالبالغ فإن دخل مشرك بأمان من لا يصح أمانه عالما بفساده جاز قتله و أخذ ماله لأنه حربي لا أمان له و إن لم يعرف عرف ذلك ورد إلى مأمنه ولم يجز قتله لأنه دخل على أنه بأمان
فصل
و للإمام عقده لجميع الكفار لأن له الولاية على جميع المسلمين و للأمير عقده لمن أقيم بإزائه لأن إليه الأمر فيهم و أما سائر الرعية فلهم عقده للواحد و العشرة و الحصن الصغير لحديث عمر في أمان العبد و لا يصح لأهل بلدة و رستاق ونحوهم لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد و الافتئات على الإمام و للإمام و الأمير أمان الأسير لأن عمر رضي الله عنه أمن الهرمزان و هو أسير و لأن له المن عليه فالأمان أولى و ليس ذلك لغيره لأن أمر الأسير إلى الإمام فلم يجز لغيره الافتئاف عليه / ذكر أبو الخطاب : أن ذلك لكل مسلم لأن زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره فأمضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم
فصل
ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله و يعرف الشريعة وجب أن يعطاه ثم يرد إلى مأمنه لقول الله سبحانه : { و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } و يجوز عقده للمستأمن غير مقيد بمدة لأن ذلك لا يفضي إلى ترك الجهاد قال القاضي : يجوز أن يقيموا في دارنا مدة الهدنة بغير جزية و هو ظاهر كلام أحمد رحمه الله لأن من جاز إقراره بغير جذية فيما دون السنة جاز فيما زاد كالمرأة وقال أبو الخطاب : عندي لا يجوز أن يقيموا سنة فصاعدا بغير جزية لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون }
فصل
و يحصل الأمان بما يدل عليه من قول و غيره فالقول مثل أمنتك أو أنت آمن او أجرتك أو أنت مجار أو في جواري أو في ذمي أو في أماني أو في خفارتي أو لا بأس عليك أو لا خوف عليك أو لا تخف أو مترس بالفارسية و نحو ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم الفتح : [ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ] و قال لأم هانئ : [ قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ] و قال أنس لعمر في قصة الهرمزان : ليس إلى قتله سبيل قد قلت : تكلم لا بأس عليك فأمسك عمر و روى زر عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجميا فقال : له : مترس فقد أمنه و إن أشار إليه بالأمان فهو أمان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل إليه فقتله لقتله به فإن قال المسلم : لم أرد به الأمان فالقول قوله لأنه أعلم بنيته و يرد المشرك إلى مأمنه لأنه نزل على أنه آمن وإن قال له : قف أو قم أو ألق سلاحك فقال أصحابنا : هو أمان لأن الكافر يعتقده أمانا فأشبه قوله : لا تخف و يحتمل أن يرجع فيه إلى النية فإن نوى به الأمان كان أمنا لأنه يحتمله و إن لم ينو لم يكن أمانا لأنه يستعمل للإرهاب و التخويف والتهديد فلم ينصرف إلى الأمان بغير نية و إذا اختلفا في نيته فالقول قول المسلم لما ذكرنا و إن قال الكافر : أنت آمن فرد الأمان لم ينعقد لأنه إيجاب حق بعقده فلم يصح مع الرد كالبيع و إن قبله ثم رده انتفض لأنه حق له فسقط بإسقاطه كالرق
و أما الفعل فإذا دخل الحربي دار الإسلام رسولا أو تاجرا و قد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا كان أمانا له و لم يجز التعرض له لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرسولي مسيلمة : [ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما ] رواه أبو داود و النسائي بمعناه و لأنهم دخلوا يعتقدون الأمان فأشبه ما لو دخلوا بإشارة المسلم
و إن دخل المسلم دار الحرب رسولا أو تاجرا و قد جرت العادة بدخول تجارنا إليهم صار في أمانهم و صاروا في أمان منه لأن الأمان إذا انعقد من أحد الطرفين انعقد من الآخر فلا تحل خيانتهم في أموالهم و لا معاملتهم بالربا لأن من حرم ماله عليك و مالك عليه حرمت معاملته بالربا كالمسلم في دار الإسلام و إذا أخذ المسلمون حربيا فادعى أنه جاء مستأمنا نظرنا فإن كان بغير سلاح قبل قوله لأن تركه السلاح دليل على قصد الأمان و إن كان معه سلاح لم يقبل منه نص عليه أحمد لأن حمله لآلة الحرب دليل على أنه محارب و قال أحمد : إذا لقي الرجل العلج فطلب من الأمان لم يعطه و إن كان المسلمون جماعة أعطوه الأمان لأن الواحد لا يأمن غدر العلج عند خلوته به و الجماعة يأمنون ذلك
فصل
و من جاء بحربي فادعى الحربي أنه أمنه فأنكر المسلم ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : القول قول المسلم لأن الأصل معه و هو إباحة دم الحربي وعدم الأمان
و الثانية : القول قول الأسير لأنه يدعي حقن دمه فيكون ذلك شبهة في درء القتل
و الثالثة : القول قول من يدل ظاهر الحال على صدقه فمتى كان أقوى من المسلم و معه سلاحه فالقول قوله : لأن الظاهر معه و إن كان ضعيفا مأخوذا سلاحه فالقول قول المسلم لأن الظاهر معه
فصل
و إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لنفسه و ماله الذي معه لأن الأمان يقتضي ترك التعرض له بما يضره و أخذ ماله يضره فإن أودع ماله أو أقرضه مسلما أو ذميا ثم عاد إلى دار الحرب رسولا أو تاجرا أو متنزها ليعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه و إن دخل مستوطنا أو محاربا انتقض الأمان في نفسه لأنه تركه و بقي ماله لأنه بطل في نفسه بعوده و لم يوجد ذلك في المال و لأن الأمان ثبت للمال بأخذ المودع والمقترض له فأشبه ما لو استودعه في دار الحرب و دخل به دار الإسلام فإن طلبه صاحبه بعث به إليه و إن مات بعث إلى وارثه و كذلك إن مات المستأمن في دار الإسلام بعث ماله إلى وارثه لأن الأمان حق لازم تعلق بالمال فإذا انتقل إلى الوارث انتقل بحقه كسائر ماله و إن لم يكن له وارث فهو فيء لأنه مال انتقل عن الكافر و لا مستحق له فأشبه مال الذمي الذي يموت و لا وارث له و إن سبي مالكه كان موقوفا فإن عتق رد إليه و إن مات في الرق أو قتل فماله فيء لأنه لا يورث فأشبه مال من لا وارث له
فصل
و إن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالا مضاربة أو وديعة و دخل به دار الإسلام فهو في أمان حكمه مثل ما ذكرنا و إن أخذه ببيع في الذمة أو اقتراض فالثمن في ذمته عليه أداؤه إليه و إن اقترض حربي من حربي مالا ثم دخل إلينا فأسلم فعليه رد البدل لأنه أخذه على سبيل المعاوضة فأشبه مالو تزوج حربية ثم أسلم فإنه يلزمه مهرها
فصل
و إن حصر المسلمون حصنا فطلب رجل منهم الأمان ليفتح لهم الحصن جاز إعطاؤه و كذلك إن طلبه لجماعة معينين جاز لما روي أن المهاجر بن أبي أمية لما حصر النجير بعث إليه الأشعث بن قيس : تعطيني الأمان لعشرة و أفتح لك الحصن ؟ ففعل فإن فتح الحصن فادعى الأمان منهم جماعة كل واحد يقول أنا المعطى و أشكل لم يجز قتل واحد منهم لأنه اشتبه المباح بالمحرم فوجب تغليب التحريم كما لو اختلطت أخته بأجنبيات و في استرقاقهم وجهان :
أحدهما : لا يسترق واحد منهم كذلك قال القاضي : هذا المنصوص عليه
و الثاني : يقرع بينهم فيخرج صاحب الأمان بالقرعة و يسترق الباقون اختارها أبو بكر : لأنه استبه الحر بالرقيق فوجب أن يخرج بالقرعة كما لو أعتق عبدا من عبيده و أشكل و إن أسلم واحد في الحصن قبل فتحه ثم فتح فأدعى كل واحد منهم أنه المسلم خرج فيها ما في التي فبلها لأنها في معناها
فصل
و إذا أسر الكفار أسيرا فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة كانوا في أمان منه و لم يكن له أن يهرب منهم و لا أن يخونهم في أموالهم لأنهم على هذا أطلقوه و إن أطلقوه ولم يشرطوا عليه شيئا فله أن يقتل و يسرق و يهرب لأنه لم يصدر منه ما يثبت به الأمان و كذلك إن أطلقوه على أن يكون رقيقا لهم و ملكا لأنه حر لا يثبت عليه الملك و لم يصدر منه أمان فإن أطلقوه و أمنوه و لم يشرطوا عليه شيئا كان له الهرب لأنه ليس بمال لهم و لم يكن له خيانتهم في أموالهم و أنفسهم أن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه و إن شرطوا عليه الإقامة عندهم فالتزمه لزمه الوفاء لهم نص عليه لقوله تعالى : { و أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } و قوله عليه السلام : [ المؤمنون عند شروطهم ] و إن شرطوا عليه أن يبعث إليهم فداءه من دار الإسلام لزمه ذلك لما ذكرنا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لما صالح أهل الحديبية على رد من جاء وفى لهم و قال : [ إنا لا يصلح في ديننا الغدر ] فإن عجز عن الفداء كان في ذمته يبعثه إليهم متى قدر كثمن المبيع
و إن شرطوا عليه أنه لم يقدر على الفداء رجع عليهم فلم يقدر عليه وكان رجلا لزمه الوفاء في إحدى الروايتين لما ذكرناه
و الثانية : لا يعود إليهم لأن العود إليهم معصية فلم يلزم بالشرط وإن كانت امرأة لم ترجع إليهم رواية واحدة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما صالح أهل الحديبية على رد من جاءه منعه الله تعالى رد النساء و لأن في ردها تسليطا على وطئها حراما فلم يجز و إن كان الأسير شرط لهم ذلك مكروها بضرب و تعذيب لم يلزمه الوفاء لهم بشرط مما شرطه و إن اشترى الأسير منهم شيئا مختارا أو اقترضه لزمه الوفاء لهم لأنه عقد معارضة فأشبه غير الأسير و إن كان مكروها لم يصح فإن أكرهوه على قبضه لم يلزمه ضمانه و إن تلف و عليه رده إن كان باقيا لأنهم دفعوه إليه بحكم عقد فاسد و إن قبضه باختياره فعليه ضمانه كذلك و الله أعلم

باب الهدنة
ومعناها : موادعة أهل الحرب ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين و تحصيل المصلحة لهم لقول الله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } و لأن هدنتهم من غير حاجة ترك للجهاد الواجب لغير فائدة فإن رأى الإمام المصلحة فيها جازت لقول الله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } وقوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } وروى مروان ومسور بن مخرمة : أن النبي صلى الله عليه و سلم صالح سهيل بم عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ووادع النبي صلى الله عليه و سلم قبائل من المشركين و قريظة و النضير و لأنه قد تكون المصلحة في الهدنة لضعف المسلمين عن قتالهم أو طمع في إسلامهم أو التزامهم الجزية أو غير ذلك و لا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد بقتضي الأمان لجميع المشركين فلم يجز لغيرهما كعقد الذمة
فصل
و لا يجوز عقد الهدنة مطلقا غير مقدرة بمدة لأن إطلاقها بقتضي التأبيد فيقضي إلى ترك الجهاد أبدا و يرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه من المصلحة في قليل و كثير و قال القاضي : و ظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز أكثر من عشر سنين هو اختيار أبي بكر لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها خص منه مدة العشر بصلح النبي صلى الله عليه و سلم أهل الحديبية على عشرة ففيما زاد يبقى على العموم
ووجه الأول : أنه عقد يجوز في العشر فجاز فيما زاد عليها كالإجارة فإن هادنهم أكثر من قدر الحاجة بطل في الزائد و هل يبطل في قدر الحاجة على وجهين بناء على تفريق الصفقة و كذلك إذا هادنهم أكثر من عشر على الرواية الأخرى بطل في الزيادة و في مدة العشر وجهان فإن قال هدنتكم ما شئتم لم يصح لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين و إن قال : هادنتكم ما شئنا أو ما شاء فلان أو شرط أن له نقضها متى شاء لم يصح لأنه ينافي مقتضى العقد و لأنه عقد مؤقت فلم يجز تعليقه على مشيئة أحدهما كالإجارة و قال القاضي : يصح لأنه جعل التحكم إليه و إن قال : إلى أن يشاء الله أو نقركم ما أقركم الله لم يجز لأنه لا طريق إلى معرفة ما عند الله
فصل
وتجوز الهدنة على غير مال لأن النبي صلى الله عليه و سلم صالح أهل الحديبية وغيرهم بغير مال وتجوز على مال يأخذه منهم لأنه إذا جازت بغير مال فعلى مال أولى فأما مصالحتهم على مال يدفعه إليهم فقد أطلق أحمد المنع منه لأن فيه صغارا على المسلمين و هذا محمول على غير حال الضرورة فأما عند الحاجة مثل أن يخاف على المسلمين قتلا أو أسرا أو تعذيب من عندهم من الأسارى فيجوز لما روى الزهري قال : أرسل النبي صلىالله عليه و سلم إلى عيينة بن حصن و هو مع أبي سفيان : [ أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان و تخذل بين الأحزاب ] فأرسل إليه عيينة : إن جعلت لي الشطر فعلت فلولا أنه جائز لما جعله له النبي صلى الله عليه و سلم و لأن الضرر المخوف أعظم من الضرر ببذل المال فجاز دفع أعلاهما بأدناهما
فصل
و يجوز في عقد الصلح شرط رد من جاء من أهل الحرب من الرجال لأن النبي صلى الله عليه و سلم شرط ذلك في صلح الحديبية و لا يجوز شرط رد النساء المسلمات لقول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } و لما عقد النبي صلى الله عليه و سلم الصلح في الحديبية جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فجاء أخواها يطلبانها فأنزل الله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله منع الصلح في النساء ] و لأنه لا يؤمن أن تتزوج بمشرك فيصيبها أو تفتن في دينها
و لا يجوز رد الصبيان العقلاء لأنهم بمنزلة المرأة في ضعف قلوبهم و قلة معرفتهم فلا يؤمن أن يفتتنوا عن دينهم و إن شرط رد الرجال بها لزم الوفاء لهم بمعنى أنهم إن جاؤوا في طلب من جاء منهم لم بمنعوا من أخذه و لا يحبره الإمام على الرجوع معهم و له أن يأمره سرا بالفرار منهم و قتالهم لأن أبا بصير جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم في صلح الحديبية فجاء الكفار في طلبه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه و لعل الله أن يجعل لك فرجا و مخرجا ] فرجع معهم قتل أحدهم و رجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فلم يلمه و لم ينكر عليه
و إن جاءت امرأة مسلمة لم يجز ردها و لا يجب رد مهرها لأن بضعها لا يدخل في الأمان و إنما رد النبي صلى الله عليه و سلم المهر لأنه شرط رد النساء فكان شرطا صحيحا فلما نسخ ذلك وجب رد البدل لصحة الشرط بخلاف حكم من بعده
فصل
و إن شرط في الهدنة شرطا فاسدا كرد المرأة أو مهرها أو السلاح أو ادخالهم الحرم أو شرط لهم مالا فهل يبطل عقد الهدنة ؟ على وجهين : بناء على الشروط الفاسدة و متى وقع العقد باطلا فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقدا للأمان و كان آمنا لأنه دخل بناء على العقد و يرد إلى دار الحرب و لا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح
فصل
و إن عقدت الهدنة على مدة وجب الوفاء بها لما ذكرنا في أول الباب و لأننا لو نقضنا عهدهم عند قدرتنا عليهم لنقضوا عهدنا عند قدرتهم علينا فيذهب معنى الصلح وإن مات الإمام أو عزل وولي غيره لزمه إمضاؤه لأنه عقد لازم فلم يجز نقضه بموت عاقده كعقد الذمة و على الإمام منع من يقصدهم من أهل دار الإسلام من المسلمين و أهل ذمتهم لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم و لا يجب منعهم ممن يقصدهم من أهل الحرب و لا منع بعضهم من بعض لأن الهدنة لم تعقد على ذلك فإن سباهم قوم لم يكن للمسلمين شراؤهم لأنهم في عهدهم فلم يملكوهم كأهل الذمة و إن أتلف عليهم المسلمون شيئا لزمهم ضمانه لأنهم في عهد فأشبه أهل الذمة وإن جاءنا منهم عبد أو أمة مسلما لم يرد إليهم لأنه صار حرا بقهره سيده و إزالة يده بدخوله دار الإسلام
فصل
و من أتلف منهم شيئا على مسلم لزمه ضمانه و إن قتله فعليه القصاص و إن قذفه فعليه الحد لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم و أمانهم من المسلمين في النفس و المال و العرض فلزمهم ما يجب في ذلك ومن شرب منهم خمرا أو زنى لم يحد لأنه حق الله تعالى و لم يلتزموه بالهدنة و إن سرق مال مسلم ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقطع لأنه حق خالص لله تعالى أشبه حد الزنا
و الثاني : يقطع لأنه يجب لصيانة حق الآدمي فأشبه حد القذف
فصل
و إن نقض أهل الذمة العهد بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انتقض عهدهم لقول الله تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } الآية والتي بعدها و قوله تعالى { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا و لم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } و قوله سبحانه : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } و لأن الهدنة تقتضي الكف فانتقضت بتركه و لا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل و فعلهم لا يحتمل غير نقض العهد وإن نقض بعضهم وسكت سائرهم انتقضت الهدنة في الجميع لأن ناقة صالح عقرها واحد فلم ينكر عليه قومه فعذبهم الله سبحانه جميعا ولما هادن النبي صلى الله عليه و سلم قريشا دخلت خزاعة مع النبي صلى الله عليه و سلم و بنو بكر مع قريش فعدت بنو بكر على خزاعة و أعانهم نفر من قريش و أمسك سائر قريش فكان ذلك نقض عهدهم فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى فتح مكة فإن أنكر الممسك على الناقض أو اعتزلهم أو راسل الإمام به لم ينتقض عهده لأنه لم ينقض و لا رضي بالنقض و يؤمر بتسليم الناقض أو التميز عنه فإن لم يفعل مع القدرة عليه انتقضت هدنته أيضا لأنه صار مظاهرا للناقض و إن لم يقدر على ذلك فحكمه حكم الأسير فإذا أسر الإمام منهم قوما فادعوا أنهم ممن لم ينقض و أشكل قبل قولهم لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم
فصل
و إن خاف الإمام نقض العهد منهم جاز أن ينبذ إليهم عهدهم لقول الله تعالى { و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } و يعني : أعلمهم بنقض العهد حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم و لا يكفي بمجرد الخوف حتى تظهر أمارة النقض و لا يفعل ذلك الإمام لأن نقضها لخوف الخيانة يحتاج إلى نظر و اجتهاد فافتقر إلى الحكم و إن خاف خيانة أهل الذمة لم ينبذ إليهم عهدهم لأن النظر في عقدها إليهم وكذلك إذا طلبوا الذمة لزمته إجابتهم إليه و النظر في الهدنة إلى الإمام فكان النظر إليه عند الخوف و متى نقضها في دارنا منهم أحد وجب ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا بأمان فوجب ردهم إلى مأمنهم كما لو أفردهم بالأمان و إن كان عليهم حق استوفي منهم

باب عقد الذمة
و لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد مؤيد تتعلق به المصالح العامة فلم يصح من غير الإمام و نائبه و يجوز عقدها لأهل الكتاب و المجوس لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله ورسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } و لما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في المجوس : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] و لأن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ الجزية من مجوس هجر و سواء كانوا عربا أو عجما لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا إلى اليمن و أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر رواه أبو داود و كانوا عربا
و أهل الكتاب : هم اليهود و النصارى و من وافقهم في أصل دينهم و آمن بنبيهم و كتابهم كالسامرة الموافقة لليهود في موسى و التوراة و الفرنج يوافقون النصارى في عيسى و الإنجيل وليس المجوس بأهل كتاب لقوله صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] و لا المتمسك بدين إبراهيم و شيث و داود بكتابي و لا تعقد له ذمة لقول الله سبحانه : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } و لا يجوز عقد الذمة لغير أهل الكتاب و المجوس كعبدة الأوثان و من عبد ما استحسن و الدهرية و نحوهم لقول الله تعالى : { فاقتلوا المشركين } ثم خص أهل الكتاب بإعطاء الجزية و ألحق بهم صلى الله عليه و سلم المجوس فبقي من عداهم على مقتضى العموم و لأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بجميع أنبياء الله تعالى و كتبه و روى الحسن بن ثواب عن أحمد : أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا من عبدة الأوثان من العرب لأنه تغلظ كفرهم بدينهم و جنسهم لكونهم رهط النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم لم يتغلظ كفرهم من الجهتين فقبلت الجزية منهم كالمجوس
و أما الصابئون فينتظر فيهم فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم و كتابهم فهم فرقة منهم و إن لم يوافقوا واحدا منهم فهم غير أهل الكتاب حكمهم حكم عبدة الأوثان
فصل
و من دخل في دين أهل الكتاب أو المجوس من سائر الكفار صار منهم و حكمه حكمهم سواء دخل قبل بعث نبينا صلى الله عليه و سلم أو بعده لعموم النصوص فيهم قال القاضي : هذا ظاهر كلام أحمد و قال أبو الخطاب : من دخل بعد بعث نبينا صلى الله عليه و سلم أو قبل بعثه و بعد تبديل كتابهم لم تعقد له الذمة لأنه دخل في دين باطل ومن كان أحد أبويه ممن تعقد له الذمة والآخر ممن لا تعقد له عقدت له الذمة لما ذكرنا ولأنه تبع لمن يؤخذ منه الجزية لأنه تبعه في الدين فتبعه في الجزية وقال أبو الخطاب : فيه وجهان
وإن ظهر المسلمون على قوم لا يعرف دينهم فادعوا إنهم أهل كتاب قبل منهم لأنهم لا يعرف دينهم إلا من جهتهم فإن أسلم منهم اثنان وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب وكانا عدلين نبذ إليهم عهدهم لأنه بان بطلانهم دعواهم
فصل
ومن عقدت له الذمة أخذت منه الجزية وفي قدرها ثلاث روايات
إحداهن : يرجع إلى ما فرضه عمر رضي الله عنه عليهم : على الموسر ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه لأن عمر رضي الله عنه فرضها كذلك بمحضر من الصحابة وتابعه سائر الخلفاء بعده فكان إجماعا
والثانية : يرجع إلى اجتهاد الإمام في الزيادة على ذلك والنقصان منه على ما يراه من المصلحة بعد أن لا يكلفهم فوق طاقتهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا الى اليمن قال له : [ خذ من كل حالم دينارا ] رواه أبو داود وعمر زاد عليهم فدل على جواز الزيادة والنقصان
و الثالثة : يجوز الزيادة و لا يجوز النقصان لأن عمر رضي الله عنه زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم ينقص فإذا قلنا : لا تجوز الزيادة فمتى بذلوا القدر الواجب لزم قبوله و حرم قتالهم لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } فمد قتالهم إلى إعطائها أي بذلها و إن قلنا له الزيادة فله أن يزيد بقدر ما يراه و لا يحرم قتالهم إلا أن يبذلوا ما طلب منهم
فصل
و يؤخذ من نصارى بني تغلب مكان الجزية الزكاة مثلي ما يؤخذ من المسلمين من جميع أموالهم الزكاتية لما روى : أن عمر رضي الله عنه دعاهم إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا و قالوا : نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر : لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم خذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم و ضعف عليهم من كل خمس من الإبل شاتين ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا و من كل مائتي درهم عشرة دراهم ومما سقت السماء الخمس و فيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه غيره من الصحابة فكان إجماعا قال أصحابنا : حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة في أنه يؤخذ من مال كل من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما فعلى هذا يؤخذ من نسائهم و صبيانهم و مجانينهم وزمناهم و مكافيفهم و شيوخهم لأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض فأجابهم و لأنهم صينوا عن السبي بهذا الصلح فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال و لا يؤخذ من مال لم يبلغ نصابا و لا من مال غير زكاتي كذلك ومن كان المأخوذ منه أقل من دينار أجزأ عنه و من ليس له نصاب زكاتي فلا شيء عليه لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على هذا واختلف أصحابنا في مصرفه فقال القاضي : مصرفه مصرف الفيء لأنه جزية باسم الزكاة و معنى الشيء أخص به من اسمه و لأنه مال مشرك أخذ بغير قتال فكان فيئا كالجزية و قال أبو الخطاب : مصرفه مصرف الصدقة لأنه سلك به مسلكها في قدر المأخوذ و المأخوذ منه : فكذلك في المصرف فإن بذل تغلبي الجزية مكان المفروض عليهم وكان حربيا قبل منه لأنه كتابي لم يصالح على غير الجزية فحقن دمه بها كغيره و إن كان ممن عقد الذمة لم يقبل منه لأن الصلح وقع على غير ذلك فلم يجز تغيره
فصل
فأما سائر أهل الكتاب من النصارى و غيرهم فلا يقبل منهم إلا الجزية و لا يؤخذون بما يؤخذ به بنو تغلب نص عليه أحمد للآية و الأخبار و العرب و غيرهم في هذا سواء لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا إلى اليمن و أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وهم عرب و إنما خص بنو تغلب بالصدقة لصالحهم فبقي من عداهم على مقتضى النصوص و ذكر القاضي : أن تنوخ و بهرا كبني تغلب و أن عمر صالحهم و قال أبو الخطاب : و كذلك الحكم فيمن تنصر من تنوخ و بهرا أو تهود من كنانة و حمير أو تمجس من تميم لأنهم عرب فأشبهوا بني تغلب و الصحيح الأول و لم يصح عن عمر و لا غيره مصالحة غير بني تغلب على غير الجزية
فصل
و لا جزية على صبي لقوله عليه السلام لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] و روى أسلم أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد : لا تضربوا الجزية على النساء و الصبيان و لا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي رواه سعيد و لأنها تجب لحقن الدم و هو محقون بدونها و لا على امرأة كذلك و لا على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا فلم تجب عليه مع الشك و لا على مجنون لأنه في معنى الصبي فنقيسه عليه و لا على زمن و لا أعمى و لا شيخ فان و لا راهب لأن دماءهم محقونة فأشبهوا الصبي و المرأة و لا على فقير عاجز عن أدائها لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }
فأما المعتل الذي يقدر على كسب ما يقوم بكفايته فعليه الجزية لأنه في حكم الأغنياء و لا تجب على مملوك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا جزية على مملوك و لأنه لا يقتل بالكفر أشبه الصبي و عن أحمد : أن على الذمي أداء الجزية عن مملوكه و هو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر مكلف قوي مكتسب أشبه الحر و من كان بعضه حرا فعليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأن حكمه يتبعض فقسم على قدر ما فيه من الحرية و الرق كالميراث
فصل
ومن بلغ من صبيانهم أو أفاق من مجانينهم أو عتق من عبيدهم فهو من أهلها بالعقد الأول لأنه تبع من عليه الجزية في الأمان فيتبعه في الذمة و تعتبر جزيته بحاله لا بحال غيره لأنه حكم يختلف باختلاف الحال فاعتبر بحاله كالزكاة فإن كان في أثناء الحول أخذ في آخر الحول بقدر ما أدرك منه لئلا تختلف أحوالهم فيشق ضبطها ومن كان يجن و يفيق إفاقة مضبوطة كيوم و يوم أو نصف الحول و نصفه ففيه وجهان :
أحدهما : يعتبر بالأغلب منهما لأن الاعتبار في الأصول بالأغلب
و الثاني : تلفق إفاقته فإذا بلغ حولا أخذت الجزية فإن كان سواء ففيه وجهان :
أحدهما : يؤخذ في كل حول نصف جزية لأن الجزية تؤخذ في كل حول فيؤخذ منه بقدر ما عليه
و الثاني : تلفق إفاقته فإذا بلغت حولا أخذت منه لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ
فصل
وإذا كان في الحصن نساء أو من لا جزية عليه فطلبوا عقد الذمة بغير جزية أجيبوا إليها لأنهم محقونون بدونها و إن بذلوا جزية أخبروا أنه لا جزية عليهم فإن تبرعوا بها كانت هبة متى امتنعوا منهم لم يحوجوا إليها
فصل
و تجب الجزية في آخر كل حول لأنه مال يتكرر بتكرار كل الحول فوجب في آخره كالزكاة و الدية فإن جن قبل انقضائه جنونا مطبقا أو مات أو أسلم فلا جزية عليه لأنه خرج عن أهلية الوجوب قبل الوجوب فلم يجب عليه كما لو مات بعض العاقلة قبل الحول و إن جن أو مات بعد الحول لم تسقط عنه لأنه دين وجب عليه في حياته فأشبه العاقل و دين الآدمي و إن أسلم بعد الحول سقطت عنه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس على المسلم جزية ] رواه الخلال و قال أحمد : قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها وروى أبو عبيد : أن يهوديا أسلم فطولب بالجزية وقيل إنما أسلمت تعوذا قال : إن في الإسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال : إن في الإسلام معاذا فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية و لأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل و إن اجتمعت على الذمي جزية سنين أخذت منه ولم تتداخل لأن الحق مالي يجب في آخر كل حول فلم تتداخل كالدية و الزكاة
فصل
ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الأحنف بن قيس : أن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحو القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته رواه الإمام أحمد ولأن فيه مصلحة فإنه ربما تعذر الشراء على المسلمين ولا يلزمنهم ذلك إلا برضاهم لأنه أداء مال فلم يلزمهم بغير رضاهم كالجزية وإن امتنعوا من قبول الشرط لم تعقد لهم الذمة لأنه شرط سائغ فإذا امتنعوا منه لم تعقد لهم كالجزية فإن لم تشترط عليهم الضيافة لم تجب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] ولم يذكر الضيافة ومن أصحابنا من قال : تجب بغير شرط كما تجب على المسلمين وتقسم الضيافة عليهم على قدر جزيتهم والأولى أن يبين عدد أيام الضيافة من السنة وعدد من يضاف من الرجال والفرسان وقدر الطعام و الإدام و العلوفة لأنه أبعد من اللبس فإن أطلق ذلك جاز ولا يجب عليهم في الضيافة أكثر من يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلم ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا : إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم فقال : أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك ولا تزاد الضيافة على ثلاثة أيام لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ الضيافة ثلاثة أيام ] وذكر القاضي : أن تقدير أيام الضيافة وعدد من يضاف والطعام والإدام والعلوفة شرط لأنه من الجزية فاعتبر العلم به كالنقود والأول أولى لأن عمر لم يقدره ولما شكوا إليه اعتداء الأضياف قال : أطعموهم مما تأكلون وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع لأن عمر صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب كنائسهم وبيعهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلها المسلمون ركبانا فإن لم يجدوا مكانا فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل من غير أن يحولوا ذا منزل عن منزله فإن لم يسعهم فالسابق أحق فإن تساووا وتشاحوا أقرع بينهم فإن امتنع أهل الذمة مما شرط عليهم أجبروا عليه فإن لم يمكن إلا بالمقاتلة قوتلوا فإن قاتلوا انتفض عهدهم
فصل
ويثبت الإمام عدد أهل الذمة وأسماءهم وأنسابهم ودينهم وحلاهم التي لا تتغير بالأيام كالطول والقصر والبياض والسواد والسمرة فيكتب أدعج العينين أقنى الأنف مقرون الحاجبين ويثبت ما يأخذ منهم ويجعل لكل طائفة عريفا يجمعهم عند أداء الجزية ويعرف من يبلغ من غلمانهم ويفيق من مجانينهم ويقدم من غائبهم ومن يموت أو يسلم لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط وتؤخذ الجزية مما تيسر من أموالهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ]
وكان النبي صلى الله عليه و سلم يأخذ من أهل نجران ألفي حلة وكان علي يأخذ من كل ذي صناعة من صناعته التي عنده ومن قبضت جزيته كتب له براءة لتكون له حجة إذا احتاج إليها ويمتهنون عند أخذ الجزية منهم ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ومن بعثها منهم لم تقبل حتى يحضر فيؤديها لقول الله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }
فصل
إذا مات الإمام أو عزل وولي غيره لم يحتج إلى تجديد عقد لأن الخلفاء لم يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا ولأنه عقد لازم فأشبه الإجارة فإن عرف الثاني مبلغ المشروط عليهم أقرهم عليه وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فيما يسوغ جعله جزية لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم فإن ثبت بعد ذلك أنهم نقصوا من الشروط التي عليهم شيئا رجع عليهم فيما نقص وإن قال بعضهم : كنا نؤدي دينارا وقال بعضهم : كنا نؤدي دينارين أخذ كل واحد منهم بإقراره ولم يقبل قول بعضهم على بعض لأن أقوالهم غير مقبولة

باب المأخوذ من أحكام أهل الذمة
لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية و التزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود و المعاملات و أروش الجنايات و قيم المتلفات فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح لقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } قيل : الصغار : جريان أحكام المسلمين عليهم و من ادعى منهم كتابا من عمر أو علي رضي الله عنهما بالبراءة من الجزية لم يصدق لأنه لا أصل له و لم يذكره علماء الإسلام و أخبار أهل الذمة لا تقبل
فصل
ويلزمهم التميز عن المسلمين في أربعة أشياء لباسهم و شعورهم و ركوبهم وكناهم لما روى إسماعيل بن عياش عن غير واحد من أهل العلم قالوا : كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم : إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة و لا عمامة ولا نعلين و لا فرق شعر و لا في مراكبهم و لا نتكلم بكلامهم و أن لا نتكنى بكناهم و أن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير في أوساطنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية و لا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح و لا نحمله و لا نتقلد السيوف و ذكر سائره رواه الخلال بإسناده و ذكر في آخره : فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا فيجعلون فيما يظهر من ثيابهم ثوبا يخالف لونه لون سائر ثيابهم كالعسلي و الأدكن و الأزرق و الأصفر ويشدون الزنانير في أوساطهم فوق ثيابهم و إن لبسوا العمائم أو القلانس جعلوا فيها خرقة تخالف لونها و يختم في رقاب رجالهم و نسائهم خواتيم من رصاص أو حديد ليتميزوا في الحمام عن المسلمين و تأخذ نساؤهم بالغيار و الزنار تحت ثيابهن لئلا تنكشف رؤوسهن إن شددنه فوق ثيابهن لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أهل الآفاق : مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن و إن لبسنا الخفاف جعلنا الخفين من لونين ليتميزن عن نساء المسلمين فإن شرط عليهم الجمع بين الزنار و الغيار أخذوا به و إن شرط أحدهما اكتفي به ولا يمنعون من لبس فاخر الثياب و الطيلسان لأن التميز حصل بما ذكرناه وأما التميز في الشعور فبأن يحذفوا مقاديم رؤوسهم ولا يفرقون شعورهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق شعره
و أما التميز في الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز و لهم ركوب ما سواها على غير السروج وروي عن ابن عمر : أن عمر أمر أن يركبوا عرضا على الأكف بالعرض و لا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم و أبي بكر و أبي عبد الله و نحوها و لا يمنعون من الكنى بالكلية لأن النبي صلى الله وسلم قال لأسقف نجران : [ أسلم أبا الحارث ] و قال عمر لنصراني : يا أبا حسان أسلم تسلم ذكرهما أحمد
فصل
و لا يتصدرون في المجالس عند المسلمين لأن في كتابهم لعبد الرحمن بن غنم وأن نوقر المسلمين في مجالسهم و نرشد الطريق و نقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس و لا نطلع عليهم في منازلهم و لا يبدؤون بالسلام لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا لقيتم اليهود في الطريق فاضطرهم إلى أضيقها و لا تبدؤوهم بالسلام ]
و إن سلموا عليه قال : [ و عليكم ] لما روى أبو بصرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنا غادون فلا تبدؤوهم بالسلام و إن سلموا عليكم فقولوا : و عليكم ] و قيل لأحمد : فإنا نأتيهم في منازلهم و عندهم قوم مسلمون أفنسلم عليهم ؟ قال : نعم ننوي السلام على المسلمين
فصل
ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم المسلمين لقولهم في شروطهم : ولا تطلع عليهم في منازلهم ولقول النبي صلى الله عليه و سلم [ الإسلام يعلو ولا يعلى ] وفي مساواتهم وجهان :
أحدهما : يجوز لأنه لا يفضي إلى علو الكفر
والثاني : لا يجوز لأن القصد علو الإسلام ولا يحصل مع المساواة فإن لم يكن لهم جار مسلم لم يمنعوا من تعلية بنيانهم لأنه لا يضر المسلمين وإن ملكوا دارا عالية من مسلم لم يؤمروا بنقضها لأنهم ملكوها على هذه الصفة
فصل
ويمنعون من إظهار المنكر كالخمر والخنزير وضرب الناقوس ورفع أصواتهم بكتابهم و لا ظهر أعيادهم و صلبهم لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم : إن شرطنا على أنفسنا أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا و لا نظهر عليها صليبا و لا نرفع أصواتنا في الصلاة و لا القراءة في صلاتنا فيما يحضره المسلمون وأن لا نخرج صليبا و لا كتابا في سوق المسلمين و أن لا نخرج باعوثا و لا شعانين و لا نرفع أصواتنا مع موتانا و لا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين و لا نجاورهم بالخنازير و لا نظهر شركا و لا نرغب في ديننا و لا ندعو إليه أحدا
و الباعوث : عيد يجتمعون له كما يخرج المسلمون يوم الفطر و الأضحى
فصل
ويمنعون من إحداث البيع و الكنائس و الصوامع في بلاد المسلمين لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم : إن شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة و لا في ما حولها ديرا و لا قلاية و لا صومعة راهب و لا نجدد ما خرب من كنائسنا و لا ما كان منها في خطط المسلمين وما كان فيها قبل الفتح في بلد فتح صلحا أقر لأن الصحابة رضي الله عنهم أقروهم على كنائسهم و بيعهم وما فتح عنوة فكذلك لأن الكنائس و البيع موجودة في جميع بلاد المسلمين من غير نكير ولم تهدمها الصحابة في بلد فتحوه و فيه وجه آخر أنها تهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن يكون فيها بيعة كالتي مصرها المسلمون و يجوز رم ما تشعث من بيعهم وكنائسهم رواية واحدة لأنه أبقى لها فأشبه تطيين سطوحها وأما تجديد ما خرب منها فلا يجوز لقولهم : ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنع منه كابتداء بنائها وعنه : يجوز لأنه أبقى لها أشبه لم ما تشعث وإن عقدت لهم الذمة في بلد ينفردون به لم يمنعوا من شيء مما ذكرناه ولم يأخذوا بغيار ولا زنار لأنهم في بلدانهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم
فصل
وينعون من سكنى الحجاز لما روى أبو عبيدة بن الجراح : أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أخرجوا اليهود من الحجاز ] رواه أحمد و أبو داود وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ] رواه مسلم والمراد الحجاز بدليل أن أحدا من الخلفاء لم يخرج أحدا من اليمن و لا أهل تيماء فدل على أن المراد به الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة وخيبر وفدك وما والاها - سمي حجازا لأنه حدز بين تهامة ونجد - وليس نجران من الحجاز وإنما أجلاهم عمر منه لأن النبي صلى الله عليه و سلم صالحهم على أن لا يكلوا الربا فأكلوه ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير إقامة لأنهم كانوا يدخلونه في زمن عمر وعثمان والخلفاء بعدهم ولا يجوز لهم الدخول إلا بإذن الإمام لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين فوقف على رأي الإمام كدخول الحربي دار الإسلام فمن استأذن منهم في الدخول فيما للمسلمين فيه نفع كتجارة ورسالة ونحوها أذن له لما فيه من المصلحة فإذا دخل لم يقم في موضع أكثر من ثلاثة أيام لأن عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا في إقامة ثلاثة أيام فإذا انتقل إلى موضع آخر فله أن يقيم فيه ثلاثة أخر لأنه لا يصير مقيما في موضع فأشبه المسافر وإن مرض فعجز عن الخروج أقام حتى يبرأ لأنه موضع ضرورة وإن مات دفن فيه لأنه موضع حاجة
فصل
ويمنعون من دخول الحرم لقول الله تعالى { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والمسجد الحرام : الحرم بدليل قوله سبحانه : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } وأراد مكة لأنه أسري به من بيت أم هانىء فإن جاء رسولا خرج إليه من يسمع منه فإن لم يكن له بد من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له فإن دخله عالما بالمنع عزر وإن كان جاهلا أخرج ونهي وهدد وإن كان مريضا أو ميتا أخرج و لم يدفن فيه فإن دفن نبش وأخرج إلا أن يكون قد بلي لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فدفن جيفته فيه أولى
وحد الحرم : من طريق المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة تسعة أميال ومن طريق عرفة سبعة أميال ومن طريق جدة عشرة أميال فإن صالحهم على دخوله لم يجز وإن كان بعوض لم يجز فإن دخلوا إلى الموضوع الذي صالحهم عليه أخذ منهم العوض لأنهم استوفوا المعوض فلزمهم العوض فإن دخلوا إلى بعضه أخذ منهم بقدره
فصل
و ليس لهم دخول مساجد الحل بغير إذن مسلم فإن دخل عزر لما روت أم غراب قالت : رأيت عليا رضي الله عنه على المنبر و بصر بمجوسي فنزل فضربه و أخرجه من أبواب كندة
فإن أذن له مسلم في الدخول جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قدم عليه وفد الطائف فأنزلهم المسجد قبل إسلامهم
و عنه : لا يجوز لما روى عياض الأشعري : أن أبا موسى قدم على عمر و معه نصراني فأعجب عمر خطه و قال : قل لكاتبك هذا يقرأ علينا كتابه قال : إنه لا يدخل المسجد قال : لم ؟ أجنب هو ؟ قال هو نصراني فانتهره عمر ولأن الجنب يمنع المسجد فالمشرك أولى
فصل
و على الإمام حفظ أهل الذمة و منع من يقصدهم بأذى من المسلمين و الكفار و استنقاذ من أسر منهم بعد استنقاد أسارى المسلمين و استرجاع ما أخذ منهم لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم و حفظ أموالهم و إن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لأنه محرم لا يحل اقتناؤه و إن أخذ منهم أهل الحرب مالا ثم قدر عليه المسلمون رد إليهم إذا علم به قبل القسمة كمال المسلم و حكم أموالهم في الضمان حكم أموال المسلمين
فصل
و إذا تحاكم مسلم و ذمي إلى الحاكم لزمه الحكم بينهما لأن إنصاف المسلم و الإنصاف منه واجب و إن تحاكم ذميان إليه ففيه روايتان :
إحداهما : يلزمه الحكم بينهما لقول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } و لأن دفع الظلم عنهم واجب و الحكم طريق له فوجب كالحكم بين المسلمين
و الثانية : لا يجب بل يخير بين الحكم بينهم و بين تركهم لقول الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } و لأنهما كافران يجب الحكم بينهما كالمستأمنين و لا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام لقول الله تعالى : { و إن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } و إن دعي أحدكما إلى الحكم لزمته الإجابة و إن تحاكم إليه مستأمنان خير بين الحكم بينهما و بين تركهما للآية و إن دعاهما إلى الحكم أو أحدهما لم يلزمهما الحضور لأن قوله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } نزلت في المعاهدين قبل الولاية
فصل
ومن أتى محرما من أهل الذمة مما يعتقد تحريمه في دينه كالقتل و الزنا و السرقة والقذف وجب على المسلم لما روى أنس : أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين حجرين متفق عليه
وروى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما و لأنه محرم في دينه و قد التزم حكم الإسلام قثبت في حقه حكمه كالمسلم
فأما ما لا يعتقد تحريمه كشرب الخمر و نحوه فلا حد عليه فيه لأنه يعتقد حله فلم يجب عليه عقوبة كالكفر و لا يمكن من التظاهر به لأنه منكر فلا يمكن من إظهاره فإن أظهره عزر

باب العشور
من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف عشر ما معه من المال لما روى أنس بن سيرين قال : بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت : تبعثني إلى العشور من بين عمالك ؟ فقال : ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر من أهل الذمة نصف العشر رواه الإمام أحمد
و الذكر و الأنثى سواء في هذا للخبر و لأنه حق مال التجارة فوجب على الأنثى كالزكاة و قال القاضي : لا يجب على النساء لأنه جزية عليهن فعلى قوله لا تؤخذ إلا ممن تجب عليه الجزية من أهل الذمة و الأول أصح ؟ وسواء كان تغلبيا أو غيره لعموم هذا الخبر و لأن الواجب على التغلبي ضعف ما على المسلم و ذلك نصف العشر و عن أحمد : أن الواجب عليه العشر لما روى زياد بن حدير قال : بعثني عمر رضي الله عنه مصدقا فأمرني آخذ من نصارى بني تغلب العشر و من نصارى أهل الكتاب نصف العشر رواه أحمد : أيضا
و إن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر لما لاحق بن حميد قال : قالوا لعمر : كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا ؟ قال : كيف يأخذون منكم ؟ قالوا العشر قال : فكذلك خذوا منهم
و إن رأى الإمام التخفيف عليهم أو الترك لمصلحة فعل ذلك لأنه فيء فملك تخفيفه كالخراج و قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ومن الحنطة و الزبيب نصف العشر ليكثر الحمل إلى المدينة و ذكر القاضي : أنهم إذا دخلوا بميرة لم يؤخذ منهم شيء لأنهم لنفع المسلمين و ظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه يؤخذ من الكل و حديث عمر دليل عليه لأنه أخذ من الحنطة و الزبيب فإن كانت تجارته في الخمر و خنزير ففيه روايتان :
إحداهما : من ثمنها حقها قال أحمد في حديث سويد بن غفلة في قول عمر : و لهم بيع الخمر و الخنزير لعشرها و هذا إسناد جيد و لا يكون ذلك إلا على الآخذ منها
و الثانية : لا يؤخذ منها شيء لما روى أبو عبيد بإسناده : أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر : بعثت إلي بصدقة الخمر و أنت أحق بها من المهاجرين فأخبر بذلك الناس وقال : و الله لا استعملتك على شيء بعدها فنزعه وقال عمر : ولوهم بيعها و خذوا من ثمنها في الخراج لأن بلالا قال : لعمر : إن عمالك يأخذون الخمر و الخنازير في الخراج فقال : لا تأخذوها منهم و خذوا أنتم من الثمن
فصل
ولا يؤخذ في السنة إلا مرة نص عليه أحمد و قال ابن حامد : يؤخذ من الحربي كما دخل إلينا لأننا لو لم نأخذ منه كل مرة لم نأمن أن لا يدخل إذا جاء وقت السنة فيتعذر الأخذ و الأول أصح لما روي أن نصراينا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إن عاملك عشرني مرتين قال عمر : و من أنت ؟ قال : أنا الشيخ النصراني قال عمر : و أنا الشيخ الحنيف ثم كتب إلى عامله أن لا تعشر في السنة إلا مرة رواه الإمام أحمد
و لأنه حق مال التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة كالزكاة و ما ذكره ابن حامد و لا يلزم لأنه يوجد منه أول مرة ثم لا يؤخذ منه شيء حتى يحول عليه الحول وينبغي أن يكتب له كتابا بما أخذ منه ووقت الأخذ وقدر المال ليكون حجة له حتى لا يؤخذ منه عشر ما أدى عشره قبل انقضاء الحول
فصل
و لا يجب في أقل من عشرة دنانير نص عليه و هل يجب العشر في العشرة أو في العشرين ؟ على روايتين :
إحداهما : تجب في العشرة لأنها مال يبلغ واجبه نصف مثقال فوجب فيه كالعشرين للمسلم
و الثانية : لا يجب إلا في عشرين لأنه لا يجب في أقل منها زكاة على مسلم و لا تغلبي فلم يجب فيه على ذمي شيء كاليسير قال ابن حامد : يجب في القليل و الكثير لأن عمر رضي الله عنه قال : خذ من كل عشرين درهما درهما
فصل
و إن مر على العاشر منتقل بماله لم يؤخذ منه لأنه لغير التجارة و إن كانت معه تجارة و عليه دين فظهر كلام أحمد أنه يمنع الأخذ منه لأنه حق مال يتعلق بالتجارة فمنع الدين وجوبه كالزكاة و لا تقبل دعوى الدين إلا ببينة لأن الأصل براءة ذمته منه وإن كانت معه جارية فادعى أنها ابنته ففيه روايتان :
إحداهما : يقبل لأن الأصل عم الملك فيها
و الثانية : لا يقبل لأنه يمكنه إقامة البينة عليها

باب ما ينتقض به العهد
ينتقض عهد الذمي بأحد ثلاثة أشياء الامتناع من بذل الجزية والامتناع من التزام أحكام الإسلام و قتال المسلمين سواء شرط عليهم أو لم يشرط لأن الله أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية و يلتزموا أحكام الملة فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد لأن العقد يقتضي الأمان من الجانبين و القتال ينافيه فانتقض العهد به فأما ما سوى ذلك فقسمان :
أحدهما : ما فيه ضرر بالمسلمين و هو ثمانية أشياء قتل مسلم أو فتنه عن دينه أو قطع الطريق عليه أو الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح أو إيواء جاسوس أو دلالة على المسلمين أو ذكر الله تعالى أو رسوله أو كتابه بسوء ففيه روايتان :
إحداهما : ينتقض العهد به سواء شرط أو لم يشرط لما روي عن عمر رضي الله عنه : أنه رفع إليه رجل أراد استكراه مسلمة على الزنا فقال : ما على هذا صالحناكم و أمر به فصلب في بيت المقدس و قيل لابن عمر : إن راهبا يشتم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لو سمعته لقتلته إنا لم نعط الأمان على هذا وروى عن عمر رضي الله عنه : أنه أمر عبد الرحمن بن غنم : أن يلحق في كتاب صلح الجزيرة ومن ضرب مسلما فقد خلع عهده و لأنه لم يف بمقتضى الذمة و هو الأمن من جانبه فانتقض عهده كما لو قاتل المسلمين
و الثانية : لا ينتقض العهد به ويقام عليه حد ذلك لأن ما يقتضيه العهد من التزام أداء الجزية و أحكام المسلمين و الكف عن قتالهم باق فوجب بقاء العهد فأما سائر الخصال كالتميز عن المسلمين و ترك إظهار المنكر و نحوه فإن لم يشترط عليهم لم ينتقض عهدهم به لأن العقد لا يقتضيها و لا ضرر على المسلمين فيها و إن شرطت عليهم فظاهر كلام الخرقي أن عهدهم ينتقض بمخالفتها لقوله : ومن ينقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه حل دمه و ماله ووجهه أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم بعد استيفاء الشروط : و إن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا و قد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة و الشقاق و لأنه عقد بشرط فزال بزوال شرطه كما لو امتنع من بذل الجزية و قال غيره من أصحابنا لا ينتقض العهد به لأنه لا ضرر على المسلمين فيه ولا ينافي عقد الذمة و لكنه يعزر ويلزم ما تركه
فصل
و من نقض العهد خير الإمام فيه بين أربعة أشياء كالأسير الحربي لأن عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه المرأة و لأنه كافر لا أمان له فأشبه الحربي و لا ينتقض عهد نسائه و أولاده بنقضه لأن النقض وجد منه دونهم فاختص حكمه به و لو هرب بأهله وذريته إلى دار الحرب لم ينتقض عهد ذريته و لم يجز سبيهم لذلك فأما المرأة فإن هربت طائعة انتقض عهدها لأن النقض وجد منها و إن لم تكن طائعة لم ينتقض عهدها لأنه لم يوجد منها ومن ولد لع بعد دخوله دار الحرب فلا عهد له و الله تعالى أعلم
تم و الحمد الله على تمامه و الله المسؤول الزيادة من إنعامه فرغ من تصنيفه عشية يوم الخميس الخامس و العشرين من شهر صفر ست و تسعين و خمسمائة بمدينة دمشق المحروسة و الله المحدود المشكور

كتاب الأيمان
لا تنعقد اليمين إلا من مختار فأما الصبي و المجنون و النائم فلا تنعقد أيمانهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاثة ] الحديث
وفي السكران وجهان بناء على طلاقه و لا تنعقد يمين المكره لأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر و تنعقد اليمين من الكافر و تلزمه الكفارة بالحنث سواء حنث في الكفر أو الإسلام لأن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أوف بنذرك ] و لأنه من أهل القسم يصح استحلافه عند الحاكم فانعقدت يمينه كالمسلم
فصل
واليمن على أربعة أضرب يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها : وهي اليمن على مستقبل متصور عاقدا عليه قلبه فتوجب الكفارة لقول الله تعالى : { و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان }
الضرب الثاني : لغو اليمين فلا كفارة فيه لقول الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } و اللغو : نوعان :
أحدهما : أن تجري اليمين على لسانه من غير قصد إليها لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يعني اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته لا و الله و بلى والله ] رواه البخاري و أبو داود
وقال القاضي : هو أن يريد أن يقول : و الله فيجري على لسانه لا و الله أو عكس ذلك
و الثاني : أن يحلف على شيء يظنه كما حلف فيتبين بخلافه و عنه : في هذا النوع الكفارة لأن ظاهر حديث عائشة حصر اللغو في النوع الأول و ظاهر المذهب الأول لأن هذا يمين على ماض فلم يوجب الكفارة كالغموس
الضرب الثالث : يمين الغموس و هي التي يحلفها كاذبا عالما بكذبه فلا كفارة فيها في ظاهر المذهب لأنها يمين غير منعقدة لا توجب برا ولا يمكن فيها فلم توجب كفارة كاللغو و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خمس من الكبائر لا كفارة لهن ] ذكر منهن [ الحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم ]
وعن أحمد : أن الكفارة تجب فيها لأنه حالف مخالف مع القصد فلزمته الكفارة كالحالف على مستقبل
الضرب الرابع : أن يحلف على مستحيل كصوم أمس و الجمع بين الضدين و شرب ماء إناء لا ماء فيه فلا كفارة فيها لأنها غير منعقدة لعدم تصور البر فيها كيمين الغموس وقال القاضي : قياس المذهب أن تجب فيها الكفارة لأنها يمين على مستقبل و إن حلف على مستحيل عادة كإحياء الميت و قلب الأعيان فقال القاضي و أبو الخطاب : فيها كفارة لأنه متوهم التصور و قياس المذهب أنها كالتي قبلها لأنها لا توجب برا و لا يمكن فيها
فصل
فإن استثنى عقيب يمينه فقال : إن شاء الله لم يحنث لما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث ] رواه أبو داود لأنه علق المحلوف عليه بشرط يلوم من وجوده وجوده ومن عدمه عدمه فلم يتصور الحنث فيها و يشترط أن يكون متصلا باليمين و لا ينفصل بينهما بكلام أجنبي و لا سكوت يمكن الكلام فيه لأن الاستثناء من تمام الكلام فاعتبر اتصاله به كالشرط و خبر المبتدأ و عنه : يجوز الاستثناء ما لم يطل الفصل لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لأغزون قريشا ] ثم سكت ثم قال : [ إن شاء الله ] رواه أبو داود
وقال بعض أصحابنا : يجوز الاستثناء ما دام في المجلس واشترط القاضي أن يقصد الاستثناء فإن سبق لسانه إليه من غير قصد كالعادة لم يصح الاستثناء لأن اليمين يعتبر لها القصد فكذلك ما يرفع حكمها و لا ينفعه الاستثناء بقلبه حتى يقول بلسانه لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن شاء الله ] فعلقه بالقول و لأن اليمين لا تنعقد بالنية فكذلك للاستثناء إلا أن أحمد قال : إن كان مظلوما فاسثنى في نفسه رجوت أن يجوز إذا حلف على نفسه ذلك لأنه بمنزلة التأويل يجوز للمظلوم دون غيره
فصل
و لا تنعقد اليمين إلا باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحف بالله أو ليصمت ] متفق عليه و عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف بغير الله فقد شرك ] و قال الترمذي : هذا حديث حسن
فلو حلف بالكعبة أو بنبي أو عرش أو كرسي أو غير ذلك لم تنعقد يمينه
وعنه : من حلف بحق رسول الله صلى الله عليه و سلم فحنث فعليه الكفارة لأنه أحد شرطي الشهادة فأشبه الحلف باسم الله و الأول أولى لدخوله في عموم الأحاديث و شبهه كسائر الأنبياء عليهم السلام
فصل
و أسماء الله ثلاثة أقسام :
أحدها : ما لا يشارك الله تعالى فيه غيره نحو : الله والرحمن ومالك يوم الدين و رب العالمين و الحي الذي لا يموت فالحلف بها يمين بكل حال
الثاني : ما يسمى به غير الله و إطلاقه ينصرف إليه كالملك و الجبار و السلطان و الرحيم و القادر فهذا إن نوى اليمين أو أطلق كان يمينا لأنه بإطلاقه ينصرف إليه و إن نوى به غير الله لم يكن يمينا لأنه نوى ما يحتمله مما لو صرح به لم يكن يمينا قال طلحة العاقولي : إذا قال : و الخالق و الرزاق و الرب كان يمينا بكل حال لأنها لا تستعمل مع لام التعريف إلا في اسم الله تعالى فأشبهت القسم الأول
الثالث : ما لا ينصرف بالإطلاق إلى اسم الله تعالى كالحي و العالم و الموجود و المؤمن و الكريم فهذا إن أطلق لم يكن يمينا لأنه لا ينصرف مع الإطلاق إليه و إن قصد اليمين اسم الله كان يمينا قال القاضي : لا يكون يمينا لأن اليمين إنما تنعقد لحرمة الاسم ومع الاشتراك لا حرمة له و الأول أصح لأنه أقسم بالله قاصدا للحلف به فكان يمينا كالذي قبله
فصل
صفات الله تعالى تنقسم قسمين :
أحدهما : ما هو صفة لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها كعظمة الله و عزته و جلاله و كبريائه فالقسم بها يمين منعقدة لأنها صفة من صفات ذات الله لم يزل موصوفا بها أشبهت أسماءه
و الثاني : ما هو صفة حقيقية و يعبر به عن غير ذلك مجازا كعلم الله و قدرته فإن أطلق كان يمينا فإن نوى بعلم الله معلومه و بقدرته مقدوره فالمنصوص عن أحمد أنه يمين لأنه موضوع لليمين فلا يقبل منه غيره و يحتمل أن لا يكون يمينا لأنه نوى بكلامه ما يحتمله مما ليس بيمين فأشبه القسم بالقادر و إن أقسم بحق الله كان يمينا لأنه إذا اقترن به عرف الاستعمال باليمين انصرف إلى ما يستحقه لنفسه من العظمة و الكبرياء فأشبه قدرة الله و إن قال : لعمر الله كان يمينا لأنه أقسم بصفة من صفات الله فهو كالحالف ببقاء الله و يقال : العمر و العمر واحد فهو قسم ببقاء الله و قد ثبت لها عرف الاستعمال قال الله تعالى : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }
و قال النابغة :
( فلا لعمر الذي قد زرته حججا ... وما هريق على الأنصاب من جسد )
و إن قال : وايم الله أو وايمن الله فهو يمين كما ذكرنا في الذي قبله و إن حلف بالقرآن أو بكلام الله فهي يمين منعقدة لأن كلام الله صفة من صفاته و القرآن هو كلام الله و إن حلف بسورة منه فهي يمين لأنها من القرآن و كذلك إن حلف بالمصحف لأن القرآن فيه قال الله تعالى : { إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون }
و إن حلف بعهد الله أو ميثاقه أو أمانته فهو يمين لأنه يحتمل كلام الله الذي أمرنا به و نهانا كقول تعالى : { ألم أعهد إليكم } وقرينة الاستعمال صارفة إليه و إن قال : و العهد و الميثاق و الأمانة و نوى ذلك كان يمينا و إن أطلق ففيه روايتان :
إحداهما : يكون يمينا كذلك و لأن اللام إن كانت للتعريف صرفته إلى عهد الله و ميثاقه و إن كانت للاستغراق دخل ذلك فيه
و الثانية : لا كفارة فيه لأنه يحتمل غير ما تجب به الكفارة
فصل
وحروف القسم ثلاثة : الباء و هي الأصل تدخل على المظهر و المضمر و الواو و هي بدل منها تدخل على المظهر وحده والتاء هي بدل من الواو وتدخل على اسم الله تعالى وحده فبأيها أقسم كان قسما صحيحا وإن أقسم بغير حرف فقال الله لأقومن بالنصب أو بالجر كان صحيحا لأنه لغة صحيحة وقد ورد به عرف الاستعمال في الشرع قال النبي صلى الله عليه و سلم لركانة بن عبد يزيد : [ الله ما أردت إلا واحدة ] قال : الله ما أردت إلا واحدة فإن قال : الله - بالرفع - لأقومن و نوى اليمين كان يمينا مع لحنه و إن لم يرد اليمين لم يكن يمينا لأنه لم يأت بالموضوع و لا قصده وقال أبو الخطاب : يكون يمينا إلا أن يكون من أهل العربية و إن قال : لاها الله و نوى اليمين كان يمينا لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في سلب قتيل أبي قتادة : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله و عن رسوله فيعطيك سلبه و إن قال : أشهد بالله أو أقسم بالله أو حلف بالله أو أقسمت بالله أو شهدت بالله و نوى اليمين أو أطلق كان يمينا لأنه قد ثبت له عرف الشرع و الاستعمال فإن قصد بذلك الخبر عما يفعله ثانيا أو عما فعله ماضيا لم يكن يمينا و كذلك القول : في أعزم بالله و عزمت بالله في ظاهر كلام الخرقي و قال أبو بكر : إن أطلق لم يكن يمينا لأنه لم يثبت له عرف الشرع و لا الاستعمال و إن قال : قسما بالله أو ألية بالله فهو يمين لأن تقديره : أقسمت قسما و آليت ألية فإن قال : أقسمت أو آليت أو حلفت أو شهت : لأفعلن ونوى اليمين بالله فهو يمين لأنه نوى ما يحتمله مما هو يمين و إن أطلق ففيه روايتان :
إحداهما : هو يمين لأنه ثبت له عرف الشرع و الاستعمال فإن أبا بكر رضي الله عنه قال : أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تقسم يا أبا بكر ]
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمر :
( آليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك و لا ينفك جلدي أغبرا )
و الثانية : تنعقد اليمين لأنه يحتمل القسم بغير اسم الله تعالى و إن قال : حلفت بالله و أراد الخبر لم يكن يمينا اختاره أبو بكر و عنه : عليه الكفارة لإقراره على نفسه و الأول المذهب لأنه حكم بينه و بين الله تعالى فلا يلزمه ما لم يوجد سببه وإن قال : علي يمين فكذلك فإن أراد عقد اليمين لم يكن يمينا لأنه لم يأت باسم الله و لا صفته فلم يكن يمينا كسائر الكلام
فصل
و يجاب القسم بأحرف خمسة إن واللام في الإيجاب كقول الله : { قل : إي وربي إنه لحق } و قوله تعالى : { قل بلى و ربي لتبعثن } و ما و لا و إن الخفيفة في النفي كقول الله تعالى : { والليل إذا سجى * ما ودعك ربك } و قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } و قوله سبحانه : { يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } و تحذف لا وهي مرادة كقول الله تعالى : { تالله تفتأ تذكر يوسف } و قال امرؤ القيس :
( فقلت يمين الله أبرح قاعدا )
أي : لا أبرح فإن قال : بالله صل لم تنعقد يمينه لأنه لم يجبه بجواب القسم و إن قال : تالله لتفعلن انعقدت يمينه و الكفارة على الحالف لأنه الحانث
فصل
و إن حرم على نفسه شيئا قال ما أحل الله علي حرام فهي يمين سواء أطلق ذلك أو علقه على شرط لقوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله تعلى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } يعني : التكفير قالت عائشة : كان النبي الله صلى الله عليه و سلم يمكث عند زينب و يشرب عندها عسلا فتواطأت أنا و حفصة أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه و سلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحدانا فقالت ذلك فقال : [ لا بل شربت عسلا و لن أعود له ] فنزلت : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } متفق عليه
و إن حرم أمته أو أم ولده فهو كتحريم ماله لأنها مال له و قد قال الحسن : إن الآية نزلت في تحريم مارية القبطة
و إن حلف بالخروج من الإسلام فقال : هو بريء من الإسلام أو كافر أو يهودي إن فعل أثم لما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ] متفق عليه
و في لفظ : [ من حلف أنه بريء من الإسلام فإن كان قد كذب فهو كما قال و إن كان صادقا لم يرجع إلى الإسلام سالما ] و هل تنعقد يمينه موجبة للكفارة ؟ فيه روايتان :
إحداهما : تنعقد لما روى أبو بكر بإسناده عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الرجل يقول : هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها في هذه الأشياء قال : [ عليه كفارة يمين ]
و الثانية : لا كفارة عليه لأنه لم يحلف باسم الله و لا صفته فأشبه الحالف بمحو المصحف و إن حلف باستحلال الزنا و الخمر أو ترك الصلاة أو الصيام فهو كالحالف بالكفر لأن ذلك كفر و إن حلف بمحو المصحف و قتل النفس التي حرم الله و معصيته في كل ما أمر أو لعن نفسه فلا كفارة فيه نص عليه لأنه لا يوجب الكفر و إن قال : لا يراني الله في موضع كذا فذكر القاضي : أن أحمد نص على أنه موجب الكفارة
فصل
و إن حلف رجل فقال آخر : يميني في يمينك يريد أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك لم تنعقد يمينه لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية لأن تعلق الكفارة بها لحرمة اللفظ و لا يوجد في الكناية وإن كان ذلك في الطلاق انعقدت يمينه لأن الطلاق ينعقد بالكناية و إن قال : أيمان البيعة تلزمني و لا يعرفها أو لا نية له لم يلزمه حكمها لأن هذا كناية فيعتبر له النية و لا تصح النية لما لا يعرفه و إن عرفها و نوى التزام ما فيها انعقدت يمينه بالطلاق و العتاق لأن اليمين بها تنعقد بالكناية و لم تنعقد باليمين بالله لأنها لا تنعقد بالكناية
وأيمان البيعة أيمان رتبها الحجاج تشتمل على اليمين بالله تعالى و العتاق و الطلاق و الحج و صدقة المال يستحلف بها الناس عند عقد البيعة
فصل
و الحالف مخير في يمينه بين البر و بين التكفير و لا يحرم المحلوف عليه بها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير و كفر عن يمينك ]
و إن فعل المحلوف عليه ناسيا أو مكرها لم يحنث لقول الله تعالى : { و ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمدت قلوبكم } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه ] رواه ابن ماجة و الدارقطني و لأنه غير قاصد للمخالفة فلم يحنث كالنائم
وعنه : أنه يحدث لأنه فعل المحلوف عليه قاصدا لفعله أشبه غير الناسي و إن فعله جاهلا كرجل حلف لا يكلم فلانا فكلمه يظنه غيره أو سلم على جماعة هو فيهم و لم يعلم به أو حلف لا يفارقه حتى يقضيه حقه فأعطاه قدر حقه ففارقه فوجده رديئا ففيه روايتان كالناسي لأنه غير قاصد للمخالفة ومن حلف على غيره ألا يفعل و كان المحلوف عليه ممن يمتنع بيمينه فهو في الجهل و النسيان كالحالف و إن كان ممن لا يمتنع بيمينه كالسلطان و الحاج استوى في الحنث العلم والجهل والنسيان لأنه مما لا يؤثر اليمين في امتناعه فأشبه تعليق الطلاق بطلوع الشمس

باب كفارة اليمين
ومن حلف فهو مخير في التكفير قبل الحنث أو بعده سواء كانت الكفارة صوما أو غيره لما روى عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا عبد الرحمن ابن سمرة إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك و أت الذي هو خير ] متفق عليه و في لفظ : [ ثم أت الذي هو خير ] رواه أبو داود لأنه كفر بعد سببه فجاز ككفارة الظهار و القتل بعد الجرح
فصل
و هو مخير في أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم أو يعتق رقبة فإن لم يجد صام ثلاثة أيام لقول الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم و احفظوا أيمانكم } و قد شرحنا العتق والإطعام في كفارة الظهار
فأما الكسوة فلا يجزئه أقل من كسوة عشرة مساكين للآية و تقدر الكسوة بما يجزئ في الصلاة و هو ثوب للرجل و للمرأة درع و خمار يستر جميعها و لا يجزئ السراويل و لا إزار وحده لأن التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة فأشبهت الصلاة و تجزئه كسوتهم من القطن و الكتان و الصوف و سائر ما يسمى كسوة لأن الله تعالى لم يعين جنسها فوجب أن لا يتعين وتجوز كسوتهم من الجديد و اللبيس إلا أن يكون مما ذهبت منفعته باللبس فلا يجزئ لأن ذلك معيب فأشبه الحب المعيب و إن كسا بعض المساكين من جنس و باقيهم من جنس آخر أو أطعمهم من جنس جاز لأنه قد أطعم و كسا عشرة فجاز كما لو كان من جنس واحد و إن أطعم بعضهم و كسا باقيهم جاز لأنه أخرج من جنس المنصوص عليه بعدة العدد الواجب فأجزأ كما لو أخرجه من جنس واحد و لأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد فقام مقامه في بعضه كالتيمم مع الماء و إن أعتق نصف عبد و أطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه لأن مقصودهما مختلف متباعد فلم يكمل أحدهما بصاحبه كالإطعام و الصيام و يشترط التتابع في صوم الأيام الثلاثة و عنه : لا يشترط لأن الأمر بها مطلق فلم يجز تقييده بغير دليل فظاهر المذهب الأول لأن في قراءة أبي و ابن مسعود ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) فالظاهر أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكون خبرا
فصل
و إن حلف العبد أجزأه الصيام لأن ذلك فرض الحر المعسر و هو أحسن من العبد حالا و إذا أذن له سيده في التكفير بالمال لم يلزمه لأنه غير مالك له و ظاهر كلام الخرقي : أنه لا يجزئه غير الصيام و قال غيره فيه روايتان :
إحداهما : لا يجزئه إلا الصيام لأنه لا يملك المال فلم يجز له التكفير به كالحر يكفر بمال غيره
و الثانية : له التكفير بالمال إذا أذن له سيده فيه و ملكه قدر ما يكفر به لأنه قدر عل التكفير بالمال فصح تكفيره به كالمعسر يملك ما يكفر به فعلى هذا له التكفير بالإطعام و هل له التكفير بالعتق ؟ على روايتين :
إحداهما : له ذلك لأنه من صح تكفيره بالإطعام صح تكفيره بالعتق كالحر
و الثانية : لا يجوز لأن العتق يقتضي الولاية و الإرث و ليس ذلك للعبد فإن قلنا يجوز فأذن له في إعتلق نفسه عن كفارته ففعل ففيه وجهان :
إحداهما : يجوز لأنها رقبة تجزئ عن غيره فأجزأت عنه كغيره
و الثاني : لا تجزئه لأنه لا يملك نفسه فلا يجزئه التكفير بها كما لو لم يؤذن له و لأن الكفارة عنه لم يجز صرفها إلى نفسه كالحر فأما إن أذن في العتق مطلقا لم يجز أن يعتق نفسه كما لو وكل غريما في إبراء بعض غرمائه لم يملك إبراء نفسه و قال أبو بكر : فيه وجه آخر أنه يجزئه فإن حنث و هو عبد فعتق فقال الخرقي : لا يجزئه غير الصيام لأنه حين الوجوب لا يجزئه غيره و لأنه حكم تعلق بالعبد فلم يتغير بحريته كالحد ومن جعل للعبد التكفير بالمال في حال رقه فهنا أولى و من اعتبر أغلظ الأحوال و كان موسرا لم يجز له التكفير بغير المال
فصل
و من حلف أيمانا كثيرة على شيء واحد فحنث لم يلزمه أكثر من كفارة لأنها أسباب كفارات من جنس فتداخلت كالحدود و إن حلف يمينا واحدة على أفعال مختلفة فحنث في الجميع أجزأه كفارة واحدة لأنها يمين واحدة فلم يحنث بها أكثر من كفارة كما لو حلف على فعل واحد و إن حنث بفعل واحد انحلت يمينه في الباقي و إن حلف أيمانا على أفعال فقال : و الله لا أكلت و الله لا شربت و الله لا لبست ففيه روايتان :
إحداهما : يجزئه عن الجميع كفارة واحدة اختارها أبو بكر و القاضي لأنها كفارات من جنس واحد فتداخلت كالحدود
و الثانية : يجب في كل يمين كفارة و هو ظاهر قول الخرقي لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فوجبت في كل يمين كفارتها كالمختلفة الكفارة قال أبو بكر : المذهب الأول و قد رجع أحمد عن الرواية الأخرى و لو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفي الكفارة كالظهار و اليمين بالله لزمته في كل يمين كفارتها لأنها أجناس فلم تتداخل كالحدود من أجناس
فصل
ومن حلف بالقرآن فخنث فقياس المذهب أن عليه كفارة واحدة لأن الحلف بصفات الله تعالى وتكرر اليمين بها لا يوجب أكثر من كفارة واحدة فهذا أولى والمنصوص عنه أن عليه بكل آية كفارة لأن ابن مسعود قال ذلك قال أحمد : ما أعلم شيئا يدفعه و يحتمل أن ذلك ندب غير واجب لأنه قال : عليه بكل آية كفارة يمين فإن لم يمكنه فعليه كفارة يمين ورده إلى كفارة واحدة عند العجز دليل على أن الزائد عليها غير واجب إذ لو رجب لم يسقط بالعجز كالواحدة

باب جامع الأيمان
ومبنى الأيمان على النية فمتى نوى بيمينه ما يحتمله تعلقت يمينه بما نواه دون ما لفظ به سواء نوى ظاهر اللفظ أو مجازه مثل أن ينوي موضوع اللفظ أو الخاص بالعام أو العام بالخاص أو غير ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ وإنما لكل امرئ ما نوى ] فتدخل فيه الأيمان ولأن كلام الشارع يصرف إلى ما دل الدليل على أنه أراده دون ظاهر اللفظ فكلام المتكلم مع اطلاعه على تعين إرادته أولى فلو حلف ليأكلن لحما أو فاكهة أو ليشربن ماء أو ليكلمن رجلا أو ليدخلن دارا أو لا يفعل ذلك وأراد بيمينه معينا تعلقت يمينه به دون غيره وإن نوى الفعل أو الترك في وقت بعينه اختص بما نواه وإن حلف : لا يشرب له الماء من العطش يريد قطع منته تناولت يمينه كل ما يمتن به لأن ذلك للتنبيه على ما هو أعلى منه كقول الله تعالى : { ولا تظلمون فتيلا } يريد : ولا تظلمون شيئا وقال الشاعر :
وإن حلف : لا يلبس شيئا من غزلها يريد قطع منتها فباعه وانتفع بثمنه حنث ولا يتعدى الحكم إلى كل ما فيه منة لأن لكونه من غزلها أثرا في داعية اليمين فلم يجز حذفه وإن حلف : لا يأوي معها في دار ينوي جفاءها ولم يكن للدار أثر في القصد فأوى معها في غيرها حنث ولا يحنث بصلتها بغير الإيواء لأن له أثرا فلا يحذف وإن قال : إن رأيتك تدخلين الدار فأنت طالق يقصد منعها الدخول بالكلية حنث بدخولها وإن لم يرها وإن لم يرد ذلك لم يحنث حتى يراها تدخل اتباعا للفظه وإن حلف : ليقضينه حقه في غد يريد ألا يتجاوزه بالقضاء فقضاه قبله لم يحنث وإن حلف : لا يبيع ثوبه بمائة يريد ألا ينقصه فباعه بأقل حنث وإن حلف : لا يتزوج حنث بالعقد الصحيح وإن حلف : ليتزوجن بر بذلك إلا أن يقصد بيمينه غيظ زوجته أو يكون سبب يمينه يقتضي ذلك فلا يبر إلا بتزويج يغيظها فإن واطأها على التزوج والطلاق قبل الدخول ليحل يمينه أو يتزوج من لا يغيظها تزوجها لم يبر وقال أصحابنا فيمن حلف : ليتزوجن على امرأته لا يبر حتى يتزوج نظيرتها ويدخل بها والصحيح أن هذا لا يعتبر لأن غيظها يحصل بدونه
فصل
وإن تأول الظالم في يمينه لم ينفعه تأويله لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يمينك على ما يصدقك به صاحبك ] رواه مسلم و أبو داود ولأنه لو ساغ له التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين وهو تعريف الحالف ليرتدع عن جحوده خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة وإن كان مظلوما فله تأويله نص عليه أحمد في رجل له امرأتان اسم كل واحدة فاطمة فماتت إحداهما : فحلف بطلق فاطمة ينوي الميتة إن كان المستحلف ظالما فالنية نية صاحب الطلاق وإن كان الحالف ظالما فالنية نية الذي أحلفه لما روى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة قال : خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت : أنه أخي فخلى سبيله فأتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا ذلك له فقال : [ أنت كنت أبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم ] ولأنه نوى بكلامه ما يحتمله على وجه لا يبطل حق أحد فجاز كما لو عنى به الظاهر وإن لم يكن ظالما ولا مظلوما فظاهر كلام أحمد : أن له تأويله كذلك ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ] وكان النبي صلى الله عليه و سلم يمزح ولا يقول إلا حقا وقال لرجل : [ إنا حاملوك على ابن ناقة ] فقال الرجل : ما أصنع بولد الناقة ؟ فقال : [ وهل تلد الإبل إلا النوق ] رواه أبو داود
وقال بعض أهل العلم : الكلام أوسع من أن يكذب ظريف يعني : التأويل
فصل
ومن لم تكن له نية وكان ليمينه سبب هيجها يقتضي معنى أعم من اللفظ مثل من امتنت عليه زوجته فحلف لا يشرب لها الماء من العطش أو لا يلبس ثوبا من غزلها أو حلف : لا يأوي معها في دار لسبب يقتضي جفاءها فحمه حكم القاصد كذلك لأن السبب دليل على النية والقصد فقام مقامه وإن كان اللفظ أعم من السبب كرجل امتنت عليه زوجته ببيتها فحلف لا يسكن بيتا أو دعاه إنسان إلى غداء فحلف لا يتغدى ففيه وجهان :
أحدهما : يحمل اللفظ على عمومه لأن كلام الشارع إذا ورد على سبب خاص حمل على عمومه ولم يختص محل سببه فكذلك اليمين
والثاني : يختص بمحل السبب لأن قرينة حاله دالة على إرادة الخاص أشبه ما لو نواه ولأننا أقمنا السبب مقام النية في التعميم فكذلك في التخصيص ولو حلف على شيء لسبب فزال مثل من حلف لا يدخل بلدا لظلم فيه فزال ثم دخله فقال القاضي : يحنث وذكر أن أحمد نص عليه وإن حلف على زوجته أو عبده : ألا يخرجها إلا بإذنه فخرجا عن ملكه فقال القاضي : تنحل يمينه لأن قرينة الحال تقتضي تخصيصهما بحالة الملك فأشبه ما لو صرح به فيخرج في هذه المسألة وفي التي قبلها وجهان قياسا لكل واحدة منهما على صاحبتها وإن حلف لعامل : لا يخرج إلا بإذنه فعزل أو حلف : لا يرى منكرا إلا رفعه إلى القاضي فلان فعزل وأشباه هذا ففيه وجهان كذلك فإن قلنا : لا تنحل اليمين بعزله فرفعه إليه بعد عزله بر وإن قلنا : تنحل بذلك فرأى منكرا في ولايته وأمكنه رفعه إليه فلم يرفعه إليه حتى عزل ثم رفعه إليه لم يبر
فصل
فإن عدم ذلك تعلقت يمينه بما عينه فمتى حلف لا أكلت هذا الرطب أو هذا العنب فصار دبسا أو خلا أو ناطفا أو أكلت هذا الحمل فصار كبشا أو : لا أكلت هذا البر فصار دقيقا أو خبزا أو هريسة أو ما تولد من المحلوف عليه فأكل منه حنث وإن حلف : لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا فكلمه أو : لا دخلت هذه الدار فصارت فضاء أو مسجدا أو حماما فدخلها أو لا لبست هذا الرداء فلبسه قميصا أو سراويل أو اعتم به أو : لا ركبت هذه السفينة فنقضت ثم أعيدت وركبها أو : لا كلمت زوجة فلان هذه ولا عبده هذه أو : لا دخلت داره هذه أو : لا كلمت بكرا عند زيد ولا هندا زوجته أو : لا كلمت زيدا سيد بكر أو زوج هند أو زيدا صديق سعد فزال ملكه عنهن وفعل ما حلف عليه حنث لأن عين المحلوف عليه باقية فحنث به كما لو حلف : لا أكلت هذا الكبش فذبحه وأكل من لحمه ويحتمل أن لا يحنث في هذا كله وإن استحالت العين مثل أن حلف على هذا البر فصار زرعا أو بيضة فصارت فرخا أو على خمر فصار خلا لم يحنث لأن الأعيان استحالت فزال حكم اليمين ومتى كانت نية الحالف على شيء مقيد بصفة تقيدت يمينه بذلك ومتى حلف : لا يدخل دار فلان ولا يكلم عبده ولا زوجته ولا يركب دابته وقصد معينا تعلقت اليمين بعينه سواء بقي لفلان أو انتفل عنه ولا تتناول يمينه غير تلك الدار والعبد والدابة والزوجة لأنه تعين بنيته وإن لم يعين حنث بكلام كل عبد وزوجة له ودخول كل دار مضافة إليه بملك أو إجارة أو سكنى لأن الدار تضاف إلى ساكنها قال الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } يريد : بيوت أزواجهن التي تسكنها ولا يحنث بكلام عبد زال عنه ملك فلان ولا دار ولو حلف : لا يدخل دار عبد فلان ولا يركب دابته ولا يلبس ثوبه فركب أو لبس أو سكن أو ركب ما جعل برسمه حنث لما ذكرنا ولأن إضافة الملكية هنا غير متحققة فتعين صرفها إلى غير الملكية
فصل
وإن عدم التعيين تعلقت يمينه بما تناوله الاسم والأسماء ثلاثة أقسام :
أحدها : الأسماء العرفية وهي أسماء اشتهر في العرف استعمالها في غير موضوعها وهي أربعة أنواع :
أحدها : ما صارت الحقيقة فيه مغمورة لا يعرفها أكثر الناس كالرواية : للمزادة وحقيقتها : البعير الذي يسقى عليه والغائط والعذرة : للفضلة المستقذرة وحقيقة الغائط : المكان المطمئن والعذرة : فناء الدار فهذا تنصرف اليمين عليه إلى الاسم العرفي دون الحقيقي لأنه يعلم أنه لا يريد غيره فصار كالمصرح به ولو حلف : لا يأكل شواء اختصت يمينه اللحم المشوي دون المشوي من البيض وغيره لاختصاص الشوي باللحم المشوي دون غيره وإن حلق على الدابة لم تتناول يمينه آدميا ولا ما لا يسمى دابة في العرف وإن حلف : لا استظل بسقف لم تتناول يمينه السماء وإن كان الله تعالى قد قال : { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } ولو حلف على السراج لم يتناول الشمس لعدم تسميتها عرفا وإن اختلف أهل بلدين في تسمية عين انصرفت يمين الحالف إلى تسمية أهل بلده لأنه لا يريد غيره فأشبه ما لو اختلفت اللغات
النوع الثاني : ما يزيل الاسم عن الحقيقي مثل اسم اللحم يتناول في الحقيقة لحم السمك قال الله تعالى : { لتأكلوا منه لحما طريا } ولا يفهم ذلك عند إطلاق الاسم فكذر الخرقي : أنه إذا حلف : لا يأكل لحما فأكل من لحم السمك حنث لأن الله تعالى سماه لحما ولأنه لحم حيوان فأشبه لحم الطير وقال ابن موسى : لا يدخل إلا أن ينويه لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم أشبه الجراد ولأن الظاهر أن الحالف لم يرده بيمينه فأشبه النوع الذي قبله وإن حلف : لا يدخل بيتا فنص أحمد على أن يمينه تتناول المسجد والحمام لأن الله سمى المساجد بيوتا فقال سبحانه : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } وفي الأثر : [ بئس البيت الحمام ] وإذا كان بيتا في الحقيقة ويسميه الشارع حنث بدخوله كغيره ويحتمل ألا يحنث لأنه لا يسمى في العرف بيتا أشبه النوع الأول ويدخل في يمينه بيت الشعر والمدر لأنه بيت حقيقة وعرفا ولا تدخل فيه الخيمة لأنها لا تسمى بيتا ولا يدخل الدهليز ولا الصفة ولا صحن الدار كذلك وإن حلف على الريحان فقال القاضي تختص يمينه الريحان الفارسي لأنه المسمى عرفا وقال أبو الخطاب تتناول كل نبت أو زهر طيب الريح كالورد والبنفسج والنرجس والمرزنجوش ونحوه لأنه يتناول اسم الريحان حقيقة ولو حلف : لا يشم وردا ولا بنفسجا حنث بشمهما رطبين كانا أو يابسين فإن شم دهنهما لم يحنث عند القاضي لأنه لم يشمهما ويحنث عند أبي الخطاب لأن الشم إنما هو للرائحة وريحهما في دهنهما وإن حلف : لا يشتريهما فاشترى دهنهما لم يحنث وجها واحدا
النوع الثالث : ما يتناوله الاسم حقيقة وعرفا لكن أضاف إليه فعلا لم تجر العادة بإضافته إلا إلى بعضه ففيه وجهان :
أحدهما : يتناول الاسم جميع المسمى لعموم الاسم فيه
والثاني : يختص بما جرت العادة بإضافة الفعل إليه لأن هذا قرينة دالة على اختصاصه بالإرادة فأشبه ما لو خصه بنيته فإذا حلف : لا يأكل رأسا فقال القاضي : يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم والطير والصيد والحيتان والجراد لعموم الاسم فيه حقيقة وعرفا فأشبه ما لو حلف : لا يشرب ماء فإنه يحنث بشرب الماء الملح والماء النجس ومن حلف : لا يأكل خبزا حنث يأكل خبز الذرة والدخن وإن لم تجر عادة أهل بلد الحالف بأكله ولو حلف : لا يأكل لحما تناول يمينه لكل اللحم المحرم وقال أبو الخطاب : لا يحنث بأكل رأس لم تجر العادة بأكله منفردا لأنه لا ينصرف إليه اللفظ عرفا فلم يحنث بأكله كما لو حلف : لا يأكل شواء فأكل بيضا مشويا وإن حلف : لا يأكل بيضا فعند القاضي : يحنث بأكل بيض كل حيوان وعند أبي الخطاب : لا يحنث بأكل بيض لا يزايل بائضه في حياته كبيض السمك والجراد
النوع الرابع : أسماء يقصد بها في الغالب معنى فإذا أطلقها في اليمين تعلقت يمينه بما يحصل ذلك المعنى فإذا
حلف : لا يضربه فخنفه أو نتف شعره أو عصر ساقه حنث لأنه يقصد ترك تأليمه وإن حلف ليضربنه بر بفعل ذلك لأنه يحصل مقصوده ويسمى ضربا وإن ضربه بعد موته لم يبر لأنه لا يحصل مقصوده وإن حلف : لا وطئت مدينة كذا راكبا حنث لأن ذلك يراد به اجتنابها
فصل
القسم الثاني : الأسماء الشرعية وهي التي لها موضوع شرعي كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج والبيع فتعلق اليمين بالموضوع الشرعي لأنه الظاهر وتعلق اليمين بالصحيح منه دون الفاسد لأنه المشروع وقال ابن أبي موسى : من حلف : لا يتزوج لم يحنث إلا بتزويج صحيح ومن حلف : لا يشتري فاشترى شراء فاسدا ففيه روايتان وإن تزوج تزويجا مختلفا فيه أو اشترى شراء مختلفا فيه حنث لأنه يطلق عليه الاسم وقال أبو الخطاب : إن باع وقت النداء أو تزوج بغير ولي ففيه وجهان وإن حلف : لا يبيع خمرا ولا حرا حنث بفعل ذلك لأنه يتعذر حمل يمينه على عقد صحيح فيتعين الفاسد محملا لها ويحتمل أن لا يحنث لأنه ليس ببيع في الشرع وإن حلف : ليصلين وليصومن فأل ذلك صوم يوم وصلاة ركعتين كما لو نذBه ذلك وإن حلف : لا يصلي ولا يصوم فكذلك عند أبي الخطاب لأن ما دونه لا يبر به فلا يحنث بفعله كغيره من الأفعال وقال القاضي : يحنث بابتدائهما لأنه يسمى مصليا وصائما ويحتمل أن يخرج هذا على الروايتين فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه وإن حلف : لا يبيع لم يحنث حتى ينعقد البيع بالإيجاب والقبول وإن حلف : لا يهبه أو لا يعيره فأ جب ذلك فلم يقبل الآخر حنث لأن المقصود من الهبة فعل الواهب لعدم العوض فيها بخلاف البيع فإن مقصود البائع لا يتم إلا بالقبول وإن حلف : لا يتصدق عليه فوهبه لم يحنث لأن الصدقة تختص بوصف زائد بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ هو عليها صدقة ولنا هدية ]
وإن حلف : لا يهبه فتصدق عليه تطوعا لم يحنث عند أبي الخطاب كذلك وقال القاضي : يحنث لأنه تبرع بعين في حياته أشبه ما لو أهدى إليه والصدقة نوع من الهبة فتتناولها يمين الحالف على الهبة ولم تدخل الهبة في اليمين الحالف على الصدقة ولا يحنث بالصدقة الواجبة وجها واحدا لأنه ليس بتبرع
وإن أهدى إليه أو أعمره حنث لأنه هبة وإن وصى له لم يحنث لأن الملك إنما يثبت بعد انحلال اليمين بالموت وإن أعاره لم يحنث لأنها لا تسمى هبة ولأن الهبة تمليك الأعيان وقال أبو الخطاب : يحنث لأنها هبة المنافع وإن حاباه في البيع لم يحنث لما ذكرنا في العارية وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر لأنه يحنث لأنه تبرع عليه وإن وقف عليه ابتنى على ملك الموقوف عليه وإن قلنا : يملك حنث وإلا فلا وقال أبو الخطاب يحنث لأنه تبرع عليه ويحتمل أن لا يحنث بحال لأنه لا يسمى هبة
فصل
القسم الثالث : ما له موضوع لغوي لم يغلب استعماله في غيره فتتناوله يمينه مثل أن يحلف : لا يأكل لبنا فيحنث بأكل ما يسمى لبنا حليبا كان أو مخيضا مائعا أو جامدا ولا يحنث بأكل الخبز والزبد والسمن والأقط والكشك لأنه لا يسمى لبنا
وإن حلف على الزبد لم تتناول يمينه سمنا ولا لبنا لم يظهر زبده فإن ظهر زبده تناولته يمينه وإن حلف على السمن لم تتناول يمينه زبدا ولا لبنا ويحنث بأكل ما حلف عليه مفردا وفي طبيخ يظهر طعمه فيه لأنه أكل المحلوف عليه وغيره وإن لم يظهر طعمه في الطبيخ لم يحنث بأكله لأنه زال اسمه وطعمه فلم يحنث بأكله كالكشك وإن حلف لا يأكل حنطة فأكلها خبزا أو طبيخا حنث لأن الحنطة لا تؤكل حبا عادة فانصرفت يمينه إلى أكلها في جميع أحوالها وإن أكل شعيرا فيه حبات حنطة ففيه وجهان :
أحدهما : يحنث لأنه أكل حنطة فأشبه ما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا
والثاني : لا يحنث لأنها مستهلكة في الشعير أشبه السمن في الخبيص
فصل
وإن حلف لا يأكل فاكهة تناولت يمينه كل ثمرة مأكولة تخرج من الشجر كالعنب والزبيب والرطب والتمر والجوز واللوز لأنه يسمى فاكهة ولا تتناول القثاء والخيار والباذنجان لأنها من الخضر وفي البطيخ وجهان :
أحدهما : فاكهة لأنه ينضج ويحلو أشبه العنب
والثاني : ليس بفاكهة لأنه ثمر بقلة أشبه القثاء
فصل
والإدام : ما يؤكل مع الخبز عادة سواء كان مما يصطبخ به كالمرق واللبن والدهن والخل أو مما لا يصطبخ به كالشواء والجبن والزيتون لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ نعم الإدام الخل ] وقال : [ اللحم سيد الإدام في الدنيا والآخرة ] فنص على هذين وقسنا عليهما سائر ما ذكرنا لأنه يؤتدم به عادة وفي التمر وجهان :
أحدهما : هو إدام لما روى يوسف بن عبد الله بن سلام قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم وضع تمرة على كسرة وقال : [ هذه إدام هذه ] رواه أبو داود
والثاني : أنه ليس بأدم لأنه فاكهة أشبه الزبيب
وأما الطعام فهو : اسم لكل مأكول ومشروب على سبيل الاختيار قال الله تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما تحرز لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم ]
والحلال والحرام سواء في اليمين وفي الماء والدواء وجهان :
أحدهما : هو طعام لقول الله تعالى في النهر : { ومن لم يطعمه فإنه مني } ولأنه مشروب والدواء مأكول ومشروب أشبه العسل
والثاني : ليس بطعام لأنه لا يطلق عليه اسمه والدواء إنما يؤكل عند الضرورة وأما القوت : فما تبقى به البنية كالخبز والتمر والزبيب واللحم
واللبن لأن لك واحد من هذه يقتاته أهل بلد ويحتمل ألا يدخل في يمينه ما لا يقتاته أهل بلده لأن يمينه تنصرف إلى المتعارف عندهم
فصل
ومن حلف على اللحم تناولت يمينه لحم الأنعمام والصدي والطير والسباع وكل ما يسمى لحما ولا تتناول يمينه الشحم والألية والمخ والدماغ والكبد والطحال والقلب والرئة والكلية والكرش والمصران والقانصة والكارع لأنه ليس بلحم ولا ينفرد عنه باسمه وصفته فأشبه الجلد وفي اللسان وجهان :
أحدهما : يدخل لأنه لحم حقيقة
والثاني : لا يدخل لأنه ينفرد باسمه وصفته أشبه القلب وفي لحم الرأس وجهان :
أحدهما : لا يدخل في يمينه أومأ إليه أحمد فيمن حلف لا يشتري لحما فاشترى رأسا أو كارعا لا يحنث إلا أن ينوي لأن اسم اللحم لا ينصرف عند الإطلاق إليه
والثاني : يحنث لأنه لحم وفي المرق وجهان :
أحدهما : لا تتناوله يمينه لأنه لا يسمى لحما
والثاني : تتناوله يمينه اختاره القاضي لأن خاصية اللحم فيه ولا تخلو من أجزائه وفي اللحم الأبيض الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف اللحم الأحمر وجهان :
أحدهما : هو لحم وهذا قول القاضي و أبي الخطاب لأنه يسمى لحما ويسمى بائعه لحاما ولا يفرد عن اللحم
والثاني : هو شحم هذا ظاهر قول الخرقي واختيار طلحة العاقولي لأنه يشبه الشحم في لونه وذوبه ولا يسمى لحما بمفرده فعلى هذا يكون هذا والألية وشحم البطن شحما تتناول يمين الحالف على الشحم وعلى قول القاضي : الشحم : اسم لحشم البطن خاصة لا يتناوله غيره ومن حلف لا يأكل شحما فأكل لحما أحمر وحده لم يحنث لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه شحم وقال الخرقي : يحنث لأنه لا يخلو من شحم

فصل : تابع باب جامع الأيمان
ومن حلف على العنب لم تتناول يمينه حصرما ولا زبيبا ولا ما يتولد من العنب ومن حلف على الزبيب لم تتناول يمينه عنبا ومن حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا وهو الذي أرطب نصفه أو أكل اقدر الذي أرطب منه حنث لأنه أكل رطبا وإن أكل القدر الذي لم يرطب لم يحنث ومن حلف لا يكلم شيخا ولا عبدا ولا يشتري جديا ولا يأكل لحما طريا ولا رطبا جنيا لم يحنث بغير الموصوف بتلك الصفة لأن يمينه لم تتناول غيره
فصل
ومن حلف على الحلي تناولت يمينه الخواتيم والأسورة والخلاخيل وكل ما يسمى حليا وتتناول اللؤلؤ والجواهر في المخنقة لقول الله تعالى : { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } ولا تتناول العقيق والسبج لأنه ليس بحلي أشبه الودع والخرز ولا تتناول السيف المحلى لأن السيف ليس بحلية والحلية : إنما هي للسيف وفي المنطقة المحلاة وجهان :
أحدهما : هي كالسيف
والثاني : تتناولها اليمين لأنها من حلي الرجال وإن لبس الخاتم في أي أصابعه كان حنث لأنه قد لبسه فأشبه لبسه في الخنصر
فصل
والحين عند إطلاقه : اسم لستة أشهر لأن ذلك يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال عكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيد في قول الله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين } هو ستة أشهر فيحمل مطلق كلام الآدمي على المطلق من كلام الله سبحانه والحقب : ثمانون عاما قاله ابن عباس في تفسير قول الله تعالى : { لابثين فيها أحقابا }
وإن حلف لا يكلمه وقتا أو دهرا أو مليا أو طويلا أو قريبا تناول أقل الزمان لأن الاسم تناوله وكذلك إذا حلف لا يكلمه زمنا عند أبي الخطاب لأنه في معنى وقت وقال ابن أبي موسى : هو ثلاثة أشهر وقال العاقولي : هو كالحين والأول أصح وقوله : عمرا كقوله : وقتا عند أبي الخطاب وعند العاقولي هو كالحين ويحتمل أن يحمل على أربعين عاما لقول الله تعالى : { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } ويعني : مدة النبي صلى الله عليه و سلم قبل بعثه وكان أربعين عاما
وإن حلف لا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان تناول الدهر لأن الألف و اللام تستغرق الجميع
وإن حلف على أشهر أو أيام فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن حلف على شهور فكذلك عند أبي الخطاب لأنها جمع وقال غيره : هي اثنا عشر لقول الله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } ولأن هذا جمع كثيرة فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة وإن حلف لا يأوي معه بيتا فدخلا بيتا حنث وإن قل لبثهما لقول الله تعالى : { إذ أوينا إلى الصخرة } قال أحمد : ما كان ذلك إلا ساعة
فصل
وإن حلف لا يدخل دارا فدخلها مختارا حنث راكبا كان أو ماشيا أو محمولا أو على مأمن بابها أو من ثقب فيها أو من فوق جدارها لأنه قد دخلها وإن رقى على سطحها حنث لأنها منها وكذلك يصح الاعتكاف في سطح المسجد ويمنع الجنب اللبث فيه إلا أن تكون بينة أو قرينة حالة تقتضي إخراج السطح من اليمين وإن قال : على حائطها أو عتبة بابها ففيه وجهان :
أحدهما : يحنث لأنه دخل في حدها
والثاني : لا يحنث لأنه لا يسمى داخلا وإن تعلق على غصن شجرة منها حتى صار بين حيطانها حنث وإن صار مقابلا لها احتمل وجهين وإن حلف لا يدخل من بابها فحول بابها ودخل من الثاني حنث لأنه بابها وإن حلف لا يضع قدمه فيها أو لا يطأها فدخلها راكبا أو حافيا أو منتعلا حنث لأن معناه أن لا يدخلها
فصل
وإن حلف على دار ليخرجن منها اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله وإن حلف ليخرجن من هذه البلد اقتضت يمينه الخروج بنفسه لأن الدار يخرج منها صاحبها كل يوم عادة وظاهر حاله إرادة خروج غير المعتاد بخلاف البلد وهل يحنث بالعود إليها ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يحنث لأن ظاهر حاله قصد هجرانها ولا يحصل ذلك مع العود
والثانية : لا يحنث لأن يمينه على الخروج وقد فعله ولذلك لو حلف لا يخرج منها حنث بمجرد الخروج وحمل اليمين على المقصد مع عدمه وعدم سبب يقتضيه لا يصح
فصل
وإن حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه أو بغير إذنه أو إلى أن يأذن لها أو إلا أن يأذن لها أو حتى يأذن لها فخرجت بغير إذنه حنث وانحلت يمينه وإن خرجت بإذنه لم يحنث ولم تنحل يمينه لأنها فعلت غير المحلوف عليه فأشبه ما لو فعلت غير الخروج وإن أذن لها ثم نهاها فخرجت حنث لأن إذنه زال فأشبه من لم يأذن وإن أذن لها من حيث لا تعلم فخرجت ففيه وجهان :
أحدهما : يحنث لأن الإذن الإعلام ولم يتحقق قال الله تعالى : { وأذان من الله ورسوله } أي إعلام وآذنتكم أي : أعلمتكم
والثاني : لا يحنث لأنه قد أذن وكذلك ينعزل الوكيل بعزله قبل علمه وإن حلف ألا تخرجي إلا بإذن زيد فمات زيد ثم خرجت حنث لأنها خرجت قبل إذنه وإن حلف ألا تخرج إلى غير الحمام فخرجت إلى الحمام وغيره حنث لأنها خرجت إلى غيره وإن قال : إن خرجت إلا إلى الحمام فأنت طالق فخرجت إليه وإلى غيره لم تطلق لأنها خرجت إليه وإن خرجت إلى الحمام ثم عدلت إلى غيره ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحنث لأنها لم تخرج إلى غيره
والثاني : يحنث لأن قصده في الظاهر صيانتها من غيره ولم يحصل ذلك
فصل
ومن حلف : لا يسكن دارا هو ساكنها وأقام فيها زمنا يمكنه الخروج حنث إلا أن تكون إقامته لنقل متاعه فلا يحنث ويكون نقله على ما جرت به العادة قليلا وإن خرج بنفسه دون أهله وماله مع إمكان نقلهم حنث لأنه يقال : فلان ساكن الدار مع كونه خارجا منها إلا أن يريد بخروجه السكنى منفردا في غيرها فلا يحنث فإن أقام في الدار لإكراه أو خوف أو ليل أو لأنه يحول بينه وبين الخروج أبواب مغلقة أو لعدم ما ينقل عليه متاعه أو منزلا ينتقل إليه أياما وليالي في طلب النقلة لم يحنث لأن إقامته لدفع الضرر وانتظار السكنى وإن أقام غير ناو للنقلة حنث ول وهب رحله أو أعاره أو أودعه وخرج بنفسه لا يريد العود لم يحنث وإن تردد إلى الدار لنقل متاعه أو عيادة مريض لم يحنث لأنه ليس بسكنى وإن امتنعت زوجته من الخروج معه فخرج وتركها لم يحنث
فصل
وإن حلف لا يساكن فلانا فاستدام المساكنة حنث وإن سكنا في دارين متجاورتين لم يحنث إلا أن ينوي أو يكون سبب يمينه يقتضي ذلك وإن سكنا في دار واحدة حنث سواء سكنا بيتين أو أحدهما بيتا والآخر صفة وإن كانا متساكنين فأقاما حتى بنيا بينهما حاجزا وقسماها دارين حنث فإن خرجا منها أو أحدهما وقسماها دارين ثم سكناها لم يحنث
فصل
وإن حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله فقال الخرقي يحنث لأن هذه اليمين يقصد بها اجتناب الشيء بدليل قوله تعالى : { تأكلوا أموالهم } يتناول اجتنابها ونهي الطبيب المريض عن أكل شيء يمنع تناوله فحملت اليمين عليه ونقل منها عن أحمد : لا يحنث لأن الأفعال أنواع كالأعيان فالحالف على نوع لا يحنث بفعل آخر كالأعيان قال القاضي : إنما الروايتان فيما إذا عين المحلوف عليه فإن لم يعين لم يحنث رواية واحدة فأما إن حلف لا يطعمه أولا يذوقه تناول الأمرين فإن حلف لا يأكله ولا يشربه فذاقه لم يحنث وإن حلف لا يأكل سكرا فتركه في فمه حتى ذاب فبلعه خرج على الروايتين وإن حلف لا يشرب فمص قصب السكر لم يحنث نصل عليه وكذلك إن حلف لا يأكله قاله ابن أبي موسى ويجيء على قول الخرقي أنه يحنث والأكلة بالفتح : المرة من الأكل والأكة : اللقمة
فصل
وإن حلف لا يكلمه ثم وصله بيمينه كلاما مثل أن يقول : فتحقق ذلك أو فاذهب أو فاسمع حنث ثم لأنه كلمة بعد يمينه إلا أن ينوي أن لا يكلمه كلاما منفصلا ويحتمل أن لا يحنث وإن أطلق لأن إتيانه بكلام متصل يدل على قصده الكلام المنفصل وإن كلم إنسانا ليسمع المحلوف عليه حنث نص عليه لأن ذلك تكليم له في المعنى قال الشاعر :
( إياك أعني فاسمعي يا جارة )
وإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع حنث نص عليه لأنه أراد تكليمه بما لفظ به وإن زجره فقال : تنح أو اسكت أو سمعه يتكلم فقال : على الكاذب لعنة الله حنث لأنه كلمه وإن سلم عليه أو على جماعة هو فيهم يقصده معهم حنث لأنه كلمه وإن قصدهم دونه لم يحنث لأن اللفظ العام يصح استعماله في الخصوص وإن أطلق حنث لأن العام يحمل على عمومه ما لم يخصه مخصص ويحتمل أن لا يحنث لأنه يصلح للبعض فلا يحنث بالاحتمال وإن كاتبه أو راسله ففيه روايتان :
إحداهما : يحنث لقول الله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا } فاستثنى ذلك من التكليم ولأن ظاهر حاله قصد هجرانه فتحمل يمينه عليه
والثانية : لا يحنث لأنه ليس بتكليم ولهذا صح نفيه إلا أن ينويه أو يكون سبب يمينه يقتضي مقاطعته وجفاءه وفي الإشارة وجهان بناء على الرسالة فإن ناداه وهو غائب أو ميت أو أصم أو مغمى عليه لم يحنث لأنه ليس بتكليم له وقال أبو بكر : يحنث بتكليم الميت لأن النبي صلى الله عليه و سلم كلمهم والأول أصح لأنه قد بطلت حواسه وذهبت نفسه وتكليم رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم من خصائصه فلا يقاس عليه وإن حلف لا يتكلم فقرأ أو سبح لم يحنث لقول الله سبحانه : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قد أحدث أن لا يكلموا في الصلاة ] متفق عليه
فإن حلف على ترك كلامه أياما متتابعة دخلت الليالي التي بين الأيام في يمينه لأن الله تعالى : جعل آية زكريا ترك الكلام في الأيام فدخلت الليالي فيه
فصل
فإن حلف على غريمه : لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك فهرب منه حنث لأن يمينه تقتضي ألا يحصل بينهما فرقة وقد حصلت وإن حلف : لا فارقتك فهرب منه لم يحنث لأن اليمين على فعل نفسه ولم توجد المفارقة إلا من غريمه وعنه : يحنث كما ذكرنا في التي قبلها وإن فارقه الغريم بإذنه أو قدر على منعه من الهرب فلم يفعل حنث لأن معنى يمينه لألزمنك ولم يلزمه اختيارا وإن أحاله ففارقه حنث لأنه فارقه قبل استيفاء حقه فإن ظن أنه قد بر خرج على الروايتين في الجاهل وإن قضاه عن حقه من غير جنسه ففارقه فقال ابن حامد : لا يحنث لأنه وصل إلى حقه قضاه عن حقه من غريمه وقال القاضي : إن كان لفظه : لا فارقتك ولي قبلك حق لم يحنث لأنه لم يبق له قبله حق وإن قال : حتى أستوفي حقي منك حنث لأن يمينه على نفس الحق فإن فلسه الحاكم وألزمه فراقه فهو كالمكره وإن لم يلزمه فراقه ففارقه حنث لأنه فارقه اختيارا وإن أبرأه ثم فارقه وكان لفظه : لا فارقتك ولي قبلك حق لم يحنث وإن قال : حتى أستوفي حقي منك حنث والفراق : ما عده الناس فراقا كالفرقة في البيع وغيره
فصل
ومن حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر لأن السوط أقيم مقام المصدر تقديره : عشر ضربات بسوط ولذلك لم يلزمه الضرب بعشرة أسواط ولا يبر إلا بضرب يؤلم لأن هذا في العرف يقصد به التأليم فانصرفت اليمين إليه كما لو صرح به فإن مات المحلوف عليه قبل ضربه أو حلف ليشربن ماء فتبدد أو مات الحالف بعد إمكان الفعل حنث لأنه فاته المحلوف عليه بعد الإمكان حنث لما ذكرنا ويتخرج ألا يحنث لأنه عجز بغير فعله أشبه المكره وإن حلف ليضربنه في غد فمات العبد اليوم ففيه الوجهان وإن مات الحالف اليوم فلا حنث عليه لأنه لم يفته فعله في وقته إلا بعد خروجه عن أهلية التكليف وإن ضربه اليوم لم يبر وقال القاضي : يبر كما لو حلف ليقضينه حقه غدا فقضاه اليوم والأول أصح لأنه لم يفعل المحلوف في وقته أشبه ما لو حلف ليصومن يوم الخميس فصام الأربعاء ويفارق قضاء الحق لأنه يراد به ألا يتجاوز الوقت وإن لم يبين وقت الضرب ولم ينوه لم يحنث حتى يموت أحدهما لأنه لا يفوته المحلوف عليه إلا به بدليل قوله تعالى : { قل بلى وربي لتأتينكم } وهو حق وصدق ولم يأت بعد
فصل
إذا حلف ليفعلن شيئا لم يبر إلا بفعل جميعه وإن حلف لا يفعله ففعل بعضه ففيه روايتان :
إحداهما : لا يحنث لأنه لا يبر بفعل البعض فلا يحنث بفعله كما لو نوى الجميع
والثانية : يحنث لأن اليمين على الترك تقتضي المنع من فعله فاقتضت المنع من فعل البعض كالنهي واليمين على الفعل يقتضي فعل الكل كالأمر وإذا حلف لا يأكل رغيفا فأكل بعضه أو لا يكلم زيدا وعمرا فكلم أحدهما أو لا يدخل دارا فأدخل بعض جسده ففيه الروايتان وإن حلف لا يلبس ثوبا اشتراه زيد أو نسجه أو خاطه أو من غزل امرأته أو لا يدخل داره فليس ثوبا اشتراه زيد وبكر أو خاطاه أو نسجاه أو فيه من غزل امرأته أو دخل دارا لهما ففيه وجهان بناء على الورايتين وإن حلف لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشترياه حنث لأن زيدا اشترى نصفه وقد أكله بخلاف الثوب الذي اشتراه فإن الاسم لجميعه ونصفه ليس بثوب ونصف الطعام طعام ولو حلف لا يلبس ثوبا من غزل امرأته فلبس ثوبا فيه من غزلها حنث لأنه لبس من غزلها ولو اشترى زيد طعاما فخلطه بطعام آخر فأكل الحالف أكثر مما اشتراه الآخر حنث لأنه أكل مما اشتراه زيد وإن أكل بقدره أو دونه ففيه وجهان :
أحدهما : يحنث لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه أحدهما مما اشتراه الآخر فيحنث ظاهرا
والأخر : لا يحنث لأنه يحتمل أن يكون المأكول مما اشتراه غيره فلا يحنث بالشك وإن اشترى زيد نصفه مشاعا واشترى الآخر باقيه فأكل منه حنث لأن كل جزء فيه من شراء زيد وإن أكل طعاما اشتراه زيد لغيره حنث لأنه فعل المحلوف عليه وإن اشتراه زيد ثم باع نصفه فأكل منه حنث أيضا ومن نوى بيمينه الجميع أو البعض أو لفظ به أو دلت القرينة عله تقيدت يمينه بذلك وجها واحدا فلو قال : والله لا أكلت هذا الطعام كله أو : لا صمت هذا الشهر جميعه أو نوى ذلك بقلبه لم يحنث إلا بفعل الجميع وإن حلف لا شربت ماء هذا النهر ولا أكلت التمر ولا كلمت الرجال حنث بفعل البعض رواية واحدة لأن فعل الجميع ممتنع بغير يمينه ولو حلف ليفعلن ذلك بر بفعل بعضه وإذا حلف لا يشرب ماء النهر فغرف منه بإناء وشرب أو كرع فيه حنث لأنه شرب منه وإن شرب من نهر يأخذ منه ففيه احتمالان :
أحدهما : يحنث لأنه منه أشبه ما في الإناء
والثاني : أنه إن زال عنه الاسم لم يحنث لأنه زال اسمه فأشبه من حلف : لا يأكل رطبا فأكل تمرا
فصل
وإن حلف لا يفعل شيئين ففعل أحدهما ففيه الروايتان ويحتمل أن يفرق بين اليمين بالله تعالى والطلاق لأن اليمين بالطلاق تعليق على شرط وما علق على شرط لا يوجد قبل تمامه وما علق على شرطين لا يوجد عند أحدهما ولهذا إذا قال لزوجته : إذا حضتما فأنتما طالقتان فحاضت إحداهما لم تطلق واحدة منهما ولو قال : إن كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق أو إن كلمتك فدخلت دارك أو ثم دخلت دارك لم يحنث بفعل أحدهما وجها واحدا
فصل
ومن حلف لا يفعل شيئا فوكل من يفعله حنث لأن الفعل يطلق على الموكل فيه والآمر به فيحنث به كما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه

باب النذر
و هو أن يقول : لله علي أن أفعل كذا أو : إن رزقني الله مالا لأتصدقن أو : فعلي صوم شهر لقول الله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به } و قال ابن عمر في الرجل يقول : علي المشي إلى الكعبة : هذا نذر فليمش وهو سبعة أقسام :
أحدها : نذر اللجاج والغضب وهو الذي يخرج مخرج اليمين للمنع من شيء أو الحث عليه كقوله : إن دخلت الدار فلله علي الحج أو صوم سنة أو عتق عبدي أو صدفة مالي فهذا يمين مخير الناذر بين فعله و بين كفارة يمين لما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نذر في معصية و كفارته كفارة يمين ] رواه سعيد في سننه و عن أحمد : أنه تتعين الكفارة و لا يجزئه غيرها للخبر و الأول ظاهر المذهب لأنه يمين فيخير فيها بين الأمرين كاليمين بالله تعالى و لأن هذا جميع الصفتين فيخرج عن العهد بكل واحد منهما و إن قال : إن فعلت كذا فعبدي حر ففعله عتق العبد لأن العتق يصح تعليقه بالشرط فأشبه الطلاق
فصل
القسم الثاني : النذر المبهم أن يقول : لله علي نذر فيجب كفارة اليمين لما روى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كفارة النذر - إذا لم يسم - كفارة يمين ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح
فصل
القسم الثالث : نذر المباح كنذر لبس ثوبه و أكل طعامه و طلاق زوجته فيتخير بين الوفاء به و كفارة اليمين لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ] رواه أبو داود
فإن لم يف فعليه كفارة لما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا نذر في معصية و كفارته كفارة يمين ] رواه أبو داود
و إذا وجبت الكفارة في المعصية ففي المباح أولى و إن وفى به أجزأه لما روي أن امرأة قالت : يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال رسو الله صلى الله عليه و سلم : [ أوفي بنذرك ] رواه سعيد
و يتخرج أنه لا كفارة فيه لأنه لو نذر الاعتكاف أو الصلاة في موضع بعينه جاز له الاعتكاف في غيره و لا كفارة عليه و قد روى ابن عباس قال : بينا النبي صلى الله عليه و سلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو اسرائيل نذر أن يقوم في الشمس و لا يستظل و لا يتكلم و يصوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ مروه فليجلس و ليستظل و ليتكلم وليتم صومه ] رواه البخاري
و لم يأمره بكفارة فإن جمع بين مباح و مندوب لزمه الوفاء بالمشروع وحكمه في المباح كما لو انفرد و لحديث أبي إسرائيل و إن تضمن خصالا كثيرة أجزأئه كفارة واحدة كاليمين و إن نذر مكروها كره له الوفاء به وإن وفئ به أجزأه
فصل
القسم الرابع : نذر المعصية كنذر شرب الخمر قتل النفس المحرمة و ظلم الناس فلا يحل الوفاء به ويوجب كفارة يمين لحديث عائشة و لما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله و فيه الوفاء و ما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه و يكفره ما يكفر اليمين ] رواه الجوزجاني و لأن النذر كاليمين و اليمين على المعصية توجب الكفارة فكذلك النذر
وعن أحمد : ما يدل على أنه لا كفارة فيه لحديث أبي إسرائيل و لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس على الرجل نذر فيما لا يملك ] متفق عليه و في لفظه : [ لا نذر في معصية الله و لا فيما لا يملك العبد ] رواه مسلم و لأنه نذر غير منعقد فلم يوجب شيئا كيمين اللغو
و سواء كان النذر مطلقا أو معلقا بشرط و إن نذر ذبح ولده ففيه روايتان :
إحداهما : لا يوجب كفارة لأنه نذر معصية فأشبه نذر قتل أخيه
و الثانية : عليه ذبح كبش لأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح و لده فخرج عن عهدة الأمر بذبح كبش فكذا نذر الآدمي يخرج عن عهدته بكبش لأنه يقتضي الإكرام كالأمر فإذا ذبحه فرقه على المساكين لأن ما وجب كفارة فرق على المساكين كسائر الكفارات
و إن نذرت المرأة صوم يوم حيضها أو نفاسها أو صوم يوم العيد فهو نذر معصية موجبة كفارة كشرب الخمر و إن نذرت صوم يوم الخميس فصادف حيضها أو يوم العيد لم تصمه و عليها القضاء لأنها إنما قصدت الطاعة في محل يحتمل الطاعة و هل تلزمها الكفارة مع القضاء ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمها لإخلالها بالمنذر في وقته فأشبه ما لو حلفت على ذلك
و الثاني : لا كفارة عليها لأن المنذر محمول على المشروع و لو أفطرت في رمضان لحيض أو لمرض لم يلزمها إلا القضاء فكذا هاهنا و ويتخرج أن لا يلزمها إلا الكفارة كالتي قبلها و إن نذر فعل طاعة على صفة محرمة أو مكروهة كنذر المرأة الحج حاسرة وجب فعل الطاعة و في الكفارة لترك المعصية و المكروه وجهان :
أحدهما : يجب لما روى عقبة بن عامر قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة فذكر ذلك عقبة لرسول الله فقال : [ مر أختك فلتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام ] رواه الترمذي
و الثاني : لا كفارة عليه لما ذكرناه و إن ندر أن يطوف على أربع فقياس المذهب أن يطوف طوافا واحدا
و في الكفارة وجهان و المنصوص عن أحمد : أنه يطوف طوافين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ذلك : وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أخرجه الدارقطني في سننه
فصل
القسم الخامس : نذر الواجب كنذر صوم رمضان و صلاة الفرض فقال أصحابنا : لا يوجب شيئا لأنه التزم للازم فلم يصح لاستحالته كنذر المحال و قياس المذهب أن ينعقد موجبا للكفارة إن تركه كنذر المباح لأن النذر كاليمين
فصل
و إن نذر صوم يوم يقدم فلان فصادف رمضان فحكمه حكم ما لو صادف يوم العيد و قال الخرقي : يجزئه صيامه لرمضان و نذره لأنه قد فعل الصيام
فصل
القسم السادس : نذر المستحيل كصوم أمس فلا ينعقد لأنه لا يتصور انعقاده و الوفاء به فأشبه اليمين على المستحيل و يحتمل أن يوجب الكفارة كيمين الغموس
فصل
القسم السابع : نذر الطاعة تبررا فيلزم الوفاء به سواء نذره مطلقا مثل أن يقول : لله علي صوم يوم أو علقه على شرط مثل أن يقول : إن شفاني الله من مرضي فلله علي صدقة درهم فإذا وجد شرطه لزمه ما نذر سواء كان للمنذور أصل في الوجوب كالصلاة و الصوم أو لم يكن له أصل في الوجوب كالاعتكاف لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه ] رواه البخاري
و إن نذر الصدقة بجميع ماله أجزأته الصدقة بثلثه لما روى كعب بن مالك قال : قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أتخلع من مالي صدقة إلى الله و رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يجزئك الثلث ] رواه أبو داود و في لفظ : [ أمسك عليك مالك ] متفق عليه ولأن الصدقة بجميع المال مكروهة بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنها كعبا و أبا لبابة و لا ينهى عن القرب
فإن نذر الصدقة بمعين و كان المعين يستغرق ماله فهي كالتي قبلها و إن كان بعض ماله ففيه روايتان :
إحداهما : تجزئه الصدقة بثلث لأنه مال نذر الصدقة به فأشبه جميع المال
و الثانية : تلزمه الصدقة بجميعه لحديث عائشة رضي الله عنها والقياس على سائر المنذورات ويحتمل أنه كان الثلث فما دونه لزمه وان كان أكثر أخرج ثلث المال لأنه حكم اعتبر فيه ثلث المال فكان حكمه ما ذكرنا كالوصية
فصل
ومن نذر صياما ولم يسم عددا ولم ينوه لزمه صوم يوم لأنه أقل صوم يصح في الشرع
وإن نذر صلاة ففيه روايتان :
إحداهما : يجزئه ركعة لأن الوتر ركعة مشروعة
والثانية : لا يجزئه إلا ركعتان لأن الركعة لا تجزئ في الفرض فلا تجزئ في النذر كالسجدة
وإذا نذر عتق رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب لأن المطلق يحمل على المعهود في الشرع و ذلك هو الواجب في الكفارة
و إن نذر هديا لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية كذلك و عليه إيصاله إلى فقراء الحرم لأن إطلاق الهدي يقتضي ذلك قال الله تعالى : { هديا بالغ الكعبة }
وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام أو إتيانه لزمه المشي في حج أو عمرة لأن المشي إلى البيت المعهود شرعا هو المشي في أحد النسكين فحمل النذر المطلق عليه و يلزمه المشي من دويرة أهله كذلك و إن نذر المشي إلى البلد الحرام أو بقعة منه فهو كنذر المشي إلى البيت الحرام لأن الحرم كله محل النسك ولذلك صح إحرام المكي بالحج منه و إن نذر المشي إلى غير الحرم كعرفة و غيرها لم يلزمه و كان كنذر المباح و كذلك إن نذر إيتان مسجد من مساجد الحل لم يلزمه إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسجد الأقصى فإنه يلزمه إتيانهما لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجدي هذا ] منفق عليه و يلزمه صلاة ركعتين فيهما لأن القصد بنذره القربة و لا يحصل إلا بالصلاة فتضمنها نذره كتضمن نذر المشي إلى المسجد الحرام أحد النسكين و إن نذر الصلاة في مسجد هو كنذر إتيانه إلا أنه تلزمه الصلاة دون الإتيان في غير المساجد الثلاثة و تجزئ الصلاة في المسجد الحرام عن الصلاة في المسجدين الآخرين و الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة في مسجد الأقصى لما ذكرنا في الاعتكاف
فصل
و من عين بنذره أو بنيته شيئا من عدد الصيام أو الصلاة أو الهدي أو الرقاب أجزأه ما عينه صغيرا كان أو كبيرا صحيحا أو معيبا مما يجزئ في الواجب و مما لا يجزئ لأن الوجوب ثبت بقوله فيجب أن تتبع فيه صفته كأوامر الشرع وعنه : فيمن قال : إن قدم فلان لأتصدقن بمال هو في نفسه مال يخرج ما شاء و هذا يدل على أنه إنما يلزمه ما لفظ به دون ما نواه لأن النذر باللفظ دون النية و الأولى أولى لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فتقيد به كاليمين
فإن عين الهدي بغير الحيوان جاز و يتصدق به أو بثمنه على مساكين الحرم لأنه محل الهدي و إن نذر هدي ما لا ينقل كالدر و نحوه بيع و تصدق بثمنه و إن عين نذر الهدي بموضع غير الحرم لزمه ما عينه و يتصدق به على فقراء ذلك الموضع إن لم يتضمن معصية لما روي : أن رجلا نذر على عهد النبي صلى الله عليه و سلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أكان فيها أوثن من أوثان الجاهلية ] قالوا : لا قال : [ هل كان فيها عيد من أعيادهم ] قالوا : لا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أوف بنذرك ] رواه أبو داود و لأن معهود الشرع تفرقة اللحم بالمكان الذي نذر الذبح به فكأنه نذر فرقة اللحم على فقراء أهله
فصل
إذا نذر صيام ثلاثين يوما لم يلزمه التتابع نص عليه لأن لفظه لا يقتضي التتابع و عنه فيمن نذر صيام عشرة أيام : يلزمه التتابع لأن الصيام واجب بأصل الشرع متتابع والأول أولى و هذا محمول على من نوى التتابع أو شرطه لما ذكرناه و إن نذر صيام شهر ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلزمه التتابع لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين و على ثلاثين يوما فلا يلزمه مل بين الهلالين فصار كنذر ثلاثين يوما
و الثانية : يلزمه التتابع لأن الشهر اسم لأيام متتابعة فإن صام ما بين الهلالين أجزأه تاما كان أو ناقصا لأنه شهر و إن بدأ من أثناء شهر لزمه ثلاثون يوما لأن الشهر العادي ثلاثون يوما و إن نذر صيام أشهر متتابعة فبدأ من أول شهر صامهن بالأهلة و إن بدأ من أثناء شهر صام شهرا بالعدد و باقيها بالأهلة لما ذكرنا في صوم الظهار
فإن أفطر بالصيام المتتابع لغير عذر لزمه الاستئناف لأنه أمكنه الإتيان بالمنذور على صفته فلزمه كحال الابتداء و إن أفطر لعذر يوجب الفطر كالمرض المخوف والحيض خير بين الاستئناف لأنه يجزئه مع عدم العذر فمع العذر أولى و بين البناء و التكفير لأن الفطر لعذر لا يقتضي التتابع حكما بدليل فطر المظاهر في الشهرين لعذر ويكفر لترك صفة النذر لأن النذر كاليمين
و إن أفطر لعذر يبيح الفطر كالسفر ففيه وجهان :
أحدهما : يقطع التتابع لأنه أفطر باختياره أشبه غير المعذور
و الثاني : لا يقطعه لأنه عذر للفطر في رمضان فأشبه المرض فأما إن نذر صوم شهر بعينه فأفطر لغير عذر ففيه روايتان :
إحداهما : يلزمه الاستئناف لأنه صوم يجب متتابعا أشبه المنذور متتابعا
و الثانية : لا يلزمه وجوب التتابع من جهة الوقت لا للنذر فلم يبطله الفطر كشهر رمضان و إن أفطر لعذر بنى و عليه كفارة في الموضعين لتركه صفة نذره
و عنه : لا تجب الكفارة مع العذر لأنه تركه بأمر الشرع فلم يلزمه كفارة كما لو نذر الصدقة بجميع ماله و تصدق بثلثه
فصل
و إن نذر صيام سنة معينة لم يدخل في نذره رمضان و يوما العيدين لأنه لا يقبل الصوم عن النذر فلم يدخل في نذره كالليل و في أيام التشريق روايتان : و إن نذر صوم سنة فهل يلزمه سنة متتابعة ؟ فيه روايتان على ما ذكرنا في الشهر فإن قلنا : يلزمه التتابع فحكمها حكم المعينة و إن قلنا : لا يلزمه التتابع لزمه اثنا عشر شهرا بالأهلة إلا أن يبتدئ صوم شهر من أثنائه أو لا يوالي بينه فيلزمه ثلاثون يوما فإن صام سنة متوالية قضى عن شهر رمضان و يومي العيدين
فصل
و إن نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم ليلا لم يلزمه شيء لأنه لم يتحقق شرطه فلم يجب نذره و إن قدم نهارا لم يخل من ثلاثة أحوال :
أحدها : قدم و الناذر مفطر فيه روايتان :
أحدها : لا يلزمه شيء لأنه قدم في وقت لا يصح فيه صومه شرعا أشبه ما لو قدم ليلا
و الثانية : يلزمه القضاء و الكفارة لأنه علق نذره بزمن المستقبل و لم يف به فلزمه القضاء و الكفارة كما لو نذر صوم يوم الخميس فأفطره
الثاني : قدم و الناذر صائم من رمضان أو فرضا غيره ففيه روايتان :
إحداهما : يجزئه صومه عنهما لأنه نذر صومه و قد وفى به
و الثانية : حكمه حكم من أفطره لأنه لم يصمه عن نذره
الثالث : قدم و الناذر صائم تطوعا أو ممسك ففيه وجهان :
أحدهما : يتم صومه و يجزئه لأن سبب الوجوب وجد في أثنائه قبل فطره فأشبه ما لو قال : لله علي صوم بقية يومي
و الثاني : يلزمه القضاء و الكفارة لأنه صوم واجب فلم يصح بنية من النهار كالقضاء
فصل
و إذا نذر الحج العام و عليه حجة الإسلام ففيه روايتان :
إحداهما : يجزئه الحج عنهما
و الثانية : يلزمه حجة أخرى أصلها إذا نذر صوم يوم فوافق يوما من رمضان
فصل
و إذا عجز عن الوفاء بالنذر لم يخل من خمسة أحوال :
أحدها : أن يعجز عجزا لا يرجى زواله لكبر أو مرض غير مرجو الزوال أو غيره فعليه كفارة يمين لا غير لما روى عقبة بن عامر قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستفتيته فقال : [ لتمش و لتركب ] متفق عليه و لأن النذر كاليمين إلا فيما لا يطيق قال ابن العباس رضي الله عنهما : من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا يطيقه فليف الله بما نذر و سواء كان عاجزا وقت النذر أو تجدد العجز لأنهما سواء في فوات النذر
وعن أحمد فيمن نذر صوما فعجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه : أنه يطعم عن كل يوم مسكينا اختاره الخرقي لأنه صوم وجد سبب إيجابه عينا فأشبه صوم رمضان و الأول أقيس
الثاني : أن يعجز عجزا مرجو الزوال نحو المرض فإذا كان النذر غير موقت أخره حتى يزول العارض ثم يأتي به و إن كان موقتا كصوم شهر معين فإذا زال العجز قضاه لأنه صوم واجب يلزمه قضاؤه كرمضان و عليه كفارة اليمين لأن النذر كاليمين و عنه : لا كفارة عليه لأن المنذور محمول على المشروع و لو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه كفارة كذا هاهنا
الثالث : أن يمنعه الشرع من الوفاء بنذره مثل أن يصادف عيدا أو حيضا ففيه وجهان بناء على روايتين فيما قبلها و إن صادف أيام التشريق فكذلك في إحدى الروايتين و في الأخرى يصح صيامها للفرض لما ذكرنا في صيامها عن دم المتعة و إن صادف رمضان لم يجزئ صومه عن النذر و كان حكمه كما لو صادف يوم العيد و قال الخرقي : يجزئه صيامه لرمضان و نذره و قد ذكر ذلك
الرابع : أن يصادفه النذر مجنونا فلا شيء عليه لأنه خرج عن أهلية التكليف قبل وقت النذر أشبه ما لو فاته
الخامس : أن يموت فإن كان كذلك قبل وقت النذر فلا شيء عليه لأنه خرج عن أهلية التكليف و إن كان بعده أو كان النذر غير موقت فعل ذلك و ليه لما روت عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من مات و عليه صيام صام عنه وليه ] متفق عليه
و عن ابن عباس قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن أختي نذرت أن تحج و إنها ماتت فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ ] قال : نعم قال : [ فاقض الله فهو أحق بالقضاء ] رواه البخاري فثبت القضاء للصوم و الحج بالنص وقسنا عليه غيره للمعنى المشترك بينهما
و في الصلاة روايتان :
إحداهما : تقضي عنه لما ذكرناه
و الثانية : لا تقضى لأنها لا تدخلها نيابة و لا كفارة فلم تقض عنه كحالة الحياة و كل موضع قلنا : يقضي عنه الولي فإنه على سبيل الندب لا الوجوب لأن قضاء دينه لا يجب على وليه فكذلك النذر المشبه به

كتاب الأقضية
القضاء فرض على الكفاية بدليل قول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم حكم بين الناس وبعث عليا إلى اليمن للقضاء وحكم الخلفاء الراشدون وولوا القضاة في الأمصار و لأن الظلم في الطباع فيحتاج إلى حاكم ينصف المظلوم فوجب نصبه فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحدا تعين عليه فإن امتنع أجبر عليه لأن الكفاية لا تحصل إلا به وعن أحمد : أنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به ؟ قال : لا يأثم وهذا يدل على أنه لا يجب عليه الدخول فيه لأن عليه في التولي خطرا وغررا فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن فلم يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره فعلى هذا القول يكره له طلبه لما فيه من الخطر ولأن السلف رضي الله عنهم كانوا يأبون القضاء أشد الإباء ويفرون منه وإن طلب فالأولى أن لا يدخل فيه لأنه أسلم له وقال ابن الحامد : إن كان خاملا إذا ولي نشر علمه فالأفضل الدخول فيه لما يحصل من نشر العلم وإن كان ينشر علمه بغير ولاية فالأفضل أن لا يدخل فيه لأن الاشتغال بنشر العلم مع السلامة أفضل فأما من يوجد غيره ممن يصلح للقضاء فلا يجب عليه الدخول فيه ويكره له طلبه لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده ] قال الترمذي : هذا حديث حسن
وإن طلب فالأفضل له على قول ابن حامد على التفصيل الماضي وأما من لا يحسن القضاء فيحرم عليه الدخول فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ القضاة ثلاثة : واحد في الجنة واثنان في النار ] إلى قوله : [ ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار ] رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة
فصل
و يجوز للقاضي أخذ الرزق عند الحاجة لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة أخذ الذراع وخرج إلى السوق فقيل له : لا يسعك هذا فقال : ما كنت لأدع أهلي يضيعون من أجلكم ففرضوا له كل يوم درهمين وبعث عمر رضي الله عنه إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا وابن مسعود قاضيا و عثمان بن حنيف ماسحا وفرض لهم كل يوم شاة نصفها لعمار والنصف الأخر بين عبد الله و عثمان و كتب إلى معاذ و أبي عبيدة في الشام : أن انظروا رجالا من صالحي من قبلكم فاستعلموهم على القضاء و ارزقوهم و أوسعوا عليهم من مال الله فأما مع عدم الحاجة ففيه وجهان :
أحدهما : الجواز لما ذكرنا و لأنه يجوز للعامل الأخذ على العمالة مع الغنى فكذلك القضاء
و الثاني : لا يجوز لأنه يختص أن يكون فاعله من أهل القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليه كالصلاة قال أحمد : ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجرا وإن كان فبقدر شغله مثل ولي اليتيم وإذا قلنا : يجوز أخذ الرزق فلم يجعل له شيء فقال : لا أقضي بينكما إلا بجعل جاز
فصل
و يشترط للقضاة عشرة أشياء : أن يكون مسلما عدلا بالغا عاقلا لأن هذه شروط الشهادة فأولى أن تشترط للقضاء
الخامس : الذكورية فلا يصح تولية المرأة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ] رواه البخاري ولأن المرأة ناقصة العقل غير أهل لحضور الرجال ومحافل الخصوم ولا يصح تولية الخنثى لأنه لم يعلم كونه ذكرا
السادس : الحرية فلا يصح تولية العبد لأنه منقوص برقه مشغول بحقوق سيده لا تقبل شهادته في جميع الأشياء فلم يكن أهلا للقضاء كالمرأة
السابع : أن يكون متكلما لينطق بالفصل بين الخصوم
الثامن : أن يكون سميعا ليسمع الدعوى والإنكار والبينة و الإقرار
التاسع : أن يكون بصيرا ليعرف المدعي من المدعى عليه و المقر من المقر له والشاهد من المشهود عليه
العاشر : أن يكون مجتهدا و هو : العالم بطرق الأحكام لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ القضاة ثلاثة واحد في الجنة و اثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة و رجل عرف الحق فحكم فجار في الحكم فهو في النار و رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ] رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة ولأنه إذا لم يجز أن يفتي الناس و هو لا يلزمهم الحكم فلئلا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى ولا يشترط كونه كاتبا لأن النبي صلى الله عليه و سلم سيد الحكام و هو أمي و قيل يشترط ليعلم ما يكتبه كاتبه فيأمن تحريفه
فصل
ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لئلا يطمع فيه الظالم فينبسط عليه لينا من غير ضعف لئلا يهابه صاحب الحق فلا يتمكن من استيفاء حجته بين يديه حليما ذا أناة و فطنة و يقظة لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة ذا ورع و عفة و نزاهة و صدق قال علي رضي الله عنه : لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال : عفيف حليم عالم بما كان قبله يستثير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم
فصل
و لا تصح ولاية القضاة إلا بتولية الإمام أو من فوض إليه الإمام لأنه من المصالح العظام فلم يصح إلا من جهة الإمام كعقد الذمة ومن شرط صحة التولية معرفة المولي للمولى وأنه على صفة تصلح للقضاء فإن كان يعرفه و إلا سأل عنه فإذا علم ذلك ولاه
وألفاظ التولية تنقسم إلى صريح و كناية فصريحها سبعة : وليتك الحكم و قلدتك و استنبتك و استخلفك ورددت إليك الحكم وفوضت إليك و جعلت إليك فإذا أتى بواحدة منها و اتصل بها القبول انعقدت الولاية
و أما الكناية فهي أربعة : اعتمدت عليك في الحكم و عولت عليك و وكلت إليك وأسندت إليك الحكم فلا تنعقد التولية بها حتى تقترن بها قرينة نحو : فاحكم فيما وكلت إليك و انظر فيما أسندت إليك و تول فيما عولت عليك فيه لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها من كونه يأخذ برأيه و غير ذلك فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينة
فصل
فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء فحكماه ليحكم بينهما جاز لما روى أبو شريح أنه قال : يا رسول الله إن قومي إذا إختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي علي الفريقان فقال رسول الله ( ص ) [ ( ما أحسن هذا ) ] رواه النسائي ولأن عمر وأبيا رضي الله عنهما تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم فإذا حكم بينهما لزم حكمه لأن من جاز حكمه لزم كقاضي الإمام
فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم فله ذلك لأنه إنما صار حكما لرضاه به فإعتبر دوام الرضى وإن رجع بعد شروعه فيه وقبل تمامه ففيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه ما قبل الشروع
والثاني : ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع فيبطل المقصود بذلك واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم فقال أبو الخطاب : ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان قياسا على قاضي الإمام وقال القاضي : يجوز حكمه في الأموال الخاصة فأما النكاح والقصاص وحد القذف فلا يجوز التحكيم فيها لأنها مبنية على الإحتياط فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام كالحدود
فصل
ويجوز أن يولي في البلد الواحد قاضيين فأكثر على أن يحكم كل واحد منهما في موضع وأن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق وإلى الآخر في حق آخر أو إلى أحدهما في زمن وإلى الآخر في زمن آخر لأنه نيابة عن الإمام فكان على حسب الاستنابة و هل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد و زمن واحد و حق واحد ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يجوز لأنه نيابة فجاز جعلها إلى اثنين كالوكالة
و الثاني : لا يجوز فقد يختلفان فتقف الحكومة
فصل
و لا يجوز تقليده القضاء على أن يحكم بمذهب معين لقول الله تعالى : { فاحكم بين الناس بالحق } وإنما يظهر له الحق بدليل فلا يتعين ذلك في مذهب بعينه فإن قلد على هذا الشرط بطل الشرط و في فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع
فصل
إذا ولاه قاضيا في غير بلده كتب إليه العهد بما ولاه لأن النبي صلى الله عليه و سلم كتب لعمرو ابن الحزم حين بعثه إلى اليمن
وروى حارثة بن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة : أما بعد فإني بعثت إليكم عمارا أميرا و عبد الله قاضيا و أميرا فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما فإن كان البلد الذي ولاه بعيدا أشهد على التولية شاهدين لتثبت التولية بهما وإن كان قريبا فإن شاء أشهد وإن شاء اكتفى بالاستفاضة لأنهما تثبت الولاية وييستحب للقاضي السؤال عن حال البلد الذي وليه و من فيه من العلماء و الأمناء لأنه لا بد له منهم فاستحب تقدم العلم بهم
و يستحب أن يدخل البلد يوم الخميس لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك فإذا دخل قصد الجامع فصلى فيه ركعتين و أمر بجمع الناس فقرأ عليهم عهده ليعلموا التولية و ما فوض إليه ويعد الناس يوما لجلوسه ثم يصير إلى منزله و يجعل منزله في وسط البلد إن أمكن ليتساووا في قربه
فصل
وإن نهاه الذي ولاه عن الاستخلاف لم يكن له ذلك لأنه نائب فيتبع قول من استبانه وإن لم ينهه جاز له الاستخلاف لأن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين وإيصال الحق إلى مستحقه فجاز أن يليه بنفسه و بغيره فإذا استخلف القاضي خليفة انعزل بموته وعزله لأنه نائبه فأشبه الوكيل وإن ولى الإمام قاضيا فهل ينعزل بموته و عزله ؟ فيه وجهان :
أحدهما : ينعزل كذلك ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لأعزلن أبا مريم ـ يعنى : عن قضاه البصرة - وأولي رجلا إذا رأه الفاجر فرقه فعزله وولى كعب بن سوار وولى علي أبا الأسود ثم عزله فقال : لم عزلتني وما خنت ولا جنيت ؟ فقال : إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين
والثاني : لا ينعزل لأنه عقده لمصلحة المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما لو عقد الولي النكاح على موليته لم يملك فسخه وإن اختل أحد الشروط بأن يفسق أو يختل عقله أو بصره انعزل بذلك لأنه فات الشرط فانتفى المشروط كالصلاة
فصل
وليس له أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة ولا يكاتب قاضيا في حكم في غير عمله ولا يعتد بذلك إن فعله لأنه لا ولاية له في غير عمله أشبه سائر الرعية
فصل
ولا يجوز له أن يحكم لنفسه لأنه لا يجوز أن يكون شاهدا لها ويتحاكم هو وخصمه إلى قاض آخر ويجوز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه لأن عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم عثمان طلحة إلى جبير ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل لأنه متهم في حقهما فلم يجز حكمه لهما كنفسه وقال أبو بكر : يجوز حكمه لهما لأنهما من رعيته فجاز حكمه لهما كالأجانب وإن إتفقت حكومة بين والديه أو ولديه أو والده ووللده فالحكم فيهما كما لو انفرد أحدهما لأن ما منع منه في حق أحدهما إذا كان خصمه أجنبيأ منع منه إذا ساواه خصمه كالشهادة ويجوز له إستخلاف والده وولده في أعماله لأن غاية ما فيه أنهما يجريان مجراه
فصل
ولا يجوز له أن يرتشي في الحكم لما روى عبد الله بن عمرو قال : لعن رسول ( ص ) الراشي والمرتشي قال الترمذي : مذا حديث صحيح ولأنه أخذ مال على حرام فكان حراما كمهر البغي
ولا يجوز له قبول الهديه ممن لم تجر عادته بها قبل الولاية لما روى أبو حميد قال : بعث رسول الله ( ص ) رجلا من الأزد يقال له : ابن اللتبية على الصدقه فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام النبي ( ص ) على المنبر فقال : [ ( ما بال العامل نبعثه فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته ) ] متفق عليه فدل على أن أهدي إليه مما كانت الولاية سببا له محرم عليه
فأما من كانت عادته الهدية إليه قبل الولاية فجائز قبولها لأن قول النبي ( ص ) [ : ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ) ] يدل على تعليل تحريم الهدية لكون الولاية سببها وهذه لم تكن سببها الولاية فجاز قبولها إلا أن تكون في حال الحكومة بينه وبين خصم له فلا يجوز قبولها لأنه يتهم فهي كالرشرة والأولى الورع عنها في غير حال الحكومة لأنه لا يأمن أن تكون الحكومة منتظرة
فصل
ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال [ : ( ما عدل وال اتجر في رعيته ) ]
وقال شريح : شرط علي عمر حين ولاني القضاء : أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرشي ولا أقضي وأنا غضبان ولأنه يعرف فيحابى فيجري مجرى الهدية
ويستحب أن يوكل من لا يعرف أنه وكيله فإذا عرف استبدل به حتى لا يحابى فإن لم يمكنه الإستنابة تولاه بنفسه لأن أبا بكر الصديق أخذ الذارع وقصد السوق ليتجر فيه ولأنه لا بد له منه فإن كان لمن بايعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه كيلا يميل إليه
فصل
ويجوز للقاضي حضور الولائم لأن النبي ( ص ) أمر بإجابة الداعي ولا يخص بإجابته قوما دون قوم لأنه جور فإن كثرت عليه وشغلته ترك الجميع لأنه يشتغل بها عما هو أوكد منها وله عيادة المرضى وشهود الجنائز ويأتي مقدم الغائب لأنه قربة وطاعة وله أن يخص بذلك قوما دون قوم لأن هذه الأمور لحق نفسه طلبا لثواب الله تعالى فكان له فعل ما أمكن منها دون ما لم يمكن وحضور الوليمة لحق الداعي فإذا خص بعضهم بها حصل مراعيا لبعضهم دون بعض فكان ذلك ميلا
فصل
ولا يقضي في حال الغضب ولا الجوع والعطش والحزن والفرح المفرط والنعاس الشديد والمرض المقلق ومدافعة الأخبثين والحر المزعج والبرد المؤلم لما روى أبو بكرة قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول [ : لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ] متفق عليه فثبت النص في الغضب وقسنا عليه سائر المذكور لأنه في معناه ولأن هذه الأمور تشغل قلبه فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وتأمل الحادثة فإن حكم في هذه الأحوال ففيه وجهان :
أحدهما : ينفذ حكمه لما روي أن النبي ( ص ) اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي ( ص ) للزبير [ : اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري : أن كان ابن عمتك فغضب رسول الله ( ص ) ثم قال للزبير : ( اسق زرعك ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ) ] متفق عليه فحكم في غضبه
والثاني : لا ينفذ حكمه لأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وقيل : إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة لأنه يشغله عن استيضاح الحق أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم لم يمنع حكمه فيها كقصة الزبير
فصل
ويستحب للحاكم الجلوس للحكم في موضع بارز واسع يصل إليه كل أحد ولا يحتجب عن غير عذر لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال [ : من ولي من أمر الناس شيئا فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون حاجته وفقره ] رواه الترمذي
ويكون موضعا لا يتأذى فيه بحر ولا برد ولا دخان ولا رائحة منتنة لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى : إياك والقلق والضجر وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر وتمنعه من التوفر على الاجتهاد ويمنع الخصوم من استيفاء الحجة ولا بأس بالقضاء في المساجد لما روي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أنهم كانوا يقضون في المسجد وقال مالك : هو من أمر الناس القديم فإن اتفق أحد الخصمين مانع من دخول المسجد كالحيض والكفر وكل له وكيلا أو انتظره حتى يخرج فيحاكم إليه
فصل
وان احتاج إلى أعوان لاحضار الخصوم اتخذ أمناء كهولا أو شيوخا من أهل الدين ويوصيهم بالرفق بالخصوم وإن دعت الحاجة إلى اتخاذ حاجب اتخذه أمينا بعيدا من الطمع ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق
فصل
ويتخذ حبسا لأن عمر رضي الله عنه اشترى دارا بمكة بأربعة آلاف اتخذها سجنا واتخذ علي سجنا ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب واستيفاء الحق من المماطل والاحتفاظ بمن عليه قصاص أو حد حتى يستوفى
فصل
وينبغي أن يتخذ كاتبا لأن النبي ( ص ) استكتب زيدا وغيره ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره فلا يتمكن من الجمع بينهما وبين الكتابة فإن أمكنة ولاية ذلك بنفسه جاز ومن شرط الكاتب أن يكون عارفا بما يكاتب به القضاة من الأحكام وما يكتبه من المحاضر والسجلات لأنه إذا لم يعرفه أفسد ما يكتبه بجهله وأن يكون عدلا لأن الكتابة موضع أمانة ولا تؤمن خيانة الفاسق وأن يكون مسلما لأن الإسلام من شروط العدالة ويستحب أن يكون ورعا نزها لئلا يستمال بالطمع جيد الحفظ ليكون أكمل حرا ليخرج من الخلاف فإن كان عبدا جاز لأنه من أهل الشهادة
فصل
ولا يتخذ شهودا معينين لا يقبل غيرهم لأنه من ثبتت عدالته وجب قبول شهادته فلم يجز تخصيص قوم بالقبول دون قوم
فصل
ويتخذ أصحاب مسائل يتعرف بهم أحوال من جهل عدالته من الشهود ويجب أن يكونوا عدولا برآء من الشحناء بعداء من العصبية في نسب أو مذهب كيلا يحملهم ذلك على تزكية فاسق أو جرح عدل وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا إلى المطلوب ولا يسألوا عدوا ولا صديقا لأن الصديق يظهر الجميل ويستر القبيح والعدو بخلاف ذلك فإذا شهد عنده من يعرفه بالعدالة قبل شهادته وان علم فسقه لم يقبلها ويعمل بعلمه في العدالة والفسق وإن جهل إسلامه سأل عنه ولم يعمل بظاهر الدار لأن أعرابيا شهد عند النبي ( ص ) برؤية الهلال فلم يحكم بشهادته حتى سأله عن إسلامه ولأنه يتعلق بشهادته حق على غيره فلم يعمل بظاهر الدار ويقبل قوله في إسلام نفسه لأن النبي ( ص ) قبل قول الأعرابي في ذلك ولأنه بقوله يصير مسلما وإن لم تعرف عدالته لم يحكم حتى تثبت عدالته
وعنه : يحكم بشهادة من جهل عدالته ما لم يقل المشهود عليه : هو فاسق لقول عمر رضي الله عنه : المسلمون عدول بعضهم على بعض ولأن النبي ( ص ) لما شهد عنده الأعرابي برؤية الهلال لم يسأل عن عدالته ولأن العدالة تخفى ويدل عليها الإسلام فاكتفى به والأول : المذهب لقول الله تعالى { : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } وقال سبحانه { : وأشهدوا ذوي عدل منكم } وروى سليمان بن حرب قال : شهد رجل عند عمر رضي الله عنه فقال له عمر : إني لست أعرفك ولا يضرك أنني لا أعرفك فائتني برجل يعرفك فقال رجل : أنا أعرفه يا أمير المؤمنين قال : بأي شيء تعرفه قال : بالعدالة قال : فهو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه ؟ قال : لا» قال : فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع ؟ قال : لا قال : فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق ؟ قال : لا قال : فلست تعرفه ثم قال للرجل : ائتني بمن يعرفك ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقا فإذا أراد أن يعرف عدالته كتب اسمه ونسبه وكنيته وحليته وصنعته ومسكنه حتى لا ينسبه ومن شهد له وعليه لئلا يكون ممن لا تقبل شهادته للمشهود له من والد أو ولد ولا تقبل شهادته على المشهود عليه من عدو وقدر ما يشهد به لئلا يكون ممن يقبل قوله في القليل دون الكثير ويبعث ما كتبه مع أصحاب المسائل ويجتهد أن لا يعرفهم المشهود له ولا المشهود عليه لئلا يحتالا في تعديل الشهود أو جرحهم ولا المسؤولون لئلا يحتال أعداؤهم في جرحهم وأصدقاؤهم في تعديلهم ويجتهد أن لا يعلم بعض أهل المسائل ببعض كيلا يجمعهم الهوى على التواطؤ على جرح أو تعديل ويأمرهم القاضي : أن يسألوا عنه معارفه من أهل سوقه ومسجده وجيرانه فإذا عاد أهل المسائل بجرح أو تعديل ففيه وجهان :
أحدهما : يكتفي بقولهم لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم فعلى هذا : يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم بلفظ الشهادة ويعتبر عدولهم كما في سائر المعدلين
والثاني : لا يكتفي بهم لأنهم شهود فرع فلا يكتفى بهم مع القدرة على شهود الأصل لكن يعينون من أخبرهم بالجرح أو العدالة ليستحضر الحاكم اثنين منهم فيسمع منهم الجرح والتعديل بلفظ الشهادة والعدد فعلى هذا : لا يعتبر العدد في أصحاب المسائل بل يجوز أن يكون واحدا لأنه مخبر عن شاهد ليس بشاهد
فصل
ولا يقبل الجرح والتعديل من أقل من اثنين لأنه إخبار عن صفة من يبنى الحكم على صفته فأشبه الإحصان وعنه : يكتفى بواحد اختارها أبو بكر لأنه إخبار عن حال من لا حق له فأشبه أخبار الديانات ولأنه يكتفى في تعديل راوي الحديث وجرحه بقول واحد فكذلك في غيره والأول : المذهب لما ذكرنا وإنما اكتفي في تعديل الراوي بواحد لأنه فرع على الرواية المنقولة من واحد بخلاف الشهادة ويعتبر فيه اللفظ بالشهادة لأنه شهادة إلا على الرواية التي قلنا : هو خبر فلا يعتبر فيه لفظ الشهادة ويكفي في التعديل قوله : أشهد أنه عدل وان لم يقل : علي ولي لأنه لا يكون عدلا إلا له وعليه ولا يكفي أن يقول : لا أعلم فيه إلا الخير لأنه لم يصرح بالتعديل وان شهد بالجرح واحد وبالتعديل اثنان ثبتت العدالة لأن بينة الجرح لم تكمل وإن شهد بالجرح اثنان قدم الجرح على التعديل لأن الشاهد به يخبر عن أمر باطني خفي على المعدل وشاهد العدالة يخبر عن أمر ظاهر فقدم من يخبر عن الباطن ولأن الجارح مثبت والمعدل ناف فقدم الإثبات وإن شهد بالجرح اثنان وبالعدالة أربعة قدم الجرح لأن بينته كملت ولا يقبل الجرح إلا مفسرا أن يذكر السبب الذي به جرح ولا يكفي أن يشهد أنه فاسق أنه ليس بعدل وعنه : يكتفى بذلك كما يكتفى في التعديل أن يشهد أنه عدل والأول : المذهب لأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان فيحتمل أن يعتقد الشاهد فسقه بما لا يعتقده الحاكم فسقا والجرح والتعديل إلى الحاكم فوجب بيانه لينظر فيه ولا يجوز أن يشهد بالجرح إلا من يعلم ذلك بمشاهدة الأفعال كالسرقة وشرب الخمر أو بالسماع في الأقوال كالقذف والبدعة أو بالاستفاضة بالخبر لأنه شهادة عن علم فإن قال : بلغني كذا أو قيل لي لم يجز أن يشهد به لقول الله تعالى { : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة ممن تقدمت معرفته وطالت صحبته لحديث عمر رضي الله عنه وأن المقصود علم عدالته في الباطن ولا يعلم ذلك إلا من تقدمت معرفته ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء لأنه شهادة بما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال أشبه الحدود
فصل
وإذ لم تثبت عدالته فقال المشود عليه : هو عدل حكم بشهادته لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وإنه ممن يثبت بالحق بقوله فوجب الحكم به وفيه وجه آخر : إنه لا يثبت لأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي المشهود عليه أن يحكم عليه بشهادة فاسق لم يحكم عليه بها
فصل
ومن ثبتت عدالته ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب حكم بشهادته وإن كان بعده بزمن طويل ففيه وجهان :
الوجه الأول : يحكم بشهادته لأن عدالته قد ثبتت والأصل بقاؤها
والثاني : يعيد السؤال لأن مع طول الزمان تتغير الأحوال وإن شهد عنده عدول فارتاب بشهادتهم استحب له تفريقهم وسؤال كل واحد منهم على الانفراد عن صفه التحمل ومكانه وزمانه فإن اختلفوا سقطت شهادتهم وإن اتفقوا وعظهم لما روى أبو حنيفة رحمه الله قال : كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفه فجاءه رجل فادعى على رجل حقا فأنكره فأحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه : والذى تقوم به السموات والأرض قال كذبا علي وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : [ إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمى بما فى حواصلها من هول يوم القيامه وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار ] فإن صدقتما فاثبتا وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا فغطا رؤوسهما وانصرفا
فصل
ويستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء من أهل كل مذهب يساورهم فيما يشكل عليه لقول الله تعالى { : وشاورهم في الأمر } قال الحسن : إن كان رسول الله ( ص ) عن مشاورتهم لغنيا ولكن أراد أن يستن بذلك الحكام وروى عبد الرحمن بن القاسم : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه دعا رجالا من المهاجرين والأنصار دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن ابن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولي عمر فكان يدعو هؤلاء النفر رضي الله عنهم فإذا اتفق أمر مشكل شاورهم فإن اتضح له الحق حكم به وإن لم يتضح له أخره ولم يقلد غيره ضاق الوقت أو اتسع لأنه مجتهد فلم يقلد غيره كما لو اتسع الوقت وإن فوض الحكم في الحادثة إلى من اتضح له الحق فحكم فيها جاز وإن حكم باجتهاده ثم تبين له الخطأ بنص أو إجماع نقضه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ردوا الجهالات إلى السنة وكتب إلى أبي موسى : لا يمنعنك قضاء قضيت به ثم راجعت نفسك فهديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل ولأنه مفرط في حكمه غير معذور فيه فوجب نقضه وإن تغير اجتهاده ولم يخالف نصا ولا إجماعا لم ينقض حكمه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه حكم في المشركة بإسقاط ولد الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال : تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا وقضى في الحد بقضايا مختلفة ولم يرد الأولى ولأنه لو نقض الحكم بمثله لأدى إلى نقض النقض والى أن لا تثبت قضية
فصل
وليس على القاضي تتبع قضايا من قبله لأن الظاهر أنه لا يولى للقضاء إلا من يصلح والظاهر إصابته الحق وإن علم أن القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض من أحكامه ما خالف الحق وإن لم يخالف نصا ولا إجماعا لأنه ممن لا يجوز قضاؤه أشبه حكم بعض الرعية ويبقي ما وافق الحق لأن الحق وصل إلى مستحقه فلا حاجة إلى نقضه وقال أبو الخطاب : ينقضه أيضا ليحكم به وإن كان يصلح للقضاء لم يجز أن ينقض من قضاياه إلا ما خالف نصا أو إجماعا لما ذكرنا في حكم نفسه وإن تظلم متظلم من القاضي قبله وسأل إحضاره لم يحضره حتى يسأله عما بينهما لأنه ربما قصد تبديله فإن قال : لي عليه مال من معاملة أو غصب أو رشوة أحضره وإن قال : حكم علي بشهادة فاسقين أو عدوين أو جار علي في الحكم وله بينة أحضره أو وكيله وحكم له بها وإن لم يكن له بينة ففيه وجهان :
أحدهما : يحضره كما لو ادعى عليه مالا
والثاني : لا يحضره لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه فإن أحضره فاعترف حكم عليه وإن أنكر قبل قوله بغير يمين لأن قوله مقبول بحال ولايته
فصل
ويخرج القاضي إلى مجلس قضائه على أعدل أحواله ويقول عند خروجه : بسم الله آمنت بالله واعتصمت بالله وتوكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ويدعو بما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج من بيته قال : [ اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أزل أو أضل أوأضل أو أظلم أوأظلم أو أجهل أو يجهل علي ] رواه أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن صحيح ويسأله أن يعصمه ويعينه
ويجلس مستقبل القبلة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير المجالس ما استقبل به القبلة ] ويكون عليه سكينة ووقار في مشيه وجلوسه ويبسط تحته شيئا يجلس عليه ليكون أوقر له ويترك القمطر مختوما بين يديه ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويجلس الكاتب قريبا منه ليرى ما يكتبه فإن غلط رد عليه
فصل
ويبدأ في نظره بالمحبوسين لأن الحبس عقوبة وربما كان فيهم من يجب إطلاقه فاستحب البداءة بهم فيكتب أسماء المحبوسين وينادي في البلدان : القاضي ينظر في أمرهم يوم كذا فليحضر من له محبوس فإذا حضروا أخرج رقعة فأخرج صاحبها فنظر بينه وبين خصمه فإن وجب إطلاقه أطلقه وإن وجب حبسه أعيد فإن قال : حبست بدين أنا معسر به فصدقه خصمه أو ثبت إعساره ببينة أطلقه وإن كذبه ولم يثبت إعساره أعيد إلى الحبس فإن ادعى خصمه أن له دارا وأقام بها بينة فقال المحبوس : هي لزيد فكذبه زيد بيعت الدار وقضي الدين لأن إقراره سقط بإكذابه وإن صدقه زيد وله بينة فهي له لأن بينته قويت بإقرار صاحب اليد
وإن قال : حبست في ثمن كلب أو خمر أرقته لذمي فقال القاضي : يطلقه لأن غرمه ليس بواجب وفيه وجه آخر : أن الثاني ينفذ حكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده ويحتمل أن يتوقف ويجتهد في أن يصطلحا على شيء لأنه لا يمكنه فعل الأمرين المتقدمين وإن قال : حبست ظلما ولا حق علي نادى الحاكم بذلك فإن لم يظهر له خصم فالقول قوله مع يمينه لأنه لا خصم له ولا حق عليه ويخلي سبيله والله أعلم
فصل
ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله فإن ادعى رجل أنه وصي ميت لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل عدم الوصية فإن أقام بينة وكان عدلا قويا أقره على الوصية وإن كان فاسقا أو ضعيفا ضم إليه أمينا يتقوى به أو أبدله إن رأى إبداله وإن أقام بينة أن الحاكم الذي قبله أنفذ الوصية أنفذها ولم يسأل عن عدالته لأن الظاهر أنه لا ينفذ ذلك إلا لمن هو أهل وإن كان وصيا في تفرقة ثلثه ففرقه ومو عدل فلا شيء عليه وإن كان فاسقا والوصية لمعينين فلا شيء عليه أيضا لأنه دفعه إلى مستحقه وإن كان لغير معين ففيه وجهان :
أحدهما : لا غرم عليه لأنه دفعه إلى مستحقه بإذن الميت أشبه ما لو كاذ لمعينين
والثاني : يغرم لأنه فرقه ولم تكن له تفرقته فغرمه كما لو جعلت تفرقته إلى غيره والله تعالى أعلم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10