كتاب : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
المؤلف : عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد

باب ما على القاضي في الخصوم
يلزمه أن يسوي بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب والإقبال عليهما والسماع منهما لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر ] رواه عرم بن شيبة في كتاب قضاة البصرة
وكتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما : واس الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع شريف في حيفك
وجاء رجل إلى شريح وعنده السري فقال : اعدل بي على هذا الجالس إلى جنبك فقال شريح للسري : قم فاجلس مع خصمك قال : إني أسمعك من مكاني قال : لا قم فاجلس مع خصمك إن مجلسك برتبته وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر ولأن إيثار أحد الخصمين في بعض ما ذكرنا يكسر خصمه والمستحب أن يجلسهما بين يديه لما روى ابن الزبير قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي رواه أبو داود ولأنه أمكن لخطابهما فإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا جاز رفع المسلم عليه لما روى إبراهيم التيمي : أن عليا رضي الله عنه حاكم يهوديا إلى شريح فقام شريح من مجلسه فأجلس عليا فيه فقال علي رضي الله عنه : لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تساورهم في المجالس ] ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل فقال : ألك خصم ؟ قال : نعم قال : تحول عنا فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) يقول : [ لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه ]
ولا يسار أحدهما ولا يلقنه حجته ولا يأمره بإقرار ولا إنكار لما فيه من الضرر فإن لم يحسن الدعوى ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجوز له تلقينه كيف يدعي لأن في تلقينه ما يثبت حقه به أشبه تلقينه الحجة
والثاني : يجوز لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه وله أن يزن عن أحدهما ما وجب عليه لأنه نفع لخصمه ولا يكون إلا بعد انقضاء الحكم وله أن يشفع لأحدهما إلى الآخر لأن النبي صلى الله عليه و سلم شفع إلى كعب بن مالك في أن يحط عن ابن أبي حدرد بعض دينه متفق عليه
وإن أحب غلبة أحدهما ولم يظهر منه ذلك بقول ولا فعل فلا شيء عليه لأن التسوية في المحبة والميل بالقلب لا يستطاع فأشبه التسوية بين النساء ولا ينتهر خصما دون الآخر لئلا يكسره إلا أن يظهر منه لدد أو سوء أدب فينهاه فإن عاد زجره فإن عاد عزره ولا يزجر شاهدا ولا يتعيبه لأن ذلك يمنعه أداء الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحملها وأدائها وفيه تضييع للحقوق
فصل
وإذا حضر القاضي خصوم كثيرة قدم الأول فالأول لأن الأول سبق إلى حق له فقدم كما لو سبق إلى موضع مباح فإن حضروا دفعة واحدة أو أشكل السابق أقرع بينهم فمن قرع قدم لأنهم تساووا فقدم أحدهم بالقرعة كالنساء إذا أراد السفر بإحداهن وإن ثبت السبق لأحدهم فأثر غيره بسبقه جاز لأن الحق له فجاز إيثاره به كما لو سبق إلى مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة واحدة كيلا يستوعب المجلس بدعاويه فيضر بغيره وإن حضر مقيمون ومسافرون قليل في وقت واحد وهم على الخروج قدموا لأن عليهم ضررا في المقام وإن كانوا مثل المقيمين ولا يزال ضرر بمثله وإن تقدم خصمان فادعى أحدهما حقا على الآخر فقال الآخر : أنا جئت به وأنا المدعي قدم السابق بالدعوى لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل وللسابق حق السبق فقدم
فصل
وإذا كان بين اثنين خصومة فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم لزمته إجابته لقول الله تعالى : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } فإن لم يحضر فاستعدي عليه لزم الحاكم أن يعديه لأن تركه يفضي إلى تضييع الحقوق فإن استدعاه الحاكم لزمته الإجابة فإن أبى تقدم إلى صاحب الشرط ليحضره وإن استعدى على غائب وكان الغائب في بلد فيه حاكم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن ثم حاكم وكان ثم من يتوسط بينهما كتب إليه لينظر بينهما فإن لم يكن ثم من ينظر بينهما لم يحضره حتى يحقق الدعوى لأنه يجوز أن يكون المدعى ليس بحق كثمن الكلب والخمر فلا يكلفه مشقة الحضور كما لا يقضي به فإذا حقق الدعوى أحضره بعدت المسافة أو قربت لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية : أن ابعث إلي بقيس بن المكشوح في وثاق فأحلفه خمسين يمينا على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ما قتل داذويه ولأننا لو لم نلزمه الحضور جعل البعد طريقا إلى إبطال الحقوق وإن استعداه على امرأة برزة فهي كالرجل لأنها مثله في الخروج إلى الحاجات وإن كانت غير برزة لم تكلف الحضور وتوكل من يحاكم عنها فإن توجهت اليمين عليها بعث إليها من يحلفها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] ولم يكلفها الحضور

باب صفة القضاء
إذا حضر القاضي خصمان فادعى أحدهما على الآخر شيئا تصح دعواه فللقاضي مطالبة الخصم بالخروج من دعواه قبل سؤاله لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة فيقول له الحاكم : ما تقول فيما يدعى عليك ؟ فإن أقر لزمه الحق ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعي لأن الحكم حق له فلم يجز استيفاؤه بغير إذنه فإذا طالبه حكم له فيقول : قد ألزمتك ذلك أو قضيت عليك أو أخرج له منه ويحتمل جواز الحكم من غير مطالبة لأن قرينة حاله تدل على إرادة ذلك ولأن أكثر الناس لا يعلمون توقف الحكم على طلبهم فتوقف الحكم عليه يفضي إلو فوات حقه ولأنه لم ينقل هذا عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) ولا عن خلفائه فاشتراطه يخالف ظاهر حالهم وإن أنكر فلم يعرف المدعي وقت البينة قال له القاضي : ألك بينة ؟ وإن كان يعلم فللقاضي أن يقول ذلك وله أن يسكت فإن قال : ما لي بينة قال له الحاكم : فلك يمينه فإن سأله إحلافه أحلفه ولا يجوز إحلافه قبل مطالبة المدعي فإن فعل لم يعتد بها لأنها يمين قبل وقتها وللمدعي المطالبة بإعادتها وإن أمسك المدعي عن إحلافه ثم أراد إحلافه فله ذلك لأن حقه لم يسقط بالتأخير وإن قال : أبرأتك من اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله استئناف الدعوى والطلب باليمين فيها لأن حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين وهذه الدعوى غير التي أبرأه من اليمين فيها فإذا حلف سقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر : أن رجلا من حضرموت ورجلا من كندة أتيا رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) فقال الحضرمي : إن هذا غلبني على أرضي ورثتها من أبي وقال الكندي : أرضي وفي يدي لا حق له فيها فقال النبي ( صلى الله عليه و سلم ) : [ شاهداك أو يمينه ] فقال : إنه لا يتورع من شيء فقال : [ ليس لك إلا ذلك ] رواه مسلم بمعناه
فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه فإن بدا فقال : أريد أن أنظر في حسابي أمهل ثلاثة أيام لأنها قريبة ولا يمهل أكثر منها لأنه كثير وقال أبو الخطاب : لا يمهل لأن الحق توجه عليه حالا فلا يمهل به كالمال وإن لم يذكر عذرا لامتناعه قال له الحاكم : إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك ويكرر ذلك عليه ثلاثا فإن حلف وإلا حكم عليه لما روى أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدا فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالما بعيبه فأنكر ابن عمر فتحاكما إلى عثمان فقال له عثمان : احلف أنك ما علمت به عيبا فأبى ابن عمر أن يحلف فرد عليه العبد ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اليمين على المدعى عليه ] فحصرها في جنبته فلم يشرع لغيره واختار أبو الخطاب : أنه لا يحكم بالنكول ولكن ترد اليمين على خصمه وقال : قد صوبه أحمد وقال : ما هو ببعيد يحلف ويستحق فيقول الحاكم لخصمه : أتحلف وتستحق ؟ لما روى ابن عمر : أن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) رد اليمين على صاحب الحق رواه الدارقطني وروي أن المقداد : اقترض من عثمان مالا فتحاكما إلى عمر فقال عثمان : هو سبعة آلاف وقال المقداد : هو أربعة آلاف فقال المقداد لعثمان : احلف أنه سبعة آلاف فقال عمر : أنصفك فإن حلف المدعي عكم له وإن نكل سئل عن سبب نكوله لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق بخلاف المدعى عليه فإن قال : امتنعت لأن لي بينة أقيمها أو حسابا أنظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في المدة لأنه لا يتأخر بتركه إلا حقه فخلاف المدعى عليه فإن قال : لا أريد أن أحلف فهو ناكل فإن عاد فبذل اليمين لم تسمع منه في هذه الدعوى لأنه أسقط حقه منها فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى أعيد الحكم بينهما كالأول فإن بذل اليمين هاهنا حكم بها لأنها يمين في دعوى أخرى
فصل
وإن كان للمدعي بينة عادلة قدمت على يمين المدعى عليه للخبر ولأنها لا تهمة فيها لأنها من جهة غيره واليمين بينهم فيها ولا يجوز سماع البينة والحكم بها إلا بمسألة المدعي لأنه حق له فلا يستوفى إلى بإذنه فإن شهدت البينة فقال المدعى عليه : أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لأن في ذلك طعنا في البينة وإن قال : قضيته أو أبرأني منه أو أحلته به فأنكر المدعي فسأل إحلافه أحلف له لأن ذلك ليس بتكذيب للبينة فإن كانت البينة غير عادلة قال له الحاكم : زدني شهودا فإن قال المدعي : لي بينة غائبة فأحلف المدعى عليه أحلف لأن الغائبة كالمعدومة لتعذBه إقامتها ومتى حضرت بينته وطلب سماعها وجب سماعها والحكم بها لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة ولأن البينة كالإقرار ثم يجب الحكم بالإقرار بعد اليمين كذلك بالبينة وإن قال : لي بينة حاضرة ولكني أريد يمينه ثم أقيم بينتي لم يستحلف لأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة وحدها فلم يشرع معها غيرها كما لو أقامها وإن قال : أحلفوه ولا أقيم بينتي حلف لأن له في هذا غرضا وهو أن يخاف فيقر فيثبت الحكم بإقراره وهو أسهل من إثباته بالبينة فإذا حلف فهل يمكن المدعي من إقامة البينة ؟ على وجهين وإن قال : ما لي بينة ثم جاء ببينته لم تسمع لأنه أكذبها بإنكاره وإن قال : ما أعلم لي بينة ثم أقام بينة أو قال شاهدان : نحن نشهد لك فقال : هذان بينتي سمعت لأنه لم يكذب بينته وإن قال : ما أريد أن تشهدا لي وأريد يمينه حلف لما ذكرناه وإن قال : لي بينة وأريد ملازمة خصمي أو حبسه حتى أقيمها لم يكن له ذلك لقول رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) : [ شاهداك أو يمينه ليس له إلا ذلك ]
فصل
وإذا شهد شاهدان فلم يعلم خصمه أن له جرحهما قال له الحاكم : قد أطردتك جرحهما وإن كان يعلم فله أن يقول له ذلك وله أن يسكت فإن سأل خصمه الإنظار ليجرحهما أنظر ثلاثا لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في كتابه إلى أبي موسى : واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له حقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى وإن قال : لي بينة بالقضاء أو الإبراء أمهل ثلاثا فإن لم يأت بها حلف المدعي على نفي ذلك وقضى له وله ملازمته إلى أن يقيم بينة بالجرح أو القضاء لأن الحق قد ثبت في الظاهر وإن شهد شاهدان ولم تثبت عدالتهما في الباطن فسأل المدعي حبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة الشهود حبس لأن الظاهر العدالة وعدم الفسق ويحتمل أن لا يحبس لأن الأصل براءة ذمته وإن شهد له واحد فسألة حبسه حتى يقيم له شاهدا آخر ففيه وجهان :
أحدهما : يحبس كما لو جهل عدالة الشهود
والثاني : لا يحبس لأن البينة لم تتم
فصل
وإن علم الحاكم الحال لم يجز أن يحكم بعلمه في حد ولا غيره في ظاهر المذهب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان فقال له أحدهما : أنت شاهدي فقال : إن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد وقال أبو بكر رضي الله عنه : لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي ولأنه متهم في الحكم بعلمه فلم يجز كالحكم لولده وعنه : يجوز له الحكم بعلمه سواء علمه في ولايته أو قبلها ولأن هندا قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني لي ولولدي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فقضى بعلمه ولأنه حق علمه فجاز الحكم به كالتعديل والجرح وكما لو ثبت بالبينة
فصل
وإن كان للمدعي شاهد واحد عدل في المال أو ما يقصد به المال حلف المدعي مع شهادته وحكم له به لأن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بشاهد ويمين رواه مسلم
فإن أبى أن يحلف وقال : أريد يمين المدعى عليه أحلفناه فإن نكل المدعى عليه قضي عليه ومن قال : ترد اليمين فهل ترد هاهنا ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا ترد لأنها كانت في جنبته وقد أسقطها بنكوله عنها وصارت في جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت على المدعي فنكل عنها
والثاني : ترد عليه لأن هذه غير اليمين الأولى ولأن سبب الأولى قوة جنبة المدعي بالشاهد وسبب الثانية نكول المدعى عليه فسقوط إحداهما لا يوجب سقوط الأخرى فإن سكت المدعى عليه فلم ينكر ولم يقر حبسه الحاكم حتى يجيب ولم يجعله بذلك ناكلا ذكره القاضي في المجرد وذكر أبو الخطاب : أن الحاكم يقول له : إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك ثلاثا فإن أجاب وإلا حكم عليه لأنه ناكل عما يلزمه جوابه فأشبه الناكل عن اليمين
فصل
ومتى اتضح الحكم للقاضي لزمه الحكم به ولم يجز ترديد الخصمين لأن الحكم لازم وأداء الحق واجب فلم يجز تأخيره وإن كان فيه لبس أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما و لا يحكم حتى يزول اللبس ويتضح وجه الصواب لأن الحكم بالجهل حرام

باب القضاء على الغائب وحكم كتاب القاضي
إن حضر رجل يدعي على رجل غائب عن البلد ولا بينة معه لم تسمع دعواه لأن سماعها لا يفيد وإن كانت له بينة سمع الدعوى والبينة وحكم بها لأنها بينة مسموعة فيحكم بها كما لو شهدت على حاضر وعن أحمد : لا يجوز القضاء على الغائب وهو اختيار ابن أبي موسى لأن النبي ( ص ) قال لعلي رضي الله عنه : [ ( إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك لاتدري بما تقضي ) ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن ولأنه قضى لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولأنه يحتمل القضاء والإبراء وكون الشاهد مجروحا فلم يجز الحكم كالأصل ولو ادعى على حاضر لم تسمع البينة حتى يحضر لما ذكرنا ولأنه يمكن سماع قوله فلم يحكم قبل سماعه كحاضر المجلس وتعتبر الغيبة إلى مسافة القصر لأنها الغيبة التي تبنى عليها الأحكام فإن امتنع الخصم في البلد من الحضور عند الحاكم وتعذر إحضاره حكم عليه لأنه لو لم يحكم عليه لجعل الإمتناع والإستتار طريقا إلى تضييع الحقوق ويكون حكمه حكم الغائب وإن هرب المدعى عليه بعد الدعوى فهو كما لو هرب قبلها في الحكم عليه ولو كانت الدعوى على صبي أو مجنون لحكم عليه بالبينة لأنه لا يعبر عن نفسه فهو كالغائب ولا يمين على المدعي في هذه المواضع كلها لأنه أقام البينة بحقه فلم يستحلف كما لو كان خصمه حاضرا وعنه : يستحلف لأنه يجب الاحتياط ويحتمل أن يكون قد قضاه أو أبرأه أو غير ذلك وكذلك لو كان حاضرا فادعى بعض ذلك وطلب اليمين أجيب إليها فمع الغيبة أولى وكذلك الحكم إن كانت الدعوى على مجنون أو صبي لأنه لا يعبر عن نفسه فهو كالغائب
فصل
ويجوز للقاضي أن يكتب إلى قاض آخر بما ثبت عنده ليحكم به وبما حكم به لينفذه لما روى الضحاك بن سفيان قال : كتب إلي رسول الله ( ص ) أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أخرجه أبو داوود و الترمذي ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن كتب بما حكم به لينفذه جاز في المسافة القريبة والبعيدة لأن إمضاء حكم القاضي لازم لكل قريب وبعيد وإن كتب بما ثبت عنده ليحكم به لم يجز إلا إذا كان بينهما مسافة القصر لأن القاضي الكاتب فيما حمل شهود كشاهد الأصل وشهود الكتاب كشاهد الفرع ولا تقبل شهادة الفرع قرب الأصل
فصل
ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان عدلان لأن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كالمفقود ويتخرج أن يجوز قبوله بغير شهادة إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه كقولنا في الوصية والأول أولى لأن الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم فلا يؤمن التزوير عليه فإذا أراد إنفاذ كتاب أحضر شاهدين وقرأ الكتاب عليهما أو يقرؤه غيره وهو يسمعه والمستحب أن ينظر الشاهدان في الكتاب حتى لا يحرف ما فيه وإن لم ينظرا جاز لأنهما يؤديان ما سمعا فإذا وصلا إلى القاضي المكتوب إليه قرآ الكتاب عليه وقالا : نشهد أن هذا كتاب فلان إليك سمعناه وأشهدنا به كتب إليك بما فيه فإن قالا : نشهد أن فلانا هذا كتب إليك بما في هذا الكتاب وسلماه إليه من غير قراءته عليه لم يقبله لأنه ربما زور عليهما وإن لم يختم الكتاب أو ختمه فانكسر الختم لم يضر لأن المعول على ما فيه وإن انمحى بعضه وهما يحفظان ما فيه أو معهما نسخة أخرى شهدا وقبل الحاكم وإن لم يحفظاه ولا معهما نسخة أخرى لم يشهدا لأنهما لا يعلمان ما انمحى منه
فصل
وإن مات الكاتب أو عزل جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب والعمل به لأنه إن كان الكتاب بما حكم به وجب تنفيذه عل كل أحد وإن كان فيما ثبت لينفذ فالكاتب كشاهد الأصل وموت شاهد الأصل لا يمنع قبول شاهد الفرع وإن فسق الكاتب ثم وصل كتابه وجب قبوله فيما حكم به لأن الحكم لا يبطل بالفسق بعده ولم يقبل فيما ثبت عنده لأنه كشاهد الأصل وشاهد الأصل إذا فسق قبل الحكم لم يحكم بشهادة الفرع وإن مات المكتوب إليه أو عزل أو ولي غيره قبل الثاني الكتاب لأن المعول عل ما حفظه الشهود وتحملوه ومن تحمل شهادة وشهد بها وجب على كل قاض الحكم بشهادته
فصل
وإذا وصل الكتاب إليه فأحضر الخصم فقال : لست فلان بن فلان فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته فإن أقام المدعي بينة أنه فلان بن فلان ثبت ذلك فإن قال : المحكوم عليه غيري لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد أن له من يشاركه في جميع ما سمي ووصف به لأن الأصل عدم المشاركة فإن قامت المشاركة ببينه توقف عن الحكم حتى يثبت من المحكوم عليه منهما فإذا ثبت حكم به فإن قال المحكوم عليه : اكتب إلى الحاكم الكاتب أنك حكمت علي حتى لا يدعى ثانيا ففيه وجهان أحدهما : تلزمه إجابته ليخلص مما يخافه والثاني : لا يلزمه لأن الحاكم إنما يكتب بما حكم به أو ثبت عنده والحاكم هو الذي حكم به أو ثبت عنده دون غيره
فصل
إذا ثبت عنده حق بالإقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده من الإقرار لزمه ذلك لأنه لا يؤمن أن ينكر المقر فلزمه الإشهاد ليكون حجة له إذا أنكر وإن ثبت عنده الحق بنكول المدعى عليه فسأله المدعي أن يشهد على نفسه بثبوت النكول لزمه لأنه لا يؤمن أن ينكر بعد ذلك ويحلف وإن ثبت عنده بيمين المدعي بعد نكول المدعى عليه فسأله أن يشهد على نفسه بذلك لزمه لأنه لا حجة للمدعي غير الإشهاد وإن ثبت ببينة فسأله المدعي الإشهاد ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجب عليه لأن له الحق ببينة فلم يلزم القاضي تجديد بينة أخرى وإن ادعى عليه حقا
الثاني : يلزمه لأن في الشهادة على نفسه تعديلا لبينته وإثباتا لحقه وإلزاما لخصمه وإن ادعى عليه حقا فأنكره وحلف عليه وسأله الحالف أن يشهد على براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط الدعوى حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى وإن سأله في هذه المسائل أن يكتب له محضرا بما جرى وما ثبت له به الحق فإن لم يكن قرطاس من بيت المال ولم يأته المكتوب له بقرطاس لم يلزمه أن يكتب له لأن عليه الكتاب دون الغرم وإن كان عنده قرطاس من بيت المال أو أتاه صاحبه بقرطاس فهل يلزمه كتابة المحضر ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمه لأنه وثيقة بالحق فلزمه كالإشهاد على نفسه
والثاني : لا يلزمه لأن الحق يثبت باليمين أو البينة دون المحضر وإن سأله أن يسجل به وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر ويشهد على إنفاذه أسجل له وهل يلزمه ذلك ؟ على وجهين كما ذكرنا في المحضر
فصل
وصفة المحضر : حضر القاضي فلان بن فلان قاضي عبد الله الإمام على كذا وإن كان خليفة قاض قال : خليفة فلان : قاضي الإمام فلان بمجلس حكمه وقضائه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما حتى يتميزا وإن ذكر حليتهما كان آكد وإن كان الحاكم لا يعرف الخصمين قال : مدع ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه مدعى عليه ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما ويذكر حليتهما لأن الإعتماد عليهما فأدعى عليه كذا فأقر له به ولا يحتاج أن يذكر بمجلس حكمه وقضائه لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم وإن كتب أنه شهد على إقراره شاهدان كان آكد وإن أنكر وحلف قال : فأنكر فسأل الحاكم المدعي : ألك بينة ؟ فلم يكن له بينة فقال : لك يمينه فسأله أن يستحلفه فأحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت واحد لأن الاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحكم وإن قضى بالنكول قال : فعرض اليمين على المدعى عليه فنكل عنها فسأل خصمه أن يقضي عليه بالحق فقضى عليه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا وإن رد اليمين على المدعي فحلف وحكم له ذكر ذلك ويعلم في رأس المحضر : الحمد لله رب العالمين أو نحوه وإن ثبت الحق ببينة كتب الحاكم في آخر المحضر : شهد عندي بذلك فلان مع علامته في رآس المحضر وصفة السجل أن يكتب : هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان قاضي الإمام فلان في موضح كذا في وقت كذا أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان وينسبهما وقد عرفهما بما ساغ له به قبول شهادتهما عنده بما في كتاب نسخته وينسخ الكتاب ثم يكتب بعد ذلك فحكم به وأنفذه وأمضاه بعد أن سأله فلان بن فلان أن يحكم له به ولا يحتاج أن يذكر له بمحضر المدعى عليه لأن القضاء على الغائب جائز فإن ذكره احتياطا قال بعد أن أحضر من ساغ له : للدعوى عليه ويكتب المحضر أو المسجل نسختين يدفع إحداهما إلى صاحب الحق والأخرى في ديوان الحكم فإن هلكت إحداهما وجدت الأخرى وما يحصل عنده من المحاضر والسجلات في كل شهر أو أسبوع على قدر كثرتها أو قلتها يشد عليها إضبارة ويكتب عليها : سجلات كذا ومحاضر كذا في شهر كذا في سنة كذا ليسهل إخراجه عند طلبه فإن تولى ذلك بنفسه والا وكل أمينه فإن حضر رجلان عند الحاكم فادعى أحدهما أن له في ديوان الحكم حجة على خصمه فوجدها وكان حكما حكم به غيره لم يحكم به الا أن يشهد شاهدان أن هذا حكم حكم به فلان القاضي ولا يكفي الخط والختم لأنه يحتمل التزوير في الخط والختم وإن كان حكما حكم هو به فذكر الحكم وعلم به عمل به وألزم خصمه حكمه وإن لم يذكر الحكم به ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز له الحكم به لأنه يحتمل التزوير في الخط والختم فلم يجز له الحكم به كحكم غيره
والثانية : يجوز الحكم به لأنه إذا كان بخطه تحت ختمه لم يحتمل أن يكون غير صحيح إلا إحتمالا بعيدا كاحتمال كذب الشاهدين فلا يعول على مثله فإن شهد به شاهدان وجب الحكم به لأنه حكم شهد به عدلان فوجب قبوله كحكم غيره أو كما لو شهدا به عند غيره
فصل
وإذا قال : حكمت لفلان بكذا قبل قوله لأنه يملك الحكم به فملك الإقرار به كالزوج لما ملك الاطلاق ملك الإقرار به وإن قال ذلك بعد عزله قبل أيضا لأن عزله لا يمنع قبول قوله كما لو كتب إلى غيره فوصل الكتاب بعد عزله ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال الولاية ويحتمل أن لا يقبل قوله لأنه لا يملك الحكم فلم يملك الإقرار به

باب القسمة
الأصل في القسمة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى } وأما السنة : فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الشفعة فيما لم يقسم ] فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وقسم النبي صلى الله عليه و سلم الغنائم بين أصحابه وأجمعت الأمة على جوازها والعبرة تقتضيها لحاجة الشركاء ليتخلصوا من سوء المشاركة وكثرة الأيدي وينصرف كل واحد في المال على الكمال على حسب الاختيار
فصل
ويجوز للشركاء أن يقتسموا بأنفسهم وأن ينصبوا قاسما يقسم بينهم وأن يسألوا الحاكم قاسما يقسم بينهم لأن الحق لهم فجاز ما تراضوا عليه ويجب أن يكون القاسم عالما بالقسمة ليوصل إلى كل ذي حق حقه كما يجب أن يكون الحاكم عالما بالحكم ليحكم بالحق فإن كان منصوبا من جهة الحاكم فمن شرطه أن يكون عدلا لأنه نصبه لإلزام الحكم فاشترطت عدالته كالحاكم وإن كان منصوبا من جهتهما لم تشترط عدالته لأنه نائبهما فأشبه الوكيل إلا أنه إن كان عدلا كان القاسم الحاكم في لزوم قسمته لأنه يصير بتراضيهما كالمنصوب من جهة الحاكم وإن لم يكن عدلا لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما كما لو اقتسما بأنفسهما ويجزىء قاسم واحد إن خلت القسمة من تقويم لأنه حكم بينهما فأشبه الحاكم وإن كان فيها تقويم لم يجز أقل من قاسمين لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين
فصل
وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال لأنه من المصالح وقد روي أن عليا رضي الله عنه اتخذ قاسما جعل له رزقا في بيت المال ولأن هذا من المصالح فأشبه رزق الحاكم فإن لم يعط من بيت المال شيئا فأجرته على الشركاء على قدر أملاكهم سواء طلباها معا أو أحدهما لأنها مؤنة تتعلق بالملك فكانت على قدر الأملاك كنفقة العبد وإن كان الشركاء نصبوا قاسما فأجرته بينهم على ما شرطوه لأنه أجيرهم
فصل
وإذا كان في القسمة رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد بذل المال عوضا عما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع وإن لم يكن فيها رد فهي إفراز النصيبين وتميز الحقين وليست بيعا ولذلك جاز تعليقها على القرعة و تقدرت بقدر الحق ودخلها الإجبار ولو كانت بيعا حتما لم يجز ذلك فيها كما في سائر البيوع وحكي عن أبي عبد الله بن بطة : أنها بيع لأن أحدهما يبذل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع والمذهب الأول فيجوز قسمة الثمار على الشجر خرصا وقسمة المكيل وزنا والموزون كيلا والتفرق قبل القبض ولا يحنث بها من حلف أن لا يبيع وإن كان العقار وقفا أو نصفه جازت القسمة وإن قلنا : هي بيع لم يجز شي من ذلك لأن بيعه غير جائز وإن كان فيها رد لم تجز قسمة الوقف لأنه لا يجوز بيع شيء منه وان كان بعضه طلقا وبعضه وقفا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه يشتري بعض الوقف وإن كان صاحب الوقف جاز و لأنه يشتري بعض الطلق
فصل
إذا طلب أحد الشريكين القسمة فأبى الآخر من غير ضرر كالحبوب والأدهان والثياب الغليظة والأراضي والدور التي يمكن قسمتها بالتعديل من غير رد عوض ولا ضرر أجبر الممتنع عليها لأن طالبها يطلب إزالة الضرر عنه وعن شريكه من غير ضرر بأحد فوجب إجابته إليه وسواء كانت الأرض متساوية الأجر أو مختلفة بعضها عامر وبعضها خراب أو بعضها ذو بناء أو شجر أو بئر وبعضها بياض أو يسقى بعضها سيحا وبعضها بناضح وان كان عليهما ضرر في القسمة كالجواهر والثياب التي ينقصها القطع والرحى الواحدة والبئر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لما روى مالك في موطئه عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا ضرر و لا ضرار ] من [ المسند ] ولأنه إتلاف مال وسفه يستحق به الحجر فلم يجبر عليه كهدم البناء وإن كان على أحدهما ضرر دون الآخر كدار لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها يستضر صاحب الثلث بالقسمة دون شركائه فطلبها المستضر ففيه وجهان :
أحدهما : يجبر الممتنع لأنه مطالب بقسمة لا ضرر عليه فيها فلزمته الإجابة كالتي قبلها
والثاني : لا يجبر لأن طلب المستضر سفه فلم تلزم إجابته كما لو استضرا معا وإن طلبها غير المستضر فقال أبو الخطاب : لا يجبر الممتنع وهذا ظاهر كلام أحمد لأنه قال : كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأنها قسمة تضره فلم يجبر عليها كما لو استضر وقال القاضي : يجبر لأنه يطالب بحق ينفع الطالب فوجبت إجابته كقضاء الدين وفي الضرر المانع روايتان :
إحداهما : هو أن لا يتمكن أحدهما من الانتفاع بنصيبه مفردا كالدار الصغيرة التي لا يمكن سكنى نصيب أحدهما منفردا وهذا قول الخرقي لأن ضرر نقص القيمة ينجبر بزوال ضرر الشركة فيصير كالمعدوم
والثانية : هو أن تنقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة لأنه ضرر فمنع وجوب القسمة للخبر والقياس الأول
فصل
وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء وأمكنت التسوية بأن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها فيقسمانها نصفين ؟ فيحصل في كل قسم من الجيد والرديء مثل ما في الآخر قسم كذلك وإن لم يمكن لكون الجيد في أحد النصفين وأمكن التعديل بجعل ثلثيها في المساحة في مقابلة ثلثها الجيد أجبر الممتنع لأنه يوجب التساوي بالتعديل من غير رد فأشبه ما لو تساويا في الذرع وأجرة القاسم بينهما سواء لتساويهما في أصل الملك ويحتمل أن يجب على صاحب الثلث ثلثها وعلى الآخر ثلثاها لتفاضلهما بالمأخوذ بالقسمة فإن أمكن القسمة بالتعديل والرد فدعي كل واحد منهما إلى أحدهما أجيب من طلب قسمة التعديل لأن ذلك مستحق ولا يلزم إجابة الآخر لأنه بيع فلا يجبر عليه غيره
فصل
وإن كان بينهما دور أو أرض مختلفة في بعضها نخل وفي بعضها شجر وبعضها يسقى سيحا وبعضها يسقى بالنواضح فطلب أحدهما قسمتها أعيانا بالقيمة وطلب الآخر قسمة كل عين على حدة قسمت كل عين على حدة لأن لكل واحد منهما حقا في الجميع فجاز له طلبه من الجميع و إن كانت بينهما عضائد متلاصقة فطلب أحدهما قسمتها أعيانا وطلب الآخر قسمة كل واحدة منهما لم يجبر واحد منهما لأن كل واحدة مسكن منفرد في قسمته ضرر وإن كانت كبارا يمكن قسمتها بغير ضرر قسمت كل واحدة على حدتها كالدور المتفرقة
وإن كانت بينهما دار لها علو وسفل فطلب أحدهما أن يجعل العلو لأحدهما و السفل للآخر فأبى الآخر لم يجبر لأن العلو تابع للعرصة فلا يجوز جعله في القسمة متبوعا وإن طلب قسمة السفل وحده أو العلو وحده لم تجب إجابته لأن القسمة تراد للتمييز ومع بقاء الإشاعة في أحدهما لا يحصل التمييز وإن طلب قسمة السفل منفردا والعلو منفردا لم تجب إجابته لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر أو بعضه فلا يتميز الحقان وإن طلب قسمتهما معا وكانت لا تضر أجبر الممتنع لما تقدم
فصل
وإن كان بين ملكيهما عرصة حائط فطلب أحدهما قسمتها طولا ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض فقال أصحابنا : يجبر الممتنع لأنه لا ضرر ويحتمل أن لا يجبر لأنه يفضي إلى بقاء ملكه الذي يلي نصيب صاحبه بغير حائط وإن طلب قسمتها عرضا ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول وكان يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن أن يبنى فيه حائط لم يجبر الممتنع لأنه يتضرر و إن حصل له ما يمكنه بناء حائط فيه أجبر الممتنع لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما الانتفاع به مقسوما ويحتمل أن لا يجبر لأنه لا تدخله القرعة خوفا من أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الآخر وان كان بينهما حائط فطلب أحدهما قسمته طولا في كمال العرض ففيه وجهان :
أحدهما : تجب إجابته لما ذكرنا فر العرصة
والثاني : لا تجب لأنه إن قطع الحائط ففيه إتلاف وإن لم يقطع أفضى إلى الضرر لأن في تجميل أحدهما له ثقلا على نصيب صاحبه وإن طلب قسمته عرضا في كمال الطول لم يجبر الممتنع لأن فيه إفسادا وفي جميع ذلك متى اتفقا على القسمة جاز
فصل
وإن كان بينهما أرض مزروعة فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع لزم إجابته لأن الزرع لم يمنع جواز القسمة فلم يمنع وجوبها كالقماش في الدار فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مبقى إلى الحصاد ذكره أصحابنا والأولى أنها لا تجب لأنه يلزم منها إبقاء الزرع المشترك في الأرض المقسومة إلى الحصاد بخلاف القماش كما لو بيعت الأرض وإن طلب قسمة الزرع منفردا لم يلزم إجابته لأنه لا يمكن تعديله ويشترط بقاؤه في الأرض المشتركة وإن طلب قسمة الأرض مع الزرع وكان قصيلا لزمته إجابته لأن الزرع كالشجر في الأرض فلم يمنع الإجبار وإن كان سنابل مشتدا حبها فكذلك إلا عند من جعل له القسمة بيعا فلا يجوز لأنه يبيع بعضه ببعض من غير كيل وإن كان بذرا لم تجز قسمته لأنه مجهول لا يمكن تعديله فيكون قسمة مجهول ومعلوم ويحتمل الجواز لأنه بيع لا يمنع البيع إذا اشترطه المبتاع فكذلك لا يمنع القسمة
فصل
إذا كان بينهما ثياب أو حيوانات أو خشب أو عمد أو أحجار متفاضلة فطلب أحدهما قسمتها أعيانا بالقيمة لم تجب إجابته لأن ذلك بيع وإن كانت متماثلة فقال القاضي : تجب إجابته لأنها متماثلة أشبهت أجزاء الأرض المتماثلة ويحتمل أن لا يلزم إجابته لأنها أعيان متفرقة فأشبهت العضائد والدور المتفرقة
فصل
إذا كانت بينهما عين فأرادا قسمة منافعها بالمهايأة بأن تجعل في يد أحدهما مدة وفي يد الآخر مثلها جاز لأن المنافع كالأعيان فجازت قسمتها وإن امتنع أحدهما لم يجبر لأن حق كل واحد منهما معجل فلم يجبر على تأخيره بالمهايأة فإن تهايآه اختص كل واحد منهما بمنفعته في مدته وكسبه وفي الأكساب النادرة كاللقطة والهبة والركاز وجهان :
أحدهما : يدخل فيها لأنها كسب أشبه المعتاد
والثاني : لا يدخل لأن المهايأة كالبيع فلا يدخل فيها إلا ما يقدر عليه في العادة والنادر لا يقدر عليه عادة فلا يدخل فيها ويكون بينهما ونفقة الحيوان في مدة كل واحد منهما عليه لأن نفعه له فكانت مؤنته عليه كالمنفرد به
فصل
وصفة القسمة أن يحصي القاسم عدد أهل ( السهمان ) ثم يعدل السهمان بالأجزاء أو بالقيمة أو بالرد وأن كانت تقتضيه ثم لا يخلو من حالين :
أحدهما : أن تتساوى سهمانهم كأرض بين ستة لكل واحد سدسها فهذا بخير فيه بين إخراج الأسماء على السهام بأن يكتب اسم كل واحد في رقعة ويدرجها في بنادق شمع متساوية ويطرح عليها ثوبا ويقال لمن لم يحضر ذلك : أدخل يدك فأخرج بندقة على هذا السهم الأول فمن خرج اسمه فهو له : ثم على الثاني والثالث والرابع والخامس ويتعين السهم السادس للسادس وبين إخراج السهام على الأسماء بأن يكتب في رقعة السهم الأول وفي أخرى الثاني حتى يستوفي جميع السهام ثم يأمر بإخراج بندقة على اسم أحد الشركاء فما خرج فهو له كذلك إلى آخرها
الحال الثاني : أن تختلف سهمانهم مثل أن يكون لأحدهم نصفها ولآخر ثلثها ولآخر سدسها فإنه يعدل السهام بعدد أقلها ويجعلها ستة ويخرج الأسماء على السهام لا غير فيخرج بندقة على السهم الأول فإن خرج اسم صاحب النصف أخذه والثاني والثالث ثم يخرج بندقة على السهم الرابع فإن خرجت لصاحب الثلث أخذه والخامس ويتعين السادس لصاحب السدس وإنما قلنا : يأخذه والذي يليه ليجتمع حقه ولا يتضرر بتفرقته ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء لئلا يخرج السهم الرابع لصاحب النصف فيقول : خذه وسهمين قبله فيقول صاحباه : يأخذه وسهمين بعده فيختلفان ولأنه لو خرج لصاحب السدس السهم الثاني ثم خرج لصاحب النصف السهم الأول لتفرق نصيبه
فصل
وإذا قسم بينهما قاسم الحاكم قسمة إجبار فأقرع بينهما لزمت قسمته بغير رضاهما لأن رضاهما لا يتعين في ابتداء القسمة فلا يتعين في أثنائها وإن نصبا عدلا عالما يقسم بينهما لزمتهما قسمته بالقرعة لأن الحاكم الذي ينصبانه كحاكم الإمام في لزوم حكمه فقاسمهما كقاسم الإمام في لزوم قسمته وإن كان فاسقا أو جاهلا بالقسمة أو قسما بأنفسهما لم يلزم إلا بتراضيهما لأن رضاهما معتبر في الأول ولم يوجد ما يزيله فوجب استمراره وإن كان في القسمة رد فتولاها قاسم الحاكم ففيها وجهان :
أحدهما : لا يلزم إلا بالتراضي كذلك ولأنها بيع فلا يلزم بغير التراضي كسائر البيع
والثاني : يلزم بالقرعة لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه وإن راضيا على أن يأخذ كل واحد منهما سهما بغير قرعة أو خير أحدهما صاحبه فاختار أحد السهمين جاز ويلزم بتراضيهما وتفرقهما كالبيع
فصل
وإن ادعى أحدهما غلطا في قسمة الإجبار لم يقبل إلا ببينة لأن القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه بغير بينة كالحاكم فإن أقام البينة نقصت القسمة وإن لم يكن له بينة وطلب يمين شريكه أحلف له وإن ادعى الغلط في قسمة لا تلزم إلا بتراضيهما لم تسمع دعواه لأنه رضي بذلك ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه تلزمه
فصل
وإن ظهر بعض نصيب أحدهما مستحقا بطلت القسمة لأنه بقي له حق في نصيب شريكه فعادت الإشاعة وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء وكان معينا لم تبطل القسمة لأن الباقي مع كل واحد قدر حقه ويحتمل أن تبطل القسمة لأنه لم يتعين الباقي لكل واحد منهما في مقابلة ما بقي للآخر وإن كان مشاعا بطلت القسمة لأن الثالث شريكهما لم يأذن في القسمة ولم يحضر فأشبه ما لو علما به وإن قسما أرضا نصفين وبنى أحدهما في نصيبه دارا ثم استحق ما في يده ونقض بناؤه رجع على شريكه بنصف البناء لأن القسمة كالبيع ولو باعه نصف الدار رجع عليه بنصف ما غرم كذا ها هنا
فصل
إذا اقتسم الوارثان فظهر على الميت دين متعلق بالتركة انبنى ذلك على أن الدين هل يمنع تصرف الورثة في التركة ؟ وفيه وجهان :
أحدهما : يمنع ؟ فلا تصح القسمة
والثاني : لا يمنع فتكون القسمة صحيحة هذه هي المذهب لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها لكن إن امتنعا من وفاء الدين بيعت في الدين وبطلت القسمة هذا هو المذهب وإن وفى أحدهما دون الآخر صح في نصيب من وفى وبطل في نصيب الآخر
فصل
وإذا سأل أحد الشريكين الحاكم القسمة بينه وبين شريكه فيما تدخله قسمة الإجبار لم يجبه إلى ذلك حتى يثبت عنده ملكها لأن في قسمة الإجبار حكما عليه فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك وان سأله الشريكان القسمة أجابهما إليها ولم يحتج إلى إثبات الملك لأن يدهما دليل ملكهما ولا منازع لهما فيثبت لهما من حيث الظاهر ولكنه يثبت في القضية أن قسمه إياه بينهما بإقرارهما لا ببينة شهدت لهما بملكهما وكل ذي حجة على حجته لئلا يتخذ القسمة حجة على من ينازعه في الملك

باب الدعاوى
لا تصح دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار لأن القصد في الحكم فصل الخصومة والتزام الحق ولا يمكن ذلك في المجهول فإن كان المدعى دينا ذكر الجنس والنوع والصفة وإن كان عينا باقية ذكر صفتها وإن ذكر قيمتها كان أحوط وإن كانت تالفة لها مثل ذكر صفتها وإن ذكر القيمة كان أحوط وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها وإن كان سيفا محلى بذهب أو فضة قومه بغير جنس حليته وإن كان محلى بهما قومه بما شاء منهما للحاجة وإن ادعى حقا من وصية أو إقرار جاز أن يدعي مجهولا لأنهما يصحان بالمجهول وإذا ادعى مالا لم يحتج إلى ذكر سببه الذي ملك به لأن أسبابه كثيرة فيشق معرفة كل درهم منه
فصل
وإن ادعى عقد نكاح لزم ذكر شروطه فيقول : تزوجتها بولي مرشد وشاهدي عدل وإذنها إن كان إذنها معتبرا لأنه مبني على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه فاشترط ذكر شروطه كالقتل وإن ادعى استدامة النكاح ففيه وجهان :
أحدهما : لا يلزمه ذكر الشروط لأنه يثبت بالاستفاضة التي لا يعلم معها اجتماع الشروط
والثاني : يلزم لأنها دعوى في النكاح أشبه العقد وإن ادعى عقدا يستحق به المال كالبيع والإجارة لم يحتج إلى ذكر شروطه لأن مقصوده المال أشبه دعوى العين ويحتمل أن يفتقر إلى ذلك لأنه عقد فأشبه النكاح وإن ادعى قصاصا في نفس أو طرف فلا بد من ذكر صفة الجناية وأنها عمد منفردا بها أو مشاركا فيها ويذكر صفة العمد لأنه قد يعتقد ما ليس بعمد عمدا والقتل مما لا يمكن تلافيه فلا يؤمن أن يقتص ممن لا يجب القصاص فيه وهو ما لا يمكن تلافيه فوجب الاحتياط فيه
فصل
وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكره سأله الحاكم عنه ليذكره فتصير الدعوى معلومة فيمكن الحكم بها و الله أعلم
فصل
واذا ادعت المرأة النكاح على رجل وذكرت معه حقا من حقوق النكاح سمعت دعواها لأن حاصل دعواها دعوى الحق من المهر والنفقة ونحوهما وذكر النكاح لبيان السبب وإن لم تذكر معه حقا فذكر القاضي : أن دعواها تسمع أيضا لأن النكاح يتضمن حقوقا فصح دعواها له كالبيع وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أن دعواها لا تسمع لأنه حق عليها فدعواها له إقرار ولا يسمع مع إنكار المقر له
فصل
واذا ادعى مالا مضافا إلى سببه فقال : أقرضته ألفا أو أتلف علي ألفا فقال : ما أقرضني وما أتلفت عليه صح الجواب لأنه نفى ما ادعى عليه وإن قال : لا يستحق علي شيئا ولم يتعرف لما ذكر المدعي صح الجواب أيضا لأنه إذا لم يستحق عليه شيئا برىء منه
فصل
واذا ادعى على رجل عينا في يده أو دينا في ذمته فأ نكره ولا بينه له فالقول قول المنكر مع يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه البخاري و مسلم وقال النبي صلى الله عليه و سلم في قصة الحضرمي والكندي : [ شاهداك أو يمينه ] ولأن الأصل براءة ذمته من الدين والظاهر من اليد الملك واذا تداعيا عينا في أيديهما ولا بينة حلفا وجعلت بينهما نصفين لما روى أبو موسى الأشعري : أذ رجلين تداعيا دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهم رواه مسلم
ولأن يد كل واحد منهما على نصفها فكان القول قوله فيه كما لو كانت العين في يد أحدهما
وإن تداعيا عينا في يد غيرهما ولا بينة لواحد منهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له وسلمت إليه لما روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا عينا لم يكن لواحد منهما بينة فأمرهما النبي صلى الله عليه و سلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود ولأنهما تساويا ولا بينة لهما فيقرع بينهما كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما وإن كانت للمدعي أو لأحد المتداعيين بينة حكم له بها لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الحضرمي : [ ألك بينة ؟ ] قال : لا قال : [ فلك يمينه ] ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها فكانت أولى من اليمين التي يتهم فيها
فصل
وان ادعيا عينا في يد غيرهما فأقام كل واحد منهما بينة ففيها ثلاث روايات إحداهن تقدم بينة المدعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ] فجعل البينة للمدعي ولأن بينة المدعي أكثر فائدة لأنها تثبت شيئا لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا دلت اليد عليه فلم تفد ولأنه يجوز أن يكون مستند البينة المنكر رؤية التصرف ومشاهدة اليد فأشبهت اليد المفردة
والثانية : تقدم بينة المنكر لأنهما تعارضتا ومع صاحب اليد ترجيح بها فقدمت كالنصين إذا تعارضا والقياس مع أحدهما
والثالثة : إن شهدت بينة المدعى عليه بالسبب من نتاج أو نسج أو قطيعة أو كانت أقدم تاريخا قدمت و إلا فلا لما روى جابر أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في دابة أو بعير فأقام كل واحد منهما البينة أنها له أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم للذي هي في يده ولأنها إذا شهدت بالسبب أفادت ما لا تفيد اليد وترجحت باليد فوجب ترجيحها وكل من قضي له ببينة لم يستحلف معها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ] ولأن اليمين تكفي وحدها في حق من شرعت في حقه فالبينة أولى لأنها أقوى وسواء كان الخصم ممن يعبر عن نفسه كالمكلف أو ممن لا يعبر عن نفسه كغيره لما ذكرنا
فصل
فإن ادعى الخارج ان الدابة ملكه أودعها إياه أو أجره إياها وأنكر الآخر وأقاما بينتين فبينة الخارج أولى وقال القاضي بينة الداخل أولى لأنه الخارج في المعنى ولنا قول النبي ( ص ) [ : البينة على المدعي ] ولأن اليمين على الداخل فكانت بينة الخارج مقدمة كما لو لم يدع الوديعة
فصل
و إن تداعيا عينا في يديهما وأقام كل واحد منهما بينة أنها ملكه تعارضتا وقسمت العين بينهما نصفين ء لما روى أبو موسى : أن رجلين اختصما إلى النبي ( ص ) في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله ( ص ) بالبعير بينهما نصفين رواه أبو داود ولأن بينة الداخل أو الخارج مقدمة فكل واحد خارج في نصفها داخل في نصفها الآخر فقدمت بينته في أحد النصفين وهل يلزم اليمين كل واحد منهما في النصف المحكوم له به ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يلزم لما ذكرنا
والثانية : تجب اليمين لأن البينتين تساوتا فتساقطتا فصارا كمن لا بينة لهما
وذكر أبو الخطاب رواية أخرى : أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها لأنهما لما تساويا وجب المصير إلى القرعة كالعبيد في العتق والأول أولى للخبر والمعنى
فصل
وإن تداعيا عينا في يد غيرهما فاعترف أنه لا يملكها وأقام كل واحد منهما البينة أنها له ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : تسقط البينتان ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له وسلمت إليه لأنهما تساويا من غير ترجيح بيد ولا غيرها فوجب أن يسقطا كالنصين ويصار إلى القرعة كالعبيد إذا تساووا وقد روى الشافعي حديثا رفعه إلى ابن المسيب أن رجلين اختصما إلى النبي ( ص ) في أمر وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم النبي ( ص ) بينهما
والثانية : تقسم العين بينهما لحديث أبي موسى لأنهما تساويا في الدعوى والبينة واليد فوجب أن تقسم العين بينهما كما لو كانت في أيديهما
والثالثة : يقرع بينهما فمن قرع صاحبه أخذها بغير يمين لأن القرعة أوجبت العمل بإحدى البينتين ولا حاجة إلى اليمين مع البينة
فصل
وإذا ادعى عينا في يد إنسان فأقر بها لغيره وصدقه المقر له حكم له لأنه مصدق فيما بيده وقد صدقه المقر له فصار كصاحب اليد وتنتقل الخصومة إليه وعلى المقر اليمين لأنه لا يعلم أنها للمدعي لأنه لو أقر بها له لزمه غرمها ومن لزمه الغرم مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار فإن نكل عنها مع طلبها منه قضي عليه بالغرم وإن أكذبه المقر له وقال : ليست لي وكان للمدعي بينة حكم له
وإن لم يكن له بينة ففيه وجهان :
أحدهما : تدفع إليه لأنه يدعيها ولا منازع له فيها أشبه التي في يده ولأن صاحب اليد لو ادعاها ثم نكل قضي عليه فمع عدم ادعائه لها أولى
والثاني : لا تدفع إليه لأنه ليس له إلا مجرد الدعوى فلا يحكم بها كما لو أنكره الآخر فعلى هذا يأخذها الإمام يحفظها حتى يظهر صاحبها لأنه لم يثبت لها مستحق فهي كالضالة ويحتمل أن تقر في يد المقر لأنه لم يثبت صحة إقراره فإن أقر المقر له بها للمدعي سلمت إليه لأنه قام مقام صاحب اليد لو ادعاها فقام مقامه في الإقرار بها
وإن أقر بها صاحب اليد لغائب معين صار الغائب الخصم فيها فإن أقام المقر بينة أنها للغائب سمعها الحاكم لإزالة التهمة وإسقاط اليمين عنه ولم يحكم بها للغائب لأنه إنما يقضى بها إذا أقامها المدعي أو وكيله وليس المدعي واحدا منهما ومتى لم يكن للمدعي بينة لم يقض له بها لأنه لا يقضى على الغائب بغير حجة فإن أقام بينة سمعها الحاكم وقضى بها والغائب على خصومته متى حضر فإذا حضر فأقام بينة أنها ملكه تعارفت البينتان وأقرت في يد المدعي إن قلنا : إن بينة الخارج مقدمة لأنه خارج وإن قلنا : تقدم بينة الداخل فهي للغائب لأنه صاحب اليد وإن ادعى الحاضر أنها معه بأجرة أو عارية وأقام بينة لم يقض له بها لأن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على الملك ولا يثبت الملك بها فكذلك فرعها وان أقر الحاضر بها لمجهول لم تسمع وقيل : إن أقررت بها لمعروف وإلا جعلناك ناكلا وقضينا عليك له فإن أصر قضي عليه بنكوله فإن قال بعد ذلك : هي لي لم يقبل في أحد الوجهين لأنه اعترف أنها ليست له
والثاني : تسمع لأن قوله ذلك لم يصح فلم يمنع صحة الدعوى لنفسه
فصل
و إن ادعى أن هذه العين كانت ملكه لم تسمع دعواه حتى يدعي ملكها في الحال لأن الخلاف في ملكه لها في الحال وان ادعى ملكها في الحال فشهدت بينته أنها كانت ملكه أمس أو أنها كانت في يده أمس لم تسمع لأنها شهدت بغير ما ادعاه ويحتمل أن تسمع ويقضى بها لأنها تثبت الملك في الزمن الماضي فيجب استدامته حتى يعلم زواله فإن انضم إليها بيان سبب يد الثاني فقالت : نشهد أنها ملك هذا أمس فغصبها هذا منه أو سقطت فالتقطها هذا حكم له بها لأنه تثبت أن يد الثاني عدوان ليست دليلا للملك فيجب القضاء باستدامة الملك الماضي وإن ادعى
جارية أو ثمرة فشهدت بينة أن الجارية بنت أمته والثمرة ثمرة شجرته لم يحكم له بها لأنه يجوز أن تلدها أو تثمرها قبل ملكه فإن قالت مع ذلك : ولدتها في ملكها وأثمرتها في ملكه حكم له بها لأنها شهدت أنها نماء ملكه فصار كما لو شهدت أن الغزل من قطنه وإن شهدت بينة أن الغزل من قطنه أو الطير من بيضته أو الدقيق من حنطته حكم له بها لأن الجميع عين ماله وإنما تغيرت صفته
فصل
وإن كانت في يد زيد دار فادعى آخر أنه ابتاعها من غيره وهي ملكه فأقام ذلك بينة حكم له بها لأنه ابتاعها من مالكها وإن شهدت أنه باعه إياها وسلمها إليه حكم له بها لأنه لم يسلمها إليه إلا وهي في يده وان لم يذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بها لأنه لا يمكن أن يبيعه ما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد وإن ادعاها رجلان فشهد لأحدهما رجلان أن صاحب اليد غصبه إياها وشهد للآخر شاهدان أن صاحب اليد أقر له بها حكم للمغصوب منه لأنه ثبت أن صاحب اليد غاصب وإقرار الغاصب غير مقبول
فصل
وإذا تداعى رجلان دارا ذكر كل واحد منهما أنه ابتاعها من زيد ونقده ثمنها أو ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه وادعى آخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه ولكل واحد منهما بينة بدعواه واختلف تاريخهما فهي للأول لأنه ابتاعها من مالكها وإن استوى تاريخهما أو أطلقتا أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى تعارضتا فإن كانت الدار في يد أحدهما ابتنى على بينة الداخل والخارج وإن كانت في يد غيرهما فادعاها لنفسه وقلنا : تسقط البينتان حلف لكل واحد منهما يمينا وأخذها وإن قلنا : يستعملان بأن يقرع بينهما قرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها وإن قلنا : تقسم بينهما فلكل واحد منهما نصفها بنصف الثمن وقد نص أحمد رحمه الله في رواية الكوسج في رجل أقام البينة أنه اشترى سلعة بمائة فأقام الآخر بينة أنه اشتراها بمائتين فكل واحد منهما يستحق نصف السلعة بنصف الثمن فيكونان شريكين فإن لم يدعها صاحب اليد فإن قلنا : تسقط البينتان رجع إليه فإن أقر بها لأحدهما سلمت إليه ويحلف كل واحد منهما للذي أنكره وإن أقر بها لهما قسمت بينهما ويحلف لكل واحد منهما يمينا ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف المحكوم له به وإن قلنا : تستعمل البينتان لم يفد إقراره شيئا لأنه قد ثبت زوال ملكه وأن يده لا حكم لها فصار كالأجنبي ولو كان في يده عبد فادعى رجل أنه اشتراه منه وادعى العبد أنه أعتقه وأقاما بينتين فالحكم على ما مضى من التفصيل ومتى قلنا : تقسم العين بينهما عتق نصف العبد وللآخر نصفه بنصف الثمن
فصل
فإن كان في يده دار فادعى رجل أنه باعه إياها بمائة في رمضان وأنه يستحق ثمنها عليه وادعىآخر أنه باعه إياها في شوال وأنه استحق عليه ثمنها ولا بينة لهما فأنكرهما حلف لكل واحد منهما يمينا وبرىء وإن أقاما بينتين بدعواهما لزمه اليمين لكل واحد منهما لأنه يمكن أن يشتريها من الأول في رمضان ثم تصير للثاني فيبيعها الآخر في شوال وإن اتفق تاريخهما تعارضتا فإن قلنا : بسقوطهما صارا كمن لا بينة لهما و إن قلنا : يستعملان قسم الثمن بينهما على رواية ويقدم أحدهما بالقرعة رواية أخرى وإن أطلقتا أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى لزمه الثمنان لهما لأنه أمكن صدق البينتين بأن يكونا في زمنين فوجب تصديقهما كالمختلفي التاريخ ويحتمل تعارضهما لاحتمال استواء تاريخهما والأصل براءة الذمة والأول أولى
فصل
إذا قال لعبده : إن قتلت فأنت حر فادعى العبد أنه قتل وادعى الوارث أنه مات ولا بينة لهما فالقول قول الوارث مع يمينه وإن أقام كل واحد منهما بينة ففيه وجهان :
أحدهما : يتعارضان ويبقى العبد رقيقا لأن كل واحدة منهما تثبت ما شهدت به وتنفي ما شهدت به الأخرى فهما سواء
والثاني : تقدم بينة العبد لأنها تثبت القتل وهو : صفة زائدة على الموت فقد تضمنت زيادة أثبتتها وقول المثبت مقدم وان قال لأحد العبدين : إن مت في رمضان فأنت حر وقال للآخر : إن مت في شوال فأنت حر ولا بينة لهما فأنكرهما الوارث فالقول قوله مع يمينه لأنه يحتمل موته في غيرهما والأصل بقاء الرق وإن اعترف لهما فالقول قول من يدعي موته في شوال لأن الأصل بقاء الحياة وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه ففيه وجهان :
أحدهما : يتعارضان لأن موته في أحد الزمانين ينفي موته في الآخر فيبقى العبدان على الرق ذكره أصحابنا وقياس المذهب أن يقرع بينهما ويعتق أحدهما لأنا علمنا حرية أحدهما لا بعينه
والوجه الثاني : تقدم بينة رمضان لأنه يحتمل أنه خفي موته في رمضان على البينة الأخرى وعلمته الأولى و إن قال العبد : إن مت من مرضي هذا فأنت حر وقال لآخر : إن برئت فأنت حر ولا بينة لهما فالقول قول الأول لأن الأصل عدم البرء وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه تعارضتا والحكم فيها كالتي قبلها لأن كل واحدة منهما تنفي ما أثبتته الأخرى ويحتمل تقديم بينة البرء ولأنه يجوز أن تعلمه إحداهما وتخفى على الأخرى
فصل
وإذا كان في يد رجل عين فادعاها نفسان وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما فيها كالإرث والشراء في صفقة واحدة فأقر لأحدهما بنصفها شاركه الآخر فيه لأن دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منها وكذلك لو كان طعاما فهلك بعضه كان باقيه بينهما أن يكون المجحود والمقر به بينهما و إن لم يعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي الاشتراك فأقر لأحدهما بنصفها لم يشاركه الآخر لأن دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء وإن أقر له بجميعها وكان المقر له قد أقر لشريكه في الدعوى بنصفها لزمه دفعه إليه لأنه أقر له به فإذا وصل إليه لزمه حكم إقراره وإن لم يكن أقر له وادعى جميعها حكم له به وانتقلت الخصومة في النصف إليه لأنه يجوز أن يكون الجميع له ويخص النصف بالدعوى لأن له عليه بينة أو يظن أنه يقر له به ومن يملك الجميع فهو يملك النصف فإن قال : النصف لي والباقي لا أعلم صاحبه أعطي النصف الذي ادعاه وفي النصف الباقي ثلاثة أوجه تقدم ذكرها فيمن ادعى عينا في يد رجل فأقر بها لغيره وكذبه المقر له
فصل
فإن كان في أيديهما دار ادعى أحدهما نصفها وادعاها الآخر كلها ولا بينة لهما فهي بينهما نصفين وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه لأن يده على نصفها فالقول قوله فيه مع يمينه ولا منازع لصاحبه في نصفها الآخر وهو في يده فإن أقام كل واحد منهما بينة تعارضتا وأيهما يقدم ؟ ينبني على الخلاف في تقديم بينة المدعي والمنكر وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي فتكون الدار كلها لمدعي الكل وإن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها فلصاحب الكل نصفها الذي لا ينازع فيه فإن لم يكن لهما بينة أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذ النصف الآخر وإن كان لأحدهما بينة حكم بها وإن كانت لكل واحد منهما بينة تعارضتا وسقطتا وصارا كمن لا بينة لهما يقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذ النصف وعنه : تقسم بينهما فيصير لمدعي الكل ثلاثة أرباعها على ما مضى فيمن تداعيا عينا في يد غيرهما
فصل
ولو ادعى إنسان أن أباه مات وخلفه وأخا له غائبا أو صغيرا أو مجنونا وخلف عينا لهما في يد إنسان فأنكر المدعى عليه فأقام المدعي بينة بدعواه ثبتت العين للميت وانتزعت من يد المنكر ودفع نصفها إلى المدعي وحفظ الحاكم نصيب الغائب له ولو ادعى الدار له ولأجنبي لم ينزع الحاكم نصيب الأجنبي من المنكر لأن الشريك ينوب عن نفسه وها هنا يثبت الحق للميت فتقضى ديونه منه وتنفذ وصاياه ولأن الأخ ها هنا يشارك أخاه فيما أخذه إذا تعذر عليه أخذ الباقي بخلاف الأجنبي وإن كان المدعى دينا في ذمة إنسان فهل يقبض الحاكم نصيب أخي المدعي ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يقبضه لأنه أنفع لصاحبه إذ قد تتعذر البينة عليه عند قدومه أو يعزل الحاكم فوجب أن يقبضه كالعين
والثاني : لا يقبضه لأن الذمة أحوط له من يد الأمين لأنه قد يتلف إذا قبضه
فصل
إذا مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه ليرثه دونه أخيه فإن علم أصل دينه فالقول قول من يبقيه عليه مع يمينه لأنه الأصل فلا يزال بالشك وان لم يعرف أصل دينه فقال الخرقي : القول قول الكافر لأنه لو كان مسلما أصليا لم يقر ولده على الكفر في دار الإسلام فيكون ذلك دليلا على أنه كان كافرا قال ابن أبي موسى : وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى : أن الميراث بينهما نصفين فإن أقام كل واحد منهما بينة أن أباه مات على دينه فقال الخرقي و ابن أبي موسى : يكونان كمن لا بينة لهما وقد ذكرنا أن البينتين إذا تعارضتا قدم أحدهما بالقرعة في وجه وتقسم العين بينهما في وجه ويحتمل أن تقدم بينة المسلم ها هنا لأنه يجوز أن تكون اطلعت على أمر خفي على البينة الأخرى وإن قالت إحدى البينتين : نعرفه مسلما وقالت الأخرى : نعرفه كافرا واختلف تاريخهما عمل بالآخرة منهما لأنه ثبت بها أنه انتقل عما شهدت به الأولى وإن اتفق تاريخهما تعارضتا وإن أطلقتا أو أطلقت إحداهما قامت بينة المسلم لأن الإسلام يطرأ على الكفر وذكر القاضي أن قياس المذهب فيهما إذا لم يكن لهما بينة مثل ما إذا تداعيا عينا وإن كانت التركة في أيديهما تحالفا وكانت بينهما وإن كانت في يد غيرهما أقرع بينهما والأول أولى لأن صاحب اليد معترف أن هذه تركة للميت فلا تدل يده على الملك وإن ادعى كل واحد منهما أن هذه التركة لي ورثتها عن أبي ولم يعترف
أحدهما بأخوة الآخر فهي كما قال القاضي سواء ذكرا أبا واحدا أو أبوين وإن خلف ابنا مسلما أو أخا كافرا فاختلف في دينه عند موته فالحكم على ما ذكرناه وإن خلف أبوين وابنين فادعى الأبوان أنه مات على دينهما وادعى الابنان أنه مات على دينهما فذلك بمنزلة معرفة أصل دينه لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه فيكون القول قولهما ما لم تقم بينة بخلافه
فصل
وإن خلف ابنين كان أحدهما عبدا فادعى أنه عتق قبل موت أبيه وأنكره أخوه فالقول قول المنكر لأن الأصل عدم العتق فإن اتفقا على أنه عتق في رمضان واختلفا في وقت موت الأب فقال الحر : مات في شعبان وقال الآخر : مات في شوال فالقول قول المعتق لأن الأصل بقاء الحياة وكذلك إن مات مسلم وله ولدان مسلم وكافر فأسلم الكافر واختلفا في وقت إسلامه
فصل
وإذا مات رجل فادعى إنسان أنه وارثه لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يرث به ولا يقبل إلا ببينة تشهد أنه وارثه لا نعلم له وارثا سواه ويبين السبب كما يبين المدعى فيدفع إليه ميراثه لأن الظاهر عدم وارث فإن لم يقولا : لا وارث له سواه وكان للمشهود له فرض لا يمكن إسقاطه أعطي اليقين كالزوج يعطى ربعا عائلا والزوجة تعطى ربع تسع وكل واحد من الأبوين يعطى سدسا عائلا ولا يعطى من سوى هؤلاء شيئا لأنه يحتمل أن يكون محجوبا أو لا يعلم ماله بيقين كالولد فإن قالا : نشهد أن هذا ولد فلان ولا نعلم له ولدا سواه قبلت شهادتهما ويدفع إليه ربع وسدس إن كان ذكرا لأنه أقل ما يرث مع زوج وأبوين والخمسان إن كان أنثى لأنه أقل ما يرث مع زوج وأبوين وبنت ابن فإن كان الميت رجلا فأقل ما يرث الابن نصف وثلث ثمن والبنت النصف عائلا ويبعث الحاكم إلى البلدان التي دخلها الميت فيسأل عن أحواله ويستكشف فإن لم يظهر له وارث توقف مدة بحيث لو كان له وارث ظهر فإن لم يظهر له غيره دفع إليه كمال ميراثه لأن البحث مع هذه الشهادة ء كشهادة أهل الخبرة أنهم لا يعلمون وارثا سواه
فصل
ولو مات رجل و خلف ابنا و زوجة ودارا فادعت الزوجة أنه أصدقها إياها وأنكر الابن فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الصداق فإن أقامت بينة بدعواها وأقام الابن بينة أن أباه تركها ميراثا قدمت بينة الزوجة لأنها تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الإرث وكذلك إن ادعت هي أو غيرها شراءها أو اتهابها فالحكم كذلك لما ذكرنا
فصل
وإذا تنازع الزوجان في متاع البيت حال الزوجية أو بعد الفرقة أو تنازع ورثتهما بعد موتهما أو أحدهما وورثة الآخر ولا بينة لهما حكم بما يصلح للرجال من ثيابهم وعمائمهم وسلاحهم ونحو ذلك للرجل وما يصلح للنساء من ثيابهن ومقانعهن وحليهن ومغازلهن ونحو ذلك للمرأة وما يصلح لهما من الفرش والحصر والآنية و نحو ذلك فهو بينهما لأن الظاهر أن من يصلح له شيء فهو له فرجح قوله فيه كصاحب اليد قال القاضي : هذا إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم بأن يكون في منزلهما فإذا كان في يد أجدهما المشاهدة فهو له وإن كان في أيديهما فهو بينهما لأن اليد المشاهدة أقوى فرجح بها
فصل
وإن اختلف صانعان في دكان في الآلات التي فيه حكم بآلة كل صناعة لصاحبها لأن الظاهر معه وإن تنازعا في شيء خارج من الدكان لم يرجح دعوى أحدهما بصلاحية المدعى له لأنه إنما يصلح للترجيح مع اليد الحكمية ولا يكفي مع انفراده كما لو اختلف الزوجان في متاع خارج من البيت
فصل
وإن تنازع رب الدار والمكتري في شيء في الدار المكتراة وكان مما يتبع الدار في البيع كالسلم المسمر والرف المسمر والخابية المنصوبة والمفاتيح فهو لرب الدار لأنه من توابعها فأشبه الشجرة المغروسة فيها فإن كان مما لا يتبعها كالفرش والأواني فهو للمكتري لأن يده عليه والعادة أن الإنسان يؤجر داره فارغة وإن تنازعا في رفوف موضوعة على أوتاد فعن أحمد : أنه لرب الدار لأن الظاهر أنه يترك الرفوف فيها فأشبه المتصلة وقال القاضي : يتحالفان ويكون بينهما لأن هذا الظاهر معارض بكون الرفوف لا تتبع الدار في البيع فاستويا وقال أبو الخطاب : إن كان لها
شكل منصوب في الدار فهو لصاحبها لأن أحدهما له فكان الآخر له وإن لم يكن لها شكل منصوب فهو للمكتري لأن يده عليه وهو مما لا يتبع الدار فأشبه الفرس
وإن اختلفا في مصرع باب مقلوع فالحكم فيه كالحكم في الرف إلا أن القاضي قال : إن كان له شكل في الدار فالقول قول رب الدار و إلا فالقول قول المكتري
فصل
وإن اختلف رب الدار والخياط الذي فيها في الإبرة والمقص فهما للخياط لأن تصرفه فيهما أظهر وإن اختلفا في الثوب فهو لصاحب الدار لأن الظاهر أنه لا يحمل قميصه يخيطه في دار غيره وإن اختلف النجار ورب الدار فالقول قول النجار في القدوم والمنشار والقول قول رب الدار في الرفوف والخشب لما ذكرناه وإن تنازع رجلان دابة أحدهما راكبها أو له حمل عليها والآخر آخذ بزمامها فهي لراكبها لأن تصرفه فيها أقوى ويده آكد فإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر راكبها فهي للراكب لأن يده عليها وعلى الحمل وان اختلف صاحب الدابة وراكبها في حملها فهو لراكبها لأن يده على الدابة فتكون يده على حملها وان تنازعا في رحل الدابة وسرجها فهو لصاحبها لأنه تابع للدابة والعادة جارية لأن ذلك يكون لصاحبها
فصل
وإن تنازعا حائطا معقودا ببناء أحدهما عقدا لا يمكن إحداثه فالقول قوله فيه لأن الظاهر أنه بناه مع ملكه وإن كان له عليه أزج فهو له لأن الظاهر أنه لا يضع أزجه إلا على ملكه ولا يرجح أحدهما بوضع خشبه عليه لأن النبي ( ص ) أمر أن لا يمنع المرء جاره من وضع خشبه على حائطه وإن كان معقودا ببناء كل واحد منهما أو محلولا منهما أو لكل واحد منهما عليه أزج أو لا أزج لواحد منهما تحالفا وكان بينهما لأنهما استويا فيه مع ثبوت يديهما عليه فأشبه ما لو تنازعا دارا في يديهما و إن تنازع صاحب العلو والسفل السقف الذي بينهما فهو بينهما لأنه حاجز توسط بين ملكيهما أشبه الحائط بين الملكين وان تنازعا درجة تحتها مسكن فهي بينهما لأنهما تساويا في الانتفاع بها وإن لم يكن تحتها مسكن أو تنازعا سلما منصوبا فهو لصاحب العلو لأنها وضعت لنفعه وإن كانت تحتها جب فهي لصاحب العلو لأن المقصود بها نفعه وإن تنازعا حائط العلو فهو لصاحبه لأنه مختص بنفعه وإن تنازعا حائط السفل احتمل أن يكون بينهما لأنه لنفعهما فهو كالسلم تحته مسكن واحتمل أن يكون لصاحب السفل لأنه لم تجر العادة ببيت لا حائط له وإن تنازعا صحن الدار والدرجة فيه فهو بينهما لأن لكل واحد منهما عليه يدا وإن لم يكن فيه درجة فهو لصاحب السفل ولهذا يملك منع صاحب العلو من الاستطراق فيه وان تنازعا مسناة بين أرض أحدهما ونهر الآخر فهي بينهما لأنه حائط بين ملكيهما ينتفع به كل واحد منهما أشبه الحائط بين الدارين وإن تنازعا عمامة في يد أحدهما طرفها وباقيها في يد الآخر تحالفا وكانت بينهما لأن يد كل واحد منهما ثابتة عليها وإن كان أحدهما لابسها والآخر آخذ بطرفها أو تنازعا قميصا أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه لأن المنتفع به المتصرف فيه وإن تنازعا عبدا عليه ثياب لأحدهما فهما سواء لأن نفع الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحبه
فصل
وإن كان في يده غلام بالغ عاقل فادعاه عبدا له فصدقه حكم له بملكه وإن كذبه فالقول قوله لأن الظاهر الحرية وإن كان طفلا لا يميز فهو للمدعي لأنه لا يعبر من نفسه أشبه البهيمة فإن بلغ فقال : إني حر لم يقبل منه لأنه حكم برقه قبل دعواه وإن لم يدع ملكه لكنه كان في يده يتصرف فيه فهو كما لو ادعى رقه لأن اليد دليل الملك فإن ادعى أجنبي نسبه ثبت ولم يزل ملك سيده لأنه يجوز أن يكون ولده وهو مملوك إلا أن يكون المدعي امرأة فتثبت حرية ولدها أو يكون رجلا عربيا فإن فيه روايتين : إحداهما : لا يسترق ولده فيحكم بحريته حينئذ وإن كان الصبي مميزا فأنكر رق نفسه ففيه وجهان :
أحدهما : لا يثبت رقه لأنه معرب عن نفسه في دعوى الحرية فأشبه البالغ
والثاني : يثبت الملك عليه لأنه لا قول له فأشبه الطفل ولو ادعى رجلان رق كبير في أيديهما فأقر لأحدهما فهو لمن أقر له لأن رقه إنما يثبت بإقراره وإن جحدهما فالقول قوله فإن أقام كل واحد منهما بينة بملكه تعارفتا فإن قلنا بسقوطهما رجع إلى قوله وإن قلنا بقسمته بينهما أو بقرعته بينهما عمل على حسب ذلك
فصل
ولو كان في يده صغيرة فادعى نكاحها لم تقبل دعواه ولا يخلى بينه وبينها إلا أن تكون بينة لأن النكاح لا يثبت إلا بعقد وشهادة بخلاف الرق فإذا كبرت واعترفت له بالنكاح قبل إقرارها والله أعلم
فصل
ومن كان له حق على من يقر به ويبذله لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه لأن الخيرة إلى الغريم في تعيين ما يقضيه فإن أخذ من ماله شيئا بغير اختياره لزمه رده لأنه لا يجوز أن يتملك غير ماله بغير ضرورة فإن أتلفه صار دينا في ذمته فإن كان من جنس حقه تقاص الدينان وتساقطا وان كان من غير جنسه صار دين كل واحد منهما فى ذمة الآخر وإن كان من عليه الدين مانعا له بجحد أو تعد فالمذهب أنه ليس له الأخذ أيضا لقول النبى ( ص ) [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] والأخذ من ماله بغير علمه خيانة و لأنه إن أخذ من غير جنس
حقه فهي معاوضة بغير تراض منهما فلا يجوز لقول الله تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وان أخذ من جنسه فليس له تعيين الحق بغير رضى صاحبه كحالة البذل قال ابن عقيل وجعل أصحابنا المحدثون لجواز الأخذ وجها وخرجه أبو الخطاب احتمالا لقول النبي ( ص ) لهند : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] حين أخبرته أن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيها ما يكفيها ولقوله عليه السلام [ الرهن محلوب و مركوب بنفقته ]
فعلى هذا إن أخذ من جنس حقه أخذ قدره وإن أخذ من غير جنسه اجتهد في تقويمه كقولنا في المرتهن : يركب ويحلب بقدر العلف
فصل
و إذا ادعى حقا على إنسان وأقام به شاهدين فلم يعرف الحاكم عدالتهما فسأل حبس غريمه حتى تثبت عدالة شهوده أجيب إليه لأن الظاهر عدالة المسلم ولأن الذي على الشاهد قد أتى به و إنما بقي ما على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود وإن أقام شاهدا واحدا في حق لا يثبت إلا بشاهدين وسأل حبس غريمه ليقيم آخر لم يحبس لأن الحبس عذاب فلا يتوجب قبل تمام البينة وإن كان الحق مما يثبت بشاهد واحد احتمل أن يحبس لأن الشاهد حجة فيه واليمين إنما هي مقوية واحتمل أن لا يحبس لأن الحجة ما تمت ويحتمل أنه إن كان المدعي باذلا لليمين ولم تثبت عدالة الشاهد حبس لأنها في معنى التي قبلها وان كان التوقف عن الحكم لغير ذلك لم يحبس لأنه إن حبس ليقيم شاهدا آخر فهي كالتي لا تثبت إلا بشاهدين وإن حبس ليحلف الخصم فلا حاجة إلى الحبس مع إمكان اليمين في الحال وكل موضع حبس على تعديل الشهود استديم حبسه حتى تثبت عدالتهم أو فسقهم وان حبس ليقيم شاهدا آخر حبس ثلاثا فإن أقام الخصم شاهدا وإلا خلي سبيله وإن ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام شاهدين فلم يعدلا فسأل الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة شهوده فعل ذلك ويؤخره الحاكم وينفق عليه من كسبه لما ذكرنا فيما تقدم

باب اليمين في الدعاوى
ومن ادعى حقا من المال أو يقصد به المال كالبيع والإجارة فأنكر المدعى عليه فعليه اليمين لقول النبي ( ص ) : [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم ورواه البخاري بمعناه
ولحديث الحضرمي و الكندي فأما غير ذلك من الحقوق وهو ما لا يثبت إلا بشاهدين وهو القصاص والقذف والنكاح والطلاق والرجعة والنسب والاستيلاء والرق والعتق والولاء ففيه روايتان :
إحداهما : لا يستحلف فيها لأن البدل لا يدخلها فلم يستحلف فيها كحقوق الله تعالى
والثانية : يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف وذكر الخرقي : أنه يستحلف في مدة الإيلاء وتستحلف المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها قبل رجعه زوجها وذكر أبو الخطاب : أنه يستحلف في كل حق الآدمي لعموم الخبر وهو ظاهر في القصاص لقوله عليه السلام : [ لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ] ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي فيستحلف عليه كدعوى المال فإذا توجهت اليمين عليه في المال فحلف برىء وإن نكل قضي عليه بعد أن يقول له الحاكم : إن حلفت وإلا قضيت عليك ثلاثا ولا ترد اليمين على المدعي لأن النبي ( ص ) قال [ : اليمين على المدعى عليه ] فحصرها في جانبه
وادعى زيد بن ثابت على ابن عمر : أنه باعه عبدا يعلم عيبه عند عثمان رضي الله عنه فقال له : احلف أنك ما بعته وبه عيب علمته فأبى ابن عمر أن يحلف فرد عليه العبد ولم يرد اليمين
وقال أبو الخطاب : ترد اليمين على المدعي فيحلف ويحكم له بما ادعاه
وقال : قد صوبه أحمد وقال : ما هو ببعيد يحلف ويستحق لما روى ابن عمر أن النبي ( ص ) [ رد اليمين على طالب الحق ] رواه الدارقطني
ولا ترد إلا أن يردها المدعى عليه فإن نكل المدعي عن اليمين أيضا أخر الحكم حتى يحتكما في مجلس آخر فإن كانت الدعوى في غير المال فنكل المدعى عليه لم يقض بالنكول وهل يحبس حتى يقرأ ويحلف أم يخلى سبيله ؟ على وجهين أصلهما إذا نكلت الزوجة عن اللعان وروي عن أحمد في القذف والقصاص فيما دون النفس : أنه يقضى فيه بالنكول إلا أن أبا بكر قال : هو قول قديم المذهب على خلافه
فصل
واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب هى اليمين بالله تعالى لقوله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } وقال سبحانه : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } وقال تعالى : { و أقسموا بالله جهد أيمانهم } وقال النبي ( ص ) لركانة بن عبد يزيد في الطلاق : [ الله ما أردت إلا واحدة ؟ ] قال : الله ما أردت إلا واحدة
وسواء كان الحالف مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا لأن النبي ( ص ) قال للحضرمي المدعي على الكندي : [ ليس لك إلا يمينه ] فقال الحضرمي : إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه قال : ليس لك منه إلا ذلك
وقال الأشعث بن قيس : كان بني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبى ( ص ) فقال لي النبي ( ص ) : [ هل لك بينة قلت لا قال لليهودى : احلف ثلاثا قلت : إذا يحلف فيذهب بمالي ] فأنزل الله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم الله و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم } رواه أبو داود و أين حلف ومتى حلف أجزأ لظاهر ما روينا وحلف عمر رضي الله عنه في حكومة لأبي في النخل في مجلس زيد فلم ينكره أحد واختار الخرقي تغليظها في حق الكافر خاصة في المكان واللفظ فقال : واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله إلا أنه إن كان يهوديا قيل له : قل : و الله الذي أنزل التوراة على موسى وإن كان نصرانيا قيل له : قل : و الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها لما روى أبو هريرة قال : قال النبي ( ص ) يعني لليهود : [ نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى ] رواه أبو داود
وعلى هذا يحلف المجوسي : قل : و الله الذي خلقني ورزقني ويحلف الوثني ومن لا يعبد الله بالله وحده واختار أبو الخطاب : أن الحاكم إن رأى تغليظها في حق المسلم والكافر في اللفظ والمكان والزمان فعل وتغليظها في حق المسلم باللفظ مثل قوله : والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية
وفي الزمان أن يحلف بعد العصر لقوله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة } ويحلف بين الأذانين وفي المكان : أن يحلف بين الركن والمقام بمكة وعند منبر رسول الله ( ص ) بالمدينة وعند الصخرة بالقدس وعند المنبر في سائر المساجد لما روى مالك في الموطأ عن النبي ( ص ) أنه قال : [ امن حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار ] ولأنه ثبت التغليظ في أهل الذمه فنقيس عليهم غيرهم ولا تغلظ إلا فيما له خطر كالنصاب من المال والقصاص والطلاق والعتق ونحوه
فصل
ويستحلف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه قرضا أو بيعا فأجاب أنه : ما أقرضني ولا باعني حلف على ذلك وإن أجاب بأنه لا يستحق علي شيئا حلف عليه لأن اليمين شرعت لتحقيق جوابه وتأكيد صدقه فيما أخبر به فكانت على حسبه فإن ادعى ألفا فجوابه لا يستحق علي الألف ولا شيئا منها أو لا يستحق علي شيئا ويحلف كذلك ولا يكتفى منه بأنه لا يستحق علي الألف لأن ذلك لا ينفي استحقاقه بعضها وإن ادعى على معسر حقا هو عليه لم يجز له أن يحلف أنه لا يستحق علي شيئا لأنه كذب فإن الحق في ذمته
فصل
ومتى كانت الدعوى على الخصم في نفسه حلف على البتات في النفي والإثبات لما روى ابن عباس أن رسول الله ( ص ) استحلف رجلا فقال : [ قل : والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء ] رواه أبو داود ولأن له طريقا إلى العلم به فلزمه القطع بنفيه
فإن كانت الدعوى عليه في حق غيره في الإثبات حلف على البت لأن له طريقا إلى العلم به وفي النفي يحلف على نفي علمه نص عليه أحمد وذكر حديث القاسم ابن عبد الرحمن عن النبي ( ص ) : [ لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون ]
و في حديث الحضرمي : ولكن أحلفه : و الله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه رواه أبو داود : ولأنه لا يمكنه الإحاطة بنفي فعل غيره فلم يدعي ذلك وذكر ابن أبي موسى عنه : أنه قال : على كل حال اليمين على العلم فيما يدعي عليه في نفسه أو فيما يدعي على ميته قال : وبالأول أقول قال : وعنه فيمن باع سلعة فظهر المشتري على عيب بها وأنكره البائع هل اليمين على علمه أو على البتات ؟ على روايتين
وإن باع عبدا فأبق عند المشتري هل يحلف على علمه أو على أنه لم يأبق عنده على روايتين
فصل
وإذا ادعى عليه جماعة حقا فأنكر لزمه لكل واحد يمين لأنه منكر لحق كل واحد منهم فإن قال : أنا أحلف للجميع يمينا واحدة لم يقبل منه وإن رضي الجماعة بيمين واحدة جاز لأن الحق لهم لا يخرج عنهم

كتاب الشهادات
تحملها وأاؤها فرض لقول الله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا }
وقوله سبحانه : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } ولأنها أمانة فيلزمه أداؤها عند طلبها كالوديعة وهي فرض كفاية إن لم يوجد من يكتفى به غير اثنين تعين عليهما لأن المقصود لا يحصل إلا بهما وإن قام بها من يكفي سقطت عمن سواهم لأن القصد حفظ الحقوق وقد حصل
ويستحب الإشهاد على العقود كلها لقول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } - يعني : في المداينة -
ولا يجب في عقد غير النكاح والرجعة لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يتبايعون في عصره في الأسواق من غير إشهاد فلم ينكر عليهم ولأن في إيجابه حرجا فسقط بقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج }
فصل
ومن كانت عنده شهادة لآدمي عالم بها لم يشهد حتى يسأله صاحبها لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ] متفق عليه
وإن لم يعلم بها استحب إعلامه بها وله أداؤها قبل إعلامه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أنبئكم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ] رواه أبو داود فتعين حمل الحديث على هذه الصورة جمعا بين الخيرين
ومن كانت عنده شهادة في حد الله لم يستحب أداؤها لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة ]
وتجوز الشهادة به لقول الله تعالى : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } والله أعلم

باب من تقبل شهادته ومن ترد
يعتبر في الشاهد شهادته ستة شروط :
أحدها : العقل فلا تقبل شهادة طفل ولا مجنون ولا سكران ولا مبرسم لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل فعلى غيرهم أولى
والثاني : البلوغ فلا تقبل شهادة صبي لقول الله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } والصبي ليس من رجالنا ولأنه ليس بمكلف أشبه المجنون وعنه : تقبل شهادة ابن العشر إذا كان عاقلا لأنه يؤمر بالصلاة ويضرب عليها أشبه البالغ
وعنه : تقبل شهادته في الجروح خاصة إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها لأنه قول ابن الزبير والمذهب الأول
والثالث : الضبط فلا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة لأنه لا تحصل الثقة بقوله لاحتمال أن يكون من غلطه وتقبل شهادته من يقبل ذلك منه لأن أحدا لا يسلم من الغلط
والرابع : النطق فلا تقبل شهادة الأخرس بالإشارة لأنها محتملة فلم تقبل كإشارة الناطق وإنما قبلت في أحكامه المختصة به للضرورة وهي ها هنا معدومة
والخامس : ا لإسلام فلا تقبل شهادة كافر بحال لقوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } والكافر ليس بعدل ولا مرضي ولا هو منا إلا أن شهادة أهل الكتاب تقبل في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم ويستحلف مع شهادته بعد العصر لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } الآيات نزلت في تميم وعدي وكانا نصرانيين شهدا بوصية مولى لعمرو بن العاص روى هذه القصة أبو داود وغيره وروى حنبل عن أحمد : أن شهادة بعضهم على بعض جائزة لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز شهادة بعض أهل الذمة على بعض رواه ابن ماجة ولأن بعضهم يلي بعضا فتجوز شهادتهم عليهم كالمسلمين والمذهب الأول قال الخلال غلط حنبل فيما رواه لا شك فيه والخبر يرويه مجالد وهو ضعيف ويحتمل أنه أراد اليمين فإنها شهادة
فصل
الشرط السادس : العدالة فلا تقبل شهادة فاسق لقول الله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } وقوله سبحانه وتعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } إلى قوله تعالى : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون }
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي عمر على أخيه ] رواه أبي داود
ويعتبر في العدالة شيئان :
أحدهما : اجتناب الكبائر والإدمان على الصغائر والكبائر كل ما فيه حد أو وعيد فمن فعل كبيرة أو أكثر من الصغائر فلا تقبل شهادته لأنه لا يؤمن من مثله شهادة الزور ولأن الله تعالى نص على القاذف فقسنا عليه مرتكب الكبائر واعتبرنا في مرتكب الصغائر الأغلب لأن الحكم للأغلب بدليل قوله تعالى : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } والآيةالتي بعدها
ولا يقدح فيه في عمل صغيرة نادرا لأن أحدا لا يسلم منها ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما ]
والثاني : المروءة فلا تقبل شهادة غير ذي المروءة كالمغني والرقاص والطفيلي والمتمسخر ومن يحدث بمباضعة أهله ومن يكشف عورته في الحمام أو غيره أو يكشف رأسه في موضع لا عادة بكشفه فيه ويمد رجليه في مجمع الناس وأشباه ذلك مما يجتنبه أهل المروءات لأنه لا يأنف من الكذب بدليل ما روى أبو مسعود البدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ] وفي أصحاب الصنائع الدنيئة كالكساح والزبال والقمام والقراد والكباش والمشعوذ والحجام وجهان :
أحدهما : لا تقبل شهادته لأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات فأشبه ما قبله
والثاني : تقبل شهادتهم إذا حسنت طريقتهم في دينهم لأن الله تعالى قال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وألحق أصحابنا بهذه الصنائع الحياكة والدباغة والحراسة لدناءتها والأولى في هذه قبول الشهادة لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءة
ومن كانت صناعته محرمة كصانع المزامير والطنابير لا تقبل شهادته لأنه مدمن على المعاصي ساقط المروءة وكذلك المقامر لأن القمار من الميسر الذي أمر الله باجتنابه وفيه دناءة وسفه وأكل مال بالباطل
فصل
ويحرم اللعب بالنرد والشطرنج وإن خلا من القمار لما روى أبو موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله ] رواه أبو داود
وعن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن لله تعالى ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاة فيها نصيب ] رواه أبو بكر
ومر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج فقال : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } ولأنه لعب يصد عن ذكر الله وعن الصلاة فأشبه القمار
والنرد أشد من الشطرنج نص عليه أحمد للاتفاق عليه وثبوت الخبر
فأما اللعب بالحمام فإن كان يقصد به تعليمها حمل الكتب ونحوها مما تدعو الحاجة إليه فلا بأس به لأنه كتأديب الفرس وإن كان لغرض محرم من القمار أو أخذ حمام غيره ونحوه فهو محرم وإن كان عبثا فهو دناءة وسفه فما دام عليه صاحبه من المحرم والسفه لم تقبل شهادته لزوال عدالته وما ندر لم يمنع لأنه من الصغائر فأما اللعب بآلات الحرب كالمناضلة وتأديب الفرس والثقاف فمندوب إليه لما فيه من القوة للجهاد وقد لعب الحبشة بالحراب والدوق بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسجده
فصل
وهي نوعان : محرم : وهي الآلات المطربة من غير غناء كالمزمار وسواء كان من عود أو قصب كالشبابة أو غيره كالطنبور والعود والمعزفة لما روى أبو أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير ] رواه سعيد في سننه ولأنها تطرب وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة فحرمت كالخمر
النوع الثاني : مباح وهو : الدف في النكاح لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف ] رواه الترمذي و ابن ماجة
وفي معناه ما كان في حادث سرور ويكره في غيره لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا سمع صوت الدف بعث فنظر فإن كان في وليمة سكت وإن كان في غيره عمد بالدرة وهو مكروه للرجل على كل حال لتشبهه بالنساء
وأما الضرب بالقصب فليس بمطرب فلا يحرم وإنما هو تابع للغناء فيتبعه في الكراهة ومن أدمن على شيء من ذلك ردت شهادته لأنه إما معصية وإما دناءة وسقوط مروءة
فصل
قال أحمد رضي الله عنه : لا يعجبني الغناء لأنه ينبت النفاق في القلب وقال : من خلف ولدا يتيما له جارية مغنية تباع ساذجة واختلف أصحابنا فيه فذهب طائفة إلى تحريمه لأنه يروى عن ابن عباس وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الغناء ينبت النفاق في القلب ] وذهب أبو بكر و الخلال إلى إباحته مع الكراهة وهو قول القاضي : لأن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال : مزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعهما فإنها أيام عيد ]
قال أبو بكر : الغناء والنوح واحد مباح ما لم يكن معهما منكر ولا فيه طعن وفي الجملة من اتخذه صناعة يؤتى له أو اتخذ غلاما أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس فلا شهادة له لأنه سفه وسقوط مروءة ومن كان يغشى بيوت الغناء أو يغشاه المغنون للسماع متظاهرا به وكثير منه ردت شهادته ومن استتر بذلك أو غنى لنفسه قليلا لم ترد شهادته فإن كثر مع الاستتار به ردت شهادة صاحبه عند من حرمه لأنه معصية ومن أباحه لم يردها لأنه لا معصية فيه ولم يتظاهر به وأما الحداء فمباح لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه و سلم لابن رواحة : [ حرك بالقوم ] فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأنجشة : [ رويدك رفقا بالقوارير ]
ونشيد الأعراب لا بأس به لأنه كالحداء وكذلك سائر الأصوات إلا القراءة بالألحان قال القاضي : هي مكروهة وقال غيره : إن فرط فيها فأشبع الحركات حتى صارت الفتحة ألفا والضمة واوا والكسرة ياء حرم لما فيه من تغيير القرآن وإن لم يكن كذلك فلا بأس به فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد قرأ ورجع وقال : [ ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ] أي : استمع
وكان النبي ( ص ) يستمع إلى أبي موسى وقال : [ لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ] فقال أبو موسى : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا
فصل
والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه لأنه كلام موزون مشغوله وقد روى عمرو بن العاص : أن النبي ( ص ) قال : [ الشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه ] وقول الشعر مباح لأن النبي ( ص ) كان له شعراء ويأتيه الشعراء فيسمع منهم
فصل
وتمنع التهمة قبول الشهادة وهي ستة أنواع
أحدها : كونه والدا وإن علا أو ولدا وإن سفل لما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ( ص ) أنه قال : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء ] والظنين المتهم وكل واحد منهما متهم في حق صاحبه لأنه يميل إليه بطبعه ولهذا قال النبي ( ص ) : [ فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ]
ويستحق أحدهما النفقة على صاحبه ويعتق عليها إذا ملكه وعنه : تقبل شهادتهما لأنهما عدلان من رجالنا فيدخلان في عموم الآيات والأخبار وعنه : تقبل شهادة الولد لوالده لدخوله في العموم ولا تقبل شهادة الأب لابنه لأن ماله كماله لقول النبي ( ص ) : [ أنت ومالك لأبيك ] فكانت شهادته لنفسه فأما شهادة أحدهما على صاحبه فمقبولة لأنه لا يتهم عليه ولذلك قال الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين }
وحكى القاضي رواية أخرى عن أحمد : أن شهادته عليه لا تقبل لأن من لم تقبل شهادته له لم تقبل عليه كغير العدل والمذهب الأول كما ذكرنا ولأن شهادته له ردت للتهمة ولا تهمة في الشهادة عليه
الثاني : لا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه لأنه ينتفع بشهادته لتبسط كل واحد منهما في مال الآخر عادة واتساعه سعته وإضافة مال كل منهما إلى الآخر قال ابن مسعود لرجل قال له : إن غلامي سرق مرآة امرأتي قال : غلامكم سرق مالكم لا قطع عليه ولأنه إن كان الزوج الشاهد فهو يجر إلى نفسه نفعا لأن قيمة بضع المرآة المملوك له يزداد بيسارها وإن كان الشاهد المرأة فنفقتها تزداد بيساره وعنه : أن شهادة أحدهما للآخر مقبولة لدخوله في العموم
الثالث : الجار إلى نفسه أو الدافع عنها كشهادة الغرماء للمفلس أو الميت بدين أو عين فإنه لو ثبت له تعلقت حقوقهم به بخلاف غيرهما من الغرماء فإنه لا يتعلق حق الشاهد بما يشهد به وكذلك لا تقبل شهادة الورثة للمورث للجرح قبل الاندمال لأنه قد يسري إلى نفسه فتجب الدية لهم ولا شهادة الوصي بمال الميت لأنه يثبت له فيه حق التصرف وكذلك شهادة الشريك لشريكه بمال الشركة ولا الوكيل لموكله فيما هو موكل فيه ولا الشفيع ببيع الشقص المشفوع ولا السيد لبعده المأذون ولا لمكاتبه قال القاضي : ولا تقبل شهادة الأجير لمستأجره نص عليه أحمد
وأما الدافع عن نفسه فمثل شهادة المشهود عليه بجرح الشهود أو شهادة العاقلة بجرح شهود القتل الذين يحملون عقله وشهادة الضامن بقضاء الدين أو البراءة منه فلا تقبل شهادة أحد لقوله عليه السلام : [ ولا ظنين في قرابة ولا الظنين المتهم ]
فإن شهد الشريك لشريكه بغير مال الشركة أو الوكيل بغير ما وكل به أو العاقلة بما لا تحمل عقله قبلت شهادتهم لعدم التهمة فيهم وإن شهد من العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ من لا يحمل العقل لفقره أو بعده احتمل أن تقبل شهادته كذلك واحتمل أن لا تقبل لأنه قد يوسر عند الحول فيحمل أو يموت القريب فيحمل البعيد
الرابع : من ترد شهادته لفسقه ثم أعادها بعد عدالته لم تقبل للتهمة في أدائها لكونه تعير بردها فربما قصد بأدائها أن تقبل لإزالة العار الذي لحقه بردها ولأنها ردت بالاجتهاد فقبولها ينقض لذلك الاجتهاد وإن شهد عبد فردت شهادته ثم عتق وأعادها ففيه روايتان :
إحداهما : لا تقبل لأنها شهادة مجتهد فيها فإذا ردت لم تقبل مرة أخرى كشهادة الفاسق
والثانية : تقبل لأن العتق يظهر وليس من فعله فيتهم في إظهاره بخلاف العدالة وإن شهد السيد لمكاتبه أو الوارث لمورثه بالجرح قبل الاندمال فردت شهادتهم ثم زالت الموانع فأعادوا الشهادة ففي قبولها وجهان كالروايتين والأولى أنها لا تقبل لأنها شهادة ردت للتهمة فلا تقبل إذا أعيدت كالمردود للفسق
الخامس : من شهد بشهادة ترد في البعض ردت في الكل مثل من شهد على رجل أنه قذفه وأجنبيا أو قطع الطريق عليه أو على أجنبي أو شهد الأب لابنه وأجنبي بدين أو لشريكه وأجنبي فلا تقبل لأنها شهادة متهم فيها فلم تقبل
السادس : العداوة تمنع قبول شهادة العدو على عدوه لقول النبي ( ص ) : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي عمر على أخيه ] ولأنه يتهم في إرادة الضرر بعدوه فلا تقبل شهادة الرجل على زوجته بالزنا لأنه يقر بعدواته لها ولأنه دعوى جناية في حقه فلم تقبل لأنه خصم ولا تقبل شهادة المقطوع عليه الطريق على القاطع ولا المقذوف على القاذف لأنه عدو فأما المتحاكمان على مال فلا يمنع ذلك قبول شهادة أحدهما على صاحبه لأنه ليس بعدواة
فصل
وتقبل شهادة العدو لعدوه لأنه غير متهم في شهادته له وشهادة الرجل لأبيه من الرضاع وابنه وسائر أقاربه جائزة لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه بخلاف قرابة النسب وتقبل شهادة الأخ من النسب لأخيه لأنه عدل غير متهم فيدخل في عموم الآيات والأخبار ولا يصح قياسه على الوالد والولد لما بينهما من التقارب وتقبل شهادة الصديق الملاطف وسائر الأقارب لما ذكرنا وتقبل شهادة ولد الزنى والجندي إذا سلما في دينهما كذلك وتقبل شهادة الوصي والوكيل بعد العزل في أحد الوجهين كذلك إلا أن يكونا قد خاصما فيما شهدا به لأنهما صارا خصمين فيه وتقبل شهادة الوارث بالجرح بعد الاندمال لما ذكرناه
فصل
ومن شهد شهادة زور فسق وردت شهادته لأنها من الكبائر لقول رسول الله ( ص ) : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ] قلنا : بلى يا رسول الله قال : [ الإشراك بالله وعقوق الوالدين ] وكان متكئا فجلس فقال : [ ألا وقول الزور وشهادة الزور ] فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت متفق عليه
ويثبت أنه شاهد زور بأحد ثلاثة أشياء :
أحدهما : أن يقر بذلك
والثاني : أن تقوم البينة به
الثالث : أن يشهد بما يقطع بكذبه مثل أن يشهد بموت من تعلم حياته أو يقتله في مكان والمشهود عليه في ذلك الوقت في بلد آخر
ولا يثبت ذلك بتعارض الشهادتين لأنه ليس تكذيب إحداهما أولى من الأخرى ومتى ثبت أنه شاهد زور عزره الحاكم بما يراه من الضرب أو الحبس وشهره بأن يقيمه للناس في موضع يشتهر أنه شاهد زور لأن فيه زجرا له ولغيره عن فعل مثله فأما الغلط والنسيان فلا يصير به شاهد زور لأنه لم يتعمده ولو غير العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها أو نقص قبلت ما يحكم بشهادته لأنه يجوز أن يكون نسيه
فصل
ومن قذف أو فعل معصية توجب رد شهادته فتاب قبلت شهادته لقول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا } نص على قبول شهادة القاذف إذا تاب وقسنا عليه سائر من ذكرنا
إن قذف ولم يتب لم تقبل شهادته سواء جلد أو لم يجلد للآية ولأن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك ولأن القذف معصية توجب حدا فوجب أن ترد بها الشهادة قبل التوبة وتقبل بعد التوبة كالزنا والتوبة من الذنب : الاستغفار والندم على الفعل والعزم على أن لا يعود والإقلاع عن الذنب لقول الله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } الآية والتي بعدها وإن كانت مظلمة لآدمي فالإقلاع عنها والتخلص منها بإيفاء صاحبها أو التحلل منه لأن الحق لأدمي فلا يبرأ منه إلا بأدائه أو إبرائه وإن عجز عن ذلك عزم على إيفائه متى قدر وإن كان قذفا فإقلاعه عنه إكذابه لنفسه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : توبة القاذف إكذابه نفسه ولأنه بالقذف ألحق العار به فإكذابه نفسه يزيله فإن لم يكن كاذبا قال : قذفي لفلان كان باطلا وقد ندمت عليه ولا يعتبر مع التوبة إصلاح العمل لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك ويحتمل أن يعتبر مضي مدة تعلم توبته فيها لأن الله تعالى قال : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } وقال : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما }
فصل
وتقبل شهادة العبد فيما خلا الحد والقصاص لقول الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } والعبد عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية فيدخل في العموم
وعن عقبة بن الحارث أنه قال : تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت : أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي ( ص ) فقال [ كيف وقد زعمت ذلك ] متفق عليه ولأنه عدل غير متهم فأشبه الحر ولا تقبل شهادته في الحد لأنه يدرأ بالشبهات وفي شهادة العبد شبهة لوقوع الخلاف فيها وفي القصاص احتمالان :
أحدهما : لا تقبل فيه كذلك
والثاني : تقبل لأنه حق آدمي لا يصح الرجوع عن الإقرار به فأشبه الأموال وذكر الشريف و أبو الخطاب في جميع العقوبات روايتين
فصل
وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز به شهادة النساء لحديث عقبة بن الحرث وحكم المدبر والمكاتب وأم الولد حكم القن في ذلك لأنهم أرقاء
فصل
ويعتبر استمرار شروط العدالة حتى يتصل بها الحكم فإن شهد عند الحاكم فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه ما لا تجوز معه شهادته لم يحكم بها لأن العدالة أن الإنسان يستبطن الفسق ويظهر العدالة فلا يؤمن أن يكون فاسقا حين أداء شهادته فلم يجز الحكم بها مع الشك فيها وإن حدث ذلك منه بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان حدا لله تعالى لم يستوف لأنه يدرأ بالشبهات ولا مطالب به وهذه شبهة وإن كان مالا استوفي لأن الحكم قد تم وثبت الاستحقاق بأمر ظاهر الصحة فلا نبطله بأمر محتمل وإن كان حد قذف أو قصاص ففيه وجهان :
أحدهما : يستوفى لأنه حق آدمي له مطالب فأشبه المال
والثاني : لا يستوفى لأنه عقوبة على البدن تدرأ بالشبهات أشبه الحد فأما إن أديا الشهادة وهما من أهلها ثم ماتا قبل الحكم بها أو جنا أو أعمي عليهما حكم بها لأن ذلك لا يؤثر في شهادتهما فلا يدل على الكذب فيها

باب عدد الشهود
والحقوق تنقسم ستة أقسام
أحدها : ما لا يكفي فيه إلا أربعة شهداء وهو الزنا لقول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }
واللواط زنا فلا يقبل فيه إلا أربعة كذلك ولأنه فاحشة بدليل قول الله تعالى لقوم لوط : { أتأتون الفاحشة } فيعتبر فيه الأربعة لقوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم }
فأما إتيان البهيمة فإن قلنا : يجب به الحد فهو كالزنا في الشهادة لأنه فاحشة موجبة للحد فأشبه الزنا وإن قلنا : الواجب به التعزير ففيه وجهان :
أحدهما : يعتبر فيه الأربعة لأنه فاحشة
والثاني : يثبت بشاهدين لأنه لا يوجب الحد فأشبه قبلة الأجنبية وفي الإقرار بالزنا وجهان :
أحدهما : تعتبر له الأربعة لأنه سبب يثبت به الزنا فاعتبر فيه أربعة كالشهادة
والثاني : يثبت بشاهدين لأنه إقرار فثبت بشاهدين كسائر الأقارير وإن كان المقر أعجميا ففي الترجمة وجهان كالشهادة على الإقرار فأما المباشرة دون الفرج وسائر ما يوجب التعزير فيكتفى فيه بشاهدين لأنه ليس بزنا موجب للحد فأشبه ظلم الناس
فصل
الثاني : سائر العقوبات كالقصاص وسائر الحدود فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين لما روي عن الزهري قال : جرت السنة من عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا تقبل شهادة النساء في الحدود ولأنها عقوبة مشروعة فلا يقبل فيها إلا شهادة الرجال الأحرار كحد الزنا وسواء كان القصاص في النفس أو ما دونها كالموضحة والأطراف فأما جنايات العمد التي لا توجب القصاص كالجائفة والمأمومة وجناية الأب فقال الخرقي : يقبل فيه رجل وامرأتان أو رجل ويمين وهذا ظاهر المذهب لأنه لا يوجب إلا المال فأشبه البيع وقال ابن أبي موسى : فيه روايتان :
إحداهما : كما ذكرنا
والثانية : لا يقبل إلا رجلان قال : وهذا اختياري وهو قول أبي بكر لأنه جناية عمد فأشبه الموضحة وقيل : يقبل في الجائفة لأنها لا توجب قصاصا بحال ولا يقبل في المأمومة وشبهها لأنها لا توجب القود في الموضحة ومن قال بالأول لم يوجب القصاص في الموضحة حتى يشهد بها من يثبت القصاص بشهادته
فصل
القسم الثالث : المال وما يوجبه كالبيع والإجارة والهبة والوصية له والضمان والكفالة فيقبل فيه شهادة رجل وامرأتين لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } إلى قوله : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } نص على المداينة وقسنا عليه سائر ما ذكرنا
وقال ابن أبي موسى : لا تثبت الوصية إلا بشاهدين لقول الله سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم }
فصل
القسم الرابع : ما ليس بمال ولا عقوبة كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق والوكالة والوصية إليه والولاية والعزل وشبهه ففيه روايتان :
إحداهما : لا يقبل فيه إلا رجلان لقول الله تعالى في الرجعة : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فنقيس عليه سائر ما ذكرنا ولأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال أشبه العقوبات
والثانية : يقبل فيه رجل وامرأتان أو يمين لأنه ليس بعقوبة ولا يسقط بالشبهة أشبه المال وقال القاضي : النكاح وحقوقه لا يثبت إلا بشاهدين وما عداه يخرج فيه روايتان وكل ما يثبت بشاهد ويمين لا يقبل فيه شهادة امرأتين ويمين ولا أربع نسوة لأن شهادة النساء ناقصة وإنما انجبرت بانضمام الذكر إليهن فلا يقبلن منفردات وإن كثرن
فصل
وإن اختلف الزوجان في الصداق ثبت بشهادة رجل وامرأتين لأنه مال وإن اختلفا في الخلع فادعاه الرجل وأنكرته المرأة قبل فيه رجل وامرأتان لأنه بينة لإثبات المال فإن ادعته المرأة وأنكره الرجل لم يقبل فيه إلا رجلان لأنه بينتهما لإثبات الفسخ وإن اختلفا في عوضه خاصة ثبت برجل وامرأتين لأن الخلاف في المال وإن شهد رجل وامرأتان بسرقة ثبت المال دون القطع وإن شهدوا بقتل عمد لم يجب قصاص ولا دية لأن السرقة توجب المال والقطع فإذا قصرت عن أحدهما ثبت الآخر والقتل يوجب القصاص والمال بدل فإذا لم يثبت الأصل لم توجب بدله وإن قلنا : موجبه أحد شيئين لم يتعين أحدهما إلا بالاختيار فلو أوجبنا الدية وحدها أوجبنا معينا وقال ابن أبي موسى : لا يجب المال فيما إذا شهدوا بالسرقة لأنها شهادة لا توجب الحد وهو أحد موجبيها فإذا بطلت في أحدهما بطلت في الآخر ولو كان في يد رجل جارية ذات ولد فادعى رجل أنها أم ولده وولدها منه وشهد بذلك رجل وامرأتان قضي له بالجارية لأنها مملوكته فثبت ذلك برجل وامرأتين وإذا مات عتقت بإقراره وفي الولد وجهان :
أحدهما : يثبت نسبه وحريته لأن الولد نماء الجارية وقد ثبتت له فتبعها الولد في الحكم ثم ثبت نسبه وحريته بإقراره
والثاني : لا يثبتان لأنهما لا يثبتان إلا بشاهدين فإن ادعى أنها كانت ملكه فأعتقها لم يثبت ذلك بشاهد وامرأتين لأن البينة شهدت بملك قديم فلم يثبت والحرية لا تثبت برجلين وامرأتين ويحتمل أن تثبت كالتي قبلها
فصل
القسم الخامس : ما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والرضاع والعيوب تحت الثياب والحيض والعدة فيقبل فيه شهادة امرأة عدلة لحديث عقبة بن الحارث ولأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات فأشبه الرواية وعنه : لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين لأن الرجال أكمل منهن ولا يقبل منهم إلا اثنان فالنساء أولى وتقبل شهادة النساء في الاستهلال لأنه يكون عند الولادة ولا يحضرها الرجال وتقبل شهادة المرضعة على الرضاع لحديث عقبة وإن شهد الرجل الواحد بما تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة فقال أبو الخطاب : يكتفى به لأنه أكمل منها ولأن ما يقبل فيه قول المرأة يقبل فيه قول الرجل كالرواية
فصل
القسم السادس : ما لا يعرفه إلا أهل الطب كالموضحة وشبهها وداء الدواب الذي لا يعرفه إلا البيطار فإذا لم يقدر على اثنين قبل فيه قول الواحد العدل من أهل المعرفة لأن مما يعسر عليه إشهاد اثنين فيقبل فيه قول الواحد كالمسألة قبلها وإن أمكن إشهاد اثنين لم يكتف بدونهما لأنه الأصل

باب تحمل الشهادة وأدائها
لا يجوز تحملها وأداؤها إلا عن علم لقول الله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقوله سبحانه : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } فإن كانت الشهادة على فعل كالخيانة والغصب لم تجز إلا عن مشاهدة لأنه لا يعمل إلا بها فإن أراد أن ينظر إلى فرجي الزانيين ليتحمل الشهادة عليهما جاز لأن [ سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال النبي صلى الله عليه و سلم : نعم ] ولأن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر عليهم نظرهم
فصل
وإن كانت الشهادة على قول كالبيع والنكاح والطلاق والرجعة والإقرار لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول ومعرفة القائل يقينا لأن العلم لا يحصل بدونهما وإن لم يحصل العلم إلا بمشاهدة القائل اعتبر ذلك لتوقف العلم عليه وإن حصل العلم بدونه لمعرفته صوت القائل كفى لأنه علم المشهود عليه فجازت الشهادة عليه كما لو رآه
فصل
وتجوز الشهادة بما علمه بالاستفاضة في تسعة أشياء : النسب والنكاح والملك المطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاية والعزل لأننا نشهد أن فاطمة رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وزوج علي رضي الله عنه وأن نافعا مولى ابن عمر وأنهم قد ماتوا ونعلم ذلك يقينا ولم نشاهده قال مالك : ليس عندنا أحد يشهد على أجناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا على السماع ولأن هذه الأمور يتعذBه في الغالب معرفة أسبابها ويحصل العلم فيها بالاستفاضة فجاز أن يشهد عليها بها كالنسب وظاهر كلام أحمد و الخرقي أنه لا يشهد بذلك حتى يسمعه من عدد كثير يحصل له به العلم لأنه الشهادة لا يجوز إلا على ما علمه وقال القاضي : يكفي أن يسمع من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما فإن الحق يثبت بقول اثنين فإن سمع رجلا يقر بنسب أب أو ابن وصدقة المقر به جاز أن يشهد به لأنها شهادة على إقرار وإن سكت شهد به أيضا لأن السكوت في النسب إقرار به بدليل أن من بشر بولد فسكت كان مقرا به ويحتمل أن لا يشهد به حتى يكرر لأن السكوت محتمل فاعتبر له التكرار ليزول الاحتمال وإن كذبه المقر به لم يشهد به
فصل
وإن سمع إنسانا يقر بحق جاز أن يشهد عليه وإن لم يقل له : اشهد علي لأنه سمع إقراره يقينا فجاز أن يشهد به كما يشهد على الفعل برؤيته وعنه : لا يشهد حتى يستدعيه المقر ذلك فيقول : اشهد علي قياسا على الشهادة وعنه : إن سمعه يقر بالدين شهد عليه لأنه معترف بثبوته وإن سمعه يقر بسببه كالقرض ونحوه لم يشهد به لأنه يجوز أن يكون قد وفاه وعنه : يجوز أن يشهد بما سمعه ولا يجب أداؤه حتى يقول له : اشهد علي فإذا قاله وجب عليه الأداء إذا دعي لقول الله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قال : إذا أشهدوا والأول المذهب لأنه يشهد بما سمعه يقينا فأشبه الشهادة بالاستفاضة وفارق الشهادة على الشهادة لأنها ضعيفة فاعتبر تقويتها بالاستدعاء
فصل
ومن رأى في يد إنسان شيئا مدة يسيرة لم يجز أن يشهد له بالملك لأن ملك غيره قد يكون في يده ويجوز أن يشهد له باليد لأنه شاهدها وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه تصرف الملاك من النقص والبناء والسكنى والاستغلال ونحوه جاز أن يشهد له بالملك في قول ابن حامد لأن اليد دليل الملك واستمرارها من غير منازع يقويها فجرت الاستفاضة ويحتمل أن لا يشهد له إلا باليد لأن اليد قد تكون من غصب وتوكيل وإجارة وعارية فلم تحصر في الملك فلم تجز الشهادة به مع الاحتمال
فصل
وتجوز شهادة الأعمى بالاستفاضة لأنه يحصل له العلم بها كالبصير وبالترجمة لأنه يترجم ما يسمعه عند الحاكم وفيما طريقه السماع إذا عرف القائل يقينا لأنه تجوز روايته بالسماع واستمتاعه بزوجته فجازت شهادته كالبصير ولا يجوز أن يشهد على ما طريقه الرؤية لأنه لا رؤية له فإن تحمل الشهادة عليها وهو بصير ثم عمي جاز أن يشهد إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه لأنه يشهد على ما يعلمه فإن لم يعرفه إلا بعينه لم يشهد عليه إلا أن يتيقن صوته فيجوز أن يشهد عليه لعلمه به قال القاضي : يجوز أن يشهد عليه إذا وصفه بما يتميز به ويحتمل ألا يشهد لأن هذا مما لا ينضبط غالبا
فصل
ولا تجوز الشهادة حتى يعرف المشهود عليه والمشهود له نص عليه أحمد وقال : لا يشهد على امرأة حتى ينظر إلى وجهها ويعرف كلامها فإن كانت ممن عرف اسمها ودعيت وذهبت وجاءت فليشهد وإلا فلا يشهد ولا يجوز أن يقول لرجل : أتشهد أن هذه فلانة ؟ ويشهد على شهادته قال القاضي : يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب لتجويز الشهادة بالاستفاضة قال : ولا يشهد على امرأة إلا بإذن زوجها ولا يشهد لرجل على رجل بحق وهو لا يعرف اسميهما إلا إذا كانا شاهدين فقال أشهد أن لهذا على هذا كذا فأما إذا كانا غائبين فلا
فصل
ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلم قال أحمد : لا يشهد على الوصية المختومة حتى يقرأها فإن حضر جماعة فقرأ الكتاب بعضهم وسمعه بعضهم جاز لجميعهم الشهادة به
فصل
ويعتبر في أداء الشهادة الإتيان بلفظها فيقول : أشهد بكذا فإن قال : أعلم وأتيقن أو أحق ونحوه لم يعتد به لأنها مشتقة من اللفظ وإذا شهد بأرض أو دار فلا بد من ذكر حدودها لأنها لا تعلم إلا بذلك وإن شهد بنكاح اشترط ذكر شروطه من الولي والشهود والإيجاب والقبول لأن الناس يختلفون فيها وإن شهد بالرضاع احتاج إلى وصفه وأنه ارتضع من ثديها أو من لبن حلب منه وذكر عدد الرضعات وأنه في الحولين ولو شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف الناس فيما يصير به ابنا
وإن رأى امرأة أخذت صبيا تحت ثيابها فأرضعته لم يجز أن يشهد برضاعه لأنه يجوز أن يتخذ شيئا على هيئة الثدي يمتصه غير الثدي وإن شهد بالجناية ذكر صفتها فيقول : ضربه بالسيف فقتله أو أماته أو فمات منه أو ضربه فأوضحه وإن قال : ضربه بالسيف فمات أو فاتضح أو فوجدته ميتا أو موضحا لم تصح شهادته لأنه قد يموت أو يتضح من غير ضربة وإن قال : ضربه فسال دمه لم تثبت البازلة كذلك وإن قال فأسال دمه ثبتت وإن قال : ضربه فأوضحه فوجدت في رأسه موضحتين وجب دية موضحة لأنه قد أثبتها ولم يجب قصاص لأننا لا ندري أتيهما التي شهد بها
فصل
ومن شهد بالزنا فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها لئلا يراه على بهيمة أو جارية ابنه فيعتقده زنا ويحتمل أن لا يقتصر إلى ذكر المزني بها لأنه لا يفتقر إليه في الإقرار ويفتقر إلى ذكر صفة الزنا وأنه رأى ذكره في فرجها لأن زيادا شهد على المغيرة فلم يذكر ذلك فلم يقم الحد عليه فإن لم يذكر الشهود ذلك سألهم الحاكم عنه وهل يفتقر إلى ذكر الزمان والمكان ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يفتقر إلى ذكرهما لأن الأزمنة في الزنا واحد فلا تختلف
والثاني : يفتقر إلى ذكره لتكون شهادتهم على فعل واحد لئلا يكون ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر ولأن الناس اختلفوا في الشهادة بالحد مع تقادم الزمان فقال ابن أبي موسى : لا تقبل لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : من شهد رجل بحد فلم يشهد عليه حين يصيبه فإنما يشهد على ضغن وقال غيره من أصحابنا : تقبل لأنها شهادة بحق فجازت مع تقادم الزمان كالقصاص ولأنه قد يعرض ما يمنعه الشهادة في حينها ويتمكن منها بعد ذلك ومن شهد على سرقة ذكر السارق والمسروق منه الحرز والنصاب لأن الحكم يختلف باختلافها
ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتدا فلم يجز الحكم به قبل البيان كما لا يجوز الحكم بجرح الشاهد قبل بيان الجرح
فصل
ويجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالوقوف عن الشهادة في حدود الله تعالى لأن عمر رضي الله عنه عرض لزياد في شهادته على المغيرة فقال : إني لأرجو أن لا يفضح الله على يدك أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وقال أبو الخطاب : في ذلك وجهان
فصل
وكل حق الله تعالى كالحدود والحقوق المالية وما كان حقا لآدمي غير معين كالوقوف على الفقراء والمساجد والمقبرة المسبلة فلا يفتقر أداء الشهادة فيه إلى تقدم دعوى لأنه لا يستحقها آدمي معين فيدعيها وكذلك شهد أبو بكرة وأصحابه من غير دعوى وما عدا ذلك فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد تقدم الدعوى لأن الشهادة فيه حق لآدمي فلا يستوفى إلى بمطالبة وإذنه
فصل
ومن كان له على غيره حق فقضى بعضه وأشهد البينة بقضائه ثم جحد الباقي شهد الشهود للمدعي بالدين وعليه بما اقتضى وإن قال : أشهد أن عليه أن عليه ألفا ثم قال : قضاه منه بعضه أفسد شهادته لأن ما قضاه لم يبق عليه وإن لم يقبض منه شيئا فقال المدعي للشاهد : اشهد لي ببعض الدين فعنه : أنه لا يشهد إلا كما تحمل لقول الله تعالى : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } وقال أبو الخطاب : عندي يجوز ذلك لأن من شهد بألف فهو شاهد بخمسمائة وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد أو نقص قبلت ما لم يحكم بشهادته وإن ادعت عنده شهادة فأنكر ثم شهد بها وقال : كنت أنسيتها قبلت لأن ما قاله محتمل فلا محتمل فلا يجوز تكذيبه مع إمكان تصديقه

باب الشهادة على الشهادة
تجوز الشهادة على الشهادة فيما يثبت بشاهد وامرأتين لأنه مبني على المساهلة فجازت فيه الشهادة كالأموال ولا يقبل في حد الله تعالى لأن مبناه على الدرء بالشبهات وهذه لا تخلو من شبهة ولهذا اشترطنا لها عدم شهود الأصل وظاهر كلام أحمد : أنها لا تقبل في قصاص ولا حد قذف لأنه عقوبة فأشبه سائر الحدود ونص على قبولها في الطلاق لأنه لا يدرأ بالشبهات فيخرج من هذا وجوب قبولها في كل ما عدا الحدود والقصاص كذلك وقال ابن حامد : لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما : لا تقبل ني غير المال وما قصد به المال لأنه لا يثبت إلا
بشاهدين فأشبه الحد وما ثبت بالشهادة على الشهادة ثبت بكتاب القاضي إلى القاضي وملا فلا لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة
فصل
ولها أربعة شروط :
أحدهما : تعذر شهود الأصل لموت أو مرض أو غيبة أو خوف أو غيره لأن شهادة الأصل أقوى لأنها تثبت بنفس الحق وهذه لا تثبته ولأن سماع القاضي منهما متيقن ومدق شاهدي الفرع عليهما مظنون فلم تقبل : الأدنى مع القدرة على الأقوى وفي قدر الغيبة وجهان :
أحدهما : مسافة القصر لأن من دونها في حكم الحاضر ذكره أبو الخطاب
والثاني : أن يكون بمكان لا يمكنه الرجوع إلى منزله من يومه لأن في تكليفه الحضور مع ذلك ضررا وقد نفاه الله تعالى بقوله : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } وما دون ذلك لا مشقة فيه فوجب حضورهما منه
والشرط الثاني : أن يتحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد من شهود الأصل والفرع لأن الحكم ينبني على الشهادتين معا فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل فشهدوا على شهادتهم وعدالتهم كفى ذلك لأن شهادتهما بالحق مقبولة فكذلك في العدالة وإن لم يشهدوا بعدالتهم تولى الحاكم ذلك
الشرط الثالث : أن يعين شهود الفرع شهود الأصل بأسمائهم وأنسابهم ولو قالوا : نشهد على شهادة عدلين لم تقبل لأنهما ربما كانا عدلين عندهما غير عدلين عند الحاكم ولأنه يتعذر على الخصم جرحهما إذا لم يعرف عينهما
الشرط الرابع : أن يسترعيه شاهد الأصل الشهادة فيقول : اشهد على شهادتي آني أشهد لفلان على فلان بكذا أو أقر عندي بكذا نص عليه ولو سمع رجلا يقول : أشهد أن لفلان على فلان كذا لم يجز أن يشهد به لأنه يحتمل أنه أراد أن له ذلك عليه من وعد فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال بخلاف ما إذا استرعاه لأنه لا يسترعيه إلا على واجب وان سمعه يسترعي غيره جاز أن يشهد به كذلك ويحتمل ألا يجوز لأن في الشهادة على الشهادة معنى النيابة فلا ينوب عنه إلا بأذنه وإن سمعه يشهد عند الحاكم أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سببه كقوله : أشهد أن لفلان على فلان ألفا من ثمن مبيع ففيه روايتان :
إحداهما : لا يشهد به لما ذكرنا
والثانية : يجوز أن يشهد به لأنه لا يحتمل مع ذلك إلا الوجوب فيزول به الاحتمال ويرتفع به الإشكال فجاز أن يشهد به كما لو استرعاه
فصل
ويعتبر دوام هذه الشروط إلى حين الحكم فلو شهد الفروع عند الحاكم فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل أو صحوا من المرض وقف الحكم على سماع شهادتهم لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فأشبه المتيمم يقدر على الماء وإن فسق شهود الأصل أو رجعوا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم بها لأن الحكم ينبني عليها فأشبه ما لو فسق شهود الفرع أو رجعوا
فصل
واختلفت الرواية في شرط خامس : هو اعتبار الذكورية في شهود الفرع فعنه : لا يشترط لأن الفرض إثبات المال فجاز أن يثبت بشهادة النساء مع الرجال كشهادة الأصل والثانية يشترط لأنه شهادتهم على شهادة الشاهدين وليس ذلك بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال أشبه النكاح وأما شهود الأصل فلا تعتبر فيهم الذكورية لأنها شهادة بمال وعنه : أنها تعتبر لأن في الشهادة على الشهادة ضعفا فاعتبر تقويتها باعتبار الذكورية فيها
فصل
ويجوز أن يشهد على كل واحد من شهود الأصل شاهد فرع فيشهد شاهدا فرع على شاهدي أصل لأن شهود الفرع بدل من شهود الأصل فاكتفي بمثل عددهم وذكر ابن بطة أنه يشترط أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل شاهدا فرع لأن شاهدي الفرع يثبتان شهادة شاهدي الأصل فلا يثبت كل واحد منهما إلا باثنين كما لو كانت الشهادة على إقراره لكن إن شهد شاهدا الفرع على كل واحل شاهدي الأصل جاز لأنه إثبات قول اثنين فجاز بشاهدين كالشهادة على إقرار نفسين
فصل
ويؤدي الشهادة على الصفة التي تحملها فيقول : أشهد أن فلانا يشهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته وإن سمعه يشهد عند الحاكم أو يعزي الحق إلى سبب ذكره

باب اختلاف الشهود
إذا ادعى ألفين على رجل فشهد له شاهد بهما وشهد له آخر بألف ثبت له الألف بشهادتهما لاتفاقهما ويحلف مع شاهده على الألف الآخر لأن له بها شاهدا وسواء شهدت البينة بإقرار الخصم أو ثبوت الحق عليه وسواء ادعى ألفا أو أقل منه لأنه يجوز أن يكون له حق فيدعي بعضه ويجوز أن لا يعلم أن له من يشهد له بجميعه والله أعلم
فصل
و إن شهد اثنان أنه زنى بها في بيت وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر أو شهد اثنان أنه زنى بها غدوة وشهد اثنان أنه زنى بها عشيا فهم قذفة وعليهم الحد وقال أبو بكر : تكمل شهادتهم ويحد المشهود عليه وحكاه عن أحمد لأنه قد شهد عليه أربعة بالزنا فيدخل في عموم قوله سبحانه : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت } والأول المذهب لأنه لم يشهد الأربعة على فعل واحد فأشبه ما لو شهد اثنان على رجل أنه زنا بامرأة وشهد اثنان أنه زنا بامرأة
أخرى فيلزم الشهود الحد دون المشهود عليه و إن شهد اثنان أنه زنا بها في هذه الزاوية واثنان أنه زنا بها في الزاوية الأخرى وهما متباعدتان فكذلك لأنهما فعلان و إن كانتا متقاربتين كملت الشهادة لأنه أمكن صدقهم بأن تكون كل بينة نسبية إلى إحدى الروايتين لقربه منهما و إن شهد اثنان أنه زنا بها مطاوعة واثنان أنه زنا بها مكرهة فلا حد على المرأة ولا على الرجل لأن الشهادة لم تكمل على واحد من الفعلين فإن زنا المكرهة غير الزنا من المطاوعة فأشبهت التي قبلها هذا قول أبي بكر و القاضي واختار أبو الخطاب : أن الحد يجب على الرجل دون المرأة لاتفاق الأربعة على الشهادة بزناه ولا حد على الشهود في قوله لكمالها وعلى قول أبي بكر : فيهم وجهان :
أحدهما : عليهم الحد لأن البينة لم تكمل على فعل واحد أشبه ما لو اختلفوا في البيت
والآخر أن الحد على شهود المطاوعة لأنهم قذفوا المرأة ولم تكمل البينة عليها
فصل
و إن شهد أحدهما أنه قتله عمدا وشهد الآخر أنه قتل خطأ ثبت القتل لاتفاقهما عليه ولم يثبت العمد والقول قول المشهود عليه مع يمينه في أنه خطأ ولا تحمله العاقلة لأنه لم يثبت ببينة و إن شهد أحدهما أنه قتله غدوة وشهد الآخر أنه قتله عشيا أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لم يثبت القتل اختاره القاضي لأنهما لم يشهدا بفعل واحد وعند أبي بكر : يثبت كالتي قبلها فإن شهد شاهد أنه قذفه غدوة وشهد آخر أنه قذفه عشيا أو اختلفا في المكان أو شهد أحدهما أنه قذفه بالعربية وشهد الآخر أنه قذفه بالعجمية لم تكمل شهادتهما لأن البينة لم تكمل على قذف واحد وكذلك إن كانت الشهادة بالنكاح أو بفعل كالقتل والسرقة والغصب فاختلفا في المكان أو الزمان لم تكمل البينة كذلك إلا على قول أبي بكر فإنها تكمل ويثبت المشهود به والمذهب : الأول و إن شهد أحدهما أنه أقر بقذفه أو بقتله يوم الجمعة وشهد الآخر : أنه أقر بذلك يوم الخميس أو اختلفا في المكان أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية وشهد الآخر أنه أقر بالعجمية ثبت المشهود به لأنه المشهود به واحد و إن اختلفت العبارة و إن كانت الشهادة بعقد غير
النكاح كالبيع والطلاق والرجعة فقال أصحابنا : تكمل الشهادة لأن المشهود به قول فأشبه الإقرار ويحتمل أن لا تكمل الشهادة لأن كل بيع أو طلاق لم يشهد به إلا واحد فلم تكمل البينة كالنكاح و إن شهد أحدهما أنه غصبه هذا وشها الآخر أنه أقر بغصبه كملت الشهادة نص عليه أحمد في القتل لأنه يجوز أن يكون الإقرار بالغصب الذي شهد به الآخر فتكمل البينة على شيء واحد وقال القاضي : لا تكمل لأن ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر
فصل
و إن شهد أحدهما أنه سرق ثوبا غدوة وشهد الآخر أنه سرقه بعينه عشيا لم يجب الحد لأن البينة لم تكمل على سرقة واحدة وله أن يحلف مع أحدهما ويغرم المشهود عليه لأن الغرم يثبت بشاهد ويمين فإن كان مكان كل شاهد شاهدان تعارضت البينتان ذكره القاضي لأن كل شاهدين بينة والتعارض إنما يكون في البينة بخلاف التي قبلها فإن كل شاهد ليس بينة فلا يتعارضان ويحتمل أن لا يتعارضا هاهنا لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يسرقه غدوة ثم يعود إلى مالكه فيسرقه عشية ومع
إمكان الجمع لا تعارض فعلى هذا يجب على السارق الحد والغرم و إن لم تعين البينة الثوب فلا تعارض بينهما وجها واحدا ويجب للمسروق منه الثوبان وعلى السارق القطع و إن شهد أحدهما أنه سرق ثوبا قيمته ثمن دينار وشهد الآخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار لم تكمل بينة الحد لاختلافهما في النصاب ووجب للمشهود له ثمن دينار لاتفاقهما عليه وحلف مع الآخر على الثمن الآخر إن أحب لأن الغرم يثبت بشاهد واحد ويمين و إن كان مكان كل شاهد شاهدان تعارضت البينتان ولا حد ووجب ما اتفقوا عليه وسقط الزائد لتعارض البينتين فيه
فصل
وإذا شهد عدلان على ميت ( أحدهما شهد ) أنه أعتق سالما في مرضه : وهو ثلث ماله وشهد الآخر أنه أعتق غانما وهو ثلث ماله عتق السابق منهما فإن جهل السابق منهما أقرع بينهما فأعتق من تخرج له القرعة كما لو أعتقهما بكلمة واحدة و إن شهدت إحداهما أنه وصى بعتق سالم وشهدت الأخرى أنه وصى بعتق غانم أقرع بينهما فأعتق أحدهما بالقرعة سواء تقدمت وصيته أو تأخرت لأن الوصية يستوي فيها المقدم والمؤخر وقال أبو بكر و ابن أبي موسى : يعتق من كل واحد منهما نصفه لأنهما سواء في الوصية فيجب أن يتساويا في الحرية والأول قياس المذهب بدليل ما لو أعتقهما بكلمة واحدة و إن كانت إحدى البينتين وارثة عادلة ولم تطعن في شهادة الأجنبية فالحكم كذلك و إن كذبت الأجنبية وقالت : ما أعتق إلا سالما وحده عتق سالم كله لإقرار الورثة بحريته ولم يقبل تكذيبهم لأنه نفي فيكون حكم غانم على ما تقدم في أنه يعتق إذا تقدم تاريخ عتقه ويرقى إذا تأخر ويقرع بينهما إذا استويا أو جهل الحال و إن كانت الوارثة غير عادلة عتق غانم كله ولم يزاحمه من شهدت به الوارثة لأن شهادة الفاسق كعدمها ثم إن طعنت في شهادة الأجنبية عتق سالم كله لإقرارها بحريته و إن لم تطعن فيها فذكر القاضي : أنه يعتق من سالم نصفه لأنه ثبت عتقه بإقرارهم وعتق غانم بالبينة فصار كأنه أعتق العبدين معا إلا في أنه لا ينتقض عتق غانم لشهادة الوارثة لفسقها
فصل
فإن شهد اثنان على اثنين بقتل رجل فشهد الآخران أن الأولين قتلاه فصدق الولي الأولين حكم بشهادتهما لأنهما غير متهمين و إن صدق الآخرين وحدهما لم يحكم له بشيء لأنهما متهمان لكونهما يدفعان عن أنفسهما القتل و إن صدق الجميع فكذلك لأنهما متعارضتان فلا يمكن الجمع بينهما
فصل
و إن ادعى على رجل أنه قتل وليه عمدا وأقام شاهدا فأقر بقتله خطأ ثبت قتل الخطأ بإقراره وعليه الدية ولم يثبت العمد لأنه لا يثبت إلا بشاهدين وهل يحلف على نفيه ؟ على وجهين و إن قتل رجل رجلا عمدا وله وارثان فشهد أحدهما على الآخر أنه عفا عن القود والمال سقط القود و إن كان الشاهد فاسقا لأنه شهادته تضمنت الإقرار بسقوطه ويثبت نصيب الشاهد من الدية لأنه ما عفا وأما نصيب المشهود عليه فإن كان الشاهد فاسقا حلف : ما عفوت واستحق نصيبه من الدية وإن كان عدلا حلف القاتل معه وسقط نصف الدية لأن ما طريقه المال يثبت بشاهد ويمين وفي كيفية اليمين وجهان :
أحدهما : أنه قد عفا عن المال لأن القود سقط بغير يمين
والثاني : يحلف أنه قد عفا عن القود والمال لأنه قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها إذا قلنا : موجب العمد القصاص عينا
فصل
وإذا ادعى على رجلين أنهما رهناه عبدا لهما بدين له عليهما فأنكره وشهد كل واحد منهما على صاحبه فشهادتهما صحيحة وله أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير رهنا أو مع أحدهما ويصير نصفه رهنا لأن إنكاره لا يقدح في شهادته كما لو كانت الدعوى في عين أخرى ويحتمل أن لا تقبل شهادتهما لأنه يدعي أن كل واحد منهما كاذب

باب الرجوع عن الشهادة
إذا رجع الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها لأنها شرط الحكم فيشترط استدامتها إلى انقضائه كعدالتهما فإن رجعا بعد الحكم بها في حد أو قصاص قبل الاستيفاء لم يجز استيفاؤه لأنه يدرأ بالشبهات وهذا من أعظمها و إن كان المشهود به غير ذلك وجب استيفاؤه لأن حق المشهود له قد وجب وحكم به فلم يسقط بقولهما المشكوك فيه و إن رجعا بعد الاستيفاء في حد أو قصاص وقالا : عمدنا ذلك ليقتل فعليهما القصاص لما ذكرنا في الجنايات و إن قالا : عمدنا الشهادة ولم نعلم أنه يقتل فعليهما دية مغلظة لأنه شبه عمد و إن قالا : أخطأنا فعليهما الدية مخففة ولا تحملها العاقلة لأنها وجبت باعترافهما و إن اتفقا على أن أحدهما عامد والآخر مخطىء فلا قصاص عليهما وعلى العامد نصف دية مغلظة وعلى الآخر نصفها مخففة و إن قال أحدهما : عمدنا جميعا وقال الآخر : أخطأنا جميعا فعلى العامد القود لإقراره بما يوجبه و على المخطىء نصف الدية مخففا و إن قال كل واحد منهما : عمدت و أخطأ صاحبي ففيه وجهان :
أحدهما : لا قود عليهما لأنه لا يؤاخذ كل واحد منهما إلا بإقراره ولم يقر بما يوجب القصاص لأنه أقر بعمد فيه شركة خطأ
والثاني : عليهما القود لأن كل واحد منهما مقر بالعمد و إن قال أحدهما : عمدنا معا وقال الآخر : عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القود وفي الثاني وجهان و إن قال : كل واحد منهما عمدت ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القود لأننا تبينا وقوعهما عمدا و إن رجع أحدهما وحده ء فحكمه حكم ما لو رجع صاحبه معه
فصل
إذا شهد خمسة بالزنا على رجل فقتل ثم رجعوا وقالوا : عمدنا قتلوا كلهم و إن قالوا : أخطأنا غرموا الدية أخماسا لأن القتل حصل بقول جميعهم و إن رجع واحد منهم وقال : عمدنا اقتص منه ران قال : أخطأنا فعليه خمس الدية لأنه يقر بما لو وافقه أصحابه عليه لزمهم القود أو قسطه من الدية فلزمه ذلك و إن لم يوافقوه كما لو كانوا أربعة و إن رجع اثنان فعليهما خمسا الدية و إن كانوا ثلاثة فعليهم ثلاثة أخماس الدية لأن الإتلاف حصل بشهادتهم فأشبه ما لو رجعوا كلهم و إن شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فقتل ثم رجعوا عن الشهادة فالضمان على الجميع لأن القتل حصل بقولهم فأشبه ما لو شهد الجميع بالزنا وفي كيفية الضمان وجهان :
أحدهما : توزع الدية على عددهم لأن القتل حصل بجميعهم أشبه ما لو اتفقت شهادتهم
والثاني : على شهود الإحصان النصف وعلى شهود الزنا النصف لأنه قتل بنوعين من البينة فقسمت الدية عليهما و إن شهد أربعة بالزنا واثنان منهم بالإحصان فعلى الوجه الأول على شهود الإحصان ثلثا الدية وعلى الآخر ثلاثة أرباعها ويحتمل أن لا يجب عليهما إلا النصف لأنهم كأربعة أنفس جنى اثنان جنايتين وجنى الآخران أربع جنايات
فصل
و إن شهدا بمال ثم رجعا بعد الحكم به غرماه ولا يرجع على المحكوم له به سواء كان المال تالفا أو قائما لأنهما حالا بينه وبين ماله بعدوان فلزمهما الضمان كما لو غصباه فإن رجع أحدهما غرم النصف و إن كانوا ثلاثة فالضمان بينهم على عددهم و إن رجع أحدهم فعليه بقسطه لما ذكرنا و إن شهد رجل وامرأتان ثم رجعوا فعلى الرجل النصف وعلى كل واحدة منهما الربع لأنهما كرجل و إن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا فعلى الرجل السدس وعليهن خمسة أسداس و إن رجع
بعضهم فعلى الراجع بقسطه لما ذكرناه و إن حكم له بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد فعليه غرامة المال كله في أحد الوجهين لأن الحكم بشهادته وإنما اليمين مقوية له
والثاني : يلزمه نصف المال لأن الملك استند إلى شهادته ويمين المدعي فتوزع الحق عليهما كالشاهد والمرأتين
فصل
و إن شهد اثنان بحرية عبد فحكم بشهادتهما ثم رجعا غرما للسيد قيمته لما ذكرنا و إن شهدا بطلاق قبل الدخول فحكم به ثم رجعا فعليهما نصف الصداق المسمى لأنهما أغرماه للزوج فلزمهما ذلك كما لو شهدا بالنصف و إن كان ذلك بعد الدخول فلا ضمان عليهما لأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم فلم يضمناه كما لو أخرجته عن ملكه بالردة أو بالقتل و إن شهدا بكتابة عبده فحكم بها ثم رجعا فعليهما ما بين قيمته سليما ومكاتبا فإن أدى وعتق فعليهما ما بين قيمته
وكتابته لأنهما فوتاه ذلك ويحتمل أن يرجع عليهما بجميع قيمته لأن ما أداه كان من كسبه الذي يملكه و إن لم يعتق لم يرجع عليهما بشيء و إن شهدا لأمة بالاستيلاد فرجعا فعليهما ما نقص من قيمتها فإن عتقت بموت سيدها ضمنا تمام قيمتها لأنهما فوتا رقها على الورثة
فصل
وإذا حكم بشهادة الفروع ثم رجعوا عن الشهادة ضمنوا ولو رجع شهود الأصل لم يضمنوا ذكره القاضي لأنه لم يلجئوا الحاكم إلى الحكم ويحتمل أن يضمنوا لأنهم سبب في الحكم فيضمنوا كالمزكيين وشهود الإحصان
فصل
وإذا شهد الشهود بحد فزكاهم اثنان فبان أنهم ممن لا تقبل شهادتهم لفسق أو كفر فالضمان على المزكيين لأنهم شهدوا بشهادة زور أفضت إلى الحكم فلزمهم الضمان كالشهود إذا رجعوا عن الشهادة ولا شيء على الشهود لأنهم يقولون : شهدنا بحق ولا على الحاكم لأن المزكيين ألجآه إلى الحكم وقال القاضي : الضمان عليه لأنه فرط في الحكم بمن لا يجوز الحكم بشهادته ولا شيء على المزكيين لأنهما لم يشهدا بالحق وقال أبو الخطاب : الضمان على الشهود لأنهم فوتوا الحق على مستحقه بشهادتهم الباطلة فلزمهم الضمان كما لو رجعوا عن الشهادة والأول أصح لأن الحاكم أتى بما عليه والشهود لم يعترفوا ببطلان شهادتهم وإنما التفريط من المزكيين فكان الضمان عليهما فإن تبين أن المزكيين فاسقان أو كافران فالضمان على الحاكم لتفريطه وكذلك إن حكم بشهادة فاسقين أو كافرين من غير تزكية فالضمان عليه كذلك و إن كانت الشهادة بمال نقض الحكم وأمر برد المال إن كان قائما أو قيمته إن كان تالفا لأنهما ليسا من أهل الشهادة فوجب نقض الحكم كما لو كانا صبيين وعنه : أنه لا ينقض الحكم إذا كانا فاسقين ويغرم الشاهدان المال لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها الزور في شبه ما لو رجعا والأول أولى لأنهما لم يعترفا ببطلان شهادتهما لكن تبين فقد شرط الحكم فوجب أن يقضى بنقضه كما لو تبين أن حكمه بالقياس مخالف للنص
فصل
ومن حكم له بمال أو بضع أو غيرهما بشهادة زور أو يمين فاجرة لم يحل حكم به لما روت به أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بما أسمع وأظنه صادقا فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو يدعها ] متفق عليه ولأنه يقطع بتحريم ما حكم له به قبل الحكم فلا يحل له بالحكم كما لو حكم له بما يخالف النص أو الإجماع وحكي عن أحمد رواية أخرى : أن حكم الحاكم ينفذ في الفسوخ والعقود لأنه حكم باجتهاده فنفذ حكمه كما لو حكم في المجتهدات

كتاب الإقرار
والحكم به واجب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ]
ورجم النبي صلى الله عليه و سلم ماعزا والغامدية والجهنية بإقرارهم ولأنه إذا وجب الحكم بالبينة فلأن يجب بالإقرار مع بعده من الريبة أولى فإن كان المقر به حقا لآدمي أو لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة والكفارة ودعت الحاجة إلى الإقرار به لزمه ذلك لقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } وقوله : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } والإملال : الإقرار وإن كان حدا لله لم يلزمه الإقرار به لأنه مندوب إلى الستر على نفسه
فصل
ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار فأما الطفل والمجنون والنائم والمبرسم فلا يصح إقرارهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاثة ] ولأنه التزام حق بالقول فلم يصح منهم كالبيع فإن قال : أقررت قبل البلوغ فالقول قوله مع يمينه إذا كان اختلافهما بعد بلوغه في أحد الوجهين فأما السكران بسبب مباح فهو كالمجنون لأنه غير عاقل والسكران بمعصية حكم إقراره حكم طلاقه ولا يصح إقرار المكره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] رواه سعيد ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع
وإن ادعى أنه أقر مكرها لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل السلامة
وإذا ادعى أنه كان مقيدا أو محبوسا أو موكلا به فالقول قوله مع يمينه لأن هذه دلالة الإكراه وإن ادعى أنه كان زائل العقل لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل السلامة فإن أكره على الإقرار بشيء فأقر بغيره لزمه إقراره لأنه غير مكره على ما أقر به وكذلك إن أكره على الإقرار لإنسان فأقر لغيره ولا يصح إقرار الصبي المحجور عليه وإن كان عاقلا لأنه لا يصح بيعه وإن كان العاقل مأذونا له في التجارة جاز إقراره فيما أذن له فيه وقال أبو بكر : لا يصح إقراره إلا في الشيء اليسير والأول أصح لأنه يصح تصرفه فيه فصح إقراره به كالبالغ
فصل
ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص فيما دون النفس لأن الحق له دون مولاه ولأن إقرار مولاه عليه به لا يصح فلو لم يقبل إقراره به لتعطل وأما القصاص في النفس فظاهر قول الخرقي أنه يصح إقراره به وهو اختيار أبي الخطاب كذلك
وعن أحمد : أنه لا يصح إقراره به لأنه يسقط به حق سيده أشبه الإقرار بقتل الخطأ ولأنه متهم في أن يقر لمن يعفو على مال فتستحق رقبته ليتخلص من سيده ولا يقبل إقراره بجناية الخطأ ولا بعمد موجبه المال لأنه إيجاب حق في رقبة مملوكة لمولاه فلم يقبل كإقراره على عبد سواه ويقبل إقرار المولى عليه بذلك لأنه يقر بحق في ماله فأشبه ما لو أقر لرجل بملك العبد ولا يقبل إقراره عليه بحد ولا قصاص لأنه لا يملك منه إلا المال لكن إن أقر عليه بقصاص قبل إقراره فيما يتعلق بالمال فيملك المقر له مطالبته بالمال لأنه أر بما يضمن وجوب المال فلزمه كما لو أقر الموسر بعتق نصيبه من العبد المشترك وإن أقر العبد المشترك بسرقة موجبها المال لم يقبل ويقبل إقرار المولى عليه لذلك وإن كان موجبها القطع دون المال قبل إقرار العبد بها دون المولى وإن كان موجبها القطع والمال فأقر بها العبد وجب قطعه دون المال سواء كان في يده أو يد سيده باقيا أو تالفا لما تقدم وإن أقر العبد غير المأذون له بدين لم يقبل ويتعلق بذمته يتبع به بعد العتق وإن أقر المأذون له قبل إقراره في دين المعاملة في قدر ما أذن له فيه وإن أقر بقرض أو أرش جناية لم يقبل لأنه أقر بغير مأذون له فيه فلم يقبل كغير المأذون له
وإن حجر السيد عليه ثم أقر بدين لم يقبل لأنه محجور عليه بالرق فلم يصح إقراره كما لو كان عليه دين يحيط بتركته وإن أقر السيد أنه باع عبد نفسه فكذبه العبد عتق ولم يلزمه شيء سوى اليمين على الثمن لأن السيد أقر بحريته وادعى الثمن فإن ادعى أنه باعه أجنبيا فأعتقه فأنكره عتق العبد على سيده وحلف المنكر على الثمن
فأما المكاتب فحكمه حكم الحر في إقراره لأن تصرفه صحيح وحكم أم الولد والمدبر حكم القن لأن تصرفه بغير إذن سيده لا يصح
فصل
وإقرار المريض بدين الأجنبي صحيح لأنه غير متهم في حقه وعنه : لا يقبل في مرض موته لأن حق الورثة تعلق بماله فلم يقبل إقراره به كالمفلس وعنه : يقبل إقراره بثلث المال دون ما زاد لأنه يملك التصرف فيه بالوصية فملك الإقرار به والأول : ظاهر المذهب لما ذكرنا فإن ثبت عليه دين في الصحة ثم أقر بدين في مرض موته واتسع ماله لهما تساويا وإن ضاق عنهما فظاهر كلام الخرقي و التميمي أنهما يتحاصان فيه لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال فتساويا كدين الصحة وقال القاضي : قياس المذهب أنه يقدم الدين الثابت على الدين الذي أقر به في المرض لأنه أقر بعد تعلق حق الأجنبي بماله فلم يشارك المقر له من ثبت حقه قبل التعلق كما لو أقر بعد الفلس وإن أقر لهما جميعا في المرض تساويا ولم يقدم السابق منهما لأنهما تساويا في الحال فأشبه غريمي الصحة وإن أقر المريض لوارث لم يقبل إلا ببينة لأنه إيصال للمال إلى الوارث بقوله قلم يصح كالوصية إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دون فيصح لأن سببه ثابت وهو النكاح وإن أقر لوارثه فلم يمت حتى صار غير وارث لم يصح وإن أقر لغير وارث فصار وارثا قبل الموت صح إقراره له نص عليهما أحمد رحمه الله لأنه إقرار لوارث في الأولى ولغير وارث في الثانية متهم في الأولى غير متهم في الثانية فأشبه الشهادة وذكر أبو الخطاب في المسألتين رواية أخرى خلاف ما قلنا لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث فاعتبر بحالة الموت كالوصية فإن أقر المريض بوارث ففيه روايتان :
إحداهما : يصح لأنه عند الإقرار غير وارث
والثانية : لا يصح لأنه حين الموت وارث ويمكن أن تكون هذه مبنية على المسألتين قبلها وإن ملك ابن عمه وأقر أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته عتق ولم يرثه لأنه توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته لكونه إقرارا لوارثه وإذا بطلت حريته سقط ميراثه فيفضي توريثه إلى إسقاط ميراثه ويحتمل أن يرث لأنه حين الإقرار غير وارث فأشبه الإقرار بوارث
فصل
ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص أو تعزير القذف صح الإقرار به وإن كذبه المولى لأن الحق له دون المولى وإن أقر له بمال فالإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده لأن يد العبد كيد سيده وإن أقر لحمل بمال وعزاه إلى إرث أو وصية صح لأنه يملك أهلية الملك وإن أقر لحمل بمال وعزاه إلى إرث أو وصية صح لأنه يملك بهما وإن لم يعزه فقال ابن حامد : يصح أيضا لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح فصح له الإقرار المطلق كالطفل وقال أبو الحسن التميمي : لا يصح لأنه لا يثبت له الملك بغيرهما فعلى قول ابن حامد : إن ولدت ذكرا وأنثى كان بينهما نصفين لأنه شرك بينهما في الإقرار فأشبه ما لو أقر لهما بعد الولادة وإن قال : لهذا الحمل علي ألف أقرضتها فقياس المذهب صحة إقراره لأنه وصله بما يسقطه فسقطت الصلة دون الإقرار كما لو قال : له علي ألف لا يلزمني وإن قال : أقرضني ألفا لم يصح لأن القرض إذا سقط لم يبق شيء يصح به الإقرار ومتى أقر لحمل بمال وعزاه إلى وصية فخرج الطفل ميتا عاد إلى ورثة الموصي وإن عزاه إلى إرث عاد إلى شركائه في الميراث وإن أطلق كلف ذكر السبب ليعمل به فإن مات قبل التفسير بطل الإقرار كالمقر لرجل لا يعرف مراد إقراره وإن أقر لمسجد أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح من غلة وقفه ونحوه صح وإن أطلق فيه وجهان بناء على ما تقدم
فصل
ومن أقر لرجل بمال في يده وكذبه المقر له بطل إقراره له لأنه لا يقبل قوله عليه في ثبوت ملكه ويقر المال في يد المقر في أحد الوجهين لأنه كان في يده فإذا بطل إقراره بقي كأنه لم يقر به وفي الآخر يأخذه الإمام فيحفظه حتى يظهر مالكه لأنه بإقراره خرج عن ملكه ولم يدخل ف ملك المقر له وكل واحد منهما ينكر ملكه فهو كالمال الضائع فإن ادعاه ثالث فأقر له المقر له صح لأنه صار بمنزلة صاحب اليد
فصل
إذا قال : لي عليك ألف فقال : نعم أو أجل أو صدقت أو إي لعمري كان مقرا بها لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق وإن قال : أعطني عبدي هذا أو اقضني الألف التي لي عليك فقال : نعم كان مقرا لأنه تصديق وإن قال : أنا مقر بدعواك كان مقرا لأنه صدقه وإن لم يقل : بدعواك ففيه وجهان :
أحدهما : يكون مقرا لأنه جواب الدعوى فانصرف إليها
والثاني : لا يكون مقرا لأنه يحتمل أنه أراد : إني مقر ببطلان دعواك وإن قال : أنا أقر لم يكن مقرا لأنه وعد بالإقرار وإن قال : أنا لا أنكر لم يكن مقرا لأنه يحتمل : لا أنكر بطلان دعواك وإن قال : لا أنكر أن تكون محقا لم يكن مقرا لأنه يحتمل أن يريد : محقا في اعتقادك ويحتمل أن يكون مقرا لأنه جواب الدعوى فانصرف إليها وإن قال : لا أنكر أنك محق في دعواك كان مقرا لأنه لا يحتمل إلا الدعوى التي عليه وإن قال : لعل أو عسى لم يكن مقرا لأنهما للترجي وإن قال : أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن مقرا لأن هذه وضعت للشك وإن قال : لك علي ألف في علمي كان مقرا بها لأن ما عليه في علمه لا يحتمل غير الوجوب وإن ادعى عليه ألفا وقال : خذ أو اتزن أو افتح كمك لم يكن مقرا لأنه يحتمل ضد الجواب أو اتزن من غيري أو افتح كمك للطمع وإن قال : خذها أو اتزنها فكذلك لأنه لم يقر أنه واجب ويحتمل أن يكون مقرا لأن هذه الكناية ترجع إلى المذكور في الدعوى وإن قال : هي صحاح ففيها وجهان كالتي قبلها وإن قال : له علي ألف إن شاء الله كان مقرا لأنه وصل إقراره بما يسقط جملة فسقطت الصلة وحدها كما لو قال : له علي ألف لا تلزمني وإن قال : له علي ألف إلا أن يشاء الله صح إقراره كذلك وإن قال : له علي ألف إن شاء زيد فقال القاضي : يكون إقراره صحيحا كذلك ولأن الحق الثابت في الحل لا يقف على شرط مستقبل فسقط الاستثناء ويحتمل أن لا يكون إقرارا لأنه علقه على شرط مقيد يمكن الوقوف عليه أشبه ما لو قال : له علي ألف إن شهد بها فلان وإن قال : له علي ألف إن شهد بها فلان أو إن شهد علي فلان بها فهو صادق ففيه وجهان :
أحدهما : يكون مقرا لأنه أقر بها عند الشرط ولا تكون عند الشرط إلا وهي عليه في الحال وإن قال : إن شهد بها فلان صدقته لم يكن مقرا لأنه قد يصدقه بما لم يصدق فيه وإن قال : له علي ألف إذا جاء رأس الشهر كان مقرا لأنه بدأ بالإقرار وبين بالثاني المحل وإن قال : إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فليس بإقرار لأنه بدأ بالشرط وأخبر أن الوجوب إنما يوجد عند رأس الشهر والإقرار لا يتعلق على شرط
فصل
إذا قال : له علي ألف قضيتها إياه لزمه الألف ولم تسمع دعوى القضاء لأنه أقر أن الألف عليه في الحال وقوله قضيتها يرفع ما أقر به كله فلم يقبل كاستثناء الكل ولأنه بدعوى القضاء يكذب نفسه في الإقرار فلم تسمع كما لو قال : له علي ألف ولا شيء له علي وقال القاضي : يقبل لأنه ما أقر به بكلام متصل أشبه استثناء البعض وإن قال : قضيته منها مائة ففيه روايتان :
إحداهما : يقبل لأنه رفع بعض ما أقر به بكلام متصل أشبه استثناء المائة
والثانية : لا يقبل لأنه يكذب نفسه لأنه لو قضاه مائة لم يكن له عليه ألف والاستثناء لا يرفع ما أقر به وإنما يمنع دخول ما استثناه في المستثنى منه وإن قال : كان له علي ألف فقضيتها ففيه روايتان :
إحداهما : لا تقبل دعوى القضاء لأنه أقر بالدين وادعى براءته منه فقبل إقراره ولا تسمع دعواه إلا ببينة كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل
والثانية : يقبل اختاره الخرقي لأنه قول يمكن صحته ولا تناقض فيه منجهة اللفظ فوجب قبوله كاستثناء البعض قال القاضي : المذهب أن هذا ليس بإقرار وإن قال : لي عليك ألف فقال : قضيتك منها مائة فقال القاضي : ليس هذا إقرارا بشيء لأن المائة قد رفعها بقوله والباقي لم يقر به وقوله : منها يحتمل أنه أراد مما يدعيه وإن قال : كان له علي ألف وسكت فهو مقر بها لأنه أقر بوجوبها عليه وثبوتها في ذمته والأصل بقاؤه حتى يوجد ما يرفعه

باب الاستثناء
الاستثناء يمنع أن يدخل في الإقرار ما لولاه لدخل ولا يرفع ما ثبت لأنه لو ثبت بالإقرار شيء لم يقدر المقر على رفعه فيصح استثناء ما دون النصف لأنه لغة العرب قال الله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما }
ولا يصح استثناء أكثر من النصف ليس من لسانهم قال أبو إسحاق الزجاج : لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ولو قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلما بالعربية وفي استثناء النصف وجهان :
أحدهما : يصح لأنه ليس بالأكثر
والثاني : لا يصح لأنه لم يأت في لسانهم إلا في القليل من الكثير فإذا قال : له علي عشرة إلا درهمين لزمته ثمانية وإن قال : إلا ثمانية لزمته العشرة وإن قال : إلا خمسة ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه خمسة
والآخر : يلزمه عشرة
فصل
ولا يصح الاستثناء من غير الجنس ولا من غير النوع فلو قال : له علي عشرة دراهم إلا ثوبا لزمته العشرة وإن قال : له علي قفيز تمر معقلي إلا مكوكا برنيا لزمه القفيز كله ولم يصح الامتثناء لأن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه ولأنه مشتق من : ثنيت فلانا عن رأيه إذا صرفته عما كان عازما عليه وثنيت عنان دابتي إذا رددتها عن وجهها الذي كانت ذاهبة إليه ولا يوجد هذا في غير الجنس والنوع ولأن الاستثناء من غير الجنس لا يكون إلا في الجحد بمعنى لكن والإقرار إثبات فإن استثنى أحد النقدين من الآخر لم يصح في إحدى الروايتين اختارها أبو بكر لما ذكرنا والأخرى : يصح اختارها الخرقي لأنهما كالجنس الواحد لاجتماعهما في أنهما قيم المتلفات وأروش الجنايات ويعبر بأحدهما عن الآخر وتعلم قيمته منه فأشبها النوع الواحد بخلاف غيرهما
فصل
وإن أقر بدار إلا بيتا منها عينه لم يدخل البيت في إقراره لأنه استثناه وإن قال : هذا البيت لي وهذه الدار له أو هذه الدار له وهذا البيت لي صح لأنه في معنى الاستثناء لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ بكلام متصل وإن قال : إلا ثلثها أو إلا ربعها صح وكان مقرا بالباقي فإن قال : له هذه الدار إلا نصفها صح وكان مقرا بالنصف لأن هذا بدل البعض وهو سائغ قال الله تعالى : { قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا } ويصح ذلك فما دون النصف كقوله : له هذه الدار إلا ربعها أو أقل كقولهم رأيت زيدا وجهه وإن قال : له هذه الدار سكناها أو قال : هي له سكنى أو عارية صح وهذا بدل الاشتمال كقوله سبحانه : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } فهو في معنى الاستثناء في كونه إخراجا للبعض ويفارقه في جواز إخراج أكثر من النصف
فصل
وإن قال : له هؤلاء العبيد إلا هذا كان مقرا بمن دون المستثنى وإن قال : إلا واحدا رجع في تعيين المستثنى إليه لأنه لا يعرف إلا من جهته وكذلك إن قال : غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحدا رجع في تفسير الواحد إليه فإن هلكوا إلا واحدا ففسر به المستثنى قبل في الغصب وجها واحدا لأنه يلزمه غرامة ما تلف وفي الإقرار وجهان :
أحدهما : يقبل أيضا لأنه يحتمل ما قاله
والثاني : لا يقبل ذكره أبو الخطاب لأنه يرفع جميع ما أقر به وإن قتلوا إلا واحدا قبل تفسيره به وجها واحدا لأنه لا يرفع جملة الإقرار لوجوب قيمة الباقين للمقر له
فصل
إذا استثنى بعد الاستثناء بحرف العطف كان كضافا إلى الاستثناء الأول فإذا قال : له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين كان مستثنيا لخمسة من العشرة وإن كان الثاني غير معطوف كان مستثنيا من الاستثناء فيكون استثناؤه من الإثبات نفيا ومن النفي إثباتا وهو جائز في اللغة قال الله تعالى : { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته }
فأذا قال : له علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهما كان مقرا بثمانية وإن قال : له علي عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهما لم يصح على قول من منع استثناء النصف ولزمته عشرة وعلى قول غيره يصح ويكون مقرا بسبعة ولو قال : عشرة إلا ستة إلا أربعة إلا درهمين فهو مقر بستة لأنه أثبت عشرة ثم نفى ستة ثم أثبت أربعة ثم نفى درهمين بقي ستة
فصل
وإن عطف جملة على جملة بالواو ثم استثنى ففيه وجهان :
أحدهما : يعود الاستثناء إليهما جميعا لأن العطف جعل الجملتين كالجملة الواحدة فعاد الاستثناء إليهما كقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ]
والثاني : لا يعود إلا إلى التي تليه لأن عوده إلى ما يليه متيقن وما زاد مشكوك فيه فلا يثبت بالشك كقوله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا }
فلو قال : علي أربعة وثلاثة إلا درهمين صح على الوجه الأول وبطل على الثاني لأنه استثناء الأكثر فإن وجدت قرينة صارفة إلى أحد الاحتمالين انصرف إليه وكذلك إن عطف على المستثنى مثل قوله : له علي عشرة إلا أربعة وثلاثة ففيه وجهان :
أحدهما : يصيران كجملة واحدة فيبطل الاستثناء كله لزيادته على النصف
والثاني : لا يصيران كجملة واحدة فيبطل الاستثناء الثاني وحده
فصل
وإذا قال : له عندي تمر في جراب أو سكين في قراب أو دراهم في كيس أو في صندوق وثوب في منديل : وزيت في زق وفص في خاتم فقال ابن حامد : يكون مقرا بالمظروف وحده لأن إقراره لم يتناول الظرف فيحتمل أنه أراد : في ظرف لي وفيه وجه آخر : أنه يكون مقرا بالجميع لأنه ذكره في سياق الإقرار فكان مقرا به كالمظروف وقال : له عندي جراب فيه تمر أو قراب فيه سكين وسائر ما مثلنا أو دابة عليه سرج أو عبد عليه عمامة فعلى الوجهين كما ذكرنا وإن قال : له عندي ثوب مطرز أو خاتم بفص أو سرج مفضض وأطلق لزمه الثوب بتطريزه والخاتم بفصه والسرج بفضته لأنه صفة له
فصل
وإذا قال : له علي ألف درهم زيوف أو ناقصة أو مكسرة أو إلى شهر بكلام متصل لزمه ما أقر به على صفته لأنه إنما يلزمه بقوله فأتبع قوله فيه إلا أن يفسر الزيوف بما لا قيمة له فلا يقبل لأنه أثبت في ذمته شيئا وما قيمة له لا يثبت في الذمة وذكر أبو الخطاب : احتمالا في أنه لا يقبل شيئا وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة وذكر أبو الخطاب : احتمالا في أنه لا يقبل قوله : مؤجلة لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق في الحال والمذهب : أنه يقبل لأنه يحتمل ما قاله فوجب اتباعه كما لو قال : ناقصة فأما إن سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم وصفها بشيء من هذه الصفات لم يقبل ولزمه ألف جياد وازنة صحاح حالة لأن إطلاقها يقتضي ذلك بدليل ما لو باعه : بألف درهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك : فإذا سكت استقرت في ذمته كذلك فلا يتمكن من تغييرها ولا فرق بين الإقرار بها من غصب أو وديعة أو قرض أو غيره و إن كان المقر في بلد أوزانهم ناقصة أو مغشوشة ففسر إقراره بدراهم البلد قبل لأن إطلاقه ينصرف إليها بدليل إيجابها في ثمن المبيع ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بها لأن إطلاق الدراهم تنصرف إلى دراهد الإسلام وهو : ما كان عشرة منه وزن سبعة مثاقيل وتكون فضة خالصة وهي : التي قدر بها الشرع نصب الزكوات والديات والجزية ونصاب القطع في السرقة ويخالف الإقرار البيع من حيث إنه أقر بحق سابق والبيع إيجاب في الحال وإن أقر بدراهم صغار فظاهر كلام الخرقي : أنه يقبل تفسيره بدراهم ناقصة لأن الصغر في الذات وصف لا يثبت في الذمة فلا ينصرف الإقرار إليه لأنه إخبار عما في الذمة ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بناقص لأنه يحتمل صغيرا في ذاته وهو وازن و إن أقر بدرهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لأنه كبير في العرف وإن قال : له علي دراهم عددا لزمته وازنة لأن الدراهم تقتضي أن تكون وازنة وذكر العدد لا ينفي كونها وازنة فوجب الجميع وإن فسر الدراهم بسكة البلد أو سكة تزيد عليها قبل لأنه غير متهم وإن كانت تنقص
عنها ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل لأن إطلاقه يحمل على دراهم البلد كما في البيع
والثاني : يقبل لأنه فسرها بدراهم الإسلام وإن قال : له علي دريهم لزمه درهم وازن لأنه هو المعروف والتصغير قد يكون لقلته عنده أو لمحبته أو غير ذلك وإن قال : له علي دراهم لزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن قال : دراهم كثيرة لم يلزمه أكثر من ثلاثة لأنها كثيرة بالإضافة إلى ما دونها ويحتمل أنها كثيرة عنده أو في نفسه وإن قال : له علي ما بين درهم إلى عشرة لزمه ثمانية لأنها الذي بينهما و إن قال : من درهم إلى عشرة ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه تسعة لأن الواحد أول العدد فيدخل فيه ولا يدخل العاشر لأنه غاية ينتهي إليها فلم يدخل
والثاني : يلزمه عشرة لأن العاشر أحد الطرفين فيدخل فيه كالأول ويحتمل أن يلزمه ثمانية كالتي قبلها
فصل
وإذا قال : له علي ألف لا يلزمني أو من ثمن خمر أو خنزير أو تكفلت به عن فلان على أني بالخيار لزمه ما أقر به وسقط ما وصله به لأنه يسقط ما أقر به فلم يقبل كاستثناء الكل وإن قال : هذا العبد لفلان رهن عندي على دين لي عليه فأنكر المقر له الدين لزمه العبد والقول قول المالك في نفي الدين مع يمينه لأن العين ثبتت له بالإقرار وادعى المقر دينا فكان القول قول من ينكره وكذلك لو أقر بدار وقال : قد استأجرتها أو بثوب وادعى أنه قصره أو خاطه بأجرة أو بعبد وادعى استحقاق خدمته أو أقر بسكنى دار غيره فادعى أنه سكنها بإذنه فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرناه وإن قال : له علي ألف من ثمن بيع لم أقبضه ففيه وجهان :
أحدهما : القول قول المالك كما ذكرنا
والثاني : القول قول المقر لأنه أقر بحق في مقابلة حق لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا لم يسلم له ماله لم يسلم ما عليه كما لو قال لرجل : بعتك هذا بألف وقال بل ملكتنيه بغير شيء وفارق ما لو قال : لك عندي رهن فقال المالك : بل وديعة لأن الدين بنفسك عن الرهن والثمن لا ينفك عن المبيع ولو قال : له علي ألف من ثمن مبيع ثم سكت ثم قال : لم أقبضه قبل كالمتصل لأن إقراره تعلق بالمبيع والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه ولو قال : له علي ألف ثم سكت ثم
قال : من ثمن مبيع لم أقبضه لم يقبل لأنه فسر إقراره بما يمنع وجوب التسليم بكلام منفصل كما لو قال : له علي ألف ثم سكت ثم قال قبضتها
فصل
وإذا قال : له عندي ألف ثم قال : هي وديعة قبل تفسيره سواء قال ذلك متصلا أو منفصلا لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل كما لو قال : له علي ألف وفسره بدين فعند ذلك تثبت أحكام الوديعة بحيث لو ادعى تلفها كان القول قوله ولو قال : له عندي ألف فطالبه به بعد مدة فقال : كانت وديعة فتلفت أو قال : رددتها عليك فالقول قوله نص عليه أحمد كما ذكرنا ولو قال : لك عندي وديعة وقد تلفت فقال القاضي : يقبل قوله كذلك ويتوجه أن لا يقبل ها هنا لأن الألف المردود والتالف ليس عنده ولا هي وديعة : وإن قال : كانت عندي فظننتها باقية ثم عرفت أنها هلكت فالحكم فيها كالتي قبلها ولو قال : له عندي ألف ثم فسره بدين عليه قبل لأنه يقر بما هو أغلظ وإن قال : له علي ألف ثم قال : وديعة وقال المقر له : بل هي دين فالقول قول المقر له لأن علي للإيجاب في الذمة والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ بدليل أنه لو أقر بدراهم أخذ بثلاثة فعند ذلك تثبت أحكام الدين فلا تسمع دعواه تلفها وإذ قال : لك علي ألف ثم أحضرها وقال : هذه التي أقررت بها وهي وديعة فقال المقر له : هذه وديعة والمقر به غيرها دين عليك فالقول قول المقر له لما ذكرناه هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي : القول قول المقر إلا أن يكون قال : علي ألف في ذمتي فيكون القول قول المقر له قال : وقد قيل : القول قول المقر لأنه يحتمل أنه أراد : في ذمتي أداؤها أو يكون وديعة تعدى فيها وإذا لم يقل : في ذمتي قبل قوله لأن الوديعة عليه حفظها وأداؤها لأن حروف الصلة يخلف بعضها بعضا قال الله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام : { و لهم علي ذنب } أي : عندي وإن قال : له علي ألف وديعة قبل لأنه وصل كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال : ألف نقص وإن قال : له علي ألف وديعة دينا أو مضاربة دينا صح لأنه قد يتعدى فيها فتكون دينا

باب الرجوع عن الإقرار
ومن أقر بحق لآدمي أو حق لله تعالى لا تسقطه الشبهة كالزكاة والكفارة ثم رجع عن إقراره لم يقبل رجوعه لأنه حق ثبت لغيره فلم يسقط بغير رضاه كما لو ثبت ببينة وإن أقر بحد ثم رجع عنه قبل رجوعه لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما أتاه ماعز فشهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ هل بك جنون ] ؟ متفق عليه فلو لم يسقط بالرجوع لما عرض له به ولو أقيم عليه بعض الحد ثم رجع قبل رجوعه ويخلى سبيله لما روي أن ماعزا هرب في أثناء رجمه قال جابر : فأدركناه بالحرة فرجمناه حتى مات فقال النبي : [ فهلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ] ولأنه إذا سقط جميعه بالرجوع فبعضه أولى وان هرب في أثناء الحد ترك لما رويناه ولأنه يحتمل الرجوع فإن لم يتركوه حتى قتلوه لم يضمنوه لأن النبي ( ص ) لم يضمنهم ديته ولأن الهرب ليس بصريح في الرجوع فلم يسقط به المتيقن
فصل
وإذا قال : هذه الدار لزيد بل لعمرو أو غصبتها من زيد بل من لعمرو حكم بها لزيد لأن إقراره له بها ولم يقبل رجوعه عن إقراره له لأنه حق لآدمي ويلزمه أن يغرم قيمتها لعمرو لأنه حال بينه وبين ماله لإقرار به لغيره فلزمه ضمانه كما لو أتلفه وإن قال : غصبتها من أحدهما طولب بالتعيين فإن عين أحدهما لزمه دفعها إليه وعليه اليمين للآخر فإن نكل عنها غرم له لما ذكرنا وإن قال : غصبتها من زيد وملكها لعمرو لزمه دفعها إلى زيد لإقراره له باليد ولا يقبل قوله : ملكها لعمرو لأنه إقرار على غيره ولا يغرم لعمرو شيئا لأنه لا تفريط منه إذ يجوز أن
يكون ملكها لعمرو وهي في يد زيد بإجارة أو غيرها وإن قال : ملكتها لزيد وغصبتها من عمرو فالحكم فيها كالتي قبلها لا فرق بين التقديم والتأخير ويحتمل أن يلزمه تسليمها إلى زيد ويلزمه ضمانها لعمرو كما لو قال : غصبتها من زيد بل من عمرو
وإذا مات رجل وخلف ألفا فادعاها رجل فأقر له بها الوارث ثم ادعاها آخر فأقر له بها فهي للأول ويغرمها للثاني لما ذكرنا في أول الفصل وإن ادعى رجل على ميت ألفا فصدقه الوارث ثم ادعى آخر على الميت ألفا فصدقه الوارث فقال الخرقي : إن كان في مجلس واحد فهي بينهما لأن حكم المجلس الواحد حكم الحال الواحد وإن كان في مجلسين فهي للأول لأنه استحق تسليمها كلها بالإقرار له فلا يقبل إقرار الوارث بما يسقط حقه لأنه إقرار على غيره

باب الإقرار بالمجمل
إذا قال : له علي شيء أو كذا قيل له : فسره فإن أبى حبس حتى يفسره لأنه أقر بالحق وامتنع من أدائه فحبس عليه وقال القاضي : إذا امتنع من البيان قيل للمقر له : فسره أنت ثم يسأل المقر فإن صدقه ثبت عليه و إن أبى جعل ناكلا وقضي عليه وإذا مات أخذ ورثته بمثل ذلك و إن فسره بمال قبل و إن قل لأنه شيء و إن فسره بقشر جوز وحبة حنطة ونحوهما مما لا يتمول عادة لم تقبل لأن إقراره اعتراف بحق عليه وهذا لا يثبت في الذمة وكذلك إن فسره بكلب أو حيو إن يحرم اقتناؤه و إن فسره بكلب يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة غير مدبوغ ففيه وجهان :
أحدهما : يقبل لأنه يجب عليه رده فالوجوب ثابت عليه
والثاني : لا يقبل لأن إقراره يقتضي وجوب ضمانه عليه وهذا لا يضمنه و إن فسره بحد قذف أو شفعة قبل لأنه حق عليه في ذمته و إن قال : غصبتك لم يلزمه شيء لأنه قد يغصبه نفسه و إن قال : غصبتك شيئا لزمه حق يؤخذ بتفسيره على ما بيناه
فصل
و إن أقر بمال قبل تفسيره بالقليل و الكثير لأن اسم المال يقع عليه و إن قال : له علي مال عظيم أو كثير أو جليل أو خطير فكذلك لأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه ويحتمل أنه أراد عظمه عنده لقلة ماله وفقر نفسه و إن قال : له علي أكثر من مال فلان قبل تفسيره بالقليل والكثير لأنه يحتمل أنه أراد أكثر بقاء نفعا أو لكونه حلالا سواء علم مال فلان أو جهله هذا قول أصحابنا
والأولى أنه يلزمه أكثر منه قدرا لأنه ظاهر اللفظ السابق إلى الفهم فلزمه كما لو أقر بدراهم لزمه ثلاثة ولم يقبل تفسيره بما دونها
فصل
إذا قال : له علي كذا درهم بالجر قبل تفسيره بجزء من درهم لأن كذا يحتمل أن يكون جزءا مضافا إلى درهم و إن قال : كذا درهم مرفوعا لزمه درهم لأن تقديره : شيء هو درهم و إن قال : كذا درهما فكذلك ويكون نصبه على التمييز و إن قال : كذا كذا درهم فالحكم فيها كغير المكررة لأن التكرير للتأكيد و إن قال : كذا وكذا درهم فكذلك لأنه بمنزلة قوله : شيئان هما درهم وفي الخفض بمنزلة : جزء درهم وفي النصب وجهان :
أحدهما : يلزمه درهم اختاره ابن حامد و القاضي لأن الدرهم الواحد يجوز أن يكون تفسيرا لشيئين كل واحد بعض درهم
والثاني : يلزمه درهمان اختاره التميمي لأنه ذكر جملتين فسرهما بدرهم فيعود التفسير إلى كل واحد منهما كقوله : عشرون درهما وحكي عن التميمة أيضا : أنه يلزمه أكثر من درهم جعل الدرهم تفسيرا لما يليه ورجع في تفسير الأولى إليه
فصل
وإذ قال : له علي ألف رجع في تفسير جنسها إليه فإن فسرها بأجناس قبل منه لأنه يحتمل ذلك و إن قال : له علي ألف ودرهم أو درهم وألف ففيه وجهان :
أحدهما : الجميع دراهم اختاره ابن حامد و القاضي لأنه ذكر مبهما مع مفسر فكان المبهم من جنس المفسر كما لو قال : مائة وخمسون درهما ولأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى كقول الله تعالى : { و لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا }
والثاني : يرجع في تفسير الألف إليه لأن العطف لا يقتضي التسوية بين المعطوفين في الجنس بدليل أنه يجوز أن يقول : رأيت رجلا وحمارا و إن قال : له علي ألف إلا خمسين درهما فعلى الوجهين
أحدهما : يكون الجميع دراهم لأن الاستثناء المطلق ينصرف إلى الاستثناء من الجنس بدليل ما لو قال : له علي ألف درهم إلا خمسين
والثاني : يرجع في تفسير الألف إليه لأنه يحتمل أنه أراد الاستثناء من غير الجنس و إن قال : له علي ألف وخمسون درهما أو ألف وثلاثة دراهم فالجميع دراهم لأن الدرهم المفسر في كلامهم يفسر جميع ما قبله كقوله سبحانه : { تسع وتسعون نعجة } وقوله : { أحد عشر كوكبا } والفرق بينها وبين التي قبلها أن الدرهم هاهنا للتفسير لا يجب به زيادة على العدد وفي التي قبلها ذكر للإيجاب ولهذا يجب به زيادة على الألف ويحتمل أن يرجع في تفسير الألف إليه لما ذكرنا في التي قبلها
فصل
وإذا أقر بألف في وقت ثم أقر بألف في وقت آخر لزمه ألف واحد لأنه خبر فيجوز أن يكون الثاني خبرا عما أخبر به في الأول و إن قال : ألف من قرض ثم قال : ألف من ثمن مبيع لزمه الألفان لأن الثاني غير الأول و إن قال : ألف وألف أو فألف أو ثم ألف لزمه ألفان لأن العطف يقتضي كون المعطوف غير المعطوف عليه
و إن قال : له علي درهم ودرهمان لزمه ثلاثة كذلك و إن قال : له علي درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة كذلك وقال بعض أصحابنا : إن قال : أردت بالثالث التوكيد قبل لأنه في لفظ الثاني وكذلك الحكم إن قال : له علي درهم فدرهم فدرهم أو درهم ثم درهم ثم درهم و إن قال : له علي درهم ودرهم ثم درهم لزمته ثلاثة لأن الثالث لا يصلح للتأكيد لمخالفته للثاني و إن قال : له علي درهم بل درهم لزمه درهم لأنه لم يقر بأكثر منه ويحتمل أن يلزمه درهمان لأنه أضرب عن الأول فلم يسقط بإضرابه وأثبت الثاني معه ذكره أبو بكر و ابن أبي موسى و إن قال : له علي درهم بل درهمان لزمه درهمان و إن قال : له علي درهم بل دينار لزمه درهم ودينار لأنه أضرب عن الدرهم فلم يسقط وأثبت معه دينارا فلزماه وإن قال : له علي هذا الدرهم بل هذان الدرهمان لزمه ثلاثة كذلك و إن قال : له علي قفيز حنطة بل قفيزا شعير لزمه الثلاثة كذلك و إن قال : له علي درهم نصفه لزمه نصف درهم لأن هذا بدل البعض وهو سائغ فينزل منزلة الاستثناء و إن قال : له علي درهم أو دينار لزمه أحدهما يرجع في تعيينه إليه ويؤخذ به لأنه أقر
بأحدهما و إن قال : له علي درهم في دينار لزمه درهم لأنه يجوز أن يريد : في دينار لي و إن قال : له علي درهم فوق درهم أو تحت درهم فقال القاضي : يلزمه درهم لأنه يحتمل فوق درهم أو تحته في الجودة فلم يلزمه زيادة مع الاحتمال وقال أبو الخطاب : يلزمه درهمان لأنه إقرار بدرهم مقرون بآخر فلزماه جميعا و إن قال : له علي درهم مع درهم أو معه درهم أو قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان لأن قبل و بعد يستعملان للتقديم والتأخير في الوجوب فحمل عليه و إن قال : له علي درهم في عشرة وفسره بإرادة الحساب لزمه عشرة و إن فسره بدرهم مع عشرة لزمه أحد عشر و إن لم يفسره لزمه درهم لأنه يحتمل : في عشرة لي إلا أن يكون عرفهم استعمالهم في ذلك بمعنى مع فيحتمل وجهين
فصل
و إن قال : له في هذا العبد شركة أو هو شركة بيننا أو هو لي وله كان مقرا بجزء من العبد يؤخذ بتفسيره ويقبل بتفسيره بالقليل والكثير لأن اللفظ يقع عليه وإن قال : له في هذا العبد ألف طولب بالبيان فإن قال : وزن في ثمنه ألفا عني كانت قرضا و إن لم يقل : عني كان شريكا بقدرها و إن قال : أوصي له بألف من ثمنه قبل و إن فسرها : بألف من جناية جاها العبد قبل أيضا لأنه يحتمل ذلك و إن قال : هو رهن عندي بألف ففيه وجهان :
أحدهما : يقبل لأن الدين يتعلق بالرهن فصح تفسيره به كالجناية
والثانية : لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة لا في العبد و إن قال : له في ميراث أبي ألف لزمه تسليمها إليه لأن حق المرتهن في الذمة لا في العبد و إن قال : له في ميراث أبي ألف لزمه تسليمها إليه و إن قال : له في ميراثي من أبي ألف وقال : أردت هبة وبدا لي من تقبيضها قبل منه لأنه أضاف الميراث إلى نفسه ولا ينتقل ماله إلى غيره إلا من جهته و إن قال : له في هذا المال ألف لزمه و إن قال : له في مالي هذا ألف أو من مالي هذا ألف وفسر بدين أو وديعة قبل منه لأنه يحتمل صدقه فقبل كالأول
فصل
ومن شهد بحرية عبد غيره أو أقر بها ثم اشتراه عتق عليه لاعترافه بحريته ويكون بيعا في حق البائع واستخلاصا في حق المشتري و ولاؤه موقوف لأن أحدا لا يدعيه فإذ مات وخلف مالا فقال القاضي : للمشتري منه قدر ثمنه عوضا عما استخصله به كما لو استنقذ أسيرا من بلد الروم بثمن و إن رجع البائع فصدق المشتري في إعتاقه لزمه رد الثمن عليه والولاء له لأنه إقرار بسبب للميراث لا منازع له فيه فقبل كالإقرار بالنسب و إن رجع المشتري عن الشهادة بالحرية لم يقبل في الحرية لأنه حق لغيره وقيل في الولاء لعدم المنازع له

باب الإقرار بالنسب
إذا أقر رجل بنسب مجهول النسب يمكن كونه منه وهو صغير أو مجنون ثبت نسبه منه لأنه أقر له بحق فثبت كما لو أقر له بمال فإن بلغ الصبي وأفاق المجنون وأنكر النسب لم يسقط لأنه نسب حكم بثبوته فلم يسقط برده كما لو قامت به بينة و إن كان المقر به بالغا عاقلا لم يثبت نسبه حتى يصدقه لأن له فيه قولا صحيحا فاعتبر تصديقه كما لو أقر له بمال و إن كان المقر به ميتا ثبت نسبه و إن كان بالغا لأنه لا قول له أشبه المجنون ومتى ثبت نسب المقر له به فرجع المقر عن الإقرار لم يقبل رجوعه لأنه حق لغيره و إن صدقه المقر له في الرجوع ففيه وجهان
أحدهما : لا يسقط لأن النسب إذا ثبت لم يسقط بالاتفاق على نفيه كالثابت بالفراش
والثاني : يقبل لأنهما اتفقا على الرجوع عن الإقرار أشبه الرجوع عن الإقرار بالمال
فصل
و إن أقر على أبيه أو غيره بنسب في حياته لم يقبل إقراره لأن إقرار الرجل على غيره غير مقبول و إن أقر بعد موته وكان الميت قد نفاه لم يثبت لأنه يحمل على غيره نسبا قد حكم بنفيه و إن لم يكن نفاه ولكن المقر غير وارث لم يقبل إقراره لأنه لا يقبل إقراره في المال فكذا في النسب و إن كان وارثا ومعه شريك في الميراث لم يثبت النسب بقوله لأنه لا يثبت في حق شريكه فوجب أن لا يثبت في حقه و إن كان هو الوارث وحده ثبت النسب بقوله لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زمعة في ابن وليدة زمعة فقال عبد بن زمعة : آ أخي وابن وليدة آبي ولد على فراشه وقال سعد : ابن أخي عهد إلي فيه أخي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش ] متفق عليه ولأن الوارث يقوم مقام موروثه في حقوقه وهذا من حقوقه و إن كان المقر بنتا واحدة ثبت النسب بقولها لأنها ترث المال كله بالفرض والرد و إن خلف زوجة فأقرت بابن لزوجها فوافقها الإمام ثبت نسبه وإلا فلا و إن خلف ابنين عاقلا ومجنونا فأقر العاقل بأخ لم يثبت النسب لأنه لا يرث المال كله فإن مات المجنون وله وارث غير أخيه لم يثبت النسب إلا باتفاقهم جميعا و إن لم يخلف وارثا إلا أخاه قام مقامه في الإقرار
وإن كانا عاقلين فأقر أحدهما بنسب صغير ثم مات الآخر ففيه وجهان :
أحدهم : يثبت النسب لأن المقر صار جميع الورثة
والثاني : لا يثبت لأن تكذيبه لشريكه يبطل الحكم بنسبه فلم يثبت كما لو أنكر الأب نسبه في حياته فأقر به الوارث و إن خلف ابنا فأقر بأخ ثبت نسب فإن أقر الثالث ثبت نسبه أيضا فإن أنكر الثالث الثاني ففيه وجهان :
أحدهما : يسقط نسبه لأن الثالث ابن فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني
والثاني : لا يسقط لأنه ثبت نسبه : قبل الثالث ولأن الثالث في فرع على نسب الثاني فلا يسقط الفرع أصله و إن خلف أبنا فأقر بأخوين له في وقت واحد فصدق كل واحد منهما لصاحبه ثبت نسبهما و إن تكاذبا لم يثبت نسب واحد منهما في أحد الوجهين لأنه لم يجتمع كل الورثة على الإقرار لهما وفي الآخر يثبت نسبهما لأنه ثبت بقول ثابت النسب قبلهما فلم يؤثر إنكارهما و إن صدق أحدهما بصاحبه وكذب به الآخر ثبت نسب المصدق به وفي الآخر وجهان وإن أقر ابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما فإن كذب أحدهما بصاحبه لم يؤثر التكذيب لأنهما لا يفترقان في النسب و إن أقر الوارث بنسب من يحجبه كأخ أقر بابن للميت ثبت نسبه وورث دونه لأن حجبه لو منع إقراره لما صح إقرار الابن بأخ لأنه يخرج بإقراره عن كونه كل الورثة
فصل
إذا كان لرجل أمة لها ثلاثة أولاد ولم يقر بوطئها ولا زوج لها فقال : أحد أولادها ابني أخذ ببيان النسب والتعيين فإذا عين أحدهما ثبت نسبه وحريته فإن قال : هو من نكاح فعليه الولاء لأبيه لأنه قد مسه رق والأمة وولداها الآخران رقيقين قن لأنها لم تعلق منه بحر في ملكه و إن قال : من وطء شبهة فالولد حر الأصل أمه وأخواه مملوكون وإذا قال : استولدتها في ملكي فالولد حر الأصل و لا ولاء عليه والجارية أم ولد فإن كان المعين الأكبر فأخواه ابنا أم ولد حكمهما حكمها لأنها ولدتهما بعد استيلادهما وثبوت حكم أم الولد لها و إن عين الأوسط فالأكبر رقيق و الأصغر له حكم أمه و إن عين الأصغر فأخواه رقيق لأنها ولدتهما قبل كونها أم ولده و إن مات قبل البيان أخذ ورثته بالبيان ويقوم بيانهم مقام بيانه فإن بينوا النسب دون الاستيلاد ثبت النسب وحرية الولد ولم تصر الأمة أم ولد لاحتمال كونه من نكاح وغيره و إن لم يعينوا أحدا منهم عرضوا على القافة فإن ألحقوا به واحدا ألحقناه به ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره و إن لم يكن قافة وأشكل أقرعنا بينهم لتميز الحرية فمن وقعت عليه القرعة عتق وورث ويحتمل أن تصير الأمة أم ولد في هذه المواضع لأنه أقر بولدها وهي في ملكه فالظاهر أنه استولدها في ملكه
فصل
فإن كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد ولا زوج لواحدة منهما ولم يقر بوطئها فقال : أحد هذين ابني أخذ بالبيان فإن عين أحدهما ثبت نسبه وحريته ويطالب ببيان الاستيلاد فإن قال : استولدتها في ملكي فالولد حر الأصل وأمه أم ولد و إن قال : من نكاح أم وطء شبهة فالأمة رقيق قن وترق الأخرى وولدها فإن ادعت الأخرى أنها المستولدة فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم استيلادها و إن مات قبل البيان قام وارثه مقامه على ما بينا في المسألة التي قبلها فإن لم يكن له وارث أو لم يعين الوارث عرضا على القافة فألحق بمن ألحقته به القافة و إن لم يكن قافة أو أشكل أقرع بينهما فيعتق أحدهما بالقرعة وقياس المذهب أنه يثبت نسبه ويرث أيضا
فصل
و إن خلف رجل ابنين فأقر أحدهما بدين على أبيه لأجنبي وكان عدلا فللغريم أن يحلف مع شهادته ويأخذ دينه و إن لم يكن عدلا حلف المنكر وبرىء ويلزم المقر من الدين بقدر ميراثه لأنه لو لزمه بإقراره جميع الدين لم تقبل شهادته على أخيه لكونه يدفع بها عن نفسه ضررا ولأنه لا يرث إلا نصف التركة فلم يلزمه أكثر من نصف الدين كما لو وافقه أخوه و إن لم يخلف الميت تركة لم يلزم الوارث من الدين شيء لأنه لا يلزمه أداء دينه إذا كان حيا مفلسا فكذلك إذا كان ميتا و إن كانت له تركة تعلق الدين بها فإن أحب الوارث تسليمها في الدين لم يلزمه سوى ذلك و إن أحب استخلاصها وإيفاء الدين من ماله فله ذلك ويلزمه أقل الأمرين من قيمتها أو قدر الدين بمنزلة دين الجناية في رقبة الجاني وإذا قال الرجل في مرضه : هذه الألف لقطة فتصدقوا بها ولا مال له سواها فقال أبو الخطاب : يلزمهم التصدق بثلثها لأنها جميع ماله والأمر بالصدقة بها وصية بجميع المال فلا يلزمهم منها إلا الثلث وقال القاضي : يلزمهم الصدقة بجميعها لأن أمره بالصدقة بها يدل على تعديه فيها على وجه تلزمهم الصدقة بجميعها فيكون ذلك إقرارا منه لغير وارث فيجب امتثاله والله أعلم
تم بحمد الله ومنته الجزء الرابع من الكافي في فقه الإمام أحمد وبه تمام الكتاب والحمد لله رب العالمين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10