كتاب : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
المؤلف : عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد

باب القسم
يجب على الرجل المبيت عند امرأته الحرة ليلة من كل أربع ووطؤها مرة في كل أربعة أشهر إذا لم يكن عذر وقال القاضي : لا يجب المبيت ولا الوطء ابتداء إذا لم يقصد الإضرار بتركه لأنه حق فجاز تركه كسكنى الدار المستأجرة ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمر : [ ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ قال : بلى يا رسول الله قال : فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا ] متفق عليه وقال عمر لكعب بن سور : اقض بين هذا وامرأته قال : فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة وهي رابعتهن فأقضي لها بثلاث أيام ولياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة فقال عمر : والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من الآخر اذهب فأنت قاض على البصرة ولأن الوطء يجب على المولى ويفسخ النكاح لتركه وما لا يجب على غير الحالف لا يجب على الحالف على تركه كسائر المباحات وما لا يجب لا يفسخ النكاح لتعذره كزيادة النفقة فإن لم يفعل فطلبت الفرقة فرق بينهما قال أصحابنا : وحق الأمة ليلة من كل سبع لأن أكثر ما يمكنه جمعه معها ثلاث حرائر لهن ست ولها السابعة والصحيح أن لها ليلة من ثمان نصف ما للحرة لأن زيادتها على ذلك يحل بالتنصيف وزيادة الحرة على ليلة من أربع زيادة على الواجب فتعين ما ذكرنا
فصل :
فإن كان له امرأتان أو أكثر وجب التسوية بينهن في القسم لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ] رواه أبو داود ولأن الجور يخل بالعشرة بالمعروف وليس له البداءة في القسم بإحداهما دون الأخرى من غير رضاها لأنه جور يدعو إلى النفور فإذا أراد البداءة بالقسم أقرع بينهما لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرع بين نسائه وإذا بدأ بواحدة بقرعته أو غيرها لزمه القضاء للبواقي لأن ترك القضاء ميل
فصل :
ويجب القسم على المريض والمجبوب والمظاهر والمولى وزوج المريضة والمحرمة والحائض و النفساء لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقسم في مرضه ولأن القسم يراد للأنس والإيواء وذلك أحصل في هذه الأحوال فأما المجنون والمجنونة فإن خيف منهما سقط لأن الأنس لا يحصل منهما وإن لم يخف منهما فالمجنونة على حقها في القسم ويطوف ولي الجنون به لأن الأنس يحصل منهما
فصل :
وإذا سافرت زوجته بغير إذنه سقط حقها من القسم والنفقة لأنها منعته القسم لها بغيبتها فأسقطت نفقتها بنشوزها وإن بعثها أو أمرها بالنقلة من بلدها لم يسقط حقها من نفقة ولا قسم لأن ذلك حاصل بفعله فلم يسقط حقها كما لو أتلف المشتري المبيع لم يسقط ثمنه وإن سافرت بإذنه لحاجتها ففيه وجهان :
أحدهما : لا يسقطان لأنها سافرت بإذنه أشبه ما لو سافرت معه
الثاني : يسقط اختاره الخرقي لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد تعذر من جهتها فسقط كثمن المبيع إذا تعذر تسليمه ويحتمل أن يسقط قسمها وجها واحدا لأنه لو سافر عنها لعذر سقط حقها منه فإذا سافرت هي كان أولى وفي النفقة وجهان لأنها لا تسقط بسفره
فصل :
وعماد القسم الليل لقوله تعالى : { وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا } ولأن الليل للسكن والإيواء والنهار للمعاش والانتشار إلا من معاشه بالليل كالحارس فعماد قسمه النهار لأن نهاره كليل غيره وإذا قسم للمرأة ليلة كان لها ما يليها من النهار تبعا لليل بدليل ما روي أن سودة وهبت يومها لعائشة متفق عليه وقالت عائشة : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي وفي يومي والأولى أن يقسم بين زوجاته ليلة وليلة اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم ولأنه أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق فإذا زاد على ذلك لم يجز إلا برضاهن لأنه إذا بات عند واحد تعينت الليلة الثانية للأخرى فلم يجز أن يبيتها عند غيرها بغير رضاها فإن اتفق الجميع على القسم أكثر من ذلك أو أقل جاز لأن الحق لا يخرج عنهن وقال القاضي : له أن يقسم ليلتين ليلتين وثلاثا ثلاثا لأنه يسير ولا تجوز الزيادة عليه إلا برضاهن فإن قسم لإحداهما ثم طلق الأخرى قبل قسمها أثم لأنه فوت حقها الواجب لها فإن عادت بعد ذلك إليه لزمه أن يقضي لها لأنه قدر على إيفائه بعد العجز عنه فلزمه كالدين إذا أعسر به ثم أيسر وإن نشزت إحداهن في ليلتها وأغلقت بابها دونه أو ادعت طلاقه سقط حقها من القسم فإن طاوعت استأنف القسم بينهما ولم يقض لها لأنها أسقطت حق نفسها
فصل :
والأولى أن يطوف على نسائه في منازلهن اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم ولأنه أحسن في العشرة وأصون لهن وله أن يقيم في موضع واحد ويستدعي واحدة واحدة وله أن يأتي واحدة ويستدعي واحدة لأن المرأة تابعة للزوج في المكان ولذلك ملك نقلها إلى حيث شاء وإن حبس في موضع يمكن حضورها معه وهو مسكن مثلها فهي على حقها من القسم و إن لم يكن مسكن مثلها لم يلزمها إجابته لأن عليها ضررا وإن كانت له امرأتان في بلدين فعليه العدل بينهما لأنه حق لهما فلا يسقط بتباعدهما كالنفقة فإن امتنعت إحداهما من النقلة بعد طلبه لها سقط حقها وإن أقام في بلد إحداهما ولم يقم معها في المنزل لم يلزمه القضاء لأنه لم يقسم لها وإن أقام عندها لزمه القضاء للأخرى
فصل :
ويستحب التسوية بين الزوجات في الاستمتاع لأنه أكمل ولا يجب ذلك لأن الداعي إليه الشهوة والمحبة ولا سبيل إلى التسوية فيه قال الله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } قال ابن عباس : في الحب والجماع وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم بين نسائه ويعدل ثم يقول : [ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ] رواه الترمذي و ابن ماجة
فصل :
وإن خرج في ليلة إحداهن ولم يلبث إن عاد لم يقض لها لأنه لا فائدة في قضائه وإن أقام قضى لها ساء كانت إقامته لعذر أو لغير عذر لأن حقها فات بغيبته عنها ويستحب أن يقضي لها في مثل الوقت الذي خرج فيه لأنه أقرب إلى المماثلة وإن قضاه في غيره من الليل ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجوز لعدم المماثلة
والثاني : يجوز لأنه قضى في الوقت الذي هو المقصود في القسم وله الخروج في النهار حيث شاء لأن النهار للمعاش والانتشار وإن دخل على ضرتها في ليلتها ولم يلبث أن خرج لم يقض لعدم الفائدة في قضائه فإن جامعها فيه ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقضي أيضا لأن الزمن اليسير لا يقضى والوطء لا يستحق في القسم
والثاني : عليه القضاء وهو أن يدخل على صاحبة القسم في ليلة الأخرى فيطأها ليعدل بينهما وإن أطال المقام عند الضرة قضاه في ليلة المدخول عليها بكل حال فأما الدخول على غيرها في يومها فيجوز للحاجة من غير أن يطيل ولا يجامع وهل له أن يستمتع منها فيما دون الفرج ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يجوز لما روت عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل علي في يوم غيري وينال مني كل شيء إلا الجماع
والثاني : لا يجوز لأنه يحصل به السكن أشبه الجماع وإن أطال قضاه للأخرى وإن جامع ففيه وجهان كما ذكرنا في الليل
فصل :
والكتابية كالمسلمة في القسم لأنه من حقوق النكاح فاستويا فيه كالنفقة والسكنى فإن كانت إحداهما حرة والأخرى أمة فللحرة ليلتان وللأمة ليلة لما روي عن علي أنه كان يقول : إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين أخرجه الدارقطني واحتج به أحمد فإن أعتقت الأمة في مدتها أو قبلها أضاف إلى ليلتها أخرى لأنها صارت حرة فيجب التسوية بينهما وإن أعتقت بعد مدتها استأنف القسم متساويا ولم يقض لها
فصل :
إذا كان له أربع نسوة فنشزت إحداهن وظلم أخرى فلم يقسم لها وقسم للاثنتين ثلاثين ليلة ثم أطاعته الناشز وأراد القضاء للمظلومة فإنه يقسم لها ثلاثا وللناشز ليلة خمس أدوار فيكمل للمظلومة خمسة عشر ويحصل للناشز خمس فتحصل التسوية فإن كان له ثلاث نسوة فظلم إحداهن وقسم بين الباقيتين ثلاثين ليلة ثم تزوج جديدة وأراد القضاء فإنه يبدأ فيوفي الجديدة حق العقد ثم يقسم بينهما وبين المظلومة خمسة أدوار كما ذكرنا في التي قبلها سواء
فصل :
ولا قسم عليه في ملك اليمين فإذا كانت له زوجات وإماء فله الدخول على الإماء كيف شاء والاستمتاع بهن لأن الأمة لا حق لها في الاستمتاع ولذلك لم تملك المطالبة في الإيلاء
فصل :
وللمرأة أن تهب حقها من القسم لزوجها فيجعله لمن شاء من زوجاته ولبعض ضرائرها أو لهن جميعا إذا رضي الزوج لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه فإذا رضي جاز لما روت عائشة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة متفق عليه وجوز ذلك في بعض الزمان لما روت عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وجد على صفية بنت حيي في شيء فقالت لعائشة : هل لك أن ترضي عني رسول الله صلى الله عليه و سلم ولك يومي ؟ قالت : نعم - فأخذت خمارا مصبوغا بزعفران فرشته بالماء ليفوح ريحه ثم قعدت إلى جنب النبي صلى الله عليه و سلم - فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إليك يا عائشة إنه ليس يومك ] قالت : ذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء فأخبرته بالأمر فرضي عنها رواه ابن ماجة ولا يعتبر رضى الموهوبة لأنه حقه عليها عام وإنما منعه المزاحمة التي زالت بالهبة ثم إن كانت ليلة الواهبة لا تلي ليلة الموهوبة لم نجز الموالاة بينهما لأن الموهوبة قائمة مقام الواهبة فلم يجز تغييرها عن موضعها كما لو كانت الواهبة باقية ويحتمل أن يجوز لعدم الفائدة في التفريق وللواهبة الرجوع في هبتها في المستقبل لأنه لم يقبض وما مضى فقد اتصل به القبض فلا حق لها فيه وإن بذلت ليلتها بمال لم يصح لأنها ليست مالا ولا منفعة يستحق بها المال وإن كان العوض غير المال كإرضاء زوجها ونحو ذلك جاز لحديث عائشة
فصل :
والحق في قسم الأمة لها دون سيدها فلها هبة ليلتها من غير إذن سيدها ولها المطالبة بها لأن الإيواء والسكنى حق لها فملكت إسقاطه والمطالبة به كالحرة
فصل :
وإن تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة قطع الدور لحق الجديدة فإن كانت بكرا أقام عندها سبعا وإن كانت ثيبا أقام عندها ثلاثا ثم دار لما روى أبو قلابة عن أنس قال : من السنة أن تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم قال أبو قلابة : لو شئت لقلت : إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم متفق عليه
وإن أحبت الثيب أن يقم عندها سبعا فعل ثم قضى جميعها للبواقي لما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال : [ إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي ] رواه مسلم وفي لفظ : [ إن شئت ثلثت ثم درت ] والأحرار والرقيق سواء في هذا الحديث للإيناس وإزالة الاحتشام فاستوين فيه لاستوائهن في الحاجة إليه كالنفقة
فصل :
يكره أن يزف امرأتين في ليلة واحدة لأنه لا يمكن الجمع بينهما في إيفاء حقهما وتستضر التي يؤخر حقها وتستوحش فإن فعل بدأ بالتي تدخل عليه أولا فوفاها حقها لأنها أسبق فإن أدخلتا عليه معا أقرع بينهما فقدم من تخرج لها القرعة ثم ثنى بصاحبتها ثم قسم بعد ذلك
فصل :
وإذا أراد السفر بجميع نسائه قسم لهن كما يقسم في الحضر وإن أراد السفر ببعضهن لم يسافر بهن إلا بقرعة لما روت عائشة : [ أن رسول الله ( ص ) كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ] متفق عليه ولا يلزمه القضاء للحاضرات لأن عائشة لم تذكر قضاء ولأن المسافرة اختصت بمشقة السفر فاختصت بالقسم والسفر الطويل والقصير سواء في هذا لعموم الخبر والمعنى وإن سافر بإحداهن بغير قرعة أثم وقضى للبواقي لأنه خصها مدة على وجه تلحقه التهمة فلزمه القضاء كالحاضر فإن خرجت القرعة لإحداهن فامتنعت من السفر معه سقط حقها لامتناعها وإن آثرت أخرى به جاز إذا رضي الزوج لأن الحق لها أشبه ليلتها في الحضر وإن أحب تركها والسفر وحده جاز لأن القرعة لا توجب وإنما تعين مستحق التقديم وإن سافر بها بقرعة ثم بدا له فأبعد السفر فله استصحابها معه لأنه سفر واحد وإن أقام في بلدة مدة يلزمه فيها إتمام الصلاة قضى ذلك فإذا خرج مسافرا لم يقض ما سافره لأنه سفر واحد قد أقرع له وإن كانت عنده امرأتان فتزوج امرأتين ثم أراد سفرا أقرع بين الكل فإن وقعت القرعة لإحدى الأوليين سافر بها فإذا قدم قضى حق العقد للجديدتين ثم دار وإن وقعت للجديدة سافر بها ودخل حق العقد في قسم السفر فإذا قدم قضى حق العقد للأخرى ثم دار لأنه حق وجب عليه قبل سفره ويحتمل ألا يقضي لها لأن الإيواء في الحضر أكثر منه في السفر فيحصل تفصيلها على التي سافر بها ويحتمل أن يقيم عند الأخرى لقضاء حق العقد لأنه حق وجب بالعقد ولم يوجب له مسقط فيجب قضاؤه ثم يقيم مثله عند التي سافر بها لئلا يفضل الحاضر عليها فإن العدل يحصل بهذا فيكون أولى من إسقاط حق العقد بغير مسقط وإن قدم من سفره قبل إتمام حق العقد للتي معه أتمه في الحضر والله أعلم

باب النشوز
وهو نوعان أحدهما : نشوز المرأة وهو معصيتها زوجها فيما يجب له عليها من حقوق النكاح فمتى ظهر منها إمارات النشوز مثل أن يدعوها فلا تجيبه أو تجيبه مكرهة متبرمة وعظها وخوفها الله تعالى وما يلحقها من الإثم والضرر بنشوزها من سقوط نفقتها وقسمها وإباحة ضربها وأذاها لقوله تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن } ولا يجوز ضربها لأنه يجوز أن يكون ذلك لعذر أو ضيق صدر من غير الزوج فإن أظهرت النشوز فله هجرها في المضاجع لقوله تعالى : { واهجروهن في المضاجع } قال ابن عباس : لا تضاجعها في فراشك فإن الهجران في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ] أو قال : [ ثلاث ليال ] متفق عليه فإن ردعها ذلك وإلا فله ضربها لقوله تعالى : { واضربوهن } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ] رواه مسلم ولا يحرج بالضرب للخبر قال ثعلب : غير مبرح أي : غير شديد وعليه اجتناب الموضع المخوفة والمستحسنة لأن المقصود التأديب لا الإتلاف والتشويه وهل له ضربها بأول النشوز ؟ فعنه : له ذلك للآية والخبر ولأنها صرحت بالمعصية فكان له ضربها كالمصرة وظاهر قول الخرقي : أنه ليس له ضربها لأن المقصود بهذه العقوبات زجرها عن المعصية في المستقبل فيبدأ بالأسهل فالأسهل كإخراج من هجم على منزله ولأنها عقوبات على جرائم فاختلفت باختلافها كعقوبات المحاربين
فصل :
النوع الثاني : نشوز الرجل عن امرأته وهو : إعراضه عنها لرغبته عنها لمرضها أو كبرها أو غيرهما فلا بأس أن تضع عنه بعض حقها تسترضيه بذلك لقوله تعالى : { و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا } قالت عائشة رضي الله عنها : هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج عليها تقول له : أمسكني لا تطلقني وأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي رواه بخاري وقالت عائشة : إن سودة لما أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : يا رسول الله يومي لعائشة فقبل ذلك منها ففي تلك وأشباهها أراه أنزل الله : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } رواه أبو داود ومتى صالحته على شيء من حقها ثم أرادت الرجوع فلها ذلك قال أحمد في الرجل يغيب عن زوجته فيقول لها : إن رضيت على هذا وإلا فأنت أعلم فتقول : قد رضيت فهو جائز وإن شاءت رجعت
فصل :
وإذا ادعى كل واحد منهما ظلم صاحبه وعدوانه أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة يطلع عليهما ويلزمهما الإنصاف فإن لم يكن أنصاف أحدهما من صاحبه وخيف الشقاق بينهما بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليفعلا ما رأيا المصلحة فيه من التفريق بعوض أو غيره أو الإصلاح بترك بعض الحقوق أو غيره لقوله تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما } ويجوز أن يكون الحكمان أجنبيين لأنهما إما وكيلين أو حكمان وأي ذلك كان فلا تشترط له القرابة والأولى جعلهما من أهلهما للآية ولأنهما أعرف بالحال وأشفق ويجب أن يكونا ذكرين عدلين لأنهما إن كانا وكيلين فهما يحتاجان إلى الرأي في النظر والتفريق ولا يكمل بدون هذين الوصفين وإن كانا حكمين فهذا شرط فيه واختلفت الرواية فيهما فروي : أنهما حكمان لتسمية الله تعالى إياهما بذلك فعلى هذا لهما فعل ما رأياه بغير رضى الزوجين لأن الحاكم يحكم بما يراه من غير رضى الخصم وروي : أنهما وكيلان لا يملكان التفريق ولا إسقاط شيء من الحقوق إلا بتوكيلهما أو رضاهما لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلم يجز إلا بإذنهما ومتى كانا حكمين اشترط كونهما فقيهين حرين لأنهما من شرائط الحكم وإن كانا وكيلين جاز أن يكونا عاميين أو عبدين لأن توكيلهما جائز وقال القاضي : لا يجوز أن يكونا عبدين لأنهما ناقصان فإن غاب الزوجان نفذ تصرف الحكمين في حقهما إن قلنا : هما وكيلان كما ينفذ تصرف الوكيل في غيبة الموكل وإن قلنا : هما حكمين لم ينفذ لأنه لا يجوز له الحكم للغائب وكل واحد منهما محكوم له وعليه وإن جنى لم ينفذ تصرف الحكمين بحال لأن الوكالة تبطل بجنون الموكل

كتاب الخلع
ومعناه : فراق الزوج امرأته بعوض فإن خالعها بغير عوض لم يصح لكن إن كان بلفظ الطلاق أو نواه به فهو طلاق رجعي ولم يقع به شيء وعنه : يصح الخلع بغير عوض اختاره الخرقي فإذا سألته خلعها فقال : خلعتك انفسخ النكاح ولا شيء له لأنه فرقة فجازت بغير عوض كالطلاق فإن قال : خلعتك من غير سؤال الزوجة لم يكن خلعا وكان كناية في الطلاق لا غير قال أبو بكر : لا خلاف عن أبي عبد الله أن الخلع ما كان من قبل النساء فإذا كان من قبل الرجال فلا نزاع في أنه طلاق يملك به الرجعة ووجه الرواية الأولى أنه فسخ للنكاح بغير عوض ولا عيب فلم يملكه الزوج كما لو تسأله المرأة
فصل :
والخلع على ثلاثة أضرب : مباح : وهو أن تكره المرأة زوجها لبعضها إياه وتخاف ألا تؤدي حقه ولا تقيم حدود الله في طاعته فلها أن تفتدي نفسها منه لقوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } وروى البخاري بإسناده قال : جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ما أنقم على ثابت من دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر في الإسلام فقال رسول الله ( ص ) [ أتردين عليه حديقته ] ؟ فالت : نعم فردت عليه وأمره ففارقها ولأن حاجتها داعية إلى فرقته ولا تصل إلى ببذل العوض فأبيح لها ذلك كشراء المتاع
الثاني : المخالعة لغير سبب مع استقامة الحال فذهب أصحابنا إلى أنه صحيح مع الكراهة لقوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } ويحتمل كلام أحمد تحريمه وبطلانه لأنه قال : الخلع مثل حديث سهلة تكره الرجل فتعطيه المهر فهذا الخلع ووجه ذلك قوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله } وروى ثوبان قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ] رواه أبو داود ولا يلزم من الجواز في غير عقد الجواز في عقد بدليل عقود الربا
الثالث : أن يعضل الرجل زوجته بأذاه لها ومنعها حقها ظلما لتفتدي نفسها منه فهذا محرم لقوله تعالى : { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } فإن طلقها في هذه الحال بعوض لم يستحقه لأنه عوض أكرهت على بذله بغير حق فلم يستحقه كالثمن في البيع ويقع الطلاق رجعيا وإن خالعها بغير لفظ الطلاق وقلنا : هو طلاق فحكمه ما ذكرنا وإلا فالزوجة بحالها فإن أدبها لتركها فرضا أو نشوزها فخالعته لذلك لم يحرم لأنه ضربها بحق وإن زنت فعضلها لتفتدي نفسها منه جاز وصح الخلع لقول الله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } والاستثناء من النفي إثبات وإن ضربها ظلما لغير قصد أخذ شيء منها فخالعته لذلك صح الخلع لأنه لم يعضلها ليأخذ مما آتاها شيئا
فصل :
ويصح الخلع من العبد والسفيه والمفلس وكل زوج يصح طلاقه لأنه إذا ملك الطلاق بغير عوض فبعوض أولى والعوض في خلع العبد لسيده لأنه من كسبه لا يجوز تسليمه إلى غيره إلا بإذنه ولا يجوز تسليم العوض في خلع السفيه إلا إلى وليه كسائر حقوقه وقال القاضي : يصح قبضهما لأنه صح خلعهما فصح قبضهما كالمفلس ولا يصح من غير زوج لأنه لا يملك الطلاق إلا أب الصغير فإنه فيه روايتين :
إحداهما : لا يملك طلاق زوجته ولا خلعها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الطلاق لمن أخذ بالساق ] رواه ابن ماجه ولأنه إسقاط لحقه فلم يملكه كإسقاط قصاصه
والثانية : يملكه لأنه يملك تزويجه فملك الطلاق والخلع كالزوج وكذلك القول في زوجة عبده الصغير
فصل :
ويصح الخلع من كل زوجة رشيدة لأن استدانتها صحيحة فإن كانت أمة فحكم خلعها حكم استدانتها بإذن سيدها وبغير إذنه ويرجع على المكاتبة بالعوض إذا عتقت وعلى المفلسة إذا أيسرت كاستدانتها فأما السفيهة والصغيرة والمجنونة فلا يصح بذل العوض منهن لأنه تصرف في المال وليس من أهله ويصح بذل العوض في الخلع من الأجنبي فإذا قال : طلق زوجتك بألف علي ففعل لزمته ألف لأنه إسقاط حق لا يفتقر إلى رضى المسقط عنه فصح بالمالك والأجنبي كالعتق بمال فإن قال : طلق زوجتك بمهرها وأنا ضامن ففعل بانت وعليه مهرها ولا يرجع به على أحد وليس لغير الزوجة خلعها بشيء من مالها ولو كان أبا الصغيرة لأنه يسقط به حقها من العوض والنفقة والاستمتاع فإن فعل وكان طلاقا كان رجعيا وإلا لم يقع به شيء كالخلع مع العضل
فصل :
ويجوز الخلع من غير حاكم لأنه قطع عقد بالتراضي فلم يحتج إلى حاكم كالإقالة ويجوز في الحيض لأن تحريم الطلاق فيه يثبت دفعا لضرر تطويل العدة والخلع يدفع به ضرر سوء العشرة وهو أعظم وأدوم فكان دفعه أولى
فصل :
وألفاظ الخلع تنقسم إلى صريح وكناية لأنه أحد نوعي الفرقة فكان له صريح وكناية كالطلاق فالصريح ثلاثة ألفاظ خالعتك لأنه يثبت له عرف الاستعمال وفاديتك لورود القرآن به وفسخت نكاحك لأنه حقيقة فيه وما عدا هذا مثل بارأتك وأبرأتك وأبنتك فكناية فمتى أتى بالصريح وقع وإن لم ينو ولا يقع بالكناية إلا بنية أو دلالة حال بأن تطلب الخلع وتبذل العوض فيجيبها بذلك لأن دلالة الحال تغني عن النية ومتى وقع الخلع بلفظ الطلاق أو نوى به الطلاق فهو طلاق بائن لأنه لا يحتمل غير الطلاق وإن خالعها بغير لفظ لطلاق غير ناو به الطلاق ففيه روايتان :
إحداهما : هو طلاق أيضا لأنه كناية في الطلاق نوى به فرقتها فكان طلاقا كما لو نوى به الطلاق
والثانية : هو فسخ لقول الله تعالى : { الطلاق مرتان } ثم ذكر الخلع ثم قال : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } فلو كان طلاقا كانت أربعا ولا خلاف في تحريمها بثلاث ولأنه ليس بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كغيره من الكنايات فإذا قلنا : هو طلاق نقص به عدد طلاقها ومتى خالعها ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره وإن قلنا : هو فسخ لم ينقص به عدد طلاقها وحلت له من غير نكاح زوج ثان ولو خالعها مرارا
فصل :
وتبين بالخلع على كلتا الروايتين فلا يملك رجعتها لأنه عقد معاوضة فلم يملك الرجوع فيما اعتاض عنه كالبيع ولا يلحقها طلاقه ولو واجهها به لأنها بائن فلم يلحقها طلاقه كبعد العدة فإن طلقها بعوض وشرطه الرجعة فقال ابن حامد : يصح الخلع ويسقط الشرط لأن الخلع لا يفسد بالعوض الفاسد فلم يفسد بالشرط الفاسد كالنكاح قال القاضي : ويسقط المسمى وله صداقها لأنه إنما رضي به مع الشرط فإذا فسد الشرط وجب أن يرجع بما نقص لأجله فيصير مجهولا فيفسد ويجب الصداق ويحتمل أن يجب المسمى لأنه مسمى صحيح في عقد صحيح فوجب قياسا على الصداق في النكاح وفيه وجه آخر : أنه يسقط العوض وتثبت الرجعة لأن شرط العوض والرجعة يتنافيان فيسقطان ويبقى مجرد الطلاق وإن شرط الخيار في الخلع بطل الشرط وصح الخلع لأن الخيار في البيع لا يمنع نقل الملك ففي الخلع لا يمنع وقوعه ومتى وقع فلا سبيل إلى رفعه
فصل :
ويصح الخلع منجزا بلفظ المعاوضة لما فيه من المعاوضة ومعلقا على شرط لما فيه من الطلاق فأما المنجز بلفظ المعاوضة فهو أن يوقع الفرقة بعوض فيقول : خلعتك بألف أو طلقتك بألف أو أنت طالق بألف فتقول : قبلت كما يقول : بعتك هذا الثوب بألف فتقول : قبلت هذا قول القاضي وقياس قول أحمد : أنه يقع الطلاق رجعيا ولاشيء له لأنه أوقع الطلاق الذي يملكه ولم يعلقه بشرط وجعل عليها عوضا لم تبذله ولم ترض به فلم يلزمها فأما المعاوضة الصحيحة فمثل أن تقول المرأة : اخلعني بألف أو على ألف أو وعلي ألف فيقول : طلقتك كما تقول : بعني هذا الثوب بألف فيقول : بعتك ولا يحتاج إلى ذكر أو إعادة الألف في الجواب لأن الإطلاق يرجع إليه كما يرجع في البيع ولا يصح الجواب في هذا إلا على الفور ويجوز للرجل الرجوع في الإيجاب قبل القبول وللمرأة الرجوع في السؤال قبل الجواب كما يجوز في البيع وأما المعلق فيجوز أن يعلق الطلاق على دفع مال أو ضمانه فيقول : إن أعطيتني ألفا أو إذا أعطيتني ألفا أو متى أعطيتني ألفا أو متى ضمنت لي ألفا فأنت طالق فمتى ضمنتها له أو أعطته ألفا طلقت سواء كان على الفور أو التراخي لأنه تعليق للطلاق على شرط فوقع بوجود الشرط كما لو عري عن ذكر العوض ويكفي في العطية أن يحضر المال ويأذن في قبضه أخذ أو لم يأخذ لأن اسم العطية يقع عليه يقال : أعطيته فلم يأخذ فإن أعطته بعض الألف لم تطلق لأنه لم يوجد الشرط وإن قالت : طلقني بألف فقال : أنت طالق بألف إن شئت لم تطلق حتى تشاء لأنه علق على المشيئة فلم يقع إلا بها وسواء شاءت على الفور أو التراخي نص عليه لأنه جعل المشيئة شرطا فأشبه تعليقه على دخول الدار
فصل :
فإذا قال : أنت طالق وعليك ألف طلقت رجعية ولا شيء له لأنه لم يجعل الألف عوضا للطلقة ولا شرطا فيها إنما عطفه على الطلاق الذي يملك إيقاعه فوقع ما يملكه دون ما يملكه وإن قال : أنت طالق على ألف أو على أن عليك ألفا فعن أحمد : فيها مثل ذلك لأن ( على ) ليست حرف شرط ولا مقابله لهذا لا يصح أن تقول : بعتك ثوبي على ألف وقال القاضي : لا يقع الطلاق بها حتى تقبل ذلك لأنها أجريت مجرى الشرط والجزاء بدليل قوله تعالى في قصة شعيب : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } وقوله تعالى : { فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } فعلى هذا إذا قال أنت طالق على ألف أو بألف فقالت : قبلت واحدة بثلث الألف لم يقع لأنها لم تقبل ما بذله فأشبه ما لو قال : بعتك عبيدي الثلاثة ألف فقال : قبلت واحدا بثلث الألف وإن قالت : قبلت واحدة بألف وقع الثلاث واستحق الألف لأنه علق الثلاث على بذلها للألف وقد وجد فإن قال : أنت طالق ثلاثا واحدة منها بألف طلقت اثنين ووقعت الثالثة على قبولها ولو لم يبق من طلاقها إلا طلقة فقال : أنت طالق اثنتين الأولى بغير شيء والثانية بألف بانت الثالثة ولم يستحق شيئا وإن قال : الأولى بألف استحق الألف إذا قبلت
فصل :
وإذا قالت : طلقني بألف فقال : خلعتك ينوي به الطلاق أو قلنا : الخلع طلاق استحق الألف لأنه طلقها وإن لم ينو الطلاق وقلنا : ليس بطلاق لم يستحق العوض لأنها استدعت فرقة تنقص عدد طلاقه فلم يجبها إليه ويكون كالخلع بغير عوض ويحتمل أن لا يقع بها شيء لأنه إنما بذل خلعها بعوض فلم يحصل فلم يقع وإن قالت : اخلعني بألف فقال : طلقتك بألف وقلنا : الخلع فسخ ففيه وجهان :
أحدهما : له الألف لأن الطلاق بعوض نوع من الخلع ولأنها استدعت فرقة لا ينقص عدد طلاقها فأتى بفرقة تنقص عدد طلاقها وهذا زيادة
والثاني : لا يستحق شيئا لأنه لم يجبها إلى ما سألت وإن قالت : طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة وقعت رجعية ولا شيء له لأنه لم يجبها إلى ما سألت فإنها استدعت فرقة تحرم بها قبل زوج آخر فلم يجبها إليه وإن لم يكن بقي من عدد طلاقها إلا واحدة استحق الألف علمت أو لم تعلم لأن القصد تحريمها قبل زوج آخر وقد حصل ذلك وإن قالت : طلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثا طلقت ثلاثا وله الألف لأنه حصل ما طلبته وزيادة وإن قالت : طلقني عشرا بألف فطلقها ثلاثا استحق الألف في قياس المسألة التي قبلها لأنه حصل المقصود وإن طلقها أقل من ذلك لم يستحق شيئا لأنه لم يجب سؤالها
فصل :
فإن قالت : طلقني بألف إلى شهر فقال : إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق استحق الألف ووقع الطلاق عند رأس الشهر بائنا لأنه بعوض وإن طلقها قبل رأس الشهر طلقت ولا شيء له نص عليه لأنه إخبار بإيقاع الطلاق بغير عوض وإن قالت : لك علي ألف على أن تطلقني متى شئت من الآن إلى شهر فطلقها قبل رأس الشهر وقع الطلاق واستحق الألف لأنه أجابها إلى ما سألت وقال القاضي : تبطل التسمية وله صداقها لأن زمن الطلاق مجهول
فصل :
وإن قالت إحدى زوجتيه : طلقني وضرتي بألف ففعل صح الخلع فيهما لأن الخلع مع الأجنبي صحيح وإن طلق إحداهما لم يستحق شيئا لأنه لم يجبها إلى ما سألت فلم يستحق ما بذلت كما لو قال في المناضلة : من سبق بسهمين فله ألف فسبق أحدهما وقال القاضي : تبين المطلقة على الباذلة حصتها من الألف كما لو قال : من رد عبدي فله ألف فرد أحدهما وإن قالت : طلقني بألف على أن تطلق ضرتي بألف فكذلك سواء وقال القاضي : إذا لم يف بشرطها فله الأقل من المسمى في صداقها أو الألف
فصل :
وإن قال لزوجتيه : أنتما طالقتان بألف فقبلتا طلقتا وتقسطت الألف بينهما على قدر صداقهما وعلى قول أبي بكر يكون بينهما نصفين كقوله فيما إذا تزوجهما بألف وإن قبلت إحداهما بانت ولزمتها حصتها من الألف وإن كانت إحداهما غير رشيدة فقبلتا بانت الرشيدة بحصتها ولم تطلق الأخرى لأنها بذلت للعوض غير صحيح وإن قال : أنتما طالقتان بألف إن شئتما فقالتا : قد شئنا فهي كالتي قبلها إلا أن إحداهما إذا شاءت وحدها لم تطلق واحدة منهما لأن مشيئتهما معا شرط لطلاقهما فلا يوجد بدون شرطه فإن قالتا : قد شئنا وإحداهما صغيرة أو مجنونة فكذلك لأن مشيئتها غير صحيحة وإن كانت سفيهة طلقتا لأن مشيئتهما صحيحة وعلى الرشيدة حصتها من العوض ويقع طلاق السفيهة رجعيا ولا عوض عليها لأن بذلها غير صحيح
فصل :
وكل ما جاز صداقا جاز جعله عوضا في الخلع قليلا كان أو كثيرا وقال أبو بكر : لا يأخذ أكثر مما أعطاها فإن فعل رد الزيادة والأول المذهب لقول الله تعالى : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به }
وروت الربيع بنت معوذ قالت : اختلعت من زوجي فيما دون عقاص رأسي وأجازه عثمان ولأنه عوض عن ملك منافع البضع أشبه الصداق ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أمر ثابت بن قيس أن يأخذ من زوجته حديقته ولا يزداد رواه ابن ماجه وحكمه حكم الصداق في أنه إذا وجد عيبا خير بين قيمته وأخذ أرشه وفي أنه خالعها على عبد فبان حرا أو خلا فبان خمرا فله قيمة العبد ومثل الخل وإن خالعها بحر أو خمر يعلمانه وهما مسلمان فهو كالخلع بغير عوض لأنه رضي منها بما ليس بمال بخلاف ما إذا لم يعلم فأنه لم يرض بغير مال فرجع بحكم الغرور فإن كانا كافرين فأسلما أو تحاكما إلينا بعد قبضه فلا شيء له لأن حكمه مضى قبل الإسلام فإن أسلما قبله فظاهر كلام الخرقي أنه يجب له عوض لأنه لم يرض بغير عوض فأشبه المسلم إذا اعتقده عبدا أو خلا وقال القاضي في الجامع : لا شيء له : لأنه رضي بما ليس بمال فأشبه المسلم وقال في المجرد : لها مهر المثل لأن العوض فاسد يرجع إلى قيمة المتلف وهو مهر المثل ويحتمل أن يجب لها قيمة الحر لو كان عبدا وقيمة الخمر عند الكفار لأنه رضي بمالية ذلك فأشبه المسلم إذا اعتقده عبدا أو خلا
فصل :
ويصح الخلع على عوض مجهول في ظاهر المذهب وقال أبو بكر : لا يصح لأنه عقد معاوضة فلا يصح بالمجهول كالبيع ولنا أن الطلاق معنى يصح تعليقه بالشرط فجاز أن يستحق به المجهول كالوصية وفيه مسائل خمس :
أحدها : أن تخالعنه على ما في يدها من الدراهم فإن كان في يدها دراهم فهي له وإن لم يكن فيها دراهم فله ثلاثة نص عليه أحمد لأنه أقل ما يقع عليه اسم الدراهم حقيقة ولفظها دل على ذلك فاستحقه كما لو وصى له بدراهم
الثانية : تخالعه على ما في بيتها من المتاع فإن كان فيه متاع فهو له قليلا كان أو كثيرا لأن الخلع على المجهول جائز فهو كالوصية به وإن لم يكن فيه متاع فله أقل ما يقع عليه اسم المتاع كالمسألة قبلها وكالوصية وقال القاضي وأصحابه : له المسمى في صداقها لأنها فوتت عليه البضع بعوض مجهول فيجب قيمة ما فوتت عليه وهو صداقها وهو تعليل يبطل المسألة التي قبلها
الثالثة : خالعها على دابة أو حيوان أو بعير أو ثوب ونحو ذلك أو قال : إن أعطيتني دابة أو بعيرا أو بقرة فإن تطلق ويملك ما أعطيته من ذلك فإن اختلفتا فيما يجب له فالواجب أقل ما يقع عليه الاسم في قياس قول أحمد وفي قول القاضي وأصحابه : يجب له صداقها ووجه القولين ما تقدم
الرابعة : خالعتها على عبد مطلق أو قال : إن أعطيتني عبدا فأنت طالق فالحكم فيها كالتي قبلها قال أبو الخطاب : نص أحمد على أنه يملك العبد الذي أعطته وقال القاضي : له عبد وسط بناء على قوله في الصداق وقال أبو الخطاب : يجب له صداقها ووجههما ما تقدم
الخامسة : خالعها على ما يثمر نخلها أو على ما تحمل أمتها أو على ما في بطن الأمة من الحمل أو ما في ضرع الشاة من اللبن أو على ما في النخلة من التمر فله ما سمي له إن وجد منه شيء وإن لم يوجد منه شيء فقال القاضي في الجامع : لا شيء له لأنهما دخلا في العقد مع تساويهما بالعلم بالحال ورضاه بما فيه من الاحتمال فلم يكن له شيء كما لو خالعها على ما ليس بمال فإذا لم يستحق شيئا كان الخلع بغير عوض وقد قال أحمد : إذا خلع امرأته على ثمر نخلها سنين فجائز ترضيه بشيء قبل حمل نخلها قيل له : فإن حمل نخلها ؟ قال : هذا أجود من ذاك قيل له : يستقيم هذا ؟ قال : نعم جائز قال القاضي : قوله : ترضيه بشيء على طريق الاستحباب لأنه لو كان واجبا لتقدير بتقدير يرجع إليه وقال : وفي معنى هذا إذا خالعها على حكم أحدهما أو حكم أجنبي أو على ما في يدها أو بيتها أو بمثل ما خالع به فلان زوجته ونحو ذلك وقال أبو الخطاب : يرجع عليها بصداقها وقال ابن عقيل : إن خالعها على حمل أمتها فلم يخرج الولد سليما فله مهر المثل في هذه المواضع كلها لما تقدم
فصل :
إذا قال : إذا أعطيتني عبدا فأنت طالق فأعطته عبدا لها ملكه وطلقت سليما كان أو معيبا قنا أو مدبرا لأن اسم العبد يقع عليه فقد وجد شرط الطلاق وإن دفعت إليه حرا لم تطلق لأنها لم تعطه عبدا ولم تملكه شيئا وإن دفعت إليه عبدا مغصوبا لم تطلق لأن معنى العطية هاهنا التمليك ولم تملكه شيئا وإن قال : إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق فدفعته إليه فإذا هو حر أو مغصوب لم تطلق كذلك وعنه : تطلق وله قيمته وإن خرج معيبا لم يرجع عليه بشيء ذكره أبو الخطاب لأنه شرط لوقوع الطلاق فأشبه ما لو قال : إن ملكته فأنت طالق ثم ملكه وقال القاضي : له رده والرجوع بقيمته أو أخذ أرشه لأنها خالعته عليه أشبه ما لو قالت : اخلعني على هذا العبد فخلعها وقال - فيما إذا قال : إن أعطيتني عبدا فأنت طالق - : يلزمها عبد وسط كذلك وإن قال : إن أعطيتني ألف درهم فأنت طالق ونويا صنفا من الدراهم حمل العقد عليها وإن أطلقا حمل على نقد البلد كالبيع وإن لم يكن للبلد نقد غالب حمل على ما يقع عليه الاسم ولا يقع الطلاق بدفع ألف عددا ناقصة الوزن ولا تدفع نقرة زنتها ألف لأن الدراهم في عرف الشرع المضروبة الوازنة وإن دفعت إليه مغشوشة تبلغ فضتها ألفا طلقت بوجود الفضة وإن نقصت عنها لم تطلق لأن الدراهم اسم للفضة
فصل :
فإذا خالعها على رضاع ولده مدة معلومة صح وإن أطلق صح أيضا وينصرف إلى ما بقي من الحولين لأن الله تعالى قيده بحولين فينصرف الإطلاق إليه فإن ماتت المرضعة أو الصبي أو جف لبنها قبل ذلك فعليها أجرة المثل لما بقي من المدة لأنه عوض معين تلف قبل قبضه فوجبت قيمته أو مثله كما لو خالعها على قفيز فهلك قبل قبضه وإن خالعها على كفالة ولده عشر سنين صح ويرجع عند الإطلاق إلى نفقة مثله كما ذكرنا في الإجارة فإن مات في أثناء المدة فله بدل ما يثبت في ذمتها
فصل :
ويجوز التوكيل في الخلع من الزوجين ومن كل واحد منهما مع تقدير العوض وإطلاقه لأنه عقد معاوضة فجاز ذلك فيه كالبيع فإن وكل الزوج فخالع وكيله بما قدر له أو بزيادة عليه أو بصداقها عند الإطلاق أو زيادة عليه صح ولزم المسمى لأنه امتثل أمره أو زاد خيرا وإن خالع بدونه ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح اختاره ابن حامد لأنه خالف موكله فلم يصح تصرفه كما لو وكله في خلع امرأة فخالع أخرى
والثاني : يصح ويرجع على الوكيل بالنقص اختاره أبو بكر لأنه أمكن الجمع بين تصحيح التصرف ودفع الضرر فوجب كما لو لم يخالف وذكر القاضي وجهين آخرين :
أحدهما : يتخير الزوج بين قبول العوض ناقصا وبين رده وله الرجعة
والثاني : يسقط المسمى ويجب مهر المثل وإن عين له جنس العوض فخالع بغيره أو خالع عند الإطلاق بغير نقد البلد أو بمحرم لم يصح لأنه خالف موكله في الجنس أشبه ما لو وكله في بيع شيء فباع غيره فأما وكيل الزوجة فمتى خالع بالمقدر أو دونه أو بصداقها عند الإطلاق أو دونه : صح لأنه امتثل أو زاد خيرا وإن خالع بزيادة لم تلزمها لأنها لم تأذن فيها وتلزم الوكيل لأنه التزمها للزوج وقال القاضي : يلزمها مهر المثل
فصل :
إذا ادعى الزوج خلعها فأنكرته أو قالت : إنما خالعك غيري بعوض في ذمته بانت بإقراره والقول قولها في نفي العوض مع يمينها لأنها منكرة وإن ادعته المرأة فأنكرها فالقول قوله ولا شيء عليه لأنه لا يدعيه وإن اتفقا على الخلع واختلفا في قدر العوض أو جنسه أو صفته أو حلوله فالقول قول المرأة نص عليه لأن القول قولها في أصله فالقول قولها في صفته ولأنها منكرة للزيادة المختلف فيها والقول قول المنكر وإن أقرت وقالت : إنها في ضمان زيد لزمتها الألف ولم يلزم زيدا شيء إلا أن يقر به

كتاب الطلاق
وهو على خمسة أضرب :
واجب هو : طلاق المؤلي بعد التربص إذا أبى الفيئة وطلاق الحكمين في الشقاق إذا رأياه
ومكروه وهو : الطلاق من غير حاجة لما روى محارب بن دثار عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] رواه أبو داود وعنه : أنه محرم لأنه يضر بنفسه وزوجته وقد قال عليه السلام : [ لا ضرر ولا ضرار ]
ومباح وهو : عند الحاجة إليه لضرر بالمقام على النكاح فيباح له دفع الضرر عن نفسه
ومستحب وهو : عند تضرر المرأة بالنكاح إما لبغضه أو غيره فيستحب إزالة الضر عنها وعند كونها مفرطة في حقوق الله الواجبة عليها كالصلاة ونحوه وعجزه عن إجبارها عليه أو كونها غير عفيفة لأن في إمساكها نقصا ودناءة وربما أفسدت فراشه وألحقت به ولدا من غيره وعنه : أن الطلاق هاهنا واجب قال في مسألة إسماعيل بن سعيد : هل يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي ولا تغتسل من جنابة ولا تتعلم القرآن ؟ أخشى أن لا يجوز المقام معها وقال : لا ينبغي له إمساك غير العفيفة
ومحظور وهو : طلاق المدخول بها في حيضها أو في طهر أصابها فيه ويسمى : طلاق البدعة لمخالفته أمر الله تعالى في قوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وروى ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء ] متفق عليه ولأن طلاق الحائض يضر بها لتطويل عدتها والمصابة ترتاب فلا تدري أذات حمل هي فتعتد بوضعه ؟ أم حائل فتعتد بالقرء ؟ ويحتمل أن يتبين حملها فيندم على فراقها مع ولدها فأما غير المدخول بها فلا يحرم طلاقها لأنها لا عدة عليها تطول والصغيرة التي لا تحمل والآيسة لا يحرم طلاقهما لأنه لا ريبة لهما ولا ولد يندم على فراقه وكذلك الحامل التي استبان حملها لا يحرم طلاقها لما روى سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ] أخرجه مسلم ولأنه لا ريبة لها ولا يتجدد لها أمر يتجدد به الندم لأنه على بصيرة من حملها
فصل :
ويقع الطلاق في زمن البدعة لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالرجعة ولا يكون إلا بعد طلاق ويستحب ارتجاعها لأمر النبي صلى الله عليه و سلم بها ولأنه يزيل الضرر الحاصل بالطلاق ولا يجب لأنه بمنزلة ابتداء النكاح أو استدامته وكلاهما غير واجب وعنه : أن الرجعة واجبة لظاهر الأمر ومتى ارتجعها أبيح له طلاقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها قبل إصابتها لأن في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق متفق عليه
فصل :
والأولى أن يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها لقول الله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } إلى قوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وهذا لا يمكن إذا جمع الثلاث وقال علي : لو أن الناس أخذوا بما أمر الله تعالى من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا فمتى شاء راجعها وهل يحرم جمع الثلاث ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يحرم لمخالفته أمر الله في الطلاق واحدة وروى محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فغضب وقال : [ أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ ! ] حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله ؟ رواه النسائي ولأنه حرم بالقول امرأته لغير حاجة فحرم كالظهار
والثانية : لا يحرم لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات ولم ينقل إنكاره عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه طلاق يجوز تفريقه فجاز جميعه كطلاق النسوة و متى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره لما روي أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله لقد طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والله ما أردت إلا واحدة ؟ ] فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة فقال : [ هو ما أردت ] فردها إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه الترمذي و الدارقطني و أبو داود وقال : الحديث صحيح فلو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى
فصل :
ويملك الحر ثلاث تطليقات لقوله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وروى أبو رزين قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : قول الله تعالى : { الطلاق مرتان } فأين الثالثة ؟ قال : { تسريح بإحسان }
ويملك العبد اثنتين حرة كانت زوجته أو أمة لما روي أن مكاتبا لأم سلمة طلق امرأته و كانت حرة تطليقتين فأراد رجعتها فذهب إلى عثمان رضي الله عنه فوجده آخذ بيد زيد بن ثابت فقالا : حرمت عليك حرمت عليك والمكاتب والمعتق بعضه كالقن في ذلك لأنه لم تكمل الحرية فيه
فصل :
وإن طلق العبد زوجته تطليقتين ثم عتق ففيه روايتان :
إحداهما : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لأنه استوفى عدد طلقاتها فأشبه الحر إذا طلق ثلاثا
والثانية : له أن ينكحها وتكون عنده على طلقة واحدة لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قضى بذلك رواه النسائي وهو قول ابن عباس وجابر
ويصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار فأما غير الزوج فلا يصح طلاقه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الطلاق لمن أخذ بالساق ] وروى الخلال بإسناده عن علي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا طلاق قبل نكاح ] وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( ص ) قال : [ لا طلاق إلا فيما تملك ] رواه أبو داود و الترمذي فلو قال : إذا تزوجت فلانة أو امرأة فهي طالق ثم تزوجها لم تطلق للخبر ولأنه حل لقيد النكاح قبله فلم يصح كما لو قال لأجنبية : إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم تزوجها وعن أحمد : ما يدل على أنها تطلق إذا تزوجها لأنه يصح تعليقه على الشرط فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية وأما الصبي العاقل ففيه روايتان :
إحداهما : لا يقع طلاقه حتى يحتلم لقول النبي ( ص ) : [ رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ] ولأنه غير مكلف أشبه الطفل
والثانية : أنه إن كان ابن عشر وعقل الطلاق صح طلاقه اختاره الخرقي لأنه يروى عن النبي ( ص ) أنه قال : [ كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله ] أخرجه الترمذي ولأنه عاقل أشبه البالغ وأما الطفل والمجنون والنائم والزائل العقل لمرض أو شرب دواء أو إكراه على شرب الخمر فلا يقع طلاقه لقول النبي ( ص ) : [ رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المحنون حتى يفيق ] فيثبت في الثلاثة بالخبر وفي غيرهم بالقياس عليهم فأما السكران لغير عذر والشارب لما يزيل عقله لغير حاجة ففيه روايتان :
إحداهما : يقع طلاقه اختاره الخلال و القاضي لما روى أبو وبرة الكلبي قال : أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلي و طلحة والزبير وعبد الرحمن فقلت : إن خالدا يقول : إن الناس انهمكوا في الخمر وتحاقروا عقوبته فقال عمر : هؤلاء عندك فسلهم فقال علي : نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فقال عمر : أبلغ صاحبك ما قالوا فجعلوه كالصاحي في فريته وأقاموا مظنة الفرية مقامها ولأنه مكلف فوقع طلاقه كالصاحي
والثانية : لا يقع طلاقه اختارها أبو بكر لأن ذلك قول عثمان صح ذلك عنه ولأنه زائل العقل أشبه المجنون وفي قتله وقذفه وسرقته وعتقه ونذره وبيعه وشرائه مثل ما في طلاقه والأولى أنه لا يصح منه تصرف له فيه حظ لأن تصحيح ما عليه إنما كان تغليظا عليه فيبقى في ماله على الأصل
فصل :
فأما المكره على الطلاق بحق كالذي وجب عليه الطلاق فأكرهه الحاكم عليه صح منه لأنه قول حمل عليه بحق فصح كإسلام المرتد وإن أكره بغير حق لم يقع طلاقه لقول النبي ( ص ) : [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه قول حمل عليه بغير حق أشبه الإكراه على كلمة الكفر ولا يكون مكرها إلا بشروط ثلاثة :
أحدها : أن يكون المكره قادرا على فعل ما توعده به لا يمكن دفعه عنه
الثاني : أن يغلب على ظنه فعل ما توعد به إن لم يفعل
الثالث : أن يكون ضرره كبيرا غير محتمل كالقطع والقتل والحبس الطويل والإخراج من الديار وأخذ المال والإحراق بمن يغض ذلك منه من ذوي الأقدار فأما من لا يغض ذلك منه والمهدد بالشتم أو الضرب اليسير ونحوه فليس بمكروه واختلفت الرواية في نيله بشيء من العذاب هل يشترط في الإكراه أم لا ؟
فعنه : هو شرط ولا يكون الوعيد بمجرده إكراها هذا الذي ذكره الخرقي ولأن عمر قال : ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أوجعته أو أوثقته ولأن الوعيد بمجرده لا يتحقق وقوعه به
والثانية : ليس بشرط وهو الصحيح لأن الوعيد بالمستقبل هو المبيح دون ما مضى منه لكون الماضي لا يمكن دفعه وقد استويا في الوعيد فيستويان في عدم الوقوع ولأن المهدد بالقتل إذا امتنع قتل فوجب أن تثبت الإباحة بمجرد التهديد دفعا لضرر القتل عنه
فصل :
وأما السفيه المبذر فيقع طلاقه لأنه زوج مكلف فيقع طلاقه كالرشيد والحجر : إنما هو في ماله لا في غيره
فصل :
وإن قال العجمي لامرأته : أنت طالق ولا يعلم معناه لم تطلق لأنه لم يختر الطلاق لعدم علمه بمعناه فإن نوى موجبه لم يقع لأنه لم يتحقق اختياره لما لا يعلمه فأشبه ما لو نطق بكلمة الكفر من لا يعرف معناها ويحتمل أن تطلق لأنه أتى بالطلاق ناويا مقتضاه فوقع كما لو علمه وهكذا العربي إذا نطق بلفظ الطلاق بالعجمية غير عالم بمعناه
فصل :
وإذا طلق جزءا من زوجته كثلثها وربعها أو عضوا منها كيدها وإصبعها طلقت لأنه لا يتبعض فإضافته إلى البعض إضافة إلى الجميع كالقصاص وإن أضافه إلى الشعر والسن والظفر لم يقع لأن هذه تزول ويخرج غيرها فلم يقع بإضافته إليها كالريق وإن أضافه إلى الريق والدمع والعرق لم يقع لأنه ليس من ذاتها إنما هو مجاور لها وإن أضافه إلى سوادها أو بياضها لم يقع لأنه عرض ليس من ذاتها وإن أضافه إلى روحها فقال أبو بكر : لا يقع لأنها ليس عضوا ولا جزءا لا شيئا يستمتع به و لا يحل العقد به وقال أبو الخطاب : يقع بإضافته إلى روحها ودمها لأن دمها من أجزائها فهو كلحمها وروحها بها قوامها وإن أضافه إلى الحمل لم يقع لأنه ليس من أعضائها وإنما هو مودع فيها
فصل :
إذا قال لزوجته : أنا منك طالق لم تطلق لأنه محل لا يقع الطلاق بإضافته إليه من غير نية فلم يقع بنية كالأجنبي ولأنه لو قال : أنا طالق لم يقع به طلاق فكذلك إذا قال : أنا منك طالق كالأجنبي وإن قال : أنا منك بائن أو بريء ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقع طلاقه لأنه لا يقع بإضافة صريحة إليه فكذلك كنايته
والثاني : يقع لأن البينونة والبراءة يوصف بها الرجل فيقال : بان منها وبانت منه ولأنه عبارة عن قطع الوصلة التي بينهما فصح إضافته إلى كل واحد منهما

باب صريح الطلاق وكنايته
لا يقع الطلاق بمجرد النية لأنه إزالة ملك فلا يحصل بمجرد النية كالعتق ولو قال : أنت ونوى الطلاق وأشار بإصبعه لم يقع لأنه ليس من كنايات الطلاق ولا صريحة ولا يقع الطلاق إلا بصريح أو كناية فالصريح : لفظ الطلاق وما تصرف منه لأنه موضوع له على الخصوص يثبت له عرف الشرع والاستعمال فإذا قال : أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك أو يا مطلقة فهو صريح وذكر أبو بكر في قوله : أنت مطلقة رواية أخرى أنه ليس بصريح لأنه يحتمل أنه يريد طلاقا ماضيا والمذهب الأول لأنه متصرف من لفظ الطلاق فكان صريحا كقوله : طلقتك ولو قيل له : أطلقتك امرأتك ؟ قال : نعم كان صريحا لأن الجواب يرجع إلى السؤال فصار كالملفوظ به ولو قال : قد كان بعض ذلك وفسره بتعليقه على شرط قبل لأنه محتمل وإن قال : أنت الطلاق فهو صريح نص عليه لأنه لفظ بالطلاق وهو مستعمل في عرفهم قال الشاعر :
( فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما )
ويحتمل أن يكون صريحا لأنه وصفها بالمصدر وأخبر به عنها وهذا تجوز وفي لفظ الفراق والسراح وجهان :
أحدهما : هو صريح اختاره الخرقي لأنه ورد في القرآن فهو كلفظ الطلاق
والثاني : ليس بصريح اختاره ابن حامد لأنه موضوع لغيره يكثر استعماله في غير الطلاق أشبه سائر كناياته ما عدا هذا فليس بصريح لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال وإن لطم زوجته وقال : هذا طلاقك فهو صريح ذكره ابن حامد وذكره القاضي : أنه منصوص أحمد لأنه أتى بلفظ الطلاق وكذلك على قياسه إن أطعمها وقال : هذا طلاقك
فصل :
وإذا أتى بصريح الطلاق وقع نواه أو لم ينوه جادا كان أو هازلا لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة ] رواه الترمذي وقال حديث حسن وإذا أراد التلفظ بغير الطلاق فسبق لسانه إليه كأن أراد : أنت طاهر فسبق لسانه إلى : أنت طالق أو أراد : فارقتك بقلبي أو ببدني أو سرحتك من يدي أو سرحت رأسك أو طلقتك من وثاقي لم تطلق لأنه عنى بلفظه ما يحتمله فوجب صرفه إليه فإذا ادعى ذلك دين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه محتمل فأما في الحكم فإن كان ذلك في حال الغصب أو سؤالها الطلاق لم يقبل لأنه يخالف الظاهر من وجهين مقتضى اللفظ ودلالة الحال وإن كان في غيرهما فظاهر كلام أحمد أنه يقبل لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد فقبل كما لو كرر لفظة الطلاق وأراد بالثانية التأكيد وعنه : لا يقبل لأنه يخالف الظاهر فلم يقبل كما لو أقر بدرهم ثم فسره بدرهم صغير أو رديء وإن نطق بهذه الصلاة لم يقع الطلاق وجها واحدا لأنه وصل كلامه بما يغير مقتضاه فأشبه ما لو وصله بشرط أو قال : له علي درهم صغير وإن قال : طلقت زوجتي وقال : أردت في نكاح غير هذا أو قال : يا مطلقة وقال : أردت من زوج قبلي دين في ذلك فأما في الحكم فإن لم يكن وجد لم يقبل لأنه لا يحتمله وإن كان وجد فهل يقبل ؟ على وجهين لما ذكرناه
فصل :
وما عدا الصريح في الألفاظ قسمان :
أحدهما : ما لا يشبه الطلاق ولا يدل على الفراق كقوله : اقعدي واقربي وقومي وكلي واشربي وأطعميني واسقيني وما أحسنك وبارك الله عليك وأنت جميلة أو قبيحة ونحو هذا فلا يقع به طلاق وإن نواه لأنه لا يحتمل الطلاق ولو أوقعناه لوقع بمجرد النية ولا سبيل إليه
والثاني : ما يشبه الطلاق ويدل على ما معناه فهو كناية فيه إن نوى به الطلاق وقع لأنه نوى بكلامه ما يحتمله وإن لم ينو شيئا ولا دلت عليه قرينة لم يقع لأنه ظاهر في غير الطلاق فلم يصرف إليه عند الإطلاق كما لا ينصرف الصريح إلى غيره وإن كان جوابا لسؤالها الطلاق وقع نص عليه لدلالة الحال عليه فإن الجواب مبني على السؤال فيصرف إليه كما لو قيل : أطلقت ؟ فقال : نعم وإن أتى بالكناية حال الخصومة والغضب ففيه روايتان :
إحداهما : يقع الطلاق لأن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال لذلك كان قول حسان :
( فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد )
مدحا جميلا وقول النجاشي :
( قبيلة لا يغدون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل )
هجاء قبيحا مع استوائهما في الخبر عن الوفاء بالذمة لدلالة الحال عليه
والثانية : لا يقع لأنه ليس بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يقع به الطلاق كحال الرضى ويتخرج من جواب السؤال مثل ذلك ويحتمل التفريق بين الكنايات فيما كثر استعماله منها في غير الطلاق كقوله : اذهبي واخرجي وروحي لا يقع بغير نية بحال لأنه أتى بما جرت العادة باستعماله بغير الطلاق كثيرا فلم يكن طلاقا كحال الرضى وما ندر استعماله كقوله : اعتدي وحبلك على غاربك وأنت بائن وبتة إذا أتى في حال الغضب أو سؤال الطلاق كان طلاقا لدلالة استعمال المخالف لعادته في خصوص هذه الحال على إرادة الفراق فأما إن قصد بالكناية غير الطلاق لم يقع على كل حال لأنه لو قصد ذلك بالصريح لم يقع فالكناية أولى
فصل :
والكنايات ثلاثة أقسام : ظاهرة وخفية ومختلف فيها
فالظاهرة ستة ألفاظ : خلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وأمرك بيدك وفيها روايتان :
إحداهما : هي ثلاث وإن نوى واحدة لأن ذلك يروى عن علي وابن عمر وزيد رضي الله عنهم ولم ينقل خلفهم في عصرهم فكان إجماعا ولأنه لفظ يقتضي البينونة بالطلاق فوقع ثلاثا كما لو طلق ثلاثا
والثانية : يقع ما نواه اختاره أبو الخطاب لحديث ركانة الذي قدمناه ولأنه أحد نوعي الطلاق فإذا نوى به واحدة لم يزد عليها كالصريح فإن لم ينو شيئا وقع ثلاثا وروى عن حنبل : أنه يقع به واحدة بائنة لأنه لفظ البينونة دون العدد فوقعت واحدة بائنة بالخلع
فأما الخفية فنحو اخرجي واذهبي وذوقي وتجرعي وأغناك الله لقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } وأشباه هذا فهذا يقع به ما نواه لأنه محتل له وإن لم ينو شيئا وقعت واحدة لأنه اليقين
وأما المختلف فيها فالحقي بأهلك وحبلك على غاربك وتزوجي من شئت واعتدي وغطي شعرك وأنت حرة وقد أعتقتك ولا سبيل لي عليك وأنت علي حرج ففيها روايتان :
إحداهما : هي ظاهرة لأنها في معنى الظاهرة والأخرى في خفية لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما دخلت عليه ابنة الجون قال : [ لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك ] متفق عليه
ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليطلق ثلاثا وقد نهى أمته عنه وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لسودة بنت زمعة اعتدي فجعلها طلقة ] متفق عليه وفي معنى هذه الفظات : استبرئي رحمك وحللت للأزواج وتقنعي و لا سلطان لي عليك فيخرج فيها وجهان
فصل :
فإن قال : أنت علي حرام ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : أنها ظهار نوى الطلاق أو لم ينوه ذكره الخرقي لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس ولأنه صريح في تحريمها فكان ظهارا كقوله : أنت علي كظهر أمي
والثانية : هو كناية في الطلاق لأنه يروى عن علي وزيد وابن مسعود وأبي هريرة ولأن الطلاق تحريم فصحت الكناية عنه بالحرام كقوله : أنت الحرج فإن لم ينو الطلاق كان ظهارا فعلى هذه الروية تكون كناية ظاهرة فيها من الخلاف مثل ما تقدم
والثالثة : أنه يرجع فيه إلى نيته إن نوى اليمين كان يمينا لأن ذلك يروى عن الصديق وعمر وعائشة رضي الله عنهم ولأنه تحريم لامرأة فكان يمينا كتحريم الأمة وإن قال : أنت علي حرام : أعني به الطلاق : ففيه روايتان :
إحداهما : أنه طلاق وهي المشهورة لأنه صريح بلفظ الطلاق
والثانية : هي ظهار لأنه لا يصلح كناية في الطلاق فلم يصير طلاقا لقوله أعني به الطلاق كقوله : أنت علي كظهر أمي وإن قال : أنت علي كظهر أمي ينوي به الطلاق كان ظهارا ولم يقع به الطلاق لأنه صريح في الظهار فلم يكن كناية في غيره ولو صرح به فقال : أعني به الطلاق لم يصر طلاقا لأنه لا تصلح الكناية به
وإن قال : أنت علي كالميتة والدم ونوى به الطلاق فهو طلاق لأنه يشبه الطلاق فصح أن يكني به عنه وإن نوى الظهار كان ظهارا لأنه يشبهه وإن نوى اليمين كان يمينا لأنه يشبهها وإن لم ينو شيئا ففيه وجهان :
أحدهما : يكون ظاهرا لأن معناه : أنت علي حرام كالميتة والآخر يكون يمينا ولا يكون طلاقا لأنه ليس بصريح فلا يقع الطلاق به من غير نية
فصل :
ويجوز للرجل تفويض الطلاق إلى زوجته لما روت عائشة قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : [ إني لمخبرك خبرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك ] ثم قال : إن الله تعالى قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } حتى بلغ : { فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } فقلت : في أي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مثل ما فعلت متفق عليه وهو على ضربين :
أحدهما : تفويضه بلفظ صريح فيقول : طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها واحدة ليس لها أكثر منها لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم كما لو وكل فيه أجنبيا إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته نص عليه لأنه نوى بكلامه ما يحتمله والقول قوله في نيته لأنه أعلم بها ولها أن تطلق بلفظ الصريح والكناية مع النية لأن الجميع طلاق فيدخل في لفظه ولها أن تطلق متى شاءت لأنه توكيل في الطلاق مطلق فأشبه توكيل الأجنبي وقال القاضي : يتقيد بالمجلس قياسا على التخيير
والثاني : تفويضه إليها بلفظ الكناية وهو نوعان :
أحدهما : أن يقول : أمرك بيدك فيكون لها أن تطلق نفسها ما شاءت ومتى شاءت لأنه نوع توكيل بلفظ يقتضي العموم في جميع أمرها فأشبه ما لو قال : طلقي نفسك ما شئت ومتى شئت وقد روي عن علي في رجل جعل أمر امرأته بيدها قال : هو لها حتى ينكل وعن أحمد ما يدل على أنه إن نوى واحدة فهي واحدة لأنه نوع تخيير فرجع إلى نيته كالتخيير
والثاني : أن يقول لها : اختاري فليس لها أن تختار أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته كما ذكرنا في قوله : طلقي نفسك وليس لها أن تختار إلا عقيب تخييره قبل أن يقطعا ذلك بالأخذ في كلام غيره أو قيام أحدهما عن مجلسه لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم ولأنه خيار تمليك فكان على الفور كخيار القبول وإن جعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته أو قرينة فهو على ما جعل إليها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة : [ فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك ] وللزوج الرجوع فيما فوضه إليها قبل تطليقها لأنه نوع تفويض فملك الرجوع فيه كتوكيل الأجنبي وإن وطئها كان رجوعا لدلالته على رغبته فيها ورجوعه عما جعل إليها
فصل :
ولفظة الخيار وأمرك بيدك كناية عن حق الزوج لأنه ليس بصريح في إرادة الطلاق فلم ينصرف إليه بغير نية وإن نوى به إيقاع الطلاق في الحال وقع لأنه يصلح كناية عن الطلاق فأشبه سائر كناياته وإن نوى به التفويض فطلقت نسها بلفظ صريح وقع من غير نية وإن لم تختر شيئا لم يقع بها شيء وكذلك إن اختارت زوجها لأن النبي صلى الله عليه و سلم خير أزواجه فاخترنه فلم يكن طلاقا قالت عائشة رضي الله عنها : ( خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يكن طلاقا ) ولأنه تفويض للطلاق إليها فلم يقع به بمجرده طلاق كقوله : طلقي نفسك وإن قالت : قبلت فليس بشيء لأن ذلك ينصرف إلى قبول التفويض فهو كقبول التوكيل وأن قالت : اخترت نفسي أو أهلي أو أبوي أو الأزواج أو ألا تدخل علي ونحو هذا مما يحتمل إرادة الطلاق فهو كناية يفتقر إلى النية لأنه ليس بصريح فاعتبرت النية فيه كالكنايات فإن نوت به الطلاق كان طلاقا وإلا فلا ويقع به واحدة إلا أن ينوي الثلاث إذا جعل إليها ثلاثا وإن ملكها ثلاث تطليقات بلفظه أو بنيته فطلقت ثلاثا وقع ثلاثا وإن طلقت أقل منها وقع لأن من ملك ثلاثا ملك واحدة كالزوج وإن قال : اختاري فاختارت نفسها ونويا ثلاثا وقع الثلاث وإن نوى أحدهما طلقة والآخر أكثر منها وقعت طلقة لأن الطلاق يفتقر إلى تمليك الزوج وإيقاع المرأة فالزائد لم يوجد فيه إلا أحدهما فلم يقع
فصل :
وإن قال لزوجته : وهبتك لنفسك أو لأهلك فهو كناية وإن نوى به الإيقاع وقع وإن لم ينو الإيقاع في الحال فهو كناية عن حقهما يفتقر إلى قبولهم والنية من الزوج ومنهم لأنه ليس بصريح فإن نويا الطلاق دون العدد وقعت واحدة يملك الرجعة وإن نويا جميعا عددا وقع وإن نوى أحدهما أكثر من الآخر وقع الأقل لاتفاقهما عليه وإن ردوها لم يقع شيء لأنه تمليك للبضع فافتقر إلى القبول كقوله : اختاري وإن باعها لغيره لم يقع به طلاق وإن نوى لأنه لا يتضمن معنى الطلاق لكونه معاوضة والطلاق مجرد إسقاط
فصل :
ويصح تفويض الطلاق إلى غير الزوجة لأنه إزالة ملك فصح التوكيل فيه كالعتق فإن قال لرجل : طلق زوجتي أو أمرها بيدك فالحكم فيها كالحكم في جعل ذلك إلى الزوجة على ما مضى فإن وكل اثنين لم يملك أحدهما طلاقا منفردا وإن جعل إليهما طلاقا ثلاثا فطلقها أحدهما ثلاثا والآخر واحدة وقعت واحدة لاتفاقهما عليها ولو لم يبق من طلاقها إلا واحدة فطلقها الوكيل ثلاثا وقعت الواحدة لأن المحل لا يتسع لأكثر من هذا
فصل :
لا يقع الطلاق بغير اللفظ إلا في موضعين :
أحدهما : الأخرس : إن أشار بالطلاق وقع طلاقه لأنه يحتاج إلى الطلاق فقامت إشارته فيه مقام نطق غيره كالنكاح ويقع في العدد ما أشار إليه لأن إشارته كلفظ غيره وأما غير الأخرس فلا يقع الطلاق بإشارته لأنه لا ضرورة به إليها فلم يصح منه بها كالنكاح
الثاني : إذا كتب طلاق زوجته ونواه وقع لأنه حروف يفهم منها صريح الطلاق أشبه النطق وإن كتب صريح الطلاق من غير نية ففيه روايتان :
إحداهما : يقع لذلك
والثانية : لا يقع لأن الكناية تحتمل الطلاق وامتحان الخط وغيره فلم تطلق بمجردها كالكنايات وإن قصد بالكناية امتحان الخط أو غير الطلاق لم يقع لأنه لو قصد بالنطق غير الطلاق لم يقع فالكناية أولى وإن قصد غم أهله فظاهر كلام أحمد أنه يقع لأن ذلك لا ينافي الوقوع فيغم أهله بوقوع الطلاق بهم وعنه : فيمن قصد تجويد الخط أنه يقع طلاقه لأنه يتنافى تجويد الخط وإيقاع الطلاق وإن ادعى إرادة ما ينفي وقوع الطلاق دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين وإن كتبه بشيء لا يتبين ككتابته بإصبعه على وسادة أو في الهواء فظاهر كلام أحمد : أنه لا يقع لأن الكتابة بما لا يتبين كالهمس بلسانه بما لا يسمع وقال أبو حفص : يقع لأنه كتب حروف الطلاق أشبه كتابته بما يبين

باب ما يختلف به عدد الطلاق
إذا قال لزوجته : أنت طالق ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى واحدة لأن لفظه نص في الثلاث لا يحتمل غيرها والنية إنما تصرف اللفظ إلى بعض محتملاته فإن قال : أنت طالق واحدة فهي واحدة وإن نوى ثلاثا لأن لفظه لا يحتمل أكثر منها وكذلك إن قال : أنت واحدة وإن قال : أنت طالق ولم ينو عددا فهي واحدة وإن نوى ثلاثا أو اثنتين : ففيه روايتان :
إحداهما : لا يقع إلا واحدة لأن لفظه لا يتضمن عددا ولا بينونة فلم يقع به ثلاث كالتي قبلها
والثانية : يقع به ما نواه لأنه نوى بلفظ ما يحتمله بدليل أنه يصح تفسيره به فأشبه الكناية وإن قال : أنت طالق طلاقا أو الطلاق وقع ما نواه لأنه صرح بالمصدر وهو يقع على القليل والكثير وإن أطلق وقع بقوله : أنت طالق طلاقا واحدة لأنه اليقين وفي قوله : طالق الطلاق روايتان :
إحداهما : تطلق ثلاثا لأن الألف واللام للاستغراق
والثانية : تقع واحدة لأن الألف واللام اشتهر استعمالها في الطلاق لغير الاستغراق كقوله : [ أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] وإن قال : فارقتك لزمه الطلاق ومن أكره على الطلاق وكذلك في غيره من الأجناس كقوله : [ اغسليه بالماء ] و [ عليك الصعيد ] و [ تيمم بالتراب ] فيجب حمله على اليقين وهكذا إن قال : أنت الطلاق أو الطلاق يلزمني أو لازم لي أو علي الطلاق أو أنت علي حرام أعني به الطلاق فحكم به على ما ذكرنا وقد نص أحمد فيمن قال : أنت علي حرام أعني به الطلاق أنه ثلاث ومن قال : أعني به طلاقا فهي واحدة
فصل :
فإن قال : أنت طالق كل الطلاق أو جميعه أو أكثره أو منتهاه طلقت ثلاثا لأن ذلك هو الطلاق الثلاث وإن قال : أنت طالق كعدد الماء أو الريح أو التراب أو كألف طلقت ثلاثا لأنه يقتضي العدد فإن قال : أنت طالق طلقة صعوبتها كألف قبل لأنه يحتمل ما قاله وإن قال : أنت طالق ملء الدنيا أو اشد الطلاق أو أغلظه أو أطوله أو أعرضه طلقت واحدة لأن ذلك لا يقتضي عددا والطلقة الواحدة توصف بكونها ملء الدنيا ذكرها وإنها أشد الطلاق عليها لضررها به فلم يقع الزائد بالشك فإن نوى ثلاثا وقعت لأن اللفظ يحتملها
فصل :
وإن قال : أنت طالق من واحدة إلى ثلاث طلقت طلقتين لأن ما بعد الغاية لا يدخل فيها بمقتضى اللفظ وإن احتمل دخوله لم نوقعه بالشك وعنه : تطلق ثلاثا لأن ما بعد إلى قد يدخل مع ما قبلها كقوله : { وأيديكم إلى المرافق }
فصل :
وإن قال : أنت طالق طلقة في طلقتين ونوى الثلاث وقع لأن ( في ) تستعمل في بعنى ( مع ) كقوله تعالى : { فادخلي في عبادي } وإن نوى واحدة لم يقع أكثر منها لأنه إنما أوقع واحدة وإن أطلق ولا يعرف الحساب وقعت واحدة فتطلق بقوله : أنت طالق ولا يقع بقوله : في ثنتين شيء لأنه لا يعرف مقتضاه ويحتمل أنه إن كان في عرفهم استعمال ذلك للثلاث طلقت ثلاثا لأن الظاهر إرادة ما تعارفوه فإن نوى موجبه في الحساب احتمل أن تكون نيته كعدمها قاله القاضي واحتمل أن تطلق طلقتين وهذا قول ابن حامد ووجه القولين ما ذكرنا فيما إذا نوى العجمي بلفظ الطلاق موجبه عند العرب فإن كان يعرف الحساب وقع طلقتان لأن ذلك موجبه عندهم وإن لم ينو فقال أبو بكر : يقع طلقتان لأنه موضوعه عندهم ويحتمل أن تقع واحدة لما ذكرنا في غير الحاسب
فصل :
فإن قال : أنت طالق طلقة بل طلقتين وقع طلقتان نص عليه لأن ما لفظ به بعد الإضراب يدخل فيه ما لفظ قبله فلم يلزمه أكثر منه كما لو قال : له علي درهم بل درهمان وإن قال : أنت طالق طلقة بل طلقة طلقت واحدة كما لو قال : له علي درهم بل درهم وهكذا إن قال : أنت طالق بل طالق نص عليه ويحتمل أن يقع طلقتان وإن نوى به طلقتين وقع طلقتان لأنه قصد إيقاع طلقتين بلفظين وإن قال : أنت طالق بل هذه الأخرى طلقتا معا لأنه أوقعه بكل واحدة منهما فأشبه ما لو قال : له علي هذا الدرهم بل هذا ولو قال : أنت طالق واحدة بل هذه ثلاثا طلقت الأولى واحدة والثانية ثلاثا وإن قال : أنت طالق هكذا وأشار بأصابعه الثلاث طلقت ثلاثا لأن التفسير يحصل بالإشارة بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الشهر هكذا وهكذا و هكذا ] فإن قال : أردت بعدد المقبوضتين قبل منه لأنه يحتمله
فصل :
وإذا طلقها جزءا من طلقة طلقت واحدة لأن ذكر بعض ما لا يتبعض كذكر جميعه كما لو قال : نصفك طالق وإن قال : أنت طالق نصفي طلقة طلقت طلقة لأن ذلك طلقة وإن قال : ثلاثة أنصاف طلقة طلقت طلقتين لأنه طلقة ونصف فيكمل النصف بالسراية فتصير طلقتين وإن قال نصف طلقتين طلقت واحدة لأن نصف الطلقتين طلقة وإن قال : أدرت من كل واحدة جزءا طلقت طلقتين لأنه أقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال نصفي طلقتين وقعت طلقتان لأن نصفي الشيء كله وإن قال : ثلاثة أنصاف طلقتين طلقت ثلاثا لأن نصف الطلقتين طلقة وقد كرره ثلاثا ويحتمل أن يقطع طلقتان ويكون معناه : ثلاثة أنصاف من طلقتين وإن قال : أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة أو نصف وثلث وسدس طلقة طلقت طلقة لأن هذه أجزاء طلقة وإن قال : نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة طلقت ثلاثا لأنه عطف جزء الطلقة على جزء آخر يدل على المغايرة فيقع جزء من كل طلقة ثم يكمل بالسراية وإن قال : أنت نصف طالق طلقت واحدة كما لو قال : نصفك طالق وإن قال : أنت نصف طلقة طلقت واحدة كما لو قال : أنت الطلاق
فصل :
فإن قال لأربع نسائه : أوقعت بينكن أو عليكن طلقة طلقت كل واحدة طلقة لأن لكل واحدة ربع الطلقة ثم تكمل فإن قال : طلقتين فكذلك عن أبي الخطاب لأنه إذا قسم لم تزد كل واحدة على طلقة وكذلك إن أوقع بينهن ثلاثا أو أربعا وإن أوقع بينهن خمسا طلقت كل واحدة طلقتين لأن لكل واحدة طلقة وربع فيكمل الربع طلقة وروى الكوسج عن أحمد إذا قال : أوقعت بينكن ثلاث طلقات : ما أرى إلا قد بن منه فظاهره أنه قد أوقع بكل واحدة ثلاثا لأن نصيب كل واحدة من كل طلقة ربع ثم يكمل بالسراية وهذا قول أبي بكر و القاضي وعلى هذا يتفرع ما أشبهه
فصل :
فإن قال : أنت طالق طلقة لا تقع عليك أو لا ينقص به عدد طلاقك أو لا شيء أو ليس بشيء طلقت لأنه أوقع الطلاق ثم وصفه بما لا يتصف به فلغت الصفة وبقي الطلاق بحاله وإن قال : أنت طالق أو لا ؟ لم تطلق لأنه لم يوقعه وإنما استفهم عنه فلم يقع والله أعلم

باب ما يختلف به حكم المدخول بها وغيرها
إذا قال : أنت طالق لغير مدخول بها طلقت واحدة لأنها بانت بالأولى فلم يقع بها ما بعدها لأنه أوقعه على بائن وكذلك كل طلاق يترتب في الوقوع كقوله : أنت طالق ثم طالق أو طالق فطالق أو طالق بل طالق وطالق أو طالق طلقة فطلقة أو طلقة قبل طلقة أو بعد طلقة أو بعدها طلقة لم يقع إلا واحدة كذلك وإن قال : أنت طالق طلقتين طلقت طلقتين لأنه أوقعهما معا في محل قابل لهما ولو قال : أنت طالق طلقة معها طلقة طلقت طلقتين لأن لفظه يقتضي وقوعهما معا وكذلك لو قال : أنت طالق وطالق طلقت طلقتين لأن الواو تقتضي الجمع دوت الترتيب فأشبهت ما قبلها فإن قال : أنت طالق طلقة قبلها طلقة فكذلك في قول أبي بكر لأنه تعذر وقوع الثانية قبل الأولى فوقعت معها وقال القاضي : لا يقع إلا طلقة لأنه أوقعهما مرتبتين فتقع الأولى وتلغو الثانية كقوله : طلقة قبل طلقة ومتى قل شيئا من ذلك لمدخول بها طلقت طلقتين لأنها لا تبين بالأولى ولو قال لها : إن قمت فأنت طالق وطالق و طالق أو أنت طلق و طالق وطالق إن قمت أو قال : إن قمت فأنت طالق إن قمت فأنت طالق إن قمت فأنت طالق فقامت طلقت ثلاثا مدخولا بها أو غير مدخول بها لأنه لا ترتيب فيه وإن قال : إن قمت فأنت طالق ثم طالق ثم طالق فقامت طلقت واحدة إن كانت غير مدخول بها وثلاثا إن كان دخل بها
فصل :
وإذا قال لمدخول بها : أنت طالق طلقة قبلها طلقة وقال : أردت أنني طلقتها في نكاح آخر أو طلقها زوج قبلي دين وهل يقبل بالحكم ؟ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يقبل لأنه يحتمل أنه يريد ذلك
والثاني : لا يقبل لأنه يخالف الظاهر
والثالث : إن كان وجد قبل لأن احتمال إرادة ذلك شائع ولا يقبل إن لم يكن وجد لأنه كذب وإن قال : بعدها طلقة وقال : أردت طلقة أوقعها فيما بعد دين وهل يقبل الحكم ؟ على روايتين وإن قال : أردت بقولي : أنت طالق أنت طالق التأكيد بالثانية قبل منه لأنه محتمل لما قاله وإن أطلق طلقت طلقتين لأنه اللفظ الثاني كالأول فيقتضي من الوقوع ما اقتضاه الأول وإن قال : أنت طالق طالق فهي واحدة لأن اللفظ الثاني لا يصلح وحده للاستئناف فينصرف إلى التأكيد كقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فنكاحها باطل باطل ] وإن قصد بالثاني الإيقاع طلقت طلقتين ويقدر له ما يتم الكلام به وإن قال : أنت طالق و طالق وطالق فهي ثلاث فإن قال : أردت بالثانية التوكيد دين ولم يقبل في الحكم لأنه غير بينهما بحرف وإن أراد بالثالثة التوكيد قبل في الحكم لأنها مثل الثانية في لفظها وكذلك إذا قال : أنت طالق فطالق فطالق أو طالق ثم طالق ثم طالق وإن قال : أنت طالق وطالق فطالق أو طلق فطالق ثم طالق وقال : أردت التوكيد لم يقبل لأنه غاير بين الحروف وإن غاير بين الألفاظ فقال : أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة وقال : أردت بالثاني والثالثة التوكيد قبل لأنه لم يغاير بين الحروف العاملة في الكلام بخلاف التي قبلها

باب الاستثناء في الطلاق
يصح الاستثناء في الطلاق لأنه لغة العرب ونزل به القرآن وقال أبو بكر : لا يصح في عدد الطلقات لأنه لا سبيل إلى رفع الواقع منها والمذهب الأول لأنه استثناء في الطلاق فجاز كما في عدد المطلقات وليس الاستثناء رفعا لواقع إذ لو كان كذلك لم يصح في الإقرار ولا في عدد المطلقات وإنما يمنع دخول المستثنى في الدخول في المستثنى منه ولا يصح استثناء الكل ولا الأكثر وفي استثناء النصف وجهان لما نذكره في الإقرار فإذا قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا أو إلا طلقتين طلقت ثلاثا وإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا طلقة وطلقتين أو إلا طلقة وطلقة ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح الاستثناء لأن العطف بالواو يجعل الجملتين جملة واحدة فيكون مستثنيا للأكثر أو الكل
والثاني : يصح لأن الاستثناء الأول يمكن تصحيحه فلا يبطل ببطلان غيره وإن قال : أنت طالق طلقتين وطلقة إلا طلقة ففيه وجهان :
أحدهما : يصح الاستثناء لما ذكرنا
والثاني : لا يصح لأن الاستثناء يعود إلى ما يليه فيصير مستثنيا للكل ولأن تصحيحه يجعل المستثنى والمستثنى منه لغوا وإن قال : أنت طالق و طالق وطالق إلا طلقة أو طالق طلقتين ونصفا إلا طلقة أو إلا نصف طلقة فكذلك لما ذكرنا ولو كان العطف بغير الواو لغا الاستثناء وجها واحدا وإن قال : أنت طالق خمسا إلا طلقتين لم يصح لأنه إن عاد إلى الخمس بقي بعده ثلاث وإن عاد إلى الثلاث لم يصح لأنه استثنى الأكثر وإن قال : إلا طلقة ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح لأنه استثناء واحدة من خمس فبقي أربع
والثاني : يصح ذكره القاضي : فيقع طلقتان لأن الاستثناء يعود إلى ما ملكه من الطلقات دون ما زاد ولا يصح الاستثناء من الاستثناء في الطلاق إلا في مسألة واحدة وهو قوله : أنت طالق ثلاث إلا اثنتين إلا واحدة في أحد الوجهين بناء على استثناء النصف وإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة لم يصح لأن الاستثناء الأول باطل فلا يصح الاستثناء منه ويحتمل أن يعود استثناء الواحدة إلى أول الكلام لتعذر عوده إلى ما يليه فيقع طلقتان
فصل :
وإن قال : أنت طالق ثلاثا واستثنى بقلبه إلا واحدة طلقت ثلاثا لأنه يسقط ما يقتضيه نصف بالنية فلم يصح وإن قال لنسائه : أربعتكن طوالق واستثنى بقلبه إلا فلانة لم يصح كذلك وإن قال : نسائي طوالق ونوى إلا فلانة صح ولم تطلق لأنه لم يسقط اللفظ وإنما يستعمل العموم في الخصوص وذلك شائع وإذا ادعى ذلك دين وهل يقبل في الحكم ؟ على روايتين

فصل : تابع باب الشروط في الطلاق
إذا قال لزوجته : إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال : إن خرجت فأنت طالق وإن لم تخرجي فأنت طالق أو إن لم يكن هذا القول حقا فأنت طالق طلقت في الحال لأنه حلف بطلاقها وإن قال : إن طلعت الشمس أو قدم الحاج فأنت طالق ففيه وجهان :
أحدهما : لا تطلق حتى تطلع الشمس ويجيء الحاج لأن الحلف ما قصد به المنع من الشيء أو الحنث عليه أو التصديق وليس في طلوع الشمس وقدوم الحاج شيء من هذا هذا قول القاضي في المجرد و ابن عقيل
والثاني : أنه حلف لأنه تعليق على شرط فكان حلفا كما لو قال : إن خرجت فأنت طالق هذا قول القاضي في الجامع و أبي الخطاب وإن قال : إذا شئت فأنت طالق أو إذا حضت أو إذا طهرت فأنت طالق لم يكن حلفا وجها واحدا لأن تعليقه على المشيئة تمليك وتعليقه على الحيض طلاق بدعة وتعليقه على المطهر طلاق سنة فإن قال : إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاده ثانية طلقت واحدة لأنه حلف بطلاقها فإن أعاده ثالثا طلقت ثانية فإن أعاده رابعا طلقت ثلاثا لأن كل مرة يوجد به صفة طلاق و تنعقد بها صفة أخرى ومثله لو قال : إن كلمتك فأنت طالق وكرره أربعا طلقت ثلاثا كذلك ولو قال لمدخول بهما : إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان وكرره أربعا طلقتا ثلاثا فإن كانتا غير مدخول بهما بانتا إذا أعاده مرة ثانية ولم يقع بهما بعده طلاق فإن كانت إحداهما مدخولا بها والأخرى غير المدخول بها فأعاده مرة طلقت المدخول بها طلقة رجعية والأخرى طلقة ثانية فإن أعاده ثانيا لم تطلق واحدة منهما لأن شرط طلاقهما الحلف بطلاقهما ولم يحلف به لأن غير المدخول بها لا يصح الحلف بطلاقها وإن قال لمدخول بهما لإحداهما : إن حلفت بطلاقك ضرتك فأنت طالق ثم قال للأخرى : مثل ذلك طلقت الأولى وإن أعاده للأولى طلقت الأخرى وكلما أعاده لامرأة طلقت الأخرى وإن قال : كلما حلفت بطلاقك فضرتك طالق ثم قال مثل ذلك لضرتها طلقت فإن أعاده للأولى طلقت الضرة فإن أعاده للثانية طلقت الأولى وكلما أعاده لامرأة طلقت ضرتها حتى تكمل ثلاثا وإن كانت إحداهما غير مدخول بها فطلقت مرة لم تطلق أخرى ولم تطلق الأخرى بإعادته لها لأنه ليس بحلف بطلاقها لكونها بائنا
فصل :
وإن استعمل الطلاق أو العتاق استعمال القسم وأجابه بجوابه فقال : أنت طالق لأقومن أو ما قمت أو لقد قمت أو إني لقائم وبر لم يقع الطلاق لأنه حلف بر فيه فلم يحنث كما لو حلف بالله وإن حنث وقع طلاقه وإن قال : أنت طالق لولا أبوك لطلقتك وكان صادقا لم تطلق وإن كان كاذبا طلقت
فصل :
إذا قال : إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي ذلك أو فتحققيه طلقت لأنه كلمها بعد عقد اليمين إلا أن يريد بعد انقضاء كلامي هذا ونحوه وإن زجرها فقال : تنحي أو اسكتي حنث لأنه كلام وإن سمعها تذكره فقال : الكاذب لعنه الله حنث لأنه كلمها وإن قال : إن بدأتك بالكلام فأنت طالق فقالت : إن بدأتك الكلام فعبدي حر انحلت يمينه بيمينها لأنها كلمته فلم يكن كلامه لها بعد ذلك بداية فإن كلمها انحلت يمينها لأنها لم تبدأه ما لم يكن لهما نية وإن قال : إن كلمتما هذين الرجلين فأنتما طالقتان فكلمت كل واحدة واحدا ففيه وجهان :
أحدهما : يطلقان لأن تكليمهما وجد منهما
والثاني : لا يطلقان حتى تكلم كل واحدة الرجلين معا لأنه علق طلاقهما على فعليهما معا ولو قال : إن ركبتما هاتين الدابتين فأنتما طالقتان طلقتا إذا ركبت كل واحدة دابة لأن العرف في ركوب دابتيهما أن يركب كل واحد دابته ولو قال : أنت طالق إن كلمت زيدا ومحمد مع خالد لم تطلق حتى تكلم زيدا في حال يكون محمد مع خالد لأن الجملة حال للجملة الأولى إلا أن يريد بكلامه الاستئناف فتطلق بكلام زيد بكل حال وقال القاضي : يحنث بكلام زيد لأن الجملة الثانية استئناف لا تعلق لها بالأولى وإن قال : من بشرتني بقدوم أخي فهي طالق فأخبره بذلك زوجتاه وهما صادقتان طلقت الأولى وحدها لأن البشارة خبر يحصل به سرور أو غم وإنما تحصل بالأول وإن كانتا كاذبتين لم تطلق واحدة منهما لأنه لا سرور في الكذب وإن كانت الأولى كاذبة والثانية صادقة طلقت الثانية وحدها لذلك وإن قال : من أخبرتني بقدوم أخي فهي طالق فقال القاضي : هي كالتي قبلها سواء لأن المراد من الخبر الإعلام ولا يحصل إلا بالخبر الأول الصدق ويحتمل أن تطلق الثانية والكاذبة لأن الخبر يقع على الجميع
فصل :
إذا قال : أنت طالق إن شئت أو متى شئت أو غير ذلك من الحروف فقالت : قد شئت طلقت سواء شاءت على الفور أو التراخي لأنه تعليق للطلاق على شرط فأشبه سائر التعليق وإن قالت : قد شئت إن شئت أو إن شاء أبي لم تطلق وإن شاء لأنها لم تشأ إنما علقت مشيئتها بمشيئته كما لو قالت : قد شئت إذا طلعت الشمس ولو قال : أنت طالق إن شاء زيد فشاء وهو مجنون أو طفل لم تطلق لأنه لا مشيئة لهما وكذلك إن شاء وهو سكران وخرجه أصحابنا على روايتين في طلاقه وإن شاء وهو مميز طلقت لأن له مشيئة ولذلك صح اختياره لأحد أبويه وخوطب بالاستئذان في العورات الثلاث وإن كان أخرس فأومأ بمشيئته طلقت لأن إشارته كنطق غيره وإن كان ناطقا فخرس فكذلك لأنه من أهل الإشارة ويحتمل أن لا يحنث لأن إشارته لا يعتد بها في تلك الحال في الشرع وإن مات أو جن لم تطلق لأنه لم يشأ وحكي عن أبي بكر : أنها تطلق وإن قال : أنت طالق إن شاءت البهيمة فهو تعليق للطلاق على المستحيل وإن قال : أنت طالق لمشيئة أبيك أو رضاه طلقت في الحال لأن معناه : ليرضى أو لكونه شاء فإن قال : أردت تعليقه بذلك قبل منه لأن ذلك يستعمل للشرط في قوله : أنت طالق للسنة فإن قال : أنت طالق إلا أن تشائي فشاءت في الحال لم تطلق وإن لم تشأ طلقت لأنه أوقعه عليها إلا أن ترفعه مشيئتها فإذا لم يوجد ما يرفعه وقع وإن قال : أنت طالق واحدة إلا أن تشائي ثلاثا فشاءت ثلاثا طلقت ثلاثا وإن لم تشأ أو شاءت دون الثلاث وقعت واحدة لأن هذا هو السابق إلى الفهم من ذلك وفيه وجه آخر أنها إذا شاءت ثلاثا لم تطلق لأنه علق وقوع الواحدة على عدم مشيئتها الثلاث ولم يوقع لمشيئتها شيئا فأشبه قوله : إلا أن تشائي وإن قال : أنت طالق إن شئت وشاء أبوك فشاء أحدهما منفردا لم تطلق لأنه لم يوجد الشرط
فصل :
وإن قال : أنت طالق إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار أو قال : إن كنت تحبين ذلك [ بقلبك ] فقالت : أنا أحب ذلك ففيه وجهان :
أحدهما : لا تطلق لأنها لا تحب ذلك وقولها كذب لا يلتفت إليه
والثاني : تطلق لأنه لما لم يوقف على ما في القلب علق على النطق كالمشيئة
فصل :
فإن قال : أنت طالق أو عبدي حر إن شاء الله طلقت زوجته وعتق عبده لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إذا قال الرجل لزوجته : أنت طالق إن شاء الله فهي طالق ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق حالا ومآلا فلم يصح كاستثناء الكل فإن قال : أنت طالق إن دخل الدار إن شاء الله ففيه روايتان :
إحداهما : يقع الطلاق لما ذكرنا والأخرى : لا يقع لأن الطلاق المعلق بشرط يمين فيدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف على يمين فقال : إن شاء الله فلا حنث عليه ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب وإن قال : أنت طالق إلا أن يشاء الله طلقت لما ذكرنا ولأنه علق رفع الطلاق على مشيئته لا يوقف عليها وإن قال : أنت طالق ما لم يشأ الله أو إن لم يشأ الله طلقت لأنه علقه بمستحيل فإن وقوع طلاقها إذا لم يشأ الله محال ويحتمل أن لا يحنث وإن قال : أنت طالق لتدخلن الدار إن شاء الله لم يحنث دخلت الدار أو لم تدخل لأنها إن دخلت فقد شاء الله وإن لم تدخل فلم يشأ الله تعالى
فصل :
لا يصح تعلق الطلاق قبل النكاح فلو قال لأجنبية : إن دخلت الدار فأنت طالق فتزوجها ودخلت الدار لم تطلق لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها ] رواه الدارقطني وفي لفظ [ لا طلاق فيما لا يملك ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن وروى أبو داود و الطيالسي نحوه وإن قال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق وإن تزوجت فلانة فهي طالق ثم تزوجها لم يقع كذلك قال أبو بكر : لا يختلف قول أبي عبد الله : إن الطلاق إذا وقع قبل النكاح لا يقع وقال غيره عن أحمد : ما يدل على أن الطلاق يقع لأنه يصح تعليقه على الإخطار فصح تعليقه على الملك كالوصية والمذهب الأول لما ذكرنا ولأن من لا يقع طلاقه بالمباشرة لا يصح تعليقه كالمجنون
فصل :
إذا علق الطلاق بعد النكاح بوقت طلقت بأوله لأنه إذا علق بشيء تعلق بأوله كما لو قال : أنت طالق إذا دخلت الدار طلقت بدخولها أول جزء منها فلو قال : أنت طالق في رمضان طلقت بغروب شمس شعبان وإن قال : أنت طالق اليوم طلقت في الحال وإن قال : أنت طالق غدا طلقت بطلوع فجره فإن قال : أردت في آخر الشهر واليوم والغد دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين وإن قال : أنت طالق في أول رمضان أو في غرته طلقت في أوله ولم يقبل قوله : نويت آخره لأنه لا يحتمله وإن قال : أردت بالغرة اليوم الثاني قبل لأنه محتمل لأن الثلاث الأول من الشهر تسمى غررا وإن قال : أنت طالق إذا رأيت طلال رمضان طلقت بأول جزء منه لأن رؤيته في الشرع عبارة عما يعلم به دخوله بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ] فإن قال : أردت إذا رأيته بعينيك قبل لأنه فسر اللفظ بموضوعه ويتعلق لحكم برؤيتها إياه بعد الغروب لأن هلال الشهر ما كان في أوله ويحتمل أن يتعلق برؤيتها إياه قبل الغروب وبعده لأن هلال الشهر يتعلق به وجوب الصوم والفطر وإن لم تره حتى أقمر لم تطلق لأنه ليس بهلال واختلف فيما يقمر به فقيل بعد ثالثة وقيل باستدارته وقبل إذا بهر ضوءه وإن قال : أنت طالق إلى شهر رمضان طلقت في أول جزء منه كقوله : في شهر رمضان لأنه جعل الشهر غاية للطلاق ولا غاية لآخره فوجب أن يجعل غاية لأوله فإن قال : أردت الإيقاع في الحال طلقت لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال : أنت طالق في آخر أول الشهر طلقت في آخر أول يوم منه لأنه أوله وإن قال : في أول آخره طلقت بطلوع فجر آخر يوم منه لأنه آخره وقال أبو بكر : تطلق في المسألتين بغروب شمس اليوم الخامس عشر منه لأنه آخر نصف الشهر الأول وأول نصفه الآخر
فصل :
إذا قال : إذا مضت سنة فأنت طلق اعتبر مضي سنة بالأهلة لأنها السنة المعهودة في الشرع فإن قاله في أثناء شهر كمل ذلك الشهر بالعدد ثلاثين يوما وأحد عشر شهرا بالأهلة وإن قال : أردت سنة بالعدد وهي ثلاثمائة وستون يوما أو شمسية وهي ثلاثمائة وخمس وستون يوما قبل لأنه سنة حقيقية وإن قال : إذا مضت السنة فأنت طالق طلقت بانسلاخ ذي الحجة لأن التعريف ( بالألف واللام ) يقتضي ذلك فإن قال : أردت سنة كاملة دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين وإن قال : أنت طالق في كل سنة طلقة طلقت في الحال ثم إذا مضت سنة كاملة طلقت أخرى وكذلك الثالثة وقال أبو الخطاب : تطلق الثانية بدخول المحرم وكذلك الثالثة فإن قال : أردت أن تكون ابتداء السنين من أول الجديدة دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين
فصل :
وإن قال : أنت طالق إذا قدم فلان غدا أو غدا إذا قدم فلان لم تطلق حتى يقدم لأن الطلاق لا يقع قبل شرطه فإن مات قبل قدومه لم تطلق لأنها لم تبق محلا للطلاق وإن قدم بعد الغد لم تطلق لفوات محل الطلاق وإن قال : أنت طالق يوم يقدم فلان فقدم ليلا لم تطلق لأن الشرط لم يوجد إلا أن يريد باليوم الوقت فتطلق قال الله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } و إن قدم نهارا طلقت وهل تطلق في أول اليوم أو حين قدومه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : تطلق من أوله كما لو قال : أنت طالق يوم الجمعة
والثاني : لا تطلق إلا بعد قدومه لأنه جعل قدومه فيه شرطا فلا تطلق قبله فإن مات قبل قدومه طلقت على الوجه الأول ولم تطلق على الثاني
فصل :
وإن قال : أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم لم يطلقها طلقت في آخر اليوم إذا بقي منه ما لا يتسع لقوله أنت طالق لأن معناه إذا فاتني طلاقك اليوم فأنت طالق وبهذا يفوت طلاقها وقال أبو بكر : لا تطلق لأن شرط طلاقها خروج اليوم وبخروجه يفوت محل طلاقها وإن قال : أنت طالق اليوم إذا جاء غد فقال القاضي في موضع : يقع الطلاق في الحال لأنه علقه بشرط محال فلغا شرطه ووقع الطلاق كما لو قال لآيسة : أنت طالق للبدعة وقال في المجرد : لا تطلق لأنه لا يقع في اليوم لعدم الشرط وإذا جاء الغد لم يمكن الطلاق في اليوم لأنه زمن ماض
فصل :
وإن قال : أنت طالق اليوم غدا طلقت واحدة لأن من طلقت اليوم فهي طالق غدا وإن قال : أردت طلقة اليوم وطلقة غدا طلقت اثنتين لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال : أردت نصف طلقة اليوم ونصف غدا فكذلك لأن كل نصف يملكه بالسراية فيصيران طلقتين وإن قال : أردت نصف طلقة اليوم وباقيها غدا فكذلك في إحدى الوجهين لأن باقيها نصف يكمل بالسراية
والثاني : لا تطلق إلا واحدة لأنه لما كمل النصف الأول لم يبق في الطلقة شيء فلا باقي لها فإن قال : أنت طالق في اليوم والغد طلقت واحدة لما ذكرنا وإن قال : أنت طالق في اليوم وفي الغد فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر : تطلق طلقتين لأن إعادة حرف الصلة يقتضي فعلا فكأنه قال : أنت طالق في اليوم وأنت طالق في غد
فصل :
إذا قال : أنت طالق بعد موتي لم تطلق لأنها بعد موته بائن فليست محلا للطلاق وإن قال : أنت طالق مع موتي لم تطلق لأن زمن البينونة زمن الطلاق فلم يمكن إيقاعه وإن تزوج أمة أبيه ثم قال : إذا مات أبي فأنت طالق فمات أبوه لم تطلق لأنه يملكها بموت أبيه فينفسخ نكاحه فيجتمع الفسخ والطلاق فيمتنع وقوعه كالتي قبلها وفيه وجه آخر أنها تطلق لأن زمن الطلاق عقيب الموت وهو زمن الملك والفسخ بعد الملك فيتقدم الطلاق الفسخ فيقع وإن قال : إن اشتريتك فأنت طالق واشتراها فعلى وجهين كالتي قبلها وإن قال الأب لجاريته : إذا مت فأنت حرة وقال الزوج : إذا مات أبي فأنت طالق فمات الأب وقعت الحرية والطلاق معا لأن الحرية تمنع ثبوت الملك له فلا ينفسخ نكاحه فيقع طلاقه
فصل :
إذا قال : أنت طالق أمس أو قبل أن أتزوجك لم يقع الطلاق نص عليه لأنه إضافة إلى زمن يستحيل وقوعه فيه فلم يقع كما لو قال : أنت طالق قبل موتي بشهر ومات قبل مضي شهر وقال القاضي في بعض كتبه : تطلق لأنه وصف الطلقة بما لا تتصف به فلغت الصفة ووقع الطلاق كما لو قال لآيسة : أنت طالق للبدعة وحكي عن أبي بكر أن الطلاق يقع في قوله : أنت طالق قبل أن أتزوجك خاصة لأنه يمكن أن يتزوجها بائنا وهذا الوقت قبله فيقع فيه بخلاف التي قبلها وإن قال : أردت طلاقها في الحال وقع لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال : أردت أني طلقتها أمس طلقت بإقراره وإن قال : أردت أني طلقتها في نكاح آخر أو طلقها زوج قبلي فقد ذكرنا حكمه فيما مضى وإن قال : أنت طالق قبل قدوم أخرى بشهر أو قبل موتي بشهر فقدم أخوه أو مات مع مجيء الشهر أو قبله لم تطلق لأنه زمن ماض وإن قدم أو مات بعد مضي شهر وجزء يقع الطلاق فيه تبينا أنه وقع في ذلك الجزء قبل الشهر فإن خلعها بعد تعليق طلاقها بيوم ثم مات أو قدم بعد التعليق بشهر وساعة وقع الطلاق دون الخلع لأنها بانت بالطلاق فكان الخلع لبائن وإن مات أو قدم بعد الخلع بشهر وساعة صح الخلع لأنه صادف زوجة ولم يقع الطلاق لأنها بانت بالخلع قبله وإن قال : أنت طالق قبل موتي طلقت في الحال لأنه قبل موته وكذلك إن قال : أنت طالق قبل قدوم زيد سواء قدم أو لم يقدم ذكره القاضي وإن قال : أنت طالق قبيل موتي أو قبيل قدوم زيد لم يقع الطلاق إلا في الجزء الذي يلي الموت لأن ذلك تصغير يقتضي الجزء اليسير
فصل :
وإن علقه على مستحيل كقوله : أنت طالق إن طرت ففيه وجهان :
أحدهما : لا تطلق لأنه علقه على صفة لم توجد
والثاني : تطلق لأنه علق طلاقها على ما يرتفع به جملة فلغا الشرط ووقع الطلاق كقوله : أنت طالق طلقة لا تلزمك ولو قال : أنت طالق إن لم تطيري أو تقتلي الميت طلقت في الحال لأنه معلوم عدمه وإن قال : أنت طالق لتطيرن فكذلك وحكي عن القاضي أنه لا يحنث
فصل :
إذا كتب إليها : إذا أتاك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب طلقت إذا أتاها وإن ذهبت حواشيه أو انمحى ما فيه إلا ذكر الطلاق طلقت لأنه أتاها كتابه مشتملا على المقصود وإن انمحى كل ما فيه أو انمحى ذكر الطلاق أو ضاع الكتاب لم تطلق لأن المقصود لم يأت وإن ذهب الكتاب إلا موضع الطلاق ففيه وجهين :
أحدهما : تطلق لأن المقصود أتاها
والثاني : لا تطلق لأن الكتاب لم يأت وإن قال إذا أتاك طلاقي فأنت طالق ثم كتب : إذا أتاك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب طلقت طلقتين واحدة بمجيء الكتاب والأخرى بمجيء الطلاق
فصل :
إذا قال إن لم تخبريني بعدد حب هذه الرمانة فأنت طالق فإنها تعد له عددا يعلم أن عددها داخل فيه ولا يحنث إذا نوى ذلك فإن لم ينو حنث في قياس المذهب لأن الأيمان تنبني على المقاصد وظاهر قصد الحالف العلم بكميته ولا يحصل بهذا فإن قال : إن لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت فأنت طالق فأفردت كل نواة وحدها فالحكم فيها كالتي قبلها ولو وقعت في ماء جار فقال : إن أقمت فيه أو خرجت منه فأنت طالق فقال القاضي في الجامع : هي كذلك لأن الظاهر قصده خروجها من النهر وقال في المجرد لا يحنث بحال لأن الماء الذي كانت فيه جرى وصارت في غيره ولو قال : إن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر وإن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق وكانا في السوق عتق العبد ولم تطلق المرأة لأن العبد عتق باللفظ الأول فلما عتق لم يق له في السوق عبد ولو كان فيها تمرة فقال : إن أكلتيها أو أمسكتيها أو ألقيتيها فأنت طالق فأكلت بعضها ورمت بعضها انبنى على بعض المحلوف عليه ولو كانت على سلم فحلف عليها ألا تنزل عنه ولا تصعد عنه ولا تقف عليه فإنها تنتقل إلى سلم آخر ثم تنزل أو تصعد لأن نزولها أو صعودها إنما حصل من غيره ولو سرقت زوجته منه شيئا فحلف : لتصدقني أسرقت مني شيئا أم لا ؟ وكانت قد سرقت منه وخشيت أن تخبره فإنها تقول : سرقت منك ما سرقت منك وتكون ( ما ) هاهنا بمعنى الذي
فصل :
ومتى علق طلاق زوجته على صفة ثم أبانها ثم تزوجها قبل الصفة عادت الصفة لأن العقد والصفة وجدا منه في الملك فأشبه ما لو لم يتخللها بينونة وإن وجدت الصفة حال البينونة لم ينحل اليمين لأنه لم يحنث في يمينه فلم تنحل كما لو لم توجد الصفة ولأن الملك مقدر في يمينه لقييد الطلاق به ويتخرج أن تنحل الصفة بناء على قوله في العتق وهو اختيار أبو الحسن التميمي لأن الصفة وجدت فانحلت اليمين بها كما لو وجدت حال الملك ولأن اليمين إذا تعلقت بعين لم تتقيد بالملك كما لو لم حلف : لا يدخل هذه الدار وهي ملكه والله أعلم

باب الشروط في الطلاق
يصح تعليق الطلاق بشرط كدخول الدار ومجيء زيد ودخول سنة فإن علقه بشرط تعلق به فمتى وجد الشرط وقع وإن لم يوجد لم يقع لأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية أشبه العتق ولو قال : عجلت ما علقته لم تطلق لأنه تعلق بالشرط فلم يتغير فإن قال : أردت الطلاق في الحال وإنما سبق لساني إلى الشرط طلقت في الحال لأنه أقر على نفسه ما يوجب التغليظ من غير تهمة وإن قال : أنت طالق ثم قال : أردت إذا دخلت الدار دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين
فصل :
وأدوات الشرط المستعملة في الطلاق والعتاق ستة : إن ومن وإذا ومتى وأي وكلما وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا ( كلما ) فإذا قال : إن قمت أو إذا قمت أو متى قمت أو أي وقت قمت أو من قام منكن فهي طالق فقامت طلقت وإن تكرر القيام لم يتكرر الطلاق لأن اللفظ لا يقتضي التكرار وإن قال : كلما قمت فأنت طالق فقامت طلقت وإن تكرر القيام تكرر الطلاق لأن اللفظ يقتضي التكرار وقال أبو بكر : في ( متى ) ما يقتضي تكرارها لأنها تستعمل للتكرار قال الشاعر :
( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد )
والصحيح : أنها لا تقتضيه لأنها اسم زمان فأشبهت إذا وكل هذه الأدوات على التراخي إذا خلت من حروف لم كانت إن على التراخي و ( إذا ) فيها وجهان :
أحدهما : هي على الفور لأنها اسم زمان فأشبهت ( متى )
والثاني : هي على التراخي لأنها أخلصت للشرط فهي بمعنى ( إن ) وإن احتملت الأمرين لم يقع الطلاق بالشك وسائر الأدوات على الفور لأنها تقتضيه فإذا قال : إن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتا بعينه ولا دلت عليه قرينة لم يقل الطلاق إلا عند قربه منه وذلك في آخر جزء من حياة أحدهما وإن قال : متى لم أطلقك أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق أو من لم أطلقها منكن فهي طالق فمضى زمن يمكن طلاقها ولم يطلقها طلقت وإن قال : إذا لم أطلقك فأنت طالق فهل تطلق قي الحال أو في آخر حياة أحدهما ؟ على وجهين وإن قال : كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى زمن يمكن طلاقها ثلاثا ولم يطلقها طلقت ثلاثا لأن معناه : كلما سكت عن طلاقك فأنت طالق وقد سكت ثلاث سكتات في ثلاثة أوقات
فصل :
وإن قال : إن دخلت الدار أنت طالق لم تطلق حتى تدخل كما لو قال : أنت طالق إن دخلت الدار ويحتمل أن يقع في الحال لأن جواب الشرط إذا تأخر عنه لم يكن إلا بالفاء أو بإذا وإن قال : إن دخلت الدار وأنت طالق طلقت في الحال لأن الواو ليست جوابا للشرط فإن قال : أردت بها الجزاء أو أردت أن أجعلهما شرطين لشيء ثم أمسكت دين لأنه محتمل لما قاله وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين فإن قال : أنت طالق وإن دخلت الدار طلقت لأنه معناه : ولو دخلت كقوله عليه الصلاة و السلام : [ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ] وإن قال : أنت طالق لو دخلت الدار طلقت لأن لو تستعمل بعد الإثبات لغير المنع كقوله تعالى : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } وإن قال : أردت الشرط قبل لأنه محتمل وإن قال : أنت طالق أن دخلت بفتح الهمزة طلقت عند أبي بكر لأن ( أن ) للتعليل لا للشرط كقوله تعالى : { يمنون عليك أن أسلموا } وقال القاضي : قياس قول أحمد أنه كان نحويا وقع طلاقه لذلك وإن كان عاميا فهي للشرط لأن العامي لا يريد بها إلا الشرط فأجرى عليه حكمه وحكي عن الخلال : أن النحوي إذا لم يكن له نية فهو كالعامي
فصل :
فإن قال : أنت طالق إن شربت إذا أكلت أو متى أكلت لم تطلق حتى تشرب بعد الأكل لأن إدخال الشرط على الشرط يقتضي تقديم المؤخر وإن قال : أنت طالق إن شربت إن أكلت فكذلك لما ذكرناه وإن قال : أنت طالق إن شربت فأكلت أو إن شربت ثم أكلت لم تطلق حتى تأكل بعد الشرب لأنهما حرفا ترتيب وإن قال أنت طالق إن شربت وأكلت طلقت بوجودهما على أي صفة لأن الواو للجمع ولا تقتضي ترتيبا ولا تطلق بوجود أحدهما لأنها للجمع وإن قال : أنت طالق إن أكلت أو شربت طلقت بوجد أحدهما لأن ( أو ) تقتضي تعليق الجزاء على واحدة من المذكورين لقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }
فصل :
إذا قال : إن حضت فأنت طالق طلقت بأول جزء من الحيض فإن رأت دما وتبينت أنه ليس بحيض تبين أن الطلاق لم يقع فإن قالت : قد حضت فكذبها قبل قولها بغير يمين وعنه : لا يقبل قولها ويختبرها النساء بإدخال قطنة في الفرج فإن ظهر الدم فهي حائض وإلا فلا والمذهب الأول لقول الله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن كتمانه ولأنه لا يعرف إلا من جهتها وإن قال : قد حضت فأنكرته طلقت بإقراره وإن قال : إن حضت فضرتك طالق فقالت : قد حضت فكذبها لم تطلق ضرتها لأن قولها يقبل في حقها دون غيرها وإن قال الزوج قد حضت فكذبته طلقت بإقراره فإن قال : إن حضت فأنت وضرتك طالقتان فقالت : قد حضت فصدقها طلقتا وإن كذبها طلقت وحدها ولم تطلق الضرة وإن صدقها وإن قال : إن حضتما فأنتما طالقتان فصدقهما طلقتا وإن كذبهما لم تطلق واحدة منهما لأن طلاق كل واحدة منهما معلق على محيضهما ولا يقبل قول واحدة منهما في حق ضرتها وإن صدق إحداهما وحدها لم تطلق لأن قول المكذبة غير مقبول في حقها وطلقت المكذبة لأنها مقبولة القول في نفسها وقد صدق الزوج صاحبتها فوجد الشرطان في طلاقها فطلقت وإن قال لأربع نسوة له : إن حضتن فأنتن طوالق فقد علق طلاق كل واحدة منهن بحيض الأربع فإن قلن : قد حضنا فصدقهن طلقن لأنه قد وجد حيضهن بتصديقه وإن كذبهن أو كذب ثلاثا أو اثنتين لم تطلق واحدة منهن لأن قول كل واحدة لا يقبل إلا في حق نفسها فلم يوجد الشرط وإن صدق ثلاثا طلقت المكذبة لما ذكرنا في الاثنتين إذا صدق إحداهما فإن قال : كلما حاضت إحداكن فضرائرها طوالق فقد جعل حيض كل واحدة شرطا لطلاق البواقي فإن قلن : قد حضنا فصدقهن طلق ثلاثا ثلاثا لأن لكل واحدة ثلاث ضرائر فتطلق بحيض كل واحدة طلقة وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن وإن صدق واحدة منهن طلقت كل واحدة من ضرائرها طلقة لأن حيضها ثبت بتصديقه ولم تطلق المصدقة لأنه ليس لها صاحبة تثبت حيضها وإن صدق اثنتين طلقت كل واحدة منهن طلقة لأن لكل واحدة منهما ضرة مصدقة وطلقت كل واحدة من المكذبتين طلقتين لأن لكل واحدة منهما ضرتين مصدقتين فإن صدق ثلاثا طلقت المكذبة ثلاثا وطلقت كل واحدة من المصدقات طلقتين لما ذكرنا
فصل :
إذا قال لحائض : إذا حضت فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض لأن إذا اسم لزمن مستقبل فتقضي فعلا مستقبلا وإن قال لها : إذا طهرت فأنت طالق طلقت بانقطاع الدم نص عليه لأنه ثبت لها أحكام الطهر من وجوب الغسل والصلاة وصحة الصوم وذكر أبو بكر قولا آخر : أنها لا تطلق حتى تغتسل لأن بعض أحكام الحيض باقية وإن قال لطاهر : إذا طهرت فأنت طالق لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر لما ذكرنا وإن قال لها : إذا حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر نص عليه لأنها لا تحيض حيضة كاملة إلا بذلك وإن قال : إن حضت نصف حيضة فأنت طالق احتمل أن تطلق إذا مضى نصف عادتها لأن الأحكام تعلقت بالعادة واحتمل أنه متى مضت حيضها تبينا وقوع الطلاق في نصفها وحكي عن القاضي : أنه يلغو قوله : نصف حيضة ويتعلق الطلاق بأول الدم وقيل عنه : تطلق بمضي سبعة أيام ونصف لأنه نصف أكثر الحيض يعني - والله أعلم - أنه ما دام حيضها باقيا لا يحكم بوقوع طلاقها حتى يمضي نصف أكثر الحيض لأن ما قبل ذلك لا يتيقن به مضي نصف الحيضة فلا يقع الطلاق بالشك فإن طهرت بدون ذلك تبينا وقوع الطلاق ونصف الحيضة قلت أو كثرت لأننا تبينا مضي نصف الحيضة بمضيها كلها فإن قال لزوجتيه : إذا حضتما حيضة واحدة فأنتما طلقتان لغا قوله : حيضة واحدة لاستحالة ذلك وصار كقوله : إذا خضتما فأنتما طالقتان فإن قال : أردت إذا حاضت كل واحدة منهما حيضة قبل لأنه محتمل لما قاله
فصل :
إذا قال لمن لطلاقها سنة وبدعة - وهي المدخول بها من ذوات الأقراء - أنت طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه طلقت في الحال لوجود الصفة وإن كانت حائضا أو في طهر أصابها فيه لم تطلق في الحال لعدم الصفة فإذا طهرت الحائض أو حاضت المصابة ثم طهرت طلقت لوجود الصفة حينئذ وإن قال لها : أنت طالق للبدعة وهي حائض أو في طهر أصابها فيه طلقت في الحال وإن كانت في طهر لم يصبها فيه لم تطلق لعدم الصفة فإذا حاضت أو جامعها طلقت وإن قال لها : أنت طالق للسنة إن كنت الآن ممن يطلق للسنة وكانت في زمن السنة طلقت لوجود الصفة وإلا لم تطلق بحال لأنه شرط لوقوعه كونها الآن ممن يطلق للسنة ولم يوجد ذلك وإن قال : أنت طالق طلقة للسنة وطلقة للبدعة طلقت في الحال واحدة فإذا صارت إلى ضد حالها طلقت الأخرى وإن قال : طلقت للسنة والبدعة لغا قوله : للسنة وللبدعة لاستحالة اجتماعهما وطلقت في الحال وإن قال : أنت طالق ثلاثا للسنة فعلى قول الخرقي تطلق ثلاثا في طهر لم يصيبها فيه لأنه وقت السنة وعلى قول أبي بكر تطلق واحدة في طهر لم يصيبها فيه وتطلق الثانية والثالثة في طهرين في نكاحين إن وجدا لأن السنة تطليقة واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها وإن قال : أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة طلقت طلقتين في الحال والثالثة في الحال الأخرى لأن قسط الحال الأولى طلقة ونصف فكمل فصار طلقتين وإن قال : أردت في هذه الحال واحدة والباقي في الأخرى قبل قوله لأن البعض يقع على الطلقة الواحدة حقيقة فلم تخالف دعواه الظاهر فقبلت
فصل :
وإن كان له امرأة صغيرة لا تحيض أو آيسة أو حامل تبين حملها أو غير مدخول بها فلا سنة لطلاقها ولا بدعة فإذا قال : أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة طلقت لوجود الصفة وإن قال : أنت طالق للسنة أو للبدعة أو للسنة والبدعة طلقت في الحال لأنه وصفها بصفة لا تتصف بها فلغت الصفة ووقع الطلاق فإن قال : أردت إيقاعه بها إذا صارت من أهل سنة الطلاق وبدعته دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين
فصل :
إذا قال لمن لطلاقها سنة وبدعة : أنت طالق أحسن الطلاق وأجمله وأعدله وما أشبه هذا من الصفات الجميلة طلقت للسنة وإن قال : أقبح الطلاق وأسمجه وما أشبه من صفات الذم طلقت للبدعة فإن قال : أردت بالأول طلاق البدعة وبالثاني طلاق السنة لأنه الأليق بها فإن كان أغلظ عليه قبل قوله لأنه مقر على نفسه وإن كان أخف عليه دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين وإن قال : أنت طالق طلاق الحرج فهو طلاق البدعة لأنه يأثم به وإن قال : أنت طالق طلقة حسنة قبيحة طلقت في الحال على أي صفة كانت لأنه وصف الطلقة بما لا تتصف به فلغت الصفة ووقع الطلاق وإن قال لها : أنت طالق في كل قرء طلقة وهي ممن لطلاقها سنة وبدعة طلقت في كل حيضة طلقة إلا على قولنا : الأقراء : الأطهار فإنه يقع في كل طهر طلقة وإن كانت ممن لا سنة لطلاقها ولا بدعة طلقت في الحال طلقة ثم إن كانت ممن يتجدد لها أقراء طلقت في كل قرء منها طلقة ويحتمل أن لا تطلق في الحال شيئا لأن القرء والطهر بين الحيضتين وليس ذلك لها
فصل :
إذا قال لها : إن كنت حاملا فأنت طالق حرم وطؤها نص عليه لأنه يحتمل أن تكون حاملا فيغلب التحريم وحكى أبو الخطاب رواية أخرى : لا يحرم وطؤها لأن الأصل عدم الحمل ثم إن ولدت لأقل من ستة أشهر تبينا وقوع الطلاق لأنها كانت حاملا وإن ولدت لأكثر من أربع سنين لم تطلق لأننا علمنا أنها لم تكن حاملا وإن ولدت فيما بين ستة أشهر وأربع سنين ولم يكن لها من يطؤها طلقت لأنها كانت حاملا وإن كان لها زوج يطأها فولدت لأقل من ستة أشهر من حين وطء طلقت لأننا علمنا أنه ليس من الوطء وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من وطئه لم تطلق لأن الأصل الحمل والطلاق و إن قال لها : إن لم تكوني حاملا فأنت طالق حرم وطؤها قبل استبرائها لأن الأصل عدم الحمل وكل موضع يقع الطلاق في التي قبلها لا يقع هاهنا وكل موضع لا يقع ثم وقع هاهنا لأنها ضدها إلا إذا أتت بولد لأكثر من ستة أشهر وأقل من أرع سنين فهل يقع الطلاق هنا ؟ فيه وجهان :
أحدهما : تطلق لأن الأصل عدم الحمل قبل الوطء
والثاني : لا تطلق لأن الأصل بقاء النكاح ويحصل الاستبراء بحيضة نص عليه لأن براءة الرحم تحصل بحيضة وذكر القاضي رواية أخرى : أنها تستبرئ بثلاثة قروء لأنه استبراء حرة فأشبهت عدتها والأولى أصح لأن المقصود معرفة براءتها من الحيض وهو يحصل بحيضة وأما عدة الحرة بثلاثة قروء ففيها نوع من التعبد ولذلك يجب مع علمنا ببراءة الرحم مثل أن يكون زوجها غائب عنها سنين وقد حاضت قبل طلاقه حيضات كثيرة فلا يجوز تعديتها إلى محل لم يرد الشرع بالتعبد فيه ولهذا كفى استبراؤها قبل يمينه وإن استبرأها قبل عقد اليمين أجزأ لأن معرفة براءة الرحم تحصل به وهو المقصود ولو قال : إن كنت حاملا بذكر فأنت طالق واحدة وإن كنت حاملا بأنثى فأنت طالق اثنتين فولدت ذكرا وأنثى طلقت ثلاثا وإن قال إن كان حملك أو ما في بطنك ذكرا فأنت طالق واحدة وإن كنت حاملا بأنثى فأنت طالق اثنتين فولدت ذكرا وأنثى طلقت ثلاثا وإن قال : إن كان حملك أو ما في بطنك ذكرا فأنت طالق واحدة وإن كان أنثى فأنت طالق اثنتين فولدت ذكرا وأنثى لم تطلق لأن الشرط أن يكون جميع حملها أو ما في بطنها ذكرا أو أنثى ولم يوجد
فصل :
إذا قال : إذا ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدا حيا أو ميتا ذكرا أو أنثى أو خنثى طلقت لأنه ولد وإن قال : كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ثلاثة دفعة واحدة طلقت ثلاثا لأن صفة الثلاث قد وجدت وهي زوجة وإن ولدتهم واحدا بعد واحد من حمل واحد طلقت بالأول طلقة وبالثاني أخرى وبانت بالثالث ولم تطلق به ذكره أبو بكر لأن العدة انقضت بوضعه فصادفها الطلاق بائنا فلم يقع كما لو قال : إذا مت فأنت طالق وقال ابن حامد : تطلق به الثالثة لأن من زمن الوقوع زمن البينونة ولا تنافي بينهما والأول أصح وعليه التفريع فلو قال : إن ولدت ذكرا فأنت طالق واحدة وإن ولدت أنثى فأنت طالق اثنتين فولدتهما دفعة واحدة طلقت ثلاثا فإن ولدتهما واحدا بعد واحد وقع بالأول ما علق عليه وبانت بالثاني ولم تطلق به فإن أشكل الأول منهما طلقت واحدة بيقين ولم تلزمه الثانية بالشك وقال القاضي : قياس المذهب أن يقرع بينهما فمن خرجت قرعته فهو الأول ولو قال : إن كان أول ما تلدين ذكرا فأنت طالق واحدة وإن كانت أنثى فأنت طالق اثنتين فولدتهما دفعة واحدة لم تطلق لأن لا أول فيهما ومتى ادعت الولادة فصدقها أو ادعى هو ولادتها وأنكرته طلقت بإقراره فإن ادعته المرأة فأنكرها لم تطلق إلا ببينة لأن هذا يمكن إقامة البينة عليه بخلاف الحيض
فصل :
إذا قال لمدخول بها : إذا طلقتك فأنت طالق ثم طلقها طلقت طلقتين واحدة بالمباشرة وأخرى بالصفة فإن قال : أردت أنك تطلقين بما أوقعه من طلاقك لأجعله شرطا دين و هل يقبل في الحكم ؟ على روايتين لأن الظاهر جعله شرطا وإن وكل من طلقها فهو كمباشرته لأن فعل الوكيل كفعل الموكل وإن قال : إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال : إن قمت فأنت طالق فقامت طلقت طلقتين واحدة بقيامها وأخرى بالصفة لأن الصفة تطليقة لها وتعليقه لطلاقها بقيامها إذا اتصل به القيام تطليق لها وإن قال مبتدئا : إن قمت فأنت طالق ثم قال : إذا طلقتك فأنت طالق فقامت طلقت واحدة بقيامها ولم تطلق الأخرى لأن هذا يقتضي ابتداء إيقاع ووقوع الطلاق هاهنا بالقيام إنما هو وقوع بصفة سابقة لعقد الطلاق شرطا ولو قال : إذا قمت فأنت طالق ثم قال : إذا قمت فأنت طالق فقامت طلقت اثنتين لأن قوله : أوقعت عليك الطلاق كقوله : طلقتك وقال القاضي : لا تطلق إلا طلقة بقيامها ولا تطلق بالصفة لأن ذلك يقتضي مباشرتها به لا وقوعه بالصفة وإن قال : كلما طلقتك فأنت طالق ثم قال : أنت طالق طلقت طلقتين إحداهما بقوله : أنت طالق والأخرى بالصفة ولا تقع الثالثة لأن الصفة إيقاع الطلاق ولم يتكرر فلم يتكرر الطلاق وإن قال : كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم وقع عليها طلاقه بمباشرة أو صفة طلقت ثلاثا لأن الثانية طلقة واقعة عليها فتقع عليها الثالثة وإن قال : كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ثم قال : أنت طالق فقال ابن عقيل : تطلق واحدة بالمباشرة ويلغو ما علي عليها لأنه طلاق في زمن ماض فأشبه قوله : أنت طالق أمس وقال القاضي : تطلق ثلاثا لأنه وصف المعلق بصفة يستحيل وصفه بها فإنه يستحيل وقوعها بالشرط قبله فلغت صفتها بالقبلية وصار كأنه قال : إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثلاثا فإن قال لزوجتيه : كلما طلقت حفصة فعمرة طالق وكلما طلقت عمرة فحفصة طالق ثم طلق إحداهما طلقتا جميعا إحداهما بالمباشرة و الأخرى بالصفة فإن كانت المباشرة به حفصة لم تزد واحدة منهما على طلقة لأنه ما أحدث في عمرة طلاقا إنما طلقت بالصفة السابقة وإن كانت المباشرة عمرة طلقت الأخرى بالصفة الحادثة بعد تعليقه طلاقها وإن قال لحفصة : كلما طلقت عمرة فأنت طالق وقال لعمرة : كلما طلقت حفصة فأنت طالق ثم طلق عمرة طلقت كل واحدة واحدة وإن طلق حفصة طلقة طلقت طلقتين وطلقت عمرة واحدة وإن قال لأربع نسائه : أيتكن وقع عليها طلاقي فضرائرها طوالق ثم وقع بإحداهن طلاقه طلق الجميع ثلاثا
فصل :
وإن كان له أربع نساء وعبيد فقال : كلما طلقت امرأة فعبد من عبيدي حر وكلما طلقت اثنتين فعبدان حران وكلما طلقت ثلاثا فثلاثة أحرار وكلما طلقت أربعا فأربعة أحرار ثم طلق الأربع متفرقات أو متجمعات فإنه يعتق من عبيده خمسة عشر يعتق بطلاق الواحد واحد وبطلاق الثانية ثلاث لأنها واحدة وهي إلى صاحبتها اثنتان ويعتق بطلاق الثالثة أربعة لأنها واحدة وهي مع صاحبتيها ثلاث ويعتق بطلاق الرابعة سبعة لأنها واحدة وهي مع الثالثة اثنتان وهي مع صواحبها أربع وإن شئت قلت : فيهن أربع صفات هن أربع فيعتق لذلك أربع وهن أربعة آحاد فيعتق بذلك أربعة أخر وهن اثنتان واثنتان فيعتق بذلك أربعة أخر وفيهن ثلاث فذلك خمسة عشر وقيل : يعتق عشرة بالواحدة واحد وبالثانية اثنان وبالثالثة ثلاثة وبالرابعة أربعة والأول أصح لأن الصفة إذا تكررت تكرر الجزاء وإن كان في محل واحد ولذلك لو قال : إن كلمت رجلا فأنت طالق وإن كلمت أسود فأنت طالق وإن كلمت طويلا فأنت طالق فكلمت رجلا أسودا طويلا طلقت ثلاثا ولو قال : كلما أكلت رمانة فأنت طالق وكلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق فأكلت رمانة طلقت ثلاثا واحدة لكونها رمانة واثنتان بأكلها نصفين ولو قال : إذا ولدت ولدا فأنت طالق وإذا ولدت غلاما فأنت طالق وإذا ولدت أسود فأنت طالق فولدت غلاما أسود طلقت ثلاثا

باب الشك في الطلاق
إذا شك هل طلق أم لا ؟ لم تطلق لأن النكاح متيقن فلا يزول بالشك وإن طلق فلم يدر أواحدة طلق أم ثلاث ؟ بنى على اليقين كذلك نص عليه أحمد فإذا ارتعجها فعليه نفقتها واختلف أصحابنا في حلها فقال الخرقي : هي محرمة لأنه متيقن للتحريم الحاصل بالطلاق شاك في حصول الحل بالرجعة فلا يزول التحريم المتيقن بالشك وقال غيره : تحل لأن الرجعة مزيلة لحكم المتيقن من الطلاق ومنهم من منع حصول التحريم بالطلاق لكون الرجعية مباحة فلم يكن التحريم متيقنا والورع أن يلتزم حكم الطلاق الأكثر فيدعها حتى تقضي عدتها لتحل لغيره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ]
فصل :
وإذا قال لنسائه : إحداكن طالق ولم ينو واحدة بعينها أقرع بينهن فأخرجت بالقرعة المطلقة منهن نص عليه لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم ولأن الطلاق إزالة ملك بني على التغليب والسراية فتدخله القرعة كالعتق وإن نوى واحدة بعينها طلقت وحدها لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فانصرف إليه وقوله في ذلك مقبول لأنه لا يعلم إلا من جهته فقبل منه كقول المرأة في حيضها وإن قال : هذه المطلقة بل هذه طلقتا لأن إقراره بطلاق الثانية مقبول ورجوعه عن طلاق الأولى غير مقبول وإن قال : طلقت هذه بل هذه أو هذه طلقت الأولى وإحدى الأخريين وإن قال : هذه أو هذه بل هذه طلقت الثالثة وإحدى الأوليين وإن قال : هذه وهذه أو هذه احتمل أن يكون الشك في الجميع لأنه أتى بحرف الشك بعد الأوليين فيعود إليهما واحتمل أن يكون الشك في الثانية والثالثة لأن حرف الشك بينهما وإن قال طلقت هذه أو هذه وهذه ففي أحد الوجهين يكون شاكا في طلاق الجميع لا يدري أطلق الأولى وحدها أو الأخريين جميعا ؟ وفي الأخرى يكون متيقنا لطلاق الثانية شاكا في الأوليين وكل موضع علم أنه طلق بعضهن فاشتبهت عليه بغيرها فحكمها حكم المنسية على ما سنذكره وإن لم ينو واحدة بعينها تعينت بالقرعة وعليه نفقة الجميع حتى تتعين المطلقة لأنهن محبوسات عليه
فصل :
وإن طلق واحدة بعينها ثلاثا وأنسيها أو خفيت عليه بأن طلقها في ظلمة أو من وراء حجاب أو يراها في طاقة فيطلقها وتشتبه عليه فإنه يحرم عليه الجميع لأنه اشتبهت زوجته بغيرها فحرمتا كما لو اشتبهت بمن لم يتزوجها وإن علمها عينها وقبل قوله لأنه لا يعلم إلا من جهته فإن امتنع مع المعلم حبس حتى يعينها لأنه حق عليه امتنع من إيفائه وإن ادعت غير المعينة عليه أنها المطلقة فالقول قوله من غير يمين فإن مات أقرع بينهن فمن خرجت لها القرعة فلا ميراث لها قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق قال : أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة قلت : أرأيت إن مات بعدها ؟ قال : أقول بالقرعة وذلك لأنه تصير القرعة على المال وقد روي عن علي رضي الله عنه في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ثم مات لا يدري أيتهن طلق أقرع بين الأربع وأنذر منهن واحدة وقسم بينهن الميراث وكذلك إن ماتت إحداهن أو متن جميعا أقرعنا بينهن فمن خرجت عليها القرعة حرمناه ميراثها وقال الخرقي وكثير من أصحابنا : يقرع بينهن في حياته فمن خرجت عليها قرعة الطلاق بانت وحل له البواقي احتجاجا بحديث علي رضي الله عنه فإن ذكر بعد ذلك أن المطلقة غيرها بانت المذكورة لأنها المطلقة ويكون وطؤه لها وطأ بشبهة وترد إليه الأخرى إلا أن تكون قد تزوجت أو تكون القرعة بحكم حاكم فلا ترد نص عليه لأنها إذا تزوجت فقد تعلق بها حق غيره فلم يقبل قوله في فسخ نكاح غيره وقرعة الحاكم كحكمه لا سبيل إلى تقضه وقال أبو بكر وابن حامد : لا ترد إليه التي عينتها القرعة بحال لأنه لا يقبل قوله عليها ولا يرثها إن ماتت وإن مات هو ورثته
فصل :
وإن رأى طائرا فقال : إن كان غرابا فحفصة طالق وإن كان حماما فعمرة طالق فطار ولم يعرف ما هو لم يلزمه طلاق لأنه يحتمل أنه غيرهما ولو قال : إن كان غرابا فحفصة طالق وإن لم يكن غرابا فعمرة طالق ولم يعرف ما هو طلقت إحداهما و الحكم فيها على ما ذكرنا في المشتبهة وإن كان الحالف رجلين فقد حنث أحدهما فيحرم الوطء عليهما لأننا علمنا التحريم في إحداهما فأشبه ما لو كان الحالف واحدا على زوجتين ويبقى في حق كل واحد منهما أحكام النكاح من النفقة والكسوة والمسكن لأن نكاحه كان متيقنا وزواله مشكوك فيه وإن قال أحدهما : إن كان غرابا فعبدي حر وقال الآخر : إن لم يكن غرابا فعبدي حر لم يعتق واحد منهما لأن الأصل الرق فإن اشترى أحدهما عبد صاحبه عتق لأن تمسكه بعبده اعتراف منه بعتق الآخر وقد ملكه فيعتق قاله القاضي وقال أبو الخطاب : يقرع بينهما حينئذ لأن العبدين صارا له وقد علم عتق أحدهما لا بعينه فيعتق بالقرعة إلا أن يكون أحدهما قد أقر أن الحانث صاحبه فيؤخذ بإقراره ولو كان الحالف واحدا فقال : إن كان غرابا فعبدي حر وإن لم يكن غرابا فأمتي حرة ولم يعرف أقرع بينهما فمن خرجت قرعته فهو الحر لأن القرعة تستعمل لتعيين الحرية
فصل :
إن قال لحماته : ابنتك طالق أو كان اسم زوجته زينب فقال : زينب طالق طلقت زوجته فإن قال : أردت ابنتك الأخرى أو امرأة أجنبية اسمها زينب دين لأنه يحتمل ما قاله ولم يقبل في الحكم نص عليه لأن غير زوجته ليست محلا لطلاقه فلم يقبل تفسيره بها وإن نظر إلى زوجته وأجنبية فقال : إحداكما طالق فكذلك لما ذكرناه وقال القاضي : هل يقبل في الحكم ؟ على روايتين
فصل :
فإن كانت له زوجتان هند وزينب فقال : يا هند فأجابته زينب فقال : أنت طالق ينوي المجيبة أو لم يكن له نية طلقت المجيبة وحدها لأنها المخاطبة بالطلاق ولم يرد غيرها به وإن قال : ظننت المجيبة هندا فطلقتها طلقت هند رواية واحدة لأنه أرادها بطلاقه وفي زينب روايتان :
إحداهما : تطلق اختارها ابن حامد لأنه خاطبها بالطلاق فطلقت كما لو لم يكن له نية
والثانية : لا تطلق لأنه لم يردها بكلامه فلم تطلق كما لو أراد أن يقول : أنت طاهر فسبق لسانه بقوله أنت طالق وقال أبو بكر لا يختلف كلام أحمد : أنها لا تطلق وإن قال : علمت أن المجيبة زينب وأردت طلاق هند طلقتا معا ( هند ) بإرادته وزينب بخطابه لها بالطلاق اختيارا ولو لقي أجنبية ظنها زوجته فقال : أنت طالق طلقت زوجته لأنه قصد زوجته بلفظ الطلاق فطلقت كالتي قبلها وإن لقي زوجته فظنها أجنبية فقال : تنحي يا مطلقة أو أمته فقال : تنحي يا حرة يظنها أجنبية فقال أبو بكر لا يلزمه عتق ولا طلاق لأنه لم يقصد طلاقا ولا عتقا ويخرج على قول ابن حامد : أن يقع العتق والطلاق بناء على المسألة في أول الفصل

كتاب الرجعة
إذا طلق الحر زوجته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث أو العبد أقل من اثنتين فله ارتجاعها ما دامت في العدة لقول الله سبحانه : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } إلى قوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } يريد الرجعة عند جماعة أهل التفسير وقال تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وروى ابن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض فسأل عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه و سلم فقال [ مره فليراجعها ] متفق عليه وعن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم طلق حفصة وراجعها رواه أبو داود
وإن انقضت عدتها لم يملك رجعتها لقوله سبحانه : { أحق بردهن في ذلك } وإن طلق قبل الدخول فلا رجعة له لأنه لا عدة عليها فلا تربص في حقها يرتجعها فيه وكل هذا مجمع عليه بحمد الله
فصل :
وإذا كانت حاملا باثنين فوضعت أحدهما فله رجعتها قبل وضع الثاني لأن العدة لا تنقضي إلا بوضع الحمل كله وإن طهرت ذات القرء من القرء الثالث ولم تغتسل ففيه روايتان :
إحداهما : له رجعتها اختاره كثير من أصحابنا لأن ذلك يروى عن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم
والثانية : لا رجعة له لقوله تعالى : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وهي الحيض وقد زال الحيض وهذا اختيار أبي الخطاب
فصل :
ويملك رجعتها بغير رضاها لقول الله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } ولا تفتقر الرجعة إلى ولي ولا صداق لأنها إمساك وهل تفتقر إلى إشهاد ؟ فيه روايتان :
إحداهما : تفتقر إلى الإشهاد لقول الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وظاهر الأمر الوجوب ولأنه استباحة بضع مقصود أشبه النكاح
والثانية : لا يجب لأنه إمساك لا يفتقر إلى رضى المرأة أشبه التكفير في الظهار
فصل :
والرجعية : زوجة بدليل أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكا وسمى المطلقين بعولة فقال سبحانه وتعالى : { وبعولتهن أحق بردهن } فيلحقها طلاقه وظهاره ولعانه وخلعه ويرثها وترثه لأنها زوجه فثبت فيها ما ذكرنا كما قبل الطلاق
فصل :
والرجعية مباحة لزوجها فلها التزين والتشرف له وله السفر بها والخلوة معها ووطؤها في ظاهر المذهب لقوله اله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } وهذه زوجة وعنه : أنها محرمة وهو ظاهر كلام الخرقي لأنها معتدة من طلاقه فحرمت عليه كالمختلعة فإن وطئها فلا حد عليه لأنها زوجته ولا مهر عليه كذلك ويحتمل أن يجب المهر على القول بالتحريم إذا أكرهها على الوطء لأنه وطء حرمه الطلاق فأشبه وطء المختلعة
فصل :
وتحصل الرجعة بالوطء في ظاهر المذهب قصد أو لم يقصد لأن سبب زوال الملك انعقد مع الخيار والوطء من المالك يمنع زواله كوطء البائع في مدة الخيار ولا يحصل باستمتاع سواه من قبله أو لمس أو نظر إلى محرم منها في ظاهر كلام احمد وقال ابن حامد : يخرج فيه وجهان : مبنيان على الروايتين في تحريم المصاهرة به فأما الخلوة بها فليست رجعة بحال لأن تحريم المصاهرة لا يثبت بها وقال بعض أصحابنا : يحصل بها لأنه محرم من غير الزوجة فأشبه الاستمتاع وعن أحمد : لا تحصل الرجعة إلا بالقول وهو ظاهر كلام الخرقي لقول الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ولا يحصل الإشهاد إلا على القول ولأنه استباحة بضع مقصود أشبه النكاح
فصل :
وألفاظ الرجعة : راجعتك وارتجعتك لورود السنة بهما في حديث ابن عمر واشتهارهما في العرف بهذا اللفظ ورددتك وأمسكتك لورود الكتب بهما في قوله : { أحق بردهن } وقوله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } ويحتمل أن يكون الصريح لفظ المراجعة وحده لاشتهاره في العرف دون غيره وإن قال : نكحتك أو تزوجتك ففيه وجهان :
أحدهما : تصح الرجع به اختاره ابن حامد لأن الأجنبية تحل به فالزوجة أولى
والثاني : لا يصح لأنه وضع ابتداء النكاح وهذه لاستدامته فإن قال : راجعتك للمحبة أو الإهانة فهي رجعة صحيحة لأنه أتى بصريح الرجعة وما قرنه به يحتمل أن يكون بيانا للعلة ويحتمل غيره فلا يزول اللفظ عن مقتضاه بالشك فأن نوى به أنني راجعتك لمحبتي إياك أو لأهينك لم يقدح في الرجعة لأنه ضم إليها بيان علتها وأن لم يرد الرجعة وإنما أراد راجعتك إلى الإهانة بفراقي إياك أو إلى المحبة فليس برجعه لأنه قصد بلفظه غير الرجعة
فصل :
ولا يصح تعليقها على شرط لأنه استباحه بضع فأشبهت النكاح ولو قال : راجعتك إن شئت أو كلما طلقتك فقد راجعتك لم يصح وإن راجعها في الردة فقال أبو الخطاب لا يصح لأنه استباحة بضع فأشبه النكاح
وقال القاضي : إن قلنا بتعجل الفرقة فلا يصح وإن قلنا : لا تتعجل فهي موقوفة إن أسلم صحت وإن لم يسلم لم تصح كما يقف الطلاق والنكاح وهذا اختيار ابن حامد
فصل :
وإذا ادعت المرأة انقضاء عدتها بالقروء في زمن يمكن انقضاؤها فيه أو بوضع الحمل الممكن فأنكرها الزواج فالقول قولها لقول الله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن كتمانه كالشهود لما حرم عليه كتمان الشهادة دل على قبولها منهم وإن ادعت انقضاء عدتها بالشهور فأنكرها فالقول قوله لأنه اختلاف في وقت الطلاق والقول قوله فيه وإن ادعت انقضاءها في مدة لا يمكن انقضاؤها فيها لم تسمع دعواها مثل أن تدعي انقضاءها بالقروء في أقل من ثمانية وعشرين يوما إذا قلنا : الأقراء : الأطهار أو في أقل من تسعة وعشرين إذا قلنا : هي الحيض لأننا نعلم كذبها وإن ادعت انقضاءها بالقروء في شهر لم يقبل قولها إلا ببينه نص عليه لأنه يروى عن علي رضي الله عنه ولأن ذلك يندر جدا وظاهر قول الخرقي : قبول قولها بمجرده لما ذكرناه
فصل :
وإن ادعى الزوج رجعتها في عدتها فأنكرته فالقول قوله لأنه يملك رجعتها فقبل قوله فيه كالطلاق فإن ادعى رجعتها بعد العدة فأنكرته فالقول قولها لأنه في زمن لا يملكها والأصل عدمها فإن كان في زمن يمكن انقضاء العدة فيه فقالت : قد انقضت عدتي فقال : قد كنت راجعتك وأنكرته لم يقبل قوله لأن قولها في انقضاء عدتها مقبول فصار دعواه للرجعة بعد الحكم بانقضائها ولو سبق فقال : قد كنت راجعتك فقالت : قد انقضت عدتي قبل رجعتك فأنكرها فالقول قوله لأنه ادعى الرجعة قبل الحكم بانقضاء عدتها وظاهر كلام الخرقي : أن القول قولها في الحالين لأن من قبل قوله سابقا قبل مسبوقا كسائر الدعاوى وإن ادعى أنه أصابها ليثبت له رجعتها فأنرته فالقول قولها لأن الأصل عدمها
فصل :
فإن طلقها فقضت عدتها وتزوجت ثم ادعى رجعتها [ فصدقته ] هي وزوجها ردت إليه لأننا تبينا أن الثاني نكحها وهي زوجة الأول وإن صدقه أحدهما دون الآخر قبل قوله وحده في حقه فإن صدقه الزوج انفسخ نكاحه لاعترافه بفساده ولم تسلم المرأة إليه لأن إقرار لزوج عليها غير مقبول وإن كان هذا قبل دخوله بها فلها عليه نصف المهر وإن كان بعده فلها الجميع بمنزلة طلاقها وإن صدقته المرأة وحدها لم يقبل قولها في يفسخ نكاح الزوج فإن بانت منه بطلاق أو غيره ردت إلى الأول لأن المنع الذي كان لحق الثاني قد زال وإن طلقها قبل الدخول فلا مهر لها لاعترافها أنها ليست زوجة له فإن أنكراه فالقول قولهما فإن قام بينة بدعواه قبلت وردت إليه سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل لأننا تبينا أن الثاني نكحها وهي زوجة الأول وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى : إن دخل بها الثاني فهي زوجته ويبطل نكاحها الأول لأنه يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولأن كل واحد منهما عقد عليها وهي ممن يجوز العقد عليها في الظاهر ومع الثاني مزية الدخول والأول المذهب
فصل :
وإن تزوجت الرجعية في عدتها فوطئها الثاني وحملت منه انقطعت عدة الأول فإذا وضعت حملها أتمت عدة الأول وله رجعتها في هذا التمام لأنها في عدته وإن راجعها قبل الوضع ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح لأنها في عدة غيره لا في عدته
والثاني : يصح لأن الزوجية باقية وإنما انقطعت عدته لعارض فهو كما لو وطئت في صلب نكاحه
فصل :
وإن وطئ الزوج الرجعية وقلنا : لا تحصل الرجعة به فعليها استئناف العدة من الوطء و يدخل فيها بقية عدة الطلاق لأنهما عدتان من رجل واحد فتداخلتا وله ارتجاعها في بقية العدة الأولى وليس له ارتجاعها بعدها لأن عدة الطلاق انقضت
فصل :
إذا طلق الحر زوجته ثلاثا أو طلق العبد زوجته طلقتين حرمت عليه ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره : ويطأها لقول الله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ويشترط لحلها الأول شرطان :
أحدهما : نكاح زوج غيره للآية فلو كانت أمة فوطئها سيدها أو وطئت بشبهة أو استبرأها من سيدها لم تحل له ولا بد أن يكون نكاحا صحيحا فلو نكحها نكاحا فاسدا ووطئها لم تحل له وذكر أبو الخطاب وجها آخر أنه يحلها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله المحلل والمحلل له ] فسماه محللا مع فساد نكاحه والمذهب : الأول لأن النكاح المطلق في الكتاب والسنة إنما يحمل على الصحيح وإنما سماه محللا لقصده التحليل فيما لا يحل كقوله تعالى : { فيحلوا ما حرم الله } فلو أحل حقيقة لم يكن هو والزوج ملعونين
الثاني : أن يطأها الزوج في الفرج وأدناه تغييب الحشفة مع الانتشار لما روت عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : إنها كانت عند رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير فقالت : والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال [ لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ] متفق عليه فإن وطئها في الدبر أو دون الفرج أو غيب الحشفة من غير انتشار لم تحل لأن النبي صلى الله عليه و سلم علق الحكم بذواق العسيلة ولا يحصل بذلك فإن كان الذكر مقطوعا فبقي منه قدر الحشفة فأولجه أحلها وإلا فلا وإن كان خصيا أو مسلولا أو موجوءا حلت بوطئه لدخوله في عموم الآية وعنه : لا يحلها لأنه لا تذاق عسيلته قال أبو بكر : العمل على أنه يحلها لأنه لا يفقد إلا الإنزال وهو غير معتبر في الإحلال ولو كانت ذمية فوطئها زوج ذمي أحلها للمسلم لدخوله في الآية والخبر وكذلك المملوك والصبي والمجنون وقال ابن حامد : لا يحلها المجنون لأنه لا يذوق العسيلة والأول المذهب لدخوله في عموم الآية والخبر ولا يصح دعوى أنه لا يذوق العسيلة فإن المجنون كالصحيح في الشهوة واللذة وافتراقهما في العقل لا يوجب افتراقهما في ذلك فإنه يوجد في البهائم مع عدم العقل وإن وطئها نائمة أو مغمى عليها أو وطئها يعتقدها أجنبية أو استدخلت ذكره وهو نائم حلت لأن الوطء وجد في نكاح صحيح ويحتمل ألا تحل بالوطء في الإغماء لأنها لا تذوق عسيلته
فصل :
واشترط أصحابنا أن يكون الوطء حلالا فلو وطئها زوجها في حيض أو نفاس أو صوم مفروض أو إحرام لم تحل لأنه وطء حرم لحق الله تعالى فلم يحلها كوطء المرتدة وظاهر النص أن يحلها لدخوله في العموم ولأنه وطء تام في نكاح صحيح تام فأحلها كما لو كان التحريم لحق آدمي مثل أن يطأ مريضة تتضرر بوطئه فإنه لا خلاف في حلها به فأما الوطء في ردتهما أو ردة أحدهما فلا يحلها لأنه إن عاد إلى الإسلام فقد وقع الوطء في نكاح غير تام لانعقاد سبب البينونة وإن لم تسلم في العدة فلم يصادف الوطء نكاحا
فصل :
وإذا غابت المطلقة ثلاثا ثم أتت زوجها فذكرت أنها نكحت من أصابها وكان ذلك ممكنا وهل يعرف منها الصدق والصلاح حلت له لأنها مؤتمنة على ما تدعيه وقد وجد ما يغلب على ظنه صدقها وإن لم يوجد ما يغلب على ظنه صدقها لم تحل له لأن الأصل التحريم ولم يوجد غلبة ظن تنقل عنه فلم يحل كما لو أخبره فاسق غيرها فإن كذبها ثم غلب على ظنه صدقها فصدقها حلت له لأنه قد لا يعلم ثم يتجدد علمه بذلك وإن تزوجت زوجا ثم طلقها فادعت أنه أصابها فأحلها واستقر عليه مهرها فأنكر فالقول قولها في حلها لأنها لا تدعي عليه حقا والقول قوله في استقرار مهرها لأنه حق عليه والأصل عدمه وإن ادعت عليه طلاقها فأنكرها لم تحل للأول لأنه لم يثبت طلاقها فتبقى على نكاح الثاني
فصل :
وإذا عادت المطلقة ثلاثا إلى زوجها بعد زوج وإصابة ملك عليها ثلاث تطليقات لأنه قد استوفى ما كان يملك من الطلاق الثلاث فوجب أن يستأنفها وإن كان طلاقها أقل من ثلاث رجعت إليه على ما بقي من طلاقها لأنها عادت قبل استيفاء العدد فرجعت بما بقي من العدد كما لو رجعت قبل نكاح آخر وعنه : أنها إن رجعت بعد نكاح زوج آخر رجعت على طلاق ثلاث لأنها رجعت بعد زوج وإصابة فأشبهت المطلقة ثلاثا

كتاب الإيلاء
وهو الحلف على ترك وطء الزوجة أكثر من أربع أشهر لقول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ويصح من كل زوج مكلف قادر على الوطء ولا يصح من غير زوج كالسيد يؤلي من أمته أو من أجنبية ثم يتزوجها لقوله تعالى : { من نسائهم } ولا يصح من صبي ولا مجنون لأنه لا حكم ليمينهما فأما العاجز عن الوطء فإن كان لسبب يرجى زواله كالمرض والحبس صح إيلاؤه لأنه يمنع نفسه الوطء بيمينه فأشبه القادر وإن كان لسبب غير مرجو الزوال كالجب والشلل لم يصح إيلاؤه لأنه حلف ترك مستحيل فلم يصح كالحلف على ترك الطيران ولأن الإيلاء اليمين المانعة من الجماع وهذا لا تمنعه منه يمينه ويحتمل أن يصح إيلاؤه كالعاجز بالمرض ويصح إيلاء الذمي لعموم الآية ولأن من صح طلاقه ويمينه عند الحاكم صح إيلاؤه كالمسلم
فصل :
ويشترط لصحته أربعة شروط :
أحدها : الحلف لقوله تعالى : { للذين يؤلون } و الإيلاء : الحلف فإن حلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته كان مؤليا بغير خلاف وإن حلف بالطلاق أو العتاق أو الظهار أو صدقة المال ونحوه ففيه روايتان :
إحداهما : لا يكون مؤليا لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير الآية : يحلفون بالله هكذا ذكره الإمام أحمد ولأنه لم يحلف بالله فلم يكن مؤليا كالحالف بالكعبة
والثانية : يكون مؤليا لأنها يمين يلزم بالحنث فيها حق فيصح الإيلاء بها كاليمين بالله تعالى وقال أبو بكر : ما أوجب الكفارة كالحرام كان به مؤليا وما لا كفارة فيه كالطلاق والعتاق لم يكن به مؤليا ولا يختلف المذهب أنه لا يكون مؤليا بما لا يلزمه به حق كقوله : إن وطئتك فأنت زانية لأنه لا يصح تعليق القذف بشرط فلا يلزمها بالوطء حق فلا يكون مؤليا ولو قال : إن وطئتك فعلي صوم أمس أو صوم هذا الشهر لم يصح لأنه يصير عند وجوب الفيئة ماضيا ولا يصح نذر الماضي وإن قال : إن وطئتك فالمسلم حر عن ظهاري صار مؤليا لأنه يلزمه بالوطء حق وهو تعيين عتق سالم وإن قال : إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري أن تظاهرت لم يكن مؤليا في الحال لأنه يمكنه الوطء بغير حق يلزمه وإن تظاهر صار مؤليا لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحق يلزمه
فصل :
الشرط الثاني : أن يحلف على ترك الوطء بالفرج لأنه الذي يحصل الضرر به وإن حلف على ترك الوطء في الدبر أو دون الفرج فليس بمؤل لأنه لا ضرر فيه وألفاظ الإيلاء تنقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : صريح في الظاهر والباطن وهي قوله : والله لا آتيك أو لا أدخل أو أغيب أو أولج ذكري أو حشفتي أو لا أفتضك للبكر خاصة فهذه صريحة ولا يدين فيها لأنها لا تحتمل غير الإيلاء
والقسم الثاني : صريحة في الحكم ويدين فيها وهي عشرة ألفاظ : لا وطئتك لا جامعتك لا أصبتك لا باشرتك لا مسستك لا قربتك لا أتيتك لا باضعتك لا باعلتك لا اغتسلت منك فهذه صريحة في الحكم لأنها تستعمل في الوطء عرفا وقد ورد الكتاب والسنة ببعضها فلا يقبل تفسيرها بما يحيله كوطء القدم والإصابة باليد ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل ما قاله
القسم الثالث : كناية هو : ما عدا هذه الألفاظ مما يحتمل الجماع وغيره كقوله : لأسوأنك ولا دخلت عليك ولا جمع رأسي ورأسك شيء فهذا لا يكون مؤليا بها إلا بالنية لأنها ليس ظاهر في الجماع فلم يحمل عليه إلا بالنية ككنايات الطلاق فيه فإن قال : والله لا جامعتك إلا جماع سوء ونوى به الجماع في الدبر أو دون الفرج فهو مؤل وإن نوى جماعا ضعيفا لا يزيد على تغييب الحشفة فليس بمؤل لأن الضعيف كالقوي في الحكم
فصل :
الشرط الثالث : أن يكون الحالف زوجا مكلفا قادرا على الوطء في الجملة وقد ذكرنا ذلك
الشرط الرابع : أن يحلف على مدة تزيد على أربعة أشهر فإن حلف على أربعة فيما دونها لم يكن مؤليا حرا كان أو عبدا من حرة أو أمة لقول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } فدل على أنه لا يكون مؤليا بما دونها ولأن المطالبة بالطلاق و الفيئة إنما تكون بعدها فلا تصح المطالبة من غير إيلاء فإذا قال : والله لا وطئتك كان مؤليا لأنه يقتضي التأبيد وكذلك إن قال : حتى تموتي أو أموت لأنه للتأبيد وكذلك إن علقه على مستحيل فقال : حتى تطيري ويشيب الغراب ويبيض القار لأن معناه التأبيد قال الله تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } أي : لا يلج الجمل في سم الخياط أي لا يدخلونها أبدا وإن علقه على فعل يقين أو يغلب على ظنه أنه لا يوجد في أربعة أشهر كقيام الساعة وخروج الدجال ونزول عيسى من السماء أو موت زيد فهو مؤل لأنه لا يوجد في أربعة أشهر ظاهرا فأشبه ما لو صرح به وإن قال : والله لا وطئتك حتى تحبلي فهو مؤل لأنها لا تحبل من غير وطئه فهو كالحلف على ترك الوطء دائما وقال القاضي : إن كانت ممن يحبل مثلها لم يكن مؤليا ولا أعلم لهذا وجها لأنه لا يمكن حملها من غير وطء وإن قال : أردت ب ( حتى ) السببية أي لا أطؤك لتحبلي قبل منه لأنه يحتمل ما قاله ولا يكون مؤليا لأنه يمكن وطؤها لغير ذلك وإن علقه على ما يعلم وجوده قبل أربعة أشهر كجفاف بقل أو ما يغلب على الطن وجوده قبلها كنزول الغيث في أوانه وقدوم الحاج في زمانه أو ما يحتمل الأمرين على السواء كقدوم زيد من سفر قريب لم يكن مؤليا لأنه لم يغلب على الظن وجود الشرط فلا يثبت حكمه وإن قال : والله ليطولن تركي لجماعك ونوى مدة الإيلاء فهو مؤل وإلا فلا وإن قال : والله لأسوأنك ولتطولن غيبتي عنك ونوى ترك الجماع في مدة الإيلاء فهو مؤل لأنه عنى بلفظه ما يحتمله وإلا فلا وإن قال : والله لا وطئتك طاهرا أو وطأ مباحا فهو مؤل لأنه حلف على ترك الوطء الذي يطالب به في الفيئة فكان مؤليا كما لو قال : والله لا وطئتك إلا في الدبر
فصل :
وإن قال : والله لا وطئتك في هذا البيت أو البلد لم يكن مؤليا لأنه يمكنه الوطء بغير حنث وإن قال : والله لا وطئتك إلا برضاك أو إلا أن تشائي فليس بمؤل كذلك وكذلك : والله لا وطئتك مريضة أو محزونة أو مكروهة أو ليلا أو نهارا لم يكن مؤليا كذلك وإن قال : والله لا وطئتك إن شئت فشاءت صار مؤليا وإلا فلا
فصل :
ويصح تعليق الإيلاء على شرط لأنه يمين فإذا قال : إن وطئتك فوالله لا وطئتك لم يصر مؤليا في الحال لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث فإذا وطئها صار مؤليا لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث وإن قال : والله لا وطئتك في هذه السنة إلا مرة لم يصر مؤليا في الحال كذلك فإذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر صار مؤليا لأنه صار ممنوعا من وطئها بيمينه وإن قال : والله لا وطئتك سنة إلا يوما فكذلك لأن اليوم منكر فلم يختص يوم بعينه فصارت كالتي قبلها ويحتمل أن يصير مؤليا في الحال لأن اليوم المستثنى يكون من آخر السنة كما في التأجيل
فصل :
فإن قال : والله لا وطئتك عاما ثم قال : والله لا وطئتك نصف عام دخلت المدة الثانية في الأولى لأنها بعضها ولم يعقب إحداهما بالأخرى فتداخلا كما لو قال : له علي مائة ثم قال : له علي خمسون فإن قال : والله لا وطئتك عاما فإذا مضى فوالله لا وطئتك نصف عام فهما إيلاإن في زمانين لا يدخل حكم أحدهما في الآخر فإن انقضى حكم الأول ثبت حكم الآخر وإن قال : والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر لم يكن مؤليا لأن كل واحد من الزمانين لا تزيد مدته على أربعة أشهر ويحتمل أن يكون مؤليا لأنه ممتنع بيمينه من وطئها مدة متوالية أكثر من أربعة أشهر
فصل :
وإن قال لأربعة نسوة : والله لا أطأكن انبنى على أصل وهو : هل يحنث بفعل بعض المحلوف عليه أم لا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يحنث فيكون مؤليا في الحال منهن لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن إلا بحنث فإذا وطء واحدة انحلت يمينه لأنها يمين واحدة فتنحل بالحنث فيها كما لو حلف على واحدة
وعلى الأخرى : لا يحنث بفعل البعض فلا يكون مؤليا في الحال لأنه يمكن وطء كل واحدة بغير حنث فإذا وطء ثلاثا صار مؤليا في الرابعة وابتداء المدة حينئذ فإن مات بعضهن أو طلقها انحل الإيلاء لأنه أمكنه وطء الباقيات بغير حنث وإن قال : والله لا وطئت واحدة منكن صار مؤليا في الحال لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث فإن طلق واحدة منهن أو ماتت كان مؤليا من الباقيات لأنه تعلق بكل واحدة منفردة وإن وطء واحدة سقط الإيلاء من الباقيات لأنها يمين واحدة فإذا حنث مرة لم يعد الحنث مرة ثانية وإن نوى واحدة بعينها كان مؤليا منها وحدها ويقبل قوله في ذلك لأن اللفظ يحتمله وهو أعلم بنيته وإن قال : نويت واحدة معينة قبل لأنه يحتمل ذلك وقياس المذهب : أن يخرج المؤلي منها بالقرعة كالطلاق وذكر القاضي : أن الحكم فيمن أطلق يمينه ولم ينو شيئا كذلك والأول أولى لأنه نكرة في سياق النفي فيكون عاما ولو قال : والله لا وطئت كل واحدة منكن كان مؤليا من جميعهن ولم يقبل قوله : نويت واحدة لأن لفظه لا يحتمل ذلك وينحل اليمين بوطء واحدة لما ذكرنا فإن طالبن بالفيئة وقف لهن كلهن وإن اختلفت مطالبهن وقف لكل واحدة عند طلبها لأنه لا يؤخذ بحقها قبل طلبها وعنه : يوقف لهن جميعهن عند طلب أولاهن لأنها يمين واحدة فكان الوقف لها واحدا وإن قال لزوجتيه كلما وطئت إحداكما فالأخرى طالق وقلنا بكونه إيلاء فهو مؤل منهما
فصل :
فإن قال : والله لا وطئتك ثم قال للأخرى : شركتك معها لم يصر مؤليا من الثانية لأن اليمين بالله لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم أو صفة وهذا كناية وقال القاضي : يكون مؤليا منهما وإن قال : إن أصبتك فأنت طالق وقال للأخرى : أشركتك معها ونوى وقلنا بكونه إيلاء من الأولى صار مؤليا من الثانية لأن الطلاق يصح بالكناية ولو قال : أنت علي كظهر أمي ثم قال للأخرى : شركتك معها كان مظاهرا منهما لأن الظهار تحريم فصح بالكناية كالطلاق وهل يفتقر إلى نية ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يفتقر إليها لأن التشريك لا بد أن يقع في شيء يوجب صرفه إلى المذكور كجواب السؤال
والثاني : يفتقر إليها ذكره أبو الخطاب لأنه ليس صريح في الظهار فافتقر إلى النية كسائر كناياته
فصل :
ولا يطالب المؤلي بشيء قبل أربعة أشهر للآية وابتداء المدة من حين اليمين لأنها تثبت بالنص والإجماع فلم تفتقر إلى حاكم كمدة العدة فإن كان بالمرأة عذر يمنع الوطء كصغر أو مرض أو نشوز أو جنون أو إحرام أو صوم فرض أو اعتكاف فرض لم يحتسب عليه بمدته لأن المنع منها وإن طرأ منه شيء انقطعت المدة لأنها إنما ضربت لامتناع الزوج من الوطء ولا امتناع منه مع العذر ويستأنف المدة عند زوال العذر لأن من شأنها أن تكون متوالية ويحتسب بمدة الحيض لأنه عذر معتاد لا ينفك منه فلو قطع المدة سقط حكم الإيلاء وكذلك لا يقطع التتابع في الصيام وفي النفاس وجهان :
أحدهما : هو كالحيض لأنه مثله في أحكامه
والثاني : هو كالمرض لأنه عذر نادر أشبه المرض وإن كان بالزوج عذر حسبت عليه مدته ولم يقطع المدة طريانه لأن الامتناع من جهته والزوجية باقية فحسبت عليه المدة وإن آلى من الرجعية احتسب عليه المدة ذكره ابن حامد وإن طرأ الطلاق الرجعي لم يقطع المدة لأن الرجعية مباحة ويحتمل أن تنقطع إذا قلنا بتحريمها وغن طلقها طلاقا بائنا انقطعت المدة لأنها حرمت عليه فإذا تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر استؤنفت المدة سواء كان الطلاق في المدة أو بعدها
فصل :
وإن وطئها حنث وسقط الإيلاء لزوال اليمين والضرر عنها سواء وطئها يقظانة أو نائمة أو عاقلة أو مجنونة وهكذا إن وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام أو صيام أو ظهار لما ذكرنا وقال أبو بكر : قياس المذهب ألا يخرج من حكم الإيلاء بالوطء الحرام لأنه لا يؤمر به في الفيئة فهو كالوطء في الدبر والأول أولى لأن اليمين تنحل به فيزول الإيلاء بزوالها وإن وطئها وهو مجنون لم يحنث لأن القلم عنه مرفوع ويسقط الإيلاء لأنه وفاها حقها ويحتمل ألا يسقط لأن حكم اليمين باق ولو أفاق لمنعته اليمين الوطء وقال أبو بكر : يحنث وينحل الإيلاء لأنه فعل ما حل عليه وإن وطئها ناسيا فهل يحنث ؟ على روايتين أصحهما : لا يحنث فعلى هذا هل يسقط الإيلاء ؟ على وجهين كما ذكرنا في المجنون وإن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث لأنه ما وطئ وهل يسقط الإيلاء ؟ على وجهين لما ذكرنا وأدنى الوطء الذي تحصل به الفيئة تغييب الحشفة في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به وإن وطئها في الدبر أو دون الفرج لم يعتد به لأن الضرر واليمين لا يزولان به
فصل :
وإذا وطء لزمته الكفارة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ] متفق عليه وإن كان الإيلاء بتعليق عتق أو طلاق وقع لأنه معلق على شرط قد وجد وإن كان على نذر خير بين الوفاء به والتكفير لأنه نذر لجاج وهذا حكمه وإن كان معلقا على طلاق ثلاث لم يحل له الوطء لأنه آخره يقع في أجنبية ويوقع طلاق البدعة من وجهين جمع الثلاث ووقوعه بعد الإصابة وذكر القاضي : أن كلام أحمد يقتضي روايتين فإن وطئ فعليه النزع حين يولج لأن الحنث حصل به فصارت أجنبية فإذا فعل هذا فلا حد عليه ولا مهر لأنه تارك للوطء وإن لبث أو أتم الإيلاج فلا حد أيضا لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ بعضه في زوجة وفي المهر وجهان :
أحدهما : يجب لأنه وطء في محل غير مملوك أشبه ما لو وطئ بعد النزع
والثاني : لا يجب لأنه إيلاج في محل مملوك فكان آخره تابع له في سقوط المهر ويلحق النسب به وإن نزع ثم أولج وهما عالمان بالتحريم فهما زانيان زنا لا شبهة فيه فعليهما الحد ولا مهر لها إذا كانت مطاوعة وإن كانت مكروهة أو جاهلة بالتحريم فلا حد عليها ولها عليه المهر وإن جهلا التحريم معا فلا حد ويجب لها المهر ويلحقه النسب وإن قال : إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي فقال أحمد : لا يطأ حتى يكفر يريد أنه إذا وطئها مرة لم يكن له أن يطأها ثانيا حتى يكفر لأنها لم تصير محرمة عليه بالظهار فأما قبل ذلك فلا يصح منه التفكير لأنه لا يجوز تقديم الكفارة على سببها
فصل :
وإن انقضت المدة ولم يطأ فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق لقوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } فإن سكتت عن المطالبة لم يسقط حقها وإن عفت عنها سقط حقها في أحد الوجهين كما لو عفت امرأة العنين والآخر لا يسقط ولها الرجوع والمطالبة لأنها ثبتت بترك الضرر بترك الوطء وذلك يتجدد مع الأحوال فأشبه النفقة والقسم وإن طلب الإمهال ولا عذر له لم يمهل لأن الحق حال عليه وهو قادر عليه وإن كان ناعسا فقال : أمهلوني حتى يذهب النعاس أو جائعا فقال : أمهلوني حتى أتغدى أو حتى ينهضم الطعام أو حتى أفطر من صيامي أمهل بقدر ذلك ولا يمهل أكثر من قدر الحاجة كالدين الحال فإن وطئها فقد وفاها حقها وإن أبى ولا عذر له أمر بالطلاق إن طلبت ذلك فإن طلق وقع طلاقه الذي أوقعه ولا يطالب أكثر من طلقة لأنها تفضي إلى البينونة فإن امتنع طلق الحاكم عليه لأنه حق تعين مستحقه ودخلته النيابة فقام الحاكم مقامه عند امتناعه منه كقضاء دينه وعن أحمد : لا تطلق عليه ولكن يحبس ويضيق عليه حتى يطلق لأن ما خير فيه بين شيئين لم يقم الحاكم مقامه فيه كاختيار إحدى الزوجات إذا أسلم على أكثر من أربع فإن قلنا : إن الحاكم يملك الطلاق فله أن يطلق واحدة أو ثلاثا ولأنه قائم مقام الزوج فملك ما يملكه فإن طلق الزوج أو الحاكم ثلاثا حرمت عليه إلا بزوج وإصابة فإن طلق أحدهما أقل من ثلاث فله رجعتها وعن أحمد أنها تكون طلقة بائنة لأنها شرعت لدفع الضرر الحاصل منه فوجب أن لا يملك رجعتها كالمختلعة وعنه : أن تفريق الحاكم يحرمها على التأبيد لأنه تفريق حاكم فأشبه فرقة اللعان والأول أصح لأنه لم يستوف عدد طلاقها فلم تحرم على التأبيد كما لو طلق الزوج وإن قال الحاكم : فرقت بينكما فهو فسخ للنكاح لا تحل له إلا بنكاح جديد نص عليه ومتى وقع الطلاق ثم ارتجعها أو تركها ثم انقضت عدتها ثم تزوجها أو طلق ثلاثا فتزوجت غيره ثم تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر وقف لها لأنه ممتنع من وطئها بيمين في حال الزوجية فأشبه ما لو راجعها وإن بقي أقل من أربعة أشهر لم يثبت حكم الإيلاء لقصوره عن مدته
فصل :
وإن انقضت المدة وهي حائض أو نفساء لم تطالب بالفيئة لأنها لا تستحق الوطء في هذه الحال وإن كان مغلوبا على عقله لم يطالب أيضا لأنه لا يصلح لخطاب ولا يصح منه جواب وإن كان مريضا أو محبوسا لا يمكنه الخروج طولب بفيئة المعذور وهو أن يقول : متى قدرت جامعتها أو نحو ذلك لأن القصد بالفيئة ترك ما قصد من الإضرار بما أتى به من الاعتذار فمتى قدر على الوطء طولب به لأنه تأخر للعذر فإن زال العذر طولب به كالدين وهذا اختيار الخرقي وقال أبو بكر : إذا فاء فيئة المعذور لم يطالب لأنه فاء مرة فلم يلزمه فيئة أخرى كالذي فاء بالوطء لا يلزمه بالفيئة باللسان كفارة لأنه لم يحنث وإن كان غائبا لا يمكنه القدوم لخوف أو نحوه فاء فيئة المعذور وإن أمكنه القدوم فلها أن توكل من يطالبها بالمسير إليها أو حملها إليه أو الطلاق وإن كان محرما فاء فيئة المعذور في قول الخرقي لأنه عاجز عن الوطء أشبه المريض و يتخرج في الاعتكاف المنذور مثله وإن كان مظاهرا لم يؤمر بالوطء لأنه محرم ولا يحل الأمر بمعصية الله ويقال له : إما أن تكفر وتفيء وإما أن تطلق فإن طلب الإمهال ليطلب رقبة يعتقها أو طعاما يشتريه أمهل ثلاثة أيام لأنها قريبة وإن علم أنه قادر على التكفير وأن قصده المدافعة لم يمهل لأن الحق حال عليه وإنما يمهل للحاجة ولا حاجة وإن كان فرضه الصيام لم يمهل حتى يصوم لأنه كثير وإن كان قد بقي عليه من الصيام مدة يسيرة أمهل فيها ويتخرج أن يفيء المظاهر فيئة المعذور ويمهل ليصوم كالمحرم فإن أراد الوطء في حال الإحرام أو الظهار فمنعته لم يسقط حقها لأنها منعته مما يحرم فأشبه ما لو منعته في الحيض وذكر القاضي : أنه يسقط حقها لأنها منعته من إيفائه وإن انقضت مدة العاجز لجب أو شلل ففيئته : لو قدرت لجامعتك لأنه لا قدرة له على غير ذلك
فصل :
ومن طولب بالفيئة فقال : قد وطئتها فأنكرته فإن كانت ثيبا فالقول قوله لأن الأصل بقاء النكاح وعدم ما يوجب إزالته وهل يحلف ؟ على روايتين :
إحداهما : يحلف وهو اختيار الخرقي لأن ما تدعيه المرأة محتمل فوجب نفيه باليمين
والأخرى : لا يمين عليه اختاره أبو بكر لأنه لا يقضى فيه بالنكول وإن كانت بكرا أريت النساء الثقات فإن شهدن ببكارتها فالقول قولها لأنه يعلم كذبه وإلا فالقول قوله وإن ادعى عجزه عن الوطء ولم يكن علم أنه عنين ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل قوله لأن الأصل سلامته فيؤمر بالطلاق
والثاني : يقبل قوله لأنه لا يعرف إلا من جهته وإن اختلفا في انقضاء المدة فالقول قول الزوج لأنه اختلاف في وقت حلفه فكان القول قوله فيه وهل يحلف ؟ على روايتين والله أعلم
فصل :
وإن ترك الزوج الوطء بغير يمين فليس بمؤل لأن الإيلاء من شرطه الحلف فلا يثبت بدونه لكن إن تركه مضرا بها لغير عذر ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلزمه شيء لأنه ليس بمؤل فلا يثبت له الحكم كما لو تركه لعذر ولأن تخصيص الإيلاء بحكمه يدل على أنه لا يثبت بدونه
والثانية : تضرب له مدة الإيلاء وتوقف بعدها كالمؤلي سواء لأنه تارك لوطئها مضرا بها فأشبه المؤلي ولأن ما لا يجب إذا لم يحلف لا يجب إذا حلف على تركه كالزيادة على الواجب وثبوت حكم الإيلاء له لا يمنع من قياس غيره عليه إذا كان في معناه كسائر الأحكام الثابتة بالقياس والله اعلم

كتاب الظهار
وهو قول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي أو ما أشبهه وهو محرم لقول الله تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } ويصح من كل زوج يصح طلاقه لأنه قول يختص النكاح أشبه الطلاق إلا الصبي فلا يصح منه لأنه يمين موجبة للكفارة أشبه اليمين بالله وقال القاضي : ظهاره كطلاقه لما ذكرناه أولا ويصح ظهار الذمي لأنه مكلف يصح طلاقه فصح ظهاره كالمسلم ولا يصح ظهار السيد من أمته لقول الله تعالى : { من نسائهم } فخص به الزوجات فإن ظاهر منها أو حرمها فعليه كفارة يمين كما لو حرم طعامه وعنه : عليه كفارة ظهار قال أبو الخطاب : ويتوجه ألا يلزمه شيء كما لو ظاهرت المرأة من زوجها فإن ظاهر من أجنبية ثم تزوجها أو قال : كل امرأة أتزوجها هي علي كظهر أمي ثم تزوجها لم تحل له حتى يكفر لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في رجل قال : إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي ثم تزوجها قال : عليه كفارة الظهار ولأنها يمين مكفرة فصح عقدها قبل النكاح كاليمين بالله تعالى
فصل :
فإن قال : أنت علي كظهر أمي أو ظهر من يحرم عليه على التأبيد كجدته وسائر محارمه من النسب والرضاع أو المصاهرة فهو مظاهر لأنه شبهها بظهر من هي محل استمتاع وتحرم عليه على التأبيد فكان مظاهرا كما لو قال : أنت علي كظهر أمي وإن شبهها بمن يحرم في حال دون حال كأخت زوجته وعمتها أو الأجنبية ففيه روايتان :
إحداهما : هي ظهار اختاره الخرقي وأبو بكر لأنه تشبيه بمحرم عليه أشبه تشبيهها بالأم
والأخرى : ليس بظهار لأنه شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد أشبه تشبيهها بالمحرمة والصائمة وإن قال : أنت علي كظهر البهيمة لم يكن مظاهرا لأنه ليس محلا للاستمتاع وإن قال : أنت علي كظهر أبي ففيه روايتان :
إحداهما : هو ظهار لأنه شبهها بمحل محرم على التأبيد أشبه التشبيه بظهر الأم
والأخرى : ليس بظهار لأنه ليس بمحل الاستمتاع أشبه التشبيه بالبهيمة
فصل :
فإن قال : أنت عندي أو معي أو مني كظهر أمي فهو ظهار لأنه تقيد بما يفيده قوله : أنت علي كظهر أمي وإن شبهها بعضو غير الظهر فقال : أنت علي كفرج أمي أو يدها أو رأسها فهو ظهار لأن غير الظهر كالظهر في التحريم فكذلك في الظهار به وإن شبه عضوا منها بظهر أمه أو عضوا من أعضائها فقال : ظهرك علي كظهر أمي أو رأسك علي كرأس أمي فهو مظاهر لأنه قول يوجب تحريم الزوجة فجاز تعليقه على يدها ورأسها كالطلاق وما لا يقع الطلاق بإضافته إليه كالشعر والسن والظفر لا يتعلق الظهار به لما ذكرنا
فصل :
فإن قال : أنت علي كأمي أو مثل أمي فهو مظاهر فإن نوى به التشبيه في الكرامة أو نحوها فليس بظهار لأنه يحتمل مقاله وعنه : ليس بظهار حتى ينويه لأنه يحتمل غير الظهار كاحتماله إياه فليس يصرف إليه إلا بنية ككنايات الطلاق وإن قال : أنت كأمي أو مثلها فليس بظهار إلا أن ينويه لأنه من غير التحريم أظهر وقال أبو الخطاب : هي كالتي قبلها وهكذا يتخرج في قوله : رأسك كرأس أمي أو يدك كيدها وما أشبه وقياس المذهب أنه إن وجدت قرينة صارفة إلى الظهار مثل أن يخرجه مخرج اليمين كقوله : إن خرجت من الدار فأنت علي كأمي وشبهه فهو ظهار لأن القرينة صارفة إليه وإلا لم يكن ظهارا لتردد الاحتمالات فيه وإن قال : أنت حرام كأمي فهو صريح في الظهار لأنه لا يحتمل سوى التحريم
فصل :
وإن قال : أنت طالق كظهر أمي طلقت ولم يكن ظهارا لأنه أوقع الطلاق صريحا فوقع وبقي قوله : كظهر أمي غير متعلق بشيء فلم يقع فإن نوى به الطلاق والظهار معا فهو ظهار وطلاق وإن نوى بقوله : أنت طالق : الظهار لم يكن ظهارا لأنه صريح في موجبه فلم ينصرف إلى غير النية كما لو نوى بقوله : أنت علي كظهر أمي الطلاق
فصل :
ويصح الظهار مؤقتا كقوله : أنت علي كظهر أمي شهرا لما روى سلمة بن صخر قال : ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته الخبر فقال : [ حرر رقبة ] رواه أبو داود ولأنه يمين مكفرة صح توقيتها كاليمين بالله تعالى فإذا مضى الوقت مضى حكم الظهار ويجوز تعليقه بشرط كدخول الدار لذلك فإذا وجد الشرط ثبت حكم الظهار وإن قال : أنت علي كظهر أمي إن شاء الله لم يصر مظاهرا لما ذكرناه
فصل :
وإذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أبي لم تكن مظاهرة لقول الله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } فعلقه على الزوج ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة يملك الزوج رفعه فاختص الرجل كالطلاق وفي وجوب الكفارة ثلاث روايات :
إحداهن : عليها كفارة الظهار لما روى إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت : إن تزوجت مصعب بن الزبير هو علي كظهر أبي فسألت أهل المدينة فرأوا : أن عليها الكفارة رواه الأثرم ولأنها أتت بالمنكر من القول والزور بهذا اللفظ فلزمتها كفارة الظهار كالرجل
والثانية : لا شيء عليها لأنه تشبيه غير الظهار فلم يوجب الكفارة كقولها : أنت علي كظهر البهيمة
والثالثة : عليها كفارة يمين أومأ إليها بقوله : قد ذهب عطاء مذهبا جعلها بمنزلة من حرم على نفسه شيئا من الطعام وهذا أقيس في مذهبه لأنه تحريم لحلال غير الزوجة فأوجب كفارة يمين كتحريم الأمة وعليها التمكين قبل الكفارة لأنه حق عليها فلا يسقط بيمينها ولأنه قول غير الظهار فوجب للكفارة فأشبه اليمين بالله تعالى
فصل :
وإذا صح الظهار ووجد العود وجبت الكفارة لقول الله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } والعود : هو الوطء في ظاهر كلام أحمد و الخرقي قال أحمد : العود : هو الغشيان لأن العود في القول فعل ضد ما قال كما أن العود في الهبة هو استرجاع ما وهب فالمظاهر : منع نفسه غشيانها فعوده في قوله غشيانها وقال القاضي وأصحابه : العود : العزم على الوطء لأن الله تعالى أمر بالتكفير عقيب العود قبل التماس بقوله سبحانه : { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وعلى كلا القولين لا يحل له الوطء قبل التكفير لقوله سبحانه : { من قبل أن يتماسا } فإن وطأ قبله أثم واستقرت الكفارة عليه ولم يجب عليه أكثر منها لحديث سلمة حين وطئ فلم يأمره النبي صلى الله عليه و سلم بأكثر من كفارة وتحريمها باق حتى يكفر لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لسلمة : [ ما حملك على ما صنعت ؟ ] قال رأيت بياض ساقها في القمر قال : [ فاعتزلها حتى تكفر ]
وأما قبل الوطء فلا كفارة عليه وإنما أمر بها لكونها شرطا لحل الوطء كاستبراء الأمة المشتراة فإن فات الوطء بموت أحدهما أو فرقتهما فلا كفارة عليه لذلك وإن عاد فتزوجها لم تحل له حتى يكفر وقال أبو الخطاب : إن كانت الفرقة بعد العزم فعليه الكفارة وهذا مقتضى قول من وافقه وقد صرح أحمد بإنكاره وكذلك قال القاضي : لا كفارة عليه
فصل :
وفي التلذذ بالمظاهر منها قبل التكفير بما دون الجماع كالقبلة واللمس روايتان :
إحداهما : يحرم لأن ما حرم الوطء من القول حرم دواعيه كالطلاق
والثانية : لا تحرم لأنه تحريم يتعلق بالوطء فيه كفارة فلم يتجاوز الوطء كتحريم الحيض ولأن المسيس هنا كناية عن الوطء فيقتصر عليه
فصل :
وإذا ظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات فعليه لكل واحدة كفارة لأنها أربع أيمان في محال مختلفة فأشبه ما لو وجدت في أربعة أنكحة قال ابن حامد و القاضي : هذا المذهب رواية واحدة وقال أبو بكر : فيه رواية أخرى : يجزئه كفارة واحدة لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ولأن الكفارة حق الله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة فكفارة واحدة رواية واحدة لما روى ابن عباس : أن عمر سئل عن رجل ظاهر من نسوة فقال : يجزئه كفارة واحدة ولأنها يمين واحدة فلم توجب أكثر من كفارة كاليمين بالله تعالى وإن ظاهر من امرأة مرارا ولم يكفر فكفارة واحدة في ظاهر المذهب لأن اليمين الثانية لم تؤثر تحريما في الزوجة فلم يجب بها كفارة الظهار كاليمين بالله وعن أحمد : ما يدل على أنه إن نوى بالثانية الاستئناف وجب بها كفارة ثانية لأنه قول يوجب تحريما في الزوجة فإذا نوى به الاستئناف تعلق به حكم كالطلاق والمذهب الأول فأما إن كفر عن الأولى فعليه للثانية كفارة واحدة رواية واحدة لأنها أثبتت في المحل تحريما أشبهت الأولى وإن قال : كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي ثم تزوجت نساء في عقد واحد فكفارة واحدة وإن تزوجهن في عقود فكذلك في إحدى الروايتين لأنها يمين واحدة والأخرى : لكل عقد كفارة فلو تزوج امرأتين في عقد وأخرى في عقد لزمته كفارتان لأن لكل عقد حكم نفسه فتعلق بالثاني كفارة كالأول
فصل :
وإن ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها فقال الخرقي : لا يطؤها حتى يكفر يعني : كفارة الظهار لقول الله تعالى : { الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وقال أبو بكر عليه كفارة يمين لا غير لأنها خرجت عن الزوجات فلم يجب بوطئها كفارة ظهار كما لو تظاهر منها وهي أمة فإن أعتقها عن كفارته جاز فإذا تزوجها بعد ذلك لم يعد حكم الظهار والله تعالى أعلم

باب كفارة الظهار
الواجب فيه تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا لقول الله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } وروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت : تظاهر مني أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه و سلم يجادلني فيه فما برحت حتى نزل القرآن { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يعتق رقبة ] قلت : لا يجد قال : [ فيصوم شهرين متتابعين ] قلت : يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال : [ فليطعم ستين مسكينا ] فمن ملك رقبة أو كمالا يشتري به رقبة فاضلا عن حاجته لنفقته وكسوته ومسكنه وما لا بد له من مؤنة عياله و نحوه لزمه العتق لأنه واجد فإن كانت له رقبة لا يستغني عن خدمتها لكبره أو لمرضه أو لكونه ممن لا يخدم نفسه أو يحتاج إليها لخدمة زوجته التي يلزمه إخدامها أو يتقوت بغلتها أو يتعلق به حاجة لا بد منها لم يلزمه عتقها لأن ما لا تستغرقه حاجته كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل كمن معه ماء يحتاج إليه للعطش في التيمم فإن كانت فاضلة عن حاجته الأصلية لزمه عتقها لأنه مستغن عنها فإن كان ماله غائبا ففيه وجهان :
أحدهما : له التكفير بالصيام لأن عليه ضررا في تحريم الوطء إلى حضور المال فكان له الصوم كالمعسر
والثاني : لا يجزئه إلا العتق لأن مالك لما يشتري به رقبة ولأنه فاضل عن كفايته ولو كان ذلك في كفارة القتل والجماع لم يكن له التكفير بالصيام لأنه قادر على التكفير بالعتق من غير ضرر فلزمه كمن ماله حاضر ويحتمل أن يجوز له الصوم لأنه عاجز في الحال فأشبه المظاهر
فصل :
والاعتبار في حال وجوب الكفارة في أظهر الروايتين لأنها تجب على وجه التطهير فاعتبر فيها حال الوجوب كالحد
والثانية : الاعتبار بأغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى الأداء فأي وقت قدر على العتق لزمه لأنه حق يجب في الذمة بوجود المال فاعتبر فيه أغلظ الأحوال كالحج فإن لم يقدر حتى شرع في الصيام لم يلزمه الانتقال إلى العتق لأنه وجد المبدل بعد الشروع في صوم البدل فأشبه المتمتع يجد الهدي بعد الشروع في الصيام وإن أحب الانتقال إليه بعد ذلك أو قبله على الرواية الأولى فله ذلك لأنه الأصل فيجزئه كسائر الأصول إلا العبد إذا أعتق بعد وجوب الكفارة عليه فليس له إلا الصوم لأنه لم يكن يجزئه غيره عند الوجوب فكذلك بعده
فصل :
ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة لقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } نص على المؤمنة في كفارة القتل وقسنا عليها سائر الكفارات لأنها في معناها وعنه : يجزئه في سائر الكفارات ذمية لإطلاق الرقبة فيها
فصل :
ولا يجزئ إلا رقبة سالمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا لأن المقصود تمليك العبد منفعته وتمكينه من التصرف ولا يحصل هذا مع العيب المذكور فلا يجزئ الأعمى لأنه يعجز عن الأعمال التي يحتاج فيها إلى البصير ولا الزمن ولا مقطوع اليد أو الرجل لأنه يعجز عن أعمال كثيرة ولا مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى من اليد لأن نفعها يبطل بهذا ولا مقطوع الخنصر والبنصر في يد واحدة كذلك وقطع أنملتين من إصبع كقطعها لأن نفعها يذهب بذلك ولا يمنع قطع أنملة واحدة لأنها تصير كالإصبع القصيرة إلا الإبهام فإنها أنملتان فذهاب إحداهما كقطعها لذهاب نفعها وإن قطعت الخنصر من يد والبنصر من أخرى لم يمنع لأن نفع اليد لا يبطل به ولا يجزئ الأعرج عرجا فاحشا لأنه يضر بالعمل فهو كقطع الرجل فإن كان عرجا يسيرا أجزأ لأنه لا يضر ضررا بينا ولا يجزئ الأخرس الذي لا تفهم إشارته فإن فهمت إشارته فالمنصوص أن الأخرس لا يجزئ وقال القاضي و أبو الخطاب : يجزئ إلا أن يجتمع معه الصمم فإنهما إذا اجتمعا أضرا ضررا بينا ولا يجزئ المجنون جنونا مطبقا لأنه لا يصلح لعمل ولا من أكثر زمنه الجنون لأنه يعجز عن العمل في أكثر زمنه فإن كان أكثره الإفاقة ولا يمنعه من العمل أجزأ لعدم الضرر البين
فصل :
ويجزئ الأعور لأنه يدرك ما يدركه ذو العينين وأجدع الأنف والأذنين والأصم لأنه كغيره في العمل ويجزئ الخصي والمجبوب كذلك ويجزئ المرهون والجاني والمدبر وولد الزنا كذلك ويجزئ الأحمق وهو الذي يخطئ ويعتقد خطأه صوابا ويجزئ المريض الموجود برؤه والنحيف القادر على العمل فأما ما لا يرجئ برؤه أو لا يقدر على العمل فلا يجزئ لأنه لا عمل فيه ويجزئ عتق الغائب المعلوم حياته لأنه ينتفع بنفسه حيث كان وإن شك في حياته لم تبرأ ذمته لأن الوجوب ثابت بيقين فلا يزول بالشك فإن تبين أنه كان حيا تبينا أن الذمة برئت بعتقه
فصل :
ولا يجزئ عتق الجنين لأنه لم يثبت له أحكام الرقاب فإن أعتق صبيا فقال الخرقي : لا يجزئه حتى يصلي ويصوم لأن الإيمان قول وعمل ولأنه لا يصح منه عبادة لفقد التكليف فلم يجزئ في الكفارة كالمجنون وقال القاضي : لا يجزئ من له دون السبع في ظاهر كلام أحمد وقال في موضع آخر : يجزئ عتق الصغير في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإنها على روايتين وقال أبو بكر وغيره : يجزئ الطفل في جميع الكفارات لأنه ترجى منافعه وتصرفه فأجزأ كالمريض المرجو ولا يجزئ عتق مغصوب لأنه ممنوع من التصرف في نفسه فأشبه الزمن
فصل :
ولا يجزئ عتق أم الولد في ظاهر المذهب لأن عتقها مستحق بسبب آخر فلم يجزئ كعتق قريبه ولأن الرق فيها غير كامل بدليل أنه لا يملك نقل ملكه فيها وعنه : تجزئ لأنها رقبة فتتناول الآية بعمومها وفي المكاتب ثلاث روايات :
إحداهن : يجزئ مطلقا
والأخرى : لا يجزئ مطلقا ووجهها ما ذكرنا
والثالثة : إن أدى من كتابته شيئا لم يجزئ لأنه حصل العوض عن بعضها فلم يعتق رقبة كاملة وإن لم يؤد شيء أجزأ لأنه لم يقتض عن شيء منها أشبه المدبر
فصل :
وإن اشترى من يعتق عليه ينوي بشرائه العتق عن الكفارة عتق ولم يجزئه لأن عتقه مستحق في الكفارة فلم يجزئه كما لو استحق عليه الطعام بالنفقة فدفعه عن الكفارة وإن اشترى عبدا بشرط العتق فأعتقه عن الكفارة لم يجزه كذلك وإن قال : إن وطئتك فعلي أن أعتق عبدي ثم وطئها وأعتق العبد عن ظهاره أجزأه لأنه لم يتعين عتقه عن الإيلاء بل هو مخير بين عتقه وبين كفارة يمين
فصل :
ولو ملك نصف عبد وهو موسر فاعتق نصيبه ونوى عتق الجميع عن كفارته لم يجزئه في قول الخلال وصاحبه وحكاه صاحبه عن أحمد لأن عتق النصيب الذي لشريكه استحق بالسراية فلم يجزئه كما لو اشترى قريبه ينوي به التكفير وقال غيرهما : يجزئ لأن حكم السراية حكم المباشرة بدليل أنه لو جرحه فسرى إلى نفسه كان كمباشرة قتله وإن كان معسرا عتق نصيبه فإن ملك النصف الآخر فأعتقه عن الكفارة أجزأه لأنه أعتق جميعه في وقتين فأجزأ كما لو أطعم المساكين في وقتين وإن أعتق نصف عبدين فقال الخرقي : يجزئ لأن أبعاض الجملة كالجملة في الزكاة والفطرة كذلك في الكفارة وقال أبو بكر : لا يجزئ لأن المقصود تكميل الأحكام ولا يحصل بإعتاق نصفين فعلى قوله إذا أعتق الموسر نصف عبد عتق جميعه ولا يجزئه إعتاق نصف آخر فإن أعتق عبده عن كفارة غيره بغير إذنه لم يجزئه لأنها عبادة فلم تجز عن غيره بغير أمره مع كونه من أهل الأمر كالحج إلا أن يكون ميتا فيجزئ عنه لأنه لا سبيل إلى إذنه فصح من غير إذنه كالحج عنه وإن أعتقه عن كفارة حي بأمره صح وأجزأ عن الكفارة إذا نواها لأنه أعتق عنه بأمره فأجزأه كما لو ضمن له عوضا وعنه : لا يجزئ إلا أن يضمن له عوضا لأن العتق بغير عوض كالهبة ومن شرطها القبض ولم يحصل
فصل :
ومن لم يجد رقبة وقدر على الصيام لزمه صيام شهرين متتابعين فإن شرع في أول شهر أجزأ صيام شهرين بالأهلة تامين كانا أو ناقصين وإذا دخل في أثناء شهر صام شهرا بالهلال وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد ثلاثين يوما لما ذكرنا فيما تقدم فإن أفطر يوما لغير عذر لزمه استئناف الشهرين لأنه أمكنه التتابع فلزمه وإن حاضت المرأة وأنفست أو أفطرت لمرض مخيف أو جنون أو إغماء لم ينقطع التتابع لأنه لا صنع لها في الفطر وإن أفطر لسفر فظاهر كلام أحمد : أنه لا ينقطع التتابع لأنه عذر مبيح للفطر أشبه المرض ويتخرج في السفر والمريض غير المخوف أنه يقطع التتابع لأنه أفطر باختياره فقطع التتابع كالفطر لغير عذر وإن أفطرت الحامل والمرضع خوفا على أنفسهما فهما كالمريض وإن أفطرتا خوفا على ولديهما احتمل أنه لا ينقطع التتابع لأنه عذر مبيح للفطر أشبه المرض واحتمل أن ينقطع لأن الخوف على غيرهما ولذلك أوجب الكفارة مع قضاء رمضان ومن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد طلع أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أفطر وفي قطع التتابع وجهان بناء على ما تقدم وإن نسي التتابع أو تركه جاهلا بوجوبه انقطع لأنه تتبع واجب فانقطع بتركه جهلا أو نسيانا كالموالاة في الطهارة وإن أفطر يوم فطر أو أضحى أو أيام التشريق لم ينقطع به التتابع لأنه فطر واجب أشبه الفطر للحيض ويكمل اليوم الذي أفطر فيه يوم الفطر ثلاثين يوما لأنه بدأ من أثنائه وإن صام ذا الحجة قضى أربعة أيام وحسب بقدر ما أفطر لأنه بدأ من أوله وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان لم ينقطع التتابع لأنه زمن منع الشرع صومه في الكفارة أشبه زمن الحيض وإن صام أثناء الشهرين عن نذر أو قضاء أو تطوعا انقطع التتابع لأنه قطع صوم الكفارة اختيارا لسبب من جهته فأشبه ما لو أفطر لغير عذر وإن كان عليه نذر في كل يوم خميس قدم صوم الكفارة عليه وقضاه بعدها و كفر لأنه لو صام لم يمكنه التكفير بحال
فصل :
وإن وطئ التي ظاهر منها في ليالي الصوم لزمه الاستئناف لقول الله تعالى : { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } أمر بهما خاليين عن التماس ولم يوجد وعنه : لا ينقطع التتابع لأنه وطء لا يفطر به فلم يقطع التتابع كوطء غيرها وإن وطئ غيرها ليلا لم ينقطع التتابع لأنه غير ممنوع منه وإن وطئها نهارا ناسيا أفطر وانقطع التتابع وعنه : لا يفطر ولا ينقطع التتابع به
فصل :
ومن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض غير مرجو الزوال أو شبق شديد أو نحوه لزمه إطعام ستين مسكينا لأن سلمة بن صخر لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بشدة شبقه أمره بالإطعام وأمر أوس بن الصامت بالإطعام حين قالت امرأته : إنه شيخ كبير ما به من صيام فإن قدر على ستين مسكينا لم يجزئه أقل منهم وعنه : يجزئه ترديد الإطعام على واحد ستين يوما لأنه في معنى إطعام ستين مسكينا لكونه قد دفع في كل يوم حاجة مسكين وعنه : لا يجزئه إلا إطعام ستين مسكينا سواء وجدهم أو لم يجدهم لظاهر قوله : { فإطعام ستين مسكينا } والمذهب أن ذلك يجزئ مع تعذر المساكين للحاجة ولا يجزئ مع وجودهم لأنه أمكن امتثال الأمر بصورته ومعناه
فصل :
والواجب أن يدفع إلى مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير لما روى الإمام أحمد : بإسناده عن أبي يزيد المدني قال : جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمظاهر : [ أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر ] وهذا نص ولأنها كفارة تشتمل على صيام و إطعام فكان منها لكل فقير من التمر نصف صاع كفدية الأذى وأما المد من البر فيجزئ لأنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ويجب أن يملك كل فقير هذا القدر فإن دفعه إليهم مشاعا فقال : هذا بينكم بالسوية فقبلوه أجزأه لأنه دفع إليهم حقهم فبرئ منه كالدين وقال ابن حامد : يجزئه وإن لم يقل بالسوية لأن قوله : عن كفارتي يقتضي التسوية وإن غداهم أو عشاهم ستين مدا ففيه روايتان :
أحدهما : يجزئ لقول الله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } وهذا قد أطعمهم ولأن أنسا فعل ذلك وظاهر المذهب أنه لا يجزئ لأنه لا يعلم وصول حق كل فقير إليه ولأنه حق وجب للفقراء شرعا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة ولا يجب التتابع في الإطعام لأن الأمر به مطلق لا تقيد فيه
فصل :
ويجزئه في الإطعام ما يجزئه في الفطرة سواء كانت قوت بلده أو لم تكن وإن أخرج غيرها من الحبوب التي هي قوت بلده أجزأه ذكره أبو الخطاب لقول الله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } فإن أخرج غير قوت بلده خيرا منه جاز لأنه زاد على الواجب وإن كان أنقص منه لم يجزئ وقال القاضي : لا يجزئ إخراج غير ما يجزئ في الفطرة لأنه إطعام للمساكين فأشبه الفطرة والأول أجود لموافقته ظاهر النص ويجوز إخراج الدقيق إذا بلغ قدر مد من الحنطة وفي الخبز روايتين :
إحداهما : يجزئه لقول الله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } ومخرج الخبز قد أطعمهم والأخرى لا يجزئه لأنه قد خرج عن حال الكمال والادخار فأشبه الهريسة فإذا قلنا : يجزئه اعتبر أن يكون من مد بر فصاعدا فإن أخذ مد حنطة فطحنه وخبزه أجزأه وقال الخرقي : لكل مسكين رطلا خبز لأن الغالب أنهما لا يكونان إلا من مد فأكثر وفي السويق وجهان بناء على الروايتين في الخبز ولا تجزئ الهريسة والكبولاء لأنه خرج عن الاقتيات المعتاد ولا القيمة لأنه أحد ما يكفر به فلم تجزئ القيمة فيه كالعتق
فصل :
ولا يجوز صرفها إلا إلى الفقراء والمساكين لأنهما صنف واحد في غير الزكاة ولا يجوز دفعها إلى غني وإن كان من أصناف الزكاة لأن الله تعالى خص بعها المساكين ولا إلى مكاتب كذلك وقال الشريف أبو جعفر : يجوز دفعها إليه لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته فأشبه المسكين والأول أولى لأن الله تعالى خص بها المساكين والمكاتب صنف آخر فأشبه المؤلفة ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع الزكاة إليه كالعبد والكافر ومن تلزمه مؤنته لما ذكرنا في الزكاة وخرج أبو الخطاب وجها آخر في جواز الدفع إلى الكافر بناء على عتقه ولا يصح لأنه كافر فلم يجز الدفع إليه كالمستأمن
فصل :
ولا تجزىء كفارة إلا بالنية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] ولأنه حق يجب على سبيل الطهرة فافتقر إلى النية كالزكاة فإن كانت عليه كفارات من جنس لم يلزمه تعيين سببها وإن كانت من أجناس فكذلك لأنها كفارات فلم يجب تعيين سببها كما لو كانت من جنس وقال القاضي : يحتمل أن يلزمه تعيين سببها لأنها عبادات من أجناس فوجب تعيين النية لها كأنواع الصيام فلو كانت عليه كفارة لا يعلم سببها فأعتق رقبة أجزأه على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني ينبغي أن تلزمه كفارات بعدد الأسباب كما لو نسي الصلاة من يوم لا يعلم عينها ولا يلزم نية التتابع في الصيام لأن العبادة هي الصوم والتتابع شرط فيه فلم تجب نيته كالاستقبال في الصلاة
فصل :
وإن كان المظاهر كافرا كفر بالعتق والإطعام لأنه يصح منه من غير الكفارة فصح منه فيها ولا يكفر بالصوم لأنه لا يصح منه في غيرها فكذلك فيها وإن أسلم قبل التكفير كفر بما يكفر به المسلمون
فصل :
ولا يجوز تقديم الكفارة على سببها لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه كتقديم الزكاة قبل الملك ولو كفر عن الظهار قبل المظاهرة أو عن يمين قبلها أو عن القتل قبل الجرح لم يجز كذلك وإن كفر بعد السبب وقبل الشرط جاز فإذا كفر عن الظهار بعده وقبل العود وعن اليمين بعدها وقبل الحنث وعن القتل بعد الجرح وقبل الزهوق جاز لأن الله تعالى قال : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير ] ولأنها كفارة فجاز تقديمها على شرطها ككفارة الظهار ولأنه حق مالي فجاز تقديمه قبل شرطه كالزكاة

كتاب اللعان
ومتى قذف الرجل زوجته المحصنة بزنى من قبل أو دبر فقال : زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين لزمه الحد إلا أن يأتي ببينة أو يلاعنها لقول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } إلى قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } دلت الآية الأولى على وجوب الحد إلا أن يسقطه بأربعة شهداء
والثانية : على أن لعانه يقوم مقام الشهداء في إسقاط الحد وروى ابن عباس رضي الله عنهما : أن هلال ابن أمية قذف امرأته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة وإلا حد في ظهرك ] فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله من أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت : { والذين يرمون أزواجهم } رواه البخاري ولأن الزوج يبتلي بقذف امرأته لنفي العار والنسب الفاسد وتتعذر عليه البينة ولأنه قد يحتاج إلى نفي النسب الفاسد ولا ينتفي إلا باللعان لتعذر الشهادة على نفيه وله الملاعنة وإن قدر على البينة كذلك ولأنهما حجتان فملك إقامة أيهما شاء كالرجلين و الرجل والمرأتين في المال
فصل :
ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته لأن الحق لها فلا يستوفى من غير طلبها كالدين فإن عفت عن الحد أو لم تطالب لم تجز مطالبته ببينة ولا حد ولا لعان ولا يملك ولي المجنونة والصغيرة وسيد الأمة المطالبة بالتعزيز من أجلهن لأنه حق ثبت للتشفي فلا يقوم غير المستحق مقامه فيه كالقصاص فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها وليس بينهما نسب يريد نفيه لم يملك ذلك لأنه لا حاجة إليه وإن كان بينهما نسب يريد نفيه فله أن يلاعن لأنه محتاج إليه فيشرع كما لو طالبته ولأن نفيه حق له فلا يسقط برضاها به ويحتمل ألا يشرع اللعان كما لو صدقته
فصل :
ويصح اللعان بين كل زوجين مكلفين لعموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ولأن اللعان لدرء عقوبة القذف ونفي النسب الباطل والكافر والعبد كالمسلم الحر فيه وعنه : لا يصح اللعان إلا بين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف لأن اللعان شهادة بدليل قول الله تعالى : { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات } فلا يقبل ممن ليس من أهل الشهادة وقال القاضي : من لا يحد بقذفها كالذمية والأمة والمحدودة في الزنا إن كان بينهما ولد يريد نفيه فله اللعان لنفيه لأنه محتاج إليه وإلا فلا لعان بينهما لأن اللعان لإسقاط حد أو نفي نسب ولم يوجد واحد منهما وإن كان أحد الزوجين صبيا أو مجنونا فلا لعان بينهما لأن غير المكلف لا حكم لقوله ونفي حكم الولد إنما يحصل بتمام اللعان ولا يتم اللعان مع عدم القول منها وقال القاضي : له لعان المجنونة إن كان ثم نسب يريد نفيه لأنه محتاج إليه فإن كان أحدهما أخرس وليست له إشارة مفهومة ولا كتابة فهو كالمجنون لأنه لا يعلم طلبها ولا يتصور لعانهما وإن كان له إشارة مفهومة أو كتابة صح اللعان منهما لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه فكذلك في لعانة وعن أحمد إذا كانت المرأة خرساء فلا لعان بينهما لأنه لا يعلم طلبها فيحتمل أن يحمل على عمومه في كل خرساء لأن إشارتها لا تخلو من تردد و احتمال والحد يدرأ بالشبه ويحتمل أن يختص بمن لا تفهم إشارتها لأنه علل بأنها لا تفهم مطالبتها وإن اعتقل لسان الناطق و أيس من نقطة فهو كالأخرس وإن رجي نطقه لم يصح لعانه لأنه غير مأيوس من نقطة فأشبه الساكت
فصل :
ويصح اللعان بين الزوجين قبل الدخول لعموم قوله تعالى { والذين يرمون أزواجهم } وبعد الطلاق الرجعي لأن الرجعية زوجته فتدخل في العموم ولا يصح من غير الزوجين للآية فإن قذف من كانت زوجته فبانت منه بزنا لم يضفه إلى حال الزوجية فلا لعان بينهما لأنه قذف أجنبية وإن أضافه إلى حال الزوجية وبينهما ولد يريد نفيه لاعن لنفيه لأنه محتاج إليه فصح منه كحال الزوجية وإن لم يكن بينهما ولد حد ولم يلاعن لأنه لا حاجة به إليه فأشبه قذف الأجنبية ولو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا يا زانية فنص أحمد : على أنه يلاعن فنحمله على من بينهما ولد لأنه يتعين إضافة قذفها إلى حال الزوجية ولو نكح امرأة نكاحا فاسدا ثم قذفها فالحكم فيها كالمطلقة إن كان بينهما ولد لاعن لنفيه وإلا فلا لأن النسب يلحق في النكاح الفاسد فيحتاج إلى اللعان لنفيه وإن قذف أجنبية ثم تزوجها حد ولم يلاعن لأنه قذف أجنبية قذفا لا حاجة به إليه وإن قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح فإن كان يتعلق به نفي نسب عنه فله اللعان وإلا فلا ونقل عن أحمد في هذا روايتان :
إحداهما : لا يلاعن لأنه قذفها في حال كونها أجنبية أشبه ما لو قذفها قبل نكاحه لها
والثانية : يشرع اللعان لأنه قذف زوجته

باب صفة اللعان
وصفته : أن يقول الرجل بمحضر من الحاكم أو نائبه : أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا ويشير إليها إن كانت حاضرة وإن كانت غائبة سماها ونسبها حتى تنتفي المشاركة ثم يقول : وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت فيه زوجتي هذه من الزنا ثم تقول المرأة أربع مرات : أشهد الله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه فإن كان غائبا سمته ونسبته ثم تقول : وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني من الزنا لقول الله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } الآيات
وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس : أن هلال بن أمية قذف امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أرسلوا إليها ] فأرسلوا إليها فجاءت فتلا عليهم آية اللعان وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال : والله لقد صدقت عليها فقالت : كذب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لاعنوا بينهما ] فقيل لهلال : اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل : يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم قيل لها : اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فلما كانت الخامسة قيل لها : اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ' وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى أن لا بيت لهما من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها
فصل :
وشروط صحة اللعان ستة :
أحدها أن يكون بمحضر من الحاكم أو نائبه لأنه يمين في دعوى فاعتبر فيه أمر الحاكم كسائر الدعاوى وإن كانت المرأة برزة أرسل إليها فأحضرها كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم بامرأة هلال وإن لم تكن برزة بعث من يلاعن بينهما كما يبعث من يستخلفها في سائر الدعاوى
الثاني : أن يأتي به بعد إلقائه عليه فإن بادر به قبل ذلك لم يعتد به كما لو حلف قبل أن يستحلفه الحاكم
الثالث : كمال لفظاته الخمس فإن نقص منها شيئا لم يعتد به لأن الله علق الحكم عليها فلا يثبت بدونها ولأنها بينة فلم يجز النقص من عددها كالشهادة
الرابع : الترتيب على ما ورد به الشرع فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به لأنه خلاف ما ورد به الشرع ولأن لعان الرجل بينة للإثبات ولعان المرأة بينة للإنكار فلم يجز تقديم الإنكار على الإثبات فإن قدم الرجل اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة أو المرأة الغضب على شيء منها لم يعتد بها لأن الله تعالى جعلها الخامسة فلا يجوز تغييره
الخامس : الإتيان بصورة الألفاظ الواردة في الشرع فإن أبدل الشهادة ببعض ألفاظ اليمين كقوله : أقسم أو أحلف أو أولي أو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد أو الغضب بالسخط أو غيره لم يعتد به لأنه ترك المنصوص ولأنه موضع ورد الشرع فيه بلفظ الشهادة فلم يجز إبداله كالشهادة في الحقوق وفيه وجه آخر : أنه يجزئ لأن معناهما واحد وقال الخرقي : يقول الرجل : اشهد بالله لقد زنت وليس هذا لفظ النص فيدل ذلك على أنه لم يشترط اللفظ وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولذلك خصت به المرأة لأن المعرة والإثم بزناها أعظم من الحاصل بالقذف وإن أبدل الرجل اللعنة بالغضب ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجوز لمخالفته المنصوص
والثاني : يجوز لأنه أبلغ في المعنى
السادس : الإشارة من كل واحد إلى صاحبه إن كان حاضرا أو تسميته ونسبه بما يتميز به إن كان غائبا ليحصل التميز عن غيره وقال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله : الفقهاء يشترطون أن يزاد : فيما رميتها به من الزنا وفي نفيها عن نفسها : فيما رماني به من الزنا ولا أراه يحتاج إليه لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه ولم يذكر هذا ولم يأت بالخبر في صفة اللعان عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فاشتراطه زيادة
فصل :
ويشترط في اللعان : العربية لمن يحسنها ولا يصح بغيرها لأن الشرع ورد به بالعربية فلم يصح بغيرها كأذكار الصلاة وإن لم يحسن العربية جاز بلسانه لأنه يحتاج إليها فجاز بلسانه كالنكاح فإن عرف الحاكم لسانه أجزأ وإن لم يعرف لسانه أحضر عدلين يترجمان عنه ولا يقبل أقل منهما لأنه بمنزلة الشهادة عليه
فصل :
فإن كان بينهما ولد يريد نفيه لم ينتف إلا بذكره في اللعان فإن لم يذكره أعاد اللعان وهذا قول الخرقي واختاره القاضي و قال أبو بكر : لا يحتاج إلى ذكره وينتفي بزوال الفراش لأن حديث سهل بن سعد وصف فيه اللعان ولم يذكر فيه الولد وقال فيه : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ولا يرمى ولدها رواه أبو داود والأول أصح لأن ابن عمر قال : لاعن رجل امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وألحق الولد بالمرأة متفق عليه والزيادة في الثقة مقبولة ولأن من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه كالزوجة وتذكره المرأة في لعانها لأنهما يتحالفان عليه فاشترط ذكره في تحالفهما كالمختلفين في الثمن ويحتمل أن لا يشترط ذكرها له لأنها لا تنفيه والأول المذهب ولا بد من ذكره في كل لفظة فإذا قال : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا يقول : وما هذا الولد ولدي وتقول هي : هذا الولد ولده في كل لفظة وذكر القاضي : أنه يشترط أن يقول : هذا الولد من زنا وليس مني لئلا يعني بقوله : ليس مني خلقا وخلقا ولا يكفيه قوله : هو من الزنا لأنه قد يعتقد الوطء في النكاح الفاسد زنا والصحيح الأول لأنه نفى الولد فينتفي عنه كما لو قال ذلك
فصل :
ويسن في اللعان أربعة أمور :
أحدها : أن يتلاعنا قياما لأن في بعض ألفاظ حديث ابن عباس فقال هلال فشهد ثم قامت فشهدت ولأن فعله في القيام أبلغ في الردع
الثاني : أن يكون بمحضر من جماعة لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه مع حداثة أسنانهم في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما يحضر الصبيان تبعا للرجال ولأن اللعان بني على التغليظ للردع والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك
والثالث : أن يعظهما الحاكم بعد الرابعة ويخوفهما كما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عباس
والرابع : أن يضع رجل يده على الملاعن بعد الرابعة يمنعه المبادرة إلى الخامسة إلى أن يعظه الحاكم ثم يرسلها وتفعل امرأة بالملاعنة بعد رابعتها كذلك لما روى ابن عباس في خبر المتلاعنين قال : : فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه وقال : ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل فقال : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعا بها فقرأ عليها فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها وقال : ويلك كل شيء أهون عليك من غضب الله أخرجه الجوزجاني
فصل :
ولا يسن التغليظ بزمن ولا مكان لأنه لم يرد به أثر ولا فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما دل الحديث على لعانهما كان في صدر النهار لقوله في الحديث : فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر الحديث والغدو إنما يكون أول النهار وقال أبو الخطاب : يستحب التغليظ بهما فيتلاعنان بعد العصر لقول الله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة } يعني : بعد العصر ويكون في الأماكن الشريفة عند المنابر في الجامع إلا في مكة بين الركن والمقام وفي المسجد الأقصى عند الصخرة لأنه أبلغ في الردع والزجر ولله الحمد والمنة

باب ما يوجب اللعان من الأحكام
وهي أربعة أحكام :
أحدها : سقوط الحد أو التعزير الذي أوجبه القذف لأن هلال بن أمية قال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها ولأن شهادته أقيمت مقام بينة مسقطة للحد كذلك لعانه ويحصل هذا بمجرد لعانه كذلك وإن نكل عن اللعان أو عن تمامه فعليه الحد فإن ضرب بعضه ثم قال : أنا ألاعن سمع ذلك منه لأن ما أسقط جميع الحد أسقط بعضه كالبينة ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها سمعت منها كالرجل وإن قذف امرأته برجل سماه سقط حكم قذفه بلعانه وإن لم يذكره فيه لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء ولم يذكره في لعانه ولم يحده النبي صلى الله عليه و سلم ولا عزره له ولأن اللعان بينة في أحد الطرفين فكان بينة في الآخر كالشهادة وقال أبو الخطاب : يلاعن لإسقاط الحد لها وللمسمى
فصل :
الحكم الثاني : نفي الولد وينتفي عنه بلعانه على ما ذكرناه لما ذكرنا من الحديث فيه ولأنه أحد مقصودي اللعان فيثبت به كإسقاط الحد
فصل :
فإن نفى الحمل في لعانه فقال الخرقي : لا ينتفي حتى ينفيه بعد وضعها له ويلاعن لأن الحمل غير متيقن يحتمل أن يكون ريحا فيصير اللعان مشروطا بوجوده ولا يجوز تعليقه على شرط وظاهر كلام أبي بكر صحة نفيه لظاهر حديث هلال بن أمية فإن لاعنها قبل الوضع بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنظروها فإن جاءت به كذا وكذا ] ونفى عنه لولد ولأن الحمل تثبت أحكامه قبل الوضع من وجوب النفقة والمسكن ونفي طلاق البدعة ووجوب الاعتداد به وغير ذلك فكان كالمتيقن
فصل :
فإن ولدت توأمين فنفى أحدهما واستلحق الآخر لحقاه جميعا لأنه لا يمكن جعل أحدهما من رجل والآخر من غيره والنسب يحتاط لإثباته لا لنفيه وإن نفي أحدهما وترك الآخر ألحقناهما به جميعا كذلك
فصل :
وإن أقر بالولد أو هنئ به فسكت أو أمن على الدعاء أو دعا لمن هنأه به لزمه نسبه ولم يملك نفيه لأن هذا جواب الراضي به وكذلك إن علم فسكت لحقه لأنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على الفور كخيار الشفعة وهل يتقدر بالمجلس أو يكون عقيب الإمكان ؟ على وجهين : بناء على خيار الشفعة وإن أخره لعذر كأداء صلاة حضرت أو أكل لدفع الجوع وأشباه هذا من أشغاله أو للجهل بأن له نفيه أو بوجوب نفيه على الفور لم يبطل خياره لأن العادة جارية بتقديم هذه الأمور والجاهل معذور وإن ادعى الجهل بذلك قبل منه لأن هذا مما يخفى إلا أن يكون فقيها فلا يقبل منه لأنه في مظنة العلم وإن أخره لعذر مدة يسيرة لم يحتج أن يشهد على نفسه وإن طالت أشهد على نفسه بنفيه كالطلب بالشفعة وإن قال : لم أصدق المخبر وكان الخبر مستفيضا أو المخبر مشهور العدالة لم يقبل قوله وإن لم يكن كذلك قبل وإن أخر نفي الحمل لم يسقط نفيه لأنه غير مستحق وإن استلحقه لم يلحقه كذلك إلا على قول أبي بكر وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة وأمكن صدقه فالقول قوله وإلا فلا وإن أخر نفيه رجاء موته ليكفي أمر اللعان سقط حقه من النفي
فصل :
الحكم الثالث : الفرقة وفيها روايتان :
إحداهما : لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما لقول ابن عباس في حديثه : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وفي حديث عويمر : أنه قذف زوجته فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم متفق عليه فدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد اللعان فعلى هذا إن طلقها قبل التفريق لحقها طلاقه وللحاكم أن يفرق بينهما من غير طلب ذلك منه لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بينهما من غير استئذانهما وعليه أن يفرق بينهما لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بينهما
والثانية : تحصل الفرقة بمجرد لعانهما لأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع ولأن الفرقة لو وقفت على تفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا لم يرضيا به كالتفريق للعيب والإعسار وتفريق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما بمعنى : أنه أعلمهما بحصول الفرقة باللعان وعلى كلتا الروايتين ففرقة اللعان فسخ لأنها فرقة توجب تحريم مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع
فصل :
الحكم الرابع : التحريم المؤبد يثبت لما روى سهل بن سعد قال : مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا رواه الجوزجاني ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب فلم يرتفع بهما كتحريم الرضاع وقد روى عنه حنبل : أنه إذا أكذب نفسه عاد فراشه كما كان وهذه الرواية شذ بها عن سائر أصحابه قال أبو بكر : والعمل على الأول وإن لاعنها في نكاح فاسد أو بعد البينونة لنفي نسب ثبت التحريم المؤبد لأنه لعان صحيح فأثبت التحريم كاللعان في النكاح الصحيح ويحتمل أنه لا يثبت التحريم لأنه لم يرفع فراشا فلم يثبت تحريما كغير اللعان ولو لاعنها في نكاح صحيح وهي أمة ثم اشتراها لم تحل له لأنه وجد ما يحرمها على التأبيد فلم يرتفع بالشراء كالرضاع
فصل :
ولا تثبت هذه الأحكام إلا بكمال اللعان إلا سقوط الحد وما قام مقامه فإنه يسقط بمجرد لعانه فإن مات أحدهما قبل كماله منهما فقد مات على الزوجية لأن الفرقة لم تحصل بكما اللعان ويرثه صاحبه كذلك ويثبت النسب لأنه لم يوجد ما يسقطه فإن كان الميت الزوج فلا شيء على المرأة وإن ماتت المرأة قبل لعان الزوج وطلبها بالحد فلا لعان لأن الحد لا يورث وإن ماتت بعد طلبها قام وارثها مقامها في المطالبة وله اللعان لإسقاط الحد
فصل :
وإن أكذب نفسه بعد كمال اللعان لزمه الحد إن كانت محصنة والتعزير إن كانت غير محصنة ويلحقه النسب لأنهما حق عليه فيلزمانه بإقراره بهما ولا يعود الفراش ولا يرتفع التحريم المؤبد لأنهما حق له فلا يعودان بتكذيبه
فصل :
فإن لاعن الزوج ونكلت المرأة عن اللعان فلا حد عليها لأن زناها لم يتثبت فإنه لو ثبت زناها بلعان الزوج لم يسمع لعانها كما لو قامت به البينة ولا يثبت بنكولها لأن الحد لا يقضى فيه بالنكول لأنه يدرأ بالشبهات والشبهة متمكنة منه ولكن تحبس حتى تلتعن أو تقر قال أحمد : أجبرها على اللعان لقوله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } فإن لم تشهد وجب أن يدرأ عنها العذاب وعنه : يخلى سبيلها وهو اختيار أبي بكر لأنه لم يثبت عليها ما وجب الحد فيخلى سبيلها كما لو لم تكمل البينة وإن صدقته فيما قذفها به لم يلزمها الحد حتى تقر أربع مرات لأن الحد لا يثبت بدون إقرار أربع على ما سنذكره وحكمها حكم ما لو نكلت ولا لعان بينهما لأن اللعان إنما يكون مع إنكارها ولا يستحلف إنسان على نفي ما يقر به

باب ما يحق من النسب وما لا يلحق
إذا تزوج من يولد لمثله بامرأة فأتت بولد لستة أشهر فصاعدا بعد إمكان اجتماعهما على الوطء لحقه نسبه في ظاهر من المذهب لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الولد للفراش ] و لأن مع هذه الشروط يمكن كونه منه والنسب مما يحتاط له ولم يوجد ما يعارضه فوجب إلحاقه به وإن اختل شرط مما ذكرنا لم يلحق به وانتفى من غير لعان لأن اللعان يمين واليمين جعلت التحقق أحد الجائزين أو نفي أحد المحتملين وما لا يجوز لا يحتاج إلى نفيه
فصل :
وأقل سن يولد لمثله في حق الرجل عشر سنين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ مروهم بالصلاة للسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] رواه أبو داود وقال القاضي : تسع سنين وأقل مدة الحمل لأن الجارية يولد لها كذلك فكذلك الغلام وقال أبو بكر : لا يلحق به الولد حتى يبلغ قال ابن عقيل : هو أصح لأن من لا ينزل الماء لا يكون منه ولد وهذا ليس بسديد لأنهم إن أرادوا بالبلوغ بلوغ خمس عشرة فهو باطل لأنه يولد له لدون ذلك وقد روي أنه لم يكن بين عمرو بن العاص وبين ابنه عبد الله إلا اثنتا عشرة سنة وإن أرادوا الإنزال فيما يعلم فلابد من ضبطه بأمر ظاهر وإن ولدت امرأة غلام سنه دون ذلك لم يلحق به ومن كان مجبوبا مقطوع الذكر والأنثيين لم يلحق به نسب لأنه لا ينزل مع قطعهما وإن قطع أحدهما فقال أصحابنا : يلحق به النسب لأنه إذا بقي الذكر أولج فأنزل وإن بقيت الأنثيان ساحق فأنزل والصحيح أن مقطوع الأنثيين لا يحلق به نسب لأنه لا ينزل إلا ماء رقيقا لا يخلق منه ولد و تنقضي به شهوة فأشبه مقطوع الذكر والأنثيين وإن لم يمكن اجتماع الزوجين على الوطء بأن يطلقهما عقيب تزويجه بها أو كان بينهما مسافة لا يمكن اجتماعها على الوطء معها لم يلحق به الولد وإن ولدت زوجته لدون ستة أشهر من حين تزوجها لم يلحقه ولدها لأننا علمنا أنها علقت به قبل النكاح
فصل :
وأقل مدة الحمل ستة أشهر لم روي أن عثمان أتى بامرأة ولدت لدون ستة أشهر فتشاور القوم في رجمها فقال ابن عباس : أنزل الله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وأنزل : { وفصاله في عامين } فالفصال في عامين والحمل في ستة أشهر وذكر ابن القتبي أن عبد الملك بن مروان : ولد لستة أشهر وأكثرها أربع سنين وعنه سنتان لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا تزيد المرأة على سنتين في الحمل والأول المذهب لما روى الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك بن أنس : حديث عائشة : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل قال مالك : سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا أمرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين وقال أحمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين وامرأة عجلان حملت ثلاثة بطون كل دفعة أربع سنين وغالب الحمل تسعة أشهر لأنه كذلك يقع غالبا وإذا أتت المرأة بولد بعد فراقها لزوجها بموت أو طلاق بائن بأربع سنين لم يلحق به وانتفى عنه بغير لعان لأنها علقت به بعد زوال الفراش وإن كان الطلاق رجعيا فوضعته لأربع سنين منذ انقضت عدتها فكذلك لذلك وإن كان لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق ففيه روايتان :
إحداهما : لا يلحق به لأنها علقت به بعد طلاقه أشبهت البائن
والثانية : يلحقه لأنها في حكم الزوجات فأشبهت ما قبل الطلاق وإن وضعته لأقل من أربع سنين قبل الحكم بانقضاء عدتها لحق به لأنه أمكن إلحاقه به والنسب مما يحتاط لإثباته وإن بانت زوجته منه فوضعت ولدا ثم وضعت آخر بينهما أقل من ستة أشهر لحق به لأنهما حمل واحد وإن أتت به لستة أشهر فصاعدا لم يلحق به لأنه حمل ثان إذ لا يمكن أن يكونا حملا بينهما مدة الحمل فيعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية وإن اعتدت بالأقراء ثم أتت بولد لدون ستة أشهر لحق به لعلمنا أنها حملته في الزوجية والدم دم فساد رأته في حملها وإن كان لأكثر من ستة أشهر فصاعدا لم يلحق به لأننا حكمنا بانقضاء عدتها فلا تنقضها بالاحتمال هذا قول أصحابنا
فصل :
وإذا تزوجت المرأة بعد انقضاء عدتها ثم ولدت بعد ستة أشهر منذ تزوجها الثاني فهو ولده في الحكم لا ينتفي عنه إلا باللعان وإن ولدت لدون ستة أشهر منذ تزوجها الثاني لم يلحق به ولا بالأول وانتفى عنهما بغير لعان وإن تزوجت في عدتها وولدت لدون ستة أشهر من نكاح الثاني فهو ولد الأول لأنه أمكن أن يكون منه ولم يمكن إلحاقه بالثاني وإن أتت به لستة أشهر فصاعدا فهذا يحتمل أن يكون منهما فيرى القافة معهما فيلحق بمن الحقوه به منهما فإن ألحقته بالأول انتفى عن الثاني بغير لعان لأن نكاحه فاسد إن ألحقته بالثاني لحق وهل له نفيه باللعان ؟ على روايتان :
إحداهما : له ذلك والأخرى لا ينتفي عنه بحال وإن لم توجد قافة أو أشكل أمره ففيه روايتان :
إحداهما : يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهما والأخرى يضيع نسبه
فصل :
إذا أتت زوجته بولد يمكن أن يكون منه فقالت : هذا ولدي منك فقال : ليس هذا ولدي منك بل استعرتيه أو التقطتيه ففيه وجهان :
أحدهما : القول قولها لأنه خارج تنقضي به العدة فالقول قولها فيه كالحيض
والثاني : القول قوله ولا يقبل قولها إلا ببينة لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها والأصل عدمها فكانت البينة على مدعيها ويكفي في ذلك امرأة عدلة وإذا ثبتت ولادتها لحق نسبه به لأنه ولد على فراشه وإن كان خلافهما في انقضاء العدة فالقول قولها في انقضائها بغير بينة لأن المرجع إليها فيها وإن قال : هو من زوج قبلي ولم يكن لها قبله زوج أو كان ولم يمكن إلحاقه به لحقه ولم يلتفت إلى قوله وإن قال : هو من وطء شبهة أو قال : لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فقال الخرقي : هو ولده في الحكم ولا حد عليه لها لأنه لم يقذفها ولا لعان بينهما لأن من شرطه القذف ولم يقذفها وقال أبو الخطاب هل له أن يلاعن بنفي الولد ؟ على روايتين :
إحداهما : لا يلاعن كذلك
والثانية : له أن يلاعن لأنه يحتاج إلى نفي النسب الفاسد فشرع كما لو قذفها
فصل :
ومن ولدت زوجته بعد وطئه لها بستة أشهر من غير مشاركة غيره له في وطئها لحقه نسب ولدها ولم يحل له نفيه لما روى أبو هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال حين نزلت آية الملاعنة : [ أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليها احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ] أخرجه أبو داود وإن علم أنه من غيره مثل أن يراها تزني في طهر لم يصبها فيه فاجتنبها حتى ولدت لزمه قذفها ونفي ولدها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال في الحديث : [ وأيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته ] فلما حرم عليها أن تدخل عليهم نسبا ليس منهم دل على أن الرجل مثله ولأنه إذ لم ينفه زاحم ولده في حقوقهم ونظر إلى حرمه بحكم أنه محرم لهن وإن لم يرها تزني لكن تعلم أن الولد من غيره لكونه لم يصبها لزمه نفي ولدها كذلك وليس له قذفها لاحتمال أن تكون مكرهة أو موطوءة بشبهة وإن كان يطؤها ويعزل لم يكن له نفي ولدها لما روى أبو سعيد الخدري قال : قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إنا نصيب النساء ونحب الأثمان فنعزل عنهن فقال : [ إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها ] ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق منه وإن كان يجامعها دون الفرج أو في الدبر فقال أصحابنا : ليس له نفيه لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما لا تحس به
فصل :
وإن ولدت امرأته غلاما أسود وهما أبيضان أو أبيض وهما أسودان لم يجز له نفيه ذكره ابن حامد لما روى أبو هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن امرأتي جاءت بولد أسود يعرض بنفيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هل لك من إبل قال : نعم قال : فما ألوانها ؟ قال : حمر قال : هل فيها من أورق ؟ قال : إن فيها لورقا قال : فأنى أتاها ذلك ؟ ! قال : عسى أن يكون نزعة عرق قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ] قال : ولم يرخص له في الانتقاء منه متفق عليه ولأن دلالة ولادته على فراشه قوية ودلالة الشبهة ضعيفة فلا يجوز معارضة القوي بالضعيف ولذلك لما اختلف عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص في غلام فقال سعد : هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد الله بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته ورأى النبي صلى الله عليه و سلم فيه شبها بينا لعتبة فقال : [ الولد للفراش وللعاهر الحجر ] متفق عليه فاعتبر الفراش دون الشبهه وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أن له نفيه لقول النبي صلى الله عليه و سلم في امرأة هلال : [ انظروها فإن جاءت به أبيض سبطا مضيء العينين فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو لشريك ] رواه أحمد و مسلم فجاءت به على النعت المكروه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لولا الإيمان لكان لي ولها شأن ] أخرجه أبو داود فجعل الشبه دليلا على نفيه عن الزوج
فصل :
وإن رآها تزني ولم يكن له نسب يلحقه فله قذفها لأن هلالا وعويمرا قذفا زوجتيهما قبل أن يكون ثم نسب ينفى وله أن يسكت لأنه لا نسب فيه ينفيه وفراقها ممكن بالطلاق فيستغني عن اللعان وإن أقرت عنده بالزنا فوقع في نفسه صدقها أو أخبره بذلك ثقة أو استفاض في الناس أن رجلا يزني بها ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب فله قذفها لأن الظاهر زناها وإن لم ير شيئا ولا استفاض سوى أنه رأى رجلا من عندها من غير استفاضة لم يكن له قذفها لأنه يجوز أن يكون دخل هاربا أو سارقا أو ليراودها عن نفسها فمنعته فلم يجز قذفها بالشك وإن استفاض ذلك ولم يره يدخل إليها ففيه وجهان :
أحدهما : يجوز قذفها لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة
والثاني : لا يجوز لأنه يحتمل أن عدوا أشاع ذلك عنها
فصل :
ومن ملك أمة لم تصر فراشا بنفس الملك لأنه قد يقصد بملكها التمول أو التجمل أو التجارة أو الخدمة فلم يتعين لإرادة الوطء فإن أتت بولد ولم يعترف به لم يلحقه نسبه لأنه لم يولد على فراشه فإذا وطئها صارت فراشا له فإذا أتت بولد لمدة الحمل من حين يوم الوطء لحقه لأن سعدا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة فقال عبد بن زمعة : هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هو لك يا ابن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ] متفق عليه فإن ادعى أنه كان يعزل عنها لم ينتف عنه الولد بذلك : لما ذكرنا في الزوجة وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ما بال قوم يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن لا تأتني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا وإن اعترف بوطئها دون الفرج فقال أصحابنا : يلحقه نسب ولدها لأن الماء قد يسبق إلى الفرج من حيث لا يعلم وإن انتفى من ولدها بعد اعترافه بوطئها لم يلاعن لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين ولا ينتفي عنه إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها فإن ادعى ذلك فالقول قوله وينتفي ولدها عنه ويقوم ذلك مقام اللعان في نفي الولد

كتاب العدد
إذا فارق الرجل زوجته في حياته قبل المسيس والخلوة فلا عدة عليها بالإجماع لقول الله سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ولأن العدة تجب لاستبراء الرحم وقد علم ذلك بانتفاء سبب الشغل فإن فارقها بعد الدخول فعليها العدة بالإجماع لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ولأنه مظنة لاشتغال الرحم بالحمل فتجب العدة لاستبرائه وإن طلقها بعد الخلوة وجبت العدة لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أبي أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا أو من أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت العدة ولأن التمكين من استيفاء المنفعة جعل كاستيفائها ولهذا استقرت الأجرة في الإجارة فجعل كالاستيفاء في العدة
فصل :
والمعتدات ثلاثة أقسام : معتدة بالحمل فتنقضي عدتها بوضعه سواء كانت حرة أو أمة مفارقة في حياة أو بوفاة لقول الله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }
وروت سبيعة الأسلمية : أنها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها فلما انقلبت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها ابن السنابل بن بعكك فقال : لعلك ترجين النكاح إنك والله ما أنت ناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي فأمرني بالتزوج إذا بدا لي متفق عليه ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل إلا بوضعه فكانت عدتها به ولا تنقضي إلا بوضع جميع الحمل وانفصاله فإن كان حملها أكثر من واحد فحتى تضع آخر حملها وينفصل لأن الشغل لا يزول إلا بذلك وإن وضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان انقضت به عدتها لأنه ولد وإن لم يتبين فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية فكذلك لأنه تبين لهن وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي فالمنصوص أن العدة لا تنقضي به لأنه لم يصر ولدا فأشبه العلقة وعنه : أن الأمة تصير به أم ولد فيجب أن تنقضي به العدة لأنه حمل فيدخل في عموم الآية وأقل مدة تنقضي فيها العدة بالحمل أن تضعه بعد ثمانين يوما من حين إمكان الوطء لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوما ثم يكون مضغة أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ] ولا تنقضي العدة بما دون المضغة ولا يكون مضغة في أقل من ثمانين
فصل :
القسم الثاني : معتدة بالقروء : وهي : كل مطلقة أو مفارقة في الحياة وهي حائل ممن تحيض وهي نوعان حرة : فعدتها ثلاثة قروء لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وأمة : فعدتها قرآن لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان ] رواه أبو داود وعن عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم أنهم قالوا : عدة الأمة حيضتان وفي القروء روايتان :
إحداهما : الحيض لهذا الخبر وقول الصحابة رضي الله عنهم ولقوله عليه السلام : [ تدع الصلاة أيام أقرائها ] رواه أبو داود وقال لفاطمة بنت أبي حبيش : [ فإذا أتي قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ] رواه النسائي ولأنه معنى يستبرأ به الرحم فكان بالحيض كاستبراء الأمة ولأن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالظاهر أنها تكون كاملة ولا تكون العدة ثلاثة قروء كاملة إلا إذا كانت الحيض ومن جعل القروء الأطهار لم يوجب ثلاثة كاملة لأنه يعد الطهر الذي طلقها فيه قرءا
والثانية : القروء : الأطهار لقول الله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } أي في عدتهن وإنما يطلق في الطهر فإذا قلنا : هي حيض لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها ولزمها ثلاث حيض مستقبلة لقوله تعالى : { ثلاثة قروء } فيتناول الكاملة وإن قلنا هي الأطهار احتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءا ولو بقي منه لحظة لقوله سبحانه : { فطلقوهن لعدتهن } أي في عدتهن وإنما يكون من عدتهن إذا احتسب به ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض كيلا يضر بها فتطول عدتها ولو لم يحتسب بقية الطهر قرءا لم تقتصر عدتها بالطلاق فيه فإن لم يبق من الطهر بعد الطلاق جزء بأن وافق آخر لفظه آخر الطهر أو قال : أنت طالق في آخر طهرك كان أول قرائها الطهر الذي بعد الحيض لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق ومتى قلنا : القرء : الحيض فآخر عدتها انقطاع الدم في الحيضة الثالثة لأن ذلك آخر القروء وعنه : لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة اختاره الخرقي لأنه يروى عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبادة وأبو موسى وأبو الدرداء رضي الله عنهم وإن قلنا : القروء : الأطهار فآخر العدة آخر الطهر
الثالث : إذا رأت الدم بعده انقضت عدتها ويحتمل أن لا تنقضي بانقضائها حتى ترى الدم يوما وليلة لأن ما دونه لا يحتمل أن يكون حيضا وليست اللحظة التي ترى فيها الدم من عدتها ولا يصح ارتجاعها فيها لأن حسبانها من عدتها يفضي إلى زيادتها في ثلاثة قروء وإنما اعتبرت ليتحقق انتفاء الطهر
فصل :
وأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوما إن قلنا : القرء : الحيض وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما لأن ثلاثة حيضات ثلاثة أيام وبينها طهران ستة وعشرون يوما وإن قلنا : أقل الطهر خمسة عشر يوما فأقل العدة ثلاثة وثلاثون يوما وإن قلنا : الأقراء : الأطهار والطهر : ثلاثة عشر يوما فأقلها : ثمانية وعشرون يوما ولحظة وإن قلنا : أقله خمسة عشر يوما فأقلها اثنان وثلاثون يوما ولحظة فأما الأمة فعلى الأول : أقل عدتها خمسة عشر يوما وعلى الثاني : سبعة عشر وعلى الثالث : أربعة عشر يوما ولحظة وعلى الرابع : ستة عشر يوما ولحظة
فصل :
القسم الثالث : المعتدة بالشهور وهي ثلاثة أنواع :
إحداهن : الآيسة من المحيض والصغيرة التي لم تحض إذا بانت في حياة زوجها بعد دخوله بها فإن كانت حرة فعدتها ثلاثة أشهر لقول الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن }
فإن طلقها في أول الهلال فعدتها ثلاثة أشهر بالأهلة وإن طلقها في أثناء شهر اعتدت شهرين بالهلال وشهرا بالعدد لما ذكرنا فيما مضى وإن كانت الأمة ففيها ثلاث روايات :
إحداهن : عدتها شهران لأن كل شهر مكان قرء وعدتها بالأقراء قرءان فتكون عدتها بالشهور شهرين
والثانية : عدتها شهر ونصف لأن عدتها نصف الحرة وعدة الحرة : ثلاثة أشهر فنصفها شهر ونصف وإنما كملنا الأقراء لتعذر تنصيفها وتنصيف الأشهر ممكن
والثالثة : أن عدتها ثلاثة أشهر لعموم الآية ولأن اعتبار الشهور لمعرفة براءة الرحم ولا يحصل بأقل من ثلاثة
فصل :
واختلف عن أحمد في حد الإياس فعنه : أقل خمسون سنة لأن عائشة رضي الله عنها قالت : لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة وعنه : إن كانت من نساء العجم فخمسون وإن كانت من نساء العرب فستون لأنهن أقوى طبيعة وذكر الزبير في كتاب النسب : أن هند بنت أبي عبيد بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب ولها ستون سنة قال : ويقال لن تلد بعد الخمسين إلا عربية ولا بعد الستين إلا قرشية ويحتمل كلام الخرقي أن يكون حده : ستون سنة في حق الكل لقوله : وإذا رأته بعد الستين فقد زال الإشكال وتيقن أنه ليس بحيض
فصل :
وإن شرعت الصغيرة في الاعتداد بالشهور فلم تنقض عدتها حتى حاضت بطل ما مضى من عدتها واستقبلت العدة بالقروء لأنها قدرت على الأصل فيه فبطل حكم البدل كالمتيمم يجد الماء وإن قلنا : القروء : الحيض استأنفت ثلاث حيض وإن قلنا : هي الأطهار فهل تعتد بالطهر الذي قبل الحيض قرءا ؟ فيه وجهان :
أحدهما : تعتد به لأنه طهر قبل حيض فاعتدت به كالذي بين الحيضتين
والثاني : لا تعتد به كما لو اعتدت قرءين ثم يئست لم تعتد بالطهر قبل الإياس قرءا ثالثا وإن لم تحض حتى كملت عدتها بالشهور لم يلتفت إليه لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة فلم يلتفت إليه
فصل :
النوع الثاني : المتوفى عنها زوجها إذا لم تكن حاملا فعدتها أربعة أشهر وعشرا إذا كانت حرة مدخولا بها أو غير مدخول بها لقول الله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] متفق عليه وإن كانت أمة اعتدت شهرين وخمس ليال لأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن عدة الأمة المطلقة : نصف عدة الحرة فيجب أن تكون عدة المتوفى عنها نصف عدة الحرة وهو ما ذكرنا ومن نصفها حر فعدتها بالحساب من عدة حرة وعدة أمة وذلك ثلاثة أشهر وثمان ليال لأن نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال ونصف عدة الأمة شهر وثلاثة ليال
فصل :
النوع الثالث : ذات القروء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فعدتها سنة تسعة أشهر تتربص فيها ليعلم برائها من الحمل لأنها غالب مدته ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر وقال الشافعي رحمه الله : هذا قضاء عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منكر علمناه فصار إجماعا فإن حاضت قبل انقضاء السنة ولو بلحظة لزمها الانتقال إلى القروء لأنها الأصل فبطل حكم البدل كالمتيمم إذا رأى الماء وإن عاد الحيض بعد انقضاء السنة وتزوجها لم تعد إلى الأقراء لأننا حكمنا بانقضاء عدتها وصحة نكاحها فلم تبطل كما لو حاضت الصغيرة بعد اعتدادها وتزوجها وإن حاضت بعد السنة وقبل تزوجها ففيه وجهان :
أحدهما : لا عدة عليها كذلك
والثاني : عليها العدة لأنها من ذوات القروء وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق الزوج بها فلزمها العود كما لو حاضت في السنة وإن كانت أمة تربصت تسعة أشهر للحمل لأن مدته للحرة والأمة سواء وتضم إلى ذلك عدة الأمة على ما ذكرنا من الخلاف فيها وإن شرعت في الحيض ثم ارتفع حيضها قبل قضاء عدتها لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض لأنها لا تنبني إحدى العدتين على الأخرى ولو عرفت ما رفع الحيض من المرض أو الرضاع ونحوه لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به لأنها من ذوات القروء والعارض الذي منع الدم يزول فانتظر زواله إلا أن تصير آيسة فتعتد ثلاثة أشهر من وقت أن تصير في عداد الآيسات
فصل :
إذا أتى على الجارية سن تحيض فيه النساء غالبا كخمسة عشر فلم تحض فعدتها ثلاثة أشهر في إحدى الروايتين لظاهر قول الله تعالى : { واللائي لم يحضن } والأخرى عدتها سنة لأنه أتى عليها زمن الحيض فلم تحض فأشبهت من ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه ولو ولدت ولم تر دما قبل الولادة ولا بعدها ففيه الوجهان بناء على ما تقدم فأما المستحاضة فإن كان لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز فمتى مرت لها ثلاثة قروء انقضت عدتها لأنه حيض محكوم به أشبه غير المستحاضة وإن كانت ممن لا عادة لها ولا تمييز إما مبتدأة وإما ناسية متحيرة ففيها روايتان :
إحداهما : عدتها ثلاثة أشهر لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر حمنة ابنة جحش : أن تجلس من كل شهر ستة أيام أو سبعة فجعل لها حيضة في كل شهر لأننا نحكم لها بحيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصوم فيجب أن تنقضي العدة به
والثانية : تعتد سنة لأنها لم تتيقن بها حيضا مع أنها من ذوات الأقراء فأشبهت التي ارتفع حيضها والأول أولى
فصل :
فإذا عتقت الأمة بعد قضاء عدتها لم يلزمها زيادة عليها لأن عدتها انقضت فأشبهت الصغيرة إذا حاضت بعد انقضاء عدتها بالأشهر وإن عتقت في عدتها وكانت رجعية أتمت عدتها عدة حرة لأن الرجعية زوجة وقد عتقت في الزوجية فلزمتها عدة حرة كما لو عتقت قبل الشروع فيها وإن كانت بائنا أتمت عدة الأمة لأنها عتقت بعد البينونة أشبهت المعتقة بعد عدتها
فصل :
وإن مات زوج المعتدة الرجعية فعليها عدة الوفاة تستأنفها من حين الموت وتنقطع عدة الطلاق لأنها زوجة متوفى عنها فتدخل في عموم قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وإن كانت بائنا غير وارثة لكونها مطلقة في صحته بنت على عدة الطلاق لأنها أجنبية من نكاحه وميراثه فلم يلزمها الاعتداد من وفاته كما لو انقضت عدتها قبل موته وعلى قياس هذا : المطلقة في المرض التي لا ترث كالذمية والأمة والمختلعة وزوجة العبد لأنها غير وارثة وإن كانت وارثة كالحرة المسلمة يطلقها زوجها الحر في مرض موته فعليها أطول الأجلين من ثلاثة قروء أو أربعة أشهر وعشر لأنها مطلقة بائن فتدخل في الآية ومعتدة ترث بالزوجية فلزمتها عدة الوفاة كالرجعية فإن كان طلاقه قبل الدخول أو موته بعد قضاء عدتها فلا عدة عليها وعنه : عليهما العدة من الوفاة لأنهما يرثانه بالزوجية والأول أصح لقول الله سبحانه وتعالى : { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ولأن الأجنبية تحل للأزواج فلم تلزمها العدة منه كما لو تزوجت غيره
فصل :
وإذا وطئت المرأة بشبهة أو زنا لزمتها العدة لأن العدة تجب لاستبراء الرحم وحفظا عن اختلاط المياه واشتباه الأنساب ولو لم تجب العدة لاختلط ماء الواطئ بماء الزوج ولم يعلم لمن الولد منهما فيحصل الاشتباه وعدتها كعدة المطلقة لأنه استبراء لحرة أشبه عدة المطلقة وعنه : أن الزانية تستبرأ بحيضة لأن النسب لا يلحق الزاني وإنما المقصود معرفة براءة رحمها فكان بحيضة كاستبراء أم الولد إذا مات سيدها
فصل :
وإذا طلق أحد نسائه ثلاثا وأنسيها ثم مات قبل أن يبين المطلقة فعلى الجميع الاعتداد بأطول الأجلين من عدة الطلاق والوفاة ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون المطلقة فيلزمها ثلاثة قروء ويحتمل أن تكون غيرها فتلزمها عدة الوفاة فلا يحصل حلها يقينا إلا بهما والنصوص أنه يقرع بينهن فتعتد واحدة منهن عدة الطلاق و سائرهن عدة الوفاة فأما إن طلق واحدة لا بعينها فإنه يقرع بينهن فتخرج بالقرعة المطلقة منهن فتعتد عدة الطلاق ويعتد سائرهن عدة الوفاة لأن الطلاق لم يقع في واحدة بعينها وإنما عينته القرعة بخلاف التي قبلها
فصل :
إذا ارتابت المعتدة لرؤيتها أمارات الحمال من حركة أو نحوها لم تزل في عدة حتى تزول الريبة فإن تزوجت قبل زوالها لم يصح نكاحها لأنها تزوجت قبل العلم بقضاء عدتها وإن حدثت الريبة بعد انقضاء عدتها ونكاحها فالنكاح صحيح لأننا حكمنا بصحة ذلك بدليله فلا يزول عنه بالشك لكن لا يحل وطؤها حتى تزول الريبة لأنا شككنا في حل الوطء وإن حدثت بعد العدة وقبل النكاح ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحل لها أن تنكح لأنها شاكة في انقضاء عدتها
والثاني : يحل لها لأننا حكمنا بانقضاء عدتها فلا يتغير الحكم بالشك
فصل :
إذا فقدت المرأة زوجها وانقطع خبره عنها لم يخل من حالين :
أحدهما : أن يكون ظاهر غيبته السلامة كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة فلا تزول الزوجية ما لم يتيقن موته لأنها كانت ثابتة بيقين فلا تزول بالشك وعنه : إذا مضى له تسعون سنة قسم ماله وإذا أباح قسمة ماله أباح لزوجته أن تتزوج قال أصحابنا : يعني تسعين سنة من حين ولد لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من ذلك فإذا اقترن به انقطاع خبره حكم بموته والأول أصح لأن هذا تقدير لا يصار إليه بغير توقيف
الثاني : أن يكون ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله أو في مفازة هلك فيها بعض رفقته أو بين الصفين أو ينكسر مركبا فيهلك بعض رفقته وأشباه ذلك فمذهب أحمد أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة ثم تتزوج قال بعض أصحابنا : لا يختلف قول أحمد في هذا وقال أحمد : من ترك هذا القول أي شيء يقول ؟ هو عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال القاضي : عندي أن فيها رواية أخرى :
أن حكمه حكم من ظاهر غيبته السلامة والمذهب الأول قال أحمد : يروى عن عمر من ثمانية وجوه ومن أحسنها ما روى عبيد بن عمير قال : فقد رجل في عهد عمر فجاءت امرأته إلى عمر فذكرت ذلك له فقال : انطلقي فتربصي أربع سنين ففعلت ثم أتته فقال : انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشرا ففعلت ثم أتته فقال : أين ولي هذا الرجل ؟ فجاء وليه فقال له : طلقها ففعل فقال عمر : انطلقي فتزوجي من شئت ثم جاء وزجها الأول فقال عمر : أين كنت ؟ قال : استهوتني الشياطين فخيره عمر : إن شاء امرأته وإن شاء الصداق فاختار الصداق وقضى بذلك عثمان وعلي وابن الزبير وهو قول ابن عباس رضي الله عنهم وهذه قضايا انتشرت فلم تنكر فكانت إجماعا وهل يعتبر ابتداء المدة من حين ضربها الحاكم أو من حين ينقطع خبره ؟ على وجهين :
أحدهما : من حين ضربها الحاكم لأنها مدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم كمدة العنة
والثاني : من حين انقطع خبره لأن ذلك ظاهر في موته فأشبه ما لو قامت به ببينة وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى أن يطلقها وليه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يعتبر لأن ذلك يروى عن عمر وعلي
والثاني : لا يفتقر لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها ولهذا اعتدت عدة الوفاة وقول عمر فقد خالفه قول ابن عباس وابن عمر
فصل :
فإن قدم المفقود قبل تزوجها فهي زوجته لأننا تبينا حياته فأشبه ما لو شهد بموته شاهدان وتبين أنه حي وإن قدم بعد تزوجها وقبل دخوله بها فكذلك لما ذكرناه وقيل عنه : إن حكمها حكم المدخول بها والصحيح الأول وإن قدم بعد دخول الثاني بها خير بينهما وبين صداقها لإجماع الصحابة عليه فإن اختارها فهي زوجته بالعقد الأول ولم يحتج الثاني إلى طلاق لأننا بينا بطلان عقده وإن اختار صداقها فله ذلك ويأخذ من الثاني صداقها الذي ساق إليها الأول اختاره أبو بكر لأن عليا وعثمان رضي الله عنهما قالا : يخير بينهما وبين صداقها الذي ساق ولأن الثاني أتلف المعوض فرجع عليه بالعوض كشهود الطلاق إذا رجعوا عنه وعنه : يرجع بالصداق الآخر لأنه بذل عوضا عما هو مستحق للأول فكان أولى به وهل يرجع الثاني على المرأة ما غرمه للأول ؟ على روايتين وتكون زوجة الثاني من غير تجديد عقد لأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم أمر بتجديد العقد والقياس أن يلزمه تجديد العقد لأننا تبينا بطلان ما مضى من عقده بحياة صاحبه ولذلك ملك أخذها منه فعلى هذا الوجه الأول يؤمر بطلاقها ثم يعقد عليها الثاني عقدا وإن رجع الأول بعد موت الثاني ورثت واعتدت ورجعت إلى الأول قضى بذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما رواه الجوزجاني في المترجم وقال أبو الخطاب : قياس المذهب أنا إن حكمنا بوقوع الفرقة ظاهرا وباطنا فهي زوجة الثاني ولا خيار للأول ولا ينفذ طلاقه لها ولا يتوارثان إذا مات أحدهما فإن لم يحكم بوقوعها باطنا فهي زوجة الأول بكل حال ووطء الثاني لها وطء بشبهة
فصل :
فإن اختارت امرأة المفقود الصبر حتى يتبين أمره فلها النفقة والمسكن أبدا سواء ضرب لها الحاكم مدة تتربص فيها أو لم يضربها لأننا لم نحكم ببينونتها بضرب المدة فهي باقية على حكم الزوجية وإن حكم لها بالفرقة انقطعت نفقتها لمفارقتها إياه حكما
فصل :
إذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو غائب فعدتها من يوم مات أو طلق وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة في أصح الروايتين والأخرى إن ثبت ذلك بالبينة فكذلك وإن بلغها خبره فعدتها من حين بلغها الخبر

باب اجتماع العدتين
إذا تزوجت المرأة في عدتها رجلا آخر لم تنقطع عدتها بالعقد لأنه عقد فاسد لا يصير به فراشا فإن وطئها انقطعت عدة الأول لأنها صارت فراشا للثاني فلا تبقى في عدة غيره فإن فرق بينهما لزمها إتمام عدة الأول وعدة الثاني وتقدم عدة والأول لسبقها لما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أيما امرأة نكحت في عدتها لم يدخل بها الذي تزوجها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خطابا من الخطاب وإن كان قد دخل بها فرق الحاكم بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ولم ينكحها أبدا رواه الشافعي في مسنده فإن كانت حاملا من الأول انقضت عدتها بوضع الحمل ثم اعتدت للثاني ثلاثة قروء وإن حملت من وطء الثاني انقضت عدتها منه بوضع الحمل ثم أتمت عدة الأول بالقروء وتتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول لأنه لا يجوز أن تضع حملها منه ولا تنقضي عدتها منه وإن أتت بولد يمكن أو يكون منهما أري القافة وألحق بمن ألحقوه به منهما وانقضت عدتها منه به واعتدت للآخر وإن ألحقوه بهما انقضت به عدتها منهما وإن لم يوجد قافة أو أشكل عليهم فعليها الاعتداد بعد وضع حملها بثلاثة قروء لأنه يحتمل أن يكون من الأول فيلزمها ثلاثة قروء لعدة الثاني فلزمها ذلك لتقضي العدة بيقين
فصل :
وروي عن أحمد : أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد لقول عمر رضي الله عنه : ثم لا ينكحها أبدا والصحيح في المذهب أنها تحل له لأنه وطء بشبهة فلم يحرمها على التأبيد كالنكاح بلا ولي وقد روي أن عليا رضي الله عنه قال : إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب يعني الزوج الثاني فقال عمر رضي الله عنه : ردوا الجهالات إلى السنة ورجع إلى قول علي قال الخرقي وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين فعلى هذا كل معتدة من وطء في نكاح فاسد أو وطء شبهة لا يجوز للواطئ ولا لغيره نكاحها حتى تنقضي عدتها لأنها معتدة من وطء في غير ملك فحرمت قبل انقضاء عدتها كالزانية ويحتمل أن يباح للواطئ نكاحها في كل موضع يلحقه النسب لأن العدة إنما وضعت لصيانة الماء وحفظا للنسب عن الاشتباه والنسب هاهنا لاحق فلم يمنع الواطئ نكاحها كالمعتدة من نكاحه الصحيح
فصل :
وإن وطئت المعتدة بشبهة أو زنا فلم تحمل أتمت عدة الأول ثم اعتدت للثاني لأنها لم تصر فراشا وإن حملت من الثاني أو أشكل الأمر فالحكم على ما ذكرنا في التي تحمل من زوج ثان
فصل :
وكل حمل لا يلحق بالزوج كحمل زوجة الطفل والخصي والمجبوب وأشباههما لا تنقضي عدتها من الزوج به لأننا تبينا أنه ولد لغيره فلم تنقض به عدة الزوج كما لو علمنا الواطئ وعنه : أن عدة زوجة الصغير تنقضي بوضع الحمل وذكر أصحابنا في التي ولدت بعد أربع سنين منذ فارقها زوجها : أن عدتها تنقضي به في وجه والصحيح الأول لما ذكرنا ولأننا إن نعلم الواطئ فالمرأة تعلمه فلم يسقط عنها الاعتداد لجهلنا بعينه كما لو أقرت فعلى هذا تنقضي عدة الأول بوطء الثاني وتنقضي عدة الثاني بوضع الحمل فإذا وضعته بنت على عدة الأول على ما ذكرنا وإن كانت حين موت زوجها حاملا انقضت عدتها بوضعه من الواطئ ثم تعتد عن الزوج بأربعة أشهر وعشر
فصل :
إذا طلق الزوج زوجته طلاقا رجعيا فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانيا بنت على ما مضى من العدة لأنهما طلاقان لا يتخللهما وطء ولا رجعة فأشبه الطلقتين في وقت واحد وإن طلق العبد زوجته الأمة طلقة ثم أعتقت وفسخت النكاح بنت على العدة كذلك وإن طلق الرجل زوجته ثم ارتجعها ثم طلقها قبل وطئها ففيه وجهان :
أحدهما تبني على العدة الأولى لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء فأشبه ما لو لم يرتجعها
والثاني : تستأنف عدة كاملة لأنه طلاق نكاح صحيح وطئ فيه فأوجب عدة كاملة كما لو لم يتقدمه طلاق وإن طلقها بعد دخوله بها استأنفت العدة رواية واحدة وسقطت بقية الأولى لأن حكم الطلقة انقطع بالزوجية والدخول وإن وطئ المطلق زوجته الرجعية في عدتها وقلنا : ذلك رجعة فقد عادت الزوجة فإن طلقها بعد ذلك استأنفت العدة وسقط حكم العدة الأولى كما تقدم وإن قلنا : ليس هو برجعة فعليها أن تعتد للوطء لأنه وطء بشبهة وتدخل فيها بقية العدة الأولى لأنهما من رجل واحد وأن كانت حاملا فهل تتداخل العدتان ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يتداخلان لأنهما من رجل واحد فتنقضي عدتها من الطلاق والوطء بوضع الحمل
والثاني : لا تتداخلان لأنهما من جنسين بل تعتد للطلاق بوضع الحمل ثم تستأنف عدة الوطء بثلاثة قروء كما لو كانا من رجلين وإن كانت حائلا فحملت من الوطء وقلنا : يتداخلان انقضت العدتان بوضع الحمل وإن قلنا : لا يتداخلان انقضت عدة الوطء بالوضع ثم أتمت بقية عدة الطلاق بالقروء
فصل :
وإذا خلع الرجل زوجته فله نكاحها في عدتها لأنها لحفظ مائه ونسبه ولا يصان ماؤه عن مائه إذا كانا من نكاح صحيح فإن طلقها بعد أن وطئها فعليها استئناف العدة لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس ويسقط حكم بقية العدة الأولى وإن طلقها قبل أن يمسها ففيه روايتان كما ذكرنا في الرجعية والأولى هاهنا أنها تبني على عدة الطلاق الأول فتتمها لأن الطلاق الثاني طلاق من نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة كما لو لم يتقدمه نكاح ويلزمها بقية عدة الأول لأنها تنقطع بعقد التزويج لكونها تصير به فراشا فلا تبقى معتدة منه مع كونها فراشا له وإذا طلقها لزمها إتمامها لأنه لو لم يجب ذلك أفضى إلى اختلاط المياه بان يطأ زوجته ثم يخلعها ثم يتزوجها ويطلقها من يومه فيتزوجها آخر ويطأها في يوم واحد فإن كانت حاملا حين خلعها فتزوجها وولدت ثم طلقها قبل أن يمسها لم يكن عليها عدة لأنه لم يبق من العدة الأولى شيء لأنها كانت حاملا فلا تنقضي عدتها بغير الوضع

باب مكان المعتدات
وهن ثلاثة :
إحداهن : الرجعية فتسكن حيث يشاء زوجها من المساكن التي تصلح لمثلها لأنها تجب لحق الزوجية
الثانية : البائن بفسخ أو طلاق تعتد حيث شاءت لما روت فاطمة بنت قيس : أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال : والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك فقال : [ ليس لك عليه نفقة ولا سكنى ] وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال : [ إن تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ] متفق عليه
الثالثة : المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها الذي كانت ساكنة به حين توفي زوجها لما روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد : أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القدوم فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه ولا نفقة فقال : [ امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ] فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان رضي الله عنه أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به رواه أبو داود و الترمذي وقال : حسن صحيح
فإن خافت هدما أو غرقا أو عدوا أو حولها صاحب المنزل أو لم تتمكن من سكناه إلا بأجرة فلها الانتقال حيث شاءت لأن الواجب سقط للعذر لوم يرد الشرع له ببدل فلم يجب وليس عليها بدل الأجرة وإن قدرت عليها لأنه إنما يلزمها فعل السكنى لا تحصيل للمسكن
فصل :
ولا سكنى للمتوفى عنها إذا كانت حائلا رواية واحدة وإن كانت حاملا فعلى روايتين :
أحدهما لا سكنى لها لأن المال انتقل إلى الورثة فلم تستحق عليهم السكنى كما لو كانت حائلا
والثانية : لها السكنى لقول الله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر فريعة بنت مالك بالاعتداد في المنزل الذي أسكنها فيه زوجها فإذا قلنا : لا سكنى لها فتبرع الوارث بإسكانها أو تبرع غيره بتمكينها من السكنى في منزلها إما بأداء أجرتها أو غير ذلك لزمها السكنى به وإن لم يوجد ذلك سكنت حيث شاءت وإن قلنا : لها السكنى فهي أحق بمسكنها من الورثة والغرماء ولا يباع في دينه حتى تنقضي عدتها لأنه حق تعلق بعينه فقدمت على سائر الغرماء كالمرتهن وإن تعذر ذلك المسكن أو كان المسكن لغير الميت استؤجر لها من مال الميت ويضرب بقدر أجرته مع الغرماء إن لم يف ماله بدينه فإن كانت عدتها بالحمل ضربت بأقل مدته لأن اليقين فإن وضعت لأقل من ذلك ردت الفضل على الغرماء وإن وضعت لأكثر منه رجعت عليهم بالنقص كما ترد عليهم الفضل ويحتمل أن لا ترجع عليهم بشيء لأننا قدرنا ذلك لها مع تجويز الزيادة فلم ترد عليه
فصل :
ولهم إخراجها لطول لسانها وأذاها لأحمائها بالسب لقول الله تعالى : { ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } فسره ابن عباس بما ذكرنا وإن بذئ عليها أهل زوجها نقلوا عنها لأن الضرر منهم
فصل :
وليس لها الخروج من منزلها ليلا ولها الخروج نهارا لحوائجها لما روى مجاهد قال : استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقلن : يا رسول الله إنا نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن فإن أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها ] ولأن الليل مظنة الفساد فلم يجز لها الخروج لغير ضرورة
فصل :
وليس لها الخروج للحج لأنه لا يفوت والعدة تفوت فإن خرجت للحج فمات زوجها وهي قريبة رجعت لأنها في حكم الإقامة وإن تباعدت مضت في سفرها لأن عليها في الرجوع مشقة فلم يلزمها كما لو كان أكثر من ثلاثة أيام قال القاضي : حج البعيد : ما تقصر قيه الصلاة لأن ما دونه في حكم الحضر وإن خافت في الرجوع مضت في سفرها ولو كانت قريبة لأن عليها ضررا في الرجوع وإن أحرمت بحج أو عمرة في حياة زوجها في بلدها ثم مات وخافت فواته مضت فيه لأنه أسبق فإذا استويا في خوف الفوت كان أحق بالتقديم وإن لم تخف فوته مضت في العدة في منزلها لأنه أمكن الجمع بين الواجبين فلزمها ذلك وإن أحرمت بعد موته لزمها الإقامة لأن العدة أسبق
فصل :
إذا أذن لها في السفر بغير نقلة فخرجت ثم مات فحكمه حكم الخروج للحج سواء وإن كانت لنقلة فمات بعد مفارقة البنيان فخي مخيرة بين البلدين لأنه ليس واحد منهما مسكنا لها لخروجها منتقلة عن الأول وعدم وصولها إلى الثاني ويحتمل أن يلزمها المضي إلى الثاني لأنها مأمورة بالإقامة والسكنى والأول بخلافه وهذا ضعيف جدا لأن فيه إلزامها السفر مع مشقته ومؤنته وإبعادها عن أهلها ووطنها وربما لم يكن لها محرم سوى زوجها الذي مات وسفرها بغي محرم حرام ولا يحصل من سفرها فائدة ولا حكمة لأن حكمة الاعتداد في منزلها سترها وصيانتها لزوم منزلها وسفرها تبذيل لها وإبراز لها فهو محصل لضد المقصود سيما إذا لم يكن معها من يحفظها ومقامها في البلد الذي يسافر إليه عند الغرباء من غير أهلها في غير مسكنه أشد لهلكتها ثم تحتاج إلى الرجوع وكلفته وهذا فيه من القبح ما يصان الشرع منه والله أعلم وإن وجبت العدة بعد وصولها إلى مقصدها وسفرها لنقلة لزمها الإقامة به وتعتد لأنه صار كالوطن الذي تجب العدة فيه وإن كان لقضاء حاجة فلها الإقامة إلى أن تقضي حاجتها وإن كان لزيارة أو نزهة وقد قدر لها مدة الإقامة أقامت ما قدر لها لأنه مأذون فيه وإن لم يقدر لها مدة فلها إقامة ثلاثة أيام لأنه لم يأذن لها في المقام على الدوام ثم إن علمت أنه لا يمكنها الوصول قبل فراغ عدتها لم يلزمها العود لأنها عاجز عن الاعتداد في مكانها وإن أمكنها قضاء شيء من عدتها في منزلها لزمها العود لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] وإن خافت من الرجوع سقط للعذر والحكم فيها إذا أذن لها في النقلة من دار إلى دار ومات وهي بينهما كذلك

باب الإحداد
وهو اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة وهو واجب في عدة الوفاة لما روت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو أظفار ] متفق عليه
ويجب هذا على الحرة والأمة والكبيرة والصغيرة والمسلمة والذمية لعموم الحديث فيهن ولا يجب على الرجعية لأنها باقية على الزوجية فلها أن تتزين لزوجها وترغبه في نفسها ولا على أم ولد لوفاة سيدها ولا موطوءة بشبهة ولا زنا لقوله صلى الله عليه و سلم : [ إلا على زوجها ] وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة روايتان :
إحداهما : لا إحداد عليها لقوله صلى الله عليه و سلم : [ إلا على زوجها ] فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا وهذه عدة الوفاة ولأنها مطلقة أشبهت الرجعية
والثانية : يجب عليها لأنها معتدة بائن أشبهت المتوفى عنها زوجها
فصل :
ويحرم على الحادة : الكحل بالإثمد للخبر ولأنه يحسن الوجه ولا بأس بالكحل الأبيض كالتوتياء ونحوه لأنه لا يحسن العين بل يزيدها مرها وإن دعت الحاجة إلى الاكتحال بالصبر والإثمد اكتحلت ليلا وغسلته نهارا لما روت أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال : [ ما هذا يا أم سلمة ؟ فقلت : إنما هو صبر ليس فيه طيب قال : إنه يشب الوجه لا تجعليه إلا بالليل وانزعيه بالنهار ] وعن أم حكيم بنت أسيد أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينها فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء فقالت : لا تكتحلي إلا لما لا بد منه فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار رواهما النسائي
فصل :
ويحرم على الحادة : الخضاب لما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ] رواه أبو داود و النسائي ويحرم عليها أن تمتشط بالحناء ولا يحرم عليها غسل رأسها بالسدر ولا المشط به لما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب ] قالت : قلت : بأي شيء أمتشط ؟ قال : [ بالسدر تغلفين به رأسك ] رواه أبو داود ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب ويجوز تقليم الأظفار والاستحداد لأنه يراد للتنظيف لا للتزيين وزيحرم عليها تحمير وجهها بالكلكون وتبييضه باسفيذاج العرائس لأنه أبلغ في الزينة من الخضاب فهو بالتحريم أولى ولها أن تستعمل الصبر في جميع بدنها إلا وجهها لأنه إنما منع في الوجه لأنه يصفر فيشبه الخضاب
فصل :
ويحرم عليها الطيب للخبر ولأنه يحرك الشهوة ويدعو إلى المباشرة ويحرم عليها استعمال الأدهان المطيبة لأنه طيب فأما ما ليس بمطيب من الأدهان كالزيت والشيرج فلا بأس به لأن التحريم من الشرع ولم يرد بتحريمه ولا هو في معنى المحرم
فصل :
ويحرم عليها الحلي للخبر ولأنه يزيد من حسنها ويدعو إلى مباشرتها ويحرم عليها ما صبغ من الثياب للزينة كالأحمر والأصفر والأزرق الصافي والأخضر الصافي للخبر فإن صبغ عزله ثم نسج ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحرم لقوله : [ إلا ثوب عصب ] والعصب ما صبغ غزله قبل نسجه
والثاني : يحرم لأنه أحسن وأرفع ولأنه صبغ للتحسين أشبه ما صبغ بعد النسج وهذا هو الصحيح وقوله : [ إلا ثوب عصب ] إنما أريد به ما صبغ بالعصب وهو نبت ينبت باليمن فأما كونه مصبوغ الغزل فلا معنى له في هذا ولا يحرم الأسود ولا الأخضر المشبع والأزرق المشبع لأنه لم يصبغ لزينة إنما قصد به دفع الوسخ أو اللبس في المصيبة ونحو ذلك ولا بأس بلبس ما نسج من غزله على جهته من غير صبغ وإن كان حسنا من الحرير والقطن والكتان والصوف وغيره لأن حسنه من أصل خلقته لا لزينة أدخلت عليه فأشبه حسن المرأة في خلقها قال الخرقي : وتجتنب النقاب لأن المحرمة تمنع منه فأشبه الطيب وقال القاضي : كره أحمد النقاب للمتوفى عنها زوجها دون المطلقة قال الخرقي : فإن احتاجت إلى ستر وجهها سدلت عليه كما تفعل المحرمة

باب الاستبراء
ومن ملك أمة بسبب من الأسباب لم تحل له حتى يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا أو بحيضة إن كانت تحيض لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عام سبايا أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة رواه أحمد في المسند وروى الأثرم عن رويفع بن ثابت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم خيبر : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن ولأنها إذا وطئها قبل استبرائها أدى إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب فإن كان حيضا حين ملكها لم تعتد بتلك الحيضة ولزمه استبراؤها بحيضة مستقبلة لأن الخبر يقتضي حيضة كاملة وإن كانت من الآيسات أو من اللائي لم يحضن ففيها ثلاث روايات :
إحداهن : يستبرئ بشهر لأن الشهر أقيم مقام الحيضة من عدة الحرة والأمة
والثانية : بشهرين كعدة الأمة
والثالثة : بثلاثة أشهر وهي أصح قال أحمد بن القاسم : قلت لأبي عبد الله : كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان الحيضة وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرا ؟ فقال : من أجل الحمل فإنه لا يبين في أقل من ذلك فإن عمر بن العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك ثم قال : ألا تسمع قول ابن مسعود : إن النطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين يوما ثم مضغة بعد ذلك فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة وهي لحمة فتبين حينئذ وهذا معروف عند النساء فأما شهرا فلا معنى له ولا أعلم أحدا قاله فإن ارتفع حيضها لعارض تعلمه لم تزل في استبراء حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس فتستبرأ استبراء الآيسات وإن لم تعلم ما رفعه استبرأت بعشرة أشهر في إحدى الروايتين وفي الأخرى بسنة تسعة أشهر للحمل وثلاثة مكان الحيضة
فصل :
ويجب استبراء الصغيرة والكبيرة لأنه نوع استبراء فاستويا فيه كالعدة وعنه : أن الصغيرة التي لا يوطأ مثلها لا يجب استبراؤها لأنه يراد لبراءة الرحم ولا يحتمل الشغل في حقها وإن ملك ما تحل له - كالمجوسية والوثنية - فاستبرأها ثم أسلمت حلت بغير استبراء ثان للخبر ولأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم ولا يختلف ذلك بالحل والحرمة وإن أسلمت قبل الاستبراء لزمه استبراؤها للخبر والمعنى
فصل :
ولا يصح الاستبراء حتى يملكها لأن سببه الملك فلم يتقدم عليه كما لا تتقدم العدة الفرقة فإن استبرأها في مدة الخيار صح لأن الملك ينتقل بالبيع وإن قلنا : لا ينتقل حتى ينقضي الخيار لم يصح الاستبراء فيه وهل يشترط القبض لصحة الاستبراء ؟ على وجهين :
أحدهما : يشترط فلو حاضت بيد البائع بعد البيع لم يصح الاستبراء لأن المقصود معرفة براءتها من ماء البائع ولا يحصل ذلك مع كونها في يده
والثاني : يصح لأن سببه الملك وقد وجد فيجب أو يعقبه حكمه وإن اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها ثم أخذها السيد لم تحتج إلى استبراء لأن ما في يد عبده ملكه وإن اشترى مكاتبه أمة ثم صارت إلى السيد لعجزه أو قبضها من نجوم كتابته لم تبح بغير استبراء لأنه يتجدد ملكه بأخذها من مكاتبه إلا أن يكون ذا رحم محرم للمكاتب فيحل لأن حكمها حكم المكاتب وإن رق رقت وإن عتق عتقت والمكاتب مملوك فلو كاتب أمته ثم عجزت أو رهنها ثم فكها أو ارتدت ثم أسلمت أو ارتد سيدها ثم أسلم حلت بغير استبراء لأنه لم تخرج عن ملكه وإنما حرمت بعارض زال فأشبه ما لو أحرمت ثم حلت
فصل :
وإن باعها السيد ثم ردت عليه بفسخ أو مقايلة بعد قبض المشتري لها وافتراقهما وجب استبراؤها لأنه تجديد ملك يحتمل اشتغال الرحم قبله فأشبه ما لو اشتراها وإن كان قبل افتراقهما ففيه روايتان :
إحداهما : يجب استبراؤها لأنه تجديد ملك فأشبه شراء الصغيرة
والثاني : لا يجب لأن تيقن البراءة معلوم فأشبه الطلاق قبل الدخول وإن زوجها سيدها ثم طلقت قبل الدخول لم يجب استبراؤها لأن ملكه لم يتجدد عليها وإن فارقها بعد الدخول أو مات عنها لم تحل حتى تقضي العدة
فصل :
وإن اشترى أمة مزوجة فطلقها زوجها قبل الدخول وجب استبراؤها لأنه تجديد ملك وأن طلقها بعد دخوله بها أو مات عنها فعن أحمد : ما يدل على أنه يكتفي بعدتها لأن براءتها تعلم بها وقال أبو الخطاب : فيها وجهان :
أحدهما : يدخل الاستبراء في العدة كذلك
والثاني : لا يدخل لأن الطلاق والملك سببان للاستبراء من رجلين فلم يتداخلا كالعدتين في رجلين وإن اشتراها وهي معتدة فقال القاضي : يلزمه استبراؤها بعد قضاء عدتها لما ذكرنا ويحتمل أن تدخل بقية العدة في الاستبراء لأن المقصود يحصل بذلك
فصل :
ومن ملك زوجته لم يلزمه استبراؤها لأنه لصيانة الماء وحفظ النسب ولا يصان ماؤه عن مائه لمن يستحب ذلك ليعلم : هل الولد من نكاح عليه ولاء أو من ملك يمينه فلا ولاء عليه ؟
فصل :
وإن اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها لم يحل له نكاحها حتى يستبرئها لأنها محرمة عليه بملك اليمين فلم تحل بالإعتاق فحرم نكاحها كأخته من الرضاع ولأن ذلك يفضي إلى اختلاط المياه وفساد النسب بأن يطأها البائع ثم يبيعها فيعتقها المشتري ويتزوجها يطؤها في يوم واحد ولها أن تتزوج غيره إن لم يكن البائع يطؤها لأنها لم تكن فراشا فأبيح لها التزويج كما لو أعتقها البائع بعد استبرائها وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لزمها استبراء نفسها لأنها صارت بالوطء فراشا له فلزمها الاستبراء عند زوال الفراش كالزوجة إذا طلقت فإن أراد معتقها أن يتزوجها في استبرائها جاز لأنه لا يحفظ ماؤه عن مائه وإن أعتق أمة لم يكن يطؤها فليس عليها استبراء لأنها ليس فراشا وله أن يتزوجها عقيب عتقها لأنها مباحة لغيره فله أولى وعنه : لا يتزوجها حتى يستبرئها وقال ابن عقيل : هذا محمول على الاستحباب لما ذكرناه
فصل :
ومن ملك أمة يلزمه استبراؤها لم يحل له التلذذ بها بالنظر والقبلة ونحوه لأننا لا نأمن كونها حاملا من البائع فتكون أم ولده فيحصل مستمتعا بأم ولد غيره إلا أن يملكها بالسبي فيكون فيها روايتان :
إحداهما : يباح له ذلك لأنه لا يخشى انفساخ ملكه لها بحملها فلا يكون مستمتعا إلا بمملوكته
والثانية : يحرم لأن ما حرم الوطء حرم دواعيه كالعدة وإن وطئت زوجة الرجل أو مملوكته بشبهة أو زنا لم يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها وفي التلذذ بغير الوطء وجهان بناء على الروايتين
فصل :
ومن أراد بيع أمته ولم يكن يطؤها لم يلزمه استبراؤها لأنه قد حصل يقين براءتها منه فإن كان يطؤها ففيه روايتان :
إحداهما : يجب لأن عمر رضي الله عنه أنكر على عبد الرحمن بن عوف حين باع جارية له كان يطؤها قبل استبرائها قال : ما كنت لذلك بخليق ولأن فيه حفظ مائه وصيانة نسبه فوجب عليه كالمشتري
والثانية : لا يجب لأنه يجب على المشتري فأغنى عن استبراء البائع فأما إن أراد تزويجها أو تزوج أم ولده لم يجز قبل استبرائها لأن الزوج لا يلزمه استبراؤها فإذا لم يستبرئها السيد أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وله تزوج أمته التي لا يطؤها من غير استبراء لأنها ليست فراشا له
فصل :
وإن مات عن أم ولده لزمها الاستبراء لأنها صارت فراشا و تستبرأ كما تستبرأ المسيبة لأنه استبراء بملك اليمين وعنه : تستبرأ بأربعة أشهر وعشر لما روي عن عمر بن العاص أنه قال : لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه و سلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر ولأنه استبراء الحرة من الوفاة فلزمها أربعة أشهر وعشر كعدة الزوجة والصحيح الأول لما ذكرناه وخبر عمرو لا يصح قاله أحمد
فصل :
وإن مات عنها أو أعتقها وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها استبراء لأنه زال فراشه عنها قبل وجوب الاستبراء فلم يجب كما لو طلق امرأته قبل الدخول وإن مات بعد عدتها لزمها الاستبراء لأنها عادت إلى فراشه وقال أبو بكر : لا يلزمها استبراء إلا أن يعيدها إلى نفسه لأن الفراش زال بالتزويج فلا يعود إلا بإعادتها إلى نفسه فإن مات زوجها وسيدها ولم يعلق السابق منهما فعلى قول أبي بكر : عليها بعد موت الآخر منهما عدة الحرة من الوفاة لأنه يحتمل أن سيدها مات أولا ثم مات زوجها وهي حرة فلزمها عدة الحرة لتبرأ بيقين وعلى القول الأول : إن كان بينهما دون شهرين وخمسة أيام فليس عليهما بعد الآخر منهما إلا عدة الحرة من الوفاة لأن الاستبراء لا يحتمل الوجوب بحال لكون موت سيدها إن كان أولا فقد مات وهي مزوجة وإن كان آخرا فقد مات وهي معتدة ولا استبراء عليها في الحالين وإن كان بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فعليها بعد موت الآخر منهما أكثر الأمرين من عدة حرة من الوفاة أو الاستبراء لأنه يحتمل أن الزوج مات آخرا فعليها عدة الحرة ويحتمل أن السيد مات آخرا فعليها الاستبراء بحيضة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين ولا ترث الزوج لأن الأصل الرق فلا ترث مع الشك
فصل :
وإذا كانت الأمة بين نفسين فوطئاها لزمها استبراءان لأنهما من رجلين فلم يتداخلان كالعدتين
فصل :
إذا اشترى أمة فظهر بها حمل فقال البائع : هو مني وصدقه المشتري لحقه الولد والجارية أم الولد والبيع باطل وإن كذبه المشتري نظرنا فإن كان البائع أقر بوطئها عند البيع وأتت بالولد لدون ستة أشهر فهو ولده والبيع باطل وإن أتت به لستة أشهر فصاعدا وكان البائع استبرأها قبل بيعها ولم يطأها المشتري أو وطئها ولكن ولدته لدون ستة أشهر منذ وطئها لم يلحق بواحد منهما وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري وإن أتت به لستة أشهر فصاعدا من حين وطء المشتري فهو ولده والجارية أو ولده وإن لم يستبرئها واحدا منهما فأتت بولد لدون أربع سنين منذ باعها ولأكثر من ستة أشهر منذ وطئها المشتري عرض على القافة وألحق بمن ألحقوه به منهما وقد روى عبد الله بن عبيد بن عمير قال : باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها فظهر بها حمل عند المشتري فخاصموه إلى عمر فقال له عمر : كنت تقع عليها ؟ قال : نعم قال : فبعتها قبل أن تستبرئها ؟ قال : نعم قال : ما كنت لذلك بخليق فدعا القافة فنظروا إليه فألحقوه به فإن لم يكن البائع أقر بوطئها حين بيعها فادعاه بعد ذلك وكذبه المشتري لم تقبل دعواه في الولد لأن الملك انتقل إلى المشتري في الظاهر فلا يقبل قول البائع فيما يبطل حقه كما لو باع عبدا ثم أقر أنه كان أعتقه والقول قول المشتري مع يمينه وهل يلحقه نسب الولد ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلحقه لأنه يجوز أن يكون ابنا لواحد مملوكا لآخر كولد الأمة المزوجة
والثاني : لا يلحق لأن فيه ضررا على المشتري فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه والله سبحانه وتعالى أعلم

كتاب الرضاع
إذا ثاب للمرأة لبن على ولد فأرضعت به طفلا دون الحولين خمس رضعات متفرقات صارت أمه وهو ولدها في تحريم النكاح وإباحة النظر والخلوة وثبوت الحرمية وصارت أمهاتها جداته وآباؤها أجداده وأولادها إخوته وأخواتها وإخوتها أخواله وأخواتها خالاته لقول الله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } نص على هاتين في المحرمات فدل على ما سواهما وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ] وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في ابن حمزة : [ لا تحل لي من يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب وهي ابنة أخي من الرضاعة ] متفق عليهما
فصل :
وإن كان الولد الذي ثاب اللبن بولادته ثابت النسب من رجل صار الطفل ولدا له وأولاده أولاد ولده وصار الرجل أبا له وآباؤه أجداده وأمهاته جداته وأولاده إخوته وإخوانه وأخواته أعمامه وعماته لما روت عائشة رضي الله عنها : أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعدما أنزل الحجاب فقلت : والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أخا أبي القعيس ليس هو الذي أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أخيه فقال : [ ائذني له فإنه عمك تربت يمينك ] متفق عليه ولأن اللبن حدث للولد والولد ولدهما فكان المرضع بلبنه ولدهما فإن لم يكن الولد ثابت النسب من رجل كولد الزنا والمنفي باللعان فمفهومه كلام الخرقي أنه لا ينشر الحرمة بينهما لأن النسب لم يثبت فالتحريم المتفرع عليه أولى وهذا قول ابن حامد ولكن إن كان المرتضع أنثى حرمت تحريم المصاهرة لأنها ربيبة الملاعن وابنة موطوءة الزاني وكذلك أولادها وأولاد الطفل إن كان ذكرا وقال أبو بكر : ينشر الحزمة بينه وبين الواطئ والزوج الملاعن لأن التحريم ثابت بينهما وبين المولود فكذلك في المرتضع لأنه فرعه ولأنه أحد المتواطئين فتنتشر الحرمة إليه كالمرأة ويحتمل أن ينشر الحرمة بين الزاني وبين المرتضع لأن الولد منه حقيقة فكان اللبن منه لا ينشر من المرتضع والملاعن فإن اللبن لم يثبت منه حقيقة ولا حكما
فصل :
وتنتشر الحرمة من الولد إلى أولاده وإن سفلوا لأنهم أولاد أولاد المرضعة ولا تنتشر إلى من هو في درجته وأعلى منه كإخوته وأخواته وأمهاته وآبائه وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته فللمرضعة نكاح أب الطفل وأخيه ولزوجها نكاح أمه وأخته ولإخوته وأخواته من النسب نكاح إخوته وأخواته من الرضاع لأن حرمة النسب تختص به وبأولاده دون إخوته وأخواته ومن أعلى منه كذلك الرضاع المتفرع عليه
فصل :
ولا تثبت الحرمة بالرضاع بعد الحولين لقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فجعل تمامها في الحولين فدل على أنه لا حكم للرضاع بعدهما وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح
فصل :
واختلفت الرواية في قدر المحرم من الرضاع فروي : أن قليله و كثيره يحرم كالذي يفطر الصائم لقول الله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] وروي : أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات لما روت عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تحرم المصة ولا المصتان ] وعن أم الفضل بنت الحارث قالت : قال نبي الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتين ] رواهما مسلم وروى : لا يتثبت التحريم إلا بخمس رضعات وهي ظاهر المذهب لما روي عن عائشة قالت : أنزل في القرآن : ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) فنسخ من ذلك خمس وصار الأمر إلى خمس رضعات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم والأمر على ذلك رواه مسلم وهذا الخبر يفسر الرضاعة المحرمة في الآية ويقدم على الخبر الآخر لأنه إنما يدل بدليل خطابه والمنطوق أقوى منه فإن شك في عدد الرضاع أو في وجوده لم يثبت التحريم لأن الأصل الإباحة فلا تزول بالشك
فصل :
واختلف أصحابنا في الرضعة فقال أبو بكر : متى شرع في الرضاع وخرج الثدي من فيه فهي رضعة سواء قطع اختيارا أو لعارض في تنفس أو أمر يلهيه أو انتقال من ثدي إلى آخر أو قطعت المرضعة عليه فإذا عاد فهي رضعة ثانية وقال ابن أبي موسى : حد الرضعة أن يمص ثم يمسك عن الامتصاص لنفس أو غيره سواء خرج الثدي من فيه أو لم يخرج لأن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تحرم المصة ولا المصتان والإملاجة ولا الإملاجتان ] يدل على أن لكل مصة أثرا ولأنه لو تباعد ما بينهما كانا رضعتين فكذلك إذا تقاربا ولأن القليل من الوجور والسعوط رضعة فالامتصاص أولى وقال ابن حامد إن قطع لعارض أو قطع عليه ثم عاد في الحال فهما رضعة واحدة وإن تباعدا أو انتقل من امرأة إلى أخرى فهما رضعتان لأن الآكل لو قطع الأكل للشرب أو عارض وعاد في الحال كان أكلة واحدة فكذلك الرضاع
فصل :
ويثبت التحريم بالوجور وهو أن يصيب اللبن في حلقه لأنه ينشز العظم وينبت اللحم فأشبه الارتضاع وبالسعوط وهو أن يصب على أنفه لأنه سبيل لفطر الصائم فكان سبيلا للتحريم بالرضاع كالفم وعنه : لا يتثبت التحريم بهما لأنهما ليسا برضاع وإن جمد اللبن فجعل جبنا وأكله الصبي فهو كالوجور ولا يثبت التحريم بالحقنة في المنصوص عنه لأنها تراد للإسهال لا للتغذي فلا تنبت لحما ولا تنشز عظما وقد روى ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم ] رواه أبو داود وقال ابن حامد وابن أبي موسى : ينشر الحرمة لأنه واصل إلى الجوف أشبه الواصل من الأنف وإن قطر في إحليله لم ينشر الحرمة وجها واحدا لأنه ليس برضاع ولا في معناه
فصل :
إذا حلبت في إناء دفعة واحدة أو في دفعات ثم سقته صبيا في أوقات خمسة فهو خمس رضعات وإن سقته في وقت واحد فهو رضعة واحدة لأن الاعتبار بشرب الصبي فإن التحريم يثبت به فاعتبر تفرقه واجتماعه وإن سقته الجميع في وقت واحد جرعة بعد جرعة فعلى قول ابن حامد : هو رضعة واحدة لما ذكرنا في الرضاع وإن حلبت امرأتان في إناء واحد وسقتاه صبيا في خمسة أوقات صار ابنهما لأن ذلك لا يزيد على اللبن المشوب وهو ينشر الحرمة
فصل :
واللبن المشوب كالمحض في نشر الحرمة ذكره الخرقي وهذا إن كانت صفات اللبن باقية فإن صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت التحريم لأن هذا لا يسمى لبنا مشوبا ولا ينشز عظما ولا ينبت لحما وقال أبو بكر : قياس قول أحمد أن المشوب لا ينشر الحرمة لأنه وجور وحكي عن ابن حامد : إن غلب اللبن حرم وإن غلب خلطه لم يحرم لأن الحكم للأغلب ويزول حكم المغلوب والأول أصح لأن ما تعلق الحكم به غالبا تعلق به مغلوبا كالنجاسة والخمر وسواء شيب بمائع كالماء والعسل أو بجامد مثل أن يعجن به أقراص ونحوهما لأنه مشوب
فصل :
ويحرم لبن الميتة لأنه لبن آدمية ثابت على ولد فأشبه لبن الحية وقال الخلال : لا ينشر الحرمة لأنه معنى تتعلق به الحرمة في الحياة فلم تتعلق في حال الموت كالوطء وإن حلبته في إناء ثم سقي منه صبي بعد موتها كان حكمه كحكم ما لو سقي في حياتها لأنه انفصل عنها في الحياة
فصل :
ولا تثبت الحرمة بلبن البهيمة لأن الأخوة فرع على الأمومة ولا تثبت الأمومة بهذا الرضاع فالأخوة أولى ولا تثبت بلبن رجل لأنه لا يجعل غذاء للمولود فأشبه لبن البهيمة ولا بلبن خنثى مشكل لأنه لا يعلم أنه امرأة فلا يثبت التحريم بالشك وقال ابن حامد : يقف الأمر حتى ينكشف أمر الخنثى فإن أيس من انكشافه بموت أو غيره ثبت الحل لما ذكرنا وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل فقال أبو الخطاب : نص أحمد على أنه لا ينشر الحرمة لأنه نادر أشبه لبن الرجل وذكر ابن أبي موسى فيه روايتين :
إحداهما : ينشر الحرمة لأنه لبن آدمية أشبه لبن ذات الحمل وهذا قول ابن حامد لأنه جعل لبن الخنثى موقوفا ولو كان تقدم الحمل شرطا في التحريم لما وقف أمره لأننا تيقنا عدمه
فصل :
إذا ثاب للمرأة لبن من غير حمل وقلنا : إنه ينشر الحرمة فأرضعت به طفلا صار ابنا لها ولم يصر ابنا لزوجها لأنه لم يثبت بوطئه فلم يكن منه وإن وطئ رجلان امرأة فأتت بولد فأرضعت بلبنه طفلا صار ولدا لمن ثبت نسب المولود منه وينتفي عمن ينتفي عنه سواء ثبت بالقافة أو بغيرها لأن اللبن تابع للولد فإن ألحقته القافة بهما فالمرتضع ولدهما وإن أشكل أو لم يوجد قافة ثبت الحرمة بينه وبينهما لأنه ولد لهما أو ولد لأحدهما فتحرم عليه بنات من هو ولد له وقد اشتبهت الأنساب المحرمة بغيرها فيحرمان كما لو اختلطت أخته بأجنبيات ولا يتثبت المحرمية بينه وبين واحدة منهن كذلك
فصل :
ولو طلق الرجل زوجة له منها لبن فتزوجت صبيا رضيعا فأرضعته صار ابنها وابن طليقها فينفسخ نكاحها لأنها صارت أمه وتحرم على المطلق لأنها صارت من حلائل أبنائه لما أرضعت الصبي الذي تزوجته ولو زوج رجل أم ولده صغيرا مملوكا فأرضتعه بلبن سيدها انفسخ نكاحها وحرمت على سيدها كذلك وإن زوجها صبيا حرا لم يصح نكاحه لأن من شرط نكاح الإماء خوف العنت وهو معدوم في الصبي فإن أرضعته لم تحرم على سيدها لأنه ليس بزوج في الحقيقة وإن تزوجت صغيرا ثم فسخت نكاحه لعيب ثم تزوجت كبيرا فأولدها وأرضعت بلبنه الصغير الذي فسخت نكاحه حرمت على زوجها على التأبيد لأنها صارت من حلائل أبنائه
فصل :
وإن طلق الرجل زوجته وهي ذات لبن منه فتزوجت آخر ولم تحمل منه فاللبن للأول سواء زاد بوطء الثاني أو لم يزد لأن اللبن للولد وإن حملت من الثاني ولم تلد ولم ينقطع لبن الأول ولم يزد فهو للأول أيضا كذلك وإن ولدت من الثاني فاللبن له وحده انقطع لبن الأول أو اتصل زاد أو لم يزد لأن حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره وإن لم تلد من الثاني واتصل لبن الأول وزاد بالحمل من الثاني فاللبن منهما لأن اتصال لبن الأول دليل على أنه منه وزيادته عند حدوث الحمل دليل على أنها منه فيضاف إليهما وإن انقطع لبن الأول ثم ثاب بالحمل من الثاني فقال أبو بكر : هو منهما لأن الظاهر أن لبن الأول عاد وسببه وطء الثاني فيضاف إليهما كالتي قبلها وقال القاضي : يحتمل أنه من الثاني وحده لأن لبن الأول ذهب حكمه بانقطاعه وحدث بحمل الثاني فيكون منه وهذا اختيار أبي الخطاب
فصل :
إذا كان لرجل خمس أمهات أولاد لهن لبن منه فارتضع طفل من كل واحدة منهن رضعة أو ثلاث زوجات فارتضع من كل واحدة رضعتين لم يصرن أمهات له لأنه لم يكمل رضاعه من واحدة منهن وصار السيد والزوج أبا له في أصح الوجهين لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات فكمل رضاعه من لبنه فصار أبا له كما لو أرضعته واحدة خمسا
والثاني : لا يصير أبا له لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة فلم تثبت به الأبوة كلبن البهيمة ولو أرضعته بغير لبن السيد لم يصر السيد أبا له بحال ولا يحرم أحدهما على الآخر في أصح الوجهين لأن تحريمه عليه فرع كونه ولدا لهن ولم يثبت وفي الآخر يحرم لأنه كمل له الرضاع من موطوءات السيد فيحرم عليه كما لو كمل له من واحدة ولو كان للمرأة خمس بنات لهن لبن فارتضع طفل من كل واحدة رضعة لم يصرن أمهات له وهل تصير المرأة جدة له وزوجها جدا وابنها خالا له ؟ على الوجهين فإن قلنا بالوجه الأول حرمت أمهات الأولاد على الطفل في المسألة الأولى لأنهن موطوءات أبيه وبنات المرأة في الثانية لأنهن بنات جده وجدته وإن كن ستا فارتضع من كل واحدة رضعة صارت كل واحدة منهن خالته لأنه قد ارتضع من أخواتها خمس رضعات وإن قلنا بالوجه الثاني لم يحرمن لعدم الأسباب المحرمة وإن كمل الطفل خمس رضعات من أم رجل وأخته وزوجته وابنته وزوجة ابنه وزوجة أبيه خرج على الوجهين فأما إن أرضعت امرأة طفلا ثلاث رضعات من لبن زوج ثم انقطع لبنها وتزوجت آخر فصار لها منه لبن فأرضعت منه الطفل رضعتين صارت له أما وجها واحدا لأنه كمل رضاعه من لبنها ولم يصر الرجلان أبوين له لأنه لم يكمل رضاعه من لبن واحد منهما لكنه يحرم عليها لأنه ربيبهما
فصل :
إذا تزوجت رجل صغير فأرضعتها زوجة له كبرى بلبنه حرمتا عليه على التأبيد لأن الصغرى بنته والكبرى من أمهات نسائه وإن أرضعتها بلبن غيره بعد دخوله بها حرمتا أيضا على التأبيد لأن الكبرى من أمهات نسائه والصغرى ربيبته المدخول بأمها وإن كان ذلك بعد طلاقهما أو طلاق إحداهما فكذلك لما ذكرناه ولو تزوج رجلان زوجتين كبرى وصغرى ثم طلقاهما وتزوج كل واحدة منهما زوجة الآخر فأرضعت الكبرى والصغرى حرمت الكبرى عليهما لأنها من أمهات نسائهما وتحرم الصغرى على من دخل بالكبرى لأنها ربيبته مدخول بأمها ولا تحرم على الآخر لعدم دخوله بأمها وإن أرضعت زوجته الكبرى زوجته الصغرى بلبن غيره ولم يكن دخل بالكبرى حرمت الكبرى وفي الصغرى وجهان :
أحدهما : ينفسخ نكاحها لأنها اجتمعت مع أمها في النكاح فانفسخ نكاحهما كما لو صارتا أختين
والثاني : لا ينفسخ نكاحها اختاره الخرقي لأن الكبرى أولى بفسخ نكاحها لتحريمها على التأبيد فتبقى هذه منفردة به بخلاف الأختين فإنه ليس واحدة منهما أولى من الأخرى
فصل :
وإن أرضعتها بنت الكبرى فهو كرضاع الكبرى سواء لأنها صارت بنت بنتها وإن أرضعتها أمها صارت زوجتاه أختين فانفسخ نكاحهما كذلك وإن أرضعتها جدتها صارت الصغرى خالة الكبرى أو عمتها وإن أرضعتها أختها صارت الكبرى خالتها وإن أرضعتها امرأة أخيها بلبنه صارت عمتها وينفسخ نكاحها في جميع ذلك وله نكاح من شاء منهما
فصل :
وإن تزوج صغيرتين فأرضعتهما امرأة واحدة معا أو إحداهما بعد الأخرى انفسخ نكاحهما معا لأنهما صارتا أختين وله أن ينكح من شاء منهما وإن أرضعتهما زوجة له كبرى مدخول بها حرم الكل عليه على الأبد وإن لم يدخل بها فأرضعتهما معا انفسخ نكاحهما وإن أرضعت واحدة بعد الأخرى ففيه وجهان :
أحدهما : ينفسخ نكاح الأولى لأنها اجتمعت مع أمها في النكاح ويثبت نكاح الثانية لأنها لم تصر أختا للأولى إلا بعد فسخ نكاحها
والثاني : لا ينفسخ نكاح الأولى برضاعها فإذا أرضعت الثانية صارتا أختين فانفسخ نكاحهما وإن تزوج ثلاث صغار فأرضعتهن امرأة معا أو أرضعت واحدة منفردة واثنتين بعد ذلك معا انفسخ نكاحهن جميعا لأنهن صرن أخوات وإن أرضعتهن منفردات انفسخ نكاح الأوليين لأنهما صارتا أختين في نكاحه وثبت نكاح الثالثة لأنها لم تصر أختا لهما إلا بعد فسخ نكاحهما وإن أرضعتهن امرأته الكبرى قبل دخوله بها فكذلك في قول الخرقي وفي الوجه الآخر ينفسخ نكاح الجميع
فصل :
وكل من تحرم عليه ابنتها كأمه وابنته وأخته وجدته وزوجة أخيه بلبن أخيه إذا أرضعت زوجته الصغرى حرمتها عليه على التأبيد وفسخت نكاحها كذلك لأنها تجعلها بنتا لها ومن لا تحرم ابنتها كعمته وخالته وامرأة عمه وخاله لا يضر رضاعها شيئا لأن ابنتها حلالا له ولو تزوج ابنة عمه أو بنت عمته أو بنت خاله أو خالته وهما صغيران فارتضع أحدهما من جدتهما انفسخ النكاح بينهما لأن أحدهما يصير عم صاحبه أو خاله
فصل :
ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع قبل الدخول فعليه للزوج ما يلزمه من صداقها وهو النصف لأنه قرره عليه بعد أن كان يعرض للسقوط وفرق بينه وبين زوجته فلزمه ذلك كشهود الطلاق إذا رجعوا وإن اشترك في الإفساد جماعة فالضمان بينهم مقسوما على عدد الرضعات لاشتراكهم في السبب وإن كانت المرأة هي المفسدة لنكاحها فلا صداق لها فإن أرضعت زوجته الكبرى الصغرى ففسد نكاحهما فلا مهر للكبرى ويرجع عليها بنصف صداق الصغرى وإن دبت الصغرى فارتضعت من الكبرى وهي نائمة فلا مهر للصغرى ويرجع عليها بنصف صداق الكبرى وإن ارتضعت منها رضعتين وهي نائمة ثم انتبهت فأرضعتها ثلاث رضعات فعليه للصغرى خمس صداقها وعشره يرجع على الكبرى وللكبرى خمس صداقها يرجع به على الصغرى وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول فلها المهر لأنه استقر بالدخول فلم يسقط كما لو ارتدت وإن أفسد نكاحها غيرها فلا شيء عليه كذلك والمنصوص عن أحمد : أنه يرجع عليه بصداقها لأنه نكاح أفسد فوجب على المفسد غرامة ما وجب على الزوج كقبل الدخول
فصل :
إذا أقر الزوج أن زوجته أخته من الرضاع انفسخ نكاحه لأنه مقر على نفسه ثم إن صدقته وكان قبل الدخول فلا مهر لها لأنه نكاح باطل لا دخول فيه وإن كذبته لم يسقط صداقها ولزمه نصفه لأن الأصل الحل وصحة النكاح وإن كان بعد الدخول فلها المهر بما استحل من فرجها وإن كانت هي التي قالت : هو أخي من الرضاع فأكذبها فهي زوجته في الحكم ولم يقبل قولها في فسخ نكاحه لأنه حق له عليها لكن إن طلقها قبل الدخول فلا مهر لها لاعترافها بسقوطه وإن قال الزوج : هذه ابنتي من الرضاع وهي مثله أو أكبر منه لم تحرم عليه لأننا نتحقق كذبه

كتاب النفقات
باب نفقة الزوجات :
يجب على الرجل نفقة زوجته وكسوتها بالمعروف إذا سلمت نفسها إليه ومكنته من الاستمتاع بها لما روى جابر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] رواه مسلم فإن امتنعت من تسليم نفسها كما يجب عليها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أو في منزل دون منزل أو في بلد دون بلد ولم تكن شرطت دارها ولا بلدها فلا نفقة لها لأنه لم يوجد التمكين التام فأشبه البائع إذا امتنع من تسليم المبيع أو تسليمه في موضع دون موضع وإن عرضت عليه وبذلت له التمكين التام وهو حاضر لزمته النفقة لأنها بذلت الواجب عليها وإن كان غائبا لم تجب حتى يقدم هو أو وكيله أو يمضي زمن ولو سار لقدر على أخذها لأنه لا يوجد التمكين إلا بذلك وإن لم تسلم إليه ولم تعرض عليه فلا نفقة عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج عائشة فلم ينفق عليها حتى أدخلت عليه ولأنه لم يوجد التمكين فلا تجب النفقة كما لو منعت نفسها
فصل :
ولو عرضت عليه وهي صغيرة لا يوطأ مثلها فلا نفقة لها لأنه لم يوجد التمكين من الاستمتاع لأمر من جهتها وإن كانت كبيرة والزوج صغير وجبت نفقتها لأن التمكين وجد من جهتها وإنما تعذر من جهته فوجبت النفقة كما لو سلمت إليه وهو كبير فهرب منها وإن سلمت إليه وهو مجبوب أو مريض لا يمكنه الوطء وجبت النفقة كذلك وإن سلمت إليه وهي رقتاء أو نحيفة أو مريضة لا يمكن وطؤها وحبت نفقتها لأن تعذر الاستمتاع لسبب لا تنسب إلى التفريط فيه
فصل :
وإن سافرت زوجته بغير إذنه لغير واجب أو انتقلت من منزله فلا نفقة لها وإن كان غائبا لأنها خرجت عن قبضته وطاعته فأشبهت الناشز وإن سافرت بإذنه فعلى ما ذكرناه في القسم وإن أحرمت بحج أو عمرة في الوقت الواجب من الميقات لم تسقط نفقتها لأنها فعلت الواجب بأصل الشرع فأشبه ما لو صامت رمضان وإن تطوعت بالإحرام بغير إذنه أو أحرمت بالواجب قبل الوقت أو قبل الميقات بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها منعته الاستمتاع بما لا يجب عليها فهو كسفرها بغير إنه وإن فعلته بإذنه فهو كسفرها لحاجتها وإن أحرمت بالحج المنذور فقال أصحابنا : لها النفقة وينبغي أن يقال : إن كان النذر قبل النكاح فلها النفقة لأنه وجب قبل النكاح فكان مقدما على حقه فيها وإن كان بعد النكاح بإذن الزوج فلها النفقة لأنه إذن في إلزامها إياه فكان راضيا بموجبه وإن كان بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها فوتت التمكين اختيارا منها بغير رضاه فأشبه السفر لحاجتها
فصل :
وصوم رمضان لا يسقط النفقة لأنه واجب معين والحكم في صوم النذر والتطوع والاعتكاف المنذور والتطوع كالحكم في الحج الذي كذلك وأما قضاء رمضان فإن ضاق وقته لم يمنع النفقة لأنه واجب مضيق أشبه رمضان وإن كان وقتا متسعا فهو كالإحرام قبل الوقت
فصل :
وإذا أسلمت زوجة الكافر بعد الدخول فلها نفقة العدة لأن الإسلام واجب عليها مضيق أشبه الإحرام بالحج الواجب في وقته وإن أسلم هو دونها وهي غير كتابية فلا نفقة لها لأنها منعته بمعصيتها وإقامتها على كفرها وإن ارتدت مسلمة فلا نفقة لها كذلك وإن كان هو المرتد فعليه النفقة لأنه الممتنع بردته وإن عادت المرتدة إلى الإسلام فلها النفقة من حين عادت ولو كان غائبا لأن سقوط نفقتها لردتها فعادت بزوالها وإن نشزت الزوجة ثم عادت إلى الطاعة والزوج غائب فلا نفقة لها حتى يمضي زمن لو سار فيه لقدر على استمتاعها لأن سقوط نفقتها لعدم التمكين ولم يحصل بعودها إلى الطاعة
فصل :
وللأمة المزوجة النفقة في الزمن الذي تسلم نفسها فيه فإن سلمت إليه ليلا ونهارا فلها النفقة كلها كالحرة وإن سلمت ليلا دون النهار فلها نصف نفقتها لأنها سلمت نفسها في الزمن الذي يلزمها تسليم نفسها فيه فكان لها نفقتها فيه كالحرة في جميع الزمان
فصل :
ولا تجب النفقة في النكاح الفاسد لأنه ليس بنكاح شرعي

باب نفقة المعتدة
وهي ثمانية أقسام :
أحدها : الرجعية فلها النفقة السكنى لأنها باقية على الزوجية غير مانعة له من الاستمتاع أشبه ما قبل الطلاق
الثاني : البائن بفسخ الطلاق فإن كانت حاملا فلها النفقة والسكنى لقول الله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وهل تجب النفقة للحمل أو للحامل ؟ فيه وجهان :
أحدهما : للحمل لأنها تجب بوجوده وتسقط بعدمه
والثاني : تجب لها بسببه لأنها تجب مع الإعسار ونفقة الولد لا تجب على معسر وإن كانت حائلا فلا نفقة لها لدلالة الآية بدليل خطابها على عدمها وفي السكنى روايتان :
إحداهما : تجب للآية والأخرى : لا تجب لحديث فاطمة بنت قيس وهو مفسر للآية فإن قلنا : تجب النفقة للحمل فلا نفقة لزوجة العبد ولا للأمة الحامل لأنه لا تجب نفقة ولدهما على أبيه وإن قلنا : تجب للحامل وجبت نفقتهما كما تجب في صلب النكاح
فصل :
الثالث : المعتدة في الوفاة فإن كانت حائلا فلا نفقة لها ولا سكنى لأن ذلك يجب للتمكين من الاستمتاع وقد فات بالوفاة وإن كانت حاملا ففي وجوبهما روايتان :
إحداهما : لا تجبان كذلك
والثانية : تجبان لأنها معتدة في نكاح صحيح أشبهت البائن في الحياة
فصل :
الرابع : المعتدة في اللعان فإن كانت حائلا أو منفيا حملها فلا سكنى لها ولا نفقة لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم : ( فرق بين المتلاعنين ) وقضى : أن لا بيت عليها ولا قوت رواه أبو داود ولأنها بائن لا ولد له معها فأشبهت المختلعة الحائل وإن كانت حامل حملا يلحقه نسبه فلها السكنى والنفقة لأن ذلك يجب للحمل أو لسببه وهو موجود فإن نفاه فأنفقت وسكنت ثم استلحقه لحقه ولزمه ما أنفقت وأجرة رضاعها ومسكنها لأنها فعلت ذلك على أنه لا أب له وقد بان خلافه
فصل :
الخامس : المعتدة من وطء شبهة أو نكاح فاسد إذا فرق بينهما فلا سكنى لها بحال لأنه إنما تجب بسبب النكاح ولا نكاح هاهنا ولا نفقة لها إن كانت حائلا وإن كانت حاملا وقلنا بوجوب النفقة للحمل وجبت لأن الحمل هاهنا لاحق به فأشبه الحمل في النكاح الصحيح وإن قلنا : تجب للحامل فلا نفقة لها لأن حرمته هاهنا غير كاملة
فصل :
السادس : الزانية : لا نفقة لها ولا سكنى بحال لأنه لا نكاح بينهما ولا يلحقه نسب حملها
فصل :
السابع : زوجة المفقود لها النفقة لمدة التربص لأنها محبوسة عليه في بيته فإذا حكم لها بالفرقة انقطعت نفقتها لزوال نكاحها حكما فإذا قدم فردت عليه فلها النفقة لما يستقبل دون ما مضى لأنها خرجت بمفارقتها إياه عن قبضته فلا تجب إلا بعودها إليه وإن لم ترد إليه فلا نفقة لها بحال
فصل :
الثامن : زوجة العبد والأمة المزوجة وقد تقدم بيان حكمهما
فصل :
ومن وجبت لها النفقة للحمل وجب دفعها إليها يوما بيوم لقول الله تعالى : { فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ولأن الحمل يتحقق حكما في منع النكاح والأخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية والرد بالعيب فكذلك في وجوب النفقة لها وقال أبو الخطاب : ويحتمل أنه لا يجب دفع النفقة إليها حتى تضع الحمل لأنه لا يتحقق ولذلك لم يصح اللعان عليه قبل وضعه على إحدى الروايتين والمذهب :
الأول : فإن أنفق عليها ثم تبين أنها غير حامل رجع عليها لأنه دفعها إليها على أنها واجبة فجع عليها كما لو قضاها دينا ثم تبين براءته منه وعنه : لا يرجع عليها لأنه لو كان النكاح فاسدا فأنفق عليها ثم فرق بينهما لم يرجع كذا هاهنا وإن لم ينفق عليها لظنه أنها حائل ثم تبين أنها حامل رجعت عليه لأننا تبينا استحقاقها له فرجعت به عليه كالدين وإن ادعت الحمل لتأخذ النفقة أنفق عليها ثلاثة أشهر ثم ترى القوابل فإن بان أنها حامل فقد أخذت حقها وإن بان خلافه رجع عليها

باب قدر النفقة
يجب للمرأة من النفقة قدر كفايتها بالمعروف لقول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : [ خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف ] متفق عليه ولأن الله قال : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } والمعروف : قدر الكفاية ولأنها نفقة واجبة لدفع الحاجة فتقدرت بالكفاية كنفقة المملوك فإذا ثبت أنها غير مقدرة فإنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم فيفرض لها قدر كفايتها من الخبز والأدم وقال القاضي : هي مقدرة برطلي خبز بالعراقي وما يكفيها من الأدم لأن الواجب للمسكين في الكفارة رطلان ويجب لها في القوت الخبز لأنه المقتات في العادة وقال ابن عباس في قوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } الخبز والزيت وعن ابن عمر : الخبز والسمن والخبز والزيت والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمهم : الخبز واللحم ويجب لها من الأدم بقدر ما تحتاج إليه من أدم البلد من الزيت والشيرج والسمن واللبن واللحم وسائر ما يؤتدم به لأن ذلك من النفقة بالمعروف وقد أمر الله تعالى ورسوله به
فصل :
ويختلف ذلك بيسار الزوج وإعساره لقول الله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } وتعتبر حال المرأة أيضا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فيجب للموسرة تحت الموسر من أرفع خبز البلد وأدمه بما جرت به عادة مثلها ومثله وللفقير تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدمه على قدر عادتهما وللمتوسط تحت المتوسط أو إذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا ما بينهما على كل حسب عادته لأنه إيجاب نفقة الموسرين على المعسر وإنفاق الموسر نفقة المعسرين ليس من المعروف وفيه إضرار بصاحبه وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر لأنهما ليسا بأحسن حالا منه ومن نصفه حر إن كان معسرا فهو كالمعسرين وإن كان موسرا فهو كالمتوسطين
فصل :
فإن دفع إليها قيمة الخبز والأدم أو الحب والدقيق لم يلزمها قبوله لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع فلم يجب أخذ عوضه كالكفارة وإن اتفقا على ذلك جاز لأنه حق آدمي فجاز أخذ عوضه باتفاقهما كالقرض
فصل :
ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها والماء والسدر لغسله وما يعود بنظافتها لأنه يراد للتنظيف فيجب عليه كما يجب على المستأجر كنس الدار وتنظيفها ولا يلزمه ثمن الخضاب لأنه للزينة فأشبه الحلي ولا ثمن الدواء وأجرة الطبيب لأنه ليس من النفقة الراتبة وإنما يحتاج إليه لعارض وأما الطيب فما يراد منه لقطع السهك والريح الكريهة والعرق لزمه لأنه يراد للتنظيف وما يراد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه لأن الاستمتاع حق له فلا يجب عليه
فصل :
وتجب الكسوة للآية والخبر ولأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام فلزمته كالنفقة ويجب للموسرة تحت الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد من الإبريسم والخز والقطن والكتان وللفقيرة تحت الفقير من غليظ القطن والكتان وللمتوسطة تحت المتوسط أو إذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا ما بينهما على حسب عوائدهم في الملبوس كما قلنا في النفقة وأقل ما يجب سراويل ومقنعة ومداس للرجل وجبة للشتاء لأن ذلك من الكسوة بالمعروف وملحفة أو كساء أو مضربة محشوة للنوم وبساط ولبد أو حصير للنهار ويكون ذلك في المرتفع للأولى ومن الأدون للثانية وفي المتوسط للثالثة لأنه من المعروف
فصل :
ويجب لكل مسكن لأنا لا تستغني عنه للإيواء والاستتار عن العيون للتصرف والاستمتاع ويكون ذلك على قدرهن كما ذكرنا في النفقة
فصل :
وإن كانت ممن لا تخدم نفسها لكونها من ذوات الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقول الله : { وعاشروهن بالمعروف } وإخدامها في العشرة بالمعروف ولا يجب لها أكثر من خادم لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد ولا يجوز أن يخدمها إلا امرأة أو ذا رحم محرم أو صغيرا وهل يجوز أن تكون كتابية ؟ فيه وجهان : بناء على إباحة النظر لهن فإن قلنا بجوازه : فهل يلزم المرأة قبولها ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمها قبولها لأنهم يصلحون للخدمة
والثاني : لا يلزمها لأن النفس تعافهم وإن قالت المرأة : أنا أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يلزم الزوج لأن القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه وذلك يفوت بخدمتها وإن قال : أنا أخدمك بنفسي ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمها الرضى به لأن الكفاية تحصل به
والثاني : لا يلزمها لأنها تحتشمه فلا تستوفي حقها من الخدمة ولا يلزمه أن يملكها خادما بل إن كان له أو استأجره جاز وإن كان مملوكا لها فاتفقا على خدمته لزمه نفقته بقدر نفقة الفقيرين في القوت والأدم والكسوة ولا يجب له مشط ولا سدر ولا دهن للرأس لأنه يراد للتنظيف والزينة ولا يراد ذلك من الخادم ويجب للخادمة خف إذا كانت تخرج إلى الحاجات لحاجتها إليه
فصل :
وعليه دفع نفقتها إليها كل يوم إذا طلعت الشمس لأنه أول وقت الحاجة فإن اتفقا على تعجيلها أو تأخيرها أو تسليفها النفقة لشهر أو عام أو أكثر جاز لأن الحق لا يخرج عنهما فجاز فيه ما تراضيا عليه كالدين فإن دفع إليها نفقة يوم فبانت فيه لم يرجع بما بقي لأنها أخذت ما تستحقه وإن أسلفها نفقة أيام ثم بانت رجع عليها لأنه غير مستحق لها وذكر القاضي : ما يدل على أن حكم ذلك حكم الرجوع في معجل الزكاة على ذكر في موضعه فأما إن غاب عن زوجته زمنا لم ينفق عليها فإنها ترجع عليه بنفقة ما مضى لما روي عن عمر رضي الله عنه : أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم إن طلقوا : أن يبعثوا بنفقة ما مضى ولأنه حق لها عليه بحكم العوض فرجعت به عليه كالدين وعنه : لا ترجع عليه إلا أن يكون الحاكم قد فرضها لها لأنها نفقة فأشبهت نفقة الأقارب
فصل :
وعليه كسوتها في كل عام مرة في أوله لأنه العادة فإن تلفت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها لزمه بدلها لأن ذلك من تمام كسوتها وإن بليت قبله لم يلزمه بدلها لأنه لتفريطها فأشبه ما لو أتلفتها وإن مضى زمن يبلى فيه مثلها ولم تبل ففيه وجهان :
أحدهما : لا يلزمه بدلها لأنها غير محتاجة إلى الكسوة
والثاني : يجب لأن الاعتبار بالمدة بدليل أنها لو تلفت قبل انقضاء المدة لم يلزمها بدلها وإن كساها ثم أبانها ففيه وجهان :
أحدهما : لا يرجع لأنه دفع ما تستحق دفعه فلم يرجع به كنفقة اليوم
والثاني : يرجع لأنه دفع لزمن مستقبل أشبه ما لو أسلفها النفقة ثم أبانها
فصل :
وإذا دفع إليها النفقة فلها أن تتصرف فيها بما شاءت من بيع وصدقة وغيرهما لأنها حق لها فملكت التصرف فيها كالمهر إلا أن يعود ذلك عليها بضرر في بدنها ونقص في استمتاعها فلا تملكه لأنه يفوت حقه وكذلك الحكم في الكسوة في أحد الوجهين وفي الآخر : ليس لها التصرف فيها بحال لأنه يملك استرجاعها بطلاقها بخلاف النفقة
فصل :
وإن نشزت المرأة سقطت نفقتها لأنها تستحقها في مقابلة التمكين من استمتاعها وقد فات ذلك بنشوزها وإن كان لها ولد لم تسقط نفقته لأن ذلك حق له فلا تسقط بنشوزها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10