كتاب : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
المؤلف : عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد

باب صدقة التطوع
وهي مستحبة لقول الله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ] متفق عليه وصدقة السر أفضل لقول الله تعالى : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير } وجاء عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن صلة الرحم تزيد في العمر وصدقة السر تطفئ غضب الرب ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب والأفضل الصدقة على ذي الرحم للخبر ولقول الله تعالى : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة } والصدقة في أوقات الحاجة أكثر ثوابا للآية وكذلك على من اشتدت حاجته لقول الله تعالى : { أو مسكينا ذا متربة } والصدقة في الأوقات الشريفة كرمضان وفي الأماكن الشريفة تضاعف كما يضاعف غيرها من الحسنات والنفقة في سبيل الله تضاعف سبعمائة ضعف لقول الله تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة }
فصل :
ومن عليه دين لا يجوز أن يتصدق صدقة تمنع قضاءها لأنه واجب فلم يجز تركه ولا يجوز تقديمها على نفقة العيال لأنها واجبة وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ] رواه أبو داود وروى أبو هريرة قال : أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالصدقة فقام رجل فقال : يا رسول الله عندي دينار فقال : [ تصدق على نفسك ] قال : عندي آخر قال : [ تصدق به على زوجك ] قال : عندي آخر قال : [ تصدق به على خادمك ] قال : عندي آخر قال : [ أنت أبصر ] رواه أبو داود فإن وافقه عياله على الإيثار فهو أفضل لقول الله تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصدقة جهد من مقل إلى فقير في السر ] رواه أبو داود [ ولم يذكر ( إلى فقير في السر ) ] ومن أراد الصدقة بكل ماله وكان يعلم من نفسه حسن التوكل وقوة اليقين والصبر عن المسألة أو كان له مكسب يقوم به فذلك أفضل له وأولى به لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه تصدق بكل ماله فروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتصدق ) فوافق مالا عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قلت : أبقيت لهم مثله فأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أبقيت لأهلك فقال : الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شي أبدا وإن لم يثق من نفسه بهذا كره له لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ] رواهما أبو داود وقال النبي صلى الله عليه و سلم لسعد
[ إنك أن تدع أهلك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ] متفق عليه ويكره لمن لا صبر له على الإضاقة أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة

كتاب الصيام
صيام رمضان أحد أركان الإسلام وفروضه لقول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } الآيات وعن أبي هريرة قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما بارزا للناس إذا أتاه رجل فقال : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ما الإسلام ؟ قال [ أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان ] متفق عليه
ولا يجب إلا بشروط أربعة : الإسلام فلا يجب على كافر أصلي أو مرتد والعقل فلا يجب على المجنون والبلوغ فلا يجب على صبي لما ذكرنا في الصلاة وقال بعض أصحابنا : يجب على من أطاقه لما روى عبد الرحمن بن أبي لبيبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان ] ولأنه يعاقب على تركه وهذا هو حقيقة الواجب والأول المذهب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ] رواه أبو داود ولأنه عبادة بدنية فلم يلزم الصبي كالحج وحديثهم مرسل ثم يحمل على تأكيد الندب كقوله : [ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] لكن يؤمر بالصوم إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده كالصلاة فإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي في أثناء الشهر لزمه صيام ما يستقبلونه لأنهم صاروا من أهل الخطاب فيدخلون في الخطاب به ولا يلزمهم قضاء ما مضى لأنه مضى قبل تكليفهم فلم يلزمهم قضاؤه كالرمضان الماضي وإن وجد ذلك منهم في أثناء نهار لزمهم إمساك بقيته وقضاؤه
وعنه : لا يلزمهم ذلك لأنه نهار أبيح له فطر أوله ظاهر وباطنا فلم يلزمهم إمساكه كما لو استمر العذر ولأنهم لم يدركوا في وقت العبادة ما يمكنهم التلبس بها فيه فأشبه ما لو زالت أعذارهم ليلا وظاهر المذهب الأول لأنهم أدركوا جزءا من وقت العبادة فلزمهم قضاؤها كما لو أدركوا جزءا من وقت الصلاة ويلزمهم الإمساك لحرمة رمضان كما لو قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار وإن بلغ الصبي وهو صائم لزمه إتمام صومه رواية واحدة لأنه صار من أهل الوجوب فلزمه الإتمام كما لو شرع في صيام تطوع ثم نذر إتمامه وقال القاضي : ولا يلزمه قضاؤه لذلك
وقال أبو الخطاب : يلزمه القضاء كما لو بلغ في أثناء الصيام
فصل :
الشرط الرابع : الإطاقة فلا يجب على الشيخ الذي يجهده الصيام ولا المريض المأيوس من برئه لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وعليه أن يطعم لكل يوم مسكينا لقول الله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } قال ابن عباس كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما لا يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا رواه أبو داود فإن لم يكن له فدية فلا شيء عليه للآية الأولى
فصل :
ومن لزمه الصوم لم يبح له تأخيره إلا أربعة :
أحدها : الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فلهما الفطر وعليهما القضاء وإطعام مسكين لكل يوم لما ذكرنا من الآية وإن أفطرتا خوفا على أنفسهما فعليهما القضاء حسب كالمريض
الثاني : الحائض و النفساء لهما الفطر ولا يصح منهما الصيام لما ذكرنا في باب الحيض و النفاس كالحيض فنقيسه عليه ومتى وجد ذلك في جزء من اليوم أفسده وإن انقطع دمها ليلا فنوت الصوم ثم اغتسلت في النهار صح صومها لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصبح جنبا من جماع ثم يغتسل ويتم صومه متفق عليه وهذه في معناه
الثالث : المريض له الفطر وعليه القضاء لقول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } والمبيح للفطر : ما خيف من الصوم زيادته أو إبطاء برئه فأما ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس والإصبع ونحوه فلا يبيح الفطر لأنه لا ضرر عليه في الصوم ومن أصبح صائما فمرض في النهار فله الفطر لأن الضرر موجود والصحيح إذا خاف على نفسه لشدة عطش أو جوع أو شبق يخاف أن تنشق أنثياه ونحو ذلك فله الفطر ويقضي لأنه خائف على نفسه أشبه المريض ومن فاته الصوم لإغماء فعليه القضاء لأنه لا يزيل التكليف ويجوز على الأنبياء عليهم السلام ولا تثبت الولاية على صاحبه فهو كالمريض ومن أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه لأن الصوم الإمساك ولا ينسب ذلك إليه وإن أفاق في جزء من النهار صح صومه لوجود الإمساك فيه وإن نام جميع النهار صح صومه لأن النائم في حكم المنتبه لكونه ينتبه إذا نبه ويجد الألم في حال نومه
الرابع : السفر الطويل المباح يبيح الفطر للآية ولا يباح الفطر لغيره لما ذكرنا في القصر ولا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره لما ذكرنا في القصر وللمسافر أن يصوم ويفطر لما روى حمزة بن عمر الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أصوم في السفر ؟ قال : [ إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ] متفق عليه والفطر أفضل : لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس من البر الصوم في السفر ] متفق عليه ولأنه من رخص السفر المتفق عليها فكان أفضل كالقصر
ولو تحمل المريض والحامل والمرضع الصوم كره لهم و أجزأهم لأنهم أتوا بالأصل فأجزأهم كما لو تحمل المريض الصلاة قائما ومن سافر في أثناء النهار أبيح له الفطر لما روي عن أبي بصرة الغفاري أنه ركب في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفر ثم قال : اقترب قيل : ألست ترى البيوت ؟ قال : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فأكل رواه أبو داود ولأنه مبيح للفطر فأباحه في أثناء النهار كالمرض
وعنه : لا يباح لأنها عبادة لا تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة وإن نوى الصوم في سفره فله الفطر لذلك لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل : إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن ناسا صاموا فقال : [ أولئك العصاة ] رواه مسلم وله أن يفطر بما شاء
وعنه : لا يفطر بالجماع فإن أفطر به ففي الكفارة روايتان :
أصحهما : لا تجب لأن الصوم لا يجب المضي فيه فأشبه التطوع وإذا قدم المسافر وبرئ المريض وهما صائمان لم يبح لهما الفطر لأنه زال عذرهما قبل الترخص أشبه القصر فإن زال عذرهما أو عذر الحائض و النفساء وهم مفطرون ففي الإمساك روايتان على ما ذكرنا في الصبي ونحوه ومن أبيح له الفطر لم يكن له أن يصوم غير رمضان فإن نوى ذلك لم يصح لأنه لم ينو رمضان ولا يصح الزمان لسواه
فصل :
ولا يجب صوم رمضان إلا بأحد ثلاثة أشياء : كمال شعبان ثلاثين يوما لأنه تيقن به دخول رمضان ورؤية الهلال لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ] متفق عليه ويقبل فيه شهادة الواحد وعنه : لا يقبل فيه إلا شهادة اثنين لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رسول الله أنه قال : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا ] رواه النسائي وقال أبو بكر : إن كان الرأي في جماعة لا يقبل إلا شهادة اثنين لأنهم يعاينون ما عاينه وإن كان في سفر فقدم قبل قوله وحده وظاهر المذهب : الأول اختاره الخرقي وغيره لما روى ابن عمر قال : تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه و سلم أني رأيه فصام رواه أبو داود ولأنه خبر فيما طريقه المشاهدة يدخل به في الفريضة فقبل من واحد كوقت لصلاة والعبد الحر لأنه ذكر من أهل الرواية والفتيان فأشبه الحر وفي المرأة وجهان :
أحدهما : يقبل قولها لأنه خبر ديني فقبل خبرها به الرواية
والثاني : لا يقبل لأن طريقه الشهادة ولهذا لا يقبل فيه شاهد الفرع مع إمكان شاهد الفرع مع إمكان شاهد الأصل ويطلع عليه الرجال فلم يقبل بالمرأة المنفردة كالشهادة بهلال شوال
الثالث : أن يحول دون مطلع الهلال ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر وفيه ثلاث روايات :
إحداهن : يجب الصيام لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ] متفق عليه يعني : ضيقوا له العدة من قوله : { ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق عليه وتضييق العدة له أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوما وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر أصبح صائما وهو راوي الحديث وعمله به تفسير له
والثانية : لا يصوم لقوله في الحديث الآخر : [ فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يوما ] حديث صحيح وقال عمار : من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه و سلم حديث صحيح ولأنه شك في أول الشهر فأشبه حال الصحو
الثالثة : الناس تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا ولقوله عليه السلام : [ صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون و أضحاكم يوم تضحون ] رواه أبو داود
فصل :
وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم لأنه ثبت ذلك اليوم من رمضان وصومه واجب بالنص والإجماع ومن رأى الهلال فردت شهادته لزمه الصوم لقوله عليه السلام : [ صوموا لرؤيته ] فإن أفطر يومئذ بجماع فعليه القضاء والكفارة لأنه أفطر يوما من رمضان بجماع تام فلزمته كفارة كما لو قبلت شهادته
ولا يجوز الفطر إلا بشهادة عدلين لحديث عبد الرحمن بن زيد ولأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة فلم يقبل فيه الواحد كسائر الشهور ولا تقبل فيها شهادة رجل وامرأتين لذلك ولا يفطر إذا رآه وحده لما روي أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما : أصائم أنت ؟ قال : بل مفطر قال : ما حملك على هذا ؟ قال : لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال الآخر : أنا صائم قال : ما حملك على هذا ؟ قال : لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي أفطر : لولا مكان هذا لأوجعت رأسك رواه سعيد ولأنه محكوم به من رمضان أشبه الذي قبله فإن صام الناس بشهادة اثنين ثلاثين يوما فلم يروا الهلال أفطروا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ثم أفطروا ] حديث حسن وإن صاموا لأجل الغيم فلم يروا الهلال لم يفطروا لأنهم إنما صاموا احتياطا للصوم فيجب الصوم في آخره احتياطا
وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان :
أحدهما : لا يفطرون لقوله صلى الله عليه و سلم : [ وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا ] ولأنه فطر يستند إلى شهادة واحد فلم يجز كما لو شهد بهلال شوال
والثاني : يفطرون لأن الصوم ثبت فوجب الفطر باستكمال العدة تبعا وقد ثبت تبعا ما لا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء أصلا ويثبت بها الولادة ثم يثبت النسب للفراش على وجه التبع للولادة
فصل :
ومن كان أسيرا أو في موضع لا يمكنه معرفة الشهور بالخبر فاشتبهت عليه الشهور فإنه يصوم شهرا بالاجتهاد لأنه اشتبه عليه وقت العبادة فوجب العمل بالتحري كمن اشتبه عليه وقت الصلاة فإن لم ينكشف الحال فصومه صحيح لأنه أدى فرضه باجتهاده أشبه المصلي يوم الغيم وإن انكشف الحال فبان أنه وافق الشهر أجزأه لأنه أصاب في اجتهاده وإن وافق بعده أجزأه لأنه وقع قضاء لما وجب عليه فصح كما لو علم وإن بان قبله لم يجزئه لأنه صام قبل الخطاب أشبه المصلي قبل الوقت وإن صام بغير اجتهاد أو غلب على ظنه أن الشهر لم يدخل فصام لم يجزئه وإن وافق لأنه صام مع الشك فأشبه المصلي شاكا في أول الوقت
فصل :
ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس لقول الله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } وقال النبي ( ص ) : [ لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق ] حديث حسن وعن عمر أن النبي ( ص ) قال : [ إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس أفطر الصائم ] متفق عليه ويجوز الأكل والشرب إلى الفجر للآية والخبر وإن جامع قبل الفجر ثم أصبح جنبا صح صومه لأن الله تعالى لما أذن في المباشرة إلى الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يصوم جنبا وقد روت عائشة و أم سلمة رضي الله عنهما أن النبي ( ص ) كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم متفق عليه وإن أصبح وفي فيه طعام أو شراب فلفظه لم يفسد صومه وإن طلع الفجر وهو مجامع فاستدام فعليه القضاء والكفارة لأن استدامة الجماع جماع وإن نزع فكذلك في اختيار ابن حامد و القاضي لأن النزع جماع كالإيلاج
وقال أبو حفص : لا قضاء عليه ولا كفارة لأنه تارك للجماع وما علق على فعل شيء لا يتعلق على تركه وإن أكل شاكا في طلوع الفجر صح صومه لأن الأصل بقاء الليل وإن أكل شاكا في غروب الشمس بطل صومه لأن الأصل بقاء النهار

باب النية في الصوم
لا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل لكل يوم لما روت حفصة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له ] رواه أبو داود ولأنه صوم مفروض فاعتبرت فيه النية من الليل لكل يوم كالقضاء ونحوه وعنه : تجزئه النية في أول رمضان لجميعه لأنه عبادة واحدة والأول : المذهب لأن كل يوم عبادة منفردة لا يتصل بالآخر ولا يفسد أحدهما الآخر فأشبه أيام القضاء وفي أي وقت من الليل نوى أجزأه للخبر ولأن الليل محل النوم فتخصيص النية بجزء منه يفوت الصوم ومن أكل وشرب بعد النية لم تبطل نيته لأن إباحة الأكل والشرب إلى الفجر دليل على أن نيته لم تفسد به
فصل :
ويجب تعيين النية لكل صوم يوم واجب وهو أن يعتقد أنه صائم غدا من رمضان أو من كفارته أو من نذره
وعنه : لا يجب تعيين النية لرمضان لأنه يراد للتمييز وزمن رمضان متعين له لا يحتمل سواه والأولى أصح لأنه صوم واجب فافتقر إلى التعيين كالقضاء فلو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل أو نوى نفلا أو أطلق النية صح عند من لم يوجب التعيين لأنه نوى الصوم ونيته كافية ولا يصح عند من أوجبه لأنه لم يجزم به والنية عزم جازم وإن نوى إن كان غدا من رمضان فأنا صائم وإلا فلا لم يصح على الروايتين لأنه شك في النية لأصل الصوم ولا يفتقر مع التعيين إلى نية الفرض لأنه لا يكون رمضان إلا فرضا وقال ابن حامد : يحتاج إلى ذلك لأن رمضان للصبي نفل ومن نوى الخروج من صوم الفرض أبطله لأن النية فرض في جميعه فإذا قطعها في أثنائه خلا ذلك الجزء عن النية ففسد الكل لفوات الشرط
فصل :
ويصح صوم التطوع بنية من النهار لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال : ( هل عندكم شيء ؟ قلنا : لا قال : إني إذا صائم ) رواه مسلم ولأن في تجويز ذلك تكثيرا للصيام لأنه قد تعرض له النية من النهار فجاز كما سومح في ترك القيام والاستقبال في النافلة لذلك وفي أي وقت نوى من النهار أجزأه في ظاهر كلام الخرقي لأنه نوى في النهار أشبه ما قبل الزوال
واختار القاضي أنه يجزئ بنية بعد الزوال لأن النية لم تصحب العبادة في معظمها أشبه ما لو نوى مع الغروب
قال أحمد : من نوى التطوع في النهار كتب له بقية يومه وإذا أجمع في الليل كان له يومه فظاهر هذا أنه إنما يحكم له بالصيام من وقت نيته لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ]
وقال أبو الخطاب : يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من أول النهار لأن صوم بعضه لا يصح

باب ما يفسد الصوم وما يوجب الكفارة
يحرم على الصائم الأكل والشرب للآية والخبر فإن أكل أو شرب مختارا ذاكرا لصومه أبطله لأنه فعل ما ينافي الصوم لغير عذر سواء كان غذاء أو غير غذاء كالحصاة والنواة لأنه أكل وإن استعط أفسد صومه لقول النبي صلى الله عليه و سلم للقيط بن صبرة : [ وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ] رواه أبو داود وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ فيه بحيث يدخل إلى خياشيمه وإن أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو إلى دماغه مثل أن احتقن أو داوى جائفة بما يصل جوفه أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه بما يصل جوفه أو قطر في أذنيه فوصل إلى دماغه أو داوى مأمومة بما يصل إليه أفطر لأنه إذا بطل بالسعوط دل على أنه يبطل بكل واصل من كل موضع كان ولأن الدماغ أحد الجوفين فأبطل الصوم ما يصل إليه كالآخر وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر لأن العين منفذ لذلك يجد المكتحل مرارة الكحل في حلقه ويخرج أجزاؤه في نخاعته وإن شك في وصوله لكونه يسيرا كالميل ونحوه ولم يجد طعمه لم يفطر نص عليه وإن زرق في أحليله شيئا أو أدخل ميلا لم يبطل صومه لأن ما يصل المثانة لا يصل الجوف ولا منفذ بينهما إنما يخرج البول رشحا فهو بمنزلة ما لو ترك في فيه شيئا وإن ابتلع ما بين أسنانه أفطر لأنه واصل من خارج يمكن التحرز عنه فأشبه اللقمة
فصل :
وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع ريقه وغربلة الدقيق وغبار الطريق والذبابة تدخل في حلقه لا يفطره لأن التحرز منه لا يدخل تحت الوسع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وإن جمع ريقه ثم ابتلعه لم يفطر لأنه يصل من معدته أشبه ما لو لم يجمعه
وفيه وجه آخر : أنه يفطره لإمكان التحرز منه وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان :
إحداهما : يفطر لأنها من غير الفم أشبه القيء
والثانية : لا يفطر لأنها لا تصل من خارج وهي معتادة في الفم أشبه الريق ومن أخرج ريقه من فمه ثم ابتلعه أو بلع ريق غيره أفطر لأنه بلعه من غير فمه أشبه ما لو بلع ماء ومن أخرج درهما من فمه ثم أدخله وبلع ريقه لم يفطر لأنه لا يتحقق ابتلاع البلل الذي كان عليه ولذلك لا يفطر بابتلاع ريقه بعد المضمضة والتسوك بالعود الرطب ولا بإخراج لسانه ثم إعادته ولو سال فمه دما أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر لأن الفم في حكم الظاهر وإن أخرجه ثم ابتلع ريقه ومعه شيء من المنجس أفطر وإلا فلا
فصل :
ومن استقاء عمدا أفطر ومن ذرعه فلا شيء عليه لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقى عمدا فليقض ] حديث حسن وإن حجم أو احتجم أفطر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفطر الحاجم و المحجوم ] رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم أحد عشر نفسا وقال أحمد : حديث ثوبان وشداد بن أوس صحيحان
فصل :
وتحرم عليه المباشرة للآية فإن باشر فيما دون الفرج أو قبل أو لمس فأنزل فسد صومه فإن لم ينزل لم يفسد لما روي عن عمر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم قال : [ أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم قلت : لا بأس قال : فمه ؟ ] رواه أبو داود شبه القبلة بالمضمضة لأنها من مقدمات الشهوة والمضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر كذلك القبلة ولو احتلم لم يفسد صومه لأنه يخرج عن غير اختياره
وإن جامع ليلا فأنزل نهارا لم يفطر لأن مجرد الإنزال لا يفطر كالاحتلام وإن كرر النظر فأنزل أفسد صومه لأنه إنزال عن فعل في فعل الصوم أمكن التحرز عنه أشبه الإنزال باللمس وإن صرف بصره فأنزل لم يفطر لأنه لا يمكن التحرز عنه وإن أنزل بالفكر لم يفطر لذلك وإن استمنى بيده فأنزل أفطر لأنه إنزال عن مباشرة أشبه القبلة وسواء في هذا كله المني و المذي لأنه خارج تخلله الشهوة انضم إلى المباشرة به فأفطر به كالمني إلا في تكرار النظر لا يفطر إلا بإنزال المني في ظاهر كلامه لأنه ليس بمباشرة
فصل :
وما فعل من هذا ناسيا لم يفطره لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ] متفق عليه وفي لفظ : [ فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله تعالى ] فنص على الأكل والشرب وقسنا عليه سائر ما ذكرناه وإن فعله مكرها لم يفطر لقوله صلى الله عليه و سلم : [ من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ] فنقيس عليه ما عداه وإن فعله وهو نائم لم يفطر لأنه أبلغ في العذر من الناسي وإن فعله جاهلا بتحريمه أفطر لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أفطر الحاجم و المحجوم ] في حق رجلين رآهما يفعلان ذلك مع جهلهما بالتحريم ولأنه نوع جهل فلم يعذر به كالجهل بالوقت وذكر أبو الخطاب أنه لا يفطر لأن الجهل عذر يمنع [ التأثيم ] فيمنع الفطر كالنسيان أو يمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفطر لأنه واصل بغير اختياره ولا تعديه فأشبه الذباب الداخل حلقه وإن بالغ فيهما فوصل الماء ففيه وجهان :
أحدهما : لا يفطر لأنه يغير اختياره
والثاني : يفطر لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه لقيطة بن صبرة حفظا للصوم فدل على أنه يفطره لأنه تولد بسبب منهي عنه فأشبه الإنزال عن مباشرة وإن زاد على الثلاث فيهما فوصل الماء فعلى الوجهين
وإن أكل يظن أن الشمس قد غابت ولم يغب أو أن الفجر لم يطلع وقد طلع أفطر لما روي عن حنظلة قال : كنا بالمدينة في رمضان وفي السماء سحاب فظننا أن الشمس قد غابت فأفطر بعض الناس ثم طلعت الشمس فقال عمر : من أفطر فليقض يوما مكانه رواه سعيد بن منصور ولأنه أكل ذاكرا مختارا فأفطر كما لو أكل يظن أن اليوم في شعبان فبان في رمضان
فصل :
وعلى من أفطر القضاء لقوله صلى الله عليه و سلم : [ من استقاء فليقض ] ولأن القضاء يجب مع العذر فمع عدمه أولى وعليه إمساك سائر يومه لأنه أمر به في جميع النهار فمخالفته في بعضه لا تبيح المخالف في الباقي ولو قامت البينة بالرؤية بعد فطرته فعليه القضاء والإمساك لذلك ولا تجب الكفارة بغير الجماع لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بها المحتجم ولا المستقيء ولأن الإيجاب في الشرع ولم يرد بها إلا في الجماع وليس غيره في معناه لأنه أغلظ ولهذا يجب به الحد في ملك الغير والكفارة العظمى في الحج ويفسده دون سائر محظوراته و يتعلق به اثنا عشر حكما
فصل :
ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل فعليه القضاء والكفارة لما روى أبو هريرة أن رجلا جاء فقال : يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هل تجد رقبة تعتقها ؟ ] قال : لا قال : [ فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ ] قال : لا قال : [ فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ ] قال : لا قال : فسكت النبي صلى الله عليه و سلم فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه و سلم بعذق فيه تمر فقال : [ أين السائل خذ هذا فتصدق به ] فقال الرجل : أعلى أفقر مني يا رسول الله ؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت أنيابه فقال : [ أطعمه أهلك ] متفق عليه وسواء في هذا وطء الزوجة والأجنبية والحية الميتة والآدمية والبهيمة والقبل والدبر لأنه وطء في فرج موجب للغسل أشبه وطء الزوجة ولأنه إذا وجب التفكير بالوطء في المحل المملوك ففيما عداه أولى ويحتمل أن لا تجب الكفارة بوطء البهيمة لأنه محل لا يجب الحد بالوطء فيه أشبه غير الفرج وفي الجماع دون الفرج إذا أنزل روايتان :
إحداهما : تجب به الكفارة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفصل السائل عن الوقاع
والثانية : لا تجب لأنه مباشرة لا يفطر بغير إنزال فأشبه القبلة ولا يصح قياسه على الوطء في الفرج لما بينهما من الفرق وإنما لم يستفصله النبي صلى الله عليه و سلم لأنه فهم منه الوقاع في الفرج بدليل ترك الاستفصال عن الإنزال وتجب الكفارة على الناسي والمكره لأن النبي ( ص ) لم يستفصل السائل عن حاله وعن أحمد رضي الله عنه : كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا غيره فيدخل فيه الإكراه والنسيان لقول النبي ( ص ) : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] رواه النسائي وقياسا على سائر المفطرات
وقال ابن عقيل : إن كان الإكراه إلجاء مثل أن استدخلت ذكره وهو نائم أو مغلوب على نفسه فلا كفارة عليه لأنه لا فعل له وفي فساد صومه احتمالان وإن كان بالوعيد ونحوه فعليه القضاء لأن الانتشار من فعله ولا كفارة عليه لعذره
فصل :
وفي وجوب الكفارة على المرأة روايتان :
إحداهما : تجب لأنها إحدى المتواطئين فلزمتها الكفارة كالرجل
والثانية : لا تلزمها لأن النبي ( ص ) لم يأمر امرأة المواقع بكفارة ولأنه حق مال يتعلق بالوطء من بين جنسه فاختص بالرجل كالمهر فإن كانت ناسية أو مكرهة فلا كفارة عليها رواية واحدة لأنها تعذر بالعذر في الوطء ولذلك لا تحد إذا أكرهت على الزنا بخلاف الرجل والحكم في فساد صومها كالحكم في الرجل المعذور ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان لعدم حرمة الزمان
فصل : ومن لزمه الإمساك في رمضان فعليه الكفارة بالوطء وإن كان مفطرا لأنه وطء يحرم بحرمة رمضان فوجبت به الكفارة كوطء الصيام ومن جامع وهو صحيح مقيم ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط الكفارة عنه لأنه أفسد صوما واجبا في رمضان بجماع تام فوجبت الكفارة وجوبا مستمرا كما لو لم يطرأ عذر وإن وطئ ثم وطئ قبل التكفير في يوم واحد فعليه كفارة واحدة بلا خلاف لأنها عبادة تكرر الوطء فيها قبل التكفير فلم تجب أكثر من كفارة كالحج وإن كان ذلك في يومين ففيه وجهان :
أحدهما : تجزئه كفارة واحدة لأنه جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتداخلا كالحدود وكالتي قبلها
والثاني : تلزمه كفارتان اختاره القاضي لأنه أفسد صوم يومين بجماع فوجبت كفارتان كما لو كانا في رمضانين فإن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة وجها واحدا لأنه تكرر السبب بعد استيفاء حكم الأول فوجب أن يثبت للثاني حكمه كسائر الكفارات
فصل : والكفارة عتق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا للخبر
وعند : أنها على التخيير بين الثلاثة لما روي عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله ( ص ) أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا رواه مسلم و مالك في الموطأ و أو للتخيير والأول المذهب لأن الحديث الأول أصح وهو متضمن للزيادة وإن عجز عن الأصناف كلها سقطت لأن النبي ( ص ) أمر الذي أخبره بحاجته إليها بأكلها ويحتمل أن لا تسقط لأن النبي ( ص ) دفع إليه المكتل وأمره بالتكفير بعد إخباره بعجزه والأول أولى لأن الإسقاط آخر الأمرين فيجب تقديمه

باب القضاء
يجوز تفريق قضاء رمضان لقول الله تعالى : { فعدة من أيام أخر } وهذا مطلق يتناول المتفرق وروى الأثرم بإسناده عن أحمد بن المنكدر أنه قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن تقطيع قضاء رمضان فقال : [ لو كان على أحدكم دين فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضيا دينه ؟ ] قالوا : نعم يا رسو الله قال : [ فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم ] رواه الدارقطني بنحوه والمتتابع أحسن لأنه أشبه بالأداء وأبعد من الخلاف ويجوز له تأخيره ما لم يأت رمضان آخر لأن عائشة رضي الله عنها قالت : لقد كان يكون علي الصيام من رمضان فما أقضيه حتى يجيء شعبان متفق عليه ولا يجوز تأخيره أكثر من ذلك لغير عذر لأنه لو جاز لأخرته عائشة ولأن تأخيره غير مؤقت إلحاقا لها بالمندوبات فإن أخره لعذر فلا شيء عليه لأن فطر رمضان يباح للعذر فغيره أولى وسواء مات أو لم يمت لأنه لم يفرط في الصوم فلوم يلزمه شيء كما لو مات في رمضان وإن أمكنه القضاء فلم يقض حتى جاء رمضان آخر قضى وأطعم عن كل يوم مسكينا لأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ولأن تأخير القضاء من وقته إذا لم يوجب قضاء أوجب كفارة كالشيخ الهرم وإن فرط فيه حتى مات قبل رمضان آخر أطعم عنه عن كل يوم مسكين لأن ذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما وإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر فكفارة واحدة عن كل يوم يجزئه نص عليه لأن الكفارة الواحدة أزالت تفريطه فصار كالميت من غير تفريط وقال أبو الخطاب : عليه كل يوم فقيران لأن كل واحد يقتضي كفارة فإذا اجتمعا وجب بهما كفارتان كالتفريط في يومين ويجوز لمن عليه قضاء رمضان التطوع بالصوم لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع بها في وقتها قبل فعلها كالصلاة وعنه : لا يجوز لأنها عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يجز التطوع بها قبل فرضها كالحج والأول أصح لأن عمر كان يستحب القضاء فيها ولأنها أيام عبادة لا يكره القضاء فيها كعشر المحرم و عنه : يكره لأن عليا رضي الله عنه كرهه ولأن العبادة فيها أحب الأعمال إلى الله تعالى فاستحب توفيرها على التطوع

باب ما يستحب وما يكره
ينبغي للصائم أن يحرس صومه عن الكذب والغيبة والشتم والمعاصي لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا كان يوم صوم أحدكم قلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ] متفق عليه ويستحب للصائم السحور لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ تسحروا فإن في السحور بركة ] متفق عليه ويستحب تأخير السحور وتعجيل الفطر لما روى أبو ذر عن للنبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطور ] من المسند ويستحب أن يفطر على رطب فإن لم يجد فعلى تمرات فإن لم يجد فعلى ماء لما روى أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن حسا حسوات من ماء وهذا حديث حسن ولا بأس بالسواك لأن عامر بن ربيعة قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم وهذا حديث حسن وهل يكره بالعود الرطب على روايتين :
إحداهما : لا يكره لأنه يروى عن عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم
والأخرى : يكره لأنه لا يأمن أن يتحلل منه أجزاء تفطره
فصل :
وتكره القبلة لمن تحرك شهوته لأنه لا يأمن إفضاءها إلى فساد صومه ومن لا تحرك شهوته فيه روايتان :
إحداهما : يكره لأنه لا يأمن من حدوث شهوة
والأخرى : لا يكره ( لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل وهو صائم ) متفق عليه لما كان أملك لإربه وقد روي عن أبي هريرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن المباشرة للصائم فرخص له فأتاه آخر وسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب رواه أبو داود والحكم في اللمس وتكرار النظر كالحكم في القبلة لأنهما في معناها ويكره أن يذوق الطعام فإن فعل فلم يصل إلى حلقه شيء لم يضره وإن وصل شيء فطره ويكره مضغ العلك القوي الذي لا يتحلل منه شيء فأما ما يتحلل منه أجزاء يجد طعمها في حلقه فلا يحل مضغه إلا أن لا يبلع ريقه فإن بلعه فوجد طعمه في حلقه فطره وإن وجد طعم ما لا يتحلل منه شيء في حلقه ففيه وجهان :
أحدهما : يفطره كالكحل
والثاني : لا يفطره لأن مجرد الطعم لا يفطره كمن لطخ باطن قدميه بالحنظل فوجد مرارته في حلقه لم يفطره ويكره الغوص في الماء لئلا يدخل مسامعه فإن دخل فهو كالداخل من المبالغة في الاستنشاق لأنه حصل بفعل مكروه فأما الغسل فلا بأس به لأن النبي صلى الله عليه و سلم كلن يصبح جنبا ثم يغتسل
فصل :
ويكره الوصال وهو أن يصوم يومين لا يفطر بينهما لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تواصلوا ] قالوا : إنك تواصل قال : [ إني لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى ] متفق عليه فإن أخر فطره إلى السحر جاز لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر ] أخرجه البخاري

باب صوم التطوع
وهو مستحب لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله تعالى : [ كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به الصيام جنة والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه ] متفق عليه وأفضله ما روى عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ] متفق عليه
ويستحب صيام ثلاث أيام من كل شهر لما روى أبو هريرة قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه و سلم بثلاث صيام ثلاث أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام متفق عليه ويستحب أن يجعلها أيام البيض لما روى أبو ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ] وهذا حديث حسن ويستحب صوم الاثنين والخميس لما روى أسامة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فسئل عن ذلك فقال : [ إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس ] رواه أبو داود ويستحب الصيام في المحرم لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ] رواه مسلم وهذا حديث حسن ويستحب صيام عشر ذي الحجة لما روى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام ] قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ] وهذا حديث حسن صحيح وصوم يوم عرفة كفارة سنتين وهو التاسع من ذي الحجة وصوم عاشوراء كفارة سنة وهو العاشر من المحرم لما روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ] وقال في صيام يوم عاشوراء : [ إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده ] رواه مسلم ولا يستحب لمن بعرفة أن يصوم ليتقوى على الدعاء لما روى ابن عمر قال : حججت مع النبي صلى الله عليه و سلم فلم يصمه ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه فأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه حديث حسن ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال وإن فرقها فكأنما صام الدهر لما روى أبو أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله ] رواه مسلم
فصل :
ويكره إفراد الجمعة بالصيام لما روى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو يوما بعده ] متفق عليه وإفراد يوم السبت بالصوم لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ] وهذا حديث حسن صحيح فإن صامهما معا لم يكره لحديث أبي هريرة ويكره إفراد أعياد الكفار بالصيام لما فيه من تعظيمها والتشبه بأهلها ويكره صوم الدهر لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قيل له : فكيف بمن صام الدهر ؟ قال : [ لا صام ولا أفطر ] حديث حسن ولأنه يشبه التبتل المنهي عنه ويكره إفراد رجب بالصوم لما فيه من تشبه برمضان وقد روي عن خرشة قال : رأيت عمر يضرب أكف الناس حتى يضعوها في الطعام يعني في رجب ويقول : إنما هو شهر كانت الجاهلية تعظمه ثم يقول : صوموا منه وأفطروا وروى سعيد بن منصور أوله بمعناه ولم يقل فيه : صوموا منه وأفطروا وقال أصحابنا : : يكره صوم يوم الشك وهو اليوم الذي يشك فيه هل هو من شعبان أو من رمضان إذا كان صحوا ويحتمل أنه محرم لقول عمار : من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود و الترمذي نحوه وصححه والمعصية حرام وكذلك استقبال رمضان باليوم واليومين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجلا كان يصوم صياما فليصمه ] متفق عليه و ما وافق هذا كله عادة فلا بأس بصومه لهذا الحديث وقد دل هذا الحديث بمفهومه على جواز التقدم بأكثر من يومين وقد روي عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) انه قال : [ إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان ] وهذا حديث صحيح فيحمل الأول على الجواز وهذا على نفي الفضيلة جمعا بينهما
فصل :
ويحرم صوم العيدين عن فرض أو تطوع فإن صامهما فقد عصى ولم يجزئاه عن فرض لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فقال : هذان يومان نهى رسول الله ( ص ) عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر تأكلون من نسككم متفق عليه ولا يجوز صيام أيام التشريق لما روى نبيشة الهذلي قال : قال رسول الله ( ص ) : [ أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز و جل ] رواه مسلم وفي صيامهما للفرض روايتين :
إحداهما : يحرم لهذا الحديث
والثانية : يجوز لما روي ابن عمر وعائشة أنهما قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي رواه البخاري وقسنا على صوم المتعة صوم كل فرض لأنه في معناه
فصل :
ومن دخل في صيام تطوع فله الخروج منه ولا قضاء عليه وعنه : عليه القضاء لأنه عبادة فلزمت بالشروع كالحج
والأول : المذهب لما روت عائشة قالت : قلت : يا رسول الله أهديت لنا هدية أو جاءنا زور وقد خبأت لك شيئا : قال ما هو ؟ قلت : حيس قال : [ هاتيه ] فجئته به فأكل ثم قال : [ قد كنت أصبحت صائما ] رواه مسلم ولأن كل صوم لو أتمه كان تطوعا لا يلزمه إتمامه وإن خرج منه لم يلزمه قضاؤه كما لو اعتقد من رمضان فبان في شعبان وإن كان الصوم مكروها فالفطر من مستحب لما روي عن جويرية بنت الحارث أن النبي ( ص ) دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال : [ أصمت أمس ؟ قالت : لا قال : أتريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا قال : فأفطري ] متفق عليه وسائر التطوعات من الصلاة والاعتكاف وغيرهما كالصوم إلا الحج والعمرة
وعنه : أن الصلاة أشدها فلا يقطعها ومال إليها أبو إسحاق والجوزجاني لأن الصلاة ذات إحلال وإحرام فأشبهت الحج والأول المذهب لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما لأنه يمضي في فاسدهما فلا يصح القياس عليهما ومن دخل في واجب كقضاء أو نذر غير معين أو كفارة لم يجز له الخروج منه لأنه تعين بدخوله فيه فصار كالمتعين فإن خرج منه لزمه أكثر مما كان عليه
فصل :
ويستحب تحري ليلة القدر لقول الله تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } وهي في رمضان لأن الله تعالى أخبر أنه أنزل فيها القرآن وأنه أنزل في شهر رمضان فيدل على أنها في رمضان وأرجاه الوتر في ليالي العشر الأواخر لقول رسول الله ( ص ) : [ من كان متحريا فليتحرها في السبع الأواخر ] وفي لفظ : [ فاطلبوا في العشر الأواخر في الوتر منها ] متفق عليه وقال أبي بن كعب : أنها ليلة سبع وعشرون أخبرنا رسول الله ( ص ) أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع فعددنا وحفظنا هذا حديث صحيح أخرجه مسلم إلى قوله ( شعاع ) فهذا أصح علاماتها وقد روي عن النبي ( ص ) أنها ليلة بلجة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها من المسند وروى أبو سعيد عن رسول الله ( ص ) أنه قال : [ قد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماء الطين ] قال أبو سعيد : فأمطرت تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله ( ص ) انصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين متفق عليه والحديثان يدلان على أنها تتنقل في ليالي الوتر من العشر لأن كل واحد منهما يدل على وجود علامتها في الليل فينبغي أن يجتهد في ليالي الوتر من العشر كله ويكثر من الدعاء لعله يوافقها ويدعو بما روي عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله إن وافقتها فبم أدعو ؟ قال : [ قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ] رواه الترمذي وقال : حديث صحيح

كتاب الحج
الحج من أركان الإسلام وفروضه لقول الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ولما روينا فيما مضى وروى مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا ] فقال رجل أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ] ثم قال : [ ذروني ما تركتم ] وتجب العمرة على من يجب عليه الحج لقول الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ولما روى الضبي بن معبد قال : أتيت عمر فقلت إني أسلمت يا أمير المؤمنين وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال : هديت لسنة نبيك رواه النسائي
ويجب ذلك في العمر مرة لحديث أبي هريرة ولا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام لما روي عن ابن عباس أنه قال : لا يدخل مكة إلا محرم إلا الحطابين إلا أن يكون دخوله لقتال مباح لأن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر متفق عليه و دخل أصحابه غير محرمين أو من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد فلهم الدخول بغير إحرام لحديث ابن عباس فإنه استثنى الحطابين وقسنا عليهم من هو في معناهم ولأن في إيجاب الإحرام عليهم حرجا فينتفي بقول الله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج }
فإن دخل من يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه لأنه لو وجب قضاؤه للزمه للدخول للقضاء قضاء فلا يتناها فسقط لذلك
فصل :
ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروط خمسة : الإسلام والبلوغ والعقل لما تقدم والحرية والاستطاعة لقول الله تعالى : { من استطاع إليه سبيلا } فيدل هذا على أنه لا يجب على غير مستطيع والعبد غير مستطيع لأنه لا مال له ومنافعه مستحقة فهذا أعظم عذرا من الفقير
وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام : قسم يشترط للصحة وهو : الإسلام والعقل فلا يصح من كافر ولا مجنون لما ذكرنا في الصوم
وقسم يشترط للإجزاء وهو البلوغ والحرية لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى ] رواه الشافعي و الطيالسي في مسنديهما ولأنه فعل العبادة وهو من غير أهل الوجوب فلم يجزئه إذا صار من أهل الوجوب كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت وإن وجد البلوغ أو العتق في الوقوف بعرفه أو قبله أجزأهما عن حجة الإسلام لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما كما لو وجد ذلك قبل الإحرام وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجعا فوقفا في الوقت أجزأهما أيضا لذلك وإن فاتهما ذلك لم يجزئهما لفوات ركن الحج قبل الكمال
الثالث : شرط الوجوب حسب وهو الاستطاعة فلو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع موقعه لأنه إنما سقط عنه رفقا به فإذا تحمله أجزأه كما لو تحمل المريض الصلاة قائما لكن إن كان الحج كلا على الناس لمسألته إياهم وتثقيله عليهم كره له لأنه يضر بالناس بالتزام ما لا يلزمه وإن لم يكن كلا على حد لقوته على المشي والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه فهو مستحب له لقول الله تعالى : { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } ولأنه التزام للطاعة من غير مضرة لأحد فاستحب كقيام الليل
فصل :
والاستطاعة من حق البعيد : القدرة الزاد والراحلة لما روى ابن عمر قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : [ الزاد والراحلة ] قال الترمذي : هذا حديث حسن ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد
والزاد : هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه
فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج لأن عليه غربته ضررا ومشقة وغيبة عن أهله ومعاشه
وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص أو بزيادة لا تجحف بماله لزمه وتعتبر القدرة على الماء وعلف البهائم في منازل الطريق على ما جرت به العادة ولا يكلف حمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة التي لا يمكن تحميلها ويعتبر قدرته على أوعية الزاد والماء لأنه لا يستغنى عنها ويشترط وجدان راحلة تصلح لمثله بشراء أو كراء وما يحتاج إليه من آلتها الصالحة لمثله في محمل أو زاملة أو قتب على ما جرت به العادة مثله وما لا يتخوف الوقوع منه ويكون ذلك فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء دين حال ومؤجل ونفقة عياله إلى أن يعود وما يحتاجون إليه من مسكن وخدم لأن هذا واجب عليه يتعلق به حق آدمي فكان أولى بالتقديم كنفقة نفسه
وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت قدم لأنه واجب لدفع الضرر عن نفسه فأشبه النفقة وإن لم يخف وجب الحج لأنه تطوع فلا يسقط به الحج الواجب ومن له عقار يحتاج إليه للسكنى أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه ذلك أو آلات لصناعته المحتاج إليها أو كتب من العلم يحتاج إليها لم يلزمه صرفه في الحج لأنه لا يستغنى عنه أشبه النفقة ومن كان من ذلك فاضلا عن حاجته كمن له بكتاب نسختان أو له دار فاضلة أو مسكن واسع يكفيه بعضه فعليه صرف ذلك في الحج ومن لم يكن له مال فبذل له ولده أو غيره مالا يحج به لم يلزمه قبوله وإن بذل له أن يحج عنه أو يحمله لم يلزمه قبوله لأن عليه فيه منة ومشقة فلم يلزمه قبوله كما لو كان الباذل أجنبيا
فصل :
فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر فلا يشترط في حقه راحلة ومتى قدر على الحج ماشيا لزمه لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة شديدة وإن عجز عن المشي وأمكنه الحبو لم يلزمه لأن مشقته في المسافة القريبة أكثر من السير في المسافة البعيدة
فصل :
واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء وهي إمكان المسير وهو أن تكمل الشرائط فيه وفي الوقت سعة يتمكن من السير لأدائه وتخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من خوف ولا غيره والمحرم للمرأة فروي أنها من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونها لأنه لا يستطاع فعله بدونها فكانت شرطا للوجوب كالزاد والراحلة
وعنه : أنها شروط للزوم الأداء دون الوجوب لأنها أعذار تمنع نفس الأداء فقط فلم تمنع الوجوب كالمرض وإذا قلنا : هي من شرائط الوجوب فمات قبل تحققها فلا شيء عليه كالفقير وإن قلنا : هي من شرائط لزوم السعي فاجتمعت فيه الشرائط الخمس حج عنه كالمريض وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة فلو أمكنه السير بأن يحمل على نفسه ما لم تجر به عادة لم يلزمه لأن فيه مشقة وتعزيرا
وتخلية الطريق عبارة عن عدم الموانع فيها بعيدة كانت أو قريبة برا أو بحرا الغالب السلامة فيه فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه كالبر إذا كان فيه مانع فإن كان الطريق آمنا لكنه يحتاج إلى خفارة كثيرة لم يلزمه الأداء لأنه كالزيادة على ثمن المثل في شراء الزاد فإن كانت يسيرة ؟
فقال ابن حامد : يلزمه لأنها غرامة ممكنة يقف الحج على بذلها فلزمته كثمن الزاد
وقال القاضي : لا يلزمه لأنها رشوة في الواجب فلم تلزمه كسائر الواجبات
فصل :
فأما السلامة وكونه على حال يمكنه الثبوت على الراحلة فهو شرط للزوم الأداء خاصة فإن عدم ذلك لمرض لا يرجى برؤه أو كبر أقام من يحج عنه ويعتمر لما روى أبو رزين أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال : [ حج عن أبيك واعتمر ] وهو حديث حسن فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته كما لو لم يبرأ وإن كان مرضه يرجى زواله لم يجز أن يستنيب لأنه يرجو القدرة فلم تكن له الاستنابة كالصحيح الفقير فإن استناب ثم مات لم يجزئه ووجب الحج عنه لأنه حج عنه وهو غير مأيوس منه فلم يجزئه الحج كما لو برئ وهل يجوز لمن يمكنه الحج بنفسه أن يستنيب في حجة التطوع ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يجوز لأنها حجة لا تلزمه أدائها فجاز له الاستنابة فيها كالمغصوب
والثانية : لا يجوز : لأنها عبادة لا تجوز الاستنابة في فرضها فلم تجز في نفلها كالصلاة
فصل :
ومن كملت الشرائط في حقه لزمه الحج على الفور ولم يجز له تأخيره لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة ] رواه ابن ماجه وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ] رواه الترمذي ولأنه أحد أركان الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقته كالصيام
فصل :
وحج الصبي صحيح لما روى ابن عباس قال : رفعت امرأة صبيا فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : [ نعم ولك أجر ] رواه مسلم والكلام فيه في أربع أمور :
أحدها : في إحرامه إن كان مميزا أحرم بإذن وليه ولا يصح من غير إذنه لأنه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه الذي يلي ماله ومعنى إحرامه عنه : عقده الإحرام له فيصير الصبي بذلك محرما دون الولي كما يعقد له النكاح فلذلك صح أن يحرم عنه الولي محلا كان أو محرما ممن حج عن نفسه وممن لم يحج فإن أحرمت عنه أمه صح في ظاهر كلام أحمد لأنه قال : يحرم عنه أبواه وهو ظاهر حديث ابن عباس
وقال القاضي : لا يصح لعدم ولايتها على ماله وفي سائر عصباته وجهان بناء على القول في الأم فأما الأجنبي فلا يصح إحرامه عنه وجها واحدا
الثاني : أن ما قدر الصبي على فعله كالوقوف بعرفة ومزدلفة فعليه فعله وما لا يمكنه فعله كالرمي فعله الولي عنه لما روى جابر رضي الله عنه قال : كنا إذا حججنا مع النبي صلى الله عليه و سلم لبينا مع الصبيان ورمينا عنهم رواه ابن ماجه وإن أمكنه المشي في الطواف وإلا طيف به محمولا فقد روى الأثرم عن أبي اسحق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة ولا يرمي عن الصبي إلا من أسقط فرض الرمي عن نفسه
الثالث : أن ما فعله من محظورات الإحرام إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه فلا فدية فيه لأن عمد الصبي خطأ وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء الصيد ونحوه ففيه فدية وفي محلها روايتان :
إحداهما : تجب في مال الصبي لأنه واجب بجنايته فلزمت كجنايته على آدمي
والثانية : تجب على وليه لأنه أدخله في ذلك وغرر بماله وإن و طىء الصبي أفسد حجه ووجبت البدنة ويمضي في فاسده وعليه القضاء إذا بلغ وهل يجزئه القضاء عن حجة الإسلام ينظر فإن كانت الفاسدة لو صلحت أجزأت وهو أن يبلغ في وقوفها أجزأ القضاء أيضا وإلا فلا
الرابع : أن ما يلزمه من النفقة بقدر نفقته الحضر فهو في ماله لأنه الوالي لم يكلفه ذلك وما زاد ففي محله روايتان كالفدية سواء
فصل :
وفي حج العبد وهو صحيح لأنه من أهل العبادات فصح حجه كالحر وإلا فالكلام فيه في أمور أربعة :
أحدها : أنه إن أحرم صح إحرامه بإذن سيده وبغير إذنه لأنها عبادة بدنية فصحت منه بغير إذن سيده كالصلاة فإن أحرم بغذن سيده لم يجز تحليله لأنها عبادة تلزمه بالشروع فلم يملك تحليله إذا شرع بإذنه كقضاء رمضان وإن أحرم بغير إذنه فقال أبو بكر : لا يملك تحليله لذلك وقال ابن حامد : له تحليله وهو أصح لأن حق السيد فيه ثابت لازم فلم يملك العبد إبطاله بما لا يلزمه كالاعتكاف فإن أذن له ثم رجع قبل إحارمه فهو كمن لم يأذن فإن لم يعلم العبد برجوعه حتى أحرم ففيه وجهان بناء على الوكيل هو ينعزل بالعزل قبل علمه به ؟ على روايتين
الثاني : إذا نذر العبد الحج انعقد نذره لأنه تكليف فانعقد نذره كالحر فإن كان بإذن سيده لم يملك منعه من الوفاء به لأنه أذن في التزامه وإن كان بغير إذنه فله منعه ذكره ابن حامد
وقال القاضي : لا يجوز لأن تجويز ذلك يفضي إلى تمكينه من التسبب إلى إبطال حق سيده فمتى عتق فعليه الوفاء به ولا يفعله إلا بعد حجة الإسلام
الثالث : أن ما جنى العبد مما يوجب الفدية فعليه فديته بالصيام فقط لأنه كالمعسر وأدنى منه فإن ملكه السيد هديا وأذن له في الفدية به وقلنا : إنه يملك فعليه الفدية به وإلا ففرضه الصيام وإن تمتع أو قرن بإذن سيده فهدي التمتع والقران عليه لأن النسك له فكانت الفدية عليه كالزوجة إذا فعلته بإذن زوجها
وقال القاضي : هو على سيده لأنه بإذنه
الرابع : أن العبد إذا وطئ أفسد حجه وعليه المضي في فاسده ويصوم مكان البدنة ثم إن كان الإحرام مأذونا فيه لم يكن لسيده تحليله منه وإن لم يكن مأذونا فيه فله تحليله لأن هذا الإحرام هو الذي كان صحيحا فحكمه في ذلك حكمه
فصل :
في حج المرأة ثلاثة أمور :
أحدها : أنه لا يحل لها السفر بغير محرم لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم ] متفق عليه والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كابنها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها فأما عبدها فليس بمحرم لها لأنها تحل له إذا عتق وليس بمأمون عليها ومن حرمت عليه بسبب محرم كالزنا أو وطء الشبهة فليس بمحرم لأن تحريم ذلك بسبب غير مشروع فأشبه التحريم باللعان ونفقة المحرم عليها لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة ولا يلزمه الخروج معها إلا أن يشاء لأنه تكلف شديد فلم يلزمه لأجل غيره كالحج عن الغير وإن مات المحرم في الطريق مضت إذا كانت قد تباعدت وإن كانت قريبة رجعت وإن حجت امرأة بغير محرم أساءت و أجزأها حجها كما لو تكلف رجل مسألة الناس والحج
الثاني : أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض لأنه واجب بأصل الشرع فأشبه صوم رمضان ويستحب لها استئذانه جمعا بين الحقين وله منعها من حج التطوع لأن حقه ثابت في استمتاعها فلم تملك إبطاله بما لا يلزمها كالعبد فإن أحرمت به فحكمها حكم العبد على ما فصل فيه
الثالث : أنه ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة لأنها واجبة في المنزل تفوت فقدمت على الحج الذي لا يفوت وإن مات زوجها في الطريق بعد تباعدها مضت في سفرها لأنه لا بد من سفرها فالسفر الذي يحصل به الحج أولى وإن كانت قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها
فصل :
سمن وجب الحج عليه فمات قبل فعله وجب الحج عنه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن أبيها مات ولم يحج قال : [ حجي عن أبيك ] رواه النسائي ولأنه حق مستقر تدخل النيابة فلم يسقط بالموت كالدين ويحج عنه من رأس ماله لأنه واجب فكان من رأس المال كالدين
فصل :
ويستناب عنه وعن المغصوب من حيث وجب عليهما إما من بلدهما أو من الموضع الذي أيسرا منه ولا يجزئ الحج عنهما من الميقات لأن الحج واجب عليه من بلده فوجب أن تكون النيابة عنه منه لأن النائب يقوم مقامه فيما وجب عليه فيؤدي من حيث وجب
وإن خرج للحج فمات في الطريق استنيب عنه من حيث انتهى إليه لأنه أسقط عنه ما ساره
وإن مات بعد فعل بعض المناسك فعل عنه ما بقي لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في جميعه كالزكاة وسواء كان إحرامه لنفسه أو عن غيره فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج عنه من بلده حج عنه من حيث تبلغ نص عليه أحمد في الوصية بالحج لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم ] ولأنه قدر على أداء الواجب على القصور فلزمه كمن قدر على الصلاة قاعدا
وذكر القاضي أنه لا يحج عنه لأنه لا يمكن أداء الحج على الكمال والأول أولى
فصل :
فإن اجتمع على الميت مع الحج دين آدمي احتمل تقديم الدين لتأكده بحاجة الآدمي إليه وغنى الله عن حقه واحتمل أن يتحاصا لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن الحج عمن عليه حج قال : [ أرأيت لو كان على أخيك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم قال : فاقض فالله أحق بالوفاء ] رواه النسائي فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلف ما يفي بالحجة الواجبة
فصل :
ويستناب عن الميت وإن لم يأذن لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر بالحج عنه ولا إذن له علم أن الإذن غير معتبر ولا يجوز النيابة عن الحي إلا بإذنه لأنه من أهل الإذن فلم تجز النيابة عنه بغير إذنه كأداء الزكاة وتجوز النيابة عنهما بحج التطوع لأن ما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فأما القادر على الحج بنفسه فلا تجوز له الاستنابة في الفرض لأنه عليه في بدنه فلا ينتقل عنه إلا في موضع الرخصة للحاجة المعلومة وبقي فيما عداه
فصل :
ولا يجوز أن ينوب في الحج من لم يسقط فرضه عن نفسه لما روى ابن عباس قال أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من شبرمة قال : قريب لي قال : هل حججت قط ؟ قال : لا قال : فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة ] رواه أبو داود ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياسا على الحج ولا يجوز أن يتنفل بهما من لم يسقط فرضهما ولا أن يؤدي النذر فيهما وعليه فرضهما لأن التنفل والنذر أضعف من حج الإسلام فلم يجز تقديمهما عليه كالحج عن غيره فإن أحرم عن غيره أو نذر أو نفل قبل فرضه انقلب إحرامه لنفسه عن فرضه
وعنه : يقع عن غيره ونذره ونفله لقول النبي ( ص ) : [ إنما لامرئ ما نوى ] والأول المذهب لحديث ابن عباس في الحج عن غيره ووجود معناه في النذر و النفل ولو أمر المعضوب من يحج عنه طوعا أو نفلا أو نذرا وعليه حجة الإسلام انصرف إليها لأن فعل نائبه كفعله وهكذا إن حج عن الميت نذرا أو نفلا قبل حجة الإسلام وإن استنيب عنهما من يحج النذر والفرض في عام واحد صح لأنه لم يتقدم النذر على حجة الإسلام وأي النائبين أحرم أولا وقع عن حجة الإسلام لتحريم تقديم النذر عليها وإن استنابه اثنان فأحرم عنهما لم يقع على واحد منهما ووقع عن نفسه لأنه يتعذر وقوعه عنهما وليس أحدهما أولى به من الآخر
وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه احتمل ذلك أيضا لذلك واحتمل صحته لأن الإحرام يصح مبهما فصح عن المجهول وله صرفه إلى من شاء منهما فإن لم يصرفه حتى طاف شوطا لم يجز عن واحد منهما لأن هذا الفعل لا يلحقه فسخ وليس أحدهما أولى به من الآخر وإن أحرم عن أحدهما وعن نفسه انصرف إلى نفسه لأنه لما تعذر وقوعه عنهما كان هو أولى به

كتاب الاعتكاف
وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه وهو مستحب لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه وليس بواجب لأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعلوه ولا أمروا به إلا من أراده ويجب بالنذر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ] رواه البخاري
فصل :
ويصح من الرجال والنساء وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها لأنه يملك استمتاعها فلا تملك تفويته بغير إذنه وليس للعبد الاعتكاف بغير إذن سيده لأنه يملك نفعه فإن أذن لهما صح منهما لأن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم كن يعتكفن بإذنه وإن شرعا فيه تطوعا فلهما إخراجهما منه وإن كان بإذنهما لأنهلا يلزم بالشروع فيه وإن كان منذورا مأذونا فيه لم يجز إخراجهما منه سواء كان معينا أو مطلقا لأنه يتعين بالشروع ويجب إتمامه فلم يجز التحليل منه كالصوم وإن كان النذر والدخول فيه بغير إذن فلهما منعهما من ابتدائه وإخراجهما منه بعد الشروع فيه لأنه نذر يتضمن تفويت منافع مملوكة لغيرهما فأشبه نذر عارية عبد غيره
فصل :
والمكاتب كالحر في الاعتكاف لأنه لا حق للسيد في نفعه ومن نصفه حر إن لم يكن بينهما مهايأة فهو كالقن لتعلق حق سيده بنفعه في زمن اعتكافه وإن كان بينهما مهايأة فهو في زمن سيده كالقن وفي زمن نفسه كالحر لعدم حق السيد فيه
فصل :
ولا يصح إلا بنية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الأعمال بالنيات ] ولأنه عبادة محضة فأشبه الصوم وإن كان فرضا لزمه نية الفرضية ليميزه عن التطوع كصوم الفرض وإن نوى الخروج منعه ففيه وجهان :
أحدهما : يبطل كما لو قطع نية الصوم
والثاني لا يبطل لأنه قربة تتعلق بمكان فلا يخرج منها بنية الخروج كالحج
فصل :
ويصح بغير صوم وعنه : لا يصح إلا به لما روى ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ اعتكف وصم ] رواه أبو داود
والمذهب الأول لما روي عن عمر أنه قال : يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أوف بنذرك ] متفق عليه ولو كان الصوم شرطا لم يصح في الليل منفردا ولأن كل عبادة صح بعضها بغير صوم صح جميعها بغيره كالحج والأفضل الصوم ليجمعوا بين العبادتين ويخرج من الخلاف فعلى هذه الرواية يصح اعتكاف ليلة وبعض يوم وعلى الأخرى لا يصح أقل من زمن يصح فيه الصوم وإن نذر أن يعتكف بصوم لزمه لأنه صفة مقصودة في الاعتكاف فلزم بالنذر كالتتابع
فصل :
ولا يصح من رجل ولا امرأة إلا في المسجد لقول الله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة لأنها واجبة عليه فلا يجوز تركها ولا كثرة الخروج الذي يمكن التحرز منه والأفضل أن يعتكف في الجامع لأن ثواب الجماعة فيه أكثر ويصح من المرأة في جميع المساجد لعدم وجوب الجماعة عيها
ومن نذر الاعتكاف في مسجد بعينه جاز الاعتكاف في غيره لأن الله تعالى لم يعين لأداء الفرض موضعا فلم يتعين بالنذر إلا المساجد التي قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] متفق عليه فإنها تتعين بالنذر فإن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجزئه الاعتكاف في غيره لأنه أفضلها وإن نذره في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام لفضله عليه ولم يجز في المسجد الأقصى لأنه مفضول وإن نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له الاعتكاف فيهما لأنهما أفضل منه بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ] رواه مسلم
وفي المسند عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا قال يوم الفتح : يا نبي الله إني نذرت لأصلين في بيت المقدس فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ والذي بعث محمدا بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس ]
فصل :
فإن عين بنذره زمنا تعين ولزمه أن يعتكف فيه لأن الله تعالى عين لعباده زمنا فتعين بالنذر فإن نزر اعتكاف العشر الأواخر لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين ويخرج منه بعد غروب شمس الشهر لأن ذلك هو العشر تاما كان الشهر أو ناقصا
وعنه : أنه يدخل معتكفه إذا صلى الصبح لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي الصبح ثم يدخل معتكفه متفق عليه وإن نذرت عشر ليالي من الشهر فخرج الشهر ناقصا لزمه قضاء ليلة عن العاشرة لأنه صرح بذلك وإن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس من أوله ويخرج منه بعد غروبها من آخره تاما كان الشهر أو ناقصا لأنه ذلك هو الشهر وإن نذر اعتكاف شهر مطلق خير بين اعتكاف ما بين هلالين وبين اعتكاف ثلاثين يوما بالعدد لأن شهر العدد ثلاثون يوما ويلزمه التتابع لأن الشهر بإطلاقه ينصرف إلى المتتابع فلزمه كما لو نزر يوما وفيه وجه آخر لا يلزمه التتابع لأنه معنى يصح فيه التفريق فلم يجب التتابع فيه بمطلق النذر كما لو نذر اعتكاف ثلاثين يوما ويدخل في نذره الليل والنهار لأن الشهر عبارة عنهما وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوما لم يلزمه التتابع لأن الأيام المطلقة توجد بدون التتابع والنذر يقتضي ما يتناوله لفظه
وقال القاضي : يلزمه التتابع لما ذكرنا في الشهر فعلى قوله تدخل الليالي في نذره وعلى الأول لا تدخل الليالي إلا أن ينويها أو يشترطها بلفظه لأن اليوم اسم لبياض النهار والتثنية والجمع تكرار للواحد فإن شرط التتابع لزمه ودخل في نذره الليالي التي فيه خلل الأيام وكذلك إذا نذر الليالي متتابعة دخل في نذره الأيام التي في خللها لأن ذلك يدخل في خلل نذره المتتابع فلزمه كأيام العشر وإن نذر اعتكاف يوم لزمه دخول معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد مغيب الشمس ليستوفي اليوم يقينا ولا يجوز تفريق ذلك في ساعات لأن اليوم اسم للكامل المتتابع فإن قال : لله تعالى علي أن أعتكف أيام هذا الشهر أو لياليه أو شهرا بالليل أو بالنهار لزمه ما نذر ولم يدخل فيه ما سواه لأنه إنما يلزمه بلفظه فيجب ما يتناوله اللفظ وإن نذر اعتكافا معينا متتابعا ففاته لزمه قضاؤه متتابعا لأن التتابع صفة فيه فلم يجز الإخلال بها في القضاء
وإن لم يقل : متتابعا ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه التتابع لأن الأداء متتابع فأشبه ما لو تلفظ بالتتابع
والثاني : لا يلزمه لأن التتابع في الأداء حصل ضرورة التعيين لا من نذره فلم يجب في القضاء كقضاء رمضان فإن لم يكن التتابع واجبا في الأداء لم يجب القضاء بطريق الأولى
فصل :
ولا يجوز الخروج من المسجد إلا لما لا بد له منه لما روت عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان متفق عليه ولا خلاف في جواز الخروج لحاجة الإنسان وإن احتاج إلى مأكول أو مشروب وليس له من يأتيه به فله الخروج إليه لأنه مما لا بد له منه وإن حضرت الجمعة وهو في غير موضعها فله الخروج إليها لأنها واجبة بأصل الشرع فلم يجز تركها بالاعتكاف كالوضوء : وإن دعي إلى إقامة شهادة تعينت عليه أو صلاة جنازة تعينت عليه أو دفنها أو حملها فعليه الخروج لذلك لأن وجوبه آكد لكونه حق آدمي ولا يبطل اعتكافه بشيء من هذا ما لم يطل الزمان لأنه خروج يسير مباح لم يبطل به الاعتكاف كحاجة الإنسان
فصل :
وإذا خرج لذلك فليس عليه العجلة في مشيه أكثر من عادته لأن ذلك يشق عليه ويجوز أن يسأل على المريض أو غيره في طريقه ولا يعرج إليه ولا يقف لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة متفق عليه ولأنه بالوقوف يترك اعتكاف وبالسؤال لا يتركه وإن احتاج إلى قضاء الحاجة وثم سقاية أقرب من منزله وأمكنه التنظيف فيها وهو ممن لا يحتشم من دخولها ولا نقص عليه فيه : لم يكن له المضي إلى منزله لأنه خروج لغير حاجة وإن كان له منزلان فليس له قصد الأبعد لذلك فإن خشي ضررا أو نقصا في مروءته أو انتظارا طويلا فله قصد منزله وإن بعد فإن بذل له صديق أو غيره الوضوء في منزله لم يلزمه لأنه يحتشم ويشق عليه
فصل :
لا يخرج لعيادة مريض ولا حضور جنازة لم تتعين عليه
وعنه : أنه يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ويقضي الحاجة ويعود إلى معتكفه لأن ذاك يروى عن علي رضي الله عنه والأولى أولى لقول عائشة رضي الله عنها : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه رواه أبو داود ولكن إن كان متطوعا فله ترك اعتكافه لفعل ذلك ثم يعود إلى الاعتكاف وإن كان واجبا لم يجز له تركه لما ليس بواجب وإن شرط فعل ذلك في نذره فله فعله وكذلك إن شرط العشاء في أهله جاز لأنه يجب بعقده فكان الشرط فيه إليه كالوقوف وإن شرط أنه متى مرض أو عرض له عارض خرج جاز شرطه لذلك وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد لم يصح شرطه لأن هذا ينافي الاعتكاف فلم يصح شرطه كتركه الإقامة في المسجد
فصل :
وإن خرج لما له منه بد بطل اعتكافه فإن كان ناسيا فقال القاضي : لا يبطل لأنه فعل المنهي عنه في العبادة ناسيا فلم يبطلها كالأكل في الصوم وقال ابن عقيل : يبطلها لأنه ترك الاعتكاف فاستوى عمده وسهوه كترك النية وحكم المكره حكم الناسي لأنه في معناه في العفو بالخبر الوارد فيهما وإن أخرج بعض جسده جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله متفق عليه وله صعود سطح المسجد لأنه منه ولهذا منع الجنب من اللبث فيه وفي رحبة المسجد ما يدل على روايتين وجمع القاضي بينهما بحملهما على حالين فقال : إن كان عليها حائط وباب فهي كالمسجد لأنها معه تابعة له وإن لم تكن محوطة لم يثبت لها حكمه وإن خرج إلى منارة خارجة من المسجد بطل اعتكافه لأنها ليست منه قال أبو الخطاب : ويحتمل أن لا يبطل لأنها منارة المسجد كالمتصلة به
فصل :
وإذا دعت الحاجة إلى ترك الاعتكاف لأمر لا بد منه كحيض المرأة أو نفاسها أو وجوب الاعتداد عليها في منزلها أو لمرض يتعذر معه الاعتكاف إلا بمشقة شديدة أو لوقوع فتنة يخاف منها على نفسه أو ماله أو منزله أو لعموم النفير والاحتياج إلى خروجه فله ترك الاعتكاف لأن هذا يسقط به الواجب بأصل الشرع وهو الجمعة والجماعة فغيره أولى وإذا زال العذر والاعتكاف تطوع فإن شاء رجع إليه وإن شاء لم يرجع لأنه لا يلزم بالشروع وإن كان منذورا لم يخل من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون نذر أياما معلومة مطلقة فعليه إتمام باقيها حسب لأنه يأتي بالمنذور على وجهه
الثاني : نذر أياما متتابعة غير معنية فهو مخير بين البناء والقضاء وكفارة يمين وبين أن يبتدئها ولا كفارة عليه
الثالث : نذر مدة معينة فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين لتركه فعل المنذور في وقته إلا في الحيض والنفاس فإنه لا كفارة في الخروج له لأنه خروج لعذر معتاد فأشبه الخروج لحاجة الإنسان
وذكر القاضي : أن كل خروج لواجب كالشهادة المتعينة والنفير العام وقضاء العدة فلا كفارة فيه لأنه خروج واجب أشبه الخروج للحيض وذكر أبو الخطاب رواية تدل على أن كل من ترك المنذور لعذر لا كفارة عليه قياسا على خروج الحائض من الاعتكاف
فصل :
ويحرم على المعتكف الوطء لقول الله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فإن وطئ فسد اعتكافه لأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها كالصوم والحج والعامد والساهي سواء لأن الجماع في العبادة يستوي عمده وسهوه بدليل الحج والصوم ولا كفارة عليه نص عليه
وعنه : عليه الكفارة لأنها عبادة يفسدها الوطء فوجب به الكفارة كالحج
والأول : المذهب لأنها عبادة لا تجب بأصل الشرع ولا تلزم بالشروع فلا يجب بإفسادها كفارة كصوم غير رمضان وهذا ينقض القياس الأول
واختلف موجبوا الكفارة فيها :
فقال القاضي : هي ككفارة الوطء في رمضان قياسا لها عليها
وعن أبي بكر : هي كفارة يمين لأنها كفارة نذر فكانت كفارة يمين كسائر كفاراته وأما المباشرة فيما دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فهي مباحة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله وهو معتكف وإن كانت لشهوة فهي محرمة لقول عائشة : السنة للمعتكف أن لا يمس امرأة ولا يباشرها رواه أبو داود
فإن فعل فأنزل أفسد اعتكافه وإلا فلا كقولنا في الصوم وإن شرب مسكرا أو ارتد فسد اعتكافه لأنه خرج بذلك عن أن يكون من أهل المسجد فصار كالخارج منه وكل موضوع فسد اعتكافه التطوع فلا قضاء عليه ولا غيره لأنه لا يلزم بالشروع فهو كصوم النفل وإن كان نذرا متتابعا بطل ما مضى منه واستأنف لأن التتابع وصف في الاعتكاف أمكن أن يأتي به فلزمه كعدة الأيام وإن كان نذره مدة معينة ففيه وجهان :
أحدهما : يبطل ما مضى ويستأنف لأنه اعتكاف متتابع فأشبه المقيد بالتتابع لفظا
والثاني : لا يبطل الماضي ويستأنف لأن التتابع حصل ضرورة التعيين والتعيين مصرح به في النذر فالمحافظة على المصرح به أولى فعلى هذا يقضي ما أفسده ويتم كما لو أفسد لعذر وعليه كفارة في الوجهين جميعا
فصل :
وليس للمعتكف بيع ولا شراء إلا لما لا بد منه كالطعام ونحوه ولا يتكسب بالصنعة لأن الاعتكاف لزوم طاعة الله وعبادته في المسجد والتجارة فيه تنافيه فإن النبي ( ص ) نهى عن البيع والشراء في المسجد وهو حديث حسن فإن خرج ترك اعتكافه ولا يخيط في المسجد ولا يعمل صنعة سواء كان محتاجا إلى ذلك أو لو يكن لأن المسجد لم يبن لذلك قال أحمد رضي الله عنه في المعتكف يخيط : لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يعمل وإن فعل شيئا من ذلك في المسجد لم يفسد اعتكافه لأنه لا ينافيه
فصل :
وليس له أن يبول في المسجد في إناء لأن هذا يقبح ويفحش فوجب صيانة المسجد عنه كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله وإن أراد الفصد أو الحجامة أو القيء فيه فهو كذلك لأنه إراقة النجاسة فهو كالبول وإن دعت إلى ذلك ضرورة خرج من المسجد ففعله كما يخرج لحاجة الإنسان وإن استغنى عنه فليس له فعله و للمستحاضة الاعتكاف وتحترز بما يمنع تلويث المسجد لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : اعتكفت مع رسول الله ( ص ) في المسجد امرأة من نسائه فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي أخرجه البخاري ولأن هذا لا يمنع الصلاة فلم يمنع الاعتكاف بخلاف ما قبله
فصل :
ويجوز للمعتكف الأكل في المسجد ويضع سفرة أو غيرها يسقط عليها ما يقع منه كيلا يتلوث المسجد ويغسل يده في طست ليفرغ خارج المسجد ولا يجوز له الخروج لغسل يديه لأنه خروج لما له منه بد وله أن يتنظف ويرجل شعره ويغسله لأن النبي ( ص ) كان يفعله وهو معتكف وله أن يتطيب ويلبس رفيع الثياب لأن هذه عبادة لا تحرم اللباس فلا تحرم ذلك كالصوم وله أن يتزوج ويشهد النكاح لذلك وله أن يحدث غيره ويأمر بحاجته لما روت صفية رضي الله عنها : أن رسول الله ( ص ) كان معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني متفق عليه
فصل :
ويستحب له التشاغل بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن واجتناب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش والإكثار من الكلام فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففي الاعتكاف الذي هو استشعار بطاعة الله تعالى ولزوم عبادته وبيته أولى ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك لن لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحرمه كالصوم
فصل :
فأما التزام الصمت فليس من شريعة الإسلام لما روى قيس بن مسلم قال : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس فرآها لا تتكلم فقال : ما لها لا تتكلم ؟ فقالوا : حجت مصمتة فقال لها : تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت رواه البخاري وعن علي رضي الله عنه عن رسول الله ( ص ) أنه قال : [ لا صمات يوم إلى الليل ] رواه أبو داود فإن نذر ذلك فهو كنذر المعاصي على ما سيأتي
قال ابن عقيل : ولا يجوز جعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما هو له فهو كتوسد المصحف وقد جاء : لا يناظر بكتاب الله أي : لا يتكلم به عند الشيء تراه كأن ترى لرجلا جاء في وقته فتقول : وجئت على قدر يا موسى وذكر أبو عبيد نحو هذا
فصل :
وأما قراءة القرآن وتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ومذاكرتهم وكتابة العلم فحكي فيه روايتان :
إحداهما : يستحب اختارها أبو الخطاب لأن ذلك أفضل العبادات لتعدي نفعه و يمكن فعله في المسجد فكان مستحبا له كالصلاة
والثانية : لا يستحب وهو ظاهر المذهب لأن الاعتكاف عبادة شرط لها المسجد فلم يستحب ذلك فيها كالطواف والصلاة وعلى هذه الرواية فعله لهذه الأمور أفضل من اعتكافه الشاغل عنها قال المروذي : قلت لأبي عبد الله إن رجلا يقرئ في المسجد يريد أن يعتكف لعله أن يختم في كل يوم ؟ فقال : إذا فعل هذا كان لنفسه وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره يقرئ أحب إلي
فصل :
ومن اعتكف العشر الأخير من رمضان استحب أن يبيت ليلة الفطر في معتكفه ثم يخرج من المصلى في ثياب اعتكافه لأن أبا قلابة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأب مجلز والمطلب بن حنطب وإبراهيم النخعي كانوا يستحبون ذلك ولأنها ليلة تتلو العشر ورد الشرع بالترغيب في قيامها والعبادة فيها فأشبهت ليالي العشر والله سبحانه وتعالى أعلم

باب المواقيت
وللحج ميقاتان :
ميقات مكان وميقات زمان فأما ميقات المكان فالمنصوص عليه خمسة لما روى ابن عباس قال : وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم قال : [ فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها ] متفق عليه وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقت لأهل العراق ذات عرق رواه أبو داود فهذه المواقيت لكل من مر عليها من أهلها ومن غيرهم للخبر ومن منزله بين الميقات ومكة فميقاته : منزله للخبر وميقات من بمكة منها وسواء في ذلك أهلها أو غيرهم للخبر ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر المتمتعين من أصحابه فأحرموا منها وعنه فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة : أهل من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم وذكر القاضي فيمن دخل مكة محرما عن غيره بحج أو عمرة ثم أراد أن يحج عن نفسه أو دخل مكة محرما لنفسه ثم أراد أن يحرم عن غيره بحج أو عمرة أنه يلزمه الإحرام من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم لأنه جاز الميقات مريدا للنسك لنفسه وأحرم دونه فلزمه دم كما لو تجاوزه غير محرم ولنا الخبر وإن كل ميقات لمن أتى عليه فكذلك مكة ولأن هذا حصل بمكة حلالا على وجه مباح فكان له الإحرام منها بلا دم كما لو كان الإحرامان لشخص واحد ومن أي موضع في مكة أحرم جاز لأنها كلها موضع للنسك وإن أحرم خارجا منها من الحرم جاز أيضا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه في حجة الوداع : [ إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء ] وهي خارج من مكة ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت البلدة فيه وغيرها كالبحر وميقات العمرة للمكي ومن في الحرم من الحل لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أخاها عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم متفق عليه وكانت بمكة يومئذ ومن أي الحل أحرم جاز لأن المقصود بالإحرام منه الجمع بين الحل والحرم في النسك لأن أفعال العمرة كلها في الحرم إلا الإحرام بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الحل للوقوف بعرفة فيحصل الجمع بين الحل والحرم
فصل :
ومن جاوز الميقات مريدا لموضع قبل مكة ثم بدا له الإحرام أحرم من موضعه كما أن من دخل مكة يحرم منها وإن مر به كافر أو عبد أو صبي فأسلم الكافر وأعتق العبد و بلغ الصبي دونه أحرموا من موضعهم ولا دم عليهم لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام فيه فأشبهوا المكي والمتجاوز غير مريد لمكة
وعنه في الكافر يسلم : يخرج إلى الميقات فإن خشي الفوات أحرم من موضعه وعليه دم والصبي والعبد في معناه لأنهم تجاوزوا الميقات غير محرمين قال أبو بكر : وبالأول أقول وهو أصح لما ذكرناه ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم لما روى ابن عمر قال لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حد لأهل نجد قرنا وهو جور عن طريقنا و إنا إن أردنا قرن شق علينا قال : فانظروا وخذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق رواه البخاري ولأن هذا مما يدخله الاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه على الإنسان صار إلى اجتهاده فيه كالقبلة فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم قبله لأن تقديم الإحرام عليه جائز وتأخيره حرام
فصل :
والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات لأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه أحرموا من ذي الحليفة فإن أحرم قبله جاز لأن الصبي بن معبد أحرم قبل الميقات قارنا فذكر ذلك لعمر فقال : هديت لسنة نبيك ومن بلغ الميقات مريدا للنسك لم يجز له تجاوزه بغير إحرام لما تقدم من حديث ابن عباس فإن تجاوزه غير محرم لزمه الرجوع ليحرم منه لأن من قدر على فعل الواجب لزمه فإن رجع فأحرم منه فلا دم عليه لأنه أدى الواجب فأشبه من لم يتجاوزه فإن لم يمكنه الرجوع لخوف أو خشية الفوات فأحرم من موضعه أو أحرم من موضعه لغير عذر فعليه دم لأنه ترك الواجب من مناسك الحج فإن رجع بعد ذلك إلى الميقات لم يسقط الدم لأنه استقر عليه بإحرام من دونه فأشبه من لم يرجع فإن أحرم المكي بالحج من الحل الذي يلي عرفة فهو كالمحرم من دون الميقات وإن أحرم من الحل الذي يلي الجانب الآخر ثم سلك الحرم فهو كالمحرم قبل الميقات وإن أحرم بالعمرة من الحرم انعقد إحرامه كالذي يحرم بعد ميقاته ثم إن خرج قبل الطواف إلى الحل وعاد ففعل أفعاله تمت عمرته وعليه دم وإن لم يخرج وفعل أفعالها ففيه وجهان :
أحدهما : يجزئه ويجبرها بدم كالذي يحرم من دون ميقاته
والثاني : لا يجزئه لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج فعلى هذا لا يعيد بأفعاله وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها
فصل :
وميقات الزمان : شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة لقول الله تعالى : { الحج أشهر معلومات } معناه : وقت الحج لأن الحج أفعال وليس بأشهر فلم يكن بد من التقدير وعن ابن مسعود وجابر بن الزبير أنهم قالوا : أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة والاختيار أن لا يحرم بالحج قبل أشهره لأنه تقديم للعبادة على وقتها فكره كتقديمها على ميقات المكان فإن فعل انعقد إحرامه لأنه أحد الميقاتين فانعقد الإحرام بالحج قبله كالآخر فأما العمرة فلا ميقات لها في الزمان ويجوز الإحرام بها في جميع السنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عمرة في رمضان تعدل حجه ] متفق عليه واعتمر في ذي القعدة وفي ذي الحجة مع حجته رواه أنس وهو حديث صحيح

باب الإحرام
يستحب الغسل للإحرام لما روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم تجرد لإهلاله واغتسل حديث حسن وعن جابر قال : أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمدا بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف أصنع ؟ قال : [ اغتسلي و استثفري بثوب وأحرمي ] رواه مسلم فإن لم يجد ماء لم يتيمم لأنه غسل مسنون يراد للتنظيف فلا يسن التيمم عند العجز عنه كغسل الجمعة وقال القاضي : يستحب له التيمم قياسا على غسل الجنابة ويستحب له التنظيف بإزالة الشعر والشعث وقطع الرائحة وتقليم الأظفار لأن الغسل شرع لذلك ثم يتجرد من المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين ] ويستحب أن يتطيب في بدنه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه و سلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت وقالت : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو محرم متفق عليهما ولا يتطيب في ثوبه فإن فعل فله استدامته حتى ينزعه فمتى نزعه ثم لبسه فعليه الفدية لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب دون استدامته ولو نقل الطيب عن بدنه من موضع إلى موضع آخر فعليه الفدية وإن سال بالحر وغيره إلى موضع آخر فلا فدية عليه لأنه ليس من جهته
فصل :
ويستحب أن يحرم عقيب صلاة إما مكتوبة أو نافلة وروى الأثرم قال : سألت أبا عبد الله : أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به ناقته ؟ فقال : كل قد جاء في دبر الصلاة وإذا علا البيداء وإذا استوت به ناقته فوسع فيه كله
والمشهور الأول لما روى سعيد بن جبير قال : ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أوجب رسول الله صلى الله عليه و سلم حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم راحلته واستوت به قائمة أهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا : أهل حين استوت به راحلته وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ثم سار حتى علا البيداء فأهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا : أهل حين علا البيداء رواه أبو داود وهذا فيه فضل بيان وزيادة علم فيتعين الأخذ به وتقديمه على ما خالفه
فصل :
وينوي الإحرام بقلبه ولا ينعقد من غير نية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الأعمال بالنيات ] ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة فإن لبى من غير نية لم يصر محرما وإن نوى الإحرام من غير تلبية انعقد إحرامه لأنه عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب في أولها كالصوم فإن نوى إحراما فسبق لسانه إلى غيره انعقد إحرامه بما نواه دون ما نطق به لأن النية هي الإحرام فاعتبرت دون النطق
فصل :
ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويعينه ويشترط فيه : أن محلي حيث يحبسني فيقول : اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني فإن حبسني حابس فمحلي حيث يحبسني لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج وعنها قالت : دخل النبي صلى الله عليه و سلم على ضباعة بنت الزبير فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال : [ حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ] متفق عليهما ويفيد هذا الشرط شيئين :
أحدهما : أنه متى عاقه عائق من مرض أو غيره فله التحلل
والثاني : أنه إذا حل لذلك فلا شيء عليه من دم ولا غيره وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يجري مجراه قال ابن مسعود : اللهم إني أريد العمرة إن تيست لي وإلا فلا حرج علي لأن المقصود المعنى وإنما أعتبر اللفظ لتأديته له
فصل :
ويجوز الإحرام بنسك مطلق وله صرفه إلى أيها شاء وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان صح لما روى أبو موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي : [ بم أهللت ؟ قلت : لبيك بإهلال كإهلال رسول الله قال : أحسنت ] فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا و المروة ثم أمرني أن أحل متفق عليه ثم إن تبين له ما أحرم فلان فإحرامه مثله وإن تبين أن فلانا لم يحرم فله صرفه إلى ما شاء كالمطلق لأنه عقد الإحرام وعلق عين النسك على إحرام فلان فلما لم يحرم فلان بطل التعيين وبقي المطلق
وإن علم أن فلانا احرم ولم يعلم بما أحرم أو شك هل أحرم أم لا فهو كالناسي لإحرامه وللناسي لما أحرم به صرفه إلى أي نسك شاء لأنه إن صادف ما أحرم به فقد أصاب وإن صرفه إلى عمرة وكان إحرامه بغيرها فإن فسخه إليها جائز مع العلم فمع الجهل أولى فإن صرفه إلى قران وكان إحرامه بعمرة فقد أدخل عليها الحج وهو جائز وإن كان مفردا فقد أدخل العمرة على الحج وهو لغو لا يفيد ولا يقدح في حجه كما لو فعله مع العلم
وإن صرفه إلى الإفراد وكان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة فصار قارنا ولا تبطل العمرة بترك نيتها فإن كان قارنا فهو على حاله لذلك
والنصوص عن أحمد رضي الله عنه أنه يجعل المنسي عمرة
قال القاضي : هذا على سبيل الاستحباب لأن ذلك مستحب مع العلم فمع عدمه أولى فعلى هذا إن صرفه إلى عمرة فهو متمتع حكمه حكم من فسخ الحج إلى العمرة وإن صرفه إلى القران لم يجزئه عن العمرة إذ من المحتمل أن يكون مفردا فلم يصح إدخال العمرة على حجة ولا يلزمه دم القران لأنه شاك فيما يوجبه ويصح له الحج هاهنا وفيما إذا صرفه إلى الإفراد فإن كان شكه بعد الطواف لم يكن له صرفه إلا إلى العمرة لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز فإن صرفه إلى إفراد أو قران تحلل بأفعال الحج ولم تجزئه عن واحد من النسكين لأنه شاك في صحته ولا دم عليه للشك فيما يوجبه إلا أن يكون معه هدي فيجزئه عن الحج لأن إدخال الحج على العمرة في حقه جائز بعد الطواف
فصل :
وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد إحرامه بإحداهما ولا يلزمه للأخرى قضاء ولا غيره لأنهما عبادتان لا يلزم المضي فيهما فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين ولو أفسد نسكه ثم أحرم بغيره من جنسه لم يلزمه للثاني شيء ولم يصح لذلك
فصل :
وهو مخير إن شاء أحرم متمتعا أو مفردا قارنا لحديث عائشة والتمتع : هو الإحرام بعمرة من الميقات فإن فرغ منها أحرم بالحج من مكة في عامه والإفراد : الإحرام بالحج مفردا والقران : الإحرام بهما معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الإحرام بالحج قبل الطواف لما روت عائشة قالت : أهللنا بعمرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كان معه هدي فليحل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ] متفق عليه فإن أحرم بحج ثم أدخل عليه عمرة لم يصح ولم يصر قارنا لأنه لم يرد بذلك أثر ولا هو في معنى ما جاء به الأثر لأن إحرامه بها لا يزيده عملا على ما لزمه بإحرام الحج ولا بغير ترتيبه بخلاف إدخال الحج على العمرة ومن طاف للعمرة ثم أحرم بالحج معها لم يصح لأنه قد أتى بمقصودها وشرع في التحلل منها إلا أن يكون معه هدي فله ذلك لأن من ساق هديا لا يجوز له التحلل حتى ينحر هديه لقول الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } فلا يتحلل بطواف ويتعين عليه إدخال الحج على العمرة ويصير قارنا بخلاف غيره
فصل :
وأفضل الأنساك التمتع لما روى جابر أنه مع النبي صلى الله عليه و سلم وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم : [ حلوا من إحرامكم بطواف بالبيت ومن الصفا و المروة وقصروا وأقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة ] فقالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج ؟ قال : [ افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثلما أمرتكم به ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ] قال : ففعلوا متفق عليه وعنه : إن ساق الهدي فالقران أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يحل إذا كان معه الهدي وقد روى أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرن بين الحج والعمرة ] متفق عليه والأول أصح لقول النبي ( ص ) : [ لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت ] فيدل هذا على فضيلة المتعة وقد روى عمر وعلي وسعد وابن عمر و حفصة وعائشة وعمران بن حصين رضوان الله عليهم أن النبي ( ص ) كان متمتعا وإنما منعه الحل سوق الهدي ومعنى حديث أنس : أن النبي ( ص ) أدخل الحج على العمرة حين امتنع عليه الحل منها ثم بعد التمتع والإفراد لأنه يأتي بنسكين كاملين و القارن يقتصر على عمل الحج ثم القران بعدهما
فصل :
ويستحب للقارن والمفرد إذا لم يكن معهما هدي أن يفسخا نيتهما بالحج وينويا عمرة مفردة ويحلا من إحرامهما بطواف وسعي وتقصير ليصيرا متمتعين لحديث جابر
ويروى عن إبراهيم الحربي أنه قال : قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة تقول بفسخ الحج ! فقال أحمد : وقد كنت أرى أن لك عقلا عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا جيادا كلها في فسخ الحج أتركها لقولك ! فأما من ساق الهدي فليس له ذلك للحديث ولقول الله تعالى : { لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }
فصل :
ويجب على المتمتع دم لقول الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } والدم الواجب شاة أو سبع بدنة للآية قال أبو حمزة : سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الدم فقال : فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم متفق عليه ولا يجب الدم إلا بشروط خمسة
أحدها : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقول الله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وحاضروا المسجد : أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة القصر لأن الحاضر القريب والقريب : دون مسافة القصر
الثاني : أن يعتمر في أشهر الحج لأن المعتمر من غير أشهره لم يجمع بين النسكين فلم يجب عليه دم كالمفرد ولو أحرم بالعمرة من غير أشهر الحج وحل منها في أشهره لم يكن متمتعا لأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به ولأنه أتى به من غير أشهر الحج فلم يصر متمتعا كالطواف
الثالث : أن يحج من عامه فإن أخر الحج إلى عام آخر لم يكن متمتعا لأن المتمتع بالعمرة إلى الحج يقضي الموالاة بينهما ولم يوال فأشبه المعتمر من غير أشهر الحج
الرابع : أن لا يسافر بينهما سفر يقصر فيه لما روي عن عمر رضي الله عنه قال : إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع فإن خرج ثم رجع فليس بمتمتع ولأنه إذا سافر لزمه الإحرام من الميقات أو من حيث انتهى إليه فلا يترفه بأحد السفرين فأشبه المفرد
الخامس : أن يحل من عمرته فإن أدخل عليها الحج لم يجب دم المتعة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : أهللنا بعمرة فقدمنا مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا و المروة فشكوت ذلك إلى رسول الله ( ص ) فقال : [ انقضي رأسك و امتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة ] قالت : ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله ( ص ) مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال : [ هذه مكان عمرتك ] فقضى الله حجها و عمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة متفق عليه ولأنه يصير قارنا أشبه ما لو أحرم بهما وذكر القاضي أنه يشترط أن ينوي في ابتداء العمرة أو أثناءها أنه متمتع لأنه جمع بين عبادتين فافتقر إلى النية كالجمع بين الصلاتين وظاهر الآية يدل على عدم اشتراط هذا لأنه يوجد المتمتع بدونه والترفه بترك أحد السفرين فلزمه دم كما لو نوى
فصل :
وفي وقت وجوبه روايتان :
إحداهما : إذا أحرم بالحج لقول الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } وبإحرام الحج يفعل ذلك فيجب الدم
والثانية : إذا وقف بعرفة لأن الحج لا يحصل إلا به وهو معرض للفوات قبله فلا يحصل التمتع فأما وقت ذبحه فقال أحمد : إن قدم مكة قبل العشر ومعه هدي نحره عن عمرته لئلا يضيع أو يموت أو يسرق فإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى لأن أصحاب النبي ( ص ) قدموا في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى فجوز النحر قبل إحرامه بالحج لأنه حق مال يتعلق بشيئين فجاز تقديمه على أحد سببيه كالزكاة
فصل :
فإن لم يجد الهدي فعله صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لقول الله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } وتعتبر القدرة في موضعه لأنه موقت له بدل فاعتبرت قدرته في وقته كالوضوء ووقت صيام الثلاثة قبل يوم النحر لقول الله تعالى : { في الحج } الحج والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة ليحصل صومها أو بعضه بعد إحرام وإن قدمه على ذلك بعد إحرام العمرة جاز لأنه وقت جاز فيه نحر الهدي فجاز فيه الصيام كبعد إحرام الحج ومعنى قوله : { في الحج } أي في وقته ولا يجوز تقديم النحر ولا الصوم قبل إحرام العمرة لأنه تقديم له على سببه فأشبه تقديم الزكاة على النصاب ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله للآية ولما روى ابن عمر أن النبي ( ص ) قال : [ فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ] متفق عليه فإن صامها بعد حجه بمكة أو في طريقه جاز لأنه صوم واجب جاز تأخيره في حق من يصح منه الصوم فجاز تقديمه كرمضان في حق المسافر ولا يجب التتابع في شيء من صوم المتعة لأن الأمر فيه مطلق فلم يجب التتابع فيه كقضاء رمضان فإن لم يصم الثلاث قبل أيام النحر صام أيام منى في إحدى الروايتين لقول ابن عمر وعائشة : لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا للممتع إذا لم يجد الهدي
والثانية : لا يصومها لنهي النبي ( ص ) عن صوم أيام التشريق ويصوم بعد ذلك عشرة أيام وهل يلزمه لتأخيره دم ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يلزمه لأنه آخر الواجب من المناسك عن وقته فلزمه دم كتأخير الجمار
والثانية : لا يلزمه دم لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته فلم يجب عليه بفواته كفارة كصوم رمضان
وقال القاضي : إن أخره لغير عذر لتفريطه لزمه وإن أخره لعذر لم يلزمه وإن أخر الهدي الواجب لعذر من ضياع نفقة ونحوها فليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدي الواجب وإن أخره لغير عذر ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلزمه إلا قضاؤه لذلك
الثانية : عليه هدي آخر لما روي عن ابن عباس أنه قال : من تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين ولأنه من نسك موقت فوجب بتأخيره دم كالرمي
فصل :
من دخل في الصوم ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه لأن الصوم شرع فيه لعدم الهدي فلم يلزمه الانتقال عنه كصوم السبعة وله الانتقال عنه كصوم السبعة وله الانتقال إليه لأنه الأصل وهو أكمل وإن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه حتى قدر على الهدي ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلزمه الهدي لأن الصوم استقر عليه أشبه الشارع فيه
والثانية : يلزمه لأنه وجد المبدل قبل شروعه في البدل أشبه الواجد له حال الوجوب
فصل :
ويجب على القارن دم لأنه يروى أن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ولأن القران نوع تمتع فيدخل فيه عموم الآية ولأنه ترفه بترك أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع ويشترط أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام وحكمه حكم دم المتعة فيما ذكرناه
فصل :
وإذا حاضت المتمتعة قبل الطواف للعمرة فخشيت فوات الحج أو خشي ذلك غيرها أحرم بالحج مع العمرة وصار قارنا لحديث عائشة ولأنه يجوز إدخال الحج على العمرة لغير عذر فمع خشية الفوات أولى
فصل :
وتجزئ عمرة القارن وعمرة المفرد من أدنى الحل عن عمرة الإسلام وعنه : لا تجزيان لقول النبي ( ص ) لعائشة لما أعمرها أخوها : [ هذه مكان عمرتك ] والصحيح : الأول لقول الصبي بن معبد لعمر إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما يعني أهللت بالمكتوبين فقال عمر : هديت لسنة نبيك ولأنها عمرة صحيحة فكانت مجزئة كعمرة المتمتع والمكي ولأن الحج مع تأكيده يجزئ الإحرام به من مكة فالعمرة من أدنى الحل أولى وأما حديث عائشة فهو حجة على إجزاء إحدى العمرتين المختلف فيهما ولا حجة فيه على عدم الإجزاء في الأخرى لأنه إنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لما سألته ذلك ولم يبدأها به
فصل :
ويسن للمحرم التلبية لأن النبي ( ص ) لبى ورفع صوته وأمر برفع الصوت بها وصفتها : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لما روى ابن عمر أن هذه تلبية رسول الله ( ص ) متفق عليه وتجوز الزيادة عليها لأن عمر زاد : لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهوبا ومرغوبا إليك لبيك وزاد ابنه : لبيك و سعديك والخير بيديك لبيك و الرغباء إليك والعمل وزاد أنس لبيك حقا حقا تعبدا ورقا وسمعهم النبي ( ص ) فلم ينكر ولا تستحب الزيادة لاقتصار النبي ( ص ) عنها قال جابر : وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله ( ص ) تلبيته رواه مسلم ويستحب أن يصلي على النبي ( ص ) بعدها لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر رسوله كالأذان ثم يسأل الله الجنة ويستعيذ من النار ويستحب ذكر إحرامه في تلبيته لقول أنس : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : [ لبيك عمرة وحجا ] متفق عليه وقول ابن عباس قدم رسول الله ( ص ) وأصحابه وهم يلبون بالحج قال أحمد : إذا لبى القارن بهما بدأ بالعمرة لحديث أنس وقال أبو الخطاب لا يستحب ذكر الإحرام فيها
فصل :
ويستحب البداءة بالتلبية إذا ركب راحلته لقول ابن عباس أوجب رسول الله ( ص ) الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل أي لبى ويستحب رفع الصوت بها لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال : [ أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ] حديث صحيح ولا يجهد نفسه بذلك لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته ولا ترفع المرأة صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها لأنه يخاف الافتتان بها ويستحب الإكثار منها لأنها ذكر ولأنه يروى عن رسول الله ( ص ) أنه قال : [ ما من مسلم يضحي لله يلي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه ] رواه ابن ماجة ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع : إذا علا نشزا أو هبط واديا أو تلبس بمحظور ناسيا وفي دبر الصلوات المكتوبات وإذا التقت الرفاق وفي إقبال الليل والنهار وبالأسحار لأن النخعي قال : كانوا يستحبون التلبية دبر الصلوات المكتوبة وإذا هبط واديا وإذا علا نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته ولأن في هذه المواضع ترتفع الأصوات ويكثر الضجيج وقد قال النبي ( ص ) : [ أفضل الحج : العج و الثج ] وهو حديث غريب و العج : رفع الصوت و الثج : إسالة الدماء وحكم التلبية دبر الصلاة حكم التكبير في أيام عيد النحر وتجزئ التلبية مرة واحدة لعدم الأثر في تكرارها ولا بأس بالزيادة لأنها زيادة ذكر وتستحب التلبية في المسجد الحرام ومنى وسائر مساجد الحرم وبقاعه لأنها مواضع النسك ولا يستحب إظهارها في مساجد الحل وأمصاره لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال : إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت

باب محظورات الإحرام
وهي تسعة أحدها : الجماع لقول الله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وقال ابن عباس الرفث : الجماع وتحرم المباشرة فيما دون الفرج لشهوة لأنه محرم للوطء فحرم المباشرة لشهوة كالصيام ويحرم عليه النظر لشهوة لأنه نوع استمتاع فأشبه المباشرة
فصل :
الثاني : عقد النكاح لا يجوز للمحرم أن يعقد لنفسه ولا لغيره ولا يجوز عقده لمحرم ولا على محرمة لما روى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب رواه مسلم ولأن الإحرام يحرم الطيب فحرم النكاح كالعدة وإن فعل فالنكاح باطل لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ولا بأس بالرجعة لأنها إمساك للزوجة بدليل قول الله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } ولأنها تجوز بغير ولي ولا شهود ولا إذنها فلم تحرم كإمساكها بترك الطلاق
وعنه : لا يحل لأنه عقد وضع لإباحة البضع أشبه النكاح ويجوز أن يشهد في النكاح لأن العقد الإيجاب والقبول وليس للشاهد فيهما شيء وتكره الخطبة للمحرم وخطبة المحرمة للخبر ولا يجب بالتزويج فدية لأنه عقد فسد للإحرام فأشبه شراء الصيد
فصل :
الثالث : قطع الشعر لقول الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } نص على حلق الرأس وقسنا عليه سائر شعر البدن لأنه يتنظف ويترفه به فأشبه حلق الرأس وقص الشعر وقطعه ونتفه كحلقه ولا يحرم عليه حلق شعر الحلال لأنه لا يترفه بذلك وإن خرج في عينه شعر أو استرسل شعر حاجبيه فغطى عينيه فله إزالته ولا فدي عليه لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذاه من غير فدية كالصيد وإن كان الأذى من غير الشعر كالقمل فيه والقروح برأسه أو صداع أو شدة الحر عليه لكثرة شعره فله إزالته وعليه الفدية لما نذكره ولأنه فعل المحرم لدفع ضرر غيره فلزمته الفدية كما لو قتل الصيد لمجاعة بخلاف من آذاه الشعر
فصل :
الرابع : تقليم الأظافر يحرم لأنه جزء ينمى ويترفه بإزالته أشبه الشعر وإن انكسر ظفره فله إزالته ولا فدية عليه كالشعر المؤذي وإن قص أكثر مما انكسر فعليه فديته وإن احتاج إلى مداواة قرحة لا يمكنه مداواتها إلا بقص ظفره فعل وعليه الفدية كحالق الرأس دفعا لأذى قمله
فصل :
الخامس : لبس المخيط يحرم عليه لبس كل ما عمل للبدن على قدره أو على قدر عضو منه كالقميص والبرنس والسراويل والخف لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا قال : يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحدا لا يجد نعلين فيلبس الخفين و ليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيء مسه زعفران أو ورس ] متفق عليه وسواء في هذا ما كان من خرق أو جلد مخيط بالإبر أو ملصق بعضه ببعض لأنه في معنى المخيط والتبان والران كالسراويل لأنه في معناه وإن شق الإزار وجعله ذيلين شدهما على ساقيه لم يجز لأنه كالسراويل وتجب الفدية باللبس لأنه محرم في الإحرام فتعلقت به الفردية كالحلق ولا يجوز له عقد ردائه عليه لأن ابن عمر قال : لا تعقد عليك شيئا ولأنه يصير بالعقد كالمخيط ولا يجوز له أن يزره عليه ولا يخله بشوكة ولا غيرها ولا يغرز طرفيه في إزاره لأنه في معنى عقده وله أن يعقد إزاره لأنه يحتاج إليه لستر العورة ولذلك جاز للمرأة لبس المخيط في إحرامها لكونها عورة وله أن يشد وسطه بعمامة أو حبل ولا يعقده ولكن يدخل بعضه في بعض وله أن يلبس الهميان الذي فيه نفقته ويدخل السيور بعضها في بعض فإن لم يثبت عقده لقول عائشة رضي الله عنها : أوثق عليه نفقتك ولأن هذا مما تدعو الحاجة إلى عقده فجاز الإزار فأما المنطقة وما لا نفقة فيه فلا يجوز عقده لعدم الحاجة إليه فإن احتاج إلى عقد المنطقة لوجع ظهره فعل وفدى نص عليه لأن هذا نادر فأشبه حلق الشعر لوجع الرأس
فأما القباء ونحوه فقال الخرقي : يطرحه على كتفيه ولا يدخل يديه في كميه لأنه لا يحيط ببدنه أشبه الاتشاح بالقميص
وقال القاضي : عليه الفدية لأنه لبس المخيط على العادة في لبسه فلزمه الفدية كما لو أدخل يديه في كميه ومن لم يجد إزارا فله لبس السراويل ولا فدية عليه لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من لم يجد إزارا فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ] متفق عليه ومن عدم الرداء لم يبح له لبس القميص لأنه يمكنه أن يرتدي به على صفته ولا يمكن أن يتأزر بالسراويل ومتى وجد الإزار لزمه خلع السراويل للخبر ويحرم على المحرم لبس الخفين للخبر فإن لم يجد نعلين لبس خفين ولا يقطعهما ولا فداء عليه لحديث ابن عباس وعنه : لا يلبسهما حتى يقطعهما أسفل من الكعبين فإن فعل افتدى لأن في حديث ابن عمر زيادة والزيادة من الثقة مقبولة وإن لبس خفا مقطوعا مع وجود النعل فعليه الفدية للخبر وليس له لبس الجمجم و اللالكة في ظاهر كلام أحمد لأنه في معنى الخف المقطوع فإن لم يجد النعلين فله لبس ذلك من غير فداء كالخفين
قال أحمد : لا يلبس نعلا لها قيد وهو السير المعترض على الزمام ويقطع العقب يعني الشراك
قال القاضي : إذا كانا عريضين يستران القدم فلا فدية فيه لأن حكمهما أخف من حكم الخف وقد أباح لبسه عند عدم النعل من غير قطع فها هنا أولى
ومن وجد نعلا لا يمكنه لبسها لبس الخف وافتدى نص عليه لأن إسقاط الفدية مشروط بعدم النعل والقياس أنه لا فدية عليه لأن العجز كالعدم في الانتقال إلى البدل وقد قام مقامه هاهنا في الجواز فكذلك في سقوط الفدية فأما المحرمة فلها لبس المخيط كله إلا النقاب والقفازين والبرقع وشبهه لما روى ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف رواه أحمد بإسناده
وروى البخاري منه : لا تتنقب المرأة ولا تلبس القفازين ولأن إحرام المرأة في وجهها حرم عليها تغطيته وإن احتاجت إلى سترة سدلت على وجهها من فوق رأسها ما يستره لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على رأسها فإذا جاوزونا كشفناه رواه أبو داود
قال القاضي : ويكون ما تسدله متجافيا ولا يصيب البشرة قال الشيخ رحمه الله : ولم أجد هذا عن أحمد ولا في الحديث والظاهر أنه غير معتبر
فصل :
السادس : تغطية الرأس لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن لبس العمائم ولقوله في الذي مات محرما [ لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ] ويحرم تغطية بعضه لأن النهي تناول جميعه ولا يجوز أن يعصبه بعصابة ولا سير ولا يجعل عليه شيئا يلصق به سواء كان فيه دواء أو لا دواء فيه ولا يطينه بطين ولا حناء ولا دواء يستره لأنه نوع تغطية وفيه الفداء لما ذكرنا في اللباس فإن حمل عليه طبقا أو وضع يده عليه فلا بأس لأنه لا يقصد به الستر ولو ترك فيه طيبا قبل إحرامه لم يمنع من استدامته لقول عائشة : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله وهو محرم ولا يمنع من تلبيده بصمغ وعسل ليتلبد ويجتمع الشعر فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إني لبدت رأسي ] و هو محرم متفق عليه ولا يمنع من تغطية وجهه لأن عثمان وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت أجازوه وعنه : يمنع منه لأنه في بعض لفظ حديث ابن عباس في الميت المحرم [ ولا تخمروا وجهه ولا رأسه ] متفق عليه وفي تظليل المحمل روايتان : إحداهما : ليس له أن يتظلل به لأن ابن عمر قال : أضح لمن أحرمت له أي : ابرز للشمس ولأنه ستر رأسه بما يقصد به الترفه أشبه تغطيته وتلزمه الفدية لما ذكرنا
والثانية : له أن يتظلل لأنه ليس بمباشر للرأس أشبه الخيمة وله أن يتظلل بثوب على عود لما روت أم الحصين قالت : حججت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة الوداع فرأيت أسامة و بلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه و سلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم ولا بأس بالتظلل بالخيمة والسقف والشجرة وأشباه ذلك لأنه لا يلازمه أشبه ظل الجبال والحيطان
فصل :
السابع : الطيب يحرم عليه استعماله في بدنه و ثيابه لقول النبي صلى الله عليه و سلم في الميت المحرم [ ولا تقربوه طيبا ] وقوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران ] وتجب به الفدية لما ذكرنا في اللباس ويحرم عليه المبخر بالطيب و المصبوغ به قياسا على المزعفر ولا يجوز أن يأكل طيبا ولا يكتحل به ولا يستعط به ولا يحتقن به لأنه استعمال للطيب وإن كان في الطعام طيب يظهر ريحه لم يجز أكله لأنه يأكل طيبا وإن لم يظهر له ريح جاز أكله وإن ظهر لونه وإن ظهر طعمه فظاهر كلام أحمد المنع منه لأن الطعم لا يكاد ينفك عن الرائحة وإن لبس ثوبا كان مطيبا فانقطع ريحه وكان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه فعليه الفدية لأنه مطيب وإلا فلا وإن فرش فوق المطيب ثوب صفيق يمنع الرائحة والمباشرة فلا فدية عليه بالنوم عليه وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه فعليه الفدية لأنه يمنع منه استعمال الطيب في ثيابه كما يمنع منه في بدنه والطيب كل ما يتطيب به أو يتخذ منه طيب كالمسك والكافور والعنبر والزعفران و الورس والورد والبنفسج و الأدهان المطيبة بشيء من ذلك كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها
وفي الريحان الفارسي روايتان :
إحداهما : ليس بطيب لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال في المحرم : يدخل البستان ويشم الريحان ولأنه إذا يبس ذهبت رائحته أشبه بنت البرية
والثانية : هو طيب لأنه يتخذ للطيب أشبه الورد في سائر النبات الطيب الرائحة الذي لا يتخذ منه طيب كالمرزنجوش والنرجس والبرم وجهان قياسا على الريحان وقال أبو الخطاب في الورد والخيري والبنفسج والياسمين روايتان كالريحان والصحيح أنه طيب لأنه يتخذ منه طيب فهو كالزعفران فأما نبت البرية كالشيح و القيصوم و الإذخر و الخزامى والفواكه كالأترج والتفاح والسفرجل والحناء فليس بطيب لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب فأشبه العصفر وقد ثبت أن العصفر ليس بطيب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ و لتلبس ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر ] وكان أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم يحرمن في المعصفرات وإن مس المحرم طيبا يعلق بيده فعليه الفدية لأنه طيب يده وإن مس ما لا يعلق بيده كقطع الكافور والعنبر فلا فدية لأنه لم يتطيب وإن شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا وإن شم العود فلا فدية عليه لأنه لا يستعمل هكذا ولا تقصد رائحته وإن تعمد لشم الطيب مثل أن دخل الكعبة وهي تجمر أو حمل مسكا ليشم رائحته أو جلس عند العطار لذلك فعليه الفدية لأنه شمه قاصدا له مبتدئا به في الإحرام فأشبه ما لو باشره وإن لم يقصد ذلك كالجالس عند العطار لحاجة أخرى أو دخل الكعبة ليتبرك بها أو حمل الطيب من غير مس للتجارة فلا يمنع منه لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه
فصل :
الثامن : الصيد حرام صيده وقتله وأذاه لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم } وقوله : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } فإن أخذه لم يملكه لأن ما حرم لحق غيره لم يملكه بالأخذ من غير إذنه كمال غيره وعليه إرساله من موضع يمتنع فيه فإن تلف من يده ضمنه كمال الآدمي وإن كان الصيد لآدمي فعليه رده إليه لأنه غصبه منه ويحرم عليه تنفيره لقول النبي صلى الله عليه و سلم في مكة : [ لا ينفر صيدها ] متفق عليه وهذا في معناه فإن نفره فصار إلى شيء هلك به ضمنه لخبر عمر رضي الله عنه ولأنه هلك بسبب من جهته فأشبه من نصب له شركا فهلك به ويحرم عليه الإعانة على قتله بدلالة بقول أو إشارة أو إعارة آلة لما روى أبو قتادة أنه كان مع أصحاب له محرمين وهو لم يحرم فأبصرو حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني به وأحبو لو أني أبصرته فركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم : ناولوني السوط والرمح قالوا : والله لا نعينك عليه وهذا يدل على اعتقادهم تحريم الإعانة عليه ولما سألوا النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها ] متفق عليه ولأن ما حرم قتله حرمت الإعانة عليه كالآدمي فإن فعل فقتله حلال فالجزاء على المحرم لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهما ولأن فعله سبب إتلافه فتعلق به الضمان كتنفيره وإن قتله محرم آخر فالجزاء بينهما وإن كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة فلا شيء فيها لأنها لم تكن سببا لإتلافه وإن ضحك المحرم عند رؤية الصيد ففطن الحلال فلا شيء فيه لأن في حديث أبي قتادة فبينا أنا مع أصحابي فضحك بعضهم فنظرت فإذا حمار وحش
وفي رواية : إذا أبصرت بأصحاب يتراؤون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش ويحرم عليه الأكل مما أشار عليه أو أعان عليه أو كان له أثر في ذبحه مثل أن يعيره سكينا لحديث أبي قتادة ويحرم عليه أكل ما صاده أو صيد لأجله لما روى جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ] قال الترمذي : هذا أحسن حديث في الباب ويباح أكل ما عدا ذلك للحديثين فإن أكل مما منع من أكله مما لزمه ضمانه كالذي صاده أو دل علية لم يضمنه بالأكل لأنه قد ضمنه بالقتل فلم يضمنه بالأكل كشاة غيره وكذلك إن وجب على غيره ضمانة وإن لم يكن ضمن بالقتل كالذي صاده حلال من أجله ضمنه بالأكل بمثله لحما لأنه إتلاف جزء للصيد حرمه الإحرام فتعلق به الضمان كإتلاف أجزاء الحي وإن ذبح المحرم الصيد حرم على كل أحد لأنه منع من الذبح لحق الله فلم يبح ذبحه كالمجوسي وما حرم عليه لدلالة أو إعارة آلة أو صيد من أجله لم يحرم على الحلال لأن لا فعل منه فيه
فصل :
ويحرم عليه شراء الصيد و اتهابه لما روى ابن عباس أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي ( ص ) حمارا وحشيا فرد عليه فلما رأى ما في وجهه قال : [ إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ] متفق عليه ولأنه سبب يتملك به الصيد فلم يملكه به المحرم كالاصطياد ومتى ملك الصيد بجهة محرمة حتى حل لم يبح له وعليه إرساله فإن تلف أو أتلفه فعليه فداؤه لأنه تلف بسبب كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله وإن ذبحه بعد التحلل لم يبح عند القاضي لأنه صيد لزمه ضمانه فلم يبح ذبحه كحلال الإحرام
وقال أبو الخطاب : يباح لأنه ذبحه في حال حله فأبيح كغيره وإن أحرم وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه لأنه ملك فلا يزول بالإحرام كملك البضع وله بيعه وهبته وإن كان في يده المشاهدة أو قفص أو حبل معه فعليه إرساله فإن لم يفعل فأرسله إنسان فلا ضمان عليه لأنه ترك فعل الواجب فإن ترك حتى تحلل فحكمه حكم ما صاده قال في الشرح : فملكه باق عليه وإن مات من يرثه وله صيد ورثه لأن الملك بالإرث يثبت حكما بغير اختياره ويثبت للصبي والمجنون فأشبه استدامة الملك ويحتمل أن لا يملكه لأنه ابتداء ملك فأشبه الشراء
فصل :
والصيد المحرم : ما جمع صفات ثلاث :
أحدها : أن يكون من صيد البر لأن صيد البحر حلال لقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } وصيد البحر ما يفرخ فيه ويأوي إليه فأما طير الماء فهو من صيد البر المحرم لأنه يتعيش في البحر ولا يعيش فيه وفي الجراد الجزاء لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ولأنه لا يعيش إلا في البر فهو كسائر الطير وعنه : لا جزاء فيه لأنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه من صيد البحر ويروى عن النبي ( ص ) من طريق ضعيف
الثاني : أن يكون وحشيا فأما الأهلي كبهيمة الأنعام والدجاج فليس بمحرم لأنه ليس بصيد ولذلك يذبح الهدايا والأضاحي والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو تأنس الوحشي كحمار الوحش والغزال والحمام لم يحل وفيه الجزاء ولو توحش الإنسي لم يحرم
الثالث : أن يكون مباحا فلا يحرم قتل غيره بالإحرام ولا جزاء فيه لقول النبي ( ص ) : [ خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور ] متفق عليه فثبت إباحة هذه الخمس بالنص وقسنا عليهن ما في معناهن مما فيه أذى فأما غير المأكول مما لا أذى فيه فيكره قتله ولا جزاء فيه لأن الصيد ما كان مأكولا إلا أن ما تولد بين مأكول وغيره كالسمع وهو ولد الضبع من الذئب و العسبار : ولد الذئبة من الضبع يحرم قتله وفيه الجزاء تغليبا لحرمة القتل كما غلبت فيه حرمة الأكل والمتولد بين أهلي ووحشي يحرم قتله وفيه الجزاء تغليبا للتحريم وفي الثعلب الجزاء مع الخلاف في أكله تغليبا للتحريم وفي القمل روايتان :
إحداهما : لا شيء فيه لتحريم أكله وأذاه فهو كالبراغيث
والثانية : فيه الجزاء لأنه يترفه بإزالته وأي شيء تصدق به كان خيرا منه قال القاضي : وإنما الروايتان في ما ألقاه من شعره أما ما ألقاه من ظاهر بدنه أو ثوبه فلا شيء فيه رواية واحدة لشبهه بالبراغيث
فصل :
وما حرم من الصيد حرم كسر بيضه لما روي عن النبي ( ص ) ( أنه قال في بيض النعام يصيبه المحرم يضمنه ) رواه الدارقطني ولأنه خارج من الصيد يصير منه مثله فهو كالفرخ وإن كسر بيضا لم يحل أكله ولا يحرم على حلال لأنه لا يحتاج إلى زكاة وقال القاضي : يحرم على كل أحد قياسا على الصيد وإن كسر بيضا مذرا فلا شيء عليه لأنه ليس بحيوان ولا يخلق منه حيوان فهو كالأحجار قال أصحابنا إلا بيض النعام فإن لقشره قيمة و الأول أولى وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر فحضنه وأفراخ فلا شيء عليه وكذلك إن كسره فخرج منه فراخ فعاشت وإن لم تعش الفراخ أو لم تحضنه أو ترك مع بيضه شيئا نفر من الصيد فلم يحضنه ضمنه لأنه أتلفه وإن باض في طريقه أو على فراشه فنقله فلم يحضنه الصيد حتى تلف ففيه وجهان :
أحدهما : يضمنه لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما لو قتله للجماعة
والثاني : لا شيء عليه لأنه ألجأه إلى إتلافه فأشبه ما لو صال عليه صيد فدفعه فقتله وإن افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان كذلك
فصل :
وإن احتاج المحرم إلى لبس المخيط أو تغطية رأسه أو الطيب لمرض أو شدة حر فعله وعليه الفدية قياسا على الحلق وإن اضطر إلى الصيد فله أكله وعليه جزاؤه لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما ذكرناه وإن صال عليه صيد فقتله دفعا عن نفسه فلا جزاء فيه لأنه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي
وقال أبو بكر : عليه الجزاء لأنه قتله لمصلحة نفسه فأشبه ما لو قتله لأكله والأول أصح وإن خلص صيدا من سبع أو شبكة ليرسله فتلف ففيه وجهان :
أحدهما : يضمنه لأنه تلف بفعله فليضمنه كالمخطئ
والثاني : لا يضمنه لأنه تلف بفعل مباح لمصلحته فلم يضمنه كالآدمي يتلف بمداواة وليه
فصل :
يكره للمحرم حك شعره بأظفاره كيلا ينقطع فإن انقطع به فله شعره لزمته فديته ويكره الكحل بالإثمد غير المطيب لأنه زينة والحاج أشعث أغبر وهو في حق المرأة أشد كراهة لأنها محل الزينة ولا فدية فيه لأن وجوبها من الشارع ولم يرد بها ههنا ويكره لبس الخلخال والتزين بالحلي لذلك وهو مباح لحديث ابن عمر ويكره أن ينظر في المرآة لإصلاح شيء لأنه نوع تزين ويكره أن يدهن بدهن غير مطيب لذلك وعن أحمد رضي الله عنه في جوازه روايتان إلا أنه يحتمل أن تختص الروايتان بدهن الشعر لأنه يذيل الشعث ويسكن الشعر ويزينه ويباح التدهن في غيره لأن للمحرم أكل الدهن فكان له أن يدهن به وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي ( ص ) ادهن بدهن غير مقتت أي : غير مطيب يعني وهو محرم [ والأولى أصح ] إلا أنه من رواية فرقد وهو ضعيف ولا فدية فيه بحال لما ذكرنا وينبغي أن ينزه إحرامه عن الكذب والشتم والكلام القبيح والمراء لقول الله : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } قال ابن عباس : الفسوق : المنابرة بالألقاب وتقول لأخيك : يا فاسق يا ظالم والجدال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه وروى أبو هريرة : أن النبي ( ص ) قال [ من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] متفق عليه
ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع لقول النبي ( ص ) : [ من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ] ففي حال الإحرام والتلبس بطاعة الله تعالى والاستشعار بعبادته أولى
فصل :
ولا بأس أن يغتسل المحرم بالماء و السدر و الخطمي ولا فدية عليه وعنه : عليه الفدية والأول أصح لقول النبي ( ص ) في الميت المحرم : [ اغسلوه بماء وسدر ] وقال عبد الله بن حنين : امترى بن عباس و المسور بن مخرمة في غسل المحرم رأسه فأرسلوني إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله كيف رأيت رسول الله ( ص ) يغسل رأسه وهو محرم ؟ قال : فصب على رأسه مقبلا ومدبرا وقال : هكذا رأيت رسول الله ( ص ) يفعل متفق عليه ويجوز أن يحتجم ولا يقطع شعرا لما روى ابن عباس أن رسول الله ( ص ) احتجم وهو محرم متفق عليه
ويجوز أن يفتصد كما يجوز أن يحتجم ويتقلد بالسيف عند الضرورة لأن أصحاب رسول الله ( ص ) دخلوا في عمرة القضية متقلدين سيوفهم ولا بأس بالتجارة والتكسب والصناعة لقول الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } قال ابن عباس : كان ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } في مواسم الحج رواه البخاري
فصل :
ومن جامع أفسد حجه وعليه بدنة سواء كان عالما أو جاهلا عامدا أو ناسيا لأنه في معنى يتعلق به قضاء الحج فاستوى عمده وسهوه كالفوات وإن حلق أو قلم ناسيا أو جاهلا فعليه الفدية لأنه إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال الآدمي ويتخرج أن لا فدية عليه قياسا على اللبس وإن قتل الصيد مخطئا فعليه جزاؤه لأنه ضمان مال فأشبه ضمان مال الآدمي
وعنه : لا جزاء عليه لقول الله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } مفهومه أن لا شيء في الخطأ وإن تطيب ولبس ناسيا أو جاهلا فلا فدية عليه لما روى يعلى بن أمية : أن رجلا أتى إلى النبي ( ص ) وعليه جبة وعليه أثر خلوق فقال : يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : [ اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك ] متفق عليه ولم يأمره بفدية لجهله وقسنا عليه الناسي لأنه في معناه وعنه عليه الفدية لأنه فعل حرمه الإحرام فاستوى عمده وسهوه كالحلق والأول : المذهب والحلق إتلاف لا يمكن تلافيه ومتى ذكر الناسي أو علم الجاهل فعليه إزالة ذلك فإن استدامه فعليه الفدية لأنه تطيب ولبس من غير عذر فأشبه المبتدئ به وحكم المكره حكم الناسي لأنه أبلغ منه في العذر
وإن مس طيبا يظنه يابسا فبان رطبا ففيه وجهان :
أحدهما : عليه الفدية لأنه قصد مس الطيب
والثاني : لا فدية عليه لأنه جهل تحريمه فأشبه من جهل تحريم الطيب ومن طيب أو حلق رأسه بإذنه فلفدية عليه لأن ذلك ينسب إليه وإن حلق رأسه مكرها أو نائما فالفدية على الحالق لأنه أمانة عنده فالفدية على من أتلفه بغير إذنه كالوديعة وإن حلق وهو ساكت لم ينكر فالفدية عليه كما لو أتلف الوديعة وهو يقدر على حفظها فلم يفعل وإن كشط من جلده قطعة عليها شعر أو قطع إصبعا عليها ظفر فلا فدية عليه لأنه زال تبعا لغيره فلم يضمنه كما لو قطع أشفار عيني إنسان فإنه لا يضمن أهدابها

باب الفدية
من حلق رأسه وهو محرم فعليه ذبح شاة أو إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو صيام ثلاثة أيام لقول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وروى كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لعلك تؤذيك هوام رأسك ؟ قال : نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمر أو نسك شاة ] متفق عليه وسواء حلق لعذر أو غيره وعنه : فيمن حلق لغير عذر عليه الدم من غير تخيير لأن الله تعالى خير بشرط العذر فإن عدم الشرط زال التخيير والأول أولى لأن الحكم ثبت من غير عذر المعذور تبعا له و التبع لا يخالف أصله وإنما الشرط لإباحة الحلق لا التخيير وفي حلق أربع شعرات ما في حلق الرأس كله لأنها كثير فتعلقت بها الفدية كالكل وفي الثلاث روايتان :
إحداهما : هي كالكل قال القاضي : هو المذهب لأنه يقع عليها اسم الجمع المطلق فهي كالأربع
والثانية : لا يجب فيها ذلك وهي اختيار الخرقي لأن الثلاث آخر القلة وآخر الشيء منه
وفيما دون ذلك ثلاث روايات :
إحداهن : في كل شعرة مد من طعام لأن الله تعالى عدل الحيوان بالطعام هاهنا بالصيد وأقل ما يجب منه مد من طعام فوجب
والثانية : قبضة من طعام لأنه لا تقدير له في الشرع فيجب المصير إلى الأقل لأنه اليقين
والثالثة : درهم لأن إيجاب جزء من الحيوان يشق فصرنا إلى قيمته وأقل ذلك درهم وإزالة الشعر بالقطع والنتف والنورة وغيرها كحلقه لأنها في معناه والأظفار كالشعر في الفدية لأنها في معناها وفي بعض الشعرة أو الظفر ما في جميعه كما أن في القصيرة مثل ما في الطويلة وإن حلق شعر رأسه وبدنه فعليه فدية واحدة لأنه جنس واحد فأجزأته فدية واحدة كما لو لبس عمامة وقميصا وهذا اختيار أبي الخطاب
وحكي رواية أخرى : أن عليه فديتين اختاره القاضي لأن حلق الرأس يتعلق به نسك دون شعر البدن فيخالفه في الفدية ومن أبيح له الحلق فهو مخير في الفدية قبله وبعده كما يتخير في كفارة اليمين قبل الحنث وبعده
فصل :
ومن لبس أو غطى رأسه أو تطيب فعليه الفدية مثل حلق رأسه لأنه في معناه فقسناه عليها وإذا لبس عمامة وقميصا وسراويل وخفين فعليه فدية واحدة لأنه جنس واحد فأشبه ما لو طيب رأسه وبدنه وإن لبس وتطيب وحلق وقلم فعليه لكل جنس فدية لأنها أجناس مختلفة فلم تتداخل كفاراتها بالأيمان والحدود وعنه : إن فعل ذلك دفعة واحدة ففديته واحدة لأن الكل محظور فأشبه اللبس في رأسه وبدنه وإن كرر محظورا واحدا فلبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب أو حلق ثم حلق ففدية واحدة ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني
وعنه : إن فعله لأسباب مثل من لبس أول النهار للبرد ووسطه للحر وآخر للمرض ففديات لأن أسبابه مختلفة فأشبه الأجناس المختلفة والأول أولى لأن الحكم يتعلق بالمحظور لا بسببه فأشبه الحالف بالله ثلاثة أيمان على شيء واحد لأسباب مختلفة وقليل اللبس والطيب و كثيره سواء وحكم كفارة الوطء في التداخل مثل ما ذكرنا لأنها ليست ضمانا
فأما جزاء الصيد فلا تداخل فيه وكلما قتل صيدا حكم عليه
وعنه : أنه يتداخل كسائر الكفارات
وعنه : لا يجب الجزاء إلا في المرة الأولى لقول الله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } ولم يذكر جزاء والأول المذهب لقول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وهذا يقتضي كل قاتل ومثل الصيدين أكثر من مثل واحد ولأنه ضمان مال يختلف باختلافه فوجب في كل مرة كضمان مال الآدمي
قال أحمد : روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ و فيمن قتل ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أم لا ؟
فصل :
وإذا وطئ المحرم في الفرج في الحج قبل التحلل الأول فعليه بدنة لأن ذلك يروى عن ابن عباس رضي الله عنه وسواء كان الفرج قبلا أو دبرا من آدمي أو من بهيمة لأنه وطء في فرج أشبه وطء الآدمية وإن وطئت المحرمة مطاوعة فعليها بدنة لأنها أفسدت حجها بالجماع فوجبت عليها البدنة كالرجل وإن وطئ الرجل محرمة مطاوعة فعلى كل واحد منهما بدنة لأن ابن عباس قال للمجامع : اهد ناقة ولتهد ناقة ولأنه إفساد حج شخصين فأوجبت بدنتين كالوطء من رجلين
وعنه : يجزئهما هدي واحد لأنه جماع واحد فأشبه ما لو أكرهها فإن وطئها نائمة أو مكرهة ففيها روايتان :
إحداهما : أن الواجب هدي واحد عليه دونها لأنها معذورة لم يلزمها كفارة كالمكرهة على الوطء في الصيام
والثانية : يجب هديان لأنه إفساد حجة اثنين فعلى هذا يحتمل الرجل عنها لأن الإفساد وجد منه فكان موجبه عليه كما تجب عليه نفقة قضائها ويحتمل أن تكون عليها لأنها وجبت لفساد حجها وإن وطئ في العمرة أو وطئ في الحج بعد التحلل الأول فعليه شاة لأنه فعل محظور لم يفسد حجا فلم يوجب بدنة كالقبلة
ومتى وطئ المحرم دون الفرج أو قبل أو لمس لشهوة فلم ينزل فعليه شاة لأنه فعل محرم بالإحرام لم يفسد الحج فوجبت به الشاة كالحلق وإن أنزل فعليه بدنة لأنه استمتاع بالمباشرة أوجب الغسل فأوجب البدنة كالوطء في الفرج وإن نظر فلم ينزل فلا شيء عليه وإن نظر فصرف بصره فأنزل فعليه شاة وإن كرر النظر حتى أنزل ففيه روايتان :
إحداهما : شاة يروى ذلك عن ابن عباس ولأنه ليس بمباشرة فلم يوجب البدنة كما لو صرف بصره
والثانية : فيه بدنة اختاره الخرقي لأنه إنزال باستمتاع فأوجب البدنة كالمباشرة وإن فكر فأنزل فلا شيء عليه لما ذكرنا في الصوم وإن أمذى في هذه المواضع فهو كمن لم ينزل لأنه خارج لا يوجب الغسل أشبه البول
فصل :
ومن لزمته بدنة أجزأته بقرة لأن جابرا قال : وهل هي إلا من البدن ولأنها تقوم في الأضاحي والهدايا مقامها فكذا هاهنا ويجزئه سبع من الغنم لذلك وإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ولأن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو قالوا للواطئين : اهديا هديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وهم الأصل في ثبوت حكم الوطء وإليهم المرجع فيه فكذا في بدله وقال أصحابنا : تقوم البدنة فيشتري بقيمتها طعاما يتصدق به فإن لم يجد صام عن كل مد يوما قياسا مع البدنة الواجبة في فدية النعامة

باب جزاء الصيد
يجب الجزاء في الصيد لقول الله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } الآية وهو ضربان :
ما له مثل من النعم : وهي بهيمة الأنعام فيجب فيه مثله للآية وهو نوعان ما قضت الصحابة فيه فيجب فيه ما قضت لأنه حكم مجتهد فيه واجتهادهم أحق أن يتبع
فمن ذلك الضبع قضى فيها عمر وابن عباس بكبش وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى فيها بذلك رواه أبو داود وغيره وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
والنعامة قضى فيها عثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية ببدنة
وحمار الوحش وفيه روايتان :
إحداهما : فيه بقرة لأن عمر قضى فيه بها
والثانية : فيه بدنة لأن أبا عبيدة وابن عباس قضيا فيه بها وقضاء عمر أولى لأنه أقرب إلى ما قضي به وعن ابن مسعود أنه قضى في بقرة الوحش ببقرة
وقال ابن عباس : في الإبل بقرة وقال ابن عمر : في الأروى بقرة
وقضى عمر في الظبي بشاة وفي اليربوع بجفرة وهي التي لها أربعة أشهر في المعز
وفي الأرنب بعناق وهي أصغر من الجفرة وفي الضب بجدي
والضرب الثاني : ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة لقول الله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } ويجوز أن يكون القاتل أحدهما : لدخوله في العموم ولما روى طارق بن شهاب قال : خرجنا حجاجا فأوطأ منا رجل يقال له إربد ضبا ففزر ظهره فقدمنا على عمر فسأله إربد فقال له : احكم فيه يا إربد قال : أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم فقال عمر : إنما أمرتك أن تحكم ولم آمرك أن تزكيني فقال إربد : أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر فقال عمر : فذلك فيه رواه سعيد بن منصور ولأنه واجب لحق الله فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة
وفي كبير الصيد كبير مثله وفي الصغير صغير مثله وفي كل واحد من الصحيح والمعيب مثله وإن فدى الذكر بالأنثى جاز لأنها أفضل وإن فدى الأنثى بالذكر ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجزئ لذلك
والآخر : يجزئ لأن لحمه أوفر وهو المقصود وإن فدى أعور من عين بأعور من أخرى جاز لأن المقصود منهما واحد وإن فدى معيبا بمعيب من جنس آخر لم يجز لأنهما مختلفان
وإن أتلف صيدا ماخضا ففيه قيمة مثله ماخض قال القاضي لأن قيمته أكثر من مثله
وقال أبو الخطاب : فيه مثله ماخض للآية وإن جنى على ماخض فأتلف جنينها ففيه ما نقصها كما لو جرحها وإن جرح حيا ثم مات ضمنه بمثله
فصل :
الضرب الثاني : ما لا مثل له : وهو الطير وشبهه من صغار الصيد ففيه قيمته إلا الحمام فإن فيه شاة لأن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس : قضوا في حمام الحرم بشاة والحمام : كل ما عب الماء وهدر كالحمام المعروف و اليمام و الجوازل و القماري و الرقاطي و الدباسي والقطا لأن هذا كله حمام وقال الكسائي : كل مطوق حمام فعلى قوله يكون الحجل حماما وعلى الأول ليس بحمام وما كان أصغر من الحمام ففيه قيمته لأن لا مثل له وما كان أكبر منه ففيه وجهان :
أحدهما : فيه قيمته لأن القياس يقتضيها في جميع الطير تركناه في الحمام لقضاء الصحابة ففيما عداه يبقى على القياس
والثاني : فيه شاة لأن إيجابها في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر منه وقد روي عن ابن عباس وجابر أنهما قالا : في الحجلة والقطا و الحبارى : شاة شاة وإن نتف ريش طائر ففيه ما نقص فإن عاد فنبت ففي ضمانه وجهان كغصن الشجرة إذا نبت وفي بيض الصيد قيمته
فصل :
ومن وجب عليه جزاء صيد فهو مخير بين إخراج المثل أو يقوم المثل ويشتري بقيمته طعاما ويتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما لقول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } و [ أو ] للتخيير و عنه : أنها على الترتيب فيجب المثل فإن لم يجد [ أطعم فإن لم يجد ] صام ككفارة القتل وعنه : لا طعام في الجزاء وإنما ذكره ليعدل به الصيام والمذهب الأول لأنه ظاهر النص فلا تعويل على ما خالفه
فصل :
وإن اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد
وعنه : على كل واحد جزاء لأنها كفارة قتل أشبهت كفارة قتل الآدمي
وعنه : إن كفروا بمال فجزاء واحد وإن كفروا بالصيام فكفارات والأولى أولى [ ن ذلك يروى عن عمر وابنه وابن عباس رضي الله عنهم ولأنه بدل متلف يتجزأ فيقسم بدله بين المشتركين كالديات وقيم المتلفات وإن اشترك حلال وحرام فلا شيء على الحلال و هل يكمل الجزاء على الحرام أو يكون حكمه حكم المشارك لحرام ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يضمنه بمثله لأن ما وجب ضمان جملته بمثله وجب في بعضه مثله كالمكيلات
والآخر تجب قيمة قدره من مثله لأن الجزء يشق إخراجه فصرنا إلى قيمة
وإن جرح صيد فأزال امتناعه فقتله حلال أو سبع فعلى المحرم جزاء جميعه لأنه سبب تلفه وإن قتل محرم آخر فعلى الأول ما نقصه والباقي على الثاني وإن برئ وزال نقصه فلا شيء فيه كالآدمي وإن نقص فعليه نقصه وإن برئ غير ممتنع فعليه جزاء جميعه لأنه عطله فصار كالتالف وإن غاب ولم يعلم خبره فعليه نقصه لأنه المتيقن
فصل :
و القارن والمفرد والمعتمر سواء في جزاء الصيد وسائر الكفارات لأنهم سواء في الإحرام فوجب استواؤهم في ذلك
فصل :
وصيد الحرم على الحلال والحرام لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ] فقال العباس : إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إلا الإذخر ] متفق عليه و حكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء والسمك في التحريم كصيد البر لعموم قوله : [ لا ينفر صيدها ] ولأن حرمته بمحله وهما في المحل سواء وعنه : لا يحرم لأنه لا يحرمه الإحرام فلم يحرمه الحرام كالسباع وسائر الحيوانات حكمها في الحرم حكمها في الإحرام فما حرمه الإحرام من الصيد حرمه الحرم وما أبيح فيه من الأهلي وغير المأكول لم يحرمه الحرم ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ] رواه مسلم إلا أن القمل لا يحرمه الحرم رواية واحدة ويجب الجزاء على كل قاتل في الحرام مسلما كان أو كافرا صغيرا أو كبيرا لأن حرمته لمحله وهو ثابت بالنسبة إلى كل قاتل ولو قتل محرم صيدا حرميا لزمه جزاء واحد لأن المقتول واحد فكان جزاؤه واحدا كما لو قتله حلال
فصل :
ومن ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده عنه وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه ضمنه وإن ذبحه صار ميتة لأن الحرم سبب التحريم الصيد فحرم استدامة إمساكه كالإحرام وإن أمسكه في الحرم فأخرجه إلى الحل لزمه إرساله كالمحرم إذا مسك الصيد حتى حل
وإن رمى في الحرم صيدا في الحل أو أرسل كلبه عليه أو قتل صيدا على غصن في الحل أصله في الحرم فلا ضمان فيه لأنه صيد حل قاتله حلال فلم يضمن كما لو كان قاتله في الحل وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا ينفر صيدها ] يدل بمنطوقه على تحريمه في المسألة الأولى وبمفهومه على حله في الثانية وإن رمى من الحل صيدا في الحرم أو أرسل كلبه عليه فقتله أو قتل صيدا على غصن في الحرم أصله في الحل ضمنه لأنه صيد حرمي معصوم بمحله وعن أحمد فيهما جميعا روايتان
فإن كانا جميعا في الحل فدخل السهم أو الكلب الحرم ثم خرج فقتل صيدا في الحل لم يضمن بحال لأن الصيد والصائد جميعا في الحل
وإن رمى صيدا في الحل فدخل السهم الحرم فقتل فيه صيدا ضمنه لأن العمد والخطأ واحد في الضمان وإن أرسل كلبه على صيد في الحل فدخل فقتله في الحرم أو قتل غيره ففيه روايتان :
إحداهما : لا يضمن لأن للكلب اختبارا وقد دخل باختياره فلم يضمن جنايته بخلاف السهم
والثانية : إن كان الصيد قريبا من الحرم ضمنه لتفريطه بتعرضه للاصطياد في الحرم وإن كان بعيدا لم يضمن لعدم تفريطه ولا يؤكل لأنه صيد حرمي
وقال أبو بكر : عليه الضمان بكل حال وإن جرحه في الحل فدخل الحرم فمات فيه لم يضمنه وحل أكله لأنه ذبحه في الحل وإن وقف صيد في الحرم والحل فقتله ضمنه تغليبا للتحريم
وإن أمسك طائرا في الحل فهلك فراخه في الحرم ضمن الفراخ وحدها لأنه أتلفها في الحرم
وإن أمسك الطائر في الحرم فهلك الفراخ في الحل ضمن الطائر وحكم الفراخ حكم ما لو رمى من الحرم صيدا في الحل لأن صيد الحل هلك بسبب كان منه في الحرم
وإن نفر صيدا حرميا فهلك في نفوره بسبع أو غيره في حل أو حرم ضمنه لأنه هلك بتنفيره المنهي عنه وإن سكن من نفوره ثم أهلك لم يضمنه لأن هلاكه بغير سببه وقد روي عن عمر رضي الله عنه : أنه دخل دار الندوة فعلق رداؤه فوقع عليه حمام فخاف أن يبول عليه فأطاره فانتهزته حية فقال أنا أطرت فسأل من معه فحكم عليه عثمان ونافع بن عبد الحارث بشاة
فصل :
ويحرم قلع شجر الحرم و حشيشه كله لحديث ابن عباس [ إلا الإذخر ] وما زرعه الإنسان لأنه كالحيوان الأهلي وإن غرس شجرة فقال أبو الخطاب : له قلعها لأنه أنبتها الآدميون فأشبه الزرع وإن أخذه من الحرم فغرسه لم يبح قلعه لأنه حرمي ويحتمل كلام الخرقي تحريم قلع الشجر كله لقوله عليه السلام : [ لا يعضد شجرها ] وذكر القاضي و أبو الخطاب : أنه يباح قطع الشوك والعوسج لأنه بمنزلة السباع من الحيوان والحديث صريح في أنه لا يعضد شوكها واتباعه أولى
ولا بأس بقطع ما يبس لأنه بمنزلة الميت وأخذ ما تناثر أو يبس من الورق أو تكسر من الشجر والعيدان بغير فعل الآدمي لذلك وما قطعه الآدمي لم يبح له ولا لغيره الانتفاع به لظاهر كلام أحمد لأنه قطع محرم لحرمة الحرم فأشبه ذبح الصيد ولا يجوز أخذ ورق الشجر الأخضر لأن في بعض الألفاظ : [ ولا يخبط شجرها ] ولأنه يضر بالشجر أشبه نتف ريش الطير
فصل :
ويجب الجزاء في ذلك فيجب في الشجرة الكبيرة بقرة وفي الصغيرة شاة لما روي عن ابن عباس أنه قال : في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة والدوحة : الكبيرة و الجزلة : الصغيرة وإن قطع غصنا ضمنه بما نقص كأغصان الحيوان فإن خلف مكانه فهل يسقط الضمان ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يضمنه كشعر الآدمي وسنه
والثاني : يضمنه لأنه أتلفه
وإن قلع شجرة لزمه ردها إلى موضعها كمن صاد صيدا لزمه إرساله فإن أعادها فيبست ضمنها لأنه أتلفها وإن نبتت كما كانت لم يضمنها كالصيد إذا أرسله وإن نقصت ضمن نقصها كالصيد سواء
فصل :
ويحرم قطع حشيش الحرم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يختلي خلاها ] ويضمنه بقيمته كما يضمن صغار الصيد بقيمته وإن استخلف فهل يسقط الضمان ؟ على وجهين
وفي إباحة رعيه وجهان :
أحدهما : يباح لأن الحاجة تدعو إليه فأشبه قطع الإذخر
والثاني : يحرم لأنه تسبب في إتلافه فهو كإرسال الكلب على الصيد وتباح الكمأة لأنه لا أصل لها فأشبهت الثمرة
فصل :
ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كرهاه ولا يكره إخراج ماء زمزم لأنه يستخلف ويعد للإتلاف فأشبه الثمرة
فصل :
ويحرم صيد مدينة النبي صلى الله عليه و سلم وشجرها لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم أشرف على المدينة فقال : [ اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة ] وفي لفظ : [ ولا يقطع شجرها ] متفق عليه
ولا جزاء في صيدها وشجرها لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام فأشبه صيد وجب ولأن الإيجاب من الشارع ولم يرد به وعنه : فيه الجزاء وهو سلب القاتل لأخذه لما روي أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاء أهل العبد فكلموه أن يرد عليهم فقال : معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبى أن يرد عليهم رواه مسلم وفي لفظ قال : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرم هذا الحرم ] وقال : [ من وجد أحدا يصيد منه فليسلبه ] رواه أبو داود
وحد حرمها : ما بين لابتيها بريد في بريد وقال أحمد : كذا فسر أنس بن مالك وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما بين لابتيها حرام ] متفق عليه
فصل :
ويفارق حرم مكة في أن من أدخل إليها صيدا من خارج فله إمساكه وذبحه لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ يا أبا عمير ما فعل النغير ] متفق عليه وهو طائر كان يلعب به فلم ينكر عليهم إمساكه
ويجوز أن يأخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم لما حرم المدينة قالوا : يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح و إنا لا نستطيع أرض غير أرضنا فرخص لنا فقال : [ القائمتان والوسادة والعارضة والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء ] رواه الإمام أحمد فأما صيد وج وشجره وهو واد من أودية الطائف فحلال لأن الأصل الحل وقد روي فيه حديث ضعفه أحمد وذكره الخلال في كتاب العلل
فصل :
وما وجب من الهدي والإطعام جزاء للصيد لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم لقول الله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } وكذلك دم التمتع والقران لأنه نسك فأشبه الهدي ودم فدية الأذى يختص بالمكان الذي وجب سببه فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر كعب بن عجرة بالذبح والإطعام بالحديبية ولم يأمر بإيصاله إلى الحرم ونحر علي رضي الله عنه حين حلق رأس الحسين بالسقبا وفي معناه ما وجب بلبس أو طيب أو نحوه وقال القاضي : ما وجب بفعل محظور فيه روايتان :
إحداهما : محله حيث وجد سببه كفدية الأذى والإحصار
والثانية : محله الحرم لقول الله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } وقال ابن عقيل : إن فعل المحظور لعذر يبيحه فحمل هديه موضع فعله وإن فعل لغير عذر فمحله الحرم وأما هدي المحصر فمحل نحره محل حصره لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية روى البخاري نحوه وبين الحديبية والحرم ثلاثة أميال ولأنه جاز التحلل في غير موضعه للحصر فيجوز النحر في غير موضع النحر وعن أحمد : لا يجوز نحره إلا في الحرم لقول الله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } فعلى هذا يبعثه إلى الحرم ويواطئ من يبعثه على اليوم الذي ينحره فيه فيحل حينئذ وأما الصيام كله فيجزئه بكل مكان لأنه لا نفع فيه لأهل المكان فلا يختص بالمكان كرمضان
فصل :
وما وجب لمساكين الحرم لم يجز ذبحه إلا في الحرم وفي أي موضع منه ذبح جاز لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وطريق ] رواه ابن ماجة مفهومه أنه لا يجوز النحر في غيره مما ليس في معناه إذا نحر ففرقه على المساكين فإن أطلقها لم يقتطعونها جاز لأن النبي ( ص ) نحر بدنات خمسا ثم قال : [ من شاء فليقتطع ] رواه أبو داود ومساكين الحرم من حله من أهله وغيرهم لأن النبي ( ص ) أطلقها لمن حضره

باب دخول مكة وصفة العمرة
ويستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل ويدخلها من أعلاها من ثنية كداء ويخرج من أسفلها لما روي عن ابن عمر أنه كان يغتسل ثم يدخل مكة ويذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعله وقال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة من ثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى متفق عليهما ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة لقول جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة ارتفاع الضحى فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد رواه مسلم
ويستحب أن يدعو عند رؤيته البيت ويرفع يديه لما روى ابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال : [ اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفا وتعظيما وبرا ] رواه الشافعي في مسنده وعن سعيد بن المسيب : أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام ) ذكر الأثرم هذا الدعاء وزاد : الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا الحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت وما زار من الدعاء فحسن
فصل :
ويبدأ بالطواف لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت متفق عليه ولأن الطواف تحية المسجد فاستحبت البداءة به كالركعتين في غيره من المساجد وينوي المتمتع به طواف العمرة وينوي المفرد و القارن الطواف للقدوم
ويسن الاضطباع فيه وهو أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن ويتركه مكشوفا ويرد طرفيه على منكبه الأيسر لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى رواه أبو داود
ويطوف سبعا يبتدئ بالحجر الأسود فيستلمه لقول جابر : حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ومعنى استلامه : مسحه بيده ويستحب تقبيله لما روى أسلم قال : رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قبلك ما قبلتك متفق عليه فإن لم يمكنه تقبيله استلمه وقبل يده لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم استلمه وقبل يده رواه مسلم فإن استلمه بشيء في يده قبله لما روى ابن عباس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف في البيت ويستلم الركن بمحجن عنه ويقبل المحجن رواه مسلم وإن لم يمكنه أشار بيده إليه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه وكبر
ويستحب أن يقول عنده ما روى عبد الله بن السائب : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عند استلامه : [ بسم الله والله أكبر إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه و سلم ] ويحاذي الحجر بجميع بدنه ليستوعب جميع البيت والطواف ثم يأخذ في الطواف على يمين نفسه ويجعل البيت على يساره ويطوف سبعا يرمل في الثلاث الأول منها وهو إسراع المشي مع مقاربة الخطى ولا يثبت وثبا ويمشي أربعا لحديث جابر وروى ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا متفق عليه ولا يرمل في غير هذا الطواف لذلك فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع لأنه سنة فات محلها فلم يقضه في غيره كالجهر في الأوليين ولا يقضى في الأخريين
ولو فاته الرمل والاضطباع في هذا الطواف لم يقضه فيما بعده كمن فاته الجهر في الصبح لم يقضه في الظهر ويكون الحجر داخلا في طوافه لأن الحجر في البيت ولا يطوف على جدار الحجر ولا شاذروان الكعبة لأنه من البيت فيجب أن يطوف به
ولا يستلم الركن العراقي ولا الشامي لما روى ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني وما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يستلمهما في شدة ولا رخاء ) رواه مسلم وقال : ما أرى النبي صلى الله عليه و سلم استلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام متفق عليه ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك كلما حاذى الحجر كبر ويقول بين الركنين : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } لما روى عبد الله بن السائب : أنه سمع رسول الله ( ص ) يقول ذلك ما بين ركن بني جمح والركن الأسود رواه أبو داود ويقول في بقية الطواف : اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم ويصلي على النبي ( ص ) ويدعو بما أحب ويستحب أن يدنو من البيت لأنه المقصود
فإن كان يمكنه الرمل بعيدا ولا يمكنه قريبا فالبعيد أولى لأنه يأتي بالسنة المهمة
ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف لأنه صلاة والصلاة محل القرآن
ويجوز الشرب في الطواف لأن النبي ( ص ) شرب في الطواف رواه ابن المنذر
ويستحب أن يدع الحديث كله إلا ذكر الله أو قراءة القرآن أو دعاء أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر لما روى ابن عباس أن النبي ( ص ) قال : [ الطواف في البيت صلاة إلا أن الله أباحكم فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ] رواه الترمذي
فصل :
فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم يقرأ فيهما ب { قل يا أيها الكافرون } وسورة الإخلاص لما روى جابر أن النبي ( ص ) طاف في البيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين قرأ فيهما : { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } رواه مسلم وإن صلاهما في غير هذا الموضع أو قرأ غير ذلك أجزأه
فصل :
ويشترط لصحة الطواف تسعة أشياء :
الطهارة من الحدث والنجس وسترة العورة لحديث ابن عباس وقول النبي ( ص ) : [ لا يطوف في البيت عريان ] متفق عليه ولأنها عبادة تتعلق بالبدن فاشترط فيها ذلك كالصلاة
وعنه : فيمن طاف للزيارة ناسيا لطهارته حتى رجع فحجه ماض ولا شيء عليه وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان وعنه : فيمن طاف للزيادة غير متطهر : أعاد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم وهذا يدل على أن الطهارة ليست شرطا إنما هي واجب يجبره الدم فكذلك يخرج من طهارة النجس والستارة لأنها عبادة لا يشترط فيها الاستقبال فلم يشترط فيها ذلك كالسعي والوقوف
الرابع : النية لأنها عبادة محضة فأشبهت الصلاة
الخامس : الطواف لجميع البيت فإن سلك الحجر أو طاف على جدار الحجر أو على شاذروان الكعبة لم يجزئه لأن الله تعالى قال : { وليطوفوا بالبيت العتيق } وهذا يقضي الطواف لجميعه والحجر منه لقول النبي ( ص ) : [ الحجر في البيت ] متفق عليه
السادس : الطواف سبعا فإن ترك منها شيئا وإن قل لم يجزئه لأن النبي ( ص ) طاف سبعا فيكون تفسيرا لمجمل قوله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } فيكون ذلك هو الطواف المأمور به وقد قال عليه السلام : [ خذوا عني مناسككم ]
السابع : أن يحاذي الحجر في ابتداء طوافه بجميع بدنه فإن لم يفعل لم يعتد بذلك الشوط واعتد له بما بعده
ويأتي بشوط مكانه ويحتمل أن لا يجب هذا لأنه لما لم يجب محاذاة جميع الجحر لم تجب المحاذاة بجميع البدن
الثامن : الترتيب وهو أن يطوف على يمينه فإن نسكه لم يجزئه لما ذكرنا في السادس ولأنها عبادة تتعلق بالبدن فكان الترتيب فيها شرطا كالصلاة
التاسع : الموالاة شرط لذلك إلا أنه إذا أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة فإنه يصلي ثم يبني لقول النبي ( ص ) : [ إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ] رواه مسلم
وعنه : إذا أعيا في الطواف فلا بأس أن يستريح وقال : إذا كان له عذر بنى وإن قطعه من غير عذر أو لحاجة استقبل الطواف
وعنه : فيمن سبقه الحدث روايتان :
إحداهما : يستأنف قياسا على الصلاة
والثانية : يتوضأ ويبني إذا لم يطل الفصل فيخرج في الموالاة روايتان :
إحداهما : هي شرط كالترتيب
والثانية : ليست شرطا حال العذر لأن الحسن غشي عليه فحمل فلما أفاق أتمه
فصل :
وسننه : استلام الركن وتقبيله أو ما قام مقامه من الإشارة والدعاء والذكر في مواضعه والاضطباع والرمل والمشي في مواضعه لأن ذلك هيئة في الطواف فلم تجب كالجهر والإخفات في الصلاة وركعتا الطواف ليست واجبة لأن الأعرابي لما سأل النبي ( ص ) عن الفرائض ذكر الصلوات الخمس قال : فهل علي غيرها ؟ قال : [ لا إلا أن تطوع ] متفق عليه
ولأنها صلاة لم يشرع لها جماعة فلم تجب كسائر النوافل ولكنه سنة مؤكدة وإن صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عنهما فإن جمع بين الأسابيع وصلى لكل أسبوع ركعتين جاز لأن عائشة و المسور بن مخرمة فعلا ذلك ولا تجب الموالاة بينهما لما ذكرنا وأن يطوف ماشيا وإن طاف راكبا أجزأه لأن النبي ( ص ) طاف على بعيره وأمر أم سلمة فطافت راكبة من وراء الناس حديث أم سلمة متفق عليه ويجوز أن يحمله إنسان فيطوف به لأنه في معنى الراكب وإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر ففيه روايتان :
إحداهما : يجزئه لأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقا وهذا قد طاف ولأن النبي ( ص ) طاف راكبا وهو صحيح
والثانية : لا يجزئه لأنها عبادة تتعلق بالبدن فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة فأما النبي ( ص ) فإن ابن عباس قال : إن الناس كثروا عليه يقولون : هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت وكان رسول الله ( ص ) لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب رواه مسلم
فصل :
والمرأة كالرجل إلا أنها إذا قدمت مكة نهرا استحب لها تأخير الطواف إلى الليل لأنه أستر لها إلا أن تخاف الحيض فتبادر الطواف لئلا يفوتها التمتع ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر بل تشير بيدها إليه قال عطاء : كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت : انطلقي عنك وأبت وليس في حقها رمل ولا اضطباع لأنه يستحب لها التستر ولأن الرمل شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة ولا يقصد ذلك في المرأة ولذلك لا يسن الرمل في حق المكي ومن جرى مجراهم وقال ابن عباس وابن عمر : ليس على أهل مكة رمل وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا أحرم في مكة لم يرمل
فصل :
إذا فرغ من الركعتين سعى بين الصفا و المروة ويستحب أن يستلم الحجر ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويدعوه لأن جابرا قال في صفة حج النبي ( ص ) : ( ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ { إن الصفا و المروة من شعائر الله } نبدأ بما بدأ الله تعالى به فبدأ في الصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبله فوحد الله وكبره وقال : [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ] ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات )
قال أحمد : ويدعو بدعاء ابن عمر ذكر نحوا من هذا وزاد : لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون اللهم اعصمني بدينك و طواعيتك وطواعية رسولك اللهم جنبني حدودك اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الآخرة والأولى واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي خطيئتي يوم الدين اللهم إنك قلت { ادعوني أستجب لكم } وإنك لا تخلف الميعاد اللهم إذ هديتني للإسلام فل تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا على الإسلام اللهم لا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن رواه سعيد بن منصور وما دعا فحسن ثم ينزل ويمشي حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحوا من ستة أذرع فيسعى سعيا شديدا حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يمشي حتى يصعد المروى فيرقى عليها ويقول كما قال على الصفا ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل ذلك سبعا يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع أخرى يفتتح بالصفا ويختم بالمروة لأن جابرا قال : [ ثم نزل يعني النبي ( ص ) إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروى ففعل على المروة كما فعل على الصفا فلما كان آخر طوافه على المروة ] وذكر الحديث رواه مسلم ويدعو فيما بينهما ويذكر الله تعالى
قال أبو عبد الله : كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا و المروة قال : رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم قال النبي ( ص ) : [ إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا و المروة لإقامة ذكر الله ] وهو حديث حسن صحيح
فصل :
والواجب من هذا ثلاثة أشياء استيفاء السبع فإن ترك منها شيئا وإن قل لم يجزئه وإن لم يرق على الصفا و المروة وجب استيعاب ما بينهما بأن يلصق عقبيه بأسفل الصفا ثم يلصق أصابع رجليه بالمروة ليأتي بالواجب كله و البداءة بالصفا لخبر جابر فإن بدأ بالمروة لم يعتد له بذلك الشوط واعتد له بما بعده وترتيب السعي على الطواف فلو سعى قبله لم يجزئه لأن النبي ( ص ) إنما سعى بعد طوافه وقال : [ خذوا عني مناسككم ] ولو طاف وسعى ثم علم أن طوافه غير صحيح لعدم الطهارة أو غيرها : لم يعتد له بسعيه لفوات الترتيب
فصل :
ويسن الطهارة والستارة
وعنه : أنهما واجبتان لأنه أحد الطوافين أشبه الطواف في البيت والأول المذهب لقول النبي ( ص ) لعائشة حين حاضت : [ اقضي ما يقضي الحاج غير أن تطوفي بالبيت ] أخرجه المسلم و البخاري ونحوه قالت عائشة : إذا طافت المرأة في البيت فصلت ركعتين ثم حاضت فلتطف بالصفا و المروة ولأنها عبادة لا تتعلق بالبيت فلم يشترط لها ذلك كالوقوف ويسن أن يرقى على الصفا و المروة ويرمل بين العلمين ويمشي ما سوى ذلك لأن النبي ( ص ) فعله ولا يجب لما روي عن ابن عمر أنه قال : أنا أمشي فقد رأيت النبي ( ص ) يمشي وأنا شيخ كبير رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ويسن الموالاة بينه لأن النبي ( ص ) والى بينه ولا يجب لأنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم يشترط له الموالاة كالرمي وقد روي أن سودة بنت عبد الله بن عمر سعت فقضت طوافها في ثلاثة أيام ويسن أن يمشي فإن ركب جاز لأن النبي ( ص ) سعى راكبا ولما ذكرنا في الموالاة والمرأة كالرجل إلا أنها لا ترقى على الصفا والمروة ولا ترمل في طواف ولا سعي لما ذكرنا في الرمل في الطواف وليس على أهل مكة رمل لذلك نص عليه
فصل :
فإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعا لا هدي معه قصر من شعره وحل من عمرته فما روى ابن عمر قال : تمتع الناس مع رسول الله ( ص ) بالعمرة إلى الحج فلما فلم قدم رسول الله ( ص ) مكة قال للناس : [ من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا و المروة وليقصر وليحلل ] متفق عليه وإنما جعل التقصير هاهنا ليكون الحلق للحج فأما من ساق الهدي فليس له التحلل للحديثين وعنه : أنه يقصر من شعره خاصة ولا يلمس شاربه ولا أظفاره لما روى معاوية قال : قصرت من رأس رسول الله ( ص ) بمشقص عند المروة حديث صحيح رواه مسلم
وعنه : إن قدم في العشر لم يحل لذلك وإن قدم قبل العشر نحر وتحلل كالمعتمر غير المتمتع ومن لبد فهو كمن أهدى لما روت حفصة أنها قالت : يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ فقال : [ إني لبدت رأسي وقلدت هديا فلا أحل حتى أنحر ] متفق عليه فأما المعتمر الذي لا يريد التمتع فإنه يحل وإن كان في أشهر الحج لأن النبي ( ص ) اعتمر من ذي القعدة فحل ونحر هديه
فصل :
والسعي ركن لا يتم الحج إلا به لقول عائشة رضي الله عنها : طاف رسول الله ( ص ) بين الصفا و المروة فطاف المسلمون فكانت سنة ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بينهما رواه مسلم وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : [ اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ] رواه أبو داود
وعنه : أنه سنة لا شيء على تاركه لقول الله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } مفهومه أنه مباح وفي مصحف أبي وابن مسعود ( فلا جناح عليه إلا أن يطوف بهما ) وهذا لا ينحط على رتبة الخبر قال القاضي : الصحيح أنه واجب يجبره الدم وليس بركن جميعا بين الدليلين وتوسطا بين الأمرين
فصل :
ولا يسن السعي بين الصفا و المروة إلا مرة في الحج ومرة في العمرة فمن سعى مع طواف القدوم لم يعده مع طواف الزيارة ومن لم يسع مع طواف القدوم أتى به بعد طواف الزيارة فأما الطواف بالبيت فيستحب الإكثار منه والتطوع به لأنه يروى عن النبي ( ص ) أنه قال : [ من طاف بالبيت وصلى ركعتين فهو كعتق رقبة ] رواه ابن ماجه
فصل :
ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه لأنه يروى عن النبي ( ص ) أنه قال : [ ماء زمزم لما شرب له ] رواه الدارقطني ويقول عند الشرب : بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك

باب صفة الحج
يستحب لمن بمكة الخروج يوم التروية - وهو الثامن من ذي الحجة - قبل صلاة الظهر لأن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يومئذ فصلى الظهر بمنى فمن كان حراما خرج على حاله ومن كان حلالا من المتمتعين والمكيين أحرم بالحج وفعل فعله عند الإحرام من الميقات ومن أحرم من الحرم جاز لأن جابرا قال : أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح
والمستحب أن يطوف بالبيت سبعا ويصلي ركعتين ثم يستلم الركن وينطلق منه مهلا بالحج لأن عطاء كان يفعل ذلك ويفعل في إقامته بمنى ورواحه منها ووقوفه مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال جابر : ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فسار حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم لم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه فاستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ودفع رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا أولى ما فعل اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم
ويستحب أن يخطب الإمام خطبة يعلم الناس مناسكهم وفعلهم في وقوفهم ودفعهم في أول ما تزول الشمس ويقصر الخطبة لأن سالم بن عبد الله قال للحجاج يوم عرفة : إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة قال ابن عمر : صدق رواه البخاري ويأمر بالأذان فينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان و إقامتين للخبر ومن لم يصل مع الإمام جمع في رحله لأنهما صلاتا جمع فشرع جمعهما في حق المنفرد كصلاتي المزدلفة ثم يصير إلى موقف عرفة وأين وقف منها جاز لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عرفة كلها موقف ] رواه أبو داود وهي من الجبل المشرف على عرفة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر إلى بطن عرنة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة ] رواه ابن ماجه
والأفضل الوقوف في موقف رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن يقف راكبا لأن النبي صلى الله عليه و سلم وقف راكبا ولأنه أمكن له من الدعاء وقيل : الراجل أفضل لأنه أروح لراحلته ويحتمل أن يكونا سواء
فصل :
ويجتهد في الذكر والدعاء لأنه يوم رغبة ترجى فيه الإجابة فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من يوم أكثر من يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة فإنه ليدنو عز و جل فيباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ] رواه مسلم و النسائي و ابن ماجه ويدعو بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي سمعي نورا ويسر لي أمري ] ويدعو بدعاء ابن عمر رضي الله عنهما الذي ذكرناه ويختار من الدعاء ما أمكنه
فصل :
ووقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر لما روى عروة بن مضرس بن أوس بن لام قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول اله إني جئت من جبلي طيىء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا ووقفت عليه فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجته وقضى تفثه ] { هذا حديث صحيح
وقال أبو حفص العكبري : أول وقته زوال الشمس لأن النبي صلى الله عليه و سلم وقف بعده والأول أولى للخبر ولأن ما قبل الزوال من يوم عرفة فكان وقتا للوقوف بها كالذي بعده ووقوف النبي ( ص ) لم يستوعب الوقت بدليل ما بعد الغروب ومن حصل بعرفة في وقت الوقوف قائما أو قاعدا أو مجتازا أو نائما أو غير عالم أنه بعرفة فقد أدرك الحج للخبر ومن كان مغمى عليه أو مجنون لم يحتسب له به لأنه ليس من أهل العبادات بخلاف النائم لما ذكرنا في الصيام ومن فاته ذلك فقد فاته الحج
قال ابن عقيل : والسكران كالمغمى عليه لأنه ليس من أهل العبادات
ولا يشترط للوقوف طهارة ولا سترة ولا استقبال لأن النبي ( ص ) قال لعائشة إذ حاضت : [ افعلي ما يفعل الحجاج غير أن لا تطوفي بالبيت ] وأمرها فوقفت قال أحمد رضي الله عنه : يستحب أن يشهد المناسك كلها على وضوء لأنه أكمل وأفضل ويجب أن يقف حتى تغرب الشمس لأن النبي ( ص ) وقف كذلك فإن دفع قبل الغروب ثم عاد فلا دم عليه لأنه جمع بين الليل والنهار فإن لم يعد فعليه دم لأنه ترك نسكا واجبا ولا يبطل حجه لحديث عروة بن مضرس ومن وافى عرفة ليلا أجزأه ذلك ولا دم عليه لقول النبي ( ص ) : [ الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه ] رواه أبو داود ويستحب أن لا يدفع قبل الإمام قال أحمد : وما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام لأن أصحاب النبي ( ص ) لم يدفعوا قبله
فصل :
ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة ويسير وعليه السكينة وإذا وجد فرجة أسرع لقول جابر : وأردف رسول الله ( ص ) أسامة وسار وهو يقول : [ أيها الناس السكينة السكينة ] حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد و إقامتين ولم يسبح بينهما وقال أسامة : ( كان رسول الله ( ص ) يسير العنق فإذا وجد فرجة نص ) يعني : أسرع متفق عليه ويكون في الطريق يبلي ويذكر الله تعالى لما روى الفضل : أن النبي ( ص ) لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة متفق عليه فإن وصل مزدلفة أناخ راحلته ثم صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما لخبر جابر وروى أسامة أن النبي ( ص ) أقام فصلى المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلوا ثم حلوا رواه مسلم وإن صلى المغرب في طريق مزدلفة ترك السنة و أجزأه لأن الجمع رخصة فجاز تركها كسائر الرخص ثم يبيت لمزدلفة حتى يطلع الفجر ثم يصلي الفجر في أول وقتها ثم يأتي المعشر الحرام فيقف عليه ويستقبل القبلة ويدعو ويكون من دعائه : اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق { فإذا أفضتم من عرفات } ثم يقف حتى يسفر جدا ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى فإذا أتى بطن محسر أسرع حتى يجاوزه ثم يسير حتى يأتي جمرة العقبة فيرميها لقول جابر في حديثه : ثم اضطجع رسول الله ( ص ) حتى طلع الفجر فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المعشر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل طلوع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى حتى أتى الجمرة يعني جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف وأين وقف من مزدلفة جاز لقول النبي ( ص ) : [ مزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر وحدها ما بين مأزمي وعرفة وقرن محسر ] ويستحب أخذ حصى الجمار منها ليكون مستعدا بالحصى لا يشتغل بجمعه في منى عن تعجيل الرمي ومن حيث أخذه جاز وعدده سبعون حصاة ويستحب أن يكون مثل حصى الخذف و يلقطهن لقطا لما روى ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) غداة العقبة [ القط لي حصا ] فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفيه ويقول : [ أمثال هؤلاء فارموا ] ثم قال : [ أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ] رواه ابن ماجه
والمبيت بمزدلفة واجب يجب بتركه دم لأن النبي ( ص ) وقف به وسماه موقفا وليس بركن لقوله عليه السلام : [ الحج عرفة ]
ويجوز الدفع بعد نصف الليل لما روت عائشة قالت : أرسل رسول الله ( ص ) بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم أفاضت رواه أبو داود ولا بأس بتقديم الضعفة ليلا لهذا الحديث ولما روى ابن عباس قال : كنت فيمن قدم النبي ( ص ) في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى متفق عليه ولا يجوز الدفع قبل منتصف الليل فمن خرج قبل ذلك ثم عاد إليها في ليله فلا دم عليه ومن لم يعد فعليه دم فإن وافاها بعد نصف الليل فلا دم عليه كما قلنا في عرفة سواء
فصل :
فإذا وصل منى بدأ برمي جمرة العقبة لأنه ( ص ) بدأ بها ولأنها تحية منى فلم يقدم عليها شيء كالطواف في المسجد والمستحب رميها بعد طلوع الشمس لما روى ابن عباس أن النبي ( ص ) قال : : [ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ] من المسند
وأول وقته بعد نصف الليل لحديث عائشة ويستحب لمن كان راكبا أن يأتيها راكبا لما روى جابر قال : رأيت النبي ( ص ) يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : [ لتأخذوا عني مناسككم ] رواه مسلم ويستحب أن يستبطن الوادي ويستقبل القبلة ويرمي على حاجبه الأيمن لما روى عبد الرحمن بن يزيد قال : لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى بسبع حصيات ثم قال : والله الذي لا إله إلا غيره من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة متفق عليه وإن رماها من فوقها جاز لما روي عن عمر أنه جاء والزحام عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها ويقطع التلبية عند البداءة بالرمي لقول الفضل : إن النبي ( ص ) لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ولأن التلبية للإحرام وبالرمي يشرع في التحلل منه فلا يبقى للتلبية معنى ويكبر مع كل حصاة لحديث جابر وعن ابن عمر أن النبي ( ص ) استبطن الوادي ورمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة : الله أكبر الله أكبر اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا رواه حنبل في مناسكه و يرفع يده في الرمي حتى يرى بياض إبطيه ولا يجزئه غير الحجر في الرمي من المدر و الخذف ولا بحجر قد رمي به لأن النبي ( ص ) رمى بالحصى وأمر بلقطه من غير المرمي ولأن ما تقبل من الحصى رفع والباقي مردود فلا يرمى به وإن رمى بحجر كبير أجزأه لأنه حجر وعنه : لا يجزئه لأنه منهي عنه
ولا يجزئه وضع الحصى في المرمى بغير رمي لأن النبي ( ص ) رمى
فإن رمى السبع دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة لأن النبي ( ص ) رمى سبع رميات
ولو رمى فوقعت الحصاة في غير المرمى واستقرت لم يجزئه وإن طارت فوقعت في المرمى أجزأته لأنا حصلت فيه برميه وإن وقعت على ثوب إنسان أو محمله ثم طارت إلى المرمى أجزأته وإن رماها الإنسان عن ثوبه أو وقعت بحركة المحمل لم تجزئه لأنها لم تصل برميه وإن رماها من مكان عال فتدحرجت إلى المرمى أجزأته لأنها حصلت فيه بفعله وإن وقعت في غير المرمى فأطارت أخرى إلى المرمى لم تجزئه لأن التي رماها لم تصل
وإذا فرغ من الرمي انصرف ولم يقف لأن النبي ( ص ) لم يقف عندها فإن أخر الرمي إلى المساء رمى ولا شيء عليه لما روى ابن عباس قال : كان النبي ( ص ) يسأل بمنى قال رجل : رميت بعدما أمسيت فقال : [ لا حرج ] رواه البخاري فإن لم يرم حتى جاء الليل لم يرم وأخره إلى غد بعد الزوال لأن ابن عمر قال ذلك
فصل :
ثم ينصرف فيذبح هديا إن كان معه وإن كان عليه واجبا عليه ولا هدي معه اشتراه فذبحه لقول جابر عن النبي ( ص ) إنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ويسن أن ينحر بيده لهذا الحديث ويجوز أن يستنيب فيه لأن النبي ( ص ) أعطى عليا فنحر ما غبر وحد منى ما بين العقبة وبطن محسر فحيث نحر منها أو من الحرم أجزأه لأن النبي ( ص ) قال : [ كل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وطريق ]
فصل :
ثم يحلق رأسه ويستحب أن يحلق عند حلقه لأنه نسك ويستقبل القبلة ويبدأ بشقه الأيمن لما روى أنس أن النبي ( ص ) دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه ثم الأيسر رواه أبو داود ويجوز أن يقصر من شعره إلا أن أحمد قال : من لبد رأسه أو عقص أو ظفر فليحلق لأن عمر وابنه أمرا من لبد رأسه أن يحلق ويروى عن النبي ( ص ) قال : [ من لبد فليحلق ] فأما غير هؤلاء فيجزئهم التقصير بالإجماع والحلق أفضل لأن النبي ( ص ) حلق وقال : [ اللهم اغفر للمحلقين قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : اللهم اغفر للمحلقين قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال في الرابعة : والمقصرين ]
والمرأة تقصر ولا تحلق لأن النبي ( ص ) قال : [ ليس على النساء حلق إنما على النساء تقصير ] رواه أبو داود ولأن الحلق في حقا مثله فلم يكن مشروعا
ومن لا شعر له فلا شيء عليه لأنها عبادة تتعلق بمحل فسقطت بذهابه كغسل اليد في الوضوء ويستحب أن يمر الموسى على رأسه لأن ابن عمر قال ذلك
فصل :
وفي الحلاق والتقصير روايتان :
إحداهما : ليس بنسك إنما هو استباحة محظور لأنه محرم فلم يكن نسكا كالطيب ولأن النبي ( ص ) أمر أبا موسى أن يتحلل بطواف وسعي ولم يذكر تقصيرا
والثانية : هو نسك وهو أصح قول الله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ولأن النبي عليه السلام أمر به بقوله : [ فليقصر وليحلل ] ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة والتفاضل إنما هو في النسك وقال عليه السلام [ إنما على النساء التقصير ] فإن قلنا : هو استباحة محظور فله الخير بين فعله وتركه والأخذ من بعضه دون بعض ويحصل التحلل الأول برمي الجمرة قبله فيحل له كل محرم بالإحرام إلا النساء وما يتعلق بهن من الوطء والعقد والمباشرة لما روت أم سلمة أن رسول الله ( ص ) قال يوم النحر : [ إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا - يعني من كل شيء - إلا النساء ] رواه أبو داود
وعنه : يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج وإن قلنا هو نسك فعليه الحلق أو التقصير من جميع رأسه لقول الله تعالى : { محلقين رؤوسكم ومقصرين }
وحلق النبي ( ص ) جميع رأسه
وعنه : يجزئه بعضه كالمسح ويقصر قدر الأنملة لأن ابن عمر قال ذلك وإن أخذ أقل من ذلك جاز لأن الأمر به مطلق ولا يحصل التحلل الأول إلا به مع الرمي لقول النبي ( ص ) : [ وليقصر وليحلل ]
والأولى حصول التحلل بالرمي وحده لحديث أم سلمة عن ابن عباس مثله وإن أخر الحلاق إلى آخر أيام النحر جاز لأن تأخير النحر جائز وهو مقدم على الحلق فالحلق أولى وإن أخره عن ذلك ففيه روايتان :
إحداهما : عليه دم لأنه ترك النسك في وقته فأشبه تأخير الرمي
والثانية : لا شيء عليه سوى فعله لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ولم يبين آخره لأنه لو أخر الطواف لم يلزمه إلا فعله فالحلق أولى ويستحب لمن حلق أن يأخذ من شاربه وأظفاره لأن النبي ( ص ) لما حلق رأسه قلم أظفاره ولا بأس أن يتطيب لقول عائشة : طيبت رسول الله لحرمه حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت متفق عليه
فصل :
ويسن أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى خطبة يعلمهم فيها الإفاضة والرمي والمبيت بمنى وسائر مناسكهم لما روى ابن عمر قال : خطبنا النبي ( ص ) يوم النحر فقال في خطبته : [ إن هذا يوم الحج الكبر ] رواه البخاري ولأنه يوم فيه وفيما بعده مناسك يحتاج إلى العمل بها فشرعت فيه الخطبة كيوم عرفة
فصل :
ثم يفيض إلى مكة فيطوف بالبيت طوافا ينوي به الزيارة ويسمى طواف الزيارة وطواف الإفاضة وهو ركن الحج لا يتم إلا به لقول الله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } وروت عائشة : أن صفية حاضت فقال رسول الله ( ص ) : [ أحابستنا هي ؟ قالوا : يا رسول الله إنها قد أفاضت قال : فلتنفر إذا ] متفق عليه فدل على أنه لا بد من فعله
وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر لحديث أم سلمة والأفضل فعله يوم النحر لأن النبي ( ص ) لما رمى الجمرة أفاض إلى البيت في حديث جابر وإن أخره جاز لأنه يأتي به بعد دخول وقته فإذا فرغ منه حل له كل شيء لقول ابن عمر : أفاض بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه يعني : النبي ( ص ) وعن عائشة : مثله متفق عليهما
وإن أفاض قبل الرمي حل التحلل الأول ووقف الثاني على الرمي فإن فات وقته قبل رميه سقط وحل التحلل الثاني بسقوطه وهذا في حق من سعى مع طواف القدوم أما من لم يسع فعليه أن يسعى بعد طواف الزيارة ويقف التحلل مع السعي
قال أصحابنا : يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة الرمي والحلق والطواف ويحصل التحلل الثاني بالثالث إن قلنا : الحلق نسك وإن قلنا : ليس بنسك حصل التحلل الأول بواحد من اثنين وهما الرمي والطواف وحصل التحلل الثاني بالثالث
فصل :
قال أحمد رضي الله عنه : في المتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة : يبدأ قبله بطواف القدوم ويسعى بعده ثم يطوف للزيارة بعدهما وهكذا القارن والمفرد إذا لم يكونا دخلا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإذا دخلا للإفاضة بدآ بطواف القدوم وسعيا بعده ثم طافا للزيارة لأن طواف القدوم مشروع فلا يسقط بتعيين طواف الزيارة إلا أنه قال في المرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج : أهلت الحج وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم
واحتج أحمد رضي الله عنه بقول عائشة رضي الله عنها : فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا و المروة ثم طافوا طوفا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم متفق عليه قال الشيخ : لم يتبين لي من هذا الحديث إلا أن طواف القدوم في حقهم غير مشروع لكونهم لم يطوفوا بعد الرجوع من منى إلا طوافا واحدا ولو شرع طواف القدوم لطافوا طوافين ولأن عائشة لم تطف للقدوم حين أدخلت الحج على العمرة ولم تكن طافت له قبل ذلك لأن طواف القدوم تحية المسجد فسقط بتعيين الفرض كتحية المسجد في حق من دخل وقد أقيمت المفروضة
فصل :
يوم الحج الأكبر يوم النحر لما تقدم من حديث ابن عمر سمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه فإنه يفعل فيه ستة أشياء : الوقوف في المشعر الحرام ثم الإفاضة إلى منى ثم الرمي ثم المنحر ثم الحلق ثم طواف الزيارة والسنة : ترتيبها هكذا لأن النبي ( ص ) رتبها في حديث جابر وغيره فإن فعل شيئا قبل شيء جاهلا أو ناسيا فلا شيء عليه لما روى ابن عباس أن النبي ( ص ) قيل له يوم النحر في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير قال : [ لا حرج ] متفق عليه فإن فعل ذلك عالما ذاكرا ففيه روايتان :
إحداهما : لا شيء عليه للخبر
والثانية : عليه دم لأن الله تعالى قال : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } و لأن الحلق كان محرما قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا بالرمي
فصل :
يم يرجع إلى منى من يومه فيمكث بها ليلي أيام التشريق لما روت عائشة قالت : أفاض رسول الله ( ص ) من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليلي أيام التشريق
وهل المبيت بها واجب أم لا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : ليس بواجب لقول ابن عباس : إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت ولأنه مبيت بمنى فلم يجب كليلة عرفة
والثانية : هو واجب لأن ابن عمر روى أن رسول الله ( ص ) رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته متفق عليه فيدل على أنه لا رخصة لغيره
فعلى هذا إن تركه فقال أحمد : يطعم شيئا تمرا أو نحوه وخففه وهذا يدل على أنه أي شيء تصدق به أجزأه
وعنه في ليلة مد وفي ليلتين مدان
وعنه : في ليلة درهم وفي ليلتين درهمان لما ذكرنا في الشعر
وعنه : في ليلة نصف درهم فأما الليلة الثالثة فلا شيء في تركها لأنها لا تجب إلا على من أدركه الليل بها
فإن تركها في هذه الحال مع الليلتين الأوليتين فعليه في الثلاث دم في إحدى الروايتين
فصل :
ثم يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال كل جمرة في كل يوم بسبع حصيات يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعدها من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويستقبل القبلة ويرميها كما وصفنا جمرة العقبة ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى فيقف وقوفا طويلا يدعو الله رافعا يديه ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها عن يمينه ويرميها كذلك ويفعل من الوقوف والدعاء فعليه في الأولى ثم يرمي جمرة العقبة بسبع على صفة رميه يوم النحر ولا يقف عندها لما روت عائشة أن رسول الله ( ص ) رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة يقف عند الأولى والثانية فيطيل المقام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها رواه أبو داود ولا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال مرتبا للخبر فإن نكسه فبدأ بالثالثة ثم بالثانية ثم بالأولى لم يعتد له إلا بالأولى وإن ترك الوقوف والدعاء فلا شيء عليه لأنه دعاء مشروع فلم يجب كما في سائر المشاعر
فصل :
ولا ينقص في سبع والمشهور عن أحمد أن استيفاءها غير واجب
وقال : من رمى بست حصيات لا بأس وخمس حسن وأقل من خمس لا يرمي أحد واحب إلي سبع لما روى سعد قال : رجعنا من الحجة مع رسول الله ( ص ) بعضنا يقول : رميت بست وبعضنا يقول : رميت بسبع فلم يعب في ذلك بعضنا على بعض رواه الأثرم وعنه : أن استيفاء السبع شرط لأن النبي ( ص ) رمى بسبع وقال : [ خذوا عني مناسككم ] فعلى هذه الرواية إن أخل بحصاة من الأولى لم يصح رمي الثانية فإن لم يعلم من أي الجمار تركها حبسها من الأولى ليسقط الفرض بيقين فإن ترك الرمي كله 0حتى مضت أيام التشريق فعليه دم لأنه ترك نسكا واجبا
وإن ترك حصاة أو اثنتين فعلى الرواية الأولى لا شيء عليه وعلى الثانية يخرج فيها مثل ما ذكرنا في ليالي منى
وعنه : من رمى بست ناسيا لا شيء عليه فإن تعمده تصدق بشيء وإن أخر رمي يوم إلى آخر أو أخر الرمي كله إلى اليوم الثالث ترك السنة ولا شيء عليه لكنه يقدم بالنية رمي الأول ثم الثاني ثم الثالث لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي فجاز تأخيره إلى آخر وقته كتأخير الوقوف بعرفة إلى الليل وإنما وجب الترتيب بالنية لأنها عبادات يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها فوجب مع فعلها مجموعة كالصلوات
فصل :
ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى وترك رمي اليوم الأول إلى الثاني أو الثالث إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت واحد والرمي في الليل فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة لحديث ابن عمر في الرخصة للعباس وقال عاصم بن عدي : رخص رسول الله ( ص ) لرعاة الإبل أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما حديث صحيح ولأنهم يشتغلون بالرعاية واستقاء الماء فرخص لهم ذلك وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا لأنهم في معناهم لكن إذا غربت الشمس عليهم بمنى لزم الرعاية البيتوتة دون أهل السقاية لأن الرعاة رعيهم في النهار فلا حاجة لهم في الخروج ليلا فهم كالمريض تسقط عنه الجمعة وإن حضرها وجبت عليه وأهل السقاية يستقون بالليل فلا يلزمهم المبيت
فصل :
ومن عجز عن الرمي جاز أن يستنيب من يرمي عنه لأن جابرا قال : لبينا عن الصبيان ورمينا عنهم والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر النائب فإن رمى عنه ثم برئ لم يلزمه إعادته لأن الواجب سقط بفعل النائب وإن أغمي على إنسان فرمى عنه إنسان فإن كان أذن له جاز وإلا فلا
فصل :
ويسن أن يخطب الإمام يوم النفر وهو أوسط أيام التشريق ويعلم الناس حكم التعجيل و التأخير وتوديعهم لما روي عن رجلين من بني بكر قالا : رأينا رسول الله ( ص ) يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته أخرجه أبو داود ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم ذلك فشرعت الخطبة فيه كيوم عرفة
فصل :
وإذا كان رمي اليوم الثاني وأحب أن ينفر نفر قبل غروب الشمس وسقط عنه المبيت تلك الليلة والرمي بعدها وإن غربت وهو في منى لزمته البيتوتة والرمي من الغد بعد الزوال لقول الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } وقال رسول الله ( ص ) : [ أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ] رواه الترمذي واليوم : اسم لبياض النهار وإن رحل وخرج ثم عاد إليها لحاجة فلم يلزمه المبيت ولا الرمي لأن الرخصة قد حصلت له بالتعجيل قال بعض أصحابنا : يستحب لمن نفر أن ينزل المحصب ثم يدخل مكة لما روى نافع قال : كان ابن عمر يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يهجع هجعة ويذكر ذلك عن رسول الله ( ص ) متفق عليه وقال ابن عباس و عائشة : ليس نزول الأبطح بسنة إنما نزله رسول الله ( ص ) ليكون أسمح لخروجه متفق عليه وفي لفظ عائشة رضي الله عنها
فصل :
ومن أراد المقام بمكة فلا توديع عليه لأن الوداع للمفارق ومن أراد الخروج لم يجز له ذلك يودع البيت بطواف لما روى ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض متفق عليه ويجعل الوداع في آخر أمره ليكون آخر عهده بالبيت فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة لزمته إعادته للخبر
وإن صلى في طريقه أو اشترى لنفسه شيئا لم يعده لأن هذا لا يخرجه عن كونه وداعا وإن خرج ولم يودع لزمه الرجوع ما كان قريبا يمكنه الرجوع فإن لم يفعل أو لم يمكنه الرجوع فعليه دم فإن رجع بعد بلوغه مسافة القصر لم يسقط عنه الدم لأن طوافه لخروجه الثاني وقد استقر عليه دم الأول والمرأة كالرجل إلا إذا كانت حائضا أو نفساء خرجت ولا وداع عليها ولا فدية للخبر إلا أن يستحب لها أن تقف على باب المسجد فتدعو في دعاء المودع وإن نفرت فطهرت قبل مفارقة البنيان لزمها التوديع لأنها في البلد وإن لم تطهر حتى فارقته فلا رجوع عليها لأنه لم يوجد في حقها ما يوجبه في البلد
فصل :
ويستحب للمودع أن يقف في الملتزم بين الركن والباب كما روي عن عبد الله بن عمر أنه قام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطها بسطا وقال : هكذا رأيت رسول الله ( ص ) يفعله رواه أبو داود ويدعو فيقول : اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغبا عنك ولا عن بيتك اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي و العصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن ثم يصلي على النبي ( ص )
فصل :
ومن ترك طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عن طواف الوداع لأنه يحصل به المقصود منه فأجزأ عنه كإجزاء طواف العمرة عن طواف القدوم وصلاة الفرض عن تحية المسجد وإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة لقوله عليه السلام : [ وإنما لامرئ ما نوى ] وحكمه حكم من ترك طواف الزيارة يبقى على إحرامه أبدا حتى يرجع فيطوف للزيارة إلا أن إحرامه عن النساء فحسب لأنه قد حل له بالتحلل الأول كل شيء إلا النساء
فصل :
وليس في عمل القارن زيادة على عمل المنفرد وإن قتل صيدا فجزاؤه واحد
وعنه : عليه طوفان وسعيان لقول اله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وتمامها بأفعالها ولنا قول عائشة : وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوفا واحدا متفق عليه وقال النبي ( ص ) لعائشة لما قرنت : [ يسعك طوافك لحجك و عمرتك ] رواه مسلم ولأنهما عبادتان من جنس اجتمعتا فدخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين
فصل :
أركان الحج : الوقوف بعرفة وطواف الزيارة وفي الإحرام والسعي روايتان
وواجباته : الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل والرمي وطواف الوداع وفي الحلق والمبيت بمنى روايتان
وسننه : الاغتسال وطواف القدوم والرمل والاضطباع فيه واستلام الركنين وتقبيل الحجر والإسراع والمشي في مواضعهما والخطب والأذكار والدعاء والصعود إلى الصفا و المروة
وأركان العمرة : الطواف وفي الإحرام والسعي روايتان
وواجبها : الحلق في إحدى الروايتين
وسننها : الغسل والدعاء والذكر والسنن التي في الطواف والسعي فمن ترك ركنا فلم يتم نسكه إلا به وممن ترك واجبا فعليه دم ومن ترك سنة فلا شيء عليه
فصل :
فإذا رجع قال : آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون لأن النبي ( ص ) كان يقول إذا قفل متفق عليه
ويستحب زيارة قبر النبي ( ص ) وصاحبيه رضي الله عنهما لما روي أن النبي ( ص ) قال : [ من زارني أو زار قبري كنت له شفيعا أو شهيدا ] رواه أبو داود و الطيالسي ويصلي في مسجد رسول الله ( ص ) لقول النبي ( ص ) : [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ] وقوله عليه السلام : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] متفق عليه

باب ما يفسد الحج وحكم الفوات والإحصار
ومن وطئ في الفرج فأنزل أو لم ينزل في إحرام الحج قبل التحلل الأول فقد فسد حجه وعليه المضي في فاسده لما روي عن ابن عمر أن رجلا سأله فقال : إني واقعت امرأتي ونحن محرمان فقال : أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون واحلق إذا حلقوا فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا هديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وقال ابن عباس وعبد الله بن عمر مثل ذلك رواه سعيد بن منصور وروي أيضا عن عمر رضي الله عنه ولا مخالف لهم فكان إجماعا ولأنه لا يمكنه التحلل من الإحرام إلا بأفعاله وعليه القضاء على الفور للخبر ولأنه حج واجب بالشرع فكان واجبا على الفور كحجة الإسلام ويجب عليهما الإحرام للقضاء من حيث أحرما أولا أو من قدره إن سلكا طريقا غيرها لأنه قضاء لعبادة فكان على وفقها كقضاء الصلاة ويفسد حج المرأة للخبر ولأنها أحد المتجامعين فأشبهت الرجل وعليها القضاء ونفقة القضاء عليها إن كانت مطاوعة كالرجل وإن كانت مكرهة فعلى الزوج لأنه ألزمها ذلك فكان موجبه عليه ولا فرق بين العمد والسهو والعلم والجهل للخبر ولأنه معنى يوجب القضاء فاستوى فيه ذلك كالفوائت ولا فرق بين الوطء في القبل و الدبر من آدمي أو بهيمة لأنه وطء في فرج أشبه وطء فرج الآدمية
فصل :
ويتفرقان في القضاء لأن ابن عباس قال : ويتفرقان من حيث يحرمان حتى يقضيا حجهما وفيه وجهان :
أحدهما : أنه يوجب لأن ابن عباس ذكره حكما للمجامع فكان واجبا كالقضاء
والثاني : لا يجب لأنه حج فلم يجب فيه مفارقة الزوجة كغير القضاء ولأن مقصود الفراق التحرز من إصابتها وهذا وهم لا يقتضي الوجوب ومعنى التفرق : اجتناب الركوب معها على بعير واحد والجلوس معها في خباء ولكن يكون قريبا منها يراعي حالها لأنه محرمها
فصل :
ومن وطئ دون الفرج أو قبل أو لمس فلم ينزل لم يفسد حجه وإن أنزل ففيه روايتان :
إحداهما : يفسد حجه لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الوطء في الفرج والأخرى : لا يفسد وهي أصح لأنه فعل لا يجب الحد بجنسه ولا المهر ولا يتعلق به حكم بدون الإنزال أشبه النظر ولا يفسد النسك بغير ما ذكرنا من المحرمات كلها بغير خلاف
فصل :
ومن وطئ بعد التحلل الأول وقبل الثاني لم يفسد حجه لأنها عبادة لها تحللان فوجد المفسد بعد أولهما لا يفسدها كالصلاة ولكنه يخرج إلى الحل فيحرم ليطوف للزيارة بإحرام صحيح وإن وطئ المعتمر في عمرته أفسدها وعليه إتمامها وقضاؤها كالحج و يتعلق بالماضي في الفاسد من الأحكام وتحريم المحرمات ووجوب الفدية فيها مثل ما يتعلق بالصحيح سواء لأنه باق على الإحرام فتعلق به ذلك كالصحيح
فصل :
ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج لما روى جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع ] رواه الأثرم وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة وهي طواف وسعي وتقصير لأن ذلك يروى عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم قال عمر لأبي أيوب حين فاته الحج : اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت وقال ابن أبي موسى : يمضي في حج فاسد يعني : أنه يلزمه المبيت والرمي والصحيح الأول لقول الصحابة ولأن المبيت تبع للوقوف فيسقط بسقوطه ويجب عليه القضاء على الفور
وعنه لا قضاء عليه إن كانت نفلا وإن كانت فرضا فعلها بالوجوب السابق قياسا على سائر العبادات والمذهب الأول لأنه قول الصحابة والمسلمين ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم ولأن الحج يلزم بالشروع فيلزم قضاؤه كالمنذور بخلاف غيره
ويجزئه القضاء عن الحجة الواجبة بغير خلاف لأن الحجة لو تمت لأجزأت عن الواجب فكذلك قضاؤها لأنه يقوم مقام الأداء ويجب على ما فاته الحج هدي
وعنه : لا هدي عليه لأنه لو لزمه هدي لزم المحصر هديان للفوات والإحصار و الصحيح الأول لأنه قول الصحابة المسلمين ولأنه حل في إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي كالمحصر ويخرجه من سنة القضاء لما روى سليمان بن يسار : أن هبار بن الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر فقال له عمر : انطلق إلى البيت فطف به سبعا وإن كان معك هدي فانحرها ثم إن كان عام قادم فاحجج وإن وجدت سعة فاهد وإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله تعالى رواه الأثرم فعلى هذا العمل لأنه قول منتشر لم يعرف له مخالف فإن عدم الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
وقال الخرقي : يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما : لأنه أقرب إلى معادلة الهدي كبدل جزاء الصيد وقول عمر رضي الله عنه أولى
فصل :
إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك لأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء فيشق إن وقع لنفر منهم لم يجزئهم لأنه لتفريطهم وقد روي أن عمر قال لهبار : ما حسبك ؟ قال : كنت أحسب أن اليوم يوم عرفة فلم بعذر بذلك
فصل :
وإذا حصر المحرم عدو من المسلمين فمنعه المضي فالأفضل التحلل وترك قتاله لأنه أسهل من قتال المسلمين وإن كان مشركا لم يجب قتاله إلا أن يبدأ به لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقاتل الذين أحصروه وإن غلب على ظن المحرم الظفر استحب القتال ليجمع بين الجهاد والحج إن غلب على ظنه خلاف ذلك استحب الانصراف صيانة للمسلمين عن التغرير ثم إن وجد طريقا آمنا لم يجز له التحلل قرب أو بعد لأنه قادر على أداء نسكه فأشبه من لم يحصر فإن كان لا يصل إلا بعد الفوات مضى وتحلل بعمرة وفي القضاء روايتان :
إحداهما : يجب لأنه فاته الحج أشبه من أخطأ الطريق
والثانية : لا قضاء عليه لأنه تحلل بسبب الحصر أشبه من تحلل قبل الفوات وإن لم يجد طريقا آمنا فله التحلل لقول الله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم حصره العدو بالحديبية فتحلل ولأنه لو لزمه البقاء على الإحرام لحرج لأنه قد يبقى الحصر سنين وله أن يتحلل وقت الحصر سواء كان معتمرا أو مفردا أو قارنا
وعنه : في المحرم في الحج لا يحل إلا يوم النحر ليتحقق الفوات لأنه لا ييأس من زوال الحصر وكذلك من ساق هديا لا يتحلل إلا يوم النحر لأنه ليس له النحر قبل وقته والصحيح الأول للآية والخبر فإن النبي صلى الله عليه و سلم ساق هديا فنحره وحل قبل يوم النحر ولأن الحج أحد الأنساك فأشبه العمرة ولو وقف الحل على يقين الفوات لم يجر الحل في العمرة لأنها لا تفوت
فصل :
فإن كان معه هدي لم يحل حتى ينحره لقول الله تعالى : { فما استيسر من الهدي } وله ذبحه حين أحصر
وعنه : إن قدر على المحرم أو على إرساله إليه لزمه ذلك ويواطئ رجلا على اليوم الذي يذبحه فيه فيحل حينئذ لأنه قادر على الذبح في الحرم فأشبه المحصر في الحرم والأول أصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه في الحديبية وهي من الحل باتفاق أهل السير ولذلك قال الله تعالى : { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } ولأنه موضع حله فكان موضع ذبحه كالحرم ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به لأن الهدي يكون لغيره فلزمته النية ليميز بينهما ثم يحلق لما روى ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وهل يجب الحلاق أو التقصير أو لا ؟ مبني على الروايتين فيه هل هو نسك أو لا ؟ فإن قلنا : هو نسك حصل الحل به وبالهدي وبالنية وإن قلنا : ليس بنسك حصل الحل بهما دونه
فصل :
وإن لم يجد هديا صام عشرة أيام ثم حل لأنه دم واجب للإحرام فكان له بدل ينتقل إليه كدم التمتع ولا يحل إلا بعد الصيام كما لا يحل إلا بعد الهدي فإن نوى التحلل قبله لم يحل فكان على إحرامه حتى يذبح أو يصوم لأنه أقيم هاهنا مقام أفعال الحج
فصل :
وليس عليه قضاء
وعنه : يجب عليه القضاء لأن النبي صلى الله عليه و سلم قضى عمرة الحديبية وسميت الثانية عمرة القضية ولأنه حل من إحرام قبل إتمامه فلزمه القضاء كمن فاته الحج
ووجه الأولى : أنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له فلم يجب قضاؤه كما لو دخل في الصوم يعتقده واجبا فلم يكن فأما الخبر فإن الذين صدوا كانوا ألفا وأربعمائة والذين اعتمروا معه في القضاء كانوا نفرا يسيرا ولم يأمر الباقين بالقضاء والقضية : الصلح الذي جرى بينهم وهو غير القضاء ويفارق الفوات فإنه بتفريطه
فصل :
فإن لم يحل المحصر حتى زال الحصر لم يجز له التحلل لأنه زال العذر وإن زال العذر بعد الفوات تحلل بعمرة وعليه هدي للفوات لا للحصر لأنه لم يحل به وإن فاته الحج مع بقاء الحصر فله الحل به لأنه إذا حل به قبل الفوات فمعه أولى وعليه الهدي للحل ويحتمل أن يلزمه هدي آخر للفوات وإن حل بالإحصار ثم زال وأمكنه الحج من عامه لزمه ذلك وإن قلنا بوجوب القضاء أو كانت الحجة واجبة لأن الحج على الفور إلا فلا
ومن كان إحرامه فاسدا فله التحلل بالإحصار لأنه إذا حل من الصحيح فمن الفاسد أولى فإن زال الحصر بعد الحل وأمكنه الحج من عامه فله القضاء فيه ولا يتصور القضاء للحج في العام الذي أفسده فيه إلا في هذا الموضع
فصل :
ومن صد عن عرفة وتمكن من البيت فله أن يتحلل بعمرة لأن له ذلك من غير حصر فمعه أولى وعنه : لا يجوز له التحلل بل يقيم على إحرامه حتى يفوته الحج ثم يحل بعمرة لأنه إنما جاز له التحلل بعمرة في موضع يمكنه الحج من عامه ليصير متمتعا [ وهذا ممنوع من الحج فلا يمكنه أن يصير متمتعا ]
فصل :
والحصر والخاص : مثل أن يحسبه سلطان أو غريم ظلما أو بحق لا يقدر على إيفائه والعبد إذا منعه سيده والزوجة يمنعها زوجها كالعام في جواز التحلل لعموم الآية [ وتحقق المعنى فيه فأما من أحصره مرض أو عدم نفقة ففيه روايتين :
إحداهما : له التحلل لعموم الآية ] ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى ] رواه النسائي ولأنه محصر فأشبه من حصره العدو
والثانية : ليس له التحلل لأن ابن عباس وابن عمر قالا : لا حصر إلا حصر العدو ولأنه لا يستفيد بالحل الانتقال إلى حاله والتخلص من الأذى به بخلاف حصر العدو

باب الهدي
يستحب لمن أتى مكة أن يهدي لأن النبي صلى الله عليه و سلم أهدى في حجته مائة بدنة [ رواه البخاري ولم يقل في حجته ] ويستحب استسمانها واستحسانها لقول الله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } قال ابن عباس : هو الاستسمان والاستحسان و الاستعظام أفضل الهدي والأضاحي الإبل ثم البقر ثم الغنم لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ] متفق عليه
ويجوز للمتطوع أن يهدي ما أحب من كبير الحيوان وصغيره وغير الحيوان استدلالا بهذا الحديث إذ ذكر فيه الدجاجة والبيضة والأفضل : بهيمة الأنعام لأن النبي صلى الله عليه و سلم أهدى منها فإن كان إبلا سن إشعارها بأن تشق صفحة سنامها اليمنى حتى يسيل الدم ويقلدها نعلا أو نحوها لما روى ابن العباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بذي الحليفة ثم دعا ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها اليمنى وسلت الدم عنها بيده رواه مسلم ولأنها ربما اختلطت بغيرها أو ضلت فتعرف بذلك فترد وإن كانت غنما قلدت آذان القرب والعرى لقول عائشة : ( كنت أفتل القلائد النبي صلى الله عليه و سلم فيقلد الغنم ويقيم في أهله حلالا ) [ أخرجه البخاري و مسلم ونحوه ] ولا يشعرها لضعفها ولأنه يستتر موضع الإشعار بشعرها وصوفها
فصل :
ولا يجب الهدي بسوقه مع نيته كما لا تجب الصدقة بالمال بخروجه به لذلك ويبقى على ملكه وتصرفه ونمائه له حتى ينحره وإن قلده وأشعره وجب بذلك كما لو بنى مسجدا وأذن بالصلاة فيه وإن نذره أو قال : هذا هدي لله وجب لأنه لفظ يقتضي الإيجاب فأشبه لفظ الوقف وله ركوبه عند الحاجة من غير إضرار به لأن أبا هريرة روى : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال : [ اركبها ] فقال : يا رسول الله إنها بدنة فقال : [ اركبها ويلك ] في الثانية أو في الثالثة متفق عليه وفي حديث آخر قال : [ اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ] رواه أبو داود فإن نقصها ركوب ضمنها لأنه تعلق حق غيره بها وإن ولدت فولدها بمنزلتها يذبحه معها لما روي أن عليا رضي الله عنه رأى رجلا يسوق بقرة معها ولدها فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فانحرها وولدها ولأنه معنى تصير به لله تعالى فاستتبع الولد كالعتق وله أن يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها لحديث علي ولقول الله تعالى : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } ولا يجوز أكثر من ذلك للخبر ولأن اللبن غذاء الولد فلا يجوز منعه منه كما لا يجوز منع الأم علفها فإن لم يمكنه المشي حمله على ظهرها لأن ابن عمر : كان يحمل ولد البدنة عليها فإن لم يمكنه حمله ولا سوقه صنع به كما يصنع بالهدي الذي يخشى عطبه وإن كان عليها صوف في جزه صلاح لها جزه وتصدق به لأنها تسمن بذلك فتنفع المساكين وإن لم يكن في جزه صلاح لم يجز أخذه لأنه جزء منها وينفع الفقراء عند ذبحها وإن أحصر نحره حيث أحصر لأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه بالحديبية وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه لأنه أمانة عنده فلم يضمنه من غير تفريط كالوديعة فإن تعيب ذبحه و أجزأه لأنه لا يضمن جميعه فبعضه أولى
فصل :
وإن عجز عن المشي أو عطب دون محله نحره موضعه وصبغ نعله الذي في عنقه في دمه فضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء وخلى بينه وبينهم ولم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته لما روى ذؤيب أبو قبيصة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول : [ إن عطب منها شيئا فخشيت عليها موتا فأنجزها ثم اغمس نعلها في دمها ثم أضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ] رواه مسلم ولأنه متهم في التفريط فيها ليأكلها أو يطعمها رفقته فمنعوا من أكلها لذلك فإن لم يذبحها عند خوفه عليها حتى تلفت ضمنها لأنه فرط فيها فلزمه ضمانها كالوديعة إذا رأى من يسرقها فلم يمنعه
وإن أتلفها ضمنها لأنه أتلف مالا يتعلق به حق غيره فضمنه كالغاصب ويلزمه أكثر الأمرين من قيمتها أو هدي مثلها لأنه لزمته الإراقة والتفرقة وقد فوتهما فلزمه ضمانهما كما لو أتلف شيئين وإن كانت قيمتها وفق مثلها أو أقل لزمه مثلها وإن كانت أكثر اشترى بالفضل هديا آخر فإن لم يسع اشترى به لحما وتصدق به لأنه أقرب إلى المفوت ويحتمل أن يتصدق بالقيمة وإن أكل مما منع من أكله ضمنه بمثله لحما لما ذكرنا وإن أتلفها غيره فعليه قيمتها لأنه لا تلزمه الإراقة فلزمته قيمتها كغيرها ويشتري بالقيمة مثلها فإن زادت فالحكم على ما ذكرنا فيما إذا أتلفها صاحبها
وإن اشترى هديا فوجده معيبا فله الأرش ويحتمل أن يكون للمساكين لأنه بدل عن الجزء الفائت من حيوان جعله لله تعالى فكان للمساكين كعوض ما أتلف منه بعد الشراء ويكون حكمه حكم الفاضل عن المثل ويحتمل أن يكون له لأن النذر إنما صادف المعيب بدون الجزء الفائت فلم يدخل في نذره فلا يستحق عليه بدله
فصل :
ولا يزول ملكه عن الهدي و الأضحية بإيجابهما نص عليه وله إبدالهما بخير منهما
وقال أبو الخطاب : يزول ملكه وليس له بيعه ولا إبداله لأنه جعله لله تعالى فأشبه المعتق والموقوف
ووجه الأول : أن النذور محمولة على أصولها في الفرض وفي الفرض لا يزول ملكه وهو الزكاة وله إخراج البدل فكذلك في النذور وأما بيعها بدونها فلا يجوز لأن فيه تفويت حق الفقراء من الجزء الزائد فلم يجز كما لو أخرج من الزكاة أدنى من الواجب ولا يجوز إبدالها بمثلها لأنه تفويت لعينها من غير فائدة تحصل
فصل :
ومن وجب في ذمته هدي فعينه في حيوان تعين لأنه ما وجب به معين جاز أن يتعين به ما في الذمة كالبيع ويصير للفقراء فإن هلك بتفريط أو غيره رجع الواجب إلى ما في الذمة كما لو كان له عليه دين فباعه به طعاما فهلك قبل تسليمه فإن تعيب أو عطب فنحره لم يجزئه لذلك وهل يعود المعين إلى صاحبه فيه روايتان :
إحداهما : يعود ذكره الخرقي فقال : صنع به ما شاء لأنه إنما عينه عما في ذمته فإن لم يقع عنه عاد إلى صاحبه كمن أخرج زكاته فبان أنها غير واجبة عليه
والأخرى : لا يعود لأنه صارت للمساكين بنذره فلم تعد إليه كالذي عينه ابتداء وهل تعود إلى ذمته مثل المعين أو مثل الواجب في الذمة ؟ ينظر فإن تلف بغير تفريط لم يلزمه أكثر مما في الذمة لأن الزائد إنما تعلق بالعين فسقط بتلفها وإن تلف بتفريط لزمه أكثر الأمرين لأنه تعلق بالمعين حق الله تعالى فإن أتلفه فعليه مثل ما فوته وإن ولد هذا المتعين تبعه ولده لما ذكرنا في المعين ابتداء فإن تعيبت الأم فبطل تعيينها ففي ولدها وجهان :
أحدهما : يبطل تبعا كما ثبت تبعا
والثاني : لا يبطل لأن بطلانه في الأم لمعنى اختص بها بعد استقرار الحكم في ولدها فلم يبطل فيه كما لو ولدت في يد المشتري ثم ردها لعيبها
فصل :
وإذا ذبح هدية أو أضحيته إنسان بغير أمره في وقته أجزأ عنه لأنه لا يحتاج إلى قصده فإذا فعله إنسان بغير إذنه وقع الموقع ولا ضمان على الذابح لأنه حيوان تعين إراقة دمه عل الفور حقا لله تعالى فلم يضمنه كالمرتد
فصل :
ويجوز الأكل من هدي التمتع والقران لأن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم كن متمتعات إلا عائشة فإنها كانت قارنه لإدخالها الحج على عمرتها وقالت : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة قالت : فدخل علينا بلحم بقر فقلت : ما هذا ؟ فقيل : ذبح النبي صلى الله عليه و سلم عن أزواجه رواه مسلم ولأنه دم نسك فجاز الأكل منه كالأضحية ولا يجوز الأكل من واجب سواها لأنه كفارة فلم يجز الأكل منه ككفارة اليمين وعنه : له الأكل من الجميع إلا المنذور وجزاء الصيد ولا يجوز الأكل من الهدي المنذور في الذمة لأنه نذر إيصاله إلى مستحقيه فلم يجز أن يأكل منه كما لو نذر لهم طعاما وما ساقه تطوعا استحب الأكل منه سواء عينه أو لم يعينه لقول الله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } وأقل أحوال الأمر الاستحباب وقال جابر : أمر النبي صلى الله عليه و سلم من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل منها وحسا من مرقها ولأنه دم نسك فأشبه الأضحية قال ابن عقيل : حكمه في الأكل والتفريق حكمها وقال جابر : كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث فرخص لنا النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ كلوا وتزودوا ] فأكلنا وتزودنا رواه البخاري و مسلم ونحوه والمستحب الاقتصار على اليسير في الأكل لفعل النبي صلى الله عليه و سلم في بدنه وإن أطعمها كلها فحسن فإن النبي صلى الله عليه و سلم نحر خمس بدنات ثم قال : [ من شاء اقتطع ] رواه أبو داود وظاهر هذا أنه لم يأكل منها شيئا ويجوز للمهدي تفريق اللحم بنفسه ويجوز إطلاقه للفقراء استدلالا بهذا الحديث
فصل :
إذا نذر هديا مطلقا فأقل ما يجزئه شاة أو سبع بدنة أو بقرة لأن المطلق يحمل على أصله في الشرع ولا يجزئ إلا ما يجزئ في الأضحية ويمنع فيه من العيب ما يمنع فيها وإن عينه بنذره ابتداء أجزأه ما عينه كبيرا أو صغيرا أو حيوانا أو غيره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فكأنما قرب دجاجة وكأنما قرب بيضة ] وإذا أطلق بالنسبة إلى مكانه وجب إيصاله إلى فقراء الحرم لأن ذلك المعهود في الهدي وإن عين الذبح بمكان غيره في نذره لزمه ذلك ما لم يكن فيه معصية لما روي أن رجلا قال : يا رسول الله إني نذرت أن أنحر ببوانة قال : [ هل بها صنم ] قال : لا قال : [ أوف بنذرك ] رواه أبو داود
فصل :
ومن وجب عليه دم أجزأه ذبح شاة أو سبع بدنة أو بقرة لقول ابن عباس : في هدي المتعة شاة أو شك في دم فإن ذبح بدنة احتمل أن يكون جميعها واجبا كما لو اختار التكفير بأعلى الكفارات واحتمل أن يكون سبعها واجبا وباقيا تطوعا لأن سبعها يجزئه فأشبه ما لو ذبح شياه
ومن وجب عليه بدنة بنذر أو قتل نعامة أو وطء أجزأه بسبع من الغنم لأنها معدولة بسبع و الشياه أطيب لحما وقد روي عن ابن عباس : أن النبي ( ص ) أتاه رجل فقال : إن علي بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها فأشتريها فأمره النبي ( ص ) أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن رواه ابن ماجه
وقال ابن عقيل : إنما يجزئ ذلك مع عدم البدنة لأنها بدل فيشترط فيه عدم المبدل والأول أولى لما ذكرناه وإن وجبت عليه بدنة فذبح بقرة أجزأته لما روى جابر قال : كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له والبقرة ؟ فقال : وهل هي إلا من البدن ! رواه مسلم وقال ابن عقيل : إن نذر بدنة لزمه ما نواه فإن لم ينو شيئا ففيه روايتان :
إحداهما : هو مخير على ما ذكرناه
والثانية : إن لم يجد بدنة أجزأته بقرة
فإن لم يجد فسبعا من الغنم
وعنه : عشر لأنه بدل فلا يجزئ مع وجود الأصل فأما من وجب عليه سبع من الغنم فإنه يجزئه بدنة أو بقرة لأنها تجزئ عن سبع في حق سبعة ففي حق واحد أولى

باب الأضحية
وهي سنة مؤكدة لما روى أنس قال : ضحى النبي صلى الله عليه و سلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما متفق عليه قال أبو زيد : الأملح : الأبيض الذي فيه سواد وقال ابن الأعرابي : هو الأبيض النقي والتضحية أفضل من الصدقة بقيمتهما لأن النبي صلى الله عليه و سلم آثرها على الصدقة وليست واجبة لأنه روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان عن أهلهما مخافة أن يرى ذلك واجبا وروت أم سلمة عن رسول الله قال : [ إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئا حتى يضحي ] رواه مسلم وقال القاضي : هذا نهي كراهية لا تحريم بدليل قول عائشة : كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي متفق عليه ويمكن حمل الحديث على ظاهره في التحريم ولا تعارض بين الحديثين لأن أحدهما في الأضحية والآخر في الهدي المرسل ولو تعارضنا لكان حديث أم سلمة خاصا في الشعر والظفر فيجب تقديمه فإن فعل استغفر الله تعالى ولا فدية عليه
فصل :
ولا يجزئ إلا بهيمة الأنعام لقول الله تعالى : { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ولا يجزئ إلا الجذع عن الضأن والثني من غيره لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن ] رواه مسلم والثنية من البقر هي المسنة ومن الإبل ما كمل لها خمس سنين قاله الأصمعي ويستحب استحسانها وأفضلها البياض لأنه صفة أضحية رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ما كان أحسن لونا
فصل :
وتجزئ البدنة عن سبعة وكذلك البقرة لقول جابر : كما نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه و سلم نذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها رواه مسلم ويجوز أن يشتركوا فيها سواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم القربة والباقون اللحم لأن كل سبع مقام شاة ويجوز أن يقسموا أنصباءهم لأن القسمة إفراز حق والحاجة داعية إليه
فصل :
ويستحب أن ينحر الهدي والأضحية بيده لحديث أنس ويجوز أن يستنيب فيه لما ذكرنا في الهدي ويجوز أن يستنيب كتابيا لأنه من أهل الزكاة ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم لأنها قربة فالأفضل أن لا يليها كافر بالله
وعنه : لا يجوز أن يليها كافر لذلك ويستحب لمن استناب أن يحضرها لما روى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : [ أحضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها ] ويقول عند الذبح : بسم الله والله أكبر لحديث أنس وإن قال : اللهم هذا منك ولك اللهم تقبل مني أو من فلان فحسن لما روى جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال على أضحيته : [ اللهم هذا منك ولك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر ] ثم ذبح وفي رواية قال : [ بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد ] ثم ضحى رواه مسلم وليس عليه أن يقول عن فلان لأن النية تجزئ
فصل :
وأول وقت الذبح في حق أهل المصر إذا صلى الإمام وخطب يوم النحر لما روى البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ] متفق عليه وفي حق غير أهل المصر قدر الصلاة والخطبة لأنه تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة فاعتبر قدرها وقال الخرقي : المعتبر قدر الصلاة والخطبة في حق الجميع لأنها عبادة يتعلق آخرها بالوقت فتعلق أولها بالوقت كالصوم فمن ذبح قبل ذلك لم يجزئه وعليه بدلها إن كانت واجبة لحديث البراء وآخر وقتها آخر اليومين الأولين من أيام التشريق لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث متفق عليه قال الخرقي : لا يجوز الذبح ليلا لقول الله تعالى : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وقال غيره من أصحابنا : يجوز ليلا لأنه زمن يصح فيه الرمي فصح فيه الذبح كالنهار وقال بعضهم : فيه روايتان فإن فات وقت الذبح ذبح الواجب قضاء لأنه قد وجب ذبحه فلم يسقط بفوات وقته وإن كان تطوعا فقد فاتته سنة الأضحية
فصل :
ولا يجزئ في الأضحية معيبة عيبا ينقص لحمها لما روى البراء قال : قام فينا رسول اله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والعجفاء التي لا تنقى ] رواه أبو داود يعني : التي لا مخ فيها والعوراء البين عورها : التي انخسفت عينها وذهبت فنص على هذه الأربعة الناقصة اللحم وقسنا عليها ما في معناها
ولا تجزئ العضباء لما روى علي رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يضحى بأعضب الأذن أو القرن قال سعيد بن المسيب : العضب النصف فأكثر من ذلك رواه النسائي يعني التي ذهب أكثر من نصف أذنها أو قرنها وتجزئ الجماء التي لم يخلق لها قرن والصمعاء : وهي الصغيرة الأذن والبتراء : التي لا ذنب لها والشرقاء : التي شقت أذنها والخرقاء : التي انشقت أذنها لأن ذلك لا ينقص لحمها ولا يمكن التحرز منه وغيرها أفضل منها لقول علي رضي الله عنه : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ) قال أبو اسحق السبيعي : المقابلة : قطع طرف الأذن والمدابرة : القطع من مؤخرة الأذن والخرقاء : تشق الأذن للمسة والشرقاء : تشق أذنها السمة رواه أبو داود وهذا نهي تنزيه لما ذكرنا
وقال ابن حامد : لا تجزئ الجماء ويجزئ الخصي لأن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين موجوءين ولأنه يذهب عضو غير مستطاب يطيب اللحم بذهابه
فصل :
ويستحب أن يؤكل الثلث من الأضحية ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم في الأضحية قال : [ ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤال بالثلث ] قال الحافظ أبو موسى : هذا حديث حسن ولقول ابن عمر : الضحايا والهدايا : ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين وإن أطعمها كلها أو أكثرها فحسن وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز وإن أكلها كلها ضمن القدر الذي تجب الصدقة به لقول الله تعالى : { وأطعموا القانع والمعتر } والأمر يقتضي الوجوب وإن نذر الأضحية فله الأكل منها لأن النذر محمول على المعهود قبله والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها ولأكل منها ولا يغير النذر من صفة المنذور إلا الإيجاب
قال القاضي : ومن أصحابنا من منع الأكل منها قياسا على الهدي المنذور
فصل :
ولا يجوز بيع شيء من الهدي والأضحية ولا إعطاء الجازر بأجرته شيئا منها لما روي عن علي رضي الله عنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أقوم بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر منها شيئا وقال : [ نحن نعطيه من عندنا ] متفق عليه ويجوز أن ينتفع بجلدها ويصنع منه النعال والخفاف والفراء والأسقية ويدخر منها لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال : [ كنت نهيتكم من ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ] رواه مسلم ولأن الجلد جزء من الأضحية فجاز الانتفاع به كاللحم
فصل :
وإذا أوجب الأضحية بعينها فالحكم فيها كالحكم في الهدي المعين في ركوبها وولدها ولبنها وصوفها وتلفها وإتلافها ونقصانها وذبحها على ما ذكرنا لأن الأضاحي والهدايا معناهما واحد وإيجابها قوله : هذه أضحيتي أو هذه لله ونحوه من القول ولا يحصل ذلك بالشراء مع النية لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم تؤثر فيها النية المفارقة للشراء كالوقف والعتق فإن أوجبها ناقصة نقص يمنع الإجزاء فعليه ذبحها لأن إيجابها كنذر ذبحها فيلزمه الوفاء به ولا يكون أضحية لقول النبي ( ص ) : [ أربع لا تجزئ في الأضاحي ] ولكنه يتصدق بلحمها ويثاب عليه كمن أعتق عبدا عن كفارة به عيب يمنع الإجزاء ولا يلزمه البدل إلا أن تكون الأضحية واجبة لأنها تطوع وإن زال عيبها قبل ذبحها أجزأت عن الأضحية لأن القربة تتعين فيها بالذبح وهي سليمة حينئذ وإن اشتراها معيبة فأوجبها ثم علم عيبها خرج جواز ردها على جواز إبدالها وقد ذكرناه وله أخذ أرشها وحكمه حكم أرش الهدي المعيب

باب العقيقة
وهي الذبيحة عن المولود وهي سنة لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه ] رواه أبو داود وليست واجبة لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من ولد له مولود فأحب أن ينسك عنه فليفعل ] رواه مالك في الموطأ والسنة أن يذبح عن الغلام شاتان متساويتان وعن الجارية شاة لما روت أم كرز الكعبية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ] رواه أبو داود ويستحب ذبحها يوم السابع ويجزئ فيها من بهيمة الأنعام ما يجزئ في الأضحية ويمنع فيها من العيب ما يمنع فيها وسبيلها في الأكل والهدية والصدقة سبيلها إلا أنه يستحب تفصيلها أعضاء ولا يكسر لها يكسر لها عظم لأنها أول ذبيحة ذبحت عن المولود فاستحب أن لا تكسر عظامها تفاؤلا بسلامة أعضائه قالت عائشة رضي الله عنها : السنة شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة وكان عطاء يقول : تطبخ جدولا ولا يكسر عظمها ويأكل ويطعم و يتصدق وذلك يوم السابع فإن ذبحها قبل السابع جاز لأنه فعلها بعد سببها فجاز كتقديم الكفارة قبل الخنث وإن أخرها عنه ذبحها في الرابع عشر فإن فات ففي إحدى وعشرين لما روى بريدة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ في العقيقة تذبح لسبع ولأربع عشر ولإحدى وعشرين ] أخرجه الحسين بن يحيى بن عياش القطان فإن أخرها عنه ذبحها بعده لأنه قد تحقق سببها
فصل :
ويستحب حلق رأس الصبي يوم السابع وتسميته لحديث سمرة وإن سماه قبل ذلك جاز لما روى أنس أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم بأخ له حين ولد فحنكه بتمرة وسماه عبد الله متفق عليه وسمى النبي صلى الله عليه و سلم ولده إبراهيم ليلة ولد متفق عليه ويستحب تحسين اسمه لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فاحسنوا أسماءكم ] رواه أبو داود وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ] حديث صحيح رواه مسلم ويكره لطخ رأس الصبي بالدم لأنه تنجيس له وهو من عمل أهل الجاهلية قال بريدة كنا نلطخ رأس الصبي بدم العقيقة فلما جاء الإسلام كنا نلطخه بالزعفران

باب الذبائح
لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة لقول الله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } إلا السمك وما شبهه مما لا يعيش إلا في الماء فإنه يباح بغير ذكاة وإن طفا لقول النبي صلى الله عليه و سلم في البحر : [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] والجراد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال ] ولأن ذكاتهما في العادة لا تمكن فسقط اعتبارها وما يعيش من البحري في البر لا يحل إلا بالذكاة لأنه مقدور على ذبحه إلا السرطان فإنه لا ذكاة له فأشبه الجراد [ وقال القاضي : لا يباح بغير ذكاة ] وعن أحمد رضي الله عنه : أن الجراد لا يباح إلا أن يموت بسبب كتغريقه وطبخه والأول المذهب ولو وجد سمكة في بكن أخرى أو في حوصلة طائر أو جراد أو حبا أو وجد الحب في روث بعير حل لأنه في محل طاهر ولا ذكاة له فأشبه ما مات في الماء وعنه : ما أكل مرة لا يؤكل ثانية لأنه رجيع فيكون مستخبثا ولو صاد الوثني حوتا حل وعنه : لا يحل والأول أصح لأنه لا ذكاة له فأشبه ما لو أخذ ميتا
فصل :
وللذكاة أربعة شروط :
أهلية المذكي بأن يكون مسلما أو كتابيا أو عاقلا لقول الله تعالى : { إلا ما ذكيتم } وقول سبحانه : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } يعني : ذبائحهم ولا تحل ذكاة وثني ولا مجوسي ولا مرتد وإن تدين بدين أهل الكتاب لأنه لم يثبت له حكم أهل الكتاب ومفهوم الآية تحريم ذبائحهم من سواهم وفي نصارى بني تغلب روايتان :
أصحهما : حل ذبائحهم لعموم الآية
والثانية : تحريمها لأن ذلك يروى عن علي رضي الله عنه قال أصحابنا : ولا تحل ذبيحة من أحد أبويه وثني أو مجوسي لأنه اجتمع فيه ما يقضي الحظر والإباحة فغلب الحظر وإن ذبح اليهودي ما حرم عليهم وهو كل ذي ظفر
قال قتادة : هو الإبل والنعام والبط وما ليس بمشقوق الأصابع أو ذبح بقرة أو شاة لم يحرم علينا منه شيء في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه واختيار ابن حامد لأنه من أهل الذكاة ذبح ما يحل لنا فأشبه المسلم
واختار أبو الحسن التميمي أنه يحرم علينا ما يحرم عليه من الشحم وذي الظفر لأنه لم يبح لذابحه فلم يبح لغيره كالدم ويعتبر العقل فلا تحل زكاة مجنون ولا سكران ولا طفل غير عاقل لأنه أمر يعتبر له العقل والدين فاعتبر له العقل كالغسل وكذلك لو رمى هدفا فذبح صيدا لم يحل ويصح من العدل والفاسق والذكر والأنثى والصبي العاقل والأعمى لما روى كعب بن مالك أن جارية له كانت ترعى غنما بسلع فأصيب منها شاة فأدركتها فذكتها بحجر فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بأكلها رواه البخاري وقال ابن عباس : من ذبح من ذكر وأنثى وصغير وكبير وذكر اسم الله عليه فكل
فصل : الشرط الثاني : الآلة وهو أن يذبح بمحدد أي شيء كان من حديد أو حجر أو خشب أو قصب إلا السن والظفر فإنه لا يباح الذبح بهما لما روى رافع بن خديج قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأخبركم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة ] متفق عليه فإن ذبح بعظم غير السن أبيح في ظاهر كلامه لدخوله في عموم اللفظ وعنه : لا يباح لأن النبي صلى الله عليه و سلم علل تحريم الذبح بالسن لكونه عظما ويستحب تحديد الآلة لما روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإن قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] رواه مسلم
فصل :
الشرط الثالث : أن يسمي الله لقول الله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وحديث رافع فإن تركها عمدا لم تحل ذبيحته وإن تركها سهوا حلت لما روى راشد بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم الله تعالى إذا لم يعتمد ] أخرجه سعيد
وعنه : لا تسقط التسمية في عمد ولا سهو للآية والخبر وعنه : لا تجب في الحالين لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا : يا رسول الله إن قوما من الأعراب يأتونا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : [ سموا أنتم وكلوا ] رواه البخاري والمذهب الأول
وإن شك في تسمية الذابح حل لحديث عائشة ولأن حال المسلم تحمل على الصحة كالذبح في المحل
والتسمية : قول بسم الله وإن كان بغير العربية وموضعها عند الذبح يجوز تقديمها عليه بالزمن اليسير وإن سمى على شاة وذبح أخرى لم تبح لأنه لم يذكر اسم الله عليها وإن سمى على قطيع وذبح منه شاة لم تبح وإن سمى على شاة ثم ألقى السكين وأخذ أخرى أو تحدث ثم ذبحها حلت لأنه سمى عليها وتقوم إشارة الأخرس مقام تسميته كسائر ما يعتبر فيه النطق
فصل :
الشرط الرابع : المحل وهو الحلق واللبة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نادى النحر في اللبة والحلق لمن قدر أخرجه سعيد وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه و سلم
ويشترط قطع الحلقوم وهما مجرى الطعام والنفس
وعنه : يشترط فري الودجين أو أحدهما وهما عرقان محيطان بالحلقوم لما روى أبو هريرة قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شريطة الشيطان ) وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج ثم تترك حتى تموت رواه أبو داود
والأول أولى لأنه قطع لا تبقى الحياة معه في محل الذبح وإن قطع الأوداج وحدها فينبغي أن تحل استدلالا بالحديث والمعنى والأولى قطع الجميع لأنه أوحى وأبلغ من سيلان الدم وتنظيف اللحم منه
فصل :
والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى لقول الله تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } ومر ابن عمر [ على رجل قد أناخ بدنته لينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه ثم يجؤها بالحربة من الوهدة التي بين أصل العنق والصدر لقول الله تعالى : { فصل لربك وانحر } ونحر النبي صلى الله عليه و سلم بدنة ويذبح سائر الحيوان لقول اله تعالى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وذبح النبي صلى الله عليه و سلم الكبشين الذين ضحى بهما فإن ذبح ما نحر أو نحر ما يذبح جاز لأنه لم يتجاوز محل الذبح ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ] ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يستحب ذلك ولأنها أولى الجهات بالاستقبال
فصل :
فإن ذبحها من قفاها فأتت السكين على موضع ذبحها وفيها حياة مستقرة حلت لأنها ماتت بالذبح وكذلك ما جرح من غير مذبحه والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع والمريضة ما أدرك ذكاتها وفيها حياة مستقرة حلت لقول الله تعالى : { إلا ما ذكيتم } ولحديث جارية كعب : ( إذا أصيبت منها شاة فأدركتها فذكتها بحجر فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بأكلها ) وما لم يبق فيه إلا مثل حركة المذبوح لا يباح لأنه صار في حكم الميت وكذلك لو ذبحها بعد ذبح الوثني لها لم تبح
فصل :
ويكره أن يبين الرأس بالذبح وقطع عضو مما ذكى أو سلخه حتى تزهق نفسه لأن عمر رضي الله عنه قال : لا تجعلوا الأنفس حتى تزهق ولا يحرم المقطوع لأن إبانته حصلت بعد ذبحها وحلها ولو ذبحها فسقطت في ماء أو تردت ترديا يقتلها مثله فقال أكثر أصحابنا : لا تحرم لما ذكرنا
وقال الخرقي : تحرم وهو المنصوص عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعدي بن حاتم : [ فإن وقعت في الماء فلا تأكل ] ولأن ذلك يعين على زهوق نفسها فيحصل بسبب مبيح ومحرم
فصل :
وإذا ذبح حاملا فخرج جنينها ميتا أو فيه حركة كحركة المذبوح أبيح لما روى أبو سعيد قال : قيل يا رسول الله : إن أحدنا ينحر الناقة ويذبح البقرة والشاة فيجد في بطنها الجنين أيأكله أم يلقيه ؟ قال : [ كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه ] رواه أبو داود ولأنه متصل بها يتغذى بغذائها فكانت ذكاتها ذكاة له كسائر أجزائها ويستحب أن يذبحه ليخرج دمه الذي في بطنه نص عليه وإن خرج وفيه حياة مستقرة لم يبح إلا بالذكاة لأنه مستقل بحياته فأشبه ما ولدته قبل ذبحها
فصل :
وإذا ند بعيره أو غيره فلم يقدر عليه صار حكمه حكم الصيد لما روى رافع بن خديج قال : كنا مع النبي في غزاة فأصاب القوم غنما وإبلا فند بعير من الإبل فرماه رجل بسهم فحبسه الله به فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا ] متفق عليه ولأنه تعذر ذكاته في الحلق فأشبه الصيد ولو تردى في بئر فلم يقدر على ذبحه فجرحه في أي موضع قدر عليه من جسده أبيح لما ذكرناه إلا أن يكون رأسه في الماء أو في شيء يموت به غير الذبح فلا يباح لأننا لا نعلم أن الذبح قتله

باب الصيد
وهو مباح لقول الله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } وقوله تعالى : { أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } قال ابن عباس : هي الكلاب المعلمة والبازي وكل ما تعلم الصيد
فصل :
من صاد صيدا فذكاه حل بكل حال لحديث أبي ثعلبة وإن أدرك ميتا حل بشروط سبعة
أحدها : أهلية الصائد على ما ذكرنا في الذكاة لأن الاصطياد كالذكاة وقائم مقامها
الثاني : التسمية عند إرسال الجارح أو السهم لما ذكرنا في الزكاة ولا يعفى عنهما في عمد ولا سهو لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل وإن وجدت معه غيره فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] متفق عليه
وعنه : يعفى عنها في السهو لما ذكرنا في الزكاة
وعنه : يعفى عن السهو في إرسال السهم لأنه آلته فهو كسكينة ولا يعفى عنه في إرسال الكلب للحديث والأول المذهب
الشرط الثالث : إرسال الجارح لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ] و لأن إرسالها أقيم مقام الذبح فاعتبر وجوده فإن استرسل الكلب بنفسه لم يبح صيده فإن سمى صاحبه وزجره فزاد في عدوه حل صيده لأنه أثر فيه فصار كإرساله وإن لم يزد في عدوه لم يبح لأنه لم يؤثر
الشرط الرابع : أن يكون الجارح معلما لقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } ولما روى أبو ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل ] متفق عليه
ويعتبر في تعليمه إن كان سبعا ثلاثة أشياء أن يسترسل إذا أرسل وأن ينزجر إذا زجر ولا يأكل إذا أمسك
وهل يعتبر تكرار ذلك منه فيه وجهان :
أحدهما : يعتبر ثلاثا ذكره القاضي لأن ترك الأكل في المرة الواحدة يحتمل أنه لشبع أو عارض فيعتبر تكراره ليعلم أنه لتعلمه
والثاني : لا يعتبر ذكره أبو جعفر الشريف و أبو الخطاب لأنه تعلم صنعة فلم يعتبر تكراره كسائر الصنائع وأما الطائر كالبازي والصقر فيعتبر أن يسترسل إذا أرسله ويجيبه إذا دعاه ولا يعتبر ترك الأكل لأن تعليمه بأكله وكل حيوان يقبل التعليم يحل صيده لعموم الآية إلا الكلب الأسود البهيم فإنه لا يحل اقتناؤه ولا صيده لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتله وقال : [ إنه شيطان ] وما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه فوجب أن لا يحل صيده
الشرط الخامس : أن يرسله على صيد فإن أرسله على غير شيء أو على إنسان أو حجر أو بهيمة فأصاب صيدا لم يحل لأنه لم يرسله على صيد فأشبه ما استرسل بنفسه ويحتمل أن يحل كما لو أرسله على صيد فصاد غيره وإن أرسله على صيد فأصاب غيره أو قتل جماعة حلت للخبر ولأنه أرسله على صيد فحل ما صاده كما لو أرسله على كبار فتفرقت عن صغار فصادها ولو سمع حسا أو رأى سوادا فظنه صيدا فأرسل عليه كلبه أو سهمه فأصاب صيدا حل لأنه قصد الصيد وإن لم يظنه صيدا لم يبح صيده لأن صحة قصده تبنى على ظنه سواء كان الذي رآه صيدا أو لم يكن
الشرط السادس : أن يجرح الصيد فإن قتله بخنقه أو صدمته لأم يحل لأنه قتله بغير جرح أشبه ما لو رمى بالبندق والحجر
وقال ابن حامد : يباح لعموم قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وعموم الخبر
الشرط السابع : أن يختص السابع وهو ترك الأكل من الصيد وفيه روايتان :
إحداهما : هو شرط فمتى أكل الجارح من الصيد لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك وإن قتل إلا أن يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ] متفق عليه
والثانية : لا يحرم لما روى أبو ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل ] رواه أبو داود والأولى أولى لأن حديثنا أصح ولا يحرم المتقدم من صيوده لأنها وجدت مع اجتماع شروط التعلم فيه فلا تحريم بالاحتمال وإن شرب من دم الحيوان لم يحرم رواية واحدة لأنه لم يأكل ولأن الدم لا ينفع الصائد فلا يخرج بشربه عن أن يكون ممسكا على صائده
فصل :
وما أصاب فم الكلب وجب غسله سبعا إحداهن بالتراب كغيره من المحال ويحتمل أن لا يجب لقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } ولم يأمر بالغسل ولأنه يشق إيجاب غسله فسقط
فصل :
ويباح الصيد بغير الحيوان لقول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي ثعلبة : [ ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل ] ولأن أبا قتادة شد على حمار وحشي فقتله قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما هي طعمة أطعمكموها الله ] متفق عليهما فما كان محددا كالسهم والسيف حل ما قتل به إذا اجتمعت الشروط كالمعلم من الجوارح وما لم يكن محددا كالشباك والأشراك والعصي والحجارة والبندق فما أدرك ذكاته حل وما لم يدرك ذكاته لم يحل كغير المعلم لأنه لم يقتل بجروحه فيكون قتيله منخنقة أو موقوذة ولو قتل المحدد الصيد بعرضه أو ثقله لم يبح لذلك ولما روى عدي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيد المعراض فقال : [ ما خزق فكل وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل ] متفق عليه ولو نصب المناجل لصيد وسمى فجرحت الصيد وقتلته أبيح لأنها آلة محددة فأشبهت السهم ولو وقع السهم على الأرض ثم وثب فقتل الصيد أو أعانته الريح ولولاها ما وصل حل لحديث أبي ثعلبة
فصل :
إذا اجتمع في الصيد مبيح ومحرم مثل أن يقتله بمثقل ومحدد أو بسهم مسموم أو بسهم مسلم وبسهم مجوسي أو سهم غير مسمى عليه أو كلب مسلم وكلب مجوسي أو غير مسمى عليه أو غير معلم أو اشتركا في إرسال الجارحة عليه أو وجد مع كلبه كلبا لا يعرف مرسله أو لا يعرف حاله أو وجد مع سهمه سهما كذلك لم يبح الصيد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل وإن وجدت معه غيره فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] ولأن الأصل الحظر فإذا شككنا في المبيح رد إلى أصله وإن علم أن كلبه أو سهمه القاتل دون الآخر مثل أن يجرح في المقتل والآخر في غيره أو يكون الآخر رد عليه الصيد أبيح لعدم الاشتباه وكذلك إن علم أن شريك كلبه أو سهمه مما يباح صيده حل لذلك ولو خرج الصيد فوقع في ماء أو تردى ترديا يقتله لم يبح لذلك وقد روى عدي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ] متفق عليه
فصل :
ولو صاد المسلم بكلب المجوسي حل وعنه : لا يحل لقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } والأول المذهب لأن هذا آلة فأشبه ما لو صاد بقوسه وسهمه ولو صاد المجوسي بكلب مسلم لم يبح كما لو صاد بقوسه
فصل :
وإن رمى صيدا أو أرسل كلبه عليه فغاب عنه ثم وجده ميتا وسهمه فيه أو وجده مع كلبه ولا أثر به يحتمل أن يقتله غيره حل لحديث عدي وعنه : إن غاب نهارا حل وإن غاب ليلا لم يحل
وعنه : إن غاب يسيرا أكله وإن غاب كثيرا لم يأكله لأنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما والأول أولى للخبر ولأنه قد وجد سبب إباحته يقينا والمعارض مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك وإن شك في سهمه أو من قتل به أو وجد به أثر يحتمل أنه قتله أو وجد غريقا لم يبح للخبر ولأنه شك في حله فوجب رده إلى أصله
فصل :
إذا أدرك الصيد وفيه حياة غير مستقرة فتركه حتى مات حل لأن عقره قد ذبحه وكذلك إن لم يبق من الزمان ما يتمكن من ذبحه فيه وإن وجد فيه حياة مستقرة في زمن يمكن ذبحه فيه فلم يذبحه حتى مات لم يحل لأنه صار مقدورا على ذبحه فلم يبح بغيره كغير الصيد فإن لم يكن معه ما يذكيه به ففيه روايتان :
إحداهما : لا يباح لذلك
والثانية : يرسل عليه صائده حتى يقتله فيحل اختارها الخرقي لأنه صيد قتله صائده قبل إمكان ذبحه فأشبه الذي قتله قبل إدراكه
فصل : إذا ضرب صيدا فأبان منه عضوا وبقيت فيه حياة مستقرة فالعضو حرام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أبين من حي فهو ميت ] رواه أبو داود وإن قطعه نصفين أو قطع رأسه حل جميعه لأنه مات بضربته وإن قطع منه عضوا وبقي في سائره حياة غير مستقرة حل جميعه لأنها زكاة لبعضه فكانت ذكاة لجميعه كما لو أبان رأسه وقد استحسن أبو عبد الله رضي الله عنه قول الحسن : لا بأس بالطريدة قال أبو عبد الله : الطريدة : الغزال يمر بالعسكر فيضربه القوم بأسيافهم فيأخذ كل واحد منهم قطعة قال الحسن : ما زال الناس يفعلون ذلك في مغازيهم وعن أبي عبد الله رضي الله عنه : أنه لا يؤكل منه ما أبين في حياته يؤكل سائره للخبر وإن بقي معلقا بجلده حل رواية واحدة لأنه متصل بجملته أشبه سائر أعضائه
فصل :
وإذا أثبت الصيد برميته أو شبكته أو غيرهما من آلات الصيد ملكه فإن انفلت من الشبكة زال ملكه عنه لأنه لم يستقر فزال بانفلاته فإن أخذ الشبكة معه فصاده آخر رد الشبكة على صاحبها وملك الصيد إلا أن يكون غير ممتنع بها فيكون لصاحبها لأنا التي أمسكته ومن أمسك صيدا واستقرت يده عليه ثم انفلت لم يزل ملكه عنه لأن اليد استقرت عليه فلم تزل عنه بانفلاته كبهيمة فإن أرسله وقال : قد أعتقتك لم يزل ملكه عنه لأنه ليس بمحمل للعتق
فصل :
وإن أثبت الصيد بسهمه فرماه آخر فقتله حرم لأنه صار مقدورا عليه فلم يبح بغير الذبح وعلى الثاني قيمته مجروحا لصاحبه لأنه أتلفه عليه إلا أن يكون سهم الثاني ذبحه فيحل لأنه ذكاه فإن ادعى كل واحد منهما أنه الأول حلف كل واحد منهما وبرئ من الضمان لأن الأصل براءة ذمته وإن اتفقا على السابق وأنكر الثاني كون الأول أثبته فالقول قوله لأن الأصل بقاء امتناعه ويحرم على الأول اعترافه بتحريمه ويحل للثاني وإن رمياه فوجداه مثبتا لم يعلما من أثبته منهما فهو بينهما وإن وجداه ميتا ولم يعلما هل أثبته الأول أم لا ؟ حل لأن الأصل بقاء امتناعه والله سبحانه وتعالى أعلم

باب ما يحل ويحرم
الحيوان ثلاثة أقسام : أهلي فيباح منه بهيمة الأنعام لقول الله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والخيل كلها لما روى جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل وقالت أسماء : نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكلناه ونحن بالمدينة متفق عليهما والدجاج لما روى أبو موسى قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل لحم الدجاج متفق عليه والإوز والبط لأنها طيبات فتدخل في قوله تعالى : { أحل لكم الطيبات } وتحرم الحمر لحديث جابر والبغال لأنها متولدة منها والمتولد بين الوحشي والأهلي كذلك وما تولد بين حلال وحرام كالسمع و العسبار كذلك وتحرم الكلاب والسنانير لأنها من السباع وتأكل الخبائث
فصل :
القسم الثاني : الوحشي فيباح منه الحمر لحديث أبي قتادة والأرانب لما روى أنس أنه أخذ أرنبا فذبحها أبو طلحة وبعث بوركها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقبله متفق عليه والضباع لما روى جابر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الضبع فقال : [ هو صيد ] ويجعل فيه كبش إذ صادفه المحرم رواه أبو داود و الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح
والضباب لما روى ابن عباس قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم بضب فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : [ لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ] فاحتزه خالد فأكله ورسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر إليه متفق عليه
ويباح البقر والظباء والنعام والأوبار واليرابيع لأنها مستطابة قضت الصحابة فيها بالجزاء على المحرم وتباح الزرافة نص عليه لأنها من الطيبات المستحسنات
وعنه في اليربوع : أنه محرم لأنه يشبه الفأرة وفي الثعلب روايتان :
إحداهما : يحرم لأنه من السباع
والثانية : يحل لأنه يفدى من الإحرام وفي سنور البر روايتان لذلك
ويباح من الطير الحمام وأنواعه والعصافير والقنابر والحجل والقطا والحبارى والكركي والكروان وغراب الزرع والزاغ وأشباهها مما يلتقط الحب أو يفدى من الإحرام وقد روى سفينة قال : أكلت مع النبي صلى الله عليه و سلم لحم حبارى رواه أبو داود
وفي الهدهد والصرد روايتان :
إحداهما : يباح لأنها تشبه المباح
والثانية : يحرم لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل الهدهد والصرد رواه أبو داود و ابن ماجه وكل طير لا يصيد بمخلبه ولا يأكل الجيف ولا يستخبث فهو حلال
فصل :
يحرم الخنزير لنص الله تعالى على تحريمه وكل ذي ناب من السباع كالكلب والأسد والفهد والنمر والذئب وابن آوى والنمس وابن عرس والفيل والقرد لما روى أبو ثعلبة ( أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن كل ذي ناب من السباع ) متفق عليه وتحريم سباع الطير كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والحدأة والبومة لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ) رواه مسلم و أبو داود
ويحرم ما يأكل الجيف كالنسر والرخم وغراب البين والأبقع والعقعق لأنها مستخبثة لأكلها الخبائث وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ] ذكر منها الحدأة والغراب وما أبيح قتله لم يبح أكله
وتحرم الخبائث كلها كالفأر والجراذين والأوزاغ والعظا والورل والقنفذ والحرباء والصراصير والجعلان والخنافس والحيات والعقارب والدود والوطواط والخفاش والزنابير واليعاسيب والذباب والبق والبراغيث والقمل وأشباهها لقول الله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } وقد روى أبو هريرة أن القنفذ ذكر عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ هو خبيثة من الخبائث ] رواه أبو داود وما لم يذكره يرد إلى أقرب الأشياء شبها به فيلحق به بالإباحة والتحريم لأن القياس حجة وما لم يكن شبيها بشيء منها فهو حلال لقول الله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } خرج من عمومها ما قام الدليل على تحريمه والباقي يبقى على الأصل
فصل :
القسم الثالث : حيوان البحر يباح جميعه لقول الله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } إلا الضفدع لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتلها ولأنها مستخبثة وكره أحمد رضي الله عنه عن التمساح لأنه ذو ناب فيحتمل أنه محرم لأنه سبع ويحتمل أنه مباح للآية وقال ابن حامد : يحرم الكوسج لأنه ذو ناب وقال أبو علي النجاد : لا يؤكل من البحري ما يحرم نظيره في البر ككلب الماء وخنزيره وإنسانه والأول أولى وقد قال أحمد رضي الله عنه في كلب الماء : يذبحه وركب الحسن بن علي على سرج عليه جلد كلب ماء
فصل :
وكره أحمد لحوم الجلالة وألبانها
قال القاضي : هي أكثر علفها النجاسة فإن كان أكثره الطاهر فليست جلالة قال : ولحمها ولبنها حرام وفي بيضها روايتان
وقال أبي موسى عن أحمد رواية أخرى إن أكلها غير محرم لعموم قوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والأولى ظاهر المذهب لما روى ابن عمر قال : ( نهى رسول الله عن أكل الجلالة وألبانها ) رواه أبو داود وعن عبد الله بن عمر بن العاص قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها ولا يحمل عليها إلا الأدم ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة ) رواه الخلال ويزول تحريمها وكراهتها بحبسها عن أكل النجاسات ويحبس البعير أربعين ليلة للخبر والبقرة في معناه ويحبس الطائر ثلاثا لأن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا
وعن أحمد : أن الجميع يحبس ثلاثا لخبر ابن عمر
فصل :
وما سقي من الزروع والثمار بالنجاسات أو سمد بها نجس كالجلالة لأنه يتغذى بالنجاسات وتترقى فيه أجزاؤها فأشبه الجلالة ويطهر بسقيها بالطهارات كالجلالة إذا أكلت الطهارات
فصل :
وتحرم الميتة والدم للآية وتحرم النجاسات كلها لأنها من الخبائث وتحرم السموم المضرة كما يحرم عليه إتلاف شيء من جسده
فصل :
فإن اضطر إلى شيء مما حرم عليه أبيح تناوله لقول الله تعالى : { إلا ما اضطررتم إليه } وفي قدر ما يباح روايتان :
إحداهما : قدر ما يسد رمقه اختارها الخرقي لأنه يخرج بأكله عن كونه مضطرا فتزول الإباحة بزواله
والثانية : له الشبع لأنه طعام جاز له سد الرمق منه فجاز له الشبع كالحلال
وهل يجب عليه أكل ما يسد رمقه فيه وجهان :
أحدهما : يجب لقول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم }
والثاني : لا يجب لأنه تجنب ما حرم عليه وقد روي عن عبد الله بن حذافة صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ملك الروم حبسه ومعه لحم خنزير مشوي وماء ممزوج بخمر ثلاثة أيام فأبى أن يأكله وقال : لقد أحله الله لي ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام ومن اضطر إلى طعام من ليس به مثل ضرورته لزمه بذله له لأن في منعه منه إعانة على قتله وإن بذله بثمن مثله لمن يقدر على ثمنه لزمه أخذه ولم تحل له الميتة لأنه غير مضطر وإن امتنع من بذله إلا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه به لم يلزمه إلا ثمن مثله لأنه اضطر إلى بذل الزيادة بغير حق فلم يلزمه كالمكره وإن منعه منه بالكلية فله قتاله عليه لأنه صار أحق به من مالكه وإن وجد المضطر ميتة وطعاما لغائب فطابت نفسه بأكل الميتة فهي أولى لأن إباحتها ثبتت بالنص فكانت أولى مما ثبت بالاجتهاد وإن لم تطب نفسه بأكلها أكل طعام الغير لأنه مضطر إليه
وإن وجد المحرم ميتة وصيدا فكذلك لأن المحرم إذا ذبح الصيد صار ميتة ولزمه الجزاء فيجتمع فيه تحريمان ومن لم يجد إلا آدميا معصوما لم يبح له قتله لأنه لا يحل وقاية نفسه بأخيه ولا يحل له قطع شيء من نفسه ليأكله لأنه يتلفه يقينا ليحصل ما هو موهوم وإن وجد آدميا مباح الدم فله قتله وأكله لأن إتلافه مباح وإن وجد ميتا معصوما فالأولى إباحته لدخوله في عموم الآية ولأن فيه حفظ الحي فأشبه غير المعصوم اختار هذا أبو الخطاب
وقال غيره من أصحابنا : لا يباح لأن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي وإن وجد المضطر خمرا لم يبح شربها لأنها لا تدفع جوعا ولا عطشا ولا فيها شفاء لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ] وإن وجد ماء ممزوجا بخمر يدفع العطش فله الشرب منه لأنه يدفع به الهلاك
وإن غص بلقمة ولم يجد مائعا يدفعها به وخاف الهلاك فله دفعه بها لأنه يحصل بها
فصل :
ومن مر بثمرة لا حائط لها ولا ناطر ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : أنه يأتي ولا يحمل لما روي عن أبي زينب قال : سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بزرة فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم وقال عمر : يأكل ولا يتخذ خبنة
والثانية : يباح ما سقط ولا يرمي بحجر ولا يضرب لما روى رافع أن رسول الله ( ص ) قال : [ لا ترم وكل ما وقع ] حديث صحيح
والثالثة : له الأكل إن كان جائعا ولا يأكل إن لم يكن جائعا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( ص ) أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : [ ما أصاب منه ذي الحاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة ] هذا حديث حسن وفي الزرع روايتان :
إحداهما : هو كالثمرة لأن العادة جارية بأكل الفريك و الباقلاء ونحوهما
والثانية : لا يباح لأن الفاكهة خلقت للأكل رطبة والنفوس إليها أميل بخلاف الزرع وما كان محوطا أو له ناطر فليس له الدخول بحال لقول ابن عباس : إذا كان عليها حائط فهو حريم فلا تأكل وإن لم يكن حائط فلا بأس
وفي لبن الماشية روايتان :
إحداهما : هو كالثمرة لما روى الحسن عن سمرة أن النبي ( ص ) قال : [ إذا أتى أحدكم على ماشية فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن لم يجب فليحتلب وليشرب ولا يحمل ] حديث صحيح
والثانية : لا يحل له الحلب لقول رسول الله ( ص ) : [ لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ] متفق عليه

كتاب البيع
البيع حلال لقول الله تعالى : { وأحل الله البيع } وهو نوعان
أحدهما : الإيجاب والقبول فيقول البائع : بعتك أو ملكتك أو لفظا بمعناهما ثم يقول المشتري : ابتعت أو قبلت أو نحوهما فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الماضي فقال : ابتعت هذا منك بكذا فقال : بعتك صح لأن المعنى حاصل فأشبه التعبير بلفظ آخر وإن تقدم بلفظ الطلب فقال : بعني فقال : بعتك صح لأنه تقدم القبول أشبه لفظ الماضي
وعنه : لا يصح لأنه لو تأخر عن الإيجاب لم يصح فلم يصح متقدما كلفظ الاستفهام وإن أتى بلفظ الاستفهام فقال : أبعتني ثوبك ؟ فقال : بعتك لم يصح متقدما ولا متأخرا لأنه ليس بقبول ولا استدعاء
الثاني : المعاطاة مثل أن يقول : أعطني بهذا خبزا فيعطيه ما يرضيه أو يقول ك خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه فيصح لأن الشرع ورد بالبيع وعلق عليه أحكاما ولم يعين له لفظا فعلم أنه ردهم إلى ما تعارفوه بينهم بيعا والناس في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك وحكي عن القاضي : أنه يصح في الأشياء اليسيرة دون الكثيرة لأن العرف إنما جرى به في اليسير والحكم في الهبة والهدية والصدقة كالحكم في البيع وذلك لاستواء الجميع في المعنى
فصل
ويشترط له الرضى لقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } إلا فيما يجب فإن أكره على بيع غير واجب لم يصح لعدم الرضى المشترط وإن أكره على بيع واجب صح لأنه قول حمل عليه بحق فصح كإسلام المرتد ولا يصح من غير عاقل كالطفل والمجنون والسكران والنائم والمبرسم لأنه قول يعتبر له الرضى فلم يصح من غير عاقل كالإقرار

باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز
كل عين مملوكة يباح نفعها واقتناؤها من غير ضرورة يجوز بيعها كالمأكول والمشروب والملبوس والمركوب والعقار والعبيد والإماء لقوله تعالى { وأحل الله البيع } وقد اشترى النبي صلى الله عليه و سلم من جابر بعيرا ومن أعرابي فرسا ووكل عروة بن الجعد في شراء شاة وباع مدبرا وحلسا وقدحا وأقر أصحابه على بيع هذه الأعيان وشرائها
ويجوز بيع دود القز وبزره لأنه منتفع به وبيع النحل في كوارته ومنفردا عنها إذا رئي وعلم قدره وبيع الطير الذي يقصد صوته كالهزار والبلبل والببغة لأنه يشتمل على منفعة مباحة أشبه الأنعام ويجوز بيع الهر وسباع البهائم والطير التي تصلح للصيد كالفهد والبازي ونحو مها غير الكلب في إحدى الروايتين وهي اختيار الخرقي والأخرى : لا يجوز وقال أبو بكر و ابن أبي موسى : لا يجوز بيعها لنجاستها فأشبهت الكلب والأول أصح لأنه حيوان أبيح نفعه واقتناؤه من غير وعيد في جنسه فجاز بيعه كالحمار وبهذا يبطل ما ذكراه ويجوز بيع الجحش الصغير والفهد الصغير وفرخ البازي لأنه يصير إلى حال ينفع فأشبه طفل العبيد وما ينفع من بيض الطير لمصيره فرخا فهو كفرخه لأن مآله إلى النفع
وقال القاضي : لا يجوز بيعه لعدم نفعه في الحال قال أحمد : أكره بيع القرد قال ابن عقيل : هذا محمول على بيعه للإطافة به واللعب وأما بيعه لحفظ المتاع فيجوز لأنه منتفع به وقال أحمد : أكره بيع لبن الآدميات فيحتمل التحريم لأنه مائع خارج من آدمية أشبه العرق ويحتمل كراهية التنزيه لأنه طاهر منتفع به أشبه لبن الشاة
فصل :
ويجوز بيع العبد المرتد لأنه مملوك منتفع به وخشية هلاكه لا يمنع بيعه كالمريض فإن علم المشتري حاله فلا شيء له لأنه رضي بعيبه وإن لم يعلم فله الرد أو الأرش قتل أو أسلم كالمعيب ويصح بيع العبد الجاني عمدا أو خطا على النفس أو ما دونها لأنه حق تعلق برقبته غير متحتم فأشبه القتل بالردة فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فهي كالردة وإن كانت موجه للمال فهو على السيد لأنه رضي بالتزام ما عليه فإن كان معسرا فللمجني عليه رقبة العبد إن شاء فسخ العقد ورجع به وإن شاء رجع على البائع بالأرش وإن كان قاتلا في المحاربة فكذلك في قول بعض أصحابنا لأنه ينتفع به إلى قتله ويعتقه فيجر ولاء ولده فصح بيعه كالزمن وحكمه حكم المرتد
وقال القاضي : لا يصح بيعه لأنه متحتم القتل فلا منفعة فيه فأشبه الميت
فصل :
وفي بيع رباع مكة وإجارتها روايتان :
إحداهما : يجوز لأن عمر رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف واشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة ولأنها أرض حية لم ترد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كغيرها
والثانية : لا يجوز لأنها فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين فصارت وقفا على المسلمين فحرم بيعها كسواد العراق
والدليل على هذا فتحها عنوة قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من نهار ] متفق عليه وقالت أم هانئ : يا رسول الله إني أجرت حموين لي فزعم ابن أم هانئ أنه قاتلهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ قد أجرنا من أجرت ] حديث صحيح وقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة ولو فتحت صلحا لم يجز قتل أهلها
فصل :
ول يجوز بيع الشام وسواد العراق ونحوهما مما فتح عنوة لأن عمر رضي الله عنه وقفه على المسلمين وأقره في يد أربابه بالخراج الذي ضربه يكون أجرة له في كل ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة فيها وقد اشتهر ذلك في قصص نقلت عنه
وعن أحمد : أنه كره بيعها لأنه يأخذ ثمن الوقوف وأجاز شراءها لأنه كالاستنقاذ لها فجاز كشراء الأسير وتجوز إجارتها لأنها مستأجرة في يد أربابها وإجارة المستأجر جائزة فأما المساكن في المدائن فيجوز بيعها لأن الصحابة رضي الله عنهم اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر رضي الله عنه وبنوها مساكن وتبايعوها من غير نكير فكان إجماعا
فصل :
قال أحمد : لا أعلم في بيع المصحف رخصة ورخص في شرائه وقال : هو أهون وذلك لأن ابن عمر وابن عباس وأبا موسى كرهوا بيعه ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى فيجب صيانته عن الابتذال والشراء أسهل لأنه استنفاذ له فلم يكره كشراء الأسير وقال أبو الخطاب : يجوز بيعها مع الكراهة وفي شرائها وإبدالها روايتان فإن بيعت لكافر لم يصح رواية واحدة [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى على المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم ] حديث صحيح متفق عليه فلم يجز تمليكهم إياه وتمكينهم منه ولأنه يمنع من استدامة ملكة فمنع ابتداء كنكاح المسلمة
فصل :
ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام لما روى جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله ورسوله يقول حرم بيع الخمرة والميتة والخنزير والأصنام ] متفق عليه
ولا يجوز بيع ما لا نفع فيه كالحشرات وسباع البهائم والطير التي لا يصاد بها وما لا يؤكل من الطير و لا بيضه لأنه لا نفع فيها فأشبهت الخنزير ولا يجوز بيع الحر لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ذكر منهم رجلا باع حرا فأكل ثمنه ] رواه البخاري ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك كالمباحات قبل حيازتها لأنها غير مملوكة أشبهت الحر و لا يجوز بيع الدم ولا السرجين النجس لأنه مجمع على تحريمه ونجاسته أشبه الميتة ولا يجوز بيع شحم الميتة لأنه منها وفي حديث جابر قيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ؟ فإنه تدهن بها الجلود وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس ؟ فقال : [ لا هو حرام ] متفق عليه وما نجس من الأدهان كالزيت فظاهر المذهب تحريم بيعها قياسا على شحم الميتة ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله حرم شيئا حرم ثمنه ] رواه أبو داود وعنه : يباع لكافر ويعلم بحاله لأنه يعتقد حله وفي جواز الاستصباح بها روايتان :
إحداهما : لا يجوز لأنه دهن نجس أشبه شحم الميتة
والثانية : يجوز لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر أشبه الانتفاع بها من ضرر أشبه الانتفاع بالجلد اليابس قال أبو الخطاب : ويتخرج على جواز الاستصباح بها جواز بيعها قال القاضي : ولا تطهر بالغسيل لأنه لا يتأتى فيها العصر ويتخرج أنها تطهر بصبها في ماء كثيرة ثم تترك حتى تطفو فتؤخذ والعصر : إنما يعتبر فيما يتأتى العصر فيه بدليل الخشب والأحجار اختاره أبو الخطاب فأما غير الأدهان كالخل والبن فلا تطهر وجها واحدا
فصل :
ولا يجوز بيع الكلب وإن كان معلما لما روى أبو مسعود الأنصاري [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب ] وقال [ ثمن الكلب خبيث ] متفق عليهما ولا غرم على قاتله لأنه لا قيمة له وقد أساء من قتل كلبا يباح اقتناؤه ولا يباح اقتناء كلب إلا لصيد أو حفظ ماشية أو حرث لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراط ] متفق عليه ويجوز تربية الجور الصغير لذلك لأنه قصد به ما يباح فيأخذ حكمه كالجحش الصغير ولأنه لو لم يقتن غير المعلم لم يمكن تعليمه وتعذر اقتناء المعلم وفيه وجه آخر أنه لا يجوز اقتناؤه لأنه ليس من الثلاثة فإن اقتنى كلب الصيد من لا يصيد به جاز للحديث وفيه وجه آخر أنه لا يجوز لأن اقتناءه لغير حاجة أشبه من اقتناه للماشية ولا ماشية له
فصل :
ولا يجوز بيع معدوم لما رواه أبو هريرة : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الغرر ] رواه مسلم وبيع المعدوم بيع غرر ولأن تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها تنبيه على تحريم بيعها قبل وجودها فلا يجوز بيع الثمرة قبل خلقها ولا بيع الماء العد الذي له مادة كماء العيون والآبار لأنه بيع لما يتجدد وهو في الحال معدوم
فصل :
ولا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء والسمك في الماء والعبد الآبق والجمل الشارد والفرس العائر والمغصوب في يد الغاصب لحديث أبي هريرة وقال ابن مسعود : لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ولأنه القصد بالبيع تمليك التصرف ولا يمكن ذلك فيما لا يقدر على تسليمه فإن باع طيرا له في برج مغلق الباب أو سمكا له في بركة معدة للصيد وكان معروفا بالرؤية مقدورا على تناوله بلا تعب جاز بيعه لعدم الغرر فيه وإن اختل بعض ذلك لم يجز وإن باع الآبق لقادر عليه أو المغصوب لغاصبه أو لقادر على أخذه منه جاز لذلك وإلا فلا
فصل :
ولا يجوز بيع ما تجهل صفته كالحمل في البطن واللبن في الضرع والبيض في الدجاج والنوى في التمر لحديث أبي هريرة : وروى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع المجر ] والمجر : شراء ما في الأرحام وعن أبي هريرة : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح ] قال أبو عبيدة : الملاقيح : ما في البطون وهي الأجنة والمضامين : ما في أصلاب الفحول وما سواه يقاس عليه وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع ] رواه ابن ماجة
وعنه : في بيع الصوف على الظهر روايتان :
إحداهما : لا يجوز للخبر ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه
والثانية : يجوز بشرط جزه في الحال لأنه معلوم ممكن تسليمه فجازة بيعه كالزرع في الأرض :
فصل :
ولا يجوز بيع الأعيان من غير رؤية أو صفة يحصل بها معرفة المبيع في ظاهر المذهب لحديث أبي هريرة ولأنه مجهول عند العاقد فلم يصح بيعه كالنوى في التمر فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع كداخل الثوب وشعر الجارية وعنه : يجوز لأنه عقد معاوضة فأشبه النكاح فعلى هذه هل يثبت له خيار الرؤية ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا خيار له لأنه عقد معاوضة صح من الغيبة فأشبه النكاح
والثانية : يثبت له الخيار عند الرؤية في الفسخ والإمضاء لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه ] ويكون خياره على الفور للحديث وقيل : يتقيد بالمجلس لأنه خيار ثابت بمقتضى العقد فتقيد بالمجلس كخيار المجلس فإن اختار إمضاء العقد قبل الرؤية أم يلزم لأنه تعلق بالرؤية ولأنه إلى إلزام العقد في مجهول الصفة وإن اختار الفسخ انفسخ لأن الفسخ يصح في مجهول الصفة ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين جميعا لأن الرضا معتبر منهما فتعتبر الرؤية التي هي مظنة له منهما جميعا
فصل :
فإن رأيا المبيع ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه صح في صحيح المذهب
وعنه : لا يصح لأن ما كان شرطا يعتبر وجوده حال العقد كالشاهدة في النكاح
ولنا أنه معلوم عندهما أشبه ما لو شاهداه حال العقد أو اشترى منه دارا كبيرة وهو في طرفها والشرط العلم وهو مقارن للعقد ثم إن وجد المبيع لم يتغير لزم وإن وجده ناقصا فله الخيار لأن ذلك كالعيب وإن اختلفا في التغيير فالقول قول المشتري لأن الثمن يلزمه فلا يلزمه إلا ما اعترف به وإن عقد بعد الرؤية بزمن يفسد فيه ظاهرا لم يصح لأنه غير معلوم وإن احتمل الأمرين ولم يظهر التغير فالعقد صحيح لأنه الأصل سلامته
فصل :
ويصح البيع بالصفة في صحيح المذهب إذا ذكر أوصاف السلم لأنه لما عدمت المشاهدة للمبيع وجب استقصاء صفاته كالسلم وإذا وجد على الصفة لزم العقد وإن وجده على خلافها فله الفسخ فإن اختلفا في التغير فالقول قول المشتري لما ذكرناه وعنه : لا يصح البيع بالصفحة لأنه لا يمكن استقصاؤها
والمذهب الأول لأنه مبيع معلوم بالصفة فصح بيعه كالمسلم فيه وبيع الأعمى وشراؤه بالصفة كبيع البصير بها فإن عدمت الصفة وأمكنه معرفة المبيع بذوق أو شم صح بيعه وإلا لم يصح لأنه مجهول في حقه
فصل :
ولا يجوز بيع عبد من عبيد ولا شاة من قطيع ولا ثوب من أثواب ولا أحد هذين العبدين لأنه غرر فيدخل في الخبر ولأنه يختلف فيفضي إلى التنازع ويجوز بيع قفيز من صبرة ورطل زيت من دن أو ركوة لأن أجزاءه لا تختلف فلا يفضي إلى التنازع فإن باع جريبا من ضيعة يعلمان جربانها صح وكان المبيع مشاعا منها وإن كانت عشرة أجربة فالمبيع عشرها وإن لم يعلما جربانها لم يصح لأنه لا يعلم قدره منها فيكون مجهولا
فصل :
وما لا تختلف أجزاؤه كصبر الطعام وزق الزيت يكتفى برؤية بعضه لأنها تزيل الجهالة لتساوي أجزائه ولأنه تتعذر رؤية جميعه فاكتفي ببعضه كأساسات الحيطان وما تشق رؤيته كالذي مأكوله في جوفه يكتفى برؤية ظاهره لذلك وكذلك أساسات الحيطان وطي الآبار وشبهها ويجوز بيع الباقلى والجوز واللوز في قشريه والحب في سنبله لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد رواه أبو داود فمفهومه جواز بيع المشتد ولأنه مستور بما خلق فيه فجاز بيعه كالذي مأكوله في جوفه ولأن قشره الأعلى من مصلحته لأنه يحفظ رطوبته وادخار الحب في سنبله أبقى له فجاز بيعه فيه كالسلت والأرز وما لا تشق رؤية جميعه ويشترط رؤية جميعه على ما أسلفناه
فصل :
إذا قال : بعتك هذه الصبرة صح وإن لم يعلم قدرها لأن ابن عمر قال : كنا نبتاع الطعام من الركبان جزافا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم متفق عليه ولأن غرر ذلك منتفي بالمشاهدة فاكتفي بها وإن باع نصفها أو ثلثها أو جزءا منها مشاعا صح لأن من عرف شيئا عرف جزأه وإن قال : بعتكها كل قفيز بدرهم صح لأن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى من يعلم مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهو كيل الصبرة فجاز كما لو باعه مرابحة لكل عشرة درهم ولو قال : بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح لأنه البعض مجهول ولو قال : بعتك منها كل قفيز بدرهم لم يصح لأنه باعه بعضها ولو قال : بعتكها على أن أزيدك قفيزا لم يصح لأن الزائد مجهول فإن قال : على أن أزيدك قفيزا من هذه الأخرى صح لأن معناه بعتكها وقفيزا من هذه وإن قال على أن أزيدك من هذه أو أنقصك قفيزا لم يصح لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه وإن قال : بعتكها كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزا من هذه الأخرى وهما يعلمان قدر قفزانها صح لأنهما إذا علماها عشرة فمعناه : بعتك كل قفيز وعشرا بدرهم وإن لم يعلما قدرها لم يصح لجهالة الثمن لأنه يصير قفيزا وشيئا لا يعلمان قدره بدرهم لجهلهما بكمية قفزانها وكذلك إن قال : على أن أنقصك قفيزا وإن جعلا للقفيز الزائد ثمنا مفردا صح في الحالين
فصل :
ويكتفى بالرؤية فيما لا تتساوى أجزاؤه كالأرض والثوب والقطيع من الغنم لما ذكرنا في الصبرة وفيه نحو من مسائلها ولو قال : بعتك من الدار من هاهنا إلى هاهنا جاز لأنه معلوم وإن قال : عشرة أذرع ابتداؤها من هاهنا لم يصح لأنه لا يدري إلى أين ينتهي ولو قال : بعتك نصف داري مما يلي دارك لم تصح نص عليه لذلك وإن قال : بعتك من هذا الثوب من أوله إلى هاهنا صح لأنه معلوم وقال القاضي : إن كان ينقصه القطع لم يصح لعجزه عن التسليم إلا بضرر والأول أصح لأن التسليم ممكن والضرر لا يمنع الصحة إذا التزمه كما لو باعه نصفا مشاعا أو نصف حيوان
فصل :
ويشترط لصحة المبيع معرفة الثمن لأنه أحد العوضين فيشترط العلم به كالمبيع ورأس مال السلم وإن باعه بثمن مطلق في موضع فيه نقد معين انصرف إليه وإن لم يكن فيه نقد معين لم يصح لجهالته وإن باعه سلعة برقمها أو بما باع به فلان وهما لا يعلمان ذلك أو أحدهما أو بما ينقطع به السعر لم يصح لأنه مجهول وإن قال : بعتك بألف درهم ذهبا وفضة لم يصح لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما وإن باعه بعشرة نقدا أو بخمس عشرة نسيئة أو بعشرة صحاحا أو بعشرين مكسرة لم يصح لأن النبي ( ص ) نهى عن بيعتين في بيعة حديث صحيح
وهو هذا ولأنه لم يعقد على ثمن بعينه أشبه إذا قال : بعتك أحد هذين العبدين ويتخرج أنه يصح بناء على قوله في الإجارة وقيل : معنى بيعتين في بيعة أن يقول : بعتك هذا بمائة على أن تبيعني دارك بألف أو على أن تصرفها لي بذهب وأيا ما كان فهوة غير صحيح وإن باع بثمن معين تعين لأنه عوض فتعين بالتعيين كالمبيع فعلى هذا إن وجده مغصوبا بطل العقد وإن وجده معيبا فرده انفسخ العقد لرد المعقود عليه فأشبه رد المبيع وعن أحمد : أن الثمن لا يتعين إلا بالقبض فتنعكس هذه الأحكام وإن باعه بثمن في الذمة لم يتعين فإذا قبضه فوجده مغصوبا لم يبطل العقد وإن رده لم يفسخ لأن الثمن في الذمة
فصل :
ولا يجوز بيع الملامسة والمنابذة لما روى أبو سعيد الخدري : أن النبي ( ص ) نهى عن بيعتين : الملامسة والمنابذة والمنابذة : أن يقول : إذا نبذت إلي هذا الثوب فقد وجب البيع والملامسة : أن يمسه بيده ولا ينشره متفق عليه ولأنه إذا علق البيع على نبذ الثوب ولمسه فقد علقه على شرط وهو غير جائز وإذا باعه قبل نشره فقد باعه مجهولا فيكون غررا ولا يجوز بيع الحصاة لما روى أبو هريرة [ أن النبي ( ص ) نهى عن بيع الحصاة ] رواه مسلم وهو أن يقول : ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا وقيل : هو أن يقول : بعتك من هذه الضيعة بقدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا وكلاهما غير صحيح لأنه غرر ولا يجوز بيع حبل الحبلة لما روى ابن عمر قال : [ نهى النبي ( ص ) عن بيع حبل الحبلة ] متفق عليه قال أبو عبيدة : هو بيع ما يلد حمل الناقة
وقيل : هو بيع السلعة بثمن إلى أن يلد حمل الناقة وكلاهما لا يجوز لأنه على التفسير الأول : بيع معدوم مجهول وعلى الثاني : بيع بثمن إلى أجل مجهول ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء المطر وقدوم زيد وطلوع الشمس لأنه غرر ولأنه عقد معاوضة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالنكاح
فصل :
ولا يجوز بيع العنب والعصير لمن يتخذه خمرا ولا السلاح لأهل الحرب أو لمن يقاتل به في الفتنة ولا الأقداح لمن يشرب فيها الخمر لأنه معونة على المعصية فلم يجز كإجارة داره لبيع الخمر ولا يجوز بيع العبد المسلم لكافر لأنه يمنع من استدامة ملكه عليه فلم يصح عقده عليه كالنكاح فإن أسلم في يده أو يد موروثه ثم انتقل إليه بالإرث أجبر على إزالة ملكه عنه لأن في تركه في ملكه صغارا فإن باعهم أو وهبه لمسلم أو أعتقه جاز وإن كاتبه ففيه وجهان :
أحدهما : يجوز لأنه يصير كالخارج عن ملكه في التصرفات
والثاني : لا يجوز لأنه لا يزيل الملك فلم يقبل كالتزويج
وإن ابتاع الكافر مسلما يعتق عليه بالشراء ففيه روايتان :
إحداهما : لا يصح لأنه عقد يملك به المسلم
والثانية : يجوز لأن ملكه يزول حال ثبوته فلا يحصل فيه صغار وإن حصل فقد حصل له من الكمال بالحرية فوق ما لحقه برق لحظة وإن قال الكافر لمسلم : أعتق عبدك عني وعلى ثمنه ففيه وجهان بناء على ما ذكرناه لأنه بقدر بيعه للكافر وتوكيل البائع في عتقه
فصل :
ولا يجوز يفرق في البيع بين ذوي رحم محرم قبل البلوغ لما روى أبو أيوب عن النبي ( ص ) أنه قال : [ من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ] حديث حسن
وعن علي رضي الله عنه قال : وهب لي رسول الله ( ص ) غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال رسول الله ( ص : [ ما فعل غلامك ؟ فأخبرته فقال : رده رده ] رواه الترمذي وقال حديث حسن فإن فرق بينهما فالبيع باطل رضيت الأم ذلك أم كرهته نص عليه لأنه فيه إسقاطا لحق الولد وهل يجوز التفريق بينهما بعد البلوغ ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز لعموم الخبر
والثانية : يجوز لأنه سلمه بن الأكوع أتى أبا بكر الصديق رضي الله عنه بامرأة وابنتها في غزوة فنفله أبو بكر ابنتها ثم استوهبها النبي ( ص ) من سلمة فوهبها له رواه مسلم وهذا تفريق لأن النبي ( ص ) أهديت له أختان مارية وسيرين فأمسك مارية ووهب أختها لحسان بن ثابت
فصل :
ولا يجوز أن يبيع عينا لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها لما رواه حكيم بن حزام قال للنبي ( ص ) : إن الرجل يأتيني يلتمس من البيع ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه فقال النبي ( ص ) : [ لا تبع ما ليس عندك ] حديث صحيح ولأنه بيع ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء فإن باع مال غيره بغير إذنه ففيه روايتان :
إحداهما : لا يصح لذلك
والثانية : يصح ويقف على إجازة المالك فإن أجازه جاز وإن أبطله بطل لما روى عروة بن الجعد البارقي أن النبي ( ص ) أعطاه دينارا ليشتري به شاة فاشترى به شاتين ثم باع إحداهما بدينار في الطريق قال : فأتيت النبي ( ص ) بالدينار وبالشاة فأخبرته فقال : [ بارك الله لك في صفقة يمينك ] رواه الإمام أحمد و الأثرم رضي الله عنهما ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه فوقف على إجازته كالوصية وإن اشترى بعين مال غيره شيئا بغير إذنه فهو كبيعه فإن اشترى له شيئا بغير إذنه بثمن في ذمته ثم نقد ثمنه من مال الغير صح الشراء لأنه تصرف في ذمته لا في مال غيره ويقف على إجازة المشتري له لأنه قصد الشراء له فإن أجازه لزمه وإن لم يجزه لزم من اشتراه لأنه لا يلزمه ما لم يأذن فيه والبيع صحيح فيلزم المشتري فإن باع مال غيره وهو حاضر فلم ينكر ذلك فهو كبيعه في غيبته فإن السكوت ليس بإذن فإنه محتمل كغير الإذن فلا يتعين كونه إذنا والله أعلم

باب بيع النجش والتلقي وبيع الحاضر لباد وبيعه على بيع غيره والعينة
وهي بيوع محرمه لما روى أبو هريرة أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ] متفق عليه ومعنى النجش : أن يزد في السلعة من لا يريد شراءها ليغتر به المشتري ويقتدي به فهو حرام لأنه خداع والشراء صحيح وعنه : أنه باطل لأن النهي يقتضي الفساد والأولى أصح لأن النهي عاد إلى غير العقد فلم يؤثر فيه وللمشتري الخيار إن غبن غبنا يخرج عن العادة سواء كان بمواطأة من البائع أو لم يكن لأنه غبن للتغرير بالعاقد فأثبت الخيار كتلقي الركبان ولو قال البائع : أعطيت بهذه السلعة كذا كاذبا فاشتراها المشتري لذلك فالبيع صحيح وله الخيار لما ذكرناه
فصل :
وتلقي الركبان : أن يخرج الرجل من المصر يتلقى الجلب قبل دخوله فيشتريه فيحرم للخبر ولأنه يخدعهم ويغبنهم فأشبه النجش والشراء صحيح وعنه : أنه باطل للنهي والمذهب الأول لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار ] رواه مسلم
والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح ولأن النهي لضرب من الخديعة أمكن استدراكها بالخيار فأشبه بيع المصراة وللبائع الخيار إن غبن غبنا يخرج عن العادة فإن لم يغبن فلا خيار له ويحتمل أن له الخيار للخبر والأول المذهب لأنه إنما يثبت لدفع الضرر عن البائع ولا ضرر مع عدم الغبن والحديث يحمل على هذا وجعل النبي صلى الله عليه و سلم له الخيار إذا هبط السوق يفهم منه الإشارة إلى معرفته بالغبن فإن خرج لحاجة غير قصد التلقي فقال القاضي : لا يجوز له الشراء لوجود معنى النهي ويحتمل الجواز لعدم دخوله في الخبر والبيع للركبان كالشراء منهم لأن النهي عن تلقيهم لدفع الغبن والشراء والبيع فيه واحد
فصل :
وبيع الحاضر للبادي : هو أن يخرج الحاضر إلى جلاب السلع فيقول أنا أبيع لك فهو حرام للخبر ولأن فيه تضيقا على المسلمين إذ لو ترك الجالب يبيع متاعه باعه برخص فإذا تولاه الحاضر لم يبعه برخص وقد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى ذلك بقوله : [ لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ]
وعنه : لا بأس به وحمل الخبر على أنه اختص بأول الإسلام لما كان عليهم من الضيق و المذهب الأول للخبر والمعنى قال أصحابنا : إنما يحرم بشروط خمسة أحدها أن يكون الحاضر قد قصد البادي ليتولى ذلك والثاني : أن يكون البادي جاهلا بالسعر لأنه إذا كان عالما به فهو كالحاضر
والثالث : أن يكون جلب السلعة لبيعها فإن جلبها ليدخرها فلا ضرر على الناس في بيع الحضر له ذكر الخرقي هذه الثلاثة
وذكر القاضي شريطين آخرين : أن يقصد بيعها بسعر يومها ويتضرر الناس بتأخير بيعه فإذا اجتمعت هذه الشروط فالبيع باطل للنهي عنه وعنه : أنه صحيح لأن النهي عنه لمعنى في غيره فأما شراء الحاضر للبادي فصحيح لأنه لا ضيق على الناس فيه وإذا شرع ما يدفع به الضرر عن أهل المصر لا يلزم شرع ما يتضرر به أهل البدو فإن الخلق في نظر الشارع على السواء
فصل :
وأما البيع على بيع أخيه فهو أن يقول لمن اشترى شيئا في مدة الخيار أنا أبيعك مثله بدون هذا الثمن أو أجود منه بهذا الثمن فيفسخ العقد ويشتري سلعته فيحرم للخبر ولأن فيه إفسادا أو إنجاشا وإن فسخ البيع واشترى سلعته فالشراء باطل للنهي عنه وشراؤه على شراء أخيه كبيعه على بيعه ويحتمل أن البيع صحيح لأن النهي لمعنى في غير العقد
فصل :
فأما سومه على سوم أخيه فننظر فيه فإن كان البائع أنعم للمشتري البيع بثمن معلوم حرم على غيره سومه لما روى أبو هريرة أن النبي ( ص ) قال : [ لا يسم الرجل على سوم أخيه ] رواه مسلم وإن لم ينعم له جاز سومها لما روى أنس أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه و سلم الشدة و الجهد فقال له : [ ما بقي لك شيء ] قال : بلى قدح وحلس فأتاه بهما فقال : من يبتاعهما ؟ فقال رجل : أنا أبتاعهما بدرهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ : من يزيد على درهم ؟ ] فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه قال الترمذي : هذا حديث حسن ولأن فاطمة بنت قيس ذكرت للنبي صلى الله عليه و سلم أن معاوية وأبا جهم خطباها فأمرها أن لا تنكح أسامة متفق عليه فإن ظهرت منه أمارة الرضى منى غير تصريح به فقال القاضي : لا تحرم المساومة لخبر فاطمة ويحتمل أن تحرم لعموم النهي وليس في خبر فاطمة أمارة على الرضى
فصل :
فأما بيع العينة فهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها منه بأقل من الثمن حالا فلا يجوز لما روى سعيد عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل قالت : دخلت على عائشة أنا وأم ولد زيد بن أرقم فقالت أم ولد زيد : إني بعثت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها : بئس ما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يتوب ولا تقول مثل هذا إلا توقيفا سمعته من النبي صلى الله عليه و سلم ولأن ذلك ذريعة إلى الربا لأنه أدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة والذرائع معتبرة فإن اشتراها بسلعة جاز لأنه لا ربا بين الأثمان والعروض إن اشتراها بنقد غير الذي باعها به فقال أصحابنا : يجوز لأن التفاضل بينهما جائز ويحتمل التحريم لأن النساء بينهما محرم وإن اشتراها من غير المشتري أو اشتراها أبو البائع أو ابنه جاز وإن نقصت السلعة لتغير صفتها جاز لبائعها شراؤها بأقل من الثمن لأن نقص الثمن لنقصان السلعة وإن نقصت لتغير السوق أو زادت لم يجز شراؤها بأقل لما ذكرناه
فصل :
فإن باعها بثمن حال نقده ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة لم يجز نص عليه لأنها في معنى التي قبلها سواء
فصل :
وإن باع طعاما إلى أجل بثمن فلما حل الأجل أخذ منه بالثمن طعاما لم يجز لأنه ذريعة إلى بيع طعام بطعام نسيئة فهو في معنى ما تقدم وكل شيئين حرم النساء فيهما لم يجز أخذ أحدهما عن الآخر قبل قبض ثمنه وقياس قول أصحابنا في مسألة العينة أنه يجوز هاهنا أحذ ما يجوز التفاضل بينه وبين الطعام المبيع
فصل :
ومن اشترى مكيلا أو موزونا لم يجز له بيعه حتى يقبضه في ظاهر كلام أحمد رضي افلله عنه و الخرقي وما عداهما يجوز بيعه قبل القبض لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ] وقال ابن عمر : رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله ( ص ) أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم متفق عليهما وهذا لا يخلو من كونه مكيلا أو موزونا والحديث يدل بصريحه على منع بيعه قبل قبضه وبمفهومه على حل بيع ما عداه وعن أحمد : أن المنع من البيع قبل القبض يخص المطعوم لاختصاص الحديث به وما ليس بمطعوم من المكيلات والموزونات يجوز بيعه قبل القبض وعنه : أن المنع يختص ما ليس بمتعين كقفيز من صبرة ورطل زيت من دن وما بيع صبرة أو جزافا جاز بيعه قبل قبضه وهو قول القاضي وأصحابه لأنه يتعلق به حق توفية بخلاف غيره وعنه : أن كل مبيع لا يجوز بيعه قبل قبضه لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه [ نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار ] رواه أبو داود
وقال ابن عباس : أحسب كل شيء بمنزلة الطعام ولأنه لم يتم ملكه عليه أشبه المكيل والمذهب الأول وما بيع بصفة أو برؤية متقدمة فهو كالمكيل لأنه لا يتعلق به حق توفية فأشبه المكيل والموزون وما حرم بيعه قبل قبضه لم يجز بيعه لبائعه لعموم النهي ولا الشركة فيه لأنه بيع لبعضه ولا التولية لأنه بيع بمثل الثمن الأول فأما الثمن في الذمة فيجوز بيعه لمن هو في ذمته لما روى ابن عمر قال : كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم دنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : [ لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما شيء ] رواه أبو داود ولا يجوز بيعه لغير من هو في ذمته لأنه معجوز عن تسليمه فأشبه بيع المغصوب لغير غاصبه وما كان غير مستقرا كالمسلم فيه لم يجز بيعه بحال لا لصاحبه ولا لغيره لقوله عليه السلام : [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ] رواه أبو داود
فصل :
وكل عقد ينفسخ بتلف عوضه قبل قبضه كالإجارة والصلح حكمه حكم البيع فيما ذكرناه وما لا ينفسخ كالخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد جاز التصرف في عوضه قبل قبضه طعاما كان أو غيره وكذلك أرش الجناية وقيمة المتلف والمملوك بإرث أو وصية أو غنيمة إذا تعين ملكه فيه لأنه لا يتوهم غرر الفسخ بهلاك المعقود عليه جاز بيعه كالوديعة والصداق كذلك قاله القاضي لأنه لا ينفسخ العقد بتلفه فهو كعوض الخلع وقال الشريف و أبو الخطاب : هو كالمبيع لأنه يخشى رجوعه بانفساخ النكاح بالردة فأشبه المبيع
فصل :
وقبض كل شيء بحسبه المكيل المبيع قبضه كيله لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله ] رواه مسلم وإن بيع جزافا فقبضه نقله لما روى ابن عمر قال : كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه رواه مسلم وقبض الذهب والفضة والجوهر باليد وسائر ما ينقل قبضه نقله وقبض الحيوان أخذه بزمامه أو تمشيته من مكانه وما لا ينقل قبضه التخلية بين مشتريه وبينه لا حائل دونه لأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحياء والإحراز والعادة ما ذكرناه وعنه : أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية مع التميز لأنه قبض فيما لا ينقل فكان قبضا في غيره
فصل :
وما يعتبر له القبض إذا تلف قبل قبضه إذا انفسخ العقد وهو من مال البائع لأنه تلف قبل تمام ملك المشتري عليه فأشبه ما تلف قبل تمام البيع وإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن لأنه تلف بتصرفه فاستقر الثمن عليه كما لو قبضه وإن أتلفه أجنبي لم ينفسخ العقد لأن له بدلا يرجع إليه فلم ينفسخ العقد كما لو تعيب ويخير المشتري بين الفسخ والرجوع على البائع بالثمن لأنه تلف بغير فعل المشتري أشبه ما لو تلف بفعل الله تعالى وبين إتمام العقد والرجوع ببدله لأن الملك له وإن أتلفه البائع احتمل أن يبطل العقد لأنه يضمنه إذا تلف في يده بالثمن فكذلك إذا أتلفه وقال أصحابنا : الحكم فيه حكم ما لو أتلفه أجنبي وإن تعيب قبل قبضه فهو كما لو تعيب قبل بيعه لأنه من ضمان البائع
فصل :
وإذا باع شاة بشعير فأكلته قبل قبضه ولم تكن يد بائعها عليها انفسخ البيع لأن الثمن هلك قبل القبض بغير فعل آدمي فإن كانت يده عليها فهو كإتلافه له وإن باعها مشتريها ثم هلك الشعير قبل قبضه انفسخ العقد الأول ولم يبطل الثاني لأن ذلك كان قبل فسخ العقد وعلى بائعها الثاني قيمتها لأنه تعذر عليه ردها وهكذا إن كان بدله شقصا فأخذه الشفيع انفسخ البيع الأول وعلى المشتري رد قيمة الشقص ويأخذ من الشفيع قيمة الطعام لأنه الذي اشترى به الشقص
فصل :
وما لا يحتاج إلى قبض إذا تلف فهو من مال المشتري لما روى حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المشتري ذكره البخاري وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه و سلم إلا أن يمنعه البائع قبضه فيضمنه لأنه تلف تحت يد عادية أشبه ما لو تعلف تحت يد الغاصب وسواء حبسه على قبض الثمن أو غيره إلا أن يكون قد اشترط عليه الرهن في البيع

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10